... أولاً: ادّعوا أنَّه: "وصي" من الله - عز وجل - ومن رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنَّ ذلك بنص من القرآن والسنَّة ليخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمَّته ثم أنَّه لم يقم بحق الوصاية بدعوى: "التقية" وهذا يعني أنَّه قد: "خان" الوصية وجبن عن القيام بها، مثال ذلك مثال دعوى: "النبوة" من إنسان مع عدم تنفيذ أمر الله - عز وجل - له بإبلاغ الناس فهل رأيت نبيًّا فعل ذلك؟!
... ولا ندري لماذا لا يقوم بواجب الوصاية؟! أيحافظ على حياته ويخاف من الموت؟! ثم ما فائدة حياته إذا انتقص دين الله - عز وجل - بسببه؟
... ثمَّ ألم يجد الله - عز وجل - غير إنسان ضعيف عاجز عن القيام بالإمامة؟
... ثمَّ ما هي الفائدة من إمامة مع التخلِّي عن القيام بها؟! ما هي الفائدة للبشرية من ذلك؟
... ثمَّ ألا ترى أنَّ كثيرين من الأئمة يضحون بأنفسهم لتحيا عقائدهم؟! بل من صغار الأتباع؟!
... أليس هذا: "الغلام" في قصة الأخدود قد رضي أن يموت ليحيا دينه؟!
... أليس هذا الخميني قد جاهد حتى تحقق له إقامة دولة لمذهبه؟!
... أليس هؤلاء نساء في فلسطين والشيشان يقُمْنَ بعمليات استشهاد لنُصرة قضاياهم؟!
... إنَّ هذا يدل على أحد أمرين:
... إمَّا أنْ تكون هذه الدعوى بالوصاية كاذبة وهو الصحيح.
... وإمَّا أنْ يكون عليُّ جبانًا ـ حاشاه من ذلك ـ.
... قيل للحسن بن الحسن بن عليّ: ألم يقل الرسول لعليّ: "من كنت مولاه فعليّ مولاه؟" قال: أما والله لو يعني بذلك الإمرة والسلطان لأفصح لكم بذلك كما أفصح لكم بالصلاة والزكاة والصيام والحج... ولو كان الأمر كما تقولون إن كان ـ أي عليّ ـ لأعظم الناس في ذلك خطيئة وجرمًا إذ ترك ما أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1).
__________
(1) طبقات ابن سعد/5/235/ بواسطة/ التشيع بين مفهوم الأئمة والمفهوم الفارسي/151/(108/125)
... ثانيًا: دعوى أنَّ فاطمة رضي الله عنها قد أُوذيت ومُنِعت حقها وضُربت وهَددها عمر - رضي الله عنه - بإحراق بيتها.
أليس هذا انتقاصًا لعليّ- رضي الله عنه -أن يرى زوجته رضي الله عنها تُؤذى وتُعذب حتى تُسقط جنينًا لها وهو يشاهد؟!
... أين الشجاعة التي يوصف بها؟! أين الغيرة على زوجته رضي الله عنها؟! بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجته تُهان وتُضرب وعلي - رضي الله عنه - يشاهد؟!
... أَعَلِيٌّ - رضي الله عنه - لا يغار على زوجته؟!
... حاشاه - رضي الله عنه - فهو والله أعظم من أن يرضى في أهله ما زعمتم؟!
... لو وقع عليها ما يسوؤها أو يدنس عرضها لما رضي فارس الحروب وشجاع بني هاشم وأول شاب آمن بهذا الدين أن تُهان وتُضرب وهو شاهد يرى ذلك كله والموت خير من حياة رخيصة مثل هذه.
... والعجب أنَّهم قالوا: (ويجب أن يكون الإمام أشجع رعيته)(1) ثم يزعمون أنَّه كان على خلاف ذلك.
... أمَّا قضية: "الميراث" فلو لم يعلم أنَّها قضية اجتهادية منها رضي الله عنها قد عارضها نص من النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان أول من يطالب به وقد ولي الأمر فلم يقسم ميراثًا فلو كان يعتقد أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يورث لماذا لم يقسم ميراثه عندما أصبح خليفة؟!
... ثمَّ كيف تطالب رضي الله عنها بنصيبها من الميراث وتغضب له وهو أمر دنيوي وينقل ذلك عنها ولا تغضب لأمر ديني أعظم من مال يفنى قد عطل ـ بزعمكم ـ وهو: "الإمامة" ولم تتكلم به مطلقًا حتَّى هي كذلك تقول بـ: "التقية" وتخاف؟! لِمَ لَمْ تخف من مطالبتها بميراثها؟!
__________
(1) الاقتصاد/312/ مؤلفه: الشيخ المفيد الإمامي(108/126)
... ثالثًا: زوَّج علي - رضي الله عنه - بنته أم كلثوم لعُمَر - رضي الله عنه -، وعمر في نظركم كافر أو فاسق وزعمتم أن هذا كان غصبًا من علي - رضي الله عنه - ولم يدافع علي - رضي الله عنه - عن بنته ورضي أنْ يُسْتحلَّ فرجها بغير حقه وهذا من أعظم الذم!!
... ونحن نرى في عالم الحيوانات والطيور أنَّ هناك من يدافع عن أولاده حتى الموت.
... فهذه: "الدجاجة" إذا أراد شخص أنْ يأخذ بعض فراخها تدافع دفاعًا شديدًا. فهل تكون هذه الدجاجة أشجع وأكثر غيرة على أولادها من عليّ - رضي الله عنه -؟!
... إنَّ الرضى بمثل هذا يسمى: "جبنًا" وحاشاه من أنْ يرضى بذلك.
... ولو لم يكن عمر - رضي الله عنه - مؤمنًا لما زوجها منه.
... رابعًا: لم يكتفِ عليّ - رضي الله عنه - بكل تلك التنازلات بل أقدم على تسمية أولاده بأسماء الكفار أو الفساق: "تقية" لا حول ولا قوة إلا بالله.
... ألا يكفيه أنْ سكت على إلغاء الوصية، وانتهاك عرض فاطمة وهو يرى، وعجزه عن حماية ابنته من الزواج من غير المؤمنين أو الصالحين حتى يسمي أولاده بأسماء الكفار أو الفساق: أبو بكر، وعمر وعثمان؟!
... ماذا دها هؤلاء القوم؟!
... أهذا إنسان إمام شجاع غيور مخلص أم غير ذلك؟
... إنَّنا نشهد أنَّه كان أتقى لله - عز وجل - وأنقى من هذه الصورة التي ترتسم في ذهن كل من يطلع على هذه الأثار وهذه العقائد الشيعية الإمامية.
... روى اللالكائي من طريقين عن علي بن الحسين ـ زين العابدين ـ رحمه الله أنَّه قال: (يا أهل العراق أحبونا حب الإسلام فوالله ما زال حبكم حتَّى صار علينا شينًا)(1).
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة/ح/2683/و/2684/(108/127)
... خامسًا: لماذا يبقى عليّ - رضي الله عنه - في أرض يُذل فيها ويُهان حتَّى في عرضه ودينه ولم يهاجر ويخرج من هذه الأرض كما قال تعالى: (إنَّ الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنَّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا - إلاَّ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً...) [سورة النساء/ آية(97-98)].
... فهل عليّ - رضي الله عنه - من هؤلاء المعذورين؟! ويكون إمامًا موصىً به من رب العالمين وهو يعلم عدم قدرته على تحقيق الوصية؟؟
... وهل رأيت ملكًا يؤمِّر رجلاً عاجزًا عن القيام بالإمارة؟!
... رضي الله عنه وأرضاه فقد أوذي بهذه الدعاوى.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 76) قلتم (ص"17"): (من أراد أن يقف على رأي الشيعة في الصحابة فعليه بما يقوله إمام المسلمين علي - عليه السلام - في حقهم).
... قلت: عليّ - رضي الله عنه - هو إمام المسلمين في عصر خلافته وليس إمامًا للمسلمين على الإطلاق، وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان كل منهم إمام في زمن محدد.
... ولهذا فقد أُطلِق عليهم: "خلفاء"، وإطلاق هذا الاسم فيه أو في غيره بأنَّه إمام المسلمين لا يصح شرعًا ولا واقعًا.
... وإمام المسلمين على الإطلاق هو واحد، هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
... ويجوز أن يُسمى من يحكم المسلمين منهم إمامًا للمسلمين في عصره.
ــــــــــــــــــــــــــــــ(108/128)
... 77) أوردتم قول عليّ - رضي الله عنه - في نهج البلاغة وهو: (أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق، أين عمار، وأين ابن التيهان، وأين ذو الشهادتين، وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية وأبرد برؤوسهم الفجرة أوَّه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبروا الفرض فأقاموه وأحيوا السنة وأماتوا البدعة، دُعوا للجهاد فأجابوا ووثقوا بالقائد فاتبعوه) [نهج البلاغة/182].
... والجواب من وجوه:
... أولاً: كتاب: "نهج البلاغة" كتاب مقطوع الصلة لا سند له ولا أساس كتبه شاعر شيعي في القرن الرابع أي بعد قرابة أربعة قرون ونسبه إلى عليّ - رضي الله عنه - بكامله فأين السند الذي وصل به هذا الكتاب ـ أعني ما فيه من أقوال ـ.
... لو فتح هذا الباب لقُضي على دين الله - عز وجل -.
... وقبول الشيعة لمثل هذا الكتاب بدون سند هو من أعظم الأدلة على عدم وجود المنهج العلمي عندهم الذي يُؤَسس عليه العلم.
... فهل هذا المؤلف: "الشريف الرضى" أو أخوه: "المرتضى" ـ الله أعلم بالمؤلف منهما وهذا لا يهمنا كثيرًا ـ فهل جاءه وحي من السماء بأن عليًّا - رضي الله عنه - قال هذا الكلام؟!
... لِمَ لَمْ يذكر الأسانيد التي نقل بها أو الكتب التي نقلها منها؟!
... إنَّ أهل السنَّة لو قال أعظم عالم عندهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقالوا: هات السند ولم يرضوا منه الحديث بدون إسناد.
... وهذا المنهج الشيعي الإثنا عشري يؤدي إلى ضياع الدين ! وذلك لأنَّ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ظهر من وقت مبكر ووضع الكذابون أحاديث باطلة ولو لم يُقَرَّر منهج لمعرفة صحيح الحديث من ضعيفه لفسد الدين.
... وقد ألَّف الشيعة أنفسهم كتبًا في الرجال ووضعوا الرواة بحسب ما ظهر لهم، فمنهم من وثقوه، ومنهم من كذبوه، فما يدرينا أنَّ هذه الأقوال رواها كذابون؟!(108/129)
ثانيًا: هذه الخطبة ليس فيها ثناء على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بل فيها ذم لهم فإنَّه لم يذكر من إخوانه إلا عمارًا وشخصين آخرَين وترك عظماء إخوانه: أبا بكر وعمر وعثمان ولم يذكرهم وهذا يعني أنَّه غير راضٍ عنهم وليسوا بإخوانه.
... فقاتل الله من كذب عليه ووضع عليه هذه الخطب المتكلفة الكثيرة السجع الباطلة المعاني.
... وكيف يُمدح الصحابة_على مذهبكم_وهم قد منعوا حقه؟!
... إنْ كانوا أخيارًا ـ وهم كذلك و الله ـ فلِمَ يمنعونه حقًا ثبت ـ حسب زعمكم ـ بالقرآن والسنَّة.
... و إنْ كانوا أشرارًا ـ حاشهم من ذلك ـ فكيف يمدحهم؟!
... إنَّ هذا يكشف عنه شارح نهج البلاغة الشيعي: "هيثم بن علي البحراني المتوفى عام (679هـ)" عندما رأى أنَّ في نهج البلاغة مدحًا لأبي بكر وعمر وهذا لا يتفق مع العقيدة الشيعية ويوجد فيه كذلك ذم لهما فكيف هذا التناقض؟! فقال: (واعلم أنَّ الشيعة قد أوردوا هنا سؤالاً فقالوا: إنَّ هذه الممادح التي ذكرها في حق الرجلين تنافي ما أجمعنا عليه من تخطئتهم وأخذهما لمنصب الخلافة:
... فإمَّا أن لا يكون هذا الكلام من كلامه - رضي الله عنه -.
... وإمَّا أن يكون إجماعنا خطأ!!
... ثمَّ ارتضى أن يكون الجواب أنَّه قال ذلك من أجل: (استصلاح من يعتقد صحة خلافة الشيخين واستجلاب قلوبهم بمثل هذا الكلام)!!(1)
... هذه قالها عليّ - رضي الله عنه - تقية حسب زعمه ـ أي كذبًا ـ ليجمع الناس على خلافته ولو كان بالكذب! ـ حاشاه - رضي الله عنه - ـ أرأيت الإصرار على الباطل؟!
... فنقول: عندما قال هذا الكلام أليس في أتباعه من يؤمن بأنَّه: "الوصي" المسلوب الحق، وأنَّ الشيخين قد دفعاه عن حقه، وأنَّهما ظالمان له ـ حسب زعم الشيعة ـ فلماذا لم يخرج شخص ويقول: كيف تقول هذا وهما قد ظلماك وخانا الوصية؟؟
__________
(1) شرح نهج البلاغة للبحراني/4/97-98/(108/130)
... فلمَّا لم يقل أحدٌ من أتباعه هذا الكلام عرف أنَّ دعوى الوصية كاذبة أو أنَّ الخطبة كاذبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 78) أوردتم دعاء علي بن الحسن من الصحيفة السجادية: (اللهم وأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة الذين أحسنوا الصُحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره وكاتفوه وأسرعوا إلى وِفادته..) إلخ ما ذكر من خصائصهم الصحيحة..) [الصحيفة السجادية الدعاء الرابع].
... الجواب من وجوه كما تقدم:
... أولاً: هذه الخطبة جُمِعت من كتب التواريخ كما ذُكر في مصادرها ولا يُدرى عن صحة سندها والله أعلم.
... ثانيًا: لا شكَّ أنَّ هذه الخطبة خطبة جميلة الأسلوب صحيحة المعاني، لكن يُعكِّر عليها كما تقدَّم أنَّ معتقد الشيعة كما قال البحراني لا يتفق معها فإحداهما حق.
... ثالثًا: يمكن أن تفسرها الشيعة على معتقدها، ويمكن أن تفسرها السنَّة على معتقدها فقد ورد فيها قوله: (الذين أحسنوا الصُحبة) وهي تحتمل المذهبين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 79) أوردتم عن علي بن موسى الرضا عن آبائه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من سبَّ نبيًّا قُتِل، ومن سبَّ صاحبًا جُلِد) [صحيفة الرضا ومسند زيد بن علي/464، بحار الأنوار/76/222...].
... قلت: لو طُبِّق هذا الحديث لقُتِل كثير من الشيعة وجُلِد أكثر، فإنَّ عقائد الشيعة تنتهي إلى اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه لم يُبلِّغ البلاغ المبين في ولاية عليّ وليس هناك سب أعظم من هذا.
... قال قائد الثورة الإيرانية روح الله الخميني: (وواضح بأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان قد بلغ بأمر الإمامة طبقًا لما أمر به الله وبذل المساعي في هذا المجال لما نشبت في البلدان الإسلامية كل هذه الاختلافات والمشاحنات والمعارك، ولما ظهرت ثمة خلافات في أصول الدين وفروعه)(1).
__________
(1) كشف الأسرار/155/(108/131)
... فما رأيك بهذا الاتهام لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام؟؟!!
... فالشيعة أحدثوا "عقيدة الوصية" وحشدوا لها عشرات الأدلة التي لا تنص عليها مباشرة ولا يُفهم منها ما يريدون إلا بتكلف وهم قد قرروا أنَّ الإمامة ثبتت بالنص فلمَّا لم يجدوا نصًّا صريحًا اتهموا سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه لأنَّه لم يحقق مطلبهم وليس مطلب الله - عز وجل -.
... اتهموه بالتقصير، يا لها من فرية عظيمة لا تتوقف في اتهام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل تتعداه إلى الله - عز وجل -، إذ كيف يرى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ـ وحاشاه ـ لا يبلغ البلاغ المبين ثمَّ لا يعاقبه وقد قصَّر في تبليغ أمره - عز وجل -.
... وقد قال تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين) [سورة الحاقة (44-45)].
... وقال تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته..) [سورة المائدة (67)].
... ما عسى أن تقول في هذه الفرية هل تستحق العقاب أم لا؟!
... ثمَّ إنَّ عقائد الشيعة كلها تنتهي إلى سبِّه - صلى الله عليه وسلم -.
... فزوجاته إمَّا أنَّهن كافرات أو فاسقات، أو أنَّ بعضهن ارتكبت الفاحشة أو حاولت ـ نعوذ بالله ـ فأي سب أعظم من أن يُتَّهم الرجل في عرضه؟!
... ثمَّ إنَّه فشل في تربية الأتباع فما إن مات حتى نقضوا ما أمر به وخانوا وصيته وهذا دليل على عدم سلامة التربية ـ معاذ الله ـ.
... وأمَّا سبَّ الصحابة فقد اعتقدوا فيهم الكفر أو الفسق.
... أمَّا الكفر فالكتب الروائية مملوءة بذكره.
... وكتب العقائد لا تكاد تخلو من تصريح أو تلويح.(108/132)
... أمَّا الطعن في عرضه - صلى الله عليه وسلم - فقد روى المجلسي عن القمي في تفسير قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوحٍ وامرأة لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما) قال: والله ما عنى بقوله: (فخانتاهما) إلا الفاحشة وليقمن الحد على فلانة فيما أتت في طريق البصرة وكان فلان يحبها فلمَّا أرادت أن تخرج إلى البصرة قال لها فلان: لا يحل لك أن تخرجين ـ هكذا ـ من غير محرم فزوجت نفسها من فلان(1).
... قال تعالى: (إنَّ الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم...) إلى أن قال تعالى: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرَّؤون ممَّا يقولون لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريم)(2). فقد وعد عائشة رضي الله عنها بعد تبرئتها وإثبات إيمانها بمغفرة وأجر كريم فهل يَعِدُ الله - عز وجل - شخصًا بعينه بالأجر الكريم ثمَّ لا يتحقق؟ وهل يجوز لمسلم أن يقيد وعد الله - عز وجل - فيقول: (إذا لم يحدث منه ما يخالف) يعني أنَّ الله - عز وجل - لا يدري عن المستقبل!!
... نسأل العافية.
... وأمَّا بقية أمَّهات المؤمنين فإنَّهن لم يقلن بإمامة علي - رضي الله عنه - كغيرهن من الصحابة وكل من لم يقل بولاية عليّ فهو بين حكمين: إمَّا كافر عند قوم وإمَّا فاسق.
... قال المفيد الإمامي المتوفي (413هـ): (اتفقت الإمامية وكثير من الزيدية على أنَّ المتقدمين على أمير المؤمنين ع ضلال فاسقون وأنهم بتأخيرهم أمير المؤمنين ع عن مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عصاة ظالمون وفي النار هم خالدون)(3).
__________
(1) بحار الأنوار/22/240/وهو في تفسير القمي ولكنه لم يجرؤ على التصريح في بعض الألفاظ كما صرح المجلسي/تفسير القمي/2/377/
(2) سورة النور (11-26)
(3) أوائل المقالات/1-41/(108/133)
... وقال المفيد كذلك في كتاب آخر: (ظاهر مذهب الإمامة أنَّ الخارج على أمير المؤمنين والمقاتل له كافر بدليل إجماع الفرقة المحقة في ذلك... ودفع الإمامة وجحدها كدفع النبوة وجحدها سواء بدلالة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(1).
قلت: وهذا الحديث ظاهره الكذب ولا يُعرَف في دواوين الإسلام المشهورة؟؟!!
... وقال الخميني: (إنَّنا هنا لا شأن لنا بالشيخين وما قاما به من مخالفات للقرآن ومن تلاعب بأحكام الإله وما حللاه وحرماه من عندهما وما مارساه من ظلم ضد فاطمة ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وضد أولاده...)(2).
... وقال كذلك: (حتَّى لو كان ذكر الإمام قد ورد في القرآن فمن ذا الذي يضمن عدم نشوب الخلافات بين المسلمين؟.
... إذ إنَّ أولئك الذين ألصقوا أنفسهم بالدين والنبي وأقاموا التكتلات ما كان عند ذلك يلتزمون بأقوال القرآن)(3).
... فهم متلاعبون بأحكام الإله وألصقوا أنفسهم بالدين وليسوا من أهله!!
... هذه عقيدة الإمامية في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه وأصحابه لو طبق الحديث المكذوب السابق لكانوا أول من يستحق هذا الحكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 80) أوردتم قول العاملي أنَّه ليس في مذهب الشيعة وجوب سبَّ الصحابة إلى أن قال: (إنَّ الشخص لو عاش ألف سنة وهو يتديَّن بمذهب أهل البيت عليهم السلام ويتولاهم ويتبرَّأ من أعدائهم ولم يسب الصحابة قط لم يكن مخطئًا ولا في إيمانه قصور) [المناظرات لمقاتل بن عطية تحقيق الورداني/77].
... قلت: إنَّّ الشيعة يجيدون اللعب بالألفاظ وهم يظنون أنَّ ذلك ينطلي على أهل السنَّة.
__________
(1) الاقتصاد في الاعتقاد/358/
(2) كشف الأسرار/126/وكتابه مملوء بالتناقضات يقرر في مكان قضية وينقضها في مكان آخر
(3) كشف الأسرار/130/(108/134)
... إنَّ اللفظ يقرر أنَّ: أهل البيت لهم أعداء ـ والمراد واضح أي الذين خلفوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يولوا عليًّا - رضي الله عنه - وهؤلاء هم جميع الصحابة ما عدا ـ أربعة كما يزعمون ـ فهؤلاء هم عند الشيعة أعداء آل البيت.
... فالتبرئ منهم كافٍ في إثبات الإيمان. مثال ذلك مثالنا مع الشيطان، وفرعون، وأبي لهب، وأبي جهل فنحن لو عشنا ألف سنة ولم نسب واحدًا منهم فإيماننا كامل لكن لا بدَّ من التبرئ منهم فما الفرق يا تُرى؟؟!!
... إنَّ القضية تعود إلى ما قاله البحراني إمَّا إثبات الإمامة وإمَّا إثبات ولاء آل البيت للصحابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 81) ثمَّ أوردتم قول السيد عليخان الشيرازي المتوفى"1130هـ" وهو: (حكم الصحابة عندنا في العدالة حكم غيرهم ولا يتحتَّم الحكم بالإيمان والعدالة بمجرد الصُحبة ولا يحصل بها النجاة من عقاب النار وغضب الجبار إلاَّ أن يكون مع يقين الإيمان وخلوص الجنان، فمن علمنا عدالته وإيمانه وحفظه وصية رسول الله في أهل بيته وأنَّه مات على ذلك كسلمان وأبي ذر واليناه وتقرَّبنا إلى الله تعالى بحبه...) إلخ ما نقلت. [الدرجات الرفيعة/11].
... قلت: هنا يتَّضح المذهب ويبرز وجهه واضحًا (من حفظ الوصية) (كسلمان وأبي ذر...) فقط وأمَّا أبو بكر وعمر وكبار الصحابة فقد عاندوا الحق كما يتَّضح من بقية الكلام.
... هذا هو المعيار الحقيقي عند الشيعة وهو اتهام الصحابة بالردَّة والضلال!!
... فأين في هذا النص ثناء على الصحابة؟؟!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ(108/135)
... 82) أوردتم قول المسعودي في "مروج الذهب" وهو: (كان ممَّن شهد صفين مع عليّ - رضي الله عنه - من أصحاب بدر سبعة وثمانون رجلاً منهم: سبعة من المهاجرين وسبعون من الأنصار. وشهد معه ممَّن بايع تحت الشجرة وهي بيعة الرضوان من المهاجرين والأنصار ومن سائر الصحابة تسعمائة ...إلخ)(1) [الدرجات الرفيعة/39].
... قلت الجواب من وجوه:
أولاً: كتاب: "مروج الذهب" كتاب تاريخ لا يُعتمد عليه في إثبات قضايا متنازع عليها، وإنَّما يُرجع إلى الكتب المسندة.
... ثانيًا: المسعودي قال فيه ابن حجر: (وكتبه طافحة بأنَّه كان شيعيًا معتزليًا..)(2).
... ثالثًا: إن صح هذا الأثر فإنَّه يدل على أنَّ الصحابة لم يكونوا يُعادون عليًّا - رضي الله عنه -، وإنَّما كانوا يوالونه ولو كانوا يعلمون أنَّه: "وصي" لكان لهم صوت مسموع قبل ذلك، ثمَّ لم يُنقَل عن أحدٍ منهم أنَّه كان يُفضِّله على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
... رابعًا: ما أورده المسعودي من أسماء الصحابة الذين يُعدُّون بالآلاف ثمَّ يذكر أربعة وسبعين رجلاً فأين الباقي؟!! ولا ندري من هم الذين ذكرهم وهل هم قائلون بـ: "الوصية" أم مُعارضون لها؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 83) قلتم: (قال السيد محسن الأمين العاملي المتوفي (1371هـ) ما يمثل عقيدة الشيعة: حكم الصحابة في العدالة حكم غيرهم...فمن علمنا عدالته حكمنا بها وقبلنا روايته ولزمنا له من التعظيم والتوقير بسبب شرف الصحبة ونصرة الإسلام والجهاد في سبيل الله ما هو أهله.
... ومن علمنا منه خلاف ذلك لم تُقبل روايته أمثال مروان بن الحكم، والمغيرة بن شعبة، والوليد بن عقبة، وبسر بن أرطأة وبعض بني أمية وأعوانهم.
... ومن جهلنا حاله في العدالة توقفنا في قبول روايته...) إلى آخر كلامه. [أعيان الشيعة/1/113].
... هنا وقفات:
__________
(1) أوردته من كتاب "الدرجات الرفيعة" /39/
(2) لسان الميزان/4/225/(108/136)
... أولاً: كيف نعرف عدالة الصحابة على مذهب الشيعة؟!
... أليس من خلال الأحاديث التي تشهد لهم بالفضل؟! فقد وردت أحاديث تزكيهم وخاصة الخلفاء الراشدين فهل هؤلاء يعظمون عندكم؟
... ثانيًا: قد مثل العاملي للصنف الذي وصفه بأنَّه علم عدم عدالته بأسماء أشخاص ولم يمثل لمن ثبتت عدالته فلماذا ياتُرى؟! لأنَّه لن يمثل بعظماء الأمَّة وإنَّما سيمثل بسلمان وعمار والمقداد وأبي ذر وهذا يكشف مراده بهذا القول الذي يظن أنَّّه يخدع به أهل السنَّة!!
... ثالثًا: من هم الذين جهل عدالته؟! لم يمثل بأحد!
... رابعًا: لا يمكن أن يجتمع في قلب القول بالوصية وتعظيم الصحابة إلاَّ عن طريق التقية!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 84) علَّقتم على كلام العاملي كلامًا كثيرٌ منه مقبول ولكن آخره غريب وهو: (هذا مع ما شوهد من صدور أمور من بعضهم لا تتفق مع العدالة: كالخروج على أئمة العدل، وشق عصا المسلمين، وقتل الأنفس المحترمة، وسلب الأموال المعصومة، والسب والشتم، وحرب المسلمين وغشهم، وإقام الفتن، والرغبة في الدنيا، والتزاحم على الإمارة والرئاسة، وغير ذلك ممَّا تكفلت به كتب الأثار والتواريخ وملأ الخافقين) ثمَّ أحلت إلى كتاب: "أعيان الشيعة"(1) ولا أدري هل هذا من قولكم أو أنَّه منقول؟!
... وهنا وقفات:
... أولاً: تأكيدًا لما سبق إنَّ تصوير جيل الصحابة بهذه الصورة يُوهم أنَّه جيل تجمَّع فيه كل شر وقد تناسيتم نُصرتهم للإسلام وجهادهم العظيم، وكأنَّ تاريخهم كان تاريخًا سيئًا: (قتل وسلب وشتم وغش ورغبة في الدنيا.. ملأت الخافقين؟؟!!)
... وقد تقدَّم الرد على مثل هذا الكلام.
... ثانيًا: لا أدري ما مرادك بالخروج على أئمة العدل؟!
... وهل ينطبق هذا على الخلفاء الثلاثة أم أنَّ المُراد: "معاوية".
... على كل قد تقدَّم ما يُجاب به على كلا الاحتمالين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) أعيان الشيعة/1/113(108/137)
... 85) قلتم: (قال السيد شرف الدين العاملي المتوفى (1377هـ) من أكابر علماء الشيعة بلبنان: إنَّ من وقف على رأينا في الصحابة علم أنَّه أوسط الآراء إذ لا نفرّط فيه تفريط الغلاة الذين كفروهم جميعًا ولا أفرطنا إفراط الجمهور الذين وثقوهم أجمعين..
... فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم: العدول وهم: عظماؤهم وعلماؤهم وأولياء..
... وفيهم البغاة
... وفيهم أهل الجرائم من المنافقين
... وفيهم مجهول الحال
... فنحن نحتج بعدولهم ونتولاهم في الدنيا والآخرة.
... وأمَّا البغاة على الوصي وأخي النبي وسائر أهل الجرائم والعظائم كابن هند وابن النابغة.. وأمثالهم فلا كرامة ولا وزن لحديثهم..إلى أن قال: وما أشد إنكارهم علينا حين يروننا نرد حديث كثير من الصحابة مصرحين بجرحهم أو بكونهم مجهولي الحال عملاً بالواجب الشرعي في تمحيص الحقائق الدينية والبحث عن الصحيح من الآثار النبوية..)
... ولو ثابت إليهم أحلامهم ورجعوا إلى قواعد العلم لعلموا أنَّ أصالة العدالة في الصحابة مما لا دليل عليه ولو تدبروا القرآن لوجدوه مشحونًا بذكر المنافقين منهم وحسبك من سورة التوبة والأحزاب وإذا جاءك المنافقون ويكفيك من آياته المحكمة: (الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا).
... واستمر على هذا الأسلوب في اتهام الصحابة - رضي الله عنهم - والدعاوى إلى أن ذكر أنَّ الأمَّة مستغنية بأهل السوابق والمناقب (وفيهم الأكثرية الساحقة ولا سيما علماؤهم وعظماؤهم..إلى أن قال: على أنَّا نتولى من الصحابة كل من اضطر إلى الحياد ـ في ظاهر الحال ـ عن الوصي أو التجأ إلى مسايرة أهل السلطة...وهم السواد الأعظم من الصحابة...) أجوبة مسائل جارالله/14/
... الجواب: كل فقرة والله تحتاج إلى دحضها وبيان بطلانها ...
... ولكننا نختصر الجواب:(108/138)
... أولاً: دعوى أنَّ مذهبه مذهب وسط هي دعوى تخالف الحقيقة فمذهبه مذهب الشيعة الإمامية والذي يختلف إنَّما هو العبارة فكل من اعتقد عقيدة الشيعة لا يستطيع أن يكون وسطًا لأنَّهم خالفوا عموم المسلمين في دعوى الوصية، وكل من ادعى الوصية فيستحيل أن يتوسط، وسيتَّضح ذلك بما يلي.
... ثانيًا: قال: (فالصحابة كغيرهم من الرجال: فيهم العدول وهم عظماؤهم وعلماؤهم).
... قلت: من هم هؤلاء العظماء؟!
... عليّ، وسلمان، وأبو ذر، والمقداد، وعمار.
... هل هناك غيرهم؟!طبعًا: لا،ولا يستطيع أن يدخل معهم أحدًا من العظماء الذين هم أعظم ممَّن ذُكِر في حقيقة الأمر وعند جميع المسلمين ما عدا مَن شذ.
... ثالثًا: ثمَّ فسَّر البغاة بأنَّهم: "البغاة على الوصي وأخي النبي" فها هي العقيدة الشيعية تأبى إلاَّ أن تَظهر، فمن هم الذين بغوا على: "الوصي" حسب زعم الشيعة؟! أليس هم الخلفاء الثلاثة وجميع الصحابة في عهدهم كما يزعمون؟!
... إذن من بقي من الصحابة يستحق أن يُوصف بالعدل على ميزان المعتدلين؟!
... رابعًا: ثمَّ زعم (أنَّ أصالة العدالة في الصحابة ممَّا لا دليل عليه ولو تدبَّروا القرآن الحكيم لوجدوه مشحونًا بذِكر: "المنافقين..".
... عجبًا لهذه الدعوى الباطلة: "عدالة الصحابة" لا دليل عليه لا من القرآن ولا من السنَّة.
... وعشرات الآيات وعشرات أو مئات الأحاديث الصحيحة أليست كافية.. لا؟!
... ما الذي يعرفه عن الصحابة؟
... "القرآن مشحون بذكر المنافقين" وهل يقول مسلم: إنَّ المنافقين هم من الصحابة الذين يعرِّفهم علماء الإسلام بأنَّهم كل من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به فهل المنافقون لقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنين به؟!
... وهل يخفى المنافقون وهم يقولون ويعملون ما يُخالف الإسلام ويراهم المؤمنون إذ لا يظهر النفاق إلا بقول أو عمل وإلاَّ فكيف يُعرف المنافق من غيره؟!(108/139)
... عجبًا لهذه العقيدة الحاقدة على عظماء الأمَّة؟!
... خامسًا: قال عن المنافقين: (فليتني أدري أين ذهب المنافقون بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا جرَّعوه الغصص مدة حياته..)
... إذن كان لهم أعمال وأقوال مكشوفة آذوا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم إذن مكشوفون!
... إذن كيف يزعم أنَّه لا يُفرَّق بين المؤمنين والمنافقين؟! أليس الذين جرعوه - صلى الله عليه وسلم - الغصص معروفين؟!
... سادسًا: الكلام ينقض بعضه بعضًا:
... ذكر أنَّ أهل العدل هم: (عظماؤهم وعلماؤهم..)
... وقال عن المستقيمين من الصحابة: (هم أهل السوابق والمناقب وفيهم الأكثرية الساحقة ولا سيما علماؤهم وحملة الآثار النبوية)
... وقابل هذا بقوله: (أمَّا البغاة على الوصي وأخي النبي..فلا ولا كرامة ولا وزن لحديثهم).
... وقال: (على أنَّا نتولى من الصحابة كل من اضطر إلى الحياد ـ في ظاهر الحال ـ عن الوصي أو التجأ إلى مسايرة أهل السلطة بقصد الاحتياط على الدين والاحتفاظ بشوكة المسلمين وهم السواد الأعظم من الصحابة..)
... قلت: زعم أنَّ أهل السوابق والمناقب: (الأكثرية الساحقة...)
... ثمَّ ذكر هناك من ساير أهل السلطة: (وهم السواد الأعظم)
... فمن هم إذن: العظماء؟ ومن هم أهل الحياد؟ ومن هم أهل السلطة؟
... فعاد الأمر فيهم إلى اتهام الجميع!!
... أهل السلطة: أبو بكر وعمر وعثمان..
... وأهل الحياد: بقية الصحابة ـ ما عدا الأربعة ـ..
... والعظماء والعلماء هم عليّ - رضي الله عنه - والأربعة..
... وهكذا تطويل وتحايل على العبارات ينتهي إلى نفس عقيدة القوم!!
... سابعًا: زعم أنَّّه رد أحاديث: (كثير من الصحابة..عملاً بالواجب الشرعي في تمحيص الحقائق الدينية والبحث عن الصحيح من الآثار النبوية)!(108/140)
... قلت: لا أدري ما هو المنهج العلمي الذي يمحص به الحقائق الدينية ويصحح به الآثار وقد اعترف السيد محمد الصدر أنَّ رجال العقيدة والتاريخ الشيعي مجهولون ـ كما سيأتي ـ فكيف يستطيع أن يصل إلى الصحيح؟!
... وأمَّا الروايات التي اعتمد عليها الشيعة في كتب السنَّة فلا يكاد يسلم منها رواية كما مرَّ معنا فأين المنهج العلمي؟؟ الله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 86) أوردتم قول سماحة الشيخ السبحاني وهو كسابقه على نفس المشرب.
... ولكنه زاد الدعوى أنَّه اعتمد على: "الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة والتاريخ القطعي والعقل المحايد" [العقيدة الإسلامية/298].
... قلت: أمَّا الاستدلال بالقرآن فهو على الطريقة الشيعية: إخراجه عن مدلوله بأنواع التأويلات.
... وأمَّا الاستدلال بالأحاديث الصحيحة فنحن لا نعرف مصدرًا شيعيًّا قديمًا صحيحًا، فهذا الكافي أصح كتاب عندهم مملوء بغرائب الأحاديث التي يُستحى من إضافتها إلى دين الله - عز وجل - وإن كنَّا نعتقد أنَّها باطلة وكذلك يعتقد كثير من علماء الشيعة أنَّها باطلة.
... لكن يصعب تمييز صحيحها من باطلها لدى كثير من الناس وإن كان في الآونة الأخيرة ظهر تتبع فهذا توجه مفيد إذا أتى ثماره.
... وأمَّا التاريخ المُحايد فلا ندري أين يوجد هذا التاريخ المُحايد؟ وأي كتاب تاريخ يمكن أن يكون حجة؟! والتاريخ قد امتلأ بالقصص الكاذبة والروايات الباطلة؟
... ثمَّ إنَّ روايات العقيدة وروايات التاريخ عند الشيعة تقوم على رجال مجهولين فكيف يمكن أن يتوصل إلى الصحيح منها من خلال رواة مجهولين كما اعترف المحققون منهم:(108/141)
... قال السيد محمد الصدر في مقدمته لتاريخ الغيبة الصغرى تحت عنوان: "تمهيد" وهو يتحدَّث عن أسباب الغموض في التاريخ الإسلامي ـ أي الشيعي ـ فذكر عدة نقاط قال في الخامسة منها: "الخامسة: نقطة إسناد الروايات حيث إنَّ المصنفين الإمامية جمعوا في كتبهم كل ما وصل إليهم من الروايات عن الأئمة عليهم السلام أو عن أصحابهم بِغضَّ النظر عن صحتها أو ضعفها.
... وعلماء الشيعة الإمامية الذين ألفوا في الرجال اقتصروا في كتبهم على الترجمة لرواة الأحاديث الفقهية التشريعية وأَوْلَوْها العناية الخاصة بصفتها محل الحاجة العملية في حياة الناس.
... لكن هذه الكتب أهملت إهمالاً تامًا ذكر الرجال الذين وُجِدت لهم روايات في حقول أخرى من المعارف الإسلامية كالعقائد والتاريخ والملاحم ممَّا قد يربو على رواة الكتب الفقهية.
... فإذا وفق من حسن الحظ أن روى الراوي في التاريخ والفقه معًا وجدنا له ذكرًا في كتبهم أمَّا إذا لم يرو شيئًا في الفقه فإنَّه يكون مجهولاً)(1).
... أرأيت هذا الاعتراف الخطير كيف يكشف عن حقيقة تهدم المذهب من أساسه وتوقظ القلوب الحية الباحثة عن الحق لتعلن كما أعلن العشرات من علماء المذهب فتتخلى عنه إلى عقيدة الحق.
__________
(1) مقدمة تحقيق كتاب: "الغيبة الصغرى"(108/142)
... واستمع إلى آية الله العظمى أبي الفضل البرقعي وهو يتحدث عن نشأة الروايات الشيعية حيث يقول: (ولكن بعد مُضي قرن أو قرنين من الزمان ظهرت أخبار بِاسم الدين ووجد أشخاص بِاسم المحدِّثين أو المفسِّرين الذين جاءوا بأحاديث مسندة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -..) إلى أن قال: (وضعت كتابي هذا موضحًا فيه أنَّ هذه الخلافات إنَّما نشأت بسبب الأخبار المفتراة الواردة في كتبنا المعتبرة نحن: "الشيعة" إلى أن قال: (وكان الوضاعون من أشباه المتعلمين وأصحاب الخرافات قد أحدثوا أكثر هذه الأخبار في القرن الثاني أو الثالث حيث لم تكن هناك حوزة علمية...) ثمَّ بيَّن أنَّ: (الشيخ الصدوق كان إنسانًا محترفًا يبيع الأرز في قم كتب كرَّاسًا جمع فيه كل ما سمعه عمن رآه حسنًا ونقله ومحمد بن يعقوب الكليني أيضًا كان بقالاً في بغداد وقد جمع ودوَّن طوال عشرين عامًا كل ما سمعه من أهل مذهبه واعتمد عليه لأنَّ تلك الفترة لم يكن فيها رجال دين بالمعنى المعروف..) إلى أن قال: (ليت شعري كيف يكون كتاب الكافي كافيًا لهم حيث استقى مئات الروايات والموضوعات الخرافية من أعداء الدين وأثبتها كما سنفصل ذلك) ... إلى أن قال: (ففي كتاب الكافي عيوب كثيرة سواء من حيث السند ورواته كانت أم من حيث المتن وموضوعاته؛ وأمَّا من حيث السند فمعظم رواته من الضعفاء والمجهولين ومن الناس المهملين وأصحاب العقائد الزائفة وهذا ما يقول به علماء الرجال من الشيعة).
... ثمَّ حدد هدفه من تأليف كتابه: "كسر الصنم" فقال:
لقد دخلت إلى الإسلام خرافات بِاسم الدين...
قد أُسِّست معظم طوائف الشيعة التي تبلغ قريبًا من مئة فرقة على هذه الأخبار...
وقد تلاعبوا بآيات القرآن وحرَّفوها عن وجوهها عن طريق هذه الأخبار... (ليستمع الخميني ليعرف من هم الذين تلاعبوا بالآيات عظماء الصحابة أم شيوخه!!)(108/143)
كما أنَّ هذه الأخبار المختلفة كانت سببًا لسوء ظن جمهور علماء المسلمين وطعنهم بالشيعة)(1)
صدق والله إنَّها سبب اعتقاد علماء المسلمين بأنَّ الذي وضع هذه الأحاديث هم من الزنادقة.
وإن كان كثير من الأتباع لا يضمر الشر للدين وأهله بل يتديَّن عن جهل بما فيها.
وقد أورد البرقعي رحمه الله نموذجًا من هؤلاء فقال: (وفي حوار مع أحد المجتهدين قال: (إنَّ أحاديث الكافي كلها صحيحة ولا يُحتَمل الشك فيها أبدًا وإذا قال أحد غير هذا فهو مغرض.
... فقلت لهذا المجتهد: إذا كنت تقول بصحة جميع أحاديثه فلِم لا تعتقد بثلاثة عشر إمامًا ذلك لأنَّه روى في المجلد الأول من الكافي في باب عدد الأئمة أربع روايات على أنَّ الأئمة ثلاثة عشر إمامًا؟؟!!
... قال: أرني ذلك، فأريته فتعجب وقال: ما رأيت ذلك قبل)(2)
... أرأيت وفقنا الله وإيَّاك كيف تكشَّف لهذا الإمام الصادق في البحث عن الحقيقة فساد هذه الروايات التي فرَّقت الأمَّة؟!!
... نماذج من جهالة الرواة في أحاديث الاعتقاد:
... ولعلَّنا نزيد هذا المعنى الذي هو: (بيان جهالة روايات كتب العقائد والتواريخ) وضوحًا.
... المُعتمَد عند الشيعة أنَّ الإمامة لا تثبت لأحد إلاَّ بنص من الإمام السابق.
... وقد عقد الكليني بابًا لإثبات إمامة الحسن العسكري والد المهدي وأورد فيه ثلاث عشرة رواية(3) لم يصح منها ولا رواية واحدة على ضوء كلام أئمة الجرح من الشيعة أنفسهم وإليك الإشارة إليها بإيجاز.
... الحديث الأول "853" فيه: (يحيى بن يسار القنبري قال في الشافي: "مجهول"(4) ولم يعرف الخوئي هذا الراوي(5).
... الحديث الثاني "854" رواه بسنده عن: (جعفر بن محمد الكوفي عن بشار بن أحمد البصري عن علي بن عمر النوفلي"
__________
(1) كسر الصنم/30-39/
(2) كسر الصنم/38/
(3) الكافي/1/325/
(4) الشافي شرح الكافي/3/371/
(5) معجم الرجال/20/116/(108/144)
... قال في الشافي: (جعفر بن محمد الكوفي: لم يعرف حاله إلا بكثرة من روى عنه، وبشار بن أحمد: أُهمِل ولم يُذكر اسمه في كتب المترجمين، وكذلك النوفلي: سوى أن ذُكِر له هذه الرواية)(1).
... الحديث الثالث "855" في سنده: (عبدالله بن محمد الاصفهاني)
... قال في الشافي: (سنده كما سبق ـ أي مجهول ـ عبدالله بن محمد الأصفهاني ليس له ذكر في كتب الرجال إلاَّ بهذه الرواية)
... والسيد الخوئي عندما ترجم له أحال على هذه الرواية ولم يزد ممَّا يُؤكِّد أنَّه مجهول.
... الحديث الرابع "856" في سنده: (موسى بن جعفر بن وهب)
... قال في الشافي: (مجهول)
... الحديث الخامس "857" وفيه: (أحمد بن محمد بن عبدالله بن مروان الأنباري)
... قال في الشافي: (ضعيف إسناده: الأنباري من أصحاب أبي جعفر وأبي الحسن وهو: "مجهول")
... الحديث السادس "858" فيه: (محمد بن أحمد القلانسي) و(علي بن الحسين بن عمرو)
... قال في الشافي: (سنده كسابقه ـ يعني ضعيف ـ القلانسي لم يُذكر له عنوان في كتب الرجال وابن عمرو هو: علي بن الحسين عدَّه الشيخ في: "رجاله" بهذا العنوان وحاله: مجهول)
... الحديث السابع "859" في سنده: (أبو محمد الإسبارقيني)
... قال في الشافي: (كسابقه ـ يعني مجهول ـ والإسبارقيني لم يُدوَّن له اسم في كتب المترجمين)
... الحديث الثامن "860" في سنده: (سعد بن عبدالله عن جماعة من بني هاشم منهم: الحسن بن الحسن الأفطس)
... قال في الشافي: (مجهول كالصحيح: سعد بن عبدالله بن خلف القمي جليل القدر وكان يُعد من شيوخ الطائفة وبعض الأصحاب ضعَّف لقاءه لأبي محمد واختلفوا في وفاته ... والأفطس لم يُذكر في ترجمته سوى هذه الرواية). ... قلت: عجبًا: مجهول كالصحيح!! الحمد لله على العافية!!
... الحديث التاسع "861" وفيه: (علي بن محمد وإسحاق بن محمد)
... قال في الشافي: (وهو كسابقه ـ أي مجهول ـ )
__________
(1) الشافي/3/371/(108/145)
... وأمَّا الخوئي فقد قال: هو إسحاق بن محمد النخعي ونقل أقوال المترجمين فيه ومنها: هو معدن التخليط له كتب في التخليط كان فاسد المذهب كذَّابًا في الرواية وضَّاعًا للحديث... إلخ)(1).
... الحديث العاشر "862" وفيه: (علي بن محمد عن إسحاق بن محمد)
... قال في الشافي: (سنده كما مضى ـ يعني مجهول ـ ) وقد تقدَّم آنفًا ذكر كِلا الاسمين.
... الحديث الحادي عشر"863" وفيه:(علي بن محمد عن إسحاق بن محمد)
... وقال في الشافي: (سنده كسابقه علَّته إسحاق بن محمد)
... الحديث الثاني عشر "864" وفيه: (علي بن محمد عن إسحاق بن محمد عن شاهويه)
... قال في الشافي: (سنده كسابقه: شاهويه لم يُترجَم سوى أنَّه ذُكِر في هذه الرواية وحاله: مجهول)
... الحديث الثالث عشر "865" وفيه: (علي بن محمد عمَّن ذكره عن محمد بن أحمد العلوي)
... قال في الشافي: (سنده كما مضى محمد بن أحمد العلوي عدَّه الشيخ ممَّن لم يرو عنهم وقال: روى عنه: أحمد بن إدريس وفي البلغة: صحح العلاَّمة الحديث عنه وداود مضى غير مرة).
... وأمَّا السيد الخوئي فقد طوَّل في ترجمته لعلَّه يفك الرموز عنه وأورد احتمالات كثيرة عن هذه الشخصية ثم ختمها بقوله: وكيفما كان لم تثبت وثاقة هذا الرجل ولكنَّه حسن لما ظهر من كلام النجاشي أنَّه من شيوخ أصحابنا)(2).
... فالحديث فيه مجهول هو: "عمَّن ذكره" ويبدو أنَّ هذا المجهول هو شيخ الراوي السابق: "إسحاق بن محمد" الكذاب ولكن الكليني تصرف خجلاً لأنَّه سيقضي على: "إمامه" أو أنَّ الراوي نفسه أراد أن يُنوِّع.
... وعلى كل حال فالراوي: مجهول.
... وهنا وقفات:
... أولاً: رأينا أنَّ جميع الأسانيد فيها رجال: "مجهولون" وهذا يُؤكِّد كلام السيد محمد الصدر بأنَّ كتب التراجم أهملت ذكر رواة: "العقائد والتاريخ" فهم مجهولون.
__________
(1) معجم الخوئي/3/70-71/
(2) معجم الخوئي(108/146)
... كما يؤكد كلام البرقعي بأنَّ رواة الكافي من: "الضعفاء والمجهولين... والمهملين وأصحاب العقائد الزائفة".
... إذن أين الثقة في المرويات التي يُبنى عليها أعظم شيء في حياة المسلم: "العقيدة".
... ثانيًا: إذا لم تثبت: "إمامة" أحد ممن يزعم أنَّه: "إمام" ـ وهذه قضية عقدية كبيرة ـ فهذا ينقض المذهب من أساسه.
... ثالثًا: إذا لم تثبت إمامة: "الحادي عشر" فالثاني عشر: "الوهمي" من باب أولى.
... وأمَّا العقل المحايد: فهل عقل الشيعي: "محايد" العقل الذي يسوِّغ كتمان آلاف الناس للوصية طيلة حياة الخلفاء الأربعة ولا يرفع أحد صوته منهم لإعلانها وهم من أوذي في سبيل الدين وفارق الأهل والأوطان وحمل السيف لنُصرة الدين يجبنون عن الصدع بالحق.
... ثمَّ هل يسوِّغ العقل أن يحدث تكاتم للحق من غير اتفاق سبق من آلاف الناس؟!
... ثمَّ هل يسوِّغ العقل أن يكون الإمام المنصوب من الله جبانًا خائرًا وقد كلف بأن يحمل الأمانة؟!
... ثمَّ هل يسوِّغ العقل أن يَكرَه جميعُ الصحابة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فلا يرفعون صوتهم لنُصرته؟!
... ثمَّ هل يسوِّغ العقل أن يتنكر الخلفاء لدِينهم ثمَّ يحاربون لنُصرته ويعيشون حياة الزهد والعفة؟!
... ثمَّ هل يسوِّغ العقل أن تُطالِب فاطمة رضي الله عنها بحقها من الميراث وهو حطام دنيا وتسكت عن أعظم من ذلك وهو إبطال الوصية؟!
... ... كم من الأمور يُسأَل عنها لا يستطيع العقل أن يسوغ حدوثها؟!
... فأيُّ عقل يا تُرى الذي اعتمد عليه السبحاني ليطعن في عظماء الأمَّة ويتظاهر بأنه: "مُحايد".
... نحمد الله على نعمة الهداية.
... هذه بعض إشارات حول كلامكم قبل تحليل إجابتي على أسئلتكم عن الصحابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ(108/147)
... 87) أشرتم إلى حديث الحوض والذي فيه ألا ليذادُنَّ رجال عن حوضي كما يُذاد البعير الضال فأناديهم: ألا هلم فيقال: إنَّهم قد بدَّلوا بعدك فأقول سحقًا سحقًا)(1)
... ثمَّ أوردتم فيه كلامًا كثيرًا انتهيتم فيه إلى أنَّ المقصود بأصحابي في الحديث هم الذين صحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
... وأوردتم أحاديث صحيحة وأخرى ضعيفة أو مكذوبة ولسنا هنا في بيان الأحاديث الضعيفة والمكذوبة ولا أظن أنَّها تخفى عليكم لكنَّكم تستبيحون الاستدلال بكل حديث أو أثر يحقق مقصودكم وهذا في منهجنا الإسلامي مرفوض.
... ولكنني هنا سأقف معكم وقفات عقلية لبيان عدم سلامة منهجكم وأنَّه منهج صالح لهدم الدين لا لنصرته وقد تكرر معنا معنى هذا الكلام أكثر من مرة لكن المقام يتطلب التكرار أحيانًا:
... أولاً: قد ورد في القرآن الكريم عشرات الآيات تؤكد إيمان الصحابة وتقرر مرضاة الله - عز وجل - عليهم وأنَّه حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وأنَّهم راشدون وأنَّهم خير أمَّة وأمَّة وسط ـ أي عادلة خيرة ـ وأنَّه سيستخلفهم إن آمنوا وعملوا الصالحات وقد استخلفهم كما وعد فدل على إيمانهم وأنَّه سيقيم رجالاً مؤمنين مجاهدين في حالة حدوث الارتداد إلى آخر ما ورد في هذه النصوص.
... فهل هذه النصوص حق وتحقق موعودها أم لا؟
... ثانيًا: وردت عشرات الأدلة النبوية الصحيحة تثني على عظماء الصحابة وأبي بكر وعمر وعثمان...وتؤكد فضلهم وتقرر إيمانهم ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يتناقض.
__________
(1) صحيح مسلم/3/111/(108/148)
... فكيف تتنكرون لهذه النصوص القطعية الواضحة العينية والتي تثبت هذه الفضائل للصحابة بأعيانهم ثمَّ تأتون إلى أحاديث بل حديث واحد يمكن أن يحمل على أي شخص ثمَّ تحملونه على من ثبت فضله وإيمانه ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - له وتجعلون هذا الحديث فيه وفي إخوانه؟!
... والحديث يحتمل من آمن ممن لم يثنِ عليهم الله - عز وجل - ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتتركون هذا الاحتمال الذي هو الراجح لعدم ما يمنع من حمله عليهم؟! أليس هذا دليل الحقد والبغض لعظماء الأمَّة؟!
... ثالثًا: لو أراد شخص أن يحمل هذا الحديث على عليّ - رضي الله عنه - فقال: إنَّ عليًّا هو المقصود بالحديث ولفظه دال عليه وأنتم قد أوردتم النص من الصحيحين وفيه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنَّهم منِّي)(1) وهذا اللفظ يدل على أنَّ المقصود من أهل بيتي لأن لفظة: (منِّي) لا تحتمل غير هذا.
... وفي رواية أسماء: (فأقول: يارب: منِّي ومن أمَّتي)(2).
... وهذا دليل على عليّ - رضي الله عنه - وعلى الذين قاتلوا معه فأراقوا الدماء يغير حق!!
... فهل تستطيع أن ترد على هذه الدعوى بغير الاستدلال بمن اعتقدت أنَّهم ارتدوا؟؟!!
... رابعًا: لو أراد يهودي أو نصراني أن يطعن في هذا الدين وأنَّه دين فاشل وأهله مرتدون وغير أهل لحمل هذا الدين فهل يمكن أن يجد أسلوبًا غير أسلوبك لحرب هذا الدين واستمع إلى نفسك:
... فقد قلتُم: (متن روايات الحوض وغيرها تثبت بأنَّ المراد بالصحابة هم الذين صحبوه/21/) فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لم يكن مطمئنًا لما ينتهي إليه أمر أصحابه بعده/25/)
__________
(1) صحيح البخاري/7/207/ومسلم/7/65/
(2) صحيح البخاري/7/209/ومسلم/7/66/(108/149)
... وقلتُم: (ورد في آيات الحوض: أيضًا لا تدري بما أحدثوا إنَّهم ارتدوا على أدبارهم وفي قوله تعالى: (وما محمد إلاَّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم) [سورة آل عمران(آية144)] وكانت هذه الأحاديث واردة مورد التفسير لهذه الآية ومؤكدة لتحقق مضمونها بعد وفاته/25/) أي حصول الردة.
... وأوردتم قولاً للبراء بن عازب يعترف بالتقصير ولا يزكي نفسه ثمَّ قلتم: (يشهد على نفسه وغيره من الصحابة بأنَّهم أحدثوا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كي لا يغتر بهم الناس ـ سبحان الله ـ وهو من أكابر الصحابة ومن السابقين الأولين والذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة).
... ثمَّ قلتم: (إنَّ صحبته ومبايعته تحت الشجرة لا تمنعان من ضلالة الصحابي وارتداده).
... ثمَّ أكدتم أنَّه لا يمكن حمل الردة هنا على من حاربهم الخليفة أبو بكر: (لمنافاته بصراحة رواية أبي هريرة التي صرحت بقولها: (فلا أراه يخلص إلاَّ مثل همل النعم) وهي أبلغ كناية عن القلة ومعنى هذا أنَّها حكمت على أكثرهم بالارتداد ومعلوم أنَّ هؤلاء المرتدين الذين حاربهم الخليفة لا يشكلون إلاَّ أقل القليل وأخيرًا ختمت بأن اقتطعت كلامًا للسندي على سنن النسائي وهو: (إنَّ الإسلام لن ـ لعلها لم ـ يتمكن في قلوبهم) ثمَّ زدت من عندك ـ يعني الصحابةـ) وفوق أنَّ هذه الزيادة اعتداء على النص ليست صحيحة وإنَّما الحديث عن مسلمة الفتح.
... فلو قال هذا اليهودي أو النصراني هذا التقرير الذي أنقله من أستاذ جامعي أفقدني الثقة بكل ما نقله هؤلاء الأصحاب لأنَّني لا أدري من هو الباقي الذي لم يرتد والروايات التي رووها كلها لا أثق فيها لأنَّ من شرط قبول الرواية: (إسلام الراوي وعدالته) وهؤلاء قد شككت فيهم بما نقلته عن هذا الأستاذ الجامعي؟!
... فكيف ترد على هذا الكافر وتقنعه بصحة دينك؟!(108/150)
... خامسًا: فرق بين أن يحكمك الشرع وبين أن تحكمه.
... والذي يقف على كلامك يرى أنَّك توجه النصوص حسب المعتقد وليس المعتقد هو التابع للشرع ومثال ذلك:
... قلتم في تعريف الأصحاب: (إنَّما الكلام في كلمة: "الأصحاب" الواردة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا الواردة في اللغة أو لسان التابعين بعد مضي سنوات..).
... فهنا تريد أن تقرر أنَّ المقصود بالأصحاب في حديث الردة أنَّهم أصحابه الذين صحبوه لترد على من أورد احتمال أنَّ المراد مطلق الصحبة وذلك يشمل كل أمته.
... ثمَّ عندما أتيت إلى كلمة: "لم يزالوا مرتدين على أدبارهم" أخذت تبحث عن الآراء الشاذة التي تقرر معتقدك فوجدت من يقول إنَّ المراد: "أي متخلفين عن بعض الواجبات ولم يُردْ ردة الكفر" ثمَّ قلت: (فالمراد منها هي ترك وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في عليّ وأهل بيته).
... قلتُ: هذا التفسير لا يوجد في الشرع فأين في الشرع أن ترك واجب من واجبات الدين يسمَّى: "ردة"؟!
... جميع الآيات الواردة في كتاب الله - عز وجل - إنَّما يقصد بها الكفر وترك الدين بإجماع المفسرين.
... قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه...) فأي مفسر فسَّر هذه الكلمة بأنَّه ترك واجب؟!
... وقال تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر...) فالآية نص واضح في أنَّ: "الارتداد" هو الكفر.
... وفي السنَّة ورد في بعض أحاديث الفتن: (ويكون عند ذلك ردة).
... وفي صحيح البخاري سؤال هرقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (وهل يرتد أحد سخطة لدينه).
... وفي عشرات الآثار عن الصحابة تسمية ما حدث من ترك الدين بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ردة".
... وكذلك في لسان التابعين وجميع الفقهاء تسمية من خرج من الدين أو فعل فعلاً يناقض الدين سموه: "ردة" وقد عقدوا بابًا في الفقه سموه: "باب الردة" ولم يذكروا فيه ترك الواجبات!!!(108/151)
... ثمَّ لو اعتمدنا هذا التفسير الغريب في كل من ترك واجبًا وسميناه مرتدًا: لهلك أكثر الناس.
... فمن لم يُعفِ لحيته ترك واجبًا فهل يسمَّى مرتدًا؟!
... ومن لم يَردَّ السلام ترك واجبًا فهل يسمَّى مرتدًا؟!
... وهكذا وهكذا..
... الحمد لله!!
... سادسًا: وهل الإمامة حكمها كحكم إعفاء اللحية واجبة فقط؟!
... وهل نقسم الأمة إلى طائفتين لأجل واجب؟!
... وهل يُذاد الناس يوم القيامة عن الحوض لأجل ترك واجب؟!
... سبحان الله العظيم؟!
... وهل هذه الحملة الشرسة من الشيعة على الصحابة وعظماء الأمَّة بسبب ترك واجب؟!
... أليس المسلمون في جميع الطوائف لا يكاد يخلو منهم أحد من ترك واجب فهل ينقسمون ويتعادون لأجل ترك واجب؟! الحمد لله!!
... سابعًا: أوردتم قولاً للبراء بن عازب أنَّ المسيب قال له: (طوبى لك صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - وبايعته تحت الشجرة! فقال: يا ابن أخي إنَّك لا تدري ما أحدثنا بعده) ثمَّ عقبتم عليه.
... قلتُ: ضع معه هذا النص ثمَّ انظر:
... عن قيس الخارفي عن عليّ قال: سبق رسول الله وصلى أبو بكر وثلَّث عمر ثمَّ خبطتنا فتنة يعفو الله عمَّن يشاء) قال أبو عبدالرحمن قال أبي قوله: ثمَّ خبطتنا فتنة: أراد أن يتواضع(1).
... ورواه عمرو بن سفيان عن عليّ(2).
... ورواه عبد خير عن علي(3).
... ورواه سعيد بن قيس الخارفي عن عليّ(4).
... هل عليّ - رضي الله عنه - يعترف بأنَّه قد حاد وأنَّه قد دخل في أمر هو معصية ويسأل الله أن: "يعفو عنه".
... ثمَّ انظر إلى أهل السنَّة أصحاب القلوب النظيفة التي تحمل كلام العظماء على أحسن المحامل:
__________
(1) رواه أحمد/ المسند/1/200/
(2) المرجع السابق/1/237/
(3) فضائل الصحابة/1/214/
(4) المرجع السابق/1/387/(108/152)
... بعد أن أورد الإمام أحمد بن حنبل حديث عليّ السابق عقَّبَ عليه بقوله: (أراد أن يتواضع) يعني أنَّه إنَّما قال ذلك تواضعًا وتذللاً لله - عز وجل - يمتثل أمر الله - عز وجل -: "ولا تزكوا أنفسكم".
... منهجٌ صحابيٌ واحد لجميع الصحابة تواضع وهظم للنفس.
... ثمَّ قول البراء بن عازب: (يا ابن أخي إنَّك لا تدري ما أحدثنا بعده) هل ما حدث من الخلاف كان سرًا لا يعلمه أحد أم كان مكشوفًا معروفًا؟!
... فكيف يقول: لا تدري وكل الناس يعلمون ما حدث؟!
... لو أراد أن يشير إلى أمر معلن لقال: إنَّك تدري ما حدث منَّا.
... ثمَّ هذه أحاسيس إيمانية لا يتذوقها أصحاب القلوب المريضة الجاهلة بربها.
... ثمَّ أرأيت أنت في خاصة نفسك لو أثنى عليك شخص أكنت تقبل وتزكي نفسك وأنت لا تعلم من نفسك ارتكاب معصية ظاهرة لكنَّك تستشعر التقصير في حق الله - عز وجل - فترفض التزكية! هذا الظن بك!
... أليس هذا سيد البشر وإمام العظماء نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لن يُنجي أحدًا منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلاَّ أن يتغمدني الله برحمته..)(1).
... وفي لفظ: (إلاَّ أن يتغمدني منه بمغفرة ورحمة)(2).
... رواه عنه أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وجابر بن عبدالله وعائشة كما في الصحاح والسنن والمسانيد.
... أترى يمكن أن تقول: (يشهد على نفسه..كي لا يغتر به الناس..).
... سبحان الله ما أحوجنا إلى مراجعة هذه المواقف الخطيرة!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 88) قلتم: (وقد مدح الله سبحانه وتعالى في كتابه طوائف من الصحابة ونحن نذكرها على ترتيب ما جاءت في رسالتكم ثمَّ نقوم بالتحليل.
__________
(1) رواه البخاري/13/83/ومسلم/17/134/
(2) رواه البخاري/13/83/ومسلم/17/133/(108/153)
... الآية الأولى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدَّ لهم جنَّات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم) [سورة التوبة(100)].
... ثمَّ قلتم: (فقد أثنى الله سبحانه في هذه الآية على طوائف ثلاث:
... الأولى: السابقون الأولون من المهاجرين: وهم الذين هاجروا أيام هجرة النبي أو بعدها بقليل وبما أنَّ لفظة: "من" في: "من المهاجرين" للتبعيض فهو يخرج المتأخرين من المهاجرين. فالآية تثني على السابقين من المهاجرين لا على عامة المهاجرين.
... وبعبارة أخرى: إنَّما يصح الاستدلال بشمول الثناء في الآية لجميع المهاجرين والأنصار إذا ثبت بدليل قطعي أن: "من" بيانية لا تبعيضية وأي دليل قطعي على ذلك؟).
... أولاً: قررتم أنَّ الآية: (تثني على السابقين من المهاجرين لا على عامتهم) وقلتم قبل ذلك: (وهم الذين هاجروا أيام هجرة النبي أو بعدها بقليل).
... ونحن هنا نتنزل معكم في الخطاب: فمن هم السابقون من المهاجرين؟ الذين هاجروا أيام هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعدها بقليل!!
... أبو بكر وعمر وعثمان وسعد بن أبي وقاص والزبير... إلخ العشرة الذين هاجروا قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل أو معه فهل هم داخلون في هذه الآية أم لا؟
... أم المقصود: عمَّار وأبو ذر والمقداد فقط لأنَّ سلمان من الأنصار؟!
... ثانيًا: الآية الكريمة قد وعدتهم بوعدين:
... الأول: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) والله - عز وجل - عالم الغيب سبحانه لا يعد إنسانًا بالرضى عنه إلاَّ إذا علم أنَّه يعيش على الإيمان والتقوى وإلاَّ فإن تجرأنا ـ ونعوذ بالله من ذلك ـ وتعقبنا الله - عز وجل - وقلنا يارب أنت أطلقت هنا وهؤلاء لا يستحقون الرضوان لأنَّهم سيغيرون الوصية ـ المكذوبة عليك وعلى نبيك ـ ولن ينفذوها فكان ينبغي أن تقيد وأن تقول: (إذا نفذوا وصيتي في عليّ)!!(108/154)
... أو نقول كما قال أبو المهدي ـ كما سيأتي ـ (غير أنَّ وعد الله سبحانه بالحسنى مشروط بحسن خواتيم العمل)!!!
... الله - عز وجل - يعد قومًا بأعيانهم برضوانه عليهم وبأنَّهم سيرضون عنه - عز وجل - فهل يملك بشر أن يقيد ما أطلقه الله - عز وجل - في حق أشخاص بأعيانهم ؟! نعوذ بالله من الضلال.
... إلاَّ إذا قلنا إنَّ الله - عز وجل - لا يعلم الغيب وأنَّ علم الغيب قد أعطاه: "للأئمة" فإنَّهم يعلمون ما كان وما سيكون وقد تنازل الله - عز وجل - لهم قياسًا على تنازله سبحانه لهم عن التشريع للخلق كما يثبته أصح كتاب عند الشيعة ويؤكده زعيم الثورة الإيرانية الخميني:
... قال الكليني في إدارة الكون: عن أبي جعفر الصادق أنَّه قال: (إنَّ الله تعالى لم يزل متفردًا بوحدانيته ثمَّ خلق محمدًا وعليًّا وفاطمة فمكثوا ألف دهر ثمَّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوض أمورها إليهم فهم يحلُّون ما يشاءون ويحرمون ما يشاءون ولن يشاءوا إلاَّ أن يشاء الله تبارك وتعالى..)(1).
... أو أنَّ الله - عز وجل - بدا له أن يغير وعده لهم إذ ذلك معتقد عبدالمطلب الذي لم يَحضَ بالإيمان وقد شرع للشيعة هذه العقيدة.
... فقد أورد الكليني في أصح الكتب الشيعية ـ الكافي ـ عن أبي عبدالله أنَّه قال: (إنَّ عبدالمطلب أول من قال بالبداء يبعث يوم القيامة أمَّة وحده عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء)(2).
... يبدو أنَّ كل آل البيت أصبحوا أئمة ولم يبقَ إلاَّ أبو لهب لولا أنَّه أنزل فيه سورة لربَّما نسبت إليه التقية أو الرجعة حتَّى تكون عقائد الشيعة مأخوذة من آل البيت مؤمنهم وكافرهم!!
... الله - عز وجل - عالم الغيب ولا يغير وعده وإذا وعد قومًا بأعيانهم بالرضى فلابد أن يتحقق.
__________
(1) الكافي/1/441/أوردها الخميني وأقرها/كشف الأسرار/92/
(2) الكافي/1/447/(108/155)
... الوعد الثاني: قال تعالى: (وأعد لهم جنَّات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم).
... فأكد سبحانه أنَّه: "أعد لهم" فهل يجرؤ شخص بعد ذلك أن يقول إنَّه لابد من: "القيد" أو: "التخصيص"(1) لأنَّهم لم ينفذوا: "الوصية" التي لا وجود لها إلاَّ في أذهان تقبلت روايات مكذوبة لتؤسس عقيدة تحارب كل من يخالفها بل وتتهمه إن لم يعلنها حتَّى لو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سبق عن الخميني...
الحمد الله على نعمة الهداية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 89) قلتم: (الثانية: السابقون من الأنصار وهم الذين سبقوا في نصرة النبي بالإنفاق والإيواء ولا يدخل مطلق الأنصار ولا أبناؤهم وحلفاؤهم وذلك لأنَّ تقرير الآية: (والسابقون الأولون من الأنصار)
... فالآية تثني على السابقين الأولين من الأنصار لا على عامتهم..)
... ثمَّ استطردتم تؤكدون هذا المعنى.
... وهنا وقفات:
... الأولى: من هم هؤلاء السابقون من الأنصار الذين استحقوا هذا التكريم؟!
... لا نجد أحدًا من الأنصار ضمن الصحابة الذين استثنتهم الشيعة من: "الهالكين" الذين هم جميع الصحابة فقد هلكوا: "لم ينصروا الوصي" كما زعموا إلاَّ أربعة ليس منهم أنصاري إلاَّ سلمان، وسلمان - رضي الله عنه - كان مولى لم يشارك في: "الإيواء" لأنَّه لم يكن يملك شيئًا وعلى ذلك فلم ينجُ أحد من الأنصار الذين آووا النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين الذين وعدهم الله - عز وجل - بـ: "رضي الله عنهم ورضوا عنه" و: "وأعد لهم جنات" لأنَّ الله - عز وجل - إمَّا لم يكن يعلم أنَّهم سيخذلون الوصي أو أنَّه بدا له أن: "يتراجع" عن وعده إكرامًا للشيعة!!
استغفر الله استغفر الله استغفر الله.
الثانية: هل تشتمل كتب الشيعة على بيان بأسماء هؤلاء السابقين من الأنصار الذين أثنى الله - عز وجل - عليهم؟!
__________
(1) للرازي بحث بهذا المعنى/التفسير/16/130/(108/156)
الثالثة: هل يستطيع الشيعة أن يفرقوا بين من آمن ونصر من الأنصار ومن وصف بالنفاق؟! ومن أي مرجع يمكنهم ذلك؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 90) قلتم: (الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان وهذه الطائفة: عبارة عمن أسلم بعد بدر إلى بيعة الرضوان أو إلى فتح مكة فلا تشمل الوافدين من العرب في العام ا لتاسع...هم الذين صلحت سيرتهم وسلوكهم فصاروا بعيدين عن اقتراف الذنوب ومساوئ الأخلاق فاتبعوهم بإحسان).
... قلت هنا وقفات:
... أولاً: من هم هؤلاء الذين اتبعوهم بإحسان؟! وأنتم لم تُعدِّلوا إلاَّ أربعة أشخاص لأنَّ أحدًا من هؤلاء كإخوانهم المهاجرين والأنصار لم_ينصروا الوصي_ بزعمكم بل لم يعلموا هذه الوصية لأنَّه لا يعقل أنَّ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لا يعلن واحد أو أكثر منهم نصرة الوصي طوال حياة الثلاثة!!
... ثانيًا: شهدت بأن التابعين ـ أي الصحابة الذين هاجروا بعد ـ للسابقين بإحسان بأنَّهم (صلحت سريرتهم وسلوكهم..) فهل يمكن أن تذكر منهم عشرة أشخاص من كتبكم؟! وكيف عرفتم أنَّه صلحت سريرتهم وسلوكهم؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 91) قلتم: (وأين هذه الآية من تعديل عشرة آلاف صحابي سجلت أسماؤهم في المعاجم أو مائة ألف صحابي صحبوا النبي في مواقف مختلفة ورأوه وعاشروه؟
... هذا هو المفهوم من الآية حسب الفوائد التي تعرفتموها).
... قلت:
... هنا ثلاثة مواقف في تعديل الصحابة:
... الأول: أنَّ جميع الذين صحبوه وآمنوا به عدول لشرف صحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقبولهم للإسلام ورضاهم به.
... وهذا هو الظاهر لنا من عموم النصوص الشرعية إضافة إلى ما قاموا به من حفظ الدين والجهاد في سبيله كل في مجاله وحسب طاقته.(108/157)
... وهذه آثارهم شريعة محفوظة وبلاد مفتوحة فقد بلغ عدد المسلمين اليوم مليار مسلم وقبلهم آباؤهم وأجدادهم لا يحصون كثرة دخلوا الإسلام بسببهم ثم كل عمل يعملونه في ميزان حسنات أولئك الأصحاب فنحن نشهد لهم بالخير والفضل ونشهد آثارهم وليس عندنا وصية مزعومة خالفوها أو عاندوها.
... والثاني: عكس هذا الموقف وقال إنَّ جميع الصحابة الذين هم (10.000) عشرة آلاف صحابي المدونة أسماؤهم في الكتب و(100.000) مائة ألف الذين عاصروه ورأوه كلهم ـ إلاَّ أربعة ـ ارتدوا أو خانوا الوصية أو لم يرتدوا ولكنَّهم عاندوا ومنعوا تنفيذ "الوصية" ـ الوهمية طبعًا ـ ولهذا فليسوا أهلاً للعدالة فهم إمَّا كفار وإمَّا فاسقون فتكون النتيجة أنَّ عدد الناجحين من مدرسة سيد البشر وعظيم الإنسانية عدد (4) أشخاص من (100.000) مائة ألف والراسبون (99.996) راسبًا على حسب معتقد الشيعة!!
... الثالث: من خص المهاجرين والأنصار بالعدالة وخاصة الأولين منهم إلى بيعة الرضوان أو فتح مكة أو الذين لازموه طوال حياته صلوات الله وسلامه عليه وبعضهم وضع قيودًا أخرى ولكنَّها جميعها لا تخرج عظماء الصحابة المشهورين كالخلفاء وبقية العشرة وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان.
... هذه هي الأقوال في عدالة الصحابة:
... الأول: يقول به جمهور أهل السنَّة ويرون أنَّ من يخرج عنه فهو شاذ أو مبتدع.
... والثاني: هو قول الشيعة ـ وخاصة الإمامية ـ وقد تفرق في البحث كلام للشيعة يؤكد هذا الموقف.
... والثالث: لبعض أهل السنَّة وهو قول مرجوح ولا تستطيع الشيعة الإمامية أن تقول به لأنَّه يتعارض مع عقيدة: "الإمامة".
... فأي هذه الأقوال يا ترى هو الصحيح؟
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 92) أوردتم كلامي في تقرير عدالة الصحابة وهو: (أثنى - عز وجل - على جميع المهاجرين وجميع الأنصار بدون قيد لأنَّ: "ال" للعموم فيما دخلت عليه وجميع الذين اتبعوهم بإحسان.(108/158)
... فالمتبعون قيدهم بالإحسان.
... وهذا أصل فلا يُخرج أحد من المهاجرين والأنصار إلاَّ بدليل قطعي.
... والآية في غاية الوضوح.
... ثمَّ أثنى الله - عز وجل - على الذين اتبعوهم بإحسان والذين اتبعوهم هم: أهل السنَّة وليسوا الشيعة.
... لأنَّ الشيعة ما بين مكفر لهم وذام لهم أعني الشيعة الإمامية بدون استثناء)
... ثمَّ قلتم بعد إيراد كلامي: (...يلاحظ عليه سبحانه أنَّه يثني لا على عامة المهاجرين ولا على عامة الأنصار بل على صنف خاص منهم وهم: السابقون الأولون فحسب..).
... قلت:
... قولكم إنَّه - عز وجل - يثني على: "صنف خاص منهم وهم: السابقون الأولون.."
... فمن هم هؤلاء الذين أثنى عليهم وهل منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وبقية العشرة أم ليسوا منهم؟!
... فإن قلت منهم فكيف تجمع بين هذا الثناء واعتقاد أنَّهم خانوا الوصية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 93) أوردتم جزءًا من قولي وهو: (وهذا أصل فلا يخرج أحد من المهاجرين والأنصار إلاَّ بدليل قطعي) ثمَّ قلتم: (نعم هذا أصل لا في عامة المهاجرين والأنصار بل في خصوص السابقين الأولين منهم فلا يعدل عن هذا الأصل إلاَّ بدليل قطعي:
... مثلاً إذا دل دليل على أنَّ صحابيًا من السابقين والأولين عدل عن الحق فيؤخذ بالدليل الثاني.
... فإذا دل الدليل على أنَّ حارث بن سويد من الصحابة البدريين قتل المجذر بن زياد المسلم يوم أحد لثأر جاهلي يحكم بخروجه من الآية. [الإصابة/ترجمة الحارث بن سويد]
... أو دل على أنَّ قدامة بن مظعون البدري شرب الخمر وهكذا دواليك..). [الاستيعاب/3/1276]
... قلت وهنا وقفات:
... أولاً: هل دليل الإمامة قطعي يمكن أن يُبنى عليه إخراج جميع الصحابة من العدالة بسبب عدم تسليمهم الإمامة لعليّ - رضي الله عنه - أم لا؟
... فإن كان قطعيًا فلم يبقَ أحد ممن دخلت عليه: "ال" عدلاً وإن لم يكن قطعيًا بطلت الإمامة.
... فبأيها تقول؟!(108/159)
... ثانيًا: "المجذر بن زياد" قتله شخص اسمه: "الحارث بن سويد بن الصامت" غيلة يوم أحد ثمَّ ارتد ثمَّ جاء مسلمًا يوم الفتح فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم -(1) به فأي دليل في هذا؟!
... رجل خان وارتد فهل يشكك في عدالة عظماء الأمَّة وإخوانهم بالآلاف لأجل رجل ارتد وهل قال أحد إنَّ هذا الشخص: "عدل"؟!
... هل ترضون بأن نسقطه من العدالة؟ ـ أسقطناه ـ هل تكتفون بهذا الرجل؟!
... ثالثًا: لم يرد هناك نص صحيح أنَّه هو الذي قتل ولذلك اختلف العلماء في قاتل المجذر فقد قال ابن حجر بعد أن أورد قول ابن الأثير إنَّ أهل النقل اتفقوا على أنَّه هو الذي قتل: "المجذر" قال: (وفي جزمه نظر لأنَّ العدوي وابن الكلبي والقاسم بن سلام جزموا بأنَّ القصة إنَّما وقعت لأخيه: "الجُلاس" لكن المشهور أنَّها للحارث)(2).
... رابعًا: لم يصح في إسلام الحارث بن سويد حديث وأهل السير اختلفوا في إسلامه أصلا.
... فابن إسحاق يرى أنَّه لم يسلم أصلاً وإنَّما أظهر الإسلام.
... قال ابن إسحاق: (وكان الحارث بن سويد بن صامت منافقًا فخرج يوم أحد مع المسلمين فلما التقى الناس عدا على المجذر بن زياد البلوي وقيس بن زيد أحد بني ضُبيعة فقتلهما ثمَّ لحق بمكة بقريش..)(3).
... فهذا هو: "الحارث بن سويد" اختلف في إسلامه ولم يحضر غزوة بدر وقد ذكر البخاري أسماء من شهد بدرًا ممَّن صح عنده فذكر أربعة وأربعين رجلاً(4) ليس هذا منهم.
وأورد الهيثمي أسماءهم على قسمين: قسم قال فيه: "رجاله رجال الصحيح" وقسم فيه: "ابن لهيعة" وقال فيه: (وقد ضُعِّف وحديثه حسن باعتبار الشواهد) وليس في كلا القسمين(5) فمن أين عرفت أنَّه بدري؟! أليس هذا مجازفة لا تليق؟!!
__________
(1) أسد الغابة/4/47/
(2) الإصابة/2/158/
(3) سيرة ابن هشام/2/89/
(4) صحيح البخاري/كتاب المغازي/باب تسمية من سُمِّي من أهل بدر/
(5) مجمع الزوائد/6/93/(108/160)
... خامسًا: "قدامة بن مظعون" كان زوجًا لأخت عمر بن الخطاب أسلم في مكة وهاجر إلى الحبشة ثمَّ إلى المدينة وشهد بدرًا وجميع المشاهد، استعمله عمر على البحرين فقدم الجارود سيد عبدالقيس إلى عمر فقال له: "إنَّ قدامة" شرب الخمر فقال من يشهد معك فشهد أبو هريرة فاستقدمه عمر، ثمَّ إنَّ الجارود طلب من عمر إقامة الحد فقال عمر: (أخصم أنت أم شهيد؟) فكرر الجارود طلبه إقامة الحد، ممَّا شكك عمر في شهادته فأرسل عمر إلى زوجته فشهدت على زوجها.
... فقال عمر: (إنِّي حادك). فقال: لو شربت كما يقولون ما كان لكم أن تحدوني.
... فقال عمر: لم؟
... قال قدامة: (قال الله - عز وجل -: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) الآية).
... قال عمر: أخطأت التأويل إنَّك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك.
... ثمَّ أخَّر عمر عنه الجلد لكونه كان مريضًا ثمَّ خاف أن يموت قبل أن يستوفي منه الحد فجلده.
... ثمَّ إنَّ قدامة هجر عمر ثمَّ رأى عمر رؤيا ثمَّ اصطلحا وعاش قدامة إلى عام ستة وثلاثين.
... قال أيوب السختياني: (لم يحد في الخمر أحد من أهل بدر إلاَّ قدامة بن مظعون)(1).
... هذه قصة: "قدامة" أخطأ في فهمه وشرب الخمر مرة واحدة وقد شارك في نصرة هذا الدين وشهد بدرًا وببيعة الرضوان وقد جاءت الأحاديث في تجاوز الله - عز وجل - عمن شهد هاتين الوقعتين بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد حصل ما هو أعظم من شرب الخمر من: "حاطب" فعذره النبي - صلى الله عليه وسلم - لصدقه وشهوده غزوة بدر.
... فهل ترد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاطب وتخرجه من هذا التكريم؟!
... غفر الله لقدامة ورضي الله عنه وإنَّه والله لعدل أخطأ ثمَّ تاب وقد أخطأ آدم - عليه السلام - فتاب وتاب الله - عز وجل - عليه.
__________
(1) الاستيعاب/3/100/(108/161)
... سادسًا: هذه وقائع مفردة من آحاد الصحابة أقيم الحد على صاحبها والحد يكفر الله - عز وجل - به الذنب ولا يجوز لمن حُد في معصية أن يُعيَّر.
... ثمَّ ما هي النماذج الأخرى التي ارتكبت المعاصي؟!
... ثمَّ هل يعني أنَّ غير قدامة عندكم عدل؟! أم أنَّ بقية الصحابة ارتكبوا الفواحش كذلك؟!
... سابعًا: تعامل الشيعة مع الصحابة تعامل غير منصف فهم لا يرون إلاَّ أخطاءهم مع أنَّ تلك الأخطاء محصورة في أفراد، فلا ينظرون إلى هذا الجيل المؤمن المجاهد الذي نصر الله - عز وجل - به الدين وحفظ به الشريعة وفتح العالم إلاَّ من خلال: "صحابي" شرب الخمر، أو: "صحابي" زنى، أو: "صحابي" قتل..وهذا ظلم في تقييم الأشخاص لو طبق علينا في الدنيا والآخرة لهلكنا.
... ثامنًا: إنَّ جميع الخير في الأرض لكل صحابي شارك في الدفاع عنه أو في نقله مثله لأنَّهم هو السبب في نشره فكم سيكون من الحسنات جرَّاء ذلك الخير، فإذا وُضعت تلك السيئة في كِفَّة وتلك الأعمال العظيمة في كِفَّة فما عسى أن تفعل تلك السيئة.
... ضع: "مليار" حسنة في كِفَّة و: "سيئةً واحدةً" في كِفَّة وانظر الراجح.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 94) أوردتم قولي: (ثمَّ أثنى الله - عز وجل - على الذين اتبعوهم بإحسان والذين اتبعوهم هم أهل السنَّة) ثمَّ قلتم: (يلاحظ عليه: أنَّ قوله سبحانه: "والذين اتبعوهم بإحسان" فعل ماض يحكي عن تحقق التبعية بإحسان عند نزول الآية فلابد أن يكون التابعون بإحسان من جملة الصحابة فكيف تفسرونه بأهل السنَّة إلى يوم القيامة ثمَّ تخرجون الشيعة مع أنَّ الطائفتين خارجتين! عن مفاد الجملة وإلاَّ لكان اللازم أن يقول - عز وجل -: (والذين يتبعونهم بإحسان)..إلخ.
... قلت:(108/162)
... أولاً: لقد ذكر جميع المفسرين أنَّ: "الذين اتبعوهم" يشمل الأمَّة إلى قيام الساعة سواء قلنا إنَّها تشمل من أسلم من غير المهاجرين أو أنَّها خاصة بجيل التابعين ثمَّ من تبعهم.
... ثانيًا: قولكم: (فلابد أن يكون التابعون بإحسان من جملة الصحابة) وإلاَّ: (لكان اللازم أن يقول الله - عز وجل -: "والذين يتبعونهم بإحسان") فهذا قصور في معرفة اللغة العربية وما كان لكم أن تقتحموا حمى القرآن الكريم بمثل هذه الجرأة وسيأتي توضيحه في: "رابعًا".
... ثالثًا: جميع المفسرين من أعلام العربية لم يقل أحد منهم مثل قولكم ابتداءً بالصحابة - رضي الله عنهم - وانتهاء بآخر مفسر من علماء الأمَّة فهل جهلوا أمرًا عرفتموه؟!
... ولعلَّ ممَّا أكرم الله به العربية أنَّ جميع موسوعاتها التي حفظتها وكذلك الكتب التي تضبط قواعدها من جهود أهل السنَّة، وأهل التشيع عالة على مصنفاتهم.
... ولو قدر أن ينحاز أهل الشيعة إلى بقعة من الأرض وأهل السنَّة إلى بقعة أخرى ويحمل كل منهما ما حفظه من الدين لعجز الشيعة عن معرفة الدين.
... فالقرآن جمعه أهل السنَّة.
... واللغة العربية هم جامعوا مفرداتها ومقعدوا قواعدها.
... رابعًا: لبيان خطأ فهمكم في أنَّ الفعل الماضي لا يدل على المستقبل نضرب لكم بمثال واحد من كتاب الله - عز وجل -.
... قال تعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) [سورة النحل(1)].
... قال الطبري: (أتى أمر الله فقرب منكم أيها الناس ودنا..)(1).
... وقال القرطبي: (أتى بمعنى يأتي)(2).
... وقال ابن كثير: (يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها بصيغة الماضي الدال على التحقق)(3).
... وهكذا على هذا النهج بقية التفاسير.
... ولهذه الآية نظائرها في كتاب الله - عز وجل - ومنها:
... قوله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل) أي: وننزع.
__________
(1) التفسير/14/52/
(2) الجامع لأحكام القرآن/10/65/
(3) التفسير/4/476/(108/163)
... وقوله تعالى: (وقالوا الحمد الله الذي هدانا) أي: يقولون.
... وقوله تعالى: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنَّة).
... وقوله تعالى: (ونادى أصحاب الأعراف رجالاً)(1).
... وغيرها كثير.
... وبهذا يتبين أنَّ قوله تعالى: (والذين اتبعوهم) فعلٌ يدل على المستقبل مطلقًا وأنَّه يشمل كل من جاء بعد السابقين إلى قيام الساعة وأنَّ دعوى الانتهاء لا توجبه اللغة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 95) أوردتم قولي: (والآية في غاية الوضوح) ثمَّ قلتم: (إنَّ هذا التعبير من سماحتكم في غاية الغرابة. كيف تصفون الآية بغاية الوضوح وقد اختلف المفسرون في تعيين المراد من الآية اختلافًا شديدًا وسوف نذكره ليتبين مدى صحة قضائكم في معنى الآية بأنَّه في غاية الوضوح).
... ثمَّ أوردتم قول ابن الجوزي أنَّ الآية فيها ستة أقوال ثمَّ قلتم في نهاية الأقوال: (وفي الختام نحن لا نصدق هذه الأقوال..) قلتُ: لأنَّها لا تحقق مقصودكم. [زاد المسير/3/333]
... الجواب من أوجه:
... أولاً: الآية في غاية الوضوح في الثناء على: "الصحابة" الذين كفَّرتموهم أو فسَّقتموهم سواءٌ كان ذلك في الثناء على: "طبقة" منهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أو فيهم وفي الذين جاءوا من بعدهم.
... وأهل السنَّة اختلفوا في تعيين: "الطبقة" لا في نفي: "الثناء" عن جميع الصحابة كما هو معتقد الشيعة الإمامية ـ ما عدا أربعة ـ
... وهذا هو خلافنا الأساسي معكم.
... ثانيًا: هذه الأقوال جميعها ليس واحد منها قولاً للشيعة الإمامية فهي كلها في مقابل أقوال الإمامية.
... وجميع المفسرين المذكورة أقوالهم في الآية لم يطعن أحد منهم في عدالة الصحابة الآخرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) هذه كلها في آيات متتابعة من سورة الأعراف/43-48/(108/164)
... 96) ثمَّ قلتم: (هذا كله بِغضّ النظر عمَّا ذهب عدة من المفسرين والمؤرخين بأنَّ المراد من السابقين: هو: علي بن أبي طالب وأنَّه أول من أسلم كما عن الثعلبي والقرطبي والخطيب وأبي نعيم وغيرهم قال الحاكم النيسابوري لا أعلم خلافًا بين أصحاب التواريخ أنَّ عليًّا أولهم إسلامًا. [تفسير الثعلبي/خ/تفسير القرطبي/8/236/ المستدرك/3/183/...]
... وصرَّح ابن تيمية في رسالة رأس الحسين بقوله: (ثمَّ علي وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث هم من السابقين الأولين فهم أفضل من الطبقة الثانية من سائر القبائل). [رأس الحسين/23]
... قلت هنا وقفات:
... أولاً: عزوك إلى هؤلاء المفسرين أنَّهم قالوا: (المراد من السابقين هو: علي بن أبي طالب..) ليس صحيحًا ولا أظن أنَّك تعمدت هذا الخطأ.
... قال الثعلبي: (واختلف العلماء في السابقين الأولين من هم؟
... فقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين: هم الذين صلُّوا القبلتين.
... وقال عطاء بن أبي رباح: هم الذين شهدوا بدرًا.
... وقال الشعبي: هم الذين شهدوا حجة الرضوان "أي بيعة الرضوان").
... ثمَّ قال: (واختلفوا أيضًا في أول من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم -...فقال بعضهم: علي بن أبي طالب..).
... فأين في تفسير الثعلبي تفسير الآية: بعليّ بن أبي طالب؟!!(108/165)
... أمَّا القرطبي فقد قال بعد إيراد الآية: (فيه سبع مسائل) أورد في ثلاث منها معنى الآية ولم يذكر فيها علي بن أبي طالب وإنَّما ذكر الأنصار والمهاجرين على حسب ما ذكره المفسرون الآخرون ثمَّ قال: (الرابعة: وأمَّا أولهم إسلامًا فروى مجالد عن الشعبي قال: سألت ابن عباس من أول الناس إسلامًا؟ قال: أبو بكر أو ما سمعت حسانًا..) ثمَّ أورد أبياتًا تدل على سبق أبي بكر. ثمَّ أورد أقوال جماعة من العلماء أكدوا أولية إسلام أبي بكر على غيره ثمَّ قال: (وبه قال إبراهيم النخعي: وقيل أول من أسلم عليّ.. ثمَّ ذكر أقوالاً أخرى فيمن أول من أسلم..)(1).
... فأين فسر القرطبي الآية بعليّ؟!
... ثمَّ ها هو قدَّم أبا بكر فإنَّه ذكر أنَّه أول من أسلم فهل يجوز لنا أن نقول إنَّ الآية تفسر بأبي بكر فقط؟! لا نستجيز هذا المسلك فالآية أعم من ذلك.
... وقول الخطيب وأبي نعيم لا يخرج عن ذكر أول من أسلم والأقوال فيه فهل دعواك إذن من أنَّ العلماء فسروا الآية بعليّ صحيح؟!
... ثانيًا: هذه العقلية الشيعية أن تفسر آيات المدح في كتاب الله - عز وجل - بـ: "شخص واحد" عقلية عجيبة.
... مئات وآلاف المهاجرين والأنصار توجه الآية ثناءها عليهم تختفي ليكون المخاطب هو: "عليّ - رضي الله عنه -" عليّ هو: "السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار" سبحان الله؟!!
... لكن لا غرابة فالذي يطلع على كتب الأحاديث والآثار الشيعية الإمامية يرى أنَّ القرآن كله نزل في الأئمة وأتباعهم وقد أوردتُ في غير هذا الموضع نماذج من ذلك.
... ولا بأس بنموذج آخر هنا من أصح كتب الإمامية.
__________
(1) تفسير القرطبي/8/235/(108/166)
... روى الكليني بسنده عن أبي عبدالله في حديث طويل: (ما من آية نزلت تقود إلى الجنَّة ولا تذكر أهلها بخير (هكذا) إلاَّ وهي فينا وفي شيعتنا. وما من آية نزلت تذكر أهلها بشرّ ولا تسوق إلاَّ إلى النار (هكذا) إلاَّ وهي في عدونا..)(1). سبحان الله!!
... (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) [سورة المائدة (18)].
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 97) ذكرتم الآية التي أوردتُها في إجابتي إليكم وهي قوله تعالى: (محمد رسول الله والذي معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا).
... ثمَّ أوردتم قولي: (ذكر - عز وجل - أنَّه رباهم ورعاهم كما يرعى النبتة التي تخرج من الأرض حتى نضجت واكتملت وأنَّ ذلك سيكون سببًا لغيظ الكفار فمن كرههم أو غاضهم لحقه الوعيد).
... ثمَّ قلتم: (يلاحظ عليه: أنَّ ظاهر كلامكم أنَّه سبحانه وتعالى في هذه الآية يصف جميع الصحابة بأنَّه رباهم ورعاهم كما يرعى النبتة التي تخرج من الأرض ولكنَّه غير تام للوجوه الآتية:
أ) هل المراد من قوله سبحانه: "والذين معه" هو المعية الجسمانية أو أن المراد المعية الروحية فتنطبق على الذين كانوا معه في صلابة الإيمان والعقيدة والعمل والسيرة. وبما أنَّه لا قيمة للمعية في الجسم تختص الآية بالطائفة الثانية ولم يكن كل الصحابة على هذا الخط بدليل الأصناف العشرة التي قدمنا عناوينها وذكرنا موضع الآيات وأرقامها).
... هنا وقفات: ...
__________
(1) الكافي/8/36/(108/167)
... أولاً: الآية نص على أنَّ: "الذين معه" هذه أوصافهم ونحن نرى في جميع الأحاديث والمواقف أنَّ "الذين معه" أول من يدخل فيها هم: "أبوبكر وعمر وعثمان وعلي" فهم معه في كل المواقف والمشاهد: آمنوا به ونصروه وأحبوه وأحبهم وأثنى عليهم وكان يستشيرهم ويسمع كلامهم ولم يفارقوه سفرًا ولا حضرًا_إلاَّ نادرًا_ وظاهرهم الإيمان وشهد لهم الصحابة وأثنوا عليهم وكان بينهم من الود والحب ما ظهر على حياتهم من التعاون والتزاوج والتسمية بأسماء بعضهم إلى آخر ما هناك من علامات الأخوة الإيمانية.
... فهل هؤلاء تشملهم الآية أم لا؟! لأنَّّ هذا هو مفتاح الخلاف فالصحابة جيش عظيم مقدمته هؤلاء العظماء ونحن عندما نتحدث معكم في الصحابة فإنَّ أول ما يتبادر إلى أذهاننا هؤلاء ثمَّ من ورائهم بقية إخوانهم.
... ثانيًا: هل المراد.. (هو المعية الجسمانية أو أنَّ المراد هو المعية الروحية فتنطبق على الذين معه في صلابة الإيمان والعقيدة والسيرة؟؟!!)
... قلت: من هم هؤلاء الجماعة الذين أشاد بهم القرآن وأنَّهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ هل أبو بكر وعمر وعثمان منهم أم هم: "عليّ" فقط على منهجكم؟!!
... القرآن يذكر جماعة فهل هذه الجماعة تتقلص في حسكم وتفكيركم لتصبح رجلاً واحدًا؟! أم أنَّها جماعة؟! وهل هذه الجماعة من ذكرنا أم أنَّها: "أبو ذر وسلمان وعمَّار والمقداد"؟ على حسب الروايات الشيعية؟!
... ثالثًا: أكدتم أنَّ المراد بالآية المعية الروحية!
... قلت: الخطاب واضح الدلالة أنَّ المقصود هم الذين معه بأجسامهم وأرواحهم والذين عاشوا معه واشتهرت معيتهم له بالإيمان والنصرة والمحبة أولهم هم الخلفاء الأربعة الذين أصبحوا عظماء في الأمَّة وارتضت خلافتهم وإمامتهم، نصروا وجاهدوا وفتحوا الأرض ونشروا الإيمان والدين، ولا ينشر الإيمان منافق ولا كافر فهل تستطيع أن تنكر ذلك؟!(108/168)
... إنَّني على يقين أنَّ تعظيم هؤلاء وحبهم لا يجتمع ودعوى: "الوصية" المكذوبة لأنَّهما عقيدتان متضادتان.
... فإمَّا: "تعظيم لهؤلاء" وسلامة صدر واعتراف بالجميل ودعاء بالمغفرة.
... وإمَّا: "دعوى وصية" وكُره لهؤلاء واتهام يتسلسل حتَّى يصل إلى سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه ثمَّ إلى رب العالمين.
... رابعًا: قولكم: (ولم يكن كل الصحابة على هذا الخط بدليل الأصناف العشرة..).
... قلت: لا زال هذا الخيال العجيب يتملك مشاعرك وتفكيرك!!
... الأصناف العشرة في المنافقين وليست في المؤمنين وحديثنا عن الصحابة الذين لقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به وأمَّا المنافقون فقد لقوه ولكنَّهم لم يؤمنوا به! نعم ادعوا الإيمان وفرق بين كلمة: "آمن" و:"ادعى".
... وهل يخفى إيمان أبي بكر وعمر وعثمان..وإخوانهم العظماء؟! وهل يزعم مسلم أنَّهم منافقون؟!
... وهل يمدح الله - عز وجل - الذين معه مطلقًا وفي مقدمتهم هؤلاء فيخدع الناس ويغرر بهم بالثناء على من معه ونحن نرى هؤلاء معه في حله وترحاله وسفره وإقامته وحربه وسلمه وليس لدينا مجهر يكشف ما في القلوب حتَّى نستطيع أن نميز ما في داخلها ويكون هؤلاء منافقين فنخدع بمدحه لهم والثناء عليهم فنعظمهم ونثني عليهم بل قد عظمهم الصحابة قبلنا وأثنوا عليهم ودفنوا العظيمين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكان واحد فهل هناك أعظم من هذه الأدلة على أنَّهما داخلان في هذا الثناء؟!
... إنَّنا لو فقدنا الثقة في هذه العبارات لا نستطيع أن نصدق أي لفظ آخر في كتاب الله - عز وجل -.
... خامسًا: في الآية قوله تعالى: (ليغيظ بهم الكفار) جعل الله - عز وجل - هذه التقوية لعلة وهي: "إغاظة الكفار" فهل يغيظ الكفار أربعة أشخاص: "أبو ذر وسلمان وعمَّار والمقداد" أم: "عليّ" فقط أم جموع كثيرة أخافوا الكفر وأهله وكسروا الدول وفتحوا البلاد وهدوا العباد؟!(108/169)
... هل هؤلاء هم المقصودون أم غيرهم؟!
... تأمل بعين بصيرتك ثمَّ حدد من هم الذين أغاظ الله - عز وجل - بهم الكفار؟!
... هل هم الصحابة وأتباعهم من السنَّة أم الشيعة؟؟؟ ومتى أغاظ الله - عز وجل - بالشيعة الكفارَ؟!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 98) قلتم: (إنَّه سبحانه يذكر من سماتهم أنَّهم: "رحماء بينهم" فهل كان الصحابة عامة موصوفين بهذا الوصف؟ أو أنَّهم قاتل بعضهم بعضًا وكم من بدري قُتِل بيد الصحابة هذا هو مقتل الخليفة الثالث وحروب الناكثين والقاسطين والمارقين قتل فيها كثير من الصحابة بيد الصحابة).
... قلت هنا وقفات:
... أولاً: لو أراد شخص: "كافر" أن يطعن في الإسلام ووقف عند هذه الآية وكان قد قرأ المذهب الشيعي فما هو السؤال الذي يمكن أن يطرحه للتشكيك في القرآن أو الإسلام غير هذا السؤال؟!
... سيقول هذا الكافر: القرآن وصف رسولكم ومن معه بقوله: "رحماء بينهم" ونحن نرى أنَّ: (بعضهم قاتل بعضًا وكم من بدري قتل بيد الصحابة) ـ طبعًا هذه عبارتكم ـ فأين الرحمة؟!
... إمَّا أنَّ القرآن غير صادق.
... وإمَّا أنَّ الصحابة الذين وصفهم القرآن غير هؤلاء الذين قرأنا عنهم في كتب الشيعة؟!
... أرأيت كيف تفعل العقائد الضالة بدين الله - عز وجل -؟!
... ثانيًا: ثمَّ لو قال ناصبي: إنَّ القرآن وصف الصحابة بأنَّهم "رحماء بينهم" وقد رأينا هذه الرحمة في عهد الخلفاء الثلاثة أو الخليفتين الأولين ولم نرها في خلافة الرابع فقط رأينا علي بن أبي طالب وطلحة والزبير ومعاوية قد تقاتلوا واستباح بعضهم دماء بعض ولم نرَ الرحمة فيهم ممَّا يشككنا في دخول هؤلاء في المدح؟! وهذا يؤكد لنا أنَّ هؤلاء لم يشملهم معنى الآية!
... أليس معتقد الشيعة في اتهام الصحابة بأنَّه قتل بعضهم البعض الآخر وأنَّه لا ينطبق على جميعهم هذا الوصف؟ هذا هو السبب في مثل هذا السؤال؟! فما هو جوابكم؟!(108/170)
... ثالثًا: أمَّا نحن أهل السنَّة فلا يرد علينا هذان السؤالان لأنَّنا نخالف هذا الفهم الشيعي ونقول: إنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - كما أخبر - عز وجل - عنهم وأنَّهم رحماء بينهم رضي الله عنهم وأرضاهم وذلك يتضح بالتفصيل الآتي:
عاش الصحابة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة والمدينة قرابة عشرين سنة وهم إخوة متحابون لا نرى بينهم إلاَّ الخير والأخوة الإيمانية وكان ذلك سر انتصارهم على أعدائهم وحصول هذا الثناء الربَّاني الذي صدر من الحكيم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية.
ولا يعكر عليه وجود أشخاص ليسوا من المسلمين قد يشاركونهم في السكنى بالمدينة أو في بعض الغزوات لأنَّهم ليسوا من المؤمنين أصلاً، وليسوا المقصودين بالثناء.
ثمَّ توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفه أفضل البشر وأعظمهم بعد الأنبياء صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ بعثته ورفيقه في هجرته وضجيعه في حجرته - رضي الله عنه - ورفع درجته أبو بكر الصدِّيق فكان الصحابة معه على مثل ما كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نصر الدين والتعاون على البر والتقوى ولم ينتقص من سيرتهم شيء - رضي الله عنهم -.
ولا يعني ذلك أن لا يحدث بين شخصين أو أكثر خلاف أو خصومة لكن الحكم للغالبية.
ثمَّ خلف بعد ذلك الفاروق واستمرت الحياة والصحابة على نفس المسيرة - رضي الله عنهم - حتى استشهد - رضي الله عنه - عام خمسة وعشرين تقريبًا فوفى بذلك مع الصدِّيق خمسة عشر عامًا.
... فإذا أضفنا هذه الفترة إلى فترة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصبحت خمسًا وثلاثين سنة تقريبًا.
... ثمَّ حكم ذو النورين صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوج ابنتيه قرابة ثلاث عشرة سنة وقع آخرها فتنة انتهت باستشهاده - رضي الله عنه -.(108/171)
... فإذا أضفنا فترة خلافة عثمان - رضي الله عنه - إلى الفترة السابقة أصبحت ثمانيًا وأربعين سنة كان الصحابة - رضي الله عنهم - خلالها إخوة متحابين، نصر الله - عز وجل - بهم الدين وفتح الأرض، ولو لم يكونوا متحابين رحماء بينهم لما تمكنوا من غلبة أعدائهم.
... فأين هذه الفترة الذهبية التي تسطر بمداد من نور ألم يكونوا رحماء بينهم؟!
... إنَّ القرآن كلام الله أصدق الكلام وإنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا كما ذكر الله - عز وجل -.
في عام خمسة وثلاثين هجرية وقعت الفتنة ونتج عنها مقتل عثمان - رضي الله عنه - وليس ذلك من الصحابة بل كان بسبب رجل يهودي اسمه: "عبدالله بن سبأ" عمل على إثارة الفتنة كما رواه الطبري رحمه الله وغيره من المؤرخين.
فقد روى الطبري بسنده عن يزيد القعسي قال: (كان عبدالله بن سبأ يهوديًا من أهل صنعاء: أمه سوداء فأسلم زمان عثمان ثمَّ تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم.
... فبدأ بالحجاز ثمَّ البصرة ثمَّ الكوفة ثمَّ الشام فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتَّى أتى مصر فاعتمر فيهم.
... فقال لهم فيما يقول: لعجب ممن يزعم أنَّ عيسى يرجع ويكذِّب بأنَّ محمدًا يرجع وقد قال الله - عز وجل -: (إنَّ الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى قال: فقُبل ذلك عنه ووضع لهم: "الرجعة" فتكلموا فيها.
... ثمَّ قال لهم بعد ذلك إنَّه كان ألف نبي ولكل نبي: "وصي" وكان: "علي وصي محمد" ثمَّ قال: محمد خاتم الأنبياء وعليّ خاتم الأوصياء.
... ثمَّ قال بعد ذلك: من أَظلمُ ممن لم يُجز وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووثب على وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وتناول أمر الأمَّة!(108/172)
... ثمَّ قال لهم بعد ذلك: إنَّ عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانهضوا في هذا الأمر فحرِّكوه وابدؤوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر.
... فبثَّ دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم... واستمر على هذا المنهج.
... ثمَّ بلغ عثمان فأرسل رسله إلى الأمصار لاستطلاع الأمر ومنها مصر ورجع كل الرسل إلاَّ رسول مصر وهو: "عمَّار بن ياسر" لم يرجع(1) ـ إن صحت الرواية ـ.
... هذا هو أصل الفتنة وقد نتج عنها مقتل عثمان وظهور عقيدة الرجعة والوصية ولكنها في بدايتها.
ثمَّ تولى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الخلافة وامتنع معاوية عن البيعة ما لم يقتص من قتلة عثمان.
وقد خرجت عائشة والزبير وطلحة ومن معهم من الصحابة قاصدين العراق لمحاربة الذين قتلوا عثمان ثمَّ اتجه عليّ - رضي الله عنه - إلى العراق لما بلغه الخبر وكان يريد قبل ذلك الشام ولمَّا تلاقى الجيشان اتفقا على الصلح لكن المفسدين الذين كانوا في جيش عليّ أدركوا خطورة الصلح فاتفقوا على إعلان الحرب آخر الليل واتهام جيش عائشة وطلحة والزبير بأنَّهم هم الذين بدؤوا وأنَّهم قد خدعوا عليًا - رضي الله عنه -(2).
... هذا ملخص الفتنة.
... الذين أثاروا الفتنة على عثمان هم الذين أثاروها على عليّ وكانت النتيجة أن وقع القتال.
... فأين في هذه الأحداث تعمد القتل؟! أليس كلا الجيشين قد جُرَّ إلى الفتنة بدون رغبته؟
... هذه كتب التواريخ فهل عندكم روايات أصدق منها وأصح تقول بأنَّ الصحابة تعمدوا القتال؟ واستباحوا دماء بعضهم؟!
__________
(1) تاريخ الطبري/أحداث سنة(35هـ)
(2) تاريخ الطبري/أحداث سنة(36هـ) ص[458-506](108/173)
... رابعًا: هذا القتال قد شارك عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - فيه فهل يُقال إنَّه ليس ممن قال الله - عز وجل - فيهم: (رحماء بينهم) وأنَّه قد قتل الصحابة؟!
... ما يعتذر به لعليّ - رضي الله عنه - يعتذر به لإخوانه وإن كنا نعتقد أنَّه - رضي الله عنه - هو أحق من الآخرين لكنا لا نؤثِّم الآخرين ولا ندعي أنَّهم تعمدوا القتال لما ظهر منهم من حسن الصحبة وفضلها وما ورد فيهم من مدح وثناء وأنَّهم هم مع إخوانهم كانوا قاعدة الإسلام ورواته وأنصاره وما وقع من فتنة لعل الله - عز وجل - يعفو عنهم ويغفر لهم فإنَّنا لا نعتقد أنَّهم تعمدوا تلك الأحداث.
... خامسًا: أشرت إلى قتال: (الناكثين والقاسطين والمارقين) وكأنَّك تشير إلى حديث عن عليّ - رضي الله عنه - أنَّه قال: (عهد إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)(1).
... قلت: هذا الحديث كغيره من الأحاديث التي تستدل بها الشيعة التي لا تصح.
... فهذا الحديث رواه أبو يعلى بسند لا يصح فيه "الربيع بن سعيد" مجهول الحال.
... ورواه أبو يعلى(2) عن عمار بن ياسر وفيه: "الخليل بن مرة" قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان: (يروي عن جماعة من البصريين والمدنيين من المجاهيل). وقد طول ابن عدي في ترجمته وأورد له مناكير(3).
وأورده الهيثمي وقال: (رجاله رجال الصحيح غير الربيع بن سعيد وثقه ابن حبان)(4) وذكره الهيثمي من عدة طرق وكلها لا تخلو من علة وقول الهيثمي رحمه الله فيه قصور وابن حبان متساهل في التوثيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
99) قلتم: (ومن سماتهم أيضًا (سيماهم في وجوههم من أثر السجود)، فهل كان هذا الوصف متوفرًا في عامة الصحابة؟
__________
(1) رواه أبو يعلى/1/397/وعن عمار/3/194/
(2) مسند أبي يعلى3/194/
(3) تهذيب التهذيب
(4) مجمع الزوائد/5/338/(108/174)
د: نحن نفترض وجود هذه السمات في عامة الصحابة، ولكن ذيل الآية يشهد على أنَّ الثناء على قسم منهم بقوله سبحانه: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرًا عظيمًا).
قال لفظة: "من" في قوله: "منهم" للتبعيض وما يقال من أن: "من بيانية غير صحيح؛ لأنَّها لا تدخل على الضمير مطلقًا في كلامهم وإنَّما تدخل على الاسم الظاهر كما في قوله: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان).
وهنا وقفات:
أولاً: سؤالكم عن سمات السجود هل هي متوافرة: "في عامة الصحابة"؟
قلت: من هم الصحابة الذين توافرت فيهم عندكم؟!
هل توافرت في أبي بكر وعمر وعثمان والمشهورين معهم؟! أم لم تتوافر إلاَّ في: عليّ أو فيه وفي: الأربعة: أبي ذر وسلمان وعمار والمقداد؟!
ثناء رب العالمين ومدحه لأمَّة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعدون بالآلاف كم منهم توافرت فيه هذه الصفات؟
ثانيًا: قلتم: إنَّ: (لفظة: "من" للتبعيض...)
قلت: نعم هذا الوعد للتبعيض لكن الثناء السابق لم يُقيد بمن فهل يعني أنَّك تقر بعمومها أم أنَّك أخرجتها بتأويل آخر وهو: أنَّ المعية يراد بها المعية الروحية!!
فلابد من التأويل مرة بتقييد اللفظ المطلق وأخرى بصرف المعنى بدعوى التبعيض.
ثالثًا: الآية وعدت بعضهم بالمغفرة والأجر العظيم: فمن هم الذين تعتقد أنَّها تشملهم من الصحابة؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
100) قلتم: (والذين آووا ونصروا)، والمراد هم الأنصار الذين آووا، وهذا يختص بمن نصر وآوى وقد انقطع بترحيل بني النضير عن أراضي يثرب، في السنة الرابعة؛ فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قسَّم أراضيهم بين المهاجرين في تلك السنة، فاستغنوا بذلك عن إيواء الأنصار.(108/175)
(والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم)، والمراد هم الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بعد السابقين الأولين، فيشير هذا المقطع من الآية إلى ما ورد في الآية الأولى، أعني قوله: (والذين اتبعوهم بإحسان) وبما أنَّ الهجرة قد انقطعت بعد الفتح فالآية لا تثني على الطلقاء، ولا أبناء الطلقاء، ولا الأعراب، ولا الذين آمنوا بعد الفتح. فيتحد مفاده مع قوله سبحانه: (والذين اتبعوهم بإحسان).
فهذه الآيات الثلاث تثبت أنَّ الصحابة كالتابعين، فيهم عادل، وغير عادل، لا كلهم عدول، ولا كلهم فسقة.
قلتم: (أوليس هذا ثناء من الله - عز وجل - على المهاجرين والأنصار وتأكيد إيمانهم)، كيف يكون ثناء على كل المهاجرين والأنصار؛ بل ثناء على السابقين منهما، والذين اتبعوهم بإحسان، وعندئذٍ لو دل دليل على عدم التبعية أو شككنا في كونه تابعًا بإحسان، فالآية لا تكون دليلاً على العدالة في مورد الشك، فإذا كان قيد الموضوع (بالإحسان) مشكوكًا فيه، لا يحكم بالدخول؛ لأنَّ الحكم لا يثبت موضوعه، كما بيَّن في علم الأصول، نعم إن أحرزت التبعية بإحسان لعمته الآية.
قلت هنا وقفات:
أولاً: قلتم: (والمراد هم الأنصار الذين أووا...) هل هؤلاء الأنصار الذين وردت أسماؤهم في كتب الحديث وتراجم الرجال وهم يعدون بالمئات هل تُقر بأنَّهم: "مؤمنون حقًا" فلا فسق فيهم ولا نقص في إيمانهم وهم عدول تقبل شهادتهم ورواياتهم مع إخوانهم المهاجرين الأوائل، أم عندكم نظر في شهادة الله - عز وجل - فهي تحتاج إلى: "قيد" الإطلاق بأنَّهم: "الذين لم يغيروا" ثمّ نطبق عليهم أنَّهم قد: خانوا ولم ينصروا الإمام فكان ينبغي على الله - عز وجل - أن يقيد!!
استغفر الله.(108/176)
ثانيًا: عقبتم على الآية بقولكم: (والمراد هم الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بعد السابقين الأولين) فهل تعترفون بأنَّ أشخاصًا آمنوا وهاجروا وجاهدوا وثبتوا على إيمانهم وأنَّ وعد الله - عز وجل - متحقق لهم أم أنَّه يحتاج إلى تقييد هذا الإطلاق بأنَّهم الذين لم يغيروا ولم يبدلوا؟!
إنَّ جميع النصوص الشرعية التي وردت في مدح طوائف المؤمنين لا أظنها تسلم من قيد وتأويل في مذهبكم لأنَّ عقيدة الوصية لا تقبل أي ثناء على غير الأربعة...ولهذا فقد زعمتم هنا أنَّها لابد من تقييدها بآية أخرى وكأنَّ الله - عز وجل - لا يعلم حتَّى يذكِّره الشيعة ـ استغفر الله ـ.
ثالثًا: قلتم: (فالآية لا تثني على الطلقاء ولا أبناء الطلقاء ولا الأعراب ولا الذين آمنوا بعد الفتح)
قلت: والذين آمنوا قبل الفتح وليسوا من الطلقاء فهل تشملهم الآية وتعترفون بأنَّهم عدول؟!
إنَّ الخلاف معكم ليس في الطلقاء وأبناء الطلقاء وإنَّما في العظماء: أبي بكر وعمر وعثمان وبقية العشرة ومن كان معهم من الأخيار وأمَّا من بعدهم فالخطب فيهم أيسر من هؤلاء!
وعند التأمل لا يمكن أن يقبل ـ عند الشيعة ـ أي آية فيها ثناء ومدح فإنَّها كلها مصروفة مقيدة.
وإذا كانت شهادات القرآن لا تقبل في الحقيقة وإن تظاهر الشيعة بعبارات غامضة وألفاظ محتملة والسنَّة عندهم مردودة كذلك لا تفيد يقينًا ولو صحت إلاَّ إذا كانت تثبت الوصية ولو كانت مكذوبة فمن أين تعرف الحقيقة؟! فالله المستعان.
فقد أصبحت هذه العقيدة هي الأصل والقاعدة فما وافقها قبل وما خالفها رد أو أول ولو كان كلام الله - عز وجل -.
ــــــــــــــــــــــــــــــ(108/177)
101) قلتم: (الآية الثالثة: وقال تعالى: (إنَّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض...) إلى أن قال: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقًا لهم مغفرة ورزق كريم).
أقول: إنَّ مفاد الآية قريب ممَّا جاء في سورة الحشر التي قدمناها سابقًا، وهي تصف معشرًا من الصحابة وتثني عليهم، لا على جميعهم، وإليك مقاطع من الآية يوضح ما ذكرنا.
(إنَّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) فالمراد هم السابقون الأولون، لا مطلق من هاجر وجاهد، بشهادة ذكر الهجرة في الصنف الثالث كما سيوافيك، وهذه قرينة على أنَّ المراد هم السابقون في الهجرة، لا مطلق من هاجر.
قلت هنا وقفات:
أولاً: الله - عز وجل - وصف من هاجر وجاهد في سبيل الله - عز وجل -_فقيد الهجرة والجهاد بأن يكونا في سبيله_ بأنَّهم مؤمنون حقًا فمن هم يا ترى الذين تنطبق عليهم هذه الصفات عندكم؟!
ثمَّ ذكر الذين آووا نصروا بدون هذا القيد فهل يمكن لكم أن تقيدوه؟
وهل هناك أحد من المنافقين آوى مهاجرًا؟!
إنَّ الآية أطلقت ولم تقيد ممَّا يؤكد أنَّ جميع من آوى داخل تحت هذا الوصف والوعد.
إلاَّ إذا ذكَّرتم الله - عز وجل - بأمر نسيه وهو أنَّ هناك منافقين ربَّما أووا فلابد من القيد!! استغفر الله.
ثانيًا: قلتم: (إنَّ المراد هم السابقون في الهجرة لا مطلق من هاجر)
قلت: سبحان الله: أين هنا القيد: بالسابقين؟!
الله - عز وجل - أطلق: أنَّ من آمن وهاجر وجاهد في سبيل الله فهو مؤمن حقًا والله - عز وجل - أعلم بخلقه وهو صاحب الفضل يعد من يشاء ويتوعد من يشاء لا معقب لحكمه.
فأحيانًا سبحانه: "يقيد" لحكمة وأحيانًا: "يطلق" لحكمة فإذا قيد فلا إطلاق وإذا أطلق فلا قيد وهذا هو الأدب مع الله - عز وجل -.(108/178)
لا ينبغي أن نستحدث تصورًا نجعله مقياسًا لأحكام الله - عز وجل - فنفسر كل آياته تحت مظلته فإذا تطلب هذا المقياس أن نقيد قيدنا وإذا تطلب أن نطلق أطلقنا فنجعل القرآن تابعًا لمقاييسنا وعقائدنا (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
102) قلتم: (الآية الرابعة: قال تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى)).
7- قلتم: هذه الآية الكريمة تمدح الذين آمنوا قبل الفتح، وأنفقوا في سبيل الله، وقاتلوا لإعلاء كلمة الله - عز وجل -، وأنَّ من لحقهم بعد ذلك لا يدرك فضلهم، وهذه شهادة عظيمة من الله - عز وجل -.
يلاحظ عليه: أنَّ الآية تدل على عدم التسوية بين الفريقين، وهذا ممَّا لا ريب فيه، كما يدل على أنَّه سبحانه وعد الكل الحسنى، غير أنَّ وعده سبحانه بالحسنى مشروط بحسن خواتيم العمل، فإنَّه سبحانه وعد لكل من عمل صالحًا بالحسنى ولكن بشرط أن يكون باقيًا على ما كان عليه.
وقد دل الذكر الحكيم على أنَّ رجالاً مؤمنين انقلبوا على أعقابهم بعد فترة، يقول سبحانه: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين).
فالآية تخبر عن مصير من أوتي الآيات، ولكنَّه انسلخ منها، فمن وعده الله سبحانه الحسنى في الآية ليس بأفضل من هذا الرجل الذي بلغ في العلم والعمل بمكان نال آية من الله سبحانه وقد زلت أقدامه في آخر حياته.
وقد عقد البخاري في صحيحه بابًا باسم "العمل بالخواتيم"، فطالعوا ما ورد فيه من الرواية رزقنا الله سبحانه حسن العاقبة) [صحيح البخاري/7/212/].
قلت وهنا وقفات:
أولاً: الآية الكريمة خاطبت فئة معينة بذكر صفاتها ووعدت أصحابها بالحسنى: أي الجنَّة.
وهذا الخطاب لأقوام بأعيانهم وفي ذلك بشارة لهم بأنَّهم يعيشون على الإيمان ويموتون عليه.(108/179)
أمَّا إذا جاءت الآيات مطلقة ولم تخاطب قومًا بأعيانهم فذلك يكون بشرط الاستمرار على الصفة التي وعدوا بالثواب عليها.
فإذا قال الله - عز وجل -: يا أبا بكر وعدتك بالحسنى ثمَّ جاء الشيعي وقال: لا يارب: لابد أن يستمر على الإيمان!!
فكأنَّ الله - عز وجل - لا يعلم الغيب ولا يدري أنَّ هذا الشخص سيستمر على الاستقامة أم لا فحاله كحالنا فلابد من القيد!!
إنَّ هذه العقلية عقلية قد سجنت في سرداب مظلم لن تدرك حقائق الوجود إلاَّ إذا خرجت منه إلى فسيح الأرض لترى الوجود على حقيقته ومهما قُوِّمت أو جُلِّيت الحقائق فإنَّها لا تراها لبعدها عن نور الحقيقة والتي اكتشفها صادقون من أتباع هذا المذهب صدقوا الله فصدقهم. أمثال البرقعي وإخوانه كما بين في هذا المبحث.
الله - عز وجل - يخاطب قومًا بأعيانهم ويعدهم بالجنَّة، والشيعة الإمامية نصبوا أنفسهم مستدركين على الله - عز وجل - يقيدون كل إطلاق ويصححون كل خطاب.
فعندما يخاطب الله - عز وجل - فئة بعينها فلابد أن يتحقق الموعود لأنَّه صادر من العليم الخبير.
أمَّا إذا وعد الله - عز وجل - وعدًا مطلقًا فلا شك أنَّه مقيد بتحقق ذلك الوعد.
فمثلاً قوله تعالى: (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [سورة البقرة(38)].
قلنا إنَّ هذا الوعد مشروط بالاستمرار على هذه الصفة.
وقوله تعالى: (والذين آمنوا وعملو الصالحات أولئك أصحاب الجنَّة هم فيها خالدون) [سورة البقرة(82)].
قلنا إنَّ هذا وعد مشروط بهذه الصفة..وهكذا.
أمَّا إذا قال لقوم: أنتم وعدتكم الجنَّة فلا يليق بالمسلم أن يقول: لابد من قيد الإحسان فإنَّ هذا جرأة على الله - عز وجل -.
وعلى هذا فقولكم: (غير أنَّ وعده سبحانه بالحسنى مشروط بحسن خواتيم العمل) غير لائق بكم أن تستدركوا على الله - عز وجل - لأنَّه يخاطب أشخاصًا بأعيانهم لا يخاطب أشخاصًا بأوصافهم غير معروفين.(108/180)
ثانيًا: قولكم: (وقد دل الذكر الحكيم أنَّ رجالاً مؤمنين انقلبوا على أعقابهم..ثمَّ ذكرتم الآية).
إنَّ هذا القول من أفسد الأقوال وأبعدها عن معنى الآية التي نحن بصددها وذلك من عدة أوجه:
أنَّ الآية التي في الصحابة - رضي الله عنهم - قد وعدتهم بأعيانهم فإنَّ الصفة التي ذكرها - عز وجل - تتمثل في أشخاص بأعيانهم وعدوا بجنَّات النعيم.
أنَّ الذي انقلب على عقبيه لم يسبق له من الله - عز وجل - وعد بالجنَّة بشخصه وإلاَّ فلو وعده الله - عز وجل - بشخصه لتحقق وعد الله سبحانه.
لو اتبعنا قاعدتكم هذه في بقية الآيات فأخرجناها عن معناها واعتقدنا أن لا وعد ولا ثناء على أحد من الصحابة وأنَّهم جميعًا معرضون للردة رغم دلالة الآيات على نجاتهم وإيمانهم ومطابقة الأحاديث لمعنى الآيات بالثناء على أهل بدر وأهل بيعة الرضوان لو فعلنا ذلك لشككنا في جميع الصحابة ولأمكن للكفار والمنافقين أن يشككوا في إيمان جميع الصحابة.
وهذا من الأسباب التي جعلت مذهب التشيع بوابة مفتوحة لكل طاعن وزنديق وإن كنَّا لا نصف الشيعة بذلك لكن المذهب قابل لذلك.
ثالثًا: استدلالكم بما في البخاري من قوله: "العمل بالخواتيم" فيمن لم يشهد له القرآن والسنَّة وأمَّا ما شهد له القرآن والسنَّة أو أحدهما فليس داخلاً في ذلك الباب قطعًا.
ولو تأملتم المسألة بعيدًا عن تأثير المذهب لربَّما انكشفت لكم الحقيقة.
تضرعوا إلى الله وادعوه أن يهدينا وإيَّاكم لما اختُلف فيه من الحق فإن من صدق الله - عز وجل - صدقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ(108/181)
103) الآية الخامسة: (قال سبحانه: (للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون - والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ممَّا أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون - والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنَّك رؤوف رحيم).
فهذه الآيات الثلاث نظير ما تقدم من الآيات لا تثني على عامة الصحابة، بل على فريق منهم: أمَّا المهاجرون، فتثني على فقرائهم بشرط التمتع بالصفات التالية:
(الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم).
(يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا).
(وينصرون الله ورسوله).
فمن تمتع بهذه الصفات الثلاث من المهاجرين فقد أثنى القرآن عليه، وبما أنَّ من أبرز صفاتهم، كونهم مشردين من ديارهم وأموالهم، فيكون المقصود هم الذين هاجروا قبل وقعة "بدر".
وأمَّا الأنصار فإنَّما تثني على من تمتع بالصفات التالية:
(والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم) أي آمنوا بالله ورسوله، فخرج بذلك من اتهم بالنفاق وكان في الواقع منافقًا.
(يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ممَّا أوتوا)
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
وبما أنَّ من أبرز صفاتهم، هو إيواء المهاجرين ، وإيثارهم على الأنفس، فيكون المراد من آمنوا بالنبي وآووه وآووا المهاجرين، فينطبق على من آوى وآمن من قبل غزوة بدر؛ لانتفاء الإيواء بعدها.
قلت هنا وقفات:
أولاً: هل وجد من المهاجرين من تمتع بهذه الصفات أم لا؟
وإذا قلنا وجد فمن هم؟ وهل أبو بكر وعمر وعثمان وبقية عظماء الصحابة كسعد بن أبي وقَّاص والزبير وطلحة منهم أم لا؟(108/182)
ثانيًا: إذا كانوا منهم فقد تحقق فيهم قوله تعالى: (أولئك هم الصادقون) وهو وصف ثناء ومدح ثابت لهم إلى أن يلقوا الله - عز وجل - لأنَّ الله سبحانه لا يثني على من يعلم أنَّه يغير إلاَّ إذا اعتقدتم أنَّه لا يعلم الغيب فرأيتم أنَّه لابد من قيد: "بشرط أن لا يغيروا" فاستدركتم على الله - عز وجل - ـ استغفر الله ـ.
ثالثًا: قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا لله وكونوا مع الصادقين) [سورة التوبة(119)] وهذا أمر من الله - عز وجل - للصحابة عمومًا ممن لم يكن منهم أن يكون معهم.
فإنَّه سبحانه قد أخبرهم أنَّ هؤلاء المهاجرين الأولين: "صادقون" فعرفوهم ثمَّ أمرهم أن يكونوا معهم ممَّا يؤكد أنَّهم سيعيشون على الحق والصدق.
وقد كان: "عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -" منهم وقد عاش معهم - رضي الله عنه - ولم يخرج عنهم.
رابعًا: الأنصار الذين آووا هل تحقق فيهم حكم الله - عز وجل - ووعده بأنَّهم: "مفلحون" وهل وجد من توافر فيهم هذه الصفات منهم أم لا؟
فإن قلتم: نعم؛ فمن هم؟ وهل يحتاج الحكم إلى قيد أم لا؟
خامسًا: هل يمكن معرفة الأنصار وتمييزهم عن المنافقين أم لا يمكن؟ أم يمكن تمييز بعضهم ؟وإذا قلنا يمكن تمييز بعضهم فمن هم الذين تستطيع ذكرهم منهم؟
سادسًا: بعد أن توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - هل بقي هؤلاء: "صادقين مفلحين" أم تغيروا بسبب: "الوصية"؟!
سابعًا: إذا سددت على نفسك باب الثقة فيهم هل تستطيع أن تعرف الدين؟! القرآن الذين كتبوه والسنَّة التي نقلوها.
ثامنًا: إذا فقدنا الثقة فيهم فهل الدين الذي نشروه وفتحوا به البلاد وهدوا به العباد هل هو دين حق أم دين باطل؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ(108/183)
104) قلتم: فالاستدلال بهذه الآية على أنَّ القرآن أثنى على الصحابة جميعهم من أولهم إلى آخرهم ـ الذين ربَّما جاوز عددهم المائة ألف ـ غفلة عن مفاد الآيات فأين الدعاء والثناء على لفيف من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم المتمتعين بخصوصيات معينة، من الثناء على الطلقاء والأعراب وأبناء الطلقاء والمتهمين بالنفاق؟!
قلت: هنا وقفات:
أولاً: سورة التوبة ذكرت قسمين: سابقين أولين من المهاجرين والأنصار، وتابعين لهم بإحسان.
وفي سورة الحشر ذكرت ثلاثة أقسام: مهاجرين وأنصارًا وأتباعًا.
وفي سورة الأنفال ذكرت ثلاثة أقسام: مهاجرين وأنصارًا ومهاجرين آخرين.
فآيات التوبة والحشر دلالاتها متقاربة.
وآيات الأنفال قررت أنَّ المهاجرين قسمان: فدل على أنَّ الهجرة قد كانت مرتين.
فإذا كان تعداد الأمَّة قد بلغ أكثر من مليار مسلم ويمثل الشيعة جزءً يسيرًا منهم.
هذا الجزء اليسير اختار تكفير جميع الصحابة أو تضليلهم ما عدا أربعة أشخاص لأنَّ هؤلاء جميعًا لم ينفذوا الوصية الموهومة فاستحقوا عند هذا الجزء اليسير الحكم عليهم بالضلال.
والأمَّة بكاملها اختارت تعظيم جميع الصحابة واعتقاد إيمانهم واستقامتهم ما لم يظهر منهم بالدليل القاطع ما يخالف ذلك وإن كانوا يرون أنَّ الصحابة ليسوا كلهم على درجة واحدة بل درجات متفاوتة. فمن هو الصادق منهم يا ترى؟!
ثانيًا: المفسرون يؤكدون أنَّ آيات سورة الحشر شملت الأمَّة بكاملها إذ لا يخلو المسلم من أن يكون: مهاجرًا أو أنصاريًا أو تابعًا لهم بإحسان وأهل السنَّة يعتقدون أنَّ الآيات تدل على هذه الأقسام الثلاثة وهذا لسلامة قلوبهم للأمَّة أولها وآخرها.
نعم قد يحصر بعض العلماء التابعين بإحسان في فترة زمنية لكن يبقى رأي الأكثرية وفهمها هو الراجح.(108/184)
ثالثًا: خلاف أهل السنَّة مع الشيعة ليس في الطلقاء والأعراب والمتهمين بالنفاق وإنَّما في جميع الأصناف الثلاثة فأين في كتب الشيعة تزكية لأحد هذه الأصناف بأعيانهم فيسمَّى: أبو بكر بعينه وعمر بعينه وعثمان بعينه وإخوانهم الآخرون؟
إنَّ هذا: "الخلاف" الذي أشرت إليه وإن كان يمثل جزءً من الخلاف لكن هذا خلاف يسير بالنسبة للخلاف العظيم الذي جعل أهل التشيع فرقة تضاد الأمة بكاملها.
رابعًا: الطلقاء وأبناء الطلقاء والأعراب إذا حسن إيمانهم واستقامت أخلاقهم فلا يمنع القول بعدالتهم وتأخر إسلامهم لا يحرمهم الفضل إذا أخلصوا النية وأحسنوا العمل.
خامسًا: المتهمون بالنفاق ليسوا من الصحابة ولا يطلق أهل السنَّة عليهم هذا الوصف ولا يخفى المنافق من المؤمن إلاَّ عند جاهل أو سيء النية فأين في دواوين الأمَّة المسلمة وصف منافق واحد بأنَّه مؤمن؟
إنَّ هذه الدعوى: أنَّ الآيات تعدل متهمين بالنفاق من أقبح الدعاوى.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
105) قلتم: (فلنرجع إلى كلامكم ثمَّ أوردتم قولي وهو: (أرأيت هذا التقسيم العجيب لطوائف المؤمنين:
مهاجرون
أنصار
متبعون، يحبونهم ويدعون لهم، ولا يكرهونهم.
أين مكان الإمامية هنا؟؟ وأين مكان أهل السنَّة هنا؟)
ثمَّ قلتم: قولكم: "مهاجرون" والصحيح: "المهاجرون الأولون السابقون" لأنَّه سبحانه يصفهم بقوله: (الذين أُخرجوا من ديارهم) فأين مطلق المهاجرين من هذه الآية؟
قولكم: "أنصار" والصحيح: "السابقون الأولون من الأنصار" لأنَّه سبحانه يصفهم بقوله: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم) وليس كل أنصاري آوى المهاجرين، بل انقطع الإيواء بعد إجلاء بني النضير، كما مرَّ، فمن آمن من الأنصار من بعده، فهو خارج من مدلول الآية.
قولكم: "متبعون يحبونهم يدعون لهم ولا يكرهونهم"، والصحيح:"والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا...").
هنا وقفات:(108/185)
أولاً: عندما أشرتُ إلى تقسيم الآيات للأمَّة إلى ثلاثة أقسام: مهاجرين وأنصار وأتباع، صححتم هذا التقسيم بتقييد الأوصاف، (المهاجرون السابقون الأولون) و: (السابقون الأولون من الأنصار).
قلت: لا بأس بتصحيحكم فهل يمكن أن تذكر لنا هؤلاء المهاجرين السابقين والأنصار السابقين من هم؟!
في الحقيقة لا يمكن لشيعي أبدًا أن يعرف الفضل لهؤلاء السابقين إلاَّ على سبيل التقية لأنَّ عقيدة الشيعة لا تفسح مجالاً في قلوب أهلها لمعرفة فضل عظماء الأمَّة فلو اعترفوا بفضلهم لاختلت عقيدتهم.
إنَّ: "عقيدة الشيعة" ـ أعني الإمامية ومن نحا نحوهم تضاد: "عقيدة السنَّة" ويستحيل أن يجتمعا.
فالخلاف أساسي وليس فرعيًا كما يحاول بعض الشيعة أو بعض الكُتَّاب الذين لا يعرفون الحقيقة أن يدَّعوه.
ثانيًا: أوردتم قولي: (متبعون يحبونهم ويدعون لهم ولا يكرهونهم) ثمَّ قلتم: والصحيح: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا...).
قلت: عجيب هذا التصحيح وهل يمكن أن يعتقد أخوتهم له ثمَّ يدعو لهم بالمغفرة وهو يكرههم؟ أليس هذا دليلاً على أنَّ قلوب الشيعة قد حرمت من حب عظماء الأمَّة الذين نصروا الدين ونقلوه وفتحوا الأرض لأنَّ "عقيدة الوصية" تلاحقهم عند كل موقف؟!
ألا نحب من نصر الدين وكان السبب في إسلامنا وإسلام أبائنا وحفظ الدين ونقله إلينا؟!
إذا لم نحب هؤلاء فمن يا ترى يستحق أن يُحب من أفراد الأمَّة؟!
أورد القرطبي عن ابن أبي يعلى أثرًا قال في آخره: (كن مهاجريًا فإن قلت: لا أجد فكن أنصاريًا فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله)(1).
وقال السمرقندي: (وفي الآية دليل: أنَّ من ترحم على الصحابة واستغفر لهم ولم يكن في قلبه غل لهم فله حظ في المسلمين وله أجر مثل أجر الصحابة، ومن شتم أو لم يترحم عليهم أو كان في قلبه غل لهم ليس له حظ في المسلمين)(2).
__________
(1) تفسير القرطبي/18/31/
(2) تفسير السمرقندي/3/422/(108/186)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
106) قلتم: كلمة قارصة: ثمَّ قلتم تعقيبًا على كلامي: (ثمَّ إنَّكم ذكرتم في ذيل كلامكم هاتين الجملتين:
أين مكان الإمامية هنا؟؟
وأين مكان أهل السنَّة هنا؟)
قد تعرفتم أنَّ الطائفتين غير داخلتين في هذه الآية، فالسؤال ساقط بعد الموضوع؛ فإنَّ المقابلة بين الطائفتين يعرب عن أنهما طائفتان متضادتان لا تشاركان في أصل أو أصول، وأنَّهما كمعسكري الشرق والغرب لكلّ "أيدلوجيّة" خاصة وليست الشيعة إلاَّ نفس المسلمين الأوّل الذين بقوا على وصيّة الرسول في حق أهل بيته، وليست السنَّة إلاَّ نفس المسلمين الأول، ولكنَّهم خالفوا وصيّة الرسول ولم ينفذوا وصيته في حق عليّ وأهل بيته، ولو أغمضنا عن ذلك فالطائفتان صنوان على أصل واحد.
قلت: هنا وقفات:
أولاً: دعوى أنَّ "الطائفتين غير داخلتين في الآية مردودة.
قال القرطبي: (قوله تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم) يعني من التابعين ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة)(1).
وقال ابن كثير: (فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لأثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة الداعون لهم في السر والعلانية) إلى أن قال: (وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة: أنَّ الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في الفيء نصيب)(2).
وقال الرازي: (واعلم أنَّ هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين..)(3).
... وقال الثعالبي: (قال جمهور العلماء: أراد من يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة)(4).
... وقال البغوي: (يعني التابعين: وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة) إلى أن قال: (فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنَّه ليس ممن عناه الله بهذه الآية)(5).
__________
(1) تفسير القرطبي/18/31/
(2) تفسير ابن كثير/8/98/
(3) تفسير الرازي/29/510/
(4) تفسير الثعالبي/سورة الحشر/
(5) تفسير البغوي/سورة الحشر/(108/187)
وقد ذكر بعض المفسرين أنَّ المراد بالذين جاءوا من بعدهم في عصر النبوة ولكن الجمهور على خلاف ذلك وهو الذي يظهر لنا صحته.
ثانيًا: قولكم: (فإنَّ المقابلة بين الطائفتين يعرب عن أنَّهما طائفتان متضادتان..)
... قلت: نعم يستحيل أن تلتقيا مع تصديق: "خرافة الوصية" التي تستأصل الدين من أساسه ولقد أحكم الذين وضعوا هذه الوصية هذه الخرافة بما بثوه من الأحاديث التي ندين الله - عز وجل - أنَّها لا تصح بالدليل.
... فأمَّا من كتبنا فجميع أسانيدها لا تصح.
... وأمَّا كتبكم فجميع رواة العقيدة والتاريخ التي أقمتم مذهبكم عليها مجاهيل كما اعترف السيد محمد الصدر.
... وأمَّا من تاريخ الصحابة فإنَّا نرى أنَّ الخلفاء الأربعة عاشوا إخوة متحابين.
... وأمَّا من معرفتنا بِعليّ - رضي الله عنه - فليس جبانًا ولا خائنًا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولربه بحيث يجبن عن إعلان الحق وقد جاءت مواقف تتطلب أن يعلن ممَّا يدل على أنَّه لا علم له بهذه الوصية.
... فعلى من أحدثها وفرق الأمَّة من الله ما يستحق.
... ثالثًا: قولكم: (وليست الشيعة إلاَّ نفس المسلمين الأول الذين بقوا على وصية الرسول في حق أهل بيته..) قول غير سليم.
... فلو كانت هناك وصية بمعنى: "الإمامة" فلماذا يا ترى يجمع قرابة عشرة آلاف صحابي على كتمها أو الامتناع عن تنفيذها وقد أعلنوا إسلامهم وتركوا أديانهم إلى دين الإسلام؟!
... ما هو المكسب الديني أو الدنيوي الذي حصلوا عليه مقابل ترك الوصية؟!
... أبو بكر عاش فقيرًا زاهدًا مجاهدًا لنصرة الدين واجتمع الصحابة حوله يطيعونه وينفذون أمره وهو ليس رسولاً ولا صاحب مال ولا صاحب عشيرة أكثر من عليّ فلماذا هو يترك تنفيذ الوصية ويبقى على نصرة الدين؟!
... ثمَّ لماذا يسكت عشرة آلاف صحابي عن الوصية؟ أكلهم أشرار؟ أكلهم جبناء؟ أليس فيهم رجل رشيد؟!(108/188)
... ثمَّ: "يوصي" أبو بكر إلى عمر وهو ليس رسولاً ثمَّ يطيع الناس أبا بكر وقد عصوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل ـ حسب زعمكم ـ ولا يستنكر مستنكر فيقول كفاك يا أبابكر اغتصابًا للإمامة فلا تغتصبها لغيرك؟!
... ثمَّ عمر: "يوصي" إلى ستة ولا يستنكر مستنكر وعمر قد طعن لم يعد يستطيع معاقبة أحد فَلمْ يعلن أحد هذه الوصية؟َ
... وعليّ يقبل أن يدخل في ضمن مرشحين للخلافة ولم يعترض؟!
... أهذه أمَّة مسلمة تؤتمن على دين الله - عز وجل - وهي تتوارث الباطل بالإجماع؟! معاذ الله.
... أليست هذه فاطمة رضي الله عنها طالبت بنصيب من الدنيا وأعلنت موقفها؟َ أيُظن بها أن تكون الدنيا عندها أعظم من دينها فتغضب لها ولا تغضب على اغتصاب الإمامة لو كان هناك إمامة؟
... ثمَّ هذا عليّ بقي مع الصحابة مؤتمًًا بهم، مستشارًا لهم، مُزوِّجًا منهم، متزوجًا من سبيهم، مسميًا أولاده بهم أيُظن به أن يفعل كل ذلك وهو يرى باطلاً قائمًا؟! متوارثًا؟!
... سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
... رابعًا: قولكم: (وليست السنَّة إلاَّ نفس المسلمين الأول ولكنَّهم خالفوا وصية الرسول ولم ينفذوا وصيته في حق عليّ وأهل بيته).
... قلت: إن كان مرادكم من الوصية هي: "الإمامة" فهي وصية عندنا مكذوبة ولا وجود لها في حقيقة الأمر.
... وإن كان مرادكم أنَّهم يكرهون آل البيت ولا يعرفون لهم فضلهم فهذه دعوى باطلة فأهل السنَّة يعظمون أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنَّهم آمنوا به وصحبوه وقد أثبتوا لهم درجة عالية بسبب صحبتهم له - صلى الله عليه وسلم - فكيف لا يقدرون أهل بيته؟! فأين وجدت أحدًا من أهل السنَّة يسيء إليهم؟!(108/189)
... إنَّ أهل السنَّة يتقربون إلى الله - عز وجل - بحبه وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحب الصالحين من آل بيته ويدعون لآل البيت في كل صلاة، وكل صلاة لا يدعى فيها لآل البيت ففي صحتها خلاف ولو وجد فرد أو أفراد يسيئون إليهم فهذه معصية يحمل وزرها من يرتكبها ولا تمثل الآلاف ومئات الآلاف من أهل السنَّة التي تمتلء كتبهم بذكر فضائل آل البيت والدعاء لهم والترضي عنهم في كل كتابٍ "عقيدة" لا تقية.
... أمَّا الأحداث التي وقعت في صدر الإسلام فهي فتن لم يتعمدها من شارك فيها من الصحابة ولو لم يكن الشيعة قد تحزَّبوا على عقيدة: "الإمامة" لما كان موقفهم من تلك الأحداث إلاَّ نفس موقف أهل السنَّة.
... وهناك حالات فردية لم يرضَ عنها جمهور الصحابة ولا أهل السنَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
107) قلتم: (إلى هنا تبين مفاد الآيات وأنَّ الإمامية لا تخالفها، قيد شعرة لا تبغض الصحابي، والصحابية؛ ولكن لا تعتقد بعدالة الكل وتقول إنَّ وزانهم كوزان التابعين).
قلت: إنَّ هذه دعوى لا يمكن قبولها ما دامت الشيعة تعتقد بخيانة الصحابة - رضي الله عنهم - وأنَّهم خالفوا وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كانوا يفدونه بأرواحهم وينصرونه بسيوفهم وأموالهم لا يعصونه في أمر ولا يقدمون عليه أهلاً ولا مالاً ثمَّ إذا بهم ينقلبون على أمره ـ حسب زعمكم ـ ويتنكرون لفضله وقد أنقذهم الله - عز وجل - به من الكفر وأخرجهم به من الضلال؟!
إنَّ هذا خيال غريب وتصور عجيب لا يقبله ذو حس سليم وقلب مستقيم ولا يمكن أن يجتمع في قلب مع اعتقاد عدالتهم.
ولو اعتقدتم عدالتهم لقبلتم رواياتهم.
ولو قبلتم رواياتهم لانتقضت عقائدكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
108) الاستدلال بالسنة(108/190)
قلتم: (عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبوا أصحابي، فلو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه). [صحيح البخاري/ح/3673/ومسلم/ح/2541]
أقول: إنَّ الحديث أوضح دليل على أنَّ بعض الصحابة يسبّ بعضهم، ولأجل ذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالدًا لسبِّه عبدالرحمن بن عوف، وكلاهما من الصحابة، وهذا أظهر دليل على عدم عدالة الكل بوصف الكلية.
وهذا هو سعد بن عبادة سيد الخزرج يخاطب سعد بن معاذ بقوله: كذبت لعمر الله، وهذا هو أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، يخاطب سعد بن عبادة بقوله: لعمر الله لنقتلنَّه فإنَّك منافق. [صحيح البخاري/تفسير سورة النور]
غير أنَّ المهم هو التفريق بين سبّ الصحابة ونقد حياتهم، فأسلوب السب والشتم غير أسلوب النقد، فالأول: وليد العصبية ونتاج الغيظ والحقد والهوى، وأمَّا الثاني: فهو قائم على أسس صحيحة وموازين سليمة، وهو قبلة الطالبين للحقيقة.
قلت: هنا وقفات:
أولاً: الصحابة - رضي الله عنهم - لم يتجردوا من بشريتهم ولم يصبحوا بدخولهم الإسلام ملائكة فإنَّ البشرية لا تنفك عن الأنبياء فما بالك بغيرهم.
فهذا موسى - عليه السلام - قال عنه - عز وجل -: (ولمًَّا بلغ أشده واستوى آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين - ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوِّه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنَّه عدوٌ مضلٌ مبين) [سورة القصص(14_15)]
والصحابة - رضي الله عنهم - قد يقع منهم الخطأ ثمَّ يصحح لهم من الله - عز وجل - أو من رسوله- صلى الله عليه وسلم -.(108/191)
وأمَّا دعوى أنَّ ذلك دليل عدم عدالة الكل فغير مسلم فكما أنَّ موسى - عليه السلام - لم ينقص من مكانته ما أخطأ به واعترف أنَّه من عمل الشيطان فكذلك الصحابي فإنَّه لم يقل أحد إنَّ الصحابي لا يقع منه الخطأ إذ ذلك يسمَّى: "عصمة" وأهل السنَّة لا يدَّعون العصمة فيهم - رضي الله عنهم -.
وهكذا كل عمل نُقل عن بعضهم وهو قليل في جانب حسناتهم وفضلهم.
ثانيًا: قولكم:(أنَّ المهم هو التفريق بين سب الصحابة ونقد حياتهم..) كلام نظري لا رصيد له من الواقع.
فإنَّ دعوى: "خيانة الوصية" والامتناع عن تنفيذها وتآمر جميع الصحابة ـ ما عدا أربعة أشخاص ـ على إخفائها أعظم من كل سب.
فإنَّك لو سببت شخصًا ما لكان فعلاً شخصيًا لا يترتب عليه كبير ضرر.
أمَّا إذا اتهمت إنسانًا بخيانة دين وعصيان رسول فإنَّ ذلك أشد أنواع السباب.
وهذه العبارات التي أوردتموها لا تغير الحقيقة.
فإنَّ موقف الشيعة من الصحابة يترتب عليه نقض الدين بكامله.
لأنَّه: "وليد العصبية ونتاج الغيظ والحقد والهوى" كما ذكرتموه عن أسباب السب والشتم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
109) قلتم: عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير الناس قرني ثمَّ الذين يلونهم ثمَّ الذين يلونهم...). [صحيح البخاري/ح/2653/ومسلم/ح/2533]
إنَّ هذا الحديث مهما صح سنده وإن رواه الإمام البخاري يخالف الواقع الملموس من تاريخ الصحابة والتابعين، ونحن نعرض النظر عن تاريخ الصحابة ونعطف النظر إلى قوله: (ثمَّ الذين يلونهم، فالمراد منهم التابعون، وفيهم الأمويون، فهل يمكن أن نعد عصر الأمويين خير القرون؟! وقد لونوا وجه الأرض بدماء الأبرياء، وقتلوا سبط النبي - صلى الله عليه وسلم - في كربلاء عطشانًا، وذبحوا أولاده وأصحابه، وهتكوا حرمة الكعبة.
هنا وقفات:(108/192)
أولاً: الحديث رواه ستة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم: عبدالله بن مسعود(1) والنعمان بن بشير(2) وعمران بن حصين(3) وعمرو بن شراحيل(4) وجعدة بن هبيرة(5) وعائشة(6).
فالحديث لم يتفرد بروايته صحابي واحد ولا محدث واحد.
ولو لم يروه إلاَّ صحابي واحد أو محدث واحد وصح السند لكان كافيًا في قبوله فكيف وقد رواه جماعة من الصحابة وخرجه أصحاب الصحاح؟!
ثانيًا: هذا الموقف واضح الدلالة على أنَّ المنهج الذي يحتكم إليه المخالفون لأهل الحق إنَّما هو الهوى لا المنهج العلمي الذي يقوم على أسس علمية وإنَّما هو أوهام عارضت حقائق فلتلغَ الحقائق متابعة للأوهام فبينما نراهم يستدلون بأحاديث ضعيفة لإثبات عقائد باطلة يردون أحاديث صحيحة لسوء فهمها أو لمخالفتها لمعتقداتهم.
ثالثًا: إنَّ المتأمل لمعنى الحديث بعيدًا عن الموروثات العقدية يتضح صدقه بل لو لم يرد الحديث لكان حال الأمَّة كما ورد فيه.
فالقرون الثلاثة ـ بصرف النظر عن مدة القرن ـ هي أساس هذا الخير الذي نعيش فيه.
فقد ظهر الإسلام غريبًا محاربًا فاتبعه طائفة من الناس ضحوا بأنفسهم وأموالهم وأرضهم فداءً لهذا الدين.
ثمَّ جاهدوا في سبيله ونصروا رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحملوا شريعته ونشروا دينه وانطلقوا مجاهدين ففتحوا الأرض.
هذا هو الجيل الأول جيل الصحابة والذي استمر إلى نهاية القرن الأول.
__________
(1) رواه البخاري/ح/2600/ومسلم/ح/6424/وأحمد/ح/4128/وابن ماجه/ح/2353/وابن حبان/ح/7108/-الإحسان-
(2) رواه أحمد/ح/18007/وابن حبان/ح/6613/
(3) رواه البخاري/ح/7/348/رواه أحمد/ح/19445/والترمذي/ح/2255/
(4) رواه ابن حبان/ح/28151/
(5) رواه ابن حميد/1/148/
(6) رواه مسلم/ح/2225/(108/193)
فظهر العلماء والعباد والقادة والشهداء والصالحون وجيوش الحق تفتح البلدان وتبلغ الدين وتعلم الشرع فكانت المساجد عامرة بالمؤمنين والحلقات العلمية التي يتدارس أهل العلم فيها العلوم الشرعية منتشرة وهذا حال الشعب المسلم.
نعم ظهرت فتن في الجانب السياسي عكرت صفو هذا الخير وأنقصت منه لكنَّها لم تقضِ عليه، فكل خير في الأمَّة بعد ذلك فإنَّما وصلنا عن هذه القرون فلهم مثل أجور من عمل بالخير الذي حفظوه ورووه ولهم مثل أجور من أدخلوه الإسلام.
هذه القرون الثلاثة هي أساس الأمَّة.
فكان القرن الأول أنفعها وأبركها ثمَّ تناقص الخير بعد ذلك.
الأمويون جزء من الأمَّة لا كل الأمَّة، والأمَّة أكبر وأوسع من المفهوم الذي ذكرتموه.
وأمَّا الأحداث التي وقعت فلا شك أنَّها شر لكن لا ينكر الخير العظيم الذي في الأمَّة بسبب بعض الشر.
قال السندي: (قلت لابد من تخصيص الكلام بالمؤمنين والمراد أنَّ مؤمني زمانه - صلى الله عليه وسلم - خير من الذين بعدهم، ثمَّ خيرية قرن الصحابة لا تقتضي خيرية كل واحد من الآحاد بل يكفي خيرية الغالب وإلاَّ لكان كل من كان في وقت التابعين خيرًا ممن بعده مع أنَّ في وقتهم الحجَّاج الظالم ولعلَّه لا يوجد له نظير في بابه)(1).
إذن ليس المراد أنَّ كل واحد من أهل كل قرن خير من كل واحد بعده وإنَّما المراد عموم أهل القرن ولا يعني انتفاء الشر كذلك.
رابعًا: منهج الشيعة منهج غريب:
فالأخطاء التي وقعت في عهد الصحابة والتي لا تساوي ذرة في بحر حسناتهم جرحتهم وألغت عدالتهم إلاَّ عددًا يسيرًا.
والأخطاء التي وقعت من بعض أمَّهات المؤمنين جرحتهن وأنقصت من فضلهن.
والأخطاء التي وقعت من طائفة من الأمَّة أفسدت كل خير في الأمَّة.
فمنظارهم لا يكتشف إلاَّ المعايب؛ فسبحان من نوَّع الخلق وفاضل بين عقولهم.
__________
(1) شرح سنن ابن ماجه/ح/2353/(108/194)
أرأيت النحل فإنَّه لا يقع إلاَّ على الزهر مع أنَّ هناك ما لا يليق، لكنَّه نظيف شريف فليتنا نكون: "نحلاً".
خامسًا: قد وقعت فتن قبل قتل سبط النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقُتِل من أصحاب الفضل قبل الحسين الكثير ولم يحكم بأنَّه شر القرون.
فقد قُتِل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عمه: "حمزة" ولم يكن عصره شر العصور.
وقد قُتِل: "عمر" ولم يكن شر العصور.
وقد قُتِل: "عثمان" ولم يكن شر العصور.
وقد قُتِل: "عليّ" ولم يكن شر العصور.
إنَّ قتل هؤلاء عظيم وحادث جلل لكن ما في الأمَّة من الخير أعظم من الأشخاص.
فالخير في الأمَّة كله يرجع إلى هذه العصور فكيف يتناسى الخير ويُضخم الشر؟!
وبهذا يتبين أنَّ فهمكم غير سليم وحكمكم غير مستقيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
110) قلتم: (وهذا هو الحجَّاج صنيعة أيديهم اقترف من الجرائم البشعة ما يندى لها جبين الإنسانية، ولا أطيل الكلام في ذلك والتاريخ خير شاهد على كذب هذه الرواية ووضعها من قبل سماسرة الحديث، لتطهير الجهاز الحاكم الأموي ممَّا ارتكبه.
ويكفي في ذلك ما علَّقه أبو المعالي الجويني على هذا الحديث قائلاً:
وممَّا يدل على بطلانه، أنَّ القرن الذي جاء من بعده بخمسين سنة شر قرون الدنيا، هو أحد القرون التي ذكرها في النص، وكان ذلك القرن هو القرن الذين قُتِل فيه الحسين، وأوقع بالمدينة، وحوصرت مكة، ونقضت الكعبة، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه المنصَّبون في منصب النبوة الخمور، وارتكبوا الفجور، كما جرى ليزيد بن معاوية، ويزيد بن عاتكة، ووليد بن يزيد، وأُريقت الدماء الحرام، وقُتِل المسلمون وسُبي الحريم، واستُعبِد أبناء المهاجرين والأنصار، ونُقشت على أيديهم كما ينقش أيدي الروم، وذلك في خلافة عبدالملك وإمرة الحجَّاج).
قلت هنا وقفات:
أولاً: زعمتم أنَّ التاريخ خير شاهد على كذب الرواية ولعلَّ الصحيح هو العكس كما مر.(108/195)
ثانيًا: اتهامكم لعلماء الأمَّة وثقاتها بأنَّهم يصنعون الأحاديث لتطهير الجهاز الحاكم دعوى مردودة عارية عن الدليل والمنهج العلمي يردها ولا يليق بمسلم أن يسلك هذا المسلك الخطير بإطلاق الاتهامات بدون دليل.
ولو فتح هذا الباب لرد كل شخص ما لا يتفق مع عقله أو معتقده بمجرد المخالفة ونحن نلتزم ونلزم في كل مسألة خلافية أن نخضعها للمنهج العلمي في كل باب بحسبه فباب الرواية نخضعها لدراسة رواتها قبل إطلاق الأحكام.
ورواة هذا الحديث ثقات أعلام والطرق متعددة فأنَّى يصح هذا الحكم الذي أطلقتموه في حديث توارد على روايته أصح الكتب بعد كتاب الله - عز وجل - من خلال رواة كلهم ثقات حفاظ لمجرد نظرة غير دقيقة.
فقد ورد هذا الحديث عن قرابة عشرة من الصحابة خرج البخاري ومسلم حديث اثنين منهم والأخرى وردت في المسانيد والسنن نكتفي بالإشارة إلى روايات الصحيحين:
الأولى: عن عبدالله بن مسعود مدارها على إبراهيم بن يزيد النخعي والذي أثنى عليه العلماء قال العجلي: (كان رجلاً صالحًا فقيهًا متوقيًا قليل التكلف ومات وهو مختف من الحجاج)(1) فالذي يعادي الحجاج وهو أحد ولاة بني أمية سيكذب لهم؟!
وشيخه الذي رواه عنه هو (عَبيدة السلماني) وهو من الرواة عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حتى قال ابن المديني والفلاس: (أصح الأسانيد: محمد بن سيرين عن عَبيدة عن علي)(2).
هذا الحديث رواه عن إبراهيم بن يزيد النخعي أربعة من الثقات من رجال الصحيحين: شيبان والأعمش ومنصور وابن عون(3) أهؤلاء يكذبون؟!
__________
(1) تهذيب الكمال/1/378/
(2) تهذيب التهذيب/4/112/
(3) رواها البخاري/ح/2600و6281و6282و6510/ومسلم/ح/6422و6424و6427/(108/196)
الثانية: عن عمران بن حصين رواها عنه شخصان: زَهدَمُ بن مضرِّب وهلال بن يساف ثم رواه عنهما: أبو جمرة والأعمش ثمَّ رواه عنهما شعبة بن الحجاج(1)..أهؤلاء يكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أعلام المحدثين؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!!
ثالثًا: إذا خَفي على الجويني فهْم مراد الحديث ولم يتَّسع نظره لفهْم الحقيقة فقد فهمها أعلام الأمَّة من محدثين وشراح بالعشرات إن لم يكونوا بالمئات ومخالفة شخص لجمهور العلماء يعتبر شذوذًا لا يغير الحقيقة.
وإلاَّ فلو رجح كل رأي شاذ لما بقي للأمَّة شيء من دينها.
والشيعة يتركون أقوال جهابذة علماء الأمَّة إلى الأقوال الشاذة بصرف النظر عن صحة المنهج الذي اتبعه ذلك المخالف أو ضعفه وهذا منهج ضعيف.
رابعًا: وأمَّا ما ورد في كلام الجويني من مزاعم كلها أخبار تاريخية لا تثبت عند التمحيص ولو ثبت بعضها فلا يلغي الخير العظيم الذي في الأمَّة لفساد شخص أو انحرافه.
خامسًا: حدوث بعض الشر لا يجوز أن يلغي الخير العظيم من الأمَّة كما مر: روايات للدين وفتوحات للبلدان وجهاد في سبيل الله وعُبَّاد وشهداء وصالحون هم أضعاف أضعاف أعداد الأشرار. أيُلغى هؤلاء لشر وقع من أفراد؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
111) قلتم: (وإذا تأملت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية شرًا كلها، لا خير فيها، ولا في رؤسائها وأمرائها، والناس برؤسائهم وأمرائهم أشبه، والقرن خمسون سنة، فكيف يصح هذا الخبر). [شرح ابن أبي الحديد/20/3-12/]
قلت:
أولاً: المتأمل لكتب التواريخ يرى تلك الأحداث ويرى بجانبها أعمالاً فاضلة خيرة:
علماء وعباد ومجاهدون في سبيل الله.
وفيه بقية الصحابة وبقية من آل البيت.
__________
(1) رواه البخاري/ح/6281/ومسلم/ح/6427/(108/197)
هذه الفترة لو كانت شرًا لا خير فيها فكيف وصل إلينا هذا الدين الذي حفظه أهل هذه الفترة فتعلموه وعلَّموه وحمله عنهم أهل القرن الذين بعدهم فكيف يُقال: لا خير فيه: إنَّ هذا حكم متعجل!
إنَّ الحركة العلمية والدينية غير الحركة السياسية فقد تفسد السياسة ويبقى الخير في الأمَّة، فلا ينبغي أن يحكم على الأمَّة بكاملها من خلال الطبقة السياسية.
بل وحتَّى الطبقة السياسية فيها شر وخير فقد استمر الجهاد في تلك العصور رغم ما حدث فيهم من فساد وينبغي أن يحكم بالقسط والعدل.
قال تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا)، وقال تعالى: (ولا يجرِمنَّكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا).
وقد تقدم مزيد بيان لهذا الجانب.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
112) إضافة بعض الآيات في فضل الصحابة للإيقاظ:
ويحسن أن نضيف بعض الآيات الدالة على عدالة الصحابة وخاصة عظماءهم وقادتهم معتمدين في ذلك على الفهم المباشر الذي يتبادر إلى ذهن كل عالم أو طالب علم خالي الذهن من كل ما يفسده.
قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمَّة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا..) [سورة البقرة(آية"143")].
قال الطبري: (وأمَّا الوسط في كلام العرب: الخيار...وقال زهير بن أبي سلمى في الوسط:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... ... ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم..)(1)
وقال الثعالبي: (وجعلناكم أمَّة وسطًا: أي عدولاً، روي ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتظاهرت به عبارات المفسرين والوسط الخيار والأعلى من الشيء...)(2).
وقال السمرقندي: (والوسط: هو العدل...والعرب تقول: فلان أوسط قومه أي: خيارهم وأعدلهم..)(3).
وقد أجمع المفسرون على هذا المعنى أنَّهم فسَّروا: "الوسط" بالخيار والعدل.
وقد استطرد الرازي في تقرير هذين المعنيين(4).
__________
(1) تفسير الطبري/2/5/
(2) تفسير الثعالبي/تفسير سورة البقرة/آية(143)/
(3) تفسير السمرقندي/1/99/
(4) التفسير الكبير/4/83/(108/198)
قلت: هذا الثناء من الله - عز وجل - بأنَّه جعل: "هذه الأمَّة أمَّة خيارًا عدولاً" والخطاب كان موجهًا لجيل الصحابة - رضي الله عنهم - هل يدخل فيه: "هذا الجيل المؤمن أم لا؟": وخاصة خيارهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وسعد بن أبي وقَّاص والزبير بن العوام..إلخ أفاضل الصحابة أم لا؟
فإن قلتم إنَّهم داخلون فيهم فقد وافقتم بقية الأمَّة وإن قلتم: لا. فما هو الدليل؟!
فإن قلتم: الدليل إنَّهم قد غيروا وبدلوا ومنعوا عليًّا حقه.
قلنا: ما هو الدليل أنَّ عليًّا له حق منعوه إيَّاه؟!
فإن قلتم: الإمامة.
قلنا: من روى هذا الحق؟
فإن قلتم: الصحابة أنفسهم!
قلنا: هم قد رووا أنَّه لم يُوصَ إليه بشيء.
فإن قلتم: عليّ - رضي الله عنه - روى ذلك الحق.
قلنا: وعليّ - رضي الله عنه - قد روى أنَّه لا حق له وأنَّه لا فرق بينه وبين إخوانه بقية الصحابة.
والروايات التي رويت في إبطال الوصية أصح سندًا من تلك الروايات التي تزعم إمامته.
ثمَّ إنَّ الحال الذي عاش عليه الصحابة لا يدل على وجود شيء من هذه المزاعم وقد تقدم ما يقرر ذلك في عدة مواطن_وسيأتي كذلك بمشيئة الله تعالى_.
ثمَّ كيف يثني - عز وجل - على هذه الأمة بأنَّها: "خيار عدول" ويكون أولها فاسقين ظلمة؟!
وهم الذين عايشوا التنزيل وعانوا في سبيل إيمانهم أنواع البلاء وقد استمرت حياتهم على الزهد في الدنيا والجهاد في سبيل الله وقد قتل آلاف منهم في أقطار الأرض بعيدين عن أرضهم وديارهم فأي دنيا كانوا يريدون بذلك الجهاد؟؟!!
أيُعقل أن لا يكون لهذه الكثرة التي هي بالآلاف نصيب في هذا المدح والثناء من الله - عز وجل -؟!
أليس هذا اتهامًا لله - عز وجل - بأنَّه أثنى بلفظ الكثرة الذي لا ينطبق إلاَّ على: أربعة أشخاص؟! فينخدع الناس بهم ويعظمونهم ويعدلونهم ويقبلون رواياتهم وهم على خلاف ذلك حسب زعمكم؟!(108/199)
قال تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) [سورة البقرة (آية"151")].
هذه الآية تقرر عدة أمور:
الأول: امتنان الله - عز وجل - على الأمَّة وفي مقدمة الأمَّة الجيل الأول الذي وجه إليه الخطاب: (رسولاً منكم..عليكم..يزكيكم ويعلمكم...).
ولا أظن أنَّ عاقلاً يزعم أنَّ: "المخاطبين" غير داخلين في هذا الامتنان.
ثانيًا: من أنواع الامتنان التي امتن الله - عز وجل - بها عليهم: أنَّ رسوله صلوات الله وسلامه عليه: "يزكيهم" أي يطهرهم فهل تحققت هذه النعمة فزكاهم أم لا؟!
قال ابن كثير: (ويزكيهم: أي يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية...)(1).
قد يقال: وهل زكى كل من معه حتى المنافقين؟
قلنا: الخطاب للمؤمنين الذين معه واشتهروا في الأمة وعرفوا بصحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم أول من يدخل في الخطاب.
قال تعالى: (كنتم خير أمَّة أُخرجت للناس...) [سورة آل عمران (آية"110")].
اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية:
... فمنهم من قال: إنَّهم: (الذين هاجروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة...)(2).
... ومنهم من قال: إنَّ ذلك جميع هذه الأمَّة(3).
... وهذان المعينان لا تكاد تخرج عنهما أقوال المفسرين.
... فالله - عز وجل - أثنى إمَّا على الصحابة المهاجرين، وإمَّا على كامل الأمَّة.
... والظاهر أنَّ الجيل الأول كان له النصيب الأوفر فهم أنصار الدين ورواته، وقد توافر لهم من أسباب الصلاح والتقوى ما لم يتوافر لغيرهم.
... والله - عز وجل - قد أطلق الثناء بضمير الخطاب فهل يُعقل أن يثني - عز وجل - على الأمَّة مخاطبًا أولها بقوله: "كنتم" ولا يشمل الخطاب إلاَّ: "أربعة أشخاص"؟! والبقية إمَّا كفار مرتدون، وإمَّا ظلمة فُسَّاق!!
__________
(1) التفسير/1/335/
(2) تفسير الطبري/11/29/
(3) تفسير الطبري/11/29/(108/200)
قال تعالى: (ولا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير) [سورة الحديد (آية"10")]
قال الرازي: (واعلم أنَّ الآية دلت على أنَّ من صدر عنه الإنفاق في سبيل الله والقتال مع أعداء الله قبل الفتح يكون أعظم حالاً ممن صدر عنه هذان الأمران بعد الفتح).
... إلى أن قال: (وكل واحد من الفريقين: (وعد الله الحسنى) أي المثوبة وهي الجنَّة مع تفاوت الدرجات)(1).
... قلت: فالآية نصت على فضل من قاتل من الصحابة - رضي الله عنهم - وأنفق من ماله لنصرة دينه قبل فتح مكة_أو حادثة الحديبية على قول_وعلى من فعل ذلك بعد ذلك مع وعد كل منهما بالحسنى وهي الجنَّة.
... هل هذا الوعد لجماعة كبيرة أم لأربعة أشخاص؟!
... وهل يدخل فيها أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - أم لا؟
... فإن قيل: نعم يدخلون فهذا مفهوم الآية.
... وإن قيل "لا": فما هو الدليل؟ ثمَّ لو قال شخص إنَّهم غير داخلين لا هم ولا عليّ - رضي الله عنهم - فما هو الجواب؟
... فإن قيل: الدليل من السنَّة أنَّ عليًّا منهم.
... قيل: وكذلك السنَّة تدل على أنَّ هؤلاء منهم.
قال تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا) [سورة الفتح (آية"18")].
وردت هذه البيعة في أغلب كتب السنن والتفاسير.
وقد ورد عددهم في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله أنَّه قال: "كنَّا يوم الحديبية ألفًا وأربعمائة فبايعناه"(2).
... قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة)(3).
__________
(1) التفسير/29/220/
(2) صحيح مسلم/ص"1483"/
(3) تفسير ابن كثير/7/342/(108/201)
وهذا خبر من الله - عز وجل - بأنَّه رضي عن هؤلاء المؤمنين وذلك يقتضي تقرير إيمانهم ورضاه عنهم وإذا رضي الله - عز وجل - عن شخص أو قوم فإنَّه لا يسخط عليهم لأنَّ رضاه - عز وجل - دليل على استمرارهم على الإيمان.
... فهل هؤلاء الذين بايعوا كلهم مؤمنون؟ أم أكثرهم؟! أم أقلهم؟ وما هو الدليل؟
... وكيف سبحانه يخاطبهم بهذه الألفاظ التي تقرر رضاه عن الجميع ويكون المراد: أربعة أشخاص؟!
قال تعالى: (واعلموا أنَّ فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون - فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم) [سورة الحجرات (آية"7")].
يمتن الله - عز وجل - على الصحابة أنفسهم بأنَّه حبب إليهم: "الإيمان" و: "وزينه في قلوبهم" ..إلخ هذه النعم!
فهل تحقق ذلك لجيل الصحابة أم لا؟
فإن تحقق فهل يجوز أن يُتهموا في عدالتهم ودينهم ويُعتقد أنَّهم سيغيرون ويبدلون ويعصون رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؟!
أيمتن الله - عز وجل - بما لا حقيقة له؟!
أو يمتن بما يعلم أنَّهم سيتخلون عنه؟!
إنَّنا نشهد أنَّه - عز وجل - قد أنعم عليهم وقد تحققت نعمته وأنَّهم عاشوا عليها وماتوا عليها وأنَّهم أزكياء أبرار - رضي الله عنهم - وألحقنا بهم في دار كرامته.
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [سورة المائدة (آية"54")].
أولاً: في الآية جملة شرطية وجوابها يعني أنَّه إذا وُجد فعل الشرط وُجد جوابه لا محالة.(108/202)
وقد حدثت ردة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - من كثير من العرب ثمَّ إن الله - عز وجل - أقام أبا بكر - رضي الله عنه - لهذه الردة ومعه إخوانه من عظماء الصحابة فقاتلوا المرتدين حتَّى أعادوهم إلى الدين.
فإن قال الشيعة: إنَّ الردة قد وقعت وهي هذه وأقروا بالحقيقة فقد اعترفوا بفضل الصدِّيق - رضي الله عنه -.
وإن أنكروا فلا يستحقون المناظرة لأنَّ إنكار البديهيات يسقط أهلية المخالف للحوار.
وإن قالوا: إنَّ أبا بكر وإخوانه ارتدوا.
قلنا: قد وعد الله - عز وجل - وشرط أنَّه إن وقعت ردة فإنَّه لابد أن يأتي بمن يجاهد أهلها فأين من قاتل الصدِّيق؟!
ثانيًا: إنَّ المتأمل في سيرة الصدِّيق - رضي الله عنه - وأخلاقه يرى هذه الصفات متوافرة فيه - رضي الله عنه -.
فقد كان سهلاً لينًا على إخوانه المؤمنين، مهابًا تخافه الدول، وقد سيَّر الجيوش تجاهد في سبيل الله ولم يتوانَ عن حرب الردة رغم قلة المسلمين آنذاك.
ثالثًا: إنَّ هذه الأوصاف إنَّما تحققت في جيش الصدِّيق وجيش عمر وجيش عثمان - رضي الله عنهم -، وقد كان علي - رضي الله عنه - معهم وبعض من قاتل معه بعد ذلك.
وقد كانت هذه الأخلاق متوافرة في عهود الثلاثة - رضي الله عنهم - ثمَّ توقف بعضها في خلافة عليّ - رضي الله عنه - إن لم تتوقف بكاملها.
وذلك أنَّ الآية قيدت مجيء هؤلاء الأقوام بالردة ولم يحدث في عهده - رضي الله عنه - ردة وإنَّما وقعت فتنة بدون اختياره - رضي الله عنه -.
فالشاهد أنَّ هذا الوعد تحقق وتمت نعمة الله - عز وجل - على الصدِّيق وإخوانه ممَّا يؤكد فضلهم وإيمانهم وعدالتهم.
رابعًا: كثير من الشيعة الإمامية يزعمون أنَّ الصحابة ارتدوا، ثمَّ زعموا أنَّ عليًّا ترك قتالهم تقية وحرصًا على وحدة المسلمين؟!!!! فلِمَ قاتل الصدِّيق المرتدين ولم يقاتل عليّ؟! لأنَّه لا ردة.
الحمد لله على العافية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ(108/203)
قال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بين شيئًا) [سورة النور (آية"55")].
أولاً: وعد الله - عز وجل - من آمن من الصحابة وعمل الصالحات أن يستخلفهم ويمكن لهم .. إلخ الموعود.
وقد قيد تحقق تلك الوعود بالإيمان والعمل الصالح فهل تحقق ذلك الموعود؟
وذلك يعني: أنَّه إذا وُجِد الإيمان والعمل الصالح وُجِدت تلك الوعود، وإن وُجِدت تلك الوعود يعني: تحقق الإيمان والعمل الصالح.
... ثانيًا: هل تحقق هذا الوعد؟
... لا شك أنَّه قد استخلف الله - عز وجل - الصحابة ومكَّن لهم الدين وعاشوا في حياة الخلفاء الراشدين آمنين وفتح بهم الأرض.
... وهذا دليل تحقق الإيمان والعمل الصالح لأنَّ المخاطبين بهذا الوعد إن كان للأمَّة فالصحابة إليهم وجِّه الخطاب أولاً وإن كان لهم خاصة كما هو ظاهر النص فهم الموعودون.
... ثالثًا: تحقق الموعود على أيديهم شهادة لهم بالإيمان - رضي الله عنهم -، وإيمانهم لا شك فيه عند الأمَّة إلاَّ من ضل وابتدع وما كان لنا أن ندافع عن إيمانهم لولا ما ابتُليت به الأمَّة من مرضى القلوب وفاسدي العقائد والله المستعان.
... رابعًا: هذه الآية من دلائل الإعجاز في أخبار القرآن الكريم حيث أخبر - عز وجل - بتمكين هذه الأمَّة فتحقق كما أخبر وهذا من أخبار الغيب.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 113) قلتم: (إنَّ عليًّا - رضي الله عنه - هو وصي النبي - صلى الله عليه وسلم - والقائم مقامه من بعده وأنَّه يدل على ذلك الأخبار النبوية الصحيحة والآثار الثابتة عن الصحابة) ثمَّ أوردتم أحاديث من كتب السنَّة.
... وهنا وقفات:(108/204)
... أولاً: كيف تستدل بروايات الصحابة الضالين الفساق الذين إمَّا أنَّهم ارتدوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو فسقوا وأنتم لا تستدلون بروايات الفساق ولا الكفار؟!
... ثانيًا: كيف نحصل على روايات صحيحة من كتبكم وقد عرفتم أنَّها عن مجاهيل وضعفاء.
... ثالثًا: رويتم من كتب لا يُعتَمد عليها عند أهل السنَّة لكثرة ما فيها من الضعيف والموضوع وزعمتم بأنَّها "أخبار نبوية صحيحة".
... فقد رويتم من معجم الطبراني وتاريخ ابن عساكر وفضائل الصحابة وهذه الكتب يأتي بعضها في المرتبة: "الثالثة" وبعضها في المرتبة: "الرابعة" وترك الكتب المعتمدة التي تأتي في الدرجة الأولى أو الثانية إلى كتب الدرجة الثالثة أو الرابعة ممَّا عابه العلماء.
... ذكر المحدث ولي الله الدهلوي أنَّ: (كتب الحديث على طبقات مختلفة ومنازل متباينة فوجب الاعتناء بمعرفة طبقات كتب الحديث).
... ثمَّ قال: (وهي باعتبار الصحة والشهرة على أربع طبقات..).
... إلى أن قال: (الطبقة الأولى: منحصرة في ثلاثة كتب: الموطأ، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم..).
... الطبقة الثانية: ..(سنن أبي داود، وجامع الترمذي، ومجتبى النسائي.. وكاد مسند أحمد أن يكون من جملة هذه الطبقة..) أي لم يلحقها.
... الطبقة الثالثة: مسانيد وجوامع ومصنفات صنفت ـ قبل البخاري ومسلم وفي زمانهما وبعدهما ـ جمعت بين الصحيح والحسن والضعيف والمعروف والشاذ والمنكر والخطأ والصواب والثابت والمقلوب..).
... والطبقة الرابعة: (..وكتب الخطيب وأبي نعيم.. وابن عساكر).
... والطبقة الخامسة: ......).(108/205)
... ثمَّ قال ولي الله الدهلوي بعد أن ذكر طبقات كتب السنَّة: (وأمَّا الثالثة: فلا يباشرها للعمل عليها والقول بها إلاَّ النحارير..إلى أن قال: (نعم ربمَّا يؤخذ منها المتابعات والشواهد) أي لا يعتمد عليها في الاستدلال ثمَّ قال: (وأمَّا الرابعة: فالاشتغال بجمعها أو الاستنباط منها نوع تعمق من المتأخرين وإن شئت الحق فطوائف المبتدعين من الرافضة والمعتزلة وغيرهم يتمكنون بأدنى عناية أن يلخصوا منها شواهد مذاهبهم فالانتصار بها غير صحيح في معارك العلماء بالحديث)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 114) أوردتم هنا خمسة أحاديث في الوصية نذكرها تباعًا مع الكلام عليها:
... الحديث الأول: حديث: سلمان،قلتم: (روى الطبراني بإسناده عن سلمان قال: قلت: يا رسول الله: إنَّ لكل نبي وصيًا فمن وصيك ـ إلى أن قال ـ فإنَّ وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني: علي بن أبي طالب(2))(3).
... وهنا وقفات:
... أولاً: أنَّ الطبراني قال بعد إيراده للحديث: (وقال وصيي أنَّه أوصاه بأهله لا بالخلافة وقوله: خير من أترك بعدي: من أهل بيته - صلى الله عليه وسلم -) أي لم يرد الخيرية المطلقة.
... ثانيًا: ذكر قول الطبراني كذلك الهيثمي- وأنت لم تذكرها لا من رواية الطبراني ولا من تعقيب الهيثمي-.
... ثالثًا: قال الهيثمي: (وفي إسناده: ناصح بن عبدالله: متروك) ولم تذكره وأنت تعرف معنى: "متروك" ثمَّ قلت: (تدل عليه الأخبار النبوية الصحيحة)؟؟!!
... رابعًا: أقوال العلماء في راوي الحديث: (ناصح بن عبدالله)
__________
(1) الحجة البالغة/1/133-135/
(2) تنبيه: قد كنت جعلت إحالتكم في المتن ثم تحولت من هنا إلى نهاية البحث في الحاشية
(3) المعجم الكبير/6/221/مجمع الزوائد/9/113/فتح الباري/8/114/(108/206)
... قال البخاري: (منكر الحديث)، وقال الفلاس: (متروك)، وقال ابن معين: (ليس بشيء)(1) فكيف تقول: صحيح وهذا حال أحد رواته؟!
... خامسًا: قال الذهبي في الحديث: (هذا خبر منكر)(2).
... إذن الحديث باطل ولا يصح ولا يجوز لمسلم أن يحتج بمثله على شيء من دينه ودنياه.
... الحديث الثاني: عن أنس بن مالك. قلتم: (وروى أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (وصيي ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي: علي بن أبي طالب)(3).
... قلت هنا وقفات:
... أولاً: لم أجد هذا الحديث عند الإمام أحمد في "الفضائل" كما ذكرتم وإنَّما الذي فيه هو نفس الحديث السابق فإنَّ لفظه كلفظه فليسا حديثين كما أوردتم.
... روى الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك قال: قلت لسلمان: سل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وصيه فقال له سلمان: يا رسول الله من وصيك؟ قال: (يا سلمان من كان وصي موسى؟ قال: يوشع. قال: فإن وصيي ...إلخ).
... ولا يُعقَل أن يسأله عن وصيه فيخبره ثمَّ يعود مرة أخرى فيسأله لو صح الحديث.
... ثانيًا: الحديث من رواية: (مطر بن ميمون الإسكاف)، قال البخاري والنسائي وأبو حاتم والساجي: (منكر الحديث)(4).
... وقال ابن حبان: (كان ممَّن يروي الموضوعات عن الأثبات يروي عن أنس ما ليس من حديثه في فضل عليّ وغيره: لا تحل الرواية عنه)(5).
... ثالثًا: الحديث حكم عليه العلماء بالوضع فقد رواه ابن الجوزي في الموضوعات (374:1) وقال الذهبي بعد أن أورد حديثين لمطر المذكور هذا أحدهما: (كلاهما موضوعان)(6).
__________
(1) ميزان الاعتدال/4/240/
(2) المرجع السابق/240/
(3) فضائل الصحابة/2/615ح1052
(4) ميزان الاعتدال/4/127/
(5) المجروحين/3/5/
(6) ميزان الاعتدال/4/127/(108/207)
... رابعًا: بعد معرفة سند الحديث وقد وقفت أنت عليه في فضائل الصحابة المحقق أيحسن أن تقول: (أخبار نبوية صحيحة) وتستدل بها على "عقيدة" تؤدي إلى الطعن في الصحابة وتفرِّق الأمَّة؟!
... الحديث الثالث: قلتم: (روى ابن عساكر عن بُرَيدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لكل نبي وصي ووارث وإنَّ عليًّا وصيي ووارثي)(1).
... أولاً: هل كتب التواريخ صالحة لأن تكون مرجعًا لتأصيل العقائد؟!
... ثانيًا: أمَّا مؤلف كتاب "المناقب" فقد قال بعد إيراده هذا الحديث: (إن صح هذا الحديث فالتوريث محمول على ما رواه معاذ - رضي الله عنه - قال: قال عليّ: يا رسول الله: ما أرث منك؟ قال: (ما يرث النبيون بعضهم من بعض: كتاب الله وسنَّة نبيه))(2).
... ثمَّ أورد أحاديث أخرى تفسر الوصية ثمَّ قال: (ويعضد هذا التأويل بما ورد من الأحاديث الصحيحة في نفي التوريث والإيصاء وأنَّه لم يعهد إليهم عهدًا غير ما في كتاب الله وما في صحيفة فيها شيء من أسنان الإبل ومن العقل...)(3).
... وهذا الذي أشار إليه قد ثبت في كتب الصحاح أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - قال: ـ إمَّا ابتداءً وإمَّا جوابًا على سؤال قال فيه السائل: هل عندكم شيء من الوحي إلاَّ ما في كتاب الله؟ـ.
... فقال: (لا والله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلاَّ فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة).
... قلت: وما في هذه الصحيفة؟
... قال: (العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر).
__________
(1) تاريخ دمشق/42/392/المناقب للخوارزمي/42و85/
(2) لم أجد هذا الحديث في مصادر الحديث
(3) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى/131-132/(108/208)
... رواه عنه: أبو جحيفة(1) وإبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه عنه(2) وأبو الطفيل(3) وطارق بن شهاب(4) والحارث بن سويد(5) وأبو حسان(6).
... وألفاظها جميعًا تقرر المعنى الوارد في اللفظ المثبت.
... فهذا الحديث الثابت يكذب كل دعوى وردت في بعض الروايات الباطلة والعجب ممَّن ترك هذه الصحاح إلى روايات مظلمة إمَّا مكذوبة وإمَّا ضعيفة!!!
... ثالثًا: هذا الحديث الذي ذكرتموه أورده ابن الجوزي في الموضوعات.(7)
... الحديث الرابع: قلتم:(روى الطبراني عن الحسن بن علي عليه السلام قال:(خطب الحسن بن علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه وذكر أمير المؤمنين عليًّا - رضي الله عنه - خاتم الأوصياء ووصي خاتم الأنبياء)(8) رواه الهيثمي وتعقبه: ورواه أحمد باختصار كثير وإسناد أحمد وبعض طرق البزَّار والطبراني حسان (9) روى قريبًا منه أبو نُعيم عن أنس(10).
... وهنا وقفات:
... أولاً: هذا اللفظ تفرَّد به الطبراني في الأوسط ولم يروه غيره بلفظه وكل المصادر التي ذكرتموها أوردت الأثر بدون ذكر لفظ (خاتم الأوصياء ووصي خاتم الأنبياء) فالطرق إذن المذكورة لا تصلح لتقوية هذه الرواية.
... ثانيًا: لا تخلو الروايات الأخرى من علة، فرواية لأحمد(11) فيها شريك بن عبدالله، وشريك بن عبدالله قال ابنه: (كان عند أبي عشرة آلاف مسألة عن جابر الجعفي وعشرة آلاف غرائب).
__________
(1) رواه البخاري/ح/2980/ومسلم/ح/3281/ وأحمد/ح/616/والترمذي/ح/1411/والدارمي/ح/2358/
(2) رواه البخاري/ح/1849/ومسلم/ح/3749/وأحمد/ح/1040/والترمذي/ح/2147/وأبو داود/ح/2036/
(3) رواه مسلم/ح/5082/وأحمد/ح/1319/وابن حبان/ح/6490/
(4) رواه أحمد/ح/965/
(5) رواه أحمد/ح/1310/
(6) رواه أحمد/ح/962/
(7) الموضوعات/1/376/
(8) المعجم الأوسط/2/336/
(9) مجمع الزوائد/9/146/
(10) حلية الأولياء/1/63/،المناقب للخوارزمي/42/،تاريخ دمشق/42/386/
(11) المسند/1/119/(108/209)
... وقال ابن المبارك: (ليس حديث شريك بشيء) وللعلماء فيه كلام كثير(1) ورواية أخرى(2) فيها: (عمرو بن حبشي) مجهول الحال(3).
... ثالثًا: هذه الرواية في سندها: (سلام بن أبي عمرة) قال ابن معين: (ليس حديثه بشيء)، وقال ابن حبان: (لا يجوز الاحتجاج بخبره)(4)، وقال ابن الجوزي: (واهي الحديث)(5).
... رابعًا: فالحديث بعد هذا لا يصح ولا يجوز الاحتجاج بمثله في قضايا الدين.
... الحديث الخامس: قلتم: (وروى الطبراني عن علي بن علي الهلالي عن أبيه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة عليها السلام: (ووصيي خير الأوصياء وأحبهم إلى الله بعلك)(6).
... قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه: (الهيثم بن حبيب) قال أبو حاتم: (منكر الحديث) وهو متهم بهذا الحديث(7).
... وقال في حديث آخر فيه الهيثم: وأمَّا "الهيثم بن حبيب" فلم أرَ من تكلم فيه غير الذهبي اتهمه بخبر رواه وقد وثقه ابن حبان(8).
... فيقع التعارض بين جرح أبي حاتم ـ وتبعه الذهبي ـ وتوثيق ابن حبان لأنَّ الذهبي قال في أبي حاتم: وإذا لين رجلاً أو قال فيه: لا يُحتج به، فتوقف حتى ترى من قال غيره فيه فإن وثقه فلا تبنِ على تجريح أبي حاتم فإنَّه متعنت في الرجال)(9).
... وهنا وقفات عدة:
... أولاً: "علي بن علي" المذكور في الحديث لا يوجد في كتب التراجم.
... ثانيًا: شيخ الطبراني: "محمد بن زريق بن جامع" لا يوجد كذلك في كتب التراجم.
__________
(1) ميزان الاعتدال/2/270/
(2) المسند/1/119/
(3) ثقات ابن حبان/5/173/
(4) ميزان الاعتدال/2/180/
(5) إكمال تهذيب الكمال/6/180/
(6) المعجم الأوسط/6/327/،المعجم الكبير/3/57/،تاريخ دمشق/42/130/
(7) مجمع الزوائد/9/166/
(8) مجمع الزوائد/3/190/
(9) سير أعلام النبلاء/13/260/،وكذا قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري/441/(108/210)
... ثالثًا: "علي بن هلال" لم تثبت صُحبته، فإنَّه لم يصح ما يبين أنَّه صحابي إلاَّ هذا الحديث وهذا الحديث كما سيأتي: "لا يصح".
... رابعًا: الحديث رواه الطبراني بسنده عن: "الهيثم بن حبيب" ثنا سفيان بن عيينة عن علي بن علي الهلالي..إلخ
... هذا الراوي عن ابن عيينة قال فيه الذهبي: (الهيثم بن حبيب عن سفيان بن عيينة بخبر باطل في المهدي هو المتهم به).
ثمَّ قال الذهبي:(أمَّا الهيثم بن حبيب عن عكرمة والحكم بن عتبة وعنه شعبة وأبو عوانة وجماعة فوثقه أبو حاتم)(1).
... وأكَّد ابن حجر قول الذهبي وتفريقه بين الرجلين بذِكر شيوخيهما.
... خامسًا: قال الهيثمي بعد إيراده حديث ابن عباس "من صام يوم عرفة كان له كفارة سنتين ...إلخ" رواه الطبراني في الصغير وفيه: (الهيثم بن حبيب عن سلام الطويل وسلام ضعيف وأمَّا: "الهيثم بن حبيب" فلم أرَ من تكلم فيه غير الذهبي اتهمه بخبر رواه وقد وثقه ابن حبان).
... قلت: هذا وهم من الهيثمي رحمه الله فإنَّ: "الهيثم" هذا في هذا الحديث هو متأخر عن الهيثم السابق.
... فالهيثم السابق يروي عن سفيان بن عيينة عن علي بن علي الهلالي عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ ثلاثة أشخاص فهو متقدم على: "الهيثم بن حبيب" الذي روى حديث الصيام وكلام الذهبي على الأول وليس على الثاني.
... ولهذا فإنَّه عندما ترجم لهما فرَّق بينهما كما تقدم.
... وابن حبان لم يذكر الهيثم السابق في كتابه وإنَّما ذكر الهيثم الثاني(2).
... سادسًا: الهيثم بن حبيب الذي ذكره ابن حبان في كتابه لم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً وهذا يُسمَّى عند العلماء: "مجهول الحال" وابن حبان يذكر في كتابه كل من لم يجرحه أحد ولكنَّه إذا سكت عليه فلا يعني أنَّه ثقة ولكنَّه غير الشخص الذي في حديثنا المذكور.
__________
(1) ميزان الاعتدال/4/320/
(2) الثقات/4/368/(108/211)
... فأمَّا منهج ابن حبان فإنَّه لا يعني إيراده لراوٍ في كتابه: "الثقات" أنَّه: "ثقة" ما لم يوثقه بلفظه فإنَّه رحمه الله قد يورد الراوي في كتابه الثقات ويسكت عليه ولا يكون ثقة عنده وفيما يلي نورد نماذج من ذلك:
إسحاق بن أبي يحيى الكعبي: سكت عليه في الثقات وقال في المجروحين: لا يحل الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلاَّ على سبيل الاعتبار.
إسماعيل بن محمد بن جحادة اليمامي: سكت عليه في الثقات وقال في المجروحين: خرج عن حد الاحتجاج به إذا انفرد.
وهكذا جماعة من الرواة ولهذا فلا يصح الاعتماد على سكوته بل حتَّى إذا انفرد بالتوثيق فلا بد من البحث والتنقيب لتساهله رحمه الله في التوثيق.
... سابعًا: قولكم: (فيقع التعارض... إلخ) تبين لكم أنَّه لا تعارض هنا، وأنَّ الهيثمي رحمه الله وهِمَ حيث ظن أنَّ "الهيثم بن حبيب" اسم لشخص واحد مع أنَّ الذهبي وتبِعه ابن حجر قد ذكرا أنَّهما شخصان، وأمَّا ابن حبان فلم يذكر في كتابه إلاَّ: "الهيثم بن حبيب" الثقة ويُفرَّق بينهما بشيوخيهما.
... وبهذا يتبين أنَّه ليس هناك تعارض لأنَّ الشخص الموثق غير الشخص المجرح.
... وأخيرًا: أرأيتم هذه الأحاديث التي لا تصح ولا نستجيز لمسلم أن يستدل بها في أمور الدين لو أنَّا أردنا أن نستدل بمثلها من الروايات التي توجد في كتبنا في أبي بكر - رضي الله عنه - أو في غيره من الخلفاء ألا تظن أنَّنا نستطيع أن نجد؟ بلى.
... وإن كانت رواياتنا التي في كتبنا لا تُساوي معشار ما في كتبكم من التهويلات والمبالغات.
ــــــــــــــــــــــــــــــ(108/212)
... 115) قلتم: (إنَّ التضعيف الذي لم يذكر له مستند فغير مقبول كما قال النووي: ولا يقبل الجرح إلاَّ مفسرًا وهو أن يذكر السبب الذي به جرح ولأنَّ الناس يختلفون فيما يفسق به الإنسان، ولعلَّ من شهد بفسقه شهد على اعتقاده(1) قريب منه عن ابن قُدامة قال ابن حجر بعد تضعيف الدارقطني: يزيد بن أبي مريم هذا جرح غير مفسر فهو مردود(2) قال الخطيب: سمعت القاضي أبا الطيب يقول: لا يقبل الجرح إلاَّ مفسرًا... قلت: وهذا القول الصواب عندنا وإليه ذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده من ... البخاري ومسلم...)(3).
... قلت هنا وقفات:
... الأولى: أنَّ كلام الأوائل اختلف بسبب النظر في أحد أمرين:
... الأول: الراوي المجروح فهو إمَّا أنَّه قد ثبتت عدالته كرواة الصحيحين ونحوهم، وإمَّا أنَّه لم تثبت عدالته.
... فالذي ثبتت عدالته فلا يقبل الجرح فيه إلا مفسرًا وهذا مقصود ابن حجر فيما أوردتم فإنَّه قال: (ينبغي أن يعلم أنَّ تخريج صاحب الصحيح لأي راوٍ كان مقتضٍ لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته.. وحينئذٍ إذا وجدنا لغيره في احدٍ منهم طعنًا فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام فلا يُقبل إلاَّ مبين السبب مفسرًا بقادح يقدح في عدالة الراوي..)(4).
... وأمَّا إن كان الراوي مجهولاً ولم تثبت عدالته فهذا يقبل الجرح فيه مطلقًا قال ابن حجر: (فإنْ خلا المجروح عن تعديل قُبل الجرح فيه مجملاً غير مبين السبب إذا صدر من عارف على المختار)(5).
... السبب الثاني: العالِمُ المجرِّح فإن كان بصيرًا عارفًا بهذا الشأن قبل جرحه مجملاً وإلاَّ فلا بدَّ من التفسير.
... وقد مرَّ معنا قول ابن حجر رحمه الله.
__________
(1) المجموع/20/136،ونحوه في شرح مسلم/10/181/
(2) مقدمة فتح الباري/453/
(3) الكفاية في علم الرواية/135/
(4) مقدمة الفتح/384/
(5) نزهة النظر/180/(108/213)
... وسبقه ابن كثير في تقرير هذه المسألة فقال: (أمَّا كلام الأئمة المنتصبين لهذا الشأن فينبغي أن يُؤخذ مسلمًا من غير ذكر الأسباب وذلك للعلم بمعرفتهم واطلاعهم واضطلاعهم في هذا الشأن واتصافهم بالإنصاف والديانة والخبرة والنصح..)(1).
... وقرَّره قبله ابن الأثير فقال: (فمن حصلت الثقة ببصيرته وضبطه يُكتفى بإطلاقه..)(2).
... وقرَّره قبلهم ابن الطيب ونقله عن الجمهور فقال: (الجمهور من أهل العلم إذا جَرَّح من لا يعرف الجرح يجب الكشف عن ذلك ولم يوجبوا ذلك على أهل العلم بهذا الشأن).
... وارتضاه الخطيب البغدادي فقال: (والذي يُقوِّي عندنا ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالمًا)(3).
... قلت: وعلى هذا أُلَّفت كتب الرجال والتراجم فقد قبلوا الجرح من العلماء المختصين بدون ذكر للسبب.
... هذا هو مذهب المحققين من علماء الحديث.
... الثانية: قول ابن حجر الذي أوردتموه قد حذفتم جزءً من الكلام الذي يفسره فقد قال: (يزيد بن أبي مريم الدمشقي وثقة الأئمة وابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم قال الدارقطني: ليس بذلك: قلت: هذا جرح غير مفسر فهو مردود وليس له في البخاري إلاَّ حديث واحد..)(4).
... وبهذا يتَّضح أنَّ الراوي المذكور من رواة الصحيح وقد وثَّقه أئمة، فمثل هذا لا يقبل إلاَّ مفسرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 116) قلتم (ص"38"): (وقد تواتر عن الصحابة واللغويين إطلاق: "الوصي" على علي بن أبي طالب عليه السلام كما مرَّ رواية الطبراني وغيره عن سلمان الفارسي(5) وهكذا عن أبي أيوب(6) الأنصاري وعلي المكي الهلالي(7)).
... قلت الجواب من أوجه:
__________
(1) الباعث الحثيث/97/
(2) جامع الأصول/1/127/
(3) الكفاية/178/
(4) مقدمة الفتح/453/
(5) المعجم الكبير/6/221/،مجمع الزوائد/9/113/،فضائل الصحابة/2/615/
(6) المعجم الكبير/4/171/،مجمع الزوائد/8/253/
(7) المعجم الكبير/3/57/(108/214)
... أولاً: قد مرَّ معنا حديث سلمان وعلي الهلالي وتبيَّن لنا عدم صحتها، وعلي المكي الهلالي هو: علي الهلالي المتقدم المجهول!!
... ثانيًا: ما الفائدة في التكثر من أحاديث لا تصح؟!
... ثالثًا: حديث أبي أيوب رواه الطبراني وهو حديث مسلسل بالضعفاء وغلاة الشيعة قال: (حدثنا أحمد بن محمد بن العباس القنطري ثنا حرب بن الحسن الطحان ثنا حسين بن الحسن الأشقر ثنا قيس بن الربيع عن الأعمش عن عباية بن ربعي عن أبي أيوب الأنصاري...إلخ).
... رواة الحديث:
شيخ الطبراني "أحمد بن محمد القنطري" ليس له ترجمة في كتاب الرجال فهو مجهول العين والحال!!
... وحرب بن الحسن الطحان: قال الأزدي: (ليس حديثه بذاك)(1).
... والحسين بن الحسن الأشقر: قال البخاري: (فيه نظر)، وقال أبو زرعة: (منكر الحديث).
... وقال أبو معمر الهذلي: (كذاب)(2).
... وفيه: "قيس بن الربيع" اختلف فيه النقَّاد والكثرة على تضعيفه، وقد اتفق أحمد والبخاري وابن حبان وعفان وابن نُمير أنَّ له ابنًا كان يلقِّنه ويضع في حديثه ما ليس منه(3).
... وفيه: "عباية بن ربعي" قال الذهبي: (من غلاة الشيعة)(4).
... وهكذا الحديث مُسلسَل بالضعفاء.
... فأيُّ فائدة في مثل هذه الأحاديث؟! أيُبنى عليه دين يُتقرَّب به إلى الله - عز وجل -؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 117) قلتم: (وروى الخوارزمي عن علي عليه السلام قال لعدَّة أرسلهم معاوية إلى علي عليه السلام: (معاشر الناس: أنا أخو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصيه)(5) وهكذا في كتابه إلى أهل مصر عليه السلام(6)، وفي احتجاجه على الخوارج(7)، وفي خطبته بعد انصرافه من صفين(8)).
__________
(1) الميزان/1/469/
(2) الميزان/1/531/
(3) الميزان/3/393-396/
(4) الميزان/2/387/
(5) تاريخ اليعقوبي/2/193/
(6) شرح الحديدي/6/71/
(7) تاريخ اليعقوبي/2/193/
(8) نهج البلاغة خطبة"2"/شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد/1/138/(108/215)
... قلت: الجواب من عدة أوجه:
... الأول: اعتمدتم على مرجعين كررتموهما وكأنَّهما أربعة مراجع، فهذه الروايات في مرجعين "نهج البلاغة" و"تاريخ اليعقوبي".
... ثانيًا: "تاريخ اليعقوبي" مصدر ليس أحسن حالاً من تاريخ دمشق ولا تاريخ الطبري قبله وهو لا يرقى إلى مصافهما في الوثاقة بل مملوء بالأباطيل والأكاذيب، ولا يجوز الاعتماد عليه في التاريخ فما بالك بقضايا عقدية.
... ثالثًا: "نهج البلاغة" لا يصلح كتابًا تاريخيًا بل ولا أدبيًا لأنَّه كتاب مقطوع السند بل عندنا مختلق، كاتبه شاعر وعبارته واضحة التكلف لا يليق كثير منها بفصاحة وبلاغة عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - التي كانت على منهاج العرب القدماء فكيف يُعتمَد عليه في قضايا عقدية.
... قال الأستاذ عبدالسلام هارون مقدم طبعة عام "1406": (وكنَّا إلى الأمس القريب في ريبتين اثنتين منه: أولاهما: من هو صانع الكتاب؟ أهو الشريف "الرضى" أم أخوه "المرتضى"؟ .. إلى أن قال: (وإنَّ السجع والصناعة اللفظية تظهر في كثير من جوانبه على خلاف المعهود في نتاج هذا العصر النبوي.
... قالوا: إنَّ فيه من دقة الوصف وغرابة التصوير ما لم يكن معروفًا في آثار الصدر الأول الإسلامي، كما أنَّه يطوي في جنباته كثيرًا من المصطلحات التي لم يتداولها الناس إلاَّ [بعد] أن شاعت علوم الحكمة كالأين والكيف..إلى أن قال: (وأمر آخر يريب: وهو أنَّ جامع هذه النصوص لم يسجِّل في صدر كتابه أو أثنائه شيئًا من مصادر التوثيق والرواية).
... وقال محقق الكتاب الدكتور "صبري إبراهيم السيد" بعد دراسة الكتاب ونصوصه: إنَّ الكتاب اشتمل على خمسة أقسام من النصوص:
نصوص ثبتت نسبتها إلى عَلِيّ.
نصوص رواها الشيعة وحدهم.
نصوص لم يروها أحد.
نصوص مشكوك في صحة نسبتها لأسباب خاصة.
نصوص ثبتت نسبتها لآخرين.)(108/216)
والمحقق رغم كل ذلك لم يستطع أن يوثِّقها إلاَّ من كتب الأدب والتواريخ، وهي كتب لا ترقي إلى الاعتماد أصلاً.
ثمَّ إنَّه أجرى مقارنة بين النصوص التي في "نهج البلاغة" وبين نفس النصوص التي في كتب الأدب والتواريخ فرأى أمرًا عجيبًا.
النصوص في تلك الكتب لا يتعدَّى بعضها خمسة أسطر، وإذا بها تصبح في كتابنا هذا خمسين ومئة سطرٍ!
فأثبت أنَّ: الخطبة الأولى من أولها إلى قوله: (ولا وقت معدود) ومرجعه: "العقد الفريد" لابن عبد ربه وهي هنا خمسة أسطر فقط وفي الأصل ـ أي في نهج البلاغة ـ أكثر من خمسين ومئة سطر) ثمَّ استطرد يبيِّن الفوارق بين النصوص الموجودة في تلك الكتب وهذا الكتاب)(1).
هذا هو "نهج البلاغة" فهل يصلح عمدة في دين؟! بل في تاريخ أو أدب؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 118) قلتم: (وروى الحاكم والهيثمي عن الإمام الحسن عليه السلام(2) وابن الأثير والطبري عن الإمام الحسين عليه السلام(3).
... وروى ابن عساكر بن بُرَيدة بن الحصيب بن عبدالله(4) والخوارزمي عن ابن مردوية عن أم سلمة(5) والكنجي الشافعي عن أبي سعيد الخدري(6) وأبي نُعَيم عن أنس بن مالك(7) واليعقوبي عن مالك بن الحارث الأشتر(8) والخوارزمي عن عمرو بن العاص(9) والقندوزي عن عمر بن الخطاب(10) والمسعودي عن ابن عباس(11)).
... والجواب من وجوه:
__________
(1) نهج البلاغة مقدمة المحقق/1-65/
(2) المستدرك/3/172/،مجمع الزوائد/9/146/عن الطبراني وغيره
(3) الكامل/3/287/،تاريخ الطبري/4/322/
(4) تاريخ دمشق/42/392/
(5) مناقب الخوارزمي/147/
(6) البيان/501/الفصول المهمة/295/
(7) حلية الأولياء/1/63/،المناقب للخوارزمي/42/،تاريخ دمشق/42/386/
(8) تاريخ اليعقوبي/2/178/
(9) مناقب الخوارزمي/199/
(10) ينابيع المودة/2/75/
(11) مروج الذهب/3/8/(108/217)
... أولاً: جميع هذه المراجع تاريخية ـ ما عدا الأول منها ـ لا يجوز لمسلم أن يعتمد عليها في دينه ولا أظن أنَّك تجهل ذلك.
... والاستكثار من الباطل لا يقلبه إلى حق.
... والذي يريد الحق ينبغي أن يعيد النظر في مثل هذا المنهج.
... فإنَّ كتب التواريخ مملوءة بالأباطيل، ولو أردنا أن نقابل صنيعك هذا بمثله لفعلنا، لكنَّا لا نستجيز أن نستدل بالتواريخ وكتب الأدب ولا بالأحاديث الضعيفة في ديننا، فإنَّ ديننا عندنا أعز من ذلك.
... ثمَّ إنَّنا أصحاب منهج ما صحَّ من الدليل قبلناه ولو خالف الهوى، والضعيف لا نستدل به ولو وافق الهوى.
... ولهذا فإنَّ الأحاديث والآثار والقصص التي وردت في غير كتب السنَّة لا يُلتفَت إليها، فإنَّ كتب السنن والآثار قد استوعبت كل الأحاديث.
... ولذلك فإنَّني سأصرف النظر عن تلك الروايات التاريخية لضياع الوقت في قراءتها والرد عليها، ولو أردت أن تراجع أي كتاب من كتبنا المؤلفة في إثبات القضايا العقدية لما رأيت تلك الكتب ضمن المراجع المعتمدة.
... ثمَّ لِمَ لا تعمد إلى أي كتاب من كتب السنَّة المعتمدة لتستدل بها كالصحيحين مثلاً، وهما كتابان قد اعتمدهما أهل السنَّة ورضوا عن رواياتهما واهتموا بدراستهما وشرحهما ثمَّ تذهب إلى كتب مملوءة بالقصص الكاذبة والروايات الباطلة.
... أهذا نهج المحققين؟!
... ثانيًا: أمَّا حديث الحسن والحسين فقد ورد في غير هذا الموضع وبُيِّن عدم صحته.
... ثالثًا: أمَّا الأحاديث التي تنسبها إلى مراجع الحديث فإنَّنا نبين درجاتها حسب المنهج العلمي المعتمد عند أهل السنَّة وأمَّا روايات التواريخ فليست صالحة للاستدلال على مسائل الاعتقاد لعدم الوثوق بحفظ هذه المصادر ولا بتلك الروايات.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 119) قلتم: ( وهكذا روى الذهبي وابن حجر عن جابر الجعفي(1)
__________
(1) ميزان الإعتدال/1/383/،تهذيب التهذيب/2/43/(108/218)
... والعجب من المزي حيث روى عن سعيد بن منصور قال قال ابن عيينة: سمعت من جابر ستين حديثًا ما أستحل أن أروي عنه شيئًا: يقول: حدثني وصي الأوصياء ... إلى أن قال: أقل ما في أمره أن يكون حديثه لا يحتج به إلا أن يروي حديثًا يشاركه فيه الثقات(1).
... أقول ما هو مراده من مشاركة الثقات إياه هل مراده أمثال: "حريز بن عثمان الحمصي "من رجال البخاري والأربعة(2) الذي يروي المزي عن أحمد بن حنبل بأنه: ثقة ثقة ثقة وليس بالشام أثبت من حريز وهكذا نقل وثاقته عن يحيى بن معين والمدني والعجلي(3).
... مع أنه يلعن علي بن أبي طالب صباحًا ومساءً كما قال ابن حبان فيه: يلعن عليًا بالغداة سبعين مرة وبالعشي سبعين مرة فقيل له في ذلك؟ فقال: هو القاطع رؤوس أبائي وأجدادي)(4).
... قلت وهنا وقفات:
... أولاً: جابر الجعفي كان أول أمره مستقيمًا ثمَّ إنَّه طرأ عليه ما غيَّره إمَّا اختلاط وإمَّا جنون ولذلك كذَّبه العلماء منهم: أبو حنيفة وسفيان وليث بن سليم وزائدة ويحيى بن معين الجوزجاني.
... قال ابن حبان: (كان سبيئًا من أصحاب عبدالله بن سبأ كان يقول إنَّ عليًا يرجع إلى الدنيا)(5).
... وأورد له القهباني الشيعي الإمامي في كتابه مجمع الرجال قصصًا فيها دعوى الغيب وقال: (كان جُنَّ في نفسه مختلطًا وكان شيخنا أبو عبدالله محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله ينشد أشعارًا كثيرة في معناه تدل على الاختلاط ليس هذا موضعًا لذكرها).
... وأورد له عدة كتب ثم قال في نهايتها:(وذلك موضوع).
... وروى قصة عن عروة بن موسى قال كنت جالسًا مع أبي مريم وجابر عنده جالس فقام أبو مريم فجاء بدورق من ماء بئر مبارك بن عكرمة.
__________
(1) تهذيب الكمال/4/470/
(2) تهذيب التهذيب/2/207/
(3) تهذيب الكمال/5/572 و573 و576/
(4) المجروحين/1/268/
(5) ميزان الاعتدال/1/379-384/(108/219)
... فقال له جابر: ويحك يا أبا مريم كأنِّي بك قد استغنيت عن هذه البئر واغترفت من ههنا من ماء الفرات.
... فقال له أبو مريم: ما ألوم الناس أن يسمونا كذابين).
... وذكر أول الترجمة عن عبدالحميد بن أبي العلاء قال:دخلت المسجد حين قُتِل الوليد فإذا الناس مجتمعون قال:فأتيتهم فإذا جابر الجعفي عليه عمامة خز وإذا هو يقول:حدثني وصي الأوصياء وارث علم الأنبياء محمد بن علي عليه السلام قال:فقال الناس: جنَّ جابر،جنَّ جابر(1).
فهذه الترجمة له في كتب الشيعة وصفته بما وصفته به كتب السنة بأنَّه كذاب مختلط مجنون فأي عتب على أهل السنَّة إذا تركوه ؟!
... ثانيًا: إنَّ أهل السنَّة إذا ثبت لهم أنَّ الراوي المخالف لهم في المذهب صادق مطلقًا أو صادق في تلك الرواية رووا عنه وتركهم لجابر الجعفي لأنَّه ثبت عندهم أنَّه يكذب.
... ولكنهم رووا عن عشرات الأشخاص ممَّن وُصِفوا بالتشيع لأنَّ الشيعة القدماء لم يكونوا يسبون الشيخين ولا أحدًا من الصحابة وإنَّما كان مذهبهم تقديم علي - رضي الله عنه - على عثمان - رضي الله عنه - ولم ويُعرَف عنهم الكذب.
... وأمَّا الطائفة التي أطلق عليها: " الرافضة" فيما بعد بسبب رفضهم لزيد بن علي رحمه الله فإنَّهم يُعادون عظماء الأمة ويتهمونهم بالردة أو بالفسق ثم هم يستحلون الكذب لأنَّ معتقدهم يقوم على: "التقية" ولهذا فقلَّ أن يرووا عن شخص منهم إلاَّ بعد التوثُّق.
وقد روى الشيخان عن أكثر من ستين شخصًا وُصِفوا بأنَّهم شيعة وعن جماعة كثيرة وُصِفوا بأنَّهم رافضة منهم:
أبان بن تغلب الربعي [42].
قال الذهبي: (شيعي جَلَد، لكنَّه صدوق فلنا صدقه وعليه بدعته)(2).
أحمد بن المفضل القرشي [م د س].
قال أبو حاتم: (وكان من رؤساء الشيعة صدوق)(3).
جعفر بن سليمان الضبعي [م4].
__________
(1) مجمع الرجال/2/12/
(2) الميزان/1/5/
(3) الميزان/1/157/(108/220)
قال ابن معين: ثقة وروى الذهبي عنه أنَّه كان يكره أبا بكر وعمر رضي الله عنهما(1).
خالد بن مخلد القطواني [خ م ت س ق]
قال ابن سعد: كان متشيعًا منكر الحديث في التشيع مفرطًا، وكتبوا عنه للضرورة(2) أي لوجود أحاديث عنده ليست عند غيره أو لعلو السند.
عبدالملك بن أعين الكوفي [ع]
قال أبو حاتم: من أعتى الشيعة محله الصدق.
قال سفيان: "رافضي".
وقال العجلي: "ثقة"(3).
محمد بن فُضَيل بن غزوان [ع]
قال ابن معين: (ثقة). وقال أبو داود: (كان شيعيًا محترقًًا)(4).
هؤلاء عدة من الرواة الشيعة وُصِفوا بالتشيع والغلو والرفض خرَّج أحاديثهم صاحبا الصحيحين أو أحدهما ولم يمنعهم من ذلك سوء المعتقد إذا ثبت صدقهم.
... فإذا رووا عن بعض النواصب فلأنَّه ثبت عندهم صدقهم مثلهم مثل من قيل فيهم إنَّهم شيعة أو روافض وكانت لهم مذاهب رديئة.
... والرواية عن هؤلاء وهؤلاء ليس إقرارًا لمعتقدهم كما سيأتي عن الإمامية كذلك.
... ثالثًا: حريز بن عثمان ورد في ترجمته ثلاثة أنواع من الكلام فيما يخص عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
نوع فيه أنَّه يحمل على عليّ - رضي الله عنه -.
ونوع يتبرَّأ من ذلك ويبرئه غيره.
ونوع أنَّه تاب.
ونحن نميل إلى أنَّ الرجل بريء من ذلك أو أنَّه تاب.
... قال أبو حاتم: (حسن الحديث ولم يصح عندي ما يُقال في رأيه).
... وقال علي بن عياش: (سمعت حريز بن عثمان يقول لرجل: ويحك أما خفت الله حكيت عنّي أنِّي أسب عليًّا والله ما أسبه وما سببته).
... وقال البخاري وهو الذي روى عنه وقال أبو اليمان: (كان حريز يتناول من رجل ثمَّ ترك _ يعني عليًّا - رضي الله عنه - ـ)(5).
__________
(1) الميزان/1/410/
(2) 1/640/
(3) الميزان/2/677/
(4) الميزان/4/9/
(5) تهذيب الكمال/5/568/(108/221)
... رابعًا: ما أوردتموه من لعن علي - رضي الله عنه - صباحًا ومساءً أوردها ابن حبان بدون سند ومثل هذا لا بدَّ له من أساس(1) حتى يُبنى عليه حكم أو علم.
... خامسًا: ومثل هذا: محمد بن فُضيل بن غزوان [ع] روى له أصحاب الكتب الستة.
... قال الدارقطني: (كان ثبتًا في الحديث إلاَّ أنَّه كان منحرفًا عن عثمان)(2) ومع ذلك روى عنه الشيخان وعثمان وعلي رضي الله عنهما خليفتان راشدان.
... فهل رواية الشيخين عن هذين الراويين إقرار لهما؟
... معاذ الله.
... ولكن المحدثين إذا كان الشخص صادقًا لا يكذب حسب الظاهر رووا عنه وليس في ذلك إقرار لمذاهبهم فإذا وجدت أحاديث عند شخص ليست عند غيره أو كان ما لديه يقوي طرقًا أخرى لا يجوز صرف النظر عن ما عنده وتضييع الحق لأجل خطأ صاحبه وذلك بعد التثبت من صدقه.
... سادسًا: نحن أصحاب منهج فإذا ثبت لدينا صدق الراوي نقلنا عنه: ولو كان خارجيًا أو ناصبيًا أو شيعيًا محترقًًا.
... فما هو منهج الشيعة الإمامية؟ قال صاحب مقياس الهداية في علم الدراية الشيعي الإمامي: (إنَّ الحديث الصحيح ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات حيث تكون متعددة)(3).
... فأين الإنصاف؟! ـ بصرف النظر عن مدى تحقق هذا الشرط في أحاديث الإمامية ـ من عدمه ـ.
... سابعًا: قد قرر علاَّمتكم: "ابن المطهر": (أنَّ الطعن في دين الرجل لا يوجب الطعن في حديثه)(4) فَلِمَ يجوز لكم ما لا يجوز لغيركم؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) المجروحين/1/268/
(2) الميزان/4/9/
(3) /ص23/
(4) رجال الحلي/137/(108/222)
... 120) قلتم: (أو المراد من الثقات هو مثل: إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني من أئمة الجرح والتعديل عند أهل السنَّة ومن رجال أبي داود والترمذي والنسائي... ثمَّ ذكرتم إكرام أحمد بن حنبل له وتوثيق العلماء له وقول ابن حبان أنَّه كان فيه انحراف عن عليّ - رضي الله عنه -... إلخ).
... قلت:
... أولاً: هذا الراوي ليس من رواة الشيخين، وما أوردته من كلام ليس في كتاب تهذيب الكمال الأصل.
... وأمَّا ابن حبان فقد رواه بدون سند ولا يعتد بكلام غير موثَّق.
... ثانيًا: قد ورد مثله من رواة شيعة روينا عنهم لما صَدَقوا ومنهم من يسب عثمان ويكره الشيخين _إن صحَّ عنهم_ لأنَّه لم يُعرف عنهم كذب ولهم عشرات المشايخ والتلاميذ وبدعتهم عليهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 121) أوردتم عن أبي الفرج الأصفهاني أنَّه قال: (إنَّ خالد القسري أحد ولاة بني أميَّة طلب من أحدهم أن يكتب السيرة، فقال الكاتب: فإنَّه يمر بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب أفأذكره؟ فقال خالد: لا، إلاَّ أن تراه في قعر جهنم وذكرتم قول ابن خلكان أنَّه كان متهمًا في دينه وقد بنى لأمِّه كنيسة في داره)(1).
... هنا وقفات:
... أولاً: لولا أنَّني أحب أن أزيل عنكم ما علق بذهنكم من شبهات لأعرضت عن مثل هذا الكلام فإنَّه لا يليق بكم اصطياد الروايات التاريخية التي لا سند لها ولا زمام لتستدل بها على أعراض الناس وعقائدهم فهذا منهج أعيذ نفسي وأعيذك منه.
... كتاب الأغاني؟!! هل يليق بكم وأنتم أستاذ جامعي يُعلِّم المنهج ويقود جيلاً أن تنزل إلى هذا المستوى، إنَّني والله أحزن على مثل هذا الاتجاه.
... فإذا كانت كتب الروايات المنسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الأئمة عندكم التي اهتم العلماء بها وأفردوا لها مؤلفات وأوردوها بأسانيد قد حدث فيها الكذب والتحريف فما بالك بقصص التاريخ؟!
__________
(1) الأغاني/21/25/(108/223)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 122) قلتم: (إنَّ عمران بن حطان من رجال البخاري وأبي داود والنسائي، قال العجلي: "بصري ثقة". وقال أبو داود: "ليس في أهل الأهواء أصح حديثًا من الخوارج) ثمَّ ذكر عمران هذا وغيره... مع أنَّ العقيلي صرَّح بأنَّ عمران بن حطان كان من الخوارج وهو المادح لابن ملجم..).
... قلت: الجواب تابع لما قبله من وجوه:
... أولاً: مذهب أهل السنَّة أن لا يُترك الحق ولو كان من كافر أو فاسق، وهذا الذي قرَّره القرآن الكريم.
... قال تعالى إنَّ بلقيس اليمن قالت: (إنَّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة) وهذه كلمة حق من امرأة كافرة. قال تعالى: (وكذلك يفعلون) قاله ابن عباس رضي الله عنهما(1).
... وقال تعالى في الفاسق: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فأمر - عز وجل - بالتثبت ولم يأمر بترك خبره.
... ثانيًا: قد ثبت للعلماء صدق الخوارج في الحديث فإنَّهم يُكفِّرون مرتكب الكبيرة وهذا يعني أنَّ الكذب منهم غير وارد ولهذا رووا عنهم ورووا عمَّن سمَّموهم: "روافض" وهؤلاء يتديَّنون بالكذب الذي هو: "التقية" حتى رووا عن جعفر الصادق أنَّه قال: (إنَّ تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له).
... وعنه عن أبيه: (لا والله ما على وجه الأرض من شيء أحب إليَّ من التقية)(2).
... فكيف يُوثَّق من يعتقد أنَّ تسعة أعشار الدين كذب ومن لا يكذب لا دين له؟ ولا يوثَّق من يعتقد أنَّ الكذب: "كفر" أو مخرج من: "الإيمان".
... أمَّا الرواية عن عمران بن حطان فقد قال فيه قتادة: (كان عمران بن حطان لا يتهم في الحديث)(3).
... وابن كثير قال فيه: (كان أحد العباد) وصف لحاله وليس ثناءً عليه.
__________
(1) تفسير ابن كثير/6/203/
(2) الكافي/ح/2/217-221/باب التقية
(3) تهذيب الكمال/22/322/(108/224)
... ثالثًا: قولكم: (هؤلاء قسم من ثقات أهل السنَّة ورواة الصحاح الستَّة وكم لهم من نظير).
... قلت الجواب من وجوه:
... أولاً: أهل السنَّة يروون الحديث عن كل من: (ثبت عندهم صدقه) ولو كان مبتدعًا كما مر.
... ثانيًا: رواة الصحيح هم من أوثق الرواة من حيث صدق الرواية وخاصة الرواية التي تذكر في الصحاح.
... ثالثًا: رواة السنن لا تُقبل رواياتهم إلاَّ إذا كانوا ثقات وليس كل رواية تَرِدُ عنهم تُقبل والعلماء قد ترجموا لهم وذكروا أحوالهم لينظر فيمن تُقبل رواياتهم ممَّن تُرد.
... رابعًا: رواة السنَّة عندنا معروفون مترجم لهم لكن ماذا عن رواة السنن عند الإمامية؟ هل هم معروفون؟ ثمَّ هل هم أتقياء بررة. اسمع إلى كلام الألوسي رحمه الله وهو يحدِّثنا عن الكتب الأربعة الصحاح عند الإمامية قال: (زعموا أنَّ أصح كتبهم أربعة: الكافي، وفقه من لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار.. وما زعموه من صحتها باطل لأنَّ في إسناد الأخبار المروية من هو من المجسمة كالهشامين وصاحب الطاق.
... ومنهم من أثبت الجهل لله في الأزل كزُرارة بن أعين، وبكير بن أعين والأحولين وسليمان الجعفري ومحمد بن مسلم وغيرهم.
... ومنهم فاسد المذهب كابن مهران، وابن بكير، وجماعة أخرى.
... ومنهم الوضَّاع كجعفر القزاز، وابن عياش.
... ومنهم الكذَّاب كمحمد بن عيسى.
... ومنهم الضعفاء كثيرون.
... ومنهم المجاهيل وهم أكثر)(1)
... ثمَّ استطرد رحمه الله يبين تكذيب بعضهم البعض في الرواية وهذا تأكيد لكلام السيد محمد الصدر في أنَّ رواة العقائد والتاريخ عند الشيعة مجهولون كما ذكر في ذكر مكان آخر من هذا البحث.
... وقد تقدم تكذيب جعفر الصادق لجماعة من تلاميذه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) صب العذاب على من سبَّ الأصحاب/213-214/رسالة علمية محققة في الجامعة الإسلامية(108/225)
... 123) قلتم (ص"41"): (كيف يمكن توثيق من لعن علي بن أبي طالب والرواية عنه في الصحاح التي هي الملاك في سنَّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمدار في استنباط الأحكام)
... قلت: الجواب من وجوه:
... أولاً: لعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كبيرة من الكبائر، ولعن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو أي أحد ممَّن شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخير والفضل والجنَّة كذلك.
... ثانيًا: تكفيرهم أو تكفير أحد منهم أشد من لعنهم، فأمَّا تكفير المجموع إلاَّ أفرادًا فهذا كفر لأنَّه يؤدي إلى إبطال الإسلام كما تقدم.
... ثالثًا: تقدم أكثر من مرة أنَّ العلماء يروون عن الشخص الفاسق أو المبتدع إذا كان لم يُعرف بالكذب إذ أنَّه لو تركت الرواية عن كل من فُسِّق أو ضُلل أو اُتهم ببدعة رغم صدقه فإنَّ هذا يحرم الناس وصول كثير من السنن.
... رابعًا: ليس كل من نسب إليه السب صحَّ عنه ذلك الفعل، وقد تقدَّم ما قيل عن: "حريز بن عثمان" وكيف أنَّه نقل عنه التبرؤ من ذلك وقيل إنَّه تاب.
... خامسًا: رأيتم أنَّ العلماء رووا عمَّن نسب إليه السب لعثمان والكره لأبي بكر وعمر ولم يمنعهم من الرواية عنهم ما داموا صادقين وقلنا إنَّ القرآن الكريم قرَّر ذلك.
... سادسًا: الرواية عنهم لا تعني الرضى عن فعلهم.
... سابعًا: هذا اجتهاد في موضوع الرواية وعلماء السنَّة مختلفون في مثل هؤلاء: منهم من يرد رواياتهم ويُضعِّفهم ومنهم من يقبلها إذا ضمن الصدق فيها.
... ثامنًا: هذا رجل واحد وقع منه السب وربَّما لو عدوا في رواة السنَّة لكانوا عددًا قليلاً فكم في علمائكم وعبَّادكم ورُواتكم من يلعن أبا بكر وعمر وعثمان وعظماء الصحابة ويسمُّون الشيخين بصنمي قريش؟!
... أهذا يجوز يا تُرى؟!
... فهذا المامقاني أورد هذا الدعاء: (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، والعن صنمَي قريش وطاغوتيهما وابنتيهما)(1).
__________
(1) تنقيح المقال/107/(108/226)
... وقد نقل الدكتور على السالوس عن العالم الشيعي المعاصر السيد الحسن الموسوي يقول: (هذا دعاء منصوص عليه في الكتب المعتبرة وكان الإمام الخميني يقوله بعد صلاة صبح كل يوم)(1).
... فهل يجوز أن تأخذوا العلم عن مثل هذا؟! وقد تقدم اتهامه للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم التبليغ كما ينبغي!! وأيهما أعظم جرمًا يا تُرى!
... تاسعًا: هل رأيت أحدًا من علماء السنَّة وعوامهم يفرح بمقتل علي - رضي الله عنه -، وهل اتخذوا له عيدًا.
... أليس في كتبكم روايات تثني على قاتل عمر - رضي الله عنه - وعندكم من يتَّخذ ذلك عيدًا؟
... إنَّ هذا التعاطف مع بعض الصحابة - رضي الله عنهم - حبَّذا لو عُمِّم وعظِّم كل الصحابة فإنَّنا نحترم جميعهم ولا نفرِّق بين أحد منهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 124) أوردتم حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من سبَّ عليًّا فقد سبَّني) وعزوته إلى أحمد والمستدرك(2).
... قلت:
أولاً:سب علي- رضي الله عنه -أو أي أحد من الصحابة العظماء كبيرة ما لم يتعد إلى جميعهم أو إلى غالبهم فيكون كفرًا.
... ثانيًا: الحديث في سنده: (أبو عبدالله الجدلي) قال ابن سعد : (ويُستضعَف حديثه وكان شديد التشيع).
وقال الذهبي: (شيعي بغيض كان صاحب راية المختار(3) وقد وثقه أحمد(4)).
... وفيه: "أبو إسحاق السبيعي" عمرو بن عبدالله وهو ثقة لكنَّه مدلس وهو هنا عنعن الرواية فقال: (عن أبي عبدالله) قال ابن حبان: (كان مدلسًا)(5) وأكده الطبري.
__________
(1) عن الاثني عشرية في الأصول والفروع/1134/وقد أورد صورة الدعاء من كتاب بعنوان "تحفة عوام" باللغة الأردية أخذ من فتاوى زعماء التشيع المعاصرين ومنهم الخميني
(2) المسند/6/323/،السنن الكبرى للنسائي/5/133/، والمستدرك/3/121/
(3) المختار بن عبيد اتهم بادعاء النبوة/تاريخ الطبري/3/1-90/
(4) الميزان/4/544/
(5) الثقات/5/177/(108/227)
... وقال الجوزجاني: (وكان قوم من أهل الكوفة لا يحمد الناس مذاهبهم... احتملهم الناس على صدق ألسنتهم في الحديث ووقفوا عندما أرسلوا لما خافوا ألا تكون مخارجها صحيحة، فأمَّا أبو إسحاق فروى عن قوم لا يعرفون ولم ينتشر عنهم عند أهل العلم إلاَّ ما حكى أبو إسحاق عنهم...) ثمَّ رأى أنَّ الأخبار إذا لم تعرف يتوقف فيها(1).
... 125) قلتم: (وما رواه الطبراني عنها قالت: أيُسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -...) فيكم على رؤوس الأشهاد؟ فقلت: سبحان الله وأنَّى يُسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: أليس يُسب على بن أبي طالب ومن يحبه فأشهد أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه)(2).
... الجواب من وجوه:
... أولاً: هذا الحديث هو نفس الحديث السابق غير أنَّ لفظ هذا الحديث مختلف إذ فيه أنَّه: (يسب علي بن أبي طالب ومن يحبه) ولا شكَّ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه فمن سبَّه بهذا اللفظ فإن كان يعلم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه فهو كافر وإن كان لا يعلم فهو على شفا جرف.
... ثانيًا: في سند الطبراني: (السدي عن أبي عبدالله الجدلي).
... والسدي شخصان: كبير اسمه: إسماعيل بن عبدالرحمن من رواة مسلم(3)، وصغير وهو: محمد بن مروان.
... قال البخاري: (لا يكتب حديثه). وقال أبو حاتم: (ذاهب الحديث متروك الحديث). وقال صالح بن محمد البغدادي الحافظ: (وكان يضع الحديث)(4).
... وكثيرًا ما يدلس بعض الرواة بذكر اسم يحتمل هذا وهذا ولو أراد الثقة لصرَّح عادة والله أعلم.
... ثالثًا: أمَّا حب علي - رضي الله عنه - فقد ورد في روايات صحيحة تغني عن مثل هذه الرواية كما سيأتي قريبًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) إكمال التهذيب/10/207/
(2) رواه الطبراني في المعاجم الثلاثة/1/2/21/2/6/74/3/23/323وأبو يعلى/12/444/
(3) التهذيب/3/132/
(4) التهذيب/26/392/(108/228)
... 126) قلتم: (وما ذكره ابن عبد ربه عن أم سلمة...)(1)
... قلت: هو نفس الحديث ثمَّ كتب الأدب ليست مراجع للدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 127) قلتم: (وبعد ذلك كله فانظر ما قيمة كلام ابن كثير قائلاً: أسانيدها كلها ضعيفة لا يُحتج بها) هل هي إلاَّ جرح غير مفسر مردود ويا ليت كان يعين أين من الرواة ! كانت ضعيفة فصارت الرواية بسببه ضعيفة؟!
... الجواب:
... أولاً: قد تبين ممَّا أوردته في السابق صحة كلام ابن كثير رحمه الله.
... ثانيًا: هذه الصورة ليست ممَّا يُقال: "جرح مفسر أو غيره" وإنَّما يُقال: من هو الراوي الضعيف الذي ضُعِّف الحديث بسببه؟ أمَّا الجرح فهذا مرحلة ثانية بعد التضعيف بأن يُقال علة الحديث: "فلان" فيُقال: ما هو عيبه؟ فيُقال: ضعيف أو متروك أو كذاب أو نحو ذلك.
... ثالثًا: قد أورد ابن كثير بعد ذلك حديثًا صحيحًا في مسلم عن علي - رضي الله عنه - أنَّه قال: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنَّه لعهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إليَّ أنَّه لا يحبك إلاَّ مؤمن ولا يبغضك إلاَّ منافق) ثمَّ قال: (وهذا الذي أوردناه هو الصحيح من ذلك).
... وهذا منهج أهل السنَّة يثبتون الفضائل الصحيحة ويردون الأحاديث التي لم تصح، فلا حاجة للصحابة - رضي الله عنهم - إلى دعوى فضائل لا تصح فما صح ففيه غنية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 128) قلتم: (ما الفرق بين علي بن أبي طالب وأبي بكر وعمر؟ حيث إنَّهم وثقوا من سب عليًّا عليه السلام ولكن حكموا بكفر من سب أبا بكر وعمر وأفتوا بقتلهم كما عن الفاريابي: (من شتم أبا بكر فهو كافر لا أُصلِّي عليه. قيل: فكيف تصنع به وهو يقول: لا إله إلا الله؟ قال: لا تمسوه بأيديكم ، ارفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته).
... الجواب من أوجه:
__________
(1) العقد الفريد(108/229)
... أولاً: أسأل الله - عز وجل - أن يفتح قلبك للحق وأن يُنير بصيرتك وأن يرينا وإيَّاك الحق وأن يرزقنا اتباعه.
... ثانيًا: تذكرت وأنا أعيش مع كلامك مثالاً كنت أذكره لطلابي في شبهات غير المسلمين التي يثيرونها على الإسلام وكيف يُرد عليهم.. مع الفارق طبعًا هنا.
... فقلت: قبل الجواب على السؤال أضرب مثالاً بين يديه لتقريب الجواب:
... رجل قرَّر أن يمشي على يديه رافعًا رجليه إلى السماء أحبَّ ان يزور صديقًا له في بعض البلدان فاستقبله صديقه في المطار وإذا بصديقه ينزل سائرًا على يديه.
... فأول ما نزل من الطائرة قال هذا الصديق السائر على يديه: يا أخي لماذا أراك مقلوبًا؟ ثمَّ جاء ليركب في الحافلة فقال: لماذا الحافلة مقلوبة؟ ثمَّ عندما ركب في الحافلة قال: لماذا الناس مقلوبون؟ ولمَّا رأى أشجار المطار قال: لماذا الأشجار مقلوبة؟! وهكذا.. وهكذا..
... فصديقه هذا إن أخذ يحاول أن يجيب على كل سؤال فإنَّ الأسئلة لا تنتهي لأنَّ كل شيء بالنسبة له مقلوب.
... فما هو الحل؟ الحل أن يُقنِعَ صديقَه هذا أنَّ كل ما رآه مستقيم وأنَّه هو المقلوب وأنَّ الحل أن يقف على قدميه ليرى كل شيء مستقيمًا.
... ثالثًا: إنَّ كلامك يُوهم أنَّ أهل السنَّة لا يعظمون عليًّا - رضي الله عنه - وأنَّهم إذا رووا عمن يسبه فهم لا يحبونه بسبب روايتهم عمَّن نسب إليه أنَّه كان يسبه.
... وقد تقدَّم الكلام على هذا.
... كيف لا نحبه وهو من آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نعتقد أنَّ صلاتنا لا تكمل إلاَّ بالدعاء له مع آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمَّهات المؤمنين وذريته - صلى الله عليه وسلم - وآل العباس وآل عقيل وآل حمزة وآل علي فإن كنت تعتقد أنَّنا لا نحبه فهذا اعتقاد خاطئ وفهم لا يقوم على دليل وإنَّما على شبهات.(108/230)
... أمَّا ما ذكر من سب بعض بني أميَّة لعلي - رضي الله عنه - فلا يمثل أهل السنَّة فنحن نبرأ ممَّا فعلوه عقيدة لا تقية.
... رابعًا: أنت نقلت نصوصًا مختلفة عن أشخاص عدة لكل شخص قول قاله في حكم من سب الصحابة وجعلت الكلام خرج مخرجًا واحدًا وكأنَّه من شخص واحد وهذا لا يصلح في البحث العلمي.
... وذلك لاختلاف العلماء في الحكم على من سب الصحابة: فمنهم من يُكفِّره سواء سبَّ أبا بكر أو عليًّا، ومنهم من يفسقه سواء سبَّ أبا بكر أو عليًّا.
... لكن لا يليق أن تأتي إلى إنسان يكفر من سبَّ أبا بكر وإلى إنسان آخر يفسق من سبَّ أبا بكر وسبَّ عليًّا وتقارن بين كلامه في التفسيق لساب عليّ وكلام من كفر من سب أبا بكر.
... والإنصاف أن تورد كلام نفس الشخص في كلا الصحابيَّين وبهذا يمكن أن تكون المقارنة منصفة.
... خامسًا: حكم سب الصحابة من القضايا التي اختلفت فيها الأنظار.
... فمن العلماء من يرى أنَّ الساب لأحد من الصحابة لا يُكفَّر إذا كان الساب لآحاد الصحابة كأن يسب أبا بكر - رضي الله عنه - أو يسب عليًّا - رضي الله عنه - وإنَّما يفسق ويُجلد ولا يُقتَل ويرون أنَّ السب كبيرة من الكبائر.
... ومنهم من يرى أنَّه يُكفَّر أو يُقتَل عقابًا.
... وفيما يلي عرض ذلك بإيجاز.
... أ) من قال: إنَّ السَّاب لا يُكفَّر وإنَّما يُؤدَّب:
روى اللالكائي بسنده أنَّ الإمام أحمد سُئِل عمَّن سبَّ رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أرى أن يُضرَب ضربًا نكالاً(1).
فهو لم يُفتِ بقتل من سبَّ وإنَّما أفتى بالضرب ولو كان عنده كافرًا لحكم بقتله.
قال إسحاق بن راهويه: من شتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعاقَب ويُحبَس.
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة/ح/2386/(108/231)
وفي الرسالة التي رواها الإصطخري عن الإمام أحمد قال فيها: خير الأمَّة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبو بكر وعمر بعد أبي بكر وعثمان بعد عمر وعلي بعد عثمان ـ ووقف قوم ـ وهم خلفاء راشدون مهديون.
... ثمَّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هؤلاء الأربعة خير الناس لا يجوز لأحدٍ أن يذكر شيئًا من مساويهم ولا يطعن على أحدٍ منهم بعيبٍ ولا نقص، فمن فعل ذلك فقد وجب تأديبه وعقوبته...)(1).
وهذا ورد عن عمر بن عبدالعزيز(2) وإسحاق بن راهويه ومشهور مذهب مالك(3) وابن المنذر(4).
وعقد القاضي أبو يعلى في بعض كتبه مبحثًا في حكم سب الصحابة قال في أوله: (سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرام بالكتاب والسنَّة) ثمَّ أورد الأدلة(5).
وقال سحنون: (من كفَّر أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: عليًّا أو عثمان أو غيرهما يُوجَع ضربًا)(6).
عن مغيرة وأبي إسحاق الهمداني: (شتم أبي بكر وعمر من الكبائر)(7).
ب) ومن قال بكُفر أو قتل من سبَّ الصحابة:
روى اللالكائي بسنده عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنَّه قيل له: (لو أتيت برجل يسب أبا بكر عليه السلام ما كنت صانعًا؟ قال: أضرب عنقه. قال: فعمر؟ قال: أضرب عنقه)(8).
وعن سحنون فيمن قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي: إنَّهم كانوا على ضلال وكفر قُتِل، ومن شتم غيرهم من الصحابة بمثل هذا نُكِّل النكال الشديد)(9).
__________
(1) الصارم المسلول/568
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة/ح/2383/
(3) الشفاء/2/308/
(4) الصارم المسلول/2/269/
(5) الصارم المسلول/571/
(6) الشفاء/2/309/
(7) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة/ح/2387و2388/
(8) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة/ح/2378/
(9) الشفاء/2/309/(108/232)
قال ابن تيمية: (وصرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من: علي وعثمان وبكُفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم)(1).
ج) مذهب من فصَّل في ذلك:
... قال ابن حجر: (اختلف في ساب الصحابي فقال عياض: ذهب الجمهور إلى أنَّه يُعزَّر وعن بعض المالكية يُقتَل.
... وخصَّ بعض الشافعية ذلك بالشيخين والحسنين، فحكى القاضي حسين في ذلك وجهين وقواه السبكي في حق من كفَّر الشيخين وكذا من كفَّر من صرَّح النبي - صلى الله عليه وسلم - بإيمانه أو تبشيره بالجنَّة إذا تواتر الخبر بذلك لما تضمن من تكذيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)(2).
... هذه بعض نصوص أهل السنَّة فأين فيها التفريق بين علي - رضي الله عنه - وبين غيره.
... سادسًا: إنصاف أهل السنَّة يتجلَّى واضحًا في مراجعهم لمن وفقه الله وفتح قلبه.
... ولعليّ هنا أورد طرفًا ممَّا شهد به ابن الوزير أحد الشيعة من أعلام المذهب الزيدي بكلام علمي مفيد مستدلاً على كلامه بشواهد من كلام أهل السنَّة ومنهجهم.
... قال رحمه الله وهو يبين أنَّ أهل السنَّة أصحاب منهج وإنصاف لا أصحاب هوى واعتساف:
... (السابع: روايتهم للحجج الدالة على خلاف مذهبهم مثل أثر عائشة في نفي الرؤية...
... ومثل الأحاديث والمناقب الدالة على تفضيل أمير المؤمنين علي عليه السلام.
... ولقد ذكر الذهبي في كتابه: طبقات القرَّاء عليًّا عليه السلام وذكر أنَّه لم يسبقه إلى الإسلام إلاَّ خديجة وأنَّ المكان يضيق عن مناقبه وأنَّه جمع القرآن العظيم وصحَّح ذلك وردَّ على من خالف فيه.
... ثمَّ ذكر أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - مات ولم يختم القرآن، وكذلك عمر...).
__________
(1) الصارم المسلول/570/
(2) فتح الباري/7/36/،شرح النووي لصحيح مسلم/16/326/،تحفة الأحوذي/10/249/(108/233)
... ثمَّ عقَّب ابن الوزير بقوله: (ولو كانوا من أهل الكذب مع تفضيلهم لهما ـ أي أبي بكر وعمر ـ لكذبوا لهما أو تركوا ذكر ذلك نفيًا أو إثباتًا ليبقى مجملاً ولم يعتنوا في ذكره وإيراد إسناده الصحيح ولهذا نظائر لو ذكرتها واستوفيتها جاءت في مصنف مفرد.
... الثامن: تضعيفهم لأحاديث أئمتهم المُحتَج بها في الفروع فمن نظر: "البدر المنير" و:"خلاصته" و:"الإرشاد" و:"التلخيص" في الأحاديث التي احتج بها الشافعي علم إنصافهم وأنَّهم غير متعصبين فلعلَّهم أجمعوا على ضعف قدر الربع من حججه. هذا وهم أصحابه المنتسبون إليه.
... وكذلك المحدثون من الحنفية ولهم في ذلك كتاب أحاديث الهداية وكذلك المالكية.
... العاشر: تضعيفهم للأحاديث الدالة على مذاهبهم في التفضيل وغيره.. _ثمَّ أورد أحاديث كثيرة في فضائل أبي بكر_ أوردوها وضعَّفوها) وذكر تضعيفهم لرواة من أهل السنَّة وتوثيقهم لرواة من أهل الشيعة، ثمَّ قال: (وعكس هذا: وهو تصحيحهم لما يباين مذهبهم إذا رواه الثقات).
... ثمَّ قال: (وذكر ـ أي الذهبي ـ أنَّ أحمد بن حنبل وثَّق سليمان بن قرم وكان غاليًا في التشيع فلم يمنعهم غلوّه في التشيع من توثيقه ولا من رواية توثيق من وثَّقه.
... وقال ابن عدي: أحاديثه حِسان، هو خير من سليمان بن أرقم بكثير.
... قلت ـ لا زال الكلام له ـ: ولم يكن ابن أرقم من الشيعة) أي ابن عدي فضَّل الشيعي في ضبطه على السنِّي عندما تبين ذلك ولم يمنعهم مخالفتهم للشيعي من بيان الحق الذي له.
... الحادي عشر: تحرِّيهم للصدق في كتب الجرح والتعديل وعدم المداهنة، فقد تكلموا في تضعيف الأصدقاء والقرابات مثل نوح بن أبي مريم، وابن أبي داود، ووالد علي بن المديني، بل في من يعظمونه وهو حقيق بالتعظيم كالإمام الأعظم أبي حنيفة رحمه الله ضعَّفه بعضهم من جهة حفظه وصدعوا بذلك في التصانيف مع أنَّ الملوك حنفية في هذه الأعصار في مصر والشام وهم مستمرون في ذلك.(108/234)
... الثاني عشر: تعديلهم لأعدائهم من غلاة الروافض وكم في: "الصحيحين" من رافضي سبَّاب للصحابة غالٍ في الرفض كما مرَّ تعداد بعضهم ونقل ذلك في كتبهم وهم يعلمون ذلك ويذكرون مذهبه في كتبهم في الرجال ويُصرِّحون بأنَّه ثقة حجة مأمون في الحديث.
... والعدل على العدو أبلغ إمارات الإنصاف.
... الثالث عشر: روايتهم لفضائل علي عليه السلام وفضائل أهل البيت في أيام بني أميَّة..
... الرابع عشر: رواية مساوئ معاوية(1) والأحاديث الواردة بذمِّه وذم صبية بني أميَّة وهي في تواريخهم وكتبهم وبيان المكذوب من فضائله وأنَّه لم يصح منها شيء)(2).
... أرأيت دلائل الإنصاف عند أهل السنَّة؟! يشهد بها شيعي زيدي هداه الله لمعرفة الحق.
... أيمكن أن يكون منهج هؤلاء وهم يتحرَّون الحق والصواب أن يُفرِّقوا بين الأصحاب؟!
... ويُؤكِد ابن تيمية هذا المعنى فيقول: (كل من جرَّب من أهل العلم والدين: الجمهور_أي أهل السنَّة_علم أنَّهم لا يرضون الكذب ولو وافق أغراضهم فكم يروون لهم في فضائل الخلفاء الثلاثة وغيرها من الأحاديث بأسانيد خير من أسانيد الشيعة ويرويها مثل أبي نُعَيم والثعلبي وأبي بكر النقاش والأهوازي وابن عساكر وأمثال هؤلاء ولا يقبل علماء الحديث منها شيئًا! بل إذا كان الراوي عندهم مجهولاً توقفوا في روايته...)(3).
... لعلَّ في هذا كفاية لبيان ما توهمتَه في هذه المسألة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) رويت في عصرهم بصرف النظر عن كونها صحيحة أم لا مع أنها لا تصح
(2) العواصم والقواصم/2/377-400/هذا كتاب من أعظم الكتب التي كتبها شيعي زيدي يدافع فيه عن أهل السنة
(3) منهاج السنة/7/417-418/(108/235)
... 129) قلتم: (هل لم يكن علي بن أبي طالب من الصحابة! حتى يشمله فتوى أبي زرعة: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنَّه زنديق"(1). وقول السرخسي: (من طعن فيهم فهو ملحد مُنابذ للإسلام دواؤه السيف إن لم يتب) أو أفتوا ذلك! لأن تكون وسيلة لقتل الشيعة فقط؟ قال ابن الأثير في حوادث (سنة 407هـ) وفي هذه السنة قُتِلت الشيعة في جميع بلاد أفريقيا وجعل سبب ذلك اتهامهم بسب الشيخين).
... الجواب من وجوه:
... أولاً: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - صحابي جليل وهو الخليفة الرابع من الخلفاء الراشدين ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال.
... قال ابن تيمية: (المنصوص عن أحمد تبديع من توقف في خلافة علي وقال: هو أضل من حمار أهله وأمر بهجرانه ونهى عن مناكحته.
... ولم يتردد أحمد ولا أحد من أئمة السنَّة في أنَّه ليس غير علي أولى بالحق منه ولا شكَّوا في ذلك.
فتصويب أحدهما لا بعينه تجويز لأن يكون غير علي أولى منه بالحق وهذا لا يقوله إلاَّ مبتدع ضال فيه نوع من النصب وإن كان متأولاً..).
... ثانيًا: هذه فتوى لعالم أفتى فيمن يتنقص الصحابة ووصفه بالزندقة فهل هو نفسه حكم فيمن انتقص عليًّا - رضي الله عنه - بخلاف ذلك؟!
... ثالثًا: أورد الخطيب قول أبي زرعة فيمن طعن في الصحابة بدعوى خيانة الوصية وهذا يترتب عليه إبطال للدين فلعلَّه نظر إليها من هذه الوجهة فكل من ترتب على طعنه هذه النتيجة فهو زنديق.
... فقد قال رحمه الله بعد ذلك: (..وذلك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق والقرآن حق وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآن والسنَّة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنَِّما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنَّة والجرح بهم أولى وهم زنادقة)(2).
__________
(1) الكفاية في علم الرواية/575/
(2) الكفاية/97/(108/236)
... أمَّا لو كان السب لأمر دنيوي أو سبًّا شخصيًا فلا شكَّ أنَّه ذنب لكن لا يبلغ هذا الوصف ولعلَّ هذا هو ما لحظه أصحاب القول الأول ولهذا فرَّق مالك رحمه الله بين من كفَّرهم وضلَّلهم وبين من شتمهم كشتائم الناس بعضهم البعض فقال رحمه الله: (فإن قال كانوا على ضلال وكفر قُتِل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نُكِّل نكالاً شديدًا)(1).
... فهذه اجتهادات العلماء في حكمهم على من سب أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس هناك فتوى واحدة أو فتويان إحداهما لساب أبي بكر والأخرى لساب عليّ من عالم واحد فتنبه والزم الإنصاف.
... رابعًا: وأمَّا قولكم: (أو أفتوا ذلك لأنَّ تكون وسيلة...)
... قلت: هذه الفتاوى ظهرت في أفريقيا أو في أزمنة متفرِّقة؟!
وأمَّا ما حدث في أفريقيا إن صحَّ الخبر فيبدو أنَّ الشيعة أظهروا تكفيرهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يحتمل الناس تكفيرهم فقتلوهم لا أن العلماء أفتوا بقتلهم وكم حدث مثل هذا في عهد الدول الشيعية: البويهية والصفوية وغيرهما.
خامسًا: لو أفتى عالم بقتل من سب الشيخين وأفتى بعدم قتل من سب عليًّا فهذا يُخطَّأ في فتواه، أمَّا إذا ذكر أنَّ العلماء أفتوا بقتل من سب الشيخين ولم ينقل عنهم شيء في عليّ - رضي الله عنه - لعدم ظهور ما يستدعي ذلك فأي حرج في ذلك؟!
سادسًا: إنَّ فضل الشيخين على الأمَّة أعظم من غيرهما فهما اللذان أعادا المرتدين إلى الدين وفتحوا العالم ونشروا الإسلام بجيوش الإسلام فالطعن فيهم يفقد الثقة في هذا الدين ولربَّما هذا هو الملحظ الذي لحظه من خصهما بحكم خاص لا للتفريق بين الأصحاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 130) نقلتم عن الحموي أنَّه قال: (لعن علي بن أبي طالب على منابر الشرق والغرب... منابر الحرمين مكة والمدينة)(2).
__________
(1) الشفاء/2/308/
(2) معجم البلدان/3/191/(108/237)
... قلت: قول الحموي قول غير مُوثَّق كغيره من الروايات التاريخية ولم يذكر لما يقول مصدرًا وإن كنَّا لا نستبعد حصول حالات نادرة أمَّا أن تكون في جميع البلدان فهذا من الكذب وكم في التاريخ من أكاذيب ولو صدَّقنا التاريخ لعادت حياتنا كلها خرافات.
... واستمع إلى نفس الكتاب الذي قد ملء خرافات وأكاذيب مع أنَّه هو يزعم أنَّه يتوثق أحيانًا من الروايات.
... قال وهو يتحدث عن يأجوج ومأجوج بعد أن ذكر شكوى جيرانهم منهم لذي القرنين فقال ذو القرنين: (فما طعامهم؟ قالوا: يقذف البحر إليهم في كل سنة سمكتين يكون بين رأس كل سمكة وذنبها مسيرة عشرة أيام أو أكثر...)!!!
... ثمَّ ذكر صفات يأجوج ومأجوج ومنها: (يبلغ الواحد منهم مثل نصف طول الرجل المربوع لهم مخاليب في مواضع الأظفار ولهم أضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها وعليهم من الشعر ما يواري أجسادهم ولكل واحد أذنان عظيمتان... يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى وليس منهم ذكر ولا أنثى إلاَّ ويعرف أجله والوقت الذي يموت فيه...)!!!
... قلت ما شاء الله: هؤلاء أصبحوا مثل الأئمة الذين قال فيهم الكافي: (باب أنَّ الأئمة يعلمون متى يموتون وأنَّهم لا يموتون إلاَّ باختيارهم).
... ثمَّ يستمر الحموي في ذكر طعامهم وأنَّه تنين يخرج من البحر فيأكل كل دواب البر ثم تأتي سحابة فتحمله إلى البحر فيضج البحر لأنَّه أكل كل دوابه ثمَّ تأتي سحابة فتحمله: (فربَّما اجتاز وهو في السحاب وذنبه خارج عنها بالشجر العادي والبناء الشامخ فيضربه بذنبه فيهدم البناء من أصله ويقلع الشجر بعروقه ولقد احتمله السحاب من بر أنطاكية فضرب بذنبه بضعة عشر برجًا من أبراج سورها فرمى به...)(1).
... وقد زعم أنَّه كان بِحلَب فحدث في وجوده بها قريب من هذا الخبر حيث قال في أوله: (جرى في هذه الناحية في أيامنا شيء عجيب...)(2).
__________
(1) معجم البلدان/3/197-198/
(2) معجم البلدان/4/476/(108/238)
... هذا نموذج من الأكاذيب التاريخية التي يذكرها الحموي فهل تصدقها إلى جانب دعوى لعن علي - رضي الله عنه - في المشرق والمغرب والحرمين؟!
... الحمد لله على العافية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 131) قلتم: (قال الزمخشري والحافظ السيوطي: إنَّه كان في أيام بني أميَّة أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها علي بن أبي طالب بما سنه لهم معاوية من ذلك). وأوردتم كتاب: "النصائح الكافية" لابن عقيل معتمدًا في نقله عن السيوطي.
... الجواب من وجوه:
... أولاً: ذكر هذا العدد من المساجد دعوى ظاهرة البطلان فإنَّ المساجد في ذلك العهد لا يمكن أن تصل إلى هذا العدد.
... ثمَّ من هو الذي قام بِعدِّها آنذاك؟!
... ثانيًا: إنَّ الاعتماد في اتهام الناس على مثل هذه الكتب المبتورة الأسانيد التي هي أشبه بكتب الوعظ منها بكتب العقائد لهي من أكبر أسباب انحراف عقائد من خالف أهل السنَّة.
... ثالثًا: وأمَّا ابن عقيل المجهول الظاهر التشيع فهو رجل نكرة لا يُعتمَد عليه فيما ينقل ولهذا لم يحدد مكان النقل ثمَّ النقل عن السيوطي وهو من علماء القرن التاسع وبينه وبين الدولة الأموية قرابة ثمانمائة سنة وقبول قوله بدون رواية صحيحة عمل مردود.
... رابعًا: هذا منهج نحتكم إليه لنا وعلينا فلا نستدل بالقصص التاريخية غير المسندة ولا نقبل قصة تاريخية غير مسندة ثمَّ لا بد من صحتها، بل ولا حديثًا غير مسند أو لا يصح في مسائل الاعتقاد.
... ولو حرصنا على هذا المنهج لربَّما تقلَّصت كثير من الخلافات بيننا وبني المخالفين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 132) قلتم: (وهل سمع معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا في فضل سب علي بن أبي طالب - عليه السلام - بحيث كان يقول لسعد: ما منعك أن تسب أبا تراب. هذا في صحيح مسلم(1).
__________
(1) صحيح مسلم/7/120/(108/239)
... ولكن فيما رواه ابن عساكر وابن كثير قال سعد لمعاوية: أدخلتني دارك وأقعدتني على سريرك ثمَّ وقعت فيه تشتمه)(1).
... وفي كلام ابن أبي شيبة: فأتاه سعد فذكروا عليًّا فنال منه معاوية فغضب سعد(2).
... أو يجب لنا أن نقول: بأنَّ نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سب أصحابه عمومًا وسب علي بن أبي طالب خصوصًا يختص لغير المخاطبين).
... الجواب من وجوه:
... أولاً: ليس في الحديث دليل على أنَّه أمره بسب علي - رضي الله عنه - وإنَّما سأله عن سبب عدم سب عليّ؟
... قال العلماء إمَّا أنَّه بلغه أنَّ سعدًا كان يجلس مع من سب عليًّا - رضي الله عنه - فلم يشارك في السب، أو المراد: لماذا لم تظهر تخطيئته في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنَّه أخطأ(3).
... ولا يوجد دليل على أنَّه أمره بالسب أو طلب منه أن يلعنه أو يُكفِّره.
... ثانيًا: عندما يرد حديث ويخرج في عدة كتب وتختلف ألفاظ الحديث والمخرج واحد أي يكون الحديث لا يحتمل أنَّه قيل مرتين كحديث سعد بن أبي وقاص هذا فلا ينبغي أن تصدق كل الألفاظ أو يُترك اللفظ الذي في الصحيح إلى لفظ إمَّا أنَّه ورد من طريق ضعيف أو طريق حسن بل يُقدم لفظ الصحيح.
... هذا الحديث ورد في صحيح مسلم باللفظ السابق ثمَّ ورد بألفاظ أخرى أورد أحدها ابن كثير ولم يذكر مصدر الحديث ولكنَّه ذكر سنده وفيه محمد ابن إسحاق وهو ثقة ولكنَّه مدلس(4) وقد عنعن هنا.
... وأمَّا رواية ابن أبي شيبة ففيها: "عبدالرحمن بن سابط"(5) قال يحيى بن معين: لم يسمع من سعد بن أبي وقاص(6) وهو هنا يروي عنه فيكون بينهما رجل مجهول وهذا يضعِّف الرواية.
__________
(1) تاريخ دمشق/42/119/،البداية/7/376/
(2) المصنف/7/496/
(3) قاله النووي في شرحه لمسلم/ح/2404/
(4) تهذيب الكمال/15/142/
(5) المصنف/ح/32078/
(6) تهذيب الكمال/10/350/(108/240)
... ثالثًا: هذا صحابي تكلَّم في صحابي أو سبَّه فكلاهما نالا شرف الصُحبة وإن كان علي - رضي الله عنه - أفضل من معاوية ومن أبيه ولكن له فضل الصُحبة فإن تكلم فيه أو سبَّه فلا شكَّ أنَّه آثم متوعد بالعقاب إن لم يتب، ولا نظن أنَّه يلقى الله - عز وجل - بدون توبة وقد ورد في ترجمته أنَّه كان يرجو رحمة الله - عز وجل - ومغفرته.
... ولهذا فإنَّ منهج أهل السنَّة والجماعة عدم الخوض فيما جرى بينهم لكثرة الروايات المتعارضة والدخيلة وإن كانوا يعرفون لكل فضله ويقررون أنَّهم يتفاضلون.
... رابعًا: ها هو سعد قد غضب وذكر فضائل علي - رضي الله عنه - على ملأ من معاوية وحزبه ولم ينله أذى ولا عقاب وهذا يُؤكد أنَّ ذكر فضائل علي - رضي الله عنه - كانت تُعلن في العصر الأموي على خلاف ما يزعم المخالف.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 133) قلتم: (ما الفرق بين الذين قتلوا عثمان والذي قتل علي بن أبي طالب - عليه السلام - حيث صار قتلة عثمان عند ابن حزم: فُساق أو ملعونون ! محاربون! سافكون دمًا حرامًا عمدًا(1). وعند ابن تيمية: قوم خوارج مفسدون في الأرض(2).. وعند ابن كثير: أجلاف أخلاط من الناس(3).. ولكن قاتل علي بن أبي طالب كان مجتهدًا متأولاً كما صرَّح ابن حزم بقوله: ولا خلاف بين أحد من الأمَّة أنَّ عبدالرحمن بن ملجم لم يقتل عليًّا - رضي الله عنه - إلاَّ متأولاً مجتهدًا مقدرًا أنَّه على صواب..).
... أولاً: أوردت كلام ابن تيمية وكلام ابن كثير فيمن قتل عثمان - رضي الله عنه - ولم تورد كلاميهما فيمن قتل عليًّا - رضي الله عنه - والمقايسة أو المقارنة إنَّما تتم إذا أوردت كلام العالم في القضيتين وكان بينهما اختلاف وقد تقدم التنبيه عليه.
__________
(1) الفصل/4/161/
(2) منهاج السنة/3/189-206/
(3) البداية/7/176/(108/241)
... فلا ابن تيمية ولا ابن كثير يقر قاتل علي - رضي الله عنه - أو يُثني عليه ولكن قد يذكرانه بما هو عليه من العبادة التي ورد ذكرها في الأحاديث في الخوارج فقد وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّنا: (نحقر عبادتنا إلى عبادتهم وصلاتنا إلى صلاتهم..) وليس في هذا مدحًا لهم وإنَّما بيان حالهم مع ضلالهم وعدم انتفاعهم بالعبادة.
... فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر حال الخوارج وقاتلُ عليٍّ - رضي الله عنه - واحد منهم فهل تقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على قاتل عليّ؟!
... ثانيًا: وأمَّا قول ابن حزم إن صح عنه لأنَّني لم أستطع العثور على كلامه هذا في المحلى فإنَّ كثيرًا من الصفحات التي تذكرها لا أجد الكلام المعزو إليها فيها وهذا منها ـ فليس مراده مدح القاتل وإنَّما أكد ما قرره ابن تيمية بعد ذلك فقد أجاب في رده على ابن المطهر الحلي عند ذكر بعض فضائل علي - رضي الله عنه - بقوله: (الجواب: أنَّ في ذلك شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعليّ بإيمانه ظاهرًا وباطنًا وإثباتًا لموالاته لله ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له. وفي ذلك رد على النواصب الذين يعتقدون كفره وفسقه كالخوارج المارقين الذين كانوا من أعبد الناس كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم: ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)) ولهذا قتله واحد منهم وهو: عبدالله بن ملجم المرادي مع كونه كان من أعبد الناس)(1).
... فهو قد بين مروقهم من الدين رغم عبادتهم فهل هذا ثناء مع قوله: (كالخوارج المارقين)؟! وبيانه بأنَّه قد قتل عليًّا - رضي الله عنه - أحد هؤلاء المارقين.
__________
(1) منهاج السنة/5/46-47/(108/242)
... ثالثًا: أوردتم أسماء عدة كتب هي: (الأم للشافعي(1)، ومختصر المزني(2)، والمجموع(3)، ومغني المحتاج(4)، والجوهر النقي(5)) بعد إيراد كلام ابن حزم وربَّما أردتم أنَّه ورد في هذه الكتب وصف قاتل عليّ بأنَّه من العباد الضالين وهو نفس الكلام الذي بيّن وجهه كما تقدم.
... رابعًا: أمَّا حب أهل السنَّة لعلي - رضي الله عنه - وآل بيته فلا يمكن أن يُشكَّكَ فيه ونحن لا نقول بالتقية ونعلن في كتبنا أنَّنا نحبه ونجله وكذلك آل البيت لكن الحب الشرعي الذي لا يرفعه فوق منزلته.
... ولماذا يا تُرى نكرهه وهو مؤمن بل من أوائل من آمن إن لم يكن أول من آمن وهو ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزوج ابنته، وأبو الحسن والحسين، وله من الفضائل ما يرفعه عن كثير من الناس، وجاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوال حياته.
... ما هي الأسباب التي تجعل أهل السنَّة يا تُرى يكرهونه ولم يعتقدوا شيئًا هو خالفه كما تزعمون أنتم في إخوانه الخلفاء الثلاثة.
... فما أحدثه أوائلكم من دعوى الوصية ولَّد عندكم كرهًا لعظماء الأمَّة وغلوًا فيه - رضي الله عنه -!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 134) قلتم: (بلغ الأمر ما صار قوام حكومتهم بسب علي بن أبي طالب - عليه السلام - كما روى ابن عساكر عن علي بن الحسين قال: قال مروان بن الحكم: ما كان في القوم أحد أدفع عن صاحبنا من صاحبكم يعني عليًّا عن عثمان قال: قلت: فما لكم تسبونه على المنبر؟! قال: لا يستقيم الأمر إلاَّ بذلك)(6).
__________
(1) الأم/4/229/
(2) مختصر المزني/256/
(3) المجموع/19/197/
(4) مغني المحتاج/4/124/
(5) الجوهر النقي/8/58/
(6) تاريخ مدينة دمشق/42/438/(108/243)
... أولاً: قد مرَّ معنا كثيرًا أمثال هذا الاستشهاد وأكدنا أنَّ التواريخ ليست مرجعًا يوثق به في إثبات الأخبار أو نفيها فإذا كانت كتب الروايات الحديثية قد دخلها كثير من الكذب فما بالك بالتواريخ وخاصة كتاب تاريخ دمشق وقد بلغ قرابة ثمانين مجلدًا وملء بروايات لا تصح بل بروايات موضوعة ومؤلف الكتاب رحمه الله يوردها بالسند ليقوم المستدل بتحقيق المسألة قبل الاستدلال. فهل حققت السند؟!
... ثمَّ لا نقطع بأنَّ كل هذه المؤلفات من وضع أصحابها إلاَّ إذا وصلنا نسخة موثقة.
... ثانيًا: وجود حالة أو حالات من أمثال هذه الأعمال المحرمة ليس مستحيلاً، فالإنسان ظلوم جهول ولا يعني الرضا به وإقراره.
... ثمَّ كم وجد من الشيعة ولا زال كثير منهم يلعن من هو أعظم وأفضل من علي - رضي الله عنه -، يلعنون خلفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآباء زوجاته وزوج بناته وممَّن فتح الأرض ودخل الناس في عهدهم في دين الله أفواجًا، ومع ذلك يلعنونهم، وتفتتح كثير من كتب الشيعة المتأخرين بلعنهم إمَّا صراحة وإمَّا تورية ومن ذلك:
... يقول "محدث نورى" الإمامي (ت "1320هـ") في مقدمة كتاب: "مستدرك الوسائل" بعد الافتتاح: (...واللعنة على أعدائهم شرار البرية بين طوائف الأمم) /1/60/
... ويقول سيد شرف الدين حسيني استراباذي الإمامي (ت"940هـ") في مقدمة كتابه: "تأويل الآيات الظاهرة": (فإنِّي لما رأيت بعض الكتاب العزيز وتأويلها يتضمن مدح أهل البيت ومدح أوليائهم وذم أعدائهم في كثير من كتب التفاسير..)/1/21/
... وهاتان الدولتان الشيعيتان: البويهية والصفوية كان يلعن فيهما الخلفاء على المنابر والأسواق وكتب لعنهما على أبواب المساجد(1).
... أشرت بهذا لتعلم أنَّ الشيعة يستنكرون حالة أو حالات وهم يقعون في أعظم وأكبر منها.
... والتاريخ مملوء بذكر الأحداث منه ما يصح ومنه ما لا يصح.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البداية/11/212-213/(108/244)
... 135) قلتم: (أمَّا قولكم: فلا يجوز أخذ العلم إلاَّ منه - رضي الله عنه -، إذن كل الدين المبلَّغ من غيره ليس دينًا).
... ثمَّ رددتم على قولي هذا بقولكم: (فنقول: أولاً: هذا نص كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ عليًّا باب علمه فمن أراده فليأت منه كما روى الطبراني بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمن أراد العلم فليأته من بابه)(1) وذكره الحاكم بعدة طرق وصححها(2). وهكذا المتقي في كنز العمال مع القول بصحته)(3).
... الجواب من وجوه:
... أولاً: نحمد الله - عز وجل - على أن أحيانا في ساحة الإسلام النقي الذي نفاخر بنصوصه ونتوارثها بأصح الأسانيد جيلاً بعد جيل، فإنَّ الإنسان الموفق إذا وقف على نصوص كتب الإسلام العظيمة التي دوَّنها علماء السنَّة وحفظوا فيها أصول الدين وفروعه ثمَّ وقف على كتب المخالفين لا يسعه إلاَّ أن يرفع يديه إلى السماء شاكرًا لخالقه ومولاه أن فتح قلبه وعقله على هذا الدين العظيم من خلال النصوص التي يرى فيها عظمة هذا الدين.
... ثانيًا: أنا لا ألوم عوام الشيعة فهم غير قادرين على الاستقلال في تعلم دينهم ودراسة رواياته وسبرها ولكن اللوم على من انفتح له باب العلم وحصل على إمكانات البحث والتحقيق ثمَّ يُصِّر على ترك الكتب الموثوقة الصريحة الواضحة ويستمر على تتبع الروايات الضعيفة والموضوعة لدعم معتقده!!
... ثالثًا: ننظر في معنى الحديث قبل بيان درجته:
هل علي - رضي الله عنه - هو باب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد موته؟ أو بعد موته؟
الحديث ليس فيه إشارة إلى أنَّه بعد موته فيكون هو الباب في حياته وبعد موته.
__________
(1) المعجم الكبير/11/55/ابن الأثير أسد الغابة:4/22/تاريخ بغداد/3/181/
(2) المستدرك/3/127-126/!
(3) كنز العمال/13/149/(108/245)
... فلماذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلم الناس مباشرة وعليّ موجود؟!
لماذا لم يُعلِّم عليًّا ثمَّ عليّ يُعلِّم الناس لأنَّ هذا معنى الباب أي لا يُوصل إلى المدينة إلاَّ من خلال بابها!!
ولماذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث الرسل والبعوث يعلمون الناس الدين وعليّ موجود لم يكتفِ به؟!
... فقد بعث معاذًا وأبا موسى الأشعري مع عليّ نفسه إلى اليمن.
إذا قلنا هو الباب بعد موته قلنا اللفظ لا يُساعد على هذا المعنى ولكن لنفرض أنَّ هذا هو المعنى المراد.
بعد أن مات النبي - صلى الله عليه وسلم - لم نسمع أحدًا من الصحابة أشار إلى ذلك أو قال: قفوا حتَّى نأخذ العلم من عليّ - رضي الله عنه - بل كان علي - رضي الله عنه - كغيره من الصحابة يُفتي كما يُفتون بحضرته وفي غيابه ولم ينكر عليهم.
لو لم يكن مبلغًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ رجل واحد لكان هذا طعنًا في دين الله - عز وجل - لاحتمال الخطأ في نقله، وفهمه ودعوى العصمة لم تثبت أصلاً حتَّى يزعم أنَّه معصوم، فلم نسمع أحدًا من الصحابة يقدم رأي علي بدعوى العصمة.
إذا كان عليّ هو الباب فمن أخذ عنه شيئًا من العلم هل يبلغه للناس أم لا؟! وهل يرسل علي - رضي الله عنه - مبلغين للعالم أم لا؟! وهل يُشترط في هؤلاء أن يكونوا معصومين أم لا؟
فإذا جاز أن يبلغ عنه رسله فما الفرق بينهم وبين من يبلغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته؟؟
بعد أن مات علي - رضي الله عنه - فقد قفل الباب لأنَّ الحديث لم يذكر له بابًا غيره وهذا يعني وقوف التبليغ.
أيُّها أعظم المدينة التي لها أبواب أو باب واحد؟! هل رأيتم مدينة عظيمة ليس لها إلاَّ باب واحد؟!
هب أنَّ عليًّا هو الباب وأنَّ من زعم أنَّهم أئمة ينوبون عنه لإبلاغ العلم فهاهم قد انقرضوا على الصحيح ـ أو اختفى الإمام الطفل!! ـ ولم يبقَ أحد معصوم يُبلِّغ هل يُوقف الدين؟!(108/246)
فإن قلتم: نعم. فهذه طامة كبرى.
وإن قلتم: لا. بل يبلغ العلماء.
فما الفرق بين أن يُبلِّغ العلماء من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يبلِّغ العلماء بعد العسكري؟!!!
رابعًا: إذا كان الدين يفهم بدون الإمام فلا حاجة إليه.
وإن كان لا يفهم إلاَّ بإمام فأين إمامكم أنتم الآن؟! وهل فهمتم الدين بدونه؟!
فإن قلتم: نعم، فهذا إبطال لدعواكم الحاجة إلى إمام.
وإن قلتم: لا، فأنتم الآن ضالون لأنَّكم تتعبدون الله - عز وجل - على جهل!!
أمَّا نحن فإنَّنا نعتقد أنَّ الكتاب والسنة كافيان لمعرفة الدين وأنَّ الأمَّة لا تجمع على ضلال ونحن مطالبون بدراسة القرآن والسنة فإن أصبنا فلنا أجران وإن أخطأنا فلنا أجر.
والحمد لله على نعمة الهداية.
... خامسًا: فما رأيكم في العلم الشرعي الذي قد بلغ الآفاق وعمَّ جميع العالم الإسلامي ووصل إلى غير الإسلامي عن طريق غير عليّ. هل هو علم مُعترَف به أم لا؟! لأنَّه عن غير باب المدينة؟!
... فإنَّ العلم الشرعي في العالم قد نشره الصحابة - رضي الله عنهم - وأهل السنَّة.
... فإن قلتم بل هو علم شرعي فقد اعترفتم بأبواب أخرى، وإن قلتم: لا؛ فقد أبطلتم الدين لأنَّ القرآن والسنَّة لم ينقلها إلاَّ الصحابة.
... سادسًا: الحديث رواه الحاكم ـ وهو شيعي من طريقين إحداهما ـ عن أبي الصلت ثمَّ قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ثمَّ قال أبو الصلت: ثقة مأمون، فتعقَّبه الذهبي وقال: (قلت: بل موضوع وأبو الصلت لا ثقة ولا مأمون).
... وأبو الصلت هذا قد اتهمه طائفة من علماء الجرح والتعديل، وضعَّفه طائفة.
... قال أحمد: (روى أحاديث مناكير).
... وقال الجوزجاني: (كان زائغًًا عن الحق مائلاً عن القصد).
... وقال ابن عدي: (له أحاديث مناكير في فضل أهل البيت وهو متهم فيها).
... وقال الدارقطني: (كان رافضيًا خبيثًا) وروى له حديثًا في الإيمان ثمَّ قال: (وهو متهم بوضعه).(108/247)
... وقال: (يُحدث بمناكير وهو عندهم ضعيف).
... وقال أبو حاتم: (لم يكن عندي بِصدوق وهو ضعيف).
... وقال أبو زرعة: (لا أُحدِّث عنه ولا أرضاه).
... ونقل البرقاني عن الدارقطني أنَّ أبا الصلت سمعه يقول: (كلب للعلوية خير من جميع بني أميَّة) فقيل: فيهم عثمان؟ فقال: فيهم عثمان)!!!
... أليس عثمان من الصحابة؟!
... أمَّا كلام يحيى بن معين فقد اضطرب النقل عنه فيه والظاهر أنَّه لم يكن يعرف روايته لهذه الأحاديث، وأمَّا الحديث فقال عنه: (ما هذا الحديث بشيء)(1).
... وقال الشيخ الألباني في الحديث: (موضوع)(2).
... والطريق الثانية للحديث عند الحاكم رواها عن أبي الحسين : محمد بن أحمد بن تميم القنطري عن الحسين بن فهم عن محمد بن يحيى الضريس عن محمد بن جعفر عن أبي معاوية عن الأعمش عن مجاهد...
... شيخ الحاكم: القنطري قال فيه ابن حجر: (ذكر لنا أنَّه كان فيه لين)(3) وقد أكثر عنه الحاكم.
... وفيه: الحسين بن فهم ذكر الذهبي أنَّ الحاكم قال فيه: (ليس بالقوي)، وكذلك الدارقطني(4)، وأمَّا قول الحاكم هنا فقد اختلف فقد قال: (ثقة مأمون حافظ).
... والحديث من جميع طرقه عن الأعمش وهو مدلس وقد قال هنا: (عن) ولم يُصرِّح بالتحديث وهذه علة أخرى.
... وقد قال البغدادي: (لم يروِ هذا الحديث عن أبي معاوية من الثقات أحد رواه أبو الصلت فكذبوه)(5).
... وقد توسَّع الشيخ الألباني رحمه الله في الكلام على الحديث وبيان بطلانه.
__________
(1) تهذيب الكمال/11/10/
(2) سلسلة الأحاديث الضعيفة/ح/2955/
(3) لسان الميزان/5/49/
(4) المصدر السابق/2/326/
(5) تاريخ بغداد/7/172/(108/248)
... والحاكم رحمه الله حريص على تقوية تشيعه فقد أورد للحديث شاهدًا عن كذاب ثمَّ صحح هذه الطريق فقال الذهبي رحمه الله مُتعقِّبًا عليه: (العجب من الحاكم وجرأته في تصحيحه هذا وأمثاله من البواطيل_وأحمد هذا دجال كذاب_) أراد أحمد بن عبدالله بن يزيد الحراني(1)).
... هذا هو حديث: (أنا مدينة العلم...) لا يصح لا سندًا ولا متنًا!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 136) قلتم: (وهكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لعليّ: (أنت تُبين لأمَّتي ما اختلفوا فيه من بعدي) رواه الحاكم عن أنس بن مالك ثمَّ عقبه!: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه)(2).
... قلت الجواب من وجوه:
... أولاً: قال الذهبي متعقِّبًا لتصحيح الحاكم: (بل هو فيما أعتقده من وضع ضرار، قال ابن معين: كذاب)(3).
... والحديث في سنده: "ضرار بن صرد أبو النُعَيم الطحان" قال البخاري: (متروك الحديث)، وقال ابن عدي: (من جملة من ينسب إلى التشيع).
... وكذبه يحيى بن معين وقال الساجي: عنده مناكير، وقال ابن قانع: ضعيف يتشيع(4).
... ثانيًا: المستدرك أعلى ما تصل إليه في الاستشهاد ومؤلفه شيعي وأظنك وأنت تنقل الحديث رأيت تعقب الذهبي على الحاكم! ألم يدفعك لإعادة النظر في سلامة استدلالك؟!
... ثالثًا: هل هذا أمر أم خبر؟!
... إن كان أمرًا فلم يُبين ـ على مذهبكم ـ لأنَّكم تزعمون أنَّه إمام من الله والصحابة خالفوا هذا الركن بزعمكم ولم يُبين لهم عليّ!!! إذن عليّ - رضي الله عنه - لم يمتثل أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
... وإن كان خبرًا فلم يقع الخبر وهذا طعن في النبوة!!.
... رابعًا: أمَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - مستمرة إلى قيام الساعة وعلي - رضي الله عنه - قد توفي فكيف يبين للأمَّة بكاملها وهو يموت؟!
__________
(1) حاشية المستدرك/3/127/
(2) المستدرك/3/122/
(3) المستدرك/1/122/
(4) تهذيب التهذيب/3/64/(108/249)
... خامسًا: ماذا يُبين لها؟ هل يُبين شيئًا بلَّغه النبي - صلى الله عليه وسلم - له ولغيره من الصحابة؟ أم يُبلِّغ أمرًا كتمه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصحابة؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
... 137) قلتم: (ونزول قوله تعالى: (وتعيها أذنٌ واعية) فيه كما ذكره الطبري والسيوطي والقرطبي وغيرهم)(1).
... الجواب من وجوه:
... أولاً: الحديث مُرسل من رواية مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومكحول تابعي(2) فالحديث غير متصل فلم يصح.
... ثانيًا: قرآن أنزله الله - عز وجل - للبشرية وذكر فيه من الوعد والوعيد وأخبار الأمم الماضية والحلال والحرام وغير ذلك من مضامين القرآن ـ أنزل لِتعيها أذنٌ واحدة إذن: "علي - رضي الله عنه -"؟! سبحان الله العظيم؟
... ألم أخبرك أنَّ مضمون عقيدة الشيعة أنَّ القرآن بكامله أُنزل في علي - رضي الله عنه - ومن أجله وأجل أتباعه؟
... بل أوردوا أثارًا عن أئمتهم أنَّ القرآن أُنزل فيهم وفي أعدائهم.
... روى العياشي في تفسيره عن أبي جعفر أنَّه قال: (يا محمد إذا سمعت الله ذكر أحدًا من هذه الأمَّة بخير فنحن، وإذا سمعت الله ذكر قومًا بسوء ممَّن مضى فهم عدونا)(3).
... والمتتبع لتفسير العياشي ومن قبله القمي وقبلهما العسكري يرى عجبًا.
... ففي تفسير العسكري (ت260هـ)
... قال في أول تفسيره: (وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: (يا أيُّها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين..)
... (ورحمته): توفيقه لموالاة محمد وآله الطيبين ومُعاداة أعدائهم(4). وفي بقية تفسيره تأكيد لهذا المعنى.
__________
(1) جامع البيان:29/69ح26955/الدر المنثور/6/260/
(2) جامع البيان:29/69ح26955/الدر المنثور/6/260/
(3) التفسير/1/13/
(4) التفسير/1/16/(108/250)
... ثالثًا: أما إنَّ أذن علي - رضي الله عنه - من الآذان التي وعت وقد شاركه فيها إخوانه المهاجرون والأنصار وممَّن جاء بعدهم من المؤمنين وإلى أن تقوم الساعة.
... رابعًا: إيراد المفسرين لهذا الأثر في تفاسيرهم لا يدل على صحته أو قبولهم له فإنَّهم رحمهم الله يروون في الآية كل الأقوال التي قيلت فيها حتَّى لو كانت ضعيفة.
... ولكنَّهم يصدرون الأقوال بالقول الراجح لديهم وجميع هؤلاء المفسرين قالوا "واعية": حافظة أو سامعة .. ونحو ذلك.
... قال الطبري بعد إيراده للآية: (وقوله: "واعية" يعني: حافظة عقلت عن الله ما سمعت) وأورد من قال بذلك من الصحابة والتابعين(1).
... وقال القرطبي: ("وتعيها أذن واعية": أي تحفظها وتسمعها أذن حافظة لما جاء من الله)(2).
... وقال ابن كثير: (قال ابن عباس: "حافظة سامعة"، وقال قتادة: "أذن واعية" عقلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله..)(3).
... وهكذا كل أذن مؤمنة فهي أذن واعية.
أسأل الله - عز وجل - أن يجعلني وإيَّاك منهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
... 138) قلتم: (وثانيًا: روى البخاري عن عمر - رضي الله عنه - قال: (أقرؤنا أُبيّ ، وأقضانا عليّ) ولا شكَّ بأنَّ كونه أقضى الناس يدل على أوسعية علمه).
... الجواب من وجوه:
... أولاً: هذا الأثر صحيح وفيه دلالة على ما كان بين الخلفاء من محبة وإنصاف، وأنَّ أهل السنَّة ينقلون فضائل عليّ - رضي الله عنه - وثناء إخوانه من الصحابة عليه - رضي الله عنهم - جميعًا، وأنَّه لم يكن بين القوم ما أحدثته الشيعة من دعوى الوصية والظلم والعداوة، إذ ما كان لمن يعادي شخصًا متعمدًا أن يثني عليه ويعرف له فضله.
... ثانيًا: لا ننكر أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - له علم وفضل، كيف لا وهو قد عاش مع النبي - صلى الله عليه وسلم - طوال حياته.
__________
(1) التفسير/29/50/
(2) التفسير/18/262/
(3) التفسير/8/225/(108/251)
... لكن ما زعمته من أنَّ العلم لا يُؤخَذ إلاَّ منه فهذا دعوى غريبة وليس في هذا الحديث ما يدل عليها _كما تقدم_ وسيأتي بمشيئة الله تعالى.
... ثالثًا: أثر عمر - رضي الله عنه - يُثبت عدة أمور منها:
أنَّ الصحابة فيهم قُضاة ولكن عليًّا - رضي الله عنه - أعرفهم بالقضاء بين المتخاصمين وهذه فضيلة لكنَّها لا تعني إثبات العلم له من كل وجه وإنَّما فيها اعتراف بتقدمه في هذا المجال ولكنَّه مع ذلك ليس أقرأ الصحابة للقرآن فإنَّ: "أُبيًا" أقرأ منه وهذا كذلك تخصص ولا يعني ذلك أنَّ الصحابة لا يقرؤون.
وقوله: " أُبيّ أقرؤنا": إمَّا بمعنى أحفظنا لكتاب الله أو بمعنى أعرفنا بقراءة القرآن وتجويده، وأيُّهما أراد فإنَّ فيه إثباتًا بتميُّز أُبيّ على عليّ في هذا الأمر فدل على أنَّ عليًّا ليس هو أعلم الصحابة من كل وجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 139) قلتم: (كما قال سعيد بن المسيب: لم يكن أحد من الصحابة يقول: سلوني إلاَّ علي بن أبي طالب(1). وقال ابن عباس: لقد أُعطي عليّ تسعة أعشار العلم وأيَّم الله لقد شاركهم في العُشر العاشر(2). وقال ابن عباس: أُعطي عليّ تسعة أعشار العلم والله لقد شاركهم في العُشر الباقي)(3). وقال: (إذا ثبت لنا الشيء عن عليّ لم نعدل إلى غيره)(4).
... أولاً: أنت قد أحلت إلى: "فضائل الصحابة" برقم [2/646] بتحقيق: وصي الله وهذه الإحالة كإحالات كثيرة لم أجدها في مكانها فإنَّ هذا الكتاب: أحاديثه مرقمة من بداية الكتاب إلى نهايته وصفحاته مرقمة من بداية الكتاب إلى نهايته.
... ورقم الحديث [646] في المجلد الأول هو في فضائل أبي بكر وعمر.
__________
(1) فضائل الصحابة/2/646/
(2) أسد الغابة/4/22/تفسير الثعالبي/1/52/
(3) الاستيعاب/1044/تهذيب الأسماء واللغات/1/317/
(4) الاستيعاب/3/1104/تهذيب الأسماء واللغات/1/317/(108/252)
... ورقم الصفحة [646] كذلك في المجلد الأول وأنت ذكرت المجلد الثاني وهذه الصفحة كذلك في فضائل أبي بكر وعمر.
... ولكنني وجدت هذه الإحالة في: "قرص" من إنتاج شركة: "العُريس" بعنوان: "مكتبة الحديث الشريف".
... ثانيًا: الحديث ليس من رواية الإمام أحمد وإنَّما هو من زيادات ابنه عبدالله.
... وقد رواه عن عثمان ابن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد قال: أراه عن سعيد ولم يحقق من الراوي ومثل هذا يجرح في الرواية.
... وقد رواه أخوه: "أبو بكر بن أبي شيبة" ولم يذكر سعيد بن المسيب وإنَّما أوقف الرواية على: "يحيى بن سعيد"(1).
... ثالثًا: أوردتم قول ابن عباس مكررًا!! والمصدر: أسد الغابة والاستيعاب!!
... رابعًا: إنَّ أهل السنَّة لا يثبتون مسائل دينهم بمثل هذه المراجع وإن كانوا قد يذكرونها بعد إذا صح الدليل، أمَّا إنَّها مصدر يُعتمَد عليه فلا، وهي مملوءة للخلفاء الثلاثة بمثل ما لعليّ - رضي الله عنهم - جميعًا وما ثبت من فضائلهم ونُصرتهم للدين أشهر من أن يُبحَث عنها في روايات مقطوعة أو ضعيفة أو موضوعة.
... خامسًا: قد روى ابن عباس رضي الله عنهما حديثًا في الصحيحين وهما أصح بلا مدافعة من كل هذه المصادر التي أوردتها والحديث عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فما رأيك فيه؟ قال ابن عباس: (وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون عليه ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم فلم يرُعني إلاَّ رجل قد اخذ منكبي من ورائي فالتفتُ فإذا هو: عليّ فترحَّم على عمر وقال: ما خلفت أحدًا أحب إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك. وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك.
... وذلك أنِّي كثيرًا ما كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما)(2).
__________
(1) المصنف/6/227/
(2) رواه البخاري/ح/3603/ومسلم/ح/6140/(108/253)
... فما رأيكم في هذه الشهادة بأنَّه لا يتمنى أكثر من أن يلقى الله بمثل عمل عمر والعمل تابع للعلم؟
أم أنَّه تقية؟! حاشاه!
... أم تأخذون بحديث ابن عباس إذا وافق مقاصدكم وتتركون ما لم يوافقها؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 140) قلتم: (وثالثًا: لم يجرؤ أحد من الصحابة أن يقول: سلوني غير علي بن أبي طالب - عليه السلام - كما روى الحاكم روى عن عامر بن واثلة قال: سمعت عليًّا - رضي الله عنه - قام فقال: سلوني قبل ان تفقدوني ولن تسألوا بعدي مثلي..) هذا حديث صحيح عال(1). وقال سعيد بن المسيب: لم يكن أحد من الصحابة يقول: سلوني إلاَّ عليّ بن أبي طالب)(2).
... الجواب من وجوه:
... أولاً: أنت كررت الأقوال فقد كررت قول ابن عباس مرتين وكررت قول سعيد بن المسيب مرتين والتكرار لقول مرتين في صفحة واحدة بل في أسطر متقاربة عليه مآخذ.
... ثانيًا: أمَّا رواية عامر بن واثلة التي عزوتموها إلى الحاكم فلم أجدها لا في الطبعة الأصل ولا في طبعة (مصطفى عبدالقادر عطا) في الصفحة المذكورة فإنَّ هذه الصفحة (383جزء"2") فيها تفسير سورة إبراهيم وليس في هذا الجزء بكامله مناقب أحد من الصحابة لا عليّ ولا غيره وإنَّما المناقب في الجزء الثالث ولم أستطع معرفة مكانها من الكتاب.
... ثالثًا: قوله - رضي الله عنه - إن صحَّ عنه فليس ذلك ما يدل على أنَّه أعلم الصحابة جميعًا وإنَّما هو أعلم من بقي منهم في عصره ولا شكَّ في ذلك أنَّه أعلم من كان في عصر خلافته.
... رابعًا: أنتم تزعمون أنًَّ علم الأئمة يتوارث وأنَّ الإمام يعلم ما كان وما يكون وتزعمون أنَّ هناك أئمة بعد عليّ ورثوا علمه فإن كانوا يعلمون ما يحتاجه الناس بعد موت عليّ فالحديث كاذب وإن كانوا لا يعلمون فلا يتحقق بوجودهم كفاية للأمَّة فلا فائدة بإمامتهم!!!
__________
(1) المستدرك/2/353/
(2) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل/2/646/(108/254)
... وإن كانت الإمامة المزعومة لم يتحقق بها فائدة في الحقيقة كما نعتقد لكن على مذهبكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 141) قلتم: (ورابعًا: كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس فيها أبو حسن(1) وقال: لولا عليّ لهلك عمر(2).
... أولاً: الأثر رواه ابن سعد وفي سنده: "مؤمل بن إسماعيل" قال ابن حجر: (وثقه ابن معين وقال البخاري: (منكر الحديث))(3).
... ثانيًا: قد ورد مثلها عن ابن عباس رضي الله عنهما عن ابنه عبيدالله قال: (كان عمر بن الخطاب إذا جاءته الأقضية المعضلة يقول لابن عباس: يا أبا العباس قد طرأت علينا أقضية عضل وأنت لها ولأمثالها ثمَّ يأخذ برأيه) وفيه: (وما كان يدعو لذلك أحدًا سواه إذا كانت العضل)(4).
... ثالثًا: إن صحت الرواية فإنَّها تدل على شدة خوف عُمر - رضي الله عنه - من الله - عز وجل - أن يحكم في قضية لم يتضح له الحكم الشرعي فيها فهل مثل هذا يمكن أن يتجرأ على خيانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في: "الوصية"؟! من كان لا يحكم في قضية لم يتضح له فيها الحكم ويعترف بذلك فيدعو لها من يثق فيه لا يظن به أن يقدم على منع حق شرعه الله - عز وجل -.
... رابعًا: دعاؤه عليًّا للقضية أليس إقرارًا لفضله فكيف ينازعه الخلافة أمام الناس ثمَّ يدعوه ليحكم في قضية من قضايا جزئية في الدين؟!
... خامسًا: هذا يدل على أنَّه لم يكن بينهما إلاَّ الود وأنَّهما أخوان يكمل بعضهما الآخر.
... سادسًا: لِمَ لم يقل عليّ: تمنعني من الإمامة وتغتصبها ثمَّ تستفتيني في قضية جزئية لو كان هناك وصية؟!
... سابعًا: كيف يُعِين عليّ - رضي الله عنه - الإمامَ المغتصبَ ويشاركه في الفتوى وهو حاكم ظالم_حسب زعمكم_ وأحكامه لا تنفذ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) تهذيب التهذيب/7/337/الطبقات الكبرى/2/339/
(2) تأويل مختلف الحديث/1/162/
(3) لسان الميزان/7/472/
(4) فضائل الصحابة/2/973/(108/255)
... 142) قلتم: (وخامسًا: قال النووي: وسؤال كبار الصحابة ورجوعهم إلى فتاويه وأقواله في المواطن كثيرة والمسائل المعضلات مشهور)(1).
... الجواب:
... قال ابن تيمية رحمه الله: (إنَّ أعلم الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبو بكر ثمَّ عمر وقد ذكر غير واحد الإجماع على أنَّ أبا بكر أعلم الصحابة كلهم ودلائل ذلك مبسوطة في موضعها.
... فإنَّه لم يكن أحد يقضي ويُفتي بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ أبو بكر - رضي الله عنه -.
... ولم يشتبه على الناس شيء في أمر دينهم إلاَّ فصَّله أبو بكر.
... فإنَّهم شكُّوا في موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينه أبو بكر.
... ثمَّ شكُّوا في مدفنه فبينه.
... ثمَّ شكُّوا في قتال مانعي الزكاة فبينه.
... وبين لهم النص في قوله تعالى: (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين).
... وبين لهم أنَّ عبدًا خيَّره الله بين الدنيا والآخرة ونحو ذلك وفسر الكلالة فلم يختلفوا فيه.
... وكان علي وغيره يروون عن أبي بكر كما في السنن عن عليّ قال: (كنت إذا سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه فإذا حدَّثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدَّقته وحدَّثني أبو بكر _ وصدق أبو بكر _ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مسلم يُذنب ذنبًا ثمَّ يتوضأ ويُصلِّي ركعتين يستغفر الله تعالى إلاَّ غُفِر له)(2).
... ولم يحفظ لأبي بكر فُتيا تُخالف نصًا وقد وجد لعمر وعليّ وغيرهما فتاوى كثيرة تخالف النصوص حتى جمع الشافعي مجلدًا في خلاف عليٍ وابن مسعود وجمع محمد بن نصر المروزي كتابًا كبيرًا في ذلك..)
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات
(2) رواه أبو داود/2/114/والترمذي/4/296/وابن ماجه/1/446/وأحمد في المسند/1/153-154/وصححه أحمد شاكر(108/256)
... ـ وذكر من نقل الإجماع على أنَّ أبا بكر أعلم من عليّ وكيف أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستشيرهما في القضايا الكبيرة كما استشارهما في أسارى بدر ونحو ذلك..ـ ثمَّ قال:
... (وثبت عن ابن عباس أنَّه كان يُفتي بكتاب الله فإن لم يجد فبما في سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يجد أفتى بقول أبي بكر وعمر ولم يكن يفعل ذلك بعثمان ولا بِعليّ)(1).
... وقد أمَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر على الحج وأرسل عليًّا بعده بسورة "براءة" لنقض الميثاق مع كفار قريش وكان عليّ - رضي الله عنه - تحت إمرة الصدِّيق.
... فقد صحَّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: (بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر نؤذن بمنى ألاَّ يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) قال حميد بن عبدالرحمن ثمَّ أردف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا فأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ في أهل منى يوم النحر..)(2).
... ثمَّ إنَّ أبا بكر صلَّى بالناس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمر وعثمان وعليّ وغيرهم من كبار الصحابة موجودون فدلَّ على أنَّه أعلم الصحابة فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان ليأمر الأقل علمًا وفضلاً أن يؤم من هو أفضل منه.
... وغير هذا كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 143) قلتم: (وسادسًا: ما ذكروا من جهل الأصحاب وكبارهم بالأحكام ورجوعهم إلى غيرهم وعدم رجوع عليّ إلى أحد من القوم كما قال ابن حزم: "ووجدناهم - رضي الله عنهم - يُقرُّون ويعترفون بأنَّهم لم يبلغهم كثير من السنن..)(3) ثمَّ ذكرتم نماذج من جهل بعض الصحابة ببعض السنن.
... الجواب من وجوه:
__________
(1) منهاج السنة/7/500-512/
(2) رواه البخاري/ح/1602/
(3) الأحكام/2/142-145/(108/257)
... أولاً: تقدم بيان تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه - ليُصلِّي بالناس فإذا ارتضاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخلفه في أعظم مقام دلَّ على أنَّه أعلم الصحابة وأحبهم إليه إلاَّ إذا قلتم إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك تقية!!
... ثانيًا: نقلت عن ابن حزم أنَّه ذكر أنَّ الصحابة ما منهم من أحد إلاَّ جهل بعض السنن أو الأحكام.. وزعمت أنَّ عليًّا لم يرجع إلى أحد من القوم..
... ولا أدري هل تعمدت الخطأ أم غفلت عنه فإنَّ ابن حزم ذكر أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - مثله كمثل بقية الصحابة.
... قال ابن حزم: (وهذا عليّ رضوان الله عليه يعترف بأنَّ كثيرًا من الصحابة يُحدثونه بما ليس عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنَّه كان يستحلفهم على ذلك حاشا أبا بكر فإنَّه كان لا يستحلفه...)(1).
... فابن حزم يُقرِّر أنَّ جميع الصحابة بلا استثناء ليس فيهم من حفظ جميع السنَّة.
بل قال رحمه الله ما هو أوضح من ذلك في: "الفِصَل" وهو يرد على الشيعة عندما قالوا: (إنَّ عليًّا كان أكثرهم علمًا) فقال: (كذب هذا القائل وإنَّما يُعرف علم الصحابي بأحد وجهين لا ثالث لهما: أحدهما كثرة روايته وفتاويه، والثاني كثرة استعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - له.
... فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا علم له وهذه أكبر شهادات على العلم وسعته.
__________
(1) الأحكام/1/153-154/وهكذا ترى أن الصفحة والجزء قد اختلفت فهي في المجلد الأول لا الثاني والصفحة مختلفة!!(108/258)
... فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ولَّى أبا بكر الصلاة بحضرته طوال علته وجميع أكابر الصحابة حضور كعليّ وعمر وابن مسعود وأُبيّ وغيرهم فآثره بذلك على جميعهم..)(1) ثمَّ استمر رحمه الله يدلل على جوابه هذا بسرد الأدلة النقلية والعقلية.
... فتبين بهذا أنَّ قول ابن حزم على خلاف ما قلتم!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 144) قلتم: (ومع الغض عن جميع ذلك فلا شك عند أهل العلم المنصفين بأنَّ عليّ بن أبي طالب أول من أسلم وتربَّى في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعاش تحت كنفه قبل البعثة واشتد ساعده في حضنه وظلَّ معه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى لم يُفارقه لا في حضر ولا في سفر وهو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين وشهد المشاهد كلها سوى تبوك.
... الجواب من وجوه:
__________
(1) الفصل/4/136-وقد روى أمره - صلى الله عليه وسلم - الصديق بالصلاة البخاري/ح/6/299في الأنبياء/ ومسلم/ح/420/(108/259)
... أولاً: لا شكَّ أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - هو مِن أول مَن أسلم، ولكنَّه ليس الأول بإطلاق وقد لخَّص ابن الصلاح رحمه الله الأقوال في ذلك فقال: (اختلف السلف في أولهم إسلامًا، فقيل: أبو بكر الصدِّيق، رُوي ذلك عن ابن عباس، وحسان بن ثابت، وإبراهيم النخعي، وغيرهم. وقيل: عليّ أول من أسلم، روي ذلك عن زيد بن أرقم، وأبي ذر، والمقداد، وغيرهم. وقال الحاكم أبو عبدالله: لا أعلم خلافًا بين أصحاب التواريخ أنَّ عليّ بن أبي طالب أولهم إسلامًا، واستُنكر هذا من الحاكم. وقيل: أول من أسلم زيد بن حارثة. وذكر معمر نحو ذلك عن الزهري. وقيل: أول من أسلم خديجة أم المؤمنين، روي ذلك من وجوه عن الزهري، وهو قول قتادة، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وجماعة. وروي أيضًا عن ابن عباس. وادعى الثعلبي المفسر فيما رويناه أو بلغنا عنه اتفاق العلماء على أنَّ أول من أسلم خديجة، وأنَّ اختلافهم إنَّما هو في أول من أسلم بعدها.
... والأورع أن يُقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان أو الأحداث عليّ، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال، والله أعلم)(1).
... ثانيًا: اختلفت الرواية في سِن علي - رضي الله عنه - يوم أسلم، قيل كان ابن عشر سنين، وقيل خمس أو ست عشرة سنة، وورد عن ابن عباس أنَّ عُمْرَ عليٍّ يوم بدر كان عشرين سنة، قال الذهبي بعده: (هذا نص في أنَّه أسلم وله أقل من عشر سنين بل نص في أنَّه أسلم وهو ابن سبع سنين أو ثمان وهو قول عروة)(2).
... إذن إسلام عليّ - رضي الله عنه - كان قبل سن التكليف.
... أمَّا إسلام أبي بكر - رضي الله عنه - فقد أسلم وهو ابن أربعين أو أكثر(3) فكان إسلامه في سن التكليف.
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح/269-270/
(2) هذه الأقوال أوردها الحاكم/3/111/وكذلك ابن سعد وزاد ابن تسع سنين/ الطبقات/3/21/
(3) طبقات ابن سعد/3/192-213/(108/260)
... والمتتبع للسيرة النبوية يرى أنَّ إسلام أبي بكر كان أكثر نفعًا للإسلام والمسلمين من إسلام عليّ رضي الله عنهما وكلاهما نفع الله بهما الإسلام والمسلمين لكن الصدِّيق أكثر.
... قال - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ أمَن الناس عَلَيَّ في صُحبته وماله أبا بكر)(1).
... وقد كان مجاهدًا بلسانه ويده وهو أول من دعا إلى الله ـ كما سيأتي ـ وأول من أُوذي في الله بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأول من دافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2) وهو الوحيد المشارك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هجرته.
... وكانت قريش تعظمه وتعظم عمر رضي الله عنهما وتعرف مكانهما وجهادهما ولم يسأل أبو سفيان يوم أُحد إلاَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعن عمر(3) وذلك لعلمهم بمكانتهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
... وقد اشترى أبو بكر بِلالاً فأعتقه(4) وأعتق معه ستة أشخاص(5).
... قال ابن كثير: (وأول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر الصدِّيق وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدَّم ذكرهم إذ كان صدرًا معظمًا ورئيسًا في قريش مُكرمًا وصاحب مال وداعية إلى الإسلام وكان محببًا متألفًا يبذل المال في طاعة الله ورسوله)(6).
... أمَّا عليّ - رضي الله عنه - فقد كان صغيرًا عند إسلامه ولم يكن له أي دور ظاهر في مكة ما عدا نومه في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الهجرة ولا شكَّ أنَّه دور عظيم لكن لم يُذكر له عمل آخر.
... ثمَّ لم يكن له مال ينصر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان فقيرًا - رضي الله عنه -.
__________
(1) رواه البخاري/7/10/ومسلم/ح/2382/
(2) رواه البخاري/ح/3678/
(3) رواه البخاري/ح/4043/
(4) رواه البخاري/7/99/
(5) مصنف ابن أبي شيبة/12/10/والحاكم/3/284/وصححه ووافقه الذهبي
(6) البداية/3/26/(108/261)
... وبهذا يظهر أنَّ المرحلة المكية كان فيها فضل الصدِّيق على الإسلام والمسلمين واضحًا.
... قال ابن كثير إنَّ عليًّا - رضي الله عنه -: (صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدة مقامه بمكة وكان عنده في المنزل وفي كفالته في حياة أبيه لفقر حصل لأبيه)(1).
... وأمَّا أبو بكر - رضي الله عنه - فقد كان شيخًا كبيرًا له مكانته في قومه ممَّا مكَّنه من خدمة الإسلام.
... وروى ابن كثير عن محمد بن إسحاق أنَّه قال: (فلمَّا أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه دعا إلى الله - عز وجل - وكان أبو بكر رجلاً مألفًا لقومه محبًا سهلاً وكان أنسب [قريش] لقريش وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر.
... وكان رجلاً تاجرًا ذا خلق ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته وحُسن مجالسته.
... فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممَّن يغشاه ويجلس إليه فأسلم على يديه فيما بلغني:
... الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عُبيدالله، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن وف - رضي الله عنهم - فانطلقوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعهم أبو بكر فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن وأنبأهم بحق الإسلام فآمنوا، وكان هؤلاء الثمانية الذين سبقوا في الإسلام صدقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا بما جاء من عند الله)(2).
... وبعد الهجرة كان سبق أبي بكر - رضي الله عنه - واتصاله برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقربه منه ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له وتقريبه إيَّاه ما لا يُنكر.
... ثمَّ قام بالخلافة من بعده فأطاعه المسلمون وسلَّموا له الأمر ولم يكن أحد يجرؤ على مخالفته احترامًا وتعظيمًا، ففتح الأرض ونشر الدين.
__________
(1) البداية/7/335/
(2) البداية/3/29/(108/262)
... أمَّا علي - رضي الله عنه - فقد اختلفت عليه الأمَّة ولم تتفق عليه، بل حتَّى الذين كانوا معه لم يُطيعوه كما ينبغي وكان ذلك سببًا لتوقف الجهاد في سبيل الله وارتداد القتال بين المسلمين بعدما كان بين المسلمين والكفار.
... ولا شكَّ أنَّه لا ذنب لعليّ - رضي الله عنه - وقد كان هو الأقرب إلى الحق، بل هو كان على الحق لكن الكلام في بيان ما تحقق على يد كل واحد من هذين الإمامين رضي الله عنهما وأرضاهما.
... وبذلك يظهر جانب من جوانب فضل أبي بكر على عليّ وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - جميعًا.
... ثالثًا: وأمَّا قولكم: (شهد المشاهد كلها سوى تبوك) فهو حق والصدِّيق - رضي الله عنه - شاركه في كل ذلك وزاد بشهوده غزوة تبوك فقد تساويا في المشاهد ولكن الصدِّيق - رضي الله عنه - كان الأقرب في تلك المشاهد.
... فقبْل معركة بدر استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس فأول من تكلَّم هو أبو بكر - رضي الله عنه -، ثمَّ عمر ولم يقُم عليّ - رضي الله عنه - فدلَّ على أنَّ أبا بكر هو الأقرب منهما.
... حديث الاستشارة رواه الإمام أحمد(1) وقال ابن كثير: (وهذا إسناد ثلاثي صحيح)(2).
... وفي أثناء المعركة كان أبو بكر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في العريش وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو الله - عز وجل - حتَّى سقط رداؤه فلم يقترب منه إلاَّ الصدِّيق فأعاد رداءه والتزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنَّه سيُنجز لك ما وعدك)(3).
... وبعد المعركة استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأسارى أبا بكر وعمر ولم يستشر غيرهما(4).
... وهذا نموذج من قربه - رضي الله عنه - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من عليّ، وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقرب ويستشير إلاَّ من يعلم كفاءته وفضله.
__________
(1) المسند/4/26/
(2) البداية/3/263/
(3) صحيح مسلم/ح/1763/
(4) صحيح مسلم/ح/1763/(108/263)
... ونحن نستدل على ما نقول من كتب الصحاح أو بما صحَّ من المصادر الأصلية لا نلجأ إلى كتب التواريخ وكتب الأدب وأمثالها ممَّا لم يصح مع أنَّها مملوءة بعشرات ومئات الفضائل ولكنَّها لا تصح ولا نستبيح أن نستدل بها لأنَّا لا نرضى بالاستدلال بالضعيف لا لنا ولا علينا.
... فشهود المشاهد من علي - رضي الله عنه - حق لكن من كان الأقرب في تلك المشاهد والذي كان يُستشار ويُؤخذ رأيه؟! عليّ أم أبو بكر؟ رضي الله عنهما جميعًا وما كان لنا والله أن نعرض هذه المقارنة لولا ما ابتلي به - رضي الله عنه - من غلو ودعاوى باطلة بأدلة ضعيفة أو موضوعة أدت إلى انتقاص إخوانه من الصحابة - رضي الله عنهم - جميعًا!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 145) قلتم: (ولو كان عليّ قد حفظ كل يوم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الفطن اللبيب الذكي الحافظ حديثًا واحدًا وقد مضى معه رشيدًا أكثر من ثلث قرن لبلغ ما كان يجب أن يروي أكثر من اثني عشر ألف حديث) ثمَّ أوردتم كلام أبي رية بمعنى كلامك.
... قلت الجواب من وجوه:
... أولاً: لا شكَّ أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - كان من خيار الصحابة ولكن لم ينقل لنا ما يدل على درجات الصحابة في الذكاء والحفظ وهذه دعوى تحتاج إلى دليل وكل أحد يستطيع أن يدعي في من يحب أو يكره دعاوى لكن العبرة بدليل يثبت الدعوى.
... ثانيًا: فضل الصحابي على غيره قد تثبت بقوة إيمانه ونصحه للدين أكثر ممَّا تثبت بقوته في الحفظ وليس الحفظ شرطًا في الفضل والدين.
... ثالثًا: قد شارك عليًّا - رضي الله عنه - في السبق إلى الإسلام فضلاء الصحابة وقد لا يكون بينه وبينهم إلاَّ أشهر أو سنة أو سنتان ولم يصل ما رووه إلى ما رواه عليّ - رضي الله عنه - وهم من العشرة المبشرين بالجنَّة.
... وفي هذا بيان ما يدل على ذلك من خلال الكتب الستة:
... عثمان بن عفان ... ... (72) حديثًا(108/264)
... الزبير بن العوام ... ... (31) حديثًا
... سعد بن أبي وقاص ... (121) حديثًا
... بِلال ... ... ... (20) حديثًا
... زيد بن أرقم ... ... (138) حديثًا
... والذي روي لعليّ بن أبي طالب في الكتب الستة (332) حديثًا.
... فما هو السبب يا تُرى؟! هل تعمَّد علماء السنَّة كذلك حذف روايات هؤلاء؟! وهل يستطيع شخص أن يحول بين عليّ - رضي الله عنه - وبين من يروي عنه؟!
... رابعًا: هناك احتمالان لقلة ما روي عن هؤلاء:
أن يكون هؤلاء الصحابة لم يكونوا ينشطون للرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أو أن يكونوا رووا ولكن أهل السنَّة تعمَّدوا حذف مروياتهم.
فلو أخذنا الاحتمال الثاني لننظر هل له حظ من النظر أم لا؟
عليّ - رضي الله عنه - كان له مُحبُّون بالآلاف وقد تفرَّقوا في البلدان في المدينة والحجاز ومصر والعراق وما وراء النهر وهؤلاء الذين سمعوه هل يمكن لهؤلاء جميعًا أن يخفوا هذه الروايات؟! إنَّ من يزعم هذا يكون مُعرِّضًا نفسه للاستهجان لأنَّه قول يدل على نقص العقل أو تعمد المغالطة إلاَّ إذا قلتم: إنَّ عليًّا كان مكروهًا من جميع الصحابة: المهاجرين والأنصار وجميع قبائل العرب وهذا نعوذ بالله قول في غاية الفساد فإنَّ أخبث مخلوق خلقه الله - عز وجل - هو: "إبليس" ولا يخلو مجتمع ممن يحب إبليس فكيف يعتقد أنَّ عليًّا تواطأ على بغضه جميع من كان في عصره؟!!!
نعوذ بالله من الحب الذي يشين ولا يزين.
خامسًا: أليست هذه روايات في فضائله رواها غيره من الصحابة وقد تناقلها المسلمون جيلاً بعد جيل وكانت تُذكَر أمام أخصام عليّ ولم يستطع أن يمنعها أو أن ينكرها أو يعاقب راويها وقد مرَّ معنا حديث سعد بن أبي وقاص في فضائل عليّ أنّه ذكرها أمام معاوية ردًا عليه في سؤاله سعدًا عن عدم سبِّه لعليّ - رضي الله عنه -؟!
فسعد روى الحديث.
ومعاوية سمع
ومسلم روى
وهذا من أقوى الأحاديث في مدح عليّ - رضي الله عنه -!(108/265)
وهذا دليل على أنَّ سعدًا كان يحب عليًّا!
وأنَّ معاوية لم يكن يمنع رواية فضائله أو أحاديثه!
وأنَّ علماء السنَّة لا يخفون شيئًا من أحاديثه أو فضائله!
وهذا يبين بطلان احتمال حذف شيء من رواياته أو فضائله.
سادسًا: إنَّنا بين أمرين:
... إمَّا أن نثق في الصحابة ورواة أهل السنَّة.
... وإمَّا أن لا نثق فيهم.
فإن وثقنا فيهم لَزِمَنا أن نُصدِّق مروياتهم.
وإن لم نثق فيهم بَطُل الاقتناع بما رووه.
وإذا بَطُلت قناعتنا بمروياتهم لم نتمكن من معرفة شيء من الدين لا من عقائده ولا من شعائره ولا من إثبات إيمانهم بأسمائهم إذ لا نأمن أنَّهم قد دسوا أحاديث ومدحوا بعضهم وحذفوا أحاديث تدل على نفاقهم؟!
نستغفر الله من هذا المذهب الرديء الذي ينتهي إلى إبطال الدين والعياذ بالله.
وبهذا يتبين أنَّ عقيدة الشيعة من أسهل الوسائل لإبطال الدين ولهذا كانت الباب المناسب الذي يدخله كل من أراد هدم الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 146) قلتم: (مع الغض عن جميع ذلك فلا شكَّ عند أهل العلم المنصفين كأبي رية قال: أول من أسلم وتربَّى في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم -...) إلى آخر ما ذكر بمعنى كلامكم السابق.
... قلت: الرد من وجوه:
... أولاً: تقدم ما يكفي في بيان المسألة.
... ثانيًا: سمَّيتم أبا رية: "منصفًا" ولا أدري ما هو إنصافه؟! هل المراد به خروجه على عقيدة الأمَّة وكان أكثر مصادره التي اعتمد عليها هي مؤلفات غير المسلمين ومنها: "كتب جرجي زيدان النصراني، ودائرة المعارف الإسلامية للمستشرقين، والعقيدة والشريعة لجولد زيهر.. ونحوها"(1).
... فكيف يكون هذا منصفًا؟! أم أنَّ كل من أيَّد مُعتقد الشيعة يكون منصفًا ولو كان مُنحرفًا عن الحق ضالاً؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) السنة ومكانتها في التشريع/19-20/(108/266)
... 147) قلتم: (قلتم: إنَّ أهل السنَّة يعتقدون أنَّ الإمامة أمر اصطلاحي شوري للأمَّة أن تختار من تراه أهلاً لذلك ليحكمها بالقرآن والسنَّة ولا حرج في الاختلاف في الفهم) ثمَّ أخذت ترد على هذا القول وأوردت أقوالاً للعلماء في الخلافة وهي لا تخرج عن أحد قولين:
أنَّ الإمامة لا تنعقد إلاَّ بجمهور أهل الحل والعقد.
إن عقدها واحد من أهل الحل والعقد جاز.
ثمَّ قلتم: (هل هؤلاء من أهل السنَّة؟!: "فاعتبروا يا أولي الأبصار".
الجواب من وجوه:
أولاً: لا أدري ما مُرادك بالإنكار؟!
هل هذه الأقوال تختلف مع قولي؟!
فقد قلتُ: إنَّ "الإمامة أمر اصطلاحي شوري للأمَّة أن تختار".
وهذه الأقوال مؤكدة لما قلت.
فإنَّه إذا بايع أهل الحل والعقد فلم ينكر عليهم وكان الإمام له شوكة يستطيع بها أن يحقق البيعة جازت ولم يقل أحد من علماء الأمَّة إنَّ البيعة تمضي لمن لا شوكة له.
فإنَّ الإمامة مسؤولية فإذا كان الإمام لا شوكة له فكيف يسمَّى إمامًا؟!
قال ابن تيمية: (بل الإمامة عندهم ـ أي أهل السنَّة ـ تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها ولا يصير الرجل إمامًا حتى يوافقه أهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة فإنَّ المقصود من الإمامة إنَّما يحصل بالقدرة والسلطان)(1).
ثانيًا: قولي المذكور هو في مقابلة قول الشيعة الذين يزعمون أنَّ الإمامة بالنص وليس مرادي أنَّ الأمَّة بكاملها يجب أن تجتمع في مكان واحد لتنتخب إمامًا ولم يقل بهذا أحد من علماء السنَّة.
ولكن أهل السنَّة أو غالبية أهل السنَّة يقولون بأنَّ الإمامة أمر شوري اصطلاحي ثمَّ يختلفون في من تنعقد بهم الإمامة وهل يجوز للإمام أن يستنيب أم لا؟ ونحو ذلك من الاختلافات ولكنَّه لا يوجد فيهم شخص واحد يزعم أنَّ الإمامة من الله - عز وجل -.
ولكن بعضهم قد ذهب إلى أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نصَّ على إمامة الصدِّيق والأدلة الصحيحة ترجحه.
__________
(1) مختصر منهاج السنة/1/69/(108/267)
ثالثًا: النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد شخصًا بعينه وإن كان أشار إلى الصدِّيق بأكثر من إشارة أهمها أمره بالصلاة بالمسلمين في عهده وصلَّى الجميع خلفه وهذا من أعظم الأدلة على تعيينه للخلافة لكنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم ينص، فترك الأمر شورى ولعلَّه تيقن عليه الصلاة والسلام أنَّهم لا يعدلون عن الصدِّيق لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه الوحي.
أمَّا أبو بكر - رضي الله عنه - فقد خشي أن تفترق الأمَّة ولا يعلم الغيب فرأى أنَّ مصلحة الأمَّة في التعيين وكان يعلم أنَّ خير الأمَّة وأفضلها وأحق بالخلافة بعده عُمر فعيَّنه.
وأمَّا عمر - رضي الله عنه - فرأى أنَّ الستة كلهم أهل للخلافة فجعل الخلافة فيهم.
والأصل في الخلافة أنَّها شورى، والصور الأخرى جائزة وهي لا تثبت إلاَّ بموافقة أهل الحل والعقد فرجع الأمر إلى الشورى إذ لو لم يقر أهل الحل والعقد ذلك الاختيار لما نفذ والله أعلم.
... 148) قلتم: (وثانيًا: لو كانت الإمامة أمرًا شوريًا للأمَّة أن تختار من تراه أهلاً، لماذا لم يفعل بذلك أبو بكر ولم يفوض الأمر إلى الأمَّة بل عيَّن عمر بن الخطاب، مع ما ورد من اعتراض الصحابة عليه كما روى ابن أبي شيبة أنَّ أبا بكر حين حضره الموت أرسل إلى عمر يستخلفه فقال الناس: تستخلف علينا فظًا غليظًا ولو كان قد ولينا كان أفظ وأغلظ فما تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر ؟ قال أبو بكر: أَبِرَبِّي تخوفونني؟ أقول: اللهم استخلفت عليهم خير خلقك، ثم أرسل إلى عمر فقال: إنِّي أوصيك بوصية .... الحديث(1)) .
... الجواب من وجوه:
__________
(1) المصنف/8/574/(108/268)
... أولاً: أبو بكر - رضي الله عنه - هو أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منَّا فقد مرَّ معنا أنَّه كان أقرب الصحابة إليه - صلى الله عليه وسلم - وأعلم به وبدينه وقد علم أنَّ الأمر فيه سعة وأنَّ الاستخلاف ممَّا يجوز ولم يرد فيه منع وأقرَّه الصحابة من حيث الأصل ـ أي لم ينكر على أصل الاستخلاف أحد وهذا يُسمَّى: " إجماعًا ".
... ثانيًا: زعمك بأنَّ بعض الصحابة اعترض فليس شرطًا أن يرضى جميع أفراد المجتمع، إذا رضي أهل الحل والعقد الذين يصير الإمام بهم إمامًا فإنَّ عليًا - رضي الله عنه - لم يرضَ بإمامته أضعاف أضعاف من لم يرض بإمامة عمر ولم ينقض ذلك إمامته عند أهل السنَّة.
... ثالثًا: قد روى ابن أبي شيبة وابن عساكر رواية ـ عند الأول ـ وروايات عند الثاني تدل على رضى علي - رضي الله عنه - بولاية عمر ولو كان رضى الجميع شرطًا لكان هذا طعنًا في قبول علي إمامة عمر.
... فقد روى ابن أبي شيبة بسنده أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - لمَّا ثقل اطلع رأسه إلى الناس من كوة فقال: يا أيها الناس إنِّي قد عهدت عهدًا أفترضون ؟ فقام الناس فقالوا: قد رضينا فقام علي فقال: لا نرضى إلاَّ أن يكون عمر بن الخطاب فكان عمر)(1).
... رابعًا: قد أصبح عمل أبي بكر - رضي الله عنه - هذا عند المسلمين أحد الطرق الجائزة إذا خشي الإمام فتنة أو اختلافًا جاز له أن يستخلف.
... قال الماوردي: (والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما: باختيار أهل الحل والعقد والثاني: بعهد الإمام من قبل)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) المصنف/ح/32020/ورواه ابن عساكر/47/35/وذكر غيرها كذلك
(2) الأحكام السلطانية/33/(108/269)
... 149) قلتم: (وهكذا قال الإمام محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي المتوفي 763هـ :لما استخلف أبو بكر عمر رضي الله عنهما قال لمعيقيب الدوسي: مايقول الناس في استخلاف عمر؟ قال: كرهه قوم ورضيه آخرون. قال الذين كرهوه أكثر أم الذين رضوه؟ قال: بل الذين كرهوه..(1)
... فمع علمه بأنَّ أكثرية الشعب كانت ناقمة عليه في هذا الأمر فكيف فرضه عليهم ولم يمنحهم الحرية في انتخاب من شاءوا لرئاسة الحكم وكان الأجدر به أن يستجيب لعواطف الأكثرية الساحقة من المسلمين فلا يولي عليهم أحدًا إلاَّ بعد أخذ رضاهم واتفاق الكلمة عليه أو يستشير أهل الحل والعقد عملاً بقاعدة الشورى).
... قلت الجواب من وجوه:
... أولا: ابن مفلح عاش في القرن الثامن فأين المصدر وأين السند؟!
... نحن لانقبل أي أثر بدون سند و إذا ورد له سند لابد من صحته فكيف وهذا أثر لا سند له ولا يُدرى من أين نُقل؟!
... ثانيًا: إنَّ الصدِّيق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أعلم الناس بدين الله - عز وجل - و به يُقتدى في العمل بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد زكاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عشرات الأحاديث وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يُعظِّمونه ويُحبُّونه.
... ثالثًا: قد ورد آثار تُؤكد أنَّه استشار - رضي الله عنه - في توليته لعُمر.
... فقد روى ابن سعد و الطبري وغيرهما بأسانيد عدة: (أنَّ أبا بكر الصدِّيق لمَّا استُعز به دعا عبدالرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: ما تسألني عن أمر إلاَّ وأنت أعلم به منِّي؟ فقال أبو بكر: وإنْ. فقال عبدالرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه.
... ثمَّ دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عُمر. فقال: أنت أخبَرنا به. فقال: على ذلك يا أبا عبدلله. فقال عثمان: اللهم علمي به أنَّ سريرته خير من علانيته وأنَّه ليس فينا مثله.
__________
(1) الآداب الشرعية/1/71/(108/270)
... فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عدوتك.
... وشاور سعيد بن زيد أبا الأعور وأُسيد بن حضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار.
... فقال أُسيد: اللهم الخيرة بعدك يرضى للرضى ويسخط للسخط الذي يُسِرُ خير من الذي يُعلِن ولم يلِ هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.
... وسمع بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بدخول عبدالرحمن وعثمان على أبي بكر وخلوتهما به فدخلوا على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربِّك إذا سألك عن استخلافك عُمر علينا وقد ترى غلظته؟
... فقال أبو بكر: أجلسوني أبِالله تخوفوني؟ خاب من تزوَّد من أمركم بظلم.
... أقول: اللهم استخلفتُ عليهم خير أهلك.
... أبلغ عني ما قلتُ لك مَن وراءك..
... وفي آخر الأثر قال الراوي: (فأقرُّوا بذلك جميعًا ورضوا به وبايعوا).
... ثمَّ دعا أبو بكر عُمر خاليًا فأوصاه بما أوصاه ثمَّ خرج من عنده فرفع أبو بكر يديه مدا فقال: اللهم إنِّي لم أرد بذلك إلاَّ إصلاحهم وخفتُ عليهم الفتنة فعملتُ بما أنت أعلم به واجتهدت لهم رأي..) ثمًَّ دعا له بالصلاح والتوفيق(1).
... إذن دعوى عدم المشورة غير صحيحة.
... رابعًا: قلتم: (أكثرية الشعب كانت ناقمة عليه في هذا الأمر فكيف فرضه عليهم؟!).
... تَبيَّن قبل خلاف هذا.
... ثمَّ لماذا يا تُرى الأكثرية غير راضية ثمَّ أطاعوه ولم يطيعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ حسب زعمكم ـ في تولية علي بن أبي طالب؟!!! ...
... أكان الناس يُعظمون أبا بكر ويُجلُّونه ويطيعون أمره وهو من أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يُطيعون الرسول الذي هو سبب هدايتهم وإسلامهم وطاعته فرض عليهم؟!
__________
(1) طبقات ابن سعد/3/199/وروى الطبري إلى نهاية مشورة عثمان/3/428/(108/271)
... أليس هذا دليلاً على أنَّه ليس هناك أمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! إذ لو كان لأطاعوه أشد من طاعتهم لأبي بكر خاصة وأنَّ عليًّا ليس كعُمر في شدته؟!
... ثمَّ أيُعقَل أنَّ الأكثرية غير راضين ولم يتحركوا لمنع ما لا يرضون؟!
... خامسًا: هؤلاء الذين أنكروا على أبي بكر أيُعقَل أن ينكروا عليه توليته لعُمر وهم يعلمون أنَّ عليًّا هو الولي ولا يتكلمون بذلك ولا ينادون بإعطاء عليّ حقه ليَسلموا على أقل تقدير من عُمر كما يزعمون؟!
... أليس في هذا دليل على أنَّه ليس عند القوم علم ولا أثر بهذه الدعاوى التي تولَّدت بعد في عليّ - رضي الله عنه -؟!
... بلى والله؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 150) قلتم: (ولماذا حصرها عمر في ستة وجعل شروطًا ينتهي الأمر إلى عثمان؟ وهل يُطلق عليه شورى الأمَّة؟).
... قلت الجواب من وجوه:
... أولاً: تقدَّم أنَّه لا يوجد نص ينهى عن الاستخلاف أو يأمر به، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما هما أعلم الصحابة بدين الله - عز وجل - ولو لم يعتقد صحته ما فعله ثم لارتفع الإنكار من بقية الصحابة، فهُم ممَّن لا تأخذهم في الله لومة لائم قد جرَّدوا سيوفهم لنُصرة دين الله - عز وجل - وقت الذلة والخوف أفيجبنون وقت الأمن والقوة؟!
... ثانيًا: إنَّ صنيع عمر - رضي الله عنه - من أعظم الأعمال النافعة وهو المحدَّثُ الملهم وقد وَكَّل الأمر إليهم لأنَّهم أفضل مَن بقي من العشرة المبشرين بالجنَّة وإن كان بعضهم أولى من بعض.
... لكن ربَّما لو لم يجعلها فيهم ورشَّح واحدًا منهم ربَّما لا يُطاع، فرأى أن يجعلها في الستة وهم لا شكَّ أعلم بأنفسهم من غيرهم.(108/272)
... ثالثًا: لو كان هناك أدنى شبهة في أنَّ عليًّا وصي من الله - عز وجل - لارتفع بذلك صوت بعض الصحابة أو صوت عليّ - رضي الله عنه - ولما رضي أن يدخل مع غيره في المفاضلة ولقال: كفاكم اغتصاب حقي مدة ثلاث عشرة سنة والآن تريدون أن تنزعوها منِّي، لا أدخل في هذه الشورى!
... لكنَّه لم يقل ورضي في الدخول مع إخوانه، فدلَّ على أنَّه ليس لديه ولا لدى غيره علم بهذه الدعاوى الحادثة في شأن الوصية.
... رابعًا: قولك: (وجعل شروطًا ينتهي الأمر إلى عثمان لا غيره)
... قلت: الجواب من وجوه:
... أولاً: هذه دعوى غريبة تدل على عدم التثبت.
... ثانيًا: من أين عرفت هذه الشروط؟! وفي أي كتاب؟! أنَّ عُمر وضعها لينتهي الأمر إلى عثمان وأنت قد قدمت في أول رسالتك كلامًا تنادي فيه بالتحقق؟!
... فهذه هي وصية عمر - رضي الله عنه - في أصح الكتب بعد كتاب الله - عز وجل -.
... (فقد روى البخاري قصة قتل عُمر عن عمرو بن ميمون وكيف قُتِل وما كان عليه من الدين واستئذانه أن يُدفن مع صاحبيه: النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، ثمَّ قال الراوي: (واستأذن الرجال..فقالوا: أوصِ يا أمير المؤمنين؟ استخلف. قال: "ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر ـ أو الرهط ـ الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ فسمَّى: عليًّا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدًا، وعبدالرحمن بن عوف. وقال: يشهدكم عبدالله بن عمر وليس له من الأمر شيء ـ كهيئة التعزية له ـ فإن أصابت الإمرة سعدًا فهو ذاك وإلاَّ فليستعن به أيُّكم ما أُمِّر فإنِّي لم أعزله عن عجز ولا خيانة.
... وقال: أُوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين..)ثمَّ أوصى بالمهاجرين والأنصار وغيرهم والوفاء بذمة الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -)(1).
... فأين الشروط يا سعادة الأستاذ؟!
... أليس هذا قولاً بلا دليل؟!
__________
(1) صحيح البخاري/ح/3700/(108/273)
... ثالثًا: إنَّ الشورى المقصود بها: الشورى بين أهل الحل والعقد وهؤلاء هم أفضل من بَقي بعد عُمر - رضي الله عنه - وليس القصد بالشورى جميع الناس، فهذا لا يتحقق أبدًا فإذا تحملها عِلية القوم كفوا من سواهم.
... رابعًا: لو أراد عمر - رضي الله عنه - أن ينتهى الأمر إلى عثمان مالذي يمنعه أن يعينه باسمه مباشرة، ولو فعل لما اختلف فيه اثنان كما حدث في استخلاف أبي بكر - رضي الله عنه - لعُمر - رضي الله عنه -، فلمَّا عدل عن ذلك عرفنا أنَّه لا غرض له في أحدهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 151) قلتم: (وثالثًا: قولكم بأنَّ أهل السنَّة يعتقدون أنَّ الإمامة أمر اصطلاحي شوري للأمَّة) مخالف لما روى مسلم وغيره عن حفصة بأنَّها قالت لابن عمر: أَعلِمت أنَّ أباك غير مُستخلف؟.. إلى أن دخل على أبيه وقال: إنِّي سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك: زعموا أنَّك غير مستخلف وأنَّه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثمَّ جاءك وتركها رأيت أن قد ضيَّع فرعاية الناس أشد)(1).
... وهكذا ما أوردته عن الإمامة والسياسة بمعناه(2).
... الجواب:
... أولاً: هذا القول إذا وُضِع مقابل قول الشيعة كان المراد منه واضحًا ولكن لأهل السنَّة أقوال فيما بينهم لا علاقة للشيعة بها.
... فالشيعة تتحدَّث عن إمامة بالنص وقولي هذا للرد عليه.
... أمَّا أقوال السنَّة فيما بينهم فهذا له تفصيل آخر.
... ثانيًا: تكملة الحديث: (فوافقه قولي فوضع رأسه ثمَّ رفعه إليَّ فقال: إنَّ الله - عز وجل - يحفظ دينه وإنِّي لئن أستخلف فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف وإن استخلف فإنَّ أبا بكر قد استَخلف.
__________
(1) صحيح مسلم/6/5ر3/1823/
(2) الإمامة والسياسة 1/42/(108/274)
... قال فوالله ما هو إلاَّ أن ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر فعلمت أنَّه لم يكن ليعدل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا وأنَّه غير مُستخلَف)(1).
... أرأيت كيف أنَّ ابنه يشهد أنَّ أباه لم يكن ليعدل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا ثمَّ لم ينكر على أبي بكر - رضي الله عنه -؟!
... ثالثًا: أمَّا مذهب أهل السنَّة والجماعة فقد لخَّصه النووي فقال: (إنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له تركه.
... فإن تركه فقد اقتدى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا وإلاَّ فقد اقتدى بأبي بكر.
... وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف وعلى انعقادها لعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة.
... وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة كما فعل عُمر)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 152) قلتم: (ورابعًا: إذا كانت الإمامة شورى عند أهل السنَّة فماذا يقولون فيما ذكره ابن حبان وابن كثير وغيرهما بأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا ليس له نصيب في تعيين الإمامة بل هي بيد الله فقط.
... نقرأ معًا ما ذكر في هذه القضية.. ثمَّ أَتى أي النبي - صلى الله عليه وسلم - بني عامر بن صعصعة في منازلهم فدعاهم إلى الله فقال قائل منهم: إن اتبعناك وصدَّقناك فنصرك الله ثمَّ أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟
... فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء.
... فقالوا: أنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر في غيرنا؟!
... لا حاجة لنا في هذا من أمرك)(3).
... الجواب من وجوه:
__________
(1) رواه مسلم/ح/1823/
(2) شرح مسلم/12/446-447/
(3) الثقات لابن حبان/1/89/البداية/3/171/(108/275)
... أولاً: ابن حبان لم يذكر لهذه القصة سندًا وقد ذكرها ابن إسحاق في السيرة بسند منقطع(1).
... ثانيًا: أنتم تزعمون أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جمع بني عبدالمطلب قبل هذا التاريخ كما سيأتي قريبًا ـ أي قبل عرض نفسه صلوات الله وسلامه عليه على القبائل ـ وأنَّه قد عرض عليهم نُصرته وأن يكون الناصر خليفة من بعده وأنَّ عليًّا قد استعدَّ بذلك فأصبح خليفة من ذلك التاريخ وهذا يعني أحد أمرين:
أنَّ الخليفة قد تعيَّن ولا شكَّ أنَّ هذا ينتشر فكيف يطلبون أن يكون لهم أمر قد تعيَّن صاحبه؟!
لم يقل لهم إنَّ الخليفة قد تعيَّن من الله!! فأحد الأمرين عندكم كاذب ـ وعندنا كلاهما ـ.
ثمَّ ما عرضه على بني عبدالمطلب قد استعدَّ به هؤلاء فلماذا لم يعطهم؟!!
نحمد الله على نعمة العقل!!
ثالثًا: لا يصح نص في ذكر الإمامة بل هي أمر متروك كما تقدَّم للأمَّة على الصور الثلاث أو ما يجد من صور تحقق مقاصدها.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 153) قلتم: (وقولكم: (وأمَّا أهل التشيع فإنَّه يُفهَم من عقيدتهم أنَّه يجب على الله أن ينصب إمامًا وأنَّ هذا الإمام هو: عليّ - رضي الله عنه - مع أنَّه لم يرد في القرآن ولا في السنَّة أي لفظ في ذكر الإمامة والوصاية وإنَّما هي عمومات قابلة للتأويل على أوجه).
... فنقول: وأمَّا ورود قضية إمامة عليّ بن أبي طالب في السنَّة فمن راجع:
حديث: "الدار يوم الإنذار"، وحديث: "المنزلة"، وحديث: "الغدير"، وحديث: "الثقلين"، وحديث: "السفينة"، وحديث: "وهو ولي كل مؤمن بعدي"، وحديث: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، وحديث: "المؤاخاة"، وحديث: "تبليغ سورة براءة"، وحديث: "سد الأبواب"، وحديث: "باب حطة"، وحديث: " الراية"، وغيرها من عشرات بل مئات النصوص في ذلك يتيقن بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إمامة: عليّ بن أبي طالب.
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام/1/63-64/(108/276)
وقد صرَّح في بعضها على كونه خليفة من بعده كحديث الدار الذي قال عليّ - عليه السلام - فأخذ برقبتي ثمَّ قال: إنَّ هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.
قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع)(1).
قلت هنا وقفات:
... الأولى: الحمد لله أنَّك لم تقل: "إنَّها أحاديث صحاح" وهذا الظن بك، لأنَّها جميعها لا تصح ما عدا روايات لا علاقة لها بالإمامة.
... الثانية: قلتم: (وغيرها عشرات بل مئات النصوص) قلت: بل آلاف، لأنَّ ما وُضِع في هذه المسألة لا يُحصى بشهادة صاحبكم ابن أبي الحديد شارح: "نهج البلاغة" حيث يقول بعد الإشارة إلى ما وضعه الشيعة في ذم الصحابة قال: (وهكذا أسرف غلاة الشيعة الرافضة في وضع الأحاديث بما يتفق مع أهوائهم والتي بلغت من الكثرة حدًّا مزعجًا حتَّى قال الخليلي في الإرشاد: "وضعت الرافضة في فضائل عليّ وأهل بيته نحو ثلاثمائة ألف حديث")(2).
... الثالثة: قد صرَّح إمامكم الخميني أنَّ أمر الإمامة لم يبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (وواضح بأنَّ النبي لو كان بلَّغ بأمر الإمامة طبقًا لما أمر به الله وبذل المساعي في هذا المجال لما نشبت في البلدان الإسلامية كل هذه الاختلافات والمشاحنات والمعارك ولما ظهرت ثمة خلافات في أصول الدين وفروعه)(3).
... فالخميني يعترف ويتَّهم:
... يعترف بأنَّ الإمامة لم تبين.
... ويتَّهم نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أتقى الناس وأعرف الناس بربه صلوات الله وسلامه عليه بأنَّه لم يُبلِّغ كما أمر الله - عز وجل -.
... ونحن لا ندري كيف عرف الخميني أنَّ الله أمره بذلك، لأنَّ ذلك لا يُعرف إلاَّ بالنقل ولم يُنقل إلينا، إذن الخميني اطلع على اللوح المحفوظ أو جاءه الوحي!!!
... كبُرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاَّ كذبًا.
__________
(1) تاريخ الطبري/2/62/
(2) شرح نهج البلاغة/1/135/الإرشاد/12/
(3) كشف الأسرار/155/(108/277)
... الرابعة: أمَّا الأحاديث فأنا أورد لك درجاتها في ميزان العلماء من خلال رُواتها لتعلم أنَّها لا تصح إن لم تكن تعلم من قبل، وأنَّ الاستدلال بأمثال هذه الروايات على دين الله - عز وجل - من الأعمال المحرمة.
... قال تعالى: (ولا تقفُ ما ليس لك به علم..) نهيٌ جازم أن تتَّبع ما لم يكن أمرًا واضحًا دع عنك التقليد!!
... الحديث الأول: "حديث: الدار يوم الإنذار"، عن عليّ بن أبي طالب "لما نزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: يا عليّ إنَّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، قال: فضقت بذلك ذرعًا، وعرفت أنِّي متى ما أباديهم بهذا الأمر أرَ منهم ما أكره، فصمتُ حتَّى جاء جبرائيل، فقال: يا محمد، إنَّك إلاَّ تفعل ما تُؤمر به يُعذبك ربك، فاصنع لنا صاعًا من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عُسًّا من لبن، ثمَّ اجمع لي بني عبدالمطلب حتَّى أكلمهم، وأبلِّغهم ما أُمرت به؛ ففعلت ما أمرني به ثمَّ دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب؛ فلمَّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به. فلمَّا وضعته تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حِذية من اللحم، فشقها بأسنانه، ثمَّ ألقاها في نواحي الصحفة، قال: خذوا باسم الله، فأكل القوم حتَّى ما لهم بشيء حاجة، وما أرى إلاَّ مواضع أيديهم، وأيَّم الله الذي نفس عليّ بيده إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدّمت لجميعهم، ثمَّ قال: اسقِ الناس، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتَّى رووا منه جميعًا، وأيَّم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله؛ فلمَّا أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكلمهم، بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لهدّ ما سحركم به صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول الله - صلى الله عليه(108/278)
وسلم -، فقال الغد: يا عليّ، إنَّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما قد سمعتَ من القول، فتفرَّق القوم قبل أن أكلمهم، فأعد لنا من الطعام مثل الذي صنعت، ثمَّ اجمعهم، قال: ففعلت ثمَّ جمعتهم، ثمَّ دعاني بالطعام فقرَّبته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتَّى ما لهم بشيء حاجة، قال: اسقهم، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتَّى رووا منه جميعًا، ثمَّ تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال يا بني عبدالمطلب إنِّي والله ما أعلم شابًا في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا جئتكم به، إنِّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيُّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعًا، وقلت: وإنِّي لأحدثهم سنًّا وأرمصهم عينًا، وأعظمهم بطنًا، وأحمشهم ساقًا، أنا يا نبي الله أكون وزيرك، فأخذ برقبتي، ثمَّ قال: إنَّ هذا أخي وكذا وكذا، اسمعوا وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك و وتطيع)(1).
... أولاً: هذا لحديث لا يصح بل مكذوب.
... في رواة الطبري: "عبدالغفار بن القاسم أبو مريم" قال ابن المديني: كان يضع الحديث. وقال أبو داود بعد أن ساق تكذيب عبدالواحد بن زياد له: (وأنا أشهد أنَّ أبا مريم كذاب ولأنَّني قد لقيته وسمعت منه واسمه: "عبدالغفار بن القاسم"(2).
... وله طريق أخرى عند أبي حاتم فيها: "عبدالله بن عبدالقدوس"(3) قال الذهبي: (كوفي رافضي). وقال يحيى: (ليس بشيء رافضي خبيث). وقال النسائي: (ليس ثقة). وقال البخاري: (مجهول وحديثه منكر)(4).
__________
(1) تاريخ الطبري/2/319-320/
(2) ميزان الاعتدال/2/640/
(3) تفسير ابن أبي حاتم/ح/16015/
(4) الميزان/1/545/(108/279)
... ثانيًا: في آخر الحديث: (فاسمعوا وأطيعوا) وهل هم مسلمون حتَّى يسمعوا ويطيعوا؟! هم لم يسمعوا منه - صلى الله عليه وسلم - ولم يطيعوه في أصل الإيمان وقد أعرضوا عن دعوته فكيف يأمرهم وهم ليسوا أصلاً مؤمنين؟!
... ثالثًا: في الحديث أنَّ أبناء عبدالمطلب كانوا: (أربعين رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه) والتاريخ يشهد بكذب هذا العدد.
... فأولاد عبدالمطلب كانوا عشرة من الولد لم يدرك النبوة منهم إلاَّ خمسة هم:حمزة ،والعباس، وأبوطالب، والحارث، وأبو لهب.
... فأمّا حمزة فلم يكن له ولد .
وأمَّا العباس فأول ولد له كان في حصار الشعب هو: "عبدالله" ثمَّ ولد له عُبيدالله ثمَّ الفضل، فليس له إذن أولاد كبار يحضرون.
... وأمَّا أبو طالب فكان له أربعة من الولد هم: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي؛ وطالب لم يدرك الإسلام.
... وأمَّا الحارث فكان له ابنان هما: أبو سفيان، وربيعة من مسلمة الفتح.
... وأبو لهب كان له ثلاثة من الولد: عتبة، ومغيث، وعتيبة؛ أسلم الأوَّلان ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الثالث.(1)
... هؤلاء هم أولاد وأحفاد عبدالمطلب فكيف حضر أربعون رجلاً وهؤلاء لم يتجاوز عددهم أربعة عشر رجلاً؟!
... وهذا بيان بأسمائهم ودرجاتهم:
الأب: ( عبدالمطلب )
ابن : ( حمزة )
ابن: ( العباس )
ابن: ( أبو طالب )
ابن: ( الحارث )
ابن: ( أبو لهب )
حفيد )طالب بن أبي طالب)
حفيد: (عقيل بن أبي طالب)
حفيد: (جعفر بن أبي طالب)
حفيد: (علي بن أبي طالب)
حفيد: (أبو سفيان بن الحارث)
حفيد: (ربيعة بن الحارث)
حفيد: (عتبة بن أبي لهب)
حفيد: (مغيث بن أبي لهب)
حفيد: (عتيبة بن أبي لهب)(2)
__________
(1) منهاج السنة/7/297/
(2) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى/292-372/(108/280)
رابعًا: ألفاظ الحديث في رواية ابن أبي حاتم (ويكون خليفتي في أهلي)، وفي رواية الطبري العبارة مبهمة ولفظها (على أن يكون أخي وكذا وكذا) فلفظ ابن أبي حاتم لم يذكر إلاَّ الخلافة في الأهل ورواية الطبري مبهمة وكلاهما لا يصحان.
خامسًا: هذا اتهام لعليّ - رضي الله عنه - بأنَّه لم يسلم إلاَّ طمعًا في الرئاسة لا رغبةً في الإيمان.
سادسًا: كم أسلم مع عليّ - رضي الله عنه - وبعده ولم نسمع أنَّه - صلى الله عليه وسلم - وعدهم بوزارة ولا بإمارة ولو كان ذلك جرى منه - صلى الله عليه وسلم - لسألوا مثله..!!
سابعًا: هذا تحويل للنبوة لتكون مُلكًا وزعامة يتوارثها الأبناء عن الآباء، والنبوة لا تُورث والتقدم فيها بغير النسب.
قال ابن القيم: (والسر والله أعلم في خروج الخلافة عن أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر وعمر وعثمان أنَّ عليًّا لو تولى الخلافة بعد موته لأوشك أن يقول المبطلون إنَّه مَلِكٌ ورّث ملكَه أهلَ بيته فصان الله منصب رسالته ونبوته عن هذه الشبهة.
وتأمَّل قول هرقل لأبي سفيان: (هل كان في آبائه من ملك؟ قال: لا. فقال له: لو كان في آبائه ملك لقلت: رجل يطلب مُلك آبائه)(1).
فصان منصبه العلي من شبهة المُلك في آبائه وأهل بيته.
وهذا والله أعلم هو السر في كونه لم يُورث هو والأنبياء قطعًا لهذه الشبهة لئلا يظن المبطل أنَّ الأنبياء طلبوا جمع الدنيا لأولادهم وورثتهم كما يفعله الإنسان من زهده في نفسه وتوريثه ماله لولده وذريته.
فصانهم الله عن ذلك ومنعهم من توريث ورثتهم شيئًا من المال لئلا يتطرق التهمة لحجج الله ورسله فلا يبقى في نبوتهم ورسالتهم شبهة أصلاً).(2)
ثامنًا: قلتُ ولعلَّ عدم تمكين الله - عز وجل - لعليّ - رضي الله عنه - الخلافة لأجل ذلك السر لتبقى النبوة بعيدة عن الشبه.
__________
(1) صحيح البخاري/ح/7/
(2) بدائع الفوائد/3/245/(108/281)
ثمَّ لو تمكن عليّ - رضي الله عنه - لربَّما قوَّى ذلك معتقد الشيعة الذين ادعوا فيه ما ليس له ولتحولت النبوة إلى ملك وراثي.
وقد يقول قائل: ألم تتحول على يد معاوية؟!
فنقول: بلى، ولكن لا يجرح ذلك منصب النبوة وحديثنا عن بقاء منصب النبوة بعيدًا عن ظنون الأعداء والله أعلم.
تاسعًا: على مذهبكم لم يتحقق وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - له فقد وعده بأن يكون الخليفة من بعده ولم يفِ له بوعده.
فإن قلتم: هو أراد ولكن أبا بكر وعمر لم يريدا!!
قلت: لا يمكن أن يعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا يستطيع تنفيذه وكان ينبغي أن يقول: (إذا رضي أبو بكر وعمر)!!
الحمد لله على نعمة العقل.
الحديث الثاني: حديث (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنَّه لا نبي بعدي).
الجواب من وجوه:
أولاً: استخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًّا على المدينة في غزوة تبوك وهذا أمر معتاد له - صلى الله عليه وسلم - أن يستخلف على المدينة أحدًا من أصحابه، لكن لمَّا استخلفه طعن المنافقون فيه، فلحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو إليه طعن المنافقين فسلاَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فرجع.
ثانيًا: تمثيله له بهارون أخي موسى في الاستخلاف المؤقت فإنَّ هارون كان خليفة لموسى عندما ذهب موسى لميقات ربه ثمَّ انتهى الاستخلاف بعد رجوع موسى ولم يَخلُف هارونُ موسى بعد موته لأنَّه مات قبل موسى.(108/282)
ثالثًا: هذا الاستخلاف قد انقطع، بعد عودته - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إلى اليمن مع معاذ وأبي موسى الأشعري(1)، وقد حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلف على المدينة شخصًا آخر فدلَّ على أنَّ ذلك الاستخلاف قد انقطع.
رابعًا: فأين الدليل في هذا الحديث على أنَّه إمام بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -؟!
الحديث الثالث: "حديث الغدير": (من كنت مولاه فعليّ مولاه)(2).
الجواب من وجوه:
أولاً: هذا الحديث يذكر العلماء أنَّ له سببًا وهو ما رواه ابن أبي شيبة بسنده: (عن بُرَيدة قال: "مررت مع عليّ إلى اليمن فرأيت منه جفوة فلمَّا قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت عليًّا فتنقصته فجعل وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتغير فقال: ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: "من كنت مولاه فعليّ مولاه").(3)
__________
(1) وهنا ملحظ يناسب ذكره هنا: عندما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن لم يقل لمعاذ وأبي موسى إذا اختلفتم فارجعوا إلى علي لأنه معصوم فهل عصمته كانت قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - أم بعد موته؟! وما هو الدليل؟!
(2) رواه أحمد/1/84/والفضائل/ح/947/وفي غيرها والترمذي/ح/3714/
(3) المصنف/6/374/ح/32132/(108/283)
ثانيًا: أورد ابن كثير سببًا آخر في تاريخه وقد استوفى إيراد هذا الحديث وبيان الألفاظ الصحيحة والألفاظ الضعيفة والمنكرة في ست صفحات تقريبًا قال في بدايته: (في إيراد الحديث الدال على أنَّه - عليه السلام - خطب بمكان بين مكة والمدينة مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة ـ يُقال له غدير خم ـ فبين فيها فضل عليّ بن أبي طالب وبراءة عرضه ممَّا كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن، بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنَّها بعضهم جورًا وتضييقًا وبخلاً، والصواب كان معه في ذلك، ولهذا لمَّا تفرَّغ - عليه السلام - من بيان المناسك ورجع إلى المدينة بيَّن ذلك في أثناء الطريق، فخطب خطبة عظيمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذ وكان يوم الأحد بغدير خم تحت شجرة هناك، فبيَّن فيها أشياء. وذكر من فضل عليّ وأمانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه. ونحن نورد عيون الأحاديث الواردة في ذلك ونبيِّن ما فيها من صحيح وضعيف بحول الله وقوته وعونه، وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ فجمع فيه مجلدين أورد فيهما طرقه وألفاظه، وساق الغث والسمين والصحيح والسقيم، على ما جرت به عادة كثير من المحدثين يوردون ما وقع لهم في ذلك الباب من غير تمييز بين صحيحه وضعيفه. وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة. ونحن نورد عيون ما روى في ذلك مع إعلامنا أنَّه لا حظَّ للشيعة فيه ولا متمسك لهم ولا دليل لما سنبينه وننبه عليه، فنقول وبالله المستعان.(108/284)
قال محمد بن إسحاق في سياق حجة الوداع ـ حدثني يحيى بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي عمرة عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة. قال: لمَّا أقبل عليّ من اليمن ليلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، تعجل إلى رسول الله واستخلف على جنده الذين معه رجلاً من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسى كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع عليّ، فلمَّا دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل. قال: ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس. قال: ويلك انزع قبل أن ينتهي به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز، قال وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.
قال ابن إسحاق فحدثني عبدالله بن عبدالرحمن بن معمر بن حزم عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب ـ وكانت عند أبي سعيد الخدري ـ عن أبي سعيد. قال: اشتكى الناس عليًّا فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا خطيبًا، فسمعته يقول: أيها الناس لا تشكوا عليًّا فوالله إنَّه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله [من أن يشكى] ورواه الإمام أحمد من حديث محمد بن إسحاق به وقال إنَّه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله. وقال الإمام أحمد حدثنا الفضل بن دكين ثنا ابن أبي غنية. عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن بُريدة قال: غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة فلمَّا قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت عليًّا فتنقصته فرأيت وجه رسول الله يتغيَّر. فقال: يا بُريدة ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، قلت: بلى يا رسول الله! قال: "من كنت مولاه فعليّ مولاه" وكذا رواه النسائي عن أبي داود الحراني عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن عبدالملك بن أبي غنية بإسناده نحوه وهذا إسناد جيد قوي رجاله كلهم ثقات.
فالحديث كما ترى كان له سبب وهو الجفوة التي وقعت بين عليّ - رضي الله عنه - وبعض الصحابة.(108/285)
ثالثًا: ثمَّ أين في الحديث أنَّه: "والي" على المسلمين؟!
إنَّ: "الولاية" للرسول - صلى الله عليه وسلم - ثابتة منه على جميع المسلمين فالولاية هي الحب والنصرة وهي ثابتة بين جميع المسلمين وبينهم وبين رسولهم صلوات الله وسلامه عليه بل بينهم وبين ربهم - عز وجل -، قال تعالى:(إنَّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا).
رابعًا: هذا الحديث لو كان القصد منه الولاية بمعنى أنَّه: "والي" على المسلمين لصرَّح به النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنَّ ذلك تشريع لا يحتمل التورية.
خامسًا: لو أراد أمرًا تشريعيًا جديدًا وهو: "ولاية" المسلمين لما ترك الناس حتَّى ينصرفوا من الحج ويعودوا إلى بلدانهم ثمَّ لا يذكر ذلك إلاَّ في أهل المدينة.
سادسًا: قد أنزل الله - عز وجل - في الحج: (اليوم أكملت لكم دينكم) وهذا دليل على أنَّ التشريع قد ختم فكل ما بعده إنَّما هو مواعظ وتذكير.
الحديث الرابع: حديث الثقلين فقد خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فقال فيها: (وإنِّي تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به) فحث على كتاب الله ورغَّب فيه ثمَّ قال: (وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي).(1)
هذا هو حديث الثقلين بأصح الطرق وأصح الألفاظ.
وهنا وقفات:
أولاً: أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع القرآن والاستمساك به وهذا دليل على أنَّ فهم الكتاب والعمل به لا يحتاجان إلى وسيط أو وصاية وإلاَّ لما أوصانا باتباعه مباشرة ولقال: احذروا أن تعملوا بالقرآن بدون وصي وخذوا ما يفسره لكم الوصي!
وقد أثنى على كتاب الله - عز وجل - وقال: (وفيه الهدى والنور) وما دام فيه الهدى والنور فأي حاجة إلى: "وصي"؟!
__________
(1) صحيح مسلم/ح/6178/(108/286)
ثانيًا: عندما ذكر القرآن أمرنا باتباعه وعندما ذكر أهل بيته أمرنا برعايتهم وإعطائهم حقوقهم وهذا من أوضح الأدلة على أنَّهم ليسوا أئمة وإنَّما ستكون الإمامة في غيرهم وإلاَّ لو كانوا هم الأئمة لأوصاهم بنا لأنَّ الوصية تكون للقادر المتنفذ لا للضعيف العاجز.
فيبدو والله أعلم أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قد أعلمه الله - عز وجل - بما سيحصل لأهل بيته فذكَّر المسلمين برعاية حقوقهم عندما يتولون عليهم.
الحديث الخامس: "حديث السفينة".
روى الطبراني بسنده عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح في قوم نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك، ومثل باب حطة في بني إسرائيل).(1)
قلت: الجواب من وجوه:
أولاً: في سنده: "عبدالله بن داهر الرازي" متروك. وقال العقيلي: (رافضي خبيث).(2)
وفيه: "عبدالله بن عبدالقدوس" تقدَّم في الحديث الأول وهو مجهول وحديثه منكر كما قال البخاري.(3)
وورد من طرق أخرى لا تقل عن هذه الطريق.
ثانيًا: فهل مثل هذا يقوم عليه دين؟
ثالثًا: أي أهل البيت هم السفينة من مدحتموهم أو من ذممتموهم كما سيأتي ـ بمشيئة الله تعالى ـ.
رابعًا: أين هم الآن أهل بيته الذين هم: "الأئمة"؟! ماتوا ـ أو هربوا حسب زعمكم ـ فجميعكم الآن بغير سفينة فأنتم إذن هلكى!!
أمَّا نحن فقد ركبنا سفينة: "القرآن والسنَّة" وهي مستمرة لا تموت ولا تهرب ولله الحمد والمنة.
الحديث السادس: حديث (وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة) وفي رواية: (بعدي)(4).
أولاً: هذا الحديث مداره على: "جعفر بن سليمان" رواه عنه: "عبدالرزاق" و: "عفان".
__________
(1) رواه الطبراني في الثلاثة/ذكره في مجمع البحرين/ح/3793/
(2) لسان الميزان/3/282/
(3) الميزان/2/457/
(4) رواه الترمذي/ح/3712/(108/287)
أمَّا جعفر فقد اختلفت فيه الأقوال ما بين مُضعِّف له ومُوثِّق. لكنَّهم وصفوه بأنَّه يتشيع وإذا كان الراوي يتهم ببدعة ثمَّ روى ما يُقوي بدعته فينظر في حديثه هل رواه غيره ممَّن ليس على بدعته أم لا؟
قال ابن سعد: (ثقة فيه ضعف كان يتشيع).
وقال أحمد بن المقدام: (وجعفر ينسب إلى الرفض).
وروى العقيلي وابن حبان أنَّه قيل له: (بلغني أنَّك تشتم أبا بكر وعمر فقال: أمَّا الشتم فلا، ولكن البغض ما شئت)(1).
ولم يروِ له مسلم إلاَّ حديثًا واحدًا متابعة في غزو النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنساء.(2)
وقد اعتذر له الذهبي بأنَّ سبَّه لأبي بكر وعمر جارين كانا له ثمَّ ذكر أنَّه صدوق وأنَّه ينفرد بأحاديث عدت ممَّا ينكر عليه واختلف في الاحتجاج بها وعدَّ منها هذا الحديث.(3)
ثانيًا: ذكر الذهبي في ترجمته أنَّه روى حديث: (مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يستخلف أحدًا) فإن جازت روايته في الجميع فبعضها يفسر بعضًا.
ثالثًا: قوله: (ولي كل مؤمن بعدي) لو فسرت بالإمامة فلم يكن - رضي الله عنه - واليًا لكل مؤمن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قيام الساعة وإنَّما تكون ولايته إلى أن يموت فأين ولايته على بقية الأجيال المسلمة؟؟!!
ولكنَّها إذا فسرت بأنَّه ولي كل مؤمن بمعنى الحب والود فهذا ممكن الحصول وهذا لكل مؤمن على أخيه ويتأكد في حق عليّ - رضي الله عنه -.
الحديث السابع: حديث (أنا مدينة العلم)
تقدم الحديث عنه سندًا ومتنًا وأنَّه موضوع ومعناه مردود.
__________
(1) الميزان/1/407/
(2) مسلم/ح/1810/
(3) الميزان/1/410/(108/288)
الحديث الثامن: "حديث المؤاخاة": وردت عدة أحاديث جميعها لا تصح ومنها: حديث ابن عمر قال: (آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه فجاء عليّ تدمع عيناه فقال: يا رسول الله: آخيت بين أصحابك ولم تُؤاخ بيني وبين أحد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت أخي في الدنيا والآخرة).(1)
أولاً: الحديث لا يصح.
في سنده: "جُمَيع بن عُمير" قال البخاري: (فيه نظر). وقال أبو حاتم: (كوفي تابعي من عُتَّق الشيعة محله الصدق صالح الحديث). وقال ابن عدي: (وما قاله البخاري كما قاله: في أحاديثه نظر وعامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد).(2)
وفيه: "حكيم بن جُبَير" قال أحمد: (ضعيف الحديث مضطرب). وقال ابن معين: (ليس بشيء). وقال أبو حاتم: (ضعيف الحديث منكر الحديث له رأي غير محمود نسأل الله السلامة غال في التشيع). وقال الدارقطني: (متروك).(3)
وفيه: "علي بن قادم" قال ابن معين: (ضعيف). وقال ابن حجر: (منكر الحديث شديد التشيع).(4)
فهل يصلح هذا الحديث للاستدلال به؟!
ثانيًا: أي دلالة في هذا الحديث على الإمامة؟! فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال في بعض الأحاديث كما تقدَّم: (وددت أن قد رأيت إخواني).
فهل هؤلاء أئمة؟!
الحديث التاسع: حديث التبليغ: "تبليغ سورة براءة في الحج".
عن أبي سعيد أو أبي هريرة رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر - رضي الله عنه - على الحج فلمَّا بلغ ضجنان_أي قريبًا من مكة_سمع بُغَام ناقة عليّ فعرفه فأتاه فقال: ما شأني؟ قال: خير إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثني ببراءة.
__________
(1) رواه الترمذي/5/300/
(2) تهذيب التهذيب/1/410/
(3) تهذيب التهذيب/4/276/
(4) تهذيب التهذيب/4/304/(108/289)
فلمَّا رجعنا انطلق أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله مالي؟! قال: (خير أنت صاحبي في الغار غير أنَّه لا يبلغ عني غيري أو رجل مني_يعني عليًّا_)(1).
هذا هو حديث التبليغ وقد ورد من عدة طرق وبألفاظ مختلفة.
الجواب من وجوه:
أولاً: قد ورد هذا الحديث من عدة طرق ولا يسلم طريق منها من ضعف وهذه الطريق فيها: "أبو ربيعة: زيد بن عوف" قال ابن حجر: (تركوه)، وقال الفلاس: "متروك"، وقال الدارقطني: "ضعيف"(2).
ثانيًا: ليس في هذا دلالة على قضية الإمامة وإنَّما هذا جرى مجرى ما اعتاده العرب من أنَّ العقود والعهود لا ينقضها إلاَّ من عقدها أو رجل من أهله.
قال مؤلف: "ذخائر العقبى" بعد أن أورد هذا الحديث: (وهذا التبليغ والأداء يختص بهذه الواقعة لسبب اقتضاه وذلك أنَّ عادة العرب في نقض العهود أن لا يتولى ذلك إلاَّ من تولَّى عقدها أو رجل من قبيلته) ثمَّ أشار إلى أنَّ ذلك ليس المراد به عموم التبليغ حتَّى في الدين إلى أن قال: (والدليل على ذلك وأنَّه لا يختص التبليغ عنه بأهل بيته أنَّه قد عُلم بالضرورة أن رسلَه - صلى الله عليه وسلم - لم تزل مختلفة إلى الأفاق في التبليغ عنه وأداء رسالته وتعليم الأحكام والوقائع يؤدون عنه - صلى الله عليه وسلم -)(3).
وبنحو هذا قال ابن حجر(4).
ثالثًا: قد صحَّ أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - لم يَخلُفْ أبا بكر في إمارة الحج وإنَّما كان عمله إبلاغ المشركين بإنهاء العهد.
روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: (إنَّ أبا بكر الصدِّيق بعثه في الحجة التي أمَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان)(5).
__________
(1) رواه ابن حبان/ح/6644/(بترتيب الإحسان)
(2) لسان الميزان/2/506/
(3) ذخائر العقبى/129/
(4) فتح الباري/8/318-319/
(5) صحيح البخاري/ح/4257/(108/290)
والحديث نص في أنَّ الأمير على تلك الحجة هو: "أبو بكر" - رضي الله عنه -.
الحديث العاشر: حديث (سد الأبواب).
عن زيد بن أرقم قال: كان لنفرٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبواب مشرعة في المسجد فقال يومًا: (سدوا هذه الأبواب إلاَّ باب عليّ، فتكلَّم في ذلك الناس قال فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: (أمَّا بعد فإنِّي أمرت بسد هذه الأبواب إلاَّ باب عليّ وقال فيه قائلكم وإنِّي والله ما سددت شيئًا ولا فتحته ولكن أمرت بشيء فاتبعته).(1)
الجواب من وجوه:
أولاً: هذا الحديث في سنده: "ميمون أبو عبدالله" قال أحمد: (أحاديثه مناكير). وقال ابن معين: (لا شيء). وكان يحيى القطان لا يحدث عنه.(2)
وقد أورد ابن الجوزي عدة روايات ثمَّ قال: (هذه الأحاديث كلها من وضع الرافضة قابلوا بها الحديث المتفق على صحته في: "سدوا الأبواب إلاَّ باب أبي بكر وهو: "سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر").(3)
ثانيًا: لِمَ يعتذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمره بسد الأبواب وأنَّه ليس هو الذي أمر وإنَّما هو الله - عز وجل -؟! أليس أمره - صلى الله عليه وسلم - كأمر الله - عز وجل - وقد أمرنا بطاعة أمره استقلالاً ومتى كان الصحابة يرفضون أمره - صلى الله عليه وسلم - حتى يخبرهم أنَّه إنَّما هو أمر الله - عز وجل -؟! سبحان الله ما أوضح الكذب!!
ثالثًا: لو صحَّ الحديث فهل فيه دلالة على الإمامة؟!
أليس ذلك يحتمل أنَّ بقاء بابه مفتوحًا لتسهيل زيارة "فاطمة رضي الله عنها" لأبيها؟! حتَّى لو لم يكن ذلك هو المقصد فأين فيه دلالة الإمامة؟!
__________
(1) المسند/4/369/
(2) الميزان/4/235/
(3) الموضوعات/1/363-369/وحديث أبي بكر رواه البخاري/ح/462/ومسلم/ح/6122/(108/291)
رابعًا: إنَّ الواقع يشهد بصحة حديث أبي بكر فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوكل إليه أن يصلي بالناس فترة مرضه - صلى الله عليه وسلم - وهو يحتاج إلى سهولة المجيء إلى المسجد للنيابة عنه - صلى الله عليه وسلم - في الإمامة إضافةً إلى دلالته على خلافته.
الحديث الحادي عشر: حديث "باب حطة". من رواية: "أبي سعيد" وقد تقدمت رواية: "أبي ذر" في الحديث الخامس.
أورد الهيثمي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنَّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق. وإنَّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له).
ثمَّ قال: (رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه جماعة لم أعرفهم)(1).
فالحديث كما ترى فيه عدة من الرواة مجهولون فكيف يستدل بحديث لا يدري من رواه؟!
الحديث الثاني عشر: "حديث "الراية".
روى البخاري ومسلم عن سلمة ابن الأكوع - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: (لأعطينَّ الراية غدًا رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله...).(2)
هنا وقفات:
أولاً: لا شكَّ في صحة هذا الحديث فقد رواه أصحاب الصحاح عن جماعة من الصحابة.
ثانيًا: ولا شكَّ في محبة الله - عز وجل - لعليّ - رضي الله عنه - ولكل مؤمن، لكنَّها لعليّ ثابتة بالنص عليه وهذا فيه شهادة له بالإيمان ظاهرًا وباطنًا وأنَّه يعيش عليه ويموت عليه.
__________
(1) مجمع الزوائد/9/265/
(2) صحيح البخاري/ح/5/8/3701/ومسلم/ح/2404(108/292)
ثالثًا: لكن هذه الشهادة مجروح فيها عند الشيعة لأنَّ رُواتها إمَّا فُسَّاق وإمَّا كفار ولا تثبت لعليّ - رضي الله عنه - عندهم حتَّى يثبتوا إيمان وعدالة رُواتها، فقد وردت عن سلمة بن الأكوع وسعد بن أبي وقاص وأبي بُرَيدة وغيرهم وصحة الخبر عندهم معلَّقة بإيمان هؤلاء، وكتبهم تُقرِّر رِدَّة الصحابة إلاَّ أربعة أشخاص ليس واحد من هؤلاء منهم.
رابعًا: هذه الفضيلة لعليّ - رضي الله عنه - كما تقدَّم ثابتة لكل مؤمن ومؤمنة كما قال تعالى: (فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه)(1). وقال تعالى: (إنَّ الله يحب المحسنين)(2). وقال تعالى: (والله يحب الصابرين)(3)، وغيرها كثير.
ولا تدل هذه على إمامة ولا على خلافة!
الوقفة الخامسة: قولكم: (وغيرها من عشرات النصوص بل مئات النصوص في ذلك يتيقَّن بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إمامة عليّ بن أبي طالب وقد صرَّح في بعضها.. كحديث الدار).
قلت: الجواب من وجوه:
أولاً: رأينا فيما مضى أنَّ هذه النصوص بين أمرين:
... - إمَّا أنَّها لا تصح، وهذا في أكثرها.
... - وإمَّا أنَّها لا تدل على المراد.
ثانيًا: هذه النصوص قد رويت عن الصحابة الذين يجرحهم الشيعة ويصفونهم إمَّا بالكفر وإمَّا أنَّهم غير عدول، فإن عدلتموهم لزمكم أن تقبلوا كل ما يروونه وفيما رووه ما ينقض دعواكم وإن لم تعدلوهم لم يصح لكم استدلال.
ثالثًا: ما صحَّ منها فإنَّه من فضائل عليّ - رضي الله عنه - التي تثبت إيمانه وفضله وأنَّه من خيار الصحابة، وقد ثبت نحوها لإخوانه عظماء الصحابة بل وأعظم منها للشيخين.
رابعًا: لا تستطيع الشيعة أن تثبت إيمان علي - رضي الله عنه - إلاَّ بتزكية وتعديل الصحابة الذين رووا إيمانه.
خامسًا: قولكم: (يتيقن بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - إمامة عليّ بن أبي طالب) وهذا من أعجب الدعاوى.
__________
(1) سورة المائدة (آية [54])
(2) سورة البقرة (آية [195])
(3) سورة آل عمران (آية [146])(108/293)
فإنَّ كلمة: "نص" عند الأصوليين أي لا تحتمل أكثر من معنى فهي تدل على المراد دلالة قطعية لا يتطرق إليه تأويل.(1)
وإذا اعتقدنا صحة هذه الروايات ورأينا أنَّ الصحابة لم يعتقدوا إمامة عليّ بموجبها دلَّ على بطلان هذه الدعوى، وإذا قلنا: إنَّهم اعتقدوا لكن لم يقبلوها فهذا طعن في عدالتهم وبالتالي فلا تُقبَل رواياتهم.
ثمَّ لم نجد أحدًا من أهل السنَّة يقول بموجبها؟!
إنَّ ذلك بين أمرين:
إمَّا أنَّها لا تصح عندهم.
وإمَّا أنَّها لا تدل على ما فهمتموه.
سادسًا: إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يقول لنا: إنَّ عليًّا هو الخليفة من بعدي فلِمَ هذا التطويل وعدم التصريح؟!
سابعًا: عليّ - رضي الله عنه - يعترف في كتبكم أنَّ الإمامة بالبيعة وليست من الله - عز وجل -.
فقد ورد في "نهج البلاغة" المعتمد عندكم أنَّه قال: (وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإنَّ اجتمعوا على رجل وسمُّوه: "إمامًا" كان ذلك لله رضى).(2)
وهذا ينقض دعواكم السابقة وقد تقدم نحو ذلك.
ويعترف في كتبنا كما تقدم أنَّه لم يوصَ إليه بشيء في الإمامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 154) ذكرتم ما حدث في كتاب: "حياة محمد - صلى الله عليه وسلم -" من تحريف لفظ: "بات على فراشه" بلفظ: "بال على فراشه". ثمَّ قلتم: (لا لوم عليهم لأنَّهم ورثوا ذلك ممَّن لا تطيب أنفسهم لعليّ - عليه السلام - بخير).
... قلت:
... أولاً: إنَّ الأصل المطبوع كما ذكرتم هو اللفظ الصحيح ولكن عُدِّل باليد، وهذا يدل على أنَّ ذلك ليس من المؤلف وإنَّما هو من المطبعة بعد اعتماد المؤلف.
... ثانيًا: المطابع المصرية لا تخلو من نصارى حاقدين على الإسلام والمسلمين ولا أستبعد أنَّ ذلك من أحد هؤلاء أو الملاحدة الذين لا يؤمنون لا بالله - عز وجل - ولا برسوله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) إرشاد الفحول/1/291/
(2) نهج البلاغة/526/(108/294)
... ثالثًا: من فعل ذلك سواء كان من المؤلف أو غيره فهذه جريمة وكبيرة من كبائر الذنوب.
... رابعًا: قولك: (ورثوا ذلك...) قد يفهم منه أنَّك تغمز أهل السنَّة بأنَّهم لا يريدون لعليّ - رضي الله عنه - خيرًا.
... ولا شك أنَّك إن أردت هذا فلم تصب وقد مرَّ معنا أكثر من مرة بيان أنَّه لا يوجد مسلم لا يريد لعليّ - رضي الله عنه - خيرًا وأنَّ حب علي - رضي الله عنه - دين كغيره من إخوانه الصحابة الذين آمنوا بالله ورسوله ونصروا رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجاهدوا لنشر هذا الدين وقد قال تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنَّك رؤوف رحيم) فهذا شعار كل مسلم ومن خرج عنه فقد انحرف عن جادة الحق والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 155) قلتم بعد تعقيبكم على تحريف لفظ:"بات على فراشه": (وأمَّا من حيث السند فقد صرَّح بصحته جمع من العلماء كابن جرير الطبري..)
... قلت: إن كان مرادكم حديث البيات على فراشه - صلى الله عليه وسلم - فهذا مشهور ولا ينكره أحد من المسلمين، وإن كان مرادكم حديثًا ذكرتموه قبل ذلك وهو: "ووصيّ وخليفتي" فهذا قد تقدَّم بيان أنَّه موضوع ولا يوجد عالم من أهل السنَّة يصحح الحديث إلاَّ على أنَّه أراد خلافته في أهله - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 156) قلتم: (وهكذا حديث الولاية صرَّح بصحته الحاكم: (إنَّ عليًّا منِّي وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي..)
... قلت: تقدم بيان عدم صحته ولا حاجة لمثل هذه الأحاديث السقيمة لبيان فضائل عليّ - رضي الله عنه - فقد ثبتت في فضائله أحاديث صحيحة تغني عن مثل هذه الأحاديث التي لا تصح.(108/295)
... وقد تبين أنَّ لفظ الحديث لا يدل أنَّ عليًّا: "ولي على كل مؤمن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -" لأنَّه لا يعيش إلى قيام الساعة حتَّى يلي على كل مؤمن وإنَّما المراد لو صح بأنَّه ولي بمعنى: الحب والنصرة والتي هي حق كل مؤمن على أخيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 157) قلتم: (وهل هذا من العمومات القابلة للتأويل؟! فما الفرق بين هذه الكلمة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين هذه في لسان عمر بن الخطاب (رض) حيث قال: (فلمَّا توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله فجئتما فرأيتماه كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا..ثمَّ توفي أبو بكر فقلت: أنا ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولي أبي بكر فرأيتماني كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا)(1).
... وهكذا في كلام أبي بكر في كتابته لخلافة عمر في مرضه قائلاً: (إنِّي قد وليت عليكم عُمر)(2).
... وفي كلام عمر بن الخطاب أيضًا: (لو أدركت سالم مولى أبي حُذَيفة لوليته واستخلفته)(3).
... الجواب من وجوه:
... أولاً: الحديث الأول "حديث عمر: فلمَّا توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" ورد في الصحيحين البخاري(4) ومسلم(5)، ورواية مسلم التي أشرت إليها هي هذه:
__________
(1) صحيح مسلم/5/152/كتاب الجهاد باب/15/
(2) صحيح البخاري/ح/6580/ومسلم/ح/1757/
(3) تاريخ الطبري/5/33/طبقات ابن سعد/3/181و248/
(4) صحيح مسلم/5/152/كتاب الجهاد باب/15/
(5) صحيح البخاري/ح/6580/ومسلم/ح/1757/(108/296)
... روى مسلم بسنده عن مالك بن أوس أنَّه قال: أرسل إليّ عمر بن الخطاب فجئته حين تعالى النهار قال: فوجدته في بيته جالسًا على سرير مفضيًا إلى رماله متكئًا على وسادة من أدم فقال لي: يا مال إنَّه قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم برضخ فخذه فاقسمه بينهم. قال: قلت: لو أمرت بهذا غيري قال خذه يا مال. قال: فجاء يرفأ. فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبدالرحمن بن عوف والزبير وسعد، فقال عمر: نعم. فأذن لهم فدخلوا ثمَّ جاء فقال: هل لك في عباس وعليّ؟ قال: نعم. فأذن لهما. فقال عباس: يا أمير المؤمنين اقضِ بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن. فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين. فاقضِ بينهم وأرحهم "فقال مالك بن أوس يخيل إليَّ أنَّهم قد كانوا قدموهم لذلك" فقال عمر: اتئدا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا نورث ما تركنا صدقة. قالوا: نعم. ثمَّ أقبل على العباس وعليّ فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا نورث ما تركناه صدقة. قالا: نعم. فقال عمر: إنَّ الله - عز وجل - كان خصَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - بخاصة لم يخصص بها أحدًا غيره. قال: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول "ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا" قال فقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينكم أموال بني النضير فوالله ما استأثر عليكم ولا أخذها دونكم حتَّى بقي هذا المال فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ منه نفقة سنة ثمَّ يجعل ما بقي أسوة المال ثمَّ قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم. ثمَّ نشد عباسًا وعليًّا بمثل ما نشد به القوم أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم. قال: فلمَّا توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم(108/297)
- قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها. فقال أبو بكر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا نورث ما تركناه صدقة فرأيتماه كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا والله يعلم إنَّه لصادق بار راشد تابع للحق ثمَّ توفي أبو بكر وأنا ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولي أبي بكر فرأيتماني كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا والله يعلم إنِّي لصادق بار راشد تابع للحق فوليتها ثمَّ جئتني أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فقلتما: ادفعها إلينا. فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما على أنَّ عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذتماها بذلك. قال: أكذلك؟ قالا: نعم. قال: ثمَّ جئتماني لأقضي بينكما ولا والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتَّى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها إليّ.
... ثانيًا: في هذا الحديث عدة مسائل:
أنَّ عمر قرر العباس وعليًّا ومن حضر معهما على حديث: "لا نورث ما تركناه صدقة" فأقرَّا به وأقرَّ به من حضرهما وفي هذا رد على من زعم أنَّ الصدِّيق قاله من عنده ممن يفتري على عظماء الأمَّة!!
أنَّ العباس قد وصف عليًّا - رضي الله عنه - بأوصاف هي: "الكاذب، الآثم، الغادر، الخائن".
قال النووي: (قال جماعة من العلماء: معناه الكاذب إن لم ينصف فحذف الجواب.
وقال القاضي عياض: قال المازري: هذا اللفظ الذي وقع لا يليق ظاهره بالعباس وحاشا لعليّ أن يكون فيه بعض هذه الأوصاف فضلاً عن كلها..)
إلى أن قال: (فأجود ما حمل عليه أنَّه صدر من العباس على جهة الإدلال على ابن أخيه لأنَّه بمنزلة ابنه وقال ما لا يعتقده وما يعلم براءة ذمة ابن أخيه منه)(1).
__________
(1) شرح النووي على مسلم/ح/1757/(108/298)
عمر - رضي الله عنه - استعمل نفس الألفاظ التي أطلقه العباس على عليّ وكأنَّه يقول: هكذا ظننتم بي وبأبي بكر ممَّا نحن بريئون منه كما أنَّك يا عليّ بريء ممَّا قيل فيك بسبب هذه الفيء.
ثالثًا: أوردتم لفظ: "وليّ كل مؤمن بعدي" مقارنًا بلفظ عمر: "قال أبو بكر أنا وليّ رسول الله" وقول عمر كذلك.
الجواب:
يُقال: أثبت العرش ثمَّ انقش، أي أثبت صحة حديث: "ولي كل مؤمن بعدي" أولاً ـ وقد تقدم عدم صحته ـ ثمَّ استدل.
هل قول عمر إنَّ أبا بكر: "وليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أنَّه: "وليّ عليه" سبحان الله؟! أم أنَّه قال: وليّ الأمر من بعده؟! والحديث: "وليّ كل مؤمن" لا يستقيم على منهجكم إلاَّ أنَّه: "وليّه بعد أن يموت" لأنَّ ولاية أبي بكر لم تكن على النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وفرق بين: "وليّه" و: "وليّ عليه".
وهل يستقيم أن يُقال: (إنَّ عليًّا وليّ على كل مؤمن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى: "والي عليه").
وهل عليّ سيعيش إلى نهاية الحياة؟! حتَّى يكون وليًّا على كل مؤمن إلى قيام الساعة؟!
سبحان الله ما أوضح الباطل لمن سلم قلبه من المرض؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
158) قلتم: (وهكذا حديث الثقلين..) وقد تقدم
... وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بيته عدلاً للقرآن والتمسك بهم منقذًا عن الضلالة كما قال المناوي: قوله: (إنِّي تارك فيكم" تلويح بل تصريح بأنَّهما كتوأمين خلَّفهما ووصى أمَّته بحسن معاملتهما وإيثار حقهما على أنفسهم والاستمساك بهما في الدين)(1).
... الجواب من وجوه:
... أولاً: قولكم: (وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بيته عدلاً للقرآن والتمسك بهما منقذًا من الضلالة..) عبارة غير سليمة لا يليق صدورها من أستاذ جامعي يفهم دلالة الألفاظ.
... فأين في الحديث هذا المعنى؟!
__________
(1) فيض القدير/2/174/(108/299)
... الحديث حثَّ على التمسك بكتاب الله - عز وجل - والتأكيد بأنَّ فيه الهدى والنور ثمَّ عندما ذكر أهل بيته أوصى الأمَّة بهم وذلك بأن نعرف لهم حقهم فأين في ألفاظ الحديث غير هذا؟! ـ وقد تقدم زيادة إيضاح لذلك ـ.
... ثمَّ: هل أهل بيته كلهم صالحون مهتدون؟! وهل أهل بيته كلهم متبوعون؟!
... وهل أهل بيته كلهم عاشوا مع القرآن؟! أم أنَّكم ستخرجون هذا اللفظ عن دلالته المزعومة هنا في مكان آخر عندما تحتاجون ذلك؟!
... ثانيًا: أوردتم كلام المناوي ولم تكملوه وتكملته: (أمَّا الكتاب فلأنَّه معدن العلوم الدينية والأسرار والحكم الشرعية وكنوز وخفايا الوثائق.
... وأمَّا العترة فلأنَّ العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين، فطيب العنصر يؤدي إلى حسن الأخلاق ومحاسنها تؤدي إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته.
... قال الحكيم: والمراد بعترته هنا العلماء العاملون إذ هم الذين لا يفارقون القرآن أمَّا نحو جاهل وعالم مخلط فأجنبي من هذا المقام وإنَّما ينظر للأصل والعنصر عند التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل.
... فإذا كان العلم النافع في غير عنصرهم لزمنا اتباعه كائنًا ما كان ولا يعارض حثَّه هنا على اتباع عترته في خبر على اتباع قريش لأنَّ الحكم على فرد من أفراد العام بحكم العام لا يوجب قصر العام على ذلك الفرد على الأصح..)(1).
... ثالثًا: المناوي هنا يشرح حديثًا فيه: (إنِّي تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي وإنَّهما لن يتفرقا حتى يرِدا على الحوض)(2).
... وهذا الحديث في سنده: "قاسم بن حسان" قال البخاري: (حديثه منكر ولا يُعرف)(3). وقد ذكره ابن حبان في الثقات(4) على عادته فيمن لم يعرف فيهم جرحًا ولعلَّه لم يقف على كلام البخاري وقد تقدم التنبيه على منهجه.
__________
(1) فيض القدير/ح/2631/
(2) رواه أحمد
(3) الميزان/3/369/
(4) تهذيب الكمال/14/329/(108/300)
... ومدار الحديث على "شُريك بن عبدالله" وقد مرَّ معنا كلام العلماء فيه وأنَّه متهم بالتشيع واضطراب الحديث وكثرة الخطأ(1).
... رابعًا: دعوى أنَّ (أهل البيت عدل للقرآن والتمسك بهم منقذ من الضلالة) هل جميعهم أم بعضهم:
وهل العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته أم لا؟!
... قال المامقاني الشيعي الإمامي: (وأقوال الأخبار في حقه مختلفة جدًا والذامة منها أقوى دلالة)(2).
وهل ابنه عبدالله من أهل البيت أم لا؟!
زعم الكشي الشيعي الإمامي (أنَّه خان عليًّا وأخذ مال بيت البصرة)(3).
وهل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من أهل البيت أم لا؟!
زعم الكشي الشيعي الإمامي (أنَّه كان يشرب الخمر).
وجعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق وقد ورد تسميته عندا لمجلسي بالكذاب(4).
والحسن بن الحسن: "المثنى" هل هو من أهل البيت أم لا؟!
اختلفت رواياتكم في "تنقيح المقال" هل هو: كافر أم فاسق؟!(5)
وعبدالله بن الحسن بن الحسن المسمى بالمحض هل هو من أهل البيت أم لا؟
وقد وصف بأنَّه كذاب.(6)
ومحمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن الملقب بالنفس الزكية هل هو من أهل البيت أم لا؟!
وقد وصف بأنَّه كذاب ادعى الإمامة.(7)
وقال المامقاني: (إنَّ سائر بني الحسن بن علي كانت لهم أفعال شنيعة لا تحمل على التقية باستثناء زيد فإنَّه يمكن أن تحمل أفعاله الشنيعة على التقية)(8).
خامسًا: إذا حملتم أهل البيت على الأئمة وزعمتم أنَّاكلفنا أن نهتدي بهم فأين هم الآن؟! هل نقتدي بإمام هارب مجهول أو معدوم؟!
__________
(1) الميزان/2/274/
(2) تنقيح المقال/2/126-128/
(3) مجمع الرجال/4/143/
(4) بحار الأنوار/51/5/
(5) تنقيح المقال/1/35و273/
(6) بصائر الدرجات/173و176و180و181و194/وتنقيح المقال/2/177/
(7) تنقيح المقال/ترجمة/10953/
(8) تنقيح المقال/3/142/(108/301)
... فإن قلتم بسيرتهم قلنا: أفلا تكفينا سيرة أفضل منهم وقد أصبح كلتا السيرتين مروية تؤخذ من الكتب؟!
... ولو كنَّا نحتاج إلى من يرافق الكتاب أتظن أن الله - عز وجل - يقطع ذرية من أمرنا بالاهتداء به؟! وهل يأمر بالاهتداء بإمام ثمَّ لا ينصره ؟!!
... الحمد لله على العافية؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 159) أوردتم قول التفتازاني لدعم مذهبكم.
... وهنا وقفات:
... أولاً: التفتازاني يشير إلى ما حصل من الاقتتال بين الصحابة في عهد عليّ - رضي الله عنه -.
... ثانيًا: كلام التفتازاني هنا يشمل عليًّا - رضي الله عنه - ومعاوية - رضي الله عنه - فكل منهما قاتل الآخر وظاهر القتال لأجل الرئاسة فهل تلتزم بمؤداه؟!
... ثالثًا: يعترف بفضل كبار الصحابة ويعزو السبب في تعديل العلماء لجميع الصحابة لئلا يصل الأمر إلى كبارهم وعظمائهم ـ كما حدث من الشيعة الإمامية ونحوهم ـ.
... رابعًا: هذا المذهب الذي ذهب إليه شاذ مخالف لمذهب جمهور أهل السنَّة ورغم شذوذه لا يصل إلى درجة المذهب الإمامي وقد تقدم التنبيه على قوله هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
... 160) قلتم: (قال الدكتور عصام العماد: إنَّنا نعتقد أنَّ مذهب الاثني عشرية يطير بجناحين: أحدهما: حديث الثقلين، والجناح الآخر: حديث الاثني عشر. وما لم تدرك الوهابية هذين الحديثين لا يمكن لها أن تفهم الحقائق وخصائص المذهب الاثني عشري)(1).
... وزعمتم في التعريف بهذا الشخص اليمني أنَّه كان وهابيًا ثمَّ انتقل إلى المذهب الاثني عشري.
... والجواب من وجوه:
... أولاً: لا يوجد هناك مذهب اسمه: "الوهابي" وإنَّما هذا اسم اخترعه المبتدعة لمحاربة مذهب السلف الذي يقوم على الكتاب والسنَّة، والشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله إنَّما دعا الناس إلى الكتاب والسنَّة ولم يستحدث شيئًا جديدًا.
__________
(1) المنهج الجديد والصحيح في الحوار مع الوهابيين/155/(108/302)
... ثانيًا: هذا اليمني الذي زعمتم أنَّه كان وهابيًا ثمَّ انتقل إلى المذهب الاثني عشر بناءً على زعمه هو وأنا أجزم أنَّه رافضي المولد والنشأة وكونه درس في جامعة الإمام لا يختلف عن دراسة المستشرقين للإسلام في معاهد المسلمين.
... ولا أعتقد أنّ رجلاً يعيش على مذهب أهل السنَّة وهو يعرف المصادر الدينية "الكتاب والسنَّة" ثمَّ ينتقل إلى مذهب الإمامية.
... وكل من زعمتموهم أنَّهم كانوا سنَّة ثمّ رجعوا إلى مذهب الإمامية شخصيات وهمية أو مخادعة تزعم أنَّها كانت على السنَّة ثم رجعت إلى مذهب الإمامية.
... لكن المهتدين من التشيع إلى العقيدة الصحيحة من أعلام الشيعة كثيرون ممَّن وصل إلى أعلى الدرجات.
... فهذا: سيد أسد الله الخرقاني، وآية الله شريعت سنغلجي، والدكتور شعار، وسيد مصطفى طباطبائي، ثمَّ هذا العالِم المجاهد آية الله العظمى العلاَّمة السيد أبو الفضل بن الرضا البرقعي رحمه الله صاحب كتاب: "كسر الصنم"، والمجتهد أحمد كسروي وكل هؤلاء شيعة أعلام، ومن لم نذكرهم أو لم نقف على أسمائهم ممَّن هداهم الله للعقيدة الصحيحة أكثر.
... وهناك ثائرون على المذهب يطالبون بالتصحيح كموسى الموسوي، وأحمد الكاتب، وغيرهما.
... هؤلاء شخصيات بارزة يتضح من موقفها ما يعانيه أصحاب المذهب الإمامي من أزمات عقدية.
... ثمَّ هؤلاء من أعلام الشيعة الزيدية وهم يتلقون علومهم من آل البيت وقد هداهم الله إلى العقيدة الصحيحة.
... فهذا الصنعاني والشوكاني وابن الوزير الذي ألَّف كتابًا في ترجيح مذهب أهل السنَّة وتبرئة آل البيت ممَّا نسب إليهم يستحق أن يُكتب بماء الذهب بلغ تسعة مجلدات سمَّاه: "العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم".
... ثالثًا: حديث الثقلين قد تقدم وحديث الاثني عشر خليفة وردت له عدة ألفاظ لا ينطبق منها شيء على أئمة الشيعة الإمامية.
... فمن ألفاظه: ((يكون اثنا عشر أميرًا كلهم من قريش)).(108/303)
... ومنها: ((لا يزال الإسلام عزيزًا إلى اثنى عشر خليفة)).
... ومنها: ((لا يزال هذا الدين عزيزًا منيعًا إلى اثنى عشر خليفة)).
... فأي لفظ من هذا الألفاظ ينطبق على أئمة الشيعة الاثني عشر الذين لم يتأمروا؟! ما عدا عليًا والحسن رضي الله عنهما.
... ثمَّ الحديث أشار إلى عزة الدين ومنعته وذلك إشارة إلى قوة الدين وأنتم قد زعمتم أنَّ النصف الثاني من القرن الأول كان شر القرون!!
... والحديث يقول: لا يزال الدين عزيزًا فتذكر.
... وقد مرَّ معنا أن في الكافي أن عدد الأئمة: ((ثلاثة عشر))!!
... رابعًا: ما علاقة الوهابية ـ على فرض صحة هذه النسبة ـ بموضوع الاثني عشر إمامًا والخلاف مع الشيعة الإمامية مع كل الأمة الإسلامية من صدر الإسلام إلى اليوم ومن يسمى بالوهابية إنَّما ظهروا قبل قرابة مائتين أو ثلاثمائة سنة؟! أليست هذه مغالطة؟!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 161) قلتم: (فلا شكَّ أنَّ المراد بأهل البيت هم الذين نزلت فيهم آية التطهير وهم: عليّ وفاطمة والحسن والحسين فلا يشمل غيرهم كما لا يشمل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لِما صُرِّح بذلك في صحيح مسلم(1).
... كما نقله الترمذي وغيره عن أم سلمة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جلَّل الحسن والحسين وعليّ! وفاطمة كساء! ثمَّ قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي أذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيرًا. فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: إنَّك على خير. هذا حديث حسن صحيح.
... وهو أحسن شيء في هذا الباب(2). رواه الحاكم قائلاً: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يُخرجاه(3).
... وهكذا رواه أحمد والطبراني والسيوطي! عن أم سلمة أنَّها قالت: "فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال: إنَّك على خير)(4).
__________
(1) صحيح مسلم/7/123/
(2) سنن الترمذي/5/361/
(3) المستدرك/2/416/
(4) المسند/6/323/(108/304)
... فمن يقول بدخولهن فيهم فقد أراد أن يجذب الكساء من يد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل نساءه تحته).
... قلت الجواب من عدة أوجه:
... أولاً: آية التطهير وحديث الكساء من أهم الأدلة التي يعتمدها الإمامية ولا بد من وقفة مع الآية والحديث.
... ثانيًا: الذي يطلع على استدلالات الإمامية وحرصهم على أخذ الأحاديث من كتب السنَّة يعجب لهذا التناقض.
... مذهب يكفِّر أو يفسِّق أشخاصًا ثمَّ يعتمد عليهم في استدلالاته وهذا من أوضح الأدلة على بطلان هذا المذهب.
... قال ابن المطهر الحلي: (أقول: المحارب لعليّ كافر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - يا عليّ: حربك حربي ولا شكَّ في كفر من حارب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
... وأمَّا مخالفوه في الإمامة فقد اختلف قول علمائنا فمنهم من حكم بكفرهم لأنَّهم دفعوا ما علم ثبوته من الدين ضرورة وهو النص الجلي الدال على إمامته مع تواتره وذهب آخرون إلى أنَّهم فسقة وهو الأقوى..)(1).
... قارن بين دعوى أنَّ الإمامة (عُلم ثبوتها من الدين ضرورة وهو النص الجلي) وبين قول الخميني: (ولو أنَّ النبي بلَّغ بأمر الإمامة كما أمر به الله..) ترى التناقض العجيب.
... ثالثًا: قال تعالى: (إنَّما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا)(2).
... نقف مع هذه الآية وقفات:
... الأولى: هذه الآية جزء من آية وردت في سياق سبع آيات كلها في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد/388-423/وقد خصص أكثر المقصد الخامس للطعن على الصحابة
(2) سورة الأحزاب [آية(33)](108/305)
... أولها: (يا أيُّها النبي قل لأزواجك..) واستمر السياق يخاطب زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال تعالى: (وقرنَ في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنَّما يريد الله ليُذهِب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا.واذكرن ما يُتلى في بيوتكن..)
[سورة الأحزاب(28-34)].
... كيف يقتطع جزء من آية تخاطب زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - والآية ضمن آيات تخاطبهن ويزعم أنَّها لا تخاطبهن؟!
... إنَّه لا يوجد لغوي واحد ادّعى هذه الدعوى.
... الثانية: هل ما ذكر - عز وجل - من إذهاب الرجس وإيقاع التطهير واقع قدرًا أو مطلوب شرعًا؟
... إنَّ هذا يقودنا إلى معرفة معنى الإرادة في كتاب الله - عز وجل -.
... فهل كل ما قال فيه تعالى إنَّه أراده أو يريده واقع لا محالة؟
... عند النظر في كتاب الله تعالى والتأمل في هذه الكلمة نجد أنَّها وردت بمعنيين:
... المعنى الأول: التشريع والأمر والحب للشيء الذي تعلقت به الإرادة أي إنَّ الله - عز وجل - يريد من العبد أن يفعل ومن ذلك قوله تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)(1).
... وقال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(2).
... قال قتادة: (فأريدوا لأنفسكم الذي أراد الله لكم).
... وقال تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيمًا)(3).
... فهذه الإرادة بمعنى: المحبة والأمر أي إنَّ الله يحب لكم ذلك فافعلوه او افعلوا أسبابه.
... ومن هذا القسم قوله تعالى: (إنَّما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس..)(4) أي إنَّما شرع لكم هذا التشريع لتعملوا به ليُذهب عنكم الرجس ويطهركم الله - عز وجل - به.
__________
(1) سورة المائدة[آية(6)]
(2) سورة البقرة[آية(185)]
(3) سورة النساء[آية(27)]
(4) سورة الأحزاب[آية(33)](108/306)
... المعنى الثاني: أنَّ ما تعلقت به الإرادة فهو واقع لا محالة فهي متعلقة بفعل الرب - عز وجل - فقط.
... قال تعالى: (إنَّما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون)(1).
... وقال تعالى: (فمن يرد أن يهديه يشرح صدره للإسلام..)(2).
... وقوله تعالى: (إنَّ الله يفعل ما يريد)(3).
... فالإرادة هنا من فعله - عز وجل - ومتعلقها كائن لا محالة.
... قال الشاطبي رحمه الله: (..الإرادة جاءت في الشريعة على معنيين:
أحدهما: الإرادة القدرية المتعلقة بكل مراد، فما أراد الله كونه كان وما أرد ألا يكون فلا سبيل إلى كونه.
... والثاني: الإرادة الأمرية المتعلقة بطلب إيقاع المأمور وعدم إيقاع المنهي عنه ومعنى هذه الإرادة أنَّه يحب فعل ما أمر به ويرضاه..) ثمَّ أورد الآيات الدالة على الإرادتين..
... ثمَّ قال: (ولأجل عدم التنبه للفرق بين الإرادتين وقع الغلط في المسألة)(4).
... الوقفة الثالثة:
... إذا زعمت الشيعة أنَّ "يريد" في آية: "التطهير" قد وقع مرادها سألناهم:
... هل قوله تعالى: "يريد" وقع في هذه الآية أم في كل آية؟!
... فإن قالوا: في هذه الآية فقط سألناهم: ما هو الدليل على ما تقولون؟ فليس هناك دليل على قصر هذه الدلالة على الكلمة في مكان ونفيها عنها في مكان آخر.
... ثمَّ نقول قال تعالى خطابًا للصحابة - رضي الله عنهم -: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم - والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيمًا)(5).
... وقال تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلَّكم تشكرون)(6).
__________
(1) سورة يس[آية(82)]
(2) سورة الأنعام[آية(125)]
(3) سورة الحج[آية(14)]
(4) الموافقات/4/370-373/
(5) سورة النساء[آية(26-27)]
(6) سورة المائدة[آية(6)](108/307)
... فهذه الآيات فيها خطاب للصحابة - رضي الله عنهم - أنَّ الله - عز وجل - أخبرهم أنَّه يريد: "أن يتوب عليكم"، وأنَّه: "يريد ليطهركم".
... فما الفرق بين هذه الإرادة هنا والإرادة في قوله تعالى: (إنَّما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس..)؟
... فإن كانت هنا قد وقعت فهي قد وقعت للصحابة،وإن لم تقع هناك فهي لم تقع هنا.
... الوقفة الرابعة: عقيدة الشيعة في أفعال العباد هي عقيدة المعتزلة، وهي أنَّ الله - عز وجل - لا يستطيع أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتديًا لأنَّهم زعموا أنَّ المقدور الواحد لا يتعلق به قدرتان.
... فكيف يزعمون هنا أنَّ الله - عز وجل - يمنعهم الوقوع في الفعل الذي يدخل تحت قدرتهم؟
... قال الشيخ محمد بن الحسن الطوسي الإمامي في كتابه "الاقتصاد في الاعتقاد" بعد كلام طويل في تقرير نفي القدر على مذهب المعتزلة: (وإنَّما قلنا: إنَّ ما هو مقدور لنا لا يجوز أن يكون مقدورًا له _أي الله - عز وجل -_ لأنَّ ذلك يؤدي إلى كونه موجودًا معدومًا.
... لأنَّا لو فرضنا الواحد منَّا دعته الدواعي إلى إيجاده وجب حدوثه من جهته وإذا لم يرده الله تعالى يجب أن لا يوجد.
... فاجتمع في فعل واحد وجوب حدوثه ووجوب انتفائه وذلك محال فوجب بطلانه على كل حال).(1)
... فهنا نفى أن يكون المقدور لنا ممَّا يقدر الله - عز وجل - عليه.
... ونحن نَقدِر أن نطيع وأن نعصي.
... والرجس هو من المعصية التي هي في قدرتنا.
... فكيف يعتقدون أنَّ الله - عز وجل - لا يقدر على أفعالنا ثمَّ يقولون: إنَّه يقدر أن يمنعنا من أفعالنا؟
... فهنا إمَّا أن يقولوا بقول أهل السنَّة وهو: أنَّ الله - عز وجل - على كل شيء قدير وأنَّه سبحانه هو الذي يعين الطائع ويوفقه ويترك العاصي ولا يعينه ليستقيم لهم الاستدلال وإمَّا أن ينفوا التطهير!!
__________
(1) الاقتصاد في الاعتقاد/99/(108/308)
... ولمًَّا كان سبحانه على كل شيء قديرًا قال سبحانه قولوا: (إياَّك نعبد وإيَّاك نستعين) فأمرنا أن نستعين به ليعيننا على الفعل ولو لم يكن الفعل تحت قدرته فكيف يعيننا على فعله أو يوفقنا على تركه؟!
الوقفة الخامسة: تفسير الآية باللغة:
قال الزجاج [311هـ]: (وقيل: إنَّ أهل البيت ههنا نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: النبي والرجال الذين هم آله.
واللغة تدل على أنَّه للنساء والرجال جميعًا لقوله: "عنكم" و"يطهركم" ولو كان للنساء لم يجز إلاَّ عنكن ويطهركن..).(1)
وقال الثعالبي [429هـ]: (والذي يظهر لي أنَّ أهل البيت: أزواجه وبنته وبنوها! وزوجها أعني عليًّا ولفظ الآية يقتضي أنَّ الزوجات من أهل البيت لأنَّ الآية فيهن والمخاطبة لهن).(2)
وهكذا قال النسفي [537].(3)
وقال الزمخشري [538هـ]: (ثمَّ بيَّن أنَّه إنَّما نهاهن وأمرهن ووعظهن لئلا يُقارف أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المآثم وليتصونوا عنها بالتقوى..وفي هذا دليل على أنَّ نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته).(4)
وقال ابن الجوزي [597هـ] بعد أن ذكر القول الأول في معنى الآية وأنَّه: نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ويؤكد هذا القول أنَّ ما قبله وما بعده متعلق بأزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أرباب هذا القول اعتراض وهو: أنَّ جمع المؤنث بالنون فكيف قيل: "عنكم" و"يطهركم"؟ فالجواب: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها).(5)
وقال الرازي [606هـ]: (ثمَّ إنَّ الله تعالى ترك خطاب المؤنثات وخاطب بخطاب المذكرين لقوله: (ليُذهب عنكم الرجس) ليدخل فيه نساء أهل بيته ورجالهم واختلفت الأقوال في أهل البيت والأَولى أن يُقال: هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعليّ منهم..).(6)
__________
(1) معاني القرآن/4/226-227/
(2) تفسير الثعالبي
(3) تفسير النسفي
(4) الكشاف/3/546/
(5) زاد المسير
(6) مفاتح الغيب/25/169/(108/309)
وقال البيضاوي [685هـ] بعد أن ذكر مذهب الشيعة: (والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة: "ضعيف" لأنَّ التخصيص بهم لا يُناسب ما قبل الآية وما بعدها..).(1)
وقال أبو السعود [982]: (وهذه بينة وحجة نيِّرة على كون نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته..).(2)
وقال ابن عاشور [معاصر]: (أهل البيت) أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - والخطاب موجه إليهن وكذلك ما قبله وما بعده لا يخالط أحدًا شك..
وقد تلقف الشيعة حديث الكساء فغصبوا وصف أهل البيت وقصَّروه على فاطمة وزوجها وابنيها عليهم الرضوان وزعموا أنَّ أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لسن من أهل البيت.
... وهذه مصادمة للقرآن بجعل هذه الآية حشوًا بين ما خوطب به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس في لفظ حديث الكساء ما يقتضي قصر هذا الوصف على أهل الكساء إذ ليس في قوله: (هؤلاء أهل بيتي) صيغة قصر وهو كقوله تعالى (عن إبراهيم أنَّه قال): (إنَّ هؤلاء ضيفي) [الحجر آية(68)] ليس معناه ليس لي ضيف غيرهم.
... وهو يقتضي أن تكون الآية مبتورة عمَّا قبلها وما بعدها).(3)
... هذه هي دلالة الآيات سياق واحد له ابتداء وله انتهاء يخاطب زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - يعمد أهل الأهواء لإفساد معناها وقطع جملة من ألفاظها عن سياقها بسبب فهم ولَّده روايات ضعيفة.
... الحمد لله على نعمة الهداية.
... وأمَّا "حديث الكساء" فنقف معه وقفات:
أولاً: الأسانيد والطرق:
... ورد له سندان:
__________
(1) تفسير البيضاوي/4/371/
(2) تفسير أبو السعود/7/102/
(3) التحرير والتنوير/21/247-248/(108/310)
... الأول: عن عائشة رضي الله عنها وهو الحديث الوحيد الصحيح في مسألة الكساء فقد رواه مسلم بسنده: (عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن بن عليّ فأدخله ثمَّ جاء الحسين فأدخله ثمَّ جاءت فاطمة فأدخلها معه ثمَّ جاء عليّ فأدخله ثمَّ قال: (إنَّما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا).(1)
... الثاني: عن أم سَلَمة رضي الله عنها وورد عنها من عدة طرق:
... الأولى: رواية الترمذي روى بسنده إلى عمرو بن أبي سلمة ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لما نزلت هذه الآية على النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا) في بيت أم سَلَمة فدعا فاطمة وحسنًا وحُسينًا فجللهم بكساء وعليّ خلف ظهره فجلله بكساء ثمَّ قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا.
... قالت أم سَلَمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنتِ على مكانك وأنت على خير).(2)
... الثانية: عن عطاء عن عمر بن أبي سلمة.. به رواه الترمذي كذلك.(3)
... الثالثة: عن شهر بن حوشب عن أم سلمة..نحوه بدون الآية ولا تفصيل كيفية التجليل.(4)
... الرابعة: عن عطاء بن أبي رباح حدثني من سمع أم سلمة..رواه أحمد بلفظ أطول.(5)
... الخامسة: عن عطاء بن يسار وفيه: (فقلت : يا رسول الله أما أنا من أهل البيت؟ قال: بلى إن شاء الله) رواه البيهقي.
... قال البيهقي: هذا حديث صحيح سنده ثقات رواته وقد روي في شواهده ثمَّ في معارضته أحاديث لا يثبت مثلها وفي كتاب الله البيان لما قصدناه في إطلاق النبي: الآل ومراده من ذلك أزواجه أو هن داخلات فيه.(6)
... ثانيًا: دراسة الطرق:
__________
(1) صحيح مسلم/4/1883/
(2) السنن/ح/3326/
(3) السنن/3948/والمسند/26191/
(4) السنن/4038/ومسند أبي يعلى/ح/7023/
(5) المسند/26103/
(6) السنن/ح/2913/(108/311)
... الطريق الأولى: فيها: "محمد بن سليمان الأصبهاني" قال النسائي: (ضعيف). وقال أبو حاتم: (لا يحتج به). وقال ابن عدي: (مضطرب الحديث قليل الحديث ومقدار ماله قد أخطأ في غير شيء منه). وقال النسائي: (ضعيف)(1).
... وذكره ابن حبان في الثقات مجردًا من التوثيق والتجريح.(2)
... الطريق الثانية: كذلك فيها نفس الراوي: "محمد بن سليمان الأصبهاني".
... الطريق الثالثة: فيها: "شهر بن حوشب" قال ابن عون: (نزكوه) أي طعنوا فيه. وقال موسى بن هارون: (ضعيف). وقال النسائي: (ليس بالقوي).
وقال الساجي: (ضعيف). وقال ابن عدي: (وعامة ما يرويه شهر بن حوشب من الحديث فيه من الإنكار ما فيه، وشهر ليس بالقوي في الحديث وهو ممَّن لا يحتج بحديثه ولا يتدين به).(3)
... وهناك من وثَّقه لكن الراجح أنَّه: ضعيف.
... ولم يُخرج له مسلم في صحيحه إلاَّ مقرونًا بغيره أي لم يقبل روايته إذا انفرد.
... الطريق الرابعة: فيها راوٍ مجهول وهو الذي روى عنه عطاء فرواية عطاء هنا مرسلة.
... قال أحمد بن حنبل: (وليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح فإنَّهما كانا يأخذان عن كل أحد)
... وقال ابن المديني: (كان عطاء يأخذ عن كل ضرب).(4)
... الطريق الخامسة: ذكر البيهقي أنَّها صحيحة وأنَّ سندها ثقات.
... في سنده من لم أجد له ترجمة وبعضهم لم أعرفه من بين أسماء متشابهة والبيهقي إمام محدث.
... ثالثًا: دراسة المتون:
أصح الأحاديث هو حديث عائشة رضي الله عنها.
ولنا هنا وقفات:
... أولاً: أنَّه لم يصح في هذه المسألة مسألة آية التطهير غيره ـ إلاَّ إذا صحت رواية البيهقي ـ.
__________
(1) تهذيب الكمال/25/310/
(2) تهذيب الكمال/15/387/
(3) تهذيب التهذيب/3/15/
(4) تهذيب الكمال/12/190/(108/312)
... ثانيًا: ليس فيه إلاَّ إدخال النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذكر تحت الكساء وقراءة الآية وليس في هذا غير أنَّ هؤلاء من أهل البيت لا حَصرَ أهل البيت فيهم لأنَّ الآية كلها في نسائه - صلى الله عليه وسلم - فلو لم يقل ذلك لما فهم دخولهم في معناها.
... وعند إيرادكم حديث مسلم أوهمتم القارئ أنَّ لفظ مسلم يخرج النساء من معنى الآية وأقل ما يوصف به لفظك أنَّه فيه: "تورية" فقد قلت: (..كما لا يشمل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صرح بذلك في صحيح مسلم).
... قلت: فأين في صحيح مسلم التصريح بذلك؟!
... فليس في صحيح مسلم غير إدخال الأربعة تحت الكساء وقراءة الآية فأين صرح بعدم دخول نسائه؟! أليس هذا الكلام غير مطابق للفظ مسلم؟!
... ثالثًا: هذه الرواية تدل على أنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - وأمَّهات المؤمنين لا يعادي بعضهم بعضًا، وإن وقع بينهم قتال فهاهي عائشة رضي الله عنها تروي فضائل آل البيت ممَّا يؤكد أنَّه لم يكن بينهم ما يزعمه الشيعة.
... رابعًا: لم يفهم الصحابة من هذه الآية والحديث إمامة ولا عصمة وإلاَّ لبايعوا عليًّا ولما قاتله من قاتله بعد ذلك، ثمَّ لأنكر على من يقاتله بالآية والحديث.
... خامسًا: رواية أهل السنَّة من عهد التابعين إلى عصر التصنيف وإخراج أهل السنَّة للحديث في مصنفاتهم دليل العدل والحب لآل البيت.
... سادسًا: عدلت الشيعة عن الاستدلال بهذا الحديث الصحيح إلى حديث ضعيف لعدم وجود لفظ يخرج أمَّهات المؤمنين من أهل البيت ولنفرتهم أو بغضهم لعائشة رضي الله عنها.
حديث أم سَلَمة عند الترمذي:
مرَّ معنا أنَّ حديث أم سَلَمة ضعيف ولكن لا بأس بتحليل ألفاظه لنرى ماذا تدل عليه:
متن الحديث: اللفظ الأول:
الجملة الأولى: (لمَّا نزلت هذه الآية: (إنَّما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا) في بيت أم سَلَمة.
وهنا دلالات منها:(108/313)
الحديث يقرر أنَّ الآية نزلت قبل دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت الآية تخبر عن حصول ارتفاع الرجس والتطهير فكيف يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أخبره الله - عز وجل - ـ حسب زعمكم فيقول: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) ـ؟!
فلو كانت الآية تقرر وقوع التطهير لكان المقابل أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله الذي طهركم فلمَّا دعا عرف أنَّ المراد أنَّ الله - عز وجل - يريد ذلك تشريعًا لا تكوينًا.
أو نقول: إنَّ الآية دلَّت على حدوث التطهير للنساء كما أخبرت الآية وأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُدخل معهن بقية أهله أو فعل ذلك ليدل على شمولهم لمعنى الآية_حسب فَهْم من فَهِم ذلك_.
في الجملة الثانية: (فدعا فاطمة وحسنًا وحُسينًا فجللهم بكساء وعليّ خلف ظهره فجلله بكساء).
وهنا دلالات:
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُدخل عليًّا مع الباقين تحت كساء واحد بل جعل له كساءً وحده.
أنَّ عليًّا كان خلف ظهره.
وهذان الأمران يدلان أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - ليس مشمولاً بقوله: (اللهم أهل بيتي) لأنَّه ليس معهم ثمَّ هو في الخلف والإشارة: "بهؤلاء" تشمل من هم أمامه - صلى الله عليه وسلم - ولا تشمل من خلفه.
وبهذا يكون علي - رضي الله عنه - ليس من أهل البيت ولا مشمولاً بالدعاء على حسب ألفاظ الحديث ـ ونحن لا نقول بذلك ـ لكن لفظ الحديث الذي اختارته الشيعة لإخراج أمَّهات المؤمنين من أهل البيت رجع عليهم بنقيض مقصودهم.
الجملة الثالثة: (قالت أم سَلَمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت على خير).
ليس فيه نفي أن تكون من أهل البيت بل قوله: (أنت على مكانك) أي الذي أخبر الله - عز وجل - به وهو دخولها في معنى الآية أصلاً.(108/314)
وحسب اللفظ الثاني لحديث أم سَلَمة ليس فيه إلاَّ تجليلهم بكساء جميعًا وقوله: (اللهم هؤلاء أهل بيتي..) والدعاء لهم وقوله لأم سَلَمة: (إنَّك على خير).
حديث أم سَلَمة عند البيهقي:
ذكر البيهقي أنَّ في أحد ألفاظ الحديث أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابها عندما سألته بقولها: (أما أنا من أهل البيت؟) قال: (بلى إن شاء الله).
... وصححه البيهقي، وضعَّف كل ما عارضه.
... وبهذا العرض المفصل لمعنى الآية والحديث يتبين بطلان ما تمسك به الشيعة من الآية والحديث.
... والله الهادي إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 162) أوردتم حديث أم سَلَمة: (فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال: "إنَّك على خير").
... الجواب من وجوه:
... أولاً: هذا الحديث في سنده:"شهر بن حوشب"وقد مرَّ معنا أنَّه:"ضعيف".
... وفيه: "علي بن زيد" بن جدعان قال فيه ابن سعد: (وفيه ضعف لا يحتج به) وورد مثل ذلك عن أحمد ويحيى بن معين.
... وقال النسائي: (ضعيف) وفيه غير ذلك وبعضهم قال: صدوق والراجح عدم الاحتجاج به لكثرة من ضعَّفه وكلمة "صدوق" ليست توثيقًا وإنَّما إشارة إلى أنَّه لا يتعمد الخطأ وأمَّا الضبط فهو أمر آخر.
... ثانيًا: ورد في هذا الحديث ألفاظ متضاربة.
... عند الترمذي: (قالت أم سَلَمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: أنت على مكانك أنت على خير) ونحوه عند أحمد في موضعين من مسنده.
... وعند الترمذي الرواية الثانية: (أنت على خير).
... ولم يذكر فيها أنَّها دخلت معهم أو جذب الكساء فكيف تجزم برواية خالفتها كل الروايات لتعارض القرآن ذا الدلالة القاطعة بمثل هذه الروايات التي لا يجوز التدين بمثلها؟!
... وهل يجوز تقييد مطلق القرآن بأحاديث ضعيفة بل إفساد معناه؟!
... أنتم تزعمون أنَّكم لا تقبلون أحاديث الآحاد الصحيحة لإثبات قضايا عقدية ثمَّ نراكم تعمدون إلى روايات آحاد ضعيفة لتأويل القرآن!!(108/315)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 163) قلتم: (وهكذا حديث: (عليّ مع الحق والحق مع عليّ) رواه الهيثمي عن أبي سعيد الخدري قائلاً: ورجاله: ثقات.(1)
... وروى أيضًا عن سعد بن أبي وقاص وأم سَلَمة ثمَّ قال: رواه البزَّار وفيه: سعد بن شعيب ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح.
... وروى الخطيب عن أبي ثابت مولى أبي ذر. روى أبو جعفر الأسكافي عن عمار بن ياسر. روى ابن كثير عن أبي سعيد وأم سَلمَة.
... الجواب من وجوه:
... أولاً: أوردت لفظًا ثمَّ أشرت إلى أنَّه هكذا أورده الهيثمي وليس كذلك فالهيثمي أورد لفظين الأول: (الحق مع ذا الحق مع ذا)، والثاني: (عليّ مع الحق أو الحق مع عليّ) وأنت ذكرت الثاني بدل الأول ثمَّ أشرت إلى الثاني تبعًا له مع أنَّ اللفظ مختلف_وسيأتي بيان المراد_.
... ثانيًا: (حديث عليّ مع الحق..) ذكر الهيثمي أنَّ فيه سعد بن شعيب وهذا الراوي لا يوجد في جميع كتب الرجال المعتمدة ممَّا يدل على جهالته.
... ثالثًا: أمَّا حديث: (الحق مع ذا..) فالظاهر أنَّ ذلك ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنَّما هو من كلام أبي سعيد الخدري أي أنَّ الراوي كان يحدث أنَّ أبا سعيد الخدري روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: (ألا أخبركم بخياركم؟) قالوا: بلى. قال: (خياركم الموفون الطيبون، إنَّ الله يحب الخفي التقي).
... قال_أي الراوي عن أبي سعيد عندما مرَّ عليّ بن أبي طالب من أمامه_: (الحق مع ذا الحق مع ذا).
... وهذا يُسمَّى عند العلماء بالإدراج وهذا ليس فيه إشكال فنحن نعتقد أنَّ الحق معه أثناء خلافه مع معاوية.
... فقد أورده السيوطي في جامع الأحاديث والمراسيل بدون الجملة الأخيرة.(2) ممَّا يؤكد أنَّها مدرجة.
__________
(1) مجمع الزوائد/7/235/
(2) جامع الأحاديث/3/349/(108/316)
... رابعًا: قول الهيثمي: (رجاله ثقات) مردود فإنَّ رجاله غير ثقات ففي سنده: "صدقة بن الربيع الزرقي" مجهول العين والحال.(1)
... وفيه: "أبو سعيد مولى بني هاشم" لم أجد له ترجمة في كتب الرجال فأين وصفه رحمه الله بأنَّ رجاله ثقات؟!
... خامسًا: أمَّا روايات كتب التواريخ فقد ذكر غير مرة أنَّها غير موثوقة ما لم تُذكر بأسانيدها لينظر في مخرجها.
... وأمَّا ابن كثير فيروي عن مؤلفات سابقة فينظر فيها ويعزى إليها لا إلى ابن كثير لأنَّه يذكر من رواه من المصادر القديمة فإنَّ ابن كثير عاش في القرن الثامن وقد انقطع الإسناد وإنَّما ينقل من غيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 164) قلتم: (روى الحاكم عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رحم الله عليًّا اللهم أدر الحق معه حيث دار) ثمَّ قال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يُخرجاه.(2)
قلت: الحديث في سنده: "المختار بن نافع" قال البخاي والنسائي وأبو حاتم: (منكر الحديث).
... وقال ابن حبان: (كان يأتي بالمناكير عن المشاهير حتَّى يسبق إلى القلب أنَّه كان المتعمد لذلك).(3)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 165) قلتم: (وقال الفخر الرازي: من اقتدى في دينه بعليّ بن أبي طالب فقد اهتدى لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم أدر الحق مع عليّ حيث دار).(4)
... الجواب من وجوه:
... أولاً: إنَّ عليًّا - رضي الله عنه - برٌ راشد من خيار الصحابة وعظمائها لِما ورد في حقه من الأحاديث الصحيحة الكثيرة.
... ثانيًا: هذا الحديث كما رأينا لا يصح نسبته إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - لعدم صحة سنده.
... ثالثًا: الرازي ليس من المحدثين ولا له باع في الحديث ولهذا فلا يُعتمَد عليه في إثبات أو نفي الروايات رحمه الله.
__________
(1) الجرح والتعديل/4/433/
(2) المستدرك/3/124/
(3) تهذيب الكمال/17/119/
(4) تفسير الرازي/1/205و207/(108/317)
... رابعًا: إن كان مراد الرازي أن يُقتدَى بعليّ - رضي الله عنه - في الإيمان وأعمال البر التي كان يعملها - رضي الله عنه - فهذا حق وهو ثابت له ولغيره من علماء الصحابة - رضي الله عنهم -.
... وإن كان المراد أن نقتدي به كما نقتدي بالنبي- صلى الله عليه وسلم - في كل عمل يعمله وأن نعتقد عصمته من الخطأ فهذا مردود فليس ذلك لأحد من البشر إلاَّ لرسول الله- صلى الله عليه وسلم -.
... قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا).
... فلا يجوز أن ينزل أحد من البشر منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليس أحد من الصحابة قد أحاط بالدين كله فلا يؤخذ إلاَّ عنه ولكننا نأخذ عنهم جميعًا - رضي الله عنهم -.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 166) قلتم: (روى الحاكم عن أم سَلَمة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (عليّ مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتَّى يرِدا عَلَيَّ الحوض) ثمَّ قال: هذا حديث صحيح الإسناد: وأبو سعيد التيمي هو: "عقيصا" ثقة مأمون ولم يُخرجاه.(1)
... الجواب :
... الحديث في سنده: "أبو ثابت مولى أبي ذر" ليس له ذكر في كتب الرجال.
... وفيه: "أبو سعيد التيمي" قال الذهبي: (يُقال اسمه: دينار شيعي تركه الدارقطني وقال الجوزجاني: (غير ثقة). وقال ابن معين: (رُشيد الهجري) سيء المذهب و"عقيصا" شر منه).(2)
... وفيه: "هاشم بن البريد" قال الذهبي: (وثَّقه ابن معين وغيره إلاَّ أنَّه كان يترفض).(3)
... وفيه ابنه: "علي بن هاشم" قال الذهبي: (وثَّقه ابن معين وغيره. وقال أبو داود: ثبت كان يتشيع. وقال البخاري: كان هو وأبوه غاليين في مذهبهما. وقال ابن حبان: غالٍ في التشيع روى المناكير عن المشاهير).
__________
(1) المستدرك/3/124/
(2) الميزان/3/88/
(3) الميزان/4/288/(108/318)
... قال الذهبي: (قلت: ولغلوِّه ترك البخاري إخراج حديثه فإنَّه يتجنب الرافضة كثيرًا كأنَّه يخاف من تدينهم بالتقية).
... وقال ابن نُمير: (كان مفرطًا في التشيع منكر الحديث).(1)
... فالحديث بهذا لا يصح والحاكم كما هو معروف يتشيع ويتسامح في التصحيح وخاصة ما فيه تقوية للمذهب كما تقدَّم معنا نماذج من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 167) قلتم: (وأرجو من سماحتكم أن تنظر بعين الإنصاف إلى كلام ابن تيمية حول هذه الرواية حيث قال ردًا على العلاَّمة: (عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور حيث دار ولن يفترقا حتَّى يرِدا عليّ الحوض) من أعظم الكلام كذبًا وجهلاً فإنَّ هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف.
... فتعرف بعدما ذكرناه قيمة كلام ابن تيمية إلاَّ أن يُقال بأنَّ عليّ بن أبي طالب - عليه السلام - وعائشة وأم سَلَمة وسعد بن أبي وقاص لم يكونوا من الصحابة والهيثمي والحاكم وابن كثير والرازي ليسوا من العلماء).
... قلت: الجواب من وجوه:
... أولاً: دع ابن تيمية الآن ولنتأمَّل ما ورد في الحديث من معانٍ قبل أن نذكِّر بما تقدَّم من سنده.
... في الحديث أربع مسائل:
... الأولى: أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - مع الحق في كل حركة وسكنة ولا يوجد في عمله خطأ لا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بعدها.
... وهذا مُخالف للحقيقة فإنَّ عليًّا بشر كغيره من البشر يخطئ ويصيب وإن كان - رضي الله عنه - من أقل الناس خطأً كإخوانه عظماء الصحابة.
... وفيما يلي إشارة إلى تقرير هذه الحقيقة:
فأمَّا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد صحَّ عنه عدة أعمال عتب فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه - رضي الله عنه - منها:
__________
(1) الميزان/3/160/(108/319)
عندما همَّ بالزواج على فاطمة رضي الله عنها فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الفعل حتَّى خطب ومن كلامه - صلى الله عليه وسلم -: (فإنَّما فاطمة بضعة منِّي يُريبني ما رابها ويُؤذيني ما آذاها)(1) وهذا دليل على أنَّ الحق لم يكن معه عندما ما خطب - رضي الله عنه -.
عندما طرقه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفاطمة ليلاً فقال: (ألا تصلِّيان؟) فقال له عليّ: إنَّما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا. فانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يضرب فخذه ويقول: (وكان الإنسان أكثر شيئًا جدلاً).(2)
وفي صلح الحديبية عندما امتنع "سُهيل بن عمرو" أن يكتب كلمة: "النبي - صلى الله عليه وسلم -" في وثيقة الصلح: "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" وطلب أن يكتب: "هذا ما صالح عليه: (محمد بن عبدالله) وقد كان الكاتب علي بن أبي طالب وقد كتب الأولى.
قال الراوي البراء بن عازب: (فأمر ـ أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ عليًّا أن يمحاها فقال عليّ: لا والله لا أمحاها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرني مكانها" فأراه مكانها فمحاها)(3) فلم يكن الحق مع عليّ عندما امتنع عن تنفيذ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
هذه بعض النماذج ممَّا أُخذت على عليّ في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
... وليست هذه بالتي تنقص من مكانته - رضي الله عنه - فإنَّ الكمال البشري ليس في عدم الخطأ وإنَّما في قلة الخطأ أمَّا عدم الخطأ فهذا من خصائص الخالق وحده - عز وجل -.
... ولكن العظماء تكون أخطاؤهم قليلة وإذا كان سادة العظماء الذين هم الأنبياء لا يكاد يوجد نبي لم يُعاتبه الله - عز وجل - فكيف بغيرهم؟!
اعترافه هو - رضي الله عنه - بخطئه وعدم عصمته:
فقد ورد في "نهج البلاغة" ـ إن صح ما فيه ـ ما يلي:
__________
(1) رواه البخاري/3/190/ومسلم/4/1902/
(2) رواه البخاري عن عليّ نفسه/6/88/
(3) رواه مسلم/ح/1783/(108/320)
قال عليّ - رضي الله عنه -: (فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإنِّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي إلاَّ أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منِّي).(1)
وقال فيه كذلك: (اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك بلساني ثمَّ خالفه قلبي، اللهم اغفر لي رمزات الألحاظ، وسقطات الألفاظ، وشهوات الجنان، وهفوات اللسان).(2)
ففي هذه النصوص أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - يعترف أنَّه يخطئ ولا يضمن صحة فعله إلاَّ أن يشاء الله ذلك، ولو كان قد تقرَّر عنده العصمة لَما خاف ولَما اعترف بإمكان الخطأ ولصرَّح للناس بعصمته حتَّى يثقوا فيه ولا يجادلوه أو يعارضوه خاصة وهو يحتاج إلى طاعة الأتباع في وقت الفتنة.
ثمَّ يطلب من الله - عز وجل - أن يغفر له ما قد يقع منه من إشارة بعين خاطئة، أو لفظ خرج عن الصواب، وذلك اعتراف بعدم عصمته ـ وإن كنَّا نعتقد أنَّه قال ذلك - رضي الله عنه - تواضعًا لكنَّه اعترف بإمكان ذلك ـ.
فكيف إذن يُقال: إنَّ الحق معه وهو مع الحق فلا خطأ ولا نسيان.
أليس هذا كلامًا مجانبًا للحقيقة؟!
... المسألة الثانية: أنَّ الحق مع عليّ وحده دون بقية البشر فأصبح الشخص هو مقياس الحق لا أنَّ الحق هو المقياس وهذا كلام كما رأينا مجانب للصواب فليس الحق مع شخص مطلقًا إلاَّ الأنبياء وما عداهم فهم بشر يخطئون ويصيبون ولا يجوز لمسلم أن يعتقد في بشر هذا الاعتقاد ولهذا لم نُؤمر بأن نتَّخذ أحدًا أسوة إلاَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ولم يقل: (وفي عليّ) ولا في غيره من البشر.
__________
(1) نهج البلاغة/485/
(2) نهج البلاغة/183/(108/321)
... وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول..) [سورة النساء(59)] فأمر بطاعة الله - عز وجل - استقلالاً وبطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - استقلالاً ولم يفرد: "أولي الأمر" بطاعة مستقلة فعلم أنَّهم يطاعون تبعًا لطاعة الله - عز وجل - وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن أمروا بمعصية فلا طاعة.
... ثمَّ ذكر احتمال حدوث النزاع ومن كان معصومًا لا ينازع وهذا دليل أنَّ: "أولي الأمر" من آحاد الأمة.
... المسألة الثالثة: قوله: (ولن يفترقا حتَّى يردا على الحوض) كلام عجيب فالحق غير الشخص والحق لا يموت والشخص يموت فهل إذا مات الشخص مات الحق معه لا يفارقه؟ إنَّ هذا كلام من أعجب الكلام.
... الحق وصف للفعل ولا يوصف به الشخص فلا يُقال: "فلان الحق" وإنَّما يُقال: "فعل فلان حق" أو الحق وإذا مات الإنسان انقطع الفعل ولم يعد لدعوى مرافقة الحق له معنى فكيف يُقال لن يفترقا وليس في القبر عمل؟!
... المسألة الرابعة: ها هو عليّ مات والحق مات معه فكيف حال الأئمة من بعده؟!
... هل معهم حق آخر غير الذي مع عليّ أم أنَّ الحق رفض أنَّ يغادر مع عليّ ليبقى مع الأئمة؟!
... وبهذا يتبين أنَّ هذا الكلام ليس من كلام النبوة ولا يصح نسبته إلى سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - لبطلان معناه.
... ثانيًا: قول ابن تيمية:
... أورد ابن تيمية قول ابن المطهر ثمَّ رد عليه، وفيما يلي إيراد كلاميهما.(108/322)
قال ابن المطهر: (ولما ذكرت فاطمة أنَّ أباها صلّى الله تعالى عليه وسلم وهبها فدك قال [لها]: هات أسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأم أيمن، فشهدت لها بذلك فقال: امرأة لا يقبل قولها. وقد رووا جميعًا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنَّة فجاء أمير المؤمنين فشهد لها بذلك، فقال: هذا بعلك يجرُّه إلى نفسه ولا نحكم بشهادته لك، وقد رووا جميعًا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: عليٌّ مع الحق، والحق معه يدور حيث دار لن يفترقا حتى يرِدا عليَّ الحوض).
... قال ابن تيمية: (قوله: إنَّهم رووا جميعًا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (عليٌّ مع الحق، والحق معه يدور حيث دار، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) من أعظم الكلام كذبًا وجهلاً، فإنَّ هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا بإسناد صحيح ولا ضعيف. فكيف يُقال: إنَّهم جميعًا رووا هذا الحديث؟ وهل يكون أكذب ممَّن يروى عن الصحابة والعلماء أنَّهم رووا حديثًا، والحديث لا يعرف عن واحد منهم أصلاً؟ بل هذا من أظهر الكذب. ولو قيل: رواه بعضهم، وكان يمكن صحته لكان ممكنًا، فكيف وهو كذب قطعًا على النبي - صلى الله عليه وسلم -؟!
... بخلاف إخباره أن أم أيمن في الجنَّة، فهذا يمكن أنَّه قاله، فإنَّ أم أيمن امرأة صالحة من المهاجرات، فإخباره أنَّها في الجنَّة لا يُنكر، بخلاف قوله عن رجل من أصحابه أنَّه مع الحق [وأنَّ الحق] يدور معه حيثما دار لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض؛ فإنَّه كلام يُنزَّه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(108/323)
... أمَّا أولاً: فلأنَّ الحوض إنَّما يَرِده عليه أشخاص، كما قال للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" وقال: "إنَّ حوضي لأبعد ما بين أيلة إلى عدن، وإنَّ أول الناس ورودًا فقراء المهاجرين الشعث رؤوسًا الدنس ثيابًا الذين لا ينكحون المتنعّمات ولا تفتح لهم أبواب السدد، يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يجد لها قضاء" رواه مسلم وغيره.
... وأما الحق فليس من الأشخاص الذين يردون الحوض)(1).
... أمَّا كلام ابن تيمية فقد كان ردًا على دعوى ابن المطهر.
... ثالثًا: وقفات مع كلا الكلامين:
... الأولى: ألا ترى إلى كلام ابن المطهر وقد عزى هذا الحديث إلى جميع علماء المسلمين بقوله: (وقد رووا جميعًا) أي جميع علماء السنَّة أليس هذا كذبًا بينًا؟!
... فإنَّ هذا الحديث لم يورده إلاَّ كتاب واحد من كتب السنَّة أو كتابان ثمَّ أشار إليه أو نقله عنه بعض المؤرخين.
... أيجوز أن يُقال: (وقد رووه جميعًا) هذه شهادة رجل وقف بنفسه على الرواية وهي شهادة زور!! فما هو حكمك على هذه الدعوى غير الصادقة؟!!
... الثانية: هذا الكلام أثار ابن تيمية وردَّ عليه بما يعتقده وهو: كذب الحديث وعدم جواز نسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلال تحليل الألفاظ ودلالاتها والتي يستحيل أن تصدر من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
... فالنافي يقول لا يوجد في علمي من روى هذا الحديث وهو صادق فيما قال.
... أمَّا المثبت فيقول قد وقفت على أنَّ العلماء: "رووه جميعًا" والنقل الذي ادعاه غير موجود فأين وقف عليه من روايتهم جميعًا؟!
... الثالثة: نفى ابن تيمية وجود رواية صحيحة أو ضعيفة ولم ينفِ رواية موضوعة أو مكذوبة لأنَّه يراها مكذوبة فنفيه إذن صحيح فقد قال: (لم يروه أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف).
__________
(1) منهاج السنة/4/226و238/(108/324)
... الرابعة: ابن تيمية مشهود له بسعة حفظه للحديث حتَّى قال فيه أحد معاصريه وهو ابن الوردي: (كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث). وقال ابن دقيق العيد: (سائر العلوم بين عينيه يأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء)(1).
... وقال ابن كثير: (أمَّا الحديث فكان حامل رايته حافظًا له مميزًا بين صحيحه وسقيمه عارفًا برجاله متضلعًا من ذلك)(2).
... فابن تيمية لشدة حفظه وثقته في حفظه قال ذلك.
... ولعلَّه قد تبين بهذا الجواب شيء من الجواب.
... ثانيًا: قلتم: (فتعرف بعد ما ذكرناه قيمة كلام ابن تيمية).
... قلتُ:
... أولاً: ابن تيمية رحمه الله بشر قد يُخطئ وقد يصيب ولا ندَّعي فيه العصمة ولكن الذي يظهر أنَّه رحمه الله أراد ما بينته سابقًا، ثمَّ هبه أخطأ في هذا الحكم فهذا لا ينقص من قيمته ومكانته.
... ثانيًا: أنت رأيت أنَّ كلام من سمَّيته بـ: "العلاَّمة" أشد خطأً وليس له تخريج أو توجيه يرفعه من وهدته ومع ذلك لا زلت تعتقد أنَّه: "علاَّمة".
... ثالثًا: لو تتبعت كلام: "العلاَّمة؟!" في كتابه منهاج الكرامة لرأيت عشرات الدعاوى الكاذبة وعشرات الأحاديث الموضوعة وعشرات الإساءات الآثمة على عظماء الأمَّة ومع ذلك لا زلت تسمِّيه: "العلاَّمة" وإذا كان هذا علامة الشيعة فكيف بمن ليس علاَّمة؟!
... رابعًا: لماذا يستحي الشيعة من الاستدلال بما في كتبهم وهم يعمدون إلى روايات في كتب السنَّة التي يقرر جمهور علماء السنَّة والمحققون منهم أنَّها ضعيفة من خلال دراسة أسانيدها؟!
... فإنَّها لو كانت صحيحة عندهم لذهبوا إليها والصحيح عندهم لو كان يدل على معتقد الشيعة لذهبوا إليها.
__________
(1) جلاء العينين في محاكمة الأحمدين/6/
(2) البداية/14/137/(108/325)
... فأهل السنَّة يعرضون عنها لعلمهم بأنَّها كذب غُرِر بضعفاء الرواة لروايتها أو يرويها الكذابون أنفسهم ثمَّ يأتي الشيعة يبحثون عنها بين عشرات المصنفات غير المعتمدة ليُقووا بها عقائدهم.
... خامسًا: لماذا يعرض الشيعة عن عشرات ومئات الأحاديث الصحيحة في أمَّهات كتب السنَّة التي رويت بأصح الأسانيد ثمَّ ينطلقون إلى تلك الأحاديث الضعيفة؟!
... هذه تساؤلات تحتاج إلى وقفات!!
... تذييل:
... ثمَّ إنَّني قد ألحقت بالجواب السابق كلام الخميني لأعرف موقفك منه فلم تكتب شيئًا وكنت أريد أن أعرف موقفك من ذلك الكلام الخطير ـ وقد أوردته في ثنايا البحث حسب الحاجة ـ.
... ولعلّي هنا أضيف شيئًا آخر من كلامه الذي يُفهم منه أنَّ الله - عز وجل - يستخدم التقية.
... قال الخميني في صفحة واحدة:
... (بعد أن أوضحنا بأنَّ الإمامة إحدى أصول الدين الإسلامي، وأنَّ القرآن أشار إلى ذلك إلى حد ما، وأنَّ المزيد من تلك الإشارة لم يكن في صالح الإسلام والمسلمين.
... لقد أثبتنا في بداية هذا الحديث بأنَّ النبي أحجم عن التطرق إلى الإمامة في القرآن، لخشيته أن يُصاب القرآن من بعده بالتحريف، أو أن تشتد الخلافات بين المسلمين، فيؤثر ذلك على الإسلام.
... ونورد هنا شواهد من القرآن تدل على ذكر الإمامة بتحفظ خوفًا من المنافقين، فقد قالت تعالى: (يا أيُّها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من الناس).
... وباعتراف أهل السنَّة، ونقلاً عن أبي سعيد وأبي رافع وأبي هريرة، وباتفاق الشيعة، فإنَّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم، بشأن إمامة علي بن أبي طالب(1)).
... يقرر الخميني:
أنَّ الإمامة: "إحدى أصول الدين الإسلامي"
و: "أنَّ القرآن أشار إلى ذلك إلى حد ما"
فكيف: "إحدى أصول الدين" والأصل يعني لا يتحقق الإيمان إلاَّ به ومع ذلك إنَّما: "يشير"؟!
__________
(1) كشف الأسرار/ 149/(108/326)
كيف تكون أصلاً ولا يكون في صالح المسلمين بيانها؟!
وكيف: "أحجم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التطرق إلى الإمامة في القرآن"؟!
وهل القرآن من كلامه - صلى الله عليه وسلم -؟!
ثمَّ يقول إنَّ القرآن لم يصرح بالإمامة خوفًا من المنافقين؟ يعني أنَّ الله - عز وجل - لم يذكرها تقية!!!
هذه جمل قليلة ترى فيها من سوء الأدب مع الله - عز وجل - ومع رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يعجب أن يكون هذا ممن يوصف بالإمام وإذا كان هذا إمامًا فكيف بقية المأمومين؟!
... ونذكر بكلامه الآخر لتكتمل الصورة وهو قوله: (وواضح بأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان قد بلَّغ بأمر الإمامة طبقًا لما أمر به الله - عز وجل - وبذل المساعي في هذا المجال لما نشبت في البلدان الإسلامية كل هذه الاختلافات والمشاحنات والمعارك ولما ظهرت ثمة خلافات في أصول الدين وفروعه)(1).
اتهام للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ونقض لكلامه السابق (وأنَّ المزيد من تلك الإشارة لم يكن في صالح الإسلام والمسلمين) وهنا يقول لو بلغ لما نشبت خلافات..
هذه هي ثمرة العقائد الفاسدة.
والحمد لله على نعمة الهداية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الختام
... هذه إجابات سريعة ووقفات متنوعة مع مذكرتكم التي كانت تعقيبًا على الإجابة التي بعثتها إليكم عن أسئلتكم عند لقائنا قبل سنة ونصف تقريبًا عام 1423هـ.
... وقد وصلتني في منتصف ربيع الثاني تقريبًا عام 1425ه.
... أسأل الله عز وجل أن ينفع بها كاتبها وقارئها.
... ولعله قد ظهر في بعض العبارات خشونة غير مقصودة.
... والله الهادي إلى سواء السبيل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كان الفراغ من كتابته في: 18/6/1425هـ
الباحة ـ الظفير ـ
محب الخير لكم
أ.د/ أحمد بن سعد حمدان الغامدي
الأستاذ بجامعة أم القرى
قسم الدراسات العليا
مكة المكرمة
فهرس المراجع
م
__________
(1) كشف الأسرار/155/(108/327)
الكتاب
أولاً: مراجع أهل السنة
الإحكام في أصول الأحكام / ابن حزم / ط : دار الجيل
الأحكام السلطانية/ أبو الحسن علي بن محمد المارودي/ تحقيق: خالد عبداللطيف السبع/ ط: دار الكتاب العربي
أسباب اختلاف المحدثين/ د. خلدون الأحدب/ ط: دار كنوز العلم 1422هـ
أصول مذهب الشيعة الإمامية/ د. ناصر بن عبدالله القفاري/ ط:1414هـ
الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر/ د. محمد محمد حسين/ ط. دار الرشاد 1389هـ
إرشاد الفحول/ الإمام الشوكاني/ تحقيق أبي مصعب/ ط: دار الكتاب العربي
الإصابة/ ابن حجر/ تحقيق: طه محمد الزيني/ ط: مكتبة الكليات الأزهرية
إعلام الموقعين/ لابن القيم/ تحقيق: محمد محي الدين/ ط: السعادة
إكمال تهذيب الكمال/ علاء الدين مغلطاي/ تحقيق: أبي عبدالرحمن عادل بن محمد/ ط:الفاروق الحديثة 1422هـ
الباعث الحثيث/ ابن كثير/ تحقيق: أحمد شاكر/ ط: دار الفيحاء 1417هـ
بدائع التفسير/ ابن القيم/ جمع يسري السيد/ ط: دار ابن الجوزي 1414هـ
بدائع الفوائد/ ابن القيم/ ط: مكتبة القاهرة
البداية والنهاية/ ابن كثير/ ط: مكتبة المعارف والنصر
تاريخ بغداد/ البغدادي/ ط: الكتاب العربي
تاريخ دمشق/ ابن عساكر
تاريخ المدينة المنورة/ ابن شبة/ ط: دار الأصفهاني بجدة 1399هـ
تبديد الكلام/ إبراهيم بن سليمان الجبهان/ ط: بدون
التحرير والتنوير/ ابن عاشور/ ط: مؤسسة التاريخ
تحفة الأحوذي/ للمباركفوري/ ط: دار الكتب العلمية
تدريب الراوي/ السيوطي/ ط: دار الكتاب العربي 1409هـ
التشيع بين مفهوم الأئمة والمفهوم الفارسي/محمد البغدادي/ ط:دار عمان 1409هـ
تفسير ابن أبي حاتم/ ابن أبي حاتم/ تحقيق أسعد محمد الطيب/ ط: الباز
تفسير أبي السعود/ أبو السعود/ تحقيق: عبدالقادر عطا/ ط: مكتبة الرياض الحديثة
تفسير البيضاوي/ البيضاوي(108/328)
تفسير الثعالبي/ الثعالبي
تفسيير القاسمي/ محمد جمال الدين القاسمي/ تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي/ ط: دار الفكر 1398هـ
تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير/ تحقيق: مجموعة مع د. السيد محمد السيد/ ط: دار الحديث 1422هـ
تفسير القرطبي/ القرطبي/ ط: دار الكتب العلمية
تفسير المنار/ محمد رشيد رضا/ ط: مكتبة القاهرة
تفسير النسفي/ النسفي
الثقات/ ابن حبان/ ط: دار الكتب العلمية 1419هـ
التمهيد/ ابن عبدالبر/ ترتيب الشيخ المغراوي/ ط: أولى
33
تنزيه الشريعة/ أبو الحسن علي بن محمد الكناني/ط:دار الكتب العلمية 1399هـ
34
تهذيب التهذيب/ ابن حجر/ ط: دار صادر
35
تهذيب الكمال/ جمال الدين المزي/ تحقيق: د. بشار عواد/ط:دار الرسالة 1413هـ
36
الجرح والتعديل/ ابن أبي حاتم/ دار الفكر/ ط: 1372هـ
37
جهود أبي الثناء الألوسي في الرد على الرافضة/ تأليف وتحقيق: عبدالله بو شعيب البخاري/ رسالة علمية بالجامعة الإسلامية
38/أ
الدر المنثور/ السيوطي/ تحقيق: د.عبدالله التركي/ط:مركز هجر للبحوث 1424هـ
38/ب
زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي/ ط: المكتب الإسلامي 1407هـ
39
زاد المعاد/ اب القيم/ ط: مؤسسة الرسالة/ ط: الثالثة
40
سلسلة الأحاديث الضعيفة/ الألباني/ ط: مكتبة المعارف 1421هـ
41
سنن ابن ماجه/ الإمام ابن ماجه/ ترقيم: محمد فؤاد عبدالباقي
42
سنن الترمذي/ الإمام الترمذي/ تحقيق: إبراهيم عطوة/ ط: الحلبي
43
سنن النسائي/ الإمام النسائي/ ط: دار إحياء التراث
44
السنة قبل التدوين/ محمد عجاج الخطيب/ ط: 1383هـ
45
السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام/ عماد السيد الشربيني/ ط: دار اليقين 1423هـ
46
السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي/د.مصطفى السباعي/ط:دار الورَّاق 1421هـ
47
سير أعلام النبلاء/ الذهبي/ تحقيق: شعيب الأرناؤوط/ ط: مؤسسة الرسالة(108/329)
48/ أ
السيرة النبوية/ ابن هشام/ ط: المكتبة العصرية بيروت: 1424هـ
48/ب
شذرات الذهب/ ابن العماد الحنبلي/ ط: دار ابن كثير
49/ب
شرح صحيح مسلم/ النووي/ ط: دار القلم بيروت
49/أ
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة/ هبة الله اللالكائي/ تحقيق: د. أحمد سعد حمدان الغامدي/ ط: دار طيبة
49/ج
صب العذاب على من سب الأصحاب/ أبو المعالي محمود شكري الألوسي/ تحقيق: عبدالله بو شعيب البخاي/ رسالة علمية بالجامعة الإسلامية
49/ج
صحيح البخاري/ الإمام البخاري/ ترقيم: محمد فؤاد عبدالباقي
50
صحيح السيرة النبوية/ إبراهيم العلي/ ط: دار النفائس 1419هـ
51
صحيح مسلم/ الإمام مسلم/ ترقيم محمد فؤاد عبدالباقي
52
الصواعق المحرقة على الرافضة الضلال/ ابن حجر الهيتمي/ تحقيق: عبدالرحمن التركي وكامل.../ ط: مؤسسة الرسالة 1417هـ
53
الضعفاء الكبير/ العقيلي/ تحقيق: عبدالمعطي قلعجي/ طبعة الباز
54
الطبقات الكبرى/ ابن سعد/ ط: دار صادر
55
العقد الفريد/ أحمد بن عبدربه الأندلسي/ ط: المكتبة التجارية
56
عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة وآل البيت/ د. علاء بكر/ ط: دار العقيدة 1423هـ
57
علوم الحديث/ ابن الصلاح/ ط: المكتبة العلمية المدنية 1972م
58
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم/ محمد بن إبراهيم بن الوزير اليمني/ تحقيق: شعيب الأرناؤوط/ ط: مؤسسة الرسالة 1412هـ
59/ أ
فتح الباري/ ابن حجر/ ط: السلفية
59/ب
فتح القدير/ الشوكاني/ تحقيق: عبدالرحمن عميرة/ ط: دار الوفاء 1418هـ
60
فجر الإسلام/ أحمد أمين/ ط: مكتبة النهضة المصرية 1975م
61
الفصل/ ابن حزم/ ط: دار المعرفة 1395هـ
62
فضائل الصحابة/ ابن حنبل/ تحقيق: وصي الله/ ط: دار ابن لجوزي 1420هـ
63
فيض القدير/ المناوي/ تحقيق: أحمد عبدالسلام/ ط: دار الكتب العلمية بيروت 1422هـ
64(108/330)
الكامل في ضعفاء الرجال/ ابن عدي/ تحقيق: لجنة من المختصين/ ط: دار الفكر بيروت 1405هـ
65
الكشاف/ الزمخشري/ ط: إحياء التراث العربي
66
الكفاية في علم الرواية/ الخطيب البغدادي/ ط: مكتبة السعادة
67
لسان الميزان/ ابن حجر/ ط: دار الكتاب الإسلامي
68
لله ثم للتاريخ/ حسين الموسوي/ دار المعتز
69
المجروحين/ ابن حبان
70
مجمع البحرين في زوائد المعجمين/ الهيثمي/ تحقيق: عبدالقدوس بن محمد نذير/ ط:1415هـ
71
مجمع الزوائد/ الهيثمي/ ط: دار الكتاب العربي 1967م
72
مجموع فتاوى ابن تيمية/ ط: مكتبة المعارف
73
مختصر منهاج ابن تيمية/ اختصار الشيخ الغنيمان/ ط:1410هـ
74
المستدرك/ الحاكم/ تحقيق: عبدالقادر عطا/ ط: دار الكتب العلمية بيروت
75
مسند ابن حنبل/ أحمد بن حنبل/ ط: المكتب الإسلامي ـ دار صادر بيروت/ ط: مؤسسة الرسالة/ تحقيق: التركي
76
مسند أبي يعلى/ أبو يعلى
77
المصنف/ عبدالرزاق الصنعاني/ تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي/ المكتب الإسلامي 1390هـ
78
معاني القرآن/ الزجاج/ د. عبدالجليل شلبي/ ط: عالم الكتب
79
المعجم الأوسط/ الطبراني
80
معجم البلدان/ ياقوت الحموي/ ط: دار صادر بيروت 1376هـ
81
المعجم الكبير/ الطبراني
82
مفاتيح الغيب/ الرازي/ ط: دار الفكر
83
مفتاح دار السعادة/ ابن القيم/ ط: محمد علي صبيح
84
مقدمة ابن خلدون/ عبدالرحمن بن خلدون/ ط: المكتبة التجارية
85
منهاج السنة/ ابن تيمية/ تحقيق: د. محمد رشاد سالم/ 1406هـ
86
المهدي المنتظر/ د. عداب محمود الحمش/ ط: دار الفتح 1423هـ
87
الموافقات/ الشاطبي/ ط: دار ابن عفان 1417هـ
88
موسوعة شاملة مع الاثني عشرية/ أ.د. علي السالوسي/ ط: دار الفضيلة 1424هـ
89
موقف الرافضة من القرآن/ مامادو كارامبيري/ ط: مكتبة ابن تيمية
90(108/331)
موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين/ مصطفى صبري/ ط: إحياء التراث 1401هـ
91
ميزان الاعتدال/ الذهبي/ ط: الحلبي
ثانيًا: مراجع الشيعة
1
الاقتصاد فيما يتكلف بالاعتقاد/ محمد الحسن الطوسي/ ط: الآداب في النجف 1399هـ
2
أوائل المقالات/ للمفيد/
3
بحار الأنوار/ المجلسي/
4
بصائر الدرجات/ محمد بن حسن صفار/
5
تفسير الصافي/ محسن الكاشاني/
6
تفسر العسكري/ العسكري/
7
تفسير العياشي/ محمد بن مسعود عياشي/
8
تفسير القمي/ القمي/
9
تنقيح المقال/ المامقاني/
10
التهذيب/ الطوسي/
11
رجال الكشي/ الكشي/
12
الشافي شرح الكافي/
13
الكافي/ الكليني/
14
كسر الصنم/ آية الله العظمى السيد أبو الفضل البرقعي/ ترجمة: عبدالرحمن ملا زاده/ ط:دار البيان الأردن 1421هـ
15
كشف الأسرار/ الخميني/ ترجمة: د. محمد البنداري/ ط: دار عمان 1988م
16
معجم رجال الخوئي/ للخوئي/
17
مجمع الرجال/ القهباني/ ط: أصفهان 1384هـ
18
نهج البلاغة/ الشريف الرضي/ ط: دار المعرفة
ثالثًا: تنبيه:ــ
1
1) في مراجع السنة: قد استعنت بكتب التفسير والحديث والتاريخ والرجال بقرصين:
الأول: قرص "التراث" والثاني: "حرف"، إلى جانب المطبوع، ولم أميز بينها في الحواشي فإذا لم يوجد النص في المطبوع فهو في أحد هذين القرصين
2
2) وفي مراجع الشيعة قد استعنت بقرص: "نور جامع الأحاديث" في كتب التفسير والحديث وغيرها إلى جانب الكتب المطبوعة
فهرس الموضوعات
رقم الصفحة
الموضوع
1
مقدمة
2
الإنصاف في المناظرة
2
سبب خلو مكتبات أهل السنة من كتب الشيعة
3
لا يحسن الانتقاء عند الاستدلال
9
ضرورة ذكر المصدر عند الاستدلال
10
دعوى وجود أحاديث تذم الصحابة وأمهات المؤمنين
10
يفهم من عقيدة الشيعة أن القرآن أنزل لهم فقط
12
مقارنة بين صحيح البخاري وكتاب الكافي(108/332)
14
هل التشيع مأوى لكل من أراد هدم الإسلام؟
16
قول ابن حزم في جواز نكاح تسع عند الشيعة
17
دعوى الغريب تجويز الشيعة نكاح الأمهات
17
قول أبي حنيفة فيمن استأجر امرأة ليزني بها
18
دعوى أن المذهب الشيعي لا يختلف عن مذهب أهل السنة
22
غرابة المدعى يحتاج إلى دليل واضح
22
الخلاف مع الشيعة في عدالة الصحابة
23
تمهيد في بيان ظهور الإسلام
23
الدعوة في مكة
26
المرحلة المدنية
27
تربية الصحابة في العهد المكي
27
تربية الصحابة في العهد المدني
27
مرحلة ما بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم
28
وقفات
29
الخلاف الأساسي مع الشيعة في عظماء الصحابة
30
دعوى أن القرآن ذم الصحابة
31
النفاق وأسبابه
32
القرآن كشف المنافقين
32
المنافقون ليسوا من الصحابة
33
دعوى عجيبة بشأن النفاق
34
مصير المنافقين
34
المنافقون بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعلنون
39
دعوى تغلغل النفاق في نفوس الأصحاب
40
قول عمر في أحد الصحابة إنه منافق هل يبيح لنا أن نقول مثله
42
إذا كان الصحابة عدولا فكيف طبقت فيه الحدود
43
ما وقع من خالد رضي الله عنه مع المرتدين
46
ما وقع من الصحابة من أخطاء هل يعذرون فيها
47
الخروج على: "إمام زمانهم"
47
هل يقتدى بهم في أخطائهم؟
48
هل في الصحابة مرضى قلوب؟
49
قول بأن في الصحابة عدولا وغير عدول
50
الطعن في أمهات المؤمنين
50
الزعم بأن مصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم والزواج منه لا فضل فيها ولا تشريف
53
نقل عن أهل السنة لتأييد عدم الانتفاع بالغير للعاصي
55
عدالة الصحابة
56
قول التفتازاني في الأصحاب
57
قول الغزالي في الأصحاب
57
الصحابة غير معصومين، قول ابن حزم في اتباع الصحابة
58
لا يقتدى بكل صحابي
58
قول المازري في عدالة الصحابة
60(108/333)
قول الذهبي: (لو فتحنا هذا الباب...)
60
حديث عن الصديق في ذم الصحابة
61
قول ابن خلدون في أن الصحابة لم يكونوا كلهم أهل فتوى
61
قول طه حسين
62
نسبة قول إلى أحمد أمين
62
النقل عن ابن عقيل الشيعي في عدالة الصحابة
63
قول الألباني في عدم الاقتداء بكل صحابي
64
قول جماعة في عدم الاقتداء بكل الصحابة_الشوكاني، أبو رية...
65
الزعم بأن من يأتي بعد الصحابة يكون أفضل من الصحابة
66
النقل عن الندوي والقاضي عياض وابن عبدالبر..وغيرهم
67
دعوى أن تاريخ الصحابة مليء بالصراع والنزاع
69
طعن الصحابة في أخيه الصحابي هل يجرحه
70
ابن عقيل شخصية مجهولة ظاهرة التشيع
70
قول علماء السنة بأن من ينتقص الصحابة فهو زنديق
75
لا يستدل بضعيف النقل
75
كل من أحبه النبي صلى الله عليه وسلم فهو يحب
76
أراء الشيعة في الصحابة
79
قول علي رضي الله عنه في الصحابة
80
قول علي بن الحسن في الصحابة
81
قول الرضا فيمن سب الصحابة وانطباقه على الشيعة
83
زعم العاملي بأن الشيعة لا يسبون الصحابة
83
قول عليخان في الصحابة
84
دعوى المسعودي في عدد من شهد صفين من الصحابة
84
دعوى وقوع أمور من الصحابة لا تتفق مع العدالة
85
دعاوى كثيرة للعاملي
88
دعوى السبحاني أنه اعتمد على الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة...
90
نماذج من جهالة الرواة في أحاديث الاعتقاد
90
دعوى أن عليا رضي الله عنه هو الوصي
90
أحاديث الوصية
92
تضعيف الراوي يحتاج إلى دليل
92
حديث الحوض: أصحابي أصحابي...
97
آيات مدح الصحابة
97
الأولى: والسابقون
98
المراد بالسابقين
105
دعوى أن عليا هو السابقون
106
آية: "محمد رسول الله والذين معه..."
108
قوله تعالى: "رحماء بينهم"
110
موضوع معاوية من علي
112
قوله تعالى: "سيماهم في وجوههم"(108/334)
112
قوله تعالى: "والذين آووا ونصروا"
113
عدم دخول الطلقاء وأبنائهم في الآية
114
قوله تعالى: "إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا..."
114
آية: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل..."
115
دلالة القرآن أن قوما انقلبوا
116
آية: "للفقراء المهاجرين..."
118
دعوى أن الله عز وجل لم يثن على كل الصحابة
119
دعوى تقييد الممدوحين من الصحابة
120
دعوى أن الشيعة بقوا على الوصية في آل البيت
123
دعوى أن الشيعة لا تخالف النصوص في حق الصحابة
123
حديث:"لا تسبوا أصحابي..."ودعوى أن بعضهم يسب بعض
124
حديث: "خير الناس قرني..." والطعن فيه
129
إضافة آيات في فضل الصحابة
129
آية: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا"
130
آية: "...ويزكيكم..."
131
آية: "كنتم خير أمة أخرجت للناس"
131
آية: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل"
132
آية: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة"
132
آية: "ولكن الله حبب إليكم الإيمان..."
132
آية: "من يرتد منكم عن دينه"
141
دعوى تواتر إطلاق الوصية من الصحابة
145
الطعن في رواة الصحيح
149
دعوى خالد القسري
149
عمران بن حطان من رواة البخاري
151
الرواية عمن يسب علي بن أبي طالب
152
حديث من سب عليا
153
تضعيف ابن كثير أحاديث سب علي رضي الله عنه
154
من شتم الصحابة
156
إنصاف أهل السنة
158
الطعن في علي كالطعن في غيره
160
دعوى لعن علي على المنابر
161
قول معاوية: ما منعك أن تسب أبا تراب
162
ما الفرق بين قتلة عثمان وقاتل علي
164
دعوى أن الأمر لا يستقيم إلا بسب علي
165
دعوى أن عليا: باب مدينة العلم
168
حديث: "أنت تبين لأمتي من بعدي"
169
آية: "وتعيها أذن واعية"
170
وأقضانا علي
170
قول علي: "سلوني"
172
معضلة ليس فيها أبو حسن
173(108/335)
سؤال كبار الصحابة له
174
نقلة عن ابن حزم: تجهيل الأصحاب
175
علي أول من أسلم
178
لماذا قلت الرواية عن علي
180
أبو رية ودعوى الإنصاف
180
هل الإمامة شورى
182
لماذا عدل أبو بكر عن الشورى
182
دعوى أن أكثر الصحابة لم يرض بعمر
184
لماذا حصر عمر الشورى في ستة
186
أثر عن استخلاف عمر
187
حديث أن الرسول ليس له نصيب في الإمامة
187
جملة أحاديث في إمامة علي
189
حديث: "الإنذار يوم الدار"
192
حديث: "ألا ترضى...بمنزلة هارون"
193
حديث: "من كنت مولاه"
194
حديث الثقلين
195
حديث السفينة
196
حديث: "هو ولي كل مؤمن ومؤمنة"
196
حديث: "أنا مدينة العلم"
196
حديث المؤاخاة
197
حديث التبليغ
198
حديث سد الأبواب
199
حديث باب حطة
199
حديث الراية
201
تحريف "بات في فراشه"
202
حديث: "علي مني وأنا منه"
202
لفظ: "ولي" في كلام الخلفاء
204
دعوى التمسك بآل البيت عدل القرآن
206
قول التفتازاني في الصحابة
207
قول عصام العماد: أن مذهب الإمامية يطير بجناحين
208
المقصود بآل البيت وحديث أم سلمة
217
حديث: "علي مع الحق"
218
حديث: "اللهم أدر الحق مع علي"
219
قول الرازي: من اقتدى بعلي
219
حديث: "علي مع الحق"
220
قول ابن تيمية في حديث: "علي مع الحق"
227
الختام
228
فهرس المراجع
233
فهرس الموضوعات(108/336)
سؤال حول عبد الله بن سبأ
محمد مال الله عز الله الخالدي رحمه الله
مكتبة دار التوحيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فقد تلقيت سؤالاً من بعض الإخوة حول شخصية عبد الله بن سبأ، هل حقيقة أم خرافة؟ وفيما يلي نص السؤال والجواب عن ذلك، راجياً من الله تبارك وتعالى أن ينفع بهذه الرسالة المتواضعة طالبي الحق.
س: يقول بعض الشيعة: "يحاول الكثير من المؤرخين إبراز السبئية كمفتاح لفهم الظاهرة الشيعية، وذلك لأنها أقرب إلى المؤرخ البهلواني حيث لا تكلفه عناء البحث فيكتفي بالقشور، ويستنكف عن الغوص في الأعماق. إنني لا أزال أتتبع حقيقة السبئية حتى وجدتها أبأس "تلفيقة" في تاريخ الإسلام، بحيث سرعان ما تلاشى تماسكها، وتداعى صرحها التلفيقي. وشخصية ابن سبأ أكذوبة تاريخية روّجها بنو أمية. فهل ابن سبأ شخصية تاريخية أم هي خيال؟".
ج: لاشك أن مبعث أن نفي وجود شخصية ابن سبأ لاسيما من قبل الشيعة محاولة يائسة منهم لنفي التأثير الفكري والعقائدي لليهود في الدين الشيعي، وكل مطلع على حقيقة الدين الشيعي وركائزه لاسيما موضوع الإمامة والنيل من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين والرجعة والتقية والمنتظر عندهم لا يشك مطلقاً بوضوح البصمات اليهودية في الدين الشيعي، ولست بصدد الكلام في هذا الشأن فقد تكفلت به بعض الأبحاث الإسلامية التي بحثت عن العلاقة بين الدين الشيعي واليهود، وجوابي سوف ينحصر في إثبات شخصية ابن سبأ من خلال المراجع الإسلامية والشيعية وبعض المنتمين إلى التيار الاستشراقي.
أ – عبد الله بن سبأ عند أهل السنة:(109/1)
1 – جاء ذكر السبئية على لسان أعشى همدان (ت 84هـ) في ديوانه (ص148) وتاريخ الطبري (6/83) وقد هجى المختار بن أبي عبيد الثقفي وأنصاره من أهل الكوفة بعدما فرّ مع أشراف قبائل الكوفة إلى البصرة بقوله: شهدت عليكم أنكم سبئية وأني بكم يا شرطة الكفر عارف.
2 – وجاء ذكر السبئية في كتاب الإرجاء للحسن بن محمد بن الحنفية (ت 95هـ) – راجع كتاب ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي للدكتور سفر الحوالي (1/345-361)، حيث تحدث عن معنى الإرجاء المنسوب للحسن، وذكر كلام أهل العلم في ذلك فليراجع للأهمية – ما يلي: (ومن خصومة هذه السبئية التي أدركنا، إذ يقولون هُدينا لوحي ضل عنه الناس). رواه ابن عمر العدني في كتاب الإيمان 0249).
3 – وهناك رواية عن الشعبي (ت 103هـ) ذكرها ابن عساكر في تاريخه (29/7)، تفيد أن: (أول من كذب عبد الله بن سبأ).
4 – وهذا الفرزدق (ت 116هـ) يهجو في ديوانه (ص242-243)، أشارف العراق ومن انضم إلى ثورة عبد الرحمن بن الأشعث في معركة دير الجماجم، ويصفهم بالسبئية، حيث يقول:
كأن على دير الجماجم منهم حصائد أو أعجاز نخل تَقَعّرا
تَعَرّفُ همدانية سبئية وتُكره عينيها على ما تنكرا
رأته مع القتلى وغيّر بعلها عليها تراب في دم قد تعفّرا
ويمكن الاستنتاج من هذا النص أن السبئية تعني فئة لها هوية سياسية معنية ومذهب عقائدي محدد بانتمائها إلى عبد الله بن سبأ اليهودي المعروف، صاحب هذا المذهب.
5 – وقد نقل الإمام الطبري في تفسيره 03/119) رأياً لقتادة بن دعامة السدوسي البصري (ت 117هـ)، في النص التالي: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7]، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية قال: (إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري).
6 – وفي الطبقات الكبرى لابن سعد (ت 2230هـ) ورد ذكر السبئية وأفكار زعيمها وإن لم يشر إلى ابن سبأ بالاسم. الطبقات (3/39).(109/2)
7 – وجاء عند ابن حبيب البغدادي (ت 245هـ) في المحبر (ص308)، ذكر لعبد الله بن سبأ حينما اعتبره أحد أبناء الحبشيات.
8 – كما روى أبو عاصم خُشيش بن أصرم (ت 253هـ)، خبر إحراق علي رضي الله عنه لجماعة من أصحاب ابن سبأ في كتابه الاستقامة. انظر: منهاج السنة لابن تيمية (1/7).
9 – وجاء في البيان والتبيين (3/81) للجاحظ (ت 255هـ)، إشارة إلى عبد الله بن سبأ.
وخبر إحراق علي رضي الله عنه لطائفة من الزنادقة تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح والسنن والمساند. انظر على سبيل المثال: سنن أبي داود (4/126) والنسائي 07/104) والحاكم في المستدرك (3/538).
10 – فقد ذكر الإمام البخاري (ت 256هـ) في كتاب استتابة المرتدين من صحيحه (8/50) عن عكرمة قال: (أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي صلّى الله عليه وسلّم: "لا تعذبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من بدل دينه فاقتلوه".
ومن الثابت تاريخياً أن الذين حرقهم علي رضي الله عنه هم أتباع عبد الله بن سبأ حينما قالوا بأنه الإله.
11 – ذكر الجوزجاني (ت 259هـ) في أحوال الرجال (ص389 أن السبئية غلت في الكفر فزعمت أن علياً إلهاً حتى حرقهم بالنار إنكاراً عليهم واستبصاراً في أمرهم حين يقول: لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا.
12 – ويقول ابن قتيبة (276هـ) في المعارف (ص267): (السبئية من الرافضة ينسبون إلى عبد الله بن سبأ).
وفي تأويل مختلف الحديث (ص73) يقول: (أن عبد الله بن سبأ ادعى الربوبية لعلي، فأحرق علي أصحابه بالنار).
13 – ويذكر البلاذري (ت 279هـ) ابن سبأ من جملة من أتوا إلى علي رضي الله عنه يسألونه من رأيه في أبي بكر وعمر، فقال: أو تفرغتم لهذا. أنساب الأشراف (3/382).(109/3)
14 – ويعتبر الإمام الطبري (ت 310هـ) من الذي أفاضوا في تاريخهم من ذكر أخبار ابن سبأ معتمداً في ذلك على الإخباري سيف بن عمر. تاريخ الطبري (4/283، 326، 331، 340، 349، 398، 493-494، 505).
15 – وأكد ابن عبد ربه (ت 328هـ) أن ابن سبأ وطائفته السبئية قد غلو في علي حينما قالوا: هو الله خالقنا، كما غلت النصارى في المسيح ابن مريم عليه السلام. العقد الفريد (2/405).
16 – ويذكر أبو الحسن الأشعري (ت 330هـ) في مقالات الإسلاميين (1/85) عبد الله بن سبأ وطائفته من ضمن أصناف الغلاة، إذ يزعمون أن علياً لم يمت، وأنه سيرجع إلى الدنيا فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.
17 – ويذكر ابن حبان (ت 354هـ) في كتاب المجروحين (2/253): (أن الكلبي سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ، من أولئك الذين يقولون: إن علياً لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا قبل قيام الساعة).
18 – يقول المقدسي (ت 355هـ) في كتابه البدء والتاريخ (5/129): (إن عبد الله بن سبأ قال للذي جاء ينعي إليه موت علي بن أبي طالب: لو جئتنا بدماغه في صرة لعلمنا أنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه).
19 – ويذكر الملطي (ت 377هـ) في كتابه التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع (ص18): فيقول: (ففي عهد علي رضي الله عنه جاءت السبئية إليه وقالوا له: أنت أنت!!، قال: من أنا؟ قالوا: الخالق البارئ، فاستتابهم، فلم يرجعوا، فأوقد لهم ناراً عظيمة وأحرقهم).
20 – وذكر أبو حفص بن شاهين (ت 385هـ) أن علياً حرق جماعة من غلاة الشيعة ونفى بعضهم، ومن المنفيين عبد الله بن سبأ. أورده ابن تيمية في منهاج السنة (1/7).
21 – ويذكر الخوارزمي (ت 387هـ) في كتابه مفاتيح العلوم (ص22)، أن السبئية عبد الله بن سبأ.
22 – ويرد ذكر عبد الله بن سبأ عند الهمذاني (ت 415هـ) في كتابه تثبيت دلائل النبوة (3/548).(109/4)
23 – وذكر البغدادي (ت 429هـ) في الفرق بين الفرق (ص15 وما بعدها): أن فرقة السبئية أظهروا بدعتهم في زمان علي رضي الله عنه فأحرق قوماً منهم ونفى ابن سبأ إلى سباط المدائن إذ نهاه ابن عباس رضي الله عنهما عن قتله حينما بلغه غلوه فيه وأشار عليه بنفيه إلى المدائن حتى لا تختلف عليه أصحابه، لاسيما وهو عازم على العودة إلى قتال أهل الشام.
24 – ونقل ابن حزم (ت 456هـ) في الفصل في الملل والنحل (4/186): (والقسم الثاني من الفرق الغالية الذين يقولون بالإلهية لغير الله عز وجل فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبأ الحميري لعنه الله، أتوا إلى علي بن أبي طالب فقالوا مشافهة: أنت هو، فقال لهم: ومن هو؟ فقالوا: أنت الله، فاستعظم الأمر وأمر بنار فأججت وأحرقهم بالنار).
25 – يقول الأسفراييني (ت 471هـ) في التبصرة في الدين (ص108): (إن ابن سبأ قال بنبوة علي في أول أمره، ثم دعا إلى ألوهيته، ودعا الخلق إلى ذلك فأجابته جماعة إلى ذلك في وقت علي).
26 – ويتحدث الشهرستاني (ت 548هـ) في الملل والنحل (2/115، 116) عن ابن سبأ فيقول: (ومنه انشعبت أصناف الغلاة)، ويقول في موضع آخر: (إن ابن سبأ هو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي).
27 – وينسب السمعاني (ت 562هـ) في كتابه الأنساب (7/24) السبئية إلى عبد الله بن سبأ.
28 – وترجم ابن عساكر (ت 571هـ) في تاريخه (29/3) لابن سبأ بقوله: عبد الله بن سبأ الذي تنسب إلى السبئية، وهم من الغلاة من الرافضة، أصله من اليمن، وكان يهودياً وأظهر الإسلام.
29 – ويقول نشوان الحميري (ت 573هـ) في كتابه الحور العين (ص154): (فقالت السبئية إن علياً حي لم يمت، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ويرد الناس على دين واحد قبل يوم القيامة).
30 – ويؤكد فخر الدين الرازي (ت 606) في كتابه اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص57)، كغيره من أصحاب المقالات والفرق خبر إحراق علي لطائفة من السبئية.(109/5)
31 – ويذكر ابن الأثير (ت 630هـ) في كتابه اللباب (ص2/98) ارتباط السبئية من حيث النسبة بعبد الله بن سبأ. كما وأنه أورد روايات الطبري بعد حذف أسانيدها في كتابه الكامل (3/114، 144، 147، 148، 154 إلى غيرها من الصفحات).
32 – وذكر السكسكي (ت 683هـ) في كتابه البرهان في معرفة عقائد الأديان: (أن ابن سبأ وجماعته أول من قالوا بالرجعة إلى الدنيا بعد الموت).
33 – ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 727هـ) أن أصل الرفض من المنافقين الزنادقة، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه، وادعى العصمة له. انظر مجموع الفتاوى (4/435)، و(28/483) وفي كثير من الصفحات في كتابه: منهاج السنة النبوية.
34 – ويرد ذكر عبد الله بن سبأ عند المالقي (ت 741هـ) في كتابه التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان (ص54)، بقوله: (وفي سنة ثلاث وثلاثين تحرك جماعة في شأن عثمان رضي الله عنه.. وكانوا جماعة منهم، مالك الأشتر، والأسود بن يزيد.. وعبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء.
35 – وعند الذهبي (ت 748هـ) في كتابه المغني في الضعفاء (1/339) وفي الميزان (2/426): (عبد الله بن سبأ من غلاة الشيعة، ضال مضل)، وذكره أيضاً في تاريخ الإسلام (2/122-123).
36 – وذكر الصفدي (ت 7649هـ) في كتبه الوافي بالوفيات (17/20) في ترجمة ابن سبأ: (عبد الله بن سبأ رأس الطائفة السبئية.. قالت لعلي أنت الإله، فنفاه إلى المدائن، فلما قتل علي رضي الله عنه زعم ابن سبأ أنه لم يمت لأن فيه جزءاً إلهياً وأن ابن ملجم إنما قتل شيطاناً تصور بصورة علي، وأن علياً في السحاب، والرعد صوته، والبرق سوطه، وأنه سينزل إلى الأرض).
37 – وذكر ابن كثير (ت 774هـ) في البداية والنهاية (7/183) أن من أسباب تألب الأحزاب على عثمان ظهور ابن سبأ وصيرورته إلى مصر؛ وإذاعته على الملأ كلاماً اخترعه من عند نفسه.(109/6)
38 – وجاء في الفرق الإسلامية (ص34) للكرماني (ت 786هـ) أن علياً رضي الله عنه لما قتل زعم عبد الله بن سبأ أنه لم يمت، وأن فيه الجزء الإلهي.
39 – ويشير الشاطبي (ت 790هـ) في كتابه الاعتصام (2/197) إلى أن بدعة السبئية من البدع الاعتقادية المتعلقة بوجود إله مع الله، وهي بدعة تختلف عن غيرها من المقالات.
40 – وذكر ابن أبي العز الحنفي (ت 792هـ) في شرح العقيدة الطحاوية (ص578) أن عبد الله بن سبأ أظهر الإسلام وأراد أن يفسد دين الإسلام كما يفعل بولص بدين النصرانية.
41 – ويعرف الجرجاني (ت 816هـ) في كتابه التعريفات (ص79) عبد الله بن سبأ بأنه رأس الطائفة السبئية.. وأن أصحابه عندما يسمعون الرعد يقولون: عليك السلام يا أمير المؤمنين.
42 – ويقول المقريزي (ت 845هـ) في الخطط (2/356-357): (أن عبد الله بن سبأ قام في زمن علي رضي الله عنه محدثاً القول بالوصية والرجعة والتناسخ).
43 – وقد سرد الحافظ ابن حجر (ت 852هـ) في كتابه لسان الميزان (3/290) أخبار ابن سبأ من غير طريق سيف بن عمر، ثم قال: (وأخبار عبد الله بن سبأ شهيرة في التواريخ، وليس له رواية والحمد لله).
44 – وذكر العيني (ت 855هـ) في كتابه عقد الجمان (9/168): (أن ابن سبأ دخل مصر وطاف في كورها، وأظهر الأمر بالمعروف، وتكلم في الرجعة، وقررها في قلوب المصريين).
45 – وأكد السيوطي (ت 911هـ) في كتابه لب الألباب في تحرير الأنساب (1/132) نسبة السبئية إلى عبد الله بن سبأ.
46 – وذكر السفاريني (ت 1188هـ) في كتابه لوامع الأنوار (1/80) ضمن فرق الشيعة فرقة السبئية وقال: (وهم أتباع عبد الله بن سبأ الذي قال لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنت الإله حقاً، فأحرق من أصحاب هذه المقالة من قدر عليه منهم فخد لهم الأخاديد وأحرقهم بالنار).(109/7)
47 – ويروي الزبيدي (ت 1205هـ) أن سبأ الوارد في حديث فروة بن مسيك المرادي هو والد عبد الله بن سبأ صاحب السبئية من الغلاة. تاج العروس (1/75-76)، وكلام الزبيدي هذا غير مقبول ويرده حديث فروة بن مسيك، راجع صحيح سنن أبي داود ( برقم 3373) والترمذي (برقم 3220) كتاب تفسير سورة سبأ، وفي الحديث زيادة تفصيل أن سبأ رجل من العرب ولد له عشرة من الأبناء: سكن منهم ستة في اليمن وأربعة في الشام، وهم أصول القبائل العربية: لخم وجذام وغسان.. الخ، مما يدل على أن سبأ رجل متقدم جداً من أصول العرب، فما علاقة ذلك بسبأ والد عبد الله صاحب السبئية؟!
48 – وتحدث عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي (ت 1239هـ) في كتابه مختصر التحفة الاثني عشرية (ص317) عن ابن سبأ بقوله: (ومن أكبر المصائب في الإسلام في ذلك الحين تسليط إبليس من أبالسة اليهود على الطبقة الثانية من المسلمين فتظاهر لهم بالإسلام وادعى الغيرة على الدين والمحبة لأهله.. وإن هذا الشيطان هو عبد الله بن سبأ من يهود صنعاء، وكان يسمى ابن السوداء، وكان يبث دعوته بخبث وتدرج ودهاء.
49 – ومحمد صديق حسن خان (ت 1307هـ) في خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان (ص8، 33، 44).
هذا ما تيسر جمعه من أقوال العلماء، ومن سلف الأمة، وهناك الكثير غيرهم، وكلها تؤكد وتجمع على ثبوت شخصية عبد الله بن سبأ اليهودي بكونه حقيقة لا خيال، وكوني آثرت ذكر المتقدمين، لأنه إذا ثبت عندهم؛ فهم أعرف منا، لأنه تسنى لهم الاطلاع على كثير من الكتب التي تعد في زمننا هذا في عداد المفقود، فهم الأصل الذي نحن عيال عليه، نقتبس منه ونثبت، كما وأن هناك الكثير من المثبتين لهذه الشخصية من المعاصرين، راجع للأهمية: العنصرية اليهودية وآثارها في المجتمع الإسلامي والموقف منها للدكتور أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزغيبي (2/5300-531)، حيث ذكر عدداً كبيراً من المثبتين لشخصية ابن سبأ من المعاصرين.(109/8)
ب – المثبتين لشخصية ابن سبأ من الشيعة:
1 – ورد في تاريخ الطبري (5/193) على لسان أبي مخنف - لوط بن يحيى - (ت 157هـ) وهو يصف معقل بن قيس الرياحي والذي كلفه المغيرة بن شعبة والي معاوية على الكوفة بقتال المستورد بن علفة الخارجي وأصحابه، فيصفه بأنه من السبئية المفترين الكذابين.
2 – الأصفهاني (ت 283هـ) ذكره الدكتور أحمد الزغيبي في كتابه العنصرية اليهودية (2/528).
3 – أورد الناشئ الأكبر (ت 293هـ) في كتابه مسائل الإمامة (ص22-23) ما يلي: (وفرقة زعموا أن علياً رضي الله عنه حي لم يمت، وأنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه، وهؤلاء هم السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان عبد الله بن سبأ رجلاً من أهل يهودياً.. وسكن المدائن..).
4 – ونقل القمي (ت 301هـ) في كتابه المقالات والفرق (ص20) أن عبد الله بن سبأ أو من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم، وادعى أن علياً أمره بذلك.
5 – ويتحدث النوبختي (ت 310هـ) في كتابه فرق الشيعة (ص23) عن أخبار ابن سبأ فيذكر أنه لما بلغ ابن سبأ نعي علي بالمدائن، قال للذي نعاه: كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض.
6 – ويقول أبو حاتم الرازي (ت 322هـ) في كتابه الزينة في الكلمات الإسلامية (305): (أن عبد الله بن سبأ ومن قال بقوله من السبئية كانوا يزعمون أن علياً هو الإله، وأنه يحيي الموتى، وادعوا غيبته بعد موته).
7 – وروى الكشي (ت 340هـ) في الرجال (ص98-99) بسنده إلى أبي جعفر محمد الباقر قوله: أن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة، ويزعم أن أمير المؤمنين – عليه السلام – هو الله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً. وهناك أقوال مشابهة عن جعفر الصادق وعلي بن الحسين تلعن فيها عبد الله بن سبأ في (ص70، 100) من نفس الكتاب.(109/9)
8 – ويذكر أبو جعفر الصدوق بن بابويه القمي (ت 381هـ) في كتابه من لا يحضره الفقيه (1/213)، موقف ابن سبأ وهو يتعرض على علي رضي الله عنه رفع اليدين إلى السماء أثناء الدعاء.
9 – وجاء عند الشيخ المفيد (ت 413هـ) في كتاب شرح عقائد الصدوق (ص257) ذكر الغلاة من المتظاهرين بالإسلام – يقصد السبئية – الذين نسبوا أمير المؤمنين علي والأئمة من ذريته إلى الألوهية والنبوة، فحكم فيهم أمير المؤمنين بالقتل والتحريق بالنار.
10 – وقال أبو جعفر الطوسي (ت 460هـ) في كتابه تهذيب الأحكام (2/322) أن ابن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلو.
11 – ابن شهر آشوب (ت 588هـ) في مناقب آل أبي طالب (1/227-228).
12 – وذكر ابن أبي الحديد (ت 655هـ) في شرح نهج البلاغة (2/99) ما نصه: (فلما قتل أمير المؤمنين – عليه السلام – أظهر ابن سبأ مقالته، وصارت له طائفة وفرقة يصدقونه.
13 – وأشار الحسن بن علي الحلي (ت 726هـ) في كتابه الرجال (2/71) إلى ابن سبأ ضمن أصناف الضعفاء.
14 – ويرى ابن المرتضى (ت 840هـ) – وهو من أئمة الشيعة الزيدية -، أن أصل التشيع مرجعه إلى ابن سبأ، لأنه أول من أحدث القول بالنص في الإمامة. تاج العروس لابن المرتضى (ص5، 6).
15 – ويرى الأردبيلي (ت 1100هـ) في كتاب جامع الرواة (1/485) أن ابن سبأ غال ملعون يزعم ألوهية علي ونبوته.
16 – المجلسي (ت 1110هـ) في بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (25/286-287).
17 - يقول نعمة الله الجزائري (ت 1112هـ) في كتابه الأنوار النعمانية (2/234): (قال عبد الله بن سبأ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أنت الإله حقاً فنفاه علي عليه السلام إلى المدائن وقيل إنه كان يهودياً فأسلم وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وفي موسى مثل ما قال في علي).
18 – طاهر العاملي (ت 1138هـ) في مقدمة مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار في تفسير القرآن (ص62).(109/10)
19 – وعند المامقاني (ت 1323هـ) في كتابه تنقيح المقال في أحوال الرجال (2/183) جاء ذكر ابن سبأ ضمن نقولات عدة ساقها المؤلف من مصادر شيعية متقدمة عليه.
20 – أما محمد حسين المظفري (ت 1369هـ) وهو من الشيعة المعاصرين الذين لا ينكرون وجود ابن سبأ وإن كان ينفي أن يكون للشيعة به أي اتصال. تاريخ الشيعة (ص10).
21 – أما الخوانساري فقد جاء ذكر ابن سبأ عنده على لسان جعفر الصادق الذي لعن ابن سبأ لاتهامه بالكذب والتزوير. روضات الجنات (13/141).
ثانياً: المنكرون وجود عبد الله بن سبأ من الفريقين..
أ – المنكرون لوجود عبد الله بن سبأ من أهل السنة ومن حسب عليهم:
1 – الدكتور: طه حسين، يقف طه حسين على رأس الكتاب المحدثين الذين شككوا في وجود ابن سبأ بل وأنكروه. انظر كتاب الفتنة الكبرى - عثمان – (ص132)، وعلي وبنوه (ص90).
2 – الدكتور: علي سامي النشار، وهو يأتي بعد طه حسين في إنكاره لشخصية ابن سبأ واعتبارها شخصية وهمية. راجع كتاب نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (2/38-39).
3 – الدكتور: حامد حنفي داود، وهو من الذين تأثروا بكتابات الشيعة حول شخصية ابن سبأ فأنكر وجودها، وذلك عندما قام بكتابة المقدمة المتعلقة بكتاب (عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى) ومن ضمن ما قال: (وأخيراً يسرني أن أعلن إعجابي بهذا السفر الجليل لصاحبه العلامة المحقق السيد مرتضى العسكري)، أما رأيه في عبد الله بن سبأ فأوضحه بقوله: (ولعل أعظم هذه الأخطاء التاريخية التي أفلتت من زمام هؤلاء الباحثين وغم عليهم أمرها فلم يفقهوها ويفطنوا إليها هذه المفتريات التي افتروها على علماء الشيعة حين لفقوا عليهم قصة عبد الله بن سبأ فيما لفقوه من قصص). (1/18، 21).
وضمن كتابه: التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية (ص18).
4 – وهناك أيضاً الدكتور: محمد كامل حسين في كتابه: أدب مصر الفاطمية (ص7).(109/11)
5 – وأيضاً: عبد العزيز الهلابي في كتابه عبد الله بن سبأ (ص73)، حيث حجب هذا الشخص الغموض الذي أثاره غيره من المشككين في وجود ابن سبأ فلازم الإنكار.
6 – والشيء بالشيء يذكر يعتبر حسن بن فرحان المالكي تلميذ المذكور أعلاه من المنكرين لوجود ابن سبأ، وفي أحيان أخرى ينكر دور ابن سبأ في الفتنة. راجع كلامه في جريدة المسلمون الأعداد (657، 658).
7 – ومن المنكرين والمتشككين والمترددين في إثبات ونفي شخصية عبد الله بن سبأ، الدكتور: جواد علي في مقال له بعنوان (عبد الله بن سبأ) منشور في مجلة المجمع العلمي العراقي المجلد السادس (ص84، 100) وأيضاً في مجلة الرسالة العدد (778) (ص609-610).
8 – وأيضاً الدكتور: محمد عمارة في كتابه الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية (ص154-155)، فيقول: (وتنسب أغلب مصادر التاريخ والفكر الإسلامي إلى ابن السوداء هذا نشاط عظيماً وجهداً خرافياً)، ويقول: (فإن وجود ابن سبأ على فرض التسليم بوجوده) إلى غيرها من النقولات.
9 – والدكتور: عبد الله السامرائي في كتابه الغلو والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية (ص86)، إلا أنه يثبت وجود الأفكار التي تنسب إلى عبد الله بن سبأ، من غير جزم بوجود صاحبها.
ب – المنكرون لوجود ابن سبأ من الشيعة:
1 – محمد الحسين كاشف الغطاء، في كتابه أصل الشيعة وأصولها (ص61) يقول: (على أنه لا يستبعد أن يكون هو – أي عبد الله بن سبأ – ومجنون بني عامر وأبو هلال.. وأمثالهم أحاديث خرافية وضعها القصاص لتزجية الفراغ وشغل أوقات الناس).
2 – مرتضى العسكري وله كتابان في هذا الموضوع، ينفي فيهما وجود ابن سبأ من الأصل، ويعتبر مرتضى هذا من أكثر الشيعة المحدثين اهتماماً بمسألة عبد الله بن سبأ. الكتاب الأول بعنوان: (عبد الله بن سبأ بحث حول ما كتبه المؤرخون والمستشرقون ابتداء من القرن الثاني الهجري). ورمز له بالجزء الأول. الكتاب الثاني بعنوان: (عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى).(109/12)
3 – محمد جواد مغنية، وقد ذكر ذلك في تقديمه لكتاب عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى لمرتضى العسكري (1/12). وكتاب التشيع (18).
4 – الدكتور علي الوردي، في كتاب وعاظ السلاطين (ص273-276)، يقول: (يخيل إلي أن حكاية ابن سبأ من أولها إلى آخرها كانت حكاية متقنة الحبك رائعة التصوير)، ويعتبر علي الوردي صاحب بدعة القول بأن ابن السوداء وهو عمار بن ياسر رضي الله عنه، (ص278).
5 – عبد الله بن الفياض في كتابه تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة (ص95)، يقول: (يبدوا أن ابن سبأ كان شخصية إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة).
6 – الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتاب الصلة بين التصوف والتشيع (ص41)، وقد تابع الدكتور علي الوردي في كلامه حول كون عمار بن ياسر هو ابن السوداء، (ص88).
7 – طالب الرفاعي في التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية (ص20).
ولعل هذا النفي شبه الجماعي من قبل أولئك الباحثين الشيعة لشخصية عبد الله بن سبأ، هو بغرض نفي التأثير اليهودي في عقائد الشيعة، وتبرئة ساحتهم من عبد الله بن سبأ، ولكن أنى لهم ذلك.
وقد أعجبتني مقولة للدكتور سعد الهاشمي يقول فيها: (وبهذه النقول والنصوص الواضحة المنقولة من كتب القوم (الشيعة) تتضح لنا حقيقة شخصية ابن سبأ اليهودي، ومن طعن من الشيعة في ذلك فقد طعن في كتبهم التي نقلت لعنات الأئمة المعصومين - عندهم - على هذا اليهودي (ابن سبأ) ولا يجوز ولا يتصور أن تخرج اللعنات من المعصوم على مجهول، وكذلك لا يجوز في معتقد القوم تكذيب المعصوم). ابن سبأ حقيقة لا خيال (ص76).
ج – المثبتون لوجود ابن سبأ من المستشرقين:(109/13)
اهتم المستشرقون بمسألة عبد الله بن سبأ ودرسوا ما جاء عنه، ونحن لسنا بحاجة إلى قيام أمثال هؤلاء الحاقدين لإثبات شخصية ابن سبأ لنثبت شخصيته بدورنا، لكن تطرقت لذكرهم فقط من باب بيان أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، كما فعل أبي هريرة رضي الله عنه عندما تعلم فضل سورة آية الكرسي من إبليس لعنه الله. البخاري مع الفتح (4/487-488).
1 – المستشرق الألماني: يوليوس فلهاوزن (1844-1918م)، يقول: (ومنشأ السبئية يرجع إلى زمان علي والحسن، وتنسب إلى عبد الله بن سبأ وكما يتضح من اسمه الغريب فإنه كان أيضاً يمنياً والواقع أنه من العاصمة صنعاء، ويقال أنه كان يهودياً). في كتابه: الخوارج والشيعة (ص170-171).
2 – المستشرق: فان فلوتن (1866-1903م)، يرى أن فرقة السبئية ينتسبون إلى عبد الله بن سبأ فيقول: (وأما السبئية أنصار عبد الله بن سبأ الذي كان يرى أحقية علي بالخلافة منذ أيام عثمان، فكانوا يعتقدون أن جزءاً إلهياً تجسد في علي ثم في خلفائه من بعده. السيادة العربية والشيعية والإسرائيليات في عهد بني أمية) (ص80).
3 – المستشرق الإيطالي: كايتاني (1869-1926م)، يخلص هذا المستشرق في بحثه الذي نشره في حوليات الإسلام الجزء الثامن من سنة (33-35ه) إلى أن ابن سبأ موجود في الحقيقة لكنه ينكر روايات سيف بن عمر في تاريخ الطبري والتي تشير إلى أن المؤامرة التي أطاحت بعثمان ذات أسباب دينية، كما وأنه ينكر أن تكون آراء ابن سبأ المؤلهة لعلي قد حدثت في أيامه، وينتهي إلى القول بأن هذه الآراء وليدة تصورات الشيعة في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة.
4 – المستشرق: ليفي ديلافدا (المولود عام 1886م)، حيث مرّ بعبد الله بن سبأ وهو يتحدث عن خلافة علي من خلال كتاب أنساب الأشراف للبلاذري.(109/14)
5 – المستشرق الألماني: إسرائيل فريد لندر، وقد كتب مقالاً عن عبد الله بن سبأ في المجلة الآشورية العددين من سنة (1909م، ص322) و(1910م، ص23) بعنوان: (عبد الله بن سبأ مؤسس الشيعة وأصله اليهودي)و قد خلص في بحثه هذا الذي يربوا على الثمانين صفحة إلى القول بأنه لا يتشكك مطلقاً في شخصية ابن سبأ.
6 – المستشرق المجري: جولد تسيهر (1921م)، يقول: (كما أن الإغراق في تأليه على الذي صاغه في مبدأ الأمر عبد الله بن سبأ). في كتابه: العقيدة والشريعة في الإسلام (ص205).
7 – رينولد نكلس (1945م)، يقول في كتابه تاريخ الأدب العربي (ص215): (فعبد الله بن سبأ الذي أسس طائفة السبأيين كان من سكان صنعاء اليمن، وقد قيل إنه كان من اليهود وقد أسلم في عهد عثمان وأصبح مبشراً متجولاً).
8 – داويت. م. رونلدسن، يقول: (فقد ظهر منذ زمن عثمان داعية متنقل اسمه عبد الله بن سبأ قطع البلاد الإسلامية طولاً وعرضاً يريد إفساد المسلمين كما يقول الطبري). عقيدة الشيعة (ص85).
9 – المستشرق الإنجليزي: برنارد لويس، فهو يرى أن عبد الله بن سبأ هو أصل التشيع. راجع كلامه في كتابه: أصول الإسماعيلية (ص86).
هذه أهم الكتابات الاستشراقية في موضوع عبد الله بن سبأ، وهناك غير هؤلاء الكثير، راجع للأهمية كتاب: عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام للدكتور سليمان العودة (ص73).(109/15)
أما المنكرون لشخصية ابن سبأ من المستشرقين، فهم فئة قليلة والذين وقفوا في شخصية ابن سبأ وأصبحت عندهم مجرد خرافة ومحل شك، وليس هناك من داع لذكرهم، لعد انتشار أفكارهم بخلاف المثبتين فهم من المستشرقين المعروفين والذين يعتمد عليهم الكثير ممن تأثر بفكر الاستشراق، وكان هدف هؤلاء المستشرقين من ذلك التشكيك أو الإنكار هو ادعاء أن الفتن إنما هي من عمل الصحابة أنفسهم، وأن نسبتها إلى اليهود أو الزنادقة هو نوع من الدفاع عن الصحابة لجأ إليها الإخباريون والمؤرخون ليعلقوا أخطاء هؤلاء الصحابة على عناصر أخرى، على أن إنكار بعضهم لشخصية ابن سبأ إنما يرجع إلى رغبتهم في الانتهاء إلى النتيجة التالية: لا حاجة لمخرب يمشي بين الصحابة، فقد كانت نوازع الطمع وحب الدنيا والسلطة مستحوذة عليهم، فراحوا يقاتلون بعضهم عن قصد وتصميم، والقصد من ذلك الإساءة إلى الإسلام وأهله، وإلقاء في روع الناس أن الإسلام إذا عجز عن تقويم أخلاق الصحابة وسلوكهم وإصلاح جماعتهم بعد أن فارقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمدة وجيزة، فهو أعجز أن يكون منهجاً للإصلاح في هذا العصر. انظر: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة للدكتور: محمد أمحزون (1/314).
انتهى الكتاب ولله الحمد.(109/16)
سقوط الامبراطور
الفئات المتحالفة لاسقاط الشاه .
اذاعة بي بي سي الريطانية .
فرنسا تحمي الخميني .
الثورة الشاملة .
بازركان في الحكم .
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
سقوط الامبراطور
كيف سقطت الامبراطورية الايرانية ؟ وكيف سقط الامبراطور محمد رضا بهلوي ؟ ومن هم الذين مهدوا الطريق لاسقاطه ؟
لقد توالت الاحداث تلو الاحداث ومهدت الطريق في سقوط امبراطورية كان عمرها 2500عاما . لقد كانت الاحتفالات العظيمة التي شهدتها برسبوليس بمناسبة مرور الفين وخمسمائة عام على عمر الملكية في ايران لم تزل حديث الملوك والرؤساء التسعين الذين حضروا تلك الاحتفالات من اقصى الارض عندما بلغهم ان القي وخمسمائة عاما من التاريخ الذي احتفلوا لاجله في برسبوليس قد تبخر في خلال 6ساعات فقط .
قال المهندس بازركان في احدى خطبه ان الخميني لم يسقط الشاه بل الشاه هو الذي اسقط نفسه ، ان اعدى اعداء الشاه كان الشاه نفسه وليس الخميني وزمرته والجماهير التي تعاونت لاسقاطه . ان السياسة التي اتبعها الشاه في ايران كانت نتيجتها المحتومة سقوطه وسقوط نظامه كما اشرنا اليها بصورة اجمالية في فصل آخر من هذا الكتاب ، اما الفئات التي تعاونت وتكاتفت لاسقاطه في اللحظة المناسبة ومن ثم استطاعت ان تستقطب الجماهير في كل مكان فانها كانت لا على سبيل الحصر :
الجبهة الوطنية والتي كانت ترى في الدكتور مصدق رحمه الله رائدا لها .
نهضة المقاومة الشعبية التي اسسها الامام الزنجاني والمهندس بازركان بعد ان انشقوا من الجبهة الوطنية وكانت لهاتين المجموعتين نفوذ كبير في الاوساط الجامعية وفي البازار ( المركز التجاري لطهران والمراكز التجارية في مدن اخرى ) .(110/1)
مجاهدين خلق : وهو الحزب الذي اسسه موسى خياباني ومسعود رجوي وغيرهما وبدأوا يعكرون صفو النظام بالمقاومة المسلحة وكان الاب الروحي لهؤلاء اية الله الطالقاني رحمه الله والتف حول هذا الحزب شباب المدارس والجامعات ، وكان الشاه يعبر عنهم بالمركسيين الاسلاميين ، وكان لهؤلاء دور بارز وعظيم في نجاح الثورة .(1)
كبار رجال الدين والذين اضطهدتهم سلطات الشاه في خلال السنوات التي تلت المجابهة الدامية بين الشاه والزعامة الروحية وكان لهؤلاء نفوذ واسع بين صفوف الشعب امثال ، اية الله الطالقاني والامام السيد حسن القمي والامام الشيخ بها الدين المحلاتي والامام الخاقاني ، وهؤلاء كانوا على طرفي نقيض مع الخميني وزمرته سواء في افكاره او في سياسته ولكن المصيبة كانت تجمعهم على كل حال فكانوا في خندق واحد ضد الشاه مع احتفاظهم باصالتهم في التفكير واستقلالهم في اتخاذ القرارات .
جماعة الدكتور شريعتي : وكلهم كانوا ولايزالون من الشبان الجامعيين المتحمسين للتجديد الاسلامي وقد سحرهم شريعتي بافكاره الغامضة التي كانت تفسر بانها ضد طبقة من رجال الدين الموالين للشاه وللنظام الحاكم .
خميني وزمرته من رجال الدين الموجودين في اخل ايران وخارجها .
الاحزاب اليسارية بما فيها حزب توده الشيوعي .
__________
(1) بعد مرور سنتين على استلام الخميني للسلطة حصلت مجابهة سياسية بينه وبين المجاهدين اعدم على اثرها منهم بضعة الاف من الفتيان والفتيات في غضون ثلاثة اشهر واستعمل معهم قصوة قلما نجد في تاريخ الطغاة مثيلا لها .(110/2)
لقد اجتمعت هذه الاحزاب والفئات كلها على اسقاط النظام ، وبما ان كل حزب وفئة كانت ترى نفسها اولى واحق بتولية امور البلاد اذا ما قدر لها النجاح في اسقاط الشاه ، فقد استقر رأيهم على اختيار زعيم يقود الحركة وهو على حد ( زعمهم ) لايطمع في الحكم فوقع الاختيار على الخميني . ولعب الخميني نفسه دورا عظيما في اغفال الشعب وسائر الفئات المناضلة وايهامهم انه يكون الرجل المفضل لقيادة الثورة اذا ما اجتمعوا تحت لوائه ، ومن هنا جاء تعيينه للمهندس بازركان كاول رئيس للوزراء بعد الثورة ومشاركة نفر قليل من افراد زمرته في الحكم ، دليلا قاطعا على التزامه بالنهج الذي اعلنه للشعب كافة . واستقر الخميني في نفل لوشاتو قرب باريس تحميه الشرطة الفرنسية وكل الاذاعات العالمية والصحف الكبيرة تنشر ما يقوله ضد الشاه وكانت زمرته في ايران تنشر الكاسيتات التي تحتوي على خطبه المثيرة للشعب وانضمت إلى الخميني اذاعة بي بي سي الفارسية في لندن لتذيع كلما يقوله الخميني ويطلبه من الشعب الايراني حتى اصبحت بوقا من ابواقه ولعب تلك الاذاعة البريطانية دورا هاما في نجاح الثورة لانها الاذاعة الفارسية الوحيدة التي يهتم بسماعها الشعب الايراني الذي كان يعتقد انها تجسد السياسة البريطانية وكان الاستنتاج السياسي لدى الشعب الايراني وساسته ان الوضع الذي اتخذته اذاعة بي بي سي البريطانية في حمايتها للخميني وللثورة انها تمثل رأي بريطانيا وان الدول العظمى قد اتفقت على تصفية الشاه . فموقف الامريكان مع التناقض الموجود في تصريحات الساسة الامريكيين حول تأييدهم للشاه كان ضعيفا . وموقف بريطانيا كما تشهد به اذاعتهم الرسمية كانت مع الخميني والثورة ، وان كانت البيانات الرسمية التي يدلي بها الساسة الانكليز تناقض اذاعتهم . اما فرنسا فقد جندت كل قواها لحماية الخميني واعطائه فرصة التحرك كما يحب ويشاء. اما الروس فهم ضد الملكية بطبيعة سياستهم وحزبهم(110/3)
(التودة) كان يتعاون مع الثورة والخميني تعاون الصديق مع صديقه .
اذن كل القوى العظمى رضخت للامر الواقع وهو تصفية الشاه ، وعاد الخميني إلى طهران عودة الابطال واستقبله 6 ملايين شخص لدى وصله مطار مهر اباد الدولي ولم يسقط سلاح الجو الايراني طائرة البوينغ التي كانت تقله في سماء ايران ومع ان قائدها كان يحمل في قلبه الولاء الكامل للشاه لم يقدم على هذا الامر الذي كان اخر بارقة امل لانقاذ النظام الشاهنشاهي في نظر المخلصين للنظام ، وقد جازى الخميني بالاعدام هذا القائد الذي كان باستطاعته اسقاط طائرته والقضاء عليه وعلى زمرته التي كانوا في معيته و 150 صحفي من انحاء العالم .
واعلن الخميني فور وصوله إلى طهران عدم شرعية حكومة بختيار وتعيين المهندس بازركان رئيسا للوزراء ، واصبحت ايران تعيش في حالة من الفوضى والارتباك ، وكان لابد للازمة ان تنتهي بنصر احد المتخاصمين ، وكانت الايام تمر بسرعة ، ففي يوم 14فبراير من عام 1979 اعلنت حكومة بختيار الحم العسكري ومنع التجوال واعلن الخميني العصيان العام فخرجت ملايين الناس إلى الشوارع متجهة نحو الثكنات العسكرية وسلاح الجو ومقر السافاك والقوات الصاعقة التي كانت تحت امرة قائد حرس الشاه ، وحصلت مواجهة صغيرة استولى الناس على تلك المرافق العسكرية والسلاح الموجود فيها وقتلوا بعض القادة العسكريين الذين ارادوا الدفاع عن ثكناتهم وجاء الجنرال قرباغي القائد الاعلى للقوات المسلحة إلى الخميني مستسلما للامر الواقع معلنا حياد الجيش في المجابهة التي كانت تدور رحاها في شوارع طهران وسائر المدن الايرانية الاخرى ، وعاد الجيش إلى ثكناته بامر من قائده الاعلى واعلن الخميني ولادة الجمهورية الاسلامية الايرانية . فولى عصر ليشهد العالم عصر جديد .(110/4)
اما بختيار فقبل ان يستطيع الهرب القت مجموعة من المتظاهرين القبض عليه واقتادوه إلى مقر بازر كان رئيس الوزراء ، غير ان بازركان وفاء لسنوات النضال إلى قضاها مع هذا الزميل المنكوب هيئ له وسائل الفرار ، فهرب بختيار بعلم بازركان ومساعدته من ايران إلى فرنسا (1) ، وهكذا انتهت الفين وخمسمائة عاما من التاريخ بسقوط الامبراطورية والامبراطور .
__________
(1) لقد سمعت رواية فرار الدكتور بختيار من المقربين إلى المهندس بازركان عندما كنت في طهران وذكرتها بعض الصحف الايرانية ايضا اما الحقيقة فعلى بختيار ان يقول كلمته فيها .(110/5)
سياحة
في كتاب
الكافي
أوثق وأهم كتب الشيعة الإمامية الإثني عشرية
للشيخ
عثمان الخميس
مقدمة :
بسم الله الرحمن الرحيم .. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين , أما بعد ..
فهذه ثمرة يانعة من ثمرات شيخي الكريم عثمان الخميس .. قدمها بفضل الله ثم بسعة إطلاعه حفظه الله كلمة مسموعة , وأقدمها لكم على شكل كلمة مكتوبة بعنوان سياحة في كتاب الكافي أهم وأصح كتب الشيعة الإثني عشرية الإمامية ..
وقد كنت أثناء نقلي أنقل ما يورده الشيخ من روايات من كتاب الكافي الموجود على النت .. زيادة في المصداقية وهي فعلا كما أوردها الشيخ بالجزء والصفحة ..
وكذلك تصرفت فيما لا يخل بالمعنى العام من حيث تغيير بعض الكلمات العامية التي أوردها الشيخ بحكم أنها محاضرة .
فجاءت هذه المادة موثقة منسقة قيمة في محتواها , وإني أسأل الله أن يجزي شيخنا الكريم خير الجزاء على ما قدم ويقدم , وأن ينفعنا بعلمه , وأن لا يحرمنا الأجر معه إنه سميع مجيب .
أبو بدر ( النظير )
ببمقدمة :
بسم الله الرحمن الرحيم , السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , حياكم الله , إخواني جميعا , وأسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحبه ويرضى , الحمد لله فالق الحب والنوى , فالق الإصباح والنور , إله الأولين والآخرين وخالق الخلق أجمعين , والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد ..(111/1)
فقد قاد الأعاجم التشيع في زمن الدولة البويهية , وذلك في القرن الرابع الهجري , ونسبوا إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس لهم , من الشركيات والكذب والطامات التي سنسمعها إن شاء الله تبارك وتعالى هذه الليلة , وللأسف صدقهم الناس فيما نسبوه إليهم , وخير مثال على هذا ما بأيدينا في هذه الليلة , وهو كتاب الكافي الذي يعتبر صحيحاً كله عند غالبية علماء الشيعة الإثني عشرية , ومن لا يصححه كله يقرُّ بأنه أصح كتاب عندهم , فهو بالاتفاق لا يوازيه أي كتاب من كتب هذه الفرقة الضالة .
ومؤلف هذا الكتاب هو أحد هؤلاء الأعاجم , وهو محمد بن يعقوب الكليني , علماً بأن هذا الكتاب لم يؤلفه علي بن أبي طالب ولا أحد من أبناءه , وإنما ألفه هذا الأعجمي ونسبه إليهم كذباً وزوراً وبدون إسناد ..
عن محمد بن الحسن قال : قلت لأبي جعفر الثاني جُعلت فداك إن مشائخنا رووا عن أبي جعفر و أبي عبد الله , وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم ولم ترو عنهم فلما ماتوا صارت الكتب إلينا فقال : ( حدثوا بها فإنها حق ) , إذا لا توجد عندهم أسانيد متصلة إلى جعفر الصادق ولا إلى أبيه محمد الباقر فضلا عن أن تكون لهم أسانيد متصلة بالحسن والحسين وعلي بن أبي طالب فضلا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ويزعمون أنهم بسبب التقية فعلوا ذلك , مع ادعائهم في الوقت نفسه أنه ما استطاع الشيعة أن يظهروا علمهم إلا زمن جعفر الصادق لأن التقية زالت , وهكذا نجد هذه التناقضات التي لا تنتهي أبداً .
وهذه المؤلفات ومنها هذا المؤَلف , أعني كتاب الكافي , تُرَسخُ التفرقة , وتدعو إلى الشعوبية , وإلى العنصرية , وتستحل الدماء والأعراض والأموال باسم أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ظناً منهم أنها ثابتةٌ عنهم , وهذا لا شك أنه كذب وزور .
من هو الكُليني ؟ :(111/2)
هو محمد بن يعقوب الكليني , ولد في مدينة كُلين , وهي في إيران , ويقال له الكُليني ويقال له الرازي كذلك ويُعرف أيضاً بالسلسلي البغدادي أبو جعفر الأعور , وكان شيخ الشيعة في وقته بالري ووجههم كذلك , وكان مجلسه مثابة أكابر العلماء الراحلين في طلب العلم , كانوا يحضرون حلقته لمذاكرته ومفاوضته والتفقه عليه , وكان عالماً متعمقاً محدثاً ثقة حجة عدلاً سديد القول ( عندهم ) .
يُعد , عندهم , من أفاضل حملة الأدب وفحول أهل العلم وشيوخ رجال الفقه وكبار أئمة الإسلام , مضافً إلى أنه , عندهم , من الأبدال في الزهد والعبادة والمعرفة والتأله والإخلاص , قال عنه النجاشي : شيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم , وقال الطوسي : ثقة عارف بالأخبار , وقال بن طاووس : الشيخ المتفق على ثقته وأمانته محمد بن يعقوب الكليني , وعده الطيبي
من مجددي الأمة , على رأس تلك المائة , أعني المائة الرابعة .
هذا الكليني مشهور عندهم , كما قال الميرزا عبد الله الأفندي بأنه : ثقة الإسلام , فإذا قيل ثقة الإسلام قالوا هو الكليني , قال أسد الله الششتري : ثقة الإسلام وقدوة الأنام وعلم الأعلام , المقدم المعظَّم عند الخاص والعام الشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني .
منزلة الكافي عند الشيعة الإثني عشرية :
هذا محمد بن يعقوب الكليني المتوفى سنة 329هـ , على خلاف عندهم في تحديد سنة وفاته , هذا الرجل جمع كتاباً يُقال له الكافي , ويُعتبر كتاب الكافي عند الشيعة الإثني عشرية أصح كتاب في الوجود , وهناك من علمائهم من نقل الإجماع على صحته كله , وقد أنكر أن يكون الكافي صحيحاً كله بعض علماء الشيعة وذلك لما رأوا فيه من الطامات التي لا تُحتمل , وعلى كل حال هو أحسن كتبهم وأصحها بلا خلاف , فيما أعلم , وأنقل الآن كلام علمائهم في هذا الكتاب بعد أن نقلت كلام علمائهم في مؤلف هذا الكتاب .(111/3)
قال النوري الطبرسي , صاحب المستدرك : الكافي بين الكتب الأربعة(1) كالشمس بين النجوم , وإذا تأمل المنصف استغنى عن ملاحظة حال آحاد رجال السند المودعة فيه , وتورثه الوثوق , ويحصل له الاطمئنان بصدورها وثبوتها وصحتها (2) .
وقال الحر العاملي : أصحاب الكتب الأربعة وأمثالهم قد شهدوا بصحة أحاديث كتبهم وثبوتها ونقلها من الأصول المجمع عليها , فإن كانوا ثقات تعين قبول قولهم وروايتهم ونقلهم (3) .
وقال عبد الحسين شرف الدين الموسوي , صاحب المراجعات : الكافي والاستبصار والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه , يعني الكتب الأربعة , متواترة مقطوع بصحة مضامينها , والكافي أقدمها وأعظمها وأحسنها وأتقنها (4) .
وقال محمد صادق الصدر : والذي يجدر بالمطالعة أن يقف عليه , يعني القارئ , هو أن الشيعة وإن كانت مجمعة على اعتبار الكتب الأربعة , وقائلة بصحة كل ما فيها من روايات غير أنها لا تطلق عليها اسم الصحاح كما فعل ذلك إخوانهم من أهل السنة (5) .
بل إن مؤلف الكتاب وهو الكليني , قال عن سبب تأليف كتابه للسائل : وقلت إنك تحب أن يكون عندك كتاب كافٍ يجمع من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه المسترشد , ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين (6) . ولذلك قال المحقق النائيني , عندهم , : إن المناقشة في إسناد روايات الكافي حِرفة العاجز (7) .
__________
(1) الكتب الأربعة هي الكافي والاستبصار والتهذيب وفقيه من لا يحضره الفقيه , التي هي مُعتمد الشيعة في دينهم .
(2) مستدرك الوسائل للطبرسي ج 3 ص 532 .
(3) وسائل الشيعة ج 20 ص 104 .
(4) المراجعات للموسوي مراجعة رقم 110 .
(5) كتابه الشيعة ص 127 .
(6) مقدمة الكافي ص 24 .
(7) كتاب الإنتصار للمحقق النائيني في صحة الكافي ص 8 لعلي أبو الحسن .(111/4)
وأما محقق كتاب الكافي , علي أكبر الغفاري فقال : اتفق أهل الإمامة , وجمهور الشيعة على تفضيل هذا الكتاب والأخذ به والثقة بخبره والاكتفاء بأحكامه , وهم مجمعون على الإقرار بارتفاع درجته وعلو قدره على أنه القطب الذي عليه مدار روايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان , إلى اليوم , وهو عندهم أجمل وأفضل من سائر أصول الحديث (1) .
وقال المفيد : الكافي وهو من أجل كتب الشيعة وأكثرها فائدة (2) , وقال الفيض الكاشاني عن كتب الشيعة : الكافي أشرفها وأوثقها وأتمها وأجمعها , لاشتماله على الأصول من بينها وخلوه من الفضول وشينها (3) .
وقال المجلسي : كتاب الكافي أضبط الأصول وأجمعها , وأحسن مؤلفات الفرقة الناجية وأعظمها (4) .
وقال محمد أمين الإسترابادي : وقد سمعنا من مشائخنا وعلمائنا أنه لم يصنف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه (5). وقال عباس القمي : الكافي هو أجل الكتب الإسلامية وأعظم المصنفات الإمامية , والذي لم يُعمل لإمامية مثله (6) .
إذا كلام الشيعة , عندما يقولون : ليس بصحيح كله , بل فيه ما هو صحيح وما هو ضعيف , إنما هو للخروج من إلزامات أهل السنة لهم , بل من إلزامات الشيعة الذين يؤمنون بالكافي كله كالإخباريين والشيخية وغيرهم , لكن مع هذا قد بينا أنه حتى على التنزل , وعلى القول بأن الكافي ليس صحيحاً كله فهو بإجماع الشيعة أصح كتاب عندهم , وأحسن مؤلفاتهم ولا يوجد كتاب يوازيه لا عند الشيعة فقط , بل في الإسلام كله , ولذلك يقول تيجانيهم المعاصر : ويكفيك أن تعرف مثلا أن أعظم كتاب عندهم , يعني الشيعة , وهو أصول الكافي يقولون بأن فيه آلاف الأحاديث المكذوبة (7) .
__________
(1) مقدمة الكافي ص 26 .
(2) أيضا .
(3) مقدمة الكافي ص 27 .
(4) أيضا .
(5) أيضا .
(6) الكنى والألقاب ج 3 ص 98 .
(7) فاسألوا أهل الذكر ص 34 .(111/5)
إذا عرفنا مكانة هذا الكتاب ومنزلته عندهم , نأتي الآن إلى سياحة في عالم هذا الكتاب , وسأقتصر على المهازل والطامات التي وردت في الكافي , ولو قصدت التوسع وذكر جميع مهازلهم لرجعت إلى كتب أخرى , مثل الأنوار النعمانية , وبحار الأنوار , وسلوني قبل أن تفقدوني , ومدينة المعاجز , وزهر الربيع , وغيرها من كتبهم المعتبرة , عندهم , ولكني قصدت إلى أصح كتاب عندهم , فأخرجت ما وجدت فيه من الأمور التي لا يمكن أبداً أن تصدر عن عاقل , فضلاً عن أن تُنسب إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه , ولو ذكرت ما في غيره من الكتب لوجدتم العجب العجاب , ولكن لما كان القصد الاختصار , سأكتفي بما ورد في كتاب الكافي , بل ببعض ما ورد في هذا الكتاب , والله المستعان .
أولاً : أسانيد هذا الكتاب ورجال إسناده :
روى الكليني في الكافي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أُخبرَ أن عُفيراً حمار الرسول إنتحر فقال علي : ( إِنَّ ذَلِكَ الْحِمَارَ كَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ فَقَامَ إِلَيْهِ نُوحٌ فَمَسَحَ عَلَى كَفَلِهِ ثُمَّ قَالَ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ هَذَا الْحِمَارِ حِمَارٌ يَرْكَبُهُ سَيِّدُ النَّبِيِّينَ وَ خَاتَمُهُمْ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي ذَلِكَ الْحِمَارَ ) (1) .
__________
(1) الكافي ج 1 ص 237 بتحقيق علي أكبر الغفاري طُبع في دار الأضواء في بيروت لبنان سنة 1405هـ - 1985م وهذه الطبعة التي أرجع إليها وعندما أعزو فإنما أعزو إليها .(111/6)
ذكرنا هذا الحديث الذي يرويه الكليني بالإسناد , وإسناده , كما ترون , كله حمير , والعجيب في هذا الإسناد أنه في أعظم كتاب لهم , وليس في حمير بل هو مسلسل بالحمير فعفير يروي عن أبيه عن جده عن جد أبيه , فكرم الله تبارك وتعالى علياً من أن يروى عن حمار عن آباءه .
أما من الناحية الحديثية فللحديث أكثر من علة :
أولا : الإسناد فيه مجاهيل , وذلك أن أولئك الحمير لا ندري هل هم ثِقات حفاظ أم لا !! , ولم أجد من ترجم لهؤلاء الحمير , ولعل القارئ الكريم يبحث معي في تراجم هؤلاء الحمير في كتاب حياة الحيوان للدميري أو كتاب الحيوان للجاحظ لعلنا نصل إلى شئ هناك .
ثانياً : كيف يقول الحمار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( بأبي أنت وأمي ) ؟؟!! ومن أبوه ومن أمه ؟؟ !! حتى يفدِّي بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهذا لا شك أنه طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى , بل وإسفاف وقلة أدب ممن ينسب مثل هذا الكلام إلى سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه أن حمارا يقول له بأبي أنت وأمي !! .
ثالثاً : أن هذا الحديث فيه متهم بالكذب , وهو جد والد الحمار ( عفير ) وذلك أنه قطعاً لم يدرك نوحاً عليه السلام , وهو يدعي أن نوحاً مسح على كفله !! .
هذا بالنسبة لأسانيد هذا الكتاب ..
أما بالنسبة لما يتخلله ذلك الكتاب من المهازل أيضاً :
فنسبة البداء إلى الله سبحانه وتعالى , فعن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام أنهما قالا : ( إنّ الناس لما كذبوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم همَّ الله تبارك وتعالى بهلاك الأرض إلا علياً فما سواه لقوله { فتول عنهم فما أنت بملوم } ثم بدا له – أي لله – فرحم المؤمنين ثم قال لنبيه : { فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } ) (1).
__________
(1) روضة الكافي ص 78 .(111/7)
كذلك من طاماتهم في هذا الكتاب طعنهم في كتاب الله فعن أبي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) قال : ( مَا ادَّعَى أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَمَا أُنْزِلَ إِلَّا كَذَّابٌ وَ مَا جَمَعَهُ وَ حَفِظَهُ كَمَا نَزَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ( عليه السلام ) وَ الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ ( عليهم السلام ) ) (1).
وقيل لأَبِي الْحَسَنِ ( عليه السلام) : إِنَّا نَسْمَعُ الْآيَاتِ فِي الْقُرْآنِ لَيْسَ هِيَ عِنْدَنَا كَمَا نَسْمَعُهَا وَ لَا نُحْسِنُ أَنْ نَقْرَأَهَا كَمَا بَلَغَنَا عَنْكُمْ فَهَلْ نَأْثَمُ فَقَالَ : ( لَا اقْرَءُوا كَمَا تَعَلَّمْتُمْ فَسَيَجِيئُكُمْ مَنْ يُعَلِّمُكُمْ ) (2) .
أما ادعائهم لتحريف كتاب الله تبارك وتعالى :
فعَنْ سَالِمِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ قَرَأَ رَجُلٌ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) وَ أَنَا أَسْتَمِعُ حُرُوفاً مِنَ الْقُرْآنِ لَيْسَ عَلَى مَا يَقْرَأُهَا النَّاسُ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) : ( كُفَّ عَنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ اقْرَأْ كَمَا يَقْرَأُ النَّاسُ حَتَّى يَقُومَ الْقَائِمُ ( عليه السلام ) فَإِذَا قَامَ الْقَائِمُ ( عليه السلام ) قَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى حَدِّهِ وَ أَخْرَجَ الْمُصْحَفَ الَّذِي كَتَبَهُ عَلِيٌّ ( عليه السلام ) ) (3) .
وعن أبي عبدالله قال : ( وَ إِنَّ عِنْدَنَا لَمُصْحَفَ فَاطِمَةَ ( عليها السلام ) وَ مَا يُدْرِيهِمْ مَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ ( عليها السلام ) قَالَ قُلْتُ وَ مَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ ( عليها السلام ) قَالَ مُصْحَفٌ فِيهِ مِثْلُ قُرْآنِكُمْ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَ اللَّهِ مَا فِيهِ مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ ) (4) .
__________
(1) الكافي ج 1 ص 228 .
(2) الكافي ج 2 ص 619 .
(3) الكافي ج 2 ص 633 .
(4) الكافي ج 1 ص 239 .(111/8)
وهذه نُبَذٌ من تحريفاتهم :
قال أبو بصير لأبي عبد الله عليه السلام : جُعلت فداك قول الله سبحانه وتعالى : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ , لِلْكَافِرينَ بولاية علي لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } من إنّا لا نقرأها هكذا , فقال : هكذا والله نزل بها جبريل على محمد , وهكذا والله مثبت في مصحف فاطمة (1) .
وعن أبي عبد الله قال : عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ إِنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ جَبْرَئِيلُ ( عليه السلام ) إِلَى مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وآله ) سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ آيَةٍ (2). وهذا لا شك أنه يعادل القرآن ثلاث مرات تقريباً , فهو إذا مصحف فاطمة الذي يدعون .
وبوب الكليني في كتاب الكافي باباً بعنوان : باب لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام .
وأما تحريفاتهم لكتاب الله تبارك وتعالى فأقرأ لكم نبذا منها :
عن زيد بن الجهم قال : قرأ أبو عبد الله أَنْ تَكُونَ أَئِمَّةٌ هِيَ أَزْكَى مِنْ أَئِمَّتِكُمْ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ أَئِمَّةٌ قَالَ إِي وَ اللَّهِ أَئِمَّةٌ (3) قُلْتُ فَإِنَّا نَقْرَأُ أَرْبى فَقَالَ مَا أَرْبَى وَ أَوْمَأَ بِيَدِهِ فَطَرَحَهَا (4) .
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فِي وَلَايَةِ عَلِيٍّ وَ وَلَايَةِ الْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً هَكَذَا نَزَلَتْ (5) .
__________
(1) الكافي ج 8 ( الروضة ) ص 49 . عندما يقولون لكم مصحف فاطمة ليس قرآناً , كذب وزور , يقول هكذا مثبت في مصحف فاطمة .
(2) الكافي ج 2 ص 634 .
(3) الآية الصحيحة أن تكون أمة هي أربى من أمة .
(4) الكافي ج 1 ص 292
(5) الكافي ج1 ص 414 .(111/9)
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فِي قَوْلِهِ وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ كَلِمَاتٍ فِي مُحَمَّدٍ وَ عَلِيٍّ وَ فَاطِمَةَ وَ الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ وَ الْأَئِمَّةِ ( عليهم السلام ) مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ فَنَسِيَ هَكَذَا وَ اللَّهِ نَزَلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وآله ) (1).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) قَالَ نَزَلَ جَبْرَئِيلُ ( عليه السلام ) بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وآله ) هَكَذَا بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِي عَلِيٍّ بَغْياً (2).
وعن أبي عبد الله قال : نَزَلَ جَبْرَئِيلُ ( عليه السلام ) بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ هَكَذَا وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فِي عَلِيٍّ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (3).
طبعا لاشك أن هذا الكلام كله مكذوب على أبي عبد الله وهو جعفر الصادق , كما قلنا في بداية حديثنا , ومكذوب على أبي جعفر وهو محمد الباقر وغيرهم من أئمة آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
و عَنِ الرِّضَا ( عليه السلام ) فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ وَلَايَةِ عَلِيٍّ هَكَذَا فِي الْكِتَابِ مَخْطُوطَةٌ (4).
__________
(1) الكافي ج1 ص 416 .
(2) الكافي ج 1 ص 417 .
(3) أيضا .
(4) الكافي ج 1 ص 418 .(111/10)
و عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ – الباقر - ( عليه السلام ) قَالَ : ( نَزَلَ جَبْرَئِيلُ ( عليه السلام ) بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وآله ) هَكَذَا فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا آلَ مُحَمَّدٍ حَقَّهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا آلَ مُحَمَّدٍ حَقَّهُمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) (1).
قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ فَقَالَ : ( لَيْسَ هَكَذَا هِيَ إِنَّمَا هِيَ وَ الْمَأْمُونُونَ فَنَحْنُ الْمَأْمُونُونَ ) (2).
و عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَاضِي قَالَ : أُنْزِلَ عليه إِلَّا بَلَاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسَالَاتِهِ فِي عَلِيٍّ قُلْتُ هَذَا تَنْزِيلٌ قَالَ نَعَمْ .. ثم قال : وَ ذَرْنِي يَا مُحَمَّدُ وَ الْمُكَذِّبِينَ بِوَصِيِّكَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا قُلْتُ إِنَّ هَذَا تَنْزِيلٌ قَالَ نَعَمْ (3) .
هذه نُبَذ من التحريفات وإلا لو جلسنا هذه الليلة كلها في قراءة ما جاء في قراءة ما جاء في هذا الكتاب الخبيث من التحريف وإدعاء ما ليس في كتاب الله أنه من كتاب الله لأخذنا الوقت كله ولكن لعل في هذا تنبيه وكفاية .
الحرص على مخالفة أهل السنة :
__________
(1) الكافي ج1 ص 423 .
(2) الكافي ج 1 ص 424 .
(3) الكافي ج 1 ص 434 .(111/11)
فعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ أَخٍ لَهُ مُمَارَاةٌ فِي حَقٍّ فَدَعَاهُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِهِ – أي من الشيعة - لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُ فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُرَافِعَهُ إِلَى هَؤُلَاءِ – إي من أهل السنة - كَانَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ الْآيَةَ ) (1).
أما في غير الكافي ما يؤكد هذه القضية عندهم ما جاء عن أبي عبد الله جعفر الصادق قال : إذا ورد عليك حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه فإن لم تجدوا في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة – أي أهل السنة – فما وافق أخبارهم فذروه , وما خالف أخبارهم فخذوه (2) .
كذلك عن علي بن أسباط قال : قلت للرضا عليه السلام : يحدث الأمر لا أجد بداً من معرفته , وليس في البلد الذي أنا فيه أستفتيه أحد من مواليك , قال : فقال عليه السلام : ائت فقيه البلد – يعني من أهل السنة – فأستفته في أمرك فإن أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإن الحق فيه (3) .
هل يقول هذا الكلام إنسان عاقل فضلا عن أن يقوله مسلم ؟!
ولذلك يقول الخميني : وعلى أي حال لا إشكال في أن مخالفة العامة من مرجحات باب التعارض (4) .
أما الكذب عندهم مما جاء في الكافي :
__________
(1) الكافي ج 7 ص 411 .
(2) وسائل الشيعة ؟؟ لم يكمل الشيخ المصدر .
(3) بحار الأنوار ج 2 ص 233 .
(4) الرسائل للخميني ج2 ص 83 .(111/12)
قال جعفر الصادق : ( رحم الله عبداً حببنا إلى الناس ولم يبغضنا إليهم , أما والله لو يروون محاسن كلامنا لكانوا به أعز وما استطاع أحد أن يتعلق عليهم بشيء , ولكن أحدهم يسمع الكلمة فيحط عليها عشرا ) (1) .
وقال جعفر الصادق : ( إن ممن ينتحل هذا الأمر ليكذب , حتى إن الشيطان ليحتاج إلى كذبه ) (2) .
وأما في غير الكافي فقد قال جعفر الصادق : لو قام قائمنا بدأ بكذابي الشيعة فقتلهم (3) .
وقال جعفر الصادق : ( لو كان الناس كلهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم لنا شكاكاً والربع الآخر أحمق ) (4), وقال جعفر الصادق : ( ما أنزل الله آية في المنافقين إلا وهي فيمن ينتحل التشيع ) (5) . وقال موسى الكاظم : ( لو امتحنتهم – يعني الشيعة – لما وجدتهم إلا مرتدين ولو تمحصتهم لما خلُص من الألف واحد ) (6) .
والآن نبدأ – كما قلنا – بذكر ما في هذا الكتاب من المهازل والطامات التي لا يمكن لإنسان يلتزم بدين أن يقبل أن يكون هذا الكتاب هو أصح كتاب في هذا المذهب أو في هذا الدين أو في هذا المعتقد , إذا كان يقبل أن يكون هذا الكتاب أن يكون عمدته وأن يكون مرجعه فعلى مثل هذا الإنسان السلام , وأنا – كما قلت – ما ذكرت كل شيء لأمور أهمها ضيق الوقت , لا أعني وقتي أنا ولكن أعني وقتكم أنتم , ولعل ما سأذكره طويل , ومع هذا لعل أن يكون فيه إن شاء الله تبارك وتعالى نفع وفائدة وعبرة لمن يعتبر .
__________
(1) الكافي ج8 ص 192 .
(2) الكافي ج 8 ص 212 .
(3) رجال الكشي ص 253 .
(4) رجال الكشي ص 179 .
(5) رجال الكشي ص 154 .
(6) الكافي ج 8 ص 107 . الكافي ينقسم إلى ثلاثة أقسام : الأصول وهما الجزء الأول والثاني . وإلى فروع وهي الأجزاء من الثالث إلى السابع . ثم الروضة وهي الجزء الثامن من الكافي .(111/13)
روى الكليني في الكافي عن حَبَابَةَ الْوَالِبِيَّةِ قَالَتْ : ( قلتُ لأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب مَا دَلَالَةُ الْإِمَامَةِ يَرْحَمُكَ اللَّهُ قَالَتْ فَقَالَ ائْتِينِي بِتِلْكِ الْحَصَاةِ وَ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَصَاةٍ فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَطَبَعَ لِي فِيهَا بِخَاتَمِهِ ثُمَّ قَالَ لِي يَا حَبَابَةُ إِذَا ادَّعَى مُدَّعٍ الْإِمَامَةَ فَقَدَرَ أَنْ يَطْبَعَ كَمَا رَأَيْتِ فَاعْلَمِي أَنَّهُ إِمَامٌ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ وَ الْإِمَامُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْ ءٌ يُرِيدُهُ قَالَتْ ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّى قُبِضَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام ) فَجِئْتُ إِلَى الْحَسَنِ ( عليه السلام ) وَ هُوَ فِي مَجْلِسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام ) وَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَقَالَ يَا حَبَابَةُ الْوَالِبِيَّةُ فَقُلْتُ نَعَمْ يَا مَوْلَايَ فَقَالَ هَاتِي مَا مَعَكِ قَالَ فَأَعْطَيْتُهُ فَطَبَعَ فِيهَا كَمَا طَبَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام ) قَالَتْ ثُمَّ أَتَيْتُ الْحُسَيْنَ ( عليه السلام ) وَ هُوَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) فَقَرَّبَ وَ رَحَّبَ ثُمَّ قَالَ لِي إِنَّ فِي الدَّلَالَةِ دَلِيلًا عَلَى مَا تُرِيدِينَ أَ فَتُرِيدِينَ دَلَالَةَ الْإِمَامَةِ فَقُلْتُ نَعَمْ يَا سَيِّدِي فَقَالَ هَاتِي مَا مَعَكِ فَنَاوَلْتُهُ الْحَصَاةَ فَطَبَعَ لِي فِيهَا قَالَتْ ثُمَّ أَتَيْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ ( عليه السلام ) وَ قَدْ بَلَغَ بِيَ الْكِبَرُ إِلَى أَنْ أُرْعِشْتُ وَ أَنَا أَعُدُّ يَوْمَئِذٍ مِائَةً وَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَأَيْتُهُ رَاكِعاً وَ سَاجِداً وَ مَشْغُولًا بِالْعِبَادَةِ فَيَئِسْتُ مِنَ الدَّلَالَةِ فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِالسَّبَّابَةِ فَعَادَ إِلَيَّ شَبَابِي قَالَتْ فَقُلْتُ يَا سَيِّدِي كَمْ مَضَى مِنَ(111/14)
الدُّنْيَا وَ كَمْ بَقِيَ فَقَالَ أَمَّا مَا مَضَى فَنَعَمْ وَ أَمَّا مَا بَقِيَ فَلَا قَالَتْ ثُمَّ قَالَ لِي هَاتِي مَا مَعَكِ فَأَعْطَيْتُهُ الْحَصَاةَ فَطَبَعَ لِي فِيهَا ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) فَطَبَعَ لِي فِيهَا ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فَطَبَعَ لِي فِيهَا ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى ( عليه السلام ) فَطَبَعَ لِي فِيهَا ثُمَّ أَتَيْتُ الرِّضَا ( عليه السلام ) فَطَبَعَ لِي ) (1) .
__________
(1) الكافي ج 1 ص346 .(111/15)
و عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ : ( دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فَقُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ هَاهُنَا أَحَدٌ يَسْمَعُ كَلَامِي قَالَ فَرَفَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) سِتْراً بَيْنَهُ وَ بَيْنَ بَيْتٍ آخَرَ فَاطَّلَعَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ شِيعَتَكَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) عَلَّمَ عَلِيّاً ( عليه السلام ) بَاباً يُفْتَحُ لَهُ مِنْهُ أَلْفُ بَابٍ قَالَ فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) عَلِيّاً ( عليه السلام ) أَلْفَ بَابٍ يُفْتَحُ مِنْ كُلِّ بَابٍ أَلْفُ بَابٍ قَالَ قُلْتُ هَذَا وَ اللَّهِ الْعِلْمُ قَالَ فَنَكَتَ سَاعَةً فِي الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ وَ مَا هُوَ بِذَاكَ قَالَ ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ وَ إِنَّ عِنْدَنَا الْجَامِعَةَ وَ مَا يُدْرِيهِمْ مَا الْجَامِعَةُ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ وَ مَا الْجَامِعَةُ قَالَ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً بِذِرَاعِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) وَ إِمْلَائِهِ مِنْ فَلْقِ فِيهِ وَ خَطِّ عَلِيٍّ بِيَمِينِهِ فِيهَا كُلُّ حَلَالٍ وَ حَرَامٍ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ حَتَّى الْأَرْشُ فِي الْخَدْشِ وَ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَيَّ فَقَالَ تَأْذَنُ لِي يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّمَا أَنَا لَكَ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ قَالَ فَغَمَزَنِي بِيَدِهِ وَ قَالَ حَتَّى أَرْشُ هَذَا كَأَنَّهُ مُغْضَبٌ قَالَ قُلْتُ هَذَا وَ اللَّهِ الْعِلْمُ قَالَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ وَ لَيْسَ بِذَاكَ ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ وَ إِنَّ عِنْدَنَا الْجَفْرَ وَ مَا(111/16)
يُدْرِيهِمْ مَا الْجَفْرُ قَالَ قُلْتُ وَ مَا الْجَفْرُ قَالَ وِعَاءٌ مِنْ أَدَمٍ فِيهِ عِلْمُ النَّبِيِّينَ وَ الْوَصِيِّينَ وَ عِلْمُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ مَضَوْا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ قُلْتُ إِنَّ هَذَا هُوَ الْعِلْمُ قَالَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ وَ لَيْسَ بِذَاكَ ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ وَ إِنَّ عِنْدَنَا لَمُصْحَفَ فَاطِمَةَ ( عليها السلام ) وَ مَا يُدْرِيهِمْ مَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ ( عليها السلام ) قَالَ قُلْتُ وَ مَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ ( عليها السلام ) قَالَ مُصْحَفٌ فِيهِ مِثْلُ قُرْآنِكُمْ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَ اللَّهِ مَا فِيهِ مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ قَالَ قُلْتُ هَذَا وَ اللَّهِ الْعِلْمُ قَالَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ وَ مَا هُوَ بِذَاكَ ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ إِنَّ عِنْدَنَا عِلْمَ مَا كَانَ وَ عِلْمَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ هَذَا وَ اللَّهِ هُوَ الْعِلْمُ قَالَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ وَ لَيْسَ بِذَاكَ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَأَيُّ شَيْ ءٍ الْعِلْمُ قَالَ مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِ الْأَمْرِ وَ الشَّيْ ءُ بَعْدَ الشَّيْ ءِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (1).
وأقول بدون تعليق ..
__________
(1) الكافي ج 1 ص 239 .(111/17)
هذه رواية عن أبي جعفر محمد الباقر أنه قَالَ : ( لِلْإِمَامِ عَشْرُ عَلَامَاتٍ يُولَدُ مُطَهَّراً مَخْتُوناً وَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَقَعَ عَلَى رَاحَتِهِ – أي على يديه - رَافِعاً صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَ لَا يُجْنِبُ وَ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَ لَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَ لَا يَتَثَاءَبُ وَ لَا يَتَمَطَّى وَ يَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ أَمَامِهِ وَ نَجْوُهُ – يعني البراز - كَرَائِحَةِ الْمِسْكِ وَ الْأَرْضُ مُوَكَّلَةٌ بِسَتْرِهِ وَ ابْتِلَاعِهِ وَ إِذَا لَبِسَ دِرْعَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) كَانَتْ عَلَيْهِ وَفْقاً وَ إِذَا لَبِسَهَا غَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ طَوِيلِهِمْ وَ قَصِيرِهِمْ زَادَتْ عَلَيْهِ شِبْراً وَ هُوَ مُحَدَّثٌ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ أَيَّامُهُ ) (1).
__________
(1) الكافي ج 1 ص 388 .(111/18)
وعن إِسْحَاقَ بْنَ جَعْفَرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : ( ... فَإِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَلِدُ فِيهَا ظَهَرَ لَهَا فِي الْبَيْتِ نُورٌ تَرَاهُ لَا يَرَاهُ غَيْرُهَا إِلَّا أَبُوهُ فَإِذَا وَلَدَتْهُ وَلَدَتْهُ قَاعِداً وَ تَفَتَّحَتْ لَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مُتَرَبِّعاً يَسْتَدِيرُ بَعْدَ وُقُوعِهِ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يُخْطِئُ الْقِبْلَةَ حَيْثُ كَانَتْ بِوَجْهِهِ ثُمَّ يَعْطِسُ ثَلَاثاً يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ بِالتَّحْمِيدِ وَ يَقَعُ مَسْرُوراً مَخْتُوناً وَ رَبَاعِيَتَاهُ مِنْ فَوْقٍ وَ أَسْفَلَ وَ نَابَاهُ وَ ضَاحِكَاهُ وَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مِثْلُ سَبِيكَةِ الذَّهَبِ نُورٌ وَ يُقِيمُ يَوْمَهُ وَ لَيْلَتَهُ تَسِيلُ يَدَاهُ ذَهَباً ... ) (1) , أسمعتم هذا ؟! ألا يذكركم هذا الرسوم المتحركة ؟ , ولذلك في روضة الوعظين لما ولد علي بن أبي طالب ذهب رسول الله إليه ولكنه رآه ماثلا بين يديه واضعا يده اليمنى في أذنه اليمنى وهو يؤذن ويقيم بالحنيفية ويشهد بوحدانية الله وبرسالته وهو مولود في ذلك اليوم ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أقرأ ؟ , فقال له : أقرأ فقرأ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن ) (2) . طبعا نسي صحف إبراهيم , والعجيب أن هذا قبل نزول القرآن ! .
__________
(1) الكافي ج 1 ص 387 – 388 .
(2) روضة الواعظين ص 84 .(111/19)
كذلك جاء في هذا الكتاب في حديث طويل أن علي بن الحسين قال : ( ... فإذا كثرت ذنوب العباد وأراد الله تبارك وتعالى أن يستعتبهم بآية من آياته أمر الملك الموكل بالفلك أن يزيل الفلك الذى عليه مجاري الشمس والقمر والنجوم والكواكب فيأمر الملك أولئك السبعين ألف ملك أن يزيلوه عن مجاريه قال: فيزيلونه فتصير الشمس في ذلك البحر الذي يجري في الفلك قال: فيُطمس ضوء ها ويتغير لونها فإذا أراد الله عز وجل أن يعظم الآية طمست الشمس في البحر على ما يحب الله أن يخوف خلقه بالآية قال: وذلك عند انكساف الشمس، قال: وكذلك يفعل بالقمر، قال: فإذا أراد الله أن يجليها أو يردها إلى مجراها أمر الملك الموكل بالفلك أن يرد الفلك إلى مجراه فيرد الفلك فترجع الشمس إلى مجراها ... ) (1) . هذه هي الكسوف والخسوف , هذا الكلام يذكرنا بما كان عند النصارى في أناجيلهم من أمور تخالف الواقع والحق كقولهم أن الأرض مركز الكون كما في التوراة العهد القديم وغير ذلك من الأمور التي لا يصدقها عاقل , ولما رأوا أن هذا الكلام يخالف العلم الذي توصلوا إليه كذبوا تلك الكتب وردوها وعلموا أن هذا من وضع البشر فتركوا ذلك الباطل وأخذوا الحق الذي وجدوه في العلم , ثم صار لهم ردة فعل قوية , فنبذوا الإنجيل كله حقه وباطله , والمحرفون ما خطر في بالهم أن العلم سيتطور حتى يصل إلى الكون فيفحمهم , وكذلك الحال بالنسبة للكليني وأصحابه الذين ألفوا هذه الكذبات , لأنه في ذلك الزمان ما كان يمكن لأحد أن يصل لمثل هذه المعلومات , فعندما تكلموا في شأن الكون وكذوبوا تطور العلم وتبين كذب ما لفقوه , ولكن لِمَ رجع النصارى عن الباطل ولمْ يرجع الشيعة إلى الآن ؟ سؤال محير جداً , لم أجد له جواباً ولكن لعل بعضكم أن يوجد هذا الجواب .
__________
(1) الكافي ج 8 ص 70 .(111/20)
وهذه من مهازل هذا الكتاب روى الكليني عن أبي عبد الله أنه قال : ( ما في الفيل شيء إلا في البعوضة مثله وفُضِلَ البعوض على الفيل بالجناحين ) (1) , يعني البعوضة فيها أشياء أكثر من الفيل , زيادة الجناحين .
الزلازل وأسبابها :
عن أبي عبد الله : ( أن الحوت الذي يحمل الأرض أسر في نفسه أنه إنما يحمل الأرض بقوته , فأرسل الله إليه حوتاً أصغر من شبر وأكبر من فتر فدخلت هذه الحوت – أي السمكة الصغيرة – في خياشيمه فصعق فمكث بذلك – أي الحوت الكبير الذي يحمل الأرض – أربعين يوماً ثم إن الله عز وجل رأُف به ورحمه وأخرج ذلك الحوت الصغير , فإذا أراد الله عز وجل بأرض زلزلة بعث ذلك الحوت الصغير إلى الحوت الكبير الذي يحمل الأرض , فإذا رآه أضطرب فتزلزلت الأرض ) (2) هذا علمٌ جديد !!!!! .
عن أبي عبد الله قال : ( إن الريح مسجونة تحت هذا الركن الشامي – يعني في الكعبة – فإذا أراد الله عز وجل أن يخرج منها شيئا أخرجه إما جنوب فجنوب وإما شمال فشمال وصبا فصبا ودبور فدبور ... قال : من آية ذلك أنك لا تزال ترى هذا الركن متحركاً أبداً في الشتاء والصيف والليل والنهار ) (3) , وما رأيناه متحركاً أبداً .
جلنا يعرف عقيدة خبيثة من عقائد النصارى , وهي ما تسمى بعقيدة الفداء , يزعمون فيها أن عيسى فدى الناس بنفسه من خطيئة آدم , وللأسف نجد هذه العقيدة موجودة أيضا عند الشيعة الإثني عشرية , فقد روى الكليني في الكافي عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى ( عليه السلام ) قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ غَضِبَ عَلَى الشِّيعَةِ فَخَيَّرَنِي نَفْسِي أَوْ هُمْ فَوَقَيْتُهُمْ وَ اللَّهِ بِنَفْسِي ) (4).
__________
(1) الكافي ج8 ص 208 .
(2) الكافي ج 8 ص 212 .
(3) الكافي ج8 ص 227 .
(4) الكافي ج 1 ص 260 .(111/21)
عَنْ سَيْفٍ التَّمَّارِ قَالَ كُنَّا مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) جَمَاعَةً مِنَ الشِّيعَةِ فِي الْحِجْرِ فَقَالَ عَلَيْنَا عَيْنٌ فَالْتَفَتْنَا يَمْنَةً وَ يَسْرَةً فَلَمْ نَرَ أَحَداً فَقُلْنَا لَيْسَ عَلَيْنَا عَيْنٌ فَقَالَ : ( وَ رَبِّ الْكَعْبَةِ وَ رَبِّ الْبَنِيَّةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ مُوسَى وَ الْخَضِرِ لَأَخْبَرْتُهُمَا أَنِّي أَعْلَمُ مِنْهُمَا وَ لَأَنْبَأْتُهُمَا بِمَا لَيْسَ فِي أَيْدِيهِمَا لِأَنَّ مُوسَى وَ الْخَضِرَ ( عليه السلام ) أُعْطِيَا عِلْمَ مَا كَانَ وَ لَمْ يُعْطَيَا عِلْمَ مَا يَكُونُ وَ مَا هُوَ كَائِنٌ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَ قَدْ وَرِثْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) وِرَاثَةً ) (1).
وعن علي بن أبي طالب أنه سُئل عن مدة غيبة المهدي فقَالَ: ( سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ سِتَّ سِنِينَ ) (2) .
قلت : تدعي الشيعة أن المهدي دخل السرداب سنة 260هـ ونحن الآن في 1423هـ , وبمسألة حسابية بسيطة يتبين لنا أنه مر على دخوله للسرداب 1163 سنة , ويقولون عن علي أنه قال : أنها 6 سنوات وإلى الآن لم يخرج !! .
وروى الكليني عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ قَالَ شَكَوْتُ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ ( عليه السلام ) الْحَاجَةَ فَحَكَّ بِسَوْطِهِ الْأَرْضَ قَالَ وَ أَحْسَبُهُ غَطَّاهُ بِمِنْدِيلٍ وَ أَخْرَجَ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ فَقَالَ يَا أَبَا هَاشِمٍ خُذْ وَ أَعْذِرْنَا (3).
ما شاء الله أئمة سحرة !! , والله ما كانوا كذلك ولكنهم يكذبون عليهم .
وهذا باب الفضائل وهو باب عجيب :
__________
(1) أيضا .
(2) الكافي ج1 ص 338 .
(3) الكافي ج 1 ص 507 .(111/22)
وهذا فضل العمامة : عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( مَنْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ مُعْتَمّاً تَحْتَ حَنَكِهِ يُرِيدُ سَفَراً لَمْ يُصِبْهُ فِي سَفَرِهِ سَرَقٌ وَ لَا حَرَقٌ وَ لَا مَكْرُوهٌ ) (1).
فضل النعال , خاصة للذين يلبسون الأحذية في أوروبا وأمريكا , فقد روى الكليني عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَ عَلَيْهِ نَعْلٌ سَوْدَاءُ فَقَالَ : ( مَا لَكَ وَ لِلنَّعْلِ السَّوْدَاءِ أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّهَا تُضِرُّ بِالْبَصَرِ وَ تُرْخِي الذَّكَرَ وَ هِيَ بِأَغْلَى الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِهَا وَ مَا لَبِسَهَا أَحَدٌ إِلَّا اخْتَالَ فِيهَا ) (2) .
وفي الصفحة نفسها عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) وَ فِي رِجْلِي نَعْلٌ سَوْدَاءُ فَقَالَ يَا حَنَانُ مَا لَكَ وَ لِلسَّوْدَاءِ أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ فِيهَا ثَلَاثَ خِصَالٍ تُضْعِفُ الْبَصَرَ وَ تُرْخِي الذَّكَرَ وَ تُورِثُ الْهَمَّ وَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ لِبَاسِ الْجَبَّارِينَ قَالَ فَقُلْتُ فَمَا أَلْبَسُ مِنَ النِّعَالِ قَالَ عَلَيْكَ بِالصَّفْرَاءِ فَإِنَّ فِيهَا ثَلَاثَ خِصَالٍ تَجْلُو الْبَصَرَ وَ تَشُدُّ الذَّكَرَ وَ تَدْرَأُ الْهَمَّ وَ هِيَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ لِبَاسِ النَّبِيِّينَ (3).
أهذا يقوله أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم !!؟؟
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( لُبْسُ الْخُفِّ يَزِيدُ فِي قُوَّةِ الْبَصَرِ ) (4).
__________
(1) الكافي ج 6 ص 461 .
(2) الكافي ج6 ص 465 .
(3) أيضاً .
(4) الكافي ج 6 ص 466 .(111/23)
هذا ما عرفه الأطباء , وقال : ( لُبْسُ الْخُفِّ أَمَانٌ مِنَ السِّلِّ ) (1). وقال : ( قَالَ إِدْمَانُ الْخُفِّ يَقِي مِيتَةَ السَّوْءِ ) (2), هذا أصح كتاب عندهم وأحسن كتاب ولم يُؤَلف في الإسلام كتاب مثله !! .
الخضاب :
وهو تخضيب اللحية أو الشعر بالحناء , عن النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وآله ) قَالَ : ( نَفَقَةُ دِرْهَمٍ فِي الْخِضَابِ أَفْضَلُ مِنْ نَفَقَةِ دِرْهَمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ فِيهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً يَطْرُدُ الرِّيحَ مِنَ الْأُذُنَيْنِ وَ يَجْلُو الْغِشَاءَ عَنِ الْبَصَرِ وَ يُلَيِّنُ الْخَيَاشِيمَ وَ يُطَيِّبُ النَّكْهَةَ وَ يَشُدُّ اللِّثَةَ وَ يَذْهَبُ بِالْغَشَيَانِ وَ يُقِلُّ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ وَ تَفْرَحُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَ يَسْتَبْشِرُ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَ يَغِيظُ بِهِ الْكَافِرُ وَ هُوَ زِينَةٌ وَ هُوَ طِيبٌ وَ بَرَاءَةٌ فِي قَبْرِهِ وَ يَسْتَحْيِي مِنْهُ مُنْكَرٌ وَ نَكِيرٌ ) (3).
الكافي وتقليم الأظفار :
روى الكليني في الكافي عن أَبي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) قَالَ : ( مَنْ أَخَذَ مِنْ أَظْفَارِهِ وَ شَارِبِهِ كُلَّ جُمُعَةٍ وَ قَالَ حِينَ يَأْخُذُ بِسْمِ اللَّهِ وَ بِاللَّهِ وَ عَلَى سُنَّةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ قُلَامَةٌ وَ لَا جُزَازَةٌ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا عِتْقَ نَسَمَةٍ وَ لَا يَمْرَضُ إِلَّا مَرَضَهُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ ) (4).
وقال جاء في الكافي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُؤَمِّنُ مِنَ الْجُذَامِ وَ الْبَرَصِ وَ الْعَمَى .. ) (5) .
الرمان :
__________
(1) أيضا .
(2) الكافي ج 6 ص 467 .
(3) الكافي ج 6 ص 482 .
(4) الكافي ج 6 ص 491 .
(5) الكافي ج 6 ص 490 .(111/24)
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( ... مَا مِنْ رُمَّانَةٍ إِلَّا وَ فِيهَا حَبَّةٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَإِذَا أَكَلَهَا الْكَافِرُ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَيْهِ مَلَكاً فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ ) (1) . وجاء في الصفحة نفسها عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( مَنْ أَكَلَ حَبَّةً مِنْ رُمَّانٍ أَمْرَضَتْ شَيْطَانَ الْوَسْوَسَةِ أَرْبَعِينَ يَوْماً ) .
يعني الذي يأكل رمانة كاملة يصير نبي !!
وفي نفس الصفحة عن يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عن أبي عبدالله عليه السلام قال له : (َ يَا يَزِيدُ أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَكَلَ رُمَّانَةً حَتَّى يَسْتَوْفِيَهَا أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ الشَّيْطَانَ عَنْ إِنَارَةِ قَلْبِهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً وَ مَنْ أَكَلَ اثْنَتَيْنِ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ الشَّيْطَانَ عَنْ إِنَارَةِ قَلْبِهِ مِائَةَ يَوْمٍ وَ مَنْ أَكَلَ ثَلَاثاً حَتَّى يَسْتَوْفِيَهَا أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ الشَّيْطَانَ عَنْ إِنَارَةِ قَلْبِهِ سَنَةً وَ مَنْ أَذْهَبَ اللَّهُ الشَّيْطَانَ عَنْ إِنَارَةِ قَلْبِهِ سَنَةً لَمْ يُذْنِبْ وَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ دَخَلَ الْجَنَّةَ ) .
أنهار كافرة وأنهار مؤمنة :
ولا ينتهي العجب , روى الكليني عَنْ أَبِي الْحَسَنِ ( عليه السلام ) قَالَ نَهَرَانِ مُؤْمِنَانِ وَ نَهَرَانِ كَافِرَانِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنَانِ فَالْفُرَاتُ وَ نِيلُ مِصْرَ وَ أَمَّا الْكَافِرَانِ فَدِجْلَةُ وَ نَهَرُ بَلْخَ (2). نسي المسسيسبي وسيحان وجيحان ربما هذه في منزلة بين المنزلتين .
__________
(1) الكافي ج 6 ص 353 .
(2) الكافي ج 6 ص 391 .(111/25)
يقول أيضا في هذا الكتاب عن مسألة خطيرة جداً , مسألة تمس الأعراض عن أبي جعفر محمد الباقر أنه قال : ( والله يا أبا حمزة إن الناس كلهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا ) (1) , كل الناس أولاد زنى إلا الشيعة ! ثم يشرح هذه الرواية في رواية أخرى عن أبي عبد الله أنه قال لأبي بصير : ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجِي ءُ حَتَّى يَقْعُدَ مِنَ الْمَرْأَةِ كَمَا يَقْعُدُ الرَّجُلُ مِنْهَا وَ يُحْدِثُ كَمَا يُحْدِثُ وَ يَنْكِحُ كَمَا يَنْكِحُ قُلْتُ بِأَيِّ شَيْ ءٍ يُعْرَفُ (2) ذَلِكَ قَالَ بِحُبِّنَا وَ بُغْضِنَا فَمَنْ أَحَبَّنَا كَانَ نُطْفَةَ الْعَبْدِ وَ مَنْ أَبْغَضَنَا كَانَ نُطْفَةَ الشَّيْطَانِ ) (3). نحن الآن لا نريد النطفة !! حتى الشيطان جامع !! يعني من يؤمن بهذا الكتاب يعتقد أن الشيطان جامع زوجته معه , لكن النطفة تخرج منه هو !! وهذا لا شك أنه لا يعتقده إلا إنسان فاجر .
علاج من يعمل عمل قوم لوط :
__________
(1) الكافي ج 8 ص 239 .
(2) أي بأي شيء نعرف أن الذي جامع هو الزوج أم الشيطان ؟ .
(3) الكافي ج 5 ص 502 .(111/26)
روى الكليني عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) وَ عِنْدَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي أُحِبُّ الصِّبْيَانَ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فَتَصْنَعُ مَا ذَا قَالَ أَحْمِلُهُمْ عَلَى ظَهْرِي فَوَضَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَ وَلَّى وَجْهَهُ عَنْهُ فَبَكَى الرَّجُلُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) كَأَنَّهُ رَحِمَهُ فَقَالَ إِذَا أَتَيْتَ بَلَدَكَ فَاشْتَرِ جَزُوراً سَمِيناً وَ اعْقِلْهُ عِقَالًا شَدِيداً وَ خُذِ السَّيْفَ فَاضْرِبِ السَّنَامَ ضَرْبَةً تَقْشِرُ عَنْهُ الْجِلْدَةَ وَ اجْلِسْ عَلَيْهِ بِحَرَارَتِهِ (1) فَقَالَ عُمَرُ فَقَالَ الرَّجُلُ فَأَتَيْتُ بَلَدِي فَاشْتَرَيْتُ جَزُوراً فَعَقَلْتُهُ عِقَالًا شَدِيداً وَ أَخَذْتُ السَّيْفَ فَضَرَبْتُ بِهِ السَّنَامَ ضَرْبَةً وَ قَشَرْتُ عَنْهُ الْجِلْدَ وَ جَلَسْتُ عَلَيْهِ بِحَرَارَتِهِ فَسَقَطَ مِنِّي عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ شِبْهُ الْوَزَغِ أَصْغَرُ مِنَ الْوَزَغِ وَ سَكَنَ مَا بِي (2).
بشارة من الكليني في الكافي للأكراد :
__________
(1) يعني أن هذا رجل مخنث يحب أن يأتيه الصبيان في دبره كما يفعل الشيعة مع زوجاتهم في الأدبار وإلا فإن الرجال لا يأتون النساء في الأدبار .
(2) الكافي ج 5 ص 550 .(111/27)
عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الشَّامِيِّ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فَقُلْتُ : إِنَّ عِنْدَنَا قَوْماً مِنَ الْأَكْرَادِ وَ إِنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ يَجِيئُونَ بِالْبَيْعِ فَنُخَالِطُهُمْ وَ نُبَايِعُهُمْ فَقَالَ : ( يَا أَبَا الرَّبِيعِ لَا تُخَالِطُوهُمْ فَإِنَّ الْأَكْرَادَ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ الْجِنِّ كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْغِطَاءَ فَلَا تُخَالِطُوهُمْ ) (1).
عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : ( يا أيها الناس إن البغي – أي الظلم – يقود صاحبه إلى النار وإن أول من بغى على الله عناق بنت آدم , فأول قتيل قتله الله عناق بنت آدم وكان مجلسها جريبا في جريب وكان لها عشرون إصبعاً في كل إصبع ظفران المنجلين فسلط الله عليها أسداً كالفيل وذئبا كالبعير ونسراً مثل البغل فقتلنها وقد قتل الله الجبابرة على أفضل أحوالهم وآمن ما كانوا ) , لا شك أن هذه الرواية تُضحك الثكلى , وإذا كانت هذه هي بنت آدم وهذه صورتها لها عشرين إصبع , كل إصبع فيه ظفرين كل ظفر فيه مثل المنجل الذي يقص به الزرع فكيف تكون صورة آدم عليه السلام والله سبحانه وتعالى يقول : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } (2) , وداروين يقول أصل الإنسان قرد ! , والشيعة يقولون هذا شكل بنت آدم فمن نصدق الله أو داروين أو الشيعة .
__________
(1) الكافي ج 5 ص 158 .
(2) سورة التين آية 4 .(111/28)
هذه مسألة مضحكة , ولكن دعوني أسألكم سؤال قبلها : إذا ولد للإنسان من امرأته توأم , وأحدهما خرج قبل أخيه بخمس دقائق فيكنى بمن خرج قبل أو بمن خرج بعد ؟ من يكون الأكبر ؟ لنسمع إلى رواية الكليني روى الكليني في الكافي قَالَ : ( أَصَابَ رَجُلٌ غُلَامَيْنِ فِي بَطْنٍ فَهَنَّأَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) ثُمَّ قَالَ أَيُّهُمَا الْأَكْبَرُ فَقَالَ الَّذِي خَرَجَ أَوَّلًا فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) الَّذِي خَرَجَ آخِراً هُوَ أَكْبَرُ أَ مَا تَعْلَمُ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِذَاكَ أَوَّلًا وَ إِنَّ هَذَا دَخَلَ عَلَى ذَاكَ فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَخْرُجَ حَتَّى خَرَجَ هَذَا فَالَّذِي يَخْرُجُ آخِراً هُوَ أَكْبَرُهُمَا ) (1) . يعني الثاني دخل عليه وسكر عليه !! موقف سيارات ما هو رحم امرأة . هذه أشياء حقيقة أوردها وأنا تشمئز نفسي من قراءتها لكن ما أدري ما أقول , أنا أريد أن أحذر من هذا الكتاب حقيقة , لا أدري كيف يقبل بعض العقلاء أن يكون هذا الكتاب هو أصح كتاب عندهم , يعني إذا كان هذا أصح كتاب , فماذا نقول عن بقية الكتب .
__________
(1) الكافي ج6 ص 53 .(111/29)
خذوا هذه الرواية , وأنا أتوب إلى الله وأستغفره من هذه الرواية فعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ أَتَى النَّبِيَّ ( صلى الله عليه وآله ) رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَحْمِلُ أَعْظَمَ مَا يَحْمِلُ الرِّجَالُ – أي الذكر - فَهَلْ يَصْلُحُ لِي أَنْ آتِيَ بَعْضَ مَا لِي مِنَ الْبَهَائِمِ نَاقَةً أَوْ حِمَارَةً فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَقْوَيْنَ عَلَى مَا عِنْدِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْكَ حَتَّى خَلَقَ لَكَ مَا يَحْتَمِلُكَ مِنْ شَكْلِكَ فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ وَ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ عَادَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ السَّوْدَاءِ العَنَطْنَطَةِ (1) قَالَ فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ عَادَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقّاً إِنِّي طَلَبْتُ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ فَوَقَعْتُ عَلَى شَكْلِي مِمَّا يَحْتَمِلُنِي وَ قَدْ أَقْنَعَنِي ذَلِكَ (2).
يعني لا أعلم هذا رسول أم أيش !! الذي يدل الرجل على ما يصلح لذكره والعياذ بالله , أهكذا يُقَدر رسول الله , أليس هذا إسفاف وطعن , أهكذا يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعياذ بالله .
__________
(1) يقول علي أكبر الغفاري محقق الكتاب أنها الطويلة العنق مع حسن القوام .
(2) الكافي ج 5 ص 336 .(111/30)
وهذه رواية ثانية عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْجُعْفِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) دَخَلَ بَيْتَ أُمِّ سَلَمَةَ فَشَمَّ رِيحاً طَيِّبَةً فَقَالَ أَتَتْكُمُ الْحَوْلَاءُ فَقَالَتْ هُوَ ذَا هِيَ تَشْكُو زَوْجَهَا فَخَرَجَتْ عَلَيْهِ الْحَوْلَاءُ فَقَالَتْ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي إِنَّ زَوْجِي عَنِّي مُعْرِضٌ فَقَالَ زِيدِيهِ يَا حَوْلَاءُ قَالَتْ مَا أَتْرُكُ شَيْئاً طَيِّباً مِمَّا أَتَطَيَّبُ لَهُ بِهِ وَ هُوَ عَنِّي مُعْرِضٌ فَقَالَ أَمَا لَوْ يَدْرِي مَا لَهُ بِإِقْبَالِهِ عَلَيْكِ قَالَتْ وَ مَا لَهُ بِإِقْبَالِهِ عَلَيَّ فَقَالَ أَمَا إِنَّهُ إِذَا أَقْبَلَ اكْتَنَفَهُ مَلَكَانِ – يعني جاء يجامع ومعه ملكان !! - فَكَانَ كَالشَّاهِرِ سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِذَا هُوَ جَامَعَ تَحَاتُّ عَنْهُ الذُّنُوبُ كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ فَإِذَا هُوَ اغْتَسَلَ انْسَلَخَ مِنَ الذُّنُوبِ (1).
الله المستعان .. من الطرائف سمعت بعض المشائخ يذكر هذه الرواية ثم علق عليها يقول : أهذا يقوله رسول الله , هذا لا يقوله إلا رجل قاعد وعنده خمر سكران ويتكلم مثل هذا الكلام , لا يمكن أن يخرج هذا الكلام فيَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبداً .
دواء السعال :
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ الْمَرْأَةُ الْجَمِيلَةُ تَقْطَعُ الْبَلْغَمَ وَ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ تُهَيِّجُ الْمِرَّةَ السَّوْدَاءَ (2). مع الاعتذار للسود , طبعا الاعتذار من الكليني وليس مني أنا ليس لي ذنب , ناقل الكفر ليس بكافر .
__________
(1) الكافي ج 5 ص 496 .
(2) الكافي ج 5 ص 336 .(111/31)
كذلك يروون أنه كَانَ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وآله ) إِذَا أَرَادَ تَزْوِيجَ امْرَأَةٍ بَعَثَ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَ يَقُولُ : ( لِلْمَبْعُوثَةِ شَمِّي لِيتَهَا – يعني الرقبة - فَإِنْ طَابَ لِيتُهَا طَابَ عَرْفُهَا وَ انْظُرِي كَعْبَهَا فَإِنْ دَرِمَ كَعْبُهَا عَظُمَ كَعْثَبُهَا ) (1). أتدرون ما الكعثب ؟؟ , الكعثب : الفَرْج , هل من الممكن أن يصدر هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؟ , بل هل يمكن أن يخرج هذا الكلام من رجل صالح كما في هذه الرواية الخبيثة , أيقبل هذا الشيعة والعياذ بالله .
و عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) أَنَّهُ قَالَ : ( تَزَوُّجُ الْيَهُودِيَّةِ وَ النَّصْرَانِيَّةِ أَفْضَلُ أَوْ قَالَ خَيْرٌ مِنْ تَزَوُّجِ النَّاصِبِ وَ النَّاصِبِيَّةِ ) (2). الناصبية يعني السنية .
و عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( إِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ثُمَّ اشْتَهَاهَا قَالَ لَهُ اعْتَزِلْهَا فَإِذَا طَمِثَتْ وَطِئَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ إِذَا شَاءَ ) (3). مصيبة , يعني رجل عنده عبد وأمه زوجهما من بعض , ثم هذا الرجل اشتهى الأمة ويريد أن يجامع زوجة العبد المسكين فيقول للعبد اعتزلها فإذا طمثت وطئها ثم يردها عليه إذا شاء .
وعن أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى ( عليه السلام ) عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ( عليهما السلام ) قَالَ إِنَّ فِيمَا أَوْصَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) عَلِيّاً ( عليه السلام ) قَالَ : ( يَا عَلِيُّ لَا تُجَامِعْ أَهْلَكَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنَ الْهِلَالِ وَ لَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ وَ لَا فِي آخِرِ لَيْلَةٍ فَإِنَّهُ يُتَخَوَّفُ عَلَى وَلَدِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْخَبَلُ .. ) (4) .
__________
(1) الكافي ج 5 ص 335 .
(2) الكافي ج 5 ص 351 .
(3) الكافي ج 5 ص 481 .
(4) الكافي ج 5 ص 499 .(111/32)
عن صَفْوَانَ بْنَ يَحْيَى يَقُولُ قُلْتُ لِلرِّضَا ( عليه السلام ) إِنَّ رَجُلًا مِنْ مَوَالِيكَ أَمَرَنِي أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ هَابَكَ وَ اسْتَحْيَا مِنْكَ أَنْ يَسْأَلَكَ قَالَ وَ مَا هِيَ قُلْتُ الرَّجُلُ يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا قَالَ ذَلِكَ لَهُ قَالَ قُلْتُ لَهُ فَأَنْتَ تَفْعَلُ قَالَ إِنَّا لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ (1) .
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( لَا بَأْسَ أَنْ يَنَامَ الرَّجُلُ بَيْنَ أَمَتَيْنِ وَ الْحُرَّتَيْنِ إِنَّمَا نِسَاؤُكُمْ بِمَنْزِلَةِ اللُّعَبِ ) (2). يعني عورات تُكشف !! إسفاف ما بعده إسفاف ودعارة ما بعدها دعارة , النساء عاريات والرجل بينهن والعياذ بالله .
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( إِنَّ جَبْرَئِيلُ ( عليه السلام ) هَبَطَ على النبي صلى الله عليه وآله بِصَفْحَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ فِيهَا هَرِيسَةٌ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ عَمِلَهَا لَكَ الْحُورُ الْعِينُ فَكُلْهَا أَنْتَ وَ عَلِيٌّ وَ ذُرِّيَّتُكُمَا فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَأْكُلَهَا غَيْرُكُمْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) وَ عَلِيٌّ وَ فَاطِمَةُ وَ الْحَسَنُ وَ الْحُسَيْنُ ( عليهم السلام ) فَأَكَلُوا فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) فِي الْمُبَاضَعَةِ مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فَكَانَ إِذَا شَاءَ غَشِيَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ) (3).
حتى نلطف لكم الجو نذكر لكم هذه الطرفة من الكافي وما أكثر طرائفه :
__________
(1) الكافي ج5 ص 540 .
(2) الكافي ج 5 ص 560 .
(3) الكافي ج 5 ص 565 .(111/33)
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ إِنَّ رَجُلًا أَتَى بِامْرَأَتِهِ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ إِنَّ امْرَأَتِي هَذِهِ سَوْدَاءُ وَ أَنَا أَسْوَدُ وَ إِنَّهَا وَلَدَتْ غُلَاماً أَبْيَضَ فَقَالَ لِمَنْ بِحَضْرَتِهِ مَا تَرَوْنَ فَقَالُوا نَرَى أَنْ تَرْجُمَهَا فَإِنَّهَا سَوْدَاءُ وَ زَوْجُهَا أَسْوَدُ وَ وَلَدُهَا أَبْيَضُ قَالَ فَجَاءَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام ) وَ قَدْ وُجِّهَ بِهَا لِتُرْجَمَ فَقَالَ مَا حَالُكُمَا فَحَدَّثَاهُ فَقَالَ لِلْأَسْوَدِ أَ تَتَّهِمُ امْرَأَتَكَ فَقَالَ لَا قَالَ فَأَتَيْتَهَا وَ هِيَ طَامِثٌ قَالَ قَدْ قَالَتْ لِي فِي لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي إِنِّي طَامِثٌ فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تَتَّقِي الْبَرْدَ – يعني أنها لا تريد الاغتسال - فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ هَلْ أَتَاكِ وَ أَنْتِ طَامِثٌ قَالَتْ نَعَمْ سَلْهُ قَدْ حَرَّجْتُ عَلَيْهِ وَ أَبَيْتُ قَالَ فَانْطَلِقَا – براءة - فَإِنَّهُ ابْنُكُمَا وَ إِنَّمَا غَلَبَ الدَّمُ النُّطْفَةَ فَابْيَضَّ وَ لَوْ قَدْ تَحَرَّكَ اسْوَدَّ فَلَمَّا أَيْفَعَ اسْوَدَّ (1).
يقول هذا ولدكم لأنه أتاها في آخر الحيض والدم يصير أصفرا ( الصفرة والكدرة ) , فهو جامعها في هذه الفترة فطلع الولد أبيض ويقول لهم اصبروا عليه عندما يكبر يصبح أسودا !! فيقول : أنه لما أيفع أي شب أسود !! , يعني السود الذين يريدون أولادا بيض لا يوجد أحسن من هذا الحل العجيب , ولكن هناك إشكال وهو أن الحائض لا تحمل !! فلا أدري كيف مرت هذه على الكليني !! .
ونحن هنا لا نقصد طرائف بمعنى طرائف , ولكن قصدنا أنه كيف تكون هذه الأخبار التافهة في أصح كتاب عندهم لم يؤلف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه , وأنا في رأيي ولا في غير الإسلام أيضا .
__________
(1) الكافي ج 5 ص 566 .(111/34)
وهذه طرفة أخرى : عن الْحَسَنَ ( عليه السلام ) قَالَ : ( إِنَّ لِلَّهِ مَدِينَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَ الْأُخْرَى بِالْمَغْرِبِ عَلَيْهِمَا سُورٌ مِنْ حَدِيدٍ وَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ أَلْفِ مِصْرَاعٍ وَ فِيهَا سَبْعُونَ أَلْفَ أَلْفِ لُغَةٍ يَتَكَلَّمُ كُلُّ لُغَةٍ بِخِلَافِ لُغَةِ صَاحِبِهَا وَ أَنَا أَعْرِفُ جَمِيعَ اللُّغَاتِ وَ مَا فِيهِمَا وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ مَا عَلَيْهِمَا حُجَّةٌ غَيْرِي وَ غَيْرُ الْحُسَيْنِ أَخِي ) (1). أي 170 مليون لغة يعرفها !!
طرفة أخرى :
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) قَالَ كُنْتُ عِنْدَهُ يَوْماً إِذْ وَقَعَ زَوْجُ وَرَشَانَ عَلَى الْحَائِطِ وَ هَدَلَا هَدِيلَهُمَا فَرَدَّ أَبُو جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) عَلَيْهِمَا كَلَامَهُمَا سَاعَةً – أي صار حديث بين أبي جعفر والطير برأه الله من هذا الكلام - ثُمَّ نَهَضَا فَلَمَّا طَارَا عَلَى الْحَائِطِ هَدَلَ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى سَاعَةً ثُمَّ نَهَضَا فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا هَذَا الطَّيْرُ قَالَ يَا ابْنَ مُسْلِمٍ كُلُّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ طَيْرٍ أَوْ بَهِيمَةٍ أَوْ شَيْ ءٍ فِيهِ رُوحٌ فَهُوَ أَسْمَعُ لَنَا وَ أَطْوَعُ مِنِ ابْنِ آدَمَ إِنَّ هَذَا الْوَرَشَانَ ظَنَّ بِامْرَأَتِهِ فَحَلَفَتْ لَهُ مَا فَعَلْتُ فَقَالَتْ تَرْضَى بِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فَرَضِيَا بِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّهُ لَهَا ظَالِمٌ فَصَدَّقَهَا (2). فالحمد لله والمنة على هذا وإلا لضاعت أنساب الطيور .
الطعن في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بل وفي الناس كلهم :
عن أبي عبد الله قال : ( نحن وبني هاشم وشيعتنا العرب وباقي الناس أعراب ) (3) .
__________
(1) الكافي ج 1 ص 462 .
(2) الكافي ج 1 ص 470 - 471 .
(3) الكافي ج 8 ص 147 .(111/35)
وهذا موسى الكاظم يقول : ( الناس ثلاثة عربي ومولى وعلج فنحن العرب وشيعتنا الموالي ومن لم يكن على مثل ما نحن عليه فهو علج , فقال له رجل من قريش: تقول هذا يا أبا الحسن فأين أفخاذ قريش والعرب ؟ , قال أبو الحسن : هو ما قلت لك ) (1) .
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ الدَّابِقِيِّ قَالَ دَخَلْتُ حَمَّاماً بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَ هُوَ قَيِّمُ الْحَمَّامِ فَقُلْتُ يَا شَيْخُ لِمَنْ هَذَا الْحَمَّامُ فَقَالَ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ( عليه السلام ) فَقُلْتُ كَانَ يَدْخُلُهُ قَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ قَالَ كَانَ يَدْخُلُ فَيَبْدَأُ فَيَطْلِي عَانَتَهُ وَ مَا يَلِيهَا ثُمَّ يَلُفُّ عَلَى طَرَفِ إِحْلِيلِهِ وَ يَدْعُونِي فَأَطْلِي سَائِرَ بَدَنِهِ فَقُلْتُ لَهُ يَوْماً مِنَ الْأَيَّامِ الَّذِي تَكْرَهُ أَنْ أَرَاهُ قَدْ رَأَيْتُهُ فَقَالَ كَلَّا إِنَّ النُّورَةَ – الجبس الذي يوضع على الجسد - سُتْرَةٌ (2).
عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَاضِي ( عليه السلام ) قَالَ : ( الْعَوْرَةُ عَوْرَتَانِ الْقُبُلُ وَ الدُّبُرُ - يعني الفخذ عادي !! يعني الذي يلبس مايوه يغطي القبل والدبر يكفي !! لكن فهمنا خطأ لماذا ؟؟ - فَأَمَّا الدُّبُرُ مَسْتُورٌ بِالْأَلْيَتَيْنِ فَإِذَا سَتَرْتَ الْقَضِيبَ وَ الْبَيْضَتَيْنِ فَقَدْ سَتَرْتَ ) (3).
النظر إلى عورات الآخرين :
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ مِثْلُ نَظَرِكَ إِلَى عَوْرَةِ الْحِمَارِ ) (4). يعني يجوز النظر إلى عورات غير المسلمين !! ما فيه أي مشكلة كما ينظر الإنسان إلى الحمار ! .
__________
(1) الكافي ج 8 ص 190 .
(2) الكافي ج 6 ص 497 .
(3) الكافي ج 6 ص 501 .
(4) أيضاً .(111/36)
ومن طعنهم أيضا في آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما رووه عن جعفر الصادق في تزويج أم كلثوم بنت علي لعمر : عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فِي تَزْوِيجِ أُمِّ كُلْثُومٍ فَقَالَ : ( إِنَّ ذَلِكَ فَرْجٌ غُصِبْنَاهُ ) (1).
وفي رواية أخرى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ لَمَّا خَطَبَ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهَا صَبِيَّةٌ قَالَ فَلَقِيَ الْعَبَّاسَ فَقَالَ لَهُ مَا لِي أَ بِي بَأْسٌ قَالَ وَ مَا ذَاكَ قَالَ خَطَبْتُ إِلَى ابْنِ أَخِيكَ فَرَدَّنِي أَمَا وَ اللَّهِ لَأُعَوِّرَنَّ زَمْزَمَ وَ لَا أَدَعُ لَكُمْ مَكْرُمَةً إِلَّا هَدَمْتُهَا وَ لَأُقِيمَنَّ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ بِأَنَّهُ سَرَقَ – يعني علياً - وَ لَأَقْطَعَنَّ يَمِينَهُ فَأَتَاهُ الْعَبَّاسُ فَأَخْبَرَهُ وَ سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ فَجَعَلَهُ إِلَيْهِ (2).
ضياع الشيعة قبل الباقر :
عن أبي عبد الله قال : ( كَانَتِ الشِّيعَةُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ أَبُو جَعْفَرٍ وَ هُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَنَاسِكَ حَجِّهِمْ وَ حَلَالَهُمْ وَ حَرَامَهُمْ حَتَّى كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ فَفَتَحَ لَهُمْ وَ بَيَّنَ لَهُمْ مَنَاسِكَ حَجِّهِمْ وَ حَلَالَهُمْ وَ حَرَامَهُمْ ) (3). ما أدري قبل أبي جعفر علي بن الحسين الحسن الحسين علي بن أبي طالب ماذا كانوا يفعلون .. لا أدري !! .
وهذا سدير الصيرفي يقول أن أبا عبد الله قال له : ( وَ اللَّهِ يَا سَدِيرُ لَوْ كَانَ لِي شِيعَةٌ بِعَدَدِ هَذِهِ الْجِدَاءِ مَا وَسِعَنِي الْقُعُودُ وَ نَزَلْنَا وَ صَلَّيْنَا فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الصَّلَاةِ عَطَفْتُ عَلَى الْجِدَاءِ فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ ) (4) .
__________
(1) الكافي ج 5 ص 346 .
(2) أيضاً .
(3) الكافي ج 2 ص 20 .
(4) الكافي ج 2 ص 243 .(111/37)
وعن أبي عبد الله أنه قال : ( كَانَ الْحَجَرُ ... – أي الأسود - مَلَكاً مِنْ عُظَمَاءِ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ اللَّهِ ) (1) .
و عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( الْمُحْرِمُ يُمْسِكُ عَلَى أَنْفِهِ مِنَ الرِّيحِ الطَّيِّبَةِ وَ لَا يُمْسِكُ عَلَى أَنْفِهِ مِنَ الرِّيحِ الْمُنْتِنَةِ ) (2) . انظروا إلى هذا الفقه الأعوج , عذاب عذبوا أنفسهم به .
وهذه رواية يرويها الكليني عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( إِنَّ لِلرَّحِمِ أَرْبَعَةَ سُبُلٍ فِي أَيِّ سَبِيلٍ سَلَكَ فِيهِ الْمَاءُ كَانَ مِنْهُ الْوَلَدُ وَاحِدٌ وَ اثْنَانِ وَ ثَلَاثَةٌ وَ أَرْبَعَةٌ وَ لَا يَكُونُ إِلَى سَبِيلٍ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ ) (3). يعني أكثر شيء تلد المرأة أربع فقط !! .. طبعا تورط الآن .. الآن فيه 5 و 6 وقبل كم يوم ولدت واحدة عندنا في الكويت تسعة توائم , هذه جديدة أربعة منهم ماتوا وهي لازالت في المستشفى , لكن لا أظن هذه مرت على الكليني ! .
خذوا هذه المهازل :
__________
(1) الكافي ج 4 ص 185 .
(2) الكافي ج 4 ص 354 .
(3) الكافي ج 6 ص 17 – 18 .(111/38)
عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا ( عليه السلام ) قَالَ : ( الْفِيلُ مَسْخٌ كَانَ مَلِكاً زَنَّاءً وَ الذِّئْبُ مَسْخٌ كَانَ أَعْرَابِيّاً دَيُّوثاً وَ الْأَرْنَبُ مَسْخٌ كَانَتِ امْرَأَةً تَخُونُ زَوْجَهَا وَ لَا تَغْتَسِلُ مِنْ حَيْضِهَا وَ الْوَطْوَاطُ مَسْخٌ كَانَ يَسْرِقُ تُمُورَ النَّاسِ وَ الْقِرَدَةُ وَ الْخَنَازِيرُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ وَ الْجِرِّيثُ وَ الضَّبُّ فِرْقَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يُؤْمِنُوا حَيْثُ نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ( عليه السلام ) فَتَاهُوا فَوَقَعَتْ فِرْقَةٌ فِي الْبَحْرِ وَ فِرْقَةٌ فِي الْبَرِّ وَ الْفَأْرَةُ فَهِيَ الْفُوَيْسِقَةُ وَ الْعَقْرَبُ كَانَ نَمَّاماً وَ الدُّبُّ وَ الزُّنْبُورُ كَانَتْ لَحَّاماً يَسْرِقُ فِي الْمِيزَانِ ) (1) . من هنا إلى الأربعاء القادم تأتون لنا بالأسد والنمر والثعلب , ماذا كانوا !!؟ كي نرى مسخ من ماذا !! .
الكافي أيضا يذكر لنا قضايا أخرى غريبة :
عَنْ مُوسَى بْنِ بَكْرٍ قَالَ : قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ يَعْنِي الْأَوَّلَ ( عليه السلام ) : مَا لِي أَرَاكَ مُصْفَرّاً فَقُلْتُ لَهُ وَعَكٌ أَصَابَنِي فَقَالَ لِي كُلِ اللَّحْمَ فَأَكَلْتُهُ ثُمَّ رَآنِي بَعْدَ جُمْعَةٍ وَ أَنَا عَلَى حَالِي مُصْفَرّاً فَقَالَ لِي أَ لَمْ آمُرْكَ بِأَكْلِ اللَّحْمِ قُلْتُ مَا أَكَلْتُ غَيْرَهُ مُنْذُ أَمَرْتَنِي فَقَالَ وَ كَيْفَ تَأْكُلُهُ قُلْتُ طَبِيخاً فَقَالَ لَا كُلْهُ كَبَاباً فَأَكَلْتُهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَدَعَانِي بَعْدَ جُمْعَةٍ وَ إِذَا الدَّمُ قَدْ عَادَ فِي وَجْهِي فَقَالَ لِي الْآنَ نَعَمْ (2) .
وهذا أيضا من الطرائف المحزنة المبكية المضحكة في نفس الوقت ..
__________
(1) الكافي ج 6 ص 246 .
(2) الكافي ج 6 ص 319 .(111/39)
يقول علي لسلمان الفارسي رضي الله عنهما ) : يا سلمان هل تدري أول من بايع أبا بكر على منبر سول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ , قلت : لا أدري , إلا إني رأيت في ظُلة بني ساعدة حين خُصِمت الأنصار وكان أول من بايعه بشير بن سعد وأبو عبيدة بن الجراح ثم عمر ثم سالم , قال : لست أسألك عن هذا , ولكن أتدري أول من بايعه حين صعد على منبر سول الله صلى الله عليه وآله وسلم , قلت : لا , ولكني رأيت شيخا كبيراً متوكئا على عصاه بين عينيه سجادة شديد التشمير صعد إليه أول من صعد وهو يبكي و يقول : الحمد لله الذي لم يمتني من الدنيا حتى رأيتك في هذا المكان أبسط يدك , فبسط يده فبايعه ثم نزل فخرج من المسجد , فقال علي عليه السلام : هل تدري من هو ؟ , قلت : لا , ولقد ساءتني مقالته كأنه شامت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) (1) . يعني أنه إبليس .
عن أبي عبد الله قال : ( الحزم في القلب , والرحمة والغلظة في الكبد , والحياء في الرئة ) (2) .
قال أبو بصير لجعفر الصادق : جُعِلْتُ فِدَاكَ فَإِنَّا قَدْ نُبِزْنَا نَبْزاً انْكَسَرَتْ لَهُ ظُهُورُنَا وَ مَاتَتْ لَهُ أَفْئِدَتُنَا وَ اسْتَحَلَّتْ لَهُ الْوُلَاةُ دِمَاءَنَا فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ لَهُمْ فُقَهَاؤُهُمْ قَالَ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) الرَّافِضَةُ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ لَا وَ اللَّهِ مَا هُمْ سَمَّوْكُمْ وَ لَكِنَّ اللَّهَ سَمَّاكُمْ بِهِ أَ مَا عَلِمْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَنَّ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَفَضُوا فِرْعَوْنَ وَ قَوْمَهُ .. ) (3) . الشاهد أن الله هو سماهم الرافضة ! يعني رفضوا الباطل , هذه ترقيعة .
هذه رسالة إلى المصريين الشيعة أو المصريين السنة المتعاطفين مع الشيعة :
__________
(1) الكافي ج 8 ص 284 .
(2) الكافي ج 8 ص 165 .
(3) الكافي ج 8 ص 28 .(111/40)
يقولون عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا ( عليه السلام ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) ( لَا تَغْسِلُوا رُءُوسَكُمْ بِطِينِ مِصْرَ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ بِالْغَيْرَةِ وَ يُورِثُ الدِّيَاثَةَ ) (1).
قصة الديك مع الشيعة :
عن أَبي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قال : ( الدِّيكُ الْأَبْيَضُ صَدِيقِي وَ صَدِيقُ كُلِّ مُؤْمِنٍ ) (2) .
وفي نفس الصفحة عَنْ أَبِي الْحَسَنِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( فِي الدِّيكِ خَمْسُ خِصَالٍ مِنْ خِصَالِ الْأَنْبِيَاءِ السَّخَاءُ وَ الشَّجَاعَةُ وَ الْقَنَاعَةُ وَ الْمَعْرِفَةُ بِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَ كَثْرَةُ الطَّرُوقَةِ – أي الجماع - وَ الْغَيْرَةِ ) (3) .
عن أبي عبد الله قال : ( القليل يبدءون الكثير بالسلام – أظن لا يوجد إشكالية في هذه , وهذا حق أن القليلين يبدءون الكثيرين بالسلام – والراكب يبدأ الماشي – معقول أيضاً – وأصحاب البغال يبدءون أصحاب الحمير وأصحاب الخيل يبدءون أصحاب البغال ) ولكم أن تعلقوا بعد ذلك أصحاب المرسيدس يسلمون على أصحاب الـ BM .. وهكذا .
ومن الأخبار الطريفة المضحكة المبكية :
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( لَمْ يَرْضَعِ الْحُسَيْنُ مِنْ فَاطِمَةَ ( عليها السلام ) وَ لَا مِنْ أُنْثَى كَانَ يُؤْتَى بِهِ النَّبِيَّ فَيَضَعُ إِبْهَامَهُ فِي فِيهِ فَيَمُصُّ مِنْهَا مَا يَكْفِيهَا الْيَوْمَيْنِ وَ الثَّلَاثَ فَنَبَتَ لَحْمُ الْحُسَيْنِ ( عليه السلام ) مِنْ لَحْمِ رَسُولِ اللَّهِ وَ دَمِهِ ) (4) . إذا من الذي أرضع الحسين ؟؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الطامة :
__________
(1) الكافي ج 6 ص 501 .
(2) الكافي ج 6 ص 550 .
(3) أيضا ً .
(4) الكافي ج 1 ص 465 .(111/41)
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( لَمَّا وُلِدَ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وآله ) مَكَثَ أَيَّاماً لَيْسَ لَهُ لَبَنٌ فَأَلْقَاهُ أَبُو طَالِبٍ عَلَى ثَدْيِ نَفْسِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ لَبَناً فَرَضَعَ مِنْهُ أَيَّاماً حَتَّى وَقَعَ أَبُو طَالِبٍ عَلَى حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ فَدَفَعَهُ إِلَيْهَا ) (1) . أيش هذا الكلام يا جماعة الخير !!!!!!!! .. أبو طالب هو الذي أرضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم !! فيكون علي عماً لفاطمة كيف تزوجها ؟ إسفاف .. يعني هذا أحسن كتاب في الدنيا !! لم يؤلف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه والعياذ بالله .
تكفير من عدا الشيعة :
عن الرِّضَا ( عليه السلام ) قال : ( لَيْسَ عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ غَيْرُنَا وغير شيعتنا ) (2) .
__________
(1) الكافي ج 1 ص 448 .
(2) الكافي ج 1 ص223 .(111/42)
وعن أبي عبد الله قال : ( إن الملائكة سَأَلَتِ اللَّهَ فِي نُصْرَتِهِ – أي الحسين - فَأَذِنَ لَهَا وَ مَكَثَتْ تَسْتَعِدُّ لِلْقِتَالِ وَ تَتَأَهَّبُ لِذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ فَنَزَلَتْ وَ قَدِ انْقَطَعَتْ مُدَّتُهُ وَ قُتِلَ ( عليه السلام ) فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا رَبِّ أَذِنْتَ لَنَا فِي الِانْحِدَارِ وَ أَذِنْتَ لَنَا فِي نُصْرَتِهِ فَانْحَدَرْنَا وَ قَدْ قَبَضْتَهُ - يعني لم ندركه - فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنِ الْزَمُوا قَبْرَهُ حَتَّى تَرَوْهُ وَ قَدْ خَرَجَ فَانْصُرُوهُ وَ ابْكُوا عَلَيْهِ وَ عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ نُصْرَتِهِ فَإِنَّكُمْ قَدْ خُصِّصْتُمْ بِنُصْرَتِهِ وَ بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ فَبَكَتِ الْمَلَائِكَةُ تَعَزِّياً وَ حُزْناً عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ نُصْرَتِهِ فَإِذَا خَرَجَ يَكُونُونَ أَنْصَارَهُ ) (1). المشكلة الآن أن الملائكة تورطوا , بعضهم راح مصر وبعضهم راح سوريا وبعضهم راحوا العراق وبعضهم راح أفغانستان سمعت أن هناك قبر للحسين !! فهم لا يدرون أين قبر الحسين الآن .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قَالَ : ( يَا بَشِيرُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَتَى قَبْرَ الْحُسَيْنِ ( عليه السلام ) يَوْمَ عَرَفَةَ وَ اغْتَسَلَ مِنَ الْفُرَاتِ ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَجَّةً بِمَنَاسِكِهَا وَ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ وَ غَزْوَةً ) (2) الأخ دقيق في الرواية يعني .
الطامة :
__________
(1) الكافي ج 1 ص 283 .
(2) الكافي ج 4 ص 580 .(111/43)
عَنْ يُونُسَ الْقَصْرِيِّ قَالَ : دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فَقُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ أَتَيْتُكَ وَ لَمْ أَزُرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام ) قَالَ : ( بِئْسَ مَا صَنَعْتَ لَوْ لَا أَنَّكَ مِنْ شِيعَتِنَا مَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ أَ لَا تَزُورُ مَنْ يَزُورُهُ اللَّهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَ يَزُورُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَ يَزُورُهُ الْمُؤْمِنُونَ ) (1) الله يزور قبر علي والعياذ بالله .
وهذا موقفهم من أهل السنة بشكل عام :
عن خالد القلانسي قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : ألقى الذمي فيصافحني ماذا أصنع قال : امسحها بالتراب وبالحائط قلت فالناصب قال : أغسلها .
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) أَنَّهُ كَرِهَ سُؤْرَ وَلَدِ الزِّنَا وَ سُؤْرَ الْيَهُودِيِّ وَ النَّصْرَانِيِّ وَ الْمُشْرِكِ وَ كُلِّ مَا خَالَفَ الْإِسْلَامَ وَ كَانَ أَشَدَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ سُؤْرُ النَّاصِبِ (2).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( لَا تَغْتَسِلْ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيهَا غُسَالَةُ الْحَمَّامِ فَإِنَّ فِيهَا غُسَالَةَ وَلَدِ الزِّنَا وَ هُوَ لَا يَطْهُرُ إِلَى سَبْعَةِ آبَاءٍ وَ فِيهَا غُسَالَةَ النَّاصِبِ وَ هُوَ شَرُّهُمَا إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً شَرّاً مِنَ الْكَلْبِ وَ إِنَّ النَّاصِبَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْكَلْبِ ..) (3) .
إننا في مثل هذه الروايات لا نتهم أهل البيت , لا شك في ذلك , بل ندافع عن أهل البيت عن هذا الإسفاف الذي ينسبه إليهم أمثال الكليني وغيره .
__________
(1) الكافي ج 4 ص 580 .
(2) الكافي ج 3 ص 11 .
(3) الكافي ج 3 ص 14 .(111/44)
و عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : ( أَهْلُ الشَّامِ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الرُّومِ وَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَ أَهْلُ مَكَّةَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ جَهْرَةً ) (1).
وفي الصفحة التي بعدها يقول : ( إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَيَكْفُرُونَ بِاللَّهِ جَهْرَةً وَ إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَخْبَثُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَخْبَثُ مِنْهُمْ سَبْعِينَ ضِعْفاً ) (2).
هكذا يقولون عن أنصار سول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن الذين هاجروا في سبيل الله عز وجل ! .
أما الصحابة فحدث ولا حرج :
فهذا الكليني في الجزء الثامن , أي الروضة , يروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : ( لله قباب كثيرة ألا إن خلف مغربكم هذا تسعة وثلاثون مغرباً أرضا بيضاء مملوءة خلقاً يستضيئون بنوره لم يعصوا الله طرفة عين ما يدرون خُلق آدم أو لم يُخلق يبرءون من فلان وفلان ) (3) . يعنون أبا بكر وعمر .
ولكن للإضافة نذكر هذا من الأنوار النعمانية لنعمة الله الجزائري يقول : قد وردت في أخبار الخاصة – يعني الشيعة – أن الشيطان يُغل بسبعين غلاً من حديد جهنم ويُساق إلى المحشر فينظر ويرى رجل أمامه يقوده ملائكة العذاب وفي عنقه مائة وعشرون غلاً من أغلال جهنم – ممكن أبو جهل ممكن فرعون ممكن النمرود ممكن أبو لهب ؟ - فيدنوا الشيطان إليه فيقول ما فعل هذا الشقي حتى زاد عليّ في العذاب وأنا أغويت الخلق وأوردتهم موارد الهلاك , فيقول عمر للشيطان : ما فعلت شيئاً سوى أني غصبت خلافة علي بن أبي طالب ) (4). صار عمر هذا الرجل !! .
والجزائري هذا الخبيث يقول : إن عمر كان مصاب بداء في دبره لا يهدأ إلا بماء الرجال (5) .
وهذه أيضا خارج الكافي بعض تكفيرات الصحابة عندهم :
__________
(1) الكافي ج2 ص 409 .
(2) الكافي ج 2 ص 410 .
(3) الكافي ج 8 ص 193 .
(4) الأنوار النعمانية ج 1 ص 81 .
(5) الأنوار النعمانية ج 1 ص 63 .(111/45)
عن علي قال : ( ألا إن أئمة الكفر خمسة طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري ) (1) . وقالوا إن أم طلحة بن عبيد الله كانت لها راية بمكة وإنها إستبضعت بأبي سفيان فوقع عليها وتزوجها عبيد الله وولدت طلحة فجاءت بطلحة لستة أشهر فاختصما فاختارت عبيد الله (2) .
وقالوا عن علي بن أبي طالب أنه قال لسعد بن أبي وقاص : ( ما في رأسك ولحيتك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس ) (3) .
خاتمة :
أخيرا نقول , هذه كلمة نوجهها إلى من ينتسب إلى هذا الدين الذي نقلت عنه مثل هذا الإسفاف ومثل هذا الخبث و الذي ينتسب إلى هذا الدين ويعتقد أنه من عند الله تبارك وتعالى ويدين بأن هذا الكتاب هو أصح كتاب عندهم , وليس له أن يدين غير ذلك لأنه بإجماع الشيعة , أنه ليس عندهم كتاب مثل هذا الكتاب أبداً , بل هذا أصح كتاب عندهم على الإطلاق , وإن الكلام الذي يدور بينهم هو هل هو صحيح كله , أو بعضه صحيح وبعضه ضعيف , لكن في النهاية هم متفقون أنه أصح كتبهم , نجد فيه مثل هذا الكلام ! , هل تقبل أن تكون من دين هذا هو مرجعك الأول والأخير , وهذا هو أصح كتاب عندك , فنقول اتقوا الله سبحانه وتعالى والرجوع إلى الحق لا شك أنه خير من التمادي في الباطل .
__________
(1) الشافي في الإمامة للمرتضى ص 287 .
(2) الأنوار النعمانية ج 1 ص 65 .
(3) الأمالي للصدوق ص 133 .(111/46)
وأنا والله الذي لا إله إلا هو , كما إني سعيد بأن يعرف الناس ما في هذا الكتاب من باطل وضلال , إلا إني كذلك حزين لما ألقيته على آذانكم من كلام تشمئز منه النفوس الطاهرة الطيبة أن تسمع مثل هذا الكلام , وأن يُنسب مثل هذا اللغط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وإلى أئمة أهل البيت رضوان الله تبارك وتعالى عليهم , وأسأل الله تبارك وتعالى أن يرينا جميعاً الحق حقاً ويرزقنا اتباعه , وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه , وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
إجابة بعض الأسئلة :
س : ما هي قصة مصحف فاطمة ؟ كثير ما نسمع من الشيعة يتبرءون من مصحف فاطمة ..
ج : مصحف فاطمة فقد تضاربت آرائهم فيه , البعض يقول أن هذا أخبار عن وقائع ستحدث أخبر بها الوحي , ملك من الملائكة جاء إلى فاطمة وأخبرها بهذا , وبعضهم يقول أن هذا جبريل , وبعضهم يقول بأن هذا قرآن .. يعني متضاربة الأقوال في هذا , وهو في الحقيقة ما فيه شيء أسمه مصحف فاطمة , ولكن كذب , وكل يطلع من رأسه , ولذلك تجد هذه الأقوال متضاربة في موضوع مصحف فاطمة , وهي أكاذيب ملفقة , كل واحد يكذب شيئاً , لكن ما فيه شيء ملموس عندهم أسمه مصحف فاطمة , ما أعرف أن هذا شيء موجود عندهم ولا يجرءون على هذا الأمر .
س : شيخ عندي تعقيب بسيط على مصحف فاطمة , الإمام الصادق يقول أنه ما فيه من قرآنكم من شيء , وقد ورد أنه عندما كانت الآية تنزل على رسول الله كان الإمام علي سلام الله عليه يكتبها ويكتب شرحها , أي انه يكتب تفسير القرآن , وأنا رأيت من كلامك يا شيخ أنك ما عندك تأكيد كامل على أن مصحف فاطمة هو مصحف آخر موجود , الخلاصة أن مصحف فاطمة هو مجرد تفسير .
ج : أولا : هم يسمونه مصحف وليس تفسير , هذا أمر ..(111/47)
ثانيا : قولهم أنه تفسير , يعني أن فاطمة تفسر القرآن الكريم , طيب أين هذا التفسير , لماذا لا يوجد هذا التفسير ؟ ولماذا سمي مصحف فاطمة ويأتيها الملك ثم يقال أن هذا تفسير , ولذلك بعضهم يقول : هو إخبار بالغيب , يعني أمور من الأحداث التي ستحدث أخبرها الملك إياها في هذا المصحف , والبعض يقول كما تقول أنت الآن أن هذا تفسير , وفي الرواية التي قرأناها قبل قليل عن أبي قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام : جُعلت فداك قول الله سبحانه وتعالى : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ , لِلْكَافِرينَ بولاية علي لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } من إنّا لا نقرأها هكذا , فقال : هكذا والله نزل بها جبريل على محمد , وهكذا والله مثبت في مصحف فاطمة (1) . ونحن لا نقول أن هناك مصحف لفاطمة رضي الله عنها , وهذا كلام فاضي مكذوب عليها , هي بريئة من هذا , ولكن الشيعة الذين يعتقدون أن القرآن محرف زعموا أن هناك قرآن عند علي يختلف عن القرآن الذي عندنا , وزعموا أن هناك قرآن لفاطمة يختلف عن القرآن الذي عندنا , وكذلك هذا القرآن ذهب إلى الحسن والحسين وهكذا عند المهدي المنتظر ! , فنحن لا نريد مصحف فاطمة , نحن نريد قضية واحدة فقط وهي : هل القرآن الموجود الآن هو الذي أتى به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم أو أنه ناقص ؟؟ كما يدعي الشيعة الإثني عشرية .. هذه هي القضية الأساسية , قضية أنه فاطمة لوحدها أو غيرها هذا موضوع آخر , ولذلك أنه جاء في الأخبار أنهم عليهم السلام أمروا شيعتهم بقراءة هذا الموجود في الصلاة وغيرها والعمل بأحكامه حتى يظهر مولانا صاحب الزمان فيرتفع هذا القرآن من أيدي الناس إلى السماء ويخرج القرآن الذي ألفه أمير المؤمنين عليه السلام فيُقرأ ويُعمل بأحكامه (2) .
__________
(1) الكافي ج 8 ( الروضة ) ص 49 .
(2) الأنوار النعمانية للجزائري ج2 ص 363 .(111/48)
فالقصد أن الشيعة مع مصحف فاطمة هم مضطربون أصلاً , بعضهم يقولون أنه تفسير وبعضهم يقولون أنه أخبار غيبية , وبعضهم يقول أنه تسلية كان يسلي بها الملك فاطمة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم , وبعضهم يذكر آيات ويقول إنها من مصحف فاطمة , فنحن لا ندعي شيء لأننا لا نعلم شيئا عن هذا المصحف ولا نعتقد ثبوته أصلا , ونجزم يقينا أنه مكذوب عليها رضي الله عنها , وإلا لو كان تفسيرا لماذا لم يخرج هذا التفسير ؟ أين هو هذا التفسير ؟ لماذا يوجد تفسير الطباطبائي وتفسير الخوئي وتفسير الطبرسي وتفسير شبر وغيرهم .. أين تفسير فاطمة .. أين تفسير آل البيت .. أين تفسير علي ؟ أين تفسير جعفر الصادق , أين هذه التفاسير ؟؟ في هذه الكتب متضاربة أقوالهم في هذه التفاسير وكلا يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك , والله أعلى وأعلم .(111/49)
شبهات حول السنة والسيرة النبوية
تَأْلِيفُ
عماد حسن أبو العينين
مقدمة
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ..
{ - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم (- جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - قرآن كريم ( { } - - - { - - - } - - مقدمة (( مقدمة ( - - - { ( - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } ((( قرآن كريم (( - - - صدق الله العظيم ( { المحتويات ( - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ( - - تم بحمد الله ((((( } [ آل عمران 102]، { - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - ( } - } - - - - } - قرآن كريم ( { } - - - ( المحتويات ( - ( - - عليه السلام - - - ( - { - - - - ( - - { فهرس - - } صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - { ((( الله أكبر - - - رضي الله عنهم - - ( فهرس } - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - فهرس - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - { - ( { ( تم بحمد الله - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - (- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم - - - { - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - ( - ( { ( تم بحمد الله - صدق(112/1)
الله العظيم - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ( - - } - - ( الله - - } ( - - - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ( { } - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { - - - - ( - { - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - عليه السلام -( - - - - - - (( مقدمة ( - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنه - فهرس ( - - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } تمت ( { { - - - - رضي الله عنه - تمت - - - ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - جل جلاله - تمهيد - ( - - عليه السلام - - ((( } [النساء 1]، { - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - قرآن كريم ( { } - - - { - - - } - قرآن كريم ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( قرآن كريم - - - - جل جلاله - - - ( - - رضي الله عنهم - - (((( ( - ( - ((( - ( المحتويات ( - - - ( - ( - فهرس - (- رضي الله عنهم - - ((- صلى الله عليه وسلم - - ( - ((((- رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - - قرآن كريم ( الله أكبر ( - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ((((( - { - - - (( - - - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - { - ( - رضي الله عنهم - - - - ( - ( - ( قرآن كريم - ( - ( - - ((- رضي الله عنه -( (((( } [الأحزاب70-71] .
أَمَّا بَعْدُ..(112/2)
فإن من سنن الله فى الكون سنة التدافع بين الأضداد؛ بين الخير والشر، بين الحق والباطل، قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة251]، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج40].
ولقد بُعث النَّبِيّ S ولم يكن على الأرض موحد، ولا ساجد لله، إلا بقايا من أهل الكتاب على دين اندرس معظمه، وكانت الأرض فى ظلام الشرك الدامس، فكان أمر الله الرحيم أن يكشف هذه الغمة ويزيح هذه الظلمة ببعثة النَّبِيّ S {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء174]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب45-46]، فصدع النَّبِيّ S بالدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده فأضاء قلوب الموحدين، ونّوَّرَ أبصار السالكين، ولكنَّ الكفر يأبى إلا الظلمة فأمر أتباعه بمحاربة أهل الحق، فكان التدافع من لدن ظهور الدعوة حتى يومنا هذا، تختلف الأسلحة والأشخاص والهيئات ولكنَّ الهدف واحد، هو إطفاء نور الله {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة32]، فقيد الله لهذا الدين علماء أجلاء يدفعون عنه تأويل الجاهلين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين، وشُبه الهالكين، فما كان منى إلا أننى حصرت -على قدر همتى- شبهات كثيرة لطوائف شتى مختلفة الأهواء والمشارب متوحدة الأهداف والمآرب.(112/3)
وهذه الشبهات كانت تدور حول القرآن والسُنَّة والأنبياء والشرائع والعقل والنقل.... إلخ، والمطلع على الشبهات المثارة حول الإسلام وشريعته ونبيه يظن أنه وقع فى بحر خضم لا ساحل له، ولكنه ما يكاد يفتح عينيه على ردود علماء السُنَّة إلا ويراهم يُجهزون على هذه الشبهات ضربًا وطعنًا وذبحًا {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال12]، فى معركة دامية رهيبة سَلِمَ فيها أهل الحق، وبقى أهل الباطل ما بين صريع وجريح.
ولقد انتقيت من هذه الشبهات أهمها، واقتصرت على الشبهات التى تدور حول السُنَّة والسيرة النبوية، وانتقيت الرد الذى يليق مع كل شبهة؛ فالرد على المستشرقين من اليهود والنصارى لا يليق إلا أن يكون جنبًا إلى جنب مع التوراة والإنجيل، والرد على أحفاد المعتزلة من العلمانيين والمستغربين والعصرانيين، لا يكون إلا بالعقل تارة والأبحاث العلمية تارة أخرى، وغيرهم من أهل الضلال والانحراف عن الجادة بكشف حقيقة ما يستندون إليه ويعتمدون عليه من حديث صحيح أو ضعيف أو موضوع وكيفية الاستدلال وصحته....إلخ.
وأستطيع أن أسجل بعض الملاحظات التى عنَّت لي أثناء النظر فى هذه الشبهات المثارة حول السُنَّة والسيرة النبوية:
أولًا: إن بعض من تظاهر بالإسلام والمحافظة عليه وتطهيره مما طرأ عليه من تغيير وتبديل يُرِدُ لضعاف العقول من المسلمين شُبهًا يُبطل بها كثيرًا من مسّلَّمات الإسلام ظنًا منه أنه عنه يُدافع ودونه يُنافح.
ولو أننا ضربنا صفحًا عن حكاية هذه الشبهات وبيان فسادها لكان منا ذلك رأيًا متينًا ومذهبًا صحيحًا إذ الإعراض عن القول المُطرح أحرى لإماتته وإخماد ذكر قائله وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيها للجهال عليه.(112/4)
إلا أن وسائل الإعلام من حولنا كثيرة ومتشعبة وكثيرٌ منها يعمل لصالح أعدائنا مما يُغرى الجهلة بمحدثات الأمور وإسراعهم إلى اعتقاد خطإ المخطئين والأقوال الساقطة عند العلماء، من ذلك وغيره؛ رأينا الكشف عن فساد هذه الشبهات ورد هذه الأقوال بقدر ما يليق بها من الرد أجدى على الأنام وأحمد للعاقبة إن شاء الله.
ثانيًا: إن كان لكل طائفة من الطوائف التى تحارب الإسلام -عن عمد أو عن جهل- شُبهاتها الخاصة بها، التى نستطيع أن نقول إن هذه الشبهة لا تصدر إلا عن طائفة بعينها لأن من أصول منهجها كذا، وكذا، إلا أنهم يلتقون فى شبهات ويجتمعون عليها بجامع عداوة الإسلام وأهله، ومن هذه الشبهات المشتركة، الطعن فى السُنَّة النبوية.
ثالثًا: نظرًا لعمل المستشرقين الدءوب المنظم فإنهم بثوا شبهاتهم فى الموسوعات العالمية مثل "دائرة المعارف الإسلامية" و "دائرة المعارف البريطانية" بل إن منهم من شارك فى تأليف هذه الموسوعات، ومنهم من كان على اتصال بمن ألفها فلا غرو أن نجد ما يُثيره المستشرقون هو هو ما كُتب فى الموسوعات.
رابعًا: لا بد من النظر فى التوصيات التى ضمنتها فى (خاتمة البحث) لأنها -من وجهة نظرى- حل عملى لما نحن فيه من حرب مع أعداء الإسلام.(112/5)
وأخيرًا: أقول إننى غير قلقٍ من أعداء الإسلام فما زال هذا دأبهم؛ التشكيك فى القرآن والسُنَّة ونبي الأمة، فهم لا ينالون ثقة الجماهير الإسلامية أبدًا، ولا يُسمع صدى لمزاعمهم ونعاقهم؛ لأن المسلم بطبعه يخشى من آراء الآخر، ويتعامل معها بحذر وريبة سيما ما كان متعلقًا منها بالديانة، ولكنَّ خوفى وقلقى من هؤلاء الذين هم من بنى جلدتنا؛ الذين يتكلمون بألسنتنا ويشربون ماءنا ويتنفسون هواءنا، ويطعنون فى ديننا وشريعتنا ونبينا، الذين يهرفون بما لا يعرفون، فهؤلاء هم الخطر الداهم لديار المسلمين، وإن لم نقف حائلًا بينهم وبين ما يبغون وينشرون قد يزيغ فريق من المسلمين بسبب فسادهم وإفسادهم فى الأرض، ولا بد من كشف عوارهم الفكرى وخبلهم العقلى لعوام المسلمين.
من أجل هذا وغيره كان هذا الكتاب؛ ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحيا من حى عن بيِّنة.
فأسأل الله العظيم أن يجعله خالصًا لوجه وأن يتقبله برحمته إنه هو السميع العليم.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
عماد حسن أبو العينين
تعريف الشبهة
الشّبهة لغةً: "من أشبه الشّيءُ الشّيءَ أي: ماثله في صفاته، والشَّبَه، والشِّبْه، والشّبيه، المثل، والجمع: أشباه، والتّشبيه: التّمثيل، والشّبهة المأخذ الملبس والأمور المشتبهة أي المشكلة لشبه بعضها ببعض.
والشّبهة: اسمٌ من الاشتباه وهو الالتباس، وشَبَّهَ عليه الأمر: أبهمه عليه حتى اشتبه بغيره، واشْتَبَهَ الأمر عليه: اختلط، يقال: اشتبهت الأمور وتشابهت: التبست فلم تتميّز ولم تظهر، ومنه اشتبهت القبلة ونحوها، والجمع فيها شبهٌ وشبهاتٌ.
والاشتباه في الاستعمال الفقهيّ الاصطلاحى أخصّ منه في اللّغة، فقد عرّف الجرجانيّ الشّبهة بأنّها: "ما لم يتيقّن كونه حرامًا أو حلالًا"، أو كما عرفها السيوطى أنها: "ما جهل تحليله على الحقيقة وتحريمه على الحقيقة"، فلا يدر أحلال هو أم حرام، وحق هو أم باطل.
وقد تناول العلماء الشّبهة من أربعة وجوه(112/6)
الأوّل: ما تعارضت فيه الأدلّة.
الثّاني: ما اختلف فيه العلماء وهو متفرّع من الأوّل.
الثّالث: المكروه.
الرّابع: المباح الّذي تركه أولى من فعله باعتبار أمر خارج عن ذاته.
ويدلّ للتّفسير الأوّل والثّاني ما جاء فى حديث النّعمان بن بشير أن النَّبِيّ S قال(1): «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
ووجه الدّليل قوله S: "لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ".
وجاء في رواية التّرمذيّ "لَا يَدْرِي كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَمِنْ الْحَلَالِ هِيَ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ".
ومفهوم قوله: "كثير" أنّ معرفة حكمها ممكن للقليل من النّاس وهم المجتهدون.
فالشّبهة تكون في حقّ غيرهم ممّن لا يظهر لهم ترجيح أحد الدّليلين، أو معرفة الرّاجح من أقوال العلماء.
وما كان على هذه الحال لا يقال: إنّه من الحلال البيّن ولا من الحرام البيّن، والمتبيّن: هو ما لا إشكال فيه وهو ما يدلّ عليه الحديث في قوله: " الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشبّهات ".
أسباب الاشتباه
__________
(1) صحيح): البخارى 52، مسلم 1599، أبو داود 3329، الترمذى 1205، النسائى 4453، ابن ماجة 3984، أحمد 17883.(112/7)
قد ينشأ الاشتباه نتيجة خفاء الدّليل بسببٍ من الأسباب، كالإجمال في الألفاظ واحتمالها التّأويل، ودوران الدّليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه، ودورانه بين العموم والخصوص، واختلاف الرّواية بالنّسبة للحديث، وكالاشتراك في اللّفظ، أو التّخصيص في عامّه، أو التّقييد في مطلقه، كما ينشأ الاشتباه عند تعارض الأدلّة دون مرجّحٍ.
كما أنّ النّصوص في دلالتها ليست على وضعٍ واحدٍ، فمنها ما دلالته على الأحكام ظنّيّةٌ، فيجتهد الفقهاء للتّعرّف على ما يدلّ عليه النّصّ، وقد يتشابه الأمر عليهم نتيجة ذلك، إذ من الحقائق الثّابتة اختلاف النّاس في تفكيرهم، وتباين وجهات نظرهم.
والاشتباه النّاشئ عن خفاءٍ في الدّليل يعذر المجتهد فيه، بعد بذله الجهد واستفراغه الوسع، ويكون فيما انتهى إليه من رأيٍ قد اتّبع الدّليل المرشد إلى تعرّف قصد الشّارع"(1).
من هذين التعريفين؛ اللغوى والشرعى نستطيع أن نقول فى مقامنا هذا: إن الشبهة هى التباس الأمور واختلاطها عند أهل الشبهات من المستشرقين والعلمانيين وغيرهم نتيجة جهل أو عمد، فكأنهم يريدون أن يُلبسوا على المسلمين دينهم فيخلطون الحق بالباطل بُغية عدم معرفة الحقيقة أو تشويهها، فيُلبسون الإسلام ثوب زور ويدعون عليه ما ليس فيه.
شبهات المستشرقين (2)
الشبهة الأولى: نشر محمدٌ دينه الإسلامي بالسيف
__________
(1) اللسان، مادة (شبه)، وانظر أيضًا الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويت.
(2) المستشرقون: جمع مستشرق، يطلق على كل من يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم وليس من أهلهم، ولهم تيار فكرى يعرف باسمهم وهو (الاستشراق) هدفه التشكيك فى صحة نبوة محمد S والطعن فى الإسلام دينًا وشريعة وعقيدة ولغة، منهم منصفون وأكثرهم المتعصبون وكلاهما مرٌ كافر، ولهم آراء خطيرة نكتفى منها بشبهتين اثنتين حول النبي S وسنته، نهيك عن شبههم حول القرآن.(112/8)
قام الإسلام على السيف ولم يدخل فيه معتنقوه بطريق الطواعية والاختيار، وإنما دخلوا فيه بالقهر والإكراه، وقد حرض محمد أتباعه على القتال واتخذوا من تشريع الجهاد في الإسلام وسيلة لهذا التجني الكاذب الآثم، وهذا ليس من صفة الأنبياء.
الرد على الشبهة وتفنيدها
إن تشريع الجهاد ثابت فى كل الأديان، ولابد لأى دين فى الأرض من قوة تحميه، وتشريع يكون فيه ردع للبغاة، الذين يتربصون به الدوائر.
والأدلة من الكتاب المقدس على أن الجهاد وحمل السيف والقتال هي من الأمور الربانية غير المسقطة للنبوات وقد أمر بها الرب وأوصى بها:
جاء في الكتاب المقدس قول الرب لموسى(1):"هَا أَنَا مُرْسِلٌ مَلاَكِي أَمَامَكَ لِيَحْرُسَكَ طَوَالَ الطَّرِيقِ، وَيَقُودَكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَعْدَدْتُهَا لَكَ... إِذْ يَسِيرُ مَلاكِي أَمَامَكَ حَتَّى يُدْخِلَكَ بِلاَدَ الأَمُورِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفَرِزِّيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ الَّذِينَ أَنَا أُبِيدُهُمْ...إِيَّاكَ أَنْ تَسْجُدَ لآلِهَتِهِمْ، وَلاَ تَعْبُدْهَا، وَلاَ تَعْمَلْ أَعْمَالَهُمْ، بَلْ تُبِيدُهُمْ وَتُحَطِّمُ أَنْصَابَهُمْ".
وجاء في رسالة بولس إلى العبرانيين(2):"أن نبي الله إبراهيم حارب الملوك وقهرهم وأخذ الغنائم منهم"!!
فإذا كان حمل السيف أمرًا منافيًا للنبوة فلماذا أمر الرب موسى وإبراهيم بحمله؟
بل إن ما جاء فى الكتاب المقدس لا يخطر على البال من الحروب والإبادة وأخذ الأموال بأمر الرب مما لا يقارن بحال مع ما ينكرونه على المسلمين والدليل من الكتاب المقدس نفسه:
أولا: إباحة قتل الرجال والنساء والأطفال
__________
(1) سفر الخروج [23: 22]، وانظر أيضًا ما جاء فى نفس السفر [34: 11].
(2) رسالة الرسول بولس إلى العبرانيين [7: 1، 2].(112/9)
جاء في سفر التثنية قول الرب(1):"وَحِينَ تَتَقَدَّمُونَ لِمُحَارَبَةِ مَدِينَةٍ فَادْعُوهَا لِلصُّلْحِ أَوَّلًا. فَإِنْ أَجَابَتْكُمْ إِلَى الصُّلْحِ وَاسْتَسْلَمَتْ لَكُمْ، فَكُلُّ الشَّعْبِ السَّاكِنِ فِيهَا يُصْبِحُ عَبِيدًا لَكُمْ. وَإِنْ أَبَتِ الصُّلْحَ وَحَارَبَتْكُمْ فَحَاصِرُوهَا فَإِذَا أَسْقَطَهَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ فِي أَيْدِيكُمْ، فَاقْتُلُوا جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ، وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ أَسْلاَبٍ، فَاغْنَمُوهَا لأَنْفُسِكُمْ، وَتَمَتَّعُوا بِغَنَائِمِ أَعْدَائِكُمُ الَّتِي وَهَبَهَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ لَكُمْ. هَكَذَا تَفْعَلُونَ بِكُلِّ الْمُدُنِ النَّائِيَةِ عَنْكُمُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ الأُمَمِ الْقَاطِنَةِ هُنَا. أَمَّا مُدُنُ الشُّعُوبِ الَّتِي يَهَبُهَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ لَكُمْ مِيرَاثًا فَلاَ تَسْتَبْقُوا فِيهَا نَسَمَةً حَيَّةً، بَلْ دَمِّرُوهَا عَنْ بِكْرَةِ أَبِيهَا، كَمُدُنِ الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ كَمَا أَمَرَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ، لِكَيِ لاَ يُعَلِّمُوكُمْ رَجَاسَاتِهِمِ الَّتِي مَارَسُوهَا فِي عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ، فَتَغْوُوا وَرَاءَهُمْ وَتُخْطِئُوا إِلَى الرَّبِّ إِلَهِكُمْ".
ثانيا: طرد والإبادة، وعدم قبول العهد والصلح
__________
(1) سفر التثنية [20: 10].(112/10)
جاء أيضًا قول الرب لموسى(1):"وَمَتَى أَدْخَلَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ مَاضُونَ إِلَيْهَا لِتَرِثُوهَا، وَطَرَدَ مِنْ أَمَامِكُمْ سَبْعَ أُمَمٍ، أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكُمْ، وَهُمُ الْحِثِّيُّونَ وَالْجِرْجَاشِيُّونَ وَالأَمُورِيُّونَ وَالْكَنْعَانِيُّونَ وَالْفِرِزِّيُّونَ وَالْحِوِّيُّونَ وَالْيَبُوسِيُّونَ. وَأَسْلَمَهُمُ الرَّبُّ إِلَيْكُمْ وَهَزَمْتُمُوهُمْ، فَإِنَّكُمْ تُحَرِّمُونَهُمْ. لاَ تَقْطَعُوا لَهُمْ عَهْدًا، وَلاَ تَرْفُقُوا بِهِمْ، وَلاَ تُصَاهِرُوهُمْ. فَلاَ تُزَوِّجُوا بَنَاتِكُمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ، وَلاَ أَبْنَاءَكُمْ مِنْ بَنَاتِهِمْ، إِذْ يُغْوُونَ أَبْنَاءَكُمْ عَنْ عِبَادَتِي لِيَعْبُدُوا آلِهَةً أُخْرَى، فَيَحْتَدِمُ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ وَيُهْلِكُكُمْ سَرِيعًا. وَلَكِنْ هَذَا مَا تَفْعَلُونَهُ بِهِمْ: اهْدِمُوا مَذَابِحَهُمْ وَحَطِّمُوا أَصْنَامَهُمْ وَقَطِّعُوا سَوَارِيَهُمْ وَأَحْرِقُوا تَمَاثِيلَهُمْ".
ناهيك عن صور النهب والخديعة التي يُقرها الكتاب المقدس، واستحضر عدد بني إسرائيل لتعلم مدى الكارثة التي أصابت المصريين في أموالهم، واستحضر كيف أبقى رسول الله Sعلي بن أبي طالب في مكة ليرد إلى المشركين ودائعهم في حادث الهجرة.
أقول: إن غاية ما فى الأمر أن المستشرقين حاروا في فهم هذه الظاهرة وهى أنه ما كاد يخرج S من مكة مهاجرًا بدينه، وما انفك العقد الأول من السنين حتى كانت جيوشه تقرع أبواب الروم، ثم أفل القرن الأول وقد أضحت الأمة الإسلامية في انتشارها على وجه الأرض كالنار سرى في الهشيم، فقد تحولت الأمم إلى الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وامتد الوجود الإسلامي في فترة وجيزة فملأ ما بين الصين والأندلس.
__________
(1) سفر التثنية [7: 1].(112/11)
لقد حاروا في فهمها إذ لا تفهم إلا بالاعتراف بأن هذا الدين حق وافق فطرة الناس وعقولهم فأذعنوا له، وهروبًا من هذه الحقيقة التي نشرت الإسلام في ربوع كانت تُحسب قلاعًا للنصرانية قال النصارى بأن الإسلام دين قام على السيف، وبه انتشر، وأرادوا من خلاله طمس تلك الحقيقة الناصعة.
ولننظر إلى واقع تاريخ الدعوة الإسلامية:
لقد مكث S بمكة ثلاثة عشر عامًا، يدعو إلى الله بالحجة والموعظة الحسنة، وقد دخل في الإسلام في هذه الفترة خيار المسلمين من الأشراف والفقراء، ولم يكن عند رسول الله S من الثراء ما يغري هؤلاء، وقد تحمَّل المسلمون من صنوف العذاب والبلاء ألوانًا، فما صرفهم ذلك عن دينهم، وما تزعزعت عقيدتهم، وما سمعنا أن أحدًا منهم ارتدّ سخطًا عن دينه، أو أغرته مغريات المشركين في النكوص عنه.
ثم كان أن هاجر بعضهم إلى بلاد الحبشة هجرتين، ثم هاجروا جميعًا الهجرة الكبرى إلى المدينة، تاركين الأهل والولد والمال والوطن، متحملين آلام الاغتراب، ومرارة الفاقة والحرمان، وقد دخل في الإسلام من أهل المدينة قبل الهجرة وبعدها عدد كثير عن رضًا واقتناع ويقين واعتقاد، وما يكون لإنسان يحترم عقله ويذعن للمقررات التاريخية الثابتة، أن يزعم أنه كان للنّبِي S والمسلمين في هذه الأربعة عشر عامًا أو تزيد حول أو قوة ترغم أحدًا على الدخول في الإسلام، إلا إذا ألغى عقله وهدم التاريخ الصحيح.(112/12)
إن تشريع الجهاد في الإسلام لم يكن لإرغام أحد على الدخول في الإسلام كما زعموا، وإنما كان للدفاع عن العقيدة وتأمين سبلها ووسائلها، وتأمين المعتنقين للإسلام، وردِّ الظلم والعدوان، وإقامة معالم الحق، ونشر عبادة الله في الأرض، فلما تمالأ المشركون على المسلمين أمرهم الله بقتالهم عامة، ثم ماذا يقول هؤلاء المغرضون في قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة8-9].
فالإسلام لم يقف عند حدِّ أن من سالمنا سالمناه، بل لم يمنع من البر بهم والعدل معهم، وعدم الجور عليهم، وكذلك كان موقف القرآن كريمًا جدًا مع الذين قاتلوا المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم، أو ساعدوا عليه، فلم يأمر بظلمهم أو البغي عليهم، وإنما نهى عن توليهم بإفشاء الأسرار إليهم أو نصرتهم وإخلاصهم الودِّ لهم، فإن حاربونا حاربناهم، وصدق الله {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة190].
ونصوص القرآن والسُنَّة الصحيحة تردان على هذا الزعم وتكذبانه، وقد صرح الوحي بذلك في غير ما آية قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ}[البقرة256].
"فالإسلام وهو أرقى تصور للوجود وللحياة وأقوم منهج للمجتمع الإنساني ينادى بأن لا إكراه في الدين وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنَّهُم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين".(1)
__________
(1) سيد قطب، فى ظلال القرآن: 1/ 291.(112/13)
وقال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس99]
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني.
فالله تعالى لم يَبْنِ أمر الإيمان على الإجبار والقسر وإنما بناه على التمكن والاختيار.
وقضية العقيدة كما جاء بها هذا الدين قضية اقتناع بعد البيان والإدراك وليست قضية إكراه وغصب وإجبار ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشرى بكل قواه وطاقاته يخاطب العقل المفكر والبداهة الناطقة ويخاطب الوجدان المنفعل كما يخاطب الفطرة المستكنة يخاطب الكيان البشرى كله والإدراك البشرى بكل جوانبه في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تُلْجِئُ مشاهدها إلجاءً إلى الإذعان ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنَّهَا فوق الوعي والإدراك.
وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشرى بالخارقة المادية القاهرة فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه؛ ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع.
فإنه لم يكن المسلمون قبل الهجرة قادرين على مجابَهَةِ الكفار أو إكراههم وبعد أن تقووا في المدينة وعلى مدى القرون الماضية لم يُكْرِهُوا أحدًا على الإسلام، كما يفعل أتباع الملل والنحل الأخرى، وقد نزلت هذه الآية في بداية السنة الرابعة من الهجرة حيث كان المسلمون أعزاءً أقوياء.
ولم يلجأ المسلمون إلى الحرب أو الجهاد إلا لرد العدوان والتمكين من حرية التدين ومنع تعسف السلطة الظالمة الحاكمة من استعمال المسلمين حقهم في الدعوة إلى الله ونشر الإسلام في أنحاء الأرض بدليل قبول المعاهدات والصلح على دفع الجزية وتخيير العدو بين ذلك وبين الاحتكام إلى القتال.(112/14)
ولم يمنع النَّبِيّ S يهوديًّا من دخول النصرانيَّة ولا نصرانيًّا من الدخول في اليهوديَّة، وكان علي عهد النَّبِيّ S أبناء للأنصار دخلوا في اليهودية، كما رواه ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ(1): كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاتًا(2) فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عز وجل - {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ}.
قال صاحب معالم التنزيل(3): فقال النَّبِي S عند ذلك: «قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم».
وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال(4): نزلت {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} في رجل من الأنصار من بنى سالم يقال له: الحصين كان له ابنان نصرانيَّان وكان هو مسلمًا فقال للنّبِي S :ألا استكرهما فإنَّهما قد أبيا إلا النصرانية، فأنزل الله الآية.
وفي رواية أنه حاول إكراههما فاختصموا إلى النَّبِي S فقال: يا رسول الله أيدخل بعضى النار وأنا أنظر؟ فنزلت الآية فخلاهما.
ولم يمنع النَّبِي S وثنيًّا دخل في دين أهل الكتاب بل ولا يهوديًّا تنصر أو نصرانيًّا تَهَوَّدَ أو مجوسيًّا دخل في التهوُّد والتنصُّر، بل جمهور الفقهاء يُقِرُّوَنُه على ذلك كما هو مذهب مالك وأبِي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه.
__________
(1) صحيح): انفرد به أبو داود 2682، صحيح سنن أبى داود 3/58.
(2) قَالَ أَبُو دَاوُد: الْمِقْلَاتُ الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ.
(3) تفسير البغوى: 1/ 314.
(4) تفسير الطبري: 3/ 14.(112/15)
وما أعطاه الرسول S نصارى نجران يدل على ذلك أيضًا فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ(1): (صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ S أَهْلَ نَجْرَانَ..... عَلَى أَنْ لَا تُهْدَمَ لَهُمْ بَيْعَةٌ وَلَا يُخْرَجَ لَهُمْ قَسٌّ وَلَا يُفْتَنُوا عَنْ دِينِهِمْ مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا أَوْ يَأْكُلُوا الرِّبَا.....).
ولم تعرف عصور الإسلام أنَّهُم أكرهوا ذميًّا على ترك دينه.
والكفر رأس الظلم، فلا يتوهمن أحد أن حمل الآية على التخيير وعدم الإكراه يشعر بإباحة الكفر أو الرضا به، حاشا لله أن يكون هذا، ولعل خوف هذا التوهم هو الذي حدا بكثير من المفسرين على حمل الآية على التهديد والوعيد، حتى مثَّل علماء البلاغة للأمر الذي يراد به التهديد بهذه الآية، فالآية بنصها تخيير، ولكنه تخيير يستلزم تهديدًا ووعيدًا لا محالة في حال اختيار الكفر على الإيمان، وهي نصوص صريحة في عدم الإكراه على الإسلام.
__________
(1) ضعيف): انفرد به أبو داود 3041، ضعيف سنن أبى داود 3/167.(112/16)
وأما السُنَّة فقد جاءت مؤيدة لهذا المعنى: فعن بريدة قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ S إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ(1): «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ»، وهكذا ترى أن النَّبِي S لم يأمر بالقتال إلا بعد أن تستنفد الوسائل السلمية، وليس بعد استنفادها إلا أنهم قوم مفسدون أو يريدون الحرب، و في هذا السياق فإن الجزية ليست للإرغام على الإسلام، وإنما هي نظير حمايتهم وتأمينهم وتقديم شتى الخدمات لهم، وليس
__________
(1) صحيح): أحمد 22469، مسلم 1731، أبو داود 2612، الترمذى 1408، ابن ماجة 2858.(112/17)
أدل على هذا مما رواه البلاذري(1): أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لواقعة اليرموك، ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الجزية وقالوا: (قد شُغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم) فقال أهل حمص: (لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل -مع أنه على دينهم- عن المدينة مع عاملكم)، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.
وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.
وقد يقول قائل فما تقول في حديث ابْنِ عُمَرَ(2): «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».
قلنا: المراد بالحديث فئة خاصة، وهم وثنيو العرب، أما غيرهم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم على التخيير بين الأمور الثلاثة التي نص عليها الحديث.
على أن بعض كبار الأئمة كمالك والأوزاعي ومن رأى رأيهما يرون أن حكم مشركي العرب كحكم غيرهم في التخيير بين الثلاثة: الإسلام، أو الجزية، أو القتال، واستدلوا أيضًا بالحديث السابق.
__________
(1) فتوح البلدان 129.
(2) صحيح): البخارى 25، مسلم 22، أبو داود 1556، الترمذى 2609، النسائى 2443، أحمد 68.(112/18)
وإذا نظرنا بعين الإنصاف إلى الذين حملوا حديث المقاتلة على وثنيي العرب، لا نجدهم جافوا الحق والعدل، فهؤلاء الوثنيون الذين بقوا على شركهم لم يدعوا وسيلة من وسائل الصد عن الإسلام إلا فعلوها، ثم هم أعرف الناس بصدق الرسول، فهو عربي من أنفسهم والقرآن عربي بلغتهم، فالحق بالنسبة إليهم واضح ظاهر، فلم يبق إلا أنهم متعنتون معوِّقون لركب الإيمان والعدل والحضارة عن التقدم.
هذا إلى أن الشرك مذهب فاسد، والمذاهب الفاسدة تحارب ويحارب دعاتها بكل الوسائل، من قتل أو نفي أو سجن، وهذا أمر مقرر في القديم والحديث. وها هي دول الحضارة اليوم في سبيل سلامتها، بل وفي سبيل إرضاء نزواتها وأهوائها تزهق الآلاف من الأرواح، ويغمض الناظرون أعينهم عن هذا ولا يعترض المعترضون، فهل هذا حلال لهم، حرام على غيرهم؟!.
فالإسلام حينما لم يقبل من مشركي العرب المحاربين إلا الإسلام بعد ما تبين لهم الحق، وأصبحوا قلة تعتنق مذهبًا فاسدًا بجانب الكثرة الكاثرة من العرب التي أسلمت طواعية واختيارًا لم يكن متجنيًا ولا ظالمًا، فالحديث كيفما فهمناه لا ينهض دليلًا للمفترين على الإسلام.
ويرد هذه الفرية ويقتلعها من أساسها ما التزمه الرسول S في سيرته من التسامح مع أناس أُسروا وهم على شركهم، فلم يلجئهم على الإسلام، بل تركهم واختيارهم.
فقد أسر سيد بني حنيفة -ثُمامة بن أثال- فأتوا به إلى رسول الله S فعرفه وأكرمه، وأبقاه عنده ثلاثة أيام، وكان في كل يوم يعرض عليه الإسلام عرضًا كريمًا فيأبى ويقول: إن تسأل مالًا تُعطه، وإن تقتل تقتل ذا دمٍ، وإن تنعم تنعم على شاكر، فما كان من النَّبِي S إلا أن أطلق سراحه.(112/19)
ولقد استرقت قلب ثمامة هذه السماحة الفائقة، وهذه المعاملة الكريمة، فذهب واغتسل، ثم عاد إلى النَّبِي S مسلمًا مختارًا، وقال له: (يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ َّ) (1).
وقد سُر رسول الله S بإسلامه سرورًا عظيمًا، فقد أسلم بإسلامه كثير من قومه، ولم يقف أثر هذا التسامح في المعاملة عند إسلام ثمامة وقومه بل كانت له آثار بعيدة المدى في تاريخ الدعوة الإسلامية، فقد ذهب مكة معتمرًا، فهمَّ أهلها أن يؤذوه ولكنهم ذكروا حاجتهم إلى حبوب اليمامة، فآلى على نفسه أن لا يرسل لقريش شيئًا من الحبوب حتى يؤمنوا، فجهدوا جهدًا شديدًا فلم يرَوا بُدًّا من الاستغاثة برسول الله S(2).
ترى ماذا كان من أمر رسول الله S معهم؟ أيدع ثمامة حتى يلجئهم بسبب منع الحبوب عنهم إلى الإيمان؟ لا، لقد عاملهم بما عرف عنه من التسامح، وأن لا إكراه في الدين، فكتب إلى ثمامة أن يخلِّي بينهم وبين حبوب اليمامة، ففعل، فما رأيكم أيها المفترون؟.
__________
(1) صحيح): البخارى 462، مسلم 1764، أبو داود 2679، النسائى 189، أحمد 9523.
(2) راجع قصة إسلامة، ابن كثير البداية والنهاية 5/45، ابن هشام السيرة النبوية 6/35(112/20)
ولما فتح النَّبِي S مكة ودخلها ظافرًا منتصرًا كان صفوان بن أمية ممن أهدرت دماؤهم؛ لشدة عداوتهم للإسلام، والتأليب على المسلمين، فاختفى وأراد أن يذهب ليلقي بنفسه في البحر، فجاء ابن عمه عمير بن وهب الجمحي وقال: يا نبي الله، إن صفوان سيد قومه، وقد هرب ليقذف نفسه في البحر فأمِّنه، فأعطاه عمامته، فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان قال له: (فداك أبي وأمي، جئتك من عند أفضل الناس وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، وهو ابن عمك، وعزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك) فقال صفوان: إني أخافه على نفسي، فقال عمير: هو أحلم من ذلك وأكرم، وأراه علامة الأمان و هي العمامة؛ فقبل برده، فرجع إلى رسول الله فقال: إن هذا يزعم أنك أمنتني، فقال النَّبِي :"صدق". فقال صفوان: أمهلني بالخيار شهرين، فقال له رسول الله S: (بل أربعة أشهر)، ثم أسلم بعد وحسن إسلامه(1).
فهل بعد هذه الحجج الدامغة يتقوَّل متقوِّل على الإسلام زاعمًا أنه قام على السيف والإكراه؟!.
إن من أُكره على شيء لا يلبث أن يتحلل منه إذا وجد الفرصة سانحة له؟ بل ويصبح حربًا على هذا الذي أكره عليه؟ ولكن التاريخ الصادق يكذب هذا، فنحن نعلم أن العرب -إلا شرذمة تسور الشيطان عليها- ثبتوا على ما تركهم عليه الرسول S، وحملوا الرسالة، وبلَّغوا الأمانة كأحسن ما يكون البلاغ إلى الناس كافة، ولم يزالوا يكافحون ويجاهدون في سبيل تأمين الدعوة وإزالة العوائق من طريقها حتى بلغت ما بلغ الليل والنهار في أقل من قرن من الزمان، ومن يطَّلع على ما صنعه العرب في حروبهم وفتوحاتهم لا يسعه إلا أن يجزم بأن هؤلاء الذين باعوا أنفسهم رخيصة لله.
__________
(1) راجع قصة دخول النبي S مكة، ابن كثير البداية والنهاية 4/306، ابن هشام السيرة النبوية 3/213.(112/21)
ثم ما رأي هؤلاء المفترين على الإسلام في حالة المسلمين لمَّا ذهبت ريحهم، وانقسمت دولتهم الكبرى إلى دويلات، وصاروا شيعًا وأحزابًا وتعرضوا لمحن كثيرة في تاريخهم الطويل كمحنة التتار، والصليبيين في القديم، ودول الاستعمار في الحديث، وكل محنة من هذه المحن كانت كافية للمُكرَّهين على الإسلام أن يتحللوا منه ويرتدوا عنه، فأين هم الذين ارتدوا عنه؟ أخبرونا يا أصحاب العقول !!.
إن الإحصائيات الرسمية لتدل على أن عدد المسلمين في ازدياد على الرغم من كل ما نالهم من اضطهاد وما تعرضوا له من عوامل الإغراء، وقد خرجوا من هذه المحن بفضل إسلامهم وهم أصلب عودًا وأقوى عزيمة على استرداد مجدهم التليد وعزتهم الموروثة.
بل ما رأي هؤلاء في الدول التي لم يدخلها مسلم مجاهد بسيفه؟ وإنما انتشر فيها الإسلام بوساطة العلماء والتجار والبحّارة كأندونيسيا، والصين، وبعض أقطار إفريقيا، وأوروبا وأمريكا، فهل جرَّد المسلمون جيوشًا أرغمت هؤلاء على الإسلام؟ ألا فليسألوا أحرار الفكر الذين أسلموا من أوروبا وغيرها، وسيجدون عندهم النبأ اليقين.
لقد انتشر الإسلام في هذه الأقطار بسماحته، وقربه من العقول والقلوب، وها نحن نرى كل يوم من يدخل في الإسلام، وذلك على قلة ما يقوم به المسلمون من تعريف بالإسلام، ولو كنا نجرد للتعريف به عشر معشار ما يبذله الغربيون من جهد ومال لا يحصى في سبيل التبشير بدينهم وحضارتهم، لدخل في الإسلام ألوف الألوف في كل عام، ولن ترى-إن شاء الله- من يحل عروة الإسلام من عنقه أبدًا مهما أنفقوا في سبيل دعاياتهم التبشرية، وبعثاتهم التعليمية والتنصيرية"(1).
__________
(1) د/ منقذ السقار، موقع www/haridy.com فى 25/12/2001.(112/22)
"ومن أعظم الردود فى هذا المضمار لغة الأرقام والحصر؛ فالذى يحصى عدد حروب الرسول S فسيجدها عشرين؛ ما بين سرية وغزوة وبعث، على مدار عشر سنوات هى عمر الدعوة فى المدينة، وسيجد أن عدد القتلى من الجانبين؛ المسلمين والمشركين لا يتعدى 386 قتيلاً!!، وهذا العدد لا يتعدى قتلى حوادث المرور فى قرية صغيرة فى أمريكا خلال شهر أو شهرين.
فى حين كان عدد القتلى بين طائفتين فى الديانة المسيحية؛ وهما الكاثوليك والبروتستانت فى أوربا فى القرون الوسطى وعلى مدى قرنين من الزمان بلغ عشرة ملايين طبقًا لإحصاء فولتير!!"(1).
فأى حديث بعد حديث الأرقام والواقع يمكن أن يقال!!.
الشبهة الثانية: استبدل محمدٌ عبادة وثنية بأخرى وثنية
استبدل محمدٌ عبادة وثنية بأخرى وثنية فقد أمر أصحابه أن يطوفوا حول الكعبة وهى من الحجارة ويأمرهم أيضا برمى الجمرات على حجر يقولون إنه الشيطان، كما أمرهم بتقبيل حجر أسود، إن هذا الدين لا يحترم عقول أتباعه السذج.
الرد على الشبهة وتفنيدها
__________
(1) هذا الإحصاء مستفاد من د/محمد عمارة.(112/23)
الحكمة من الطواف بيَّنها النَّبِي S حين قال(1): «الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ إِلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلَّا بِخَيْرٍ»، وقال أيضًا(2): «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ - عز وجل -»، فالطائف يطوف بجسده وأما قلبه وروحه فإلى الله اتجاههما، وبه تعلقهما، كما يكون فى الصلاة ولسان الحاج وقلبه يلهجان بقولهما: (لبيك اللهم لبيك) وما سمعنا عن أحد أنه قال: (لبيك يا كعبة لبيك)، فالطواف والتلبية استجابة لأمر الله، وليست للكعبة، ولعل مما يفسر هذا قول بعض الصالحين: طاف الجسد بالبيت، وطاف القلب برب البيت.
والمسلمون ما طافوا به إلا بأمر الله، وما كان بأمر الله فالقيام به عبادة لله تعالى.
ويرجم الحاج الشيطان رمزًا لما بعد الحج، فهي رياضة روحية للمؤمن، لذلك فإن الحاج بعد الحج يتذكر الرجم والحرب التي أعلنها على الشيطان، فلا يتلكأ عن معاداة من رجمه، ولذا تتضح آثار الرجم بعد الحج في السلوك والمعاملات وفي الصمود للمغريات.
ألا ترى الجندي وهو يتدرب على تمثال من ورق، يطعنه ويصرخ، فلم يفعل هذا؟
هل هذا سخف؟ لا... لأنه تدريب ليوم اللقاء الحقيقي مع الأعداء.
وكذا الجيوش، تقوم بمناورات بذخيرة غير حية، فهل تُهدر الوقت وتُضيع تعب الجند وجهدهم عبثًا؟ لا.. إنها تتدرب على هدف رمزي تحتله وهو من بلادها، ويهتف الجند صيحة النصر. إن هذا رمز وتدريب للمعركة الحقيقية القادمة.
__________
(1) صحيح): الترمذى 960، الدارمى 1847، صحيح الجامع 3955.
(2) ضعيف): أحمد 23830، أبو داود 1888، الترمذى 902، الدارمى 1858، ضعيف الجامع 2056.(112/24)
وكذلك الرجم: إنه لرمزٌ كتمثال الجندي، وكالبقعة التي احتلت وصرخ الجميع لاحتلالها صرخة النصر، فتمثل الشيطان الذي يصد عن سبيل الله في مكان الرجم ثم رجمه، معناه لا طاعة له بعد اليوم، بل حرب معلنة بين الحاج وبينه حتى يلقى الحاج ربه، فكلما عرض له في أمر يريد غوايته تذكر الرجم والحرب المعلنة، فلا يخضع له ولا يطيعه، وتبقى طاعته لله وحده.
إن في الحج تتحقق منافع دينية ودنيوية معًا، فيه منافع روحية وأدبية واجتماعية واقتصادية، ففي المؤتمر الكبير الذي يعقد في عرفات، رمز لتوحيد كلمة المسلمين وتوجيههم إلى تدارس المشكلات والأمور التي تواجه شعوبهم، وفي الحج مساواة عملية بين الأمير والفرد العادي، فلا تمييز: لباس واحد، وحياة واحدة، بل سمو فوق المادة والحسب والنسب والمال والجاه.
حقًا إن هذا المؤتمر الإسلامي العالمي لا شبيه له، فالحج رياضة روحية وفكرية، وروح وتربية ومنافع؛ قال الله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج27-28].(112/25)
أما الحجر الأسود فإن سيدنا عمر - رضي الله عنه - لما قبل الحجر الأسود قال(1):"إنىَّ أعْلَم إِنَّكَ حَجَرٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ Sقَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ"إشارة إلى أن تقبيله أمر تعبدي، وأن الضار والنافع في الحقيقة، إنما هو الله تعالى وحده, وإنما قال عمر - رضي الله عنه -: "إِنَّكَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ" لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر وخاف أن يظن الجهال أن استلام الحجر هو مثل ما كانت العرب تفعله، فنبه عمر - رضي الله عنه - على مخالفة هذا الاعتقاد، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلا من يملك الضر والنفع، وهو الله وحده.
ولقد جاءت بعض الأحاديث الواردة في فضل الحجر الأسود وأنه من الجنة فهو ليس كباقي الأحجار الأُخرى:
روى البيهقي عَنِ ابْنِ عُمَرَ أن النَّبِي S قال(2): «لَولا مَا مَسَّ الحَجَّر مِنْ أنْجَاسِ الجَاهِلِيّة مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إلا شُفِيَّ ومَا عَلى الأرْضِ شَيءٌ مِنْ الجَنَّةِ غَيْرَهُ».
وروى أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِي S قَالَ(3): «إِنَّ مَسْحَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي وَالرُّكْنِ الْأَسْوَدِ يَحُطُّ الْخَطَايَا حَطًّا».
وروى الترمذى عن ابْنَ عَمْرٍو قال: قال S(4): «إِنَّ الرُّكْنَ وَالْمَقَامَ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا وَلَوْ لَمْ يَطْمِسْ نُورَهُمَا لَأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ».
وبالتالي من خلال هذه الأحاديث نستطيع أن نعرف سبب القدسية والاهتمام الذي يحظى به الحجر الأسود.
__________
(1) صحيح): البخارى 1597، مسلم 1270، أبو داود 1873، الترمذى 860، ابن ماجة 2943، أحمد 100.
(2) صحيح): صحيح الجامع 5334.
(3) صحيح): أحمد 5589، صحيح الجامع 2194.
(4) صحيح): أحمد 6961، الترمذى 878، صحيح الجامع 1633.(112/26)
والآن ماذا تقولون أيها المستشرقون فيما ورد في كتابكم المقدس من أن سيدنا موسى والأنبياء-عليهم الصلاة والسلام-كانوا يكرمون (تابوت العهد)، ويبخرونه كما جاء في العهد القديم، والنصارى يقبلون صور وتماثيل المسيح والعذراء، ومنهم من يسجد لهذه الصور والتماثيل كي ينالوا البركة بالسجود لها مع ما في ذلك من مخالفة للشريعة التوراتية، ومنهم من يقول إن الصور والأحجار لا تضر ولا تنفع، وإكرامها عائد لله تعالى، ونحن كذلك.
وماذا تقولون "من أن نبي الله يعقوب كان فى طريقه إلى حاران وشاهد رؤية السلم العجيب وبعد أن أفاق أخذ الحجر الذي توسده وسكب عليه زيتًا وسمى المكان بيت إيل أى: بيت الله وأقام الحجر عمودًا هناك وعاد إلى زيارة ذلك الحجر بعد عشرين عامًا و أطلق عليه اسم مصفاة، وأصبحت هذه المصفاة مكانًا للعبادة و المجالس العامة فى تاريخ شعب إسرائيل"(1).
أراكم تعجزون عن الإجابة!!
شبهات العلمانيين(2)
الشبهة الأولى: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
يقول S: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" إذ قد قرر الرسول S في هذا الحديث أن المسلمين أعلم بأمور دنياهم، وبالتالي فإن الشريعة لا تتدخل في تحديد الأمور الدنيوية التي هم بها عالمون.
__________
(1) سفر التكوين [28: 10] وراجع أيضًا التكوين 31: 45 –55، والقضاة 11، وأيضًا القضاة 20و21، وصموئيل الأول7، وأيضًا صموئيل الأول 10.
(2) العلمانيون: هم من بنى جلدتنا، يدعون إلى إقامة الحياة على أسس العلم الوضعي والعقل بعيدًا عن الدين الذي يتم فصله عن الدولة وحياة المجتمع وحبسه في المسجد وضمير الفرد؛ بحيث لا يُصرح بالتعبير عنه إلا في أضيق الحدود (تقليدًا لأوربا التى نبذت الدين ورأها ظهريًا)، من مزاعمهم: إن الإسلام استنفذ أغراضه؛ فهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية، يعملون على: تشويه الحضارة الإسلامية وتضخيم الحضارة الغربية بحيث يسهل اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية منها ومحاكاتهم فيها.(112/27)
الرد على الشبة وتفنيدها(1)
أولًا: لفظ الحديث عن طلحة - رضي الله عنه - قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ S بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ(2): «مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ فَقَالُوا يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيَلْقَحُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ S: مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ S بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ - عز وجل -».
وفي رواية عن رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ Sالْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ(3): «مَا تَصْنَعُونَ قَالُوا كُنَّا نَصْنَعُهُ قَالَ لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ قَالَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ».
وفى رواية عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِي S مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ(4): «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ قَالَ فَخَرَجَ شِيصًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: مَا لِنَخْلِكُمْ قَالُوا قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ».
__________
(1) الأستاذ/ محمد شاكر الشريف، رسالة "تحطيم الصنم العلماني".
(2) صحيح): أحمد 1398، مسلم 2361، ابن ماجة 2470.
(3) صحيح): انفرد به مسلم 2362.
(4) صحيح): أحمد 24399، مسلم 2363، ابن ماجة 2471.(112/28)
فيقال فى هذه الروايات: إن ما ذكرتموه لم يقله أحد من أهل العلم، بل هو مخالف لأقوالهم وما كان هذا سبيله فهو مردود على صاحبه، مرفوض غير مقبول، فقد بوب النووي على ذلك الحديث بقوله:"باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا، دون ما ذكره S من معايش الدنيا على سبيل الرأي".
وقال أيضًا في شرح هذه الأحاديث(1): "قال العلماء: قوله S (من رأي) أي: في أمر الدنيا ومعايشها لا على سبيل التشريع، فأما ما قاله باجتهاده ورآه شرعًا يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله، قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرًا، وإنما كان ظنًا كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه S في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها والله أعلم".
فمما تقدم نقله عن أهل العلم يتبين أن مجال هذا الحديث إنما هو في "أمر الدنيا ومعايشها" ولم يذكر العلماء تلك العبارة مطلقة، بل قيدوها بما يبطل كل محاولات التأويل الباطل لهذا الحديث، فقد قيد العلماء "أمر الدنيا ومعايشها" بأن يكون النَّبِي S قاله على سبيل الرأي أي أنه قاله لا على سبيل التشريع وهذا التقييد يعني أمرين:
أن الأمور التي يقال فيها: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) هي تلك الأمور التي لم تتناولها الأدلة الشرعية تناولًا عامًا أو تناولًا خاصًا، أو الأمور التي تناولتها السُنَّة لا على سبيل التشريع وإنما على سبيل الرأي فقط.
أن الأصل في كل ما تناولته النصوص الشرعية -ولو كان متعلقًا بأمر الدنيا أو المعاش أو غيره- أن يكون على سبيل التشريع إلا أن يدل الدليل أو القرينة على خلاف ذلك ويؤيد هذا الكلام أيضًا أمران:
__________
(1) النووى على شرح صحيح مسلم.(112/29)
تصرف الصحابة في القصة المذكورة حيث امتنعوا من تأبير النخل –رغم خبرتهم السابقة عن أهمية ذلك التلقيح علاوة على أنه أمر من أمور المعايش الدنيوية- وذلك لما لم يظهر لهم دليل أو قرينة تبين لهم أن الرسول S قال ما قال على غير سبيل التشريع، وهذا يعني أنهم - رضي الله عنهم - يتعاملون مع أقواله S -ولو كانت في أمور المعايش- على أنها على سبيل التشريع حتى يأتي من الدليل الشرعي ما يبين أنها على غير سبيل التشريع.
طريقة صياغة العلماء للعبارات السابقة، فإنها واضحة كل الوضوح في أن الأصل في كل ما جاء في النصوص الشرعية إنما يتم التعامل معه على أنه جاء على سبيل التشريع، ولذلك احتاج هؤلاء العلماء أن يقيدوا الأمور التي لا يجب على المسلمين امتثالها من معايش الدنيا، بأنها التي جاءت على سبيل الرأي أو لا على سبيل التشريع وهذا يعني أن النصوص التي جاءت في معايش الدنيا أو غيرها ولم تظهر قرينة أو دليل يبين أنها جاءت على سبيل الرأي أو لا على سبيل التشريع فإنه يتم التعامل معها على أنها نصوص تشريعية يجب امتثالها.
ثانيًا: أن يقال إن الرسول Sلم يذكر الكلام في عدم تأبير النخل مطلقًا من كل قيد، حتى يقال: إن ما تناولته النصوص الشرعية مطلقًا من القيود وهو من أمور الدنيا فإن الشرع يترك -في هذه الحالة- ويرجع في تلك الأمور الدنيوية إلى أهل الدنيا.(112/30)
فالرسول S-كما بُيِّن في الحديث- لم يأمرهم أمرًا مطلقًا، أو لم ينهاهم نهيًا مطلقًا، أي بعبارة أخرى لم يكن ما صدر منه على سبيل التشريع، وألفاظ الحديث ورواياته المتعددة تدل على ذلك، وإن كان من سمع هذا الموضوع من الصحابة قد غلَّبوا جانب التشريع، فقد جاء في ألفاظ الحديث ورواياته: (ما أظن يغني ذلك شيئًا) وجاء (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا)، مما يبين أن الرسول S يتحدث عن ظن أو خبرة دنيوية لا علاقة لها بالتشريع، ولذلك لما غلَّب بعض الصحابة جانب التشريع في ذلك، بين لهم الرسول S أنه لم يرد ذلك وأن كلامه السابق لا يدل عليه، ولذلك قال لهم معقبًا على تصرفهم إزاء مقالته السابقة: (فإني إنما ظننت ظنًا، فلا تؤاخذوني بالظن) وقال: (إذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر)، وقال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) فالروايات كلها في مبتداها ومنتهاها متضافرة على أن ما ذكره الرسول S للصحابة كان من قبيل الرأي المتعلق بأمور المعاش القائم على الخبرة البشرية التي قد يتاح منها لبعض الناس ما لا يتاح لغيرهم، ولم يكن كلامًا على سبيل التشريع، وإذا تبين ذلك، فقد بطل قولهم في أن النصوص الشرعية المتعلقة بأمور الدنيا، لا يعول عليها، ولا يرجع إليها، وإنما يرجع في مثل هذه الأمور إلى أهل الدنيا والمعرفة بها.(112/31)
ثالثًا: أن يقال إن أمر الدنيا الذي عناه الرسول S في حديثه، هو تأبير النخل فلا يقاس عليه إلا ما جرى مجراه وكان على شاكلته، وهو الخبرة العملية المتعلقة بشأن من الشئون المباحة التي لم يتعلق بها الخطاب الشرعي لا أمرًا ولا نهيًا، وليس المراد بذلك كل أمر متعلق بالدنيا، لأنه قد جاءت نصوص شرعية كثيرة في أمور الدنيا، وقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمرًا ونهيًا، فكانت بذلك موكولة إلى الشرع يبين حلالها وحرامها وما يصح منها وما لا يصح إلى غير ذلك من تفاصيلها المطلوبة، ولم تكن موكولة إلى المسلمين -أو إلى غيرهم- يجتهدون فيها أو يعملون فيها بمقتضى عقولهم أو مصالحهم أو أهوائهم، والنظام السياسي وتفاصيله قد تعلق به الخطاب الشرعي أمرًا ونهيًا وتخييرًا، فكان بذلك من النوع الموكول إلى الشرع يبين أحكامه وتفاصيله، ولم يكن من النوع الأول الذي وُكل إلى الخبرة البشرية حيث لم يتعلق به الخطاب الشرعي.(112/32)
رابعًا: أن يقال ما هو الضابط الذي تعتمدون عليه في التفريق بين أمر الدنيا الموكول للبشر وبين أمر الدين الموكول إلى الشريعة؟ حيث إنكم لم تقدموا ضابطًا صحيحًا تفرقون به بين أمر الدنيا وأمر الدين فأنتم لستم تتبعون أو تتعلقون في قولكم: هذا من أمر الدنيا، وذاك من أمر الدين بنص شرعي، أو بكلام لأحد من أئمة العلم المعروفين لا قديمًا ولا حديثًا، وإنما أنتم تتبعون في تفريقكم الباطل من قلدتموهم من أهل الغرب أو الشرق الكافر الذين فصلوا الدولة عن الدين أو الدنيا عن الدين، إذ كما هو معروف مشهور عندما تسلطت الكنيسة على الناس بالباطل، وحدث بين ممثلي الكنيسة من جانب والناس من جانب مناوشات وصراع مرير طويل، انتهى الأمر بعزل الكنيسة عن التدخل في أمور الدنيا أو الدولة، وقُصر تدخلها أو قُصِرت صلاحيتها على التوجيه الروحي والوصايا الأخلاقية، وبعد هذا الوضع النهائي للكنيسة عندهم، أصبحت "أمور الدين" عندهم محصورة في علاقة الفرد بربه، وما يتصل بذلك من عقيدة الإنسان في ربه، وأنواع القرب التي يتقرب بها إليه لينال رضاه من غير أن يكون لتلك العلاقة أي بعد أو أثر خارج دائرة الفرد نفسه.
كما أصبحت أمور الدنيا تعني عندهم كل ما يتصل بحياة الفرد والجماعة داخل المجتمع، وما يترتب على ذلك من أنظمة وعلاقات ومعاملات وقوانين.
وقد تم الفصل الكامل بين هاتين الدائرتين: دائرة أمور الدنيا، ودائرة أمور الدين، وترتب على ذلك أن الدين عندهم أصبح محصورًا في نطاق الإنسان الفرد وحده، أو في داخل الكنيسة حيث يؤدي هؤلاء ما يعتقدون أنه من الدين عندهم، حتى إذا خرجوا من تلك الكنائس إلى واقع الحياة لم يكن للدين أدنى سلطان على تنظيم الحياة وقيادتها إلا ما كان من بعض الوصايا أو العظات الخلقية غير الملزمة؛ لأن ذلك خارج عن نطاقه وصلاحياته.(112/33)
بينما أمور الدين تشمل عند المسلمين كل ما تعلق به الخطاب الشرعي أمرًا أو نهيًا أو خبرًا، فما تعلق به الخطاب على وجه الأمر فيكون من الدين فعل المأمور به، وما تعلق به الخطاب على وجه النهي فيكون من الدين اجتناب المنهي عنه، وما تعلق به الخطاب على جهة الخبر، فيكون من الدين تصديق ما أخبر به.
ومن المعلوم البَّين الذي لا يحتاج إلى كبير بيان أو إيضاح أن الخطاب الشرعي قد تعلق على جهة الأمر والنهي بالأمور أو المسائل التي تتناول حياة الفرد أو الجماعة داخل المجتمع مما يطلق عليه أنه من الأمور الدنيوية وهي في الوقت نفسه مما يطلق عليه أنه من أمور الدين وذلك لتعلق الخطاب الشرعي به.
إذن فتعريف هؤلاء لأمر الدنيا، وما ترتب عليه من إخراج النظام السياسي في الإسلام من أمور الدين رغم تعلق الخطاب الشرعي به وإدخاله في أمور الدنيا التي لا دخل للشرع فيها، هو أمر مأخوذ أصلًا من طبيعة العلاقة بين الدين النصراني المحرف وبين الفكر العلماني، وغنى عن البيان أن ما كان كذلك فلا يصح أن يكون حجة في دين المسلمين.
الشبهة الثانية: غمس الذباب في الإناء لا يقره العقل
يقول بعض الناس إن النَّبِي S قال(1): «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً»، كيف لإنسان عاقل أن يغمس ذبابة فى إناء أو طعام ثم بعد ذلك يأكله إن هذا يُثير الاشمئزاز، ومدعاة للتلوث، ومخالف لأبسط قواعد الطب الحديث، ويصادم العقل، فهذا الحديث كذبٌ وإن كان فى البخارى.
__________
(1) صحيح): أحمد 7101، البخارى 3320، أبو داود 3844، ابن ماجة 3505.(112/34)
الرد على الشبهة وتفنيدها(1)
أولًا: الحديث صحيح رواه الإمام البخاري في جامعه الصحيح، ولكنه لا يعد من "المتفق عليه" في اصطلاح علماء الحديث، لأن المتفق عليه عندهم هو ما اتفق على روايته الشيخان -البخاري ومسلم- في صحيحهما، وهذا الحديث مما انفرد به البخاري، ولم يخرجه مسلم، رحمهما الله.
ومعلوم أن أحاديث صحيح البخاري متلقاة بالقبول لدى جماهير الأمة في مختلف العصور، وخصوصًا فيما سلم فيها من النقد والاعتراض من جهابذة علماء الأمة من المحدثين والفقهاء الراسخين.
ولا أعلم أحدًا من العلماء السابقين أثار إشكالًا حول هذا الحديث أو تحدث عن علة قادحة في سنده أو متنه.
ثانيًا: إن هذا الحديث لا يتعلق ببيان أصل من أصول الدين، من الإلهيات أو النبوات أو السمعيات، ولا ببيان فريضة من فرائضه الظاهرة أو الباطنة، الشخصية أو الاجتماعية، ولا ببيان أمر من أمور الحلال والحرام في حياة الفرد أو الجماعة، ولا ببيان تشريع من تشريعات الإسلام المنظمة لحياة الأسرة والمجتمع والدولة والعلاقات الدولية، ولا ببيان خُلق من أخلاق الإسلام التي بُعث الرسول ليُتمم مكارمها.
ولو أن مسلمًا عاش عمره دون أن يقرأ هذا الحديث أو يسمع به، لم يكن ذلك خدشًا في دينه، ولا أثَّرَ ذلك في عقيدته أو عبادته، أو سلوكه العام.
فلو سلمنا -جدلًا- بكل ما أثاره المتشككون حول الحديث، وحذفناه من صحيح البخاري أصلًا، ما ضر ذلك دين الله شيئًا.
__________
(1) الإصابة فى صحة حديث الذبابة ، د/خليل إبراهيم الملا خاطر، فقد جمع أسانيد الحديث وطرقه وقد زاد خمسين طريقًا، وترجم لرجال تلك الطرق وتبين بعد دراسة علمية أنه لا يوجد فيها راو واحد متهم أو كذاب أو ضعيف أو منكر، بل هم حفاظ ثقات أثبات، وبحث أيضًا فى صحته من النواحى الفقهية والطبية وقد أبدع فجزاه الله خيرًا.(112/35)
فلا مجال لأولئك الذين يتخذون من الشبهات المثارة حول الحديث، سبيلًا للطعن في الدين كله، فالدين -أعني الإسلام- أرسخ قدمًا، وأثبت أصولًا، وأعمق جذورًا من أن ينال منه بسبب هذه الشبهات الواهية.
ثالثًا: إن هذا الحديث -وإن كان صحيحًا لدى علماء الأمة- هو من أحاديث الآحاد، وليس من المتواتر الذي يفيد اليقين.
وأحاديث الآحاد إذا رواها الشيخان أو أحدهما قد اختلف فيها العلماء: هل تفيد العلم أي اليقين أم تفيد مجرد الظن الراجح؟ أم يفيد بعضها العلم بشروط خاصة؟
وهذا الخلاف يكفي للقول بأن من أنكر حديثًا من أحاديث الآحاد، قامت شبهة في نفسه حول ثبوته ونسبته إلى النَّبِي S لا يخرج بذلك من الدين لأن الذي يخرج منه إنكار ما كان منه بيقين لا ريب فيه، ولا خلاف معه، أي القطعي الذي يسميه العلماء "المعلوم من الدين بالضرورة".
إنما يخرج من الدين حقًا من اتخذ من الغبار المثار حول هذا الحديث وسيلة للطعن في الدين والاستهزاء به، فإن هذا كفر صريح.
رابعًا: أما مضمون الحديث وعلاقته بالعلم والطب الحديث، فقد دافع عنه كثير من كبار الأطباء ورجال العلم، مستشهدين ببحوث ودراسات لعلماء غربيين مرموقين، ونشر ذلك كثير من المجلات الإسلامية في مناسبات شتى.
وحسبي هنا أن أنقل ردًا علميًا طبيًا حول هذا الموضوع، وهو للأستاذ الدكتور أمين رضا أستاذ جراحة العظام والتقويم بجامعة الإسكندرية، إثر مقال نشرته بعض الصحف لطبيب آخر تشكك في الحديث المذكور(1).
يقول الدكتور أمين رضا: رفض أحد الأطباء الزملاء حديث الذبابة على أساس التحليل العلمي العقلي لمتنه لا على أساس سنده، وامتدادًا للمناقشة الهادئة التي بدأتها هذه الجريدة أرى أن أعارض الزميل الفاضل بما يأتي:
__________
(1) وانظر أيضًا، تعليق الأستاذ/ محمد نجيب المطيعى فى تعليقه على المجموع للنووى 1/175.(112/36)
1- ليس من حقه أن يرفض هذا الحديث أو أي حديث نبوي آخر لمجرد عدم موافقته للعلم الحالي، فالعلم يتطور ويتغير، بل ويتقلب كذلك، فمن النظريات العلمية ما تصف شيئًا اليوم بأنه صحيح، ثم تصفه بعد زمن قريب أو بعيد بأنه خطأ، فإذا كان هذا هو حال العلم فكيف يمكننا أن نصف حديثًا بأنه خطأ قياسًا على نظرية علمية حالية، ثم نرجع فنصححه إذا تغيرت هذه النظرية العلمية مستقبلًا؟.
2- ليس من حقه رفض هذا الحديث أو أي حديث آخر لأنه "اصطدم بعقله اصطدامًا" على حد تعبيره، فالعيب الذي سبب هذا الاصطدام ليس من الحديث بل من العقل، فكل المهتمين بالعلوم الحديثة يحترمون عقولهم احترامًا عظيمًا، ومن احترام العقل أن نقارن العلم بالجهل.
العلم يتكون من أكداس المعرفة التي تراكمت لدى الإنسانية جمعاء بتضافر جهودها جيلا بعد جيل لسبر أغوار المجهول، أما الجهل فهو كل ما نجهله، أي ما لم يدخل بعد في نطاق العلم، وبالنظرة المتعقلة تجد أن العلم لم يكتمل بعد، وإلا لتوقف تقدم الإنسانية، وأن الجهل لا حدود له، والدليل على ذلك تقدم العلم وتوالي الاكتشافات يومًا بعد يوم من غير أن يظهر للجهل نهاية.
إن العالم العاقل المنصف يدرك أن العلم ضخم ولكن حجم الجهل أضخم، ولذلك لا يجوز أن يغرقنا العلم الذي بين أيدينا في الغرور بأنفسنا، ولا يجوز أن يعمينا علمنا عن الجهل الذي نسبح فيه؛ فإننا إذ قلنا أن علم اليوم هو كل شيء، وإنه آخر ما يمكن الوصول إليه أدى ذلك بنا إلى الغرور بأنفسنا، وإلى التوقف عن التقدم، وإلى البلبلة في التفكير، وكل هذا يفسد حكمنا على الأشياء، ويعمينا عن الحق حتى لو كان أمام أعيُننا، ويجعلنا نرى الحق خطأ، والخطأ حقًا فتكون النتيجة أننا نقابل أمورًا تصطدم بعقولنا اصطدامًا، وما كان لها أن تصطدم لو استعملنا عقولنا استعمالًا فطريًا سليمًا يحدوه التواضع والإحساس بضخامة الجهل أكثر من التأثر ببريق العلم والزهو به.(112/37)
3- ليس صحيحًا أنه لم يرد في الطب شيء عن علاج الأمراض بالذباب؛ فعندي من المراجع القديمة ما يوصف وصفات طبية لأمراض مختلفة باستعمال الذباب، أما في العصر الحديث فجميع الجراحين الذين عاشوا في السنوات التي سبقت اكتشاف مركبات السلفا -أي في السنوات العشر الثالثة من القرن المنصرم- رأوا بأعينهم علاج الكسور المضاعفة والقرحات المزمنة بالذباب، وكان الذباب يربي لذلك خصيصًا، وكان هذا العلاج مبنيًا على اكتشاف فيروس (البكتريوفاج)(1) القاتل للجراثيم، على أساس أن الذباب يحمل في آن واحد الجراثيم التي تسبب المرض، وكذلك (البكتريوفاج) الذي يهاجم هذه الجراثيم، وكلمة (بكتريوفاج) هذه معناها "آكلة الجراثيم"، وجدير بالذكر أن توقف الأبحاث عن علاج القرحات بالذباب لم يكن سببه فشل هذه الطريقة العلاجية، وإنما كان ذلك بسبب اكتشاف مركبات السلفا التي جذبت أنظار العلماء جذبًا شديدًا، وكل هذا مفصل تفصيلًا دقيقًا في الجزء التاريخي من رسالة الدكتوراه التي أعدها الزميل الدكتور أبو الفتوح مصطفى عيد تحت إشرافي عن التهابات العظام والمقدمة لجامعة الإسكندرية من حوالي سبع سنوات.
4- في هذا الحديث إعلام بالغيب عن وجود سم في الذباب، وهذا شيء لم يكشفه العلم الحديث بصفة قاطعة إلا في القرنين الأخيرين، وقبل ذلك كان يمكن للعلماء أن يكذبوا الحديث النبوي لعدم ثبوت وجود شيء ضار على الذباب، ثم بعد اكتشاف الجراثيم يعودون فيصححون الحديث.
5- إن كان ما نأخذه على الذباب هو الجراثيم التي يحملها فيجب مراعاة ما نعلمه عن ذلك:
(أ) ليس صحيحًا أن جميع الجراثيم التي يحملها الذباب جراثيم ضارة أو تسبب أمراضًا.
(ب) ليس صحيحًا أن عدد الجراثيم التي تحملها الذبابة والذبابتان كاف لإحداث مرض فيمن يتناول هذه الجراثيم.
__________
(1) وانظر أيضًا حول موضوع البكتريوفاج، أ.د/ على محمد مطاوع، أخصائى وأستاذ الأشعة والراديوم وعميد كلية الطب بجامعة الأزهر سابقًا.(112/38)
(ج) ليس صحيحًا أن عزل جسم الإنسان عزلًا تامًا عن الجراثيم الضارة ممكن، وإن كان ممكنًا فهذا أكبر ضرر له، لأن جسم الإنسان إذا تناول كميات يسيرة متكررة من الجراثيم الضارة تكونت عنده مناعة ضد هذه الجراثيم تدريجيًا.
6- في هذا الحديث إعلام بالغيب عن وجود شيء على الذباب يضاد السموم التي تحملها، والعلم الحديث يعلمنا أن الأحياء الدقيقة من بكتريا وفيروسات وفطريات تشن الواحدة منها على الأخرى حربًا لا هوادة فيها، فالواحدة منها تقتل الأخرى بإفراز مواد سامة، ومن هذه المواد السامة بعض الأنواع التي يمكن استعمالها في العلاج، وهي ما نسميه "المضادات الحيوية" مثل البنسلين والكلوروميستين وغيرهما.
7- إن ما لا يعلمه وما لم يكشفه المتخصصون في علم الجراثيم حتى الآن لا يمكن التكهن به، ولكن يمكن أن يكون فيه الكثير مما يوضح الأمور توضيحًا أكمل؛ ولذلك يجب علينا أن نتريث قليلًا قبل أن نقطع بعدم صحة هذا الحديث بغير سند من علم الحديث، ولا سند من العلم الحديث.
8- هذا الحديث النبوي لم يَدْعُ أحدًا إلى صيد الذباب ووضعه عنوة في الإناء، ولم يشجع على ترك الآنية مكشوفة، ولم يشجع على الإهمال في نظافة البيوت والشوارع وفي حماية المنازل من دخول الذباب إليها.
9- إن من يقع الذباب في إنائه ويشمئز من ذلك ولا يمكنه تناول ما فيه فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
10- هذا الحديث النبوي لا يمنع أحدًا من الأطباء والقائمين على صحة الشعب من التصدي للذباب في مواطنه ومحاربته وإعدامه وإبادته، ولا يمكن أن يتبادر إلى ذهن أحد علماء الدين أن هذا الحديث يدعو الناس إلى إقامة مزارع أو مفارخ للذباب، أو أنه يدعو إلى التهاون في محاربته، ومن صنع ذلك أو اعتقد فيه فقد وقع في خطأ كبير"(112/39)
هذا ما قاله الطبيب العالم الأستاذ الدكتور أمين رضا بلسان العلم والطب المعاصر وفيه كفاية وغنية جزاه الله خيرًا"(1).
بعد هذا العرض لا بد أن نُثبت قاعدة وهى: أنه يجب أن نفرق بين المستحيل والمستغرب وهذا الخلط يقع فيه كثير من الناس فالمستحيل يعود إلى أصل الشيء ونكرانه بينما المستغرب يعود إلى ضعف المتصور وعدم إدراكه، وشتان بين الأمرين.
وقد يوجد فى دين الإسلام أمور قد تستغربها عقول بعض الناس ولا تستطيع أن تتصورها؛ كأمور النبوات والحشر والجنة والنار والصراط وأحوال القبر...إلخ.
وشأن المسلم إذا سمع خبرًا صحيحًا أن يقول سمعنا وأطعنا، وإذا سمع خبرًا يرفضه العقل يتأنى فيما يستغربه حتى يتيقن من صدقه أو كذبه ولا يصح له أن يبادر إلى التكذيب والحكم بالاستحالة حتى لا يقع فى التناقض عندما يثبت صحة الخبر وسلامته، اللهم إلا أن تأخذه العزة بالإثم فلا يسلم بصحته ولا يتراجع عن قوله.
على أننا نرى من الاستقراء التاريخى وتتبع التطور العلمى والفكرى أن كثيرًا مما كان غامضًا على العقول أصبح مفهومًا وواضحًا، بل نرى كثيرًا مما كان ينكره العقل أصبح الآن يقره ويسلم بوجوده وصار عنده من الحقائق.
الشبهة الثالثة: التداوي بأبوال الإبل وألبانها
يقول بعض الناس إن النَّبِي S أمر بعض أصحابه بشرب أبوال الإبل للتداوى بها، وبعد ذلك أمر بقتلهم بطريقة شنيعة؛ فسّمّل أعينهم وقطّع أيديهم وأرجلهم وعطشهم، وأن هذا الحديث فى البخارى، وهذا مخالف لما كان عليه النَّبِي S من الرحمة بأمته، وكذا مخالف لأبسط قواعد الطب الحديث، ويصادم العقل، فهذا الحديث كذب وإن كان فى البخارى.
الرد على الشبهة وتفنيدها
__________
(1) يمكن مراجعة أيضًا، تقرير جامعة الملك عبد العزيز، كلية العلوم، قسم علوم الأحياء، دراسة مبدئية، نبيه باعش-منصور سجينى-عبد الوهاب عبد الحافظ-محمد زكى.(112/40)
أولًا: الحديث صحيح رواه البخارى ومسلم فى صحيحيهما، وأصحاب السنن وأحمد؛ فعن أنس قال(1): «إنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى النَّبِي S وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ Sبِذَوْدٍ وَرَاعٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا نَاحِيَةَ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِي Sوَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فَبَلَغَ النَّبِي S فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ»
فهؤلاء النفر من قبيلة عُرينة قدموا المدينة إلى النَّبِي S وادعوا أنهم مسلمون، وكانوا يعانون من أنواع الأمراض والأوبئة ومنها الحمى وغيرها فلما دخلوا المدينة، ورآهم النَّبِي S رقَّ لحالهم وأمرهم بأن يخرجوا إلى خارج المدينة، وأن يذهبوا إلى الإبل الخاصة بالصدقة التي ترعى في الصحراء والمراعي الطبيعية، حيث نقاء الجو وصفائه، وبُعده من الأمراض والأوبئة، وأمرهم بأن يشربوا من ألبان إبل الصدقة وأبوالها، لأنهم من المسلمين، فلما شربوا منها شفاهم الله تعالى، وعادت لهم صحتهم وحيويتهم ونشاطهم السابق، فانظر إلى فعلهم بعد ذلك:
قابلوا هذا الإحسان والمعروف بالنكران والخيانة.
وكفروا.
وقتلوا رعاة إبل الصدقة.
وسملوا أعينهم.
وسرقوا الإبل وفرُّوا بها.
__________
(1) صحيح): البخارى 4192، مسلم 1671، أبو داود 4364، الترمذى 72، النسائى 305، ابن ماجة 3503، أحمد 11631.(112/41)
فأرسل خلفهم النَّبِي Sمن يقبض عليهم فذهب الصحابة إليهم وقبضوا عليهم وجاوؤا بهم وقت الظهر إلى النَّبِي Sفأمر بهم النَّبِي S بأن يقتلوا بطريقة تكون فيها عبرة لغيرهم ممن تُسّول له نفسه أن يعتدي على حُرمات المسلمين وأعراضهم وأموالهم ودمائهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وتكحيل أعينهم بحديد محمي على النار فعموا بها حتى ماتوا.
وهذا هو الوارد في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم} [المائدة33].
وهذا نكاية بهم وتعزيزًا لهم وردعًا لغيرهم ممن يتربص بالمؤمنين الشر؛ ليكونوا عبرة لغيرهم من المنافقين والأعراب والمشركين الطامعين في خيرات المدينة.
كما أمر النَّبِي S بعدم سقيهم الماء لما عطشوا.
قال الخطابي(1): "إن الحكمة في تعطيشهم لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشفاء من الجوع والوخم".
وقال النووي(2): "إن المحارب المرتد لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره، ويدل عليه أن من ليس معه ماء إلا لطهارته ليس له أن يسقيه للمرتد ويتيمم، بل يستعمله ولو مات المرتد عطشا".
وهذه عقوبة تعزيرية لهم، يعود للإمام الحق في الاجتهاد في الحكم بها لما يراه من المصلحة في ذلك، وإلا فإن حكم المرتد هو القتل بكل حال لقوله S(3):«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» إضافة إلى أن هؤلاء قد قتلوا راعي إبل الصدقة بغير حق وظلمًا وعدوانًا، وهو من المسلمين.
__________
(1) كما فى فتح البارى 1/407.
(2) نفس المصدر السابق.
(3) صحيح): البخارى 3017، أبو داود 4351، الترمذى 1458، ابن ماجة 2535، أحمد 1874.(112/42)
ثانيًا: بالنسبة لشرب أبوال الإبل فقد أمرهم النَّبِي بأن يشربوا من ألبانها وأبوالها، وأمر النَّبِي S واجب تنفيذه وطاعته لقوله تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور54] وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب36] وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر7] وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور63] وقوله تعالى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران31] ولقوله S(1): «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».
وهذا الحديث من إعجاز الطب النبوي الشريف، والأمر مجرَّب محسوس، وكون بعض النفوس الآن لا تشتهي ولا تستسيغ أبوال الإبل فهذا أمر راجع إلى المريض نفسه فإن شاء أن يتعالج به وإن شاء تركه، وهو من باب الأخذ بالأسباب، ولكن مع هذا فإنه يجب عليه أن يؤمن بأن هذا الأمر فيه فائدته ونفع عظيم للمريض، لئلا يشك ويرد أمر النَّبِي S فيقع في المحظور الأعظم.
وأكبر دليل على صدق هذا الأمر هو ما أشار إلى الصحابي بقوله (فشفوا) أي: أن هؤلاء المرضى قد شفاهم الله تعالى بسبب شربهم لألبان الإبل وأبوالها، وصاروا يتمتعون بصحة وعافية، وقد عادت عافيتهم إليهم.
__________
(1) صحيح): البخارى 7288، مسلم 1337، الترمذى 2679، النسائى 2619، ابن ماجة 1، أحمد 7320.(112/43)
فالطب الحديث يثبت أن أبوال الإبل من الأدوية التي تستخدم في علاج الجلطة الدموية مجموعه تسمى FIBRINOLYTICS تقوم آلية عمل هذه المجموعة على تحويل مادة في الجسم من صورتها غير النشطة PLASMINOGEN إلى الصورة النشطة PLASMIN وذلك من أجل أن تتحلل المادة المسببة للتجلط FIBRIN أحد أعضاء هذه المجموعة هو UROKINASE الذي يستخرج من خلايا الكلى أو من البول كما يدل الاسم URO-البول في الإنجليزية URINE لازلت مشمئزًا؟!!
في الحقيقة هو أمر فعلا مثير للاشمئزاز، ولكن لم يطلب أحد منك أن تشرب بول الإبل كفاتح شهية أو أن تستبدل به عصير البرتقال !!
لقد وصى النَّبِي S به كعلاج لمرض خطير وهو الاستسقاء، وما كان العربي القديم يتورع عن فعل ذلك لأنه لم تكن متوفرة له السبل المطلوبة لاستخلاص مادة الشفاء من البول كما فعلنا نحن اليوم.
قال صاحب القانون(1): "ولا يلتفت إلى ما يقال من أن طبيعة اللبن مضادة لعلاج الاستسقاء، واعلم أن لبن النوق دواء نافع لما فيه من الجلاء برفق، وما فيه من خاصية وأن هذا اللبن شديد المنفعة، فلو أن إنسانًا أقام عليه بدل الماء والطعام شفي به، وقد جرب ذلك في قوم دفعوا إلى بلاد العرب فقادتهم الضرورة إلى ذلك؛ فعوفوا، وأنفع الأبوال بول الجمل الأعرابي وهو النجيب".
قال الرازي: "لبن اللقاح يشفي أوجاع الكبد، وفساد المزاج".
وفي حياة الحيوان الكبرى: "وبول الإبل ينفع من ورم الكبد".
__________
(1) ابن سينا، القانون فى الطب هو كتاب فى الطب النظري والعملي، وفي أحكم الأدوية، طبع في روما سنه 1593م، ترجم إلى اللاتينية ومنه استاق الغرب أصول الطب؛ وما كانوا ليصلوا إلى ربع ما وصلوا إليه إلا بهذه الترجمة وبالانتفاع به، طبع في البندقية عام 1595م.(112/44)
وقال الإسرائيلي(1): "لبن اللقاح أرق الألبان، وأكثرها مائية وحدة، وأقلها غذاء فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول، وإطلاق البطن، وتفتيح السدد، ويدل على ذلك ملوحته اليسيرة التي فيه لإفراط حرارة حيوانه بالطبع، ولذلك صار أخص الألبان بتطرية الكبد وتفتيح سددها، وتحليل صلابة الطحال إذا كان حديدًا والنفع من الاستسقاء خاصة إذا استعمل لحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل وهو حار كما يخرج من الحيوان".
ويذكر صاحب كتاب طريق الهداية في درء مخاطر الجن والشياطين أنه أخبر عن نفر من البادية عالجوا أربعة أشخاص مصابين بسرطان الدم وقد أتوا ببعضهم من لندن مباشرة بعد ما يأسوا من علاجهم وفقد الأمل بالشفاء وحكم على بعضهم بنهاية الموت لأنه سرطان الدم، ولكن عناية الله وقدرته فوق تصور البشر وفوق كل شيء، فجاءوا بهؤلاء النفر إلى بعض رعاة الإبل وخصصوا لهم مكانًا في خيام وأحموهم من الطعام لمدة أربعين يومًا ثُم كان طعامهم وعلاجهم حليب الإبل مع شيء من بولها خاصة الناقة البكر لأنها أنفع وأسرع للعلاج وحليبها أقوى خاصة من رعت من الحمض وغيره من النباتات البرية وقد شفوا تمامًا وأصبح أحدهم كأنه في قمة الشباب وذلك فضل الله.
وبول الإبل يسميه أهل البادية الوَزَر، وطريقة استخدامه بأن يُؤخذ مقدار فنجان قهوة أي؛ ما يعادل حوالي ثلاثة ملاعق طعام من بول الناقة ويُفضل أن تكون بكرًا وترعى في البر ثم يُخلط مع كأس من حليب الناقة ويُشرب على الريق.
__________
(1) أحد علماء الطب القدامى.(112/45)
ويقول الدكتور محمد مراد: "في الماضي البعيد استخدم العرب حليب الإبل في معالجة الكثير من الأمراض ومنها أوجاع البطن وخاصة المعدة والأمعاء ومرض الاستسقاء وأمراض الكبد وخاصة اليرقان وتليف الكبد وأمراض الربو وضيق التنفس ومرض السكري، واستخدمته بعض القبائل لمعالجة الضعف الجنسي حيث كان يتناوله الشخص عدة مرات قبل الزواج إضافة إلى أن حليب الإبل يساعد على تنمية العظام عند الأطفال ويقوي عضلة القلب بالذات، ولذلك تصبح قامة الرجل طويلة ومنكبه عريض وجسمه قوي إذا شرب كميات كبيرة من الحليب في صغره.
واستخدمت أبوال الإبل وخاصة بول الناقة البكر كمادة مطهرة لغسل الجروح والقروح ولنمو الشعر وتقويته وتكاثره ومنع تساقطه، وكذا لمعالجة مرض القرع والقشرة، ويقال إن في دماء الإبل القدرة على شفاء الإنسان من بعض الأمراض الخبيثة.
وقيل إن حليب الإبل يحمي اللثة ويقوي الأسنان نظرًا لاحتوائه على كمية كبيرة من فيتامين (ج) ويساعد على ترميم خلايا الجسم لأن نوعية البروتين فيه تساعد على تنشيط خلايا الجسم المختلفة، وبصورة عامة يحافظ حليب الإبل على الصحة العامة للإنسان.
وتشير النتائج الأولية للبحوث التي أجراها بعض الخبراء والعلماء أن تركيب الأحماض الأمينية في حليب الإبل تشبه في تركيبها هرمون الأنسولين، وأن نسبة الدهن في لحوم الإبل قليلة وتتراوح بين 1.2% و 2.8 %، وتتميز دهون لحم الإبل بأنها فقيرة بالأحماض الأمينية المشبعة، ولهذا فإن من مزايا لحوم الإبل أنها تُقلل من الإصابة بأمراض القلب عند الإنسان"(1).
وفي مقالة من صحيفة الزمان أن باحثًا علميًا توصل إلى أن بول الإبل يشفي من طائفة من أمراض الجهاز الهضمي وعلى رأسها التهاب الكبد والباحث اسمه محمد أوهاج.
__________
(1) دراسة فى مجال الطب والصحة، نشرت فى مقالة بجريدة الاتحاد .(112/46)
يقول الباحث محمد أوهاج(1): "إن التحاليل المخبرية تدل على أن بول الجمل يحتوي على تركيز عال من البوتاسيوم والبولينا والبروتينات الزلالية والأزمولارتي وكميات قليلة من حامض اليوريك والصوديوم والكرياتين وأوضح أن ما دعاه تقصي خصائص البول البعيري العلاجية هو أنه رأى أفراد قبيلة يشربون ذلك البول حينما يصابون باضطرابات هضمية واستعان ببعض الأطباء لدراسة البول الإبلي فأتوا بمجموعة من المرضى وسقوهم ذلك البول لمدة شهرين وكانت النتيجة أن معظمهم تخلصوا من الأمراض التي كانوا يعانون منها يعني ثبت علميًا أن بول الجمال مفيد إذا شربته على الريق كما توصل أوهاج إلى أن بول الجمال يمنع تساقط الشعر".
__________
(1) دراسة نشرت فى مقالة صحيفة الزمان.(112/47)
وفى مقالة لمجموعة من العلماء بقسم علوم الأغذية بكلية الزراعة بجامعة الفاتح بليبيا تقول(1): "إن ألبان الإبل هي الأفضل من حيث ثرائها بمكونات الغذاء, ومن حيث سلامتها تمامًا، وركز العلماء في البداية في أبحاثهم على لبن الناقة, والمقارنة بين خواصه الحيوية وألبان الأبقار, بعد كارثة أمراض جنون البقر التي تتجدد بين فترة وأخرى, وفي أكثر من بلد أوروبي وغيرها من الأمراض التي يمكن أن تصيب الأغنام كذلك، بينما لم يسمع أحدٌ إصابة إنسان بأية أمراض من جراء تناوله ألبان النوق، وفي هذه الدراسة العلمية والمعملية التي شارك فيها مجموعة من أساتذة كلية زراعة جامعة الفاتح, أثبت العلماء أن حليب الإبل يحتوي على كمية فائقة من فيتامين (ج) بما يعادل ثلاثة أمثال مثيله من ألبان الأبقار, في حين تصل نسبة (الكازين) إلى 70% من البروتين في ألبان الإبل, الأمر الذي يجعله سهل الهضم والامتصاص مقارنة بحليب الأبقار الذي تصل النسبة فيه إلى 80%, وكشفت الدراسة أن نسبة الدهون في حليب النوق هي أقل منها في حليب الأبقار, كما أنها حبيبات أقل حجمًا يسهل امتصاصها وهضمها، فضلًا عن ذلك فإن ألبان النوق تحتوي على مواد تقاوم السموم والبكتريا, ونسبة كبيرة من الأجسام المناعية المقاومة للأمراض, خاصة للمولودين حديثًا، ويمكن وصف حليب الإبل لمرضى الربو, والسكر, والدرن, والتهاب الكبد الوبائي, وقرح الجهاز الهضمي, والسرطان، لكن الدراسة العلمية كشفت عن مفاجأة أكبر, وهي احتواء ألبان الإبل على نسبة عالية من المياه تتراوح بين 84% و91% وهي نسبة غير موجودة في أي نوع من الألبان الأخرى, وقد تجلت قدرة الله تعالى في دور هرمون (البرولاكتين) في عملية دفع المياه في ضرع الناقة لتزيد كمية المياه في اللبن, ولوحظ أن هذه العملية تتم في الإبل وقت اشتداد الحر التي يحتاج فيها مولودها الرضيع لهذه
__________
(1) هذه المقالة من موقع الخالدي http: //www.alkhaldi.8k.com/(112/48)
الكمية من الماء, وكذلك الإنسان العابر معها الصحراء إلى كميات متزايدة من المياه ليطفىء ظمأه، وأثبتت التجارب العلمية الليبية أيضًا أن حليب النوق يحتفظ بجودته وقوامه لمدة 12 يومًا في درجة حرارة (10مْ) في حين أن حليب الأبقار يحتفظ بخواصه لمدة لا تزيد على يومين في نفس درجة الحرارة, وينصح أصحاب الدراسة بتناول كوب من لبن الإبل قبل النوم مع ملعقة من عسل النحل للتمتع بنوم هادىء وصحة جيدة".
شبهات القرآنيين(1)
الشبهة الأولى: لا حاجة لنا بالسُنَّة فالقرآن بيَّن الشريعة.
إن القرآن الكريم كافٍ في بيان قضايا الدين وأحكام الشريعة، ما ترك شيئًا ولا فرط في شيء، ومن ثم فلا حاجة لمصدر ثان للتشريع، فالسُنَّة لا حاجة إليها، ولا مكان لها بدليل قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام38]، وقوله تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف111].
__________
(1) بدأ إنكار السُنَّة النبوية والشغب عليها على هيئة فردية في حالات نادرة لا اعتبار بها، وكان ذلك في حياة النبي S(راجع قصة الزبير- فى تفسير النساء65)، أما إنكار السُنَّة على هيئة مؤثرة فى التاريخ، فقد بدأ على أيدى الخوارج والشيعة، ثم انضم إليهم طوائف من المتكلمين وبخاصة من المعتزلة.
أما نشأتها في العصر الحديث فكانت فى الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري في شبه القارة الهندية على يد زمرة من أبناء تلك البقعة، وزعمت تلك الطائفة الاعتماد على القرآن وحده، وطرح السُنَّة النبوية المطهرة.(112/49)
الرد على الشبهة وتفنيدها(1)
إن القول بهذه الشبهة يدل على جهل بالقرآن المجيد، وعدم فهم لآياته، بل يدل على سوء قصد لدى القائلين بها، فإن الأمة مجمعة على أن القرآن العظيم قد اشتمل الدين مجملًا في كثير من جوانبه وأحكامه، ومفصلًا في جوانب أخرى، وقد جاءت السُنَّة النبوية المطهرة فبينت المجمل وفصلته، والنَّبِي S وهو يبين ويفصل إنما ينفذ أمر الله تعالى ويؤدي ما وكله الله تعالى إليه من بيان القرآن المنزل على الخلق، تطبيقًا واستجابة لأمر الله - عز وجل - في قوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل44].
__________
(1) شبهات القرآنيين حول السُنَّة النبوية ، أ.د. محمود محمد مزروعة، بتصرف شديد، راجع أيضًا حجية السُنَّة، د/عبد الغنى عبد الخالق ص384، وأيضًا، دفاع عن السُنَّة، أ.د/ محمد أبو شهبة، أيضًا، مقالة أ.د/ موسى شاهين لاشين بالموسوعة الإسلامية العامة ص501.(112/50)
فالقرآن المجيد قد اشتمل على قضايا الدين، وأصول الأحكام الشرعية، أما تفاصيل الشريعة وجزئياتها فقد فصل بعضها وأجمل جمهرتها، وإنما جاء المجمل في القرآن بناء على حكمة الله - عز وجل - التي اقتضت أن يتولى رسوله Sتفصيل ذلك المجمل وبيانه، وهذا هو ما قام عليه واقع الإسلام، وأجمعت عليه أمته، ومن ثم فلا وزن لمن يقول بغير ذلك أو يعارضه، لأن معارضته مغالطة واضحة وبهتان عظيم، وإذا كان أصحاب هذه الشبهة يزعمون أن القرآن المجيد قد فصل كل شيء، وبين كل صغيرة وكبيرة في الدين؛ فلنحتكم وإياهم إلى عماد الدين الصلاة؛ أين في القرآن الكريم عدد الصلوات، ووقت كل صلاة ابتداء وانتهاء، وعدد ركعات كل صلاة، والسجدات في كل ركعة، وهيئاتها، وأركانها، وما يقرأ فيها، وواجباتها، وسننها، ونواقضها، إلى غير ذلك من أحكام لا يمكن أن تقام الصلاة بدونها؟ ومثل ذلك يقال في أحكام العبادات كافة، إن القرآن العظيم قد ورد فيه الأمر بالصلاة والزكاة والصيام والحج، فأين نجد منه الأنواع التي تخرج منها الزكاة، ومقدار كل نوع، وأين نجد أحكام الصيام؟ وأين نجد مناسك الحج؟ إن الله سبحانه قد وكل بيان ذلك إلى رسول الله Sالذي لا ينطق عن الهوى، وجاء رسول الله S
فقال(1): «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، ولم يقل: كما تجدون في القرآن، لأن القرآن قد خلا من تفصيل الأحكام وبيانها.
ولعل من حكمة الله سبحانه في ترك التفاصيل والبيان لرسوله S؛ أن تفصيل الأحكام وبيان جزئياتها، وتوضيح دقائقها، إنما يكون بالطريق العملي أولى وأجدى، ولو أن الأحكام فصلت قولًا نظريًا، لما استغنت عن بيان عملي واقعي.
__________
(1) صحيح): البخارى 631، مسلم 674، أبو داود 589، الترمذى 205، النسائى 634، ابن ماجة 979، أحمد15171.(112/51)
ولعله من الحكمة وراء ذلك أيضًا بيان ما لرسول الله Sمن منزلة سامية لا يشاركه فيها غيره، ومكانة رفيعة عالية لا يرقى إليها سواه، وذلك بإسناد الله تعالى تفصيل الأحكام وبيانها إليه S، إذ لو كان كل شيء مفصلًا مبينًا لكان رسول الله Sمثل غيره من الناس مطبقًا لما هو قائم فعلًا، لكنَّ الله - عز وجل - اختصه Sبتفصيل الأحكام وبيان مجمل القرآن تكريمًا لشأنه وإعلاء لمنزلته، وليس ذلك أمرًا قائمًا بذاته، بل هو مبني على ما سبق أن بيناه من حِكَم.
أما هؤلاء الذين أثاروا هذه الشبهة فقد ارتكبوا عددًا من الأخطاء، أول هذه الأخطاء أنهم لم يحاولوا أن يفهموا الموضوع في إطار القرآن الكريم كله، وإنما أخذوا آية واحدة أو آيات وركزوا كلامهم فيها، وبنوا مذهبهم الفاسد عليها، وتركوا القرآن المجيد كله بما فيه من آيات واضحات تتصل بالموضوع اتصالًا مباشرًا، ومن هنا فقد حملوا الآيات التي اختاروها ما لا تحتمل، ووجهوا معناها الوجهات الخطأ التي أرادوها هم، وليس التي تنطق بها الآيات، ومن البدهيات التي يعلمها عامة الناس بله العلماء أن القرآن يفسر بعضه بعضا، وأن آياته إنما يفهم بعضها في إطار البعض الآخر، وأن تفسير بعض الآيات بعيدًا عن بقية الكتاب الكريم قد يكون خطأ يؤدي إلى محظورين خطيرين؛
الأول: عدم فهم المراد من الآيات فهمًا صحيحًا.
الثانى: أن يضرب القرآن بعضه ببعض، وأن تعارض بعض آياته بالبعض الآخر، وهذا جرم عظيم، لا يرتكبه إلا مجرم أثيم، وهؤلاء قد اعتمدوا آية أو بضع آيات من القرآن، ثم عزلوها عن بقية ما في القرآن المجيد من آيات بينات في نفس الموضوع، ثم حملوها من المعاني مالا تحتمل، عن سوء قصد وتعسف، ولعل تفنيد شبهتهم هذه يقتضينا إلى جانب ما ذكرنا توضيح معاني الآيات التي استدلوا بها، حتى تبطل شبهتهم هذه بتمامها، وتنهار من أساسها.(112/52)
إن عمدتهم في الاستدلال على ما ذهبوا إليه هو قول الله - عز وجل -: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام38]، مدعين أن هذه الآية تعني أن الكتاب الكريم قد احتوى تفصيل كل صغيرة وكبيرة وبيانها، ومن ثم فلا حاجة إلى السُنَّة التي تبينه وتفصله، وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالكتاب في الآية الكريمة، إنما هو اللوح المحفوظ، وليس القرآن الكريم، وسياق الآية كاملة يرجح هذا، فالآية الكريمة كاملة: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام39]، فالآية تتحدث عن عظيم علم الله تعالى، وإحاطته بكل شيء في الوجود من دواب وطيور وغيرها، وقد شمل علم الله سبحانه كل شيء، وقدر ما يقع لكل منها، ثم إليه يحشر الكل، وذلك كقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد22]، فالكتاب الذي احتوى كل شيء كان أو كائن أو يكون إنما هو اللوح المحفوظ وعلى تفسير الكتاب بأنه القرآن الكريم، فقد قال المفسرون أن معنى الآية؛ إن الله تعالى قد ضمن القرآن الكريم كل ما يحتاج إليه المكلفون من أوامر ونواه، وعقائد وشرائع، وبشارة ونذارة، إلى غير ذلك، وليس معنى ذلك أنه لا يحتاج إلى السُنَّة المبينة له، فهو وحي، والسُنَّة وحي، ورسول الله S لا ينطق عن الهوى، وقد قال عنه ربه سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم3-4]، فالله سبحانه الذي ضمن القرآن العظيم قضايا الدين وأصول الأحكام مجملة، هو سبحانه الذي وجه الناس وأرشدهم إلى الطريق الذي يحصلون منه على تفصيل ذلك المجمل وبيانه، وقد جاء التوجيه في القرآن نفسه فقد قال الله - عز(112/53)
وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد33]، وقال تبارك وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر7]، وغير ذلك آيات كثيرة تأمر المؤمنين بطاعة رسول الله Sوالأخذ عنه، وبذلك يتضح معنى الآية الكريمة: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام38]، وأن الكتاب لو فسر بأنه القرآن، فإن الله تعالى قد ضمنه كل شيء يحتاج إليه المكلف، فما كان فيه من تفصيل كفى، وما كان فيه من إجمال، فقد وجه القرآن المؤمنين إلى الطريق الذي يجدون فيه تفصيل ذلك المجمل، وهو رسول الله S،وبذلك يكون القرآن المجيد قد اشتمل كل شيء، وصدق الله القائل: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام38].(112/54)
"أما الذين يقولون إننا لا حاجة لنا إلى السُنَّة النبوية، اكتفاءً بالبلاغ القرآنى، الذى لم يفرط فى شىء، فإننا نقول لهم ما قاله الأقدمون -من أسلافنا- للأقدمين من أسلافهم: إن السُنَّة النبوية هى البيان النبوى للبلاغ القرآنى، وهى التطبيق العملى للآيات القرآنية، التى أشارت إلى فرائض وعبادات وتكاليف وشعائر ومناسك ومعاملات الإسلام، وهذا التطبيق العملى، الذى حوّل القرآن إلى حياة معيشة، ودولة وأمة ومجتمع ونظام وحضارة، أى الذى "أقام الدين"، قد بدأ بتطبيقات الرسول Sللبلاغ القرآنى، ليس تطوعًا ولا تزيّدًا من الرسول، وإنما كان قيامًا بفريضة إلهية نص عليها القرآن الكريم {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل44]، فالتطبيقات النبوية للقرآن -التى هى السُنَّة العملية والبيان القولى الشارح والمفسر والمفصّل- هى ضرورة قرآنية، وليست تزيّدًا على القرآن الكريم، هى مقتضيات قرآنية، اقتضاها القرآن، ويستحيل أن نستغنى عنها بالقرآن، وتأسيًا بالرسول S، وقيامًا بفريضة طاعته التى نص عليها القرآن الكريم: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران32] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} [النساء59] {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء80]، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران31] {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح10]، تأسيًا بالرسول S، وطاعة له، كان تطبيق الأمة -فى جيل الصحابة ومن بعده- لهذه العبادات والمعاملات، فالسُنَّة النبوية، التى بدأ تدوينها فى العهد النبوى، والتى اكتمل تدوينها وتمحيصها فى عصر التابعين(112/55)
وتابعيهم، ليست إلا التدوين للتطبيقات التى جسدت البلاغ القرآنى دينًا ودنيا فى العبادات والمعاملات.
فالقرآن الكريم هو الذى تَطَلَّبَ السُنَّة النبوية، وليست هى بالأمر الزائد الذى يغنى عنه ويستغنى دونه القرآن الكريم.
أما العلاقة الطبيعية بين البلاغ الإلهى -القرآن- وبين التطبيق النبوى لهذا البلاغ الإلهى -السُنَّة النبوية- فهى أشبه ما تكون بالعلاقة بين"الدستور"وبين"القانون".
فالدستور هو مصدر ومرجع القانون، والقانون هو تفصيل وتطبيق الدستور، ولا حُجة ولا دستورية لقانون يخالف أو يناقض الدستور، ولا غناء ولا اكتفاء بالدستور عن القانون.
إن رسول الله S، ليس مجرد مبلّغ فقط، وإنما هو مبلّغ، ومبين للبلاغ، ومطبق له، ومقيم للدين، تحوّل القرآن على يديه إلى حياة عملية، أى إلى سنة وطريقة يحياها المسلمون.
وإذا كان بيان القرآن وتفسيره وتفصيله هو فريضة إسلامية دائمة وقائمة على الأمة إلى يوم الدين، فإن هذه الفريضة قد أقامها -أول من أقامها- حامل البلاغ، ومنجز البيان، ومقيم الإسلام S.
"والذين يتصورون أن الرسول S مجرد مبلِّغ إنما يضعونه فى صورة أدنى من صورتهم هم، عندما ينكرون عليه البيان النبوى للبلاغ القرآنى، بينما يمارسون هم القيام بهذا البيان والتفسير والتطبيق للقرآن الكريم !.. وهذا "مذهب" يستعيذ المؤمن بالله منه ومن أهله ومن الشيطان الرجيم.!"(1).
الشبهة الثانية: السُنَّة ليست وحيًا والنَّبِي Sيُصيب ويخطئ
__________
(1) موقع الأزهر الشريف، http://www.alazhr.org/Qadaia/Default.asp.(112/56)
إن السُنَّة النبوية ليست وحيًا من قبل الله -سبحانه وتعالى- على رسوله Sولكنه اجتهاد وتصرف من النَّبِي Sبمقتضى بشريته، وهو Sبهذا الاعتبار يصيب ويخطئ، فالسُنَّة ليست وحيًا، وبالتالي فهي ليست مُنزهة عن الخطأ، لأن المُنزه عن الخطأ إنما هو الوحي، ولا وحي إلا القرآن المجيد، ولسنا ملزمين باتباعها، والدليل على ذلك أولًا(1): مسألة نزول جيش المسلمين في غزوة بدر، حيث أنزله الرسول Sمنزلًا ثم ظهر خطأ هذا المنزل، فانتقل الجيش إلى منزل آخر بناء على رأى صحابي من أصحابه، ثانيًا: مسألة أسرى بدر، حيث استحياهم الرسول Sولم يقتلهم، وأخذ منهم الفداء، ونزل القرآن مبينًا خطأ ذلك الاجتهاد وإصابة اجتهاد عمر ورأيه في المسألة.
الرد على الشبهة وتفنيدها
إن هذه الشبهة التي أوردها هؤلاء ما كان ينبغي أن تصدر عن مسلم، أو عمن يدعي أنه مسلم، فإن الأمة المسلمة مجمعة سلفًا وخلفًا وإلى أن تقوم الساعة على أن السُنَّة النبوية المطهرة وحي من قبل الله تعالى على رسوله S، وأن النَّبِي S لا ينطق عن الهوى، وإجماع الأمة المسلمة على ذلك ليس صادرًا عن فراغ أو عن هوى، ولكنه الحق الذي لا يعارضه إلا غويٌّ مبين.
والأدلة على أن السُنَّة وحي من الله تعالى على نبيه Sكثيرة وعديدة نستيطع أن نلخص منها الآتى:
__________
(1) من شبهاتهم أيضا مسألة تأبير النخل وقد مر الرد عليها وتفنيدها.(112/57)
أولًا: إخبار الله تعالى بذلك في نصوص قاطعة في آيات بينات من القرآن المجيد الذي ينتسب إليه هؤلاء.. من ذلك قوله - عز وجل - عن النَّبِي S: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم3-4] ومن ذلك قوله - عز وجل - عن نبيه S: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة44-47] فهذه الآيات ليس فيها إخبار بأن الرسول لا ينطق إلا بالوحي فقط، بل فيها إخبار بأنه Sلو افترى على الله تعالى شيئًا لم يوحه الله إليه لقتله الله وقضى عليه، وحيث إن الله تعالى لم يأخذ من رسوله باليمين، ولم يقطع منه الوتين، أي لم يقض عليه، فإن الرسول Sما نطق إلا بما أوحاه الله تعالى إليه.
ثانيًا: النصوص القاطعة من كتاب الله المجيد التي يأمر الله - عز وجل - فيها المؤمنين باتباع الرسول Sفي كل ما يأخذ وما يدع، وما يأمر وما ينهى، من ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر7] وقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد33](112/58)
ثالثًا: ترتيب الله تعالى الإيمان على طاعة رسوله Sوالرضا بحكمه، والتسليم لأمره ونهيه في كل ما يراه ويحكم به، وذلك في قول الله - عز وجل -: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء65] ومن ذلك وصف الله تعالى المؤمنين بأن شأنهم مع رسول الله Sأن يقولوا سمعنا وأطعنا، وذلك في قوله سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور51]
رابعًا: إجماع الأئمة كلها على أن السُنَّة وحي من قبل الله - عز وجل - إلى رسوله Sوبخاصة صحابة رسول الله S حيث كانوا في حياته الشريفة يحفظون أقواله Sويتذاكرونها فيما بينهم، وكانوا يتحرون الاقتداء به Sفي كل ما يأتي وما يذر فيما ليس بخصوصية له Sمستجيبين لتوجيه الله تعالى في قوله لأمة الإسلام: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب21] وقد كان الذي يعرف الكتابة منهم يكتب لنفسه خاصة، وقد كان ثمة عدد من أصحاب رسول الله Sيكتبون لأنفسهم في حياته الشريفة، ثم بعد حياته S كانت المسألة تُعرَضُ للصحابة رضوان الله عليهم فيبحثون في القرآن، فإذا لم يجدوا حكمها، بحثوا في السُنَّة الشريفة وحكموا فيها بما وردت به السُنَّة، وكان سائلهم يسأل أصحابه وإخوانه قائلًا: أنشدكم الله هل سمع أحدكم من رسول الله Sشيئًا في المسألة؟ فإذا جاءهم حكم رسول الله S على لسان أصحابه أو بعضهم سارعوا إلى تطبيقه والأخذ به.(112/59)
أما ما أثاروه من مغالطات مدعين أنها أدلة على أن السُنَّة النبوية المطهرة ليست وحيًا؛ فهو كلام ظاهر البطلان، ونحن نرد عليه رغم وضوح بطلانه إبطالًا لمزاعمهم.
أولًا: ما أثاروه من منزل جيش المسلمين في غزوة بدر؛ فقد كان ذلك بناءً على رأي رآه رسول الله Sولم يكن ذلك عن وحي، وهذا بيِّن واضح، فإنه لما سأله أحد أصحابه - رضي الله عنه - قائلًا: (أهذا منزل أنزلكه الله يا رسول الله، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال رسول الله S: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، ولما أشار عليه صاحبه بمنزل أفضل انتقل إليه رسول الله S، فكون ذلك ليس عن وحي واضح، فلا يصح الاستشهاد به في مجال نفي الوحي فيما هو وحي.
ثانيًا: أما مسألة الأسرى في بدر، فهي قد جمعت بين الرأي والوحي، فقد كان الرأي أولًا، ثم أعقبه الوحي بعد ذلك، وقضية الأسرى ببدر توضح لنا أمرًا هامًا قد لا يتوفر في كثير غيرها من قضايا التشريع، فرسول الله Sأخذ في أسرى بدر بالرأي، فاستشار أصحابه رضوان الله عليهم، فكل أدلى برأيه، ثم مال رسول الله Sإلى الرأي القائل باستحيائهم وأخذ الفداء منهم، وكان هذا رأي أبي بكر - رضي الله عنه -، وكان رأي عمر - رضي الله عنه - أن يقتل الأسرى جميعًا وبعد أن استقر الأمر على ذلك نزل الوحي على رسول الله Sيُبين ما كان ينبغي أن يفعل في مسألة الأسرى، ويُبين الصواب في القضية، يقول الله سبحانه في شأن فعل الرسول في أسرى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال67-69](112/60)
فقضية الأسرى بدأت بالرأي، ثم انتهت بالوحي، وهذه القضية بجملتها شاهدة على أن الرسول Sلا يقول ولا يفعل فيما يتصل بالدين إلا بوحي من عند الله سبحانه، وأن الله سبحانه لا يدع رسوله Sعلى غير صواب، حتى في حالة تصرفه برأيه واجتهاده وذلكم هو الأمر الهام الذي نَوَّهنا به قبلًا، وخلاصته أن قول الرسول Sوفعله في أمور الدين وحي، حتى ولو قال برأيه، لأنه إن قال أو فعل برأيه وكان صوابًا موافقًا لأمر الله أقره الله تعالى على ذلك، وكان إقرار الله سبحانه له دليلًا على موافقة عمله لمراد الله تعالى فيكون وحيًا، وإن كان اجتهاد الرسول Sليس صوابًا موافقًا لمراد الله سبحانه فإن الله تعالى لا يقره على ما قال أو فعل اجتهادًا، بل يصوب له ويصحح، وذلك كما حدث في أسرى بدر، حيث نزل فيها القرآن مصوبًا؛ وكما حدث في أوائل سورة "عبس" حيث نزل القرآن معاتبًا، وهكذا يتضح أن واقعة أسرى بدر شاهدة بأن السُنَّة وحي من عند الله تعالى، وأن الله سبحانه يحيط أقوال وأفعال رسوله بالوحي حتى ولو اجتهد برأيه.
وفيصل الأمر في الشبهات التي أثاروها ظانين أنها دليل على أن السُنَّة النبوية ليست وحيًا؛ أن ما يصدر عن الرسول S نوعان: نوع يفعله بمقتضى بشريته S، دون أن يوحى إليه فيه بشيء، وهذا النوع لا صلة له بالتشريع، وذلك في جل شؤونه المعيشية التي لا يتعلق شيء منها بالدين حلًا أو حرمة ومن ذلك رأيه في تأبير النخل، ومنزل الجيش ببدر، ونوع آخر يفعله S بمقتضى كونه بشرا رسولًا، وفعله هذا إنما يقوم على وحي من قبل الله تعالى، مثل أسرى بدر، فقد اجتهد فيه الرسول S رأيه وآراء محل مشورته من الصحابة رضوان الله عليهم، فنزل الوحي مصوبًا ومبينًا الحكم الصحيح.
الشبهة الثالثة: لم يُرد النَّبِي أن تكون السُنَّة مصدرا ثانيا للتشريع(112/61)
"لم يقصد النَّبِي Sأن تكون سنته مصدرًا تشريعيًا للدين، بل كان مصدر التشريع عند الرسول S هو القرآن وحده، وكذلك فهم الصحابة رضوان الله عليهم، وجاء عهد التابعين الذين بدأت فيه فتنة القول بالسُنَّة، وأنها مصدر من مصادر التشريع، وكانت تلك قاصمة الظهر بالنسبة للدين، حيث دخل فيه ما ليس منه، واختلط بالوحي الصحيح الخالص الذي هو القرآن، ما ليس من الوحي بل هو كلام البشر؛ والدليل على ذلك نهى النَّبِي الصحابة عن كتابة شيء سوى القرآن"(1) «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ»(2)، وقد أهمل الصحابة كتابتها وحفظها، وكان عمر - رضي الله عنه - يهدد رواة الحديث ويتوعدهم، وقد حبس عددًا من الصحابة بسبب روايتهم للحديث.
الرد على الشبهة وتفنيدها
هذه شبهتهم، وتلك أدلتهم عليها، والشبهة ساقطة، وأدلتها أشد منها سقوطًا وافتراء، فالأمة المسلمة مجمعة سلفًا وخلفًا وحتى قيام الساعة بحول الله تعالى على أن سنة النَّبِي S هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وقد أقمنا الأدلة وافية بفضل الله على أن السُنَّة وحي من الله سبحانه على رسوله S، وكون السُنَّة وحيًا من عند الله تعالى قاطعًا وكافيًا بذاته على أنها شرع الله تعالى إلى الناس، فهي المصدر الثاني للتشريع بلا ريب، ولكنا نزيد الأمر وضوحًا، ونرد على ما زعموه أدلة على شبهتهم تلك.
__________
(1) د/ عبد الغنى عبد الخالق، حجية السُنَّة ص392.
(2) صحيح): أحمد 10701، مسلم 3004، الترمذى 2665، ابن ماجة 37.(112/62)
أما قولهم بأن الرسول S نهى عن كتابة الحديث، بينما حضَّ على كتابة القرآن وحفظه، وكان له Sكتبة القرآن؛ فقول مبالغ فيه، ويقوم على التدليس وذكر بعض الحق وإخفاء البعض، وليس من شك في أن القرآن المجيد قد لقي من العناية بكتابته وحفظه ما لم يكن للسنة النبوية، فهو مصدر الدين الأول، وهو أعلى من السُنَّة منزلة وقداسة، وهو أحق بالعناية والاهتمام بكتابته وحفظه، لذلك حظي القرآن من العناية بما لم تحظ به السُنَّة وبخاصة تدوينها وكتابتها، والأسباب التي جعلت الصحابة يهتمون بكتابة القرآن فوق اهتمامهم بكتابة السُنَّة كثيرة، منها: أن القرآن الكريم محدود بحدود ما ينزل به جبريل على قلب النَّبِي S،فكتابته والإحاطة به أيسر، وهم على ذلك أقدر، أما السُنَّة النبوية من أقوال الرسول Sوأفعاله فكثيرة ومتشعبة تتضمن أقواله Sوأفعاله اليومية، وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة عاشها Sبينهم، وهذا أمر يشق كتابته وتدوينه، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار ندرة أو قلة الكاتبين بين الصحابة رضوان الله عليهم. ومنها: أن كتابة القرآن ضرورة يفرضها ويحتمها كون القرآن العظيم وحي الله تعالى إلى النَّبِي Sبلفظه ومعناه، ولا تجوز روايته بالمعنى، أما السُنَّة فتجوز روايتها بالمعنى، ويجوز في السُنَّة أن يقول القائل: "أو كما قال" وما هو من قبيلها، وليس ذلك جائزًا في القرآن. ومنها: أن الكاتبين بين الصحابة رضوان الله عليهم كانوا قلة، وليس في مقدورهم أن يكتبوا السُنَّة والقرآن معًا، وإذا كان ثمة اختيار بين أيهما يكتب الصحابة العارفون الكتابة، فليكن المكتوب هو القرآن، وذلك حتى يسلموه لمن بعدهم محررًا مضبوطًا تامًا لم يزد فيه ولم ينقص منه حرف.(112/63)
وأما احتجاجهم بأن الرسول S نهى عن كتابة غير القرآن، وغير القرآن هو السُنَّة، فهو احتجاج باطل من وجوه، أولها: أن هذا الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري، وهو قول الرسول S: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه). هذا الحديث معلول أعله أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله البخاري وغيره بالوقف على أبي سعيد، ولو صرفنا نظرًا عن هذا، فإن رسول الله S كما نهى عن الكتابة، فقد ورد عنه S الإذن بها، بل الأمر بها في أحاديث أخر، ولذلك قلنا إن استدلالهم فيه تدليس، حيث ذكروا حديث النهي، ولم يشيروا إلى أحاديث الإذن وهي كثيرة، منها: أن رسول الله S خطب يوم الفتح فقال "إن الله حبس عن مكة القتل أو الفيل الشك من البخاري وسلط عليهم رسول الله والمؤمنون.."ولما انتهى من خطبته جاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله فقال رسول الله S: (اكتبوا لأبي شاة) ومنها: ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال:"ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله S مني إلا عبد الله بن عمرو فقد كان يكتب ولا أكتب". ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - ما أن بعض الصحابة حدثه فقال: إنك تكتب عن رسول الله كل ما يقول ورسول الله S بشر يغضب فيقول ما لا يكون شرعًا، فرجع عبد الله إلى رسول الله Sفأخبره بما قيل له، فقال له الرسول S: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج من فمي إلا الحق). وهذه الروايات في الصحيح، وهناك غيرها ضعيف وهي كثيرة. فإذا ما وازنا بين روايات المنع وروايات الإذن، "وجدنا أن روايات المنع لم يصح منها إلا حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - السابق ذكره، وقد بينا أن الإمام أبا عبد الله البخاري قد أعله بالوقف على أبي سعيد، وكذلك فعل غيره". بينما أحاديث الإذن كثيرة. والصحيح منها كثير، روينا بعضه، ومنها: إضافة إلى ما سبق أن رسول الله Sقال في مرض موته: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده).(112/64)
وقد اجتهد العلماء في الجمع بين أحاديث الإذن وأحاديث المنع، فنتج عن ذلك آراء أهمها:
"أن ذلك من منسوخ السُنَّة بالسُنَّة، أي أن المنع جاء أولًا، ثم نسخ بالإذن في الكتابة بعد ذلك، وقد قالوا إن النهي جاء أولًا خشية التباس القرآن بالسُنَّة، فلما أمن الالتباس جاء الإذن.
أن الإذن جاء لبعض الصحابة الذين كانوا يكتبون لأنفسهم، ويؤمن عليهم الخلط بين القرآن والسُنَّة"(1).
أن النهي لم يكن مطلقًا، بل كان عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة، أما في صحيفتين فمأذون به.
وهناك آراء غير ذلك، لكن الذي يتضح من روايات المنع وروايات الإذن أن الإذن جاء آخرًا، فإن كان نسخ فهو الناسخ للمنع، وهذا الذي رواه الجمهور.
وبهذا يسقط استدلالهم بحديث المنع الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - هذا الحديث الذي يعدونه حجر الزاوية في احتجاجهم بعدم تشريعية أو حجية السُنَّة.
__________
(1) ابن قتيبة الدينورى، تأويل مختلف الحديث 266 بتصرف.(112/65)
أما قولهم إن الصحابة رضوان الله عليهم قد فهموا من النَّبِي S أن السُنَّة ليست شرعًا فانصرفوا عنها، ولم يهتموا بكتابتها أو الالتزام بها؛ فهذا من الكذب والمكابرة، والمطلع على المدونات في كتب السُنَّة، وتاريخ العلوم، وما كتب العلماء في مواقف الأمة المسلمة من سنة رسول الله S، وبخاصة موقف الصحابة رضوان الله عليهم من سنة رسول الله S يقطع بكذب هؤلاء ويعجب من مدى تبجحهم وافترائهم على الحق، إلى حد قلب الأوضاع وعكس الأمور، فقد كان أصحاب رسول الله S أحرص الخلق على ملاحظة أقوال رسول الله S وأفعاله وحفظها، والعمل بها، بل بلغ من حرصهم على تتبع كل صغيرة وكبيرة وحفظها ووعيها والعمل بها أن كانوا يتناوبون ملازمة رسول الله S، فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول:"كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ Sيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ"(1) وما كان ذلك إلا لحرصهم الشديد على معرفة سنة رسول الله Sواتباعها والالتزام بها.
__________
(1) صحيح): البخارى 89، مسلم 1479، الترمذى 3318، النسائى 2132، أحمد 222.(112/66)
وقد كان الصحابة يقطعون المسافات الطويلة ليسألوا رسول الله Sعن حكم الله في بعض ما يعرض لهم، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لِأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ(1): إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي وَلَا أَخْبَرْتِنِي فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ Sبِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ S: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ» فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ.
وكان الصحابة - رضي الله عنهم - حريصين على أن يسألوا أزواج النَّبِي رضوان الله عليهن عن سيرته وسنته في بيته، وكانت النساء يذهبن إلى بيوت أزواج النَّبِي يسألنهن عما يعرض لهن، وهذا معروف مشتهر غني عن ذكر شاهد أو مثال.
بل لقد بلغ من حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على الالتزام بسنة النَّبِي Sأنهم كانوا يلتزمون ما يفعل ويتركون ما يترك دون أن يعرفوا لذلك حكمة، ودون أن يسألوا عن ذلك، ثقة منهم بأن فعله Sوحي، فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال(2):"إنَّ رَسُولَ اللَّهِ Sاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ فَاتَّخَذَ النَّاسُ مِثْلَهُ فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ اتَّخَذُوهَا رَمَى بِهِ وَقَالَ: «لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا» ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ ".
__________
(1) صحيح): البخارى 88، أبو داود 3603، الترمذى 1151، النسائى 3330، أحمد 15715.
(2) صحيح): البخارى 5866، مسلم 2091، أبو داود 4227، الترمذى 1741، النسائى 5164، ابن ماجة 3645، أحمد 4663.(112/67)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ(1): صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ S ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ خَلَعُوا نِعَالَهُمْ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: «مَا بَالُكُمْ أَلْقَيْتُمْ نِعَالَكُمْ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ S: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا، فَإِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ رَأَى فِيهِمَا قَذَرًا أَوْ قَالَ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُمَا وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا».
__________
(1) صحيح): أحمد 11467، أبو داود 650، صحيح الجامع 461.(112/68)
إلى هذا الحد بلغ حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على معرفة سنة النَّبِي S في جميع أحواله، والالتزام بها، والاستجابة لأمره ونهيه من فورهم، ومن غير أن يدركوا حكمة الفعل كما في إلقائهم نعالهم في الصلاة، ونبذهم خواتيم الذهب، ولم يكن ذلك إلا استجابة لله تعالى في أمره بطاعة رسوله Sوالاقتداء به كما في قوله - عز وجل -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب21]، ثم استجابة لرسوله Sفي أمره الأمة باتباع سنته والالتزام بها، كما في قوله S(1): «لِتَأْخُذُوا -أي: عني- مَنَاسِكَكُمْ»، وقوله S (2): «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، وقوله S(3): «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»، وقوله S(4): «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».
__________
(1) صحيح): مسلم 1297، أبو داود 1970، النسائى 3062، أحمد 14009.
(2) صحيح): البخارى 631، مسلم 674، أبو داود 589، الترمذى 205، النسائى 634، ابن ماجة 979، أحمد 15171.
(3) صحيح): البخارى 7280، مسلم 1835، النسائى 4193، ابن ماجة 3، أحمد 8511.
(4) صحيح): أبو داود 4607، الترمذى 2676، ابن ماجة 42، صحيح الجامع 2549.(112/69)
هذا قليل من كثير مما يبين موقف الصحابة رضوان الله عليهم من سنة رسول الله Sوهو موقف يتسم بالحرص الشديد والاهتمام البالغ على معرفة سنة رسول الله Sوحفظها والالتزام بها، بل وتبليغها إلى من يسمعها استجابة لقول رسول الله S(1): «نَضَّرَ اللَّهُ امْرًَا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ».
ومن هذا يتبين مدى كذب أعداء السُنَّة وأعداء الله ورسوله في ادعائهم الذي سلف ذكره.
وأما دعواهم بأن كبار الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يكرهون رواية الحديث، وكان عمر - رضي الله عنه - يتهدد رواة السُنَّة، وأنه نفذ وعيده فحبس ثلاثة من الصحابة بسبب إكثارهم من رواية السُنَّة؛ فهذا كذب يضاف إلى ما سبق من دعاواهم الكاذبة، وفيه جانب من التدليس الذي لا يخلو عنه كلامهم.
__________
(1) صحيح): أحمد 21080، أبو داود 3660، الترمذى 2656، ابن ماجة 230، صحيح الجامع 6766.(112/70)
أما أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يكرهون رواية الحديث، فهذا باطل، والحق أنهم كانوا يخشون روايتها ويهابون من ذلك، لعظم المسئولية، ووعيد رسول الله Sعلى من يكذب عليه في قوله S(1): «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم بين أمرين هم حريصون على كل منهما؛ أولهما: تبليغ دين الله إلى من يليهم من الأمة، ثانيهما: التثبت والتحري الشديد لكل ما يبلغونه عن رسول الله S، لذلك كان الواحد منهم يمتقع وجهه، وتأخذه الرهبة وهو يروي عن رسول الله S، فالصواب إذن أن الصحابة كانوا يهابون رواية الحديث بسبب شدة خوفهم من الكذب على رسول الله S، أو الخطأ فيما يروون، وليس كما يزعم هؤلاء، أن ذلك لأنهم كانوا يرون السُنَّة غير شرعية، أو أنها ليست مصدرًا تشريعيًا.
__________
(1) صحيح): البخارى 110، مسلم 3، ابن ماجة 34، أحمد 8067.(112/71)
أما دعوى حبس عمر - رضي الله عنه - ثلاثة من أصحابه هم(1): عبد الله بن مسعود، وأبو ذر، وأبو الدرداء - رضي الله عنهم -؛ فهذه رواية ملفقة كاذبة، جرت على الألسنة، وقد ذكرها البعض كما تجري على الألسنة وتدون في كتب الموضوعات من الأحاديث والوقائع، فليس كل ما تجري به الألسنة أو تتضمنه بعض الكتب صحيحًا، وقد تولى تمحيص هذه الدعوى الكاذبة الإمام ابن حزم رحمه الله فقال: "وروي عن عمر أنه حبس ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا ذر من أجل الحديث عن رسول الله S" وبعد أن طعن ابن حزم في الرواية بالانقطاع محصها شرعًا فقال: "إن الخبر في نفسه ظاهر الكذب والتوليد، لأنه لا يخلو: إما أن يكون عمر اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث وتبليغ السُنَّة وألزمهم كتمانها وعدم تبليغها، وهذا خروج عن الإسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، وهذا قول لا يقول به مسلم، ولئن كان حبسهم وهم غير متهمين فلقد ظلمهم، فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات أي الطريقين الخبيثين شاء"(2).
هكذا يتضح كذب ادعائهم وفساد ما بنوه على هذا الادعاء(3).
الشبهة الرابعة: تكفل الله بحفظ القرآن ولم يتكفل بحفظ السُنَّة
__________
(1) رد هذه الشبهة بقوة أ.د/ محمد أبو شهبة فى (دفاع عن السُنَّة) ص 280.
(2) ابن حزم، الإحكام فى أصول الأحكام 2/ 193.
(3) يمكن أيضًا مراجعة، الموسوعة الإسلامية العامة، مقالة جمع السُنَّة، أ.د/ عزت عطية، ص447.(112/72)
"تقوم شبهتهم هذه على أن الله تعالى قد تكفل بحفظ كتابه القرآن وذلك في قوله - عز وجل -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر9] لذلك ظل القرآن هو الحق الوحيد في دين الله الإسلام، فلم يحرف ولم يبدل، ولم تدخله كلمة ولا خرجت منه كلمة، ولم يرو بغير لفظه ومعناه، أما السُنَّة فلم يتكفل الله سبحانه بحفظها، ولذلك داخلتها الموضوعات المحضة من جانب أي التي لم يقلها الرسول Sلا بلفظها ولا بمعناها، ومن جانب آخر ضاعت ألفاظها ورويت بالمعنى، وذلك فيما لو صح أن الرسول S قالها، فكان ضياع ألفاظها سببًا في عدم معرفة المعنى الذي أراده الرسول S، حتى ليصح أن يقال إن السُنَّة كلها أضحت موضوعة على رسول الله S، ما كان منها موضوعًا بلفظه ومعناه، وما كان منها موضوع المعنى بسبب ضياع ألفاظه وروايتهم إياه بالمعنى"(1).
الرد على الشبهة وتفنيدها
إن الله - عز وجل - أنزل القرآن الكريم بلفظه ومعناه، فالقرآن كلام الله سبحانه، لذا كان جديرًا بأن يحفظه الله سبحانه ويصونه أن يحرف أو يبدل، ولأن القرآن كذلك لم تجز روايته بالمعنى.
أما السُنَّة فهي وحي الله تعالى إلى رسوله Sأوحى الله تعالى بما فيها من أحكام وتشريعات إلى نبيه Sثم صاغها النَّبِي بكلامه، ولأن السُنَّة ليست كلام الله تعالى فقد أجاز العلماء روايتها بالمعنى، ولم يطلق العلماء هذا الحكم بلا ضوابط أو حدود، بل وضعوا لراوي الحديث بالمعنى ضوابط وشروطًا بحيث لا تجوز رواية الحديث بالمعنى إلا إذا توفرت فيه هذه الضوابط والشروط.
__________
(1) د/ عبد الغنى عبد الخالق، حجية السُنَّة ص389.(112/73)
ورأس هذه الشروط أن يكون عارفًا بالعربية، عالمًا بألفاظها، ومدلولات تلك الألفاظ، بصيرًا بعلاقات الألفاظ بعضها ببعض من ترادف واشتراك وتباين وغير ذلك، فإن كان الراوي على هذا العلم جاز له رواية الحديث بالمعنى، لأن في معرفته بالأمور التي ذكرناها أمانًا من الخطأ في معاني الأحاديث التي يرويها، وإن لم تتوفر له هذه الشرائط فلا تجوز له الرواية بالمعنى.
أما الزعم بأن الله تعالى لم يحفظ سنة نبيه S؛ فإن كان المراد أنه تعالى لم يحفظها بألفاظها، فهذا مُسّلْمٌ، وقد يُقال إن السُنَّة ليست بحاجة إلى نفس الألفاظ، بل الحاجة إلى معانيها المنضبطة ولو رويت بألفاظ أخرى لا تخل بالمعنى، وقد روى الخطيب البغدادي أن أم المؤمنين عائشة –رضى الله عنها- قالت لعروة بن الزبير"بلغني أنك تكتب الحديث عني، ثم تعود فتكتبه، فقال لها: أسمعه منك على شيء، ثم أعود فأسمعه على غيره. فقالت: هل تسمع في المعنى خلافًا؟ قال: لا، قالت: لا بأس بذلك"(1). فالمعنى إذا كان بنفس اللفظ أو انضبط بألفاظ مشابهة فلا بأس به.
أما إن كان المراد أن الله تعالى لم يحفظ السُنَّة مطلقًا لا بألفاظها ولا بمعانيها، وأنها ضُيًّعت؛ فذلك كذب وافتراء على الله تعالى وعلى رسوله Sوعلى الأمة المسلمة، وجحد ونكران لجهود عظيمة مميزة قام بها علماء السُنَّة عبر تاريخ الإسلام.
__________
(1) الكفاية: 273.(112/74)
والحق أن الله سبحانه تكفل بحفظ كتابه، ومن خلال حفظ كتابه تكفل الله تعالى ضمنيًا بحفظ سنة نبيه Sذلكم أن الكتاب بحاجة إلى السُنَّة التي تبينه، كما قال - عز وجل -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل44]، فالسُنَّة ضرورية للكتاب، وهي إلى جانب الكتاب ضروريان للدين، فمن حفظ الله تعالى كتابه أن يحفظ السُنَّة التي تبينه وتفصله، فإن القرآن بحاجة إليها ومن حفظ الله تعالى دينه كي يعرفه الخلق الذين كلفهم الله به، ويحاسبهم عليه، أن يحفظ كتابه وسنة نبيه، فإن الدين بحاجة إليهما؛ لذلك كان من قدر الله سبحانه أن هيأ لسنة نبيه Sهؤلاء الأعلام الذين بذلوا في حفظ السُنَّة ما لم يعرف له تاريخ العلوم والثقافات مثيلا من قبل ولا من بعد، وما كان ليتم لهم ذلك إلا بتوفيق من الله تعالى وهداية وتأييد، فقد ابتدعوا نظامًا لحفظ السُنَّة، ومعرفة صحيحها بدرجاته، من الضعيف بدرجاته، من الموضوع، واخترعوا من الوسائل المعرفية والمناهج العلمية ما هو معجز في بابه، كل ذلك على غير مثال سابق لا عند العرب، ولا عند غير العرب ممن كانت لهم ثقافات وفلسفات، وكانت لهم أديان، وكانوا الأكثر حاجة إلى تمحيص مكتوباتهم وأسفارهم الدينية، ولكنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه علماء الإسلام ولا إلى قريب منه، وقد شهدت الأمم جميعها بأن علماء السُنَّة قد أتوا في باب جمعها وتصنيفها، وتمييزها، ومعرفة الصحيح من الضعيف من الموضوع، ما لم تعرفه الأمم من قبل، والسؤال: هل كان هذا يمكن أن يتم دون توفيق من الله سبحانه وهداية ومعونة وإرشاد؟..إنه توفيق الله تعالى لحفظ سنته الذي هو من حفظ كتابه، لحاجة الكتاب إلى السُنَّة في بيانه وتفصيله، وحاجة دين الله الإسلام إلى الكتاب والسُنَّة جميعًا.(112/75)
أما زعمهم بأن السُنَّة أضحت خليطًا لا يعرف منها الصحيح من الموضوع؛ فذلك كذب وافتراء بل تبجح ومكابرة، فإن أقل الناس ذكاء ومعرفة بالسُنَّة تكفيه زيارة واحدة لإحدى المكتبات الحديثية التي تضم كتب السُنَّة أو بعضها ليدرك بعد تصفح لعناوين هذه المدونات وبعض ما فيها أن الله تعالى حفظ سنة نبيه، وأن كتب الصحاح والسنن موجودة ينهل منها المسلمون الزاد النافع لهم في الدنيا والدين، رغم أنوف منكري السُنَّة أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء المسلمين.
شبهات الخوارج(1)
الشبهة الأولى: الرجم لم يثبت بالقرآن
إن الرجم لم يثبت بالقرآن الكريم ولذا فلا يعد حدًا بدليل:
أولًا: الرجم أشد العقوبات فلو كان مشروعًا لذُكر فى القرآن ولما لم يذكر دل على أنه غير مشروع.
ثانيًا: إن حد الأمة نصف حد الحرة {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء25] والرجم لا يتنصف فلا يصح أن يكون حدًا للحرة.
ثالثًا: إن الحكم عام فى جميع الزناة وتخصيص الزاني المحصن من هذا الحكم مخالف للقرآن.
الرد على الشبهة وتفنيدها
__________
(1) هم فئة خرجت على الإمام علي بن أبي طالب بعد أن كانت تحارب معه، يغلب عليهم الانفعال والتطرف في السلوك، والتزّمت في الدين والتحجّر في الفكر، تكونت بعد معركة صفين في منتصف القرن الأول الهجري، بسبب رفضها لنتيجة التحكيم، وأصبحت العبارة التي صاغها أحدهم (لا حكم إلا لله) شعار هذه الطائفة، وكان لهذا الشعار التأثير الخطير على استقطاب بسطاء الناس وجهلتهم.
من زعمهم: إن كل خبر ورد عن النبي يخالف ظاهر الكتاب لا يعمل به، وأن كل خبر لا يكون متواترًا لا يجوز أن يُتخذ دليلا.(112/76)
إن الرجم ثبت بفعله S وقوله, وكذلك بإجماع الصحابة والتابعين فقد ثبت بالروايات الصحيحة التى لا يتطرأ إليها الشك, وبطريق التواتر أن النَّبِي S أقام حد الرجم على بعض الصحابة كماعز والغامدية وأن الخلفاء الراشدين من بعده قد أقاموا هذا الحد فى عهودهم وأعلنوا مرارًا أن الرجم هو الحد للزنى بعد الإحصان.
ثم ظل فقهاء الإسلام فى كل عصر وفى كل مصر مجمعين على كونه حكمًا ثابتًا وسنة متبعة وشريعة إلهية قاطعة بأدلة متضافرة لا مجال للشك فيها أو الارتياب وبقى هذا الحكم إلى عصرنا هذا لم يخالف فيه أحد إلا فئة شاذة من المنحرفين عن الإسلام.
الرد على الشهبة الأولى: إن هذه الشبهة تدل على جهلهم الفاضح وعدم فهمهم لمهمة الرسول S أو سوء إدراكهم لأسرار القرآن ومقاصده وذلك منتهى الجهل والغباء، فعدم ذكر الرجم فى القرآن لا يدل على عدم المشروعية فكثير من الأحكام الشرعية لم تذكر فى القرآن وإنما بينتها السُنَّة النبوية والله تعالى قد أمرنا بإتباع الرسول والعمل بأوامره: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر7] والرسول مبلغ عن الله - عز وجل - وكل ما جاء به إنما هو بوحى سماوى من العليم الحكيم {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم3-4]، وكيف يكون الرجم غير مشروع وقد رجم S ورجم معه أصحابه وبين ذلك بهديه وفعله..!!(112/77)
ثم إن مهمة الرسول S قد بينها القرآن بقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل44]، وليس قول الرسول(1): «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» ليس هذا القول إلا من البيان الذى أشار إليه القرآن وهو نص قاطع على حكم الزاني المحصن وقد أشار S فى الحديث الشريف بقوله(2): «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ...» إلى أن سنته المطهرة بوحي من الله فثبت أن كل ما جاء به الرسول هو تشريع من الله وأنه واجب الاتباع.
الرد على الشهبة الثانية: إن قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء25]، ليس فيها دليل على ما قاله الخوارج من عدم مشروعية الرجم فإن الآية الكريمة قد أشارت إلى أن المراد بالعذاب هنا الجلد لا الرجم بدليل التنصيف فى العقوبة والله تعالى يعلم أن الرجم لا ينصف ولا يمكن للناس أن يميتوا إنسانًا نصف موتة فدل العقل والفهم السليم على أن المراد بهذه العقوبة الجلد لا الرجم.
فتجلد الأمة المتزوجة خمسين جلدة وتجلد الحرة البكر مئة جلدة والسر فى التخفيف على الأمة دون الحرة أن الجريمة من الحرة أفظع وأشنع لكون الحرة فى مأمن من الفتنة وهى أبعد عن داعية الفاحشة والأمة ضعيفة عن مقاومتها فرحم الله ضعفها وخفف العقاب عنها.
__________
(1) صحيح): مسلم 1690، أبو داود 4415، الترمذى 1434، ابن ماجة 2550، أحمد 22158.
(2) صحيح): أحمد 16722، أبو داود 4604، الترمذى 2664، ابن ماجة 12.(112/78)
الرد على الشهبة الثالثة: وأما دعواهم أن الحكم عام وتخصيصه مخالف للقرآن فجهل مطبق ألا ترى أن كثيرًا من الأحكام جاءت عامة وخصصتها السُنَّة النبوية!! مثل: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة38] فإن هذا اللفظ عام يشمل كل سارق حتى ولو كانت سرقته لشيء حقير وتافه وعلى دعواهم ينبغى أن نقطع يد من سرق فلسًا أو إبرة مع أن السُنَّة النبوية قد خصصت هذا الحكم وقيدته بربع دينار أو ما قيمته عشرة دراهم قال S(1): «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَهُ» وكذلك قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء23] لم تنص الآية على حرمة الأم والأخت من الرضاعة مع أن الرسول S بين أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فيجب أن تكون حرمة البنت من الرضاعة مخالفة للقرآن بموجب دعواهم والقرآن نهى عن الجمع بين الأختين فمن قال بحرمة الجمع بين العمة وبنت أخيها أو الخالة وبنت أختها يجب أن نحكم عليه بمخالفة القرآن.... وهذا جهل واضح لا يصدر من مسلم عاقل.
__________
(1) صحيح): البخارى 6789، مسلم 1684، أبو داود 4383، الترمذى 1445، النسائى 4914ابن ماجة 2585، أحمد 23558.(112/79)
"وقد أجمع الصحابة رضى الله تعالى عنهم ومن تقدم من السلف وعلماء الأمة وأئمة المسلمين على أن المحصن يرجم بالحجارة حتى يموت وإنكار الخوارج ذلك باطل لأنهم إن أنكروا حجية إجماع الصحابة فجهل مركب وإن أنكروا وقوعه من رسول الله S لإنكارهم حجية خبر الواحد فهو بعد بطلانه بالدليل ليس مما نحن فيه لأن ثبوت الرجم منه S متواتر المعنى وهم كسائر المسلمين يوجبون العمل بالمتواتر معنىً كالمتواتر لفظًا إلا أن إنحرافهم عن الصحابة والمسلمين أوقعهم فى جهالات كثيرة ولهذا حين عابوا على عمر بن عبد العزيز القول بالرجم من كونه ليس فى كتاب الله تعالى ألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات فقالوا ذلك من فعله S والمسلمين فقال لهم وهذا أيضًا كذلك"(1).
"وكأنى بالفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذى جعل الله الحق على لسانه وقلبه قد ألهم أمر هؤلاء الخوارج فكشف نواياهم وأطلع الناس على خبث عقيدتهم فخطب على المنبر وكان فيما قال: إن الله بعث محمدًا S بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم يعني به قوله تعالى: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم فقرأناها ووعيناها ورجم رسول الله S ورجمنا بعده وأخشى أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: لا نجد الرجم فى كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فضيلة أنزلها الله - عز وجل - فى كتابه ألا وإن الرجم حق على كل من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء وقامت البينة أو كان حمل أو اعتراف والله لولا أن يقول الناس زاد فى كتاب الله لكتبتها"(2).
__________
(1) العلامة الألوسى، روح المعانى.
(2) محمد على الصابونى، تفسير آيات الأحكام 2/16.(112/80)
شبهات الصوفية(1)
الشبهة الأولى: التوسل بالنَّبِي S ومن بعده الصالحين
التوسل بالنَّبِي Sجائز بدليل ما جاء عن عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ S فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي قَالَ: «إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قَالَ: فَادْعُهْ قَالَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ».
الرد على الشبهة وتفنيدها
__________
(1) الصوفية: حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة كرد فعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري، ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقًا مميزة معروفة باسم الصوفية، ويتوخى المتصوفة تربية النفس والسمو بها بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة لا عن طريق أتباع الوسائل الشرعية، ولذا جنحوا في المسار حتى تداخلت طريقتهم مع الفلسفات الوثنية: الهندية والفارسية واليونانية المختلفة. ويلاحظ أن هناك فروقًا جوهرية بين مفهومي الزهد والتصوف أهمها: إن الزهد مأمور به، والتصوف جنوح عن طريق الحق الذي اختطه أهل السُنَّة والجماعة.
مصادر التلقي: الكشف، الإلهام، الفراسة، الهواتف، الإسراءات والمعاريج، الكشف الحسي، الرؤى والمنامات.
الطرق الصوفية: مدرسة الزهد: وأصحابها: من النساك والزهاد والعباد والبكائين، مدرسة الكشف والمعرفة، مدرسة وحدة الوجود، مدرسة الاتحاد والحلول.(112/81)
هذا الحديث صحيح(1) إلا أن هذا الحديث حجة عليهم فيما يدَّعونه من جواز التوسل بالنَّبِي S، وهذا ظاهر جدًا من قول النَّبِي S:"إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك"، ومن جواب الرجل عليه:"فادعه".
فإن التوسل هنا مختص بالدعاء، ويؤيده قول الرجل في دعائه: "اللهم! فشفعه فيَّ"، وهذا مقتضاه حصول الدعاء من النَّبِي S إلى ربه لأجل هذا الرجل في محنته؛ لأن مقتضى الشفاعة ومعناها: الدعاء والطلب للغير.
قال ابن منظور(2): "وروي عن المبرد وثعلب أنهما قالا في قوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة255] قالا: الشفاعة: الدعاء ها هنا، والشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، وشفع إليه: في معنى طلب إليه...".
وهذا يؤيده ما رواه أنس بن مالك أن النَّبِي Sقال(3): «يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ و قَالَ ابْنُ عُبَيْدٍ فَيُلْهَمُونَ لِذَلِكَ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا قَالَ فَيَأْتُونَ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْخَلْقِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَقُولُ لَسْتُ...».
__________
(1) رواه أحمد 16789، الترمذى 3578، ابن ماجة 1385، صحيح الجامع 1279.
(2) لسان العرب، مادة (شفع).
(3) صحيح): البخارى 44، مسلم 193، الترمذى 2593، ابن ماجة 4312، أحمد 11743.(112/82)
فهذا ظاهر جدًا على أن الاستشفاع لا يكون توسلًا بالجاه، وإنما هو بالدعاء، فلو كان بالجاه لكفاهم أن يتوسلوا بجاه أحد الأنبياء دون الحاجة إلى التردد بين الأنبياء جميعًا، كما ورد في متن الحديث، وهذا لم يقع منهم، ومن ثَمَّ فلا شفاعة بغير دعاء أو طلب أو سؤال.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفلِحون}[المائدة35] فالوسيلة شرعًا: ما يُتقربُ به إلى الله ِممَّا شرعه، والتقرب إلى الله بدعائه عبادة، ومبنى العبادات على التوقيف؛ لا زيادة فيها ولا نقصان، فما هو المشروع إذن من التوسل(1)
الأول: التوسل بأسماء الله وصفاته، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف180]، وقال تعالى: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى}[الإسراء110] وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ S قَالَ(2): «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّة».
قال ابن العَرَبِي(3): "أي: اطلبوا منه بأسمائه؛ فيطلب بكل اسم ما يليق له تقول: يا رحيم ارحمني يا حكيم احكم لي، يا رازق ارزقني، يا هاد اهدني، يا فتاح افتح لي، يا تواب تُب علىَّ، وهكذا، فإن دعوت باسم عام قلت: يا مالك ارحمني، يا عزيز احكم لى، يا لطيف ارزقنى، وإن دعوت بالاسم الأعظم قلت: يا الله فهو متضمن لكل اسم ولا تقل: يا رزاق اهدني، إلا أن تريد يا رزاق اُرزقنى الخير، وكذا رتب دعاءك تكن من المخلصين".
__________
(1) راجع رسالة الشيخ الألباني-رحمه الله- في التوسل جمع أحمد عباس.
(2) صحيح): البخاري 6410، مسلم 6750، الترمذي 3506، ابن ماجة 386، أحمد 2/258.
(3) كما فى تفسير القُرطُبيّ 7/207.(112/83)
الثانى: التوسل بالعمل الصالح، وهو أن يتقرب العبد إلى الله تعالى بعمل صالح، يظن أنه أخلص فيه لله فيدعو به فالمؤمنون يقولون: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة5] وهذا عمل صالح -أي: العبادة- ثم قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}[آل عمران193] وهذا عمل صالح -أي: الإيمان-، ثم قالوا: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ}[آل عمران193]، وهذا دعاء.
وحديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فانطبقت عليهم صخرة، فلم يخرجوا من الغار، ولم ينجوا إلا بدعائهم بصالح أعمالهم.
الثالث: التوسل بدعاء الصالحين؛ وهو أن يطلب دعاء من يظن أنه من أهل الصلاح والتقوى، فقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يتوسلون إلى الله بنبيهم ليسقيهم الله الغيث، فيدعو النَّبِىّ فيُسقوا الغيث بإذن الله، وحديث الأعرايى الذي قال: يا رسول الله اُدع الله أن يسقينا الغيث وكان النَّبِىّ Sعلى المنبر فدعا الله فسُقوا بإذن الله والحديث فى الصحيحين.(112/84)
ولما مات النَّبِىّ S وأصابهم قحط على عهد عمر بن الخطاب (عام الرمادة)، كان عمر يتوسل إلى الله بالعباس بن عبد المطلب، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ(1): "اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا قَالَ فَيُسْقَوْنَ"، وكذا كان معاوية - رضي الله عنه - يستسقى بيزيد بن الأسود الجرشي والضحاك، فكان معاوية يُجلس يزيد معه على المنبر ويقول(2): قم يا يزيد، اللهم إن كنا نتوسل إليك بخيارنا وصلحائنا فيستسقي الله فيُسقون، وكذا توسل معاوية بأبي مسلم الخراسانى(3) وهذا معناه؛ أن التوسل بدعاء الصالحين الذين هم على قيد الحياة أمَّا بعد موتهم فلا يجوز البتة، وإلا لعدل عمر بن الخطاب عن دعاء العباس لهم، وتوسل بالنَّبِيّ S بعد مماته، وهذا ما لم يفعله - رضي الله عنه -، ولو لم يكن في النصوص على عدم جواز التوسل بذوات الأنبياء والصالحين، غير توسل عمر بدعاء العباس، وتركه التوسل بذات النَّبِىّ S لكفى، وما أحسن ما قاله الإمام أبو حنيفة: "وأكره أن يُسأل الله إلا بالله" كما فى الدر المختار وغيره من كتب الحنفية.
__________
(1) صحيح): البخاري1010، المجموع للنووي5/65، الحاوي للمواردي 4/144، وانظر المغني لابن قدامة3/346، شرح السُنَّة للبغوي 2/655.
(2) القصة صححها ابن حجر في تلخيص الحبير 2/206، وانظر البداية والنهاية 8/328.
(3) انظر الزهد لأحمد بن حنبل 469.(112/85)
هذه هي أنواع التوسل الثلاثة، وأدلتها من الكتاب والسُنَّة، فليتق الله الذين يدْعُون أصحاب القبور، وليعلموا أنه تعالى النافع الضار الذى يُجيب دعوة الداع إذا دعاه، وإذا قال قائل: والله لقد دعوت عند قبر الشيخ الفلاني واستُجيب لي، أقول له: "كثيرًا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستُجيب لهم، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة مصاحبة، وإقبال على الله، أو حسنة تقدمت منه، فجعل الله - سبحانه وتعالى - إجابة دعوته شكرًا لحسنته، أو صادف وقت إجابة ونحو ذلك، فأُجيبت دعوته، فيظن الظان أن السر فى لفظ الدعاء؛ فيأخذه مجردًا عن تلك الأمور التى قارنته من ذلك الداعي.
"وهذا كما إذا استعمل رَجُل دواءً نافعًا، في الوقت الذي ينبغي استعماله على الوجه الذي ينبغي، فانتفع به، فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده كافٍ فى حصول المطلوب كان غالطًا، وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس، ومن هذا أنه قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر، فيظن الجاهل أن السر للقبر، ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجوء إلى الله، فإذا حصل ذلك فى بيت من بيوت الله كان أفضل وأحب إلى الله"(1).
شبهات الموسوعات العالمية
الشبهة الأولى: تعدد زوجات النَّبِي يدل على أنه شهوانى
لقد كان محمد رجلًا شهوانيًا يسير وراء شهواته وملذاته ويمشى مع هواه لم يكتف بزوجة واحدة أو بأربع كما أوجب على أتباعه بل عدد الزوجات فتزوج عشر نسوة أو يزيد سيرًا مع الشهوة وميًلا مع الهوى!
الرد على الشبهة وتفنيدها(2)
تعدد نساء الأنبياء:
__________
(1) الداء والدواء 1/16.
(2) د/ منقذ السقار، موقع www/haridy.com فى 25/12/2001م.(112/86)
لقد ذكر الكتاب المقدس تعدد نساء الأنبياء فذكر لإبراهيم ثلاثًا سوى السراري، وذكر ليعقوب أربع زوجات فيما ذكروا ولداو د تسع زوجات وعشرات الإماء، وأما سليمان الذي تقول التوراة بأن الله قال عنه: "أنا أكون له أبًا، وهو يكون لي ابنًا"(1) ويقول عنه كتبة الأسفار أيضًا "أحب الملك نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون: مؤابيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات، ومن الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل: لا تدخلون إليهم ولا يدخلون إليكم، لأنهم يميلون قلوبهم وراء آلهتهم، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة وكانت له سبع مئة من النساء السيدات، وثلاث مئة من السراري، فأمالت نساؤه قلبه، وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب دأود أبيه"(2).
ويجدر هنا أن نذكر أن داود على كثرة نسائه كان كاملًا مع الرب، رغم أن التوراة تذكر زناه بامرأة أو ريا الحثي وحاشاه - عليه السلام -.
ثم كيف لهؤلاء أن يسقطوا حق النبوة من التعظيم بسبب كثرة الزوجات وهم لم يسقطوها للأنبياء وقد رموهم بأعظم الفواحش من زنا وخمر؟ وهو بكل حال أشد من تعدد الزوجات، وتعدد زوجات النَّبِي S كانت لحكمة أبعد وأعمق مما تصوره هؤلاء، فزواجه لم يكن لغرض دنيوي فحسب، ولو كان دافع الزواج حاجة الجسد فقط لكان ذلك في شبابه أولى، فقد تزوج رسول الله S من خديجة وعمره خمس وعشرون سنة، وهي تكبره بخمس عشرة سنة، وبقيت وحيدة عنده حتى وفاتها، ثم تزوج بعد وفاتها بثلاث سنين من سودة بنت زمعة وعائشة بنت الصديق ثم بقية أزواجه، وقد كان زواجه من عائشة وسودة وعمره ثلاث وخمسون سنة.
وقد كانت جميع أزواجه -خلا عائشة- ثيبات، وفيهن من لا يرغب بزواجها لكبر سنها كسودة، وفيهن من قاربت الأربعين كأم سلمة.
__________
(1) صموئيل 7 /14.
(2) ملوك 11/1-8.(112/87)
وأما عائشة فكانت البكر الوحيدة في نسائه وأصغرهن، وهنا يلمز هؤلاء فارق السن بينها وبين رسول الله S، ويغفلون عن خصائص البيئة العربية التي لا تجعل لفارق السن كبير اعتبار، إذ تنصرف الهمم لإنجاب الذرية، وكلما صغر عمر المرأة زادت خصوبتها.
ثم إن هؤلاء يرون من زواجه S من عائشة ما يستحق القدح، ولا يرون ذلك في زواج إبراهيم - عليه السلام - من هاجر وقد دخل عليها وعمره خمس وثمانون سنة(1) كما أن داود - عليه السلام - قد تزوج في شيخوخته أبيشج الشمونية، وبينهما من العمر ما يقارب الخمسين سنة(2).
فلو كان المراد من الزواج الجرى وراء الشهوة أو السير مع الهوى أو مجرد الاستمتاع بالنساء لتزوج فى سن الشباب لا فى سن الشيخوخة ولتزوج الأبكار الشابات لا الأرامل المُسنات وهو القائل لجابر بن عبد الله حين جاءه وعلى وجهه أثر التطيب والنعمة(3): «هَلْ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا فَقَالَ: هَلَّا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ».
فالرسول الكريم أشار عليه أن يتزوج البكر وهو S يعرف طريق الاستمتاع وسبيل الشهوة فهل يعقل أن يتزوج الأرامل ويترك الأبكار ويتزوج فى سن الشيخوخة ويترك سن الصبا إذا كان غرضه الاستمتاع والشهوة؟!
إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفدون رسول الله Sبمهجهم وأرواحهم ولو أنه طلب الزواج لما تأخر أحد منهم عن تزويجه بمن يشاء من الفتيات الأبكار الجميلات فلماذا لم يعدد الزوجات فى مقتبل العمر وريعان الشباب ولماذا ترك الزواج بالأبكار وتزوج الثيبات؟
__________
(1) انظر التكوين 16/16.
(2) انظر الملوك 1/1-4.
(3) صحيح): البخارى 2967، مسلم 715، أبوداود 3347، الترمذى 1100، النسائى 4590، ابن ماجة 1860، أحمد13710.(112/88)
إن هذا بلا شك يدفع كل تقول وافتراء ويدحض كل شبهة وبهتان ويرد على كل أفاك أثيم يريد أن ينال من قدسية الرسول أو يشوه سمعته فما كان زواج الرسول بقصد الهوى أو الشهوة وإنما كان لحكم جليلة وغايات نبيلة وأهداف سامية سوف يقر الأعداء بنبلها وجلالها إذا ما تركوا التعصب الأعمى وحكموا منطق العقل والوجدان وسوف يجدون فى هذا الزواج "المثل الأعلى" في الإنسان الفاضل الكريم والرسول النَّبِي الرحيم الذى يضحي براحته فى سبيل مصلحة غيره وفى سبيل مصلحة الدعوة والإسلام.
حكمة تعدد زوجات الرسول S
إن الحكمة من تعدد زوجات الرسول كثيرة ومتشبعة ويمكننا أن نجملها فيما يلى:
أولًا: الحكمة التعليمية
لقد كانت الغاية الأساسية من تعدد زوجات الرسول S هى تخريج بضع معلمات للنساء يعلمنهن الأحكام الشرعية فالنساء نصيف المجتمع وقد فُرض عليهن من التكليف ما فرض على الرجال.
وقد كان الكثيرات منهن يستحيين من سؤال النَّبِي S عن بعض الأمور الشرعية وخاصة المتعلقة بهن كأحكام الحيض والجنابة والنفاس والأمور الزوجية وغيرها من الأحكام وقد كانت المرأة تغالب حياءها حينما تريد أن تسأل الرسول الكريم عن بعض هذه المسائل.
كما كان من خلق الرسول S الحياء الكامل وكان –كما تروى السُنَّة النبوية- أشد حياء من العذراء فى خدرها فما كان S يستطيع أن يجيب عن كل سؤال يعرض عليه من جهة النساء بالصراحة الكاملة بل كان يكنى فى بعض الأحيان ولربما لم تفهم المرأة عن طريق الكناية مراده - عليه السلام -.(112/89)
تروى السيدة عائشة -رضى الله عنها-أن امرأة من الأنصار سألت النَّبِي S عن غُسلها فى المحيض فعلمها S كيف تغتسل فقَالَ(1): «خُذِي فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ قَالَ: تَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِي».
قالت السيدة عائشة: فاجتذبتها من يدها فقلت: ضعيها فى مكان كذا وكذا وتتبعى بها أثر الدم وصرحت لها بالمكان الذى تضعها فيه.
فكان S يستحى من مثل هذا التصريح وهكذا كان القليل أيضًا من النساء من تستطيع أن تتغلب على نفسها وعلى حيائها فتجاهر الرسول S بالسؤال عما يقع لها.
نأخذ مثلًا لذلك حديث أم سلمة، وفيه تقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ قَالَ النَّبِيُّ S(2): «إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَعْنِي وَجْهَهَا وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ قَالَ: نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا».
مراده S أن الجنين يتولد من ماء الرجل, وماء المرأة, ولهذا يأتى له شبه بأمه وهذا كما قال الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان2].
قال ابن كثير: "أمشاج: أى أخلاط, والمشج والمشيج الشيء المختلط بعضه فى بعض قال ابن عباس: يعنى ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا...."
__________
(1) صحيح): البخارى 314، مسلم 332، أبوداود 314، النسائى 251، ابن ماجة 642، أحمد 24386.
(2) صحيح): البخارى 130، مسلم 313، الترمذى 122، النسائى 195، ابن ماجة 600، أحمد 25964.(112/90)
وهكذا مثل هذه الأسئلة المحرجة كان يتولى الجواب عنها فيما بعد زوجاته الطاهرات ولهذا تقول السيدة عائشة - رضي الله عنه -ا: رحم الله نساء الأنصار ما منعهن الحياء أن يتفقهن فى الدين.
وكانت المرأة منهن تأتى إلى السيدة عائشة في الظلام لتسألها عن بعض أمور الدين وعن أحكام الحيض والنفاس والجنابة وغيرها من الأحكام فكان نساء الرسول خير معلمات وموجهات لهن وعن طريقهن تفقهن النساء في دين الله.
ثم أنه من المعلوم أن السُنَّة المطهرة ليست قاصرة على قول النَّبِي S فحسب بل هي تشمل قوله وفعله وتقريره وكل هذا من التشريع الذى يجب على الأمة اتباعه فمن ينقل لنا أخباره وأفعاله S في المنزل غير هؤلاء النسوة اللواتي أكرمهن الله فكن أمهات للمؤمنين وزوجات لرسوله الكريم فى الدنيا والآخرة؟!
لا شك أن لزوجاته الطاهرات رضوان الله عليهن أكبر الفضل في نقل جميع أحواله وأطواره وأفعاله المنزلية عليه أفضل الصلاة والتسليم.
ثانيًا: الحكمة التشريعية:
وهذه الحكمة ظاهرة تدرك بكل بساطة وهي أنها كانت من أجل إبطال بعض العادات الجاهلية المستنكرة ونضرب لذلك مثلًا بدعة التبنى التى كان يفعلها العرب قبل الإسلام فقد كانت دينًا متوارثًا عندهم يتبنى أحدهم ولدًا ليس من صُلبة ويجعله فى حكم الولد الصلبي ويتخذه ابنًا حقيقيًا له حكم الأبناء من النسب في جميع الأحوال: فى الميراث والطلاق والزواج ومجرمات المصاهرة ومحرمات النكاح إلى غير ما هنالك مما تعارفوا عليه وكان دينًا تقليديًا متبعًا في الجاهلية.
كان الواحد منهم يتبنى ولد غيره فيقول له: أنت ابنى أرثك وترثنى وما كان الإسلام ليقرهم على باطل ولا ليتركهم يتخبطون في ظلمات الجهالة فمهد لذلك بأن ألهم رسوله S أن يتبنى أحد الأبناء -وكان ذلك قبل البعثة- فتبنى S زيد بن حارثة على عادة العرب قبل الإسلام.(112/91)
وفي سبب تبنيه قصة من أروع القصص وحكمة من أروع الحكم ذكرها المفسرون وأهل السير لا يمكننا الآن ذكرها لعدم اتساع المجال وهكذا تبنى الرسول الكريم زيد بن حارثة وأصبح الناس يدعونه بعد ذلك اليوم زيد بن محمد(1).
قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رضي الله عنه -(2): إنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ S مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب5] فقال النَّبِي S: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل.
وقد زوجه S بنت عمته زينب بنت جحش الأسدية وقد عاشت معه مدة من الزمن لكنها لم تطل فقد ساءت العلاقات بينهما فكانت تغلظ له القول وترى أنها أشرف منه لأنه كان عبدًا مملوكًا قبل أن يتبناه الرسول وهي ذات حسب ونسب.
__________
(1) انظر الألوسي والقرطبي وأحكام القرآن لابن العربي ففيها القصة مفصلة.
(2) صحيح): البخارى 4782، مسلم 2425، الترمذى 3209، أحمد 5455.(112/92)
ولحكمة يريدها الله تعالى طلق زيد زينب فأمر الله رسوله أن يتزوجها ليبطل بدعة التبنى ويقيم أسس الإسلام ويأتى على الجاهلية من قواعدها ولكنه S كان يخشى من ألسنة المنافقين والفجار أن يتكلموا فيه ويقولوا تزوج محمد امرأة ابنه فكان يتباطأ حتى نزل العتاب الشديد لرسول الله S فى قوله جل وعلا: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب37]، وهكذا انتهى حكم التبني وبطلت تلك العادات التى كانت متبعة في الجاهلية وكانت دينًا تقليديًا لا محيد عنه ونزل قوله تعالى مؤكدًا هذا التشريع الإلهى الجديد: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِي ينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[الأحزاب40].
وقد كان هذا الزواج بأمر من الله تعالى ولم يكن بدافع الهوى والشهوة كما يقول الأفاكون المرجفون من أعداء الله وكان لغرض نبيل وغاية شريفة هى إبطال عادات الجاهلية وقد صرح الله - عز وجل - بغرض هذا الزواج بقوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}[الأحزاب37].
وقد تولى الله - عز وجل - تزويج نبيه الكريم بزينب امرأة ولده من التبني ولهذا كانت تفخر على نساء النَّبِي بهذا الزواج الذى قضى به رب العزة من فوق سبع سماواته(1).
وهكذا كان هذا الزواج للتشريع وكان بأمر الحكيم العليم فسبحان من دقت حكمته أن تحيط بها العقول والأفهام وصدق الله: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا}[الإسراء85].
__________
(1) صحيح): البخارى 7420، مسلم 86، الترمذى 3212.(112/93)
ثالثًا: الحكمة الاجتماعية:
وهذه تظهر بوضوح فى تزويج النَّبِي S بابنة الصديق الأكبر أبى بكر - رضي الله عنه - وزيره الأول ثم بابنة وزيره الثاني الفاروق عمر - رضي الله عنه - وأرضاه ثم باتصاله S بقريش اتصال مصاهرة ونسب وتزوجه العديد منهن مما ربط بين هذه البطون والقبائل برباط وثيق وجعل القلوب تلتف حوله وتلتقى حول دعوته في إيمان وإكبار وإجلال.
لقد تزوج النَّبِي S بالسيدة عائشة بنت أحب الناس إليه وأعظمهم قدرًا إليه ألا وهو أبو بكر الصديق الذى كان أسبق الناس إلى الإسلام وقدم نفسه وروحه وماله في سبيل نصرة دين الله والذود عن رسوله وتحمل ضروب الأذى في سبيل الإسلام حتى قال S مُشيدًا بفضل أبي بكر(1): «(مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِيهِ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا أَلَا وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ».
فلم يجد الرسولS مكافأة في الدنيا لأبي بكر أعظم من أن يُقر عينه بهذا الزواج بابنته ويصبح بينهما مصاهرة وقرابة تزيد في صداقتهما وترابطهما الوثيق.
__________
(1) صحيح): أحمد 7397، الترمذى 3661، ابن ماجة 94، صحيح الجامع 5661 وما بين قوسين ضعيف انظر ضعيف الجامع 5130 .(112/94)
كما تزوج S بالسيدة حفصة بنت عمر فكان ذلك قرة عين لأبيها عمر على إسلامه وصدقه وإخلاصه وتفانيه في سبيل هذا الدين وعمر هو بطل الإسلام الذي أعز الله به الإسلام والمسلمين ورفع به منار الدين فكان اتصاله S به عن طريق المصاهرة خير مكافأة له على ما قدم في سبيل الإسلام وقد ساوى S بينه وبين وزيره الأول أبي بكر في تشريفه بهذه المصاهرة فكان زواجه بابنتيهما أعظم شرف لهما بل أعظم مكافأة ومنة ولم يكن بالإمكان أن يكافئهما في هذه الحياة بشرف أعلى من هذا الشرف فما أجلَّ سياسته؟ وما أعظم وفاءه للأوفياء المخلصين!!
كما يقابل ذلك إكرامه لعثمان وعلي - رضي الله عنهم - بتزويجهما ببناته وهؤلاء الأربعة هم أعظم أصحابه وخلفاؤه من بعده في نشر ملته وإقامة دعوته فما أجلها من حكمة وما أكرمها من نظرة!!
رابعًا: الحكمة السياسية:
لقد تزوج النَّبِي S ببعض النسوة من أجل تأليف القلوب عليه وجمع القبائل حوله فمن المعلوم أن الإنسان إذا تزوج من قبيلة أو عشيرة يصبح بينه وبينهم قرابة ومصاهرة وذلك بطبيعته يدعوهم إلى نصرته وحمايته ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك لتتضح لنا الحكمة التى هدف إليها الرسول الكريم من وراء هذا الزواج.
أولًا: تزوج صلوات الله عليه بالسيدة جويرية بنت الحارث؛ سيد بني المصطلق وكانت قد أُسرت مع قومها وعشيرتها ثم بعد أن وقعت تحت الأسر أرادت أن تفتدي نفسها فجاءت إلى رسول الله S تستعينه بشيء من المال فعرض عليها الرسول الكريم أن يدفع عنها الفداء وأن يتزوج بها فقبلت فتزوجها فقال المسلمون: أصهار رسول الله S تحت أيدينا أي أنهم في الأسر فأعتقوا جميع الأسرى الذين كانوا تحت أيديهم فلما رأى بنو المصطلق هذا النبل والسمو وهذه الشهامة والمروءة أسلموا جميعًا ودخلوا في دين الله وأصبحوا من المؤمنين.
فكان زواجه S بها بركة عليها وعلى قومها وعشيرتها لأنه كان سببًا لإسلامهم وعتقهم وكانت جويرية أيمن امرأة على قومها.(112/95)
فعن عائشة -رضى الله عنها- أنها قالت(1): أصاب رسول الله S نساء المصطلق فأخرج الخُمس منه ثم قسمه بين الناس فأعطى الفرس سهمين والرجل سهمًا فوقعت جويرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس فجاءت إلى الرسول فقالت: يارسول الله أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه وقد أصابنى من الأمر ما قد علمت وقد كاتبنى ثابت على تسع أواق فأعني على فكاكي فقال - عليه السلام -: أو خير من ذلك؟ فقالت: ما هو؟ فقال: أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك فقالت: نعم يارسول الله فقال رسول الله: قد فعلت.
وخرج الخبر إلى الناس فقالوا: أصهار رسول الله يسترقون؟ فأعتقوا ما كان في أيديهم من سبي بني المصطلق فبلغ عتقهم مائة بيت بتزوجه S بنت سيد قومه.
ثانيًا: "وكذلك تزوجهS بالسيدة صفية بنت حُيي بن أخطب التى أسرت بعد مقتل زوجها في غزوة خيبر ووقعت في سهم بعض المسلمين فقال أهل الرأي والمشورة: هذه سيدة بني قريظة لا تصلح إلا لرسول الله S فعرضوا الأمر على الرسول الكريم فدعاها وخيرها بين أمرين:
إما أن يعتقها ويتزوجها S فتكون زوجة له.
وأما أن يطلق سراحها فتلحق بأهلها.
فاختارت أن يعتقها وتكون زوجة له وذلك لما رأته من جلالة قدره وعظمته وحسن معاملته وقد أسلمت وأسلم بإسلامها عدد من الناس"(2).
__________
(1) حسن): أحمد 25833، أبو داود 3931، صحيح سنن أبى داود 4/22.
(2) صحيح): البخارى 371، مسلم 1345، أبو داود 2045، الترمذى 1095، النسائى 547، ابن ماجة 1909، أحمد11532.(112/96)
ثالثًا: "وكذلك تزوج رسول الله S بالسيدة حبيبة رملة بنت أبى سفيان الذى كان في ذلك الحين حامل لواء الشرك وألد الأعداء لرسول الله S وقد أسلمت ابنته في مكة ثم هاجرت مع زوجها إلى الحبشة فرارًا بدنها وهناك مات زوجها فبقيت وحيدة فريدة لا معين لها ولا أنيس فلما علم الرسول الكريم بأمرها أرسل إلى النجاشي ملك الحبشة ليزوجه إياها فأبلغها النجاشي ذلك فسرت سرورًا لا يعرف مقداره إلا الله سبحانه لأنها لو رجعت إلى أبيها أو أهلها لأجبروها على الكفر والردة أو عذبوها عذابًا شديدًا وقد أصدقها عنه أربعمائة دينار.
ولما بلغ أبا سفيان الخبر أقر ذلك الزواج وقال: هو الفحل لا يقعد أنفُه فافتخر بالرسول ولم ينكر كفاءته له إلى أن هداه الله تعالى للإسلام"(1).
ومن هنا تظهر لنا الحكمة الجليلة في تزوجه S بابنة أبي سفيان فقد كان هذا الزواج سببًا لتخفيف الأذي عنه وعن أصحابه المسلمين سيما بعد أن أصبح بينهما نسب وقرابة مع أن أبا سفيان كان وقت ذاك من ألد بني أمية خصومة لرسول الله ومن أشدهم عداء له وللمسلمين فكان تزوجه بابنته سببًا لتأليف قلبه وقلوب قومه وعشيرته كما أنه S اختارها لنفسه تكريمًا لها على إيمانها لأنها خرجت من ديارها فارة بدينها فما أكرمها من سياسة وما أجلها من حكمة!!
الشبهة الثانية: التشكيك فى صحة الأحاديث النبوية كاملة
إن الحديث بقي مائتي سنة غير مكتوب، ثم بعد هذه المدة الطويلة قرر المحدثون جمع الحديث، وصاروا يأخذون عمن سمعوا الأحاديث، فصار هؤلاء يقول الواحد منهم: سمعت فلانًا يقول سمعت فلانًا عن النَّبِي.
__________
(1) راجع القصة كاملة، ابن كثير البداية والنهاية 4/145، ابن هشام السيرة النبوية 2/80.(112/97)
إلى جانب أنه لما ظهرت الفتن والانقسامات والفرق السياسية قامت بعض الفرق بوضع أحاديث مزورة حتى تُثبت أنها على حق، وعلى هذا يصعب الحكم بأن هذا الحديث صحيح أو هذا الحديث موضوع بل إن المحدثين صنفوا الحديث إلى أنواع كثيرة مضطربة لا تستطيع أن تضبطها.
الرد على الشبهة وتفنيدها(1)
إن تدوين الحديث قد بدأ منذ العهد الأول في عصر النَّبِي S، وشمل قسمًا كبيرًا من الحديث، والمطالع للكتب المؤلفة في رواة الحديث يجد نصوصًا تاريخية مبثوثة في تراجم هؤلاء الرواة تُثبت كتابتهم للحديث بصورة واسعة جدًا تدل على انتشار التدوين وكثرته البالغة، حتى لقد يقع في ظن الباحث أن الحديث قد دُوِّن جميعُه منذ عهده المبكر.
فتصنيف الحديث على الأبواب في المصنفات والجوامع مرحلة متطورة متقدمة كثيرًا في كتابة الحديث، وقد تم ذلك قبل سنة 200 للهجرة بكثير، بل إنه قد تم في أوائل القرن الثاني، بين سنة 120ـ 130 هـ، بدليل الواقع الذي يحدثنا عن ذلك، فهناك جملة من هذه الكتب مات مصنفوها في منتصف المائة الثانية، مثل جامع معمر بن راشد (154) وجامع سفيان الثوري (161) وهشام بن حسان (148) وابن جريج (150) وغيرها كثير.
وقد وجد العلماء بعض هذه الجوامع، ويجري الآن تحقيق جامع معمر بن راشد في الهند، ليكون إخراجه شاهد حق ودليل صدق على ما بيناه في هذه المسألة.
__________
(1) أ. د / نور الدين عتر، من كتاب "منهج النقد في علوم الحديث".(112/98)
إن علماء الحديث وضعوا شروطًا لقبول الحديث تكفل نقله عبر الأجيال بأمانة وضبط، حتى يُؤدَّى كما سُمِع من رسول الله S ويتضح هذا للمطلع على شروط الراوي فى كتب مصطلح الحديث التي تشترط أن يتوفر فيه الصدق لما اجتمع فيه من الدوافع الدينية والاجتماعية والنفسية، مع الإدراك التام لتصرفاته وتحمل المسئولية، وقوة الحفظ والضبط بصدره أو بكتابه أو بهما معًا مما يمكنه من استحضار الحديث وأدائه كما سمعه، وكذا سلامة تناقل الحديث بين حلقات الإسناد وسلامته من القوادح الظاهرة والخفية، والمطلع على علم الحديث يرى دقة تطبيق المحدثين لهذه الشروط في الحكم على الحديث بالضعف لمجرد فقد دليل على صحته، من غير أن ينتظروا قيام دليل مضادٍّ له.
إن علماء الحديث لم يكتفوا بهذا، بل تنبهوا إلى عوامل في الرواية المكتوبة لم يتنبه إليها هؤلاء المتطفلون بالاقتراح عليهم، فقد اشترط المحدثون في الرواية المكتوبة شروط الحديث الصحيح، لذلك نجد على مخطوطات الحديث تسلسل سند الكتاب من راو إلى آخر حتى يبلغ مؤلفه، ونجد عليها إثبات السماعات وخط المؤلف أو الشيخ المسمع الذي يروي النسخة عن نسخة المؤلف أو عن فرعها.
فكان منهج المحدثين بذلك أقوى وأحكم، وأعظم حيطة من أي منهج في تمحيص الروايات، والمستندات المكتوبة.
إن البحث عن الإسنادلم ينتظر مائتي سنة كما وقع في كلام هؤلاء، بل فتش الصحابة عن الإسناد منذ العهد الأول حين وقعت الفتنة سنة 35 هجرية، لصيانة الحديث من الدس.
وقد ضرب المسلمون للعالم المثل الفريد في التفتيش عن الأسانيد، حيث رحلوا إلى شتى الآفاق بحثًا عنها، واختبارًا لرواة الحديث، حتى اعتبرت الرحلة شرطًا أساسيًا لتكوين المحدث.(112/99)
إن المسلمين لم يغفلوا عما اقترفه الوضاعون وأهل البدع والمذاهب السياسية من الاختلاق في الحديث، بل بادروا لمحاربة ذلك باتباع الوسائل العلمية الكافلة لصيانة السُنَّة في قيود رواية المبتدع، ولبيان أسباب الوضع وعلامات الحديث الموضوع.
إن هذا التنوع الكثير للحديث ليس بسبب أحواله من حيث القبول أو الرد فقط، بل إنه يتناول إضافة إلى ذلك أبحاث رواته وأسانيده ومتونه، وهو دليل على عمق نظر المحدثين ودقة بحثهم، فكان على هؤلاء أن يسلموا لهم، كما أننا نستدل على دقة العلم وإحكام أهله له بتقاسيمه وتنويعاته، بل لا يُعد علمًا ما ليس فيه تقسيم أقسام وتنويع أنواع!!
إن علماء الحديث قد أفردوا لكل نوع من الحديث وعلومه كُتبًا تجمع أفراد هذا النوع من أحاديث، أو أسانيد أو رجال، فلا يصلح بعد هذا أن يقول قائل كيف نعرف هذا الحديث أنه صحيح من بين تلك الأنواع.
ونحن نقول له: كذلك وقع التنوع في كل علم وكل فن، فلو قال إنسان كيف نحكم على هذا المرض بأنه كذا وأنواع الأمراض تعد بالمئات، وكيف نبين هذا المركب الكيمائي من بين المركبات التي تعد بالآلاف لأحلناه إلى الخبراء المتخصصين ليأخذ منهم الجواب الشافي والحل المقنع.
فكما يرجع في الطب إلى الأطباء، وفي الهندسة إلى المهندسين وفي الكيمياء إلى علمائها، والصيدلة إلى أصحابها.... كذلك فارجع في الحديث إلى علماء الشرع المتخصصين في هذا العلم لأخذ البيان الجلي المُدعم بالأدلة القاطعة عن كل حديث تُريده وتود معرفة حاله.
الخَاتِمَةُ(112/100)
إن دين الإسلام هو الدين الحق الذى ارتضاه الله للناس دينا؛ قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة3]، فعلى المسلمين أن يعوا خطورة الادِّعاءات التي تُثار حول دينهم وعقيدتهم، كما يجب عليهم تفّحُص الخطاب المغلف الذي يوجه إليهم من الغرب، فكم من رزية حسبناها هدية، وكم من محنة توهمناها منحة.
فأعداء الإسلام لا يتوانون عن إلصاق الشُبهات التى من شأنها أن تعوق حركة المد الإسلامى التى يكتسح بها قارات العالم، ومن أجل ذلك؛ يجب على المسلمين أن يعملوا على تكوين منظمات إسلامية للدفاع عن الإسلام ودحض شبهات أعدائه، بأسلوب علمي رصين؛ يقوم برصد كل ما يقع من شبهات وافترءات وردها على المستويين الإقليمى والعالمى، يتبعون فى ذلك الأتى:
توظيف الإعلام بأجهزته المختلفة ووسائله لخلق وعي ديني سليم، والرد على هجمات الغرب فى إساءته للإسلام.
التعامل مع شبهات أعداء الإسلام من خلال هيئة متخصصة تصدر أحكامها عن دراسة متأنية مستبصرة وليس من موقف انحيازى لفكر أو منهج.
تعريف المجتمع الإسلامى بشبهات أعدائه ومآربهم، من خلال عقد المحاضرات الدينية والتثقيفية على مدار السنة.
إعداد الخطباء الأكفاء الذين يوضحون ويبرزون هذه الشبهات والرد عليها، واستغلال المناسبات الدينية لذلك.
استكتاب علماء أجلاء لمعالجة تلك القضايا، وتشجيع الكتب التى تُفند تلك الشبهات.
قيام العلماء والأئمة بواجبهم في رفع الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية والسنن النبوية عن الناس بنشر الحق في تلك الشبهات.
النشر على شبكة الدولية (الإنترنت) بإنشاء موقع متخصص فى ذلك.
تدريس بعض تلكُم الشبهات فى المناهج الدراسية بداية من المرحلة الإعدادية فى مصر وغيرها من بلاد الإسلام.
الاهتمام بالأقليات المسلمة فى ذلك الشأن وإمدادهم بما يُحصنهم من ردود مترجمة كل على حسب لغته.(112/101)
هذا آخرُ ما قصدتُه من هذا البحث، وقد مَنّ اللّه الكريمُ فيه بما هو أهلٌ له من الفوائد ، واللّه المحمودُ على ذلك فنعمه لا تُحصى، وله المِنّة أن هداني لذلك، ووفّقني لجمعه ويَسَّرَه عليّ، وأعانني عليه؛ فله الحمدُ والامتنانُ والفضلُ والطَّوْلُ والشكرانُ .
والحمدُ للّه ربّ العالمين أوّلًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وصلواتُه وسلامُه الأطيبان الأتمّان الأكملان على سيدنا محمد خير خلقه أجمعين، كلما ذكره الذاكرون، وغَفَل عن ذكره الغافلون، وعلى سائر النبيّينَ وسائر الصالحين .
المصادر والمراجع
الإصابة فى صحة حديث الذبابة، د/ خليل إبراهيم الملا خاطر، الطبعة الأولى 1405هـ، دار القبلة للثقافة الإسلامية- جدة.
البداية والنهاية – لابن كثير- دار الريان- مصر 1988م.
تأويل مختلف الحديث- ابن قتيبة- دار الكتب العلمية- بيروت.
تفسير القرآن العظيم – للحافظ ابن كثير – دار الغد العربى.
تفسير القُرطُبيّ – للإمام القُرطُبيّ – طبعة دار الكتب العلمية-بيروت- 1993م.
تفسير آيات الأحكام – محمد على الصابونى-دار الصابونى- ط الأولى-1999 القاهرة.
حُجية السُنَّة، د/ عبد الغنى عبد الخالق، دار القرآن الكريم-بيروت-1407هـ.
دفاع عن السُنَّة- أ.د/ محمد أبو شهبة- مكتبة السُنَّة-القاهرة-1989م.
ردود عن الشبهات المثارة من المستشرقين نشرت بموقع الأزهر الشريف.
السلسلة الصحيح للألباني- المكتب الإسلامى- الأردن.
السيرة النبوية لابن هشام، طبعة دار الجيل، الطبعة الأولى، بيروت.
ضعيف وصحيح الجامع الصغير- الألبانى - المكتب الإسلامي- بيروت.
العلمانية بين الغرب والإسلام- أ.د/ محمد عمارة- دار الوفاء-القاهرة 1996م.
العلمانية؛ نشأتها وتطورها وآثارها فى الحياة الإسلامية المعاصرة، د/ سفر الحوالى- الدار السلفية – الكويت- 1987م.
فتح الباري شرح صحيح البخاري – للحافظ ابن حَجَرِ- دار الريان- مصر.
في ظلال القرآن – سيد قطب- دار الشروق- بيروت.(112/102)
لسان العرب- ابن منظور- إحياء التراث العربى.
الموسوعة الإسلامية العامة- وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، إشراف أ.د/ محمود حمدى زقزوق- القاهرة 2003م.
الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويت.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة- الطبعة الرابعة- دار الندوة العالمية للشباب الإسلامي، 1420هـ
فهرس
مقدمة ... 3
تعريف الشبهة ... 7
أسباب الاشتباه ... 8
شبهات المستشرقين ... 10
الشبهة الأولى: نشر محمدٌ دينه الإسلامي بالسيف ... 10
الرد على الشبهة وتفنيدها ... 10
الشبهة الثانية: استبدل محمدٌ عبادة وثنية بأخرى وثنية ... 21
الرد على الشبهة وتفنيدها ... 21
شبهات العلمانيين ... 25
الشبهة الأولى: أنتم أعلم بأمور دنياكم. ... 25
الرد على الشبة وتفنيدها ... 25
الشبهة الثانية: غمس الذباب في الإناء لا يقره العقل ... 30
الرد على الشبهة وتفنيدها ... 30
الشبهة الثالثة: التداوي بأبوال الإبل وألبانها ... 32
الرد على الشبهة وتفنيدها ... 32
شبهات القرآنيين ... 32
الشبهة الأولى: لا حاجة لنا بالسُنَّة فالقرآن بيَّن الشريعة. ... 32
الرد على الشبهة وتفنيدها ... 32
الشبهة الثانية: السُنَّة ليست وحيًا والنَّبِي Sيُصيب ويخطئ ... 32
الرد على الشبهة وتفنيدها ... 32
الشبهة الثالثة: لم يُرد النَّبِي أن تكون السُنَّة مصدرا ثانيا للتشريع ... 32
الرد على الشبهة وتفنيدها ... 32
الشبهة الرابعة: تكفل الله بحفظ القرآن ولم يتكفل بحفظ السُنَّة ... 32
الرد على الشبهة وتفنيدها ... 32
شبهات الخوارج ... 32
الشبهة الأولى: الرجم لم يثبت بالقرآن ... 32
الرد على الشبهة وتفنيدها ... 32
شبهات الصوفية ... 32
الشبهة الأولى: التوسل بالنَّبِي S ومن بعده الصالحين ... 32
الرد على الشبهة وتفنيدها ... 32
شبهات الموسوعات العالمية ... 32(112/103)
الشبهة الأولى: تعدد زوجات النَّبِي يدل على أنه شهوانى ... 32
الرد على الشبهة وتفنيدها ... 32
الشبهة الثانية: التشكيك فى صحة الأحاديث النبوية كاملة ... 32
الرد على الشبهة وتفنيدها ... 32
الخَاتِمَةُ ... 32
المصادر والمراجع ... 32
فهرس ... 32(112/104)
شبهات وردود عن حكم المولد النبوي
الشيخ عادل بن علي بن أحمد الفريدان
الحمد لله وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وبعد :
هذا رد - متوسط - على أحد الصوفية اليمنيين يقال له الحبيب بن علي الجفري ، ذكر كلاما في آخر شريط له بعنوان ( مقاصد المؤمنة وقدوتها في الحياة ) عن المولد . وذهب إلى مشروعيته وحشد لذلك الأدلة من القرآن والسنة - زعم ذلك - التي لبّس بها على السامع من عامة الناس . فأسأل الله وحده أن ينفع به من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وصلى الله وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واتبع سنته إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين .
قاله راقمه
الراجي عفو ربه القدير
عادل بن علي بن أحمد الفريدان
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
آمين
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) سورة آل عمران :102
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا و نساءا واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) سورة النساء :1
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) سورة الأحزاب :70
أما بعد :(113/1)
فإن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار(1) ، وبعد : فإن الله أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا ، وأمرنا جل ثناؤه بالتمسك بهذا الحديث حتى الممات ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) آل عمران :102
وقال تعالى (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) البقرة: 132
وبين الله تعالى الحكمة من خلق الإنس والجن فقال تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) الذاريات :56
وفي ذلك شرف لهم وسعادة لهم في الدارين والفائدة من هذه العبادة إنما هو راجعة لهم ، فمن أبى أن يعبد الله فهو مستكبر ، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو مشرك ، ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع ، ومن عبد الله وحده بما شرع فهو المؤمن الموحد .
ولما كان العباد في ضرورة إلى العبادة ولا يمكن أن يعرفوا بأنفسهم حقيقتها التي ترضى الله سبحانه وتعالى وتوافق دينه لم يكلهم إلى أنفسهم بل أرسل إليهم الرسل وأنزل إليهم الكتب لبيان حقيقة تلك العبادة كما قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) النحل :36
وقال : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) الأنبياء :25
فمن حاد عما بينته الرسل ونزلت به الكتب من عبادة الله ، وعبد الله بما يملي عليه ذوقه وما تهواه نفسه وما زينته له الشياطين الأنس والجن فقد ضل عن سبيل الله ولم تكن عبادته في الحقيقة عبادة الله ، بل هي عبادة هواه ، كما قال تعالى : ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) القصص : 50(113/2)
وهذا الجنس كثير في البشر وفي طليعتهم النصارى ، ومن ضل من فرق هذه الأمة ، كالصوفية فإنهم اختطوا لأنفسهم خطة في العبادة مخالفة لما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .. ويتضح هذا ببيان حقيقة العبادة التي أمر الله بها وحقيقة ما عليه الصوفية اليوم من انحرافات عن حقيقة تلك العبادة .
فالعبادة التي شرعها الله سبحانه وتعالى تنبني على أصول وأسس ثابته تتلخص في الآتي : ضوابط العبادة الصحيحة :
*أولا : أنها توقيفيه _ بمعنى أنه لا مجال للرأي فيها بل لا بد أن يكون المشرع لها هو الله سبحانه وتعالى ، كما قال تعالى لنبيه : ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا ) هود :112
وقال تعالى : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) الجاثية :18
وقال عن نبيه ( إن اتبع إلا ما يوحى إلي ) الأحقاف :9
*ثانيا : لا بد أن تكون العبادة خالصة لله تعالى من شوائب الشرك كما قال تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) الكهف 110
فإن خالط العبادة شيء من الشرك أبطلها كما قال تعالى : ( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون )
الأنعام :88 وقال تعالى : ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) الزمر 65 ، 66(113/3)
ثالثا : لا بد أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) الأحزاب :21 وقال تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) الحشر :7 وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) () وفي رواية من أحدث في أرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) () وقوله صلى الله عليه وسلم ( صلوا كما رأيتموني أصلي )() وقوله صلى الله عليه وسلم : خذوا عني مناسككم ) (4) إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة .
رابعا : أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير لا يجوز تعديها وتجاوزها كالصلاة مثلا ، قال تعالى : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) النساء :103
وكالحج ، قال تعالى : ( الحج أشهر معلومات ) البقرة : 197 وكالصيام ، قال تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) البقرة : 185
خامسا : لا بد أن تكون العبادة قائمة على محبة الله تعالى والذل له والخوف ورجائه ، قال تعالى : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) الإسراء :57 وقال تعالى عن أنبيائه ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ) الأنبياء : 90 وقال تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ، قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ) آل عمران : 31،32فذكر سبحانه علامات محبة الله وثمراتها _ أما أعلاها فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأما ثمراتها فنيل محبة الله سبحانه ومغفرة الذنوب والرحمة منه سبحانه .(113/4)
سادسا : أن العبادة لا تسقط عن المكلف من بلوغه عاقلا إلى وفاته ، قال تعالى : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) الحجر : 99 تلكم الأمور الستة هي ضوابط العبادة الصحيحة ()لتي شرعها الله سبحانه وتعالى وأمر بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يبلغها للناس أجمع وأما حقيقة الصوفية وما هم عليه اليوم من انحرافات عن حقيقة العبادة الصحيحة ... فذكر ذلك يطول جدا وليس مكانه هنا وإنما هو في تلك المؤلفات المطولة التي تصدت لها وكشفت زيغها .
وإنما نحن بصدد وقفات مع من يسمى : بالحبيب علي الجفري ( الصوفي ) الذي تكلم عن المولد النبوي في شريط مسموع في آخره بعنوان ( مقاصد المؤمنة وقدوتها في الحياة ) وقد ذكر عدة مسائل تتعلق بالمولد النبوي انتهى في آخره بأن عمل المولد النبوي وما يحصل فيه إنما هو سنة مؤكدة وليس ببدعة واستدل على قوله هذا بأمور نذكرها إن شاء الله تعالى وسأورد كلامه نصا كما قال بألفاظه وسأقف مع كل مسألة منها مبينا بطلان ما ذهب إليه مستعينا بالله وحده لا شريك له وبنصوص القرآن الكريم وصيح السنة النبوية الشريفة وما أجمع عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من الأئمة الأعلام ، وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرينا الحق حقا وأن يرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل . وأن لا يجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا إنه رؤوف رحيم .
قال الجفري [ المولد سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو سنة مؤكدة ، لا نقول مباح بل سنة مؤكدة ](113/5)
ونقول : السنة ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم أو سنه أحد الخلفاء الراشدين لقوله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ...... الحديث ) المهديين هم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي _ رضي الله عنهم ، أما ما سوى ذلك فهو من المحدثات التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر أنها شر وضلاله . ومن ذلك المولد . فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به ولم يفعله ولم يأمر به أحد من الخلفاء الراشدين ، ولم يفعله أحد من الصحابة _ رضي الله عنهم _ ولا التابعين ولا تابعيهم بإحسان ، وعلى هذا فهو بدعة وضلالة يجب ردها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) أي مردود على صاحبه كائنا من كان روى ابن حبيب عن ابن الماجشون قال : سمعت مالكا _ رحمه الله _ يقول : ( من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة ، لأن الله تعالى يقول : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) المائدة :3 فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا )
ويلزم على القول بأن الاحتفال بالمولد سنة مؤكدة ثلاث لوازم سيئة :(113/6)
أولا : أن يكون الاحتفال بالمولد الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم . وهذا معلوم البطلان بالضرورة ، لأن الله تعالى لم يأمر عباده بالاحتفال بالمولد ولم يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله ، ولم يفعله أحد الخلفاء الراشدين ، ولا غيرهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان ، بل لم يكن معروفا عند المسلمين إلى أن مضى عليهم نحو ستمائة سنة فحينئذ ابتدعه سلطان إربل وصار له ذكر عند الناس .وعلى هذا فمن زعم أن الاحتفال بالمولد من الدين فقد قال على الله وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم ، والله تعالى يقول : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ن وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ) الأعراف : 33 وقال صلى الله عليه وسلم : ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار )
ثانيا : من اللوازم السيئة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه رضي الله عنهم ، قد تركوا العمل بسنة مؤكدة ، وهذا مما ينزه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم
ثالثا: من اللوازم السيئة أن يكون المحتفلون بالمولد قد حصل لهم العمل بسنة مؤكدة لم تحصل للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا لأصحابه رضي الله عنهم ، وهذا لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل ودين
رابعا : ظاهر جدا من كلام الجفري أنه لا يعرف مصطلحات أهل العلم فهو يهرف بما لا يعرف ، فقوله عن المولد سنة مؤكدة ) فالسنة المؤكدة عند أهل العلم هي التي عملها الرسول صلى الله عليه وسلم وداوم عليها ، فهل يقول الجفري وأمثاله أن الرسول صلى الله عليه وسلم عمل المولد وداوم عليه ؟!(113/7)
قال الجفري : [ ما هو المولد ؟ عبارة عن فرح لله ورسوله . ما حكم الفرح في الله ورسوله ؟ قال تعالى : ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) الله أمرنا بالفرح وذكر أهل التفسير فضل الله وفضل رسوله صلى الله عليه وسلم ]
ونقول : تفسير الآية بما فسره به الجفري من قبيل تفسير كلام الله تعالى على ما لم يفسره به السلف الصالح والذي ينبغي أن تفسر به الآية هو ما فسره الأئمة الأعلام قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية ( أي بهذا جاءهم من الله من الهدى ودين الحق ، فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به ) ولا يوجد في كلام السلف تفسير الآية بما فسربه الجفري
ثانيا : لم يأمر الله تعالى عباده أن يخصوا ليلة المولد بالفرح والاحتفال ، وإنما أمرهم أن يفرحوا بما أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق ، ويدل على ذلك الآية التي قبلها قال تعالى : ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) آية 57 ثم قال تعالى ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) سورة يونس : 57،58
وفضل الله هو الإسلام ورحمته القرآن وقيل العكس وكلاهما من فضل الله ورحمته وبهذا فسرها ابن عباس وأبو سعيد الخدري وزيد بن أسلم والضحاك ومجاهد وقتاده
ثالثا : أن رحمة الناس لم تكن بولادة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما كانت ببعثه وإرساله إليهم قال تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) الأنبياء : 107 ولم تتعرض الآية لولادته صلى الله عليه وسلم . ومن السنة ففي صحيح الإمام مسلم _ رحمه الله _ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إني لم أبعث لعانا ، وإنما بعثت رحمة )(113/8)
وروى الإمام أحمد وأبو داود بإسناد حسن عن سلمان رضي الله عنه قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : ( أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من بني أدم أغضب كما يغضبون ، وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة )
قال الجفري [ الاحتفال بمناسبة النبي صلى الله عليه وسلم سنة ، جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم فيما سأل : ماذا تقول عن صوم فلان يوم الاثنين . قال هو يوم ولدت فيه ] اسمع . قبل أن يأتيك كلام المدللين الذين قالوا أن الاحتفال بالصيام ما كان في المولد ]
ونقول : أولا لفظ الحديث كالآتي : عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين ؟ فقال ( فيه ولدت . وفيه أنزل علي )
ثانيا : يقال إذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول صلى الله عليه وسلم ربه به وهو الصوم ، وعليه فلنصم كما صام صلى الله عليه وسلم . وإذا سئلنا ، قلنا : إنه يوم ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فنحن نصومه شكرا لله تعالى ، غير أن أرباب الموالد لا يصومونه ، بل الصيام فيه مقاومة للنفس بحرمانها من لذة الطعام والشراب ، وهم لا يريدون ذلك ، فتعارض الغرضان فآثروا ما يحبون على ما يحب الله تعالى
ثالثا : من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم ولادته وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول _ إن صح _ وإنما صام يوم الاثنين الذي يتكرر مجيئه كل شهر أربع مرات أو أكثر ، وبناء على هذه فتخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول بعمل ما دون يوم الاثنين من كل اسبوع يعتبر استدراكا على الشارع ، وتصحيحا لعمله ، وما أقبح هذا _ إن كان - والعياذ بالله تعالى(113/9)
رابعا : هل النبي صلى الله عليه وسلم لما صام يوم الاثنين شكرا على نعمة الإيجاد ولإمداد وهو تكريمه ببعثته للناس كافة بشيرا ونذيرا إضافة إلى الصيام احتفالا ، كاحتفال أرباب الموالد من تجمعات ، ومدائح وأنغام ، وطعام وشراب ؟
والجواب : لا ، وإنما اكتفى بالصيام فقط ، إذا ألا يكفي الأمة ما كفى نبيها محمد صلى الله عليه وسلم ويسعها ما وسعه صلى الله عليه وسلم ؟ وهل يقدر عاقل أن يقول لا ؟ وإذا فلم الأفتيات على الشارع والتقدم بالزيادة عليه ، والله تعالى يقول : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) الحشر :7 ويقول جل ذكره : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع
عليم ) الحجرات : 1 ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) ويقول عليه الصلاة والسلام : ( إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها ، وحد لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء من غير نسيان فلا تتكلفوها رحمه من ربكم فاقبلوها ) وهذا لفظ الدارقطني في سننه
قال الجفري : [ انتظر ، فكرة المولد مسألة ذات شقين : الشق الأول : فكرة الاحتفال بمولد النبي هل يحتفى بها أولا . هل هي محل استحسان في الشريعة أولا ؟ الشق الثاني : ما يدور داخل المولد .
أولا : الاحتفال بالمولد : الفكرة لها مشروعيتها قال صلى الله عليه وسلم : ( هو يوم ولدت فيه ) ليس فقط نحن نحتفل به ، الكائنات كلها تحتفل بالمولد ]
ونقول : تقدم قريبا للرد على هذا الاستدلال وبينت ما فيه من الخطأ مما يغني عن إعادته مرة أخرى هنا .(113/10)
ثم قال الجفري : [ الجهلة مطموسي البصيرة يقولون أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ميزة لكن الميزة في بعثته ، هؤلاء لم يفقهوا عن الله ، فأقول لهم : بالله عليكم ملك كسرى سقط في ليلة الولادة أم البعثة ، النار التي اطفأت وكانت تعبد من دون الله أطفأت يوم الولادة أو البعثة ؟ الأصنام التي اكفأت على وجوهها ليلة البعثة أو الولادة ؟ المظاهر في الكون التي اهتزت كلها بعد أن بزغ صلى الله عليه وسلم لم تحصل إلا لتكون لصالح يوم الولادة ]
ونقول : ما ذكره الجفري قد ذكر بعض أهل العلم منهم ابن كثير _ رحمه الله _ في البداية والنهاية وذكره غيره . وحدوث هذه الأمور لا يدل إطلاقا على مشروعية إقامة المولد فلا صلة بينهما ويقال أيضا : هل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا عالمين بما حدث عند مولده صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ فإن كانوا عالمين _ ولا أظن الجفري _ يقول غير عالمين _ فلماذا لم يقيموا المولد المبدع الذي عليه الجفري واتباعه ، اترى النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عالما بالفضل المترتب على ذلك أم يقال أن الصحابة لم يعرفوا قدر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقيموا له مولدا تكريما له صلى الله عليه وسلم ؟! إن ما دعاه الجفري من الربط بين المولد وتغير بعض الأحوال الكونية والحوادث الأرضية ثم الاستدلال بذلك بمشروعية إقامة المولد لا يصح الاستدلال به أبدا .
قال الجفري : [ وبعد ذلك ، هل بلغت هذه الأمة من التردي والجدوى من الإساءة في معاملتها للنبي صلى الله عليه وسلم أنها تتساءل هل يستحق أن نفرح بولادته صلى الله عليه وسلم أو لا نفرح ، ما هذا التدين الذي وصلت إليه الأمة ، هذه منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا حتى نرى هل يستحق أو لا يستحق أن نفرح بولادته ؟ ماهذا الكلام ؟ ](113/11)
ونقول : إن الجفري _ هداه الله _ يريد منا أن نشرع شرعا لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم عن طريق تحريك مشاعرنا تجاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تقرر سابقا أن المشرع هو الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا بالذوق والعاطفة .
ثم إن كنا قد أسأنا كما زعم الجفري للنبي صلى الله عليه وسلم فإن الصحابة والتابعين وتابع التابعين قد أساءوا أيضا للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم إقامة المولد ، فهل يقول بذلك الجفري ؟!وكذلك نقول إن الأمة لم تتدنى بسبب تركها لإقامة الموالد وإنما تدنت عندما نشأ فيها من لا يعرف دين الإسلام بالأدلة أمثال الجفري وأتباع الصوفية الذين يشرعون للناس أمورا ما أنزل الله بها من سلطان ويتركون هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وهدي الخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم وحقيقة الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم هو اتهامه صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبلغ عن ربه عز وجل شيئا أوحاه إليه بل هذه هي حقيقة نسب الخيانة لجنابه صلى الله عليه وسلم _ وينزه عنها _ إن إحداث شيء في الدين ومنها إقامة الموالد لهو دليل واضح على اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان هو لم يقم هذا المولد ولا صحابته من بعده ... حتى جاء الجفري ومن قبله ومن بعده من يقول أن عدم إقامة الموالد إساءة للنبي صلى الله عليه وسلم فأيهما أولى بالإساءة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم من شرع دينا لم يشرعه الله ورسوله أم من اقتفى أثره واتبع سبيله فلم يحدث شيئا في دين الله .
فإن كان للجفري حجة فليسمعنا إياها ويقول قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام المولد أو أحد من صحابته ... ، وننظر أينا المسيء لجناب المصطفى صلى الله عليه وسلم(113/12)
وإن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم لدى المسلمين الموحدين في الدنيا وتوقيره وعدم رفعه فوق منزلته التي أنزله الله فيها واتباع سبيله والتأسي به وإقامة سنته صلى الله عليه وسلم وتعليمها للناس ، فما صح عنه صلى الله عليه وسلم عملنا به ودعونا إليه وما لم يصح نفيناه عنه وتركناه وحذرنا منه .
قال الجفري : [ هذه مقابلة تقابلها من قام على أطراف قدميه لينقذنا من نار جهنم . هذا الذي هو مشغول في قبره بي وبك ؟! يستحق أن نحتفل به أولا ؟ أن نقوم بذكر ولادته أولا ؟! ما هذا الكلام ، ما هذا الهراء الذي نال الأمة ،ما هذا العبث والسفه الذي نال هذه العقول الضيقة . أين معاني الاتصال بمحبته ]
ونقول : كلام الجفري هذا يحتاج منا أن نقف معه وقفات
الأولى : وقوف المصطفى على أطراف قدميه في الصلاة كان كما قال صلى الله عليه وسلم ( أفلا أكون عبدا شكورا ) قام صلى الله عليه وسلم ليعلم اتباعه أ، العبد مهما بلغ من العبادة إلا أنه ينبغي له أن يتذلل لربه وخالقه ولا يأمن مكر الله فيه ، قام صلى الله عليه وسلم على قدميه الشريفتين وليس على أطراف قدميه كما قال الجفري _ شكرا لله عز وجل كما ذكر ذلك لعائشة حينما سألته عن ذلك ن وواجب الأمة بعده الإقتداء به والتأسي به .(113/13)
لا أن نستدل بذلك على أنفسنا فعمله صلى الله عليه وسلم لنفسه وعمل أتباعه لأنفسهم كما قال تعالى ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) النجم :39 فهل يقول الجفري أن قيام الرسول صلى الله عليه وسلم على قدميه ينفع اتباعه فيزاد من حسناتهم وينجيهم من الحساب والجزاء ؟! لا أظن عاقلا يقول ذلك وأظن أن الجفري واحدا من هؤلاء العقلاء وما أشبه هذه المقولة بمقولة النصارى إن عيسى عليه السلام صلب لينقذ البشرية ويكون فداء لها . ثم قوله : ( لينقذنا من النار ) سبحان الله العظيم ما أجرأ الجفري على الله تعالى حين نسب دخول الجنة والنجاة من النار للرسول صلى الله عليه وسلم ، نعم الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله وبشيرا ونذيرا من عند الله سبحانه وتعالى من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار . أما أن نقول قام على قدميه لينقذنا من النار .. فهذا غلط عظيم وإلا ترتب على ذلك عدم قيامنا بما أوجب الله علينا من شرائع الدين اعتمادا على قيام الرسول صلى الله عليه وسلم على قدميه . روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة أن إعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ( دلني على عمل ، إذا عملته دخلت الجنة . قال تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضه ، وتصوم رمضان . قال : والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا . فلما ولى . قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ) هذا كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، فهل يفهم الجفري وأتباعه حقيقة هذا الدين .؟!(113/14)
الثانية :قوله ( هذا الذي هو مشغول في قبره بي وبك ) قال تعالى : ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفأن مت فهم الخالدون ) الأنبياء :34 وقال تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) آل عمران : 114 فرسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء _ عدا عيسى بن مريم فقد رفع _ قد جرت عليهم سنة الموت كبقية البشر . وأما حديث ( الأنبياء _ صلوات الله وسلامه عليهم _ أحياء في قبورهم ) لا فهو حديث صحيح يدل على حياتهم البرزخية وأرواحهم عند الرفيق الأعلى ولا يفهم منه آن الحياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أحياء حياة حقيقية يأكلون ويشربون ...وإنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( افضل أيامكم يوم الجمعة : فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي ، قالوا : وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت _ يقولون بليت _ فقال : ( إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام )وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ) فالحديث الأول فيه دلالة على عرض ( الصلاة والسلام ) على نبينا صلى الله عليه وسلم وهذا يدل دلالة واضحة على أن جسده صلى الله عليه وسلم طري مطرا ، وروحه في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء . والحديث الثاني فيه دلالة على اتصال روحه الشريفة بجسده لرد السلام على من سلم عليه من قبره ومن بعد . فالروح لها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه ، وتعلق به بحيث يرد سلام من سلم عليه وروحه في الرفيق الأعلى . ولا تنافي بين كونها في الرفيق الأعلى وجسده في الأرض فشأن الأرواح غير شأن الأبدان ، فإذا كان النائم روحه في جسده وهو حي ، وحياته(113/15)
غير حياة المستيقظ ، فإن النوم شقيق الموت ، فهكذا الميت إذا أعيدت إليه روحه إلى جسده كانت له حال متوسطة بين الحي والميت كحال النائم المتوسطة بين الحي والميت . فهذا حاله صلى الله عليه وسلم في قبره وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة في نبيها محمد صلى الله عليه وسلم فأين هذا من قول الجفري ( إنه مشغول بي وبك ) 0
ولا ندري ماذا يقصد الجفري بشغل النبي صلى الله عليه وسلم في قبره فإن كان غير ما ذكر فهو من أبطل الباطل0
الثالثة: وصفه لكل من يمنع إقامة المولد ( بالعقول الضيقة ) 0 يا سبحان الله كيف يزن الجفري الأمور المتعلقة بشرع الله إن الذين يصفهم الجفري بالعقول الضيقة هم من وقفوا عند قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا بذلك ولم يزيدوا على شرع الله شيئا من مستحسن العقول ، أما هو وأتباعه -بطريق الأولى- فهم أصحاب العقول الواسعة التي تشرع لأنفسها ولأتباعها كل ما يمليه عليه عقولهم و أهواؤهم الضالة المضلة0 ويكفي في الرد على مثل هذه المقولة ما قدمته لك في مقدمة هذا الرد ففيه الكفاية والبيان0
الرابعة: قوله: ( أين معاني الاتصال بمحبته ) لا ندري ماذا يقصد الجفري بقوله هذا ، هل يقصد اتصال الروح بالروح فهذا مذهب الاتحادية من الصوفية الباطلة ، إن حقيقة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم هي: طاعته فيما أمر و اجتناب ما نهى عنه و زجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع0 فمن فعل هذا كانت محبته للرسول صلى الله عليه وسلم متصلة كاملة ومن أخل بها أخل بمحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فحقيقة المحبة الطاعة و الإتباع كما قال تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) 0 [ آل عمران : 31]0
فيها ولادته 0ماهذا الكلام أهذه منزلته ]0
ونقول: ما زال الجفري -هداه الله- يقيس الأمور الشرعية بعقلة القاصر وذوقه الفاسد0(113/16)
نعم الصحابة قدموا أرواحهم لله رخيصة ولإعلام كلمة التوحيد لا لمقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآلا كانوا عابدين للرسول صلى الله عليه وسلم وحاشاهم من ذلك0
فإن كان الجفري يتأسف ويستكثر عدم إقامة المولد فإن الواجب عليه أن يتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعلوا فيقف حيث وقفوا ، لا أن يبتدع عبادة من عقله ثم يقول :إذا لم نقدر أن نبذل الأرواح علينا أن نقيم الموالد0
قال الجفري: [ هو الذي يفرج عني وعنك في ذلك اليوم ، هو غياثنا في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة0بعد ذلك نشك في أن نفرح به أو لا نفرح0000]
هذا الكلام له وقفتان : الأولى:
نقول ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يشفع في أمته يوم القيامة _ والشفاعة أنواع _ ولكن هذه الشفاعة مشروطة بشرطين :
1- إذن الله للشافع0 2- رضى الله عن المشفوع له 0
قال تعالى: ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [سورة البقرة:255]0
فلا أحد يشفع ابتداء إلا بعد أن يأذن الله له في الشفاعة 0
وقال الله تعالى : 0( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) أي لا أحد يشفع له إلا بعد أن يرضى الله قوله وعمله 0 ولا يكون ذلك إلا لأهل الإتباع لا أهل الإبتداع 0فمن غير وبدل وزاد على دين الله وشرع شرعا لم يشرعه الله ورسوله كمن ابتدع الموالد بلا دليل ولا برهان فقد حرم شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي الحديث : ( إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك ) فيردون عن حوضه صلى الله عليه وسلم . فهل من ابتدع في دين الله _ ياجفري _ وزاد عبادة لم يأذن بها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وادعى علما يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا صحابته من بعده تصيبه شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟!(113/17)
الثانية : قوله : [ هو غياثنا في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة ] إن قصد الجفري فيما يقدر عليه صلى الله عليه وسلم في حياته فلا اعتراض أما بعد موته صلى الله عليه وسلم فلا ، لأنه تقرر أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم مات كما يموت البشر فلا يستغاث به وإن أراد الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا كأن يقول : ( بحق نبيك ) يقسم على الله بأحد من مخلوقاته محذورين :
الأول : أنه اقسم بغير الله .
الثاني : اعتقد أن لأحد على الله حقا .
والوجهين باطلين ولقد أحسن القائل :
ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع
وأما قوله في البرزخ فهذا على معتقده الفاسد أن النبي صلى الله عليه وسلم يستجيب دعاء من يسأله وأنه يكشف الضر من دون الله وأنه يستغاث به بعد الممات .... إلخ وهذا باطل جدا لأن الله أرشدنا عند طلب القوت أن نطلبه منه سبحانه فقال تعالى ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ) الأنفال :17 وقال تعالى : ( وهما يستغيثان الله ) الأحقاف :17 وما ورد في القرآن قوله تعالى : ( فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ) القصص : 15 فهذا فيما يقدر عليه العبد أما مالا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز طلبه إلا منه سبحانه وتعالى . وأما طلب الغوث من الرسول بعد موته فممنوع لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك غياثا لأحد بعد الموت . وأما قول الجفري [ ويوم القيامة ] فقد تقدم الرد عليه ضمن الوقفة الأولى مما يغني عن إعادته هنا .(113/18)
قال الجفري : [ ثانيا : ما يجري داخل المولد : كل ما يحدث سنن ، فالمولد قراءة القرآن ، وصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم هل يحتاج هذا إلى دليل من القرآن ؟ هل ذكر يا أيها الذين آمنوا كل واحد يصلي لحالوا _ لوحده_ على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت منخفض . ولكن ذكر ( صلوا على النبي ) والواو هنا للجماعة والأصل فيه الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة فالصلاة دافع لهذا الأمر ، فيأتي سفيه العقل ويقول لا يجوز تصلون عليه إلا بالقلب فهذه أصول فتحت للتقرب إلى الله فلماذا نغلقها بهذه الأقوال ؟ ](113/19)
ونقول هذا القول يستدعي منا إلى وقفات لبيان باطله : الوقفة الأولى : قوله :[ إن كل ما يجري في المولد سنن ] باطل بل ما يحدث فيه من بدع ومحدثات وتقدم رد ذلك في أول كلامه أن المولد سنة مؤكدة . مما يغني عن إعادته هنا . وأما قوله : قراءة للقرآن وصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم فنقول : إن قراءة القرآن الكريم مشروعة في كل وقت وهو من أعظم ما ذكر الله به سبحانه وتعالى كلامه جل وعلا وتخصيص ذلك في المولد في زمن معين بدعة في الدين ومن نوى بقراءة القرآن إقامة المولد مستحبا له فلا شك أن الابتداع متوفر فيه فاتخاذ ذلك عادة دائرة بدوران الأوقات مكروه لما فيه من تغيير الشريعة وتشبيه غير المشروع بالمشروع وقل مثل ذلك في الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ليس مخصوص بالمولد فقط بلهو عام ويتأكد في مواطن ذكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يذكر منها المولد المزعوم المبتدع في الدين فمن تلك الأوقات يوم الجمعة كما في حديث ( من أفضل أيامكم يوم الجمعة .. إلى أن قال : فأكثروا علي من الصلاة فيه .... الحديث )وفي كل وقت كما في حديث ( من صلى علي واحدة صلى الله له بها عشرا ) وبعد سماع المؤذن كما في قوله صلى الله عليه وسلم ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ، ثم صلوا علي فإن من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا ) الحديث ، وعند التشهد الأخير من الصلاة ، وفي خطبتي الجمعة والعيدين وفي صلاة الجنازة وعند الدعاء والدخول للمسجد والخروج منه وعند ذكره صلى الله عليه وسلم .
والأحاديث بذلك أكبر شاهد لمن هداه الله وأراد به الخير وليس فيها حديث واحد ولو ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم خص الصلاة عليه في هذا المولد المزعوم المبتدع ، فهل يعقل الجفري _ وأتباعه ومن سبقه _ دين الله فلا يقولوا على الله إلا ما يعلمون . أسأل الله تعالى أن يهدي قلوبهم إلى دينه وإلى سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . آمين(113/20)
وأما احتجاج الجفري بقوله تعالى ( ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) على مشروعية الصلاة والسلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم جماعة وبصوت مرتفع فهذا باطل وبيان ذلك في الآتي :
أولا :- ليس في الآية إشارة إلى ما ادعاه الجفري فيها إطلاق الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبالصفة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه
ثانيا:- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى الدعاء له والدعاء من العبادة التي ينبغي أن تكون خفية لا معلنة كما قال تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) الأعراف :55 والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ذلك ، هذا من جانب ومن جانب آخر الاجتماع للدعاء بصوت واحد مرتب بدعة لم يرد بها النص .
ثالثا :- لم ينقل عن أحد المفسرين الموثوقين أنهم فسروا هذه الآية بما فسره بها الجفري ، فيكون قوله هذا بدعة من القول لا مستدلة من القرآن ولا من السنة ولا من أقوال سلف هذه الأمة . وقول الجفري : ( فهذه أصول فتحت للتقرب إلى الله ... إلخ كلامه ) والسؤال يطرح نفسه هنا ، ما هذه الأصول ؟ هل هي من كتاب الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟ ثم من فتحها هل هو الله أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن الذي أغلقها حتى تفتح ؟ ؟!(113/21)
أعجب كل العجب من رجل كالجفري يهرف بما لا يعرف ! ! يقول الله تبارك وتعالى : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) الشورى :21 فالآية دالة على أن من ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله ، أو أوجبه بقوله أو فعله ، من غير أن يشرعه الله : فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله . ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله . شرع له من الدين ما لم يأذن به الله . فهل ما يدعو إليه الجفري من إقامة الموالد أصل من أصول الدين ، فنحن نطالبه بنص من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم . ودون ذلك ودون ذلك خرط القتاد . وعليه فما بني على باطل فهو باطل .
قال الجفري [ أيضا نصلي عليه في الموالد وبعد الصلاة عليه تأتي السيرة النبوية ..... إلخ كلامه ]
ونقول : أولا :- إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في كل وقت ولا شك في ذلك لكن تخصيصها في المولد بدعة مردودة . وقد تقدم الإشارة لمثل ذلك فيما سبق .
ثانيا : النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته بالاحتفال بمولده ولم يأمرهم بذكر مولده وشمائله ومعجزاته وسيرته وخصائله الكريمة في ليلة المولد بخصوصها ، بل هذا من البدع التي أحدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ستمائة سنة .
ثالثا :- معرفة مولد النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله ومعجزاته وسيرته وخصاله الكريمة متيسر لمن أراد الاطلاع على هذه الأمور ومعرفتها في أي وقت من الأوقات ، ولا يتقيد ذلك بوقت معين وعلى هيئة اجتماعية مبتدعة ، ومن يفعل ذلك فإنما هو سائر على طريقة سلطان إربل وما أحدثه من الاحتفال بالمولد واتخاذه عيدا يعتادون إقامته في كل عام .(113/22)
رابعا : - أن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به لا يتم إلا بتحقيق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته وتقديم هديه على هدي غيره فالإسلام مبني على أصلين عظيمين : أحدهما :- أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا .
الثاني : أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا نعبده بالأهواء والبدع . كما قال تعالى : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ) الجاثية :18،19 فليس لحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من واجب ومستحب ولا يعبده بالأمور المبتدعة .
قال الجفري : [ أيضا يحدث في المولد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم . فعندما قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما اطرت النصارى عيسى بن مريم ) أي لا تنظروا بمنظارهم حيث قالوا : المسيح ابن الله ، ثالث ثلاثة ، المسيح هو الله . أما أن نمدحه فهذا لا شيء فيه بل أجاز ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ، من الذي أعطى كعب بن زهير البردة ؟ أوليس الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال :
إن الرسول نور يستضاء به وصارم من سيوف الله مسلول
فألقى الرسول صلى الله عليه وسلم البردة . ](113/23)
ونقول مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو أهله لا معارضة فيه فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن قال له : أنت سيدنا . فقال السيد الله فقلنا وأفضلنا فضلا ، وأعظمنا طولا ، فقال : قولوا بقولكم ، أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان ) رواه أحمد وأبو داود لكن المعارضة في تفسير الجفري لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جاء بهذا المعنى من عند نفسه ليتخلص مما يفعله وأتباعه في تلك الموالد ومعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا تطروني ..... الحديث ) الإطراء هو مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه ، فلا يغالى في مدحه كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام فادعوا فيه الألهية وإنما يوصف - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية كما وصفه ربه تبارك وتعالى فنقول عبد الله ورسوله . لكن أرباب الموالد أبوا ذلك وارتكبوا نهيه صلى الله عليه وسلم فظهر فهم الغلو والشرك في شعرهم ونثرهم ومصنفاتهم ، حتى جوزوا الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء من أمورهم وادعوا له صلى الله عليه وسلم علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وما قول البوصيري عنا ببعيد فقد قال في بردته :
يا أكرم الخلق من لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وهذا شرك ظاهر وقال :
إن لم يكن في معادي آخذا بيدي فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
وقوله :
فإن من جودك الدنيا وحزتها ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا شرك ظاهر وقول البرعي :
يارسول الله ياذا الفضل يا بهجة في الحشر جاها ومقاما
عد على عبد الرحيم الملتجي بحمى عزك يا غوث اليتامى
وأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما(113/24)
وهذا شرك ظاهر ، إلى غير ذلك مما فيه خروج عن الشرع في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، فهل بعد هذا الشرك شرك وهل يكف الجفري عن الخديعة والتلبيس على المسلمين في إيراد نصوص يستدل بها على باطله في جواز مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بها ، إن حقيقة ما يقصده الجفري في دعوى مدح الرسول صلى الله عليه وسلم هو من جنس ما تقدم من قول البوصيري والبرعي وأشباههما فهل يقول مسلم أن ذلك توحيدا . حاشا وكلا .وأما مدح كعب بن زهير وحسان بن ثابت وغيرهما من شعراء التوحيد الخالص فلا غبار عليهم ولكن الغبار والشنار على من أشرك بالله تعالى ودعى إليه عامة المسلمين . والحاصل أن الشيطان أظهر لأصحاب الموالد هذا المدح الشركي في قالب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وأظهر لهم التوحيد الإخلاص في قالب تنقصه ، فعكس أصحاب الموالد ما أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم علما وعملا وارتكبوا ما نهى عنه ورسوله ، فالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
قال الجفري [ وألف الحافظ في كتاب ( منح المدح ) ذكر فيه 119 من الصحابة مدحوا الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهم عمه العباس بن عبد المطلب فقد ألف مولدا في القصيدة التي ألقاها فيها عشر أبيات منها الشاهد وهو :
( وأنت يوم ولدت أشرقت الأرض وأضاءت بالنور ](113/25)
ونقول : مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو أهله لا بأس به ولا معارضة وإنما المعارضة في وصفه بالصفات التي لا تكون إلا لله وحده وقد تقدم مثل ذلك والرد عليه مما يغني عن إعادته هنا . وما أشار إليه الجفري من مدح العباس - رضي الله عنه _ ووصف يوم مولده صلى الله عليه وسلم من إشراق الأرض وإضاءتها بالنور ليس فيه مشروعية إقامة المولد ولا احتجاج به في مشروعيته فكل ما في الأمر أن هذه الأكوان حصل منها ما حصل ، لا دلاله فيه على مشروعية إقامة المولد إلى أن قال الجفري : [ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاد من غزوة من الغزوات ، جاءته جارية فقالت : إني نذرت أن أضرب الدف على رأسك إن سلمك الله . ومتى يكون الوفاء بالنذر واجب ؟ ! هل إذا كان الأمر معصية ، أم كان مكروها ، أم مباحا ، فلا يجب الوفاء بالنذر إلا إذا كان مندوبا وهنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( أوفي بنذرك ) رغم أن الدف مباح لكن لنه اقترن بالفرح لرسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح واجبا الوفاء به ]
ونقول وبالله التوفيق : الدخول في النذر عند جمهور أهل العلم مكروه وقد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ) فإن دخل فيه المسلم كان واجبا عليه الوفاء به ما لم يكن معصية لقوله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن أن يعصيه فلا يعصه ) فإذا خلي النذر من محرم وكان في طاعة الله تعالى وجب الوفاء به ويمدح من فعله لقوله تعالى : ( يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) الإنسان :7 ، وأما ما استشهد به الجفري من قصة المرأة الناذرة على إباحة الضرب بالدف أولا ثم جعله واجبا ثابتا لاقترانه بالفرح بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو باطل :
أولا : - الكلام في صحة ثبوت هذه القصة قد ضعفها بعض أهل العلم وتكلموا في سندها فهي سندا لا تثبت .(113/26)
ثانيا : القول بصحة الحديث فقد ورد في الحديث الذي استدل به الجفري _ ثم دخل عمر فألقت الدف تحت أستها ثم قعدت عليه ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم إن الشيطان ليخاف منك يا عمر ، إني كنت جالسا وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف ) رواه أبو داود فالحديث مع ما فيه مختلف فيه كما ترى . فمنهم من أجاز ومنهم من منع والمانعون من استخدام الدف يخصون مثل ذلك من عموم الأدلة الدالة على الجواز ويقولون أن استعمال الضرب بالدف مأذون فيه في مواطن منها : في العرسات : وهو من قبيل إعلان النكاح لا التلذذ بسماعه ومنها في الأعياد : وهو خاص بالجواري وأن يكن من غير المغنيات ومن ذلك أيضا عند القدوم من الغيبة التي هي محل النقاش هنا . ويقال أيضا : ورد في رواية الترمذي - رحمه الله - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : ( إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا ) فالرسول صلى الله عليه وسلم علق الضرب بالدف بالنذر ، وأهل المولد يضربون بالدف دائما ، ولم نسمع أن أهل المولد كلهم مطبقون على النذر بالضرب بالدف في الموالد ، وكما يلاحظ من نص الحديث كراهية النبي صلى الله عليه وسلم للضرب بالدف في قوله ( وإلا فلا ) أي لا تضربي بالدف فأين أهل المولد من هذا .
ويقال أيضا : الضرب بالدف من الأمور المباحة التي ورد بها النص فهي من قبيل المباحات التي أباحها الشارع .
أما أهل المولد فإنهم يتعبدون الله بالضرب بالدف ويتقربون إلى الله بمثل هذا العمل ، فالأصل في العبادات التوقيف وفي المباحات الحل ما لم يرد نص بالنهي عنه ، والضرب بالدف من هذا القبيل .ثم تهجم الجفري على أئمة الدين في هذا العصر فقال : [ اليوم ينكرون علينا هذا الشيء وهناك مناكر في الأمة لا أحد ينكر عليها ، ملأ الناس الكلام عن المولد ولم نسمع كلام عن الربا ](113/27)
ونقول أخطأت يا جفري بزعمك هذا ، فالعلماء ولله الحمد متوافدون بين المسلمين ممن عرف بالدين والعلم والاستقامة على شرع الله الموثوق بهم ، فهذه فتاواهم وأشرطتهم وكتبهم تعلن صراحة بحرمة الربا وتبين للأمة أنه محرم وكبيرة من كبائر الذنوب وأن من فعله فهو محارب لله تعالى ... وأما كون الجفري لم يسمع من ينكره فهذا راجع للجفري وحده لا يجوز له تعميم ذلك على الأمة ، فليس لأحد كائنا من كان أن يجهل علما بين المسلمين ثم يدعي جهل الآخرين له .
قال الجفري [ أيضا يوجد في الموالد الدعاء ، والقيام فرحا بخير الأنام صلى الله عليه وسلم ، وألف النووي فيه إثبات صحة القيام لأهل الفضل ، ويذكر الناس أن هذا العمل الذي نقوم به بدعة . فلم يقوم الصحابة بمثل هذا العمل من الترتيب ، فنقول : لم يكن الصحابة عندهم حفل تخرج لحفظة القرآن الكريم ، فلم يفعلوا مثل هذه الاحتفالات ، لم يكن عند الصحابة جامعات إسلامية ]
ونقول قول الجفري هذا يحتاج لوقفات :
الأولى :- قوله [ يوجد في المولد الدعاء ] تخصيص الدعاء في المولد من البدع فالله تعالى شرع لعباده الدعاء في كل وقت ولم يحدده بوقت معين قال تعالى : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم ) غافر:60 ، وقال : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفيه ) الأعراف :55 وغيرها من الآيات الدالة على عموم دعاء رب العالمين في كل وقت .(113/28)
الثانية :- قوله ( القيام فرحا لسيد الأنام صلى الله عليه وسلم ) وهذه من المحدثات في الدين الداخلة في عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلاله ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن القيام له وأخبر أن ذلك من فعل الأعاجم قال أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا ، فقمنا إليه فقال : ( لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا وعن أنس - رضي الله عنه - قال : ( ما كان شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك ) فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد كره القيام له ونهى عنه وأخبر أنه من فعل الأعاجم فكيف بالقيام عند ذكر ولادته وخروجه من الدنيا ، فهذا أولى بالنهي لجمعه بين البدعة والتشبه بالأعاجم(113/29)
الثالثة : استدلاله بقول النووي رحمه الله في مسألة القيام وذكر أن النووي صحح القيام لأهل الفضل ... ) ونقول : تفريق النووي بين أهل الفضل والخير وغيرهم في مسألة القيام لا دليل عليه ، وفيما ذكر عن أبي إمامة الباهلي وقول أنس رضي الله عنهما أبلغ رد على من قال بهذا التفريق ، قال اسحاق بن ابراهيم : خرج أبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - على قوم في المسجد فقاموا له ، فقال لا تقوموا لأحد فإنه مكروه . وقيل لمالك - رحمه الله - الرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه ، قال : أكره ذلك ولا بأس أن يوسع له في مجلسه .وأما قوله صلى الله عليه وسلم ( قوموا إلى سيدكم ) أي سعد بن معاذ رضي الله عنه عندما جاء ليحكم في بني قريضة ، إنما أمرهم بذلك لينزلوه عن الحمار ، لأنه كان مريضا بسبب الجرح الذي أصابه يوم الخندق ويشهد لهذا رواية أبو سعيد : فلما طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ) فقال عمر : سيدنا الله عز وجل قال : فأنزلوه ) تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه )
الرابعة: قوله: [ لم يكن الصحابة عندهم حفل تخرج لحفظة القرآن000 ولم يكن عند الصحابة جامعات إسلاميه0]
ونقول: هذا الكلام من الجفري رد على من يفعل ذلك من أهل السنة والجماعة أتباع سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين0
فإقامة حفل لحفظة القرآن الكريم إنما هو من أجل تشجيع الحفظة على حفظ كتاب الله تعالى . وأي غضاضة في ذلك فهو لم يقرن بمحرم ولا بدعة زمانية ولا بدعة مكانية فهو من جنس المباحات التي أباحها الله 0ثم ما يحصل في حفل لحفظ كتاب الله مخالف تماما لما يحصل في المولد من البدع والمحدثات التي تقدم بيان شيء منها 0(113/30)
وأما وجود الجامعات الإسلامية فهذه ليست بدعة فأصلها هو التعليم والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه في المسجد ووجود المدارس والجامعات إنما هي لتنظيم العملية التعليمية لما يترتب على هذا التعليم من التخرج بعد التخصص والقيام بالأعمال المتنوعة كلا في تخصصه ولا يمكن أن يقول عاقل أن إنشاء الجامعات ابتداع في الدين0
ثم استدل الجفري بقصة على ان أهل المولد هم الدعاة إلى الله تعالى 0وملخص هذه القصة [أن هيئة تنصيرية قامت بتقديم الطعام والشراب لبعض المسلمين في قرية إندونيسية فتنصروا ولما جاء المولد أخذوا الدفوف ومدحوا الرسول صلى الله عليه وسلم .. ثم هددوا بقطع الطعام والشراب عنهم إذا لم ينتهوا عن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم فرفضوا وعادوا للإسلام ... ] ونقول يا سبحان الله أمثل هذا يستدل به على أن أهل المولد هم الدعاة للإسلام ، أين العلم ؟ أين القرآن وتفسيره وحملته ؟ أين الحديث ورواته ؟ أين الدعوة غلى الله بالعلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... كل هذا ليس له اعتبار عند الجفري إنما الاعتبار عنده في ضرب الدفوف ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو يتبرأ من صلى الله عليه وسلم . وهل يقال- يا جفري- كل من أجاد الضرب الدفوف وحفظ بعض القصائد الشركية في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم يكون داعية إلى الله ؟ !! لا أظن - حتى الجفري - سيجيب بنعم إلا اللهم من كان ثلاثة وذكر ( عن المجنون حتى يفيق ) فهل يفيق الجفري واتباعه من اتباع هذه البدع والمنكرات والقول على الله بغير علم .
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولا يجعله متلبسا علينا فنضل .
و صلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحابته ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين
قاله كاتبه :
عادل بن علي الفريدان
في مكة المكرمة
10/5/1422 هـ(113/31)
شَمُّ العَوارِضِ في ذمِّ الرُّوَافِضِ
تصنيف
الملا علي بن سلطان القاري
( وفاته سنة 1014ه )
تقديم وتحقيق
د. مجيد الخليفة
www.dr-majeed.net
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق
الحمد لله رب العالمين ، نحمده حمد الشاكرين ، ونستغفره استغفار المذنبين ، ونصلي ونسلم على خير الخلق نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فهذه رسالة لطيفة في موضوع مهم من مواضيع العقيدة ، ألا وهو موضوع حكم سب السلف الصالح عند بعض طوائف الشيعة الإمامية ، وكان هذا الأمر قد انتشر في خراسان بين كثيرٍ من العوام أبان ظهور الدولة الصفوية في بداية القرن العاشر الهجري(1) ، فقام الملا علي بن سلطان القاري بتأليف هذه الرسالة وسماها ( شم العوارض في ذم الروافض ) ، وكان السبب في ذلك هو النقاش الذي دار بينه وبين أحد علماء عصره حول الحكم الشرعي لمن سب صحابياً ، فكان القاري يعتقد أنه كافر بالدليل الظني – على طريقة الحنفية في الأصول – وكان صاحبه يعتقد بكفره بالدليل القطعي ، فكانت بين الرجلين جفوة أشار إليها القاري في صدر رسالته حيث قال : (( فترك صحبتنا واختار غيبتنا وعتبنا )) (2) .
والقاري وإن كان قد عرض هذا الموضوع على مذهب الحنفية الفقهي وطريقتهم في استنباط الحكم الشرعي ، إلا أن هذه الرسالة جاءت غنية بمادتها فريدة في بابها ، نظراً لما في مسألة التكفير من تردد بين العلماء ، فلا يقولون به إلا عند المسلمات والمهمات من أمور الدين .
__________
(1) مؤسس هذه الدولة هو صفي الدين الأردبيلي ، بدأت دعوته صوفية ، فالتف حوله كثيرٌ من المريدين ، ثم خلفه ابنه صدر الدين موسى الذي تبنى عقيدة الشيعة الإمامية واتخذها سلماً للوصول إلى قلوب القبائل الإيرانية ، وقد ساعدت الظروف السيئة على نشوء هذه الدولة في إيران . د. أحمد خولي ، الدولة الصفوية : ص 4 وما بعدها.
(2) شم العوارض : 1/ب .(114/1)
ولابد في البدء أن نعرف بالمؤلف ثم نسبة وتوثيق المخطوط مع بيان ملاحظاتنا عليها ، وأخيراً المنهج الذي سنسير عليه في تحقيق هذه الرسالة .
الملا علي القاري :
هو علي بن سلطان محمد القاري(1) ، نور الدين الملا الهروي الحنفي ، ولد بهراة وتلقى العلم على يد عدد من علمائها وعلماء خراسان منهم : أبو الحسن البكري ، والأيجي الصفوي والحفيد التفتازاني وغيرهم(2) .
نال الملا علي القاري ثناء عدد من العلماء نظراً لسعة مؤلفاته وتنوعها ما بين الفقه والحديث والأصول والعقائد ، قال العصامي : (( الجامع للعلوم النقلية والعقلية والمتضلع من السنة النبوية ... )) ثم قال : (( لكنه امتحن بالاعتراض على الأئمة لا سيما الشافعي وأصحابه ، واعترض على الإمام مالك في إرسال يديه )) (3) ، ولكن اعتراضه على بعض أصحاب الشافعي أو مالك لا يؤاخذ عليه إن كان يندرج تحت باب الفتوى والاجتهاد .
__________
(1) كذا يذكره المؤلف في صدر هذه الرسالة ( وهي بخطه رحمه الله ) ، وقيل : علي بن سلطان بن محمد ، وعليه أكثر المصادر . أما نسبته فهي إلى ( قار ) قرية بالري . معجم البلدان : 4/295 .
(2) شم العوارض : 6/أ .
(3) الشوكاني ، البدر الطالع : 1/445 .(114/2)
أما فيما يخص عقيدة الملا علي القاري ، فهو في عداد الماتريدية ، وإن كان كثيراً ما يثني على شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، قال ... : (( لقد دافع القاري – جزاه الله خيراً – دفاعاً كاملاً عن شيخ الإسلام وابن القيم ، ورد من رماهما بسوء الاعتقاد والتجسيم والتشبيه والضلال ، وأقر عقيدة السلف في الصفات ، وأنها لا تستلزم التشبيه كما دافع عن أهل الحديث ورد من يطعن عليهم بالتشبيه والحشو )) (1) ، ولكن مؤلفات القاري لم تكن لتخلو مما يعارض عقيدة السلف ، مثل قوله في الرسالة التي نحن بصددها - في معرض كلامه على عقيدته - : (( لا عَينَ ولا غَير في تحقيق صفَاتِ الذاتِ )) (2) ، ويبدو أن القاري لم يسلم من تأثيرات عصره ، خاصة وأنه قد عاش في عصر الدولة العثمانية ذات العقيدة الماتريدية ، وصاحبة الفروع الفقهية الحنفية(3) .
من المرجح أن عدم الاستقرار الذي شهدته خراسان خلال الحروب التوسعية للدولة الصفوية ، قد دفع القاري إلى الخروج من هذه الديار وسكن الديار المقدسة في مكة المكرمة ، حيث ألف هذه الرسالة ، وقال في توثيق ذلك : (( وَالحمدُ لله عَلى مَا أعطاني مِنْ التوفيق وَالقدرَة عَلى الهجرة مِنْ دَار البدعة إلى خير ديار السّنة ، التي هِي مُهِبط الوحي وظهِور النبوة ... )) (4) ، حيث ألف هذه الرسالة قبيل وفاته ببضع سنوات(5) ، حيث توفى سنة 1014هـ (6).
__________
(1) الماتريدية وموقفهم من الأسماء والصفات : 1/494 نقلاً عن الموسوعة الميسرة : 2/1714 .
(2) شم العوارض : 13/أ .
(3) الموسوعة الميسرة : 2/1713 .
(4) شم العوارض : 8/أ .
(5) المصدر نفسه : 16/ب .
(6) الشوكاني ، البدر الطالع : 1/445 ؛ المحبي ، خلاصة الأثر : 3/185 ؛ إسماعيل باشا ، هدية العارفين : 1/751 ؛ الزركلي ، الأعلام : 3/185 ؛ معجم المؤلفين : 7/100 .(114/3)
لقد ترك لنا الملا علي القاري عدداً كبيراً من المؤلفات في مختلف الفنون ، توزعت ما بين التفسير والإقراء والفقه والحديث والأصول ، وتجاوزت المائة والعشرين مصنفاً ما بين مجلدات كبيرة ، ورسائلٍ صغيرة(1) .
اسم الرسالة وتوثيقها :
التسمية التي اختارها الملا علي القاري لرسالته هذه هي ( شم العوارض في ذم الروافض ) هكذا ذكرها المؤلف بخطه في النسخة التي اعتمدناها كأصل في التحقيق ، على ما سيأتي بيانه في الفقرة التالية ، وقد ذكرها بعده أكثر من مؤلف بهذه التسمية ، إذ ذكرها حاجي خليفة بهذا الاسم أيضاً(2) وهي التسمية نفسها التي أثبتها إسماعيل باشا البغدادي في اثنين من مؤلفاته (3) ، فهذا يثبت صحة نسبة الرسالة للملا علي القاري ، كما يثبت في الوقت نفسه دقة تسميتها .
وقد ذكرت في نسخة دار الكتب المصرية بعنوان ( شيم العوارض في ذم الروافض ) وهو تصحيف نشأ عن عدم تحقيق التسمية ، إذ أن المعنى لا يتناسب مع السياق ، لأن العوارض تعني بلسان العرب الشبهة أو الآفة المعترضة في الفؤاد(4) ، ويقال : (( العوارض من الإبل اللواتي يأكلن العضاة عرضاً أي تأكله حيث وجدته )) (5) ، وربما استعار المؤلف هذا المعنى كي يجعله عنواناً لرسالته، فجمع ما بين الشبهة المعترضة في القلب ، وما بين الإبل التي تشم الكلأ قبل أن تأكله ، والله تعالى اعلم .
موضوع الرسالة :
__________
(1) يمكن الاطلاع على قائمة بهذه المؤلفات في هدية العارفين : 1/751 – 753 ؛ معجم المؤلفين : 7/100 – 101 .
(2) كشف الظنون : 2/1972 .
(3) هدية العارفين : 1/752 ؛ إيضاح المكنون : 2/55 .
(4) لسان العرب : 7/169 .
(5) المصدر نفسه : 7/175 .(114/4)
لا شك أن موضوع الرد على أهل الأهواء والضلال من الأمور التي شغلت العلماء من أهل السنة والجماعة على اختلاف مذاهبهم ، وقد اتخذت هذه الردود أشكالاً متنوعة تبعاً لظروف كتابتها أو مكانة مؤلفها ، والرسالة التي نحن بصددها الآن لا يمكن أن نفصلها عن الظروف السياسية لعصر المؤلف ، خاصة ظهور الدولة الصفوية في أرض إيران بعقيدتها الإمامية الغالية ، وإذا ما علمنا أن هذه الديار كانت حتى القرن العاشر الهجري ذات أغلبية سنية عظيمة ، تبين لنا عظم المصيبة التي ألمت بالمسلمين في إيران بظهور دولة الرافض فيها ، إذ بدأت أعمال وحشية تبناها رجال هذه الدولة ضد سكان إيران من أهل السنة لتحويلهم قسراً إلى مذهب الشيعة الإمامية ، وكان من أشد هؤلاء الشاه إسماعيل الصفوي الذي مارس ضد أهل السنة والجماعة أبشع أنواع القتل والتنكيل ، فقد نقل المؤرخون أنه قتل في مجزرة تبريز أكثر من عشرين ألف شخص ، ولم يفرق فيها بين رجل أو امرأة وشيخ أو صبي(1) .
وكان الملا علي القاري شاهد عيان على هذه الحقبة ، حيث كان يعيش في تلك الأثناء في مدينة هراة ، وينقل لنا في رسالته هذه كيف دخلت جيوش إسماعيل الصفوي إلى هذه المدينة ، وأعلنوا سب الصحابة على المنابر ، فامتنع علماء أهل السنة عن ذلك فقتلوا الشيخ معين الدين الأيجي خطيب الجامع الكبير في هراة ، ثم قتلوا بعد ذلك حفيد التفتازاني عند دخول الشاه إسماعيل الصفوي إلى هراة، وكلا الشيخين الشهيدين كانا من مشائخ القاري(2) .
__________
(1) الدولة الصفوية : ص 51 – 52 .
(2) شم العوارض : 6/أ .(114/5)
وهنا دار جدال بين العلماء من أهل السنة في حكم هذه الفرقة التي جاهرت بسب الصحابة على المنابر ، وعده من أفضل القربات والطاعات ، وهذه الرسالة تبين الحكم الشرعي في هذا الموضوع وفق ما يراه مؤلفها ، وقد كان متأثراً بطبيعة الحال بنشأته العلمية وخلفيته المذهبية ، إذ سار في طريق العرض والاستدلال في هذه المسألة وفق طريقة الحنفية في التفريق بين الدليل القطعي والظني عند النظر في الأحكام الشرعية ، ولم يتطرق إلى أقوال الأئمة الآخرين إلا في النادر ، وربما أن يكون السبب في تأليف هذه الرسالة - وقد تقدم ذكره - قد انعكس على أسلوبها ومنهجها .
كما يمكن أن نلاحظ أن الرسالة – على قيمتها العلمية – عرجت إلى مواضيع أخرى بعيدة عن المضمون مثل تناولها لمسألة الاجتهاد وشروط والمفتي وغيرها من المواضيع ، كما يمكن أن نلاحظ أن المؤلف أكثر النقل من كتب الفقه الحنفي ، في حين كان يمكن له الاستعانة بأقوال الأئمة الواردة في كتب العقيدة .
بقي أن نشير إلى أن الرسالة تفتقر أيضاً إلى النقل عن كتب الشيعة الإمامية التي ورد فيها سب الصحابة منسوباً إلى بعض أئمتهم ، وهذا الأمر ليس بمستغرب خاصة إذا ما علمنا أن الشيعة الإمامية يخفون هذه المؤلفات عن أعين الناس لما فيها من فضائح ، ولذا افتقرت ردود أهل السنة المبكرة عليهم من النقل من مؤلفاتهم ، وكان لعلماء الهند فيما بعد دورٌ كبير في اختطاط هذا المنهج والسير عليه ونقد عقائد الإمامية من خلال كتبهم ، ثم انتقل هذا الأسلوب إلى العراق على يد الأسر العلمية التي ظهرت فيه ، خاصة الأسرة الحيدرية والآلوسية .
وصف المخطوط :
اعتمدت في تحقيق رسالة ( شم العوارض في ذم الروافض ) على نسختين :(114/6)
الأولى : نسخة مكتبة الآثار العامة التابعة للمتحف العراقي ببغداد ، وهي نسخة بخط المؤلف ، وهي الرسالة الثانية في مجموع يحمل الرقم ( 35194 ) ويضم خمس رسائل ، وتحتل الصفحات ( 15 – 63 ) من هذا المجموع وتبلغ لوحاتها ( 25 ) لوحة من الحجم المتوسط ، ومسطرتها خمسة وعشرون سطراً ، في كل سطر حوالي عشر كلمات ، وقياساتها : ( 21 × 15 سم ) ، وكتبت هذه النسخة بخط واضح قد شكلت معظم حروف كلماته ، ولذلك اعتمدتها أصلاً ورمزت لها بالحرف ( م ) .
الثانية : نسخة دار الكتب المصرية بالقاهرة ، وتحمل الرقم ( 63 توحيد ) ، لا يعرف ناسخها ، ويبلغ عدد لوحاتها ( 31 ) لوحة من الحجم المتوسط ، ومسطرتها إحدى وعشرون سطراً ، في كل سطر تسع كلمات ، وقياساتها : ( 19 × 13 سم ) ، وكتبت هذه النسخة بخط واضح ، فيها بعض السقط استدركه الناسخ في حواشي المخطوط ، وفي حواشيها أيضاً بعض العناوين التي تشير إلى بعض المواضيع ، وقد رمزنا لهذه النسخة بالحرف ( د ) .
وأخيراً نود أن نشير إلى أن صيغة الصلاة في ( د ) قد جاءت هكذا : ( صلى الله تعالى عليه وسلم ) في حين أن صيغة الصلاة في ( م ) قد جاءت هكذا ( صلى الله عليه وسلم ) فجعلنا الصلاة كما في نسخة ( د ) ، كما وردت كانت هناك صيغة أخرى للصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، جاءت في أغلب الأحيان في ( م ) هكذا ( عليه السلام ) في حين أنها كانت في ( د ) هكذا ( عليه الصلاة والسلام ) ، فأثبتنا الصيغة الأخيرة ، إلا في بعض الحالات التي جاءت الصيغة متوافقة ، ولم نشر إلى ذلك عند المقابلة كي لا نثقل الهامش .
منهج التحقيق :
يمكن بيان المنهج الذي اعتمدناه في تحقيق هذه الرسالة بالنقاط الآتية :(114/7)
نسخ الرسالة بالاعتماد على النسخة ( م ) لما فيما من ميزات ، تمت الإشارة إليها سابقاً ، ثم مقابلتها بالنسخة ( د ) وإثبات الفروق في هامش الرسالة ، فاثبتنا في المتن ما اعتبرناه صحيحاً، كما قمنا بتصحيح بعض الألفاظ التي ترجحت لنا عند المقابلة .
عزو الآيات القرآنية إلى مكانها من السور والآيات في المصحف ، ووضع الآية بالقوس المشكل ثم تخريج رقم الآية واسم السورة وإلحاقه بالآية بقوسين معقوفين في متن الرسالة .
وضع عناوين جانبية للمخطوط بالاستعانة بما هو موجود في نسخة ( د ) ، أو بما رأيناه مناسباً من عندنا ، وقد ميزنا عناويننا بقوسين معقوفتين .
تخريج الأحاديث والآثار بذكر المصدر الذي يذكره المؤلف بالجزء والصفحة والرقم ، واعتمدنا ذكر الكتاب والباب إذا خرج الحديث من الكتب الستة ، ثم اتبعنا ذلك بذكر صحة الحديث أو ضعفه حسب قول أئمة الشأن في ذلك ، خاصة أحكام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ( رحمه الله ) على الأحاديث .
تخريج الروايات الواردة عن السلف من الكتب المعتمدة التي خرجت هذه الآثار .
ذكر الآراء الفقهية التي أشار إليها المؤلف من كتب الحنفية ، وبما أن المؤلف اكتفى في معظم الأحيان بذكر آراء الأحناف ، فقد أشرنا في الهامش إلى أراء الأئمة الثلاثة في المسألة التي يذكرها المؤلف من كتب الفقه المعتمدة .
التعريف بالأعلام الوارد ذكرهم في الرسالة بترجمة مختصرة مع ذكر مصدرين على الأقل من مصادر ترجمتهم ، كما تم التعريف بالكتب التي ذكرها المؤلف في متن الرسالة ، حيث ذكرنا اسم مؤلفه ووفاته ومذهبه .
تحقيق بعض المسائل التي ذكرت في متن الرسالة مما خالف في المؤلف عقيدة أهل السنة والجماعة ، وهي قليلة جداً ، ثم أثبتنا في الهامش القول الصائب من كتب أهل السنة والجماعة.
إعداد قائمة بمصادر ومراجع التحقيق .
في الختام لا بد من شكر أهل الفضل الذين ساعدونا في ضبط النص وتقويمه ، فجزاه الله خيراً .(114/8)
نسأله تعالى أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يتجاوز عن سيئاتنا ، ويختم لنا بالحسنى ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[ مقدمة المؤلف ]
الحمدُ لخالقِ البَرايَا ، وَالشكرُ لوَاهبِ العَطايَا ، وَالمَدحُ لِدَافعِ(1) البَلايَا ، والصَّلاةُ وَالسّلامُ على سَيدِ الأنبيَاءِ وَسَند الأصفيَاءِ ، وعَلى آلهِ وأصحَابهِ الأتقِيَاء ، رغماً للخَوارجِ والرّوَافِض مِنْ الأغبيَاء .
أمَّا بعدُ :
فيَقولُ الرّاجي برَّ(2) رَبِهِ البارِي عَلي بن سُلطان محمد القارِي : إنَّ أول مَا يجَبُ على العِبَاد تحسِين الاعتِقاد بِطَريقِ الاعتماد ؛ ليَنفَعهُم حيَن المعَاد يومَ التنادِ (3) ، وَمِنْ المعلُوم عند أربَابِ العُلُوم وَأصحابِ المفهوم أن مبنى العَقائدِ على الأدلةِ القَطِعية ، [ لاَ عَلى ] (4) الحجَج الظنِيّة المفيدَة في المسَائلِ الفقِهيةِ الفَرعية، وَذلكَ لقولِهِ تَعالى في ذَمِّ الكفَّار : ? إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئا ً صدق الله العظيم فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا صدق الله العظيم ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ? [ النجم : 28 – 30 ] وَالآيَاتُ في [ هذا ] (5) المَعْنى كثيَرة ، والأحادِيثُ في المبنى كثيرة(6) شِهيرة ، والإجماعُ منعقد عليَه [ عند ] (7) من يؤخذ مَعِرفة لدَيه .
__________
(1) في ( د ) : ( لرافع ) .
(2) برّ ) سقطت من ( د ) .
(3) يوم التناد ) سقطت من ( د ) .
(4) زيادة من ( د ) .
(5) وردت في ( د ) : ( هذه ) ولا توجد في ( م ) .
(6) كثيرة ) سقطت من ( د ) .
(7) زيادة من ( د ) .(114/9)
وإنما الخلاف في أنَّ إيمانَ المقلدِ هَلْ هُوَ صحِيحٌ أم لا ؟ [ 1/ب ] فالجمهُور على أنْهُ يَصِحّ إلا أنه مُؤاخذ بتركِ ما يجَبُ علَيهِ ، والمحققونَ لا يَميلُونَ إليَهِ ، حَتى إمُامنَا الأعظم وَهمامَنا الأفخم(1) أوجَب الإيمان بمجردِ العَقل ، وَلو لم يبعثِ الرسُل ، ولم يظهر النقل ، ويؤيّدُه قَوله تعَالى : ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ ? [ الذريات : 56 ] أي ليعرفون(2) ، كما فسَّرهُ حَبرُ الأمَّةِ ومقتدى الأئَمة(3) .
__________
(1) هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي ، إمام أصحاب الرأي ، وفقيه العراق ، قال الشافعي : الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة . وفاته سنة 150هـ . تاريخ بغداد : 13/323 ؛ سير أعلام النبلاء : 6/309 .
(2) لم أجد هذه الرواية عن ابن عباس ، وإنما هي تنسب إلى ابن جريج كما في تفسير ابن كثير : 4/239 ؛ وقد تمسك بعض الصوفية بهذا الحديث في ترجيح تفسير هذه الآية كما في تفسير أبي السعود : 2/130 . وقد روى الطبري عن ابن عباس في تفسير : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون : إلا ليقروا بالعبودية طوعا وكرها )) ، وقد رجح هذه الرواية وانتصر لها في تفسيره : 27/12 .
(3) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب من مشاهير علماء الصحابة في التفسير لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفاته سنة 68هـ . ترجمته في تذكرة الحفاظ : 1/40 ، تهذيب التهذيب : 5/242 .(114/10)
وأما قوله تعالى(1) : ? وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ? [ الإسراء : 15 ] فالمرادُ بِهِ عَذاب الدنيَا دُونَ عَذابِ الآخِرةِ(2) ، أو يجعَل العَقل أيضاً رَسُولاً ؛ لأن بِهِ إلى مَعرفةِ الحَقِّ وصُولاً وَبُدونَه ، حَتى معَ وجُودِ الرسول لم يكنْ حصُولاً(3) .
__________
(1) في ( د ) : ( سبحانه ) .
(2) في ( د ) : ( العقبى ) . وقول القاري هنا أن العذاب مخصوص بالدنيا ذهب إليه بعض أهل العلم ، وذهب آخرون إلى أن : (( هذا عام في الدنيا والآخرة )) . القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن : 10/231 .
(3) لا يمكن للعقل أن يدرك مقام العبودية بدون رسالة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( وقد ذكر الآمدي ثلاثة أقوال في طرق العلم : قيل بالعقل فقط والسمع لا يحصل به كقول الرازي ، وقيل بالسمع فقط وهو الكتاب والسنة ، وقيل بكل منهما ورجح هذا وهو الصحيح )) . النبوات : ص 174 .(114/11)
ثمَّ مِنْ الغِرَيبِ ما وَقعَ في القريب أنه صدر عَني في بعضِ مَجالِسِ درسي وَمجامع أنسِي : أن سَبَّ الصحَابة ليسَ كفراً(1) بالدلِيلِ القطعي بَل بالظني ، وَإنَّما يقتلُ السَاب للأصحَاب في مَذهَبنا سَياسَة للِدوَاب عَن قلةِ الآدابِ في هَذا البابِ ، فتوشوش خاطر بَعض الحاضِرينَ مِنْ الرجَالِ ، مِمنْ يشبه الأعوَر الدَّجال، الذِي لم يفرقْ بَينَ الحَقِّ مِنْ الأقوالِ ، وبَينَ البَاطلِ الصادرِ عَنْ أهلِ الضلالِ ، وَاغتَر بمنْ(2) قرأ بَعض المقَدمَاتِ الرسميَّةِ مِنْ العلُومِ الغريبةِ الوَهِمية ، ولم يُميزْ بَينَ العَقائدِ القَطِعِية وَالفَوائدِ الظنيَّة ، حَيْثُ ألتقط عَقيدَته من ألسِنةِ(3) العَوامِ ، أو مِنْ آبائِهِ الذِينَ لم يكونُوا مِنْ العُلمَاءِ الأعلامِ ، وَقَدْ قالَ تعَالى في ذمِّ هَؤلاءِ الذِينَ كالأنْعَامِ، قالوا : ? إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ? [ الزخرف : 23] أي : على أنوارِهِم مُهتَدونَ(4) و : ? كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ? [ المؤمنون : 53 ] وَمُعتَمدُونَ(5).
__________
(1) في كلا النسختين : ( كفر ) .
(2) في كلا النسختين : ( بما ) .
(3) في ( د ) : ( ألسن ) .
(4) قال مجاهد في تفسير : ? وإنا على آثارهم مقتدون ? قال : بفعلهم ، وقال قتادة : فاتبعوهم على ذلك . تفسير الطبري : 25/61 .
(5) قال ابن كثير : (( أي يفرحون بما هم فيه من الضلال ؛ لأنهم يحسبون أنهم مهتدون )) . التفسير : 3/248 .(114/12)
فَتركَ صُحبتنا وحَضرتنا ، وَاختارَ غيبتنا وَعتبنا(1) ، وكانَ الوَاجبُ عليِهِ مِنْ الأدَبِ لدَيِهِ(2) أنْ يُغْمضَ عينه مِنْ بَعضِ عيُوبنا ، لَو تحقق شَيْءٌ مِنْ ذنُوبنِا رعايَة لِحفظِ قلوُبنا ، إذْ غايَته أنَّه إذَا(3) وقع خطأ مِنا والمجتهد قَدْ يخطئ في مَذهَبنِا ، أو انفَردنا بهذا القَوْلِ عَنْ غيرنا أو تبعنا أحداً مِنْ مَشائخِنَا [ 2/أ ] فتَعيَن عَلَيْهِ أنْ يَأتِينا بنقلٍ لدَيه ، أو روَايةٍ وَصَلتْ إليَهِ ، أو يبحَث معَنَا ، ليظهرَ مَا عِنْدَنا فيَقبلهُ مِنا أو يَردهُ عَلينَا، فنَقبلهُ [ منه ] (4) أو نَدفعهُ عَنا ، كما هُو طِريقة العُلَماء وَالطلَبة مِنْ الفُضَلاءِ .
هَذا الإمَام الأعظم وأصحَابه في مَقَامِهِ الأفخمِ ، كانوا يتَباحثونَ في المسَائل ، ويتَناقشونَ في الدلائلِ ، ويتَنافسونَ في الفضائلِ ، فإمّا أنْ يَرِجْعَ الإمَامُ في أقِوالهِم ، أو يَرجعونَ(5) إلى قولِهِ بتحسِين أحَوالهم ، وكذَا كَانَ حَالُ السَّلفِ مِنْ الصَحابةِ والتَابعينَ في مجَالسِهم الجامِعينَ ، يتَذاكرونَ في العِلمِ ويتبَاحثونَ بالحِلمِ هنالكَ ، بخَلافِ الخلف حَيْثُ كانَ خلقُهُم على خَلافِ ذلَكَ .
__________
(1) وعتبنا ) سقطت من ( د ) .
(2) لديه ) سقطت من ( د ).
(3) في ( د ) : ( قد ) .
(4) زيادة من ( د ) .
(5) في ( د ) : ( يرجعوا ) .(114/13)
وكذَا لمَّا منعَ الإمَامُ وَلدَه حَماد(1) عَنْ البَحثِ في علمِ الكلامِ ، وأجَابَ عَنْه بأنَّي رَأيتك تَبحَثُ في هَذا المرامِ ، فَقَالَ : نَعَمْ إنَّي كُنْتُ في الجنَّةِ مع صَاحِبي وأخَاف عَليِه مِنْ أنْ يخطئ في ذلكَ المقامِ ، وأنتم في هذِه الأيامِ تتَباحثونَ ، وكلٌّ(2) منكِم يريدُ أنَّ صَاحبَه يقع في الكفرِ والملامِ ، بَلْ أنتم بهذَا تَفرحونَ وتَتفاخرونَ ، ومِنْ أرَادَ أنْ يذلَّ صَاحِبَه ، وَيكفر كَفر قَبْلَ أنْ يكفرَ صَاحِبَه .
ثم أغرب مِنْ هَذَا أنَّه انتقل مِنا إلى بَعضِ إخوانِنا مِمنْ(3) يستعيض مِنْ عَدوِنا ، وَيفيض مِنْ مَدَدنا حَيثُ لم يلقَ مِنْهُ مِنْ بَعدنا ، فحرم مِن شمة وردنا وَسَابقة وَردنا بَعد اختِيار بُعدنا .
__________
(1) هو حماد بن أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، كان على مذهب والده ، كان صالحاً خيراً ، وضعفه ابن عدي من قبل حفظه ، وفاته سنة 176هـ . سير أعلام النبلاء : 6/403 ؛ لسان الميزان : 2/346 .
(2) في ( د ) : ( فكل ) .
(3) في ( د ) : ( مما ) .(114/14)
وَمِنْ اللطائفِ في مَراتبِ الظرائف ، أنْ بَعضَ طلبَة العِلم الشريف بَحث مع شيخه في مَحفلٍ منيف(1) ، وكلما أتَاه الأستَاذ في دَفع مَا أورده عليه من الإيراد نقضه ، وأجَابَ بما يُناسِبُهُ(2) مِنْ الأسِتَاذ ، فلمَّا عَجزَ عَنه شيخه في الجوَابِ ، قالَ لهُ في مَقامِ العتاب : (( مَا أحسَن دأبكم في مُرَاعَاة الآدَاب ، أنْه إذَا وَقعَتْ [ زلة مِنْ معلمكم ] (3) في فصِلِ الخطابِ ، تَتعلقونَ بحلقه ولا تتَحملونَ بَعضَ غلطِهِ وزيفِهِ ، فما أحسنَ آدابَ الصَّوفيّة والمريدين ، حَيثُ يصَدقونَ [ 2/ب ] مَشائخهم ، ولو تَكلمُوا بما يخَالف مِنْ أمُورِ الدينِ ، فقالَ(4) التلميذ هكذا دَأبهم وآدابهم ، وعلى نَحو هَذَا العُلمَاء وَأصحَابهم(5) ، ثُمَّ(6) عَلم كلُّ أُناسٍ مَشربهم ، وعَرَف كلُّ طَائفةٍ مذهَبهم .
إن قتل الأنبياء وطعنهم في الأنساب(7) كفر :
__________
(1) في ( د ) : ( المنيف ) .
(2) في ( د ) : ( يناسب ) .
(3) ما بين المعقوفتين جاءت في ( د ) : ( ذلة مَن يعلمكم ) .
(4) في ( د ) : ( فقام ) .
(5) في ( د ) : ( وأعصابهم ) .
(6) في ( د ) : ( فقد ) .
(7) في ( د ) : ( الأشياء ) .(114/15)
ثُمَّ اعلم(1) أنْ مِنْ القَواعِدِ القطعِيَّة في العَقائدِ الشرعيّةِ ، أن قتل الأنبياء وَطعنهم في الأنْساب(2) كفر بإجماعِ العُلماء ، فمَنْ قتلَ نبياً أو قتَله نبيٌّ فهو مِنْ أشقى الأشقياء(3) ، وأمَّا قتل العُلماءِ والأوليَاءِ وسبُّهم على ألسنَةِ الأغبياءِ ، فلَيْسَ بكفرٍ إلاَّ إذَا كَانَ [ عَلى ] (4) وَجه الاستحلالِ أَوْ الاستخفافِ ، كما هُوَ ظَاهر عندَ أربَابِ الإنصاَفِ دُونَ أهلِّ التعَصبِ وَالاعتسَافِ(5) .
قذف عائشة رضي الله عنها :
__________
(1) النص من هنا نقله ابن عابدين في حاشيته : 7/162 .
(2) في ( د ) : ( الأشياء ) ، وكذا في حاشية ابن عابدين .
(3) من ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبياً )) . المسند : 1/407 ، رقم 3868 ؛ كذلك أخرجه البزار في مسنده : 5/138 ، رقم 1728 .
(4) زيادة من ( د ) . وكذا في حاشية ابن عابدين .
(5) في ( د ) : ( الاسعاف ) .(114/16)
فَقاتلُ عثمَان بن عَفَّان وعَلي بن أبي طالب رَضي اللهُ عَنهِما ، لم يَقل بكُفْرهِ(1) أحَدٌ مِنْ العُلماء إلاَّ الرّوَافِض في الثاني وَالخَوارج في الأول ، وَأما مَنْ قذَفَ عَائشة فكَافرٌ بالإجماعِ ؛ لمِخالفَته نص الآياتِ المبرئة(2) لَها مِنْ غَيْرِ النزاع ، وكَذا مَنْ أنكر صُحبَة أبي بكرٍ الصديق [ - رضي الله عنه - ] (3) كفر ؛ لإنكاره مَا أثَبتَ اللهُ بإخبَارِهِ في كتابه حَيثُ قالَ تعالى : ? إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ? [ التوبة : 40 ] (4) بخلافِ مَنْ أنكر صُحَبة عُمر أو عَلي لعَدَمِ تضَمنه مُخَالفة الكتاب ، وَإنْ كاَنَ صِحَّة صُحبتهما بِطريقِ التوَاتر في هَذا البَابِ ، لأن إنكار كل مُتوَاتِر لا يكُون كفراً في معرض الكتاب(5) .
ألا ترى أن مَنْ أنكرَ [ جود حاتم(6) بل ] (7) وجُوده ، أو عَدالة نوشروَان(8) وَشهوده لا يصَير كافِراً في هذا الصّورَة ؛ لأن إنكار مثل هذا ونحوه ليسَ مِما عُلِمَ مِنْ الدينِ بالضرورَةِ .
__________
(1) كذا في ( د ) وحاشية ابن عابدين . وفي ( م ) : ( بكفر ) .
(2) في ( د ) : ( المعبرة ) .
(3) زيادة من ( د ) .
(4) إن الله معنا ) لم ترد في ( م ) .
(5) هذا الكلام ليس على إطلاقه ، وسيأتي تفصيل الأمر إن شاء الله في متن هذه الرسالة .
(6) هو حاتم بن عبد الله بن سعد الحشرج الطائي القحطاني ، أبو عدي ، شاعر وفارس عاش في الجاهلية ، يضرب المثل بكرمه ، أدرك ابنه عدي الإسلام فاسم ، وله قصة مع النبي صلى الله عليه وسلم . الشعر والشعراء : ص 70 ؛ تاريخ دمشق : 11/369.
(7) زيادة من ( د ) . وكذا في حاشية ابن عابدين .
(8) كذا في الأصل والأصح أنو شروان : بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد ، من مشاهير ملوك الفرس قبل الإسلام ، تولى الملك سنة 523م ، ومات في عام الفيل سنة 570م . تاريخ الطبري : 1/529 ؛ تاريخ ابن خلدون : 2/176 .(114/17)
مسألة من اعتقد أن سب الصحابة مباح فهو كافر :
وَأمَّا مِنْ سبَّ أحَداً مِنْ الصِحَابة ، فهوَ فاسِق وَمبتَدع بالإجماع إذَا اعتقد أنه مُبَاح ، كَمَا عَليه بَعض الشيعَة وَأصحَابهم ، أو يترتب عَلَيه ثَواب كَمَا هوَ دَأبُ كِلامِهم ، أو اعتقد كفر الصّحابة وأهل السنةِ في فصلِ خِطابهم فإنه كافر بالإجمَاع ، ولا يلتفت إلى خِلاَفِ مخالفتهم في مقَامِ النِزاعِ ، فإذَا عَرفت ذلك فلا بدَّ مِنْ تفصِيل هُنالك .
[ قول ] (1) علماؤنا يقتل بالسياسة :
فإذا سَبَّ أحَدٌ(2) أحَداً مِنهُم ، فينَظر هَل مَعَهُ قرائن حَالِية أو قالِية(3) [ 3/أ ] عَلى مَا تقدمَ مِن الكفريات أم لا ؟ فِفي الأولِ كافر وفي الثاني فَاسِق ، وَإِنما يقتلُ عَندَ عُلمائنا بالسيَاسَة لدفعِ فَسَادِهم وَشر عنادهم(4)(5) .
لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث :
__________
(1) زيادة من المحقق كي يستقيم العنوان .
(2) أحدٌ ) سقطت من ( د ) . وكذا من حاشية ابن عابدين .
(3) في ( د ) : ( قابلية ) .
(4) في ( م ) : ( عنائهم ) .
(5) انتهى نقل ابن عابدين : 7/162 .(114/18)
وَإلا فَقد قالَ عَلَيه الصلاةُ وَالسّلام في حَديثٍ صَحَّت(1) طرقه عَندَ الُمحدثيَن الأعلام : (( لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَن محمداً رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ )) رَوُاه البخاري وَمْسلم وأبوُ دَاود وَالترمذِي وَالنسَائي عَن ابن مَسعُود(2) .
__________
(1) في ( م ) : ( صح ) وفي ( د ) : ( صحيح ) ، وما أثبتناه أنسب للسياق .
(2) صحيح البخاري ، كتاب الديات ، باب قوله تعالى : أن النفس بالنفس : 6/2521 ، رقم 6484 ؛ صحيح مسلم ، كتاب القسامة ، باب ما يباح به دم المسلم : 3/1303 ، رقم 1676 ؛ سنن الترمذي ، كتاب الديات ، باب لا يحل دم أمرؤ مسلم إلا بإحدى ثلاث : 4/19 ، رقم 1402 ؛ سنن أبي داود ، كتاب الحدود ، باب الحكم فيمن أرتد : 4/126 ، رقم 4352 ؛ سنن النسائي ، كتاب القسامة ، باب القود : 8/13 ، رقم 4721 .(114/19)
وَقَد أخرجَهُ الإمَام أحمد في ( مسندِهِ ) أيضاً لكن عن أبي إمَامَة بن سَهْل قال : (( كُنَّا مَعَ عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي الدَّارِ ، فَقَالَ : إِنَّهُمْ يَتَوَعَّدُونِني بِالْقَتْلِ ، قُلْنَا : يَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ : وَلِمَ يَقْتُلُونَنِي ؟! سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ : رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا فَيُقْتَلُ بِهَا ، فَوَاللَّهِ مَا أَحْبَبْتُ [ أَنَّ لِي ] بِدِينِي [ بَدَلاً ] (1) مُنْذُ هَدَانِي اللَّهُ ، وَلاَ زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إِسْلاَمٍ قَطُّ وَلاَ قَتَلْتُ نَفْسًا ، فَبِمَ يَقْتُلُونَنِي ؟! )) (2) .
تارك الصلاة يقتل خلافاً للشافعي :
فِفي الحَديثِ جَاءَ بصِيغةِ الحَصرِ في العبَارةِ دلاَلة بطريقِ الإشَارةِ : لا يقتل أهل البدعَة مِنْ الرّوَافِض والخوَارجِ إلاَّ إذَا صَارُوا مِنْ أهِلِ البِغي ، وكَذا تارك الصلاةِ لا يقتل خِلافاً للشافِعي(3) ، ولا رأيت سَنَداً عَليه يعول(4) .
وأما الحديث فليس على ظاهره :
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من المسند .
(2) المسند : 1/61 ، رقم 437 ؛ ومن الطريق نفسها أخرجه أبو داود ، السنن ، كتاب الديات ، باب الإمام يأمر بالعفو عن الدم : 4/170 ، رقم 4502 ؛ البيهقي ، السنن الكبرى : 8/18 .
(3) هذا على رأي الحنفية ، قال الشافعي : (( يقال لتارك الصلاة : الصلاة عليك شيء لا يعمله عنك غيرك ولا تكون إلا بعملك فإن صليت وإلا استتبناك فإن تبت وإلا قتلناك )) . الأم : 1/255 . وينظر رأي الحنابلة في المغني : 9/21 ؛ ورأي المالكية في التاج والإكليل : 1/420 .
(4) في ( د ) : ( بقول ) .(114/20)
وَأمَّا قوله عَليه الصَّلاة وَالسَّلاَم : (( مَنْ ترك الصَّلاةَ متعَمداً فقد كفر )) (1) فليسَ على ظَاهرِهِ عِندَ أهِل السَّنة مِمن اعتبر ، بَل هو(2) مؤول بأن مَعناهُ قرب الكفر ، فإن المَعَاصي(3) بريد(4) الكفر ، أو جَره إلى كفره في عَاقبةِ أمرِهِ إنْ لم يتدَاركهُ الله بلطفهِ ، أو شابه كفر الكافرِ في تركهِ(5) ، أو محَمُول على مستحلِهِ فيَدخلُ في حَدِّ المرتد وَنَحوه .
وَأمَّا تفسِير الشافعي للِحَدِيثِ بأنه أستحق عقوبةَ الكفرِ ، فلَيْسَ ظاهِراً في المدعى ؛ لأنهُ يحتمل استحقَاقَ(6) عُقوبته في الدنيا والآخرة ، مع أنه لا يتأول [ 3/ب ] بكفره في العُقبَى ولاَ يقتلهُ بناءً عَلى كفرِهِ في الدنيَا .
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الأوسط عن أنس : 3/343 ؛ وهو ضعيف كما ذكر الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير : 2/148 ؛ والألباني في ضعيف الجامع : رقم 5521 .
(2) بل هو ) سقطت من ( د ) .
(3) فإن المعاصي ) سقطت من ( د ) .
(4) في ( د ) : ( يريد ) .
(5) في ( د ) جاءت العبارة هكذا : ( شابه الكفر في تركه ) .
(6) في ( د ) : ( استخفاف ) .(114/21)
وَأمَّا مَا ذكر بَعضهم من أنْ المراد بالمرتد في الحَدِيثِ الأول : (( مَنْ بدل دينه )) (1) ، وَبالمفارق مَنْ غيّر بَعض دينه فَيدخل(2) في الحَدِيث أهل البَغي وَالخَوارج وَالرَوافِض ، فيَجبُ المعَاملَة مَعهُم حَتى يَرجعوا إلى الحَقِّ ، فِفيه مِنْ المُعَارضَة وَالمقابلَة أن الكلام في القتل لا في المعَاملة ، أمَا ترى أن الإجماع عَلى عَدَم جواز قتِل بَاغٍ بانفِراده خَارجي أو رَافضي وَحِده مِنْ غير ظهُور كفر منهُ غَير بدعتِهِ .
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري عن عكرمة أن عليا رضي الله عنه حرق قوماً فبلغ ابن عباس فقال : (( لو كنت أنا لم أحرقهم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تعذبوا بعذاب الله ولقتلتهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من بدل دينه فاقتلوه )) . الصحيح ، كتاب استتابة المرتدين ، باب حكم المرتد : 6/2537 ، رقم 6524 ؛ وأخرجه الترمذي أيضاً في سننه ، كتاب الحدود ، باب المرتد : 4/59 ، رقم 1458 ؛ النسائي ، السنن ، كتاب تحريم الدم ، باب الحكم في المرتد : 7/104 ، رقم 4059 ؛ أبو داود ، السنن ، كتاب الحدود ، باب الحكم فيمن ارتد : 4/126 ، رقم 4351 ؛ ابن ماجة ، السنن ، كتاب الحدود ، باب المرتد عن دينه : 2/848 ، رقم 2535 ؛ الإمام أحمد ، المسند : 1/217 ، رقم 1874.
(2) في ( د ) : ( فدخل ) .(114/22)
وكذَا مَانعُو الزكاةِ يقاتلون ، بِخلاف مَنْ تركهَا بغَير قِتالٍ فَإنه لا يقتل(1) ، فكَذَا تارك الصَّلاة لا يقتل بَل يحبس وَيُعَزر ، وإذَا كَانَ أهل قريَةٍ تركوُهَا ، بَل تركُوا الأذان الذي هُوَ سُنة مِنْ شِعَارها(2) لَقوتلُوا ، كما صَرحَ بهِ الإمَامُ محمد(3) مِنْ أئمتِنا ، فحَصَلت المَوافقة وَالُمطابقة مِنْ هذا الحَدِيث الشريف .
__________
(1) احتج الفقهاء هنا بفعل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عندما قاتل من منع الزكاة فإنه يقاتل إن رفع السيف وإلا أخذت منه الزكاة عنوةً من قبل الإمام . ينظر تفاصيل هذه المسألة عند ابن قدامة ، المغني : 2/228 ؛ الكاساني ، بدائع الصنائع : 2/31 ؛ الخطيب الشربيني ، مغني المحتاج : 1/381 ؛ شرح الزرقاني على الموطأ : 2/170 .
(2) في ( د ) : ( شعائرها ) .
(3) محمد بن الحسن بن فرقد ، أبو عبد الله الشيباني ، الفقيه تلميذ أبي حنيفة ، وفاته سنة 189هـ . تاريخ بغداد : 2/172 ؛ وفيات الأعيان : 4/184 ؛ سير أعلام النبلاء : 9/134 . .(114/23)
وحديث : (( أُمرتُ أنْ أقاتِلَ النَّاسَ حَتى يَشهَدُوا : أنْ لاَ إلَه إلاَّ الله ، وأنْ محمداً رَسُول الله ، ويقيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤتوا الزكَاةَ ، فِإذَا فعَلوُا ذلك عَصَمُوا مِنّي دمَائهم وَأموَالهم إلاَّ بِحَقِّ الإسلاَمِ وَحِسَابهم على الله )) رَوَاهُ أصحاب الكتب الستة عَن أبي هُرِيَرة(1).
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب الإيمان ، باب قوله تعالى ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة ) : 1/17 رقم 25 ؛ صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا : 1/52 ، رقم 21 ؛ سنن الترمذي ، كتاب الإيمان، باب أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا : 5/2 ، رقم 2606 ؛ سنن أبي داود ، كتاب الجهاد ، باب على ما يقاتل المشركون : 3/44 ، رقم 2640 ؛ سنن النسائي ، كتاب الجهاد ، باب وجوب الجهاد : 7/77 ، رقم 3971 ؛ سنن ابن ماجة ، كتاب الفتن ، باب الكف عمن قال لا إله إلا الله : 2/1295 ؛ رقم 3927 .(114/24)
وَروَاهُ ابن جرير(1) وَالطبَراني في ( الأوسَط ) عَن أنَس ، وَلفظه : (( أمرتُ أنْ أقاتِل الناس حَتى يشهدوا أنْ لاَ إلَه إلاَّ الله ، فإذَا قالُوها عَصَمُوا مِنّي دِمَائهم وَأموَالهم إلاَّ بحقها ، قيلَ : وَمَا حَقها ؟ قالَ : زَنا بَعْدَ إحصَان أو كفرٌ بَعدَ إسلام أو قتلُ نفسٍ فتقتلُ بِها )) (2) .
وَأخرجَهُ مُسْلم عَن أنس ، وَلَفظهُ(3) : (( أُمرتُ أنْ أقاتِلَ المشركِين حَتى يَشهَدُوا أنْ لاَ إلَه إلاَّ اللهَ ، وأنْ محمداً عبدُهُ ورَسُوله ، وأنْ يَسِتقبلُوا قِبلتنَا ، وأنْ يَأكلوا ذَبيحتنَا وَأن يُصَلوا صَلاتنا ، فإذَا فعَلُوا ذلكَ حرمت عَلْينَا دمَائهم وَأموَالهم إلاَّ بِحقهَا ، لَهُم مَا للمُسلِميَن وعلَيهم مَا عَلى المُسلِمينَ )) (4) .
__________
(1) هو محمد بن جرير الطبري ، الإمام صاحب التفسير والتاريخ وغيرها من المؤلفات ، وفاته سنة 310هـ . تاريخ بغداد : 2/169 ؛ سير أعلم النبلاء : 14/266 .
(2) تفسير الطبري : 15/80 ؛ الطبراني ، المعجم الأوسط : 3/300 ، رقم 3221. وكلاهما أخرجاه من طريق عمرو بن هاشم البيروتي عن سليمان بن حيان عن حميد الطويل عن أنس ، وعمرو البيروتي اختلف فيه ، قال ابن وراة : كتبت عنه وكان قليل الحديث ليس بذاك ، وقال ابن عدي : ليس به بأس ( تهذيب التهذيب : 8/99 ) ، قال الذهبي : وثق ( المغني : 2/491 ) ، وقال الحافظ ابن حجر : صدوق يخطئ ( تقريب التهذيب : ص 428 ) ؛ قال الهيثمي : والأكثر على توثيقه ( مجمع الزوائد : 1/26 ) .
(3) في ( د ) : ( بلفظ ) .
(4) ربما وهمَّ المؤلف فنسب الحديث لمسلم ولم يرد بهذا اللفظ عنده بل ورد عند البخاري ، الصحيح ، كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة : 1/153 ، رقم 385 ؛ وأخرجه الترمذي ، السنن ، كتاب الإيمان ، باب أمرت أن أقاتل الناس : 5/2 ، رقم 3608 ؛ أبو داود ، السنن ، كتاب الجهاد ، باب على ما يقاتل المشركون : 3/44 ، رقم 2641 .(114/25)
إثبات كفر من سب الصحابة عموماً أو الشيخين خصوصاً :
فلنَرجع إلى مَا نَحن بصِددِهِ [ 4/أ ] مِنْ إثباتِ كفر مَنْ سَب الصّحابة عمُوماً أو سَب الشيخَين خصُوصاً ، فَلا شك في أنَّ أصول الأدِلةِ ثلاثة هَي : الكِتاب وَالسُنة وَإجمَاع الأمةِ ، فأمَّا الكتاب فَهوَ خالٍ عَن هَذا الخطَاب ، وكَذَا الإجماع مَفقود في هَذَا الباب ، فبَقي الأحَاديث وَهَي آحَاد الإسناد ، ظني الدَلالَة في مِقَام الأستِناد ، وَلهَذا لم يذكرها الفقهاء كفر الرافضي في كلماتِ(1) الكفر وَلا في بَابِ الارتدَاد ، فإنْ كانَ عِندَ أحدٍ(2) نقلَ قائلٍ(3) للاعتِماد ، فعَليَه بالبيَان في معرض مِيدَان الاعتِقاد .
وإمَّا ما اشتهرَ عَلى ألسنة العَوَام من أنْ سبَّ الشيخَين كفر، فلم أرَ نقَلهُ صَريحاً ولا روَايته ضعيِفاً وَلا حَسَناً وَلا صحيحاً ، وعلى تقدير ثبُوتِهِ وَتَسليم صِحتِهِ ، فَلاَ ينبَغي أن يحمل عَلى ظاهرِهِ ؛ لاحِتمالِ مَا تقدمَ مِنْ التأويلاَتِ في كفْرِ تارِكِ الصَّلاةِ ، إذ لو حملَ الأحَادِيث كلهَا على الظَواهِر ، لأشكل ضبط القواعِد وَحِفظ النوادر ، وَحَيثُ يَدخل مِنهُ الاحتمال لاَ يَصلح الاستدلاَل ، لاَ سيما في قتل المُسلم وَتكفِيره ، وَقد قِيل : لو كان تسعَة وتسعَونَ دَليلاً عَلى كفر أحَد ، وَدليل وَاحد عَلى إسلاَمه ، ينبَغي للِمفتي أنْ يَعمل بذلكَ الدليل الوَاحِد ؛ لأن خطأه في خلاَصِه خيرٌ مِنْ خَطئه في حَدّهِ وَقصَاصِهِ .
لا يقال كيف نسبت قول سَبّ الشيخين كفر إلى العَوام ، مَع أنهُ مُذكوُر في بَعض كتب الفتَاوى لبَعض الأعلام ، فإنِّا نقول :لم أرَ نقله إلاَّ مِنْ المجهُولينَ الذينَ هم في طريق التحقيق غَير مَقبُوليَن ، فلاَ يعتبر في بَابِ الاعِتقاد الذي مَدَاره عَلى مَا يَصِح بِهِ الاعتماد .
__________
(1) في ( م ) : ( وكلمات ) .
(2) في ( د ) : ( واحد ) .
(3) في ( د ) : ( قابل بل ) .(114/26)
[ حكم سب الصحابة عند الحنفية : ]
والحاصل : أنه ليس(1) بمنقولٍ عَن أحدٍ مِنْ أئمتنا المتقدمين كأبي حَنِيفة وأصحابه ، وَأمَّا غَيرهم فَهم رجَال وَنحنُ رجَال ، فلاَ نُقلد قَولهم مِنْ غَير دَليل عقلي وَنقلي ، يؤتى به مِنْ طَرِيق ظنّي أو قطعي ، مَع أنهُ مُخالف للأدلة القطعية والظنية المأخوذة مِنْ الكتاب وَالسنة المروية [ 4/ب ] التي تفيد في العَقائد الدينية أو تفيد(2) في القَواعدِ الفقهية ، فإن ما وَردَ فيها إمَّا ضَعِيف في سندِهِ أو مُؤول في مسَتندِهِ ، لئلا يعَارض القَواعِد الشرعية ، فإن القولَ بالتكفير مُعارض لمَّا نص عليه أبُو حَنِيفة في ( الفِقه الأكبَر ) ، مُوافقٌ لمَّا عَليه جَمع المتكلِميَن مِنْ أهل القبِلة لا يكفر ، وعليه الأئمة الثلاثة مِنْ مَالِك وَالشافِعي وَأحمد ، وَسَائر أهل العِلم المعتَمد في المعتقد .
وَقد صرحَ العلامة(3) التفتازَاني(4) في ( شرح العَقائد ) (5) بأن سَب الصَحابة بدعَة وفسق(6) ، وكذا
__________
(1) أنه ليس ) سقطت من ( د ) .
(2) في ( د ) : ( تعتبر ) .
(3) في الأصل ( علامة ) ولا تصح ، وقد سقطت هذه الكلمة من ( د ) .
(4) هو سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني ، من أئمة العربية والفقه والمنطق والبيان ، له مؤلفات عديدة ، وفاته سنة 793هـ . الدرر الكامنة : 6/112 ؛ شذرات الذهب : 6/391 .
(5) المسماة ( شرح العقائد النسفية ) . هدية العارفين : 2/430 .
(6) كذا ذكر المؤلف ، وهذه المسألة خلافية بين الفقهاء ، قال القاضي أبو يعلى : (( الذي عليه الفقهاء في سبِّ الصحابة ، إن كان مستحلاً لذلك كفر ، وإن لم يكن مستحلاً فسق ، ولم يكفر سواء كفرّهم أو طعن في دينهم مع إسلامهم ، وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة )) . الصارم المسلول : 3/1061 .(114/27)
صَرح أبُو الشكور السالمي(1) في ( تمهيده ) (2) : أنَّ سَبَّ الصَّحابة ليسَ بكفر ، وَقد وَردَ عَنهُ - صلى الله عليه وسلم - : (( أن مَنْ سَب الأنبيَاء قتل ، ومَنْ سَب أصحَابي جلد )) رَواهُ الطبَراني عن علي كرمَ الله وَجهَهُ(3) ، رَواه أيضاً عَن ابن عَباس : (( مَنْ سَبّ أصحَابي فعَلَيه لعَنةُ اللهِ وَالملائكة وَالنَّاسِ أجَمعِينَ )) (4) .
__________
(1) هو أبو شكور محمد بن عبد السيد بن شعيب الكشي السالمي الحنفي . كشف الظنون : 1/484 .
(2) هو ( التمهيد في بيان التوحيد ) ، قال حاجي خليفة : (( وهو مختصر في أصول المعرفة والتوحيد )) . كشف الظنون : 1/484 .
(3) المعجم الصغير : 1/393 ؛ ابن عساكر ، تاريخ دمشق : 38/103 . قال الهيثمي : (( وفيه عبيد الله بن محمد العمري ، رماه النسائي بالكذب )) . ( مجمع الزوائد : 6/260 ، والحديث ( موضوع ) كما حكم عليه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع : رقم 5616 .
(4) المعجم الكبير : 12/142 ، رقم 12709 ؛ الخلال ، السنة : 3/515 ؛ ابن عدي ، الكامل : 5/212 ؛ الجرجاني ، تاريخ جرجان : ص 274 . قال الشيخ الألباني ( حديث حسن ) . الجامع الصحيح : رقم 6285 .(114/28)
ثم لا وَجه لتخصِيص الشيخَين فيما ذكر ، فإن حكم الحسَنين كذلك ، بَل سائر الصحَابة هنالك ، كما يُستفَاد مِنْ(1) عُموم الأحَاديثِ وَخُصوصها ، فَقد ورَدَ عَنه عَلَيه الصَّلاة وَالسَّلاَم : (( مَنْ سَبّ عَليَّاً فَقَد سَبني ، وَمَنْ سَبني فَقَد سَبَّ الله )) رَواهُ أحَمد وَالحاكم عَن أمِّ سَلَمة(2) .
بَل وَقد بالغَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقال : (( مَنْ سَب العَرب فأولئكَ هُم المشركونَ )) روَاهُ البيهَقي عَن عُمر - رضي الله عنه -(3) .
__________
(1) في ( د ) : ( عن ) .
(2) مسند الإمام أحمد : 6/323 ، رقم 26791 ؛ المستدرك : 3/130 ، رقم 4615 ؛ ابن عساكر ، تاريخ دمشق : 42/266 . والحديث في إسناده أبو عبد الله الجدلي واسمه : عبد بن عبد ، وثقه ابن حبان ( تهذيب التهذيب : 12/165 ) ، ورماه ابن سعد بالتشيع حيث قال : (( يستضعف في حديثه ، وكان شديد التشيع )) . ( الطبقات : 6/228 ) . ولهذا السبب قال الشيخ الألباني عن الحديث ( ضعيف ) ، كما في ضعيف الجامع : رقم 5681 .
(3) الحديث أخرجه ابن عدي ، الكامل : 6/379 ؛ العقيلي ، الضعفاء : 4/217 ؛ البيهقي ، شعب الإيمان : 2/231 ؛ الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد : 10/294 . والحديث ( موضوع ) كما ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة مطرف بن معقل ( لسان الميزان : 6/48 ) . وهو الحكم نفسه الذي أطلقه الألباني على الحديث . ضعيف الجامع : 5617 .(114/29)
إلا أنه يَجبُ حَمله على أنه أراد باللام الاستغراق ، أو الجنس الشامِل للنبي الصَّلاة وَالسَّلام بالاتفاق ، فَهذا تحقيق هذِهِ المَسألةَ المشكلة عَلى مَا ذكرَ في ( الموَاقف ) (1) .
وأمَّا مَا في كتب(2) العَقائد ، فمَنْ اعتقد غَير هذاَ فليَحذر(3) عقيَدته ، وَليَتب عَن تعَصّبه وَحمَاقتِهِ ، وَيترك حمية جاهليته ، وإلاَّ فيلهث(4) غِيَظاً على حقدِهِ وحسَدِهِ وَطغيتهِ ، وَيُدفن في تربة خباثته وَنجاسُته ظنيته إلى أن يتَبينَ بُطلان مَظنته في سَاعَة قيامتهِ [ 5/أ ] ? يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ? [ الطارق : 9 ] ، فَيظهر ضمائر وَيتمَيز الكفر مِنْ الإسلام وَالكبائر مِنْ الصغَائر .
__________
(1) كتاب ( المواقف في علم الكلام ) تصنيف عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الأيجي القاضي ( ت 756هـ ) . حيث يشير القاري إلى قول الإيجي في آخر كتابه : (( ولا نكفر أحداً من أهل القبلة ، إلا بما فيه نفي للصانع والأفضلية القادر العليم أو شرك أو إنكار للنبوة ، أو ما علم مجيئه ضرورة ، أو لمجمع عليه كاستحلال المحرمات ، وأما ما عداه فالقائل به مبتدع غير كافر )) . الموقف : ص 717 .
(2) في ( د ) وردت العبارة : ( وفي كتب العقائد ) .
(3) في ( د ) : ( فليجدد ) .
(4) في ( د ) : ( فليمت ) .(114/30)
ثم [ مَنْ ] (1) ادعى بطلان هَذا البيان ، فعَليَه أن يظهر في ميدان البَرهان ، إمَّا بتقرير اللسَان هو ، وَإمَّا بتحرير البَيان والله المستعان ، وَالحِق يَعلو ولا يعلى إلا(2) البطلان ، وَقد ثبت عنه عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلام : (( أن الله يَبِعَث لِهَذِهِ الأمة على رأس مائة سَنة مَنْ يجدد لها دِينها )) وَرَوَاه أبو دَاود وَالحاكم وَالبيهَقي في ( المَعرفة ) عَن أبي هريرة(3) .
فوالله العَظيم ، وربَّ النبي الكَريم ، أني لَو عَرفت أحَداً أعلم مِنّي بالكِتَاب وَالسّنة ، مِنْ جهة مَبناها أو مِنْ طريق مَعناها(4) ، لَقصَدت إلَيه ولو حبواً بالوقوف لَدَيه ، وهذا لا أقوله(5) فَخراً ، بَل تَحدّثاً بنعِمةِ الله وَشكراً ، وَاستزيد مِنْ ربي مَا يَكون لي ذِخراً .
حديث : من سب أصحابي فعليه لعنة الله :
نَعَمْ ورَد : (( حبُّ أبي بكر وَعُمَر رَضي اللهُ عَنهما مِنْ الإيمان وَبغضهَما كفر ، وَحبُّ الأنصَار مِنْ الإيمان وَبغضهَم كفر ، وَحبُّ العَرب مِنْ الإيمان وَبغضهم كفر ، وَمِنْ سبّ أصحَابي فعَلَيه لَعنة الله، ومَنْ
__________
(1) زيادة من : ( د ) .
(2) كذا في النسختين .
(3) سنن أبي داود ، كتاب الملاحم ، باب ما يذكر في قرن المائة : 4/109 ، رقم 4291 ؛ المستدرك : 4/567 ، رقم 8592 ؛ الطبراني ، المعجم الأوسط : 6/324 ؛ تاريخ بغداد : 2/61 ؛ الداني ، السنن الواردة في الفتن : 3/743 . الحديث صححه الحاكم ، قال العجلوني : ورجاله ثقات : ( كشف الخفاء : 1/282 ) . قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) . صحيح الجامع : رقم 1874 .
(4) في ( د ) : ( معناهما ) .
(5) كذا في النسختين ( أقول ) .(114/31)
حَفظني فيهم فأنا أحفظ يَوم القيامة )) رواه ابن عَسَاكر عَن جَابر(1) .
المراد بالكفر كفران النعمة :
وَالمُراد بالكفرِ كفران النعمة أو كفر دونَ كفرٍ ، أو أريد به التغلِيظ وَالوعيد والتهديد الشدِيد مُبَالغة في الزجر وَالنهي ، كَمَا هو مَعروف في الكتابِ وَالسّنة .
سباب المسلم :
وجاءَ في حَدِيثٍ كادَ(2) أنْ يكُونَ مُتَواتراً : (( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ )) رَواهُ أحَمد وَالبخارِي وَالترمذِي وَالنسَائي وَابن مَاجَة عَن ابن مَسْعُود(3) .
__________
(1) تاريخ دمشق : 44/222 . وأخرجه ابن عساكر من طريق علي بن الحسن وهو : بن يعمر الشامي المصري ، قال ابن عدي : (( أحاديثه بواطل لا أصل لها )) ، وقال ابن حبان : (( يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم ، لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب )) . ( ابن الجوزي ، الضعفاء والمتروكين : 2/192 ) . وأخذه الشامي عن خليد بن دعلج ، وهذا الأخير وإن كان أحاله أفضل من حال تلميذه ، إلا أنه ضعيف أيضاً كما ذكر الحافظ ابن حجر ( تقريب التقريب : ص 195 ) ، وقال عنه ابن المديني : (( روى المناكير )) . ( المغني في الضعفاء : 1/129 ) . فالحديث أقل ما يقال عنه أنه ( ضعيف جداً ) .
(2) في ( د ) : ( كان ) .
(3) مسند الإمام أحمد : 1/385 ، رقم 3639 ؛ صحيح البخاري ، كتاب الإيمان ، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله : 1/27 ، رقم 48 ؛ صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - باب المسلم فسوق : 1/81 ، رقم 64 ؛ سنن الترمذي ، كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في الشتم : 5/21 ، رقم 1983 ؛ سنن النسائي ، كتاب تحريم الدم ، باب قتال المسلم : 7/121 ، رقم 4105 ؛ سنن ابن ماجة ، باب في الإيمان : 1/27 ، رقم 69 .(114/32)
وَابن مَاجَة أيضاً عَن أبي هريَرة(1) وعَن سَعد(2) ، وَالطبَراني عَن عَبد الله بن مغفل(3) ، وَعن عمَرو بن(4) النعمان بن مقرن(5) ، والدّارقطني في ( الأفراد ) عن جابر ، وَالطبَراني أيضاً عَن ابن مسعود ، وَزادَ :
(( وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ )) (6) .
__________
(1) سنن ابن ماجة ، كتاب الفتن ، باب سباب المسلم فسوق : 2/3000 ، رقم 3940 .
(2) سنن ابن ماجة ، كتاب الفتن ، باب سباب المسلم فسوق : 2/1300 ، رقم 3941 .
(3) في ( م ) : ( مفضل ) . والحديث في المعجم الأوسط : 1/223 . وعبد الله بن مغفل بن غنم المازني ، صاحبي شهد بيعة الشجرة ، ووفاته بالبصرة سنة 59هـ . الاستيعاب : 3/996 ؛ الإصابة : 4/242 .
(4) عمرو بن ) سقطت من ( د ) .
(5) المعجم الكبير : 17/39 ، رقم 80 . عمرو بن النعمان بن مقرن المازني ، والده من مشاهير الصحابة ، واختلف في رفع روايته ، ورجح الحافظ ابن حجر كونها مرسلة ، ثم أورد هذا الحديث . الإصابة : 4/693 .
(6) المعجم الكبير : 10/159 ، رقم 10316 ؛ وأخرجه الإمام أحمد في مسنده : 1/446 ، رقم 4262 ؛ أبو يعلى، المسند : 9/55 ، رقم 5119 . قال الشيخ الألباني ( حسن ) . الجامع الصحيح : رقم 3596 .(114/33)
فَهِذا الحَديثِ صَريح في أنَّ سَبَّ المُسْلِمِ فسق غاية أنَّ الفسق لَهُ المراتب ، كَمَا أن المُسلمينَ(1) لهم تفَاوُت باختِلافِ المناقِبِ ، كَمَا رَوى ابن عسَاكر [ 5/ب ] عن البَراء موَقوفاً : (( لا تسبّوا أصحَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوَالذِي نفسِي بيدِهِ لمقامُ أحَدهم مَع رَسُولِ اللهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضَل مِنْ عَمل أحَدكم عُمره )) (2) فكأنه أشارَ إلى قوله تعَالى : ? لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاّ ًوَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ? [ الحديد : 10 ] .
[ ذم التعصب في دين الله ] :
ثُمَّ اعلم أنَّ التعَصب في دِينِ اللهِ [ تعَالَى ] (3) على وَجه التشدد وَالتصَلب ممنوع وَمَحظور ؛ لأنه يترتب عَلَيه أمُور في كلِّ مِنها ضَرر ومحذور ، قَالَ الله تَعَالَى : ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ ? [ النساء : 171 ] ، و ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ? [ المائدة : 77 ] ، وقالَ عَز وَجل : ? وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ? [ العنكبوت : 46 ] .
__________
(1) في ( د ) : ( للمسلمين ) .
(2) ابن عساكر ، تاريخ دمشق : 18/398 ؛ وأخرجه أيضاً ابن عدي ، الكامل : 7/190.
(3) زيادة من ( د ) .(114/34)
وَقالَ سُبحانه : ? وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ? [ الأنعام : 108 ] وَاستدَل بهذِهِ الآية شيخِنَا المبرور(1) المغفُور محمد بن أبي الحسَن البكري(2) ، في منع معرف كان بمكةَ في مقام الحنفي ، ويقولُ بالصوتِ الَجلي : (( لعَن الله الرافضَة من الأوبَاشِ وَطائفَة القزلباش(3) )) ، وقالَ هَذا يكون تسبيباً سَبهم(4) طائفة أهل السّنة وَالجماعة ، كَمَا عَلَيْه أهل العِناد في الصناعةِ .
__________
(1) في ( م ) : ( المبرد ) .
(2) هو قطب الدين محمد بن الشيخ أبي الحسن محمد بن محمد الشافعي الأشعري المصري الصديقي البكري ، يعود نسبه إلى أبي بكر الصديق ، برع في الكلام والتفسير والأصول ، وفاته سنة 993هـ . النور السافر : ص 369 ؛ شذرات الذهب : 4/431 .
(3) القزلباش : من أشد القبائل في إيران وأصلهم تركي يتكون من تسع قبائل ، وقد كان أفراد كثيرون قد أسرهم تيمور لنك بعد انتصاره العثمانيين ثم توسط ( خواجة علي سياهمبوش ) في فك أسرهم ، ومنذ ذلك الوقت التفوا حول الأسرة الصفوية وقدموا لها فروض الطاعة ، وكانوا من أشد المناصرين لها ، وكان دعمهم العسكري من أبرز وسائل القوة التي مكنت الصفويين من السيطرة على إيران . الدولة الصفوية : ص 41 .
(4) في ( د ) : ( بسبهم ) .(114/35)
وَلقد صَدقَ الصديقي(1) في مَقامِه الحقيقي ، وَوَافق كلام أستاذي المرحُوم في عِلم القراءة ، مَولانا معين الدين بن الحافظ زين(2) الدين(3) من أهل زيارتكاه ، وهوَ أول مِنْ استشهد أيام الرافضَة في سَبيلِ الله ، وَذلك أنه لما ظهَر سُلطانهم المسَمى بشاه إسمِاعيل(4) ، وَفتحَ مَلك العِراق بَعدَ القالَ والقيل(5) ، وَفشوّا القِتال وَالقتِيل ، أرسَلَ إلى خراسان مكتوباً فيه إظهار غلبَته في هَذا الشأن ، وكَتبَ [ 6/أ ] في آخِرهِ ِسَبّ بَعض الصحَابة مِنْ الأكابر والأعيان .
__________
(1) يعني به شيخه محمد بن أبي الحسن البكري الذي مر ذكره قبل قليل .
(2) في ( م ) : ( بن ) .
(3) هو معين الدين محمد بن عبد الرحمن بن محمد الحسني الأيجي الشافعي الصفوي ، مفسر له أكثر من مؤلف ، وفاته سنة 905هـ . الضوء اللامع : 8/37 ؛ كشف الظنون : 1/610 ؛ الموسوعة الميسرة : ص 2148 .
(4) هو إسماعيل بن حيدر بن جنيد الصفوي ، يعيد الشيعة نسبه إلى موسى الكاظم ، ولم يكن أهله من الملوك وإنما كانوا من مشائخ الصوفية ، ولكن عندما تغلب على الأمور في تبريز وقوي أمره أظهر عقيدة الإمامية في إيران، وتعصب لذلك وقتل كل من يعترض أمر عقيدته ، فقتل العلماء والعامة على السواء ، قال الشوكاني : (( كاد أن يدعي الربوبية وكان يسجد له عسكره ويأتمرون بأمره )) مات في سنة 931هـ/ 1620م . البدر الطالع : 1/271 ؛ أعيان الشيعة : 3/321 .
(5) في ( د ) : ( القيل والقال ) .(114/36)
وكانَ الحِافظ المذكور خَطيباً في جامع بَلد هراة المشهُور ، فأمرَ بقراءتهِ فوَقَ المنبر بالاملاء عندَ حضُور العلماء والمشَائخ وَالأمَراء ، ومِنْ جُملِتهم العَلامَة الوَلي شيخ الإسلام الهروي(1) سبط المحقق الرباني مَولانا سعد الدين التفتازاني ، فلما وَصَل الخطيب إلى مَحِل السَبِّ انتقل مِنه(2) عَلى طَريق الأدب ، فتعصّب كلاَب(3) الأرفاض لهَذَا السبب ، وقالوا : تركت المقصُود الأعظم وَالمطلوب الأفخم ، فأعد الكلام لتكُون على وجه التمَام ، وَتوقف الَخطيبُ في ذلك المقام ، فأشارَ شيخ الإسلام إليه أن يقرأ ما هو المسطور لَدَيه ، لأن عَندَ الإكراه(4) لا جناحَ عَليه ، فأبى عَن السبِّ وصمم عَلى اختيار العزيمة على الرخصة(5) الذميمة ، فنزلوُه وقتلوه وحَرقوه .
ثُمَّ لمَا جاءَ السلطَان إلى خراسَان ، وطلبَ شيخ الإسلام وسائر أكابر الزمان ، وأمرَ الشيخَ بالسبِّ في ذلك المكان ، أمتنعَ عَنه رضاء للرحمةِ ، فاعترضَ عَليه بأنَّك أمرتَ بِهِ الخطيب سَابقاً ، فكيَفَ تخالف الأمر لاحقاً ، فقالَ : (( ذاكَ فتوى ، وَهَذا كَمَا ترى تقوى ، وَأيضاً ذلكَ الوُقت كانَ أيامَ الفتنة التامة ، وَهجُوم الخلائق وَالعَامة ، وَرأيت اليَوم في تَخت السّلطنة التي تجبُ عليك فيه العَدَالة ، وَسماعَ مَا يتعَلق بِهَذِهِ المقَالَة ، وَتَصحِيح مَا يكُون العَمل بِهِ أولى في هَذِهِ الحَالَة )) .
فسَألَهُ عَن كيفِيته وَتحقِيق مَاهِيته وكميته ؟ .
فقالَ له : (( أفعلْ أحَد [ هذين ] (6) الشيئين مِنْ الأمرَين الحسنين :
__________
(1) هو سيف الدين أحمد بن محمد بن سعد الدين مسعود التفتازاني الحنفي ، يعرف بحفيد التفتازاني ، رئيس العلماء بهراة ، قتل سنة 916هـ . هدية العارفين : 1/138 .
(2) في ( د ) : ( عنه ) .
(3) في ( د ) : ( كلام ) .
(4) في ( م ) : ( الإكرام ) .
(5) في ( د ) : ( الرفضة ) .
(6) زيادة من ( د ) .(114/37)
أولهما : أني اثبت لك أنَّ مذهب أهل السنة وَالجماعَة هو الحق وغيره هُوَ البَاطِل المطلق ، وذلك بأني أظهر لكَ تصَانيفَ آبائكَ وَأجدَادكَ مِنْ المَشائخ الذين سَلَفوا في بلادكَ بخطُوطهم ، وَتعمل بما في سُطوُرهم وفق مَا في صدوُرهم ، وإنْ كانُوا الآن في قبورهم .
وَثانِيهما : أنَّكَ تنادي عُلماء مذهَبك [ 6/ب ] وفضلاء مشربك فتبَاحثت في مَجلسكَ ، فمَنْ غَلب في الحجة نَقلاً وَعقلاً ، فَيُتِبع فرعاً وأصلاً )) .
فشاور وزرائه وأمرَائه وعلمائه وفقهائه(1) ، فقالُوا لهُ : (( هَذَا عَالمٌ كبَيرٌ وفضله كثير لا يغلبه أحَدٌ منا في الكلاَمِ ، و آبائكَ وَأجدَادكَ صَنفوا(2) في زمَان السنة ، وَكانَ يجبُ عَليهم التقيَّة في هَذِهِ القضِية )) فتبعهم وَصَارَ مِنْ أهل الطغيان وَالكفران ، كفرعَونَ حَيثُ شاورَ هَامَانَ ، فقتله شهيداً وجَعلهُ سَعِيداً .
والحاصل : أن ولدَ الخطيب(3) الذي هوَ أستاذي الأديب ، كانَ يقولُ : إنَّ زيادة التعَصب وَالعناد في
__________
(1) في كلا النسختين : ( وزرائه وأمرائه وعلمائه وفقهائه ) .
(2) في ( م ) : ( صنعوا ) .
(3) هو علاء الدين أبو الحسن علي بن جلال الدين محمد البكري الصديقي الشافعي ، كان بارعاً في الفقه والتفسير والتصوف ، وفاته سنة 952هـ .النور السافر : ص 369 ؛ شذرات الذهب : 8/292 .(114/38)
هَذِهِ الطائفة اللعِينة ، إنما وقعَت مِنْ تعَصبَاتِ(1) الطبقة الأزبكية(2) ، حَيثُ إذَا رَأوا شخصاً يبتدئ في غسل الأيدِي مِنْ مَرقٍ أو مسَحَ عَلى رجلهِ(3) ، أو وَضعَ حَجراً في مَسجدِهِ قتلوُه ، فعَارضَهم بأن مَنْ غسَل رجله أو مسَحَ رقبتِهِ وَأذنِهِ قَتلوُه ، وكلُّ مَنْ صَلى مُرسِلاً يدَيه قتلهُ هؤلاء ، فعارضُوهم بأن مَنْ صلى وَاضِعاً يَديه قتَلوُه ، إلى(4) أن زدَادَ التعَصب بَينَ الطائفتين .
فَمَنْ سَبَّ الصحَابة وَلو مَكرهاً قتلوهُ ، فَزادُوا عَلَيهم في القبَاحَةِ وَالوقاحَةِ ، بأن أمرُوا أهلَ السّنة بسَبِّ الصحَابة فَمَنْ امتنعَ عَنه(5) قتلوُه ، وأشتد الأمرُ عَلى القبيلَتَين حَتى كان مَدَار العقيدَة عَلى هَذا بَينَ(6) المَسْألتين ، وَكفَّر كل وَاحِد غيره مِنْ الطائفَتين(7) .
[ أصل الفساد بسبب ترك السنة وفعل البدعة : ]
وَأصل هَذا الفساد ، وَإنما وقعَ بَينَ العِبادِ وَشايَة ترك السّنة وَفعل البدعَة ، حَيثُ اختارَ بَعض السلاَطين وَالأمَراء أنْ يذكر اسمهُ فَوقَ المنبَرِ عَلى ألسَنةِ الخطبَاءِ ، فقِيل لهمُ لم يتصَور ذَلكَ بأن يذكر الخلفاء الأربَعة أولاً هنالك .
__________
(1) في ( م ) : ( التعصبات ) .
(2) نسبة إلى أزبك خان ، وهي قبائل وفدت إلى إيران من هضاب آسيا ، وكان هؤلاء على مذهب أهل السنة والجماعة ، ودخلوا في صراع عنيف مع الصفويين ، ولكن الإمكانيات المتواضعة للأزبك جعلت كفة الصفويين هي الراجحة في معظم المعارك . الدولة الصفوية : ص 55 .
(3) في ( د ) : ( رجليه ) .
(4) في ( م ) : ( إلا ) .
(5) عنه ) سقطت من ( د ) .
(6) في ( د ) : ( هذين ) .
(7) يتضح من كلام القاري هنا أنه كان شاهد عيان على هذه الأحداث التي كان معاصراً لها ، خاصة ما قام به الصفويون من مجازر في حق أهل السنة في إيران .(114/39)
ثم أحدثَ بنو أمية سَبَّ علي وَاتباعه في الخطبة مُدة مَعُينة(1) ، إلى أنْ أظهرَ الله سُبحانه عُمَر بن عبد العزيز(2) [ وأعز الله الإسلام به انتهاء ، كما أعزَّ الله الإسلام بعمر بن الخطاب ] (3) ابتداءً ، فاظهر غاية العَدَالة وَنهاية الرعَاية في الرغبَة وَالجمَالة ، فأول مَا خطبَ(4) عُمَر هذا على المنبر ، حَمدَ اللهَ سبُحانه(5) وأثنى وَشكر وَوعظ وَنصح لمن اعتبَرَ [ 7/أ ] ثم لمَّا وَصَلَ إلى مَوضِع سَبِّ الخطباء لخاتم الخلفاء وخاتم الحنَفاء قَرأ هَذِهِ الآية : ? إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ? [ النحل :90 ] أوصيكم عِبادَ اللهِ بتقوى الله ، وَنزلَ عَن المنبَرِ ، فصَارَ قراءة هَذِهِ الآيَة المقررَة المعتبرة(6) .
سب الصحابة الكرام من أكبر الكبائر :
وَحَاصِل الكلام وتحقيق المرام أن سَبَّ الصحَابة الكرَام مِنْ أكَبَرِ الكبَائرِ ، بَل متضَمن أكثرهَا عِندَ أهل السَّرائرِ ؛ لأنه أجتمعَ فِيه حَق الله وَحَق العَبد وَحَق رَسُوله [صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فإنه لا يهون عليه إهانة مَن يَكُون مقرباً لديه ] (7) وَمنسُوباً إلَيه .
__________
(1) لم يثبت بسند معتبر أن بني أمية سبوا علياً أو أهل بيته ، وهي من الأخطاء الشائعة تاريخياً التي نبه عليها العلماء ، وبينوا عدم صحتها .
(2) في ( م ) ( الخطاب ) .
(3) زيادة من ( د ) .
(4) في ( م ) : ( ظهر ) .
(5) في ( د ) : ( تعالى ) .
(6) لم ترد هذه الرواية أيضاً بسند معتبر ، بل وردت في كتب التاريخ على سبيل الحكاية . ينظر : الكامل في التاريخ : 4/315 .
(7) زيادة من ( د ) .(114/40)
وأيضاً مِنْ المقرر إجماعاً أن قتل النفس أكبرُ الكبَائر بَعدَ الشِركِ باللهِ تعَالى ، وَقتل المؤمن متعَمداً إنما يَقع المؤمن حَال كمَال غضَبه وذهَاب عقله وَأدَبه حَتى يكاد أن يكُون مجنوناً(1) ، ثُمَّ لاَ شَك أنْ يكُون بَعد ذلَك نَادماً وَمحزوناً ، وَيتَوبُ إلى اللهِ وَيتضَرع إلى مَولاه ، بخلاَفِ الرّفضَة(2) حَيثُ يسبونَ في حَالِ اختِيارهم وَوَقت اقتِدارهم وَيُصَمّمُونَ على ذلَكَ ولا يَرجعُونَ عَمّا صَدر عَنهم هُنالك إذ لم يعتقدوا قبحه ، بَل يتوَهّمُونَ(3) رجحه .
وَكَذَا قيل ليسَ [ تقبل ] (4) توبة لأهِل البدعَة ؛ لأن بدَعتهم عندهم قَربَة وَطاعَة ، وَأمَّا مَا ذكر بَعض المَشائخ أنهم لم يسبّوا أصحَابَ النبي صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإنما سبّوا جميعاً زعِموا فيهم أنهُم ظلمُوا عَلياً كرّمَ اللهُ وَجهَهُ ، وَأخذوا حَقه مَعَ جَعله عَليه الصلاة وَالسلام وصيّه ، وَليسَ هَؤلاء بهَذا الوَصف مَوجُودينَ ، وَلا بهذا النعت مشهورينَ ، فلا يفيدُ ذلَك وَلاَ يكُون عُذراً هنالك ، كَمَا قالَ بَعض جَهَلة الصوفية أن عَبدَة الأصنام إنما عَبدُوا الملك العَلام ، سَوَاءٌ عَلمُوا هَذا المعنى أو عقلُوا عَن هَذَا المبَنى ، فإن الشريعَة الغراء تُبطل(5) مثل هَذِه الأشيَاء ، فنحنْ نحكم بالظاهر وَالله اعلم بالسَرائرِ .
__________
(1) في ( م ) : ( مجموعا ) .
(2) كذا يسمي المؤلف الرافضة في بعض الأحيان.
(3) في ( د ) : ( يتوهموا ) .
(4) زيادة من ( د ) .
(5) في كلا النسختين ( بطل ) .(114/41)
ولا يخفى أن طائفة الشيعة تغاير(1) طَوائف المبتَدعَة الشنيعَة ، لمَّا لم يتبعُوا(2) الأحَادِيثَ وَالأخبار [ 7/ب ] وَحرمُوا حَقائق الأسرار وَدقائق الأنوار التي حَملَته العُلماء الأبرار وَنقلَته الفضَلاء الكبَار عَن النبي صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بروَاية الأصحَاب وَالتابعِينَ ، وَأتبَاعهم مِنْ العُلماءِ العَامِلين وَالمشائخ الكامِلين بأسَانيد عدُول ضابِطين وَثقة حَافظِين ، وَقعُوا فيما وقعُوا مِنْ الخطأ والخطل وافسدوا ما عندهم مِنْ العِلم وَالعَمل ، وَاعتَقدُوا مَا بَنوُه على ما طاحَوا فيه مِنْ الزلل ، وَإلا فكيفَ يبغض مَنْ كَانَ صَاحِب النّبي صلى صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغَار ، ورَفيقه في سَائر الأسفار ، وَأول مَن آمَنَ بِهِ مِنْ الرجَالِ الكبَارِ .
__________
(1) في ( م ) : ( وتغاير ) ، وفي ( د ) : ( تتغاير ) .
(2) في ( د ) : ( يتتبعوا ) .(114/42)
وَقد جَعله الصَّلاة والسَّلام خليفةً في مَدِينةِ الإسلام بمنصّب الإمَامة لعَامة الأنام ، كَمَا أجمعَ عَلَيه العُلماء الأعلاَم ، حَتى قال عَلي كَرّمَ الله وجهه في هَذا المقَام : (( قَد رضيهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لديننا أفَلا نَرضاهُ لدُنيانا )) (1) فإن لم يكن هَذا الأمر منه الصَّلاة والسَّلام صَريحاً في الوَصِية ، فأقل مَا يكون جَعله إشارَةً إلى القضِيةِ ، مَع أن المعَقول المقرر عِندَ أربَابِ العَقل المُعتبر أن الصحَابة الذينَ فدوا أنفسهم وَأموَالهم في الإيمان بالله وَمحبةِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ،لم يكونُوا مُجتمعين(2) على الضَّلالةِ بتركِ الحَق الوَاضِح لعلي رعَايةً لأبي بكر الصدَّيق - رضي الله عنه - ، مَع عُلو نسَبِ عَلي وَكثرةِ قَومه وَقبيلته وشجاعَته وَشوكته ، وَقلة قومِ أبي بكر وَأهل حمية .
إجماع المفسرين :
__________
(1) هي مشهورة بهذا اللفظ ، وأخرجها ابن سعد بلفظ قريب عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : (( لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم ، نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في الصلاة فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا )) . الطبقات : 3/183 ؛ ابن عبد البر ، الاستيعاب : 3/971 .
(2) في ( د ) : ( مجمعين ) .(114/43)
وَأيضاً فقد ورَدَ النصّ القطعِي- وَلو كان مجملا – في [ أبي بكر ](1) رضي الله تعالى عنهُ وَعَن(2) الصحَابةِ مجملاً(3) بقَولِهِ : ? وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ? [ التوبة : 100 ] وَأجمعَ المفسُرونَ على أنَّ أبَا بكر [ رضي اللهُ تعالى عَنِه ] (4) مِنْ السابقِين الأولينَ ، وَكَذا عَلي وَخَديجةَ وَزَيد وَبلال - رضي الله عنهم - أجمَعِين .
فبأيِّ دليلٍ مِنْ الكِتابِ أو السّنة أو إجماع الأمة يَستحق أبَا(5) بكر الصدّيق [ 8/أ ] شيئاً مِنْ الِملامَةِ وَالمذمةِ ، وَإنما الحِكمة في ذلَكَ أن لَعنَ(6) لاعِنيه يرجع إلَيْهم ، وَيَكون سَبباً بغَضَبِ الله عليهم ، وَمُوجباً لهُ في زيَادةِ الدرجَاتِ العَالِيَّة وَالمقامَات الغَاليَّة ، كَمَا أن مُسَابقته في الإيمَانِ صَارت بَاعثاً لمشارَكتِهِ في ثوابِ إسلام أهل الإيمَانِ(7) .
[ خراسان ليست بدار حرب ]
وَبَهذَا الذي قررناهُ وفي هَذا المَقَام حررناه ، تبَين أن خراسان ليست بدارِ الحَرب ، كَمَا تَوهم(8) بَعض الفقهاءِ ، بَل دار بدعَة(9) كَمَا هُوَ ظاهِرٌ عندَ العُلماء ، وَتوضِيحه أن أكثر سُكانه على مَذهَبِ أهل السنة والجماعَة ، وَغِالبهم الحنَفِية وَفيهِم بَعض الشافِعية ، وإنما العَسكرية جماعَة مَعِدُودَة وشَرذمة قليلة ، يَدعون أنهم الشيعَة [ ولا يتحاشون عن الشنيعة ] (10).
__________
(1) غير موجودة في النسختين يقتضيها السياق .
(2) في ( د ) : ( ومن ) .
(3) في ( د ) : ( كملا ) .
(4) سقطت من ( د ) .
(5) في ( م ) : ( أبي ) .
(6) في ( د ) : ( لعنة ) .
(7) في ( د ) : ( الاتقان ) .
(8) في ( د ) : ( توهمه ) .
(9) في ( د ) : ( البدعة ) .
(10) زيادة من ( د ) .(114/44)
وَقد صَرحَ علماء الكلامية بأن الشيعة من الطوَائف الإسلامِية ، نَعَمْ فيهم طوائف ، فَمنهِم مَن يُحبّ وَلاَ يسَبّ ، وإنما يفضل عَلياً عَلى البقِية ، وَمنهم مَنْ لاَ يُحب وَلاَ يسَبّ [ زعماً منهُ أنهُ عَلى الطريقة النقِية، وَمنهم مَنْ يسَبّ ] (1) وَلاَ يَستَحل السَبّ ، وإنما يشتم عِندَ الغضب ، وَمنهم مَنْ يستَحل وَيستبيح(2) وَلاَ يُبَالي مِنْ العتَبِ ، وَمنهم مَنْ يَعد السَبّ قربة وَطاعَة وَيجعَلهُ وَظِيفة وَصنَاعة .
وَلقد سمَعت عَن سَيدي وسَندي في عِلم التفِسير ، الشيخ عَطيّة المكي السّلمي(3) : أن خارِجياً مِمن يزعم أنه مِنْ الفضلاءِ العُلماءِ(4) ، كَانَ ورده سَبّ علي كرم الله وَجهه ألفَ مَرة ، بَين صَلاة الصّبح وصَلاة العشاء ، فسُبحانَ مَنْ خَلقَ في ملكه مَا يشاء .
وَقد وَرد : (( لا تسبَوا الشيطان وَتعَوذوا بالله مِنْ شرِهِ )) (5) وَفيه تنبيه نبيه عَلى الترقي مِنْ حَال التفرقة المعَبر عَنها بالأبنية إلى مَقامِ التوحيد الصّرف وَالجمعية ، وَالحمدُ لله عَلى مَا أعطاني مِنْ التوفيق وَالقدرَة عَلى الهجرة مِنْ دَار البدعة إلى خير ديار السّنة ، التي هِي مُهِبط الوحي وظهِور النبوة ، وَأثبتِني عَلى الإقامَة مِنْ غَير حَول مِنّي ولا قوة .
__________
(1) سقطت من ( د ) .
(2) في ( د ) : ( ويبيح ) .
(3) هو عطية بن علي بن حسن السُّلمي المكي ، عالم مكة وفقيهها ، له تفسير للقرآن الكريم ، وفاته سنة 983هـ . الأعلام : 4/238 ؛ الموسوعة الميسرة : 2/1533 .
(4) في ( د ) : ( والعلماء ) .
(5) الحديث أخرجه الديلمي ، في مسند الفردوس : 5/11 ، رقم 7290 . قال الشيخ الألباني ( صحيح ) . صحيح الجامع : رقم 7381 .(114/45)
وَمع هَذا أكَره رُؤية هَذِهِ الطائفة الرديئة خصُوصاً عندَ طوافِ(1) الكعبَة [ 8/ب ] الشريفة العَلية ، مَع أنهم كالمنَافقِينَ في مَقام التقيّة ، وَالتسَتر فيمَا بَينَ الجمَاعَة الشافعِية التقيّة حتى يسمعُوا الشافعية ، وَبهذَا المُوجب اشتبَه ، قالَ بَعض الشافعِية [ عند السادة الحنفية لكن الفرق الشافعية ](2) يقبضونَ أصابعهم وَيشرون بالمسَبحة(3) عندَ التشهّد(4) ، كَمَا هُوَ المعتمد في مَذَهبَنا(5) ، بخلاف الشيعَة(6) ، فإنهم تركُوا هذِه السنة مِن سُنن الشريعَة مخالف لمِذَاهِب أهل السنة وَالجماعَة البديعَة المنيفة(7) .
وَمِنْ عَلاماتهم في الطواف أنهم يوسوسُونَ(8) في ابتدائِهِ ، ويحرفونَ(9) عَن الكعبَة حَالَ إنشائه ، ثم في الشوط السابع قبل انتهائه يقفُونَ منحرفين في المستجار ، نعوذ بالله من حال أهل النار .
هذا وَإذَا تبَين لَكَ(10) أن خرَاسَان مِنْ دَارِ البدعة لاَ مِنْ دَار الحَرب ، ظهر بُطلاَن مَا يفعَله الأزبك في حقِهم مِنْ قتِلِ العَام وَعدم التمييز بَين الأنَامِ ، وَسَبي نسَائهم وَذرَاريهم في تِلكَ الأيام ، إلى أن وَقع النَّاسُ في كفر ظاهِر مِنْ استحلاَل فروُجهن وَاستخدَام أولادهن .
__________
(1) في ( د ) : ( طوائف ) .
(2) زيادة من ( م ) .
(3) في ( م ) : ( المسجد ) .
(4) ينظر تفاصيل هذه المسألة الفقهية عند الشافعية عند النووي ، المجموع : 3/400 .
(5) ينظر تفاصيل هذه المسألة الفقهية عن الحنفية عند الكاساني ، بدائع الصنائع : 1/214 .
(6) حيث أنكروا الإشارة بالمسبحة عند التشهد ، ينظر ما قرره الحلي في منتهى الطلب : 1/294 .
(7) ينظر للفائدة : ابن قدامة ، المغني : 1/313 .
(8) في ( د ) : ( يوسوس ) .
(9) في ( د ) : ( ويحرمون ) .
(10) لك ) سقطت من ( د ) .(114/46)
وَأغرب من هذا أنهم فعلوا مثلَ هَذَا في بلاد أهِلِ السّنة ، مثلَ تاشكنة(1) وَغَيره مقام العلماء وَالسّادَةِ ، حَتى بَاعُوا في سُوق بخارى بنت الأمير سَيف الدين(2) ، كانَ سَيداً وَمُفتياً وَصَالحاً مِتقياً بَعدَ حُكم سُلطانهم بقتل(3) عَامة البلَد ، حَتى النسَاء وَالأطفَال وَالعُلمَاء وَالمَشائخ والسَّادَات وَأربَاب الأحَوال ، لذَنب وقعَ مِن(4) بَعضِ العَسَاكر الجهالِ فإنا لله وإنا إليه رَاجعُونَ ، كيفَ يدعونَ الإَسلام وَيفعَلونَ هَذِهِ الذنوب العِظاَم .
وَقد ذَكر ابن الهمام(5) : أن مَن فتح قَلعَة مِنْ بلاد أهل الكفر وَكَانوا ألُوفاً مُجتَمَعة ، وَيقال إن فيهم وَاحِداً مِنْ أهل الذمة لاَ يَجُوز قتلهم على العُموم .
مسألة سلطان الزمان :
__________
(1) في ( م ) : ( صنعوا ) .
(2) في ( د ) : ( تقي الدين ) . لم أقف على ترجمة له .
(3) في ( م ) : ( يقتل ) .
(4) في ( د ) : ( في ) .
(5) هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد الأسكندراني الحنفي ، كمال الدين المعروف بابن الهمام ، كان عارفاً بالأصول والتفسير والفرائض ، وفاته سنة 861هـ . الضوء اللامع : 8/127 ؛ شذرات الذهب : 7/224 .(114/47)
وَأغرب مِنْ هَذَا أن بَعْضَ العَوام يسمّونَ سُلطاَنهم عَادلاً ، وَقد صَرح عُلماؤنا مِنْ قبل هَذا الزمَان أن مِنْ قالَ سلطان زمَاننِا عادلاً فهو كافر ، نَعَمْ هُو عَادِل عَن الخلِق [ 9/أ ] كَمَا قَالَ تعَالى : ? ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ? وَقد ظهرَ الفسَاد في البر وَالبَحر بما يَعملونَ ، ولكن(1) قَد وَردَ : (( لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ )) روَاهُ الشيخان عَن المغيرة(2) .
ثُمَّ إنَّي لم أقلْ بكفر الطائفة الأزبكية ، كَمَا قالَ بعض العُلماء الحنفية ، فإنهم - وَإن فَعلوا مَا فَعَلوا - لم يعرف مِنْ بوَاطِنهم أنهم مِنْ المستبيحِينَ لِذلَكَ ، أو مِنْ المستقبحِينَ لما هنالك ، فالسكَوت عَنهم أيضاً أسَلم ، والله سُبحانه اعلم .
مسألة : هل معك دليل ظني على كفر الرفضة ؟
فإن قلت : هَل مَعَك دَليل ظني عَلى كفر(3) الرفضة ؟ قلتُ : نَعَمْ أمَّا الكتاب فَمنه قوله تَعَالَى : ? مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ } الآية [ الفتح : 29 ] فإنه يشير إلى تكِفيرهم(4) مِنْ وَجهَينَ :
__________
(1) في ( د ) : ( ولكن ) .
(2) صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، باب سؤال المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - : 3/1331 ، رقم 3441 ؛ صحيح مسلم ، كتاب الإمارة ، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تزال طائفة من أمتي : 3/1523 ، رقم 1921 .
(3) في ( م ) : ( الكفر ) .
(4) في ( د ) : ( كفرهم ) .(114/48)
أحَدُهما : أنَّ الله سُبِحانه وتعالى بيّنَ أن النبي صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأصحَابه وَأتباعه وَأحبَابه ، مَذكورونَ(1) في الكتب السالفِة مِنْ التوراة وَالإنجيل بما بينه مِنْ طَريقِ التمثيل ، ثُمَّ ذكرَ وَعدهم بأن لهم مَغفرة وَأجراً عَظيمًا في العُقبَى لما أصَابهم مِن المَحن والبَلوى في مَحبة المَولى وَطريق المُصطفى في الدنيا ، فمَنْ أبغضَهم يكون شراً مِنْ اليَهودِ والنصَارى ؛ لأنهم قائلونَ بأن أفضلَ الخلق أصحاب مُوسى وَعيسَى ، ولا شك أن الخلفاء الأربَعة هُم السّابقونَ الأولوُن مِنْ المهاجرينَ ، وَقد قالَ الله تعَالى في حَقهم : ? رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ? [ التوبة : 100 ] ثُمَّ قوله سُبحانَه في الآيةِ السابقةِ : ? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ? [ الفتح : 29 ] (2) بلَفظ ليسَ لإخراج بَعضهم - كَمَا زَعَم الرفضة - فإن ( مِنْ ) لِلبيَانِ لا لِلتبعِيض المنافي لمقام المنَّة(3) .
__________
(1) في كلا النسختين ( مذكورين ) .
(2) قوله تعالى : ? مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ? ، سقطت من ( د ) .
(3) في ( د ) : ( السنة ) . وقد رد العلامة الآلوسي شبهة الرافضة هذه في تفسيره روح المعاني : 26/127 . فراجعه .(114/49)
وثانيهما : أنه فسّر قوله : ? وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ? [ التحريم : 8 ] (1) بأبي بكر الصّديق - رضي الله عنه - (2)، الذي رزق التوفيق بكوَنِه مَعَه في الدار وَالغار ، وَفي سائر الأسفار إلى أن دُفن مَعه في بَرزَخِ داَر القرار ، وَقد قالَ سَيد الأبرار : (( إنه يحشر أبو بَكر في اليَمين وَعُمر في اليسارِ [ 9/ب ] رَضِي اللهُ عَنهِمَا )) (3) وَهكذا يَدخل مَعَهُما في الجنَّة بإذن الملك الغفار .
__________
(1) كذا في الأصل والسياق يفيد بأن المؤلف يتكلم على آية الفتح وهي ( وَالَّذِينَ مَعَهُ ) .
(2) كما روى ذلك البغوي عن الحسن البصري ، تفسير البغوي : 4/206 .
(3) لم أجده بهذا اللفظ ، ولكن أخرج الحكيم الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أحشر أنا وأبو بكر وعمر هكذا وأخرج السبابة والوسطى والبنصر ، وأراه قال ونحن مشرفون على الناس )) . نوادر الأصول : 1/166 .(114/50)
وَفسّر : ? أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ? بعمر بن الخطاب(1) الفاروق ، المبَالغ في الفَرق بَينَ الخَطأ وَالصّوَاب(2) المبين لقبه في الكتاب ، حَيثُ قتل المنافق الذِي ما رَضي لحكم النبي صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لليهَودي في فَصْلِ الخِطاب(3) .
وَفسّر : ? رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ? بعثمان بن عَفّان ، الذي استحى مِنْهُ مَلائكة الرحمَن ، وَالذِي رزق الحَظ بالسرورَين(4) في تلقِيبه بذِي النورين ، حَتى مِنْ كَمال رَحمه عَلى رَحمه له مَا جَرى في أنواع البلوى(5) .
__________
(1) بن الخطاب ) سقطت من ( د ) .
(2) في ( د ) : ( الثواب ) .
(3) يشير المؤلف إلى ما روي في كتب التفسير من قصة قتل عمر بن الخطاب لرجل من المنافقين بعد أن احتكم مع يهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرضَ بحكمه ، ثم إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فلم يرضَ بحكمه : (( فأقبلا على عمر فقال اليهودي : إنا صرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر ، فلم يرضَ فقال عمر للمنافق : أكذاك هو؟ قال : نعم ، قال : رويدكما حتى أخرج إليكما ، فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد ، وقال هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله وهرب اليهودي )) . القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن : 5/263 .
(4) في ( د ) : ( في السرورين ) .
(5) تفسير البغوي : 4/206 .(114/51)
وَفسّر : ? تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ? يِعَني(1) المرتضى ، وَابن(2) عَمِّ المصطفى ، وَزَوج البتول الزّهراء(3) ؛ لكثرة ركوعه وَخشوعه ، ولإطَالِة سُجودِهِ مَع كمال كرَمه وَجُوده(4) ، حَتى جَادَ في حَالِ ركوُعهِ ، وَفي مقام(5) شُهوده كَمَا يشير إليه قوله تعَالى : ? إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ? [ المائدة : 55 ] (6)
__________
(1) في ( د ) : ( بعلي ) .
(2) في ( د ) : ( بن ) .
(3) في ( د ) : ( الزهرى ) .
(4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات ، وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، والسيما في وجوههم من أثر السجود ، وأنهم يبتدؤون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال كالزرع والوعد بالمغفرة والأجر العظيم ، ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح ، فذكر ما به يستحقون الوعد وإن كانوا كلهم بهذه الصفة )) . دقائق التفسير : 2/112 .
(5) في ( د ) : ( قيام ) .
(6) يشير القاري إلى الأثر المروي عن عمار بن ياسر قال : (( وقف على علي بن أبي طالب سائل وهو راكع في تطوع فنزع خاتمه فأعطاه السائل ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه ذلك ، فنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه )) . أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط : 6/218 . وأخرجه الطبري عن السدي عن علي - رضي الله عنه - في تفسيره : 6/228 .وقد استعرض ابن كثير طرقه وعدها كلها واهية حيث قال : (( وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها )) . التفسير : 2/72 . وقد تناول طرق هذا الأثر أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية وبين بأنها كلها ضعيفة واهية ثم قال : (( أجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علي بخصوصه وأن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة و أجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع )) . منهاج السنة النبوية : 7/11 .(114/52)
وَالتعبير بصِيغةِ الجمع : أمَّا تَعظيماً لشأنِه وَحَاله(1) ،
أو تنبيهاً عَلى أن المراد هُوَ مَع أمثاله في تحسِين أقواله وَتزيين أفعَاله وَأحَوالِهِ(2) .
تفسير قوله أشداء :
وَالمقصُود أن قوله سبحانه : ? أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ? [ إشعاراً بأنه كان شديد على الكفار الأولين فكذا على الكفار ] (3) الآخرين ، فإن شِدة الرّفضة في حَقِهِ مِنْ الأمر الظاهِر الذي لا ينكرهُ إلا المعَاند المكابر ، حَتى يقولَ أحَدهم مَا حب عمري(4) لتجنِيسه بعمري ، وَيقوي هَذَا المَعنَى مَا رَتبهُ سُبحانَهُ عَلى وَجِهةِ التَمثِيل مِنْ تعِليل المبنى بقِولِهِ : ? لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ? وَمَنْ في مَعناهُم مِنْ الفجّار .
__________
(1) في ( د ) : ( وحالته ) .
(2) ردد المؤلف هنا أقوال الشيعة في الاحتجاج بهذه الآية على إمامة علي قبل الثلاثة رضي الله عنهم أجمعين ، وقد رد علماء أهل السنة شبهات الشيعة نقلاً وعقلاً ، بما لا يدع مجالاً للشك . ينظر ذلك عند ابن تيمية ، منهاج السنة النبوية : 7/12 وما بعدها ؛ الآلوسي الكبير ، روح المعاني : 6/167 ، الآلوسي الصغير ، السيوف المشرقة ( مخطوط ) : 87/أ .
(3) زيادة من ( د ) .
(4) في ( م ) : ( عمر ) .(114/53)
وَيؤكد هَذَا التحقيق مَا وَرَد في حَقِّ الصديق : (( أبى الله وَالمسُلمُون إلاَّ أبا بكر )) (1) ، وَذلَك عِندَ منصبِ الإمَامة المشير إلى صحة الخلاَفة(2) ، فمن أباه بعد أن النبي صلى الله [ تعالى ] (3) عليه وسلم أجتبَاه ، لا يكونُ دَاخِلاً في أهل الإسلام ، [ وَيكون خارجاً ] (4) عَن مقامِ الإكرام ، وَهذا كَانَ سَبَب إجماع الصحَابة عَلى خلاَفِته ، وَعدَم الالتفات إلى مَنْ توقفَ في إطَاعَته [ 10/أ ] حَيثُ قالوا : (( رَضيَهُ عَلَيه الصَّلاة والسَّلام لِديننا ، أفَلا نَرضَاهُ لِدُنيَانا ؟ )) (5) وقد صح أيضاً [ عن ] (6) علي(7) هذِهِ المقَالة في تلك الحَالة .
[ منع الفيء عن من سب الصحابة : ]
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه : (( ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ، ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر )) . كتاب الفضائل ، باب فضائل أبي بكر الصديق : 4/1857 ، رقم 2387 ؛ وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في مسنده : 6/106 ، رقم 24795 ؛ ابن حبان ، الصحيح : 14/564 ، رقم 6598 ، الطبراني ، المعجم الأوسط : 4/324 ، رقم 4331 ؛ البيهقي ، الاعتقاد : 1/341 .
(2) في ( د ) : ( الخلاف ) .
(3) زيادة من ( د ) .
(4) سقطت من ( د ) .
(5) تقدم تخريج هذه الرواية .
(6) زيادة من ( د ) .
(7) علي ) : سقطت من ( د ) .(114/54)
وَمِنه قَوله تعَالى : ? لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ? [ الحشر : 8 ] إلى قَوله : ? وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَان ? [ الحشر : 9 ] إلى أن قال : ? وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ? الآية [ الحشر : 10 ] (1) فإن الله تعالى قسَم الفيء المأخذ مِن الكفار بين ثلاث طَوَائف : المؤمِنين الأبرَار وَبَدأ بالمهاجرين وَالأنصَار ، ثُمَّ ختم بمَنْ بَعدهم مِنْ التَابِعيَن ، وَمَنْ بَعدهم مِنْ سَائر المؤمِنيَن أجمعين إلى يوم الدين ، بوصف أنهم : ? يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ ًلِلَّذِينَ آمَنُوا ? [ الحشر : 10 ] (2)
__________
(1) جاءت الآية في النسختين غير تامة .
(2) وروى الشيعة الإمامية عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه وفد عليه رجال من أهل العراق ، فنالوا من أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ، فلما فرغوا من كلامهم قال لهم : (( ألا تخبروني أنتم المهاجرون الأولون : ? الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ? ؟ قالوا : لا ، قال فأنتم الذين : ? تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِم ? ؟ قالوا : لا ، قال : أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين ، وأنا أشهد أنكم لستم ممن قال الله تعالى فيهم : ? وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا ? أخرجوا عني فعل الله بكم وفعل )) .الأردبيلي ، كشف الغمة عن معرفة الأئمة : 2/78 .(114/55)
.
فخرج هَؤلاء الطائفة مِنْ بَين المؤمنين ؛ لأنهم [ لم ] (1) يَستغفُروا للسَّابقينَ المُوقنِيَن ، بَل جَعَلُوا غِلهم في قلوبهم حَتى عَكسُوا(2) القضِية ، وَبدلُوا طلب المغفرَة وَالرحمة بالسَبِّ وَالمذمةِ(3) ، بَل بَنُوا مدَار مَذهَبهم عَلى اللعنَةِ ، وَمَا أحسَن قَول بَعض أهلِ الفطنة : لعن الله عَلى مَذهَب مَدَاره عَلى اللَعنةِ وَالطعنة ، مَع أن لعنهم يَرجع إلَيهم في العَاقبَة ، وَيكُون سَبَب زيَادَة الرحمة للِصحَابة ، كَمَا رَواهُ ابن عَسَاكر عن جَابر بن عَبد الله - رضي الله عنهم - قَالَ : (( قيل لعَائشة : إن ناساً يتنَاولون أصحَاب رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتى إنهم يتنَاوَلُونَ أبَا بكر وَعُمر ، فقالَت : أتعجبُونَ مِن هَذا ؟! إنما قطعَ عَنهم العَمل فأحبَّ الله أنْ لاَ ينقطع عَنهم الأجر )) (4) .
[ الدليل من السنة على كفرهم : ]
__________
(1) زيادة من ( د ) .
(2) في ( د ) : ( يمسكوا ) .
(3) وقد أخذ الإمام مالك هذه الآيات دليلاً على أن من سب الصحابة منع من الفيء ، كما نقل عنه البيهقي ، السنن الكبرى : 6/372 ؛ الشاطبي ، الموافقات : 3/363 . ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الرأي أيضاً عن بعض أصحاب الإمام أحمد . مجموع الفتاوى : 28/564 .
(4) الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد : 11/276 ؛ ابن عساكر ، تاريخ دمشق : 44/387 ؛ الهندي ، كنز العمال : 13/16 .(114/56)
وَأمَّا الدليل مِنْ طريق السنة عَلى كفرهم في مَقامِ العِنَاد ، فَقد وَردَ في أخبارِ الآحَاد مَا يصلح الجملَة للاسِتناد بالاعتماد ، وَلو كَانَ بغالِب الظن في بَابِ الاعِتقادِ ؛ لأن أصل [ تفصيل ] (1) هَذه المَسْألة مِن تَفضِيل الصحابة ، بَل تَفضِيل الأنبياء [ عَلى بَعضهِم ] (2) ، وَتَفضِيل الملائكة عَلى البَشر ونحوه ، مِنْ بحث الإمَامَة [ 10/ب ] والخلاَفة كلها مِنْ الظنيات الفَرعيات المُنَاسب ذكرها في المَسَائل الفقهياتِ ، لأن مَدار الاعِتقاد عَلى الدلالاَتِ القَطعِيات ، إذ مِنْ المعَلُوم أنه لَو وَجدَ شخصٌ وَلم يعلم تفصِيل(3) هَذِهِ الحالاَتِ ،لم يحكم بكفره ولا ينقصُه في مَقام الديَاناتِ ، وَلقد أخطأ خطاءً فَاحشاً مَنْ عَدَّ مثل هذِهِ الأمور المذكورة مِما عُلم مِن الدين بالضرورَة(4) .
__________
(1) زيادة من ( د ) .
(2) سقطت من ( د ) .
(3) في ( د ) : ( تفضيل ) .
(4) هذا الكلام فيه نظر ، إذ إن منكر الحكم سواء كان ظنياً أم قطعياً يعتمد على المسألة عينها ، قال التفتازاني : (( إن الحكم الشرعي المجمع عليه إن كان إجماعه ظنياً كفر بمخالفته ، وإن كان قطعياً ففيه خلاف )) . شرح التلويح على التوضيح : 2/384 . بقي أن نحدد هل أن مسألة سب الصحابة من القطعيات أم من الفرعيات ؟ وهذا يعتمد على دلالة النص مما سيأتي المؤلف على استعراضه ، ونجد من المناسب هنا أن ننقل كلاماً نفيساً للنووي قال فيه : (( إن جحد مجمعاً عليه يعلم من دين الإسلام ضرورة كفر إن كان فيه نص ، وكذا إن لم يكن فيه نص في الأصح ، وإن لم يعلم من دين الإسلام ضرورة بحيث لا يعرفه كل المسلمين لا يكفر )). روضة الطالبين : 10/65 .(114/57)
فَمِنها مَا وَردَ عَن علي كرَّمَ اللهُ وَجهَهُ قالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( سَيَأتي قَومٌ لهَمُ نبزٌ(1) - أي لقب - يقال لهم الرّافضَة إن لقيتهم فاقتلُوهم فإنهم مُشركونَ ، قلتُ : يَا نبي اللهِ مَا العَلاَمةِ ؟ قال : يفرطُونك بَما ليسَ فيكَ وَيَطعَنونَ عَلى أصحَابي وَيشتمُونَهم )) . رَوَاهُ ابن [ أبي ] (2) عَاصِمِ(3)
في ( السنة ) (4) وَابن(5) شاهِين(6) .
__________
(1) في ( م ) : ( نبذ ) .
(2) غير موجودة في كلا النسختين .
(3) هو أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني البصري الحافظ ، كان يلقب بالنبيل لنبله وعقله ، ذلك أنه لم يحدث إلا من حفظه ، وفاته سنة 212هـ . تذكرة الحفاظ : 1/366 ؛ طبقات الحفاظ : ص 159 .
(4) ابن أبي عاصم ، السنة : 2/474 ؛ الهندي ، كنز العمال : 11/324 . قال الشيخ الألباني في تعليقه على هذا الحديث في الكتاب الأول : ( وإسناده ضعيف ) .
(5) في ( د ) : ( وبن ) .
(6) هو أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي الحافظ ، قال ابن ماكولا : (( ثقة مأمون صنف ما لم يصنفه أحد إلا أنه كان لحاناً ولا يعرف الفقه )) ، وفاته سنة 385هـ . تذكرة الحفاظ : 3/987 ؛ طبقات الحفاظ : ص 393 .(114/58)
فهَذَا الحَديث يَدُلُ عُلى أن بَاغِض عَلي وَسَائر الصحَابة كَلّهم رَفضة ، وإن اختصَ بَاغِض عَلي بالخَوِارِجِ بخرُوجهم(1) عَلى عَليّ وَقتَ الفتنَة ، وَذلَك لأن الرفض بِمَعنَى الترك لغةً ، ثُمَّ نُقلَ إلى تركِ مَحَبة الصحَابة ، فلاَ وَجه لتِخصِيص سَبِّ الشيخين للكفر(2)، إلا لِكُونهما زيَادَة في الفَضِيلةِ بناءً عَلى قول جمهُور أهل السّنة ؛ لأن أبا بكر أفضَل ، وَقيل عُمَر وَهوَ(3) المسمّى بالفارُوقية ، وَقيل عَباس وَهم طائفة مِنْ العَباسِية [ يقال لهم الراوندية(4) ، وَقيل عَلي وَهُم الإمَامِيَّة ] (5) ، وَقالَ بَعض المتكلِمينَ باِلسوية ، وقال بَعضهم إلى التوَقف في القضِية أو(6) الفُضيلة ، إن كانت بَمعنَى أكثرية المَثوبَة فهي غَيَر مَعْلُومَة لنَا ، وإن كَانتَ بمعنَى أكثرية العِلم وَالِحلم فالأدلة فيه مُتعَارضَة عندَنا .
وَاختلف هل عُثمان أفضَل أم عَلي ؟ وَمَال الأكثر إلى الأول وَجمعَ إلى الثاني ، وَالقولان مَرويّانِ عن(7) إمَامنا الأعظم وَالله سبحانَه [ وتعالى ] (8) أعلَم .
__________
(1) في ( د ) : ( لخروجهم ) .
(2) في ( م ) : ( لكفر ) .
(3) في ( د ) : ( وهن ) .
(4) ينظر الأشعري : مقالات الإسلاميين : ص 21 ؛ الفرق بين الفرق : ص 341 .
(5) سقطت من ( د ) .
(6) القضية أو ) سقطت من ( د ) .
(7) في ( م ) : ( عن ) .
(8) زيادة من ( د ) .(114/59)
وَهذَا وَقد ذكرَ الكردري(1) في ( مَناقِب أبي حَنِيفةَ ) (2) قال : إنَّ مَنْ اعترفَ بِالخلافَةِ وَالفَضيلة للِخلفَاء ، وَقالَ أحبّ عَلياً أكثر لاَ يؤاخذ(3) إن شاء الله تعالى ؛ لِقوله عَلَيه [ 11/أ ] أفضَل الصَّلاة
وَالسّلام : (( اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لاَ أَمْلِكُ )) (4) .
[ التفضيل ] فيما عدا العشرة المبشرين بالجنة :
__________
(1) هو تاج الدين عبد الغفور بن لقمان بن محمد الحنفي ، نسبته إلى ( كردر : من قرى خورازم ) تولى قضاء حلب ، وفيها وفاته سنة 562هـ ، له مؤلفات عديدة . سير أعلام النبلاء : 23/112 ؛ الفوائد البهية : ص98.
(2) طبع مع كتاب مناقب الإمام أبي حنيفة للموفق بن أحمد بالهند سنة 1321هـ .
(3) في ( د ) : ( يؤاخذه ) .
(4) الحديث أخرجه الترمذي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، السنن ، كتاب النكاح ، باب التسوية بن الضرائر : 3/446 ، رقم 1140 ؛ النسائي ، السنن ، كتاب عشرة النساء ، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض : 7/63 ، 3943 ؛ أبو داود ، السنن ، كتاب النكاح ، باب القسم بين النساء : 2/242 ، 2134 ؛ ابن ماجة ، السنن ، كتاب النكاح ، باب القسمة بين النساء : 1/633 ، 1971.(114/60)
وَأغربُ مِنْ هَذَا كله قول طائفة - مِنهم ابن عَبد البَر المالكي(1) - : (( إنَّ مَنْ توفي مِنْ الصحَابة حَال حَيَاته أفضَل مِمن بقي بعدهما )) (2) ، وَلعَله محمُول على مَا عَدا العَشرة المبشرة ، وَممن كَمل في صِفَاتِهِ وَأمنَ الفتنة في وَقتَ وَفاتِهِ .
وَقالَ بَعض المَشائخِ : إن عَلياً في آخِر أمره وَانتهاء عمره ، صَارَ أفضَل مِن أبي بَكر الصدّيق وّغَيره ؛ لِزيادةِ المَكاسِبِ العِلِميَّة وَالمراتب العَملية(3) .
__________
(1) يوسف بن عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري ، أبو عمر ، كان فقهياً حافظاً عالماً بالقراءات وبعلوم الحديث والرجال ، وفاته سنة 463هـ . وفيات الأعيان : 7/66 ؛ سير أعلام النبلاء : 18/100 .
(2) ذكر ذلك في مقدمة الاستيعاب : 1/18. وينظر بحثنا المنشور في مجلة الحكمة ( العدد 24 ) : جهود الحافظ ابن عبد البر في دراسة الصحابة : ص 251 .
(3) نقل شيخ الإسلام ابن تيمية إجماع العلماء – بما فيهم الأئمة الأربعة - على تفضيل أبي بكر ثم عمر على سائر الصحابة ، ثم قال : (( فأئمة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم متفقون على هذا ثم من بعدهم ... )) . منهاج السنة النبوية : 7/287 .(114/61)
فهَذا الاختلافُ بَيْنَ هَذِهِ الطَوَائفِ الإسلامية دَليلٌ صَريحٌ عَلى أن مَسْألة التفضِيل لَيْسَت مِنْ الأمَور القطعِية ؛ لأن الأحَادِيث المَروية - مَع كَونها ظنية - مُعترضة مَانعَة مِنْ كَونها مِن الأمُور اليقينِيّة ، عَلى أنه لَيْسَ فِيهَا تَصريح بأن الأفضَلِية من أي(1) الحَيثية ، ليعلم أنه بِمَعْنَى الأكثَر ثواباً عِندَ اللهِ في العُقبَى ، أو بِمَعْنَى الأعِلَميَّة باباً عِندَ الخلقِ في الدنيا ، فترك الفَوز(2) في هذه المبَحث هُوَ الأولى ؛ لأن المدُار عَلى طَاعَة المَولى؛ وَلقوله تَعَالى : ? تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [ البقرة :134 ] أي بَل تُسْأَلونَ عَن تَحسِين أعمالكم وَتزيين أحَوالكم(3) .
وَلقولِهِ الصَّلاة وَالسَّلام : (( إنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ )) (4) .
فَقد حُكي أن بَعض الصَّوفية لمَّا سمع الحديث قال : كفاني .
__________
(1) أي ) سقطت من ( د ) .
(2) في ( د ) : ( الفتور ) .
(3) ينظر تفسير هذه الآية عند القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن : 2/139 ؛ ابن كثير ، التفسير : 1/187 .
(4) الحديث أخرجه الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، السنن ، كتاب الزهد ، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس : 4/558 ، رقم 2317 ؛ ابن ماجة ، السنن ن كتاب الفتن ، باب كف اللسان في الفتنة : 2/1315، رقم 3976.(114/62)
وَهَو نظير صحَابي قرأ عَلَيه - صلى الله عليه وسلم - قوله تعَالَى : ? فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ صدق الله العظيم وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ? [ الزلزلة : 7 – 8 ] [ فقال : حَسبي ] (1) .
وَقد ورَد عَنه الصَّلاة والسَّلام أنه قَالَ : (( إني أعلَم آيةً لو عمل(2) بها جَمِيع الخلّق لكفتهم : ? وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً صدق الله العظيم وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ? [ الطلاق : 2 – 3 ] )) (3) ، وذلك لأن مَن اتقى(4) الله عَلمُه الله مَا يَأمرهُ وَنهاه ، كَمَا يُشِير إلَيه قوله تعَالى : ? وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ? [ البقرة : 282 ] .
__________
(1) سقطت من ( د ) . والحديث عن صعصعة بن معاوية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ عليه هذه الآية فقال : (( حسبي لا أبالي أن لا أسمع غيرها )) . المسند : 5/59 ، رقم 20070 ؛ الحاكم ، المستدرك : 3/711 ، رقم 6571 وصححه ؛ النسائي ، السنن الكبرى : 6/520 ، رقم 11695 ؛ الطبراني ، المعجم الكبير : 8/76 ، رقم 7411 ؛ ابن سعد ، الطبقات : 7/39 . قال الهيثمي : (( ورجال أحمد والطبراني رجال الصحيح )) . مجمع الزوائد : 7/141 .
(2) في ( م ) : ( علم ) .
(3) الحديث أخرجه الإمام أحمد عن أبي ذر - رضي الله عنه - ، المسند : 5/178 ، رقم 21591 ؛ ابن ماجة ، السنن ، كتاب الزهد ، باب الورع والزهد : 2/1411 ، رقم 4220 ؛ الحاكم ، المستدرك : 2/534 ، رقم 3891 ؛ الدارمي ، السنن : 2/392 ، رقم 2725 ؛ النسائي ، السنن الكبرى : 6/494 ، رقم 11603 ؛ البيهقي ، شعب الإيمان : 2/113 ، رقم 1330 . والحديث ( ضعيف ) كما ذهب إلى ذلك الشيخ الألباني في ضعيف الجامع : رقم 6372 .
(4) في ( د ) : ( اتقَ ) .(114/63)
وَقد وَردَ : (( مَنْ عَمل بما عَلم وَرثه الله عِلم مَا لم يعلم )) (1) .
وروي [ 11/ب ] : (( مَا أتخذ اللهُ وَلياً جَاهِلاً وَلو اتخذَه لعَلمَهُ )) (2) أي بالعِلم الكَسِبي ، أو العِمل اللدُني الوُهِبي ، كَمَا يشير إليَه قوله سُبحانه وَتعَالى : ? وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ? [ محمد :17 ] .
وَعَن زفر(3) أن الإمام سُئل عَن عَلي وَمَعاوية وَقتلى صفين ، فقال : (( إذا قدمت عَلى الله يَسألني عَما كلفني وَلاَ يَسألني عَن أمورهم )) .
وروي أنه قالَ : (( تلكَ دماء طهّرَ اللهُ مِنْها سناتنا(4) أفلاَ نطهر مِنها لسَاننا ؟! )) (5) وَفي روَاية قرأ تلك الآية(6) .
__________
(1) هذه الرواية مروية عن أحمد بن حنبل عن بعض التابعين عن عيسى بن مريم عليه السلام ، قال أبو نعيم : وقد وهم بعض الرواة فرواها بإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . حلية الأولياء : 10/15 ؛ ابن كثير ، التفسير : 4/529 .وقد وهم السيوطي في ( الدر المنثور : 1/372 ) فنسبها للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
(2) قال عنه المؤلف في كتاب آخر له : ( موضوع ) . المصنوع : ص 156 .
(3) زفر بن الهذيل بن قيس الكوفي ، من أصحاب أبي حنيفة ، قال ابن حبان : كان متقناً حافظاً قليل الخطأ لم يسلك مسلك صاحبه في قلة التيقظ في الروايات وكان أقيس أصحابه ، وفاته سنة 158هـ . الثقات : 6/339 ؛ سير أعلام النبلاء : 8/38 .
(4) في ( د ) : ( سيئاتنا ) .
(5) هذه الرواية مشهورة عن عمر بن عبد العزيز كما في حلية الأولياء : 9/114 ؛ التدوين في أخبار قزوين : 1/192 . ولم أجدها منسوبة لأبي حنيفة .
(6) في ( د ) : ( تلك أمة ) .(114/64)
وَإنما بنيت هَذِهِ المسألة المعضِلة(1) لمَا فيها مِن العَوارض المشكِلة المحتَاجَة إلى الأقِوالِ المفصَّلةِ ، وَمما يَدُل عَلى عَدَم قطع الأفضَلِية مَا صَدرَ عَن عُمر في الشورَى ، حَيثُ جَعَلَ الأمر لأحَدٍ مِنْ الستة ، فإنه لو كَانَ أفضَلية عثُمان أو عَلي قطعيَّاً ، لَكانَ تعين للخَلافةِ بالأولوية ، مَع أنه يجوز صِحة الخلاَفة بشرائطها الشرعيّة في المفضول إجماعاً ، خِلافاً لِطَائفةِ الشيعَة في أكاذيبهم الشنِيعَة .
وَمنها مَا [ روي ] (2) عَن عَلي أيضاً قال : قال رَسِول الله صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( يا علي ألا أدلك عَلى عَمل إذَا فعلته كَنت مِن أهل الجنةِ - وَإنكَ مِن أهل الجنة - إنهُ سَيَكون بَعدِي أقوَامٌ يقال لهم الرافضَة ، فإن أدركتهم فاقتلهُم فإنهم مُشركون وَقالَ عَلي : سَيَكونُ بَعْدَنا أقوامٌ ينتحلونَ مُودتنا تكونُونَ عَلينَا بارقة ، وَآية ذلَك أنهم يَسبُّونَ أبَا بكر وعمر رضي الله عَنهما )) (3) رَواهُ خثيمة بن سُليَمَان الطرابلسِي(4) في ( فَضائل الصحَابة ) وَاللالكائي(5) في ( السنة ) .
وَفي روَاية لَهُ [ عنه ] (6) أيضاً :(( يكون في آخِر الزّمَانِ قومٌ لهم نبز يسمّونَ الرافضِة يَرفضُونَ الإسلام،
__________
(1) في ( د ) : ( المفصلة ) .
(2) زيادة من ( د ) .
(3) الطبري ، الرياض النظرة : 1/363 ؛ الهندي ، كنز العمال : 11/324 .
(4) أبو الحسن خثيمة بن سليمان بن حديرة القرشي الشافعي ، أحد الثقات ، جمع كتاباً في فضائل الصحابة ، وفاته سنة 343هـ . تذكرة الحفاظ : 3/858 ؛ طبقات الحفاظ : ص 355 .
(5) في كلا النسختين ( الالكائي ) .هو أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الشافعي ، الحافظ الفقيه ، قال عنه الذهبي : محدث بغداد ، وفاته سنة 418هـ . تذكرة الحفاظ : 3/1083؛ طبقات الحفاظ : ص 412 .
(6) زيادة من ( د ) .(114/65)
فاقتلُوهم(1) فإنهم مُشركُونَ )) (2) أي كالمشركينَ في الخروج عَن كمالِ دِينِ المُسلِمينَ ، أو أطلق وَيُرَاد بِهِ للِزّجر وّالمبَالغَة في التهدِيد وَالوعيد ، وكَذَا قوله(3) : (( يَرفضُونَ الإسلام )) أي بَعض مَا يَجبُ عَلَيهم مِنْ الأحكام .
وَمنها عَن عَلي كَرّم اللهُ وَجهَه أن النبي صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ لهُ : (( إن سَرك(4) أنْ تكُون مِن أهلِ الجَنَّةِ ، فإن قوماً ينتحلُونَ حَبكَ يَقرؤونَ [ 12/أ ] القرآنَ لاَ يَجُاَوز تراقيهم ، لهم نبزٌ يقال لهم الرافضَة، فإن أدرَكتهم فَجاهِدهُم فإنهم مُشركونَ )) (5) . رواه ابن بشران(6) وَالحاكم(7) في ( الكنى ) .
__________
(1) في ( د ) : ( قاتلوهم ) .
(2) الحديث أخرجه الطبراني ، المعجم الكبير : 12/242 ، رقم 12997 ؛ ابن أبي عاصم ، السنة : 2/275 ؛ الإمام أحمد ، فضائل الصحابة : 1/417 ؛ عبد الله بن حنبل ، السنة : 2/546 ؛ البزار ، المسند : 2/139 ، رقم 499 ؛ أبو نعيم ، حلية الأولياء : 4/95 ؛ ابن عدي ، الكامل : 7/207 ؛ الطبري ، الرياض النضرة : 1/364 . والحديث ( ضعيف ) كما ذكر ذلك ابن الجوزي في العلل المتناهية : 1/163 ؛ الذهبي ، ميزان الاعتدال 5/288 ؛ والألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم .
(3) في ( د ) : ( وقوله ) .
(4) في ( د ) : ( أبشرك ) .
(5) الهندي ، كنز العمال : 11/324 .
(6) هو أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران الأموي البغدادي ، قال الخطيب : كان تام المروءة ظاهر الديانة صدوقاً ثبتاً ، وفاته سنة 415هـ . سير أعلام النبلاء : 17/311 ؛
(7) أبو أحمد محمد بن محمد بن أحمد النيسابوري ، يعرف بالحاكم الكبير ، قال عنه الذهبي : محدث خراسان الإمام الجهبذ مؤلف كتاب الكنى 378هـ . تذكرة الحفاظ : 3/976 ؛ طبقات الحفاظ : ص 389 .(114/66)
فَهَذِهِ الأحَادِيث وَإن كَانت أسَانيدهَا ضَعيفة ، لِكن يتقوى بَعضها بَبعضٍ ، فتَرتقي إلى دَرجَةِ الحِسَنِ ، الذِي يَصِح الاستدلال بِهِ في الأمُورِ الظنيّة الفقهيّة ، فيَقتل السّابُ للِصحَابة مِنْ الطائفة الخَارِجَة وَالرّافضَة ، وَإنما قلنا بِطريقِ السَياسَة العُرفيَّة الفرعيّة(1) ، لاَ بِطَريقِ الأصَالةِ مِنْ الأمَور الشرعية ؛ لِئلاَ يُخَالف القواعِدِ الكليَّة الثابتة مِن الكِتاب وَالسنة النبوية ، أنه لا يقتل أمرؤٌ مُسلم إلاَّ بِإحدى ثلاث : قتل النفس بِالنفس ، وَزنا بإحصان وَارتدَاد .
وَالسيَاسَة وَاردَة في الأخبَار وَمشاهِير الآثار ، وَمِن جُملتها تَغرِيب العَام للزاني وَقطع يَدِّ النبَاش وَأمثالهما، وَمنها قتل تارك الصَّلاة في مذهب الشافِعية ، فانَدفعَ اعترَاضهم عَلى الحنَفِية في قتل الرّفضَة ، حَيثُ وَهمُوا أنهم لَيْسَ لَهُم دَليل في ذلَكَ ، وَلم يحقق مَا قدمنا هنالكَ .
وَيُؤخذ مِنْ هَذِهِ الأحَادِيثِ أيضاً جَواز مقاتلة الأرفَاضِ ، وَيؤيدهُ مُقاتلة عَلي للخَوارج في حَالِ الاعتراض(2) ، إلاَّ أنه يُعَامل مَعَهم مُعَاملة عَلي مَع أمثالِهم مِنْ عَدم سَبي نِسَائهم وَذرَاريهم ، وَعَدم التعَرض لإِفرادِهم بَعدَ فَراغ قتالهم وَدخُولهم في الإطاعَة ، كَمَا حَققَ هَذِهِ الأمُور جَميعاً في مَحالها المفصلة في بَيان أحوالهم .
__________
(1) الفرعية ) سقطت من ( د ) .
(2) في ( د ) : ( الاعراض ) .(114/67)
وَمنها عَن عَلي - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ ليّ النبي صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( أنتَ وَشيعتك في الجَنَّة ، وَسَيَأتي قَومٌ لَهُم نبزٌ يُقَال لَهُم الرّافضَة ، فإذا لقيتمُوهم فاقتلُوهم فإنهم مُشركونَ )) (1) رَواه أبو نُعيم(2) في ( الحلية ) والخَطِيب(3) وَابن الجَوزي(4) في ( الوَاهِيات ) (5) ، وَفيه : محمد بن حَجر(6) ، ثقة غالٍ في التشِيع رَوى [ له ] (7) الشيخَان(8) ، وَلاَ شبهة
__________
(1) الطبراني ، المعجم الأوسط : 6/355 ، رقم 6605 ؛ الخطيب ، تاريخ بغداد : 12/358 ؛ الطبري ، الريضا النضرة : 1/364 . والحديث ضعيف كما ذكر ابن الجوزي في العلل المتناهية : 1/167 ؛ الهيثمي ن مجمع الزوائد : 10/22 .
(2) هو أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق المهراني الأصبهاني ، الحافظ الكبير محدث العصر صاحب حلية الأولياء وغيرها ، وفاته سنة 430هـ . تذكرة الحفاظ : 3/1092 ؛ طبقات الحفاظ : ص 423 .
(3) أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي ، الحافظ الكبير ومحدث العراق ، صاحب تاريخ بغداد ، مع كثرة عنايته بعلوم الحديث ، وفاته سنة 463هـ . تذكرة الحفاظ : 3/1135 ؛ طبقات الحفاظ : ص 433 .
(4) أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي القرشي الحنبلي ، الحافظ المفسر صاحب المعارف والفنون في الرجال والتاريخ والفقه والوعظ وغيرها ، وفاته سنة 597هـ . وفيات الأعيان : 3/140 ؛ سير أعلام النبلاء : 18/186 .
(5) كذا يسميها المؤلف وهي ( العلل المتناهية ) .
(6) هو محمد بن حجر بن عبد الجبار بن وائل بن حجر ، أبو الخنافس ، قال البخاري : فيه بعض النظر ، وقال أبو حاتم : كوفي شيخ ، وقال أبو أحمد الحاكم : ليس بالقوي ، وقال الذهبي : له مناكير . ميزان الاعتدال : 3/337 ؛ لسان الميزان : 5/119 .
(7) زيادة من ( د ) .
(8) كذا ذكر المؤلف ، ولم أجد له رواية في الصحيحين أو حتى في الكتب الستة .(114/68)
أن شيعَته كلُّ مَنْ شايعه في سُنته(1) ، وَتابَعهُ في طِريقتهِ وَسيرتهِ المطابقة لمَا هِيَ عَليه النبي وَأصحَابه [ 12/ب ] في ظَاهِره وِسريرَتهِ، وَيقويه قَوله تعَالى : ? إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ? [ الأنعام :159 ].
ويؤيّدُه مَا رَواه الدينُوري(2) عَن المدَائني(3) قَالَ : نَظَرَ عَلي بن أبي طَالب إلى قومٍ ببابه ، فقال لقنبر(4) : (( يَا قنبر(5) من هؤلاء ؟ قَالَ : هَؤلاءِ شيعَتكَ ، قَالَ : وَمَا ليَّ لاَ أرى فيهم سيما(6) الشيعَة ؟ [ قال : وما سيمى الشيعة ؟ ] (7) قال : خَمْص البُطون مِن الطوى(8) ، يبسَ الشفاه من الضمأ ، عش العيون مِن البكاء )) (9) .
__________
(1) في ( د ) : ( سنة ) .
(2) هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ، أبو محمد ، قال الخطيب : كان ثقة ديناً فاضلاً ولي قضاء الدينور وكان رأساً في اللغة والعربية والأخبار وأيام الناس ، وفاته سنة 276هـ . تاريخ بغداد : 10/170 ؛ سير أعلام النبلاء : 13/296 .
(3) أبو صالح شعيب بن حرب المدائني ، قال عنه الذهبي : (( الإمام القدوة العابد شيخ الإسلام )) ، من رجال البخاري ، وفاته سنة 197هـ . سير أعلام النبلاء : 9/188 ؛ تهذيب التهذيب : 4/306 .
(4) في ( د ) : ( للقنبر ) . وقنبر هو مولى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، قال الذهبي : (( لم يثبت حديثه )) ، وكان في آخر عمه ينتقص من عثمان - رضي الله عنه - . ميزان الاعتدال : 5/475 ؛ لسان الميزان : 4/475 .
(5) يا قنبر ) سقطت من ( د ) .
(6) في ( د ) : ( بسيما ) .
(7) زيادة من ( د ) .
(8) في ( د ) : ( الطول ) .
(9) المرتضى ، الأمالي : 1/13 ؛ الهندي ، كنز العمال : 11/325 .(114/69)
وكأنه - رضي الله عنه - وَكَرّمَ وَجهُهُ أشارَ إلى تفِسير قَوله تعَالَى : ? سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ? [ الفتح: 29 ] وقوله سبحانه } وتعَالى في حقِّ أهِل الصفة : ? تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ? [ البقرة : 273 ] وقوله سبحانه {(1) وتعالى في حق المنافقين : ? وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ? [ محمد : 30 ] (2) .
وَمِن اللطائف مَا وَقعَ مِن أربَابِ الظرائف ، وهو : كَانَ سنياً(3) في غايَة مِن حسن الصّورة وَنور البَصِيرة، لِكنُه مُولع بالفِسقِ مِن شرب الخَمرِ وَغيرها مِن الأمُور الخطيرة ، وَهَو مِن ندماء الشيعَي مِن الأمرَاء ، فَذَكرَ في مَجلسِهِ بيَان أمَارَات الأتقِيَاء وَعَلامَات الأشقِيَاء ، فَقالَ السَّني : (( أنا مِن فسّاق أهل السّنة وَانظروا في وَجهي مِن سِيما نُور أهل الجَنة ، وَأبصروا في طلعَة الحسَامي وَغاظ(4) الشيعَة وَاتقِيَائهم عَلى مَظِنتهم الشيعَة تروا عَلَيه مِن غبر(5) الظلَمة المشَاهدة ، على أنه من حملة الظلَمة )) .
ولعَلهُ أخَذَ هَذا المعنى اللطِيف وَالمبَنَى الظريف مِن قوله تعَالَى : ? وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ صدق الله العظيم ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ صدق الله العظيم وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ صدق الله العظيم تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ صدق الله العظيم أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ? [ عبس : 38 – 42 ] .
__________
(1) ما بين المعقوفتين } { زيادة من ( د ) . وينظر للفائدة تفسير ابن كثير : 1/326 .
(2) قال القرطبي : (( ولتعرفنهم في لحن القول : أي في فحواه ومعناه )) . الجامع لأحكام القرآن : 16/252 .
(3) في ( د ) : ( شاباً ) .
(4) في ( د ) : ( وغلظ ) .
(5) في ( د ) : ( غبرة ) .(114/70)
وَقدَ ورَدَ : (( كَمَا تعِيشونَ(1) تموتون ، وكَمَا تموتوِنَ تحشرونَ )) (2) .
وَقد صحَ : (( أن الظاهر عنَوان البَاطِنِ )) (3) .
وَهِذا أصل في بَابِ الفراسَة(4) وَكتَاب الكيَاسَة ، وَقد قَالَ تعَالَى : ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ? [ الحجر : 75 ] أي المتقين .
وَفي الحَديث : (( اتقوا فراسَة المؤمن ، فإنه ينظر بنورِ الله )) (5) وَهذا قد يَكون بأمَارَات الظاهِرية ، وَقد يكُون بِعلامَة بَاطِنية تتجَلى عَندَ أصحَاب نتِكشف لأربَابِ الأبصار [ 13/أ ] والبَصِيرة(6) وَالأسرَار .
وَمنها مَا [ روي ] (7) عَن جحيفَة(8) سَمعت : عَلياً عَلى المنَبر يَقول : (( هَلكَ فيّ رجُلان مُحِبٌ غالٍ ،
__________
(1) في ( د ) : ( تبعثون ) .
(2) لم أقف عليه .
(3) كلام المؤلف يوهم أنه حديث ، ولم أقف عليه .
(4) الفراسة في اللغة التثبت والنظر ، وفي اصطلاح الصوفية : هي مكاشفة اليقين ومعاينة الغيب. التعريفات : ص 212 .
(5) الحديث أخرجه الترمذي عن أبي سعيد ، السنن : 5/298 ، رقم 3127 ؛ البخاري ، التاريخ الكبير : 7/354 ؛ ؛ الخطيب ، تاريخ بغداد : 3/191 ؛ أبو نعيم حلية الأولياء : 10/281 ؛ الطبراني عن أبي هريرة ، المعجم الأوسط : 3/312 ؛ القضاعي عن عبد الله عمرو ، مسند الشهاب : 1/387 ، رقم 662 ؛ ابن عدي عن أبي إمامة ، الكامل : 6/406 ؛ البيهقي كتاب الزهد : 2/159 ، رقم 358 ؛ أبو نعيم ، حلية الأولياء : 6/118 ؛ . والحديث ( ضعيف ) كما حقق ذلك الشيخ الألباني ، ضعيف الجامع : رقم 127 .
(6) في ( م ) : ( البصيرة ) .
(7) زيادة من ( د ) .
(8) كذا ذكره المؤلف ، والأصح ( أبو جحيفة ) : وهب بن عبد الله السوائي ، ويقال له وهب الخير ، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته ، ثم كان على شرطة علي ، وفاته سنة 73هـ . سير أعلام النبلاء : 3/202 ؛ الإصابة : 6/626 .(114/71)
وَمُبغضٍ غالٍ )) (1) رَوَاهُ العشاري(2) في ( فضائل الصديق ) وَابن أبي عَاصم(3) وَاللالكائي(4) في ( السنّة ).
وَفي روَاية لاِبن أبي عَاصِم عَن علي قَالَ : (( يهلك(5) فينا أهل البيَت فَريقان : مُحب مطرٍ وَباهت مفترٍ )) (6) وَالإطراء : هو المجاوزَة عَن الحَدِّ في الثنَاءِ ، وَالبَاهتُ : هُوَ الذي يَأتي بِالبُهتان علَى طَريقِ الافِتراء.
وَفي رواية أخُرى لهُ عَنهُ قال : (( يحبني قَومٌ حَتى يدخلهُم حبّي النَّار ، وَيبغضني قومٌ حَتى يدخِلهُم بغضي النار )) (7).
__________
(1) ابن أبي عاصم ، السنة : 2/477 ، رقم 987 ، قال الشيخ الألباني في تعليقه على الكتاب ( إسناده ضعيف ). وروى الحديث أيضاً الشيعة في كتبهم ، فقد رواه المرتضى في نهج البلاغة : 4/2 ؛ خصائص الأئمة : ص 124 .
(2) أبو طالب محمد بن علي بن الفتح الحربي العشاري ، قال الخطيب كتبت عنه وكان ثقة صالحاً ، وفاته سنة 451هـ . تاريخ بغداد : 3/107 ؛ سير أعلام النبلاء : 18/48 .
(3) أبي ) سقطت من ( د ) .
(4) في ( د ) : ( الاسكافي ) .
(5) في ( د ) : (هلك ) .
(6) ابن أبى عاصم ، السنة : 2/484 ، رقم 1005 . قال الشيخ الألباني في تعليقه على هذا الكتاب ( إسناده ضعيف جداً ) .
(7) ابن أبي عاصم ، السنة : 2/477 ، رقم 986 ؛ ابن عساكر ، تاريخ دمشق : 42/293 . قال الشيخ الألباني في تعليقه على الكتاب الأول : ( إسناده جيد ) . وقد روى الحديث أيضاً الشيعة في كتبهم كما عند الطوسي ، الأمالي : ص 256 ؛ ابن شهر آشوب ، المناقب : 1/227 .(114/72)
وَفي روَاية أخَرى عَنهُ - ورواية الأصبهاني(1) في ( الحجة ) (2) عَنهُ أيضاً - بلفظ : (( يهلكُ(3) فيّ رَجَلانِ مُحبٌّ مُفرطٌ ، وَمُبغضٌ مُفرطٌ )) (4) ولا شك أن المحب الغالي هُوَ الرّافضَي ، والمُبغضُ الغالي هُوَ الخَارِجي .
__________
(1) أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي الأصبهاني ، الحافظ الملقب بقوام السنة ، أملى وصنف وتكلم في الرجال وأحوالهم ، وفاته سنة 535هـ . تذكرة الحفاظ : 4/1278 ؛ طبقات الحفاظ : ص 463 .
(2) هو كتاب ( الحجة في بيان المحجة ) . كشف الظنون : 1/631 .
(3) في ( د ) : ( تهلك ) .
(4) ابن أبي عاصم ، السنة 2/477 ، رقم 987 ؛ الخلال السنة : 1/293 . قال الشيخ الألباني في تعليقه على الكتاب الأول : ( إسناده ضعيف ) .(114/73)
وَأمَّا السنّي : فَمُحبٌّ لعَليٍّ في المقام العَالي ؛ لأنه في الوسِط الذِي هو القسط الذي أشَارَ إلَيهِ قَوله تعَالَى : ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ? الآية(1) [ البقرة : 143 ] وتحقِيقه أن خيرَ الأمُور أوسَطها ، وَهَذا يجَري في الاعِتقاد ، وَفي الأفعَال وَالأخلاق وَسَائر الأحَوالِ ، كَمَا لاَ يخفَى عَلى أربَاب الكِمال ، فإن مَدَار التوحيد عَلى التوسّطِ بَيْنَ التشبيه وَالتنزيه ، كَمَا في الآيَاتِ وَالأحَادِيث المتشَابهاتِ ، [ وكقولهم ] (2) : لا عَينَ ولا غَير في تحقيق صفَاتِ الذاتِ كَذَا مَذهبهم(3)
__________
(1) قوله تعالى : ? وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ? زيادة من ( د ) .
(2) زيادة من ( د ) .
(3) هذا هو قول الماتريدية ، وقد توقف المحققون من أهل السنة في ذلك ، قال ابن أبي العز : (( كان أئمة السنة ( رحمهم الله تعالى ) لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره ولا أنه ليس غيره ؛ لأن إطلاق لفظ الغير فيه إجمال فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل ، إن أريد به أن هناك ذاتا مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها ، فهذا غير صحيح وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة ، فهذا حق ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات ، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها )) . شرح العقيدة الطحاوية : ص 129 . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( فإذا قيل : الصفات مغايرة للذات لم يكن في هذا من المحذور ما في قولنا : إن صفات الله غير الله ، فإن اسم الله يتناول صفاته ، فإذا قيل إنها غيره فهم من ذلك أنها مباينة له ، وهذا باطل ؛ ولهذا كان النفاة إذا ناظروا أئمة المسلمين، كما ناظروا الإمام أحمد بن حنبل في محنته المشهورة ، فقالوا له : ما تقول في القرآن وكلام الله أهو الله أم غير الله ؟ عارضهم بالعلم وقال : لهم ما تقولون في علم الله أهو الله أم غير الله ؟ )) . الجواب الصحيح : 5/17 – 18 .(114/74)
، وَبَيْنَ(1) المعَطْلةِ وَالمجسّمة وَبَينَ القَدرية والجَبرية وَبَيْنَ الرفض وَالخروج .
وَكذا يعتَبر التوسط في استحِسَانِ الأخلاق كالشجاعَة ، فإنهُ حَالة بَيْنَ التهوّر وَالجُبن ، والسّخاوَة بَيْنَ التبذِير وَالبُخل ، وَالتواضع بَيْنَ الكِبر وَالمهَانة وَنَحوها عِندَ مَن يعرف عِلم الأخلاق ، وَيفرق بَيْنَ الخَسَّة وَالذميمة ، وَقد قال تعَالَى في عِلم المعَاشِ : ? وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ? [ الفرقان : 67 ] .
ما عال من اقتصد :
وَفي [ الحديث ] (2) : (( الاقتِّصَادِ نِصف المعِيشة )) (3) وَفي روَاية : (( مَا عَال مَنْ اقتصَد )) (4) وَقال تعَالَى : ? وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ [ 13/ب ] ذَلِكَ سَبِيلاً ? [ الإسراء : 110 ] وَقالَ تعَالَى حِكايةً عَن وصَية لقمَان : ? وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ? [ لقمَان : 19 ] .
__________
(1) في ( د ) : ( وعين ) .
(2) زيادة من ( د ) .
(3) والحديث عن ابن عمر كما أخرجه الطبراني بلفظ : (( الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة ، والتودد إلى الناس نصف العقل ، وحسن السؤال نصف العلم )) . ( المعجم الأوسط : 7/25 ، رقم 6744 ) من طريق مخيمس بن تميم عن حفص بن عمر ، ومن الطريق نفسها أخرجه البيهقي ، شعب الإيمان : 5/254 ، رقم 6568 . قال أبو حاتم : (( هذا حديث باطل ، ومحيس وحفص مجهولان )) . ( علل ابن أبي حاتم : 2/284 ) . وقال الشيخ الألباني ( موضوع ) . ضعيف الجامع : رقم 2286 .
(4) الحديث عن ابن مسعود ، أخرجه الإمام أحمد : 1/447 ، رقم 4269 ؛ االطبراني ، المعجم الأوسط : 5/206 ، رقم 5094 ؛ البيهقي ، شعب الإيمان : 5/255 ، رقم 6559 ؛ ابن عدي ، الكامل : 3/462 . والحديث ( ضعيف ) كما حكم عليه الشيخ الألباني ، ضعيف الجامع : رقم 4269 .(114/75)
فإذا عَرفتَ ذلَك عَلمتَ أن شِيعَة عَليٍّ ليسَ إلاَّ أهل السّنة هنالكَ ، فإن غيرهم إمَّا مُبغضٌ مُفرطٌ كالَخوراجِ ، حَيثُ سَبوه وَلعَنُوهُ وَكفَّرُوه وَحَاربُوه ، وَإمَّا مُحِبٌّ مُفرطٌ كالرّوَافِضِ ، فإنهم فَضلُوه عَلى غَيرَ النبّي صلى الله تعالى عليه وسلم مِن سَائرِ الأنبيَاء وَالرسُل الأصفِياء ، كَمَا يُنادي منَاديهم : (( مَا بَيْنَ الأرضِ وَالسماء محمد وَعلي خير البَشر )) (1) .
وَهَذَا مَع كَونه بدعَة قبيحَة في إدخَالهِ بَيْنَ كَلماتِ(2) الأذان ، كلمة كفر فيها فضِيحَة عِندَ الأعيَان ، بخِلاِف بدعَتهم في قولهم(3) : (( حَي عَلى خير العَمل )) فأمرٌ سَهلٌ ، حَيثُ يَصِحّ في المعنَى ، وَإن لم يرد في الآذان هَذَا المَبنى(4) ، مَع أنه مُستدرك مُستغنى عَنه بَعْدَ قَولهُ : (( حَي عَلى الصَّلاة ، حَي عَلى الفَلاح )) .
ثُمَّ بَالغَ طائَفةٌ مِنهم فكفرّت أبَا بكر لأخذه حَق عَلي وَمخالفَته ، وَكفرّت عَلياً لِسكوتِهِ عنه وَرضَائه بموَافقتِه، وَنَفُوا جَواز التَقيَّة ، فإنها لَو كَانَت جَائزة لكانَ أولى أن يقاتل(5) مَع مُعَاوية بهَذِهِ القَضِية ، فإنه كانَ أكثر جنُوداً مِنْ الصديق ، وَأكبَر قَبيلَة مِنُه عِندَ التحقِيق .
__________
(1) وهذه اللفظة مستحبة عند فقهاء الإمامية ، كما ذهب إلى ذلك المرتضى ، الرسائل : 1/279 ؛ ابن براج ، جواهر الفقه : ص 257 .
(2) في ( م ) : ( كلمة ) .
(3) في ( د ) : ( أقوالهم ) .
(4) وردت آثار في هذا المعنى ، فقد روى ابن أبي شيبة عن نافع قال كان ابن عمر قد زاد في آذانه حي على خير العمل . المصنف : 1/196 ، رقم 22410 ؛ عبد الرزاق ، المصنف : 1/464 ، رقم 1797 ؛ البيهقي ، السنن الكبرى : 1/424 ، رقم 1842 . قال البيهقي : (( لم يثبت هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما علم بلالا وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة فيه )) .
(5) في ( د ) : ( يقال ) .(114/76)
ثُمَّ بَالغ طَائفة منهم في محبّته حَتى فَضلتهُ عَلى النبي وَسَائر أمتِهِ(1) ، كَمَا اشتهر عَن بَعضِ شعرَائهم المعتَبر عند كبرائهم أنه قَالَ : لم يَكن غرض مَن كسرَ الأصنامَ إلا أنه يُوصلُ المصُطفى كتفه إلى قَدم المرتَضى
وَيتشرف في ذلَكَ المقَامِ إلاَّ عَلي(2) .
وَمضمون هَذَا البيَت مَشهُور الآن في المكان ويقرؤونه وَينقلونَهُ وَيستَحسُنونه ، وَلم يعرفُوا مِن كَمال حَماقَتِهم في مَرتبَة العَقل وَجَهالتهم في مقام النقل أن كسرَ الأصنام فرض في دِين الإسلام ، وَأنه قط لم يفضل وَليٌّ عَلى نَبي في شيء مِن الأحكام .
__________
(1) الشيعة الإمامية يتفقون على أن علياً هو أفضل من الأنبياء عدا نبينا صلى الله عليه وسلم ، وبعضهم توقف في فضيلة علي والأئمة على أولي العزم ، وقد رجح المفيد بأن الأئمة أفضل من أولي العزم ( تفضيل أمير المؤمنين : ص 9 ) أما ابن شهر آشوب المازندراني ففضله على سائل الأنبياء بما فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال : (( وفي بعض الروايات أن مرتبة الإمامة أعلى من مرتبة النبوة )) . شرح أصول الكافي : 5/116 .
(2) يشير المؤلف إلى ما تواتر في كتب الشيعة الإمامية من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمل علياً على كتفيه يوم الفتح لتكسير الأصنام ، والرواية لا تستحق أن نوردها ينظر عند ابن بابويه الرازي ، الأربعون حديثاً : ص 23 ؛ المازندراني ، المناقب : 1/398 ؛ المجلسي ، بحار الأنوار : 38/85 .ولا تعجب إن نسب الشيعة هذه الروايات إلى كتب أهل السنة كمسند أحمد وغيره من كتب الحديث كذباً وزوراً ، كما فعل الأميني في كتابه الغدير : 7/9 . ويمكن الاطلاع على بعض الأشعار التي أوردها حول هذه الرواية المزعومة في الكتاب نفسه .(114/77)
ثُمَّ بَالغَ طَائفة مِنهم في سِوء الاعِتقاد مِن جَعل النبي وعَلي في الإيجاد بوَصفِ الاتحادِ في المَعنَى ، وَلو تَغَاير في المَبنَى(1) .
ثُمَّ بَالغَ طائفة مِنهم فَقالُوا [ 14/أ ] أخطأ جِبريل في إيصَال التنزيل ، حَيثُ أنزلَه عَلى النّبي [ صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] (2) وَغَفل عَن عَلي ، وَيسمّونَ هَذِه الطائفة بالغِرابية حَيثُ توهمُوا أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يُشَابه عَلياً في كمال الصورَة ، بحيث يتوهم الاتحاد حَال الضرورَة(3) .
وَمَن عَرفَ شمائله عَلَيه الصَّلاة وَالسَّلام في الخَلق وَالخُلق ، عَرفَ أنه لاَ مُناسَبة بَيْنَه وَبَيْنَ علي ، لاَ(4) في الصَّوَرة وَلاَ في السيرة ، مَعَ أن تخطِئة جبريل مُستلزم لتخطِئة الربِّ الجليل ، حَيثُ إنه سُبحانه مَا نبه جبريل عَليه وَلاَ أشارَ إليه في مُدةِ ثلاث وَعشرِينَ سَنةِ بِنجُومِ مُفَرقة ، مَع قَوله تعَالَى : ? نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ صدق الله العظيم عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ صدق الله العظيم بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ?[ الشعراء : 193 – 195 ] وَهَذَا كَمَا تَرى كفرٌ صَرِيحٌ وَإلحاد قبيح .
ثُمَّ بالغ طَائفة مِنهم تُسَمى النصيريةَ يقولون لِعَلي بالإلوهية(5) ، وَنحو ذَلَكَ مَما بيناه في مَواضِع مما ألفنَاهُ.
[ مشابهة علي لعيسى بن مريم : ]
__________
(1) قال أبو حيان عند الكلام في قوله تعالى : ? ولكن رسول الله وخاتم النبيين ? : (( ومن ذهب إلى أن الولي أفضل من النبي فهو زنديق يجب قتله )) . البحر المحيط : 7/228 .
(2) زيادة من ( د ) .
(3) ينظر : الفرق بين الفرق : ص237 ؛ التبصير في الدين : ص 128 ؛ المواقف : ص 673.
(4) لا ) سقطت من ( د ) .
(5) ويسمون أيضاً : الإسحاقية . ينظر المواقف : ص 47 .(114/78)
وَالَحاصِل أن عَلياً لَهُ مُشابَهة بعِيسَى بن مَريَم في هَذِهِ القضِية ، حَيثُ كفرَ اليَهُود بِسَبب إفراطِهم في بغضِهِ وَنسَبته إلى مَا لاَ يَلِيق به مَما يصَان عَنهُ اللسَان ، وَكفر النصَارى في إفراطِهم في حبّه ونسبته إلى التثليث وَالاتحاد وَالعِينية ، المُشاركة لهم في هذِهِ بخصُوصِهَا الطائفة الوجُودية ، وبطلاَن(1) أقَوال هَذِهِ الطوَائف ظاهِر لأهِل الإسلام مِن الخَوِاص وَالعَوام ، وَقد أوضَحنَا هَذِهِ(2) الأدِلة العقلية النقلية في كتُبنا المتعَلقة بالتفِسير والأحَادِيث وَأقوال الصوفية .
__________
(1) في ( م ) : ( بطلان ) .
(2) هذه ) سقطت من ( د ) .(114/79)
ثُمَّ مِن اللطائف مَا ذكرَه ُالمِرغيناني(1) : أن الشيطانَ الطاق(2) - وَهو شيخ الرافضَة عَلى الإطلاَقِ - كَان يتَعرض للإمَامِ الأعظم كثيراً مِن الأيَام ، فَدخل الشيطان يوماً في الحمّام ، وَكانَ فِيه الإمَام ، وَكَانَ قَريب العَهد بموَتِ الأستَاذ حَماد(3) ، فَقالَ الشيطان : مَات أستاذكم فاسترضاه منه ، فقال الإمَام : أستاذنَا مَاتَ وَأستاذكم مِن المنظِرينَ إلى يومِ الوَقت المعلُوم(4) ، فتحَير الرافضِي وَكشفَ عَورته ، فغمضَ الإمَام ناظره فَقالَ الشيطَان : يَا نعمَان مُذ(5) كم أعمَى الله بصَرك ؟ [ 14/ب ] فقال : مُذ(6) هتكَ الله ستركَ ، فبَادر الإمَام إلى الخرُوج مِن الحمام(7) ، وانشَأ هَذَا الكلام [ يقول ] (8):
__________
(1) أبو الفتح زين الدين عبد الرحيم بن أبي بكر بن علي السمرقندي ، فقيه حنفي ، من أعيان المفتين ، وفاته سنة 670هـ . الفوائد البهية : ص 93 ؛ هدية العارفين : 1/560 ..
(2) هو محمد بن علي بن النعمان البجلي الكوفي ، الملقب بشيطان الطاق ، نسب إلى سوق طاق المحامل بالكوفة ، وكان صاحبه هشام بن الحكم شيخ الرافضة يسميه مؤمن الطاق ، ويقال أول من لقبه بذلك أبو حنيفة ، وله مناظرات معه . الملل والنحل : 1/186 ؛ منهاج السنة النبوية : 2/227 ؛ لسان الميزان : 5/300 ..
(3) أبو إسماعيل حماد بن أبي سليمان مسلم الكوفي ، الإمام فقيه العراق ، كان أحد العلماء الأذكياء ، وفاته سنة 120هـ . طبقات ابن سعد : 6/332 ؛ سير أعلام النبلاء : 5/331 .
(4) الشطر الأول من القصة ورد في تاريخ بغداد : 13/436 . ولكن وردت بصورة معكوسة ، إذ القائل العبارة الأخيرة هو شطان الطاق ، وكان ذلك عند وفاة محمد الباقر حسب رواية الخطيب البغدادي .
(5) في ( د ) : ( منذ ) .
(6) في ( د ) : ( منذ ) .
(7) الرواية وردت في المستظرف من كل فن مستظرف : 1/134 – 135 .
(8) زيادة من ( د ) .(114/80)
أقول وَفي قولي بلاغ وحكمة(1)
وَمَا قلت قولا حَيثُ فيه بِمُنكر
ألا يَا عِبَاد الله خافُوا إلهكم
وَلاَ تدخلوا الحمّام إلا بِمِزر(2)
وَمنهَا مَا قَالَ أبُو الفَضل الكرمَاني(3) : (( إنه لما(4) دخل الخَوارج الكُوفة ، وَرأيهم تكِفير كل مَن أذنَب، وَتكفر كل تكفره ، قِيلَ لَهَم هَذَا شيخ هَؤلاء ، فأخذُوا الإمَام وَقَالُوا : تب مِن الكفر فَقالَ : أنا تائب مِن كلِّ كفر، فَقِيل لَهم : إنه قَالَ أنا نائب مِن كفركَم فاخَذوهُ ، فَقَالَ لهُم : العلم(5) قلتم أم نظن ، قالوا : نظنّ ، قال : إن بَعض الظن أثم ، وَالأثم ذَنب فتوبُوا مِن الكفر ، قالُوا : تبْ أيضاً مِن الكفر ، فَقالَ : أنا تائبٌ مِن كلِّ كفر )) . فهَذَا الذي قالَهُ الخصُوم : (( إن الإمَام استتب مِن الكفر مرتين ))(6) ، وَلبسُوا عَلَى النَّاس ، انتَهى .
__________
(1) وحكمة ) سقطت من ( د ) .
(2) لم أقف عليه منسوباً لأبي حنيفة .
(3) هو محمد بن يوسف بن علي الكرماني البغدادي ، صنف في العربية والكلام والمنطق ، وله شرح على صحيح البخاري ، وفاته سنة 785هـ . الدرر الكامنة : 5/72 ؛ البدر الطالع : 2/292 .
(4) في كلا النسختين : ( لا ) .
(5) في ( د ) : ( أيعلم ) .
(6) العقيلي ، الضعفاء : 4/282 ؛ ابن حبان ، المجروحين : 3/64 ؛ الخطيب ، تاريخ بغداد : 13/391 .(114/81)
وَوَقعَ لي نظر هَذَا الحال مَع بَعضِ الجهال مِن قضاة الأروَام(1) ، فإنه لما سَمعَ بي(2) أني طعنت في كَلام ابن عَرِبي(3) وَهوَ مُعتقد ، قال : تب إلى اللهِ ، فقلت : أتوب إلى الله مِن جَميع مَا ذكرَهُ الله .
__________
(1) جمع روم . وهي على ( أفعال ) . وسلاجقة الروم مسلمون سكنوا غرب تركيا الحالية ، وأطلقت عليهم هذه التسمية لمجاورتهم للروم .
(2) في ( م ) : ( لي ) .
(3) في ( د ) : ( العربي ) . وهو محي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد أبو بكر الطائي الأندلسي الصوفي ، اشتهر بتصوفه ، وكان له شعر يدل على اعتقاده بوحدة الوجود ، مات سنة 638هـ . العبر : 5/158 ؛ لسان الميزان : 5/307 .(114/82)
وَمنهَا ذَكرَهُ الغزنوي(1) عَن شريك بن عَبد الله(2) قال : (( كَنا عِندَ الأعمَش(3) في مَرَضهِ الذي توفي فيه ، فدَخلَ عَلَيه أبو حَنِيفَة وَابن أبي ليَلَى(4) وَابن شبرمَة(5) ، وَكان الإمَام أكبر فبدأ بالكلام ، وَقَالَ : اتقِ الله فإنكَ في أولِ يوم من أيّام الآخِرَة ، وَقِد كَنتَ تَحدثت عَن عَلَي - رضي الله عنه - بأحَادِيث لَكانَ أمسَكتها لَكانَ خيراً لَكَ ، فقال الأعمُش : اسندوني ألمثلي يُقال هَذَا ؟! حَدثني أبو المتوكل الشامي(6) عَن أبي
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن سعيد الحنفي ، فقيه أصولي ، له مؤلفات عديدة ، وفاته سنة 593هـ . الجواهر المضيئة : 1/120 ؛ الأعلام : 1/216 .
(2) هو أبو عبد الله شريك بن عبد الله القاضي النخعي الكوفي ، أحد الأئمة الأعلام ، قال الذهبي : حسن الحديث إماماً فقيهاً ومحدثاً ، ليس هو في الإتقان كحماد بن زيد ، وفاته سنة 177هـ . تذكرة الحفاظ : 1/232 ؛ تهذيب التهذيب : 4/293 .
(3) هو سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي أبو محمد الكوفي الأعمش ، ثقة حافظ عارف بالقراءات ورع لكنه يدلس، وفاته سنة 147هـ . الجرح والتعديل ، 4/146 ؛ سير أعلام النبلاء ، 6/226 ؛ تهذيب التهذيب ، 4/195 .
(4) أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي ، الفقيه والقاضي والمقرئ ، قال العجلي : كان فقيهاً صدوقاً صاحب سنة ، وفاته سنة 148هـ . تذكرة الحفاظ : 1/171 ؛ تهذيب التهذيب : 9/268 .
(5) أبو شبرمة عبد الله بن شبرمة بن حسان بن المنذر الضبي الكوفي ، القاضي الفقيه ، من رجال مسلم وأخرج له البخاري في المتابعات ، وفاته 144هـ . سير أعلام النبلاء : 6/347 ؛ تهذيب التهذيب : 5/220 .
(6) كذا في ( م ) وفي ( د ) : ( النامي ) . والأصح – كما في أصول الروايات – أبو المتوكل الناجي : علي بن داود الساجي البصري ، حديثه في الكتب الستة ، وفاته سنة 108هـ . الثقات : 5/161 ؛ تهذيب التهذيب : 7/280 .(114/83)
سَعِيد الخُدري قَالَ : قَالَ رَسُول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذَا كَانَ يَوم القِيامة قَالَ اللهُ تعَالَى لي وَلعَلي بن أبي طَالب : أدخلا الجنة مَنْ أحبكما وَأدِخل النَّار مَن أبغَضكما ، وَذلَكَ قوله تعَالَى : ? أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ? [ قّ : 24 ] (1) فَقالَ الإمَام قومُوا حَتى لا يجيء بأكثر مِن هَذَا ، قال : فوالله مَا جزنا البَاب حَتى مَات )) (2).
وَمنها مَا ذكرَهُ الكردري أن للرافضَة [ 15/أ ] أحَاديث مَوضُوعات وَتأوِيلات بَاطِلة في(3) الآيَات، وزيادَات(4) وَتصحيفَات كزيادَة : ( وَالعصر ونَوائب الدهر ) (5) ، وَكقولَه تعَالى : ? إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ?
__________
(1) جاءت الآية الكريمة في ( د ) ناقصة .
(2) القصة مع الحديث موضوعة ، ذكر ذلك ابن الجوزي فقال : (( هذا الحديث موضوع وكذب على الأعمش ، والواضع له إسحاق النخعي ، وقد ذكرنا أنه من الغلاة في الرفض الكذابين ، ثم قد وضعه على يحيى بن عبد الحميد الحماني وهو كذاب أيضاً )) . الموضوعات : 1/400 . قلت : ومما يدل على وضعه أيضاً أن ابن شبرمة توفى سنة 144هـ ، والأعمش وفاته سنة 147هـ ، أي أن ابن شبرمة دخل على الأعمش رغم أنه توفى قبل ذلك بثلاث سنوات !! .
(3) في ( د ) : ( وفي ) .
(4) في ( د ) : ( زيادات ) .
(5) وقد رويت هذه الرواية عن علي - رضي الله عنه - من طريق عمرو بن ذي مر فأخرجها الطبري في تفسيره : 30/290 ؛ والحاكم في المستدرك : 2/582 ، رقم 3971 وعزاها السيوطي إلى عبد بن حميد وابن أبي داود في المصاحف ، الدر المنثور : 6/392 . كلهم من طريق عمر بن ذي مر الهمداني الكوفي وهو مجهول كما ذكر ذلك ابن عدي والبخاري ( ميزان الاعتدال : 5/354 ) .(114/84)
[ الليل :12 ] [ صحفوه بحذف النون فغيروا : ( إن عليًا للهُدى ) (1) ] (2) .
وَهم قومٌ بهت يزعمُون أن عُثمان أسقط خمسمائة كلمة مِن القرآن(3) ، مِنها قَوله تعَالَى : ? وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ? [ آل عمران : 123 ] وزادوا فيه : ( بسَيف علي(4) ) .
قال علي(5) : وَهذَا وَأمثاله كفر ، قَالَ الله(6) تعَالَى : ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? [ الحجر : 9 ] فَمَن أنكر حَرَفاً مما في مصَحف عثمَان أو زَادَ فيه أو نقصَ فقد كفر ، انتهى .
وَقد صحَّفَ النَّصَارى قَوله سُبحانه [ وتعالى ] (7) في ( الإنجيل ) : وَلَّت(8) عيسى ( بتشديد اللام ) فخففُوها وَخرجوا(9) عَن الإسلام باعتِقاد هَذا الكلام.
__________
(1) روى الحسيني وغيره من الإمامية عن فيض بن مختار عن أبي عبد الله أنه قرأ : ( إن علياً للهدى وإن له الآخرة والأولى ) . تأويل الآيات : 2/808 ؛ المجلسي ، بحار الأنوار : 24/46 ؛ مصطفى الخميني ، تفسير القرآن الكريم : 2/377 .
(2) ما بين المعقوفتين سقطت من ( د ) .
(3) قال الآلوسي : (( وأيضاً من الثابت عندهم ، والمقرر لديهم ، والمشهور فيما بينهم أن بعض السور ساقط بتمامها، مثل سورة الولاية ، وبعضها قد سقط أكثرها مثل سورة الأحزاب ، فإنها كانت مثل سورة الأنعام ، فقد سقط من هذه السورة فضل أهل البيت وأحكام إمامتهم )) .سعادة الدارين ( مخطوط ) : 7/أ . ينظر ما قال الطبرسي ( وهو من مشاهير علمائهم ) بهذا الخصوص في كتابه الاحتجاج : 1/222 .
(4) علي ) زيادة من ( د ) . والرواية وردت عند الشيعة الإمامية . تأويل الآيات : 2/808 ؛ المجلسي ، بحار الأنوار : 24/46 .
(5) علي ) سقطت من ( د ) .
(6) لفظ الجلالة زيادة من ( د ) .
(7) زيادة من ( د ) .
(8) في ( د ) : ( ولدت ) .
(9) في ( م ) : ( وحزوا ) .(114/85)
ومِنهَا أنه كَانَ في الكوفة زمَن أبي حِنيفة رَافضِي لَهُ بغلتان ، سمى أحدهما(1) أبَا بكر وَالأخرى عُمر ، وَكانَ يضربهما في الخدمة وَيُعَذبهما ، فانتشر الخبر : أن أحدهمَا(2) رفصته(3) حَتى قتلته ، فَقَالَ الإمَام انظروا فإن البَغلة التي سَميّها بِعُمر(4) هي التي قتلته ، فَفحصُوا عَن القضِية فرأوا أن الأمر كما ذكر(5) .
أقول : وَمَا ذاكَ إلاَّ لَكون عُمر مِن مَظِاهر الجلاَل ، كَمَا أن الصّديق مِن مَظاهِر الجمال ، وَلذِا كَانَ أشدَّ عَلَى الكفار وَالرافضَة الفجَّار .
__________
(1) في ( د ) : ( إحداهما ) .
(2) في ( د ) : ( احديهما ) .
(3) في ( د ) : ( رفصت ) .
(4) في ( م ) : ( لعمر ) .
(5) القصة أوردها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد : 13/364 – 365 .(114/86)
وَلقد قَالَ عَليه السَّلام حِينَ شاوَر أصحَابه(1) الكرَام في أسَارى بَدر ، فأشارَ أبُو بكر بأخذ الفَداء مِنهم بلاَ هلاك [ وعمر بالهلاك ] (2) فيهم ، فَقَالَ(3) : إنَّ مثلك يَا أبا بَكر كمثل إبرَاهيم [ عليه السلام ] (4) حَيثُ قال : ? وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ? [ إبراهيم : 36 ] وَكعِيَسى [ عليه السلام ] (5) في قَولهِ : ? إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? [ المائدة : 118 ] وَمثلك يَا عُمر كَمثل نوح [ عليه السلام ] (6) في قوله تعالى(7) : ? رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ? [ نوح : 26 ] وَكمُوسَى في قولِهِ تعالى(8) : ? رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ? الآية [ يونس : 88 ] (9) .
__________
(1) في ( د ) : ( الصحابة ) .
(2) زيادة من ( د ) .
(3) فقال ) سقطت من ( د ) .
(4) زيادة من ( د ) .
(5) زيادة من ( د ) .
(6) زيادة من ( د ) .
(7) تعالى ) زيادة من ( د ) .
(8) تعالى ) زيادة من ( د ) .
(9) وقد أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود ، المسند : 1/383 ؛ الحاكم ، المستدرك : 3/24 ؛ الطبراني ، المعجم الكبير : 10/143 .(114/87)
وَبهَذَا ظهَرَ صِحة مَعنَى مَا اشتهر عنه عَلَيه الصَّلاة وَالسَّلام : (( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل )) (1) وإن كَانَ مَبناهُ مِما لاَ أصل لَهُ عندَ المحدّثين ، غفل عَن هَذا السيّد جمال الدّين(2) ، حَيثُ ذَكَرهُ بِعنَوان الحدَيث في صدُور ( رَوضَة الأحباب ) (3) [ 15/ب ] وَالله اعلَم بالصّوَاب .
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر لا أصل له وتبعه في ذلك السيوطي . ( كشف الخفاء : 2/82 ) وذكره القاري في المصنوع : ص 133 .
(2) هو عطاء الله بن فضل الله بن عبد الرحمن الدشتكي الشيرازي ، ذهب الخونساري إلى أنه من أهل السنة ، وادعى الشيعة أن كان يتقي أهل السنة ويخفي تشيعه ، وفاته في حدود سنة 953هـ . الذريعة : 11/285 ؛ معجم المؤلفين : 6/285 .
(3) روضة الأحباب في سيرة النبي والآل والأصحاب ) قال صاحب الذريعة : (( فارسي في ثلاث مجلدات )) . الذريعة : 11/285 . قلت : وعنوان الكتاب يدل على أنه من أهل السنة ، إذ قرن مصنفه بين النبي صلى الله عليه وسلم وآله من جهة ، وبين أصحابه رضي الله عنهم من جهة أخرى . ولا يغرنك ذكر صاحب الذريعة له لأنه عادة ما يذكر علماء أهل السنة وينسبهم للرفض .(114/88)
وَمنهَا مَا أخرِجَهُ ابن أبي الدنيَا(1) عَن أبي إسحَاق(2) قَالَ : (( دعيت إلى مَيت لأغسله(3) ، فلما كشفت الثوب عَن وَجهه ، فإذا أنا بحَية قد تطوقت عَلَى حَلقِهِ ، فذكُروا أنه كان يسب الصّحَابة - رضي الله عنهم - )) (4).
وَأخرَجَ أيضاً عَن أبي إسحَاق الفزاري(5) أنه أتَاهُ رَجلٌ فقال لهُ : (( كنتُ أنبش(6) القبور ، وكنتُ أجد قوماً وجوههم لِغَيرِ القِبلة ، فَكتبَ إلى الأوزاعي يَسألهُ ، فقال : أولئك قومٌ مَاتوا على غَيرِ السنّة )) (7) .
وقد سئل الأوزاعي : (( أنهُ يمَوت اليهُودي وَالنصَراني وَسَائر الكفار ولا ترى(8) مثل هذا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ أولئك لا شك أنهم في النار ، وَيَريكم في أهل التوحيد لِتعتَبرُوا ))(9) ، ذَكرَه السيُوطي في ( شرح الصدُور في أحوَال القبور ) (10) .
__________
(1) هو أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان الأموي مولاهم البغدادي ، ابن أبي الدنيا الحافظ صاحب التصانيف المشهورة ، وفاته سنة 281هـ . سير أعلام النبلاء : 13/397 ؛ طبقات الحفاظ : ص 299 .
(2) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاري الكوفي ، نزيل الشام ، قال ابن معين : ثقة ثقة ، حديثه مخرج في الكتب الستة ، وفاته سنة 186هـ . الثقات : 6/23 ؛ تهذيب التهذيب : 1/132 .
(3) في ( م ) و ( د ) : ( لأعلمه ) . والتصحيح من كتاب السيوطي .
(4) السيوطي ، شرح الصدور : ص 232 .
(5) في ( د ) : ( القراري ) .
(6) في ( م ) : ( أنيس ) . وما أثبتناه أصح وهو روية شرح الصدور أيضاً .
(7) شرح الصدور : ص 232 .
(8) في ( د ) : ( نرى ) .
(9) الذهبي ، الكبائر : ص 37 .
(10) والمطبوع يحمل اسم : ( شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور ) .(114/89)
ثُمَّ يتَعلق بهَذَا المبَحَث مَسَائل مهمة ودلائل متمة ، تركنَاهَا مَخِافة ملالة(1) أربَاب الجهالة وَضلالَة العَامة، وَإن كَانَ الله سُبحَانهُ أختار لنا الطريقة الملاَئمة(2) ، فطَائفَة الأزبكية وجهلَة مَا ورَاء النهرية ، ينسبُونَ أهل خرَاسَان إلى الروافض وَهُمْ بَريئونَ مِنهُم ، وَجماعَة القلزبَاشية(3) وَالعراقية الاوبَاشية ينسبُونهم إلى الخوَارِج ، وهم مُنزهونَ عَنهم .
من كمل من العلماء ابتلي بأربع :
وقد قيلَ مَن كَملَ مِن العُلمَاء ابتنى بأربَعةِ مِنْ الأشيَاء : (( شماتة الأعداء وملامة(4) الأصدِقاء وطَعن الجُهَلاء وَحسدَ العُلماء )) (5) ، لِكنني أقول كَمَا قَالَ وَكيع(6) مِن قول بَديعِ(7) الشعرِ :
إن يحسدُوني فإني غَير لائمهم
قبلي مِنْ الناسِ أهل الفَضل قَد حسدوا
فَدَامَ لي وَلهم مَا بي وَمَا بهم
وَمَات أكثرنا غيظاً لما وجدُوا(8)
وَقَالَ الله تعَالَى : ? قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ? [ آل عمران : 199 ] وَقالَ تعَالَى عَز وَجَل : ? مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ? [ الحج :15 ] .
__________
(1) في ( د ) : ( ملامة ) .
(2) في ( د ) : ( الإسلامية ) .
(3) في ( د ) : ( القزلباشية ) .
(4) في ( م ) : ( سلامة ) .
(5) مقولة أوردها أيضاً العراقي ، المستخرج على المستدرك : ص 21 .
(6) أبو سفيان وكبع بن الجراح بن مليح الرواسي الكوفي ، الحافظ الثبت محدث العراق وأحد الأعلام ، وفاته سنة 196هـ . تذكرة الحفاظ : 1/309 ؛ تهذيب التهذيب : 11/109 .
(7) في ( د ) : ( البديع ) .
(8) البيت ينسب لبشار بن برد ، ديوانه : ص 397 . ونسبه الخطيب لأبي حنيفة . تاريخ بغداد : 13/368 .(114/90)
وَلقد أحسَن محمد بن الحسَن في قَول أبي(1) الحَسَن شعر [ 16/أ ] :
لم(2) يحسدُوا(3) شر النَّاس مَنزلة مَنْ عَاشَ في النَّاس يَومَاً غَير مَحسود(4)
قال تعالى : ? أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ? [ النساء :54 ] .
وللهِ دَر قائله :
مَا يضر البَحرَ أمسَى زَاخِراً
إن رَمى فيهِ غَلامٌ بِحَجَر(5)
وَقد عَرف فانصف(6) أن مَن صنّفَ فَقد استهدف ، فأيُّ كلامٍ أفصح مِن كلام رَبِّ العالمين وَقد قالوا : ? أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ? [ الأنعام : 25 ] .
وَقد قَالَ زَين العَابِدين(7) - رضي الله عنه - وَعن آبَائه أجمَعِين :
يا رُبَّ جَوهَرِ عِلمٍ لَو أبوحُ بهِ
لَقِيلَ لي أنتَ مِمَّن يَعبدُ الوَثَنا
وَلاسَتَحَلَّ رجالٌ مُسلمونَ دَمي
يَرونَ أقبَحَ مَا يَأتونَهُ حَسَنا(8)
__________
(1) أبي ) سقطت من ( د ) .
(2) في ( د ) : ( هم ) .
(3) في ( د ) : ( يحسدوني ) .
(4) تاريخ بغداد : 13/364 .
(5) البيت ينسب للأخطل ، ديوانه : ص 472 .
(6) في ( م ) : ( الصف ) .
(7) هو علي بن الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب زين العابدين أبو الحسين الهاشمي المدني حضر كربلاء مريضاً فقال عمر بن سعد : لا تعرضوا لهذا ، وكان من أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة وأحبهم إلى عبد الملك ، وهو الإمام الرابع عند الإمامية ، وكان يسمى زين العابدين ، مات في ربيع الأول سنة 94هـ . طبقات ابن سعد : 5/211 ؛ تذكرة الحفاظ : 1/74 ؛ تهذيب التهذيب : 7/268 .
(8) البيت نسبه الخطيب لعمرو بن كلثوم كما في تاريخ بغداد : 12/489 ، ولم أجده في ديوان عمرو بن كلثوم التغلبي ، وقد نسبه ابن أبي الحديد للحلاج كما في شرح نهج البلاغة : 11/222 . وربما أخذ القاري نسب هذا البيت إلى علي بن الحسين من الشيعة الذين نسبوه إليه . ينظر : الأميني ، الغدير : 7/36 .(114/91)
ثُمَّ مَا يَجبُ عَلينا التنبيه مما ثبتَ لدينا ، وهو أنه قَد علم مِمَّا(1) قَدّمنا أنه لم يثبت الكفر إلا بالأدلة القطعية، وَإذا جوزَ عُلماؤنا الحنفية قتلَ الرافضِي بالشُروطِ الشرعية ، عَلى طريق السَياسَية العرفيّة(2) ، فَلاَ يجوز إحرَاقه(3) بالنار وَنحوه مِن أنواع القتل الشنيعة(4)، بَل يقتل بالسّيف وَنحَوه مِن آلات الموت(5) السّريعَة ، بقولِ(6) صَاحِب الشريعَة : (( إذَا قتلتم فاحسنوا القتلة )) (7) وَلِقَولهِ عَليه أفضل(8) الصّلاةِ وَالسّلامِ : (( لاَ تعذبُوا عَذابَ(9) اللهِ )) (10) .
ثُمَّ الرجم مختَصّ بالزاني المحصن لا سِواهُ ، فَقدَ وَرَدَ : (( من بدل دينه فاقتلوه )) (11) وَلم يقل فارجموه ، بل اللائق به أنه يستتاب ، وإن ظهرَ شبهة يؤتى لهُ بِالجوَاب لِيظهر لِهُ وَجه الصوَاب .
__________
(1) في ( د ) : ( من ) .
(2) في ( م ) : ( العرضية ) .
(3) في ( د ) : ( إحراق ) .
(4) في ( م ) : ( الشيعة ) .
(5) الموت ) زيادة من ( د ) .
(6) في ( د ) : ( لقول ) .
(7) الحديث أخرجه مسلم عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - ، الصحيح ، كتاب الصيد والذبائح ، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل : 3/1548 ، رقم 1955 ؛ الترمذي ، السنن ، كتاب الديات ، باب النهي عن المثلة : 4/23 ، رقم 1409 ، أبو داود ، السنن ، كتاب الضحايا ، باب في النهي أن تصبر البهائم : 3/100 ، رقم 2815 ؛ ابن ماجة ، السنن ، كتاب الذبائح ، باب إذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة : 5/278 ، رقم 3170 .
(8) أفضل ) سقطت من ( د ) .
(9) في ( د ) : ( بعذاب ) .
(10) هو جزء من حديث ابن عباس وقد تقدم تخريجه .
(11) تقدم تخريجه .(114/92)
فعن ( الخلاصة ) (1) : (( الجَاهِل إذَا تكلم بكلمة الكفر وَلم يدرِ أنها كفر ، قَالَ بَعضُهم : لاَ يكُون كفراً وَيعذر بالجهل ، وَقَالَ بَعضُهم : يَصير كافِراً ، ثُمَّ قَالَ : وَإذَا كانَ في المسألة وَجُوه يوجبُ التكَفِير ، وَوَجه وَاحد يمنع فعلى المفتي أن يمَيل إلى ذلك الوجه )) (2) ، انتهى .
مسألة من اعتقد الحرام حلالا إنما يكفر إذا كانت الحرمة ثابتة بدليل مقطوع :
فيَجبُ أن يتفحصّ عَنه هَل سبَّ جَاهلاً وَخاطِئاً(3) أو مكرها أو مستحلاً ؟ فِفي ( الخلاصَة ) : أن مَن اعتقدَ الحَرام حَلالاً ، إنما يكفُر إذا كانت الحرمة ثابِتَة بِدَليل مَقطوع به ، أمَا إذَا [ 16/ب ] كَانتَ بأخبَار الآحَاد لا يكفر(4) .
__________
(1) هي ( خلاصة الفتاوى ) في الفقه الحنفي : تصنيف افتخار الدين طاهر بن أحمد بن عبد الرشيد بن الحسين البخاري الحنفي ، وفاته سنة 542هـ . هدية العارفين : 1/430 .
(2) نقلها عنه ابن أبي اليمن الحنفي في لسان الحكام : ص 414 . وهذا الذي ذهب إليه المؤلف هو قول طائفة من الحنفية ، وذهب جمهور العلماء إلى القول الأول بأن الجاهل إذا نطق بالكفر كفر ، قال الخطيب الشربيني : (( كفر من نسب الأمة إلى الضلال أو الصحابة إلى الكفر ، أو أنكر إعجاز القرآن شيئا منه ، أو أنكر الدلالة على الله في خلق السماوات والأرض ، بأن قال ليس في خلقهما دلالة عليه تعالى ... أو قال : الأئمة أفضل من الأنبياء - هذا إن علم معنى ما قاله - لا إن جهل ذلك لقرب إسلامه أو بعده عن المسلمين فلا يكفر لعذره )) ( مغني المحتاج : 4/136 ) واستثنى ابن القيم من ذلك : (( الجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم لم يكفر )) . إعلام الموقعين : 3/95 .
(3) في ( د ) : ( أو خاطئاً ) .
(4) وردت بالنص نقلاً عن الخلاصة في البحر الرائق : 5/132 ؛ حاشية ابن عابدين : 1/297.(114/93)
ثُمَّ بَعدَ قتله يَجبُ عَلى المُسلِمينَ تكفِينه وَتدفينه وَالصّلاة عَلى جنَازَته(1) ؛ لأن الشارع جَعلَ هَذهِ الكلمة من فروض الكفَاية الوَاجب عَلى بَعض أهِل الإسلام القِيام بالرعَاية بقَولِهِ عَليه الصَّلاة والسَّلام :
(( صلوا على كلِّ برٍّ وَفاجر )) (2) .
هَذَا وَقد وَرَدَ : (( إذَا أرَادَ الله بقوم خيراً أكثر فقهاؤهم وأقل جُهالهم ، فإذا تكلم الفِقيه وَجد أعوَاناً [ فإذَا تكلم الفقيه قهر ] (3) )) رَواهُ الديلمي(4) عَن ابن(5) عُمر(6) .
__________
(1) هذا على قول معظم الحنفية ، ( ينظر : السرخسي ، المبسوط : 10/199 ) ، وهذا الرأي منقول عن جمهور الشافعية ( النووي : المجموع : 3/16 ) ، وذهب الحنابلة إلى خلافه قال ابن قدامة في حكم تارك الصلاة : (( هل يقتل لكفره , أو حداً ؟ فروي أنه يقتل لكفره كالمرتد , فلا يغسل , ولا يكفن , ولا يدفن بين المسلمين , ولا يرثه أحد , ولا يرث أحدا , اختارها أبو إسحاق بن شاقلا وابن حامد , وهو مذهب الحسن , والنخعي , والشعبي , وأيوب السختياني , والأوزاعي , وابن المبارك وحماد بن زيد , وإسحاق , ومحمد بن الحسن )) .
(2) الحديث أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، السنن : 2/57 ؛ البيهقي ، السنن الكبرى : 4/19 . والحديث ( ضعيف ) كما حكم عليه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير : 2/35 ؛ الألباني في ضيف الجامع : رقم 3478 .
(3) ما بين المعقوفتين سقطت من ( د ) .
(4) هو شيرويه بن شهردار بن شيرويه بن خناخسره الديلمي الحافظ المحدث ، وصاحب كتاب الفردوس ، كان حافظاً متقناً ، وفاته سنة 509هـ . سير أعلام النبلاء : 19/294 ؛ طبقات الحفاظ : ص 457 ..
(5) في ( د ) : ( بن ) .
(6) الفردوس : 1/246 ، رقم 952 . قال الشيخ الألباني ( ضعيف ) . ضعيف الجامع : رقم 340 .(114/94)
وَقالَ عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ? [ المائدة : 105 ] .
[ الترغيب بالعزلة عند فساد الزمان : ]
وَفي الخَبرِ الصَحِيح : (( إذَا رأيت شحاً مُطاعاً وَهَوى مُتبعاً وَدنيا مُؤثرة ، وَأعجابَ كلّ ذي رَأي بَرأيه، وَرَأيت الأمر لا بد لك منهُ ، فعَليكَ نفسك وَدَع أمرَ القَوم ، فإن ورَائكم أيام الصّبر ، فمَن صبر فيهم قبض عَلى الجَمر ، للعَالم فيهن مثل أجر خَمسِين رَجُلاً يعملُونَ عَمله )) (1) ، وَقالَ ابن المبَارك(2) : وَزادَ في روَايَة : (( قيلَ : يَا رَسُول الله أجر خَمسِين مِنهم ؟ قَالَ : أجر خَمسِينَ مِنكم )) (3) .
وَإلى هَذا أشَار وَلي الله الشاطِبي(4) في قَصِيدَته :
وَهَذَا(5) زَمَان الصبر مَن لك بالتي كقبض عَلى الجمر(6) فَتنجوا مِن البلاء
__________
(1) الحديث أخرجه الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني ، السنن ، كتاب التفسير ، باب ومن سورة المائدة : 5/257 ، رقم 3058 ؛ أبو داود ، السنن ، كتاب الملاحم ، باب الأمر والنهي : 4/123 ، رقم 4341 ؛ ابن ماجة ، السنن ، كتاب الفتن ، باب قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم : 2/1330 ، رقم 4014 . قال الشيخ الألباني عن الحديث ( ضعيف ) . ضعيف الجامع : رقم 2344 .
(2) عبد الله بن المبارك المروزي مولى بني حنظلة ، ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد جمعت فيه خصال الخير ، وفاته سنة 181هـ . التاريخ الكبير ، 5/212 ؛ تذكرة الحفاظ : 1/274 .
(3) هذه الزيادة وردت عند الترمذي .
(4) أبو محمد القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير ، ناظم الشاطبية وغيرها ، وشيخ القراء في زمانه ، انتقل من الأندلس إلى مصر وفيها وفاته سنة 587هـ . وفيات الأعيان : 4/71 ؛ سير أعلام النبلاء : 21/261 .
(5) في ( د ) : ( وهكذا ) .
(6) في ( د ) : ( جمر ) .(114/95)
وَزَمَانه كَانَ في قرنِ خمسمائة ، وَأمَّا اليَوم فَقد تجاوزَ الألف بضعَة عَشر ، فتَدبَر فيما زَادَ مِن الكدَر .
وَلقد أجمعَ السلَف الصّالح عَلى التحذير من أهِل زمَانهم وَمِن قرب مَكانِهم ، وَآثروا العزلةَ وَالخلوةَ وَاجتنبُوا الخلطَة وَالحلوة ، وَأمرُوا بِذلكَ وَتواصوا به هُنالك ، وَلا شك أنهم كانوا أنصَح وَبأمِر الدين أبصر، وَأن الزمَان ليسَ بَعدهم خَيراً ممَا كَانَ بَل شراً مِنهُ وَأمَرّ(1)، وَفي مَعنَاه مَا وَرَدَ في الخبَر المعُتَبر : (( لا يَأتي زمَان إلاَّ الذي بَعْدَهُ شرٌّ مِنهُ )) رَوُاهُ البخاري(2) .
وَفي ( الكبَير ) للطَبراني عَن أبي الدرداء مَرفوعاً : (( مَا مِن عَام إلاَّ ينقص الخَير فيه [ 17/أ ] ويزيد الشر )) (3) وَذلَكَ لأن كَلَّ مَن أبعدَ عَن نور المشعل المحِمدي ، وَقعَ في نوع مِن ظلمة الجِهَل الرديء .
ويؤيدهُ مَا أخرجهُ الطبراني عَن ابنِ عَباس : (( مَا مِن عَام إلا وَيحدث النَّاس بدعَة وَيميتون سُنة حَتى تمَات السَنن وَتحيى البَدع )) (4) .
وأخرج الترمذِي عَن أنَس : (( مَا مِن عَام إلا وَالذي بَعدَه شرٌّ مِنهُ حَتى تلقوا رَبكم )) (5) .
__________
(1) في ( د ) : ( وامروا ) .
(2) في ( د ) جاء لفظ الحديث : ( لا يأتي على أمتي زمان إلا الذي بعده شر منه ) . والرواية التي في الأصل هي رواية البخاري عن أنس في صحيحه ، كتاب الفتن ، باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه : 6/2591 ، رقم 6657 . ولا أجد الحديث بالزيادة التي في ( د ) .
(3) قال العجلوني : (( رواه الطبراني بسند جيد )) . ( كشف الخفاء : 2/249 ) ، ولم أجده في المطبوع ، وربما هو في المفقود من المعجم الكبير .
(4) المروزي ، السنة : ص 32 ؛ كشف الخفاء : 2/162 .
(5) السنن ، كتاب الفتن : رقم 2206 .(114/96)
وَرَوى أحمد وَالبخَاري وَالنسَائي عَن أنَس : (( لا يأتي(1) عَليكم عَام وَلاَ يَوم إلا وَالذِي [ بعده شرٌ منه حَتى تلقوا ربَّكم )) (2) .
وَعن الثوري(3) : وَالذِي ] (4) لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ ، لقَدَ حلت العزلة في هَذا الزمَان )) (5) قَالَ الغزالي(6) : (( وَلئنَ حلت في زمَانِهَ فَفي زماننا هذا وجبت )) (7) .
وَكتبَ رجلٌ عَلى دَاره - لِيضع(8) نظر اعتبار عَلى آثارِه - : (( جزا الله مَنْ لا يعرفنَا خيراً كافة ، وَلاَ جزى بذلك أصدقائنا خاصة ، فَمَا أوذينا قط إلاَّ مِنهم ، وَمَا صَدَر في صَدرنا مِن الهمِّ إلاَّ عَنهُم ، فالبُعد عَنهم هُوَ السّعد )) .
ولله در القائل [ حيث قال ] (9) :
جَزَى الله عَنا الخير مَن ليسَ بَيْنَنا وَبَينَهُ ودٌّ ولاَ(10) نتعَارفُ(11)
__________
(1) في ( د ) : ( ليأتي ) .
(2) الصحيح ، كتاب الفتن ، باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه : 6/2591 ، رقم 6657 ؛ مسند الإمام أحمد : 3/132، رقم 12369 . ولم أجده في سنن النسائي الصغرى أو الكبرى .
(3) أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، شيخ الإسلام وسيد الحفاظ وأحد الأئمة ، وفاته سنة 161هـ . تذكرة الحفاظ : 1/203 ؛ طبقات الحفاظ : ص 96 .
(4) ما بين المعقوفتين زيادة من ( د ) .
(5) حلية الأولياء : 6/388 .
(6) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي ، حجة الإسلام ، من مشاهير الفقهاء العارفين بعلم الكلام ، وكان يقظاً ذكياً واسع التصانيف ، وفاته سنة 505هـ . وفيات الأعيان : 4/216 ؛ سير أعلام النبلاء : 19/332 .
(7) إحياء علوم الدين : 5/121 .
(8) في ( د ) : ( ليقطع ) .
(9) زيادة من ( د ) .
(10) في ( م ) : ( لا ) .
(11) في ( د ) : ( تعارف ) .(114/97)
فما أصَابنا(1) همٌ وَلا نالنا الأذى(2) مِنْ النَّاس إلاَّ مَن نود ونعرفُ(3)
وَقَالَ الفضيل(4) : (( هَذَا زمَان احفظ فيه لسَانَك ، وأخفِ مَكانك ، وَعالج جفانَك ، وخذ مَا تعرف وَدَع مَا تنكر لتصلح شأنكَ )) (5) .
وَقالَ الثوري : (( هَذَا زمان السّكُوت ، وَلزُوم(6) البيُوت ، والرّضا بالقوت إلى أن تَمُوت )) (7) .
قلت : وَكَذَا صَحَ : (( مَن صَمت نجا )) (8) .
__________
(1) في ( م ) : ( صابنا ) .
(2) في ( د ) : ( ولا لنا الذي ) .
(3) البيتان وردا عند أبي حيان التوحيدي ( الصداقة والصديق : ص 43 ) قال : (( بعض السلف : إياك وكثره الإخوان ، فإنه لا يؤذيك إلا من تعرف وأنشد:
جزى الله عنا الخير من ليس بيننا ولا بينه ود ولا نتعارف
فما سامنا ضيماً ولا شفنا أذى من الناس إلا من نود ونألف )) .
(4) أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي المروزي ، شيخ الحرم والإمام القدوة ، أشتهر بزهده مع ثقته في الحديث ، وفاته سنة 181هـ . تذكرة الحفاظ : 1/245 ؛ سير أعلام النبلاء : 8/421 .
(5) حلية الأولياء : 8/94 ؛ سير أعلام النبلاء : 8/436 .
(6) في ( د ) : ( ولزم ) .
(7) ابن عبد البر ، التمهيد : 17/443 .
(8) الحديث أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، السنن ، كتاب صفة القيامة : 4/660 ، رقم 2501 ؛ الدارمي ، السنن ، كتاب الرقائق ، باب الصمت : 2/387 ، رقم 2713 ؛ الإمام أحمد ، المسند : 2/159 ، رقم 6481 . قال الشيخ الألباني عن الحديث ( صحيح ) . صحيح الجامع : رقم 6367 .(114/98)
لِكن ورَدَ في صَحيح الأخبَار : (( مَن علم بعلمه مَن كتم عِلماً حكمة ألجّمه الله بلجَام مِن نار )) (1) ، وَلعَلهُ مقتبس من قولِه تعَالَى : ? وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ?(2) [ آل عمران : 187 ] .
__________
(1) كذا ورد الحديث في كلا النسختين ، وعباراته غير مستقيمة . والحديث كما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من سئل عن علم علمه ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار )) . السنن ، كتاب العلم ، باب في كتمان العلم : 5/29 ، رقم 2649 ؛ وأخرجه أيضاً أبو داود ، السنن ، كتاب العلم ، باب كراهية منع العلم : 3/321 ، رقم 3658 ؛ ابن ماجة ، السنن ، كتاب المقدمة ، باب من سئل عن علم فكتمه : 1/98 ، رقم 266 .
(2) في ( د ) جاءت الآية ناقصة .(114/99)
فقد ظهَر قَوم غَلبَ عَليهم الجَهل وَطمهُم(1) وَأعماهم(2) حُب الرئَاسة وأصَمهُم ، وَتحرك عرق الحسَد فِيهم وَعِمهُم ، قد لكنوا(3) عَن عِلم الشِريعَة مِنَ الكتاب وَالسّنة وَنسوه ، وَاكبوا عَلى عِلم الفلاسِفة وَدرسُوهُ ، يريد [ 17/ب ] الإنسَان مِنهم أنْ يتقَدمَ ، وَيأبى الله إلا أن يزيدهُ تأخِير ، ويبتغي أحَدُهم العِزة وَلاَ عَلم عندَه ، فلا يجد لَهُ ولياً وَلاَ نَصِيراً ، وَمَع ذَلكَ فلاَ ترى هُنالكَ إلا أنوفاً مُسمَّرة ، وَقلوباً عَن الخلقِ مُستكبَرة ، وَأقوالاً تصدُر عَنهم مُفتراة مزورَة ، كَلمَا هَديتهم إلى الحَق كان أصَم وَأعمَى لهم ، كأن الله لم يُوكل بِهم حَافظين يَطلبونَ أقوالهم وَأعمالَهم ، فالعَالم بينهم مَحزُون يتلاعب به الجَهال وَالصبيَان ، وَالعَاقِل عِندَهم مَجنُون دَاخِل في ميدَان النقصَان ، وَاللهُ المُستعان وَإليه المشتكى وَعَليه التكلان .
[ لا تقبل شهادة مظهر سب السلف : ]
__________
(1) في ( د ) : ( ولحمهم ) .
(2) في ( د ) : ( وأعمالهم ) .
(3) كذا في ( م ) ، وفي ( د ) : ( اكبوا ) .وربما هي ( ركنوا ) .(114/100)
ثم أريد أن أزيد التوضيح وَالبيَان ، بإيَراد مَا بلغني مِن الروَاياتِ في هَذَا الشأن ، ففي متون المذهب مِن الكتب المُهذب : (( أنه لا يقبل شهادَة مُظهر سَبّ السلف الصّالح ، قال الحدادي(1) ( شَاِرح القدُوري(2) ) : لظهُور فسقِهِ ، وَالمراد بالسَّلَف الصّحابَة والتابعُونَ )) (3) انتهى .
__________
(1) أبو الفضل محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن مهران الحدادي المروزي الحنفي ، كان فقيهاً فاضلاً ولي قضاء بخارى وغيرها ، وفاته سنة 388هـ . سير أعلام النبلاء : 16/470 ؛ الجواهر المضيئة : ص 50 .
(2) أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر البغدادي القدوري ، شيخ الحنفية في وقته ، قال الخطيب وكان صدوقاً حسن العبارة ، له مختصر مشهور في فقه الحنفية حمل اسمه ، وفاته سنة 427هـ . سير أعلام النبلاء : 17/575 ؛ الجواهر المضيئة : ص 93 .
(3) الهداية : 3/123 ؛ البحر الرائق : 7/92. وقال الحنابلة أيضاً برد شهادة من سب الصحابة كما في المغني : 10/168 ؛ وهو رأي المالكية أيضاً كما في الفواكه الدواني : 2/226 ؛ واختلف الشافعية في ذلك فمنهم من قبلها ومنهم من لم يقبلها كما في الروضة : 11/240 .(114/101)
وَهذا تصريح بِعَدَم تكفِيره(1) ، كَمَا لاَ يخفَى أفادته في فَصل مَن لاَ تقبل شهادَته لِفسقِهِ ، وَتكلمُوا فِي الفِسق الذِي يمنَع الشهادَة ، وَاتفقوا عَلى أن الإعلان بكبيرة تَمنَع الشهادة ، ثُمَّ قَالَ : وَمَن كَانَ يشتم أولاده وَأهله وَجيرانه ، ذكر في بَعضِ الروَايُاتِ أنه لا يقبَل(2) شهادَته ، وَقيل : مَن اعتادَ بَطلت عَدَالته ، وَإن فعِلَ ذلَكَ أحياناً لم تَبطل ، قال : أبو الليث(3) : إن لم يكن قذفاً لاَ تبطل عَدَالَته(4) .
ثُمَّ قالَ قاضِي خان(5) : لاَ تقبَل شهادَة مَن أظهر شتم أصحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَن أبي يُوسُف(6) : إن كانَ تبرأ مِنهم لاَ تبطل عَدَالَته ، وإن شتمهُم بطلت
__________
(1) هذا على رأي الحنفية كما في حاشية ابن عابدين : 7/162 ؛ واختلف العلماء في تكفير من سب الصحابة على تفصيل كما عند ابن مفلح ، المبدع : 10/223 ؛ ابن تيمية ، مجموع الفتاوى : 35/198 ؛ الخطيب الشربيني ، مغني المحتاج : 4/436 ؛ الدسوقي ، حاشية الدسوقي : 2/369 . وخير من فصل في هذه المسألة الآلوسي الكبير في نهج السلامة ( بتحقيقنا ) : ص 92 وما بعدها .
(2) في ( د ) : ( تقبل ) .
(3) أحمد بن عمر بن محمد بن إسماعيل السمرقندي الحنفي ، كان مقدماً له شرح على الجامع الصغير ، وفاته سنة 552هـ . الجواهر المضيئة : ص 86 .
(4) البحر الرائق : 7/87 ؛ حاشية ابن عابدين : 7/114 .
(5) في المصادر التي اطلعت عليها ( قاضيخان ) فخر الدين حسن بن منصور الفرغاني الحنفي ، وفاته سنة 592هـ . كشف الظنون : 2/1227 ؛ هدية العارفين : 1/280 .
(6) يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن حبيش بن سعد الأنصاري الكوفي ، قاضي القضاة ، قال عنه الذهبي : الإمام المجتهد ، العلامة المحدث ، وفاته سنة 182هـ . تاريخ بغداد : 14/242 ؛ سير أعلام النبلاء : 8/535 .(114/102)
عَدالَته(1) ، فَهَذِهِ الروَاية عَن أبي يُوسُف صَريحة في بطلان عَدالَته ، دُونَ كفره وَضَلالته(2) .
__________
(1) وردت هذه الرواية عن أبي يوسف في الدر المختار : 5/488 .
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( وقد صرح الشافعي في كتبه بقبول شهادة أهل البدع والصلاة خلفهم ، وكذلك قال مالك وأحمد والشافعي في القدري إن جحد علم الله كفر ... وسئل أحمد عن القدري فقال : إن جحد العلم كفر )) . ينظر مجموع الفتاوى : 23/349 . وينظر أيضاً للفائدة : روضة الطالبين : 1/355 ؛ المغني : 10/168.(114/103)
ثم قالَ قاضِي خَان : وَشهادَة أهل الأهَواء جائزة إلا الخَطابية(1) ، وَيروى ذلكَ عَن أبي حَنِيفة وأبي يوسف(2)، فَهذِهِ الروَاية عَن الإمَامَين صَريحة [ 18/أ ] في قبول شهادَة الرافضِي ، وَهوَ لاَ يُنَاقضُ مَا سَبق مِن أن مَن أظهرَ سَبَّ الصحِابَة لاَ تقبل شهادَته ؛ لأنه مُقِيد بِالإظهار والإعلان ، وَهُوَ قيدٌ مُعَتبر في هَذا الشأن(3) ، فإنهم قالوا لا تقبل شهادَة مُدمن الخمر وَلاَ بد مِن السَّكر(4) .
__________
(1) الخطابية من فرق الشيعة وهم أصحاب أبي الخطاب الأسدي ، زعموا أن الأئمة أنبياء وأن أبا الخطاب كان نبياً ، وأن الأنبياء فرضوا على الناس طاعته. الفصل في الملل والأهواء والنحل : 2/33 ؛ الملل والنحل : 1/179 ، منهاج السنة النبوية : 2/502 .
(2) البحر الرائق : 7/93 ؛ حاشية ابن عابدين : 7/107 .وهذا القول مشهور عن الشافعي ( روضة الطالبين : 1/355 ) . ونقل ابن قدامة عن أحمد أنه قال : (( ما تعجبي شهادة الجهمية والرافضة والقدرية المعلنة )) . المغني : 10/168 .
(3) ونجد هنا كلاماً نفيساً لابن قدامة يقول فيه : (( الفسوق نوعان : أحدهما من حيث الأفعال ، فلا نعلم خلافا في رد شهادته ، والثاني من جهة الاعتقاد ، وهو اعتقاد البدعة فيوجب رد الشهادة أيضا ، وبه قال مالك وشريك وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وقال شريك : أربعة لا تجوز شهادتهم رافضي يزعم أن له إماما مفترضة طاعته ، وخارجي يزعم أن الدنيا دار حرب ، وقدري يزعم أن المشيئة إليه )) . المغني : 10/168 .
(4) هذا هو المشهور من رأي الحنفية كما في البحر الرائق : 7/87 ؛ المسبوط : 16/131 .(114/104)
قَالَ قاضِي خَان : وَإنما شرط الإدمان(1) ليظهر ذلَكَ عَندَ النَّاسِ ، فإن مَن اتهم بِشربِ الخمر تبطل العدالة(2) ، وَقالَ محمد : (( مَا لم يظهر ذلكَ يكُون مستور الحال )) (3) .
وَفي ( خزانة المفتينَ ) (4) : وَلا يقبل شهادَة مَن يظهر سَبّ السَلف(5) [ بخلاف من يكتمه .
__________
(1) في ( م ) : ( الأديان ) .
(2) في ( د ) : (عدالته ) .
(3) حاشية ابن عابدين : 7/150 . قال الشافعية : (( ومن شربها عامدا عالما بحالها حد وردت شهادته سواء شرب قدرا يسكره أم لا )) . ( روضة الطالبين : 11/231 ) وهو رأي الحنابلة أيضاً كما في كشف القناع: 6/420. قال ابن عبد البر المالكي : (( ومن جلس مجلساً واحداً مع أهل الخمر في مجلسهم سقطت شهادته وإن لم يشربها )) . الكافي : ص 464 .
(4) كتاب في فروع الحنفية ، تصنيف : حسين بن محمد السمنقاني الحنفي وفاته سنة 746هـ ، فرغ من تأليفه سنة 740هـ . كشف الظنون : 1/703 .
(5) في ( د ) : ( السب للسلف ) .(114/105)
وفي ( الإصلاح والإيضاح ) (1) : تقبل شهادة أهل الأهواء(2) ، وقال الشافعي : لا تقبل لأنه أغلظ وجوه الفسق – ولنا أنه فسق من حيث الاعتقاد – ثم قال : إلا الخطابية وهم قوم من غلاة الروافض ، يعتقدون الشهادة لكل من حلف عندهم ، ويقولون المسلم لا يحلف كاذباً سواء كان صادقاً أو كاذباً ، وقيل يجوزون الشهادة لشيعتهم واجبة ، ثم قال : أو يتول أو يأكل فيه أو يظهر سب السلف ] (3) - يَعني الصّالحينَ مِنهُم – وَهم : الصَحِابة وَالتابعُون وَالعلماء المجتهدون كَأبي حنِيفَة وَأصَحابه ، انتهى(4) .
وَلاَ يَخفَى أنه جَعلَ سَبَّ الصَحِابة وَالتابعين وَأبي حَنِيفَة وَأصَحابه رضي الله عنهم أجَمعِينَ في حكمٍ وَاحِد ، مِن عَدَم قبُول شهادَتهم ، وَلو كَانَ سَبَّ الصَحِابة كفراً(5) لمَا أدخل غَيرهم مَعَهُم .
__________
(1) هو كتاب في فروع الحنفية ، تصنيف : شمس الدين أحمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا ، وفاته سنة 940هـ ، وكان قد شرح متن الوقاية فسماه ( إصلاح الوقاية ) ، ثم شرح شرحه فسماه ( الإيضاح ) . كشف الظنون : 1/109 .
(2) يعني بهم أصحاب البدع التي لا تكفر صاحبها – على حسب رأي بعض الحنفية – كالجبر والقدر والرفض . ينظر الدر المختار : 6/15 .
(3) ما بين المعقوفتين سقطت من ( م ) .
(4) البحر الرائق : 7/92 ؛ شرح فتح القدير : 7/415 .
(5) في ( د ) : ( كفر ) .(114/106)
وَفي ( حَاشيَة )(1) شيخ الإسلام الهَروي(2) عَلى ( شرح الوقِايَة ) (3) : أن الرافضة : الجماعَة الطاغية في الصَحِابة مِن الرفض بِمَعْنَى الترك ، وَسمّوا بذلَكَ لِتركهم زيد بن عَلي(4) ، حِينَ نَهَاهم عَن الطِعن في الصَحِابة(5) ، وَالخَوارج عَلى اختِلاف فرقها يَجَمعها القول بتكفِير عثمَان وَعَلي وَطلحة وَالزبَير وَعَائشة وَمُعَاوية ، انتهى .
__________
(1) ذكرها لها صاحب هدية العارفين : 1/138 . وهذه الحاشية هي كانت على شرح الوقاية لصدر الشريعة . كشف الظنون : 2/2022 .
(2) وهو المعروف بالحفيد التفتازاني ، وقد تقدم التعريف به .
(3) أصل الكتاب هو : ( وقاية الرواية في مسائل الهداية ) تصنيف المحبوبي الموصلي ( ستأتي ترجمته ) متن مشهور من كتب الفقه للحنفية ، طبع أول مرة في المطبعة القازانية سنة 1318هـ . معجم المطبوعات : 2/1200.
(4) هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، إمام الزيدية ، كانت إقامته بالكوفة ، وفيها خرج على بني أمية ، فقتل سنة 122هـ . طبقات ابن سعد : 5/325 ؛ وفيات الأعيان : 5/122 ؛ سير أعلام النبلاء : 4/401 .
(5) تاريخ الطبري : 4/204 ؛ المنتظم : 7/211 ؛ الكامل في التاريخ : 4/452 .(114/107)
وَلاَ يَخفى أنهم مَع هَذا عدوا مِن الطوائف الإسلامِِيَّة ، كَمَا هَو في الكتب الكلامية ، وَإذَا كَانَ تكِفير هَؤلاء الأكابر مِنْ الصَحِابة لاَ يكُون كفراً ، كيف يكون سَبّ الشيخين كفراً أيضاً ؟ وَلو كَان سَبُّ الصَحِابة كفراً لم يذكر في فَصل مَن لا يقبل شهادته ؛ لأنه مَوضُوع في حَقِّ طَوائف المُسِلمين(1) .
وَقالَ في ( الذخيرة ) (2) : وَشهادَة أهل الأهواء مَقبُولة عندَنا إذا كَانَ هَوى لاَ يكفر به صَاحِبه ، وَلاَ يَكون بإخبَار يكُون عَدلاً في تعَاطِيه ، وَهوَ الصّحيح ، قال : لأنهم إنما وَقعُوا في الهوى بالتأوِيل وَالتعَمق في الدين ، ألا ترى أن مِنهم مَن يعظم الذنب حَتى يجعَلهُ كفراً ، وَفسقهم مِن حَيث ُالاعتِقاد لاَ يَدَل عَلى كَذبِهم [ 18/ب ] عَمَداً (3) ، انتهى .
وَلعله أراد : (( بهوى(4) يكفر صَاحِبه )) نَحو المجُسمة وَالمشبهة وَالحلُولية وَالاتحادية وَالوجودية ، وَقول بَعض غلاة الرفضة مَن أن عَلياً هو الإله الأكبر ، وَجعفر الصادق هوَ الإله الأصغَر .
ثُمَّ قال : وَمَا ذكرَ في الأصل - من أن شهادتهم جَائزَة عَندَ أبي حَنِيفة - مَحمُول عَلى هَذا .
__________
(1) قال أبو الثناء الآلوسي : (( إن تكفير الاثني عشرية فيما ذهبوا إليه من التفصيل هو مذاق الفقهاء المكتفين في المطالب بالظواهر ، وعدم تكفيرهم فيه مذاق المتكلمين الملتزمين بالقواطع في ذلك ، وأنا أقول ما ذهبوا إليه مما هو مفصل في محله ، إن لم يكن كفراً فهو من الكفر أقرب )) . نهج السلامة : ص 99 .
(2) هو كتاب ( الذخيرة البرهانية ) في الفقه الحنفي ، تصنيف برهان الدين محمد بن أحمد بن الصدر الشهيد البخاري الحنفي ( ت 570هـ ) . معجم المؤلفين : 12/146 .
(3) ورد النقل عن الذخيرة بالنص عند علاء الدين ، تكملة حاشية رد المحتار : 1/580 .
(4) في ( د ) : ( هوى ) .(114/108)
وَنقلَ في ( النهاية ) (1) هَذِه الرواية بلاَ ذكر خِلاف .
وَفي ( شرح المجمع ) (2) لابن فرشته(3) : وَترد شهادَة مَن يظهر سَبَّ السّلفَ ؛ لأنه يَكُون ظاهر الفِسق، وَتقبل مِن أهِل الأهَواء : الجبر وَالقدر(4) وَالرفض وَالخَوارج وَالتشبيه وَالتعِطيل ، ثُمَّ يَصِير كلّ وَاحِد
مِنهِم اثني عَشر فرقة ، فَيبلغ إلى اثنين وَسَبعِين فرقة(5) .
__________
(1) هي ( النهاية في شرح الهداية ) تصنيف بدر الدين العيني الآتية ترجمته . كشف الظنون : 2/2035 .
(2) أصل الكتاب هو ( مجمع البحرين وملتقى النهرين ) في فروع الحنفية ، تصنيف : مظفر الدين أحمد بن علي بن ثعلب المعروف بابن الساعاتي البغدادي ( ت 664هـ ) . ( كشف الظنون : 2/1955 ) . ولم يسمه حاجي خليفة الشرح ولكن أشار إليه فقال : شرح المجمع لابن فرشته وهو شرح معتبر متداول . كشف الظنون : 2/1601. وكذلك لم يسمه صاحب هدية العارفين : 1/617 .
(3) محمد بن عبد اللطيف بن عبد العزيز ابن ملك الرومي الحنفي ، المعروف بابن فرشته ، له مؤلفات في الفقه الحنفي ، وفاته سنة 801هـ . الضوء اللامع : 4/329 ؛ هدية العارفين 2/198 .
(4) في ( د ) : ( الجبرية والقدرية ) .
(5) البحر الرائق : 8/37 . وقال ابن قدامة في حق من أجاز شهادة أهل الأهواء : (( ووجه قول من أجاز شهادتهم أنه اختلاف لم يخرجهم عن الإسلام أشبه الاختلاف في الفروع ؛ ولأن فسقهم لا يدل على كذبهم لكونهم ذهبوا إلى ذلك تدينا واعتقادا أنه الحق ، ولم يرتكبوه عالمين بتحريمه بخلاف فسق الأفعال )) . ثم قال : (( ولنا أنه أحد نوعي الفسق فترد به الشهادة كالنوع الآخر ولأن المبتدع محمود فترد شهادته للآية والمعنى )) . المغني : 10/168 .(114/109)
وَفي ( شرح المجمع ) (1) للعيني(2) : لاَ تقبل شهادَة مَن يظهر سَبّ السلَف بالإجماعِ ، لأنه إذا أظهَر ذلَكَ فَقدَ ظهَر فسقه(3) ، بِخلافِ مَن يكتمه لأنه فاسِق مسَتور الحال(4) .
وَفي ( شرح الكِنز ) (5) للزيلعي(6) قَوله : أو يَبُول أو يَأكل عَلى الطريق ، وَيظهر سَبَّ السلَف ، يَعني الصالحِين مِنهِم وَهُم الصَحابة وَالتابعُون ؛ لأن هَذِهِ الأشيَاء تدُل عَلى قصُور عقله(7) وَقلة مُرؤته ؛ وَمن لم يمتنع عَن مثلهما لا يمتَنع عَن الكذب عَادة ، بِخلاِف مَا [ إذا ] (8) كَانَ يخفي السبّ ، ثم قَالَ : [ ولا يقبل من يكثر شتم أبله ولا في شتم الفاسق ثم قال : ] (9) وَأهل الأهوَاء إلا الخطابية .
__________
(1) هو ( المستجمع في شرح المجمع ) ، وقد أضاف إلى شرحه أقول الأئمة الثلاثة ولوح إلى الأصح من أقواله. كشف الظنون : 2/1600 .
(2) بدر الدين محمود بن محمد العيني القاضي المصري ، من فقهاء الحنفية ، محدثاً أديباً مؤرخاً ، له شرح على صحيح البخاري ، وفاته سنة 855هـ . الضوء اللامع : 10/131 ؛ شذرات الذهب : 7/286 .
(3) في ( د ) : ( بفسقه ) .
(4) علاء الدين ، تكملة حاشية ابن عابدين : 1/851 .
(5) أصل الكتاب هو ( كنز الدقائق ) في فروع الحنفية لأبي البركات عبد الله بن أحمد المعروف بحافظ الدين النسفي، وفاته سنة 710هـ ( كشف الظنون : 2/1515 ) ، للزيلعي شرح عليه سماه ( تبيين الحقائق لما في الكنز من الدقائق ) . كشف الظنون : 2/1515 .
(6) فخر الدين أبو محمد عثمان بن علي الزيلعي ( وهو غير عبد الله الزيلعي صاحب نصب الراية ) ، فقيه حنفي أصله من الصومال سكن القاهرة وفيها وفاته سنة 743هـ . الدرر الكامنة : 2/446 ؛ الجواهر المضيئة : ص 115 .
(7) في ( م ) : ( مقلد ) .
(8) غير موجودة في النسختين .
(9) زيادة من ( د ) .(114/110)
وَقال الشافِعي : لاَ تقبل شهادَة أهل الأهوَاء ؛ لأنهم فَسقَة(1) ، إذ(2) الفسق [ من حيث الاعتقاد
أغلظ في الفسق ] (3) مِن حَيثُ التعَاطي وَلاَ شهادَة للفاسِق ، ولنا أن الفاسِق إنما تردّ شهادَته لتِهمة الكذب وَالفِسق مِن حَيثُ الاعتِقاد ، وَلاَ يَدُل عَلى ذلَك بَل مَا أوقعَهُ فيه إلا تدينه ، ألا ترى أن فيهم من يكفر بالذنب(4) ، وَمنهم مَن يَجعَل منَزلَته بين(5) الإيمَان وَالكفر(6)، فَيكون هوَ أقوى اجتنِاباً عَن الكذِب حَذراً عَن الخروج مِن الدين ؛ وَلأنه مُسلم عَدل لا يتعَاطى الكذب فوجَبَ قبُول شهادَته ، قياساً عَلى غَير صَاحِب الهَوى وَهَواه عَن تأوِيل وَتدَين ، فَلاَ تبطل عدالته به، كَمَن يبيح [ 19/أ ] المثلث(7) أو مَتروك التسِميَة(8) .
واستدَل محمد ( رَحمهُ الله ) عَلى قبول شهادته ، فقَالَ : أرَأيت أن أصَحاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعدوا مُعَاوية عَلى مخالفَة عَلي ، وَلو شهُدوا بَيْنَ يَدي عَلي أكانَ يردّ شهادَتهم ؟ وَمخالفَة عَلي بَعدَ عثمَان بدعَة وهَوى ، فكيفَ الخُروج عَليه بالسّيف ؟ وَلكن لما كَانَ عَن(9) تأويلٍ وَتدينٍ ، لم يمنَعْ قبول شهادَتِهِ أن يكونَ هوى لا يكفر بِهِ صَاحِبه .
__________
(1) النووي ، روضة الطالبين : 11/239 .
(2) في ( م ) : ( أو ) .
(3) زيادة من ( د ) .
(4) هذا القول مشهور عن الخوارج .
(5) هذا القول مشهور عن المعتزلة .
(6) في ( م ) : ( بدين ) .
(7) المثلث : هو الشراب المطبوخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي معتقاً وصار مسكراً . بدائع الصنائع : 5/122 .
(8) متروك التسمية : مصطلح يطلق على الذبيحة التي تعمد من ذبحها ترك التسمية عليها . الرازي ، تحفة الملوك : ص 216 .
(9) في ( د ) : ( عند ) .(114/111)
وأَّما مَا ذَكره القهُستاني(1) مِن أنه لا يقال : إن أهل الأهواء فاسقون بهَذِهِ الاعِتقادَاتِ ، فكَيفَ تقبل شهادَتهم مُطلقاً ؟ لأنا نقول لاَ نسَلم أنهم فاسَقونَ ، فإن الفِسق لاَ يُطلق عَلى فِعل القلب - كَمَا في الكرمَاني - فخَطأ فَاحِش مِن قائلِهِ وَناقِله ، بَلاَ تقدم مِن أن الفِسق مِن حَيثُ الاعتِقاد اغلظَ إلى الفِسق من حَيثُ التعَاطِي ، وَلأن بَغض الصَحِابة فسقٌ بالإجماعِ وَمحله القلب ؛ وَلأن مَن في قلبه من الأخلاقِ الذمِيمة كالكِبر وَالحَسَد وَحبّ الدنيَا مِن الفسقة ، كَمَا في ( الإحَياء ) وَغَيره مِن كتب الأخلاَقِ(2) .
ويدل عليه قوله تعالى : ? وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ? [ البقرة : 283 ] وَقوله : ? وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ? [ البقرة : 282 ] ولأن الفِسق لغَةً وَشرعاً هُوَ الخرُوج عَن الطاعَة ، وَعُرفاً مُختَص بالكبَائر دونَ(3) الكُفر وَالصِغائر ، وَالله اعَلم بالسَرائر .
__________
(1) شمس الدين محمد بن حسام الدين الخراساني القهستاني الحنفي ، كان مفتياً ببخارى ، له مؤلفات في الفقه ، وفاته في حدود سنة 953هـ . شذرات الذهب : 8/300 ؛ هدية العارفين : 2/244 .
(2) في ( د ) : ( الإطلاق ) .
(3) في ( د ) : ( يريدون ) .(114/112)
وَمِنْ هنا قالَ بَعض الأكابر : مَنْ لم يتغَلغل في علوم الصوفية ماتَ(1) مُصِراً عَلى الكبَائر وَلا يعلم ، وَالله الهَادي إلى سَواء السّبيل(2) .
في ( شرح البرجندي ) (3) : وَتقبل الشهادَة(4) مِن أهل الأهَواء ، وَهوَ مِن زاغَ عَن طَرِيقة أهل السّنة وَالجماعة ، وَكانَ مِن أهل القبلة ، كذا في ( المغرب ) (5) .
__________
(1) في ( م ) : ( بات ) .
(2) هذا الكلام مردود على المؤلف ( رحمه الله ) ، فكان الأولى به أن يستشهد بما ورد في السنة في هذا الباب من أحاديث وما ورد عن السلف من آثار وأخبار ، مثل قول معاذ بن جبل قال : أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات قال : (( لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت ، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك ، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً ، فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمداً ، فقد برئت منه ذمة الله ولا تشربن خمراً ، فإنه رأس كل فاحشة وإياك والمعصية ، فإن بالمعصية حل سخط الله عز وجل ، وإياك والفرار من الزحف ، وإن هلك الناس وإذا أصاب الناس موتان وأنت فيهم فاثبت وأنفق على عيالك من طولك ، ولا ترفع عنهم عصاك أدبا وأخفهم في الله )) . مسند الإمام أحمد : 5/238 .
(3) هو عبد العلي بن محمد بن حسين البرجندي ( مدينة بتركستان ) ، من فقهاء الحنفية ، له شرح على الوقاية سماه ( شرح النقاية مختصر الوقاية ) ، وفاته في حدود سنة 935هـ . هدية العارفين : 1/586 ؛ معجم المؤلفين : 5/266 .
(4) في ( د ) : ( شهادة ) .
(5) هو كتاب في لغة الفقه ، تصنيف : أبو الفتح ناصر بن عبد السيد المطرزي الحنفي ، وفاته سنة 610هـ . كشف الظنون : 2/1747 .(114/113)
قال : وَكبَار فرقهم سبعٌ عَلى مَا في ( المَواقِف ) (1) ، وَالمعتزلَة وَهم عَشُرونَ صِنفاً ، وَالشيعة وَهم اثنان وَعشرون صنفاً ، وَالخوارج وَهم عشرون صِنفاً ، وَالمرجئة وَهم خمسَة أصنَاف ، وَالنجارية(2) ثلاثة أصنَاف ، وَالجَبرية وَالمشبهة وَهم صِنفان ، فَفرق أهل [ 19/ب ] الأهَواء اثنان وَسبعُونَ(3) ، وَشهادَة الكل تقبَل ؛ لأن وقوعه في الاعتِقَاد البَاطِل إنَما هُوَ الديَانَة والكذب حَرام عِندَ الجِمَيع .
قَالَ : وَمِن مشائخنا مَن فرّق بَيْنَ الهوى الذي هو كفر [ وَبَيْنَ الهَوى الذي ليس بكفر ، فمِن الذي هُو كفر ] (4) اعِتقاد بعض الروَافض كان الأئمة آلهة ، وَأحكامهم أحكام المرتدين(5) .
ثُمَّ قَالَ وَقد سَألِني(6) مِن أهل الأهَواء مَن يظهر سَبّ السلف ، وَإنما لم يذكره هنا لأنهُ سَيذكر فيما بَعد ، أو لأن رَد شهادَتهم احتمل أن يكُونَ لأِجل السَبِّ ، ولو سَبَّ وَاحِداً مِن النَّاس لاَ يجُوز شهادَته ، فهَنا أولى(7) إليه ، أشار في ( الذخيرة ) (8) .
__________
(1) يعني فرق الخوارج كما في المواقف : ص 692 .
(2) أصحاب محمد بن الحسين النجار ، وافقوا المعتزلة في نفي الصفات الوجودية وحدوث الكلام ونفي الرؤية ، ولذلك عدها البعض من فرق المعتزلة . الفرق بين الفرق : ص 19 ؛ المواقف : ص 710 .
(3) هذا على تقسيم الأيجي ، وهناك من قسم أصول الفرق غير هذا التقسيم . ينظر كتابنا ابن حزم الأندلسي ومنهجه في دراسة العقائد والفرق الإسلامية : ص 185 .
(4) زيادة من ( د ) .
(5) علاء الدين ، تكملة حاشية رد المحتار : 1/580 .
(6) في ( د ) : ( سبني ) .
(7) في ( د ) : ( أولا ) .
(8) الهداية : 3/123 ؛ البحر الرائق : 7/92 . وينظر أيضاً المغني : 10/168 ؛ مغني المحتاج : 4/436 .(114/114)
ثُمَّ قَالَ : وَمَن أنكر إمَامَة أبي بكر [ الصديق ] (1) ؟ فَقالَ بَعضهم : إنه مُبتدع وَليسَ بِكافرٍ ، وَالصحيح أنه كافرٌ ، وَكذَا مَن أنكرَ خِلافة عُمر عَلى أصَح الأقوال ، كذا في ( الظهيرية ) (2) .
ثُمَّ قَالَ : وَلاَ تقبَل شهادَة مَن يظهر سَبّ السَلف لِظهُور فسقِه ، بخلاف مَن يَكتمه ، قال : وَذكر في ( الخلاَصَة ) : إذا كَانَ يسبّ الشيخين وَيلعَنهما فَهوَ كافرٌ ، انتَهى(3) .
وَأنتَ تَرى أن هَذا مخالفٌ لمَا سَبقَ عَن(4) الجمهُور(5) ، كَمَا لاَ يَخفَى على ذوِي النّهى ، وَفيه تعليل مَنقول لتخصّص(6) الشيخين وَجه مَعقول(7) ، ثُمَّ اعلَم أنه لاَ بد لِلمفتي المقلد أن يعلم حَال مَن يفتي بِقولهِ، وَمَعرفة مَرتبته في الروَاية وَدرجَته في الدرَاية ؛ ليكُونَ عَلى بَصِيرةٍ(8) وَافيَة(9) في التمّييز بَيْنَ القائلِين المتخالفِينَ، وَقدرة كَافيَة في الترجيح بيَنَ القولَين المتعَارضَين .
في قول كمال باشا زادة إن الفقهاء سبع طباق :
__________
(1) زيادة من ( د ) .
(2) البحر الرائق : 1/370 ؛ حاشية ابن عابدين : 1/561 .
(3) لسان الحكام : ص 414 ؛ حاشية ابن عابدين : 4/237 .
(4) في ( د ) : ( على ) .
(5) يعني هنا جمهور الحنفية ، ولكنه بواقع الحال موافق لما عليه جمهور العلماء من رد شهادة من يظهر سب السلف كما تقدم نقله عن ابن قدامه وغيره . قال السبكي : (( في تكفير من سب الشيخين وجهان لأصحابنا ، فإن لم نكفره فهو محمود لا تقبل شهادته ، ومن سب بقة الصحابة فهو محمود مردود الشهادة ، ولا يغلط فيقال شهادته مقبولة )) . مغني المحتاج : 4/436 .
(6) في ( د ) : ( لتخصيص ) .
(7) في ( د ) : ( منقول ) .
(8) في ( د ) : ( البصيرة ) .
(9) في ( م ) : ( واقية ) .(114/115)
فقد قال كمال بَاشا زَادة(1) : إن الفقهاء سَبع طبَاق(2) :
طبقة المجتهدين في الشرع :
الأولى : طبَقة المجتهدين في الشرع ، كالأئمة الأربَعة وَمَن سَلكَ مَسلكهم في تأسِيسِ قواعِدِ الأصُول ، وَاستنبَاط أحكام الفُروع عَن الأدلة الأربَعة الكتِابِ وَالسّنة وَالإجماع وَالقَيِاس ، عَلى حَسب تلكَ القَواعِد مِن غَير تقِليد لأحَد لاَ في الفرُوع وَلا في الأصُول .
المجتهدين في المذاهب :
وَالثانية : طَبقة المجتَهدينَ في المذهَب(3) ، كأبي يُوسُف وَمحمد وَسَائر أصَحِاب أبي حَنِيفة ، القادِرين عَلى استخراج الأحكام مِن الأدِلة المَذكورَة عَلى القَواعِد [ 20/أ ] التي قررَهَا أستَاذهم أبَو حَنِيفة ، وَإن خَالفُوه في بَعضِ الفروع ، لِكن يقلدُونه في قَواعِد الأصُول ، وَبه يَمتَازونَ عَن المعَارضِينَ في المذهَب كَالشافِعي وَنظرائه المخالفينَ ، كأبي حَنِيفة في الأحكام غَير مُقلدينَ لَهُ في الأصُول .
المجتهدين في المسائل :
__________
(1) أحمد بن سليمان بن كمال باشا الحنفي القاضي ، له مؤلفات في فنون مختلفة ، وفاته سنة 940هـ . الشقائق النعمانية : ص 226 ؛ شذرات الذهب : 8/238 .
(2) النص ورد في ترجمة أبي حنيفة للمؤلف ، وهي رسالة ملحقة بكتاب الجواهر المضيئة : ص 558 .
(3) في ( د ) : ( المذاهب ) .(114/116)
والثالثة : طبقة المجتَهدينَ في المَسَائل التي لاَ روَايِة فيها عَن صَاحِب المذهب ، كالخَصاف(1) وَأبي جَعفر الطحاوِي(2) وَأبي الحَسَن الكرخي(3) وَشمس الأئمة الحلوَاني(4) وَشمس الأئمة السرخسِي(5) وَفخر الإسلام البزدوي(6) وَفخر الدين قاضِي خَان وَأمثالهم ، فَإنهم لاَ يقدرون عَلى المخالفة لِشيخٍ(7) في الأصُول وَلاَ في الفُروع ، لِكنهم يستنبطُون الأحكام في المَسَائل التي لا نَص عَنهُ(8) فيهَا عَلى حَسَب أصول قَررَها وَمُقتضى قَواعِد بَسطها وَحرَرها .
أصحاب التخريج من المقلدين :
__________
(1) أبو بكر أحمد بن عمرو بن مهير الشيباني الحنفي ، الفقيه المحدث العلامة ، وفاته سنة 261هـ . سير أعلام النبلاء : 13/123 ؛ الجواهر المضيئة : ص 87 .
(2) أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلمة الطحاوي الحنفي المصري ، الحافظ الكبير ومحدث الديار المصرية وفقيهها ، وفاته سنة 321هـ . سير أعلام النبلاء : 15/27 ؛ الجواهر المضيئة : ص 102 .
(3) أبو الحسن عبيد الله بن الحسن الكرخي ، من مشاهير فقهاء الحنفية ، وإليه انتهت رئاسة العلم ، وفاته سنة 340هـ . طبقات الفقهاء : ص 148 ؛ الجواهر المضيئة : ص 337 .
(4) أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن نصر بن صالح الحلواني الحنفي ، الملقب بشمس الأئمة ، له أكثر من كتاب في فقه الحنفية ، وفاته سنة 448هـ . سير أعلام النبلاء : 18/177 ؛ الأنساب : 4/194 .
(5) أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي الحنفي ، شمس الأئمة القاضي ، أشتهر بكتابه المبسوط في فقه الحنفية ، وفاته سنة 483هـ . الجواهر المضيئة : ص 28 ؛ كشف الظنون : 1/164 .
(6) أبو الحسن علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي الحنفي ، فخر الإسلام ، شيخ الحنفية ، عالم ما وراء النهر ، وفاته سنة 482هـ . سير أعلام النبلاء : 18/602 ؛ الجواهر المضيئة : ص 118 .
(7) في ( د ) : ( للشيخ ) .
(8) في ( د ) : ( عليه ) .(114/117)
الرابعة : طبَقة أصحاب التخريج مِن المقلدِين ، كالفَخرِ الرازِي(1) وَأضرَابه ، فإنهم عَلى تفضِيل قَول مجمل(2) ذِي وَجهَين ، وَحكم مُبهم محتمل لأمرين ، مَنقول عَن صَاحِب المذهَبِ أو عَن أحَدٍ مِن أصحَاب المجتهدِينَ، بِرَأيهم وَنَظرهم في الأصُول وَالمقايسَة عَلى أمثالِه وَنظرائه مِن الفرُوع ، وَمَا وَقعَ في بَعضِ الموَاضِع مِن ( الهدَاية ) في قولِهِ كَذا في تخريج الكرخي وَتخريج الرازي مِن هَذا القَبيل .
أصحاب الترجيح من المقلدين :
الخامسة : طبَقة أصحَاب الترجيح مِن المقلدِين ، كأبي الحَسَن القدَوري وَصاحِب ( الهدَاية ) (3) وَأمثَالها ، وَشأنهم تَفضيل بَعض الروَايَاتِ عَلى بَعضِ أخر بقَولهم : هَذا أولَى وَهذا أصَح روَاية ، وَهذا أرفق لِلنَّاسِ .
طبقة أصحاب التمييز بين الأقوى والقوي والضعيف :
__________
(1) أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسين التيمي البكري ، المعروف بالفخر الرازي ، عالم بالتفسير والفقه والأصول ، وهو مشهور بميله للاعتزال ، وفاته سنة 606هـ . سير أعلام النبلاء : 21/500 ؛ لسان الميزان : 4/504 .
(2) في ( د ) : ( محمد ) .
(3) هو محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر البخاري ، برهان الدين المرغيناني ، من أكابر فقهاء الحنفية ، له مؤلفات عديدة أشهرها الهداية ، وفاته سنة 616هـ . سير أعلام النبلاء : 21/242 ؛ هدية العارفين : 2/404 .(114/118)
السادسة : طبَقة المقلدِين القادِرين عَلى التمييز بَيْنَ الأقوى وَالقَوي وَالضعِيف وَظاِهر المذهَب وَظِاهر الروَاية ، [ والروَاية ] (1) النادرَة كأصَحاب المتُون المُعَبرة عَن المتأخِرينَ(2) ، مثل صَاحب ( الكنز ) (3) وَصَاحِب ( المختار ) (4) وَصَاحِب ( الوقاية ) (5) وَصَاحِب ( المجمع ) (6) ، وَشأنهم أن لا ينقلوا في كتبهم إلا الأقوال المردُودَة وَالروَايَات الضعِيفة .
المقلدون الذين لا يقدرون على ما ذكر :
السابعة : طبَقة المقلدِين [ 20/ب ] الذينَ لاَ يقدرونَ عَلى مَا ذكر ، وَلا يفرقُون بَيْنَ الغَثِّ وَالسِمينَ وَلا يمَيزونَ الشمال عَن اليَمِين ، بَل يخفونَ مَا يجدُونَ كَحاطبِ الليل لهُمْ ، فالوَيل لهم وَلمَن قلدَهم [ كل الويل ] (7) ، انتهى .
__________
(1) زيادة من ( د ) .
(2) في ( د ) : ( من التأخير ) .
(3) هو الزيلعي ( وقد تقدمت ترجمته ) .
(4) المختار ) في فروع الحنفية لأبي الفضل مجد الدين عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي ، ولي قضاء الكوفة ، واستقر في بغداد وفيها وفاته سنة 683هـ . الفوائد البهية : ص 106 ؛ كشف الظنون : 2/1622 .
(5) هو برهان الدين محمود بن عبيد الله المحبوبي الحنفي ، ويعرف بصدر الشريعة وفاته سنة 747هـ . الفوائد البهية : ص 109 ؛ كشف الظنون : 2/2020 .
(6) هو ابن الساعاتي تقدمت ترجمته صاحب كتاب ( مجمع البحرين وملتقى النهرين ) .
(7) زيادة من ( د ) .(114/119)
وَفي أصُول البزدَوِي(1) : أجمعَ العُلماء وَالفقهَاء أن المفتي يَجبُ أن يَكونَ مِن أهِل الاجتهادِ ، [ فإن لم يكن مِن أهِل الاجتهادِ ] (2) لا يَحل لَهُ أن يفتي إلاَّ بِطريق الحكايَة ، فَيحكي مَا يحفظ مِن أقوالِ الفقهاء ، وَلاَ يَحل لَهُ أن يفتي(3) فيما لا يحفظ فِيه قَولاً مِن أقوال المتقدمِينَ(4).
وفي ( الظهيرية ) : روي عَن أبي حَنِيفة أنه قال : (( لاَ يحل لأحَد أن يفتي بقولنَا مَا لم يعلم مِن أينَ قلنَا )) (5) ، انتهَى .
العالم [ هو ] العالم بأقوال الفقهاء :
فإذا كَانَ لاَ يَجُوز [ تَقلِيد الإمَام مِن غَير دليلٍ في الأحَكامِ ، فَكَيف يَجُوز ] (6) تَقلِيد المقلدينَ الذينَ مَا وَصَلُوا إلى مَقام المجتَهدين ؟ نَعَم يَجُوز لِلعَامي أن يقلد العَالم - وَلو مُقلد الضرورَة - أمر الدين ، وَالمرادُ بِالعَالم هُوَ العَالم بِأقوالِ الفقهاء ، لا النَحوي والصّرفي(7) وَالمنطِقي وَغيرهم مِمن يَزعمُ أنه مِن الفُضَلاء ، ثُمَّ العَامي إذا استثنى في الحَادِثة ، وَوقعَ في الاختِلاَف فيما بَيْنَ الفقهاء ، يَأخذ بِقول مَن هوَ أفقه وَأورَع مِن العُلمَاءِ(8) عَلى مَا في ( المحيط ) (9) .
__________
(1) أصول البزدوي ) : طبع في الاستانة سنة 1307هـ بهامش كشف الأسرار . معجم المطبوعات العربية : 1/538 .
(2) سقطت من ( د ) .
(3) في كلا النسختين جاءت العبارة : ( ولا يحل له لأحد أن يفتي فيما ... ) . وهي لا تستقيم بهذا المعنى .
(4) لسان الحكام : ص 218.
(5) المصدر نفسه : ص 218 .
(6) سقطت من ( د ) .
(7) في ( د ) : ( والصوفي ) .
(8) ينظر تفاصيل هذه المسألة عند الغزالي ، المستصفى : 1/351 ؛ إعلام الموقعين : 1/46 .
(9) المحيط البرهاني في الفقه ) لمحمود البخاري ( صاحب الذخيرة ) . معجم المؤلفين : 12/146 . وقد حقق الكتاب على يد مجموعة من طلبة الدراسات العليا في كلية العلوم الإسلامية ببغداد .(114/120)
وَفي ( شرح المجمع المختار ) (1) : أن الفاسِق لاَ يَصلح أن يَكُونَ مُفتياً - يَعني وَلو كَانَ عَالماً - لأنه رُبما يكذب في مَقالهِ ، وَرُبما يُرَاعي صَاحِبه في حَالهِ ، وَرُبما ينقل روَاية في مَقامِ انتِقالِهِ ، وَمِن المعلُومِ أن الفاسِق لا تصِح لَهُ الروَاية ، فكذا مقامهُ في باب الدّرَاية ، وَاللهُ وَلي الهدَاية في البدَاية وَالنهايَة ؛ وَلأن مَبنَى الفَتوى عَلى الأمَانة والاحترَاز عَن(2) الخيَانة ، فإن بهمَا(3) يتم أمر الدّيانة ، وَقيلَ يصلح للنَّاسِ أن يكُون مُفتِياً لا يَحتَاط فِيه للِسمعة وَالرّياء كيَلا ينسب إلى الخطأ(4) .
[ ثُمَّ الاجتهاد لغة هُو بَذل المجهود لِنيلِ المقصُود ] (5) ، وَأمَّا أهليته : فأهل الاجتهاد مَن يكون عَالماً بِالكِتابِ وَالسّنة وَالآثار وَوجُوه الفِقه ، كذَا في ( المحيط ) (6) [ 21/أ ] .
وَفي ( الظِهيرية ) : أن شرط صَيرورَة المَرء مُجتَهداً ، إن لم يعلم مِن الكتاب والسّنة مقَدار مَا يتعَلق بِهِ الأحكام دُونَ مَا يتعلق بِهِ المَواعِظ وَالقصَص(7) .
وَفي ( الهداية ) : وَحاصله أن يَكُونَ صَاحب حدِيث لَهُ مَعرفة بالفِقهِ ليعرف مَعاني الآثار ، أو صَاحِب فِقه لَهُ مَعرفة بِالحَدِيث كيلاَ يشتَغل بالقِيَاس في النصُوص عَليَه(8) ، انتهى .
__________
(1) هو لابن فرشته ، وقد تقدم التعريف به .
(2) في ( م ) : ( والإصرار على ) .
(3) في ( د ) : ( بها ) .
(4) حاشية ابن عابدين : 5/359 ؛ وينظر للفائدة : الجويني ، البرهان : 1/441 .
(5) سقطت من ( د ) .
(6) ينظر : السبكي ، الإبهاج : 3/246 ؛ المناوي ، التعاريف : ص 35 .
(7) ينظر شروط الاجتهاد عند ابن بدران ، المدخل : ص 367 ؛ السمعاني ، قواطع الأدلة : 2/302 .
(8) الهداية : 3/101 .(114/121)
وَمعنَى قَوله : (( صَاحب حدِيث لَهُ مَعرفة بالفِقهِ )) أي مَنسوب إلى الحَدِيث لِزيادَة عِلمه وَدرسه فيه ، وَلكن لَهُ فقه أيضاً وَليسَ هُو بِقدر علمه في الحَدِيث ، أو (( صَاحِب فقه له مَعرفة بِهِ )) أي مَنسُوب إلى
الفِقهِ، وَلكن لَهُ عِلم بالحَدِيثِ أيَضاً وَليسَ هُو بِقدر عِلمه بالفِقه(1) ، كذاَ ذَكرَه ابن الضياء(2) .
ومجُمله أنه لاَ يكُون فقيهاً مُجرداً يحفظ الروَاية ، وَلاَ مُحدثاً خَالياً عَن الفِقه وَالدرَاية ، بَل يَكُون جَامِعاً بينَهما في بابِ الهدَايَة ، قيل : وَأن يكُون صَاحِب قريحة يعرف بها عَادَات النَّاس ؛ لأن من الأحكام مَا يبتني عَليهَا في مقام القِيَاسِ(3) .
__________
(1) السرخسي ، المبسوط : 16/109 ؛ شرح فتح القدير : 7/259 .
(2) أبو البقاء محمد بن أحمد بن الضياء محمد القرشي المكي الحنفي القاضي ، له شرح على مجمع البحرين ، ولادته ووفاته بمكة سنة 854 . الضوء اللامع : 7/84 ؛ البدر الطالع : 2/120 .
(3) الهداية : 3/101 ؛ البحر الرائق : 6/288 .(114/122)
وَفي ( شرحِ(1) الأتقاني(2) ) : وَإذا بَلغ الرجُل أن يكُون عَالماً بالمنصُوص(3) مِن الكتابِ وَالسنة ، مِما يتعَلق بِهِ الأحكَام الشرعية يَصِير مجتهداً ، وَيَجبُ عَليه العَمل بِاجتهادِهِ ، وَيحرم(4) عَلَيه تقليد غَيره(5) ، كَذا في ( المِيزان ) (6) .
وفي ( أصول(7) البزدوي ) : الصحيح أن أهل الاجتهاد في مَسائل الفِقه ، [ مَن يكون عالماً بدلائل الفقه ] (8) وهي الكِتابِ وَالسنَة وَالإجِماع وَالقِياس(9) .
وَفي ( فصول(10) ) الاسروشني(11) قَالَ بَعضهُم : إذا كَانَ صَوابه أكثر من خطئه [ حلَّ ] (12) لَهُ الاجتهاد(13).
__________
(1) هو شرح على الهداية اسمه : ( غاية البيان ونادرة الاقران في آخر الزمان ) . كشف الظنون : 2/2023 ؛ معجم المؤلفين : 3/4 .
(2) هو أمير كاتب بن أمير عمر بن أمير غازي الفارابي الحنفي ، قوام الدين كانت له معرفة بالفقه والحديث واللغة، وفاته سنة 758هـ . الدرر الكامنة : 1/414 ؛ شذرات الذهب : 6/185.
(3) في ( د ) : ( النصوص ) .
(4) في ( د ) : ( فيحرم ) .
(5) ينظر للفائدة : السبكي ، الإبهاج : 3/270 ؛ الغزالي ، المنخول : ص 455 .
(6) في فروع الحنفية ، ذكره صاحب كشف الظنون ولم يشر إلى مؤلفه : 2/1918 .
(7) أصول ) سقطت من ( د ) .
(8) زيادة من ( د ) .
(9) ينظر : الرازي ، المحصول : 4/282 .
(10) في ( د ) : ( أصول ) . فصول الاسروشني في فروع الحنفية في المعاملات فقط . كشف الظنون :2/1266.
(11) هو أبو الفتح مجد الدين محمد بن محمود بن حسين الحنفي ، نسبته إلى ( أسروشنة ) شرقي سمرقند وفاته سنة 632هـ . كشف الظنون : 2/1266 .
(12) زيادة من ( د ) .
(13) ينظر لسمعاني ، قواطع الأدلة : 2/311 .(114/123)
وَفي ( النهايَة ) : وَأمَّا حُكم الاجِتهاد فالإصَابة بِغَالِبِ الرأي ، حَتى قلنَا إن المجتهَد يخطئ ويُصِيب ? اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ? [ الشورى : 13 ] (1) .
وَقدَ ورَدَ : (( أن المجتَهد إذَا أصَابَ فلَهُ أجرَانِ ، وَإن أخطأ فلَهُ أجر وَاحِد )) (2) .
ينبغي للقاضي أن يعرف الناسخ والمنسوخ :
وَفي ( المحيط ) : ينبَغي للِقَاضِي أن يقضي بمَا في كِتَابِ اللهِ تعَالَى ، وَينبَغي [ 21/ب ] أن يَعرف مَا في كتاب اللهِ مِن الناسِخ وَالمنسُوخ ، وَأن يَعرف المتشابه ، وَمَا فيه اختِلاَف العُلماء لُيَرجح قول البَعضِ عَلى البَعضِ بِاجتهادِهِ ، فإن لم يَجد في كِتابِ اللهِ ، يقضِي بما جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وَينَبغي أن يعَرف النَاسخ وَالمنَسوخ مِن الأخبار ، فإن اختلف الأخبَار يَأخذ بَما هو الاشبَه ، وَيميل اجتهَاده إلَيه ، وَيَجبُ أن يعلم [ المُتَواتِر وَالمشهُور ، وَمَا كَانَ مِن أخبَار الآحَاد ، وَيَجبُ أن يَعلم ] (3) مَراتب الروَاة، فإن مِنهمْ مَن عرفَ بالفِقهِ وَالعدالة كَالخلفاء الراشدينَ وَالعَبادِلة وَغيرهم ، وَمنهم مَن يَعرف بَذلكَ ، وَمنهُم مَن لم يَعرف بِطُول الصَّحبة .
__________
(1) وقد جاءت الآية الكريمة في ( د ) محرفة .
(2) لم أجد حديثاً بهذا اللفظ ، ولكن الحديث الذي أخرجه البخاري عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر )) . الصحيح ، كتاب الاعتصام ، باب أجر الحاكم : 6/2676 ، رقم 6919 .
(3) سقطت من ( د ) .(114/124)
وَإن كَانتَ حَادِثة لم يرد فيهَا شيء عَن رَسُول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يَقضِي فيها بما اجتمعَ علَيه الصحَابة ، فإن كَانتَ الصحَابة فيها مختلفِينَ ، يَجتَهد(1) في ذلك وَيُرجح قَوِل بَعض عَلى البَعْضٍ إذا كان مِن أهل الاجتهاد ، وَليسَ لَهُ أن يخالفهُم جَميعاً باختراع قَولٍ ثالث ؛ لأنهم مَع اختِلافهم اتفقوا عَلى أن مَا عَدا القولينَ بَاطِل ، وَكانَ الخَصّاف يَقول ذلَك ، وَالصحيح مَا ذكرنَا ، وَلاَ يفضل(2) قول الجماعَة عَلى قَولِ الوَاحِد .
قَالَ الفِقيه أبُو جَعفَر : وَهذا عَلى أصلِ أبي حَنِيفة ، أمَّا عَلى أصل محمد فيفضل(3) قَول الجماعَةِ عَلى قول الوَاحِد ، ثم إجماع الصحَابةِ [ ينعقد بطريقين : أحدهما اتفاق كل الصحابة ] (4) عَلى حكم بأقوالهم ، وَهذا متفقٌ عَليه ، وَالثاني تنصِيص البَعِض وَسُكُوت البَاقين بأن اشتهر قول بَعض فقهائهمْ ، وَبلغَ البَاقِينَ ذَلكَ فسَكتُوا وَلم ينكرُوا ذلكَ وَهذَا مَذهبنا ، وَلكن هَذَا الإجمَاع في مَرتبة دُونَ الأول ؛ لأن الأول مجمعٌ عَليه وَالثاني مُختلفٌ فيه ، يَعني فالأول إجَماعٌ قَطعِي وَالثاني ظني ، وَإن(5) وجدَ مِن كلِّ الصحَابةِ اتفاقٌ عَلى حَكم الأوَحد ، فإن خالَفهم فَعَلى قَولِ الكرخي لاَ يثبت حكم الإجماع ، وَهو قَول الشافعي(6) .
__________
(1) في ( م ) : ( تجتهد ) .
(2) في ( د ) : ( يفصل ) .
(3) في ( د ) : ( فيفصل ) .
(4) زيادة من ( د ) .
(5) في ( د ) : ( فإن ) .
(6) ينظر أقوال العلماء في هذه المسألة عند الغزالي ، المستصفى : 1/152 ؛ السمعاني : قواطع الأدلة : 2/4 .(114/125)
وَالصحِيحُ عَندَنا أنهم إن(1) سوغوا لَهُ الاجتهاد ، لاَ(2) ينعَقد الإجمَاعُ مَع مَخالفته ، نحو خَلافِ ابن عَباس في زوجَينَ [ 22/أ ] وَأبوَين ، قال : (( للأم ثلث جميع(3) المال )) (4) ، وَإن لم يسوغُوا لَهُ الاجتهاد ، بَل أنكَرُوا عَليه الإجمَاع بَدونَ قوله ، نَحو خِلاَف ابن عَباس في ربَا النقد، فإن الصحَابَة لمَّا أنكروا عَليه ثبت الإجماع بَدونِ قَوله ، حَتى لَوْ قَضَى قَاضٍ بَجواز بيَع الدرَاهم بالدرهمَين ينفذ قضاؤه ، فإن جَاءَ حَديث وَاحد مِن الصحَابة ، وَلم ينقل عَن(5) غَيرهِ خِلاَف ذلكَ(6) .
فعن أبي حَنِيفة روَايَات ، فِفي روَاية قَالَ : [ أقلد مِنهم مِن كَانوا مِن القضَاة وَالمفتيّن(7) .
__________
(1) أنهم إن ) سقطت من ( د ) .
(2) في ( م ) : ( ولا ) .
(3) في ( د ) : ( جمع ) .
(4) قال السرخسي : (( ويختلفون أيضا في زوج وأبوين ، فعلى قول عمر وعلي وابن مسعود وزيد رضي الله عنهم للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي والباقي للأب وهو قول جمهور الفقهاء ، وعلى قول ابن عباس : للأم ثلث جميع المال والباقي للأب )) . المبسوط : 29/146 . وينظر للفائدة : المحلى : 9/260 .
(5) عن ) سقطت من ( د ) .
(6) ينظر تفاصيل هذه المسألة عند الآمدي ، الإحكام : 1/295.
(7) أبو شامة المقدسي ، مختصر المؤمل : ص 63 .(114/126)
وَفي روَاية قالَ ] (1) : (( أقلدَ جمَيع الصحَابة إلا ثلاثة مِنهم : أنسَ بن مَالك وَأبَا هريرَة وَسمرة بن جندب، أمَّا أنسَ فإنه بلغِني أنه اختلط عَقله في آخِر عمْرهِ(2) ، وَكانَ يستفتي عَلقَمة(3) ، وَأنا لاَ أقلد عَلقمة، فَكيف أقلد مَن يستفتي عَلقمة ؟(4) وَأمَّا أبَا هريرة فإنه(5) لم يكنْ مِن أهل الفَتِوى ، بَل كَانَ مِن الرواة فيمَا يروى ، لاَ يتأمل في المعنَى ، وَكانَ لاَ يعرف الناسِخ والمنسُوخ(6) ، وَلأجلِ ذَلكَ حَجَرَ عَليه عُمر عَلى الفَتوى في آخِرِ عُمرِهِ(7)
__________
(1) سقطت من ( د ) .
(2) لم أجد هذه الرواية بسند أو بدون سند في كتب الجرح والتعديل ، بل ثبت عكس هذا من دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - له كما روى الإمام أحمد وغيره أن أم سليم التمست له الدعاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال أنس : (( فما ترك يومئذ خيراً من خير الدنيا ولا الآخرة إلا دعا لي به ، ثم قال : اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه ، قال أنس : فأخبرتني ابنتي إني قد دفنت من صلبي بضعا وتسعين ، وما أصبح في الأنصار رجل أكثر مني مالا )) .المسند : 3/248 ؛ الطبراني ، المعجم الكبير : 1/248 ؛ أبو نعيم حلية الأولياء : 8/267 . وينظر أيضاً الإصابة : 1/127 .
(3) هو علقمة بن عبد الله بن مالك بن علقمة النخعي الكوفي ، قال عنه الذهبي : فقيه الكوفة وعالمها الحافظ المجتهد الإمام أبو شبل ، وفاته سنة 62هـ . تاريخ بغداد : 12/296 ؛ سير أعلام النبلاء : 4/53 .
(4) لم يكن علقمة من تلاميذ أنس ، ولم يثبت لقائه له ، إذ كان الأول يسكن الكوفة ، والثاني يسكن البصرة ، ولم يذكر ضمن شيوخه ، فكيف يستفتيه ؟! . ينظر تهذيب الكمال : 20/301 .
(5) فإنه ) سقطت من ( د ) .
(6) في ( د ) : ( من المنسوخ ) .
(7) هذه الرواية هي كسابقتها ، فلم أجدها بسند أو بدون سند إلا ما أورده أبو شامة المقدسي ، فقد ورد عن ابن عمر ما يناقضها ، إذ أخرج الترمذي عنه أنه قال لأبي هريرة : (( يا أبا هريرة : كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه )) .السنن : 5/684 ، رقم 3836 ؛ الإمام أحمد ، المسند : 2/2 ، رقم 4453 . وينظر الإصابة : 7/439 .(114/127)
، وَأمَّا سَمرة بن جندب فقَدَ بلغني عَنه أنهُ أمر شانٍ ، وَالذَي بَلغَهُ عَنهُ أنه كَانَ يتَوسع في الأشربَةِ المُسكرة سِوَى الخمَر ، وَكَانَ يتدَلك في الحمَّامِ بالغُمْرِ(1) )) فَلَمْ يقلدهم في فتواهُم لهذا(2)، وَأمَّا فَيما روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه(3) كَانَ يأخُذ بِروَايتهم .
وَفي روَايةٍ قال : أقلد جَميع الصحَابة وَلاَ أستجيز خلاَفهم ، وَهوَ الظاهِر(4) في المَذهَبِ(5) .
__________
(1) في حاشية ( د ) : ( الغمر : بالضم : الزعفران على ما في القاموس ) . قلت : وهو كما قال . لسان العرب : 5/32 . وهذه الرواية عن سمرة بن جندب لا أثر لها في كتب الحديث أو الفقه أو الرجال .
(2) هذه الرواية نقلها أبو شامة المقدسي ( ت 665هـ ) عن محمد بن الحسن بلا سند . ( مختصر المؤمل : ص 63 ) ، وقد تتبعت أصول هذه الرواية فلم أجد لها ذكراً أو سنداً في كتب الفقه أو الحديث أو الرجال ، وعلامات الوضع لائحة عليها .
(3) في ( د ) : ( أنه ) .
(4) في ( م ) : ( ظاهر ) .
(5) وهذه الرواية هي الراجحة بنظرنا عن أبي حنيفة ، إذ لم يستثنِ أحداً من الصحابة في ذلك .(114/128)
وَإذا اجتمَعت الصَحابة عَلَى حُكم وَخالَفَهم وَاحِد مِن التابعِينَ - إن كَانَ المخالف مِمن لم يدرك عهد الصحَابة - لاَ يعتبر خِلافه حَتى لو قَضَى القَاضِي بِقولِهِ - بخِلافِ إجماع الصحَابة - كَانَ بَاطِلاً ، وَإن كَانَ مِمن أدرك عَهد الصحَابة ، وَزاحمَهُم في الفَتوى وسَوغُوا لَهُ الاجتهاد : كشريح(1) وَالنخعي(2)
وَالشعبي(3) لاَ ينعَقد الإجماع مَع مخَالفتِه(4) .
[ وَلهذا قَالَ أبو حَنِيفة : لاَ ينعَقد الإجماع مَع مخَالفتِه ، وَلهَذا ] (5) قَالَ أبُو حَنيفة : لاَ يَثبت إجماع الصحَابة في الأشَعار(6) ؛ لأن إبراهيم النخعي كَانَ يَكرهُهُ [ 22/ب ] وَهوَ مِمن أدرك عَصر الصحَابة ، فَلاَ يثبت الإجمَاع بدُون قوله .
__________
(1) في ( م ) : ( وكشريح ) . هو أبو أمية شريح بن الحارث بن قيس بن جهم بن سنان الكوفي ، القاضي الفقيه ، لم تصح له صحبة ، وفاته سنة 78هـ . سير أعلام النبلاء : 4/100 ؛ تهذيب التهذيب : 4/287 .
(2) أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي الكوفي ، الفقيه الحافظ ، حديثه في الكتب الستة ، وفاته سنة 96هـ . الثقات : 4/8 ؛ تهذيب التهذيب : 1/155 .
(3) عامر بن شراحيل الشعبي أبو عمرو الكوفي ، ثقة مشهور فقيه فاضل ، قال مكحول : ما رأيت أفقه منه ، وفاته سنة 104هـ . طبقات ابن سعد ، 6/246 ؛ تهذيب التهذيب .
(4) مختصر المؤمل : ص 63 . وينظر للفائدة : الجويني ، البرهان : 1/460 ؛ الآمدي ، الإحكام : 1/291 .
(5) سقطت من ( د ) . وقد تكررت عبارة ( لا ينعقد الإجماع مع مخالفته ) في ( م ) .
(6) في ( د ) : ( الأسعار ) .(114/129)
وَإن كَان حَادِثة ليسَ فيها إجماع الصحَابة وَلاَ قول أحَد(1) مِن الصحَابة ، لِكن فيها إجماع [ التابعِيِن، فإنه يقضي بإجماعِهم ، إلا أن إجماع التابعِين في كوَنِه حُجة دُونَ إجماع الصحَابة ، وَكَذلكَ إجماع كل قرَن بَعدَ ذلَك َ] (2) حُجة ، وَلكنُه دُونَ الأول في كونِه حُجة(3) .
وَإن كانَت حَادِثة فيها اختلاف بَيْنَ التابعِينَ ، يجتَهد القاضِي في ذلك - إذا كَانَ مِن أهِلِ الاجتهادِ - وَيقضي بما هوَ أقرب مِن الصوَاب وَأشبَه بِالحق ، وَليسَ لَهُ أن يخالفهم جَميعاً باختراعِ قولٍ ثالِثٍ عِندَنا ، عَلى نَحو مَا ذكرنا في الصحَابة ، وَإن جَاءَ عَن بَعضِ التابعِينَ وَلم ينقل عَن غَيرهم ، فِيه شيءٌ فعَن أبي حَنِيفة روَايتانِ ، في روَاية قال : لا أقلدُهم هُمْ رجَالٌ اجتهَدُوا وَنحنُ رجَالٌ نجتهد ، وَهوَ ظَاهِر المَذهَبِ(4) .
__________
(1) في ( د ) : ( فواحد ) .
(2) سقطت من ( د ) .
(3) ينظر للفائدة : الآمدي ، الإحكام : 1/290 ؛ الرازي ، المحصول : 4/287 ؛ الغزالي ، المستصفى : 1/149.
(4) السرخسي ، المبسوط : 11/3 ؛ ابن أمير حاج ، التقرير والتحبير : 2/415 .(114/130)
وَفي روَاية ( النوادر ) (1) قَالَ : مَن كَانَ منهُم أفتَى في زَمَنِ الصحابَة ، وَسَوغوا لَهُ الاجتهاد : كشريح(2) وَمسرُوق بن الأجدع(3) وَالحسن فأنا أقلدهم(4) ، فإن لم يَجد(5) إجمَاع مِن بعدهم ، وَكَانَ فيه اتفاقٌ بَيْنَ أصحَابنا : أبي حَنِيفة وَأبي يُوسُف وَمُحمد ، يَأخذ بِقَولِهم وَلا يَسعهُ أن يخالِفهُم بِدَايةً ؛ لأن الحَق لا يعدوهم(6) ، فإن أبَا(7) يُوسُف كَانَ صَاحِب حَدِيث ، حَتى يروى أنه قَالَ : (( أحفظ عِشرينَ ألف حَدِيث مِن المنسُوخ )) (8) فمَا ظنَكَ مِن الناسخ ؟ وَكانَ صَاحِب فِقه وَمعنى(9) ، وَمُحمد(10) كَانَ صَاحِب فِقه [ ومقرء ] (11) ، وَكَانَ صَاحِب قريحَة أيضاً ؛ وَلهَذَا قَلَّ رجُوعه في المسَائل ، وَكَانَ مُقدماً في اللغَة وَالإعراب ، وَلهُ مَعرفة بالحديث
__________
(1) هي نوادر الفتاوى لأبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني ثم البغدادي الحنفي ، وفاته بعد سنة 200هـ . إيضاح المكنون : 2/681 .
(2) في كلا النسختين ( شريح ) .
(3) أبو عائشة مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية الوادعي الهمداني الكوفي ، الإمام القدوة ، عداده في كبار التابعين والذين اسلموا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفاته سنة 63هـ . سير أعلام النبلاء : 4/63 ؛ تهذيب التهذيب : 9/416 .
(4) في ( د ) : ( نقلدهم ) .
(5) في ( د ) : ( يجدوا ) .
(6) في ( د ) : ( يعدهم ) .
(7) في ( د ) : ( أبي ) .
(8) لم أجد هذه الرواية فيما وقع تحت يدي من مصادر ، ولكن روي عن الإمام أحمد أنه قال : أول ما كتبت الحديث اختلفت إلى أبي يوسف ، كان أميل إلى المحدثين من أبي حنيفة ومحمد ، وقال يحيى بن معين : ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث ولا أحفظ ولا أصح رواية من أبي يوسف . سير أعلام النبلاء : 8/537 .
(9) ومعنى ) سقطت من ( د ) .
(10) في ( د ) : ( وأما محمد ) .
(11) زيادة من ( د ) وجاء مكانا فراغا ًفي ( م ) .(114/131)
أيضاً(1) .
وَ أبو حَنِيفة(2) كَانَ مُقدماً في هَذا كَله ، إلا أنه قلّت روَايته لمذهبِ تفردَ بِهِ في بَابِ الحَدِيث ، [ وَهوَ أنه إنما يجدُ روَاية الحَدِيث ] (3) لمَن يحفظ مِن حِين يسمع إلَى أن يروي ، وإن اختلفوا فيما بينهم ، قَالَ عَبد الله بن المبَارك : يأخُذ بِقولِ أبي حَنِيَفة لاَ محالة .
وَالمتأخرون من مشايخنا اختلفوا ، بعضهم قَالُوا : إذَا اجتمعَ [ 23/أ ] اثنان مِنهم عَلى شيءٍ ، وَفيهمَا أبو حَنِيَفة يَأخُذ بِقولِ أبي حَنِيَفة ، وَإن كَانَ أبو حَنِيَفة في جَانِب وَأبو يوسُف وَمُحمد في جَانِب ، فإن كَانَ القَاضِي مِن [ أهل الاجتهاد يَجتَهد ، وَإن لم يكن مِن ] (4) أهِل الاجتهاد وَيستفتي(5) غَيره ، وَيأخُذُ(6) بِقولِ المفتي بمنزلة العَامي(7) ، وَبَعضهم قَالُوا : [ أي ] (8) إذا كَانَ القَاضِي مِن أهِل الاجتهاد يَعملُ بِرأيِهِ وَيأخُذُ بِقولِ الوَاحِد ويترك قولَ المثنى ، سوَاءٌ كَانَ في المثنى أبو حنيفة أو لم يكن ، وَإن كَانَ أبو حَنِيَفة عَلى رتبة ، وَإن لم يَكنْ مِن أهِل الاجتِهاد ، يَأخُذُ(9) بِقولِ أبي حَنِيفة وَلاَ ترك مَذهَبه .
المفتي بالخيار :
__________
(1) لم يعتنِ محمد بن الحسن عناية أبي يوسف في الحديث ، وكان أميل إلى الفقه ، ومع ذلك فقد قال عن نفسه ، كتبت سبع مائة حديث عن مالك ، وكان قد صحبه أكثر من ثلاث سنين ، وقال إبراهيم الحربي : قلت للإمام أحمد : من أين لك هذه المسائل الدقاق ؟ قال : من كتب محمد بن الحسن . سير أعلام النبلاء : 9/135 .
(2) في ( د ) زيادة : ( وقيل كان أبو حنيفة ... ) .
(3) ما بين المعقوفتين سقطت ( د ) .
(4) سقطت من ( د ) .
(5) في ( د ) : ( يستفتي ) .
(6) في ( د ) : ( ويؤخذ ) .
(7) في ( د ) : ( القاضي ) .
(8) زيادة من ( د ) .
(9) في ( د ) : ( ويأخذ ) .(114/132)
وَفي ( فتاوى الخلاصة ) قَالَ : المفِتي بالخيار إن شاءَ أخذَ بِقولِ أبي حَنِيفة ، وإن شاءَ أخذَ بقولهما ، وَفي ( القنية ) (1) - وعزاه شمس الأئمة الحلوَاني - : أن المسَائل التي تتعلق بانقِضاء(2) الفَتوى فيهما(3) عَلَى قول أبي يُوسُف ؛ لأنه حَصَلَ لَهُ زيادَةُ عِلمٍ بِالتجربة انتهى .
وَفي ( المحيط ) : وَلوَ لم يجَد الروَاية عَن أبي حَنِفية وَأصحَابه ، وَوجدَ عَن المتأخرِينَ يقضي بِهِ وَلو اختلفَ المتأخرونَ فيِه ، يختار وَاحِداً مِنْ ذَلكَ ، وَلو لم يجَدْ عَن المتأخرين يجتَهد فيه ، [ برواية إذا كان يعرف وجوه الفقه ، ويشاور أهل الفقه فيه ] (4) وَذكرَ شِمس الأئمة السرخسِي : أن الإجماع اللاحِق يرفع الخلافَ السّابق(5) .
وَفي ( الفتاوى العتابية ) (6) : قاضٍ استفتى في حَادثة ، فأفتى ورَأيه(7) بخلاف رَأي المفتي ، فإنه يعمل بِرَأي نفَسه - إن كَانَ مِن أهِل الرَأي - فإن ترك رَأيه وَقضَى بِرأي المفتي لم يجز عَندهما ، كَمَا في التحري، وَعَندَ أبي حَنِيفة ينفذ لمصَادفته فصلاً مُجتهداً فيه .
__________
(1) هي ( قنية المنية على مذهب أبي حنيفة ) لأبي الرجاء نجم الدين مختار بن محمود الزاهدي الحنفي وفاته سنة 658هـ . كشف الظنون : 2/1357 .
(2) في ( د ) : ( بالقضاة ) .
(3) في ( د ) : ( فيها ) .
(4) زيادة من ( د ) .
(5) ينظر : التقرير والتحبير : 3/143 .
(6) هي جامع جوامع الفقه المعروفة بـ ( الفتاوى العتابية ) لأبي نصر أحمد بن محمد العتابي البخاري الحنفي وفاته سنة 586هـ . كشف الظنون : 1/567 ..
(7) في ( د ) : ( برأيه ) .(114/133)
وَأمَّا اجتهاد الصحَابي في زمَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِفيهِ خلافٌ بَينَ العُلماء ، قَالَ في ( المحيط ) : يَجبُ أن يعلم أن العُلماء اختلفوا في هَذا عَلى ثلاثة أقوال : مِنهِم مَن قَالَ كَانَ لَهُ أن يجتهدَ ، وَمِنهِم مَن كَانَ يبعد عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ الاجتهاد مُطلقاً(1) .
وَاختلَفوا أيضاً أنه عَلَيه الصَّلاة وَالسَّلام : هل كَانَ يَجتهدُ فيمَا لم يوحَ(2) إليه ؟ فيفصل الحكم باجتِهادِهِ بَعضهم ، قالوا : [ 23/ب ] مَا كَانَ يجتهد بَل كَانَ ينتظر الوَحي ، وَمنهم مَن قال : يرجع فيه إلَى شريعَة مَا قبله ، وَمِنهم مَن قَالَ : كَانَ لاَ يَعمل بالاجتهاد إلى أن ينقطعَ طمعَهُ عَن الوَحي ، فإذا انقطَعَ حينئذ كَانَ يجتَهد ، فإذا اجتهدَ صَارَ ذلَكَ شريعة لَهُ ، وَإذا نَزَلَ الوَحي بِخلافِهِ يصَيِرُ ناسِخاً ، وَنسَخ السنة بالكتاب جَائز عندَنا ، وَكَانَ لاَ ينقض(3) مَا قضى بالاجتهاد ، وَكَانَ يَستأنف القضاء في المُستقبل ، انتهى كلام ( المحيط ) (4) .
وَفي ( تهذيب الأسماء والكتاب ) (5) في ترجَمةِ معَاذ : الذين يفتونَ في زمَن النبي صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثةٌ مِن المهاجِرينَ عُمر وَعثمان وَعلي ، وَمن الأنصَار ثلاثةٌ أُبيّ بن كعب وَمَعاذ بن جَبل وَزَيد بن ثابت رضوَان الله [ تعالى ] (6) عَلَيهم أجَمعِينَ(7) .
__________
(1) ينظر تفاصيل هذه المسألة عند الآمدي ، الإحكام : 4/212 ابن أمير حاج الحنفي ، التقرير والتحبير : 3/398.
(2) في ( د ) : ( فيما يوحى ) .
(3) في ( د ) : ( ينقص ) .
(4) في ( د ) : ( ينقص ) .
(5) كذا يذكره المؤلف والمعروف أن اسم الكتاب هو ( تهذيب الأسماء واللغات ) للنووي ، وهو مطبوع متداول .
(6) زيادة من ( د ) .
(7) تهذيب الأسماء واللغات : 2/404 .(114/134)
وَفي ( التحقيق ) (1) شرح الأخسيكثي(2) : وَاختلفَ في كَونه عَليه الصَّلاَة وَالسَّلام مُتعبداً بالاجتهاد فيمَا لَمْ يُوحَ(3) إلَيهِ مِن الأحكَامِ ، فأنكرَت الأشعَرية وَأكثر المُعتزلة كَون الاجتهاد حظّ النبي صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحكام الشرعيَّة(4) ، وَقالَ عَامةُ أهِل الأصول : كَانَ [ له ] (5) العَمل في أحكام الشرع بالوحي وَالرأي جَميعاً ، وَهوَ منقولٌ عَن أبي يُوسُف مِن أصحَابنا ، وَهوَ مَذهَبُ مَالكٍ وَالشافِعي وعَامة أهِل الحَدِيث(6) .
وَقَالَ أكثر أصحَابنا : إن كَانَ عَلَيه الصَّلاة وَالسَّلام متعَبداً بانتِظاَر الوَحي في حَادِثة ليْسَ فيهَا وَحي ، فإن لم ينزل الوَحي بَعدَ الانتظار كَانَ ذلَكَ(7) دلالَة عَلَى الأذنِ في الاجتهاد ، ثُمَّ قيلَ مُدة انتظار الوَحي مُقدرَة بثلاَثة أيَامٍ ، وَقيلَ مُقدرَة بِخَوفِ فوت الفرَض ، وَذلَكَ يختَلِف بِاختِلافِ الحَوادِث .
__________
(1) التحقيق : أو شرح الحسامي المعروف بغاية التحقيق أو شرح المنتخب الحسامي ، شرحه عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري الحنفي ، وفاته سنة 730هـ ، مطبوع في الهند سنة 1876م . معجم المطبوعات العربية : 1/406 .
(2) في ( د ) : ( الاغلبي ) . والصحيح ما في ( م ) : هو محمد بن محمد بن عمر الاخسيكثي ، حسام الدين الحنفي، نسبته إلى ( أخسكيث ) من بلاد فرغانة ، له كتاب ( المنتخب في أصول المذهب ) ويعرف بالمنتخب الحسامي، وفاته سنة 644هـ . الفوائد البهية : ص 188 ؛ كشف الظنون : 2/1818 .
(3) في ( د ) : ( فيما يوحى ) .
(4) ينظر قول البصري المعتزلي في المعتمد : 2/210 .
(5) زيادة من ( د ) .
(6) تناول أهل الأصول هذه المسألة بالتفصيل . فينظر ما كتبه الآمدي في الإحكام : 4/172 ؛ آل تيمية ، المسودة : ص 451 ؛ الشوكاني ، إرشاد الفحول : 1/426 .
(7) ذلك ) سقطت من ( د ) .(114/135)
ثُمَّ اجتهاده عَلَيه أفضَل الصَّلاة وَالسّلام لاَ يحتمل الخَطأ عِندَ أكثرِ العُلماء(1) ، وَعندَ أكثرِ أصحَابِنا يحتمل الخَطأ ، لكِنه لاَ يحتمل القرار عَلى الخَطأ ، فإذَا أقره الله تعَالَى دَلَّ أنه كَانَ هوَ الصّواب ، فَيُوجبُ عِلم اليقِين كَالنصِ ، فيكُون مخَالفته حَراماً وَكفراً بِخلافِ اجتهادِ غَيره مِن الأمَّة ، حَيثُ يَجوزُ مخالفَته لمجتَهدٍ [ 24/أ ] آخرَ ؛ لأن احتمال الاجتهَاد وَالخطأ وَالقرار عَلَيه جَائزان في حَقِّ الأمَّة ، فَلاَ يتعَينُ الصّوَاب في حَقِّ أحَدٍ ، وَإن كَانَ الحَقُّ لاَ يعدوهم(2) ، فيَجُوزُ لِكلِّ وَاحدٍ مخَالفَة الآخر بِالاجتهادِ ، وَلاحتمال الصّوَاب في اجتهادِه وَاحِتمال الخطأ في اجتهَادِ غَيره(3) .
ثُمَّ الاجتهَادُ في أنه قطعي مِن النبي صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دونَ غيره - نَظِيرَ الإلهامِ - وَهُوَ القذف في القلِبِ مِن غَيرِ نظَر في نص وَاستدلال بحجة ، فإنه حجة قاطِعة في حِقِّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حَتى لم يَجز لأحدٍ مخالفَته بوجه للِتيقن أنه مِن عِندِ الله ، وَعصَمته عَن الإقرار(4) عَلى الخَطأ ، وَإلهام غَيره ليسَ بحجة أصلاً ، انتهى كلام ( التحقيق ) والله ولي التوفيق .
وَقد كرّه بَعضهم الإفتاء بقوله عَلَيه الصَّلاة وَالسَّلام : (( أجرؤكم على النار أجرؤكم على الفتوى )) رواه الدارمي مرسلاً(5) .
وَعَن سَلمَان الفارِسي : أن ناساً كَانوا يستفتونه فَقالَ : (( هَذَا خير لكم وَشر لي )) (6) .
__________
(1) المقدسي ، روضة الناظر : ص 356 ؛ آل تيمية ، المسودة : ص 453 ؛ الغزالي ، المستصفى : 1/347 .
(2) في ( د ) : ( يعذرهم ) .
(3) ابن أمير الحاج ، التقرير والتحبير : 3/450 .
(4) في كلا النسختين ( القرار ) .
(5) الدارمي ، السنن : 1/51 ، رقم 157 . قال الشيخ الألباني ( ضعيف ) : رقم 147 .
(6) ابن المبارك ، الزهد : ص 13.(114/136)
وَعَن عبد الرحمن بن أبي ليَلَى قَالَ : (( أدركتُ مائة وَعَشرينَ مِن أصحَاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ تَعَالى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فمَا مِنهُم مِن أحَد يُسأل عَن حَدِيث أو فَتوى إلا ودَّ أن أخَاه كفاه ذلكَ )) (1) .
وَالصَّحيحُ أنَهُ لاَ يكره لمَن كَانَ أهلاً لَهُ لِقولِهِ تعَالَى : ? فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ? [ الأنبياء : 7 ] وكان هَذَا أمراً(2) بالإجابة عن السؤال .
وَعَن أبي هُريرة - رضي الله عنه - عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( مَن أفتى مفتياً غَير ثبت فإنمَا أثمه عَلى الذَي أفتَاهُ )) رواه أحمد وأبو داود(3) .
__________
(1) الدارمي ، السنن : 1/65 ؛ ابن المبارك ، الزهد : ص 19 .
(2) في كلا النسختين ( أمر ) .
(3) أخرجه الإمام أحمد بلفظ : (( من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ، ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه ، ومن أفتى بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه )) . المسند : 2/231 ، رقم 8249 ؛ أبو داود ، السنن ، كتاب العلم ، باب التوقي الفتيا : 3/331 ، رقم 3657 . قال الشيخ الألباني عن الحديث ( حسن ) . صحيح الجامع : رقم 6068 .(114/137)
وَقَالَ في(1) ( الملتقط ) (2) : وَلاَ يَنبغَي لأحدٍ أنْ يفتي إلاَّ أن يعرفَ أقاويل العُلماء ، وَيعلم مِن أين قالوا، وَيعرف مُعَاملاتِ النَّاس ، فإن سُئل عَن مَسألة يعلم أن العُلماء(3) الذين ينتحل مَذهبهم قَد اتفقوا عَلَيه، فَلاَ بَأسَ بأن يقول هَذا جَائز وَهذا لاَ يَجُوز ، وَيكُون قَولِهِ عَلى سِبيل الحكَاية ، وَإن كَانَت مَسألة قد اختلَفُوا فيها فلا بَأسَ بأن يقول : هَذا جَائز في قَولِ فلانٍ ، وَفي قَولِ فلانٍ لاَ يَجُوز وَليسَ لَهُ الخيَار ، فيَجبُ بِقَولِ بَعضهم(4) [ 24/ب ] مَا لم يَعرف حجته(5) .
وَعَن أبي يُوسُف وَزُفر وَعَافية(6) بن يزيد(7) أنهم قَالُوا : (( لاَ يحل لأحدٍ أن يفتي بقولنا ، مَا لم يعلم مِن أين قَلنَا )) (8) .
__________
(1) في ( د ) : ( وفي في ) .
(2) الملتقط : في فتاوى الحنفية ، لناصر الدين محمد بن يوسف الحسيني السمرقندي ، وفاته سنة 556هـ . كشف الظنون : 2/1813 .
(3) في كلا النسختين ( علماء ) ولا يستقيم المعنى بها .
(4) في ( د ) : ( فيجب بقولهم ما لم ... ) .
(5) ينظر للتفاصيل في هذه المسألة ابن حمدان الحنبلي ، صفة الفتوى : ص 13 وما بعدها ؛ ابن الصلاح ، أدب المفتي والمستفتي : ص 85 وما بعدها .
(6) في ( د ) : ( وعقبة ) .
(7) عافية بن يزيد بن قيس بن عافية القاضي الأودي الكوفي ، قال ابن معين : ثقة مأمون ، وفاته سنة 180هـ . تاريخ بغداد : 12/307 ؛ تهذيب التهذيب : 5/53 .
(8) نقله عن أبي حنيفة وزفر ابن أمير حاج الحنفي ، التقرير والتحبير : 3/462 ؛ ونقله الدهلوي عن الثلاثة الذين ذكرهم المؤلف ، عقد الجيد : ص 19 .(114/138)
قيلَ لعصَام بن يُوسُف(1) : (( إنك تكثر الخلاف لأبي حَنِيفة ، فقَالَ : لأن أبي حنيفة أوتي مِن الفَهم مَا لم نُؤتَ ، فأدرك بفهمِهِ مَا لَم ندركهُ ، وَلاَ يسَعنا أن [ نفتي بقوله ما لم نفهم )) (2) .
وعن محمد بن الحسن أنه سُئل ] (3) : (( متى يحل للرَّجلِ أن يفتي ؟ قَال : إذا كَانَ صَوَابهُ أكثر مِن خَطأه )) (4) .
وَعَن أبي بَكر الإسكافي البلخَي(5) عَن عَالم في بَلدِهِ ليْسَ هناك اعلم مِنه ، هل يسَعهُ أن لاَ يفتي ؟ قَالَ: (( إن كَانَ مِن أهِل الاجتهادِ [ لا يَسعهُ ، قيلَ : كيفَ يَكون مِن أهل الاجتهاد ؟ ] (6) وَقال : أن يَعرف وجُوه المسَائل وَيُناظر أقرانه إذا خَافوُهُ )) (7) .
وَعَن ابن مَسعُود قَالَ : (( مَن سُئل مِنكم عَن عِلم وَهوَ عَنده فليَقل به ، وَإن لم يَكن عندَه ، فليقل الله أعلم ، فإن مِن العِلم أن يقولَ لمَا لاَ يعلم لا أعِلم )) (8) .
__________
(1) عصام بن يوسف بن ميمون بن قدامة البلخي ، روايته عن ابن المبارك ، قال ابن حبان : كان صاحب حديث ثبتاً في الرواية وربما أخطأ ، وفاته سنة 210هـ . الثقات : 8/521 ؛ الجواهر المضيئة : ص 347 .
(2) الدهلوي ، الإنصاف : ص 105 .
(3) زيادة من ( د ) .
(4) البركتي ، قواعد الفقه : ص 565 .
(5) أبو بكر محمد بن أحمد البلخي الحنفي ، كان فقيهاً زاهداً ، وفاته سنة 330هـ . الجواهر المضيئة : ص 239 ؛ كشف الظنون : ص 569 .
(6) سقطت من ( د ) .
(7) الدهلوي ، الإنصاف : ص 106 . ولكن رواها عن محمد بن الحسن .
(8) مسلم ، الصحيح ، كتاب صفة القيامة ، باب الدخان : 4/2155 ، رقم 2798 ؛ الدارمي ، السنن : 1/73 ، رقم 173.(114/139)
وَسُئل شداد بن حكيم(1) عَن قوله صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إن اللهَ خَلقَ آدم عَلى صُوَرته )) (2) ، فقَالَ : نؤمن وَلا نقس ، قَالَ أبُو اللّيث : بِهَذا أمرَ اللهُ تعَالَى بِقولِهِ : ? وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ? [ آل عمران : 7 ] .
وَعَن ابن مَسعُود : (( إنَّ الذِي يفتي بِهِ النَّاس [ في كلِّ ] (3) مَا يَسألونه مَجنونٌ (4) )) (5) .
وَعَن الثوري : (( العَالم الفاجر فتنَةٌ لِكلِّ مفتون )) (6) .
وَعَن ابن شبْرمة : (( أن [ من ] (7) المَسَائل مَا لاَ يحل للسائل أن يَسأِل عَنها ، وَلاَ لِلمُجيب أن يجيبَ عَنها )) (8) ، وَكَأنه اقتبسَ من قَولهِ تعَالَى : ? لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ? [ المائدة : 101 ] .
__________
(1) أبو عثمان شداد بن حكيم البلخي ، روايته عن زفر ، قال ابن حبان : كان مرجئاً مستقيم الحديث ، قال الحافظ ابن حجر : وهو صدوق ، لم أقف على وفاته . الثقات : 8/310 ؛ لسان الميزان : 3/140 .
(2) الحديث أخرجه البخاري ، الصحيح ، كتاب الاستئذان ، باب بدء السلام : 5/2299 ، رقم 5873 ؛ مسلم ، الصحيح ، كتاب الجنة ، باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل الطير : 4/2183 ، رقم 2841 .
(3) زيادة من الحديث كي يستقيم المعنى .
(4) في كلا النسختين ( بمجنون ) .
(5) الطبراني ، المعجم الكبير : 9/214 . قال الهيثمي : ورجاله موثقون . مجمع الزوائد : 1/183 .
(6) ابن المبارك ، الزهد : ص 18 ؛ البيهقي ، شعب الإيمان : 2/308 .
(7) زيادة من ( د ) .
(8) لم أقف عليها منسوبة لابن شبرمة ، ولكن نسبها الخطيب البغدادي وغيره إلى أياس بن معاوية ، تاريخ بغداد : 9/36 ؛ سير أعلام النبلاء : 10/333 .(114/140)
وَعَن الشعبي قَالَ : (( سَلُوا عَمَا كَانَ وَلاَ تسَألوا عَمَا يكُون )) (1) .
وَحُكي : (( أن أبَا يُوسُف دَخل عَلى هارُون الرشِيد ، وَعندَه اثنان يتناظرَان في الكَلامِ ، فَقَالَ هارُون أحكم بَينَهما ، فقَالَ لَهُ أبُو يُوسُف : أنا لاَ أخُوض فيمَا لاَ يعني ، فقَالَ لَهُ الخليفَة : أحسنَت ، وَأمرَ لَهُ بمائة ألف درهم ،[ وَأمرَ أن يكتب في الدوَاوين أن أبا يُوسُف : أخَذَ مائة ألف درهم ] (2) بترك مَا لاَ يعنيه )) (3).
سئل مالك عن أربعين مسألة :
وَذكرَ ابن الحاجب(4) : أن مَالكاً سُئل عَن أربَعينَ مَسألة ، فقَالَ في سِت وَثلاثينَ مِنها : (( لاَ أدرِي )) (5) .
وَسُئل الشعبي عَن مَسألَةٍ [ 25/أ ] فقَالَ لاَ عِلم لَنا بها ، فقيل لَهُ : (( ألا تَستحي ؟ قال : وَلِمَ استحي مِما لم يستحي منه الملاَئكة حَتى قَالَت : ? لا عِلْمَ لَنَا ? [ البقرة : 32 ] )) (6) .
وَعَن ابن مَسعُود : (( جنة العَالم لاَ أدري )) (7) .
وَسُئل ابن عُمر - رضي الله عنه - عَن فِرَيضةٍ ، فقَالَ(8) : (( ائتِ سَعِيد بن جبير فإنه اعَلم بالفرائض مِنّي )) (9) .
وَعن الشعبي مَا حَدّثوك عَن أصحَابِ مُحمدٍ صلى الله تعالى عليه وسلم فخذُه(10) ، وَمَا قَالُوه برَأيهم فبل عَليه .
__________
(1) روي ذلك عن أكثر من واحد من السلف ، ينظر : جامع العلوم والحكم : ص 92 .
(2) سقطت من ( د ) .
(3) لم أقف عليها .
(4) أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر الكردي المالكي ، كان عالماً بالعربية والقراءات والأصول ، وفاته سنة 646هـ . سير أعلام النبلاء : 23/264 ؛ شذرات الذهب : 6/223 .
(5) الآمدي ، الإحكام : 4/171 ؛ المقدسي ، روضة الناظر : ص 354 .
(6) ابن حمدان ، صفة الفتوى : ص 9.
(7) الذهبي ، سير أعلام النبلاء : 8/77 .
(8) في ( د ) : ( فقيل ) .
(9) الثوري ، الفرائض : ص 21 .
(10) في ( د ) : ( فخذوه ) .(114/141)
وَفي ( الملتقط ) : وَينبَغي للمفِتي إذا ظِهرَ عِندَه أنه أخَطأ ، أن يَرجعَ عَنه وَلاَ يستحيي وَلاَ يأنف .
وَعَن أبي حَنيفة : (( لأن يخطئ الرجل عَن فهم خير مِن أن يصيب مِن غير فهم ))(1) .
وقيلَ : (( مَنْ قلت فكرته كثرت عِثرته )) .
ثُمَّ مَا ذكرَ في شرائطِ المفتي : أنه لاَ يَجُوز للمفِتي أن يفتي بِمَسألةٍ حَتى يعلمَ مِن أين قلنا ، هل يَحتَاج في زمَانِنا إلى هَذا أم(2) يكفي الحفظ ؟ فقَالَ بعضهم : يكتفي باِلحفظِ نقلاً عَن الكتُب المصَححة ، وَقَالَ بعضهم : الحفظ لاَ يكفي ، وقيل : هذَا يختلفُ باختِلافِ الحُفّاظ ، وَقيلَ لاَ بدَّ مِن ذَلكَ الشرط كلِّ زمَان(3).
مسألة : إذا أجاب المفتي ينبغي أن يكتب عقب جوابه :
__________
(1) البركتي ، قواعد الفقه : ص 581 .
(2) في ( د ) : ( أو ) .
(3) الدهلوي ، عقد الجيد : ص 19 ؛ الإنصاف : ص 105 .(114/142)
وَفي ( أصُول الفِقه ) (1) لأبي بَكر الرازي(2) : فأمَّا مَا يُؤخذ مِن كَلامِ رَجُل وَمذهَبه في كتاب مَعروف قد تدَاولته النسخ ، يَجُوز لمَن نظَرَ فيه أن يَقولَ : قَالَ فلانٌ كَذا ، وَإن لم يسمعهُ مِن أحَدٍ ، نَحو كتب مُحمد بن الحسَن وَمُوطأ مَالك ونحوها مِن الكتب المصَنفَة في أصناف العُلُوم ؛ لأن وجُودهَا عَلى هَذَا الوَصْف بمنزلَة خَبر المتواتر وَالاستِفاضة لا يَحتاج مِثلهُ إلى إسناد ، وَينبغي أن يقدم المفتي مَن جَاءَ أولاً وَلاَ يقَدم الشريف عَلى الضعِيف(3) ، وَإذا أجَابَ المفتي ينبغي أن يكتبَ عَقبَ جَوابه : وَالله اعلم ، وَنحَو ذلكَ ، وَقيلَ في المَسُائل الدّينية التي أجمعَ عَليها أهِل السّنة وَالجماعَة ينَبغِي أن يكتبَ : وَالله الموفق ، وَبالله العصمة ، وأمثاله(4) .
وَإذا سُئل عَن مَسألة ينبَغي أن يمعِن النظَر فيها ، وإن كَانَت مِن جنسِ مَا يفصل في جَوابها يفصل ، وَلاَ يَجبُ عَلى الإطلاق فإنه يكُون مخطئاً ، وَعن أبي يُوسُف سَمِعتُ أبَا(5) حَنِيفة يَقول : (( لَولاَ الخَوف مِن الله [ تعالى ] (6) مَا أفتيت أحَداً لكون الهناء لهَمُ [ 25/ب ] وَالوزر عَلينَا ))(7) .
وَقد نَظم الإمَام سِرَاج الدين الغزي(8) أخو صَاحِب ( المحيط ) هَذَا المَبنى وَزادَ في المَعْنَى حَيثُ قَالَ شِعراً(9) :
تركت الكتب في الفتوى وإني
__________
(1) ذكره له صاحب كشف الظنون : 1/111 .
(2) أبو بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص الحنفي ، سكن بغداد وعنه أخذ فقهاؤها ، وفاته سنة 370هـ . الفوائد البهية : ص 84 ؛ شذرات الذهب : 3/71 .
(3) ذكره البركتي ، قواعد الفقه : ص 567 .
(4) البركتي ، قواعد الفقه : ص 583 ؛ ابن حمدان ، صفة الفتوى : ص 59 .
(5) في ( د ) : ( أبي ) .
(6) زيادة من ( د ) .
(7) لم أقف عليها .
(8) لم أقف على ترجمته سوى إشارة له في الجواهر المضيئة : ص 373 .
(9) شعراً ) سقطت من ( د ) .(114/143)
لمحُتَسب بهذا الترك أجرا
وَمَا تركي لعَجزي مِنهُ لكن(1)
أكرر مِن أصُول الشرع وَقرا
وَأمَّا مَا درست بغَير حِفظ
فَيعظم ذكرهَا عدًا وَحصرا
وَلي مِن سَائر الأنواعِ حَظٌ
وَمَا قولي مَعاً وَالله كبرا
وَلكن أذكر النعماء عندِي
مِن الرحَمن(2) إيماناً وَشكرا
وَلكن قد يكُون الحكم طورًا
خلافياً وَبالإجماع طُورا
فَترتَعد الفَرِائص عِندَ كتبي
نَعم أو لاَ بظني ذَاك خَيرا
وَتركي قول مُجتَهد سوَاهُ
لظنّ قد يكُون الظنّ وزرا
تدبّرت الأمور وَكأنَ كتبي
لَدى الأمر(3) حيثاً وَذكرَا
فقلت هدَاكَ إن النَّاس طرا
قد اتخَذُوك للِنيرانِ جسرا
فَلاَ يغرركَ ذكر الناسِ وَاجهد
لتكسب عندَ رب العَرش ذكرا
وَبادِر في قبُول الحَق وَأحذَر
قضاء لازماً مَوتاً وَحشرَا
وَدع عَنكَ العلو تكون عَبدًا
قنُوعًا صًالحاً سِرّاً وَجَهَرا
وَلا تركن إلى الدنيَا وَشمّر
لما يُدعَي لَدَى الرحمَن ذُخَرا
فَلاَ يغني مَقال الحَق عَنّي
هُوَ المغني لما أرهقت عُسَرا
فحسَبي عَفو رَبي عندَ تركي
وَحَسِبي كتبه البَاقِينَ عذرا
[ وَالله سبحَانه وتعَالَى اعلم بالصوَاب ، وإليَه المرجع وَالمآب ] (4) ، وَصَلى الله عَلى سَيدنا محمّد ، وَعَلى آله وَصَحبه وَسَلم [ تسليماً كثيراً إلى يوم الدين ] (5) .
قائمة
بمصادر ومراجع التحقيق
أولاً : مصادر أهل السنة والجماعة :
آل تيمية ، عبد السلام ، عبد الحليم ، أحمد :
__________
(1) في ( د ) : ( ولكن ) .
(2) في ( م ) : ( الرحمة ) .
(3) في ( م ) زيادة ( إلى ) ولا يستقيم البيت .
(4) سقطت من ( د ) .
(5) زيادة من ( د ) .(114/144)
المسودة في أصول الفقه ، تحقيق : محمد محي الدين عبد الحميد ( دار المدني ، القاهرة ) .
الآلوسي ، أبو الثناء محمود شكري ( ت 1270هـ ) :
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ( دار إحياء التراث العربي ، بيروت ) .
نهج السلامة إلى مباحث الإمامة ، تحقيق : د. مجيد خلف ( دار الصفوة ، القاهرة ، 1425هـ / 2004م ) .
الآلوسي ، أبو المعالي محمود شكري ( ت 1342هـ ) :
السيوف المشرقة مختصر الصواقع المحرقة ،( مخطوط ) نسخة مكتبة الآثار العامة ببغداد ، رقم ( 8629 ) .
مختصر التحفة الاثني عشرية ، تأليف : شاه عبد العزيز ولي الله الدهلوي ، تعريب : غلام محمد ابن محي الدين عمر الأسلمي ، تحقيق : محب الدين الخطيب ( الرياض ، 1404هـ ) .
الآمدي ، أبو الحسن علي بن محمد ( ت 631هـ ) :
الإحكام في الأحكام ، تحقيق : د. سيد الجميلي ، ( دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1404هـ ) .
الأبهيشي ، أبو الفتح محمد بن أحمد ( ت 850هـ ) :
المستطرف في كل فن مستظرف ، تحقيق : د. مفيد محمد قمحية ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1986م ) .
ابن أبي عاصم ، عمرو بن الضحاك الشيباني ( ت 287هـ ) :
السنة ، تحقيق : محمد ناصر الدين الألباني ( المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1400هـ ) .
ابن الأثير ، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد الجزري ( ت 630هـ ) :
الكامل في التاريخ ( دار صادر ، بيروت ، 1980م ) .
الأزهري ، صالح بن عبد السميع
الثمر الداني شرح رسالة القيرواني ( المكتبة الثقافية ، بيروت ) .
الأسفراييني ، طاهر بن محمد ( ت 471هـ ) :
التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين ، تحقيق : كمال يوسف الحوت ، ( عالم الكتب ، بيروت ، 1403هـ/ 1983م ) .
الأشعري ، أبو الحسن علي بن إسماعيل ( ت 324هـ ) :
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ، تحقيق : هلموت ريتر ، ( دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ط 3 ) .(114/145)
ابن أمير حاج ، محمد بن محمد بن محمد بن حسن بن علي الحنفي ( ت 879هـ ) :
التقرير والتحبير ( دار الفكر ، بيروت ، 1996هـ ) .
الأيجي ، عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد القاضي ( ت 756هـ ) :
المواقف في علم الكلام ، ( عالم الكتب ، بيروت ، لا . ت ) .
البخاري ، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي ( ت 256هـ ) :
التاريخ الكبير ، تحقيق : السيد هاشم الندوي ( دار الفكر ، بيروت ، لا . ت )
الجامع الصحيح ( صحيح البخاري ) ، ( دار ابن كثير ، بيروت 1407هـ/ 1987م ) .
ابن بدران ، عبد القادر الدمشقي ( ت 1346هـ ) :
المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، تحقيق : د. عبد الله التركي ( مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1401هـ ) .
البركتي ، محمد عميم الإحسان المجددي :
قواعد الفقه ( كراتشي ، 1407هـ ) .
البزار ، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق ( ت 292هـ ) :
البحر الزخار أو مسند البزار ، تحقيق محفوظ زين الله ( بيروت ، 1409هـ ) .
البصري ، أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب المعتزلي ( ت 436هـ ) :
المعتمد في أصول الفقه ، تحقيق : خليل الميس ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1403هـ ) .
البغدادي ، إسماعيل باشا بن محمد الباباني ( 1339هـ/1920م ) :
إيضاح المكنون ( دار إحياء التراث العربي ، بيروت ) .
هدية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المصنفين ( استنبول ، 1960 ) .
البغدادي ، أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد ( ت 329هـ ) :
الفرق بين الفرق ، ( دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، 1977م ) .
البهوتي ، منصور بن يونس بن إدريس ( ت 1051هـ ) :
كشاف القناع عن متن الإقناع ، تحقيق : هلال مصيلحي مصطفى هلال ( دار الفكر ، بيروت ، 1402هـ/1982م ) .
البيهقي ، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى ( ت458هـ ) :
الاعتقاد ، تحقيق : أحمد الكاتب ( دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، 1401هـ ) .(114/146)
سنن البيهقي الكبرى ، ( مكتبة الباز ، مكة المكرمة ، 1414هـ / 1994م ) .
شعب الإيمان ، تحقيق : محمد السعيد بسيوني زغلول ، ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1410هـ/ 1990م ) .
ابن تيمية ، شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني ( ت 727هـ ) :
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ، تحقيق : د. علي حسن ناصر وآخرون ( دار العاصمة ، الرياض ، 1414هـ ) .
دقائق التفسير ، تحقيق : د. محمد السيد الجليند ( مؤسسة علوم القرآن ، دمشق ، 1404هـ ).
الصارم المسلول على شاتم الرسول ، تحقيق : محمد عبد الله الحلواني ، محمد كبير شودري ( دار ابن حزم ، بيروت ، 1417هـ ) .
مجموع الفتاوى ، جمع : عبد الرحمن بن قاسم ( الرياض ، 1381هـ / 1961م ) .
منهاج السنة النبوية ، تحقيق : د. محمد رشاد سالم ( الرياض ، 1401هـ/ 1981م ) .
النبوات ( المطبعة السلفية ، القاهرة ، 1386هـ ) .
الجرجاني ، أبو القاسم حمزة بن يوسف ( ت 345هـ ) :
تاريخ جرجان ، تحقيق : د. محمد عبد المعيد خان ( عالم الكتب ، بيروت ، 1401هـ/ 1986م )
الجرجاني ، علي بن محمد بن علي ( ت 816هـ ) :
التعريفات ، تحقيق : إبراهيم الإبياري ( دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1405هـ ) .
ابن الجوزي ، عبد الرحمن بن علي ( ت 597هـ ) :
تلبيس إبليس ، تحقيق : د. السيد الجميلي ( دار الكتاب العربي ، بيروت 1405هـ/ 1985م )
ديوان الضعفاء والمتروكين ، تحقيق : عبد الله القاضي ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1406هـ ).
العلل المتناهية ، تحقيق : خليل الميس ( دار الكتب العلمية ، بيروت 1403هـ/ 1983م ) .
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ( دار صادر ، بيروت ، 1358 ) .
الموضوعات ، تحقيق : عبد الرحمن محمد عثمان ( دار الفكر ، بيروت ، 1403هـ/1983م ) .
الجويني ، إمام الحرمين أبو المعالي عبد الكريم بن عبد الله بن يوسف ( ت 478هـ )(114/147)
الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد ، تحقيق : أسعد تميم ( مؤسسة الكتب الثقافية ، بيروت ، 1405هـ/1985م ) .
البرهان في أصول الفقه ، تحقيق : د. عبد العظيم محمود الديب ( دار الوفاء ، المنصورة ، 1418هـ ) .
ابن أبي حاتم ، أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي ( ت 327هـ ) :
الجرح والتعديل ( دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 1371هـ/ 1952م ) .
علل ابن أبي حاتم ، تحقيق : محب الدين الخطيب ( دار المعرفة ، بيروت ، 1405هـ ) .
حاجي خليفة ، مصطفى بن عبد الله الرومي المعروف بالكاتب الجلبي ( ت 1067هـ ) :
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1412هـ / 1992م ).
الحاكم ، أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري ( ت 403هـ ) :
المستدرك على الصحيحين ، تحقيق : مصطفى عبد القادر عطا ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1411هـ/ 1990م ) .
ابن حبان ، أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد البستي ( ت 354هـ ) :
الثقات ، تحقيق : السيد شرف الدين أحمد ( دار الفكر ، بيروت ، 1395م/1975م ) .
صحيح ابن حبان ، تحقيق : شعيب الأرنؤوط ( مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1414هـ/ 1993م )
المجروحين من المحدثين ، تحقيق : محمود محمد زايد ( دار الواعي ، بيروت ، 1414هـ / 1994م ) .
ابن حجر ، أحمد بن علي العسقلاني ( 852هـ ) :
الإصابة في تمييز الصحابة ، تحقيق : علي محمد البجاوي ( دار الجيل ، بيروت ، 1412هـ/1992م ) .
تلخيص الحبير ، تحقيق : السيد عبد الله المدني ( المدينة المنورة ، 1384هـ/ 1964م ) .
تقريب التقريب ، تحقيق : محمد عوامة ( دار الرشيد ، دمشق ، 1406هـ/1986م ) .
تهذيب التهذيب : ( دار الفكر ، بيروت ، 1404هـ/1984م ) .
الدراية في تخريج أحاديث الهداية ، تحقيق : السيد عبد الله هاشم اليماني المدني 0 دار المعرفة ، بيروت ) .
الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ( القاهرة ، 1385هـ / 1966م ) .(114/148)
لسان الميزان ( مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت 1406هـ/1986م ) .
ابن حزم ، أبو محمد علي بن محمد بن أحمد الظاهري ( ت 456هـ ) :
الفصل في الملل والأهواء والنحل ، تحقيق : محمد إبراهيم نصر ، عبد الرحمن عميرة ( دار الجيل ، بيروت ، 1405هـ/1985م ) .
المحلى ، تحقيق : أحمد شاكر ( القاهرة ، 1345هـ/1926م ) .
ابن حمدان ، أبو عبد الله أحمد بن حمدان النمري الحراني الحنبلي ( ت 695هـ ) :
صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ، تحقيق : محمد ناصر الدين الألباني ( المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1497هـ ) .
ابن حنبل ، الإمام أحمد بن محمد بن حنبل ( ت 241هـ ) :
فضائل الصحابة ، تحقيق : د.وصي الله محمد عباس ( مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1403هـ/ 1983م ) .
مسند الإمام أحمد بن حنبل ( مؤسسة قرطبة ، القاهرة ، لا . ت ) .
ابن خزيمة ، محمد بن إسحاق السلمي النيسابوري ( ت 311هـ ) :
صحيح ابن خزيمة ، تحقيق : د. محمد مصطفى الأعظمي ( المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1390هـ/ 1970م ) .
الخطيب البغدادي ، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الشافعي ( ت 463هـ ) :
تاريخ بغداد ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، لا . ت ) .
ابن خلكان ، أبو العباس أحمد بن محمد الشافعي ( ت 681هـ ) :
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ، تحقيق إحسان عباس ( بيروت ، 1970 ) .
الدارقطني ، أبو الحسن علي بن عمر البغدادي ( ت 385هـ ) :
سنن الدارقطني ، تحقيق : السيد عبد الله هاشم يماني المدني ( دار المعرفة ، بيروت ، 1386 – 1966م ) .
الدارمي ، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن ( ت 255هـ ) :
سنن الدارمي ، تحقيق : فؤاد أحمد زمرلي ، خالد السبع العلمي ( دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1407هـ/ 1987م ) .
الداني ، أبو عمرو عثمان بن سعيد المقرئ ( ت 444هـ ) :
السنن الواردة في الفتن ، تحقيق : د. ضياء الله المباركفوري ( دار العاصمة ، الرياض ، 1416هـ ) .(114/149)
أبو داود ، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي ( ت 275هـ )
سنن أبي داود ، تحقيق : عبد السلام هارون ( مكتبة الخانجي ، القاهرة ، لا . ت ) .
الدسوقي ، محمد بن عرفة الدمشقي ( ت 1230هـ ) :
حاشية الدسوقي ، تحقيق : محمد عليش ( دار الفكر ، بيروت ، لا . ت ) .
الدهلوي ، ولي الله أحمد بن عبد الرحيم ( ت 1176هـ ) :
الانصاف في الاختلاف ، تحقيق : عبد الفتاح أبو غدة ( دار النفائس ، بيروت ، 1404هـ ) .
عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد ، تحقيق : محب الدين الخطيب ( المطبعة السلفية ، القاهرة ، 1385هـ ) .
الديلمي ، أبو شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه الهمداني ( ت 509هـ ) :
الفردوس بمأثور الخطاب ، تحقيق : السيد بن بسيوني زغلول ، ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1406هـ/ 1986م ) .
الذهبي ، أبو عبد الله محمد بن عثمان بن قيماز الدمشقي الشافعي ( ت 748هـ ) :
تذكرة الحفاظ ، تحقيق : عبد الرحمن المعلمي ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1374هـ/ 1954م ) .
سير أعلام النبلاء ، تحقيق : شعيب الأرناؤوط ، محمد العرقسوسي ( مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1404هـ/1984م ) .
المغني في الضعفاء ، تحقيق : نور الدين عتر ( بيروت ) .
ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، تحقيق : علي العوض ، عادل عبد الموجود ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1995م ) .
الرازي ، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين ( ت 606هـ ) :
اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ، تحقيق : علي سامي النشار ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1402هـ ) .
المحصول في أصول الفقه ، تحقيق : طه جابر فياض العلواني ( جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، الرياض ، 1400هـ ) .
الزرقاني ، محمد بن عبد الباقي بن يوسف المالكي ( ت 1122هـ ) :
شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1411هـ ) .
الزركشي ، أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله ( ت 794هـ ) :(114/150)
المنثور ، تحقيق : د. تيسير فائق محمود ( الكويت ، 1405هـ ) .
السبكي ، تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي ( ت 771هـ ) :
الإبهاج في شرح المنهاج ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1404هـ ) .
طبقات الشافعية الكبرى ، تحقيق : د. عبد الفتاح حلو ، د. محمود الطناحي ( دار هجر ، القاهرة ، 1992م ) .
السخاوي ، محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر ( ت 902هـ ) :
الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع ، ( دار الفكر ، بيروت ) .
السرخسي ، رضي الدين محمد بن محمد ( 571هـ ) :
المبسوط ، ( دار المعرفة ، بيروت ، 1406هـ ) .
ابن سعد ، أبو عبد الله محمد بن منيع البصري ( ت 230هـ ) :
الطبقات الكبرى ( دار الصادر ، بيروت ، 1957م ) .
السمعاني ، أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور ( ت 562هـ ) :
الأنساب ، تحقيق : عبد الله البارودي ، ( دار الجنان ، بيروت ، 1408هـ ) .
السمعاني ، أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار ( ت 489هـ ) :
قواطع الأدلة في الأصول ، تحقيق محمد حسن الشافعي ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1997هـ ) .
السيواسي ، محمد بن عبد الواحد ( ت 681هـ ) :
شرح فتح القدير ( دار الفكر ، بيروت ، ط 2 ) .
السيوطي ، أبو الفضل عبد الرحمن بن محمد الشافعي ( ت 911هـ ) :
الدر المنثور في التفسير بالمأثور ( دار الفكر ، بيروت ، 1414هـ/1994م ) .
شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور ، تحقيق : محمد حسن الحمصي ( بيروت – القاهرة ، 1986م ) .
طبقات الحفاظ ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، لا . ت ) .
طبقات المفسرين ، تحقيق : علي محمد عمر ( مكتبة وهبة ، القاهرة ، 1396هـ ) .
الشافعي ، الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس ( ت 204هـ ) :
الأم ( دار المعرفة ، بيروت ، 1393هـ ) .
الشاطبي ، إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي ( ت 790هـ ) :
الموافقات ، تحقيق : عبد الله دراز ( دار المعرفة ، بيروت ) .(114/151)
الشربيني ، شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب ( ت 977هـ ) ك
مغني المحتاج ، ( دار الفكر ، بيروت ) .
الشهرستاني ، محمد بن عبد الكريم بن أحمد ( ت 548هـ ) :
الملل ، تحقيق : محمد سيد كيلاني ، ( دار المعرفة ، بيروت ، 1404هـ/ 1984م ) .
الشوكاني ، محمد بن علي ( ت 1250هـ ) :
إرشاد الفحول إلى علم الأصول ، تحقيق : محمد سعيد البدري ، ( دار الفكر ، بيروت ، 1412هـ/ 1992م ) .
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ، ( دار المعرفة ، بيروت ) .
الشيرازي ، إبراهيم بن علي بن يوسف ( ت 476هـ ) :
طبقات الفقهاء ، تحقيق : خليل الميس ( دار القلم ، بيروت ) .
ابن أبي شيبة ، أبو بكر عبد الله بن محمد الكوفي ( ت 235هـ ) :
المصنف في الأحاديث والآثار ، تحقيق : كمال يوسف الحوت ( مكتبة الرشد ، الرياض ، 1409هـ/1989م ) .
الصنعاني ، عبد الرزاف بن همام ( ت 211هـ ) :
المصنف ، تحقيق : حبيب الرحمن الأعظمي ( المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1403هـ/1983م ) .
طاشكبري زادة ( ت 968هـ ) :
الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية ( دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1395هـ ) .
الطبراني ، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب ( ت 360هـ ) :
المعجم الأوسط ، تحقيق : طارق بن عوض الله محمد ، عبد المحسن إبراهيم الحسيني ( دار الحرمين ، القاهرة ، 1415هـ/1995م ) .
المعجم الصغير ، تحقيق : محمد شكور محمود الحاج أمرير ( المكتب الإسلامي ، بيروت ن 1405هـ/1985م ) .
المعجم الكبير ، تحقيق : حمدي عبد المجيد السلفي ( مكتبة العلوم والحكم ، الموصل ن 1404هم1983م ) .
الطبري ، أحمد بن عبد الله بن محمد الطبري ( ت 694هـ ) :
الرياض النضرة ، تحقيق : عيسى عبد الله الحميري ( ت دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، 1996هـ ) .
الطبري ، أبو جعفر محمد بن جرير ( ت 310هـ ) :
تاريخ الأمم والملوك ( تاريخ الطبري ) ، ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1407هـ/1986م ) .(114/152)
جامع البيان عن تأويل آي القران ( تفسير الطبري ) ، ( دار الفكر ، بيروت ، 1405هـ/1985م )
الطحاوي ، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الحنفي ( ت 321هـ ) :
شرح معاني الآثار ، تحقيق : محمد زهري النجار ، ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1399هـ/1979م ) .
ابن عابدين ، محمد بن أمين بن عمر الحنفي ( ت 1232هـ )
حاشية رد المحتار على الدر المختار ، ( دار الفكر ، بيروت ) .
ابن عبد البر ، أبو عمر يوسف بن عبد الله القرطبي ( ت 463هـ ) :
الاستيعاب في معرفة الأصحاب ، تحقيق : علي محمد البجاوي ( دار الجيل ، بيروت ، 1412هـ/1992م ) .
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ، تحقيق : مصطفى علوي ، محمد البكري ، ( وزارة الأوقاف المغربية ، المغرب ، 1387هـ ) .
عبد الرزاق بن همام الصنعاني ( ت 211هـ ) :
المصنف ، تحقيق : حبيب الرحمن الأعظمي ( المكتب الإسلامي ، بيروت 1403هـ / 1983م )
عبد الله بن أحمد بن حنبل ( ت 290هـ ) :
السنة ، تحقيق : محمد سعيد سالم القحطاني ( دار ابن القيم ، الدمام ، 1406هـ ) .
العبدري ، محمد بن يوسف ( ت 897هـ ) :
التاج والإكليل ( دار الفكر ، بيروت ، 1398هـ ) .
العجلوني ، إسماعيل بن محمد الجراحي ( ت 1162هـ ) :
كشف الخفاء ، تحقيق : احمد القلاش ( مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1405هـ ) .
العراقي ، عبد الرحيم بن الحسين ( ت 806هـ ) :
المستخرج على المستدرك ( أمالي الحافظ العراقي ) تحقيق : محمد عبد المنعم رشاد ( القاهرة ، مكتبة السنة ، 1410هـ ) .
ابن عدي ، أبو أحمد عبد الله بن عدي بن عبد الله الجرجاني ( 365هـ ) :
الكامل في ضعفاء الرجال ، تحقيق : يحيى مختار غزاوي ( دار الفكر ، بيروت ، 1409هـ/1988م ) .
ابن عساكر ، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقي ( ت 571هـ ) :
تاريخ دمشق ، ( دار الفكر ، بيروت ، 1418هـ/1998م ) .
العقيلي ، أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد ( ت 322هـ ) :(114/153)
الضعفاء الكبير ، تحقيق : د. عبد المعطي أمين القلعجي ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1404هـ/1984م ) .
علاء الدين أفندي الحنفي ( ت 1252هـ ) :
تكملة حاشية ابن عابدين ( دار الفكر ، بيروت ، 1415هـ ) .
ابن العماد ، أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي ( 1089هـ ) :
شذرات الذهب في أخبار من ذهب ( المكتب التجاري ، بيروت ، لا . ت ) .
العيدروسي ، عبد القادر بن شيخ بن عبد الله ( ت 1037هـ ) :
النور السافر عن أخبار القرن العاشر ، ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1405هـ ) .
الغزالي ، حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد ( ت 505هـ ) :
إحياء علوم الدين ( دار الجيل ، بيروت ) .
المستصفى في علم الأصول ، تحقيق : محمد عبد السلام الشافي ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1413هـ ) .
المنخول ، تحقيق : د. محمد حسن هيتو ( دار الفكر ، دمشق ، 1400هـ ) .
القاري ، علي بن سلطان محمد الحنفي ( ت 1014هـ ) :
المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ، تحقيق : عبد الفتاح أبو غدة ( مكتبة الرشد ، الرياض ، 1404هـ ) .
ابن قدامة ، أبو محمد عبد الله بن أحمد المقدسي ( ت 620هـ ) :
روضة الناظر وجنة المناظر ، تحقيق : د. عبد العزيز عبد الرحمن السعيد ( جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، الرياض ، 1399هـ ) .
المغني ( دار الفكر ، بيروت ، 1405هـ ) .
القضاعي ، محمد بن سلامة بن جعفر ( ت 454هـ ) :د
مسند الشهاب ، تحقيق : حمدي السلفي ( مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1407هـ / 1986م ) .
القرطبي ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري ( 671هـ ) .
الجامع لأحكام القران ، تحقيق : أحمد عبد العليم البردوني ( دار الشعب ، القاهرة ، 1372هـ/1952م ) .
القزويني ، عبد الكريم بن محمد الرافعي ( ت 623هـ ) :
التدوين في أخبار قزوين ، تحقيق : عزيز الله العطاردي ( بيروت ، 1987م ) .
ابن القيم ، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الحنبلي ( ت 751هـ ) :(114/154)
إعلام الموقعين ، تحقيق : طه عبد الرؤوف سعد ( دار الجيل ، بيروت ، 1973هـ ) .
ابن كثير ، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي ( ت 774هـ ) :
البداية والنهاية ( مكتبة المعارف ، بيروت ، لا . ت ) .
تفسير القرآن العظيم ( دار الفكر ، بيروت ، 1401هـ ) .
اللألكائي ، أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور ( ت 275هـ ) :
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة ، تحقيق : د. أحمد بن سعد حمدان ( دار طيبة ، الرياض ، 1402هـ / 1982م ) .
ابن ماجة ، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني ( ت 275هـ ) :
سنن ابن ماجة ، ( دار الفكر ، بيروت ) .
ابن المبارك ، أبو عبد الله عبد الله بن المبارك المروزي ( ت 181هـ ) :
الزهد ، تحقيق : حبيب الرحمن الأعظمي ( دار الكتب العلمية ، بيروت ) .
المرغيناني ، علي بن عبد الجليل ( ت 593هـ ) :
الهداية شرح البداية ، ( المكتبة الإسلامية ، بيروت ) .
المروزي ، محمد بن نصر بن الحجاج ( ت 294هـ ) :
السنة ، تحقيق : سالم أحمد السلفي ( مؤسسة الكتب الثقافية ، بيروت ، 1408هـ ) .
المزي ، أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن ( ت 742هـ ) :
تهذيب الكمال ، تحقيق : د. بشار عواد معروف ، ( مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1400هـ/ 1980م ) .
مسلم بن الحجاج القشيري ( ت 261هـ ) :
صحيح مسلم ، تحقيق : عبد الفؤاد عبد الباقي ( بيروت ) .
ابن مفلح ، إبراهيم بن محمد بن عبد الله الحنبلي ( ت 884هـ ) :
المبدع ، ( المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1400هـ ) .
المقدسي ، أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم ( ت 665هـ ) :
مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول ، تحقيق : صلاح الدين مقبول أحمد ( مكتبة الصحوة الإسلامية ، الكويت ، 1403هـ ) .
ابن منظور ، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم المصري ( ت 711هـ ) :
لسان العرب ( دار الصادر ، بيروت ، 1990م ) .
ابن أبي نجيم ، زين بن إبراهيم بن محمد بن بكر ( ت 970هـ ) :(114/155)
البحر الرائق ، ( دار المعرفة ، بيروت ) .
النسائي ، أبو عبد الرحمن محمد بن شعيب ( ت 303هـ ) :
سنن النسائي ، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة ( بيروت ، 1604هـ/ 1984م ) .
السنن الكبرى ، تحقيق : عبد الغفار سليمان البنداري ، سيد كسروي حسن ، ( دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1411هـ/1991م ) .
أبو نعيم ، أحمد بن عبد الله الأصبهاني ( ت 430هـ ) :
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ، ( دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1405هـ/1985م ) .
نعيم بن حماد المروزي ( ت 288هـ ) :
الفتن ، تحقيق : سمير أمين الزهيري ( مكتبة التوحيد ، القاهرة ، 1412هـ ) .
النفراوي ، أحمد بن غنيم المالكي ( ت 1125هـ ) :
الفواكه الدواني ( دار الفكر ، بيروت ، 1415هـ ) .
النووي ، أبو زكريا محي الدين يحيى بن شرف ( ت 676هـ ) :
تهذيب الأسماء واللغات ( دار الفكر ، بيروت ، 1996م ) .
روضة الطالبين ( المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1405هـ ) .
المجموع شرح المهذب ، تحقيق : محمود مطرحي ( دار الفكر ، بيروت ، 1317هـ / 1996م )
الهيثمي ، علي بن أبي بكر ( ت 807هـ ) :
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ( دار الريان ، بيروت ، 1407هـ / 1987م ) .
ابن أبي الوفاء ، عبد القادر بن محمد بن أبي الوفاء القرشي ( ت 775هـ ) :
الجواهر المضية في طبقات الحنفية ، ( دار مير محمد كتب خانة ، كراتشي ) .
ياقوت الحموي ، شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الرومي البغدادي ( ت 626هـ ) :
معجم الأدباء ، تحقيق : م . مرجليوث ( القاهرة ، 1923م ) .
معجم البلدان ، ( دار الفكر ، بيروت ، 1957م ) .
أبو يعلى احمد بن علي بن المثنى الموصلي ( ت 307هـ ) :
مسند أبي يعلى ، تحقيق : حسين سليم أسد ، ( دار المأمون ، دمشق ، 1404هـ ) .
ثانياً : المصادر الحديثة :
الألباني ، محمد ناصر الدين :
ضعيف الجامع الصغير وزيادته ( المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1408هـ ) .(114/156)
صحيح الجامع الصغير وزيادته ( المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1408هـ ) .
سركيس ، يوسف إليان :
معجم المطبوعات العربية والمعربة ( مطبعة بهمن ، قم ، 1410هـ ) .
كحالة ، عمر رضا :
معجم المؤلفين ( دار إحياء التراث العربي ، بيروت ) .
المنشداوي ، د. مجيد خلف :
ابن حزم الأندلسي ومنهجه في دراسة العقائد والفرق الإسلامية ( دار ابن حزم ، بيروت ، 2003م ) .
جهود الحافظ ابن عبد البر في دراسة الصحابة ، بحث منشور في مجلة الحكمة ، العدد 24 ، سنة 1423هـ .
ثالثاً : مصادر الشيعة الإمامية :
الأربلي ، أبو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح ( ت 693هـ ) :
كشف الغمة في معرفة الأئمة ، ( مكتبة بني هاشمي ، تبريز ، 1381هـ ) .
الأميني ، محمد حسين :
الغدير ، ( مؤسسة الأعلمي ، بيروت ) .
ابن أبي الحديد ، أبو حامد بن هبة الله بن محمد المدائني ( ت 655هـ )
شرح نهج البلاغة ( طبعة بيروت ) .
الحسيني ، شرف الدين الحسيني ( ت 940هـ ) :
تأويل الآيات الظاهرة ، ( مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، 1409 ) .
الحلي ، ( العلامة ) الحسن بن يوسف ابن المطهر ( ت 726هـ ) :
منتهى المطالب ( تبريز ، 1333هـ ) .
الطبرسي ، أحمد بن علي بن أبي طالب ( عاش في القرن السادس الهجري ) :
الاحتجاج ( مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، 1421هـ/ 2000م ) .
الطهراني ، أغا برزك :
الذريعة إلى تصانيف الشيعة ، ( النجف ، 1390هـ/ 1970م ) .
العاملي ، محسن بن عبد الكريم الحسيني ( ت 1372هـ ) :
أعيان الشيعة ( دار التعارف ، بيروت ، 1406هـ/1984م ) .
المجلسي ، محمد باقر بن محمد تقي بن مقصود ( ت1110هـ ) :
بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( طبعة طهران ، دار الكتب الإسلامية ) .
المرتضى ، علي بن موسى بن محمد المعروف بالشريف المرتضى ( علم الهدى ) ، ( ت 436هـ ) .(114/157)
آمالي المرتضى ، المسمى ( غرر الفوائد ودرر العقائد ) ، ( دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، 1373هـ /1954م ) .
رسائل المرتضى ، إعداد : مهدي رجائي ( دار القرآن الكريم ، قم ، 1405هـ ) .(114/158)
شهادة الخميني في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
تأليف
محمد إبراهيم شقرة
تقديم
موقف خميني من الصحابة
دعاء صنمي قريش
الخميني الطائفي
تقديم
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، ورضي الله عن آله وصحابته الغر الميامين .
من فمك أدينك:
ما كان أحرى هذا الكتاب نقدمه اليوم للمسلمين كافة في الأرض بهذا العنوان لا يزاد عليه ولا ينقص منه، لولا أنه لا يدل دلالة مباشرة صريحة على الحقائق التي أردنا عرضها على أعين الناس وعقولهم .
ويحسن أن نذكر القارئ أنه حين أعلن عن قيام دولة إيران الإسلامية هرعت إلى طهران الألوف من جميع أنحاء الأرض تحمل ولاءها لهذه الدولة- الذي كان أن يكون بيعه- على رؤوسها وفي صدروها. ومن عجز عن الوصول إلى طهران كان يحلق بروحه فوق قم وتبريز وطهران، ليرى بقلبه من وراء الجبال والبحار والسهول كتاب الله عز وجل وسنة نبيه (ص) يتحركان من جديد فوق الأرض نقف من روائه دولة قوية منيعة تحميه أن يعتدى عليهما، يرسمان للناس كافة مسيرتهم الإيمانية في أمل يتجاوز حدود الأرض، ويصعد بالآملين إلى ملكوت السماء وفي رجاء يحدو بأهله فوق سحب الدهر تمطر الناس يغيثها الطيب المدرار .
بيد أن سرعان ما تمزق الأمل، وغاض الرجاء حين صارت كتب الخميني وكلماته وآراؤه في الفقه والسياسة والتاريخ يسمعها أو يقرؤها بعض من حملوا الولاء بيعة لدولة إيران الإسلامية .
إن كان أكثرهم كأنهم لا يعقلون، وراحوا يتأولون ذلك أحيانا، ويتهمون خصومة بنسبها إليه زورا وكذبا . وهكذا كان .
ولكن هل يقبل عقلا أن تصبح الحقائق الدامغة زورا وكذبا وهي حقائق ؟! ونحن اليوم نعيش في عالم صغير لا يكاد يخفى في شئ.(115/1)
إن ما نثبته اليوم في هذا الكتاب من أقوال الخميني، وآرائه مدونه أو مسموعة ليس بيننا وبينها رواة متهمون . فهي حقائق مأخوذة أخذا مباشرا عنه من كتبه المقطوع نسبتها إليه، ولم يتبرأ منها، ومن صوته المسموع من إذاعة إيران أو من صوت غيره ممن وكله بالحديث عنه … حقائق موثقة بالأرقام والصفحات والأيام، منهم ، ولكي يحكموا هم على أنفسهم بأنفسهم، فإن المسلم العاقل الذي يقبس الأمور بالإسلام لا يمكن أن يرضى لنفسه على الأقل متابعة خميني في آرائه، بله أن يسلم له بآرائه، لأن ذلك هو صريح الكفر عياذا بالله .
ونحن لا نريد أن نناقش الخميني في آرائه ونحمله على التخلي عنها إلا أن يحول الله قلبه فذلك مطلب عزيز المثال، بل مرادنا أن نعرض على المسلمين كافة هذه الآراء ليروا في دولة إسلامية تلك التي وضعت مقاليدها في يد الخميني ينصرف فيها كيفما شاء .
لقد كان الأجدر بخميني – إن كان يريد حقا أن يحمل مسؤولية دولة الإسلامية – أن يعمل جاهدا على جمع صفوف المسلمين على كتاب الله وسنة محمد (ص) وأن يثبت لهم أن ما كان يقال عن أبي بكر وعمر وجلّة الصحابة رضوان الله عليهم شئ تاريخي مضى وانقضى كما يقول بعض الجهلاء وأنه قد آن للمسلمين أن يتلاقوا على عقيدة واحدة قوامها لا إله إلا الله محمد رسول الله، وحب النبي وآل بيته، وتعظيم الخلفاء الراشدين جميعا وغيرهم من أصحاب النبي وأزوجه .
ثم أليس الأجدر بخميني وهو لا يقر إلا بحكم علي عليه السلام أن يقبل بما قبل به وشايعه عليه جلة الصحابة وغيرهم من تحكيم كتاب الله ، والرضا به لوضع نهاية للحرب الضروس ؟(115/2)
إن الإقرار لعلي بالإمامة تفرض على خميني أن يقر له بما رآه للمسلمين قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، ولا أحسب إلا أن جميع المسلمين في الأرض من السنة والشيعة على السواء ينزلون عليا رضي الله عنه من قلوبهم منزلة يرجون بها مثوبة من الله سبحانه، ولا يرضون بديلا عن حكمه امتثالا لأمر الله سبحانه .
(( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى )) .
إن النيل من أصحاب رسول الله (ص) لا يقصد منه إلحاق الأذى بهم ، أو بمن يحبهم ويواليهم امتثالا لأمر الله سبحانه، بل يقصد به هدم الإسلام الذي كان هؤلاء الجلّة يمثلونه خير تمثيل يفي أول مراحله ، فهم مشاعل الأمة الذين يهتدى يهديهم، ويؤنسى يهم على مر الزمان .
لقد آن للمسلمين جميعا أن يقولوا كلمتهم في خميني وكفره البواح ، ودولته القائمة على الأفكار المنحرفة عن الإسلام وجوهره النقي، ونزوعها إلى الطائفية المقيتة التي يعمل المسلمون جاهدين على إزالتها والتخلص من شرورها وما تؤذي إليه تمزق وتفرق وكراهية وعصبية .
فهل انتبه المسلمون وقادتهم إلى هذا الداء الخبيث الذي تشتري عدواه في صفوف الأمة، وكثير منهم مازالوا عنه غافلين.
المؤلف
موقف الخميني من الصحابة
من المعلوم أن الدعوة الإسلامية قامت على جهاد الرسول (ص) وصحابته الغر الميامين من المهاجرين والأنصار الذين جاهدوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل دعوة الدين الجديد، وحمل الرسالة الإسلامية، وبثها بين الناس، فصاروا المثل الأعلى الذي يقتدي به كل مسلم مؤمن غيور على دينه، وأصبحوا محط فخر المسلمين واعتزازهم ، وقدوة لهم على توالي العصور .(115/3)
ولا ريب في أن أفضل العصور في الإسلام، وأكثرها نقاء هو عصر الرسول الكريم (ص) وخلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين ، ففي عهدهم أرسيت قواعد الإسلام، وانتشرت الرسالة الإسلامية في بقاع الأرض بجهادهم وصبرهم، وهدى الله الناس إلى الدين القويم، فدخلوا فيه أفواجا بعد القضاء على الإمبراطورية الفارسية المجوسية من سيطرتهما البغيضة، ونشر العدل والخير في ربوع الأرض، وإقامة الدولة الإسلامية العربية الموحدة القوية .
من هنا وجدنا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعلى تعاقب العصور يعدون دروس هذه المرحلة من أبلغ دروس الرسالة الإسلامية، وأكثرها نقاء، وأصبح كل واحد من هؤلاء الخلفاء الراشدين، مثلا يحتذى بسعي كل مؤمن إلى التشبه به،والسير على طريقته سواء أكان حاكما أم محكوما .
وقد عمدت الحركات السياسية المعادية للعروبة والإسلام منذ صدر الرسالة إلى محاولة هدم هذا الصرح الشامخ ، وتفويضه بشتى الوسائل، فقام الفرس باغتيال الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب الذي فوض إمبراطوريتهم، ومزقها شر ممزق، واصبح الفرس يحتفلون بيوم مقتله، بل يعده بعضهم عيدا ينبغي الاحتفال به، ( انظر: الأنوار النعمانية للجزائري 1/108 فصل/ نور سماوي يكف عن ثواب قتل عمر بن الخطاب )،كما عملوا على نشر الحركة الشعوبية التي تهدف إلى ضرب العروبة والإسلام، والطعن في رجالات المسلمين بالبارزين – وهم من العرب الخلص – والتقليل من شأنهم .
وكان من أخطر هذه الحركات السياسية الفارسية الباطنية تلك التي ليست لبوس الدين، مدعيه زورا وبهتانا موالاة آل البيت تويها وتضليلا للناس بغية الطعن في رجال الصدر الأول من المهاجرين والأنصار من العرب وإظهار الخلفاء الراشدين مخالفين للرسول(ص)،وإن جميع الصحابة رضوان الله عليهم- قد ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة الرسول(ص) سوى نفر يسير منهم .(115/4)
وكانت هذه المحاولات بداية لسلسلة متصلة من الحركات جاءت في سيلان لا ينقطع، تريد ضرب الأمة وتاريخها وعقيدتها، وذلك عن طريق النيل من رموز الأمة وقادتها الذين صاروا بفضل جهادهم أعلاما راسيات يقتدي بهم الخلف كبرا عن كابر .
لقد تحقق أصحاب البرامج الباطنية، ودعاة الشعوبية الزندقة أن من خصائص هذه الأمة الكريمة، التي جملتها الباري تعالى أمانة التبليغ، شدة ارتباطها بقادة مسيرتها، ورموز حضارتها، ومن ثم اشتركوا جميعا في جهد خبيث يقوم على التأمل والتلفيق والتلقين السّري، فصدوا به النيل من هذه الرموز وإسقاطها، ونشر المفتريات عنها كلها وجدوا إلى ذلك حيلة وسبيلا، بعد أن يئسوا من ضرب الخلافة، وإفساد العقيدة، هدم الريادة العربية .
ولما كانت الخمينية واحدة من هذه الحركات السياسية الفارسية الباطنية المتشحة بثوب الدين، بغية تحقيق أهدافها الخبيثة في ضرب العروبة وهدم الإسلام ونشر المفتريات عن فادته وحملة رسالته، فإن مؤسسها لم يخف في كتبه وخطبه حقيقة حقده على صحابة رسول الله(ص) وطعنه فيهم، وتكفير الخلفاء الراشدين أبي بكر وعم وعثمان وغيرهم، سواء أكان ذلك تلميحا أم تصريحا، وهو أمر جد واضح لمن يطالع مؤلفاته،ويقرأ خطبه وتصريحاته .(115/5)
ويلاحظ أن خميني لم يكتف بتكفير عدد من كبار الصحابة، والطعن في جملتهم فحسب، بل كان دائم الكلام في رجالات العرب من محدثين وفقهاء وقضاة وخلفاء، وكان هذا الرجل مازال يعمل على هدم الإسلام من الداخل، حينما يتظاهر باعتناقه والعمل من أجله شأنه في ذلك شأن من سبقوه من أئمة الشعوبية والزندقة ممن تظاهروا كذبا بالإسلام وادعوا النسب العلوي ليكسبوا ثقة الناس، لما لآل البيت من منزلة رفيعة في نفوسهم. فيضل به الأمر إلى التقليل من شأن رسول الله(ص)، وتفضيل المهدي المنتظر عليه وعلى الأنبياء والمرسلين كافة، كما صرح بذلك في كلمة وجهها يوم 15شعبان سنة 1400هـ/30 حزيران يوليو 1980م وهي خطبة مشحونة بصريح الكفر لا تخفى أهدافها على كل مسلم حريص كل مبادئ الإسلام وقيمه .وها نحن أولاء نسوق للقارئ جملة من النصوص التي تبين موقف هذا الذي ادعى لنفسه الإمامة والعصمة، وزعامة الإسلام من صحابة الرسول (ص) ورجالات الإسلام معتمدين على استقراء مؤلفاته المعتمدة، وخطبه الموثقة المطبوعة، والمذاعة من الإذاعة الإيرانية الرسمية .
1- ففي كتابه " كشف الأسرار " كتب خميني فصلين كفّر فيهما أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لمخالفتهما في زعمه نصوص القرآن الكريم، أول هذين الفصلين بعنوان " مخالفة أبي بكر لنصوص القرآن " ( ص111-114) وثانيهما بعنوان ( مخالفة عمر لكتاب الله ) (ص114-117) وفيهما من الكذب، والافتراء، والحقد الدفين على العروبة والإسلام ما يتناسب وشعوره المريب بالدور العظيم الذي قام به الخليفتان الراشدان في إقامة الدولة العربية الإسلامية ، لنشر العدالة والتوحيد في الأرض، وتخليص الناس من ظلم أنفسهم وتحطيم الإمبراطورية الفارسية المجوسية التي أرادت أن تصد الإسلام عن الناس .
وخميني – كما هي عادته – يغطي كل ذلك بدعوى مشايعة آل البيت زورا وبهتانا لإخفاء مقاصده الخبيثة، فيقول :(115/6)
( وهنا نجد أنفسنا مضطرين على إيراد شواهد من مخالفتهما الصريحة للقرآن لنثبت بأنهما كانا يخالفان ذلك، وأنه كان هناك من يؤيدهما ) .
ثم يسوق هذا الدجال المارق ما ظن أن أبا بكر قد خالف في زعمه كتاب الله في قصة الإرث المعروفة، واتهمه بوضع حديث" إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " وقال في أول الفصل الثاني :
( نورد هنا مخالفات عمر لما ورد في القرآن – لنبين بأن معارضه القرآن لدى هؤلاء كان أمرا هينا، ونؤكد بأنهم كانوا سيخالفون القرآن أيضا فيما إذا كان قد تحدث بصراحة عن الإمامة ) .
ويقول في حق عمر الفاروق عند كلامه المزعوم على جملة قالها في احتضار رسول الله (ص) .
( وهذا يؤكد أه هذه الفرية صدرت من ابن الخطاب المفتري، ويعتبر خير دليل لدى المسلم الغيور، والواقع أنهم ما عطوا الرسول حق قدره !!! الرسول الذي جد وكد، وتحمل المصائب من أجل إرشادهم وهدايتهم، وأغمض عينيه وفي أدنيه ترن كلمات ابن الخطاب القائمة على الفرية، والنابعة من أعمال الكفر والزندقة والمخالفات لآيات ورد ذكرها في القرآن الكريم أ.هـ
ويقول في خلاصة كلامه على سبب عدم ورود الإمامة في القرآن الكريم، ومخالفة الخليفتين الراشدين للقرآن ومتابعة المسلمين لهما ما نصه :
( من جميع ما تقدم يتضح أن مخالفة الشيخين للقرآن لم تكن عند المسلمين شيئا مهما جدا، وأن المسلمين إما كانوا داخلين في حزب الشيخين ومؤيدين لهما وأما كانوا ضدهما ولا يجرئون أن يقولوا شيئا أمام أولئك الذين تصرفوا مثل هذه التصرفات تجاه رسول الله وتجاه ابنته . وحتى إذا كان أحدهم يقول شيئا فإن كلامه لم يكن ليؤخذ به، والخلاصة : حتى لو كانت هذه الأمور ذكر صريح في القرآن، فإن هؤلاء لم يكونوا ليكفوا عن نهجهم، ولم يكونوا ليتخلوا عن المنصب .(115/7)
ولكن، وحيث أن أبا بكر كان أكثر تظاهرا من سواه، فإنه جاء بحديث أنهى به المسالمة، فأقدم على ما أقدم عليه بشأن الإرث كما أنه لم يكن من المستبعد بالنسبة لعمر أن يقول: بأن الله أو جبرائيل، أو النبي: قد أخطأوا في إنزال هذه الآية فيقوم أبناء العامة بتأييده كما قاموا بتأييد فيما أحدثه من تغييرات في الدين الإسلامي، ورجحوا حديثه عن الإمامة وأولي الأمر :
( وإننا هنا لا شأن لنا بالشيخين، وما قاما به من مخالفات للقرآن ومن تلاعب بأحكام الإله،وما حللاه وحرّماه من عندهما، وما مارساه من ظلم ضد فاطمة ابنة النبي وضد أولاده، ولكننا نشير إلى جهلهما بأحكام الإله، والدين … إن مثل هؤلاء الأفراد الجهال الحمقى والأفاقون والجائرون غير جديرين بأن يكونوا في موضع الإمامة، وإن يكونوا ضمن أولي الأمر ) كشف الأسرار (ص107-108) .
ولذلك يطلق الخميني على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (الجبت والطاغوت ) ويسميهما ( صنمي قريش) ويرى أن لعنهما واجب، وأن من يلعنهما، ويلعن أمهات المؤمنين عائشة وحفصة ابنتيهما، وزوجتي رسول الله(ص) له فضل وأجر عظيمان .
وقد أصدر خميني مع جماعة آخرين نص الدعاء المتضمن هذه المهازل الكفرية ونحن نورده هنا بتمامه منقولا عن " تحفة العوام مقبول (ص422-423) المطبوع في لاهور :
" دعاء صنمي قريش "
بسم الله الرحمن الرحيم … اللهم صل على محمد … وآل محمد … اللهم العن صنمي قريش … وجبتيهما … وطاغوتيهما… وإفكيهما … وابنتيهما … اللذين خالفا أمرك… وأنكرا وحيك… وجحدا إنعامك … وعصيا رسولك… وقلبا دينك … وحرّفا كتابك… وأحبا أعداءك… وجحدا آلاءك… وعطلا أحكامك… وأبطلا فرائضك… ألحدا في آياتك… وعاديا أولياءك… ووليا أعداءك… وخربا بلادك… وأفسدا عبادك .(115/8)
اللهم العنهما… واتباعهما… وأولياءهما… وأشياعهما… ومحبيهما… فقد أخربا بيت النبوة… وردما بابه… ونقضا سقفه… وألحقا سماءه بأرضه… وعاليه بسافله… وظاهره بباطنه… واستأصلا أهله… وأبادا أنصاره… وقتلا أطفاله… وأخليا منبره من وصيه، وواري علمه … وجحدا إمامته … وأشركا بربهما… !فعظم ذنبهما… وخلدهما في سقر… وما أدراك ما سقر… لا تبقي ولا تذر… !
اللهم العنهم بعدد كل منكر أتوه… وحق أخفوه… ومنبر علوه… ومؤمن أرجوه … ومنافق ولّوه… وولي آذوه … وطريد آووه… وصادق طردوه… وكافر نصروه … وإمام قهروه… وفرض غيروه… وأثر أنكروه … وشر آثروه… ودم أراقوه… وخير بدلوه… وكفر نصبوه… وكذب دلسوه… وإرث غصبوه… وفيء اقتطعوه… وسحت أكلوه… وخمس استحلوه… وباطل أسسوه… وجور بسطوه… ونفاق أسروه… وغدر أضمروه… وظلم نشروه… ووعد اخلفوه… وأمانة خانوه… وعهد نقضوه… وحلال حرموه… وحرام أحلوه… وبطن فتقوه… وجنين أسقطوه… وضلع دقوه… وصك مزقوه… وشمل بددوه… وعزيز أذلوه… وذليل أعزوه… وذو حق منعوه… وكذب دلسوه… وحكم قلبوه… وإمام خالفوه… ! اللهم العنهم بعدد كل آية حرفوها… وفريضة تركوها… وسنة غيروها… وأحكام عطلوها… ورسوم قطعوها… ووصية بدلوها… وأمور ضيعوها… وبيعة نكثوها… وشهادات كتموها…ودعوات أبطلوها… وبينة أنكروها… وحيلة أحدثوها… وخيانة أوردوها… وعقبة ارتقوها… ودباب دحرجوها… وأزيان لزموها… اللهم العنهم في مكنون السر… وظاهر العلانية… لعنا كثيرا… أبدا… دائما… دائبا سرمدا… لا انقطاع لعدده… ولا نفاد لأمده… لعنا يعود أوله… ولا ينقطع آخره… لهم… ولأعوانهم… وأنصارهم… ومحبيهم… ومواليهم… والمسلمين لهم… والمائلين إليهم… والناهقين باحتجاجهم… والناهضين بأجنحتهم… والمقتدين بكلامهم… والمصدقين بأحكامهم… ! " قل أربع مرات ": اللهم عذبهم عذابا يستغيث منه أهل النار آمين رب العالمين .(115/9)
" ثم تقول أربع مرات " اللهم العنهم جميعا… ! اللهم صل على محمد… وآل محمد… فأغنني بحلالك عن حرامك… وأعذني من الفقر… رب إني أسأت وظلمت نفسي… واعترفت بذنبي… وها أنا ذا بين يديك… فخذ لنفسك رضاها من نفسي… لك العتبى لا أعود… فإن عدت، فعد علي بالمغفرة والعفو لك… بفضلك… وجودك… بمغفرتك… وكرمك… يا أرحم الراحمين… وصل الله على سيد المرسلين… وخاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين… برحمتك يا أرحم الراحمين ".
علما بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو زوج أم كلثوم بنت فاطمة الزهراء وعلي بن أبي طالب وأخت الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين .
2- أما الكلام على الخلفية الثالث عثمان رضي الله عنه، فهو لا يحتاج إلى إغراق، فهو عنده كافر بلا ريب تشهد على ذلك كتبه. فضلا عن عشرات الخطب والإذاعات التي تبثها الإذاعة الإيرانية باللغتين العربية والفارسية، ومما هو معلوم عند الناس (1).
3- ولذلك فإن خميني حينما يتحدث عن الحومة الإسلامية الراشدة يتجاهل حكومة الخلفاء الراشدين الثلاثة الذي سبقوا عليا رضي الله عنه ، ولا يشير إلا إلى حكم الرسول وحكم علي ، فيقول مثلا: " لقد ثبت بضرورة الشرع والعقل أن ما كان ضروريا أيام الرسول(ص) وفي عهد الإمام أمير المؤمنين من وجود الحكومة لا يزال ضروريا إلى يومنا هذا " ( الحكومة الإسلامية: 26) .
ويقول أيضا: " وقد كان الرسول وأمير المؤمنين يقولون ويعلمون" (نفسه74) .
4- يعد الخميني الصحابة من زمرة المنافقين، لأنهم – فيما زعم لم يطالبوا بحق أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالخلافة، وأتهم بعضهم بوضع الحديث على لسان رسول الله (ص) وقد مرّ بنا اتهامه لأبي بكر بذلك، كما صرح في كتابه الحكومة الإسلامية ص71 أن الصحابي الجليل سمرة بن جندب كان يضع الحديث أيضا .(115/10)
5- عن عنجهية خميني الفارسية، وغروره وحقده الدفين على الإسلام والصحابة تجعله دائم التصريح بما يقلل من شأنهم، ويطعن فيهم، فقد ذكر في خطاب له لمناسبة عيد نوروز سنة 1982- وهو عيد الفرس ولا يمت إلى الإسلام بصلة – الذي تحتفل به في الحادي والعشرين من آذار من كل عام .
" أقول صراحة: بأنه لا يوجد شعب كشعب إيران، ولا مجلس كمجلس إيران، ولا قضاء كقضاء إيران، ولا شرطة كشرطة إيران منذ صدر تاريخ العالم وحتى يومنا هذا … من أفضل العهود في الإسلام عهد الرسول الأكرم، ففي عهد الرسول الأكرم عندما كان في مكة لم تكن هناك حكومة وعندما جاء إلى الدينة وقامت الحكومة تعرفون جميعكم بأن جميع الذين كانوا معه ماذا كانوا يعملون معه ؟ لقد كانوا يتذرعون بشتى الذرائع يعودون ( من الجهاد) بذريعة ما. لقد كان النبي في عهده مظلوما أكثر من الآن لم يكن يطيعونه " .
ويقول في خطاب له لدى استقباله أئمة جمعة مازندران في 10/3/1982 : " إن الحماسة والشوق للتوجه إلى جبهات القتال والاندفاع نحو الشهادة لم يكن له نظير حتى في عهد رسول الله وأمير المؤمنين سلام الله عليه " .
وهكذا لم يستثن خميني أحدا من الصحابة، فجعلهم متخاذلين جبناء يرسلهم الرسول(ص) إلى القتال، فيعودون منه متذرعين بشتى الذرائع، ونسي أن الصحابة ( المتخاذلين) هؤلاء هم الذي قوضوا إمبراطورية أجداده بين عشية وضحاها وان هؤلاء الصناديد فتحوا العالم في سنين قلائل وكانوا دعاة حق وخير وعدل ومحبة وسماحة وسلام، ولكن حقده الدفين على العرب والمسلمين أعمى بصيرته ، وجعله كحاطب ليل، ولا يدري ما يحطب .(115/11)
وقد امتد حقد خميني إلى كل رجالات المسلمين في الدولة العربية الإسلامية، فقد ذكر في كلمة له في أعضاء مجلس الشورى في 1/6/1982: " إن أكثر القوانين في الدولة الإسلامية كانت خلافا لمسار الإسلام، وإن منفذي هذه القوانين ورجال القضاء كانوا ينصبون خلافا للموازين الإسلامية، وهم الآن في النار". ويعد من يتحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما يتحاكم إلى الطاغوت. وهو يرمى بالجهل كل الخلفاء المسلمين الذين تعاقبوا على خلاف المسلمين ، فيقول عن هارون الرشيد : أي ثقافة حازها وكذلك من قبله ومن بعده( الحكومة الإسلامية:132) .
وهكذا يهدم خميني كل القمم الإسلامية ابتداء برسول الله(ص) وانتهاء بالناس، فهو يتكلم في صحابته، ويكفرهم ويتهمهم بوضع الحديث، ويرميهم بالنفاق والجبن، ومخالفة الله ورسوله ، ويلعن أمهات المؤمنين وثقات المحدثين والفقهاء والعلماء من أهل الصدر الأول الذين أرسوا الثقافة العربية الإسلامية يعلمهم الجم وجهادهم المتواصل، وإخلاصهم المتفاني، ويتكلم بكل قبح ووقاحة في سير الخلفاء الذين توالوا على حكم الدولة العربية الإسلامية، فإذا أبقى من الإسلام … هذا هو الهدم المتعمد لكل المآثر الإسلامية والقيم الأصيلة .
الخميني الطائفي
في الوقت الذي يسعى فيه المسلمون إلى توحيد صفوفهم ونبذ الخلافات المفرقة من طائفية ومذهبية وعنصرية التي جرت كثيرا من الويلات على أمة العرب والمسلمين في ماضيهم وحاضرهم ويبذلون الجهود المحمودة في هذا الاتجاه لما فيه من مصحلة أكيدة لتضامن المسلمين، وتكثيف جهودهم في مجابهة الأخطار والتحديات المحدقة بهم نجد هذا نصب نفسه إماما للمسلمين يكرس الطائفية كلما وجد إلى ذلك سبيلا فيظهر ذلك الاتجاه في كتاباته وخطبه ودستور دولته ( الإسلامية) المزعومة وتطبيقاتها العملية.(115/12)
والذي يريد في الطين بلة أن طائفية الخميني طائفية منفردة في نوعيتها، إذ أنها طائفية ممزوجة بالعنصرية الفارسية، حيث جعل من الإسلام الذي يعتقده دينا قوميا فارسيا، فأصبح مغايرا في كلياته وجزئياته للدين القويم الذي جاء به الرسول الكريم (ص).
فلأول مرة في تاريخ الحكومات الإسلامية نجد دستورا رسميا يكرس الأسس الفكرية لطائفة معينة في الحكم على الرغم من تعدد المذاهب الإسلامية، فينص على أن الدستور ينطلق من قاعدة ولاية الأمر، والإمامة المستمرة، كما ينص على أن:
" الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثنى عشري، وهذه المادة غير قابلة للتغيير إلى الأبد ( المادة 12) " .
أما المذاهب الإسلامي الأخرى حنفية وشافعية ومالكية وحنبلية و زيديه ، فإنه يقرر لها الحرية في العبادة والأحوال الشخصية وفق فقهها :
مثلها في ذلك مثل الأقليات الدينية غير الإسلامية من زرادشت ويهود ومسيحيين ( مادة 13) .
وهكذا وضع خميني تكريسا أبديا لطائفية في أعلى قانون للبلاد هو الدستور، وجعل المذاهب الإسلامية الأخرى منزلة مساوية لمنزلة المجوس واليهود والنصارى، ثم مزج الطائفية بعنصرية إيرانية واضحة حينما نص في الدستور على الشروط التي ينبغي توفرها في رئيس هذه الدولة ( الإسلامية ) :
" أن يكون فارسي الأصل،ويحمل الجنسية الإيرانية … مؤمنا ومعتقدا بمبادئ الجمهورية الإسلامية والمذهب الرسمي للدولة ( المادة 115) .
وهكذا حرم كل المسلمين من الترشيح لرئاسة دولته (الإسلامية) من غير الإيرانيين، كما حرم كل متبع لمذهب يغاير مذهبه من الترشيح لها، وهو أمر لم يشهد التاريخ له مثيلا في العصب الطائفي العنصري المقيت .(115/13)
وقد أبانت الممارسات التي قام بها رجال خميني بعد قيام دولته الانحياز التام للعنصر الفارسي دون الأقليات القومية الإيرانية الأخرى ممن يعتقون الإسلام، وهو انحياز لم يعد خافيا على أحد، تمثل في تصديهم لأبسط حقوق العرب في عربستان والأكراد في كردستان والبلوش وغيرهم .
كما أن العاصمة الإيرانية طهران خالية من أي مسجد لأهل السنة يقيمون فيه الجمعة، ويذكر العلامة محمد عبد القادر آزاد رئيس مجلس علماء باكستان الذي زار إيران عدة مرات بدعوة من الحكومة الإيرانية الخمينية كان آخرها سنة 1402هـ إنه منذ ثلاث سنوات وعد الخميني في لقاء مع وفد أهل السنة برئاسة الأستاذ الشيخ عبد العزيز رئيس الخطباء لأهل السنة بزاهدان بإعطاء قطعة أرض يشاد عليها مسجد لأهل السنة في طهران، وزعم دفع ثمنها ،وفقد اصدر الخميني الأمر لغصب الثمن المسدد،والسجن لمن سدد هذا الثمن ويقول أيضا: ورغم مطالبتي للخميني في العام الماضي بإنجاز وعده لأهل السنة، فوجئت في المؤتمر الذي حضرته هذا العام (1402هـ) أن قال لي بعض أنصاره : لو أعطينا قطعة الأرض ليقام عليها مسجد لأهل السنة، فإنه يصبح مسجدا ضرارا ( الفتنة الخمينية /115) .
والحق أن خميني لم ينطلق هذا المنطلق من عبث، فإنه تراثه الفكري المتمثل بكتاباته العقائدية والفقهية والسياسية يشير من غير لبس إلى أن التجسد الكامل لكل النوازع والأهواء، والبدع التي اعتنقتها طوائف الغلاة والزنادقة، وجعلت منها دستورا لحياتها التي قامت على الإباحة، وإسقاط التكاليف، والتشنيع على العرب المسلمين تحت ستار مصطنع ومختلق من والأممية " والدعوة إلى" التسوية " وسواهما من البراقع التي أخفت وراءها حقائق برامجها الهدامة .
1- في خطاب له في 21/6/1982 أكد خميني أن أتباعه هم وحدهم الفرقة الناجية وأن جميع المسلمين الآخرين في النار .(115/14)
2- أنه يعتقد أن ( دين مخالفيه ناقص لم يكتمل ، فيقول في رسالته " التعادل والترجيح" (ص26) " والذي يمكن أن يقال: إن على اختلاف الأحكام بين العامة والخاصة واختفائها عن العامة وتأخير الخصوصيات كثيرة منها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بلغ جميع الأحكام الكلية على الأمة ولكن لم تكن دواعي الحفظ في صدر الشريعة وأول بد الإسلام قوية … " .
فالسبب في هذا النقصان عند الخميني أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا على استعداد لحفظ الأحكام الإسلامية، لأنهم ما صحبوا النبي (ص) إلا من أجل الدنيا، ولأن هذا العلم مقصور على الأئمة الذين يمثلون ( مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل) فيقول في (ص27) من رسالته: " التعادل والترجيح " آنفة الذكر: " ومنها أن الأئمة عليهم السلام لامتيازهم الذاتي من سائر الناس في فهم الكتاب والسنة، بعد امتيازهم منهم في سائر الكمالات فهموا جميع التفريعات المتفرعة على الأصول الكلية التي شرعها رسول الله(ص) ونزل بها الكتاب الإلهي، تفتح لهم من كل باب فتحه رسول الله(ص) للأمة ألف باب حين كان غيرهم قاصرين . فعلم الكتاب والسنة ، وما يتفرع عنهما من شعب العلم، ونكت التنزيل موروث لهم خلفا عن سلف، وغيرهم من محرمون بحسب نقصانهم عن هذا العلم الكثير النافع، فيعولون على اجتهادهم الناقص " أ.هـ .(115/15)
3- وجوب مخالفة أهل السنة في كل شئ حتى في الأخبار بحيث أن مقياس صحة الخبر عنده هو مخالفة لخبر أهل السنة ، وذلك متأت عن اعتقاده الجازم بأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسألون الإمام عليا رضي الله عنه عن مسائل، فإذا عرفوها، وضعوا ما يناقضها، فكتب بحثا في رسالته " التعادل والترجيح " (80-81): " في حالة الأخبار الواردة في مخالفة العامة ( أي أهل السنة) وهي أيضا طائفتان: إحداهما: ما وردت في خصوص الخبرين المتعارضين، وثانيهما: ما يظهر منها لزوم مخالفتهم وترك الخبر الموافق لهم مطلقا. ثم أورد خميني مجموعة من الأقوال المنسوبة إلى الأئمة عليهم السلام زورا في وجوب مخالفة أهل السنة، وعلق عليها بقوله: " ولا يخفى وضوح دلالة هذه الأخبار على أن مخالفة العامة مرجحة في الخبرين المتعارضين . مع اعتبار سند بعضهما، بل صحة بعضها على الظاهر، واشتهار مضمونها بين الأصحاب بل هذا الترجيح هو المتداول العام الشائع في جميع أبواب الفقه وألسنة الفقهاء " أ . هـ .
أما في الفتيا، فإنه يرى أن اتباعه إذا عاشوا في بلد ليس فيه من علمائهم وأرادوا أن يعرفوا حكم مسألة ما، فما عليهم إلا أن يسألوا عالما من طائفة أخرى ويأخذون بخلاف ما قال، فيكون ذلك هو الصواب(ص82 من الرسالة السابقة ) .
وقد انتهى الخميني من بحثه إلى نتيجة يقرر بها ذلك فيقول: " فتحصل من جميع ما ذكرنا من أول البحث إلى هنا أن المرجح المنصوص ينحصر في أمرين، موافقة الكتاب السنة ومخالفة العامة، فأي سنة هذه التي تخالف مجموعة المذاهب الإسلامية الأخرى ولو كانت هذه المخالفة قائمة على أساس من دليل العقل أو الترجيح في الأدلة فإ‘ن الأمر، وعد ذلك من أوجه الخلاف المقبولة بين أئمة التشريع، مما يتسع لها صدر الشريعة بإجماع الآراء .(115/16)
ولكن أن يكون مستند هذه المخالفة مجرد الطعن في وحدة الأمة ويهدف تمزيق الألفة بين أبنائها، فذلك ما لا يجئ إلا من صاحب فتنة سوداء يريد الشر للأمة وعقيدتها سواء بسواء، فينخرط في سلك أسلافه من الأيام مسملية والبابية والقرامطة وسائر صنوف الزنادقة ممن حاولوا تحت شعار العودة إلى الإسلام، هدم الإسلام وذبح أهله ، وتدنيس مقدساته، والتشهير بالعرب مادة الإسلام وحملته… !!
4- ويرى خميني أن وضع اليد على الأخرى في الصلاة من مبطلاتها فيقول في كتابه الوسيلة: 1/280 .
" مبطلات الصلاة أمور، أحدها: الحدث، ثانيهما: التكفير، وهو وضع إحدى اليدين على الآخر نحو ما يصنعه غيرنا، ولا بأس به حال التقية " .
فانظر كيف يعلم أتباعه التقية أن أرادوا مع أصحاب المذاهب الأخرى .
5- يعرض الخميني إعراضا تاما عن كل كتب المذاهب الأخرى،
ويرفض الاستدلال بأية رواية منها، ولا سيما في كتابه " الحكومة الإسلامية "، ولا يؤمن بالنصوص التي جاءت في كتب مذهبه، وهو أمر في غاية التعصب والطائفية .
كل هذه الأمور وغيرها مما تزحزح به كتابات خميني توضح من غير شك طائفية هذا الذي اتخذ الدين ستارا لتحرير أهدافه التوسعية العدوانية، وعمله الدائم من أجل هدم الإسلام وتفتيت وحدة المسلمين،وهو لم يؤمن يوما بإقامة غير الدولة الفارسية، وفقد وجهت إليه صحيفة الكفاح هذا السؤال: " الحكومة الإسلامية التي تدعون إليها هي الدولة الإسلامية القديمة تحاولون إحياءها أم إنها عمل تجديدي" ؟ فأجاب: " لقد حاول أصحابنا منذ البداية تأسيس دولة العدل الإسلامية، ولأن هذه الدولة أو هذه الحكومة وجدت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الإمام علي عليه السلام، فإننا نؤمن بأنها قابلة للتجديد " .(115/17)
فلينتبه المسلمون إلى مقاصد الدجال الخبيثة في هدم كل القيم الإسلامية الأصيلة والطعن في كل ما يفخر به العرب والمسلمون من رجال عظماء وقادة ومفكرين، عن طريق تولي بعضهم في الظاهر، وتكفير جملتهم، فإذا أبقى من تاريخنا المجيد وقممه المشرفة ؟
-----------------------
(1) وجهت مجلة الشهيد الإيراني في عددها رقم 38 الصادر بتاريخ 9/4/1980 اتهاما إلى الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بأنه كان طاغية يعذب صحابة رسول الله ظلما !!؟؟(115/18)
صدق النبأ في بيان حقيقة عبد الله بن سبأ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
أحبتي في الله نزولاً عند رغبة أحد الأخوة الأعزاء ، أعيد نشر ما كتبته منذ سنة تقريباً من سلسة حلقات عبد الله بن سبأ ، و ما سببه من فرقة للأمة الإسلامية ، فهاأنذا ألبي هذا الطلب بكل رحابة صدر ، و أحب أن أنبه الأخوة الأفاضل عن وجود مجموعة من الكتب والتي أنصح باقتنائها للفائدة ، و هي : كتاب ( عبد الله بن سبأ و أثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام للدكتور سليمان بن حمد العودة ) ، و كتاب : ( تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدثين ، للدكتور : محمد أمحزون ) ، و كتاب : ( عبد الله بن سبأ حقيقة لا خيال ، للدكتور : سعدي مهدي الهاشمي ) و كتاب : ( بذل المجهود في إثبات مشابهة الرافضة لليهود ، عبد الله الجميلي ) ، و كتاب : ( العنصرية اليهودية و آثارها في المجتمع الإسلامي والموقف منها ، للدكتور : أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزغيبي ) ، فهي من أفضل الكتب التي تناولت الحديث عن عبد الله بن سبأ ، بشيء من التفصيل أو الإيجاز الغير مخل ، كما وأني لم آلوا جهداً في البحث و الحديث عن أشياء لم يتطرق إليها الأساتذة ، حتى تعم الفائدة و يعم النفع ، و الله أسأل أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ، و أن يهدي بها من ضل عن الصراط المستقيم .
و الآن إلى الموضوع ..
إن من أكبر الفِرَق التي كانت و ما تزال وبالاً و شراً على المسلمين على طول تاريخهم و في جميع مراحل حياتهم ، هي فرقة الشيعة على تعدد طوائفها و اختلاف نحلها ، بدءاً بالسبئية أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي ، الذي كان رأساً في إذكاء نار الفتنة والدس بين صفوف المسلمين ، و الذي وصل الأمر بهم إلى تأليه علي رضي الله عنه ، و قبل أن أبدأ بالموضوع لابد من مقدمة توضح الموضوع و تشرح المضمون .
أصل ابن سبأ و منشأه :-(116/1)
اختلف أصحاب المقالات والتاريخ في هوية عبد الله بن سبأ ، و من ذلك اختلفوا في بلده و قبيلته ، يذكر القلقشندي في قلائد الجمان (ص 39 ) : أن يعرب بن قحطان ولد يشجب ، و ولد ليشجب ( سبأ ) و اسم سبأ هذا عبد شمس ، و قد ملك اليمن بعد أبيه ، و أكثر من الغزو والسبي ، فسمي ( سبأ ) وغلب عليه حتى لم يسم به غيره ، ثم أطلق الاسم على بنيه .. و هم الوارد ذكرهم في القرآن .
على أن المصادر التاريخية لا تذكر شيئاً واضحاً عن أصل السبأيين ، و الذي ينتسب إليهم عبد الله بن سبأ ، و من المحتمل أنهم كانوا في الأصل قبائل بدوية تتجول في الشمال ثم انحدرت نحو الجنوب إلى اليمن حوالي ( 800 ق م ) ، و هي عادة العرب في التجوال ، أو نتيجة ضغط الآشوريين عليهم من الشمال ، واستقروا أخيراً في اليمن وأخذوا في التوسع . راجع : محاضرات في تاريخ العرب للدكتور صالح العلي (1/21) .
و منهم من ينسب ابن سبأ إلى ( حمير ) ، و هي قبيلة تنسب إلى حمير بن الغوث بن سعد بن عوف بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير بن سبأ الأصغر بن لهيعة بن حمير بن سبأ بن يشجب هو حمير الأكبر ، و حمير الغوث هو حمير الأدنى و منازلهم باليمن بموضع يقال له حمير غربي صنعاء . أنظر : معجم البلدان لياقوت الحموي (2/306) .
ومن الذين قالوا بذلك : ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء ( 5/46) ، حيث يقول : والقسم الثاني من فرق الغالية يقولون بالإلهية لغير الله عز وجل ، فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبأ الحميري .(116/2)
أما البلاذري في أنساب الأشراف (5/240) ، و الأشعري القمي في المقالات والفرق (ص 20) ، والفرزدق في ديوانه ( ص 242-243) فينسبون ابن سبأ إلى قبيلة ( همدان ) ، و همدان بطن من كهلان من القحطانية و هم بنو همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان ، و كانت ديارهم باليمن من شرقيه . معجم قبائل العرب لرضا كحالة (3/1225) . فهو ( عبد الله بن سبأ بن وهب الهمداني ) كما عند البلاذري ، و ( عبد الله بن سبأ بن وهب الراسبي الهمداني ) كما عند الأشعري القمي ، أما عن الفرزدق فقد ذكر نسبة ابن سبأ إلى همدان في قصيدته التي هجا فيها أشراف العراق و من انضم إلى ثورة ابن الأشعث في معركة دير الجماجم سنة (82هـ ) و يصفهم بالسبئية حيث يقول :
كأن على دير الجماجم منهم *** حصائد أو أعجاز نخل تقعّرا
تَعَرّفُ همدانية سبئية *** و تُكره عينيها على ما تنكّرا . الخ .
و يروي عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق ( ص 235) ، أن ابن سبأ من أهل ( الحيرة ) ، قال : إن عبدالله بن السوداء كان يعين السبأية على قولها ، و كان أصله من يهود الحيرة ، فأظهر الإسلام .
و يروي ابن كثير في البداية والنهاية (7/190) ، أن أصل ابن سبأ من الروم ، فيقول : و كان أصله رومياً فأظهر الإسلام و أحدث بدعاً قولية و فعلية قبحه الله .
أما الطبري و ابن عساكر ، فيرويان أن ابن سبأ من اليمن . قال الطبري في تاريخه (4/340) : كان عبدالله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء . و قال ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 29/3) : عبد الله بن سبأ الذي ينسب إليه السبئية وهم الغلاة من الرافضة أصله من أهل اليمن كان يهودياً .(116/3)
و الذي أميل إليه و أرجحه هو : أن ابن سبأ من اليمن ؛ و ذلك أن هذا القول يجمع بين معظم أقوال العلماء في بلد ابن سبأ ، و لو نظرنا في الأقوال السابقة لم نجد تعارضاً بين هذا القول و بين القول الأول الذي ينسب ابن سبأ إلى قبيلة ( حمير ) ، و القول الثاني الذي ينسبه إلى قبيلة ( همدان ) ، إذ القبيلتان من اليمن ، و لم يخالف في أن أصل ابن سبأ من اليمن إلا البغدادي الذي ينسبه إلى ( الحيرة )،و ابن كثير الذي ذكر أنه ( رومي ) الأصل .
أما البغدادي فقد اختلط عليه ابن السوداء بابن سبأ ، فظن أنهما شخصان ، يقول : و قد ذكر الشعبي أن عبد الله بن السوداء كان يعين السبأية على قولها .. ثم تحدث عن ابن السوداء و مقالته في علي رضي الله عنه ، إلى أن قال : فلما خشي – أي علي رضي الله عنه – من قتله – أي ابن السوداء – و من قتل ابن سبأ الفتنة التي خافها ابن عباس ، نفاهما إلى المدائن ، فافتتن بهما الرعاع . الفرق بين الفرق ( ص 235) .
والذي ذكر أنه من أهل الحيرة هو عبد الله بن السوداء و لم يتعرض لابن سبأ بشيء ، لهذا لا يمكننا أن نجزم بأن البغدادي نسب ابن سبأ المشهور في كتب الفرق و مؤسس فرقة السبأية إلى الحيرة ، فلعله قصد شخصاً آخر غيره ، و مما يدل على أنه لا يعني ابن سبأ ، أنه قال عند حديثه عن عبد الله بن السوداء : ( كان يعين السبأية على قولها ) ، فدل على أنه غير مؤسس السبأية .(116/4)
أما ابن كثير فلا أعلم أحداً من المؤرخين وأصحاب المقالات وافقه في نسبة ابن سبأ إلى ( الروم ) ، و قد جاء في بعض النسخ المطبوعة من البداية والنهاية كلمة ( ذمياً ) بدل ( رومياً ) انظر الطبعة الثانية ( 7/173) مكتبة المعارف ، فلعل أصل الكلمة ذمياً و لكن حدث في الكلمة تصحيف من قبل النساخ ، وكون ابن سبأ ذمياً لا ينافي ما تناقله العلماء من كونه يهودياً . و لهذا لا يعارض قوله هذا ما اشتهر نقله في كتب التاريخ والفرق من أن أصل ابن سبأ من اليمن .
فترجح بهذا أن ابن سبأ من اليمن و نحن لا نقطع بنسبته إلى قبيلة معينة لعدم توفر الأدلة على ذلك . و الله أعلم .
و قد اختلف المؤرخون وأصحاب المقالات أيضاً في نسبة ابن سبأ لأبيه ، فمنهم من ينسب ابن سبأ من جهة أبيه إلى ( وهب ) كما عند البلاذري في أنساب الأشراف (5/240) ، و الأشعري القمي في المقالات والفرق ( ص 20) والذهبي في المشتبه في الرجال (1/346) و المقريزي في الخطط (2/356) .
أما من قال أنه : ( عبد الله بن وهب الراسبي ) كما هو عند الأشعري القمي في المقالات ( ص 20) ، فلعل ذلك وقع نتيجة الخلط بين عبدالله بن سبأ هذا و بين عبد الله بن وهب الراسبي صاحب الخوارج ، و هناك فرق بين الشخصيتين ما لا يخفى على مطلع ، فعلى حين يكتنف شخصية ابن سبأ الغموض في المنشأ و الممات ، نجد شخصية الراسبي واضحة المعالم ، فهو رأس الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه ، شرح صحيح مسلم للنووي (7/172) ، و هو المقتول في وقعة النهروان ، العبر في خبر من غبر للذهبي (1/44) ، و قبل ذلك فقد عرفت حياته أكثر من ابن سبأ ، فقد شارك في الفتوح – فتوح العراق – وكان مع علي ثم خرج عليه خروجاً صريحاً . أنظر آراء الخوارج لعمار الطالبي (ص 94) .(116/5)
و مما يؤكد الفرق بين الاسمين ما نص عليه السمعاني في الأنساب (7/24) بقوله : ( عبدالله بن وهب السبئي رئيس الخوارج ، و ظني أن ابن وهب هذا منسوب إلى عبد الله بن سبأ ) .
و هناك من ينسب ابن سبأ من جهة أبيه أيضاً إلى حرب ، كما فعل الجاحظ في البيان والتبيين (3/81) ، و هو ينقل الخبر بإسناده إلى زحر بن قيس قال : ( قدمت المدائن بعد ما ضرب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، فلقيني ابن السوداء و هو ابن حرب .. ) .
ومعظم أهل العلم ينسبون ابن سبأ من جهة أبيه إلى سبأ ، فيقولون : ( عبد الله بن سبأ ) ، ومن هؤلاء البلاذري في أنساب الأشراف (3/382) ابن قتيبة في المعارف ( ص 622) و الطبري في التاريخ (4/340) وأبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين (1/86) ، والشهرستاني في الملل والنحل (1/174) ، والذهبي في الميزان ( 2/426) وابن حجر في لسان الميزان (3/290) ، وابن عبد ربه في العقد الفريد (2/405) و شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/483) ، وابن حبان في المجروحين ( 2/253) والجوزجاني في أحوال الرجال (ص38) و المقدسي في البدء والتاريخ (5/129) والخوارزمي في مفاتيح العلوم (ص 22) وابن حزم في الفصل في الملل والنحل ( 4/186) و الأسفرايني في التبصرة في الدين ( ص 108 ) وابن عساكر في تاريخ دمشق ( 29/3) ، والسمعاني في الأنساب (7/24) و ابن الأثير في اللّباب (2/98) ، و غيرهم الكثير . و من الرافضة : الناشئ الأكبر في مسائل الإمامة ( ص 22- 23 ) ، و الأشعري القمي في المقالات والفرق ( ص 20 ) و النوبختي في فرق الشيعة (ص 22 ) .(116/6)
أما نسب ابن سبأ ( لأمه ) فهو من أم حبشية ، كما عند الطبري في التاريخ (4/326-327) و ابن حبيب في المحبر (ص 308 ) ، و لذلك فكثيراً ما يطلق عليه ( ابن السوداء ) ففي البيان والتبيين ( 3/81) : ( ... فلقيني ابن السوداء ) و في تاريخ الطبري ( 4/326) : ( و نزل ابن السوداء على حكيم بن جبلة في البصرة ) ، وفي تاريخ الإسلام للذهبي (2/122) : ( ولما خرج ابن السوداء إلى مصر ) ، و هم بهذا يتحدثون عن عبد الله بن سبأ ، و لذلك قال المقريزي في الخطط ( 2/356) : ( عبد الله بن وهب بن سبأ المعروف بابن السوداء ) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (29/8) من قول علي رضي الله عنه : ( من يعذرني من هذا الحميت الأسود الذي يكذب على الله ورسوله يعني ابن السوداء ) . و مثل هذا كثير ...
وكما وقع الخلط والإشكال في نسبة ابن سبأ لأبيه ، وقع الخلط و تصور من غفلوا عن هذه النسبة لأمه ، أن هناك شخصين : ابن سبأ ، وابن السوداء ، ففي العقد الفريد لابن عبد ربه (2/241) : ( .. منهم عبد الله بن سبأ نفاه إلى ساباط ، و عبد الله بن السوداء نفاه إلى الخازر ) .
و يقول الاسفرايني في التبصرة ( ص 108) : ( و وافق ابن السوداء عبد الله بن سبأ بعد وفاة علي في مقالته هذه ) .
ومثل هذا وقع عند البغدادي في الفرق بين الفرق ( ص 235 ) : ( فلما خشي علي من قتل ابن السوداء وابن سبأ الفتنة نفاهما إلى المدائن ) .
والذي يترجح من مناقشة الروايات : أن ابن سبأ غير ابن وهب الراسبي ، وأنه هو نفسه ابن السوداء ، والله أعلم .(116/7)
و مما يحسن ذكره هنا أيضاً أن ابن سبأ كان أسود اللون ، و هذا يرجح كون أمه من الحبشيات ، ذكر ابن عساكر في تاريخه ( 29/7-8 ) : عن عمار الدهني قال : سمعت أبا الطفيل يقول : رأيت المسيب بن نجبة أتى به ملببة – أي ملازمه - يعني ابن السوداء و علي على المنبر ، فقال علي : ما شأنه ؟ فقال : يكذب على الله وعلى رسوله ، و جاء من طريق زيد بن وهب عن علي قال : ما لي ومال هذا الحميت الأسود ، و من طريق سلمة قال : سمعت أبا الزعراء يحدث عن علي ، قال : ما لي ومال هذا الحميت الأسود ، و جاء أيضاً من طريق زيد قال : قال علي بن أبي طالب : ما لي ولهذا الحميت الأسود ، يعني عبد الله بن سبأ وكان يقع في أبي بكر و عمر .
و يبقى بعد ذلك الأصل اليهودي لابن سبأ ، هل هو محل اتفاق أم تتنازعه الآراء ؟
يفترض المستشرق Hodgeson أن ابن سبأ ليس يهودياً في أغلب الاحتمالات ، مشايعاً في ذلك للمستشرق الإيطالي Levi Della Vida الذي يرى أن انتساب ابن سبأ إلى قبيلة عربية هي ( همدان ) كما في نص البلاذري الذي وقف عنده ( ليفي ديلا فيدا ) يمنع من أن يكون يهودياً . و هو كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في مذاهب الإسلاميين ( 2/30) : ( استنتاج لا مبرر له ، فليس هناك من تناقض بين أن يكون المرء يهودياً وأن يكون من قبيلة عربية .
وابن قتيبة رحمه الله أشار إلى يهودية بعض القبائل كما في المعارف ( ص 266 ) حيث يقول : ( كانت اليهودية في حمير و بني كنانة و بني الحارث بن كعب و كندة .
و فوق ذلك فإن الاتجاه الغالب في يهود اليمن أن أكثرهم من أصل عربي ، كما قال الدكتور جواد علي في تاريخ العرب قبل الإسلام ( 6/26) .
و مع ذلك فليس مقطوعاً بانتساب ابن سبأ إلى همدان – كما مر معنا – و حتى لو قطع بذلك ، فهل هذا الانتساب لهمدان ، انتساب على الحقيقة أم بالولاء ؟!(116/8)
و لئن كان هذا الشك في يهودية ابن سبأ عند بعض المستشرقين ، إنما جاء نتيجة اعتراض يقيني بأن ابن سبأ في تصوراته عن المهدي كان متأثراً بالإنجيل أكثر من تأثره بالتوراة ، و هو اعتراض قد يقلل من يهودية ابن سبأ ، إلا أن هذا الاعتراض يضعف حينما نتبين رأي بعض الباحثين في طبيعة اليهودية في بلاد اليمن – في تلك الفترة – وأنها امتزجت فيها المسيحية بالموسوية ، و كانت يهودية سطحية ، وأن يهودية ابن سبأ ربما كانت أقرب إلى يهودية ( الفلاشا ) و هم يهود الحبشة ، و هذه اليهودية شديدة التأثر بالمسيحية الحبشية . مذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي (2/28) .
و هذا الأصل اليهودي لابن سبأ لم يكن محل خلاف في الروايات التاريخية ، أو لدى كتب الفرق ، و في آراء المتقدمين ، أمثال : الطبري وابن عساكر وابن الأثير والبغدادي وابن حزم ، وأمثال شيخ الإسلام ، عليم رحمه الله .
سبب الاختلاف في تحديد هوية ابن سبأ :-
لا غرابة أن يحدث هذا الاختلاف الكبير بين أهل العلم في تحديد هوية و نسب ابن سبأ ، فعبد الله بن سبأ قد أحاط نفسه بإطار من الغموض والسرية التامة حتى على معاصريه ، فهو لا يكاد يعرف له اسم ولا بلد ، لأنه لم يدخل في الإسلام إلا للكيد له ، و حياكة المؤامرات والفتن بين صفوف المسلمين ، و لهذا لما سأله عبد الله بن عامر والي البصرة لعثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال له : ما أنت ؟ لم يخبره ابن سبأ باسمه و اسم أبيه ، و إنما قال له : إنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام و رغب في جوارك . تاريخ الطبري (4/326-327 ) .
و في رأيي أن تلك السرية التامة التي أطبقها ابن سبأ على نفسه سبب رئيسي في اختلاف المؤرخين والمحققين في نسبة ابن سبأ ، و غير مستبعد أن يكون ابن سبأ قد تسمى ببعض هذه الأسماء التي ذكرها المؤرخون ، بل واستعمل بعض الأسماء الأخرى المستعارة لتغطية ما قام به من جرائم و دسائس في صدر الدولة الإسلامية .(116/9)
نشأة ابن سبأ :-
على ضوء ما تقدم من المعلومات السابقة – في المقال السابق - ، أمكننا الوقوف على الأجواء التي نشأ فيها ابن سبأ ، و نستطيع أن نحدد عدد من النقاط :-
1 - بتغليب الروايات السابقة نجد أن ابن سبأ نشأ في اليمن ، سواء كان من قبيلة حمير أو همدان ، ولا نستطيع الجزم بأيهما .
2 – كان لليهود وجود في اليمن ، غير أنه لا نستطيع أن نحدد وقته على وجه الدقة ، و قد رجح بعض الأساتذة أنه يرجع إلى سنة (70م ) و ذلك حينما نزح اليهود من فلسطين بعد أن دمرها الإمبراطور الروماني ( تيتوس ) و حطم هيكل ( أورشليم ) وعلى إثر ذلك تفرق اليهود في الأمصار و وجد بعضهم في اليمن بلداً آمناً فالتجأوا إليه ، و بعد أن استولى الأحباش على اليمن سنة (525م ) بدأت النصرانية تدخل اليمن . اليمن عبر التاريخ لأحمد حسين (ص 158- 159) .
3 – على إثر هذا امتزجت تعاليم ( التوراة ) مع تعاليم ( الإنجيل ) و كانت اليهودية في اليمن يهودية سطحية . مذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي (2/28) .
4 – و لكن اليهودية و إن ضعفت في اليمن بدخول الأحباش فيها ، فإنها بقيت مع ذلك محافظة على كيانها ، فلم تنهزم و لم تجتث من أصولها . تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي (6/34) .
و لعلنا من خلال تلك الإشارات ، نستطيع أن نحدد المحيط الذي نشأ فيه عبد الله بن سبأ ، والبيئة التي صاغت أفكاره ، خاصة في عقيدة ( الرجعة ) و ( الوصية ) حينما قال : ( لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع و يكذب بأن محمداً يرجع ، و قد قال الله عز وجل إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى ، و إنه كان ألف نبي و وصي و كان على وصي محمد ، ثم قال : محمد خاتم الأنبياء و علي خاتم الأوصياء .. ) . تاريخ الطبري (4/340) .(116/10)
على كل حال فهي معلومات ضئيلة لا تروي غليلاً ، ولا تهدي سبيلاً ، و لعل مرد ذلك إلى المصادر التي بين أيدينا ، فهي لا تكاد تبين عن نشأة ابن سبأ ، كما أن المعلومات عن فتوة ابن سبأ قبل ظهوره غير موجودة ، و نحن هنا مضطرون للصمت عما سكت عنه الأولون حتى تخرج آثار أخرى تزيل الغبش و تكشف المكنون .
ظهور ابن سبأ بين المسلمين :-
جاء في تاريخ الطبري (4/340) و الكامل لابن الأثير (3/77) و البداية والنهاية لابن كثير(7/167) و تاريخ دمشق لابن عساكر (29/ 7-8 ) و غيرهم من كتب التاريخ ضمن أحداث سنة (35هـ ) : أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً من أهل صنعاء وأنه أسلم زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، و أخذ يتنقل في بلاد المسلمين يريد ضلالتهم ، فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم بالشام ، فلم يقدر على شيء فيها ، فأتى مصر واستقر بها و وضع لهم عقيدتي الوصية و الرجعة ، فقبلوها منه و كوّن له في مصر أنصاراً ممن استهواهم بآرائه الفاسدة .
لكن أين و متى كان أول ظهور لعبد الله بن سبأ بين المسلمين ؟
جاء في البداية والنهاية لابن كثير (7/183) ضمن أحداث سنة (34هـ ) ، أن عبد الله بن سبأ كان سبب تألب الأحزاب على عثمان . ثم أورده في أحداث سنة (35هـ) مع الأحزاب الذين قدموا من مصر يدعون الناس إلى خلع عثمان . البداية والنهاية (7/190) .
أما الطبري (4/331) وابن الأثير(3/147) فنجد عندهما ذكر لابن سبأ بين المسلمين قبل سنة ( 34هـ ) في الكوفة ، ( فيزيد بن قيس ) ذلك الرجل الذي دخل المسجد في الكوفة يريد خلع عامل عثمان ( سعيد ابن العاص ) إنما شاركه وثاب إليه الذين كان ابن السوداء يكاتبهم .(116/11)
و هذا يعني ظهور ابن سبأ قبل هذا التاريخ ، و تكوين الأعوان الذين اجتمعوا إلى يزيد بن قيس ، و تأكيد ذلك عند الطبري ( 4/326) وابن الأثير(3/144) ، ففي سنة ( 33هـ ) و بعد مضي ثلاث سنين من إمارة عبد الله بن عامر على البصرة يعلم بنزول ابن سبأ على ( حكيم بن جبلة ) و تكون المقابلة بين ابن عامر وابن السوداء والتي ذكرتها في بداية الموضوع .
ونستمر في الاستقراء فنجد ظهوراً لابن سبأ بين المسلمين قبل هذا التاريخ ، ففي الطبري (4/283) و ابن الأثير (3/114) ، و ضمن حوادث سنة (30هـ ) يرد ابن السوداء الشام ، و يلتقي بأبي ذر و يهيجه على معاوية – و سنأتي على تحقيق القول في قضية تأثير ابن سبأ على أبي ذر فيما بعد - .
ابن سبأ في الحجاز :-
لما كان ظهور ابن سبأ في الحجاز قبل ظهوره في البصرة والشام ، فلابد أن يكون قد ظهر في الحجاز قبل سنة ( 30هـ ) ، لأن ظهوره في الشام كان في هذا التاريخ ، و في الحجاز لا تكاد تطالعنا الروايات التاريخية على مزيد من التفصيل ، و لعل في هذا دلالة على عدم استقرار أو مكث لابن سبأ في الحجاز ، عدا ذلك المرور في طريقه التخريبي ، لكنه كما يبدو لم يستطع شيئاً من ذلك فتجاوز الحجاز إلى البصرة . تاريخ الطبري ( 4/340-341) .
ظهوره في البصرة :-(116/12)
و في البصرة كان نزول ابن سبأ على ( حكيم بن جبلة العبدي ) ، و خبره كما ورد في الطبري (4/ 326 ) : ( لما مضى من إمارة ابن عامر ثلاث سنين بلغه أن في عبد القيس رجلاً نازلاً على حكيم بن جبلة ، و كان حكيم رجلاً لصاً إذا قفلت الجيوش خنس عنهم ، فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ، و يتنكر لهم و يفسد في الأرض و يصيب ما يشاء ثم يرجع ، فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان ، فكتب إلى عبد الله بن عامر أن احبسه و من كان مثله فلا يخرج من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً ، فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها ، فلما قدم ابن السوداء نزل عليه ، و اجتمع إليه نفر فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرح ، فقبلوا منه واستعظموه .
و بقية خبر الطبري يفيدنا أنه لقي آذاناً صاغية في البصرة ، و إن كان لم يصرح لهم بكل شيء ، فقد قبلوا منه واستعظموه ، و شاء الله أن تحجم هذه الفتنة و يتفادى المسلمون بقية شرها و ذلك حينما بلغ والي البصرة ابن عامر خبر ابن سبأ ، فأرسل إليه و دار بينهما هذا الحوار : ( ما أنت ؟ فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام والجوار ، فقال ابن عامر : ما يبلغني ذلك ! اخرج عني ، فأخرجه حتى أتى الكوفة . تاريخ الطبري (4/326-327) .
ظهوره في الكوفة :-
الذي يبدو أن ابن سبأ بعد إخراجه من البصرة وإتيانه الكوفة ، لم يمكث بها طويلاً حتى أخرجه أهلها منها ، كما في بقية خبر الطبري (4/327) : ( فخرج حتى أتى الكوفة ، فأخرج منها فاستقر بمصر و جعل يكاتبهم و يكاتبونه ، و يختلف الرجال بينهم ) .
لكنه وإن كان قد دخل الكوفة ثم أخرج منها سنة ( 33هـ ) ، إلا أن صلته بالكوفة لم تنته بإخراجه ، فلقد بقيت ذيول الفتنة في الرجال الذين بقي يكاتبهم و يكاتبونه . الطبري (4/327) وابن الأثير (3/144) .
ظهوره في الشام :-(116/13)
في ظهور ابن سبأ في الشام يقابلنا الطبري في تاريخه نصان ، يعطي كل واحد منهما مفهوماً معيناً ، فيفيد النص الأول أن ابن سبأ لقي أبا ذر بالشام سنة (30هـ ) و أنه هو الذي هيجه على معاوية حينما قال له : ( ألا تعجب إلى معاوية ! يقول المال مال الله ، كأنه يريد أن يحتجزه لنفسه دون المسلمين ؟ وأن أبا ذر ذهب إلى معاوية وأنكر عليه ذلك ) . تاريخ الطبري (4/283) .
بينما يفهم من النص الآخر : أن ابن سبأ لم يكن له دور يذكر في الشام ، وإنما أخرجه أهلها حتى أتى مصر ، بقوله : ( أنه لم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ) تاريخ الطبري (4/340) .
و يمكننا الجمع بين النصين في كون ابن سبأ دخل الشام مرتين ، كانت الأولى سنة (30هـ ) ، و هي التي التقى فيها بأبي ذر ، و كانت الثانية بعد إخراجه من الكوفة سنة ( 33هـ ) ، و هي التي لم يستطع التأثير فيها مطلقاً ، و لعلها هي المعنية بالنص الثاني عند الطبري .
كما و يمكننا الجمع أيضاً بين كون ابن سبأ قد التقى بأبي ذر سنة (30هـ ) ، و لكن لم يكن هو الذي أثر عليه و هيجه على معاوية ، و يرجح هذا ما يلي :-
1 - لم تكن مواجهة أبي ذر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه وحده بهذه الآراء ، و إنما كان ينكر على كل من يقتني مالاً من الأغنياء ، و يمنع أن يدخر فوق القوت متأولاً قول الله تعالى { والذين يكنزون الذهب والفضة }[التوبة/34] .
2 - حينما أرسل معاوية إلى عثمان رضي الله عنه يشكو إليه أمر أبي ذر ، لم تكن منه إشارة إلى تأثير ابن سبأ عليه ، و اكتفى بقوله : ( إن أبا ذر قد أعضل بي و قد كان من أمره كيت و كيت .. ) . الطبري (4/283) .
3 - ذكر ابن كثير في البداية (7/170 ، 180) الخلاف بين أبي ذر ومعاوية بالشام في أكثر من موضع في كتابه السابق ، و لم يرد ذكر ابن سبأ في واحد منها ، و إنما ذكر تأول أبي ذر للآية السابقة .(116/14)
4 - ورد في صحيح البخاري ( 2/111) الحديث الذي يشير إلى أصل الخلاف بين أبي ذر و معاوية ، و ليس فيه أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى ابن سبأ ، فعن زيد بن وهب قال : ( مررت بالربذة ، فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه ، فقلت له ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } قال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا و فيهم ، فكان بيني و بينه في ذلك ، و كتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني ، فكتب إليّ عثمان أن اقدم المدينة ، فقدمتها ، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ، فقال لي : إن شئت تنحيت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل .. ) .
5 - و في أشهر الكتب التي ترجمت للصحابة ، أوردت المحاورة التي دارت بين معاوية وأبي ذر ثم نزوله الربذة ، و لكن شيئاً من تأثير ابن سبأ على أبي ذر لا يذكر . الاستيعاب لابن عبد البر (1/214) و أسد الغابة لابن الأثير (1/357) والإصابة لابن حجر (4/62) .
6 - وأخيراً فإنه يبقى في النفس شيء من تلك الحادثة ؛ إذ كيف يستطيع يهودي خبيث حتى و لو تستر بالإسلام أن يؤثر على صحابي جليل كان له من فضل الصحبة ما هو مشهود .
ظهور ابن سبأ في مصر :-(116/15)
على ضوء استقراء النصوص السابقة ، يكون ظهور ابن سبأ في مصر بعد خروجه من الكوفة ، و إذا كان ظهوره في البصرة سنة ( 33هـ ) ، ثم أخرج منها إلى الكوفة ، و من الكوفة استقر بمصر ، فإن أقرب توقيت لظهور ابن سبأ في مصر يكون في سنة ( 34هـ ) ، لأن دخوله البصرة و طرحه لأفكاره فيها و تعريجه على الكوفة ثم طرده منها ، واتجاهه بعد ذلك إلى مصر .. كل هذا يحتاج إلى سنة على الأقل ، و يؤكد هذا ابن كثير في البداية والنهاية (7/284) ، فيضع ظهور ابن سبأ في مصر ضمن أحداث سنة (34هـ ) ، و تابعه في ذلك السيوطي أيضاً في حسن المحاضرة (2/164) ، حيث أشار إلى دخول ابن سبأ مصر في هذا التاريخ .
أحبتي في الله استكمالاً لما بدأناه من هذه الحلقات ، سنقف إن شاء الله و على حلقتين متتاليتين ، على ذكر عدد من المحاور والتي تدور حول ورود أي ذكر لعبد الله بن سبأ أو السبئية – طائفته - في الكتب والمصادر المتقدمة ( السنية والشيعية ، المتقدمة منها والمعاصرة ) ؛ لأن ورود أي ذكر للسبئية دليل على انتسابها له ، و هذا دليل بدوره على وجود ابن سبأ في الحقيقة ، مع الرد على محاولات التشكيك في وجود عبد الله بن سبأ ، و ما ينسب إليه من أعمال ، و سأتّبع فيه الترتيب الزمني للأحداث :-
أولاً : من أثبت وجود عبد الله بن سبأ من الفرقين ..
أ – عبد الله بن سبأ عند أهل السنة :-
1 - جاء ذكر السبئية على لسان أعشى همدان ( ت 84هـ ) في ديوانه (ص 148) و تاريخ الطبري (6/83) و قد هجى المختار بن أبي عبيد الثقفي و أنصاره من أهل الكوفة بعدما فرّ مع أشراف قبائل الكوفة إلى البصرة بقوله :
شهدت عليكم أنكم سبئية وأني بكم يا شرطة الكفر عارف .(116/16)
2 - و جاء ذكر السبئية في كتاب الإرجاء للحسن بن محمد بن الحنفية (ت95هـ ) – راجع كتاب ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي للدكتور سفر الحوالي (1/345- 361) ، حيث تحدث عن معنى الإرجاء المنسوب للحسن ، و ذكر كلام أهل العلم في ذلك فليراجع للأهمية – ما يلي : ( و من خصومة هذه السبئية التي أدركنا ، إذ يقولون هُدينا لوحي ضل عنه الناس ) . رواه ابن أبي عمر العدني في كتاب الإيمان ( ص 249) .
3 - و هناك رواية عن الشعبي ( ت 103هـ ) ذكرها ابن عساكر في تاريخه (29/7) ، تفيد أن : ( أول من كذب عبد الله بن سبأ ) .
4 - و هذا الفرزدق ( ت 116هـ ) يهجو في ديوانه ( ص 242-243) ، أشراف العراق ومن انضم إلى ثورة عبد الرحمن بن الأشعث في معركة دير الجماجم ، و يصفهم بالسبئية ، حيث يقول :
كأن على دير الجماجم منهم حصائد أو أعجاز نخل تَقَعّرا
تَعَرّفُ همدانية سبئية و تُكره عينيها على ما تنكرا
رأته مع القتلى و غيّر بعلها عليها تراب في دم قد تعفّرا
و يمكن الاستنتاج من هذا النص أن السبئية تعني فئة لها هوية سياسية معنية و مذهب عقائدي محدد بانتمائها إلى عبد الله بن سبأ اليهودي المعروف ، صاحب المذهب .
5 - و قد نقل الإمام الطبري في تفسيره (3/119) رأياً لقتادة بن دعامة السدوسي البصري ( ت 117هـ ) ، في النص التالي : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة }[آل عمران/7] ، و كان قتادة إذا قرأ هذه الآية قال : ( إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري ) .
6 - وفي الطبقات الكبرى لابن سعد ( ت 230هـ ) ورد ذكر السبئية وأفكار زعيمها وإن لم يشر إلى ابن سبأ بالاسم . الطبقات (3/39) .
7 – و جاء عند ابن حبيب البغدادي ( ت 245هـ ) في المحبر ( ص 308) ، ذكر لعبد الله بن سبأ حينما اعتبره أحد أبناء الحبشيات .(116/17)
8 - كما روى أبو عاصم خُشيش بن أصرم ( ت 253هـ ) ، خبر إحراق علي رضي الله عنه لجماعة من أصحاب ابن سبأ في كتابه الاستقامة . أنظر : منهاج السنة لابن تيمية ( 1/7) .
9 - و جاء في البيان والتبيين (3/81) للجاحظ ( ت 255هـ ) ، إشارة إلى عبد الله بن سبأ .
10 - فقد ذكر الإمام البخاري ( ت 256هـ ) في كتاب استتابة المرتدين من صحيحه ( 8/50) عن عكرمة قال : ( أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تعذبوا بعذاب الله ) ، و لقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
ومن الثابت تاريخياً أن الذين حرقهم علي رضي الله عنه هم أتباع عبد الله بن سبأ حينما قالوا بأنه الإله .
و خبر إحراق علي بن أبي طالب رضي الله عنه لطائفة من الزنادقة تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح والسنن و المساند . أنظر على سبيل المثال : سن أبي داود (4/126) والنسائي (7/104) و الحاكم في المستدرك (3/538) .
11 - ذكر الجوزجاني ( ت 259هـ ) في أحوال الرجال ( ص 38) أن السبئية غلت في الكفر فزعمت أن علياً إلهاً حتى حرقهم بالنار إنكاراً عليهم واستبصاراً في أمرهم حين يقول :
لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناري و دعوت قنبرا .
12 - و يقول ابن قتيبة ( 276هـ ) في المعارف ( ص 267) : ( السبئية من الرافضة ينسبون إلى عبد الله بن سبأ ) . و في تأويل مختلف الحديث ( ص 73) يقول : ( أن عبد الله بن سبأ ادّعى الربوبية لعلي ، فأحرق علي أصحابه بالنار .
13 - و يذكر البلاذري ( ت 279هـ ) ابن سبأ من جملة من أتوا إلى علي رضي الله عنه يسألونه من رأيه في أبي بكر و عمر ، فقال : أو تفرغتم لهذا . أنساب الأشراف ( 3/382) .(116/18)
14 – و يعتبر الإمام الطبري ( ت 310هـ ) من الذين أفاضوا في تاريخهم من ذكر أخبار ابن سبأ معتمداً في ذلك على الإخباري سيف بن عمر . تاريخ الطبري ( 4/283 ، 326 ، 331 ، 340 ، 349 ، 398 ، 493 – 494 ، 505 ) .
15 - وأكد ابن عبد ربه ( ت 328هـ ) أن ابن سبأ و طائفته السبئية قد غلوّ في علي حينما قالوا : هو الله خالقنا ، كما غلت النصارى في المسيح ابن مريم عليه السلام . العقد الفريد ( 2/405) .
16 - و يذكر أبو الحسن الأشعري ( ت 330هـ ) في مقالات الإسلاميين (1/85) عبد الله بن سبأ وطائفته من ضمن أصناف الغلاة ، إذ يزعمون أن علياً لم يمت ، و أنه سيرجع إلى الدنيا فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً .
17 - و يذكر ابن حبان ( ت 354هـ ) في كتاب المجروحين ( 2/253) : ( أن الكلبي سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ ، من أولئك الذين يقولون : إن علياً لم يمت ، وإنه راجع إلى الدنيا قبل قيام الساعة ) .
18 – يقول المقدسي ( ت 355هـ ) في كتابه البدء والتاريخ ( 5/129) : ( إن عبد الله بن سبأ قال للذي جاء ينعي إليه موت علي بن أبي طالب : لو جئتنا بدماغه في صرة لعلمنا أنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ) .
19 - و يذكر الملطي ( ت 377هـ ) في كتابه التنبيه و الرد على أهل الأهواء و البدع ( ص 18) فيقول : ( ففي عهد علي رضي الله عنه جاءت السبئية إليه وقالوا له : أنت أنت !! ، قال : من أنا ؟ قالوا : الخالق البارئ ، فاستتابهم ، فلم يرجعوا ، فأوقد لهم ناراً عظيمة وأحرقهم .
20 - و ذكر أبو حفص ابن شاهين ( ت 385هـ ) أن علياً حرّق جماعة من غلاة الشيعة ونفى بعضهم ، و من المنفيين عبد الله بن سبأ . أورده ابن تيمية في منهاج السنة (1/7) .
21 - و يذكر الخوارزمي ( ت 387هـ ) في كتابه مفاتيح العلوم (ص 22 ) ، أن السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ .
22 - و يرد ذكر عبد الله بن سبأ عند الهمذاني ( ت 415هـ ) في كتابه تثبيت دلائل النبوة (3/548) .(116/19)
23 - و ذكر البغدادي ( ت 429هـ ) في الفرق بين الفرق ( ص 15 و ما بعدها ) : أن فرقة السبئية أظهروا بدعتهم في زمان علي رضي الله عنه فأحرق قوماً منهم و نفى ابن سبأ إلى سباط المدائن إذ نهاه ابن عباس رضي الله عنهما عن قتله حينما بلغه غلوه فيه وأشار عليه بنفيه إلى المدائن حتى لا تختلف عليه أصحابه ، لاسيما و هو عازم على العودة إلى قتال أهل الشام .
24 - و نقل ابن حزم ( ت 456هـ ) في الفصل في الملل والنحل ( 4/186) : ( و القسم الثاني من الفرق الغالية الذين يقولون بالإلهية لغير الله عز وجل فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبأ الحميري لعنه الله ، أتوا إلى علي بن أبي طالب فقالوا مشافهة : أنت هو ، فقال لهم : ومن هو ؟ فقالوا : أنت الله ، فاستعظم الأمر و أمر بنار فأججت وأحرقهم بالنار ) .
25 - يقول الأسفرايني ( ت 471هـ ) في التبصرة في الدين ( ص 108) : ( إن ابن سبأ قال بنبوة علي في أول أمره ، ثم دعا إلى ألوهيته ، و دعا الخلق إلى ذلك فأجابته جماعة إلى ذلك في وقت علي ) .
26 - و يتحدث الشهرستاني ( ت548هـ ) في الملل والنحل (2/116، 155) عن ابن سبأ فيقول : ( و منه انشعبت أصناف الغلاة ) ، و يقول في موضع آخر : ( إن ابن سبأ هو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي ) .
27 – و ينسب السمعاني ( ت 562هـ ) في كتابه الأنساب ( 7/24) السبئية إلى عبد الله بن سبأ .
28 - و ترجم ابن عساكر ( ت 571هـ ) في تاريخه ( 29/3) لأبن سبأ بقوله : عبد الله بن سبأ الذي ينسب إلى السبئية ، و هم الغلاة من الرافضة ، أصله من اليمن ، و كان يهودياً وأظهر الإسلام .
29 - و يقول نشوان الحميري ( ت 573هـ ) في كتابه الحور العين ( ص 154) : ( فقالت السبئية إن علياً حي لم يمت ، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، و يردّ الناس على دين واحد قبل يوم القيامة ) .(116/20)
30 - و يؤكد فخر الدين الرازي ( ت 606هـ ) في كتابه اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص 57) ، كغيره من أصحاب المقالات والفرق خبر إحراق علي لطائفة من السبئية .
31 - و يذكر ابن الأثير ( ت 630هـ ) في كتابه اللباب ( ص 2/98) ارتباط السبئية من حيث النسبة بعبد الله بن سبأ . كما وأنه أورد روايات الطبري بعد حذف أسانيدها في كتابه الكامل ( 3/114، 144، 147، 147، 154 إلى غيرها من الصفحات ) .
32 - و ذكر السّكْسَكي ( ت 683هـ ) في كتابه البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان : ( أن ابن سبأ و جماعته أول من قالوا بالرجعة إلى الدنيا بعد الموت ) .
33 - و يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ( ت 727هـ ) أن أصل الرفض من المنافقين الزنادقة ، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق ، و أظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه ، وادعى العصمة له . أنظر مجموع الفتاوى ( 4/435) و ( 28/483) و في كثير من الصفحات في كتابه : منهاج السنة النبوية .
34 - و يرد ذكر عبد الله بن سبأ عند المالقي ( ت 741هـ ) في كتابه التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان ( ص 54) ، بقوله : ( و في سنة ثلاث و ثلاثين تحرك جماعة في شأن عثمان رضي الله عنه .. و كانوا جماعة منهم ، مالك الأشتر ، و الأسود بن يزيد .. و عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء .
35 - و عند الذهبي ( ت 748هـ ) في كتابه المغني في الضعفاء (1/339) و في الميزان (2/426) : ( عبد الله بن سبأ من غلاة الشيعة ، ضال مضل ) ، و ذكره أيضاً في تاريخ الإسلام ( 2/122-123) .(116/21)
36 - وذكر الصفدي ( ت 764هـ ) في كتبه الوافي بالوفيات (17/20) في ترجمة ابن سبأ : ( عبد الله بن سبأ رأس الطائفة السبئية .. قال لعلي أنت الإله ، فنفاه إلى المدائن ، فلما قتل علي رضي الله عنه زعم ابن سبأ أنه لم يمت لأن فيه جزءاً إلهياً وأن ابن ملجم إنما قتل شيطاناً تصوّر بصورة علي ، و أن علياً في السحاب ، و الرعد صوته ، و البرق سوطه ، وأنه سينزل إلى الأرض ) .
37 - و ذكر ابن كثير ( ت 774هـ ) في البداية و النهاية (7/183) أن من أسباب تألب الأحزاب على عثمان ظهور ابن سبأ و صيرورته إلى مصر ، و إذاعته على الملأ كلاماً اخترعه من عند نفسه .
38 - و جاء في الفرق الإسلامية (ص 34) للكرماني ( ت 786هـ ) أن علياً رضي الله عنه لما قتل زعم عبد الله بن سبأ أنه لم يمت ، وأن فيه الجزء الإلهي .
39 - و يشير الشاطبي ( ت 790هـ ) في كتابه الاعتصام ( 2/197) إلى أن بدعة السبئية من البدع الاعتقادية المتعلقة بوجود إله مع الله ، و هي بدعة تختلف عن غيرها من المقالات .
40 - و ذكر ابن أبي العز الحنفي ( ت 792هـ ) في شرح العقيدة الطحاوية ( ص 578) أن عبد الله بن سبأ أظهر الإسلام و أراد أن يفسد دين الإسلام كما فعل بولص بدين النصرانية .
41 - و يعرف الجُرجاني ( ت 816هـ ) في كتابه التعريفات (ص 79) عبد الله بن سبأ بأنه رأس الطائفة السبئية .. و أن أصحابه عندما يسمعون الرعد يقولون : عليك السلام يا أمير المؤمنين .
42 - و يقول المقريزي ( ت 845هـ ) في الخطط ( 2/356-357) : ( أن عبد الله بن سبأ قام في زمن علي رضي الله عنه مُحدِثاً القول بالوصية والرجعة والتناسخ ) .
43 - و قد سرد الحافظ ابن حجر ( ت 852هـ ) في كتابه لسان الميزان ( 3/290) أخبار ابن سبأ من غير طريق سيف بن عمر ، ثم قال : ( و أخبار عبد الله بن سبأ شهيرة في التواريخ ، و ليس له رواية و الحمد لله ) .(116/22)
44 - و ذكر العيني ( ت 855هـ ) في كتابه عقد الجمان ( 9/168) : ( أن ابن سبأ دخل مصر وطاف في كورها ، و أظهر الأمر بالمعروف ، و تكلم في الرجعة ، و قررها في قلوب المصريين .
45 - و أكد السيوطي ( ت 911هـ ) في كتابه لب الألباب في تحرير الأنساب ( 1/132) نسبة السبئية إلى عبد الله بن سبأ .
46 - و ذكر السفارني ( ت 1188هـ ) في كتابه لوامع الأنوار (1/80) ضمن فرق الشيعة فرقة السبأية و قال : ( و هم أتباع عبد الله بن سبأ الذي قال لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أنت الإله حقاً ، فأحرق من أصحاب هذه المقالة من قدر عليه منهم فخدّ لهم أخاديد وأحرقهم بالنار .
47 - و يروي الزُّبيدي ( ت 1205هـ ) أن سبأ الوارد في حديث فروة بن مُسيك المرادي هو والد عبد الله بن سبأ صاحب السبئية من الغلاة . تاج العروس ( 1/75-76) ، و كلام الزبيدي هذا غير مقبول و يرده حديث فروة بن مسيك ، راجع صحيح سنن أبي داود (برقم (3373) و الترمذي ( برقم 3220) كتاب تفسير سورة سبأ ، و في الحديث زيادة تفصيل أن سبأ رجل من العرب ولد له عشرة من الأنبناء : سكن منهم ستة في اليمن و أربعة في الشام ، و هم أصول القبائل العربية : لخم و جذام و غسان .. الخ ، مما يدل على أن سبأ رجل متقدم جداً من أصول العرب ، فما علاقة ذلك بسبأ والد عبد الله صاحب السبئية ؟ !
48 - و تحدث عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي ( ت 1239هـ ) في كتابه مختصر التحفة الاثنى عشرية ( ص 317 ) عن ابن سبأ بقوله : ( و من أكبر المصائب في الإسلام في ذلك الحين تسليط إبليس من أبالسة اليهود على الطبقة الثانية من المسلمين فتظاهر لهم بالإسلام وادعى الغيرة على الدين والمحبة لأهله .. و إن هذا الشيطان هو عبد الله بن سبأ من يهود صنعاء ، و كان يسمى ابن السوداء ، و كان يبث دعوته بخبث و تدرج و دهاء .(116/23)
49 - و محمد صديق حسن خان ( ت 1307هـ ) في خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان ( ص 8 ، 33 ، 44 ) .
هذا ما تيسر جمعه من أقوال العلماء ، و من سلف الأمة ، و هناك الكثير غيرهم ، و كلها تأكد و تجمع على ثبوت شخصية عبد الله بن سبأ اليهودي بكونه حقيقة لا خيال ، و كوني آثرت ذكر المتقدمين ، لأنه إذا ثبت عندهم ؛ فهم أعرف منا ، لأنه تسنى لهم الاطلاع على الكثير من الكتب التي تعد في زمننا هذا في عداد المفقود ، فهم الأصل الذي نحن عيال عليه ، نقتبس منه و نثبت ، كما وأن هناك الكثير من المثبتين لهذه الشخصية من المعاصرين ، راجع للأهمية كتاب : العنصرية اليهودية وآثارها في المجمع الإسلامي و الموقف منها للدكتور أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزغيبي ( 2 / 530-531 ) ، حيث ذكر عدداً كبيراً من المثبتين لشخصية ابن سبأ من المعاصرين .
ب – المثبتين لشخصية ابن سبأ من الشيعة :-
1 - ورد في تاريخ الطبري (5/193) على لسان أبي مخنف – لوط بن يحيى – ( ت 157هـ ) و هو يصف معقل بن قيس الرياحي والذي كلفه المغيرة بن شعبة والي معاوية على الكوفة بقتال المستورد بن علفة الخارجي و أصحابه ، فيصفه بأنه من السبئية المفترين الكذابين .
2 - الأصفهاني ( ت 283هـ ) ذكره الدكتور أحمد الزغيبي في كتابه العنصرية اليهودية ( 2/528) .
3 - أورد الناشئ الأكبر ( ت 293هـ ) في كتابه مسائل الإمامة ( ص 22-23 ) ما يلي : ( و فرقة زعموا أن علياً رضي الله عنه حي لم يمت ، و أنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ، و هؤلاء هم السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ ، و كان عبد الله بن سبأ رجلاً من أهل صنعاء يهودياً .. و سكن المدائن .. ) .
4 – و نقل القمي ( ت 301هـ ) في كتابه المقالات و الفرق ( ص 20) أن عبد الله بن سبأ أول من أظهر الطعن على أبي بكر و عمر و عثمان والصحابة ، و تبرأ منهم ، وادّعى أن علياً أمره بذلك .(116/24)
5 - و يتحدث النوبختي ( ت 310هـ ) في كتابه فرق الشيعة ( ص 23 ) عن أخبار ابن سبأ فيذكر أنه لما بلغ ابن سبأ نعي علي بالمدائن ، قال للذي نعاه : كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة و أقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يمت و لم يقتل ، و لا يموت حتى يملك الأرض .
6 - و يقول أبو حاتم الرازي ( ت 322هـ ) في كتابه الزينة في الكلمات الإسلامية ( ص 305 ) : ( أن عبد الله بن سبأ و من قال بقوله من السبئية كانوا يزعمون أن علياً هو الإله ، و أنه يحيي الموتى ، وادعوا غيبته بعد موته .
7 - و روى الكشي ( ت 340هـ ) في الرجال ( ص 98-99) بسنده إلى أبي جعفر محمد الباقر قوله : أن عبد الله بن سبأ كان يدّعي النبوة ، و يزعم أن أمير المؤمنين – عليه السلام – هو الله ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً . و هناك أقوال مشابه عن جعفر الصادق و علي بن الحسين تلعن فيها عبد الله بن سبأ في ( ص 70 ، 100 ) من نفس الكتاب .
8 - و يذكر أبو جعفر الصدوق بن بابويه القمي ( ت 381هـ ) في كتاب من لا يحضره الفقه ( 1/213) ، موقف ابن سبأ و هو يعترض على علي رضي الله عنه رفع اليدين إلى السماء أثناء الدعاء .
9 - و جاء عند الشيخ المفيد ( ت 413هـ ) في كتاب شرح عقائد الصدور ( ص 257) ذكر الغلاة من المتظاهرين بالإسلام – يقصد السبئية – الذين نسبوا أمير المؤمنين علي والأئمة من ذريته إلى الألوهية والنبوة ، فحكم فيهم أمير المؤمنين بالقتل والتحريق بالنار .
10 - و قال أبو جعفر الطوسي ( ت 460هـ ) في كتبه تهذيب الأحكام ( 2/322) أن ابن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلو .
11 - و ابن شهر آشوب ( ت 588هـ ) في مناقب آل أبي طالب (1/227-228 ) .
12 - و ذكر ابن أبي الحديد ( ت 655هـ ) في شرح نهج البلاغة ( 2/99) ما نصه : ( فلما قتل أمير المؤمنين – عليه السلام – أظهر ابن سبأ مقالته ، و صارت له طائفة و فرقه يصدقونه و يتبعونه .(116/25)
13 - و أشار الحسن بن علي الحلّي ( ت 726هـ ) في كتابه الرجال (2/71) إلى ابن سبأ ضمن أصناف الضعفاء .
14 - و يرى ابن المرتضى ( ت 840هـ ) – و هو من أئمة الشيعة الزيدية - ، أن أصل التشيع مرجعه إلى ابن سبأ ، لأنه أول من أحدث القول بالنص في الإمامة . تاج العروس لابن المرتضى ( ص 5 ، 6 ) .
15 - و يرى الأردبيلي ( ت 1100هـ) في كتاب جامع الرواة (1/485) أن ابن سبأ غال ملعون يزعم ألوهية علي و نبوته .
16 - والمجلسي ( ت 1110هـ ) في بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (25/286-287 ) .
17 - يقول نعمة الله الجزائري ( ت 1112هـ ) في كتابه الأنوار النعمانية ( 2/234) : ( قال عبد الله بن سبأ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أنت الإله حقاً فنفاه علي عليه السلام إلى المدائن و قيل إنه كان يهودياً فأسلم وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون و في موسى مثل ما قال في علي .
18 - طاهر العاملي ( ت 1138هـ ) في مقدمة مرآة الأنوار و مشكاة الأسرار في تفسير القرآن (ص62 ) .
19 - و عند المامقاني ( ت 1323هـ ) في كتابه تنقيح المقال في أحوال الرجال (2/183) جاء ذكر ابن سبأ ضمن نقولات عدة ساقها المؤلف من مصادر شيعية متقدمة عليه .
20 - أما محمد حسين المظفري ( ت 1369هـ ) و هو من الشيعة المعاصرين الذين لا ينكرون وجود ابن سبأ وإن كان ينفي أن يكون للشيعة به أي اتصال . تاريخ الشيعة ( ص 10 ) .
21 - أما الخوانساري فقد جاء ذكر ابن سبأ عنده على لسان جعفر الصادق الذي لعن ابن سبأ لاتهامه بالكذب والتزوير . روضات الجنات (3/141) .
ثانياً : المنكرون وجود عبد الله بن سبأ من الفريقين ..
أ – المنكرون لوجود ابن سبأ من أهل السنة ومن حسب عليهم :-
1 – الدكتور : طه حسين ، يقف طه حسين عل رأس الكتّاب المحدثين الذين شككوا في وجود ابن سبأ بل و أنكروه . أنظر كتاب الفتنة الكبرى – عثمان – ( ص 132 ) ، و علي و بنوه ( ص 90 ) .(116/26)
2 - الدكتور : علي سامي النشار ، و هو يأتي بعد طه حسين في إنكاره لشخصية ابن سبأ واعتبارها شخصية وهمية . راجع كتاب نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (2/ 38 – 39 ) .
3 - الدكتور : حامد حنفي داود ، و هو من الذين تأثروا بكتابات الشيعة حول شخصية ابن سبأ فأنكر وجودها ، و ذلك عندما قام بكتابة المقدمة المتعلقة بكتاب ( عبد الله بن سبأ و أساطير أخرى ) و من ضمن ما قال : ( و أخيراً يسرني أن أعلن إعجابي بهذا السفر الجليل لصاحبه العلامة المحقق السيد مرتضى العسكري ) ، أما رأيه في عبد الله بن سبأ فأوضحه بقوله : ( و لعل أعظم هذه الأخطاء التاريخية التي أفلتت من زمام هؤلاء الباحثين وغمّ عليهم أمرها فلم يفقهوها و يفطنوا إليها هذه المفتريات التي افتروها على علماء الشيعة حين لفقوا عليهم قصة عبد الله بن سبأ فيما لفقوه من قصص . (1/ 18، 21 ) .
و ضمن كتابه : التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية ( ص 18 ) .
4 – و هناك أيضاً الدكتور : محمد كامل حسين في كتابه : أدب مصر الفاطمية ( ص 7 ) .
5 – و أيضاً : عبد العزيز الهلابي في كتابه عبد الله بن سبأ ( ص 73) ، حيث حجب هذا الشخص الغموض الذي أثاره غيره من المشككين في وجود ابن سبأ فلازم الإنكار .
6 – و الشيء بالشيء يذكر يعتبر الأستاذ حسن بن فرحان المالكي تلميذ المذكور أعلاه من المنكرين لوجود ابن سبأ ، و في أحيان أخرى ينكر دور ابن سبأ في الفتنة . راجع كلامه في جريدة المسلمون الأعداد ( 657 ، 658 ) .
7 - ومن المنكرين و المتشكيين والمترددين في إثبات و نفي شخصية عبد الله بن سبأ ، الدكتور : جواد علي في مقال له بعنوان ( عبد الله بن سبأ ) منشور في مجلة المجمع العلمي العراقي المجلد السادس ( ص 84 ، 100 ) و أيضاً في مجلة الرسالة العدد ( 778 ) ( ص 609-610 ) .(116/27)
8 - و أيضاً الدكتور : محمد عمارة في كتابه الخلافة و نشأة الأحزاب الإسلامية ( ص 154-155 ) ، فيقول : ( وتنسب أغلب مصادر التاريخ والفكر الإسلامي إلى ابن السوداء هذا نشاط عظيماً و جهداً خرافياً ) ، و يقول : ( فإن وجود ابن سبأ على فرض التسليم بوجوده ) إلى غيرها من النقولات .
9 - و الدكتور : عبد الله السامرائي في كتابه الغلو والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية ( ص 86 ) ، إلا أنه يثبت وجود الأفكار التي تنسب إلى عبد الله بن سبأ ، من غير جزم بوجود صاحبها .
ب - المنكرون لوجود ابن سبأ من الشيعة :-
1 - محمد الحسين كاشف الغطاء ، في كتابه أصل الشيعة و أصولها ( ص 61 ) يقول : ( على أنه لا يستبعد أن يكون هو – أي عبد الله بن سبأ – و مجنون بني عامر و أبو هلال .. وأمثالهم أحاديث خرافية وضعها القصاص لتزجية الفراغ و شغل أوقات الناس ) .
2 - مرتضى العسكري و له كتابان في هذا الموضوع ، ينفي فيهما وجود ابن سبأ من الأصل ، و يعتبر مرتضى هذا من أكثر الشيعة المحدثين اهتماماً بمسألة عبد الله بن سبأ . الكتاب الأول بعنوان : ( عبد الله بن سبأ بحث حول ما كتبه المؤرخون والمستشرقون ابتداء من القرن الثاني الهجري ) . و رمز له بالجزء الأول . الكتاب الثاني بعنوان : ( عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى ) .
3 - محمد جواد مغنيه ، و قد ذكر ذلك في تقديمه لكتاب عبد الله بن سبأ و أساطير أخرى لمرتضى العسكري (1/12 ) . و كتاب التشيع ( ص 18 ) .
4 - الدكتور علي الوردي ، في كتاب و عاظ السلاطين ( ص273- 276 ) ، يقول : ( يخيل إلى أن حكاية ابن سبأ من أولها إلى آخرها كانت حكاية متقنة الحبك رائعة التصوير ) ، و يعتبر علي الوردي صاحب بدعة القول بأن ابن السوداء و هو عمار بن ياسر رضي الله عنه ، ( ص 278) .(116/28)
5 – عبد الله الفياض في كتابه تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة ( ص 95 ) ، يقول : ( يبدوا أن ابن سبأ كان شخصية إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة ) .
6 - الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتاب الصلة بين التصوف والتشيع ( ص 41 ) ، و قد تابع الدكتور علي الوردي في كلامه حول كون عمار بن ياسر هو ابن السوداء ، ( ص 88 ) .
7 – طالب الرفاعي في التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية ( ص 20 ) .
و لعل هذا النفي شبه الجماعي من قبل أولئك الباحثين الشيعة لشخصية عبد الله بن سبأ ، هو بغرض نفي التأثير اليهودي في عقائد الشيعة ، و تبرئة ساحتهم من عبد الله بن سبأ ، و لكن أنى لهم ذلك .
و قد أعجبتني مقولة للدكتور سعدي الهاشمي يقول فيها : ( و بهذه النقول والنصوص الواضحة المنقولة من كتب القوم ( الشيعة ) تتضح لنا حقيقة شخصية ابن سبأ اليهودي ، و من طعن من الشيعة في ذلك فقد طعن في كتبهم التي نقلت لعنات الأئمة المعصومين – عندهم – على هذا اليهودي ( ابن سبأ ) و لا يجوز و لا يتصور أن تخرج اللعنات من المعصوم على مجهول ، و كذلك لا يجوز في معتقد القوم تكذيب المعصوم ) . ابن سبأ حقيقة لا خيال ( ص 76 ) .
جـ – المثبتون لوجود ابن سبأ من المستشرقين :-
اهتم المستشرقون بمسألة عبد الله بن سبأ و درسوا ما جاء عنه ، و نحن لسنا بحاجة إلى قيام أمثال هؤلاء الحاقدين لإثبات شخصية ابن سبأ لنثبت شخصيته بدورنا ، لكن تطرقت لذكرهم فقط من باب بيان أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ، كما فعل أبي هريرة رضي الله عنه عندما تعلم فضل سورة آية الكرسي من إبليس لعنه الله . البخاري مع الفتح (4/487- 488 ) .(116/29)
1 - المستشرق الألماني : يوليوس فلهاوزن (1844- 1918م ) ، يقول : ( ومنشأ السبأية يرجع إلى زمان علي و الحسن ، و تنسب إلى عبد الله بن سبأ و كما يتضح من اسمه الغريب فإنه كان أيضاً يمنياً و الواقع أنه من العاصمة صنعاء ، و يقال أنه كان يهودياً ) . في كتابه : الخوارج والشيعة ( ص 170-171 ) .
2 - المستشرق : فان فلوتن ( 1866- 1903م ) ، يرى أن فرقة السبأية ينتسبون إلى عبد الله بن سبأ فيقول : ( وأما السبأية أنصار عبد الله بن سبأ الذي كان يرى أحقية علي بالخلافة منذ أيام عثمان ، فكان يعتقدون أن جزءاً إلهياً تجسد في علي ثم في خلفائه من بعده . السيادة العربية والشيعية و الإسرائيليات في عهد بني أمية (ص 80 ) .
3 - المستشرق الإيطالي : كايتاني ( 1869-1926م ) ، يخلص هذا المستشرق في بحثه الذي نشره في حوليات الإسلام الجزء الثامن من سنة (33-35هـ ) إلى أن ابن سبأ موجود في الحقيقة لكنه ينكر روايات سيف بن عمر في تاريخ الطبري والتي تشير إلى أن المؤامرة التي أطاحت بعثمان ذات أسباب دينية ، كما وأنه ينكر أن تكون آراء ابن سبأ المؤلهة لعلي قد حدثت في أيامه ، و ينتهي إلى القول بأن هذه الآراء وليدة تصورات الشيعة في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة .
4 - المستشرق : ليفي ديلافيدا ( المولود عام 1886م ) ، حيث مرّ بعبد الله بن سبأ و هو يتحدث عن خلافة علي من خلال كتاب أنساب الأشراف للبلاذري .
5 - المستشرق الألماني : إسرائيل فريد لندر ، وقد كتب مقالاً عن عبد الله بن سبأ في المجلة الآشورية العددين من سنة (1909م ، ص 322) و(1910م ، ص 23) بعنوان : ( عبد الله بن سبأ مؤسس الشيعة وأصله اليهودي ) و قد خلص في بحثه هذا الذي يربوا على الثمانين صفحة إلى القول بأنه لا يتشكك مطلقاً في شخصية ابن سبأ .(116/30)
6 – المستشرق المجري : جولد تسيهر ( 1921م ) ، يقول : ( كما أن الإغراق في تأليه علي الذي صاغه في مبدأ الأمر عبد الله بن سبأ ) . في كتابه : العقيدة والشريعة في الإسلام ( ص 205 ) .
7 - رينولد نكلس ( 1945م ) ، يقول في كتابه تاريخ الأدب العربي (ص215 ) : ( فعبد الله بن سبأ الذي أسس طائفة السبأيين كان من سكان صنعاء اليمن ، و قد قيل إنه كان من اليهود و قد أسلم في عهد عثمان و أصبح مبشراً متجولاً ) .
8 - داويت . م . رونلدسن ، يقول : ( فقد ظهر منذ زمن عثمان داعية متنقل اسمه عبد الله بن سبأ قطع البلاد الإسلامية طولاً و عرضاً يريد إفساد المسلمين كما يقول الطبري ) . عقيدة الشيعة ( ص 85 ) .
9 - المستشرق الإنجليزي : برنارد لويس ، فهو يرى أن عبد الله بن سبأ هو أصل التشيع . راجع كلامه في كتابه : أصول الإسماعيلية ( ص 86 ) .
هذه أهم الكتابات الاستشراقية في موضوع عبد الله بن سبأ ، و هناك غير هؤلاء الكثير ، راجع للأهمية كتاب : عبد الله بن سبأ و أثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام للدكتور سليمان العودة ( ص 73 ) .(116/31)
أما المنكرون لشخصية ابن سبأ من المستشرقين ، فهم فئة قليلة و الذين وقفوا في شخصية ابن سبأ و أصبحت عندهم مجرد خرافة و محل شك ، و ليس هناك من داع لذكرهم ، لعدم انتشار أفكارهم بخلاف المثبتين فهم من المستشرقين المعروفين والذين يعتمد عليهم الكثير ممن تأثر بفكر الاستشراق ، و كان هدف هؤلاء المستشرقين من ذلك التشكيك أو الإنكار هو ادعاء أن الفتن إنما هي من عمل الصحابة أنفسهم ، و أن نسبتها إلى اليهود أو الزنادقة هو نوع من الدفاع عن الصحابة لجأ إليها الإخباريون والمؤرخون المسلمون ليعلقوا أخطاء هؤلاء الصحابة على عناصر أخرى ، على أن إنكار بعضهم لشخصية ابن سبأ إنما يرجع إلى رغبتهم في الانتهاء إلى النتيجة التالية : لا حاجة لمخّرب يمشي بين الصحابة ، فقد كانت نوازع الطمع و حب الدنيا والسلطة مستحوذة عليهم ، فراحوا يقاتلون بعضهم عن قصد و تصميم ، و القصد من ذلك الإساءة إلى الإسلام و أهله ، و إلقاء في روع الناس أن الإسلام إذا عجز عن تقويم أخلاق الصحابة و سلوكهم وإصلاح جماعتهم بعد أن فارقهم الرسول صلى الله عليه وسلم بمدة وجيزة ، فهو أعجز أن يكون منهجاً للإصلاح في هذا العصر . أنظر : تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة للدكتور : محمد أمحزون (1/314) .
أدلة من أنكر شخصية عبدالله بن سبأ والرد عليهم
يمكن أن أحصر أدلتهم فيما يلي ، ثم أتبع كل شبهة من أدلتهم بالإجابة عنها :-
أولاً : قالوا : إعراض المؤرخين عن ذكر ابن سبأ أو ابن السوداء في حرب صفين ، و كونه غاب عنها ، و كيف له أن يغيب عن هذا المعركة و هو الذي كان يصول و يجول في حرب الجمل ، لهذا لم يستطع المؤرخون الإجابة على هذا السؤال المحير ! و هذا مما يدل على أنه غير موجود .(116/32)
الرد عليه : إن المؤرخين عند حديثهم عن موضوع معين لا يلتزمون بذكر كل تفاصيل ما جرى في الأحداث والوقائع التي ذكروها في كتبهم ، هذا على افتراض مشاركة ابن سبأ في حرب صفين ، و على افتراض عدم مشاركته في حرب صفين ، هل يعد ذلك دليلاً على عدم وجوده ، فيعارض به ما أثبته المؤرخون من وجود ابن سبأ و ما كان له من دور ؟! و في اعتقادي أن هذه الشبهة لا تقوى على ما أثبته المؤرخون والمحققون من سنة و شيعة من وجود ابن سبأ .
ثانياً : قالوا : إن أخبار ابن سبأ إنما انتشرت بين الناس عن طريق الطبري ، والطبري أخذها عن سيف بن عمر ، إذاً فسيف هو المصدر الوحيد لأخبار ابن سبأ ، و سيف هذا كذاب ضعفه علماء الجرح والتعديل .
الرد عليه و سيكون على ثلاثة فروع :-
أ – كون الطبري هو المصدر الوحيد لأخبار ابن سبأ ، و هذه الأخبار جميعها جاءت من طريق سيف بن عمر .
الرد : هذه شبهة باطلة إذ لم ينفرد الطبري وحده بروايات سيف ، بل هناك روايات لسيف تتحدث عن ابن سبأ لا توجد عند الطبري ، و مثاله :
1 - من طريق ابن عساكر ( ت 571هـ ) في تاريخه (29/9 ) ، وقد أورد رواية من طريق سيف بن عمر ليست عند الطبري .
2 - من طريق المالقي ( ت 741هـ ) في كتابه التمهيد و البيان ( ص 54 ) و قد أورد رواية ليست عند الطبري من طريق سيف بن عمر .
3 - من طريق الذهبي ( ت 748هـ ) في كتابه تاريخ الإسلام ( 2/122-123) و هذه الرواية أيضاً غير موجودة في الطبري .
فهذه الطرق الثلاثة تدلنا على أن الطبري لم ينفرد بروايات سيف بن عمر عن ابن سبأ ، و أنه ليس المصدر الوحيد لهذه الأخبار .
ب – كون سيف بن عمر هو المصدر الوحيد لأخبار ابن سبأ .(116/33)
الرد : هذه الشبهة أيضاً غير صحيحة ، فقد ثبتت روايات ذكر فيها ابن سبأ لم يكن سيف في سندها ، و إن الذي يتبين لنا من خلال البحث والتنقيب أن سيف بن عمر ليس هو المصدر الوحيد لأخبار عبد الله بن سبأ ، و سأورد هنا عدد من النصوص لابن عساكر تذكر ابن سبأ لا ينتهي سندها إلى سيف بن عمر ، و قد اخترت تاريخ ابن عساكر بالذات لأنه يعتمد في روايته للأخبار على السند كما هو حال الطبري في تاريخه .
الرواية الأولى : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى الشعبي ، قال : أول من كذب عبد الله بن سبأ .
الرواية الثانية : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى عمار الدهني ، قال : سمعت أبا الطفيل يقول : رأيت المسيب بن نجبة أتى به يلببة - يعني ابن السوداء - ، و علي على المنبر ، فقال علي : ما شأنه ؟ فقال : يكذب على الله وعلى رسوله .
الرواية الثالثة : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى زيد بن وهب عن علي قال : ما لي و ما لهذا الحميت الأسود ؟ .
الرواية الرابعة : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى شعبة عن سلمة قال : قال سمعت أبا الزعراء يحدث عن علي عليه السلام قال : ما لي وما لهذا الحميت الأسود ؟ .
الرواية الخامسة : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى شعبة عن سلمة بن كهيل عن زيد قال : قال علي بن أبي طالب ما لي ولهذا الحميت الأسود ؟ - يعني عبد الله بن سبأ – وكان يقع في أبي بكر وعمر .
الرواية السادسة : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى سلمة بن كهيل عن حجية بن عدي الكندي قال : رأيت علياً كرم الله وجهه وهو على المنبر ، وهو يقول : من يعذرني من هذا الحميت الأسود ، الذي يكذب على الله ورسوله ؟ - يعني ابن السوداء – لولا أن لا يزال يخرج عليّ عصابة تنعى عليّ دمه كما أدّعيت عليّ دماء أهل النهر ، لجعلت منهم ركاماً .(116/34)
الرواية السابعة : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى أبو الأحوص عن مغيرة عن سماك قال : بلغ عليا أن ابن السوداء ينتقص أبا بكر وعمر ، فدعا به ، ودعا بالسيف - أو قال : فهمّ بقتله - فكُلّم فيه ، فقال : لا يساكني ببلد أنا فيه . قال : فسيره إلى المدائن . تاريخ دمشق لابن عساكر ( 29/ 7-10 ) .
للمزيد حول ورود روايات عبد الله بن سبأ من غير طريق سيف بن عمر راجع الحلقة ( 3 و 4 ) من سلسلة مقالات عبد الله بن سبأ .
جـ – كون سيف بن عمر ( ت 180هـ ) كذاب ضعفه علماء الجرح والتعديل .
الرد : مكانة سيف بن عمر (ت 180هـ ) بين الجرح والتعديل ، حتى تكون الصورة واضحة للقارئ .
أولاً : سيف بن عمر محدثاً :-
يقول النسائي في الضعفاء والمتروكين ( ص 14 ) : ( سيف بن عمر الضبي ضعيف ) . وذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 2/278 ) أن سيف بن عمر : ( متروك الحديث ، يشبه حديثه حديث الواقدي ) . و عند ابن معين في نفس المصدر (2/278 ) أن سيفاً ضعيف الحديث . و ذكره الذهبي فيمن له رواية في الكتب الستة ، واكتفى بالقول : ( ضعفه ابن معين و غيره ) .الكاشف (1/416 ) . و في المغني في الضعفاء ( ص 292) قال الذهبي : ( سيف بن عمر التميمي الأسدي له تواليف متروك باتفاق ) . و عند ابن حجر في التقريب (1/344 ) : ( سيف ضعيف الحديث ) . و يقول ابن حبان في المجروحين (1/345) : ( سيف بن عمر الضبي الأسدي من أهل البصرة اتهم بالزندقة .. يروي الموضوعات عن الأثبات ) .
هذا بالنسبة لسيف بن عمر و كونه محدثاً ، لكن فما عساه يكون إخبارياً مؤرخاً ؟!(116/35)
هنا لا بد و قبل أن أذكر أقوال أهل العلم فيه أن أنبه أنه لا بد من التفريق بين رواية ( الحديث ) و رواية الأخبار الأخرى ، فعلى الأولى تبنى الأحكام و تقام الحدود ، فهي تتصل مباشرة بأصل من أصول التشريع ، و من هنا تحرز العلماء –رحمهم الله – في شروط من تأخذ عنه الرواية ، لكن يختلف الأمر بالنسبة لرواية الأخبار ، فهي وإن كانت مهمة – لا سيما حينما يكون مجالها الإخبار عن الصحابة – إلا أنها لا تمحص كما يمحص الحديث ، و من هنا فلا بد من مراعاة هذا القياس و تطبيقه على ( سيف ) بكونه محدثاً ، و إخبارياً . راجع للأهمية كتاب : تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة محمد أمحزون (1/82-143) فقد تحدث عن هذا الموضوع فأجاد .
نعود إلى كتب الرجال نفسها فنجد الآتي :-
يقول الذهبي في ميزان الاعتدال (2/255 ) : ( كان إخبارياً عارفاً ) . و يقول ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/344 ) : ( عمدة في التاريخ ) . أما اتهام ابن حبان لسيف بالزندقة فيجيب عنه ابن حجر في التقريب (1/344 ) بقوله : ( أفحش ابن حبان القول فيه ) . ولا يصح اتهام سيف بالزندقة دون دليل ، إذ كيف نفسر رواياته في الفتنة و حديثه عما جرى بين الصحابة ، فأسلوبه الذي روى به تلك الأحداث أبعد ما يكون عن أسلوب الزنادقة ، و هو الذي فضح و هتك ستر الزنادقة أمثال ابن سبأ !!
و بعد هذا لا يشك أحد أن رواية سيف مرشحة على غيره من الإخباريين أمثال أبي مخنف و الواقدي وابن الكلبي ، و غيرهم الكثير ، فإن روايات سيف تتفق و تنسجم مع الروايات الصحيحة المروية عن الثقات ، علاوة على أنها صادرة و مأخوذة عمن شاهد تلك الحوادث أو كان قريباً منها . للمزيد حول هذا الموضوع راجع كتاب : استشهاد عثمان و وقعة الجمل رواية سيف بن عمر ، للدكتور خالد بن محمد الغيث ( ص 19- 40 ) ، و عبد الله بن سبأ و أثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام للدكتور :سليمان العودة ( ص 104- 110 ) .(116/36)
ثالثاً : قالوا : لم يكن لابن سبأ وجود ، و إنما هو في الحقيقة شخصية رمزت لعمار بن ياسر ، ثم ساقوا عدد من الدعائم التي تؤيد هذا القول ، منها :-
1 - كان ابن سبأ يعرف بابن السوداء ، و عمار كان يكنى بابن السوداء أيضاً .
2 - كلاهما من أب يماني ، و ينسبون إلى سبأ بن يشجب أصل أهل اليمن .
3 - كلاهما كان شديد الحب لعلي ، و من محرضي الناس على بيعته .
4 - ذهاب عمار إلى مصر أيام عثمان و أخذ يحرض الناس على عثمان ، و مثل هذا ينسب إلى ابن سبأ .
5 - ينسب إلى ابن سبأ القول بأن عثمان أخذ الخلافة بغير حق ، و أن صاحبها الشرعي هو علي ، و هذا نفسه كان يقول به عمار .
6 - و يشترك الاثنان في عرقلة مساعي الصلح في معركة الجمل .
7 - قالوا عن ابن سبأ أنه هو المحرك لأبي ذر في دعوته الاشتراكية ! و صلة عمار بأبي ذر وثيقة جداً .
الرد : هذا الرأي الذي خلصوا إليه ، إنما يدل على جهل صاحبه ، و هذا الرأي ترده كتب الجرح والتعديل و كتب الرجال الموثقة عند الشيعة ، فهي تذكر عمار بن ياسر ضمن أصحاب علي والرواة عنه ، و هو أحد الأركان الأربعة عندهم ، ثم هي تذكر في موضع آخر ترجمة عبد الله بن سبأ في معرض السب واللعنة . أنظر : رجال الطوسي ( ص 46 ، 51 ) و رجال الحلي ( ص 255 ، 469 ) . فهل يمكن اعتبار الرجلين شخصية واحدة بعد ذلك ؟!(116/37)
كما وأن عوامل توافق الشخصيتين ذهاب كل منهما إلى مصر زمن عثمان ، فإن استقراء النصوص ومعرفة تاريخها يعطي مفهوماً غير الذي فهمه النافين لوجود ابن سبأ ، و بالتالي ينتصب هذا العامل دليلاً على استقلال كل من الشخصيتين ، فعمار إنما بعثه عثمان إلى مصر سنة ( 35هـ ) ، بينما كان ظهور ابن سبأ سنة ( 30هـ ) كما في الطبري (4/241) ، و هو الذي ساق الخبرين ، و شيء آخر و هو أن الطبري نفسه أورد أن من الذين استمالوا عماراً في مصر قوم منهم عبد الله بن سبأ . الطبري (4/341) ، وانظر أيضاً : البداية والنهاية لابن كثير (7/167) و الكامل في التاريخ لابن الأثير (3/77) و تاريخ ابن خلدون ( 2/1034) فهؤلاء هو كبار المؤرخين و هم جميعاً أثبتوا الشخصيتين ؛ شخصية ابن سبأ و شخصية عمار بن ياسر ، فكيف لعاقل بعد ذلك أن يقول إنهما شخص واحد ؟!
و أما قولهم بأن عمار كان يمانياً ، فكل يماني يصح أن يقال له ابن سبأ ، فهذا غير صحيح ، فليست سبأ إلا جزءاً من بلاد اليمن الواسعة كما قال بذلك ياقوت في معجم البلدان (3/181 ) .
وأما قولهم بأن عمار كان يقول بأن عثمان قد أخذ الخلافة بغير حق ، و أن صاحبها الشرعي هو علي ، فإن هذه المقولة زَعْم يحتاج إلى دليل ، بل الثابت أن عثمان رضي الله عنه كان يثق بعمار و هو الذي أرسله إلى مصر لضبط أمورها . راجع الطبري ( 4/341) .
كما وأن التشابه في الكنى لا يجعل من الرجلين شخصية واحدة ، كما وأن الظروف التاريخية وطابع كل من الشخصيتين لا تسمحان لنا بقبول هذا الرأي . وإن نظرة واحدة إلى كتب التراجم والرجال لتعطي القارئ فكرة واسعة في سبب قيام علماء الجرح والتعديل بتأليف الكتب التي تحتوي على المتشابه من الأسماء والكنى .
و شيء مهم آخر و هو أن عمار قتل يوم صفين ، في حين بقي ابن سبأ إلى بعد مقتل علي رضي الله عنه ، فهل بعد هذا يكون عمار بن ياسر هو عبد الله بن سبأ ؟!(116/38)
رابعاً : قالوا : لم يكن لابن سبأ وجود في الحقيقة ، و إنما هو شخصية وهمية انتحلها أعداء الشيعة بهدف الطعن في مذهبهم و نسبته إلى رجل يهودي .
الرد : إن هذه دعوى لا تقوم عليها حجة ، فكما أنكم ادعيتم هذا ، فلغيركم أيضاً أن يدعي ما شاء ، لكن العبرة بالحجة والدليل ، فزعمكم أن هذه القصة قد اختلقها أهل السنة للتشنيع على الشيعة ، ليس لها دليل ، و قد كان عليكم قبل أن تلقوا بظلال الشك جزافاً – و ذلك دأبكم – أن تتأكدوا على الأقل من أن هذه القصة لم ينفرد بها أهل السنة فقط ، فهذا الزعم باطل لأن مصادر الشيعة هي الأخرى أثبتت – كما سلف – وجود ابن سبأ . و بهذا يسقط اعتراضكم على القصة بزعمكم أنها من مفتريات أهل السنة .
و بعد هذا الذي ذكرت و هذه الشبهات التي أبطلت ، أستطيع أن أقول : إن سبب إنكار الشيعة لوجود ابن سبأ إلى عقيدتهم التي بثها و تسربت إلى فرق الشيعة ، و هي عقيدة تتنافى مع أصول الإسلام ، و تضع القوم موضع الاتهام والشبهة ، هذا من جهة ، و من جهة أخرى لما للعداء التاريخي في نفوس الشيعة نحو الصحابة ، و رغبة لإظهارهم بأنهم هم الذين أثاروا الفتنة بينهم .
و في الختام يتأكد بعد استقراء المصادر سواء القديمة والمتأخرة عند السنة والشيعة أن وجود عبد الله بن سبأ كان وجوداً حقيقياً تؤكده الروايات التاريخية ، و تفيض فيه كتب العقائد ، و ذكرته كتب الحديث والرجال والأنساب والطبقات و الأدب واللغة ، و سار على هذا النهج كثير من المحققين والباحثين المحدثين(116/39)
دور هذا اليهودي في إشعال نار الفتنة على عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وأحب أن أنبه أنه وأثناء الحديث قد لا نتطرق لذكر ابن سبأ في بعض الأحيان ، و هذا لا يعني أنه غير موجود أو أنه ليس له دور ، بل ثبت بالدليل الصحيح الصريح أن اليد الخفية التي كانت تدير المؤامرة و تحرك الفتنة ، هي يد ذلك اليهودي الخبيث عبد الله بن سبأ ، كما وأننا لن نتطرق أيضاً لذكر المآخذ التي أخذت على عثمان بزعم مثيري الفتنة ، و ذلك لأنه ليس هذا مجال ذكرها ، و لعل الله ييسر لنا كتابتها في مقال مستقل مع التعليق عليها إن شاء الله .
بذور الفتنة : السبب الرئيسي ، رجل يقال له عبد الله بن سبأ : و شهرته ابن السوداء لأن أمه كانت سوداء من الحبشيات . و هو من صنعاء و كان يهودياً من يهود اليمن . أظهر الإسلام و باطنه الكفر ، ثم انتهج التشيع لعلي رضي الله عنه ، و هو الذي تنسب إليه فرقة السبئية الذين قالوا بألوهية علي و خبر إحراق علي بن أبي طالب رضي الله عنه لطائفة منهم تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح و السنن و المساند . انظر: المحبَّر لابن حبيب ( ص308 ) . تاريخ الطبري (4/340) . و تاريخ دمشق لابن عساكر (29/3) و كتاب : ابن سبأ حقيقة لا خيال لسعدي مهدي الهاشمي ، و كتاب عبد الله بن سبأ و أثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام لسليمان العودة ، و مقال حقيقة ابن السوداء في جريدة المسلمون للدكتور سليمان العودة ، العدد (652-653) . و خبر إحراقهم عند : أبي داود في سننه (4/520) و النسائي (7/104) و الحاكم في المستدرك (3/538-539) و صححه الألباني في صحيح أبي داود (3/822) .(116/40)
فلما رأى هذا الرجل أن أمر الإسلام بدأ ينتشر بهذه الصورة و بدأ يظهر ، رأى أن هذا الأمر ليس له إلا فتنة من داخله ، و كان بمنتهى الخبث ، فأول ما بدأ ، بدأ بالمدينة ، و كانت المدينة يومها ملأى بالعلماء ، فدُحر بالعلم ، كلما رمى شبهة رُد عليها ، فمن شبهه أنه أظهر بعض العقائد اليهودية ، مثل القول بالرجعة ؛ أي رجعة الرسول صلى الله عليه وسلم و استدل بقوله تعالى :{ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد}[ القصص/85] ، و ذكر تعجبه للناس ممن يصدق برجعة عيسى عليه السلام و يكذب برجعة محمد صلى الله عليه وسلم ، و ما كان قوله هذا إلا وسيلة للوصول إلى ما هو أكبر من ذلك ، حيث قال بعد ذلك برجعة علي رضي الله عنه و أنه سيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، و هكذا . انظر : عبد الله بن سبأ و دوره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام لسليمان العودة (ص208) ، واستشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث ( ص 70-86 ) .
و للرد عليهم أشير إلى أن الآية التي استدل بها السبئية دليل عليهم ، و قد نقل ابن كثير في تفسيره (3/345) ، أقوال العلماء في ذلك ، فمنهم من يقول : رادك يوم القيامة فيسألك عما استرعاه من أعيان أعباء النبوة . و منهم من يقول : رادك إلى الجنة ، أو إلى الموت ، أو إلى مكة . و قد أورد البخاري عن ابن عباس القول بالرد إلى مكة . البخاري مع الفتح (8/369) و الطبري في التفسير (10/80-81) .
و قد سأل عاصم بن ضمرة (ت74هـ ) الحسن بن علي فيما يزعمه الشيعة بأن علياً رضي الله عنه سيرجع ، فقال : كذب أولئك الكذّابون ، لو علمنا ذلك ما تزوج نساؤه و لا قسمنا ميراثه . المسند (1/148) .(116/41)
و في الطبقات لابن سعد (3/39) . ورد ذكر السبئية و أفكار زعيمها و إن كان لا يشر إلى ابن سبأ بالاسم ، فعن عمرو بن الأصم قال : ( قيل للحسن بن علي : إن ناساً من شيعة أبي الحسن علي رضي الله عنه يزعمون أنه دابة الأرض و أنه سيبعث قبل يوم القيامة ، فقال : كذبوا ليس أولئك شيعته ، أولئك أعداؤه لو علمنا ذلك ما قسمنا ميراثه و لا أنكحنا نساءه .
ومن أقوال ابن سبأ أيضاً القول بالوصية و الإمامة . يقول الشهرستاني في الملل و النحل (1/174) : إن ابن سبأ هو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي .
ويذكر شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (4/435) : أن أصل الرفض من المنافقين الزنادقة ، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق و أظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة و النص عليه ، و ادّعى العصمة له .
و في خطط المقريزي (2/356-357) : أن عبد الله بن سبأ قام في زمن علي رضي الله عنه مُحدِثاً القول بالوصية و الرجعة و التناسخ .
و من المحدثين الشيعة الذين ذكروا فكرة الوصي ، محمد بن يعقوب الكليني (ت329هـ) في كتابه الكافي في الأصول ، حيث أورد النص التالي : ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء ، و لن يبعث الله رسولاً إلا بنبوة محمد صلى الله عليه و آله ، و وصية علي عليه السلام . أنظر : السنة و الشيعة لإحسان إلهي ظهير (ص54 ) .
و هذا الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعد مصداقاً لما جاء في كتاب السنة لابن أبي عاصم بسند صحيح على شرط الشيخين (2/476-477) ، حيث أخرج من طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : ليحبني قوم حتى يدخلوا النار فيِّ ، و ليبغضني قوم حتى يدخلوا النار في بغضي .
وقد علق الشيخ الألباني على هذا الحديث قائلاً : و اعلم أن هذا الحديث موقوف على علي بن أبي طالب ، و لكنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من الغيب الذي لا يعرف بالرأي .(116/42)
و خلاصة ما جاء به ابن سبأ ، أنه أتى بمقدمات صادقة و بنى عليها مبادئ فاسدة راجت لدى السذّج
و الغلاة و أصحاب الأهواء من الناس ، و قد طرق باب القرآن يتأوّله على زعمه الفاسد ، كما سلك طريق القياس الفاسد في ادعاء إثبات الوصية لعلي رضي الله عنه بقوله : إنه كان ألف نبي ، و لكل نبي وصي ، و كان علي وصي محمد ثم قال : محمد خاتم الأنبياء و علي خاتم الأوصياء . تاريخ الطبري ( 4/340) من طريق سيف بن عمر .
هنا ابن سبأ لما لم يستطع أن يكسب شخصاً واحداً توجه نحو الشام ، و كانت الشام وقتها يحكمها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، فلما توجه إليها لم يستطع أن يكسب و لو رجلاً واحداً إلى صفه ، فترك الشام و توجه نحو الكوفة و إذ هي تموج بالفتن ، و مكاناً خصباً لبث شبهاته . لذلك كان عمر رضي الله عنه ولى عليها المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ، حيث كان من أشد الناس ففي أيام عمر ما استطاعت أن تبرز في الكوفة فتنة ، و لما تولى عثمان الخلافة عزل المغيرة و عين بدلاً عنه سعيد بن العاص رضي الله عنه وكان من بني أمية ، فأهل الكوفة اعتبروا ذلك استغلالاً للمنصب ؛ فكثرت الفتن فيها ، فعبد الله بن سبأ وجد أرضاً خصبة للفتن ، فاستطاع أن يجمع حوله جماعة ، ثم انتقل إلى البصرة فجمع فيها جماعة أخرى ، و كان عددهم على أقل تقدير عند المؤرخين ستمائة رجل ، و أقصاها ألف رجل ، ثم انتقل إلى مصر و استطاع أن يجمع ما بين ستمائة إلى الألف من الرجال . انظر : استشهاد عثمان و وقعة الجمل من مرويات سيف بن عمر لخالد الغيث (ص72-86) ، حيث أجاد الباحث في تحليل الموقف .(116/43)
و استخدم ابن سبأ كذلك الأعراب ، فذهب إليهم و بدأ يثير عندهم الأكاذيب حول عثمان و يستدل على قوله بكتب مزيفة كتبها هو و أعوانه على ألسنة طلحة و الزبير و عائشة ، فيها التذمر على سياسة عثمان في الحكم ، فصار الأعراب و هم الذين لا يفقهون من دين الله الشيء الكثير ، يتأثرون بهذه الأكاذيب و يصدقونها فملئت قلوبهم على عثمان رضي الله عنه . استشهاد عثمان ( ص 87-99 ) .
بعد ذلك اتجه ابن سبأ إلى هدفه المرسوم ، و هو خروج الناس على الخليفة عثمان رضي الله عنه ، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم فقال لهم : إن عثمان أخذ الأمر بغير حق و هذا وصي الرسول صلى الله عليه وسلم ، فانهضوا في هذا الأمر فحركوه ، و ابدؤوا بالطعن في أمرائكم و أظهروا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تستميلوا الناس ، و ادعوهم إلى هذا الأمر . تاريخ الطبري (4/341) ، من طريق سيف بن عمر .
و يظهر من هذا النص الأسلوب الذي اتبعه ابن سبأ ، فهو أراد أن يوقع في أعين الناس بين اثنين من الصحابة حيث جعل أحدهما مهضوم الحق و هو علي ، و جعل الثاني مغتصباً و هو عثمان .
ثم إنه أخذ يحضّ أتباعه على إرسال الكتب بأخبار سيئة مفجعة عن مِصرهم إلى بقية الأمصار ، فيتخيل أهل البصرة مثلاً أن حال أهل مصر أسوأ ما يكون من قبل واليهم ، و يتخيل أهل مصر أن حال أهل الكوفة أسوأ ما يكون من قبل واليهم ، و كان أهل المدينة يتلقّون الكتب من الأمصار بحالها و سوئها من أتباع ابن سبأ ، وهكذا يتخيل الناس في جميع الأمصار أن الحال من السوء مالا مزيد عليه ، و المستفيد من هذه الحال هم السبئية ، لأن تصديق ذلك من الناس يفيدهم في إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلامي .
هذا و قد شعر عثمان رضي الله عنه بأن شيئاً ما يحاك في الأمصار و أن الأمة تمخض بشرّ فقال : والله إن رحى الفتنة لدائرة ، فطوبى لعثمان إن مات و لم يحركها . تاريخ الطبري (4/343) ، من طريق سيف بن عمر .(116/44)
روى الترمذي عن ابن عمر قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقال : يقتل هذا فيها مظلوماً - لعثمان بن عفان - صحيح سنن الترمذي (3/210) و أنظر: فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/451) .
و روى الترمذي في سننه (5/628) و ابن ماجة عن كعب بن عجرة قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقربها ، فمر رجل مقنع رأسه فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا يومئذ على الحق ، فوثبت فأخذت بضبعي عثمان ثم استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : هذا ؟ قال : هذا . المسند (4/242) و صحيح ابن ماجة (1/24-25) و صحيح سنن الترمذي (3/210) و فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/450) .
و الذي حصل أن أهل الفتنة أخذوا يتراسلون فيما بينهم ، فلما رأوا أن عددهم قد كثر تواعدوا على أن يلتقوا عند المدينة في شوال من سنة (35هـ) في صفة الحجاج ، فخرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء المقلّل يقول ستمائة و المكثر يقول ألف .. و لم يجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إلى الحرب ، و إنما خرجوا كالحجاج و معهم ابن السوداء ..و خرج أهل الكوفة في عدد كعدد أهل مصر ، و كذا أهل البصرة ، و لما اقتربوا من المدينة شرعوا في تنفيذ مرحلة أخرى من خطتهم ، فقد اتفق أمرهم أن يبعثوا اثنين منهم ليطلعا على أخبار المدينة و يعرفا أحوال أهلها ، ذهب الرجلان فلقيا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم و علياً و طلحة و الزبير ، و قالا : إنما جئنا نستعفي عثمان من بعض عمالنا ، و استأذنا لرفاقهم بالدخول ، فأبى الصحابة ، و قال علي رضي الله عنه : لا آمركم بالإقدام على عثمان فإن أبيتم فبيض سيفرخ . الطبري (4/349-350) ، من طريق سيف بن عمر .(116/45)
تظاهر القوم بالرجوع و هم يبطنون أمراً لا يعلمه الناس ، فوصلت الأنباء إلى أهل المدينة بانصراف أهل الفتنة فهدأ الناس ، و في الليل فوجئ أهل المدينة بأهل الفتنة يدخلون المدينة من كل مكان فتجمعوا في الشوارع و هم يكبرون ، فجاء علي بن أبي طالب و قال : ما شأنكم ؟ لماذا عدتم ؟ فرد عليه الغافقي بأن عثمان غدر بهم ، قال كيف ؟ قال : قبضنا على رسول و معه كتاب من عثمان يأمر فيه الأمراء بقتلنا ، فقال علي لأهل الكوفة و البصرة : و كيف علمتم بما لقي أهل مصر و قد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا ، هذا والله أمر أبرم بالمدينة ، و كان أمر الكتاب الذي زوّر على لسان عثمان رضي الله عنه اتخذوه ذريعة ليستحلوا دمه و يحاصروه في داره إلى أن قتلوه رضي الله عنه .
و فوق هذا كله فالثائرون يفصحون عن هدفهم ويقولون : ضعوه على ما شئتم ، لا حاجة لنا في هذا الرجل ليعتزلنا و نحن نعتزله . الطبري (4/351) ، من طريق سيف بن عمر .
و علاوة على ذلك هناك ما يؤكد تزوير هذا الكتاب ، إذ ليس هو الكتاب الوحيد الذي يزوّر على لسان الصحابة ، فهذه عائشة رضي الله عنها ، تُتهم بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان فتنفي
و تقول : لا والذي آمن به المؤمنون و كفر به الكافرون ما كتبت لهم سواداً في بياض حتى جلست مجلسي هذا . البداية والنهاية (7/195) و انظر ما رواه الطبري من استنكار كبار الصحابة أنفسهم لهذه الكتب في أصح الروايات (4/355) .
و ما تلك اليد الخفية التي كانت تخط وراء الستار لتوقع الفرقة بين المسلمين ، و تضع في سبيل ذلك الكتب على لسان الصحابة و تدبر مكيدة الكتاب المرسل إلى عامل عثمان على مصر ، و تستغل الأمور لتقع الفتنة بالفعل إلا يد ذلك اليهودي الخبيث و أتباعه ، فهم المحركون للفتنة .(116/46)
توقفنا في المرة السابقة عند رجوع الوفد المصري بعد أن زعم أنه قبض على رسول من عثمان إلى عامله في مصر يأمره بقتلهم ، و عرفنا أن هذا الكتاب ليس هو الوحيد الذي زور على عثمان ، و ظهرت حقيقة اليد التي زورت و خططت ، واليوم إن شاء الله نكمل الموضوع الذي بدأناه .
هنا استشار عثمان كبار الصحابة في أمر التخلي عن الخلافة لتهدأ الفتنة ، و كان المغيرة بن الأخنس قد أشار عليه بالخلع لئلا يقتله الخارجون عليه ، و قد سأل عثمان ابن عمر عن رأي المغيرة فنصحه بأن لا يخلع نفسه و قال له : فلا أرى لك أن تخلع قميصاً قمصكه الله فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم أو أميرهم قتلوه . طبقات ابن سعد (3/66) بإسناد صحيح و رجاله رجال الشيخين ، و تاريخ خليفة (ص170) بإسناد حسن .
و هناك بعض الروايات تفيد أن عثمان رضي الله عنه أرسل إلى الأمصار يطلب منهم العون بعد أن اشتد عليه التضييق و الحصار ، و هذا الخبر لا يصح منه شيء ، لأن منهج عثمان رضي الله عنه كان الصبر و الكف عن القتال امتثالاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم له ، و ذلك لحديث عائشة رضي الله عنها كما عند ابن أبي عاصم في السنة (2/561) قالت : لما كان يوم الدار قيل لعثمان : ألا تقاتل ؟ قال : قد عاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد سأصبر عليه ، قالت عائشة : فكنا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليه فيما يكون من أمره .
لهذا وضع مصلحة الرعية في المقام الأول ، فعندما عرض عليه معاوية أن يبعث إليه بجيش يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياه قال رضي الله عنه : أنا لا أقتر على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرزاق بجند يساكنهم ، و أضيّق على أهل الهجرة و النصرة ، فقال له معاوية : والله يا أمير المؤمنين لتغتالنّ أو لتغزينّ ، فقال عثمان : حسبي الله ونعم الوكيل . الطبري (4/345) . و حوصر عثمان بعدها في داره .(116/47)
يقول ابن خلدون : إن الأمر في أوله خلافة ، و وازع كل أحد فيها من نفسه هو الدين و كانوا يؤثرونه على أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة ، فهذا عثمان لما حصر في داره جاءه الحسن
و الحسين و عبد الله بن عمر و ابن جعفر و أمثالهم يريدون المدافعة عنه ، فأبى و منع سلّ السيوف بين المسلمين مخافة الفرقة ، و حفظاً للألفة التي بها حفظ الكلمة و لو أدّى إلى هلاكه . مقدمة ابن خلدون (ص207-208) .
و إلى جانب صبره و احتسابه و حفظاً لكيان الأمة من التمزق و الضياع وقف عثمان رضي الله عنه موقفاً آخر أشد صلابة ، و هو عدم إجابته الخارجين إلى خلع نفسه من الخلافة ؛ فلو أجابهم إلى ما يريدون لسنّ بذلك سنّة ، و هي كلما كره قوم أميرهم خلعوه ، و مما لاشك فيه أن هذا الصنيع من عثمان كان أعظم
و أقوى ما يستطيع أن يفعله ، إذ لجأ إلى أهون الشرين و أخف الضررين ليدعم بهذا الفداء نظام الخلافة .
كان الخارجون عليه يطلبون منه ثلاثة أمور كما جاء ذلك عند ابن سعد في الطبقات (3/72-73) ، قال عثمان للأشتر : يا أشتر ما يريد الناس مني ؟ قال : ثلاث ليس لك من إحداهن بدّ ، قال : ما هن ؟ قال : يخيرونك بين أن تخلع لهم أمرهم ، فتقول هذا أمركم فاختاروا من شئتم ، و بين أن تقصّ من نفسك ، فإن أبيت هاتين فإن القوم قاتلوك . قال : أما ما من إحداهن بدّ ؟ قال : لا ، ما من إحداهن بدّ . قال : أما أن أخلع لهم أمرهم ، والله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إليّ من أن أخلع أمة محمد بعضها على بعض ، و أما أن أقص من نفسي فوالله لقد علمت أن صاحبي بين يديّ قد كان يعاقبان و ما يقوم بدّ من القصاص ، و أما أن تقتلوني فوالله لئن قتلتموني لا تحابّون بعدي أبداً و لا تصلون بعدي جميعاً أبداً و لا تقاتلون بعدي عدواً جميعاً أبداً .(116/48)
و لهذا احتج عثمان رضي الله عنه على المحاصرين بقوله : إن وجدتم في كتاب الله - و في رواية - في الحق أن تضعوا رجليَّ في قيد فضعوها . تاريخ خليفة (ص171) و أحمد في فضائل الصحابة (1/492) قال المحقق : إسناده صحيح ، و انظر : الطبقات (3/69-70 ) بلفظ قريب .
و أخرج أحمد في فضائل الصحابة (1/464) و في المسند (1/63) و الترمذي في السنن (4/460-461) و ابن ماجة في السنن (2/847) و أبو داود في سننه (4/640-641) بإسناد حسن أن عثمان رضي الله عنه أشرف على الذين حصروه فقال : علام تقتلوني ! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ، رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم ، أو قتل عمداً فعليه القود ، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل . فوالله ما زنيت في جاهلية و لا إسلام ، ولا قتلت أحداً فأقيد نفسي منه ، ولا ارتدت منذ أسلمت و إني اشهد ألا إله إلا الله و أن محمداً عبده و رسوله ففيما تقتلوني ؟! .
و ثبت أن عثمان اتخذ موقفاً واضحاً حاسماً يتمثل في عدم المقاومة ، وأنه ألزم به الصحابة فقال : أعزم على كل من رأى عليه سمعاً و طاعة إلا كفّ يده و سلاحه ، فخرج كل من الحسن و الحسين و عبد الله بن عمر و أصر عبد الله بن الزبير على البقاء و معه مروان بن الحكم ، فلما طلب منه ابن الزبير أن يقاتل الخارجين ، قال عثمان : لا والله لا أقاتلهم أبداً . تاريخ خليفة (ص173-174) و مصنف ابن أبي شيبة (15/204) و طبقات ابن سعد (3/70) و كلهم بأسانيد صحيحة .
و ممن أراد القتال دفاعاً عن عثمان الصحابي أبو هريرة و كان متقلداً سيفه ، لكن عثمان لم يأذن له قائلاً : يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعاً و إياي ؟ قال : لا ، قال : فإنك والله إن قاتلت رجلاً واحداً فكأنما قُتل الناس جميعاً . قال أبو هريرة : فرجعت و لم أقاتل . الطبقات لابن سعد (3/70) و تاريخ خليفة (ص173) و إسنادهما صحيح .(116/49)
و استمر الحصار عليه رضي الله عنه حتى أنهم منعوا عنه الماء ، فوصل الخبر إلى أمهات المؤمنين فتحركت أم حبيبة رضي الله عنها و كانت من أقارب عثمان ، فأخذت الماء و جعلته تحت ثوبها ، و ركبت البغل و اتجهت نحو دار عثمان ، فدار بينها وبين أهل الفتنة كلام فقال الأشتر كذبت بل معك الماء و رفع الثوب فرأى الماء فغضب و شق الماء ، قال كنانة مولى صفية : كنت أقود بصفية لتردَّ عن عثمان فلقيها الأشتر فضرب وجه بغلتها حتى مالت فقالت : ردوني و لا يفضحني هذا الكلب . التاريخ الكبير للبخاري (7/237) و ابن سعد في الطبقات (8/128) بإسناد صحيح . و كذلك الطبري (4/385-386) .
و في رواية عند الإمام أحمد في فضائل الصحابة من طريق الحسن البصري قال : لما اشتد أمرهم يوم الدار ، قال : قالوا فمن ، فمن ؟ قال : فبعثوا إلى أم حبيبة فجاؤوا بها على بغلة بيضاء و ملحفة قد سترت ، فلما دنت من الباب قالوا : ما هذا ؟ قالوا : أم حبيبة ، قالوا : والله لا تدخل ، فردوها . فضائل الصحابة (1/492) .و قال المحقق إسناده صحيح .
و حدثت بعض المناوشات بين شباب الصحابة و الثوار فجرح خلالها بعض الصحابة أمثال الحسن بن علي
و غيره ، و هذا الخبر يؤيده ما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (3/1387) ، و البخاري في التاريخ الكبير (7/237) ، عن كنانة مولى صفية بنت حيي بن أخطب قال : شهدت مقتل عثمان ، فأخرج من الدار أمامي أربعة من شبان قريش ملطخين بالدم محمولين ، كانوا يدرؤون عن عثمان رضي الله عنه : الحسن بن علي ، و عبد الله بن الزبير ، و محمد بن حاطب ، و مروان بن الحكم .(116/50)
و تتضافر روايات ضعيفة للدلالة على أن عثمان و هو محصور في الدار بعث إلى علي يطلبه ، و أن علياً استجاب لأمره لكنه لم يتمكن من الوصول إلى الدار التي كان المعارضون يطوقونها ، فقال علي للثّوار : يأيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين و لا أمر الكافرين فلا تمنعوا عن هذا الرجل الماء و لا الطعام فإن الروم و فارس لتأسر و تطعم و تسقي ، و لكن لم يستطع أن يفعل شيئاً ، فحل عمامته السوداء التي كان يرتديها و رمى بها إلى رسول عثمان ، فحملها الرسول إلى عثمان فعلم عثمان أن علي حاول المساعدة لكنه لم يستطع . مصنف ابن أبي شيبة (15/209) بسند منقطع ، و طبقات ابن سعد (3/68-69) بسند منقطع ، و سند آخر منقطع مع تدليس حبيب بن أبي ثابت ، و الطبري (4/386) ، انظر : عصر الخلافة الراشدة لأكرم العمري ( ص427) .
يوم الدار .. و استمر الحصار على عثمان رضي الله عنه أياماً عديدة قدرها بعض المؤرخين بأنه من أواخر ذي القعدة إلى الثاني عشر من ذي الحجة سنة خمس و ثلاثين ، و كان خلالها في غاية الشجاعة و ضبط النفس رغم قسوة الظروف و رغم الحصار ، و لطالما كان يطل على المحاصرين و يخطب فيهم و يذكرهم بمواقفه لعلهم يلينون ، لكنهم لم يفعلوا .
و في يومٍ أشرف عثمان على القوم بعد أن طلبهم للاجتماع حول داره للحديث معهم ، روى الترمذي ،(116/51)
و النسائي من طريق ثمامة بن حَزْن القشيري قال : شهدت الدار حيث أشرف عليهم عثمان فقال : أنشدكم بالله و الإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المدينة و ليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال من يشتري بئر رومة يجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين بخير له في الجنة ؟ فاشتريتها من صلب مالي ؟ قالوا : اللهم نعم . و زاد البخاري ، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من جهز جيش العسرة فله الجنة ، فجهزته قالوا : اللهم نعم . و زاد الترمذي عن أبي إسحاق ، هل تعلمون أن حراء حين انتفض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أثبت حراء فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد ؟ قالوا : نعم ، و هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير منها في الجنة ؟ فاشتريتها من صلب مالي ، فأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها ؟ قالوا : نعم . و عند الدارقطني ، و هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني ابنتيه واحدة بعد أخرى رضي بي و رضي عني ؟ قالوا : نعم . و عند الحاكم ، قال لطلحة : أتذكر إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم : أن عثمان رفيقي في الجنة ؟ قال : نعم . سنن الترمذي (5/627) و النسائي (6/233-236) و الدارقطني (4/197) و المستدرك (3/97) و الفتح (5/477-479) .
و قال أبو هريرة رضي الله عنه للذين حاصروا عثمان رضي الله عنه يوم الدار : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنكم تلقون بعدي فتنة و اختلافاً ، أو قال : اختلافاً و فتنة ، فقال له قائل من الناس : فمن لنا يا رسول الله ؟ فقال : عليكم بالأمين و أصحابه ، و هو يشير إلى عثمان بذلك . أنظر : فضائل الصحابة للإمام أحمد (450-451) و قال المحقق إسناده صحيح .(116/52)
عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه : وددت أن عندي بعض أصحابي ، قلنا : يا رسول الله ألا ندعو لك أبا بكر ؟ فسكت . قلنا : ألا ندعو لك عمر ؟ فسكت . قلنا : ألا ندعو لك عثمان ؟ قال نعم . فجاء فخلا به ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه ، و وجه عثمان
يتغير . أنظر : صحيح سنن ابن ماجة (1/25) و قال الألباني إسناده صحيح .
و عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما كان يوم الدار قيل لعثمان : ألا تقاتل ؟ قال : قد عاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد سأصبر عليه . قالت عائشة : فكنا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليه فيما يكون من أمره . أنظر : كتاب السنة لابن أبي عاصم (2/561) و قال الألباني إسناده صحيح .
و كان أهل الفتنة أثناء حصارهم لعثمان في داره و منعه من الصلاة بالناس ، هم الذين يصلون بهم ، و كان الذي يصلي بالناس الغافقي بن حرب .
أخرج البخاري في صحيحه عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن خيار : أنه دخل على عثمان و هو محصور فقال : إنك إمام عامة ، و نزل بك ما نرى و يصلي لنا إمام فتنة و نتحرج ، فقال : الصلاة أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم ، و إذا أساءوا فاجتنب إساءتهم . البخاري مع الفتح (2/221) .
ليلة مقتل عثمان ..(116/53)
و قبيل مقتله يرى عثمان رضي الله عنه في المنام اقتراب أجله فيستسلم لأمر الله ؛ روى الحاكم بإسناد صحيح إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن عثمان أصبح يحدث الناس قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال : يا عثمان ! أفطر عندنا ، فأصبح صائماً و قتل من يومه . المستدرك (3/ 99) و قال هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه ، و وافقه الذهبي و رواه أحمد في فضائل الصحابة من طريق آخر (1/497) قال المحقق : إسناده حسن ، و ورد بلفظ آخر عند ابن حجر في المطالب العالية (4/291) قال المحقق : قال البوصيري رواه البزار و أبو يعلى و الحاكم و قال : صحيح الإسناد ، و ذكره الهيثمي في المجمع (7/232) و صححه الحاكم في المستدرك (3/103) و ذكره ابن سعد في الطبقات(3/75) .
أخرج خليفة بن خياط في تاريخه ( ص 174) بسند رجاله ثقات إلى أبي سعيد مولى أبي أسيد قال : فتح عثمان الباب و وضع المصحف بين يديه ، فدخل عليه رجل فقال : بيني و بينك كتاب الله ، فخرج وتركه ، ثم دخل عليه آخر فقال : بيني و بينك كتاب الله ، فأهوى إليه بالسيف ، فاتقاه بيده فقطعها ، فلا أدري أبانها أم قطعها و لم يبنها ، فقال والله إنها لأول كف خطت المفصّل .(116/54)
هذا ما ورد عن كيفية دخول الثوار على عثمان رضي الله عنه ، و تتوزع سيوفهم دماءه الطاهرة ، فأخذ الغافقي حديدة و نزل بها على عثمان رضي الله عنه فضربه بها و رَكَسَ المصحف برجله فطار المصحف و استدار و رجع في حضن عثمان و سال الدم فنزل عند قوله تعالى :{ فسيكفيكهم الله }[ البقرة /138] ، هنا أرادت نائلة زوجة عثمان أن تحميه فرفع سودان السيف يريد أن يضرب عثمان فوضعت يدها فقطع أصابعها فولت صارخة تطلب النجدة فضربها في مؤخرتها ، و ضرب عثمان على كتفه فشقه ثم نزل عليه بخنجر فضربه تسع ضربات و هو يقول : ثلاث لله و ست لما في الصدور ، ثم قام قتيرة فوقف عليه بالسيف ثم اتكأ على السيف فأدخله في صدره ثم قام أشقاهم و أخذ يقفز على صدره حتى كسّر أضلاعه ، هنا قام غلمان عثمان بالدفاع عنه و استطاعوا أن يقتلوا كل من سودان و قتيرة ، لكن أهل الفتنة قتلوا الغلمان جميعاً و تركوا جثثهم داخل الدار ، ثم قام جماعة من الصحابة و ذهبوا إلى داره و خرجوا به و دفنوه رضي الله عنه بليل في حش كوكب ، وكانت مقبرة لليهود فاشتراها عثمان ، و هي في ظهر البقيع فدفن فيها و لم يدفن في البقيع لعدم إذن أهل الفتنة ، ثم إنه في عهد معاوية وسع البقيع و أدخل فيه المكان فصار قبر عثمان داخل البقيع . معجم البلدان (2/262) ، انظر هذا الخبر في الطبري (4/412) . و انظر خبر دمه على المصحف في فضائل الصحابة عند أحمد (1/470-473) بإسناد صحيح و تاريخ خليفة (ص188-190) و المطالب العالية (4/286) و موارد الظمآن (7/128) .(116/55)
و يكشف أيضاً عن مقاصد القوم ما ذكره ابن كثير في البداية (7/189) : من أن الخوارج نادى بعضهم بعضاً بعد مقتل عثمان بالسطو على بيت المال ، فسمعهم خزنة بيت المال فقالوا يا قوم النجا ! النجا فإن هؤلاء القوم لم يصدقوا فيما قالوا من أن قصدهم قيام الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و غير ذلك مما ادّعوا أنهم قاموا لأجله ، و كذبوا إنما قصدهم الدنيا . فأخذوا ما به من أموال ثم سطوا على دار عثمان و أخذوا ما به حتى إن أحدهم أخذ العباءة التي كانت على نائلة . تاريخ الطبري (4/391) .
فكانت هذه هي البلوى التي بشره النبي صلى الله عليه وسلم و التي يقتل فيها مظلوماً ، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً ، فجاء رجل يستأذن فقال : ائذن له و بشره بالجنة ، فإذا هو أبو بكر ، ثم جاء آخر يستأذن فقال : ائذن له و بشره بالجنة فإذا هو عمر ، ثم جاء آخر يستأذن ، فسكت هنيهة ثم قال : ائذن له و بشره بالجنة على بلوى تصيبه ، فإذا هو عثمان . و يعقب ابن حجر على ذلك بقوله : إن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بالبلوى المذكورة إلى ما أصاب عثمان في آخر خلافته من الشهادة يوم الدار . الفتح (7/38) و (13/55) . و الحديث موجود في البخاري (7/65) و رواه الإمام مسلم في صحيحه برقم ( 6162) و ( 6164) .
فائدة.. قال ابن بطال : إنما خص عثمان بذكر البلاء مع أن عمر قتل أيضاً لكون عمر لم يمتحن بمثل ما امتحن عثمان من تسلط القوم الذين أرادوا منه أن ينخلع من الإمامة بسبب ما نسبوه إليه من الجور و الظلم مع تنصله من ذلك ، و اعتذاره عن كل ما أوردوه عليه ، ثم هجومهم عليه في داره و هتكهم ستر أهله ،
و كل ذلك زيادة على قتله . فتح الباري : (13/55) .(116/56)
و قد اختلفت الروايات في تعيين قاتله على الصحيح ، لكن هذا ليس مهماً لأن المشارك كالقاتل و المتسبب كالمباشر ، و إنما المهم هو التعرّف على هوية قاتليه ، فهم غوغاء من الأمصار كما وصفهم الزبير رضي الله عنه ، و هم نزّاع القبائل كما تقول عائشة ، انظر : الطبري (4/461-462) . و هم حثالة الناس متفقون على الشر كما يصفهم ابن سعد في طبقاته (3/71) . و هم خوارج مفسدون و ضالون باغون كما ينعتهم ابن تيمية في منهاج السنة (6/297) .
هذا بالنسبة لمن شارك في الفتنة ، أما بالنسبة لمن تولى قتل عثمان بنفسه فإني أشارك أخي الدكتور خالد الغيث فيما ذهب إليه من كون ابن سبأ هو الذي تولى قتل عثمان رضي الله عنه ، و إليكم تفصيل ذلك : فحسب ما توفرت لدي من روايات ، جاء نعت قاتله بالموت الأسود و حمار، كما عند خليفة بن خياط (ص174-175) ، أو جبلة - الغليظ - كما عند ابن سعد (3/83-84) ، أو جبلة بن الأيهم كما عند ابن عبد البر . الاستيعاب (3/1046) ضمن ترجمة عثمان بن عفان ، و أورده كذلك بنفس للفظ ضمن ترجمة محمد بن أبي بكر (3/1367) . و كلمة الأيهم ما هي إلا زيادة غير مقصودة من ناسخ المخطوطة
و سببها هو اشتهار اسم جبلة بن الأيهم ذلك الأمير الغساني الذي ارتد زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه . و يؤيد ذلك أن راوي الخبر و هو كنانة مولى صفية هو نفسه راوي الروايتين ، أنظر : جمهرة أنساب العرب لابن حزم (372) .
و بدراسة الروايات السابقة اتضح ما يلي :-
أ- أن تلك الروايات لم تسم قاتل عثمان ، بل تذكر اللقب الذي أطلق عليه .
ب- ذكرت إحدى الروايات أن قاتل عثمان يقال له : حمار . و كلمة حمار لعلها تحريف لكلمة جبلة .
و يؤيد ذلك ما قيل بخصوص زيادة كلمة - الأيهم - على اسم جبلة عند راوي الخبر ، و هو كنانة مولى صفية ، لأن راوي خبر لفظة حمار هو كنانة أيضاً . هذا بالإضافة إلى التشابه الموجود في متون تلك الروايات .(116/57)
و مما سبق يلاحظ أن الذي قتل عثمان رضي الله عنه يعد شخصاً واحداً ذا ألقاب عدة ، فهو الموت الأسود ، و هو رجل أسود من أهل مصر يقال له جبلة ، و هو عبد الله بن سبأ - ابن السوداء - الذي جاء إلى المدينة مع وفد مصر . لمزيد من التفصيل في ذلك راجع : استشهاد عثمان و وقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري ، للدكتور : خالد بن محمد الغيث (ص128-130) .
قال محب الدين الخطيب في حاشيته على العواصم (ص73) : الذين شاركوا في الجناية على الإسلام يوم الدار طوائف على مراتب ، فيهم الذين غلب عليهم الغلو في الدين فأكبروا الهنات و ارتكبوا في إنكارها الموبقات ، و فيهم الذين ينزعون إلى عصبية يمنية على شيوخ الصحابة من قريش ، و لم تكن لهم في الإسلام سابقة ، فحسدوا أهل السابقة من قريش على ما أصابوا من مغانم شرعية جزاء جهادهم و فتوحهم ، فأرادوا أن يكون لهم مثلها بلا سابقة ولا جهاد . و فيهم الموتورون من حدود شرعية أقيمت على بعض ذويهم فاضطغنوا في قلوبهم الإحنة و الغل لأجلها ، و فيهم الحمقى الذين استغل السبأيون ضعف قلوبهم فدفعوهم إلى الفتنة و الفساد و العقائد الضالة ، و فيهم من أثقل كاهله خير عثمان و معروفه نحوه ، فكفر معروف عثمان عندما طمع منه بما لا يستحقه من الرئاسة و التقدم بسبب نشأته في أحضانه ، و فيهم من أصابهم من عثمان شيء من التعزير لبوادر بدرت منهم تخالف أدب الإسلام ، فأغضبهم التعزير الشرعي من عثمان ، و لو أنهم قد نالهم من عمر أشد منه لرضوا به طائعين ، و فيهم المتعجلون بالرياسة قبل أن يتأهلوا لها اغتراراً بما لهم من ذكاء خلاب أو فصاحة لا تغذيها الحكمة ، فثاروا متعجلين بالأمر قبل إبانه ، و بالإجمال فإن الرحمة التي جبل عليها عثمان رضي الله عنه وامتلأ بها قلبه أطمعت الكثيرين فيه ، و أرادوا أن يتخذوا من رحمته مطية لأهوائهم .(116/58)
و لعله بعد هذا لا يبقى مكان و لا مصداقية للروايات التي تشرك الصحابة رضوان الله عليهم في قتل عثمان و التآمر عليه ، فقد اجتهدوا في نصرته و الذبّ عنه ، و بذلوا أنفسهم دونه ، فأمرهم بالكف عن القتال و قال إنه يحب أن يلقى الله سالماً ولوا أذن لهم لقاتلوا عنه ، فثبتت براءتهم من دمه رضوان الله عليهم كبراءة الذئب من دم يوسف .
و ظهرت حقيقة الأيدي التي كانت تحرك الفتنة ، و التي لطالما دندن الإخباريون الشيعة حولها بأنها أيدي الصحابة ، و الحمد لله فقد حفظت لنا كتب المحِّدثين الروايات الصحيحة و التي يظهر فيها الصحابة من المؤازرين لعثمان و المنافحين عنه المتبرئين من قتله ، و المطالبين بدمه بعد قتله ، و بذلك يستبعد أي اشتراك لهم في تحريك الفتنة أو إثارتها .
و قد يتساءل قارئ أو يقول قائل : كيف قتل عثمان رضي الله عنه و بالمدينة جماعة من كبار الصحابة رضوان الله عليهم ؟ و هو سؤال وضعه ابن كثير في البداية والنهاية (7/197-198) ثم أجاب عنه و قد شاركه المالقي في التمهيد والبيان ( ص 131-132) في الإجابة ، موضحين ما يلي :-
أولاً : إن كثيراً من الصحابة أو كلهم لم يكونوا يظنون أن يبلغ الأمر إلى قتله ، فإن أولئك الخوارج لم
يكونوا يحاولون قتله عيناً بل طلبوا من أحد أمور ثلاثة : إما أن يعزل نفسه أو يسلم إليهم مروان بن
الحكم أو يقتلوه . و كانوا يرجون أن يسلم إليهم مروان – لأتهم يتهمونه بأنه هو الذي كتب الكتاب
على لسان عثمان يأمر فيه والي مصر بقتلهم ، و هذا لم يثبت و ليس هناك دليل صحيح - أو أن
يعزل نفسه و يستريح من هذه الضائقة الشديدة . و أما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع ، و لا أن
هؤلاء يجرؤن عليه إلى هذا الحدّ .
ثانياً : إن الصحابة دافعوا عنه ، لكن لما وقع التضييق الشديد عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم حقناً(116/59)
لدماء المسلمين ففعلوا ، فتمكن المحاصرون مما أرادوا .
ثالثاً : أن هؤلاء الخوارج اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في موسم الحج و غيبتهم في الثغور و الأمصار ،
و ربما لم يكن في المتبقين من أهل الدينة ما يقابل عدد الخوارج الذين كانوا قريباً من ألفي مقاتل .
رابعاً : إن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار لحماية عثمان رضي الله عنه ، لكن عثمان علم أن في
الصحابة قلة عدد و أن الذين يريدون قتله كثير عددهم ، فلو أذن لهم بالقتال لم يأمن أن يتلف من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه كثير ، فوقاهم بنفسه إشفاقاً منه عليهم لأنه راع
عليهم ، و الراعي يجب عليه أن يحفظ رعيته بكل ما أمكنه ، و مع ذلك فقد علم أنه مقتول فصانهم
بنفسه - حقناً لدماء المسلمين- .
خامساً : أنه لما علم أنها فتنة ، و أن الفتنة إذا سلّ فيها السيف لم يؤمن أن يقتل فيها من لا يستحق القتل ،
فلم يختر لأصحابه أن يسلوا السيف في الفتنة إشفاقاً عليهم ، و حتى لا تذهب فيها الأموال و يهتك
فيها الحريم فصانهم عن جميع هذا .
سادساً : يحتمل أن يكون عثمان رضي الله عنه صبر عن الانتصار ليكون الصحابة شهوداً على من ظلمه ،
و خالف أمره و سفك دمه بغير حق ، لأن المؤمنين شهداء الله في أرضه .(116/60)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (6/286) : و من المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء و أصبر الناس على من نال من عرضه و على من سعى في دمه ، فحاصروه و سعوا في قتله و قد عرف إرادتهم لقتله ، و قد جاءه المسلمون ينصرونه و يشيرون عليه بقتالهم ، و هو يأمر الناس بالكف عن القتال ، و يأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم ..و قيل له تذهب إلى مكة فقال : لا أكون ممن الحد في الحرم فقيل له تذهب إلى الشام فقال : لا أفارق دار هجرتي ، فقيل له : فقاتلهم ، فقال : لا أكون أول من خلف محمداً في أمته بالسيف .
فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين .
و مما يناسب هذا المقام ذكر كلام الإمام الآجري في كتاب الشريعة (4/1981-1983) عن موقف الصحابة في المدينة من حصار المنافقين لعثمان رضي الله عنه .
قال الآجري : فإن قال قائل : فقد علموا أنه مظلوم وقد أشرف على القتل فكان ينبغي لهم أن يقاتلوا عنه ،
و إن كان قد منعهم . قيل له : ما أحسنت القول ، لأنك تكلمت بغير تمييز . فإن قال : ولم ؟ قيل : لأن القوم كانوا أصحاب طاعة ، وفقهم الله تعالى للصواب من القول و العمل ، فقد فعلوا ما يجب عليهم من الإنكار بقولهم و ألسنتهم و عرضوا أنفسهم لنصرته على حسب طاقتهم ، فلما منعهم عثمان رضي الله عنه من نصرته علموا أن الواجب عليهم السمع و الطاعة له ، و إنهم إن خالفوه لم يسعهم ذلك ، و كان الحق عندهم فيما رآه عثمان رضي الله عنه و عنهم . فإن قال : فلم منعهم عثمان من نصرته وهو مظلوم ، و قد علم أن قتالهم عنه نهي عن منكر ، و إقامة حق يقيمونه ؟ قيل له : وهذا أيضاً غفلة منك . فإن قال : وكيف ؟ قيل له : مَنْعه إياهم عن نصرته يحتمل وجوهاً كلها محمودة :-(116/61)
أحدها : علمه بأنه مقتول مظلوم ، لا شك فيه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلمه : إنك تقتل مظلوماً فاصبر ، فقال : أصبر . فلما أحاطوا به علم أنه مقتول و أن الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم له حق كما قال لا بد من أن يكون ، ثم علم أنه قد وعده من نفسه الصبر فصبر كما وعد ، وكان عنده أن من طلب الانتصار لنفسه و الذب عنها فليس هذا بصابر إذ وعد من نفسه الصبر ، فهذا وجه .
و وجه آخر : و هو أنه قد علم أن في الصحابة رضي الله عنهم قلة عدد ، و أن الذين يريدون قتله كثير عددهم ، فلو أذن لهم بالحرب لم يأمن أن يتلف من صحابة نبيه بسببه ، فوقاهم بنفسه إشفاقاً منه عليهم ؛ لأنه راع و الراعي واجب عليه أن يحوط رعيته بكل ما أمكنه ، ومع ذلك فقد علم أنه مقتول فصانهم بنفسه ، و هذا وجه .
و وجه آخر : هو أنه لما علم أنها فتنة و أن الفتنة إذا سل فيها السيف لم يؤمن أن يقتل فيها من لا يستحق ، فلم يختر لأصحابه أن يسلوا في الفتنة السيف ، و هذا إنما إشفاقاً منه عليهم هم ، فصانهم عن جميع هذا .
و وجه آخر : يحتمل أن يصبر عن الانتصار ليكون الصحابة رضي الله عنهم شهوداً على من ظلمه و خالف أمره و سفك دمه بغير حق ، لأن المؤمنين شهداء الله عز وجل في أرضه ، و مع ذلك فلم يحب أن يهرق بسببه دم مسلم ولا يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بإهراقه دم مسلم ، و كذا قال رضي الله عنه . فكان عثمان رضي الله عنه بهذا الفعل موفقاً معذوراً رشيداً ، و كان الصحابة رضي الله عنهم في عذر ، و شقي قاتله .(116/62)
و مما سبق نعلم أن منهج عثمان رضي الله عنه أثناء الفتنة و مسلكه مع المنافقين - هذا مصطلح نبوي أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم على الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه ، لحديث ( … فأرادك المنافقون أن تخلع ..الخ ، تقدم تخريجه - ، الذين خرجوا عليه لم تفرضه عليه مجريات الأحداث ، ولا ضغط الواقع ، بل كان منهجاً نابعاً من مشكاة النبوة ، حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر و الاحتساب و عدم القتال حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً . وقد وفىّ ذو النورين رضي الله عنه بوعده و عهده لرسول الله صلى الله عليه وسلم طوال أيام خلافته ، حتى خرّ شهيداً مضجراً بدمائه الطاهرة الزكية ، ملبياً لدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإفطار عنده . انظر : استشهاد عثمان لخالد الغيث (ص116) بتصرف يسير .
أخرج الإمام أحمد في فضائل الصحابة (1/496-497) بإسناد حسن ، من طريق مسلم أبو سعيد مولى عثمان رضي الله عنه : أن عثمان بن عفان أعتق عشرين مملوكاً ، و دعا سراويل فشدها عليه - حتى لا تظهر عورته عند قتله - و لم يلبسها في جاهلية ولا في إسلام ، قال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة في النوم و رأيت أبا بكر و عمر و أنهم قالوا لي : اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة ، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه ، فقتل وهو بين يديه .
و اعتبرت فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه من أخطر الأحداث التي مرّت بها الدولة الإسلامية في عصر الخلافة الراشدة ، و قد تركت من الاختلاف و الانقسام في صفوف الأمة ما كاد يودي بها ، و قد أعقبها فتن داخلية أخرى تتصل بها و تتفرع عنها و هي موقعة الجمل و صفين و النهروان ، كما استمرت آثارها متمثلة في الخوارج و الشيعة المعارضين للدولة الأموية و العصر الأول من الدولة العباسية خاصة ، بل يمكن أن نعتبر الانقسامات الكبرى الناجمة عن الفتنة مؤثرة في الأمة حتى الوقت الحاضر .(116/63)
و كان مقتل عثمان رضي الله عنه صباحاً ، في يوم الجمعة ، الثاني عشر من ذي الحجة ، سنة خمس
و ثلاثين من الهجرة ، و دفن ليلة السبت بين المغرب و العشاء ، بحش كوكب شرقي البقيع ، و هو ابن
اثنتين و ثمانين سنة ، على الصحيح المشهور . رحم الله عثمان و رضي عنه . انظر : ابن سعد (3/77-78) و خليفة بن خياط (ص176) و الطبري (4/415-416) و المسند (2/10) و الذهبي في تاريخ الإسلام عهد الخلفاء الراشدين (ص481) و البداية و النهاية لابن كثير (7/190) والاستيعاب لابن عبد البر (3/1044) .
( الموقف مما شجر بين الصحابة ) .
أقول و بالله التوفيق : اعلم رحمني الله وإياك ؛ أن البحث فيما شجر بين الصحابة ، لا يقرب العبد إلى الله زلفى ، فهم قد لقوا ربهم و هو أعلم بما شجر بينهم ، فإن كان الأمر لا يقربك إلى الله زلفى و إنما قد يقودك إلى النار و أنت لا تعلم ، فتجنبه أولى ؛ إلا في حالة واحدة و سيأتي بيان هذه الحالة .
و معنى الإمساك عما شجر بين الصحابة ، هو عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب و الخلافات على سبيل التوسع و تتبع التفصيلات ، و نشر ذلك بين العامة ، أو التعرض لهم بالتنقص لفئة و الانتصار لأخرى .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ( 3/406) : و كذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم ، و نعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب و هم كانوا مجتهدين ، إما مصيبين لهم أجران أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم ، و ما كان لهم من السيئات ، و قد سبق لهم من الله الحسنى ، فإن الله يغفر لهم إما بتوبة أو بحسنات ماحية أو مصائب مكفرة .(116/64)
و ما شجر بينهم من خلاف فقد كانوا رضي الله عنهم يطلبون فيه الحق و يدافعون فيه عن الحق ، فاختلفت فيه اجتهاداتهم ، و لكنهم عند الله عز وجل من العدول المرضي عنهم ، و من هنا كان منهج أهل السنة والجماعة هو حفظ اللسان عما شجر بينهم ، فلا نقول عنهم إلا خيراً و نتأول و نحاول أن نجد الأعذار للمخطئ منهم و لا نطعن في نيّاتهم فهي عند الله ، و قد أفضوا إلى ما قدموا ، فنترضى عنهم جميعاً و نترحم عليهم و نحرص على أن تكون القلوب سليمة تجاههم .
قال ابن قدامة المقدسي في اللمعة (ص175) : و من السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و محبتهم و ذكر محاسنهم و الترحم عليهم و الاستغفار لهم ، و الكف عن ذكر مساوئهم و ما شجر بينهم ، و اعتقاد فضلهم و معرفة سابقتهم ، قال الله تعالى{ و الذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا}[الحشر/10] و قال تعالى{محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}[الفتح/29] و قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه . البخاري مع الفتح (7/25) و مسلم برقم (6435) .
و يقول الإمام الذهبي رحمه الله في السير(10/92-93) : كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بينهم ، و قتالهم رضي الله عنهم أجمعين و ما زال يمر بنا ذلك في الدواوين و الكتب و الأجزاء ، و لكن أكثر ذلك منقطع و ضعيف و بعضه كذب .. فينبغي طيه و إخفاؤه بل إعدامه لتصفوا القلوب ، و تتوفر على حب الصحابة و الترضي عنهم ، و كتمان ذلك متعين عن العامة و آحاد العلماء .. إلى أن قال : فأما ما نقله أهل البدع في كتبهم من ذلك فلا نعرج عليه ، ولا كرامة فأكثره باطل و كذب و افتراء .
و فضيلة الصحبة و لو للحظة ، لا يوازيها عملٌ ولا تنال درجتها بشيء ، و الفضائل لا تؤخذ بالقياس .(116/65)
و قد أخرج ابن عساكر في تاريخه (59/141) في ترجمة معاوية رضي الله عنه من طريق ابن منده ثم من طريق أبي القاسم ابن أخي أبي زرعة الرازي قال : جاء رجل إلى عمي فقال له : إني أبغض معاوية ، فقال له : لم ؟ قال : لأنه قاتل علياً بغير حق ، فقال له أبو زرعة : رب معاوية ربٌ رحيم و خصم معاوية خصمٌ كريم فما دخولك بينهما ؟.
و قال الآجري رحمه الله في كتاب الشريعة (5/2485-2491) ، باب ذكر الكف عما شجر بين أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و رحمة الله عليهم أجمعين : ينبغي لمن تدبر ما رسمنا من فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم و فضائل أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين ، أن يحبهم و يترحم عليهم و يستغفر لهم ، ويتوسل إلى الله الكريم لهم – أي بالدعاء و الترحم والاستغفار و الترضي – ويشكر الله العظيم إذ وفقه لهذا ، ولا يذكر ما شجر بينهم ، ولا ينقّر عنه ولا يبحث . فإن عارضنا جاهل مفتون قد خطي به عن طريق الرشاد فقال : لم قاتل فلان لفلان ، ولم قتل فلان لفلان وفلان ؟!.
قيل له : ما بنا و بك إلى ذكر هذا حاجة تنفعنا ولا تضرنا إلى علمها .
فإن قال قائل : و لم ؟
قيل : لأنها فتن شاهدها الصحابة رضي الله عنهم ، فكانوا فيها على حسب ما أراهم العلم بها ، و كانوا أعلم بتأويلها من غيرهم ، و كانوا أهدى سبيلاً ممن جاء بعدهم ، لأنهم أهل الجنة ، عليهم نزل القرآن ، و شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، و جاهدوا معه ، و شهد لهم الله عز وجل بالرضوان والمغفرة و الأجر العظيم ، و شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون ، فكانوا بالله عز وجل أعرف و برسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وبالسنة ، و منهم يؤخذ العلم ، و في قولهم نعيش و بأحكامهم نحكم ، و بأدبهم نتأدب و لهم نتبع و بهذا أمرنا .
فإن قال قائل : و أيش الذي يضرنا من معرفتنا لما جرى بينهم و البحث عنه ؟(116/66)
قيل له : لاشك فيه ؛ و ذلك أن عقول القوم كانت أكبر من عقولنا ، و عقولنا أنقص بكثير ، ولا نأمن أن نبحث عما شجر بينهم فنزل عن طريق الحق و نتخلف عما أمرنا فيهم .
فإن قال قائل : و بم أمرنا فيهم ؟
قيل : أمرنا بالاستغفار لهم والترحم عليهم والمحبة لهم و الاتباع لهم ، دل على ذلك الكتاب والسنة و قول أئمة المسلمين ، وما بنا حاجة إلى ذكر ما جرى بينهم ، قد صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، و صاهرهم ، و صاهروه ، فبالصحبة له يغفر الله الكريم لهم ، و قد ضمن الله عز وجل لهم في كتابه ألا يخزي منهم واحداً ، و قد ذكر لنا الله تعالى في كتابه أن وصفهم في التوراة و الإنجيل ؛ فوصفهم بأجمل الوصف ، و نعتهم بأحسن النعت ، وأخبرنا مولانا الكريم أنه قد تاب عليهم ، و إذا تاب عليهم لم يعذب واحداً منهم أبداً رضي الله عنهم و رضوا عنه{أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون}[المجادلة/22] .
فإن قال قائل : إنما مرادي من ذلك لأن أكون عالماً بما جرى بينهم ، فأكون لم يذهب عليّ ما كانوا فيه لأني أحب ذلك ولا أجهله .
قيل له : أنت طالب فتنة ، لأنك تبحث عما يضرك ولا ينفعك ، و لو اشتغلت بإصلاح ما لله عز وجل عليك فيما تعبدك به من أداء فرائضه و اجتناب محارمه كان أولى بك . و قيل له : ولا سيّما في زماننا هذا مع قبح ما قد ظهر فيه من الأهواء الضالة – فما يقول رحمه الله لو رأى ما يحدث و يقال في زمننا هذا - .
و قيل له : اشتغالك بمطعمك ، و ملبسك من أين ؟ هو أولى بك ، و تمسكك بدرهمك من أين هو ؟ و فيم تنفقه ؟ أولى بك .
و قيل : لا نأمن أن تكون بتنقيرك و بحثك عما شجر بين القوم إلى أن يميل قلبك فتهوى ما يصلح لك أن تهواه ، و يلعب بك الشيطان فتسب و تبغض من أمرك الله بمحبته و الاستغفار له و باتباعه ، فتزل عن طريق الحق ، و تسك طريق الباطل .(116/67)
فإن قال : فاذكر لنا من الكتاب و السنة و عمن سلف من علماء المسلمين ما يدل على ما قلت ، لنرد نفوسنا عما تهواه من البحث عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم .
قيل له : قد تقدم ذكرنا لما ذكرته مما فيه بلاغ و حجة لمن عقل ، و نعيد بعض ما ذكرناه ليتيقظ به المؤمن المسترشد إلى طريق الحق . قال الله عز وجل{محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله و رضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل ، كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ..}[الفتح:29] . ثم وعدهم بعد ذلك المغفرة والأجر العظيم . و قال الله عز وجل{لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ..} [التوبة/117] . الآية . و قال عز وجل{و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ..} [التوبة/100] . إلى آخر الآية . و قال عز وجل{يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم .. ..} [التحريم/8 ] . الآية . و قال عز وجل{كنتم خير أمة .. ..}[آل عمران/110] . الآية . و قال عز وجل{لقد رضي الله عن المؤمنين .. ..}[الفتح/18] . إلى آخر الآية . ثم إن الله عز وجل أثنى على من جاء من بعد الصحابة فاستغفر للصحابة و سأل مولاه الكريم ألا يجعل في قلبه غلاً لهم ، فأثنى الله عز وجل عليه بأحسن ما يكون من الثناء فقال عز وجل{و الذين جاءوا من بعدهم .. إلى قوله .. رءوف رحيم}[الحشر/10] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم . أخرجه البخاري مع الفتح (7/5) و مسلم برقم (6419) و أحمد في المسند (1/438) . وقال ابن مسعود : إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه(116/68)
لنفسه و بعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد - يعني من غير الأنبياء و المرسلين كما هو معلوم - فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم يقاتلون على دينه . رواه أحمد في المسند (1/379) و البغوي في شرح السنة (1/214-215) و هو حدث حسن .
ثم قال الآجري رحمه الله : يقال : لمن سمع هذا من الله عز وجل و من رسوله صلى الله عليه وسلم : إن كنت عبداً موفقاً للخير اتعظت بما وعظك الله عز وجل به ، و إن كنت متبعاً لهواك خشيت عليك أن تكون ممن قال الله عز وجل فيهم{و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}[القصص/50] ، و كنت ممن قال الله عز وجل{و لو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو اسمعهم لتولوا و هم معرضون}[الأنفال/23] .
و يقال له : من جاء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يطعن في بعضهم و يهوى بعضهم ، و يذم بعضاً و يمدح بعضاً ؛ فهذا رجل طالب فتنة ، و في الفتنة وقع ، لأنه واجب عليه محبة الجميع ، و الاستغفار للجميع رضي الله عنهم ، و نفعنا بحبهم ، و نحن نزيدك في البيان ليسلم قلبك للجميع ، و يدع البحث و التنقير عما شجر بينهم .(116/69)
ثم ساق رحمه الله مجموعة من الآثار في بيان الواجب عمله تجاه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، منها : ما رواه عن شهاب بن خراش عن العوام بن حوشب قال : اذكروا محاسن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تأتلف عليه قلوبكم ، ولا تذكروا غيره فتحرشوا الناس عليهم . أخرجه الخلال في السنة (ص 513) و إسناده حسن . و أيضاً ما رواه أبي ميسرة قال : رأيت في المنام قباباً في رياض مضروبة ، فقلت : لمن هذه ؟ قالوا : لذي الكلاع و أصحابه – و كان مع من قتل مع معاوية رضي الله عنه - ، و رأيت قباباً في رياض فقلت : لمن هذه ؟ قالوا : لعمار و أصحابه ، فقلت : و كيف و قد قتل بعضهم بعضاً ؟ قال : إنهم وجدوا الله عز وجل واسع المغفرة . إسناده صحيح إلى أبي ميسرة ، و لم يخرجه غير الإمام الآجري . كما قال ذلك المحقق ، أنظر كتاب الشريعة (5/2493) . و أيضاً ما ذكر عن الحسن رحمه الله ، أنه كان في مجلس فذكر كلاماً و ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً و أعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، قوماً اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإقامة دينه ، فتشبهوا بأخلاقهم و طرائقهم ، فإنهم و رب الكعبة على الهدى المستقيم . أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/305-306) عن الحسن عن ابن عمر ، و البغوي في شرح السنة (1/214) عن ابن مسعود .
و الذي يظهر من كلام هؤلاء الأئمة التأكيد على هذا الضابط المهم و هو : عدم الخوض فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ، على سبيل التسلية و تأليف الأشرطة والمحاضرات و عرضها بين الناس بمختلف مستوياتهم ، و هو الخطأ الذي وقع فيه الدكتور : طارق سويدان حفظه الله .(116/70)
غير أن بعضهم أجاز الخوض في ذلك في حالة واحدة فقط ؛ و هي إن ظهر مبتدع مبطل يقدح فيهم بالباطل ، فيجب الدفاع عنهم بحق و عدل مع التنبيه إلى أنه لا يدافع عن بعضهم فيقع في سب آخرين منهم ، إنما يكون الدفاع عنهم رضي الله عنهم جميعاً ، و إلا فيجب الصمت و ترك الخوض فيما شجر بينهم . ضوابط إنقاذ التاريخ الإسلامي ، مقال من جريدة المسلمون للدكتور : محمد بن عبد الله الغبان . العدد (656ص 8) .
إن موضوع النزاع و الخلاف بين الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه يجب أن ينظر إليه من زاويتين :-
الأولى : إن اللوم في تلك الفتنة على العموم يلقى على قتلة عثمان ، لأن كل من قتل من المسلمين بأيدي
إخوانهم منذ قتل عثمان رضي الله عنه إنما يقع إثمه عليهم ، فهم الذين فتحوا باب الفتنة و كل ما وقع بعد ذلك فإثمه و وزره عليهم ، إذ كانوا هم السبب المباشر فيها ، و هم الفئة المعتدية الظالمة الباغية التي قتل بسببها كل مقتول في الجمل و صفين و ما تفرق عنها من أحداث و آراء و مواقف فتحت باب الخلاف و الفرقة بين المسلمين .
الثانية : إن ما حدث من جانب الصحابة رضي الله عنهم في هذه الفتنة يحمل على حسن النية و الاختلاف في التقدير و الاجتهاد ، كما يحمل على وقوع الخطأ و الإصابة ، و لكنهم على كل حال كانوا مجتهدين و هم لإخلاصهم في اجتهادهم مثابون عليه في حالتي الإصابة و الخطأ ، و إن كان ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ ؛ لأن كل فئة كانت لها وجهة نظر تدافع عنها بحسن نية ، حيث إن الخلاف بينهم لم يكن بسبب التنافس على الدنيا ، و إنما كان اجتهاداً من كل منهم في تطبيق شرائع الإسلام . تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/340-342) بتصرف .
و قد سئل ابن المبارك عن الفتنة التي وقعت بين علي و معاوية رضي الله عنهما فقال : فتنة عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا - يعني في التحرز من الوقوع في الخطأ و الحكم على بعضهم بما لا يكون مصيباً(116/71)
فيه - . و سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم و غبنا ،
و علموا و جهلنا ، و اجتمعوا فاتبعنا ، و اختلفوا فوقفنا . الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/322) في تفسير سورة الحجرات .
و يقول النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم (18/219-220) : و اعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد - يعني قوله صلى الله عليه وسلم إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار - و مذهب أهل السنة و الحق إحسان الظن بهم ، و الإمساك عما شجر بينهم ، و تأويل قتالهم و أنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا ، بل اعتقد كل فريق أنه المحق و مخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى الله ، و كان بعضهم مصيباً و بعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ لأنه اجتهاد و المجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه .
و يورد شيخ الإسلام في مواضع متفرقة من مجموع الفتاوى (35/50 و 54 و 56 و 69) رأي أهل السنة في هذه المسألة مستبعداً رأي أهل البدع من الخوارج و الرافضة و المعتزلة الذين جعلوا القتال موجباً للكفر أو الفسق ، فيقول : و أهل السنة و الجماعة و أئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة بل يمكن أن يقع الذنب منهم ، والله يغفر لهم بالتوبة و يرفع بها درجاتهم ، و إن الأنبياء هم المعصومون فقط ، أما الصديقون و الشهداء و الصالحون فليسوا معصومين ، و هذا في الذنوب المحققة ، و أما اجتهادهم فقد يصيبون فيه أو يخطئون ، فإذا اجتهدوا و أصابوا فلهم أجران ، و إذا اجتهدوا و أخطأوا فلهم أجر واحد على اجتهادهم ، و جمهور أهل العلم يفرقون بين الخوارج المارقين و بين أصحاب الجمل و صفين ممن يعد من البغاة المتأولين ، و هذا مأثور عن الصحابة و عامة أهل الحديث ، و الفقهاء و الأئمة .(116/72)
يقول ابن حجر في الفتح (13/37 ) : و اتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ، و لو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد و قد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد ، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً ، و أن المصيب يؤجر أجرين .
و هكذا نأخذ من مجموع كلام هؤلاء الأئمة ، أن الموقف مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم هو الإمساك و عدم الخوض ، و هذا هو الذي دل عليه الحديث الثابت كما عند الطبراني و غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا . أنظر : السلسة الصحيحة (1/75) .
و قد فسر المناوي في فيض القدير (2/676) الحديث بأن معناه : ما شجر بينهم - أي الصحابة - من الحروب والمنازعات .
يقول الحافظ الذهبي في السير (3/128) : فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلا غالياً في الحب ، مفرطاً في البغض ، و من أين يقع له الإنصاف و الاعتدال ؟! فنحمد الله على العافية الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق و اتضح من الطرفين و عرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين ، و تبصرنا فعذرنا و استغفرنا و أحببنا باقتصاد ، و ترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة ، أو بخطأ إن شاء الله مغفور ، و قلنا كما علمنا الله{ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا}و ترضينا أيضاً عمن اعتزل الفريقين كسعد ين أبي وقاص و ابن عمر و محمد بن مسلمة و سعيد بن زيد و خلق ، و تبرأنا من الخوارج الذين حاربوا علياً و كفروا الفريقين .
فهذه مقتطفات عاجلة من معتقد أهل السنة و الجماعة في الصحابة ، و تلك قناعات و منطلقات شرعية لا تهتز بإرجاف المرجفين ولا تتأثر بتشكيك المشككين .(116/73)
و إذا كانت أعراض المسلمين بشكل عام مصونة في الإسلام ، فأعراض الصحابة و هم أهل الفضل و السابقة و الجهاد أولى بالصيانة ، و الدفاع عنهم قربة لله عز وجل و تقديراً لمآثرهم و جهادهم .
و أخيراً لماذا هذه العناية بأعراض الصحابة و لماذا الدفاع عنهم ؟
أقول : إن هناك مكمن خطر في سبهم أو التعريض بهم و بعدالتهم ، فهم نقلة الدين و الطعن فيهم وسيلة للطعن في الدين .
وإن من أسوأ الأخطاء المنهجية والتربوية معاً ، تدريس الحروب والخلافات التي وقعت بين الصحابة لتلاميذ المدارس ، مع ما يصاحب ذلك من تشويه في العرض ، و تقصير في تعريف التلاميذ بمنزلة الصحابة و فضلهم و حقهم على الأمة ، حيث ينشأ عن ذلك تعارض في أذهانهم بين الصورة الفطرية التي تصوروها عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و ما ينبغي أن يكونوا عليه من الاستقامة ، و بين الصورة التي تلقوها من المدرسة ، فلا يستطيعون معرفة الحق من ذلك ولا يستوعبونه نظراً لصغر سنهم ، و لقلة ثقافتهم ، حتى لو حاولت أن توضح لهم الصورة الصحيحة فإنهم لا يكادون يقتنعون لأن الشبهة التي أثيرت قد انقدحت في أذهانهم .
و هذه المسارعة في عرض مثل هذه المادة التاريخية على صغار التلاميذ أو عوام الناس مخالف للقواعد الأصولية مثل قاعدة : ( سد الذرائع ) . و قاعدة : ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) . و مخالف أيضاً للقواعد التربوية التي تقتضي أن لا يعرض على الناس أكثر مما لا تحتمله عقولهم .(116/74)
و قد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ما يؤيد هذا ؛ فقال عبد الله بن مسعود كما في مقدمة صحيح مسلم برقم (14) : ( ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) . و قد بوب البخاري في صحيحه : ( باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا ) . و أورد قول علي بن أبي طالب : ( حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله و رسوله ) . البخاري مع الفتح (1/272) ، قال ابن حجر معلقاً عليه : ( فيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة ) .
فهذه الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم تدل على صحة هذه القاعدة التربوية ، و أنه لا ينبغي أن يدرّس مثل هذا لتلاميذ المدارس ، لأنه مما لا تبلغه عقولهم ، و مما يؤدي إلى فتنة بعضهم ، و هو اعتقاد ما لا ينبغي اعتقاده في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . و للمزيد حول هذا الموضوع أنظر كتاب : منهج كتابة التاريخ الإسلامي للدكتور : محمد بن صامل (ص252) . و مقال : فضيلة الإمساك عما شجر بين الصحابة : زياد سعد الغامدي في مجلة البيان الإسلامية العدد (134) .(116/75)
و إذا قدر لهذه القضايا أن تبحث فينبغي أن يسند الأمر إلى أهله ، و أن يتوفر على ذلك علماء متمكنون في علمهم ، صادقين في توجههم ، برآء من أي تهمة في معتقدهم ، و أن يكونوا على مستوى الخاصة ، و ألا تفتن بهم العامة ، و ألا تكون قضية مطروحة للمزاد يهرف فيها من لا يعرف ، و يظن الجاهل أن من حقه أن يوافق أو يخالف .. و ليت شعري كم تنطق الرويبضة و يتصدر السفهاء إذا غاب عن الساحة صوت العلماء ، أو توارى خلف الحجب رأي النبلاء .. و مع ذلك فالزبد سيذهب جفاء و يمكث في الأرض ما ينفع الناس ، و كذلك اقتضت حكمة الله في الصراع بين الحق و الباطل قديماً و حديثاً ، ليميز الله الخبيث من الطيب و ينحاز الصادقون و ينكشف و لو بعد حين الكاذبون . خير القرون ، مقال للدكتور سليمان العودة . انظر مجلة الدعوة العدد (1610 ) .(116/76)
وما أحسن ما قيل عن التاريخ الإسلامي : فهو تاريخ ناصع مشرق ، و هو مفخرة على مر الزمن ، و درة على جبين الدهر ، لا يدانيه تاريخ أمة من الأمم في قديم الزمان و حديثه ، و مع ذلك فقد وقعت فيه بعض الحوادث التي تلقي بعض الظلال القاتمة على إشراقه ، بدأت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث ظهرت بعض الخلافات في وجهات النظر بين بعض الصحابة ، أدت إلى وقوع بعض الحروب ، مثل : وقعة صفين ، و وقعة الجمل و يوم الحرة و أمثالها ، و الطالب المسلم يمر بها في بعض مراحل حياته الدراسية ، و نحن نريد أن نلفت نظر المعلم أو المدرس إلى وجوب التزام جانب اليقظة و الحكمة و الحذر عند عرض هذه الوقائع على طلابه ، فالصحابة رضي الله عنهم شموس لامعة براقة أشرقت في تاريخ الإنسانية فغمرته بالنور ، و هي شموس تتفاوت أقدارها و تتباين في أنواع فضائلها ، و لكنها تبقى دائماً في أعلى درجات الفضل ، و في ذروة العزة و المجد ، و لو ميز المشتغلون بتاريخ الإسلام ، بين الأصيل و الدخيل من الحوادث التي وقعت بين الصحابة ، لأخذتهم الدهشة لما اخترعه أعداء الإسلام من يهود و مجوس و منافقين و ملحدين و حاقدين ، من أخبار ملفقة كاذبة ، ألصقوها بالصحابة الكرام ظلماً و عدواناً و كيداً ، فصورت أخبارهم الوضع عن غير حقيقته ، و أدخلت التشويه على الصورة الحقيقية الناصعة للصحابة رضي الله عنهم ، الذين يعتبرون بحق سادة البشر و خلاصة الإنسانية ، كيف لا ؟ و هم تلامذة أشرف المخلوقين و سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم . مقتبس من كتاب : كلمات نافعة لناجي الطنطاوي (ص79) بتصرف .
ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نتمسك بقوله تعالى : { و الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا
و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم}[الحشر/10] .(116/77)
و بعد هذا الذي ذكرت ، فإنه قد ظهر و خاصة على صفحات الإنترنت من يطعن في الصحابة الكرام و يثير هذه الأحداث من جديد لكن بشكل مشوّه مزرٍ ، لذا آثرت الحديث في هذا الموضوع ، دفاعاً عن الحق و عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم .
ذكر الأحداث التي تلت مقتل عثمان رضي الله عنه ، حتى قبيل معركة الجمل
أصاب المسلمين بلاء عظيم بسبب مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه ، إذ كان المسلمون قد مرّوا بانتقال السلطة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم و بعد وفاة الصديق رضي الله عنه ، لكنهم الآن أمام تجربة جديدة تمثلت باستخدام العنف في تغيير السلطة و نجم عن ذلك مقتل الخليفة ، و بقاء المنصب شاغراً ، و سعى المعارضون إلى بيعة واحد من كبار الصحابة لملأ الفراغ في السلطة ، فعرضوها على طلحة و عبد الله بن عمر ، لكن أحداً لم يكن ليقبل منهم السلطة في ظروف الفتنة ، لأنهم لا يمثلون الأمة ، بل يمثلها كبار الصحابة في المدينة ، و هم الذين يقبل الناس في أنحاء الدولة اختيارهم ، و قد أدرك المعارضون ذلك بعد فشل محاولاتهم . فضائل الصحابة للإمام أحمد (2/573-574) .(116/78)
قال محمد بن الحنفية : كنت مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه فقام فدخل منزله ، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن هذا الرجل قد قتل و لا بد للناس من إمام و لا نجد اليوم أحد أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة و لا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا تفعلوا ، فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ، فقالوا : لا والله ! ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ، قال : ففي المسجد فإنَّ بيعتي لا تكون خفياً و لا تكون إلا عن رضا المسلمين ، قال سالم بن أبي الجعد :فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يُشغب عليه ، و أبى هو إلا المسجد ، فلما دخل المهاجرون و الأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس . و هناك رواية عن أبي بشير العابدي يقول فيها : إن المهاجرين و الأنصار و فيهم طلحة و الزبير أتوا علياً فقالوا له : إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة ، و قد طال الأمر . فقال لهم : إنكم اختلفتم إليَّ و أتيتم و إني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم ، و إلا فلا حاجة لي فيه ، فقالوا : ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله . فبايعوه في المسجد .
و هناك رواية أخرى تفيد أن طلحة و الزبير قالا : يا علي ابسط يدك ، فبايعه طلحة و الزبير و هذا بعد مقتل عثمان لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة . و هناك رواية أخرى عن عوف بن أبي جميلة العبدي قال : أمّا أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول : إن علياً جاء فقال لطلحة : ابسط يدك يا طلحة لأبايعك فقال طلحة : أنت أحق و أنت أمير المؤمنين فابسط يدك فبسط عليّ يده فبايعه . كلها عند الطبري في تاريخه ( 4/427-428) و (4/434) . و كذلك في فضائل الصحابة للإمام أحمد (2/573) .(116/79)
و قد ذكر ابن سعد في الطبقات ( 3/31 ) بيعة علي رضي الله عنه يوم الجمعة بالخلافة سنة خمس و ثلاثين و ذكر من جملة الصحابة الذين بايعوا طلحة و الزبير و جمع من الصحابة ممن كان في المدينة .
ذكر المسعودي في مروج الذهب (ص358) : أن علياً بويع في اليوم الذي قتل فيه عثمان بن عفان رضي الله عنه يعني البيعة الخاصة ، ثم قال إنه بويع البيعة العامة بعد مقتل عثمان بأربعة أيام .
و ذكر اليعقوبي في تاريخه (1/178) : أن طلحة و الزبير بايعا علياً وكان أول من بايعه و صفق على يده يد طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه .
يقول الحافظ الذهبي دول الإسلام (1/28 ) في شأن البيعة : لما قتل عثمان سعى الناس إلى علي و قالوا : لابد للناس من إمام فحضر طلحة و الزبير و سعد بن أبي وقاص و الأعيان ، و كان أول من بايعه طلحة ثم سائر الناس .
و أما الروايات المخالفة التي نقلها الإمام الطبري في تاريخه (4/429) و (4/431) و (4/435) : منها من يقول بأن طلحة و الزبير بايعا كرها ، حيث روى من طريق الزهري قال : بايع الناس علي ابن أبي طالب فأرسل إلى الزبير و طلحة فدعاهما إلى البيعة فتلكّأ طلحة فقام الأشتر و سل سيفه و قال : والله لتبايعن أو لأضربن بهما بين عينيك فقال طلحة : و أين المهرب عنه ! فبايعه و بايعه الزبير و الناس . و هناك روايات أخرى تبين أنهما بايعا و السيف فوق عنقيهما . هذه كلها لا تصح لأنها من روايات الواقدي و أبي مخنف الكذاب .
يقول ابن العربي في العواصم من القواصم (ص148) عنها : فإن قال طلحة : بايعته و اللج على عنقي ، قلنا اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في القفا لغة قفي ، كما يجعل في الهوى هوي ، و تلك لغة هذيل لا قريش فكانت كذبة لم تدبر .(116/80)
و قول من قال : بايع علياً يد شلاّء – أي يد طلحة - والله لا يتم هذا الأمر . قال ابن العربي في العواصم (ص148-149) عن ذلك : و أما من قال يد شلاء و أمر لا يتم ، فإن يداً شلت في وقاية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم لها كل أمر و يتوقى بها من كل مكروه . و قد تم الأمر على وجهه ، و نفذ القدر بعد ذلك على حكمه و جهلَ المبتدع ذلك فاخترع ما هو حجة عليه .
و في رواية ابن شبة كما رواها الطبري في تاريخه (4/429) عن محمد بن الحنفية قال : بايعت الأنصار علياً إلا نفير يسير .
و ذكر منهم : سعد بن أبي وقاص و ابن عمر و أسامة بن زيد و محمد بن مسلمة و غيرهم ، قلت : هذا غير صحيح فإن حضورهم لعلي و اعتذارهم عن الوقوف معه في حرب أهل الشام أو فيما يدور بينه وبين المسلمين من القتال في العراق ، لدليل واضح على أن في أعناقهم بيعة تلزمهم بطاعته حين اعتذروا ، و لو كان الأمر خلاف ذلك لتركوه يخرج دون أن يذهبوا إليه و يعتذروا له ، فهم حينئذ غير ملزمين بطاعته .
و يبرر الباقلاني في التمهيد في الرد على الملحدة (ص233-234) موقف الصحابة الذين تأخروا عن نصرة علي فيقول في هذا الصدد : فإن قال قائل : فإن كانت إمامة علي من الصحة و الثبوت بحيث وصفتم ، فما تقولون في تأخر سعد و ابن عمر و ابن مسلمة و أسامة و غيرهم عن نصرته و الدخول في طاعته ؟ قيل له : ليس في جميع القاعدين ممن أسمينا أو ضربنا عن ذكره من طعن في إمامته و اعتقد فسادها ، و إنما قعدوا عن نصرته على حرب المسلمين لتخوفهم من ذلك و تجنب الإثم فيه .
و يذكر ابن العربي في العواصم (ص 150) : أن قوماً قالوا تخلف عنه من الصحابة جماعة منهم سعد و ابن مسلمة و ابن عمر و أسامة ، فيرد عليهم بقوله : قلنا أما بيعته فلم يتخلف عنها ، و أما نصرته فتخلف عنها قوم ؛ منهم من ذكرتم ؛ لأنها كانت مسألة اجتهادية فاجتهد كل واحد و أعمل نظره و أصاب قدره .(116/81)
و خلاصة القول لئن كانت بعض الروايات تستثني من البيعة بعض الصحابة فإن ذلك لا يقدح في خلافة علي رضي الله عنه .
و إن ثبت امتناع معاوية عن مبايعته فإن ذلك لا يقدح في إجماع أهل الحل و العقد على خلافته ، كما لا يقدح في الإجماع على خلافة الصديق امتناع سعد بن عبادة عن مبايعته ، على أن معاوية معترف بأن علي أحق بالإمامة منه و إنما حجّته في الامتناع هو طلبه تسليم الموجودين من قتلة عثمان فيقتص منم .
و يخلص الماوردي في الأحكام السلطانية (ص30) إلى القول : بأن فرض الإمامة أو البيعة يكون فرض كفاية كالجهاد و طلب العلم ، حيث إذا قام بها من هو أهلها سقط فرضها عن كافة الناس .
بعد أن تولى علي الخلافة قام بعزل بعض الولاة و تعيين آخرين بدلاً عنهم ، فعزل والي مكة خالد بن العاص ، و عين بدله أبا قتادة الأنصاري مدة شهرين ، ثم عزله و عين قثم بن العباس ، و يبدو أن الرأي العام بمكة كان غاضباً لعثمان و تصاعد الغضب لكثرة النازحين من المدينة إلى مكة على إثر سيطرة الثوار على المدينة . تاريخ خليفة (ص178،201) و عصر الخلافة الراشدة لأكرم العمري ( ص139-146)
و أرسل عثمان بن حنيف الأنصاري إلى البصرة والياً عليها بدلاً من عبد الله بن عامر واليها لعثمان ، و كان قد ترك البصرة متجهاً إلى مكة . و قد انقسمت البصرة على الوالي الجديد ، فمنهم من بايع و منهم من اعتزل و منهم من رفض البيعة حتى يقتل قتلة عثمان . سير أعلام النبلاء ( 2/322) .
و أما مصر فكان واليها عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد تركها متجهاً إلى عسقلان ، فاستولى عليها محمد بن أبي حذيفة مدة عام كامل و واجه معارضة تطالب بالقصاص من قتلة عثمان ، فلما قتل ولي عليها قيس بن سعد بن عبادة فتمكن من أخذ البيعة لعلي و هادن أهلها . مصنف عبد الرزاق (5/458) بسند صحيح إلى الزهري .(116/82)
و أرسل علي إلى معاوية يطلب منه البيعة فرد عليه قائلاً : فإن كنت صادقاً فأمكنا من قتلة عثمان نقتلهم به ونحن أسرع الناس إليك . الأخبار الطوال للدينوري (ص162-163) .
فإن قال قائل : إن علياً قد أخطأ في عزل جميع ولاة عثمان قبل أن تأتيه بيعة أهل الأمصار . فالجواب : إن علياً رضي الله عنه إمام مجتهد له أن يعزل عمال عثمان إذا رأى المصلحة في ذلك ، و قد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو المعصوم خالد بن سعيد بن أبي العاص على صنعاء و عمرو بن العاص على عمان ، فعزلهما الصديق من بعده ، و ولى الصديق خالد بن الوليد و المثنى بن حارثة ، فعزلهما الفاروق من بعده ،
و ولى الفاروق عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة فعزلهما عثمان من بعده . تاريخ خليفة (ص97،102،122-123،155،178) و تاريخ الطبري (3/343) (4/241) .
و هكذا فعل علي لما رأى المصلحة في ذلك ؛ فهل ينتقد عاقل الصديق و الفاروق و ذا النورين في عزلهم هؤلاء العمال الأكفاء ! .
أما القول بأنه عزل جميع عمال عثمان ، هذا غير صحيح فالعزل لم يتحقق إلا في معاوية في الشام و خالد بن أبي العاص في مكة ، و أبي موسى الأشعري في الكوفة ، على أنه أقره بعد ذلك . تاريخ الطبري (4/442) و تاريخ خليفة (ص201) .
و أما البصرة فإن واليها خرج من نفسه ، و في اليمن أخذ أميرها يعلي بن مُنية مال جباية اليمن و قدم مكة بعد مقتل عثمان و انضم إلى طلحة و الزبير و حضر معهم موقعة الجمل ، و ابن أبي السرح خرج إلى فلسطين و مكث هناك حتى مات بعد أن تغلب ابن أبي حذيفة على مصر . تاريخ الطبري (4/421) و (4/450) .(116/83)
و هكذا فإن أميري اليمن و البصرة عزلا أنفسهما و أمير مصر عزله المتغلب عليها و أمير الكوفة أقره على منصبه فلم يرد العزل إلا في حق معاوية والي الشام و خالد والي مكة . و أما القول بأنه عزلهم قبل أن تأتيه بيعة أهل الأمصار ، قلت : إن تولية الإمام للعمال على الأمصار غير مشروط بوصول بيعة أهلها له ، فمتى بايع أهل الحل و العقد ، لزمت بيعته جميع البلدان النائية عن مركز الخلافة . و لو كانت تولية الخليفة العمال على الأمصار متوقفة على وصول بيعة أهلها له ما تمت بيعة أبي بكر رضي الله عنه ، لأنه تصرف بإرسال جيش أسامة و محاربة المرتدين قبل وصول بيعة أهل مكة و الطائف و غيرها من البلاد ، و كذلك فعل الفاروق و ذي النورين فإنهما تصرفا في أمور المسلمين أيضاً قبل وصول بيعة الأمصار إليهما .
مقدمات معركة الجمل و ما سبقها من أحداث .
لما مضت أربعة أشهر على بيعة علي رضي الله عنه ، خرج كل من طلحة و الزبير من المدينة بقصد العمرة ، و كذلك خرج عبد الله بن عامر من البصرة و يعلي بن مُنْية من اليمن إلى مكة في أوقات مختلفة ، و أما عن طلب الزبير و طلحة من علي السماح لهما بالذهاب إلى البصرة و الكوفة لإحضار جند يقاتلون بهم قتلة عثمان رضي الله عنه ، فهذا خبر لا يصح منه شيء ؛ لأن طلحة و الزبير رضي الله عنهما كانا حريصين على إصلاح ذات البين و إطفاء نار الفتنة و منع إراقة المزيد من دماء المسلمين ، كما سيأتي .(116/84)
اجتمع طلحة والزبير و يعلي و عبد الله بن عامر و عائشة رضي الله عنهم أجمعين بعد نظر طويل على الشخوص إلى البصرة من أجل الإصلاح بين الناس حين اضطرب أمرهم بعد مقتل عثمان رضي الله عنه ، و ليس من أجل المطالبة بدم عثمان ، و دليل ذلك حديث الحوأب ، - هو موضع قريب من البصرة ، و هو من مياه العرب في الجاهلية و يقع على طريق القادم من مكة إلى البصرة ، و سمي بالحوأب ؛ نسبة لأبي بكر بن كلاب الحوأب ، أو نسبة للحوأب بنت كلب بن وبرة القضاعية ، انظر : معجم البلدان (2/314) – ففي أثناء الطريق إلى البصرة مر الجيش على منطقة يقال لها الحوأب ، فنبحت كلابها فلما سمعت عائشة هذا النباح ، طرأ عليها حديثاً فقالت ما هذه المنطقة ؟ قالوا هذه الحوأب ، فتذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث روى أحمد و ابن حبان و الحاكم عن قيس بن حازم أن عائشة لما أتت على الحوأب سمعت نباح الكلاب ، فقالت : ما أظنني إلا راجعة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : أيتكن تنبح عليها كلاب الحواب . فقال لها الزبير : ترجعين ؟! - أي لا ترجعي لأنهم يحترمونك - عسى الله أن يصلح بك بين الناس . هذا لفظ شعبة ، أما لفظ يحيى فقال : لما أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلاً ، فنبحت الكلاب فقالت : أي ماء هذا ؟ قالوا : ماء الحوأب ، قالت : ما أظنني إلا راجعة فقال بعض من كان معها : بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم . قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها ذات يوم : كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب . السلسلة الصحيحة (1/846) .(116/85)
و قد أشكل حديث الحوأب على بعض الناس فردوه - منهم الإمام ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم ( ص162) ، و تابعه الشيخ محب الدين الخطيب في حاشيته على هذا الكتاب القيم ( ص152) - ، و هو حديث صحيح و لسان حالهم يقول : كان على عائشة رضي الله عنها لما علمت بالحوأب أن ترجع ، و الحديث يدل على أنها لم ترجع و هذا مما لا يليق أن ينسب لأم المؤمنين .
و قد أجاب الشيخ الألباني رحمه الله على هذا الإشكال فقال : ليس كل ما يقع من الكمّل يكون لائقاً بهم ، إذ المعصوم من عصم الله و السنّي لا ينبغي له أن يغالي فيمن يحترمه ، حتى يرفعه إلى مصاف الأئمة الشيعة المعصومين ، و لا شك أن خروج أم المؤمنين كان خطأ من أصله و لذا همّت بالرجوع حين علمت بتحقيق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم عند الحوأب ، و لكن الزبير رضي الله عنه ، قد أقنعها بترك الرجوع بقوله : عسى الله أن يصلح بك بين الناس ، و لاشك انه كان مخطئاً في ذلك أيضاً . السلسلة الصحيحة (1/854-855 ) ، و قال ابن حجر عن الحديث : سنده على شرط الشيخين ، انظر فتح الباري (13/59-60) و قال الهيثمي : رواه أحمد و أبو يعلى و البزار و رجال أحمد رجال الصحيح ، مجمع الزوائد (7/234) و صححه الألباني في الصحيحة ورد على من طعن في صحته و بين من أخرجه من الأئمة ، انظر : الصحيحة (1/846-855) .
هنا أدرك علي رضي الله عنه خطورة الموقف ، و ما يمكن أن يجر إليه الخلاف من تمزيق الدولة الإسلامية ،
فاستنفر أهل المدينة للخروج معه فاجتمع معه حوالي سبعمائة رجل ، و اعتزل الكثير من الصحابة هذه الفتنة ، فخرج علي من المدينة متجهاً إلى العراق و قد عسكر في الربذة حيث أضيف إلى جنده مائتا رجل فبلغوا تسعمائة رجل . تاريخ دمشق لابن عساكر ( 42/456) .(116/86)
و قد حاول الحسن بن علي ثني أبيه عن الذهاب إلى العراق و هو يبكي لما أصاب المسلمين من الفرقة و الاختلاف ، لكن علياً رفض ذلك و أصر على الخروج . مصنف ابن أبي شيبة (15/99-100) بإسناد حسن ، و ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 42/456-457) .
و قد جاءت روايات لتبين أن علي رضي الله عنه خرج من المدينة في إثر أصحاب الجمل ، و هذا الأمر لم يحدث ، بل الصحيح أنه خرج من المدينة عاقداً العزم على التوجه إلى الكوفة ليكون قريباً من أهل الشام ، و لم يخرج في أعقاب أصحاب الجمل .
و في ما يلي بيان هذا الأمر :-
أ- ذكرت بعض الروايات أن علياً رضي الله عنه حين خرج من المدينة أقام في - الربذة - عدة أيام ، و هذا الصنيع من علي رضي الله عنه لا يشبه صنيع من خرج يطلب قوماً . هذا فضلاً عن أن - الربذة - تقع على طريق الكوفة بينما أصحاب الجمل كانوا يسلكون طريق البصرة .
ب- كذلك ذكرت بعض الروايات أن علياً رضي الله عنه حين خرج من - الربذة - توجه إلى – فَيْد ، انظر : معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية لعاتق البلادي (ص239) . - ثم - الثعلبية ، انظر : معجم البلدان لياقوت الحموي (2/78) - و هذه الأماكن من منازل طريق الكوفة ، و هذا يعني أن علياً لم يكن يتعقب أصحاب الجمل ، وإلا لترك طريق الكوفة و قصد طريق البصرة . خاصة أن من أراد البصرة و كان خارجاً من المدينة فإنه يتجه إلى – النَّقِرَة ، انظر : معجم البلدان (5/298) - التي تقع على طريق الكوفة ، و منها يتيامن حتى يصل – النِّباج ، انظر : معجم البلدان (5/255) - التي تقع على طريق البصرة . انظر : كتاب المناسك للحربي (322،587) .
لكن علياً رضي الله عنه لم يفعل ذلك بل تعدى النقرة و واصل سيره إلى فيد ثم الثعلبية . أنظر حول هذا الموضوع مع نقد الروايات في ذلك كتاب استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص183-184) .(116/87)
هنا و بعد أن عسكر علي رضي الله عنه في الربذة ، أرسل رسولين لاستنفار الكوفيين ، و هما محمد بن أبي بكر و محمد بن جعفر ، فأخفقا في مهمتهما لأن أباموسى الأشعري والي الكوفة لعلي التزم موقف اعتزال الفتنة و حذر الناس من المشاركة فيها . سنن أبي داود (4/459-460) بإسناد حسن .
و هذا الخبر يؤيده ما أخرجه البخاري في صحيحه (13/58) من طريق أبي وائل قال : دخل أبو موسى و أبو مسعود على عمار حيث بعثه علي إلى أهل الكوفة يستنفرهم ، فقالا: ما رأيناك أتيت أمراً أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت ، فقال عمار : ما رأيت منكما منذ أسلمت أمراً أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر ، و كساهما حلة ثم راحوا إلى المسجد .
فاتجه علي إلى - ذي قار : ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة . معجم البلدان لياقوت الحموي (4/293-294) - قرب الكوفة و عسكر بها ، و منها أرسل عبد الله بن عباس و أتبعه ابنه الحسن و عمار بن ياسر لاستنفار الكوفيين . تاريخ الطبري ( 4/482) بسند صحيح إلى الزهري مرسلاً ، و الفتح (13/63) . و كان السبب في تغير وجهة السير ، هو أن علي رضي الله عنه سمع بأنباء القلاقل التي حدثت في البصرة و أدت إلى خروج عامله عنها .(116/88)
روى البخاري في صحيحه عن أبي وائل قال : لما بعث علي عماراً و الحسن إلى الكوفة ليستنفرهم خطب عمار فقال : إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا و الآخرة ، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها . و روى كذلك عن أبي مريم قال : لما سار طلحة و الزبير و عائشة إلى البصرة بعث علي عمار بن ياسر و الحسن بن علي ، فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبر فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه و قام عمار أسفل الحسن . فاجتمعنا إليه فسمعت عماراً يقول : إن عائشة قد سارت إلى البصرة ، والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا و الآخرة ، و لكن الله تبارك و تعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي . قال الحافظ في الفتح : و مراد عمار بذلك أن الصواب في تلك القصة كان مع علي ، و أن عائشة مع ذلك لم تخرج عن الإسلام و لا أن تكون زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ، فكان ذلك يعد من إنصاف عمار و شدة تحريه قول الحق . و قال أيضاً : قال ابن هبيرة : في هذا الحديث أن عماراً كان صادق اللهجة و كان لا تستخفه الخصوصية إلى أن ينتقص خصمه ، فإنه شهد لعائشة بالفضل التام مع ما بينهما من حرب . انظر : الفتح (13/63) .
و هنا يجدر التنبيه إلى أن كلام عمار رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها مبني على عدم معرفة عمار بحقيقة خروج أصحاب الجمل ، و هو أنهم قد خرجوا للإصلاح بين الناس . أنظر : استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص185) .
فقدم على علي وفد الكوفه بذي قار فقال لهم : يا أهل الكوفة أنتم لقيتم ملوك العجم فعضضتم جموعهم ،
و قد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن رجعوا فذاك الذي نريده ، و إن أبو داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بالظلم ، و لن ندع أمراً فيه الإصلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى . البداية و النهاية لابن كثير (7/237) .(116/89)
و تذكر بعض الروايات أن أصحاب الجمل بعد أن خرجوا من مكة و اقتربوا من أوطاس : و هو سهل يقع على طريق الحاج العراقي إذا أقبل من نجد ، و تبعد عن مكة ( 143كم ) باتجاه الشمال الشرقي ، انظر : معجم البلدان (1/281) ، تيامنوا عنها و تركوا طريق البصرة و ساروا بمحاذاته حتى وصلوا البصرة .
و هذا الخبر لا يصح بحق أولئك الصحب الكرام ، حيث إنه يصور أصحاب الجمل الذين خرجوا للإصلاح
بأنهم مجموعة من الخارجين على الخلافة ، و أن خوفهم من علي رضي الله عنه قد دفعهم إلى الابتعاد عن سلوك طريق البصرة لكي لا يلحق بهم . و بدراسة خط سير أصحاب الجمل من مكة إلى البصرة ، اتضح أنهم سلكوا طريق البصرة و لم يحيدوا عنه كما زعمت الروايات .
و بيان ذلك كما يلي :-
أ- ذكرت الروايات أن أصحاب الجمل حين وصلوا - أوطاس - تيامنوا عنها و تركوا طريق البصرة و ساروا بمحاذاته .
و هذا الخبر فيه تلبيس يوهم أن أصحاب الجمل قد تركوا طريق البصرة ، بينما حقيقة الأمر أن من أراد البصرة و كان خارجاً من مكة تيامن من عند - أوطاس - كما فعل أصحاب الجمل ، و من أراد الكوفة تياسر عنها ، حيث إن طريقي البصرة و الكوفة يأخذان بالتفرع يميناً و يساراً من بعد - أوطاس - .
ب- ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد أن كلاب الحوأب نبحت على عائشة رضي الله عنها حين بلغت ديار بني عامر .(116/90)
و بنو عامر هؤلاء بنو عامر بن صعصعة ، و الحوأب ماء من مياه العرب يقع على طريق البصرة و هو من مياه بني بكر بن كلاب ، و بنو كلاب هؤلاء بطن من عامر بن صعصعة ، انظر : معجم البلدان (1/314) . و حيث إن بني كلاب كانوا يسكنون – ضَرِيَّة ، انظر : كتاب المناسك للحربي (ص612) ، و معجم البلدان (3/457) - ، فإن هذا يعني أن الحوأب تقع في - ضرية - ، و حيث إن - ضرية - تقع على طريق الحاج البصري ، انظر : كتاب المناسك للحربي (ص594) ، فإن ذلك يعني أن أصحاب الجمل قد سلكوا الطريق المعتاد بين مكة و البصرة و لم يحيدوا عنه كما زعمت الروايات . أنظر حول هذا الموضوع مع نقد الروايات في ذلك : كتاب استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص166-168) .
معركة الجمل ، و دور السبئية في إشعالها .
كان جيش مكة قد وصل خلال تلك الفترة إلى البصرة فأرسل عثمان بن حنيف رضي الله عنه و هو والي البصرة من قبل علي إليهم يستفسر عن سبب خروجهم فكان الجواب : إن الغوغاء من أهل الأمصار و نزاع القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم و أحدثوا فيه الأحداث و آووا فيه المحدِثين و استوجبوا فيه لعنة الله و لعنة رسوله ، مع ما نالوا من قتل أمير المسلمين بلا ترة و لا عذر فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه و انتهبوا المال الحرام و أحلوا البلد الحرام و الشهر الحرام ، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم و ما فيه الناس وراءنا ، و ما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا ، و قرأت { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس }[ النساء /114] ، ننهج في الإصلاح ممن أمر الله عز وجل و أمر رسوله صلى الله عليه وسلم الصغير و الكبير و الذكر و الأنثى فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به و نحضكم عليه ، و منكر ننهاكم عنه و نحثكم على تغييره . تاريخ الطبري (4/462) ، من طريق سيف بن عمر .(116/91)
اتجه بعدها جيش مكة نحو بيت المال و دار الرزق فاعترضهم حكيم بن جبلة أحد الثوار المشاركين في حصار الدار بالمدينة و معه سبعمائة من قومه و جرت معركة قتل فيها حكيم بن جبلة ، و خرج عثمان بن حنيف من البصرة و لحق بعلي رضي الله عنه . تاريخ الطبري (4/468،471) .
ولم يثبت من طريق صحيح يمكن أن يعول عليه ، أنهم ضربوه و نتفوا شعر وجهه رضي الله عنه ، و الصحابة الكرام رضي الله عنهم يتنزهون عن مثل هذه المثلة القبيحة . و هذه من روايات أبي مخنف الكذاب . انظر : مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري (ص258) .
و حين عسكر جيش على بذي قار أرسل عبد الله بن عباس إلى طلحة و الزبير يسألهما : هل أحدث ما يوجد السخط على خلافته ، كحيف في حكم أو استئثار بفيء ؟ أو في كذا ؟ فقال الزبير : ولا في واحدة منها . فضائل الصحابة للإمام أحمد (2/596) بسند صحيح و ابن أبي شيبة : المصنف (15/267) بتصرف يسير .
و بالجملة فعائشة و طلحة و الزبير رضي الله عنهم إنما خرجوا قاصدين الإصلاح ، و جمع كلمة المسلمين
و ما رافق ذلك من قتال و حروب فلم يكن بمحض إرادتهم و لا قصداً منهم ، و إنما أثير من قبل السبئية
و أعوانهم من الغوغاء ، و لم يكن الإصلاح هدف طلحة و الزبير و عائشة وحدهم ، بل إن علياً أيضاً لم ير في مسيره إليهم إلا الإصلاح و جمع الكلمة ، و على العموم لم ير علي و طلحة و الزبير و عائشة رضوان الله عليهم أمراً أمثل من الصلح و ترك الحرب ، فافترقوا على ذلك ، و إنه لموقف رائع من طلحة و الزبير رضي الله عنهما ، و هو لا يقل روعة عن موقف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فكل منهم قبل الصلح و وافق عليه ، و كل منهم كان يتورع أن يسفك دماً أو يقتل مسلماً .(116/92)
و لا يمكن أن يفهم عاقل يقف على النصوص السابقة أن زعماء الفريقين هم الذين حركوا المعركة و أوقدوا نارها ، و كيف يتأتى ذلك و كلا الطرفين كانت كلمة الصلح قد نزلت من نفوسهم و قلوبهم منزلاً حسناً ، و لكنهم قتلة عثمان أصحاب ابن سبأ عليهم من الله ما يستحقون هم الذين أشعلوا فتيلها و أججوا نيرانها حتى يفلتوا من حد القصاص .
و قد يسأل سائل لماذا سمح علي رضي الله عنه لأهل الفتنة بالبقاء معه في جيشه و لم يعاقبهم على فعلتهم الشنيعة ؟!
كان سبب إبقاء علي على أهل الفتنة في جيشه أنهم كانوا سادات في أقوامهم ، فكان علي يرى أن يصبر عليهم إلى أن تستقر الأمور .
وقد أجاب عن ذلك الإمام الطحاوي في شرح العقيدة شرح الطحاوية (ص483) بقوله : و كان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج الذين قتلوا عثمان ، من لم يُعرف بعينه و من تنتصر له قبيلته ، و من لم تقم عليه حجة بما فعله ، و من في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله .
و على كل حال كان موقف علي رضي الله عنه ، موقف المحتاط منهم ، المتبرئ من فعلهم ، و هو و إن كان لم يخرجهم من عسكره فقد كان يعاملهم بحذر و ينظر إليهم بشزر ، حتى قال الإمام الطبري في تاريخه (4/445) : بأنه لم يول أحد منهم أثناء استعداده للمسير إلى الشام – يقصد مسيره لحرب صفين - ، حيث دعا ولده محمد بن الحنفية و سلمه اللواء و جعل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قائد الميمنة و عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه على الميسرة و جعل على مقدمة الجيش أبا ليلى بن عمر بن الجراح و استخلف على المدينة قثم بن العباس رضي الله عنهم .(116/93)
و هذه بادرة منه رضي الله عنه ليعلن تبرؤه من أولئك المارقين ، و يثبت قدرته على السيطرة على أمر المسلمين من غير عون منهم ، فقد كان له في المسلمين الموالين له و المؤيدين لخلافته ما يغنيه عن الاستعانة بهم و التودد إليهم ؛ و هذا أقصى ما يمكنه فعله بتلك الطائفة إذ ذاك ، و هو كافٍ في عذره لأنهم مئات و لهم قرابة و عشائر في جيشه ، فما يأمن لو عاملهم بأكثر من هذا من الشدة أن يمتد حبل الفتنة في الأمة ، كما حصل ذلك لطلحة و الزبير و عائشة بالبصرة حين قتلوا بعضاً منهم ، فغضب لهم قبائلهم و اعتزلوهم . إفادة الأخيار ببراءة الأبرار للتباني (2/52) .
فلما نزل الناس منازلهم و اطمأنوا خرج علي و خرج طلحة و الزبير فتوافقوا و تكلموا فيما اختلفوا فيه ، فلم يجدوا أمراً هو أمثل من الصلح ، فافترقوا على ذلك ، رجع علي إلى عسكره و رجع طلحة و الزبير إلى عسكرهما و أرسل طلحة و الزبير إلى رؤساء أصحابهما ، و أرسل علي إلى رؤساء أصحابه ما عدا أولئك الذين حاصروا عثمان رضي الله عنه فبات الناس على نية الصلح و العافية ، و هم لا يشكون في الصلح فكان بعضهم بحيال بعض ، و بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون و لا ينوون إلا الصلح فباتوا بخير ليلة باتوها منذ مقتل عثمان ، و بات الذين أثاروا الفتنة بشرّ ليلة باتوها قط ، إذ أشرفوا على الهلاك و جعلوا يتشاورون ليلتهم كلها . انظر : تاريخ الطبري (4/506-507 ) من طريق سيف بن عمر .
فاجتمعوا على إنشاب الحرب في السر ، فغدوا في الغلس و عليهم ظلمة و ما يشعر بهم جيرانهم ، فوضعوا فيهم السيوف ، فثار أهل البصرة و ثار كل قوم في وجوه الذين باغتوهم ، فقام طلحة ينادي و هو على دابته - وقد غشيه الناس - فيقول : يا أيها الناس أتنصتون ؟ فجعلوا يركبونه و لا ينصتونه ، فما زاد أن قال : أف ، أف ، فراش نار و ذبان طمع . تاريخ خليفة (ص 182) . وهل يكون فراش النار و ذبان الطمع غير أولئك السبئية ؟!(116/94)
التحم القتال من الغوغاء و خرج الأمر عن علي و طلحة و الزبير . و كان طلحة يقول – و السهام تناوشه - : اللهم خذ لعثمان مني اليوم حتى ترضى . تاريخ خليفة (ص 185) ، دول الإسلام للذهبي (1/28) .
و يصور لنا الحسن بن علي حال والده فيقول : لقد رأيته حين اشتد القتال يلوذ بي و يقول : يا حسن لوددت أني مت قبل هذا بعشرين حجة - أو سنة - ، فقال له الحسن : يا أبت قد كنت أنهاك عن هذا ، قال : يا بني لم أر الأمر يبلغ هذا . مصنف ابن أبي شيبة (15/288) بإسناد صحيح ، و السنة لعبد الله بن أحمد (2/566 ، 589 ) .
و روى ابن أبي شيبة في مصنفه (15/275) . بإسناده إلى حبيب بن أبي ثابت أن علياً قال يوم الجمل : اللهم ليس هذا أردت ، اللهم ليس هذا أردت .
أما الروايات التي جاءت تفيد بأن طلحة رضي الله عنه قام بتحريض الناس على القتال ثم إصابته و موته ، هي روايات مردودة بما ثبت من عدالة الصحابة رضوان الله عليهم ، وقام طلحة و رجع خلف الجيش ، فجاءه سهم غرب لا يعرف من أين أتى فنزل في المفصل من ركبته فصادف جرحاً في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ ينزف فحمله غلامه إلى البصرة و ألجأه إلى دار خربة لا أحد فيها و مات هناك رضي الله عنه . تاريخ الطبري (4/512 ، 514 ) من طريق سيف بن عمر .
و قيل أن الذي ضربه بالسهم مروان بن الحكم ، لكن ليس هناك دليل على هذا ، و بدراسة تلك الروايات ، اتضح براءة مروان بن الحكم من تلك التهمة ، و ذلك للأسباب التالية :-
أ- وجود رواية لمروان بن الحكم في صحيح البخاري ، مع ما عرف من البخاري رحمه الله من الدقة و شدة التحري في أمر من تقبل روايته ، فلو صح قيام مروان بقتل طلحة رضي الله عنه لكان هذا سبباً كافياً لرد روايته و القدح في عدالته . و الرواية في صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (3/493) .(116/95)
ب- استبعاد ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (7/248) لهذا الأمر و تشكيكه فيه بقوله : و يقال إن الذي رماه بهذا السهم مروان بن الحكم . و قد قيل : إن الذي رماه بهذا السهم غيره ، و هذا عندي أقرب ، و إن كان الأول مشهوراً ، والله أعلم .
جـ- ثناء الأئمة عليه كالإمام أحمد ، و الحافظ ابن حجر . سير أعلام النبلاء للذهبي (3/477) و الإصابة لابن حجر (6/257-259) .
د- بطلان السبب الذي قيل إن مروان قتل طلحة رضي الله عنه من أجله ، و هو اتهام مروان لطلحة بأنه أعان على قتل عثمان رضي الله عنه . و هذا السبب المزعوم غير صحيح حيث إنه لم يثبت من طريق صحيح أن أحداً من الصحابة قد أعان على قتل عثمان رضي الله عنه .
هـ - كون مروان و طلحة رضي الله عنهما ، في صف واحد يوم الجمل ، و هو صف المنادين بالإصلاح بين الناس .
و - أن معاوية رضي الله عنه قد ولى مروان على المدينة و مكة ، انظر خبر توليته في : تاريخ الطبري (5/293) ، فلو صح ما بدر من مروان لما ولاه معاوية رضي الله عنه على رقاب المسلمين و في أقدس البقاع عند الله . لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع راجع كتاب : استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص202-203) .
و في أثناء المعركة قال علي للزبير : أتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : يا زبير أما والله لتقاتلنه و أنت ظالم له . تاريخ دمشق لابن عساكر (18/408-410) .
روى الحاكم في المستدرك (3/365-366) من طرق متعددة أن علياً ذكرّ الزبير بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لتقاتلن علياً و أنت ظالم له ، فلذلك رجع .(116/96)
و أخرج إسحاق من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن عبد السلام - رجل من حيه - قال : خلا علي بالزبير يوم الجمل فقال : أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول و أنت لاوي يدي : لتقاتلنه و أنت ظالم له ثم لينتصرن عليك . قال : قد سمعت ، لا جرم لا أقاتلك . ذكره الحافظ في الفتح (13/60) و انظر المطالب العالية (4/301) .
و روى ابن عساكر في تاريخه (18/410) وابن كثير في البداية (7/242) أن الزبير رضي الله عنه لما عزم عل الرجوع إلى المدينة عرض له ابنه عبد الله فقال : مالك ؟ قال : ذكرّني علي حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم و إني راجع ، فقال له ابنه : و هل جئت للقتال ؟ إنما جئت تصلح بين الناس ، و يصلح الله هذا الأمر .
و بالفعل فإن موقف الزبير رضي الله عنه كان السعي في الإصلاح حتى آخر لحظة ، و هذا ما أخرجه الحاكم في المستدرك (3/366) من طريق أبي حرب بن أبي الأسود الديلي ، و فيه أن الزبير رضي الله عنه سعى في الصلح بين الناس و لكن لما قامت المعركة واختلف أمر الناس مضى الزبير و ترك القتال .
و هذا الفعل من الزبير رضي الله عنه هو الذي ينسجم مع مقصده الذي قدم البصرة من أجله ، لا كما تصوره بعض الروايات من أنه كان من المحرضين على القتال .
و أثناء انسحابه رضي الله عنه رآه ابن جرموز فتبعه فأدركه و هو نائم في القائلة ، بوادي السباع ، فهجم عليه فقتله رضي الله عنه ، ثم سلب سيفه و درعه . الفصل في الملل و النحل لابن حزم (4/239) . و قال ابن كثير أن هذا القول هو الأشهر . أنظر : البداية و النهاية (7/250) .(116/97)
ذكر الحافظ في الفتح (6/264-265) و (7/102) : أن ابن جرموز جاء إلى علي متقرباً إليه بذلك ، فأمسك علي السيف بيده و قال : طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم و قال : بشر قاتل ابن صفية بالنار . أنظر : المسند (1/89 ، 102) و صححه الحاكم في المستدرك (4/367) و و ذكره أحمد في كتاب فضائل الصحابة بإسناد حسن (2/736-737) بلفظ قريب و فيه : جاء قاتل الزبير يستأذن ، فجاء الغلام فقال : هذا قاتل الزبير فقال : ليدخل قاتل الزبير النار ، و جاء قاتل طلحة يستأذن فقال الغلام : هذا قاتل طلحة يستأذن ، فقال : ليدخل قاتل طلحة النار .
و هذا الخبر يؤيده ما أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/737) بإسناده حسن ، و فيه أن ابن جرموز استأذن على علي رضي الله عنه فقال : من هذا ؟ فقال : ابن جرموز يستأذن . فقال : ائذنوا له ليدخل قاتل الزبير النار ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لكل نبي حواريّ و إن حوارييّ الزبير .
و في تعليل هذه الجرأة من ابن جرموز على قتل الزبير رضي الله عنه يقول الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة (ص322) : و كثر في أيامه - أيام عثمان رضي الله عنه - من لم يصحب الرسول ، و فُقد من عَرَفَ فضل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .(116/98)
هنا ذهب كعب بن سَور بالخبر إلى أم المؤمنين فقال لها : أدركي الناس قد تقاتلوا . و كانت المعركة قريبة من البصرة ، فوضع لها الهودج فوق البعير – ورد أن اسم البعير عسكر - فجلست فيه و غطي بالدروع ، و ذهبت إلى أرض المعركة لعل أن يوقف الناس القتال عندما يشاهدونها ، فلما وصلت ، أعطت عائشة المصحف لكعب و قالت له : خلِّ البعير و تقدم و ارفع كتاب الله و ادعهم إليه ، فشعر أهل الفتنة بأن القتال سيتوقف إذا تركوا كعباً يفعل ما طُلب منه ، فلما قام كعب و رفع المصحف و أخذ ينادي تناولته النبال فقتلوه ، كما جاء في رواية الطبري (4/513) من طريق سيف بن عمر ، و ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/88) .
ثم أخذوا بالضرب نحو الجمل ، بغية قتل عائشة لكن الله نجاها ، فأخذت تنادي : أوقفوا القتال ، و أخذ علي ينادي و هو من خلف الجيش : أن أو قفوا القتال ، و قادة الفتنة مستمرين ، فقامت أم المؤمنين بالدعاء على قتلة عثمان قائلة : اللهم العن قتلة عثمان ، فبدأ الجيش ينادي معها ، و حين سمع علي رضي الله عنه أثناء المعركة أهل البصرة يضجون بالدعاء ، قال : ما هذه الضجة ؟ فقالوا : عائشة تدعو و يدعون معاً على قتلة عثمان و أشياعهم ، فأقبل علي يدعو و يقول : اللهم العن قتلة عثمان و أشياعهم . الطبري (4/513) .
و روى ابن أبي شيبة في المصنف (15/277) و البيهقي في السنن الكبرى (8/181) أن علياً سمع يوم الجمل صوتاً تلقاء أم المؤمنين فقال : انظروا ما يقولون ، فرجعوا فقالوا : يهتفون بقتلة عثمان ، فقال : اللهم أحلل بقتلة عثمان خزياً .
و يؤيد هذا الخبر ما أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (1/455) بإسناد صحيح ، من طريق محمد بن الحنفية قال : بلغ علياً أن عائشة تلعن قتلة عثمان في المربد ، قال : فرفع يديه حتى بلغ بهما وجهه فقال : و أنا ألعن قتلة عثمان ، لعنهم الله في السهل والجبل ، قال مرتين أو ثلاثاً . و ارتفعت أصوات الدعاء في المعسكرين ..(116/99)
يقول الحارث بن سويد الكوفي - شاهد عيان ثقة ثبت - لقد رأيتُنا يوم الجمل ، و إن رماحنا و رماحهم لمتشاجرة و لو شاءت الرجال لمشت عليه ، يقولون الله أكبر ، سبحان الله ، الله أكبر . تاريخ خليفة (ص 198) بإسناد صحيح .
ثم إن أهل الفتنة أخذوا يرشقون جمل أم المؤمنين بالنبال و علي يصرخ فيهم أن كفوا عن الجمل ، لكنهم لا يطيعونه فصار الجمل كالقنفذ من كثرة النبال التي علقت به . تاريخ الطبري (4/513 ، 533 ) من طريق سيف بن عمر .
و يقدم الأشتر نحو الجمل فوقف له ابن الزبير فتقاتلا ، و لهذا شاهد من حديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ( 11/108) و ( 15/257) بإسناد رجاله ثقاة : أن الأشتر و ابن الزبير التقيا فقال ابن الزبير : فما ضربته ضربة حتى ضربني خمساً أو ستاً ، ثم قال : فألقاني برجلي ثم قال : والله لولا قرابتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت منك عضواً مع صاحبه ، قال : و قالت عائشة : واثكل أسماء ، قال : فلما كان بعد أعطت الذي بشرها به أنه حي عشرة آلاف .
أما قصة صراع ابن الزبير مع الأشتر و قول ابن الزبير اقتلوني و مالكاً ، تعارضها الروايات الصحيحة ، فقد أخرج الطبري (4/520) بسند صحيح عن علقمة أن الأشتر لقي ابن الزبير في الجمل فقال : فما رضيت بشدة ساعدي أن قمت في الركاب فضربته على رأسه فصرعته . قلنا فهو القائل اقتلوني و مالكاً ؟ قال : لا ، ما تركته و في نفسي منه شيء ، ذاك عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، لقيني فاختلفنا ضربتين ، فصرعني و صرعته ، فجعل يقول اقتلوني و مالكاً ، و لا يعلمون من مالك فلو يعلمون لقتلوني . و أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (15/228) .
هنا وصل القعقاع إلى الجمل فخاف على أم المؤمنين أن تصاب فبدأ ينادي بالانسحاب فأخذ الجمل محمد بن طلحة بن عبيد الله فقتل رضي الله عنه فأخذ القعقاع الجمل و سحبه خارج المعركة .(116/100)
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف (15/285) بسند صحيح أن عبد الله بن بديل قال لعائشة : يا أم المؤمنين أتعلمين أني أتيتك عندما قتل عثمان فقلتُ ما تأمريني ، فقلتِ الزم علياً ؟ فسكتت فقال : اعقروا الجمل فعقروه قال : فنزلت أنا و أخوها محمد و احتملنا الهودج حتى وضعناه بين يدي علي ، فأمر به علي فأدخل في بيت عبد الله بن بديل . و أورده الحافظ في الفتح (13/62) .
هنا علي رضي الله عنه أصدر الأوامر بأن لا تلحقوا هارباً و لا تأخذوا سبياً فثار أهل الفتنة و قالوا : تحل لنا دمائهم و لا تحل لنا نسائهم و أموالهم ؟ فقال علي : أيكم يريد عائشة في سهمه ، فسكتوا ، فنادى لا تقتلوا جريحاً و لا تقتلوا مدبراً ، و من أغلق بابه و ألقى سلاحه فهو آمن .البيهقي في السنن الكبرى (8/182) و ابن أبي شيبة في المصنف (15/257) و (15/286) بإسناد صحيح .
و أخرج الشافعي في الأم (4/308) من رواية علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : دخلت على مروان بن الحكم ، فقال : ما رأيت أحداً أكرم من أبيك ، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل فنادى مناديه لا يقتل مدبراً و لا يذفف على جريح . و أورده الحافظ في الفتح (13/62) .
و كان علي رضي الله عنه يطوف على القتلى و هم يدفنون ، ثم سار حتى دخل البصرة فمر على طلحة
و رآه مقتولاً فجعل يمسح التراب عن وجهه و يقول : عزيز عليّ أبا محمد أن أراك مجندلاً تحت نجوم السماء ، ثم قال : إلى الله أشكو عجري و بجري - أي همومي وأحزاني - و بكى عليه و على أصحابه . تاريخ دمشق (25/115) و أسد الغابة لابن الأثير (3/88-89) .(116/101)
بعدها ذهب إلى بيت عبد الله بن بديل الخزاعي لزيارة عائشة و الاطمئنان عليها فقال لها : غفر الله لكِ ، قالت : ولك ما أردت إلا الإصلاح بين الناس . شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (1/206) . و نقل الزهري في المغازي (ص154) قولها : إنما أريد أن يحجز بين الناس مكاني ، و لم أحسب أن يكون بين الناس قتال ، و لو علمت ذلك لم أقف ذلك الموقف أبداً . و هذا هو الصحيح بخلاف من قال بأن عائشة نزلت في بيت عبد الله بن خلف الخزاعي .
ثم قام علي بتجهيز عائشة و إرسالها إلى مكة معززة مكرمة ، و هذا الفعل من علي رضي الله عنه يعد امتثالاً لما أوصاه به النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أخرج الإمام أحمد في المسند (6/393) بسند حسن من حديث أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : إنه سيكون بينك و بين عائشة أمر ، قال : فأنا أشقاهم يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها .
و أخرج الحاكم في المستدرك (3/119) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج بعض أمهات المؤمنين ، فضحكت عائشة رضي الله عنها فقال : انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت ، ثم التفت إلى علي فقال : إن وليت من أمرها شيئاً فارفق بها .
و كان خروج عائشة رضي الله عنها يوم الجمل يعتبر زلة عن قصد حسن و هو الإصلاح ، و قد ندمت على ذلك ، و قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها زوجته في الجنة كما في المستدرك و قال عمار : والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا و الآخرة ، كما في الصحيح بهذا المعنى . و بهذين الدليلين و بوصف الله لها في القرآن بأنها طيبة ، تنقطع ألسنة الروافض الطاعنين في صحابة رسول الله و منهم أم المؤمنين رضي الله عنها . الصحيح المسند من دلائل النبوة للشيخ مقبل الوادعي (ص417) في الهامش .(116/102)