وبهذا يتضح أن ابن تيمية رحمه الله كغيره من أئمة السلف، وأهل السنة والجماعة، إذ منهجه في التكفير وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين: فلا هو يحكم بكفر أحد بالظن، وبغير علم، أو على أية معصية، أو خطأ يرتكبه صاحبه، ولا هو - أيضاً - يلغي جانب البراءة من الكافرين، ومجاهدتهم، واتخاذهم ظهرياً، فلا يكفر الكفار، أو يشك في كفرهم، أو يصحح مذهبهم، كلا فهو رحمه الله يقول بكفر الكافر الأصلي، ومن قامت عليه الحجة، ولم يكن هناك تأويل، أو جهل، أو شبهة (221).
الفصل الثاني
دعوى التجسيم والتشبيه
المبحث الأول:
قول أهل السنة في مسألة التجسيم والتشبيه.
المبحث الثاني:
دعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه، ومناقشتها.
المبحث الثالث:
دعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله، ومناقشتها.
المبحث الرابع:
دعوى قوله بالجهة والتحيز، ومناقشتها.
المبحث الأول
قول أهل السنة في مسألة التجسيم والتشبيه
في بداية عرض مذهب أهل السنة وقولهم في المشبهة - الذي حرصت أن يكون مستخلصاً من كلام السلف قبل ابن تيمية رحمه الله يحسن البدء بتعريف عام عن المشبهة، وأشهر الفرق التي تعرف بالتشبيه في تاريخ المسلمين، وبه يكون البدء بهذا المبحث.
المطلب الأول
التعريف بالمشبهة
التشبيه: قسمان: تشبيه المخلوق بالخالق، وتشبيه الخالق بالمخلوق.
القسم الأول: من شبه المخلوق بالخالق، ومن ذلك تشبيه النصارى حيث جعلوا عيسى ابن مريم ابن الله، ومن هذا الصنف السبئية (1) الذين يزعمون أن علياً هو الله (2).
القسم الآخر: من شبه الخالق بالمخلوق: وهم صنفان:
الصنف الأول: شبهوا ذات البارئ بذات غيره.
الصنف الآخر: شبهوا صفات البارئ بصفات غيره.
يقول البغدادي (3) رحمه الله عن هذين الصنفين: (وكل صنف من هذين الصنفين مفترقون على أصنافٍ شتى) (4).(106/88)
وسأذكر باختصار أبرز الفرق التي عرفت بالتشبيه، ويأتي في مقدمتها طوائف متعددة من الشيعة، وهم أول من أظهر التشبيه عند المسلمين كما يقول الرازي (5) رحمه الله عنهم (6).
وأبرز الفرق التي قالت بالتشبيه ما يلي:
الفرقة الأولى: الهشامية: وهم طائفتان:
الطائفة الأولى: أتباع هشام بن الحكم (7)، ومما زعمه ابن الحكم في معبوده أنه عريض طويل عميق، طوله مثل عرضه، وعرضه مثل عمقه، كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها، وأنه ذو لون وطعم ورائحة وأنه سبعة أشبار بشبر نفسه...) (8).
الطائفة الأخرى: أتباع هشام بن سالم الجواليقي (9)، ومما زعمه أن معبوده على صورة الإنسان، وأن نصفه الأعلى مجوف، ونصفه الأسفل مصمت، وأن له شعرة سوداء، وقلباً ينبع منه الحكمة (10).
ويطلق على الطائفة الأولى: الهشامية الحكمية، ويطلق على الطائفة الثانية: الهشامية الجواليقية (11).
الفرقة الثانية: الجواربية:
أتباع داود الجواربي (12)، ومما زعمه في معبوده أنه جسم ولحم ودم، وله جوارح وأعضاء، ووصف معبوده بأن له جميع أعضاء الإنسان إلا الفرج واللحية (13).
الفرقة الثالثة: الكرامية: أتباع محمد بن كرام السجستاني (14)، وأثبتوا لله الجسمية، وأنه جوهر، وهم طوائف متعددة تختلف ببعض جزئيات التشبيه (15).
المطلب الثاني
اعتقاد السلف نفي التمثيل والتشبيه
تواترت عبارات سلف الأمة في نفي تمثيل وتشبيه الخالق بالمخلوق، فهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلّى الله عليه وسلّم إثباتاً يليق بجلال الله وعظمته. وينفون ما نفاه الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
فقد سئل أبو حنيفة النعمان (16) عن نزول الباري - جل وعلا - فقال:
(ينزل بلا كيف) (17).(106/89)
وقال ابن أبي زمنين (ت - 399هـ) رحمه الله: (فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه ووصفه بها نبيه صلّى الله عليه وسلّم وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه ولا تقدير، فسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لم تره العيون فتحده كيف هو كينونيته) (18).
وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي (19) رحمه الله:
(ويداه مبسوطتان، ينفق كيف يشاء، بلا اعتقاد كيف، وأنه عزّ وجل استوى على العرش بلا كيف،... ولا يوصف بما فيه نقص، أو عيب، أو آفة، فإنه عزّ وجل تعالى عن ذلك) (20).
وقال الإمام الآجري (ت - 360هـ) رحمه الله عن نزول الباري جل وعلا إلى السماء الدنيا:
(وأما أهل الحق فيقولون: الإيمان به واجب بلا كيف؛ لأن الأخبار قد صحت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة (21)) (22).
وقال الإمام الصابوني (ت - 449هـ) رحمه الله:
(قلت وبالله التوفيق: أصحاب الحديث - حفظ الله تعالى أحياءهم ورحم أمواتهم - يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول صلّى الله عليه وسلّم بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عزّ وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلّى الله عليه وسلّم على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلت العدول الثقات عنه، ويثبتون له جل جلاله ما أثبته لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه، فيقولون: إنه خلق آدم بيديه كما نص سبحانه عليه في قوله - عز من قائل -: { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] ، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين، أو القوتين تحريف المعتزلة والجهمية - أهلكهم الله - ولا يكيفونهما بكيف أو شبهها (23) بأيدي المخلوقين تشبيه المشبهة - خذلهم الله -. وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتشبيه والتكييف) (24).(106/90)
وقال قوام السنة الأصبهاني (25) رحمه الله:
(الكلام في صفات الله عزّ وجل ما جاء منها في كتاب الله، أو روي بالأسانيد الصحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمذهب السلف - رحمة الله عليهم أجمعين - إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها...) (26).
وقال - أيضاً - بعد ذكره بعض الصفات الثابتة لله عزّ وجل: (فهذا وأمثاله مما صح نقله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن مذهبنا فيه ومذهب السلف إثباته وإجراؤه على ظاهره ونفي الكيفية والتشبيه عنه... ونقول: إنما وجب إثباتها - أي الصفات -؛ لأن الشرع ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (27).
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي (28) رحمه الله ناقلاً اتفاق السلف على ترك التشبيه والتمثيل:
(اعلم وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والعمل والنية، وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل: أن صالح السلف، وخيار الخلف، وسادات الأئمة، وعلماء الأمة اتفقت أقوالهم، وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله عزّ وجل وأنه واحد أحد، فرد صمد، حي قيوم، سميع بصير، لا شريك له ولا وزير، ولا شبيه ولا نظير، ولا عدل ولا مثيل) (29).
وقال - أيضاً -: (وتواترت الأخبار، وصحت الآثار بأن الله عزّ وجل ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيجب الإيمان والتسليم له، وترك الاعتراض عليه، وإمراره من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تأويل ولا تنزيه ينفي حقيقة النزول) (30).
وقال ابن قدامة المقدسي (31) رحمه الله:
(وكل ما جاء في القرآن، أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل) (32).
وقال العلامة الواسطي (33) رحمه الله:(106/91)
(وهو في ذاته وصفاته لا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا تمثل بشيء من جوارح مبتدعاته، بل هي صفات لائقة بجلاله وعظمته، لا تتخيل كيفيتها الظنون، ولا تراها في الدنيا العيون، بل نؤمن بحقائقها وثبوتها، ونصف الرب سبحانه وتعالى بها، وننفي عنها تأويل المتأولين، وتعطيل الجاحدين، وتمثيل المشبهين تبارك الله أحسن الخالقين) (34).
وضرب أمثلة لبيان اعتقاد السلف في الصفات وأنه الإثبات من غير طمع في إدراك الكيفية ببعض الصفات وهي: الحياة والفوقية والاستواء والنزول ثم قال:
(وصفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد، فيكون المؤمن بها مبصراً من وجه، أعمى من وجه (35)، مبصراً من حيث الإثبات والوجود، أعمى من حيث التكييف والتحديد، وبهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله به نفسه، وبين نفي التحريف والتشبيه والوقف، وذلك هو مراد الله تعالى منا في إبراز صفاته لنا لنعرفه بها، ونؤمن بحقائقها، وننفي عنها التشبيه) (36).
وذكر الحافظ المقدسي (ت - 600هـ) رحمه الله موقف السلف من الألفاظ المجملة التي تطلق على الله عزّ وجل فقال:
(من السنن اللازمة السكوت عما لم يرد فيه نص عن رسوله صلّى الله عليه وسلّم أو يتفق المسلمون على إطلاقه، وترك التعرض له بنفي أو إثبات، وكما لا يثبت إلا بنص شرعي، كذلك لا ينفى إلا بدليل شرعي) (37).
ويرى سلف الأمة أن تشبيه الله بخلقه كفر، وهذا واضح من خلال نصوصهم الصريحة مثل قول نعيم بن حماد الخزاعي (38) رحمه الله:
(من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه) (39).
وقال إسحاق بن راهويه (40) رحمه الله:
(من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم) (41).(106/92)
وحين ذكر بشر المريسي (42) في مناظرة الإمام الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله له أن تشبيه الله بخلقه خطأ، تعقبه الإمام الدارمي (ت - 280هـ) بقوله:
(أما قولك: إن كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو موجود في الخلق خطأ، فإنا لا نقول إنه خطأ، بل هو عندنا كفر، ونحن لتكييفها وتشبيهها بما هو موجود في الخلق أشد أنفاً منكم غير أنا كما لا نشبهها ولا نكيفها لا نكفر بها...) (43).
المطلب الثالث
رد السلف دعوى أن الإثبات يستلزم التشبيه
أكثرَ نفاة الصفات من إطلاق لفظ (التشبيه) على مخالفيهم من مثبتة الصفات، حتى صار من علامة الجهمية تسمية أهل السنة مشبهة كما قال ذلك الإمام إسحاق بن راهويه (ت - 238هـ) رحمه الله:
(علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل السنة والجماعة وما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة، بل هم المعطلة، ولو جاز أن يقال لهم هم المشبهة لاحتمل ذلك) (44).
وقال أبو زرعة الرازي (45) رحمه الله:
(المعطلة النافية الذين ينكرون صفات الله عزّ وجل التي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ويكذبون بالأخبار الصحاح التي جاءت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصفات، ويتأولونها بآرائهم المنكوسة على موافقة ما اعتقدوا من الضلالة وينسبون رواتها إلى التشبيه، فمن نسب الواصفين ربهم - تبارك وتعالى - بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم من غير تمثيل ولا تشبيه إلى التشبيه فهو معطل نافٍ، ويستدل عليهم بنسبتهم إياهم إلى التشبيه أنهم معطلة نافية) (46).
وقال أبو حاتم الرازي (47) رحمه الله:
(علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة) (48).
وقال ابن خزيمة (ت - 311هـ) رحمه الله:(106/93)
(وزعمت الجهمية - عليهم لعائن الله - أن أهل السنة ومتبعي الآثار، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلّى الله عليه وسلّم، المثبتين لله عزّ وجل من صفاته ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله، المثبت بين الدفتين، وعلى لسان نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه مشبهةٌ، جهلاً منهم بكتاب ربنا وسنة نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وقلة معرفتهم بلغة العرب الذين بلغتهم خوطبنا) (49).
وقد نبه الإمام إسحاق بن راهويه (ت - 238هـ) رحمه الله في النص السابق على أن المعطلة هم الذين يستحقون وصف التشبيه؛ لأنهم شبهوا أولاً، ثم عطلوا ثانياً (50)، وقد نبه إلى هذا - أيضاً - الإمام الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله، فبعد نص طويل في رده على المريسي (ت - 218هـ) وأنه نفى ما وصف الله به نفسه، ووصفه بخلاف ما وصف به نفسه، ثم ضرب أمثلة لتعطيل الصفات عن طريق التأويل الفاسد قال: (تضرب له الأمثال تشبيهاً بغير شكلها، وتمثيلاً بغير مثلها، فأي تكييف أوحش من هذا، إذ نفيت هذه الصفات وغيرها عن الله بهذه الأمثال والضلالات المضلات؟) (51).
وقد ناقش الإمام الواسطي (ت711هـ) رحمه الله الأشاعرة الذين يثبتون بعض الصفات، وينفون بعض الصفات، وحجتهم في نفي ما نفوه من الصفات أنه يستلزم التشبيه فقال:
(لا فرق بين الاستواء والسمع، ولا بين النزول والبصر؛ لأن الكل ورد في النص فإن قالوا لنا: في الاستواء شَبَّهتم، نقول لهم: في السمع شبهتم، ووصفتم ربكم بالعرض (52)، وإن قالوا: لا عرض، بل كما يليق به، قلنا: في الاستواء والفوقية لا حصر، بل كما يليق به، فجميع ما يلزموننا في الاستواء، والنزول، واليد، والوجه، والقدم، والضحك، والتعجب من التشبيه: نلزمهم به في الحياة، والسمع، والبصر، والعلم، فكما لا يجعلونها أعراضاً، كذلك نحن لا نجعلها جوارح، ولا مما يوصف به المخلوق) (53).(106/94)
ثم قال: (فما يلزموننا في تلك الصفات من التشبيه والجسمية نلزمهم في هذه الصفات من العرضية.
وما ينزهون ربهم به في الصفات السبع، وينفون عنه من عوارض الجسم فيها، فكذلك نحن نعمل في تلك الصفات التي ينسبوننا فيها إلى التشبيه سواء بسواء) (54).
وينبه الإمام ابن قدامة المقدسي (ت - 620هـ) رحمه الله إلى أمر مهم ألا وهو سبب نفي المتكلمين صفات الباري - جل وعلا - فظاهر الأمر عندهم هو التنزيه ونفي التشبيه، ولكن حقيقة الأمر هو: إبطال السنن والآثار الواردة فيقول:
(وأما ما يموه به من نفي التشبيه والتجسيم فإنما هو شيء وضعه المتكلمون وأهل البدع توسلاً به إلى إبطال السنن ورد الآثار والأخبار، والتمويه على الجهال والأغمار _55) ليوهموهم: إنما قصدنا التنزيه ونفي التشبيه) (56).
وأما دعوى أن إثبات الصفات يستلزم الجوارح والأعضاء لله عزّ وجل فقد أجاب عن هذه الشبهة الإمام الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله في رده على المريسي (ت - 218هـ) فقال: (وأما تشنيعك على هؤلاء المقرين بصفات الله، المؤمنين بما قال الله: أنهم يتوهمون فيها جوارح وأعضاء، فقد ادعيت عليهم في ذلك زوراً وباطلاً، وأنت من أعلم الناس بما يريدون بها، إنما يثبتون منها ما أنت معطل، وبه مكذب، ولا يتوهمون فيها إلا ما عنى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يدعون جوارح وأعضاء كما تقولت عليهم...) (57).(106/95)
ومما أجاب به سلف الأمة على من ألصق بهم تهمة التشبيه والتجسيم، بيانهم لأمر غفل عنه النفاة ألا وهو أن اتفاق الأسماء لا يلزم منه اتفاق المسميات، وكذلك اتفاق الصفات لا يلزم منه اتفاق الموصوفين بها فقد سمى الله عزّ وجل نفسه سميعاً بصيراً بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58] .
وسمى بعض خلقه سميعاً بصيراً بقوله عزّ وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الإنسان: 2] .
وقد ذكر ذلك الإمام الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله بقوله:
(إنما نصفه بالأسماء لا بالتكييف ولا بالتشبيه، كما يقال: إنه ملك كريم، عليم حكيم، حليم رحيم، لطيف مؤمن، عزيز جبار متكبر، وقد يجوز أن يدعى البشر ببعض هذه الأسماء) (58).
وقد أطال الإمام ابن خزيمة (ت - 311هـ) رحمه الله في بيان هذه القاعدة، وضرب لها أمثلة عدة منها تسمية الله نفسه عزيزاً (59)، وسمى بعض الملوك عزيزاً فقال: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ } [يوسف: 30] .
ومنها تسمية الله عزّ وجل نفسه الجبار المتكبر بقوله: { السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } [الحشر: 23] ، وسمى بعض الكفار متكبراً جباراً فقال: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [غافر: 35] ، وغيرها من الأمثلة (60).
وأختم بما قاله الفخر الرازي (ت - 606هـ) رحمه الله حين قال كلمة حق في معتقد السلف، وأنه بعيد عن التشبيه وهي قوله:(106/96)
(اعلم أن جماعة من المعتزلة ينسبون التشبيه إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين (61) وهذا خطأ، فإنهم منزهون في اعتقادهم عن التشبيه، والتعطيل، لكنهم كانوا لا يتكلمون في المتشابهات بل كانوا يقولون: آمنا وصدقنا، مع أنهم كانوا يجزمون بأن الله تعالى لا شبيه له، وليس كمثله شيء، ومعلوم أن هذا الاعتقاد بعيد جداً عن التشبيه) (62).
المبحث الثاني
دعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه، ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه
ركز المناوئون لابن تيمية رحمه الله على إلصاق تهمة التجسيم والتشبيه به - وذلك بناء على معتقد نفاة الصفات الذين يرمون مثبتة الصفات بالتشبيه - وتنوعت وسائلهم في تقرير هذه الشبهة في نفوس الضعفة:
فمنها: رميه بأنه مجسم كما قال الحصني (ت - 829هـ) : (والحاصل أنه وأتباعه من الغلاة في التشبيه والتجسيم) (63).
وقال ابن حجر الهيتمي (64) متحدثاً عن موقف ابن تيمية رحمه الله من الباري - جلَّ وعلا -:
(نسب إليه العظائم والكبائر، وخرق سياج عظمته، وكبرياء جلالته بما أظهر للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم) (65).
وأنه أول من قال بالتجسيم (66)، وأنه يقول: إن الله جسم كالأجسام (67).
ومنها: رميه بالتشبيه والتمثيل (68)، والحشو (69).
ومن فروع هذه القاعدة: محبته للمشبهة، وعدم ذمهم (70).
ومنها: أن ابن تيمية رحمه الله يثبت الاستواء، وإثبات الاستواء - عندهم - يلزم منه الجسمية، كما قال ابن جهبل (71) في رده على ابن تيمية رحمه الله:
(نقول لهم: ما هو الاستواء في كلام العرب؟ فإن قالوا: الجلوس والاستقرار).
قلنا: هذا ما تعرفه العرب إلا في الجسم فقولوا: يستوي جسم على العرش...) (72).
وقالوا بأنه يشبّه استواء الله على عرشه باستواء المخلوق على الكرسي كما ذكر ذلك التقي الحصني (ت - 829هـ) عن أبي الحسن علي الدمشقي (73) عن أبيه.(106/97)
قال: (كنا جلوساً في صحن الجامع الأموي في مجلس ابن تيمية فذكّر ووعظ، وتعرض لآيات الاستواء، ثم قال: (واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا) قال: فوثب الناس عليه وثبة واحدة، وأنزلوه عن الكرسي، وبادروا إليه ضرباً باللكم والنعال وغير ذلك...) (74).
ومنها: أن ابن تيمية رحمه الله أثبت النزول للباري عزّ وجل كل ليلة، كما هو ظاهر حديث النزول، فأنكروا عليه إثبات النزول (75).
وقالوا بأن ابن تيمية رحمه الله يثبت نزولاً للخالق يشبه نزول المخلوقين، كما ذكر ذلك ابن بطوطة (ت - 779هـ) في رحلته المشهورة فقال:
(حضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: (إن الله ينزل كنزولي هذا) ونزل درجة من درج المنبر) (76).
وقد اشتهرت هذه المقولة عن ابن بطوطة (ت - 779هـ) ، وهي تنسب - أيضاً - إلى أبي علي السكوني (77) وأنه نسبها إلى ابن تيمية عزّ وجل قبل ابن بطوطة (ت - 779هـ) .
ومرد ذلك إلى الاختلاف الكبير الحاصل في تحديد سنة وفاة أبي علي السكوني، فالقول الذي رجحه بعض الباحثين هو أن وفاة السكوني كانت سنة (717هـ) (78)، وبهذا تكون القصة قد اشتهرت ونسبت إلى ابن تيمية رحمه الله قبل مجيء ابن بطوطة إلى دمشق، فقد كان مجيئه إليها سنة (726هـ) في شهر رمضان (79).
وقيل: إن السكوني قد توفي سنة (747هـ) وقيل: سنة (816هـ)، لكنها أقوال مرجوحة، والله أعلم.
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله باستفاضة عن مصطلحات: التجسيم، والتشبيه، والتمثيل، والحشو، ورد على من قال: بأن مذهب أهل السنة والجماعة هو التشبيه في مواضع متعددة من كتبه، وأوضح رحمه الله مذهبه في استواء الباري عزّ وجل على عرشه، وفي نزوله إلى السماء الدنيا.(106/98)
فمصطلح التجسيم درسه شيخ الإسلام رحمه الله باستيعاب من حيث نشأته التاريخية في الإسلام وقبل الإسلام، وبيّن أقوال الناس في معنى الجسم، ثم ناقش هذه الأقوال مبيناً وجه الخطأ والصواب فيها، وفصّل في مناقشة لفظة الجسم من حيث اللغة، والشرع، والعقل، وبين موقف السلف من إطلاق لفظ الجسم على الله.
فذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن اليهود من غلاة المجسمة (80)، وأنهم سلف المجسمة، وأما في الإسلام فإن بداية ظهور التجسيم كان من قِبل بعض الشيعة كهشام بن الحكم (ت - 190هـ) وهشام الجواليقي يقول ابن تيمية رحمه الله:
(وأول ما ظهر إطلاق لفظ الجسم من متكلمة الشيعة كهشام بن الحكم) (81).
وفصل رحمه الله في معنى الجسم من حيث اللغة، مبيناً أن معناه هو: البدن والجسد ناقلاً عن أئمة اللغة إثبات ذلك، مثل قول أبي زيد الأنصاري (82) : (الجسم: الجسد وكذلك الجسمان والجثمان) (83).
وقال الأصمعي (84) : (الجسم والجثمان: الجسد، والجثمان: الشخص، والأجسم: الأضخم بالبدن) (85).
وقال ابن السكيت (86) : (تجسمت الأمر: أي ركبت أجسمه، وجسيمه أي: معظمه، وكذلك تجسمت الرمل والجبل: أي ركبت أجسمه) (87).
قال عامر بن الطفيل (88) :
وقد علم الحي بن عامر *** بأن لنا ذروة الأجسم (89)
وبين ابن تيمية رحمه الله: أن (الجسم قد يراد به الغلظ نفسه، وهو عرض قائم بغيره، وقد يراد به الشيء الغليظ، وهو القائم بنفسه، فنقول: هذا الثوب له جسم أي: غلظ، وقوله؛ {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } [البقرة: 247] قد يحتج به على هذا، فإنه قرن الجسم بالعلم الذي هو مصدر، فنقول المعنى: زاده بسطة: في قدره فجعل قدر بدنه أكبر من بدن غيره، فيكون الجسم هو القدر نفسه لا نفس المقدر.(106/99)
وكذلك قوله: { تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } [المنافقون: 4] ، أي صورهم القائمة بأبدانهم كما تقول: أعجبني حسنه وجماله ولونه وبهاؤه، فقد يراد صفة الأبدان، وقد يراد نفس الأبدان،وهم إذا قالوا: هذا أجسم من هذا أرادوا أنه أغلظ وأعظم منه، أما كونهم يريدون بذلك أن ذلك العظم والغلظ كان لزيادة الأجزاء، فهذا مما يعلم قطعاً بأنه لم يخطر ببال أهل اللغة) (90).
وأما من حيث الشرع فقد بين أنه لم يُنقل في الشرع ولا عن الأنبياء السابقين ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين ومن تبعهم من سلف الأمة إثبات هذا اللفظ أو نفيه.
قال رحمه الله: (وأما الشرع فالرسل وأتباعهم الذين من أمة موسى وعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم لم يقولوا: إن الله جسم، ولا إنه ليس بجسم، ولا إنه جوهر ولا إنه ليس بجوهر، لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء هو بما أحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء) (91).
ثم قال: (والذي اتفقت عليه الرسل وأتباعهم، ما جاء به القرآن والتوراة: من أن الله موصوف بصفات الكمال، وأنه ليس كمثله شيء، فلا تمثل صفاته بصفات المخلوقين، مع إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات) (92).
وقال رحمه الله: (وأما الشرع: فمعلوم أنه لم ينقل عن أحد من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة أن الله جسم، أو أن الله ليس بجسم، بل النفي والإثبات بدعة في الشرع) (93).
وقال - أيضاً -: (وأما من لا يطلق على الله اسم الجسم كأئمة الحديث، والتفسير، والتصوف، والفقه، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم، وشيوخ المسلمين المشهورين في الأمة، ومن قبلهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فهؤلاء ليس فيهم من يقول: إن الله جسم، وإن كان أيضاً: ليس من السلف والأئمة من قال: إن الله ليس بجسم) (94).
وبين رحمه الله سبب عدم إطلاق السلف لفظ الجسم لا نفياً ولا إثباتاً أنه لوجهين:(106/100)
( أحدهما: أنه ليس مأثوراً لا في كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، فصار من البدع المذمومة.
الثاني: أن معناه يدخل فيه حق وباطل، فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل، والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل) (95).
وعن سؤال افترضه هل جوابه موجود في الكتاب والسنة أم لا؟ وهو: هل الله جسم أم ليس بجسم؟ قال:
(فإذا قال السائل: هل الله جسم أم ليس بجسم؟ لم نقل: إن جواب هذا السؤال ليس في الكتاب والسنة، مع قول القائل: إن هذا السؤال موجود في فطر الناس بالطبع، والله تعالى يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } [المائدة: 3] ، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } [التوبة: 115] .
وقال: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل: 89] .
وقال: { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [يوسف: 111] .
وقال: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 123 - 126] .
وقال: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] ) (96).(106/101)
ثم ذكر آيات كثيرة وقال: (ومثل هذا في القرآن كثير، مما يبين الله فيه أن كتابه مبيِّن للدين كله، موضح لسبيل الهدى، كافٍ لمن اتبعه، لا يحتاج معه إلى غيره يجب اتباعه دون اتباع غيره من السبل) (97).
ثم شرع في ذكر بعض الأحاديث الدالة على أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين الحق، وترك الأمة على المحجة البيضاء، ومنها قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في خطبته: (إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) (98).
وكان يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) (99).
وكان يقول: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) (100).
ثم قال: (فكيف يكون هذا - مع هذا البيان والهدى - ليس فيما جاء به جواب عن هذه المسألة، ولا بيان الحق فيها من الباطل، والهدى من الضلال؟ بل كيف يمكن أن يسكت عن بيان الأمر ولو لم يسأله الناس؟) (101).
وبين وجوب اعتقاد الحق فيها، ثم شنع على الذين يقولون: إن جواب هذا السؤال وأمثاله ليس في الكتاب والسنة، ووصفهم بأنهم (الذين يُعرضون عن طلب الهدى من الكتاب والسنة، ثم يتكلم كل منهم برأيه ما يخالف الكتاب والسنة، ثم يتأول آيات الكتاب على مقتضى رأيه، فيجعل أحدهم ما وصفه برأيه هو أصول الدين الذي يجب اتباعه، ويتأول القرآن والسنة على وفق ذلك، فيتفرقون ويختلفون) (102).
وبين شيخ الإسلام أن لفظ الجسم مجمل يحتاج إلى استفصال.
فإن أُريد بالجسم: الموجود القائم بنفسه، المتصف بالصفات، فهذا المعنى حق، لكن الخطأ إنما هو في اللفظ.
وإن أريد غير ذلك من المعاني في معنى الجسم كأن يقال: هو ما يشار إليه، أو المركب، أو غير ذلك فإنه معنى باطل ولفظ مردود (103).(106/102)
وأما دعوى أن ابن تيمية رحمه الله يقول بأن الله جسم لا كالأجسام، فغير صحيحة، وهذه نصوص ابن تيمية الصريحة في رد هذه المقولة، وتخطئة من قالها، ومنها:
قوله حين قال له أحد كبار مخالفيه بجواز أن يقال: هو جسم لا كالأجسام:
(إنما قيل: إنه يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا السؤال) (104).
وحكم على القائل بهذا القول أنه مشبه، بقوله: (فمن قال هو جسم لا كالأجسام كان مشبهاً، بخلاف من قال: حي لا كالأحياء) (105).
وذكر أن القائلين بهذه المقولة هم طوائف من أهل الكلام المتقدمين والمتأخرين فقال عن إثباتهم صفات الله عزّ وجل: (يثبتون هذه الصفات، ويثبتون ما ينفيه النفاة لها، ويقولون: هو جسم لا كالأجسام، ويثبتون المعاني التي ينفيها أولئك بلفظ الجسم) (106).
وذكر أن القائل بهذه المقولة هم علماء المجسمة (107).
وقال رحمه الله: (وأما المعنى الخاص الذي يعنيه النفاة والمثبتة، الذين يقولون: هو جسم لا كالأجسام، فهذا مورد النزاع بين أئمة الكلام وغيرهم، وهو الذي يتناقض سائر الطوائف من نفاته لإثبات ما يستلزمه، كما يتناقض مثبتوه مع نفي لوازمه.
ولهذا كان الذي عليه أئمة الإسلام أنهم لا يطلقون الألفاظ المبتدعة المتنازع فيها لا نفياً، ولا إثباتاً، إلا بعد الاستفسار والتفصيل: فيثبت ما أثبته الكتاب والسنة من المعاني، وينفي ما نفاه الكتاب والسنة من المعاني) (108).
وبين رحمه الله في مقولة: (إن الله ذو جسم وأعضاء وجوارح) أنها كلام باطل (109).
وأما ألفاظ (التشبيه والتمثيل) فقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - أقوال الناس في الفرق بينها: هل هي بمعنى واحد أو معنيين؟، وأنها قولان:
( أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وأن ما دل عليه لفظ المثل مطلقاً ومقيداً يدل عليه لفظ الشبه، وهذا قول طائفة من النظار.(106/103)
والثاني: أن معناها مختلف عند الإطلاق لغة، وشرعاً، وعقلاً، وإن كان مع التقييد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر، وهذا قول أكثر الناس) (110).
وبين سبب الاختلاف، وأنه مبني على مسألة عقلية وهي: أنه هل يجوز أن يشبه الشيءُ الشيءَ من وجه دون وجه، وذكر رحمه الله أن للناس في ذلك قولين: (فمن منع أن يشبهه من وجه دون وجه قال: المثل والشبه واحد.
ومن قال: إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه، فرّق بينهما عند الإطلاق وهذا قول جمهور الناس) (111).
وبين قول المخالفين في عدم التفريق بين التشبيه والتمثيل وهو: امتناع كون الشيء يشبه غيره من وجه ويخالفه من وجه، بل عندهم كل مختلفين كالسواد والبياض فإنهما لم يشتبها من وجه، وكل مشتبيهن كالأجسام عندهم، يقولون بتماثلها، فإنها متماثلة عندهم من كل وجه لا اختلاف بينها إلا في أمور عارضة لها (112).
فالأجسام متماثلة من كل وجه، وأما الأعراض المختلفة والأجناس - كالسواد والبياض - فمختلفة من كل وجه (113).
وبين نتيجة هذا القول وأنه: (كل من أثبت ما يستلزم التجسيم في اصطلاحهم فهو مشبه ممثل) (114).
وذكر أن القائل بهذا كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية، ومن وافقهم من الصفاتية كالباقلاني (115)، وأبي يعلى (116)، وأبي المعالي (117)، وغيرهم (118).
وناقش هؤلاء نقاشاً عقلياً ولغوياً، وشرعياً بقوله:
(فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان، تشتبه في كونها ألواناً مع أن السواد ليس مثل البياض، وكذلك الأجسام والجواهر عند جمهور العقلاء تشتبه في مسمى الجسم والجوهر، وإن كانت حقائقها ليست متماثلة، فليست حقيقة الماء مماثلة لحقيقة التراب، ولا حقيقة النبات مماثلة لحقيقة الحيوان، ولا حقيقة النار مماثلة لحقيقة الماء، وإن اشتركا في أن كلاً منهما جوهر وجسم وقائم بنفسه) (119).(106/104)
(وأيضاً فمعلوم في اللغة أنه يقال: هذا يشبه هذا، وفيه شبه من هذا، إذا أشبهه من بعض الوجوه، وإن كان مخالفاً له في الحقيقة.
قال الله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً } [البقرة: 25] .
وقال: { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } [آل عمران: 7] .
وقال: { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [البقرة: 118] .
فوصف القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل، فإن القلوب وإن اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس» (120).
فدل على أنه يعلمها بعض الناس، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة، بل بعضها حرام وبعضها حلال) (121).
وأما لفظ (الحشوية) فقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا اللفظ ليس له مسمى معروف لا في الشرع، ولا في اللغة، ولا في العرف العام، وليس فيه ما يدل على شخص معين، ولا مقالة معينة، فلا يدرى من هم هؤلاء؟
ويذكر أن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد (122)، حيث قال: كان عبد الله بن عمر (123)- رضي الله عنهما - حشوياً.
وأصل ذلك أن كل طائفة قالت قولاً تخالف به الجمهور والعامة فإنها تنسب قول المخالف لها إلى أنه قول الحشوية: أي الذين هم حشوٌ في الناس ليسوا من المتأهلين عندهم.
فالمعتزلة تسمي من أثبت القدر حشوياً، والجهمية يسمون مثبتة الصفات حشوية، والقرامطة (124)- كأتباع الحاكم (125)- يسمون من أوجب الصلاة والزكاة والصيام والحج حشوياً.(106/105)
وأهل هذا المصطلح يعنون به حين يطلقونه: العامة الذين هم حشو، كما تقول الرافضة عن مذهب أهل السنة مذهب الجمهور (126).
وحين رد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على الرافضي (127) في كتابه (منهاج السنة النبوية) قوله عن جماعة من الحشوية والمشبهة: إن الله تعالى جسم، له طول وعرض وعمق، وأنه يجوز عليه المصافحة... إلخ (128).
استفصل رحمه الله في المراد بالحشوية فقال:
(فإن كان مراده بالحشوية: طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة دون غيرهم، كأصحاب أحمد أو الشافعي، أو مالك، فمن المعلوم أن هذه المقالات لا توجد فيهم أصلاً، بل هم يكفّرون من يقولها...
وإن كان مراده بالحشوية: أهل الحديث على الإطلاق: سواء كانوا من أصحاب هذا أو هذا، فاعتقاد أهل الحديث: هو السنة المحضة؛ لأنه هو الاعتقاد الثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس في اعتقاد أحد من أهل الحديث شيء من هذا، والكتب شاهدة بذلك.
وإن كان مراده بالحشوية: عموم أهل السنة والجماعة مطلقاً: فهذه الأقوال لا تعرف في عموم المسلمين وأهل السنة) (129).
وأما نزول الباري عزّ وجل إلى السماء الدنيا، واستواؤه على عرشه سبحانه وتعالى، فليس في نصوص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما يثبت أنه يشبّه نزول الرب بنزول المخلوقين، واستواءه باستوائهم، بل نصوصه صريحة في نفي المماثلة والمشابهة في غير موضع.
فحين تحدث عن منهج الوسطية عند أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات قال:
(ويعلمون مع ذلك أنه لا مثيل له في شيء من صفات الكمال، فلا أحد يعلم كعلمه، ولا يقدر كقدرته، ولا يرحم كرحمته، ولا يسمع كسمعه، ولا يبصر كبصره، ولا يخلق كخلقه، ولا يستوي كاستوائه، ولا يأتي كإتيانه، ولا ينزل كنزوله كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص] ) (130).(106/106)
وفي معرض رده على من ينفي الصفات الفعلية، بحجة أنها تستلزم التجسيم، صاغ قول المخالف وقوله على هيئة حوار قائلاً:
(فإذا قيل: سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، وإرادته ليست كإرادتنا، وكذلك علمه وقدرته.
قيل له: وكذلك رضاه ليس كرضانا، وغضبه ليس كغضبنا، وفرحه ليس كفرحنا، ونزوله واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا) (131).
وقال عن الاستواء:
(وكذلك ما أخبر به عن نفسه من استوائه على العرش، ومجيئه في ظلل من الغمام، وغير ذلك من هذا الباب، ليس استواؤه كاستوائهم، ولا مجيئه كمجيئهم) (132).
وقال عن النزول ناقلاً عن الإمام أحمد بن حنبل (ت - 241هـ) رحمه الله في رسالته إلى مسدد (133) أن النزول لا تعلم كيفيته:
(وهم متفقون على أن الله ليس كمثله شيء، وأنه لا يُعلم كيف ينزل، ولا تمثل صفاته بصفات خلقه) (134).
وحكم على من مثل استواء الله ونزوله باستواء المخلوقين ونزولهم بأنه مبتدع ضال (135).
وقد أطال النفس رحمه الله في الجواب عن شبهة أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، مبيناً قبل ذلك قاعدة مهمة وهي: أن كل من نفى شيئاً قال لمن أثبته إنه مجسم ومشبه، فغلاة الباطنية، نفاة الأسماء، يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبهاً ومجسماً، فيقولون: إذا قلنا حي عليم، فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين.
وكذلك إذا قلنا: هو سميع بصير، فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير.
وإذا قلنا: رؤوف رحيم فقد شبهناه بالنبي الرؤوف الرحيم، بل قالوا: إذا قلنا: إنه موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات، لاشتراكهما في مسمى الوجود (136).
ومثبتة الأسماء دون الصفات من المعتزلة ونحوهم، يقولون لمن أثبت الصفات: إنه مجسم، ومثبتة الصفات دون ما يقوم به من الأفعال الاختيارية يقولون لمن أثبت ذلك: إنه مجسم، وكذلك سائر النفاة (137).
وبين رحمه الله مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات: وأنه وسط بين التعطيل والتمثيل في مواضع متعددة من كتبه:(106/107)
فقال: (أهل السنة والجماعة في الإسلام - كأهل الإسلام في الملل - فهم وسط في باب صفات الله عزّ وجل بين أهل الجحد والتعطيل، وبين أهل التشبيه والتمثيل؛ يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل، إثباتاً لصفات الكمال، وتنزيهاً له عن أن يكون له فيها أنداد وأمثال، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، كما قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، رد على الممثلة: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11] ، رد على المعطلة.
وقال تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الإخلاص] ) (138).
وذكر أن ما نفاه المعطلة من الأسماء والصفات ثابت بالشرع والعقل، وأن تسميتهم لما أثبته غيرهم تشبيه وتجسيم، إنما هو تمويه على الجهال.
وبين أن التمثيل والتشبيه المنهي عنه في الأسماء والصفات للباري عزّ وجل هو: ما يستلزم الاشتراك بين الخالق والمخلوق فيما يختص به الخالق، مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق (139).
ويوضح أس المشكلة عند النفاة وهي: قياس الخالق بالمخلوق، فلو كان الخالق عزّ وجل عندهم متصفاً بالصفات، لكان مماثلاً للمخلوق المتصف بالصفات، ويخلص إلى نتيجة وهي: أن هذا القول في غاية الفساد؛ لأن تشابه الشيئين من بعض الوجوه، لا يقتضي تماثلهما في جميع الأشياء.(106/108)
ولو كان إثبات الصفات يقتضي التجسيم؛ لكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى إنكار ذلك أسبق، وهو به أحق، وإن كان الطريق إلى نفي العيوب والنقائص، ومماثلة الخالق لخلقه هو ما في ذلك من التجسيد والتجسيم؛ كان إنكار ذلك بهذا الطريق هو الصراط المستقيم كما فعله من أنكر ذلك بهذا الطريق من القائلين بموجب ذلك من أهل الكلام، فلما لم ينطق النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا أصحابه والتابعون بحرف من ذلك، بل كان من نطق به موافقاً مصدقاً لذلك (140).
والقرآن الكريم بيّن الفرق بين الخالق والمخلوق، وأنه لا يجوز أن يسوى بين الخالق والمخلوق في شيء، فيجعل المخلوق نداً للخالق. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } [البقرة: 165] .
وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [مريم: 65] .
وقال تعالى: { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 17 - 21] (141).
قال رحمه الله في بيان لوازم التماثل بين الخالق والمخلوق، وأن التماثل غير ممكن:(106/109)
(وقد علم بالعقل أن المثلين يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، فلو كان المخلوق مماثلاً للخالق للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع، والخالق يجب وجوده وقدمه، والمخلوق يستحيل وجوبه وقدمه، بل يجب حدوثه وإمكانه، فلو كانا متماثلين للزم اشتراكهما في ذلك، فكان كل منهما يجب وجوده وقدمه، ويمتنع وجوب وجوده وقدمه، ويجب حدوثه وإمكانه، فيكون كل منهما واجب القدم واجب الحدوث، واجب الوجود ليس واجب الوجود، يمتنع قدمه لا يمتنع قدمه، وهذا جمع بين النقيضين) (142).
ومن رده رحمه الله على من توهم أن مدلول نصوص الصفات هو التمثيل، بين أنه يقع في أربعة أنواع من المحاذير:
الأول: كونه مثّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.
الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله، بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله.
الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير علم، فيكون معطلاً لما يستحقه الرب تعالى.
الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الموات والجمادات، أو صفات المعدومات (143).
وتوسع رحمه الله في بيان قاعدة (اتفاق الأسماء والصفات لا يستلزم اتفاق المسميات والموصوفات عند الإضافة والتقييد والتخصيص).
ففي الأسماء: سمى الله نفسه حياً بقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [البقرة: 255] .
وبقوله: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] .
وسمى بعض عباده حياً بقوله: { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [يونس: 31] .
مع العلم أنه ليس الحي كالحي؛ لأن قوله: (الحي) اسم لله مختص به، وقوله: { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } [يونس: 31] ، اسم للحي المخلوق المختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا، وجردا عن التخصيص.(106/110)
وسمى نفسه بالملك: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ } [الحشر: 23] ، وسمى بعض عباده الملك فقال: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } [يوسف: 50] ، وليس الملك كالملك.
وسمى نفسه العزيز الجبار المتكبر فقال: { الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } [الحشر: 23] .
وسمى بعض خلقه العزيز فقال: { قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} [يوسف: 51] ، وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر فقال: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [غافر: 35] .
وفي الصفات: وصف - سبحانه - نفسه بالإرادة، ووصف عباده بالإرادة فقال: { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67] .
ووصف نفسه بالمشيئة، ووصف بعض عباده بالمشيئة بقوله: { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير: 28 - 29] .
ووصف نفسه بالعمل بقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } [يس: 71] .
ووصف عباده بالعمل بقوله: { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17] .
إلى غيرها من الأسماء والصفات الدالة على أن تماثل الأسماء والصفات لا يعني تماثل المسمى والموصوف عند الإطلاق (144).
وقد أجابت إحدى الباحثات (145) عن رمي ابن تيمية رحمه الله بالتجسيم، بأن نصوص كتب ابن تيمية تدل دلالة واضحة على أنه بريء كل البراءة مما نسب إليه من شبهة التجسيم، إذ لا يمكن لسنّي مثله دافع عن الكتاب والسنة دفاعاً مريراً، إلى أن خافه الفقهاء والصوفية، فدسوا له عند الحكام، حتى سجن، أن يقول مثل هذا القول، وبينت أن الأسرة التي عاش فيها ابن تيمية لم تكن محاطة بالتشبيه والتجسيم، بل كانت أسرة متدينة ومتفقهة في الدين الإسلامي (146).
المبحث الثالث(106/111)
دعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله، ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله
بعدما وصف أعداء عقيدة السلف الاعتقاد الحق بأنه تشبيه وتجسيم، ووصفوا شارح اعتقاد السلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بأنه - أيضاً - مجسم ومشبه استمراراً للقاعدة التي أصلوها.
بعد ذلك بحثوا عن جذور هذا القول قبل ابن تيمية رحمه الله ليقولوا بتأثره بتلك الجذور.
وتنوعت عباراتهم في تحديد تلك الجذور بدقة:
فمن قائل: إن تجسيم ابن تيمية رحمه الله امتداد لتجسيم اليهود حين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] ، وقالوا: { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [المائدة: 64] . وقالوا: { عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } [التوبة: 30] (147).
وبعض أعداء ابن تيمية رحمه الله يرون أنه انخدع بكلام أبي البركات البغدادي (148)، الذي كان يهودياً، ويزعمون أنه تظاهر بالإسلام ولم يسلم، ولذلك يطلقون عليه (ابن ملكا الفيلسوف اليهودي المتمسلم) (149).
ومنهم من يرى أن ابن تيمية رحمه الله حمل لواء المذهب الكرامي، نصيراً ومؤيداً حيث ذكر ذلك أحدهم بقوله: (لم تمت الكرامية.. لقد عاشت الكرامية بعد موت مؤسسها... ثم احتضنها عالم سلفي متأخر، ومفكر من أكبر مفكري الإسلام وهو (تقي الدين بن تيمية)، أو بمعنى أدق: سار الحشو في طريقه يدعم فكرة التشبيه والتجسيم، ويجتذب إليه مجموعة من أذكى رجال الفكر الإسلامي) (150).
ويجنح أعداء ابن تيمية رحمه الله إلى أمر آخر: وهو أنه لما كان الاعتقاد الحق ينسب إلى الإمام أحمد بن حنبل (ت - 241هـ) رحمه الله أنشأوا مصطلح (مجسمة الحنابلة) أو (حشوية الحنابلة)، وجعلوهم أصولاً لابن تيمية رحمه الله يستقي منهم اعتقاده في الأسماء والصفات.(106/112)
ويضربون أمثلة لهذا: كإمام أهل السنة وشيخ الحنابلة في عصره أبي محمد البربهاري (150)، والقاضي أبي يعلى الحنبلي (ت - 458هـ) - رحمهما الله - ويعتمد مناوئوا ابن تيمية على كتاب لابن الجوزي (152) رحمه الله سماه (دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه)(153) - يزعمون أنه هو الذي يمثل المسلك الصحيح للحنابلة، وأنه قصد الرد على من اتجه إلى التشبيه من الحنابلة (154).
ومن المناوئين من جعل تأثر ابن تيمية رحمه الله بكل ما ذكر وليس بمسلك واحد (155).
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
يقف ابن تيمية رحمه الله كغيره من أئمة السلف موقف الوسط في إثبات الصفات بين المعطلة النفاة من جهة، وبين المثبتة الغلاة الذين شبهوا الله بخلقه من جهة.
وقد بينت - سابقاً - موقفه من النفاة، وسأبين الآن موقفه من المشبهة وهو - كسابقه - موقف الرد والمعارضة والتخطئة (156)، وإن كان يرى أن من يثبت بعض الصفات كالكلابية (157)، والأشاعرة، ومن يغلو في الإثبات كالكرامية أصح طريقاً وأخف خطأ من المعطلة، ولهذا يضع رحمه الله قاعدة مهمة في الموازنة بين الفرق فيقول:
(ولهذا كان المتكلمة الصفاتية كابن كلاب، والأشعري، وابن كرام خيراً وأصح طريقاً في العقليات والسمعيات من المعتزلة، والمعتزلة خيراً وأصح طريقاً في العقليات والسمعيات من المتفلسفة (158)، وإن كان في قول كل من هؤلاء ما ينكر عليه، وما خالف فيه العقل والسمع) (159).
ثم يقول: (ولكن من كان أكثر صواباً، وأقوم قيلاً كان أحق بأن يقدم على من هو دونه تنزيلاً وتفصيلاً) (160).
ويبين أن قول أهل التعطيل أعظم من قول أهل التجسيم، ولذلك اعتنت الكتب الإلهية بمناقشة شبه أهل التعطيل أكثر من عنايتها بالرد على شبه أهل التجسيم فقال:
(وقول المعطلة لما كان أبعد عن الحق من قول المجسمة، كانت حجج أهل التعطيل أضعف من حجج أهل التجسيم.(106/113)
ولما كان مرض التعطيل أعظم؛ كانت عناية الكتب الإلهية بالرد على أهل التعطيل أعظم، وكانت الكتب الإلهية قد جاءت بإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل) (161).
وفي مقام رده رحمه الله على الممثلة أوضح مباينة الخالق للمخلوق، وأن صفاته لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق سبحانه وتعالى عما يقول المشبهة علواً كبيراً (162).
وذكر أقسام الممثلة، حين مناقشته لهم في مسألة نزول البارئ عزّ وجل وبين ضلالهم (163).
وذكر أنهم يعبدون صنماً، والمعطلة تعبد عدماً (164).
واستعاذ بالله من تشبيه المجسمة (165).
وأما غلاة المجسمة فقد حكم رحمه الله كغيره من السلف بكفرهم (166).
وناقش رحمه الله، الأحاديث التي يستدل بها المشبهة مثل ما ينسبونه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم قوله: (إن الله خلق خيلاً فأجراها، فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق) (167).
وحديث نزول الرب عشية عرفة إلى الموقف على جمل أورق، ومصافحته للركبان، ومعانقته المشاة (168). وغيرها.
وبين أن هذه الأحاديث موضوعة مكذوبة فقال عنها رحمه الله:
(هي أحاديث مكذوبة موضوعة باتفاق أهل العلم، فلا يجوز لأحد أن يُدخل هذا وأمثاله في الأدلة الشرعية) (169).
وذكر عن حديث عرق الخيل أنه: كذبه بعض الناس على أصحاب حماد بن سلمة (ت - 167هـ) وقالوا: إنه كذبه بعض أهل البدع، واتهموا بوضعه محمد بن شجاع الثلجي (170).
وقالوا: إنه وضعه ورمى به بعض أهل الحديث؛ ليقال عنهم إنهم يروون مثل هذا (171).
هذا عن موقفه رحمه الله من مسلك التمثيل والتجسيم على وجه العموم.
موقفه من اليهود:
أما عن موقفه من اليهود وما زعمه مناوئوه، من صلته بهم، وتأثره بمنهجهم، وخاصة في مسلك تشبيه الخالق بالمخلوق:(106/114)
فقد أثبت رحمه الله ما أثبته القرآن، من أن عداوة اليهود للمسلمين أشد من عداوة النصارى، استناداً لقول الحق - تبارك وتعالى -: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] .
وذكر أن الله وصف اليهود بالكبر والبخل والجبن، والقسوة وكتمان العلم وسلوك سبيل الغي وهو سبيل الشهوات والعدوان (172).
وركز على بيان أن اليهود يشبّهون الخالق بالمخلوق في صفات النقص، كما أن النصارى يشبّهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال.
فقال: (اليهود يشبهون الخالق بالمخلوق في صفات النقص المختصة بالمخلوق التي يجب تنزيه الرب - سبحانه - عنها، كقول من قال منهم: إنه فقير وإنه بخيل، وإنه تعب لما خلق السموات والأرض، والنصارى يشبّهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال المختصة بالخالق التي ليس له فيها مثل، كقولهم: إن المسيح هو الله، وابن الله) (173).
وقد ارتضى شيخ الإسلام رحمه الله قول السلف في غلاة المجسمة أنهم كفار، وبين أن اليهود من غلاة المجسمة إذ يقول:
(ومن غلاة المجسمة اليهود، من يحكى عنه أنه قال: إن الله بكى على الطوفان حتى رمد، وعادته الملائكة، وأنه ندم حتى عض يده وجرى منه الدم) (174).
وذكر أن هذا كفر واضح صريح (175).
وأجاب رحمه الله عن ما حكاه القرآن عن اليهود بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [المائدة: 64] ، فقال:
(اليهود أرادوا بقولهم: يد الله مغلولة: أنه بخيل، فكذبهم الله في ذلك، وبيّن أنه جواد لا يبخل، فأخبر أن يديه مبسوطتان، كما قال:(106/115)
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً } [الإسراء: 29] .
فبسط اليدين المراد به الجود والعطاء، ليس المراد ما توهموه من بسط مجرد.
ولما كان العطاء باليد يكون ببسطها صار من المعروف في اللغة: التعبير ببسط اليد عن العطاء.
فلما قالت اليهود: يد الله مغلولة، وأرادوا بذلك: أنه بخيل كذبهم الله في ذلك، وبين أنه جواد ماجد) (176).
وبين رحمه الله أن القرآن ذم اليهود على ما وصفوه بالنقائص في مثل قول الله تعالى: { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } [آل عمران: 181] (177).
موقفه من أبي البركات:
ومن أسباب ربط معتقد ابن تيمية رحمه الله باليهود: مناقشات ابن تيمية رحمه الله لأبي البركات البغدادي (ت - 547هـ) رحمه الله، ونقله من كتابه (المعتبر في الحكمة) (178).
وقد اشتهر بين الفلاسفة بـ(أوحد الزمان)، كان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه، كما قال عنه القفطي (179): (أبو البركات: اليهودي في أكثر عمره، المهتدي في آخر أمره، أوحد الزمان طبيب فاضل) (180).
وذكر ابن أبي أصيبعة (181) عنه بغضه لليهود بعد إسلامه فقال:
(كان يهودياً وأسلم بعد ذلك... ولم يكن يقرئ يهودياً أصلاً... وكان أوحد الزمان لما أسلم يتنصل كثيراً من اليهود ويلعنهم ويسبهم) (182).
وبهذا يتضح إسلام أبي البركات وبغضه لليهود من جهة، وعدم صلة ابن تيمية رحمه الله باليهود، إذ مناقشاته لرجل كان يهودياً فأسلم، وصار في عداد المسلمين (183).
وفي مناقشات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لأبي البركات (ت - 574هـ) يظهر جلياً إنصاف شيخ الإسلام ابن تيمية له، فقد كان يقره على ما معه من الصواب، ويرد عليه ويناقشه في المواضع التي زلّ فيها:
وبادئ الأمر فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عنه أنه من أساطين الفلاسفة وأئمتهم المتأخرين (184).(106/116)
وأن أبا البركات (ت - 547هـ) أقرب إلى الحق من الفلاسفة النفاة المتقدمين فقال:
(إن ابن سينا (185) وابن رشد (186)، وأبا البركات ونحوهم من الفلاسفة، أقرب إلى صحيح المنقول وصريح المعقول من النفاة الملحدين) (187).
وبيّن الفرق بين كلام قدماء الفلاسفة، ومتأخريهم، وبيّن السبب في قرب المتأخرين من الوحي، وضلال المتقدمين بقوله:
(كان كلام قدمائهم في العلم بالله تعالى قليلاً، كثير الخطأ، فإنما كثر كلام متأخريهم لما صاروا من أهل الملل، ودخلوا في دين المسلمين واليهود والنصارى، وسمعوا ما أخبرت به الأنبياء من أسماء الله وصفاته وملائكته وغير ذلك، فأحبوا أن يستخرجوا من أصول سلفهم ومن كلامهم، ما يكون فيه موافقة لما جاءت به الأنبياء، لما رأوا في ذلك من الحق العظيم الذي لا يمكن جحده، والذي هو أشرف المعارف وأعلاها، فصار كل منهم يتكلم بحسب اجتهاده فالفارابي (188) لون، وابن سينا لون، وأبو البركات صاحب المعتبر لون، وابن رشد الحفيد لون والسهروردي المقتول (189) لون، وغير هؤلاء ألوان أخر) (190).
ثم ذكر قرب أبي البركات (ت - 547هـ) من السنة بقوله: (ومن خالط أهل السنة وعلماء الحديث، كأبي البركات، وابن رشد، فكلامه لون آخر أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من كلام ابن سينا) (191).
ووضع قاعدة عامة في تقويم الفلاسفة وغيرهم فقال: (إن كل من كان إلى السنة وإلى طريقة الأنبياء أقرب كان كلامه في الإلهيات بالطرق العقلية أصح كما أن كلامه بالطرق النقلية أصح؛ لأن دلائل الحق وبراهينه تتعاون وتتعاضد، لا تتناقض وتتعارض) (192).
وعقد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقارنة بين أبرز الفلاسفة المتأخرين، ومدى تأثير البيئة عليهم في قربهم وبعدهم من الحق فقال:(106/117)
(ابن سينا نشأ بين المتكلمين النفاة للصفات، وابن رشد نشأ بين الكلابية، وأبو البركات نشأ ببغداد بين علماء السنة والحديث، فكان كل من هؤلاء بعده عن الحق بحسب بعده عن معرفة آثار الرسل، وقربه من الحق بحسب قربه من ذلك) (193).
وجعله رحمه الله من مثبتة الصفات، وأنه أفضل من غيره من الفلاسفة الذين لا يثبتونها، وأنه أثبت علم الرب بالجزئيات، وله مقالة رد فيها على أرسطو (194) في علم الله بالجزئيات (195) فقال:
(وأما أبو البركات صاحب المعتبر ونحوه، فكانوا بسبب عدم تقليدهم لأولئك، وسلوكهم طريقة النظر العقلي بلا تقليد، واستنارتهم بأنوار النبوات، أصلح قولاً في هذا الباب من هؤلاء وهؤلاء (196)، فأثبت علم الرب بالجزئيات ورد على سلفه رداً جيداً، وكذلك أثبت صفات الرب وأفعاله، وبين ما بينه من خطأ سلفه، ورأى فساد قولهم في أسباب الحوادث، فعدل عن ذلك إلى أن أثبت للرب ما يقوم به من الإرادات الموجبة للحوادث) (197).
ومع هذا الثناء عليه من قبل شيخ الإسلام رحمه الله وإنصافه له، فقد بين - أيضاً - بالمقابل أخطاءه، فلم يقره عليها، وناقشه فيها.
فأثبت بأنه يقول بقدم بعض العالم، وأن الله أراد القديم بإرادة قديمة، وأراد الحوادث المتعاقبة عليه بإرادات متعاقبة (198). وناقشه نقاشاً مطولاً (199).
وجعل قوله في مسألة كلام الله مخالفاً لقول أهل السنة والجماعة (200)، وله ردود جزئية أخرى عليه (201).
موقفه من الكرامية:
أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن ربط مذهب السلف بمذهب الكرامية، بأن السلف تحدثوا في المسائل الشرعية قبل أن تخلق الكرامية وتوجد، وعليه فتنتفي شبهة نسبة مذهب السلف أو أحد السلف إلى مذهب الكرامية.(106/118)
قال رحمه الله مناقشاً الجويني (ت - 478هـ) في بعض جزئيات مذهب الكرامية في كلام الله عزّ وجل: (إن السلف وأئمة السنة والحديث، بل من قبل الكرامية من الطوائف لم يكن يلتفت إلى الكرامية وأمثالهم، بل تكلموا بذلك قبل أن يُخلق الكرامية، فإن ابن كرام كان متأخراً بعد أحمد بن حنبل، في زمن مسلم بن الحجاج (202) وطبقته، وأئمة السنة والمتكلمون تكلموا بهذه قبل هؤلاء) (203).
وفي مقام بيان الحق تجاه الكرامية:
يبين ابن تيمية رحمه الله قرب الكرامية من أهل السنة والحديث (204).
وحين ناقش مسألة (الجسم)، ذكر أن الكرامية وإن أخطؤوا في إثبات لفظ الجسم، ونسبته إلى الله عزّ وجل، إلا أنهم وافقوا أهل السنة في تفسير الجسم وأنه الموجود، أو القائم بنفسه (205).
ووافقوا أهل السنة في إثبات القدر إجمالاً: ففي مسألة الظلم وافقوا الجمهور في أن الظلم مقدور لله عزّ وجل، وأن الله تعالى منزه عنه، كما قال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} [طه: 122] (206).
وفي مسألة المحبة والمشيئة: وافقوا السلف في التفريق بينهما (207).
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موافقتهم السلف في الموقف من الخلفاء الراشدين، وتفضيل عثمان (208) رضي الله عنه (209).
قال رحمه الله: (والكرامية وأمثالهم هم - أيضاً - من القائلين بالقدر، المثبتين لخلافة الخلفاء، والمفضلين لأبي بكر (210)، وعمر (211)، وعثمان) (212).
وأثبتوا بعض الصفات: كالعلو، والنزول، والرؤية، والاستواء، والعلم، والكلام، وأثبتوا اليد والوجه لله عزّ وجل، إلا أن في إثباتهم لبعضها شيئاً من القصور والخلل - كما سأبين بعضه بعد قليل -.
ويبين رحمه الله أن ما يحمدون عليه أحد أمرين:
إما موافقة أهل السنة.
وإما الرد على المبتدعة.(106/119)
فقال: (وكذلك متكلمة أهل الإثبات، مثل الكلابية، والكرامية، والأشعرية، إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة، بما أثبتوه من أصول الإيمان، من إثبات الصانع وصفاته، وإثبات النبوة، والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب، وبيان تناقض حججهم، وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة والرافضة والقدرية، من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة، فحسناتهم نوعان: إما موافقة أهل السنة والحديث، وإما الرد على من خالف السنة والحديث بيان تناقض حججهم) (213).
وفي مقام مناقشة ابن تيمية رحمه الله للكرامية: أثبت أنهم من أهل الكلام ووصفهم بأنهم من (متكلمة أهل الإثبات) (214).
وذكر أنهم مجسمة أي: ممن يثبت الجسم لله عزّ وجل مطلقاً، بدون استفصال (215).
وفي معرض ذكر أقوال الفرق في كلام الله عزّ وجل: بيّن رحمه الله أن قول الكرامية لا يوافق قول أهل السنة بإطلاق، وهو: أن الله - عندهم - تكلم بعد أن لم يكن متكلماً، فقال رحمه الله:
(قول الهشامية والكرامية ومن وافقهم، أن كلام الله حادث قائم بذات الله بعد أن لم يكن متكلماً بكلام، بل ما زال عندهم قادراً على الكلام، وإلا فوجود الكلام عندهم في الأزل ممتنع، كوجود الأفعال عندهم...) (216).
وبين ابن تيمية رحمه الله أن هذا القول باطل، أبطله السلف بأن ما يقوم به من نوع الكلام والإرادة والفعل: إما أن يكون صفة كمال أو صفة نقص، فإن كان كمالاً فلم يزل ناقصاً حتى تجدد له ذلك الكمال، وإن كان نقصاً فقد نقص بعد الكمال.
ونبه إلى أن قول الكرامية في كلام الله عزّ وجل لم يقل به أحد من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله (217) .
وذكر رحمه الله أنهم يقولون بإثبات الجهة بدون استفصال(218) .
وأنهم أثبتوا وجود الصانع بطريق الحدوث والإمكان(219) .(106/120)
وفي مسألة الإمامة، ذكر أنهم: يرون أن علياً (ت - 40هـ) ومعاوية(220) رضي الله عنهما كلاهما مصيب، وعليه: فيجوز عقد البيعة لإمامين في وقت واحد عند الحاجة(221) .
وناقشهم في مسألة (الإيمان) بعد أن ذكر أن: (قولهم في الإيمان قول منكر، لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمناً، لكنه يخلد في النار، فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم)(222) .
وأنصفهم رحمه الله وهو يذكر قولهم، حين زعم بعض الناس أنهم يقولون بأن من تكلم بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وبين أن ذلك غلط عليهم، بل يقولون:
إنه مؤمن كامل الإيمان، وأنه من أهل النار، فيلزمهم أن يكون المؤمن الكامل الإيمان معذباً في النار، بل يكون مخلداً فيها(223) .
فناقشهم بما تواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، بأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان(224) .
وبدأ رحمه الله يذكر لوازم قولهم الفاسد بأنهم إذا قالوا: لا يخلد وهو منافق، لزمهم أن يكون المنافقون يخرجون من النار، وقد قال الله فيهم: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} [النساء: 145] .
وقد نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم، وقال له:{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}[التوبة:80](225)
وقال: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] ، وقد أخبر أنهم كفروا بالله ورسوله.(106/121)
وألزم رحمه الله الكرامية، إن قالوا بأن المنافقين يتكلمون بألسنتهم سراً فكفروا بذلك، وإنما يكون مؤمناً إذا تكلم بلسانه، ولم يتكلم بما ينقضه، فإن ذلك ردة عن الإيمان؛ بأنهم لو أضمروا النفاق ولم يتكلموا به كانوا منافقين، كما قال الله عزّ وجل:
{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ } [التوبة: 64] .
وأيضاً فقد أخبر الله عنهم أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وأنهم كاذبون فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] ، وقال سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] .
وقال سبحانه: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167] .
وأخيراً: بين ابن تيمية رحمه الله سبب ذم السلف للكرامية، وهو مخالفتهم السنة والحديث، وانحرافهم عن المنهج القويم، والاعتقاد الحق (226).(106/122)
ولعل سبب نسبة شيخ الإسلام إلى الكرامية ممن نسب إليه ذلك، تعود إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين أن مذهب الكرامية أقرب إلى الحق من مذهب المعطلة؛ لأنهم وافقوا أهل الإثبات وأهل السنة في إثبات موجود قائم بنفسه، وإن كانوا أخطؤوا في تسميته جسماً، وهذا سوء فهم منهم لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإن شيخ الإسلام لم يصوب مذهب الكرامية بل بين أنهم أقرب إلى الحق من المعطلة، حيث إنهم أثبتوا موجوداً قائماً بنفسه، والمعطلة لم يثبتوا شيئاً، فإن كان مع سوء الفهم سوء قصد فقد أوغلوا في الضلال والانحراف.
موقف ابن تيمية رحمه الله من نسبة التجسيم إلى الحنابلة:
إن نسبة التجسيم إلى الحنابلة أمر اختص به نفاة الصفات دون غيرهم، فكل من نفى شيئاً من الصفات أطلق على من أثبته لقب التجسيم.
ولما كان الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله إماماً لأهل السنة، ورافع راية إثبات الصفات على المنهج الوسط، منهج أهل السنة والجماعة: إثبات بلا تشبيه ولا تعطيل.
وتبعه أصحابه وتلامذته، وكل من ارتضى منهجه العقدي من أصحاب المذاهب الفقهية الأخرى.
لما كان الأمر كذلك: أطلق نفاة الصفات على من أثبت الصفات هذا المصطلح (مجسمة الحنابلة)، زوراً وبهتاناً.
وقد أجاب الإمام ابن قدامة المقدسي (ت - 620هـ) رحمه الله قبل ابن تيمية رحمه الله على هذه الدعوى، وناقشها، مبيناً أن مذهب الحنابلة هو: الإثبات مع التنزيه، وليس هو التشبيه والتجسيم.(106/123)
وأما إن كان المراد بالتجسيم هو الإثبات مع التنزيه، فهذا شرف للحنابلة أن ينسب إليهم هذا الأمر، لكن تسمية ذلك تجسيماً خطأ، فقال رحمه الله: (سمعت بعض أصحابنا يقول: سمعت قوماً يقولون: الحنابلة يقولون: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، قال: فقلت لهم: يا قوم الله الله، إنكم لتنسبون إلى الحنابلة شيئاً ما يصلحون له، ولا يبلغون إليه، هذا قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [الإسراء: 88] .
فجعلتموه قولاً للحنابلة، ورفعتم قدرهم حتى جعلتموهم أهلاً لذلك)(227) .
وبين ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله التجسيم الحقيقي وهو: حمل صفات الله سبحانه وتعالى على صفات المخلوقين، وأن الحنابلة لا يقرون بذلك امتثالاً لقول الحق - تبارك وتعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11](228) .
وبين ابن تيمية رحمه الله سبب إطلاق هذا المصطلح على المثبتة، وخصوصاً على الحنابلة وهو: أنه لما راجت سوق نفاة الصفات في عهد الإمام أحمد بن حنبل (ت - 241هـ) رحمه الله، سموا من أثبت الصفات مجسماً، وقالوا: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى ونحو ذلك. حينها قام الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله بالإنكار عليهم، وإظهار السنة والصفات، وظهر ذلك في جميع أهل السنة والحديث من جميع الطوائف، وصاروا متفقين على تعظيم الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله وجعله إماماً للسنة (229).
(ولهذا ما زال كثير من أئمة الطوائف، الفقهاء وأهل الحديث، والصوفية، وإن كانوا في فروع الشريعة متبعين بعض أئمة المسلمين - رضي لله عنهم أجمعين - فإنهم يقولون: نحن في الأصول أو في السنة على مذهب الإمام أحمد بن حنبل)(230) .(106/124)
وبين أن ارتباطهم به ليس لاختصاصه عن غيره بقول لم يقله الأئمة، ولا طعناً في غيره من الأئمة بمخالفة السنة؛ بل لأنه أظهر من السنة التي اتفقت عليها الأئمة قبله أكثر مما أظهروه، فظهر تأثير ذلك لوقوعه وقت الحاجة إليه، وظهور المخالفين للسنة، وقلة أنصار الحق وأعوانه(231)
ولهذا أطلق النفاة على من أثبت الصفات حنبلياً مجسماً .
وبين أن الحنابلة أكثر اتباعاً لألفاظ القرآن والحديث من غيرهم، (لكثرة الاعتناء بالسنة والحديث، والائتمام بمن كان بالسنة أعلم وأبعد عن الأقوال المتطرفة في النفي والإثبات) (232).
وبين رحمه الله أن تنازع الحنابلة كان في الأمور الصغيرة (الدِّق)، أما الأصول الكبار فمتفقون عليها(233) .
وأنه ليس فيهم من أطلق لفظ الجسم (234) .
وأن المشبهة والمجسمة في غير أصحاب أحمد (ت - 241هـ) أكثر منهم فيهم(235) .
وذكر أنه لا يضر الإمام أحمد (ت - 241هـ) أن ينتسب إليه أناس هو منهم بريء، كما قد انتسب إلى مالك (ت - 179هـ) أناس هو بريء منهم، وانتسب إلى الشافعي (ت - 204هـ) أناس هو بريء منهم، وانتسب إلى أبي حنيفة (ت - 150هـ) أناس هو بريء منهم، وقد انتسب إلى علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه أناس هو بريء منهم، ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم قد انتسب إليه من القرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف الملحدة والمنافقين من هو بريء منهم (236) .
وأنه لا يوجد نوع غلو في بعض الحنابلة، إلا ويوجد في غيرهم من الطوائف ما هو أكثر منه(237) .
بهذا تبين لنا أن إطلاق هذا المصطلح (مجسمة الحنابلة) من قبل النفاة على مثبتة الصفات، إنما هو في الحقيقة: تزكية لهم بسلوكهم المسلك الصحيح، والاعتقاد الحق في أسماء الله وصفاته ألا وهو الإثبات مع نفي المماثلة والتعطيل.
وتبين لنا - أيضاً - أن رمي ابن تيمية رحمه الله بأنه تأثر بمجسمة الحنابلة، إنما هو تزكية له باتباع منهج السلف المتقدمين في أسماء الله وصفاته.(106/125)
وأما الأسماء التي حددها المناوئون لابن تيمية، وجعلوها هي التي أثرت على ابن تيمية رحمه الله في اعتقاده في الأسماء والصفات فلم تنطلق من دراسة واسعة لكتب ابن تيمية رحمه الله ولو درسوا كتبه لما اختاروا هذه الأسماء.
أما الإمام البربهاري (ت - 329هـ) رحمه الله فلم نجد ابن تيمية رحمه الله يكثر ذكره في كتبه وينقل منه حتى ندرس مظاهر ذلك التأثر التي يزعمها المناوئون.
وأما القاضي أبو يعلى (ت - 458هـ) ، فقد كان موقف ابن تيمية رحمه الله منه معتدلاً منصفاً، فتارة يرد عنه شبهة، وتارة يناقشه في خطأ وهكذا - كما سيتبين بعضه -.
ولمعرفة عقيدة الإمام البربهاري (ت - 329هـ) رحمه الله ننظر في أقواله: هل هو من المشبهة؟ أم من المعطلة؟ أم من أهل السنة والجماعة؟
قال رحمه الله في بيان عقيدته في التمسك بالأثر، وترك التشبيه:
(اعلم - رحمك الله - أنه ليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تتبع فيها الأهواء، بل هو التصديق بآثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا كيف ولا شرح ولا يقال: لم؟ ولا كيف؟)(238) .
وقال - أيضاً -: (لا يتكلم في الرب إلا بما وصف به نفسه عزّ وجل في القرآن، وما بيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه، فهو جل ثناؤه واحد: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، ربنا أول بلا متى، وآخر بلا منتهى، يعلم السر وأخفى، وهو على عرشه استوى، وعلمه بكل مكان، ولا يخلو من علمه مكان)(239) .
وقال رحمه الله:
(ولا يقول في صفات الرب تعالى لِمَ؟ إلا شاك في الله تبارك وتعالى)(240) .
وذكر رحمه الله أصول الإيمان، وناقش المبتدعة وبين أصول الابتداع وأسبابه، وحذر منه، وناقش الجهمية، وبيّن موقف الإمام أحمد (ت - 241هـ)رحمه الله وغيره من العلماء منهم(241) .
ومن خلال دراسة اعتقاده رحمه الله تبين لنا أنه من أئمة السلف في الاعتقاد.
وأما القاضي أبو يعلى (ت - 458هـ) رحمه الله:(106/126)
فقد نسب إليه القاضي أبو بكر بن العربي(242) رحمه الله أنه يقول بالتشبيه فقال:
(أخبرني من أثق به من مشيختي أن أبا يعلى محمد بن الحسين الفراء - رئيس الحنابلة ببغداد - كان يقول إذا ذكر الله تعالى، وما ورد من هذه الظواهر في صفاته يقول:
ألزموني ما شئتم فإني ألتزمه، إلا اللحية والعورة...)(243) .
لكن ابن تيمية رحمه الله يشكك في صحة هذه القصة ويكذبها؛ لأنها رويت عن طريق مجهول لم يسم (244).
لكنه مع ذلك لم يبرئ ساحة القاضي أبي يعلى (ت - 458هـ) تماماً، بل بين أن في كلامه ما هو مردود نقلاً وتوجيهاً، وفي كلامه شيء من التناقض(245).
وقد ألصق ابن الأثير (ت - 630هـ) رحمه الله تهمة التجسيم بأبي يعلى (ت - 458هـ) رحمه الله بما جاء في كتاب القاضي (إبطال التأويلات) فقال عنه: (أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض - تعالى الله عن ذلك -)(246).
لكن ابن تيمية رحمه الله يعطي تقويماً لهذا الكتاب أدق، وأنصف وأعدل، حين بيّن أن الكتاب رد على ابن فورك(247) شيخ القشيري(248) ، وأنه قد حصلت فتنة بسبب الكتاب فقال: (أكثر الحق فيها كان مع الفرائية(249) مع نوع من الباطل، وكان مع القشيرية فيها نوع من الحق مع كثير من الباطل)(250).
وذكر ابن تيمية رحمه الله عنه أنه ممن يقول بنفي الجسم (251) .
ويجعله ابن تيمية رحمه الله من المفوضة(252) الذين لا يفسرون معاني نصوص الصفات، ووصفه بأنه من الذين (سمعوا الأحاديث والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض)(253) .(106/127)
فهل يخرج مثل هذا الحكم من رجل قلده في كل ما قال من خطأ أو صواب -؟، وكيف يقال إنه مقلد له، وهو ينتقده ويرد عليه في مسائل كثيرة من الصفات وغيرها.
وأما موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أبي الفرج ابن الجوزي (ت - 597هـ) وخاصة في كتابه (دفع شبه التشبيه) أو ما يرتضي شيخ الإسلام رحمه الله أن يسميه (كف التشبيه)(254) .
فيبين شيخ الإسلام رحمه الله أنه يميل إلى مذهب المعتزلة كثيراً (255) .
فهو بين النفي والإثبات وتناقضه ظاهر، فلم يثبت على أحدهما، وله من الكلام في الإثبات نظماً ونثراً ما أثبت به كثيراً من الصفات التي أنكرها في مصنفاته الأخرى، خاصة في كتاب (دفع شبه التشبيه) (256) .
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله عن هذا الكتاب أنه لم يكن المقصود به الرد على جنس الحنابلة، بل كان الرد على بعضهم كالقاضي أبي يعلى (ت - 458هـ) رحمه الله وأبي عبد الله بن حامد(257) ، وابن الزاغوني(258) .
وقد حدد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مواضع الخلل عند ابن الجوزي (ت - 597هـ) حين نقل المعترض كلاماً له عن الحنابلة فيه التجسيم المحض، وإثبات صفات لله لم ترد في الكتاب ولا في السنة، وذكر أنها ثلاثة أنواع:
الأول: بيان ما فيه من التعصب بالجهل والظلم قبل الكلام في المسألة العلمية.
الثاني: بيان أنه رد بلا حجة، ولا دليل أصلاً.
الثالث: بيان ما فيه من ضعف النقل والعقل (259) .
وبعد: فقد تبين لنا كيف يكيل أعداء ابن تيمية رحمه الله التهم عليه جزافاً، وبدون وازع أو خوف من الله عزّ وجل أن يسألهم عما قالوه:
فقد جمعوا له بين المتناقضات في تأثره بعقيدة التجسيم.
فقالوا: تأثر باليهود، وقالوا: تأثر بالفلاسفة، وقالوا: تأثر بالكرامية، وقالوا: تأثر بمجسمة الحنابلة.(106/128)
ومن الواضح: أن المسلمين لا يرتضون عقيدة اليهود، وأن الفلاسفة ترد على الكرامية، وأن الكرامية ترد على الفلاسفة، وأن أبا يعلى (ت - 458هـ) يرد على المشبهة كما في كتابيه (الرد على الكرامية، والرد على المجسمة)، فكيف يُجمع هؤلاء في خندق واحد، وقد رد بعضهم على بعض، ولم يرتض أحدهم عقيدة الآخر.
ومن الواضح - أيضاً - أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يتأثر بكل هؤلاء، بل كان موقفه موقف الرد والمناقشة على ما عندهم من أخطاء وعيوب، مع الاعتراف بحسنات المسلمين منهم، والإشادة بها كما تبين والله أعلم.
المبحث الرابع
دعوى قوله بالجهة والتحيز ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى قوله بالجهة والتحيز
يرى المناوئون لابن تيمية -رحمه الله رحمة واسعة - أنه يقول: بأن الله في جهة(260) ، وأنه متحيز (261).
ومنشأ ذلك هو: قياس الخالق بالمخلوق(262) ؛ لأنهم يقولون بنفي الجهة مطلقاً عن الله عزّ وجل(263) .
ثم اختلفوا بعد ذلك في حكم القائل بالجهة بالنسبة إلى الله عزّ وجل هل يكفر أم لا؟ على قولين:
فمن قائل: إنه كافر ناقلاً اتفاق الأئمة الأربعة على ذلك(264)! .
ومن قائل: إنه لا يكفر، ولا يصح الحكم بكفره، بل يصل إلى درجة الابتداع(265) .
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
المسألة الأولى: الموقف من الألفاظ المجملة:
لقد تواترت عبارات السلف، وتطابقت مقالاتهم في ذم علم الكلام والتحذير منه. ومن أتباعه.
فهذا أبو حنيفة النعمان (ت - 150هـ) رحمه الله سأله سائل:
ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال:
(مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة)(266) .
وقال الإمام مالك (ت - 179هـ) رحمه الله: (كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نحن عليه؟! إذاً لا نزال في طلب الدين)(267) .(106/129)
وقال الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله: (لأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك به، خير من النظر في الكلام)(268) .
وقال - أيضاً -: (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويجلسوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام)(269) .
وقال أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله: (لا يفلح صاحب كلام أبداً، ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل(270) ) (271).
وقال - أيضاً -: (علماء الكلام زنادقة)(272) .
وأما موقف ابن تيمية - رحمه الله تعالى - من الألفاظ المجملة المبتدعة التي أطلقها أهل الكلام، وجعلوها من الاعتقاد، وبيان موقف السلف منها في مجموع كلام ابن تيمية رحمه الله فيمكن إجماله في الملحوظات التالية:
1 - كان السلف يتحرون في إطلاق الألفاظ على الله عزّ وجل، فلا يطلقون إلا الألفاظ الشرعية، ويحرصون على اجتماع الحُسن بين اللفظ والمعنى، ولا يلجؤون إلى المعنى الحسن، ليعبروا عنه بأفضل الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة، إلا إذا لم يهتدوا إلى لفظ مناسب موجود في الكتاب أو في السنة (273).
2 - حين يرد السلف على النفاة: يردون على ألفاظهم القريبة من الإثبات، ويبطلونها، فيكون ذلك رد من باب أولى على ألفاظهم الموغلة في النفي، البعيدة عن الحق، قال رحمه الله: (إن السلف والأئمة كانوا يردون من أقوال النفاة ما هو أقرب إلى الإثبات، فيكون ردهم لما هو أقرب إلى النفي بطريق الأولى)(274) .(106/130)
3 - نهى السلف عن إطلاق الألفاظ الكلامية، فذكر رحمه الله أقسام مثبتة الصفات تجاه النفاة، وذكر عن أهل السنة والجماعة قوله: (وطائفة نازعتهم نزاعاً مطلقاً في واحدة من المقدمتين، ولم تطلق في النفي والإثبات ألفاظاً مجملة مبتدعة لا أصل لها في الشرع، ولا هي صحيحة في العقل، بل اعتصمت بالكتاب والسنة، وأعطت العقل حقه، فكانت موافقة لصريح المعقول، وصحيح المنقول) (275).
4 - سبب نهي السلف عن إطلاق الألفاظ الكلامية هو:
أ - اشتمالها على معان باطلة ومعان صحيحة، ولذلك فهي توقع في الاشتباه والاختلاف والفتنة، خلاف الألفاظ المأثورة التي تحصل بها الإلفة، يقول ابن تيمية رحمه الله:
(يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة: النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات.
وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا قصور، أو تقصير في بيان الحق، ولكن؛ لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل، ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل...)(276) .
ب - لأنها تتضمن تكذيب كثير مما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وذلك يعرفه من عرف مراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومراد أصحاب تلك الأقوال المبتدعة (277).
جـ - لأنها ليس لها ضابط، بل كل قوم يريدون بها معنى غير المعنى الذي أراده أولئك فجعلوها دقيقة غامضة، بخلاف ألفاظ الرسول صلّى الله عليه وسلّم فإن مراده بها يُعلم كما يعلم مراده بسائر ألفاظه(278) .
5 - أول من عرف عنه إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة نفياً أو إثباتاً: أهل الكلام المحدث بقسميهم:
النفاة كالجهمية والمعتزلة. والمثبتة الغلاة كالمشبهة من الرافضة وغير الرافضة (279).(106/131)
6 - تضمنت الألفاظ المجملة أنواعاً مختلفة من الإجمال، وليس نوعاً واحداً، فتارة يكون الإجمال بطريق الاشتراك(280)، لاختلاف الاصطلاحات، وتارة يكون الإجمال بطريق التواطؤ(281) ، مع اختلاف الأنواع، فإذا فسِّر المراد، وفصِّل المتشابه: تبين الحق من الباطل، والمراد من غير المراد(282).
7 - كثير ممن تكلم بهذه الألفاظ المجملة: كان يظن أنه ينصر الإسلام بهذه الطريقة، وأنه بذلك يثبت معرفة الله وتصديق رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فوقعت عندهم أمور كثيرة من الخطأ والضلال.
والبدعة - في هذا - لا تكون حقاً محضاً، ولا باطلاً محضاً، إذ لو كانت حقاً محضاً موافقاً للسنة، لما كانت باطلاً.
ولو كانت باطلاً محضاً، لما خفيت على الناس، ولكنها تشتمل على حق وباطل، وقد لبس صاحبها الحق بالباطل: إما مخطئاً غالطاً، وإما متعمداً لنفاق فيه وإلحاد(283) .
8 - كثير من الألفاظ البدعية المجملة تختلف معانيها في اصطلاحات المتكلمين عنها في لغة العرب، ولذلك تحدث إشكالاً، وتورث شكاً، ويضرب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مثالاً لذلك بالعقل، فهو عند المتكلمين: جوهر قائم بنفسه، وأما العقل في لغة العرب فهو عَرَض: عِلم، وعمل بالعلم، وغريزة تقتضي ذلك(284) .
ولذلك يحرص ابن تيمية رحمه الله على معرفة معاني ألفاظ المخالفين ومرادهم من إطلاقها (285).
9 - أن هذه الطرق التي يسلكها المتكلمون أحسن أحوالها أن تكون عوجاء طويلة، وقد تهلك، وقد توصل؛ إذ لو كانت مستقيمة موصّلة لم يعدل عنها السلف، فكيف إذا تيقن أنها مهلكة!
ويضرب ابن تيمية رحمه الله مثالاً لذلك بمن ترك سلوك الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مكة، وسلك طريقاً بعيدة لغير مصلحة راجحة، فهذا يكون تاركاً لما يؤمر به، فاعلاً لما لا فائدة فيه، أو ما ينهى عنه، إذا كانت تلك الطريق موصلة إلى المقصود، فأما مع الاسترابة في كونها موصلة أو مهلكة فإنه لا يجوز سلوكها (286).(106/132)
10 - لا يُكفَّر مطلق هذه الألفاظ أو نافيها، بل يُبَدَّع، ويُذَم غاية الذم (287).
11 - تختلف مقامات الخطاب في الاقتصار على الألفاظ الشرعية، أو الحاجة إلى مثل هذه الألفاظ المجملة ومنها:
أولاً: إن كان الإنسان في مقام دفع من يُلزمه ويأمره ببدعة، ويدعوه إليها: أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول: لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، بل هذا هو الواجب مطلقاً. كما قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153] .
وقال سبحانه: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] .
ثانياً: وإن كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النظر - أيضاً -، فعليه أن يعتصم - أيضاً - بالكتاب والسنة، ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك، ويبين الحق الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة.
فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة، فإن الله سبحانه وتعالى ضرب الأمثال في كتابه، وبيّن بالبراهين العقلية توحيده وصدق رسله وأمر المعاد وغير ذلك، وأجاب عن معارضة المشركين كما قال تعالى: { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33] .
ثالثاً: وإن كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل، وادعى أن العقل يعارض النصوص، فإنه قد يحتاج إلى حل شبهته وبيان بطلانها، فإذا أخذ النافي يذكر ألفاظاً مجملة، فهنا يستفصل السائل ويقول له:
ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟
فإن أراد بها حقاً وباطلاً قبل الحق ورد الباطل.(106/133)
وإذا قدر أن المعارض أصر على تسمية المعاني الصحيحة التي ينفيها بألفاظه الاصطلاحية المحدثة، قيل له: هب أنه سمي بهذا الاسم، فنفيك له: إما أن يكون بالشرع، وإما أن يكون بالعقل.
أما الشرع فليس فيه ذكر هذه الأسماء في حق الله، لا بنفي ولا إثبات، ولم ينطق بذلك أحد من سلف الأمة لا بنفي ولا بإثبات.
وإن أردت أن نفي ذلك معلوم بالعقل، فيقال: الأمور العقلية لا عبرة فيها بالألفاظ، فالمعنى إذا كان معلوماً إثباته بالعقل لم يجز نفيه لتعبير المعبِّر عنه بأي عبارة عبر بها، وكذلك الحال في النفي العقلي لا يجوز إثباته بأي عبارة، والمنازعات اللفظية غير معتبرة في المعاني العقلية (288).
ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله الموقف من هذا الصنف، وأن المناظر يحتاج أن يعبر بألفاظ لا يطلقها إلا في مثل هذا الموضع بقوله:
(وقد يقع في محاورته إطلاق هذه الألفاظ؛ لأجل اصطلاح النافي ولغته، وإن كان المطلق لا يستجيز إطلاقها في غير هذا المقام)(289) .
فتبين أن المصلحة الشرعية الراجحة هي الضابط والمعيار بحسب اختلاف حال المخاطبين(290).
12 - ينبني على الفقرة السابقة مسألة وهي: حكم معاملة أهل الاصطلاح باصطلاحهم.
ويجيب عنها شيخ الإسلام رحمه الله بالجواز إذا توفر فيها شرطان:
إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة كمخاطبة العجم، ومن كرهه من الأئمة، فإنما ذلك: إذا لم يحتج إليه والله أعلم(291) .(106/134)
13 - المنازعات اللفظية اللغوية، والاصطلاحية، والعقلية، والشرعية: توجب على المسلمين الاعتصام بالكتاب والسنة، كما أمرهم الله بذلك في قوله: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ، وقوله: {المص *كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 1 - 3] ، وقوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153] ، وقوله: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة: 213] ، وقوله: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [طه: 123 - 126] .(106/135)
14 - الاستفصال في بيان معاني الألفاظ المجملة هو الطريق الشرعي للتعامل معها إزاء المخالف، فيُبين له ما وافق الحق وما خالفه، وهذا من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه، وهو مثل الحكم بين سائر الأمم بالكتاب فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم.
ويشترط ابن تيمية رحمه الله فيمن يستفصل في بيان الألفاظ المجملة شرطين وهما:
أن يكون عارفاً بمعاني الكتاب والسنة، وأن يكون عارفاً بمعاني ألفاظ المخالفين ومرادهم منها، لتقابل المعاني الشرعية بمعاني المخالفين ليظهر الموافق والمخالف(292) .
ويوجب ابن تيمية رحمه الله على من يريد كشف ضلال من يطلق الألفاظ المجملة أن لا يوافقهم على لفظ مجمل حتى يتبين له معناه، ويعرف مقصوده، ويكون الكلام في المعاني العقلية المبينة، لا في معان مشتبهة بألفاظ مجملة.
وينبه رحمه الله إلى طريقتهم إذا ذكروا لأحد كلامهم المجمل فاعترض عليهم بما تنفر عنه فطرته، قالوا له: أنت لا تفهم هذا، وهذا لا يصلح لك، فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية ما يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده، وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل.
والاستفصال في الألفاظ المجملة نافع في الشرع والعقل:
أما الشرع: فإن علينا أن نؤمن بما قاله الله ورسوله، فكل ما ثبت أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قاله فعلينا أن نصدق به، وإن لم نفهم معناه؛ لأنا قد علمنا أنه الصادق المصدوق الذي لا يقول على الله إلا الحق.
وما تنازع فيه الأمة من الألفاظ المجملة فليس على أحد أن يقبل مسمى اسم من هذه الأسماء، لا في النفي ولا في الإثبات، حتى يستفصل ويبين له معناه، ويكون المعنى صواباً: إذا كان موافقاً لقول المعصوم.(106/136)
أما العقل: فمن تكلم بلفظ يحتمل معاني، لم يقبل قوله ولم يرد حتى نستفسره ونستفصله، ليتبين المعنى المراد، ويبقى الكلام في المعاني العقلية، لا في المنازعات اللفظية (293).
15 - الاستفصال في الألفاظ المجملة يكون كالتالي:
إن أراد المثبت لهذه الألفاظ بها معنى صحيحاً، فقد أصاب في المعنى، وإن كان في اللفظ خطأ.
وإن أراد النافي لهذه الألفاظ معنى صحيحاً، فقد أصاب في المعنى، وإن كان في اللفظ خطأ.
وإن أراد المثبت لهذه الألفاظ معنى باطلاً: نفي ذلك المعنى عن الله عزّ وجل.
وأما من أثبت بلفظه حقاً وباطلاً، أو نفى بلفظه حقاً وباطلاً: فكلاهما مصيب فيما عناه من الحق، مخطئ فيما عناه من الباطل، قد لبس الحق بالباطل، وجمع في كلامه حقاً وباطلاً.
وأما الموقف من اللفظ مجرداً عن المعنى: فإن الأصل هو التعبير بالألفاظ الشرعية الواردة كما تبين من قبل.
ولا ينبغي العدول إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة، إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد بها.
ويضرب ابن تيمية رحمه الله مثالاً على الحاجة وهو: أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها كمخاطبة العجمي بلغته.
ويسهل الأمر عند ابن تيمية رحمه الله إذا عُبر بالألفاظ المحدثة التي تحمل معان صحيحة حين المنازعات العقلية والله أعلم(294) .
المسألة الثانية: مناقشة دعوى قول شيخ الإسلام بالحيز والجهة:
الحيز لغة: من (حَوَز)، وحيّز الدار ما أنظم إليها من المرافق والمنافع، وكل ناحية على حدة حيّز.
ومن معانيه: الميل من جهة إلى جهة أخرى، كما في قول الله عزّ وجل: {إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ } [الأنفال: 16] ، قال ابن جرير الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله: (هو الصائر إلى حيز المؤمنين في القتال، لينصروه أو ينصرهم)(295) .(106/137)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما الحيز فإنه فيعل من حازه يحوزه إذا جمعه وضمه، وتحيز وتفيعل، كما أن يحوز يفعل، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] ، فالمقاتل الذي يترك مكاناً وينتقل إلى آخر لطائفة تفيء إلى العدو، فاجتمع إليها وانضم إليها فقد تحيز إليها)(296) .
وأما عند المتكلمين: فالتحيز أعم منه في اللغة العربية، فهم (يجعلون كل جسم متحيزاً، والجسم عندهم: ما يشار إليه، فتكون السموات والأرض وما بينهما متحيزاً على اصطلاحهم، وإن لم يسم ذلك متحيزاً في اللغة)(297) .
والجهة لغة: بالكسر والضم: الناحية كالوجه، والوجهة بالكسر.
ومعناهما: الموضع الذي تتوجه إليه وتقصده.
وتطلق الجهة على الجانب، والناحية(298) .
وبين شيخ الإسلام رحمه الله أن الجهة: تارة تضاف إلى المتوجه إليها كما يقال في الإنسان: له ست جهات؛ لأنه يمكنه التوجه إلى النواحي الست المختصة به التي يقال: إنها جهاته.
وتارة ما يتوجه منها المضاف، كما يقول القائل إذا استقبل الكعبة: هذه جهة الكعبة، وكما يقول وهو بمكة: هذه جهة الشام، وهذه جهة اليمن، أو ناحية الشام وناحية اليمن.
والمراد: هذه الجهة والناحية التي يتوجه منها أهل الشام وأهل اليمن(299) .
وقد اختلف الناس في إثبات الحيز والجهة من عدمه إلى أربعة أصناف:
الصنف الأول: يرون أن هذه الألفاظ تحمل معان فاسدة، ومعان صحيحة، ولا يلزمون أنفسهم بالجواب المفصل، بل لا يتكلمون بذلك لا نفياً ولا إثباتاً.
وهذا قول كثير من أهل الحديث والفقه والكلام.
الصنف الثاني: يرون المباينة بين الخالق والمخلوق، ويثبتون الفوقية لله عزّ وجل، لكنهم ينفون الحيز والجهة، ويقولون: ليس بمتحيز ولا في جهة.
وقال بذلك بعض الكلابية والأشعرية والكرامية، ومن وافقهم من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة، وأهل الحديث والصوفية.(106/138)
الصنف الثالث: يرون أن الله متحيز أو في جهة، أو أنه جسم، ويقولون: لا دلالة على نفي شيء من ذلك أصلاً، وأدلة النفاة لذلك أدلة فاسدة وهو قول كثير من أهل الإثبات من المتكلمين.
الصنف الرابع: يرون أن ألفاظ التحيز والجهة ألفاظ مجملة، ليس لها أصل في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها في حق الله تعالى، لا نفياً ولا إثباتاً، وهذا القول نصره شيخ الإسلام ابن تيمية(300) .
وبين رحمه الله أنه ليس في كلامه إثبات لفظ الجهة أو الحيز منسوباً إلى الله عزّ وجل؛ لأن إطلاق هذا اللفظ نفياً بدعة(301) .
وذكر رحمه الله أن هذه الألفاظ لا تدل حين الإطلاق إلا على القدر المشترك بين الخالق والمخلوق، فهي لا تدل على ما يمدح به الرب، ويتميز به عن غيره(302) .
ويستفصل شيخ الإسلام في المراد بالجهة والحيز:
فلفظ الجهة أو الحيز يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى، ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم؛ فإن أريد الأمر الوجودي كالأمكنة الوجودية مثل داخل العالم؛ فإن الشمس والقمر والأفلاك والأرض والحجر والشجر، ونحو هذه الأشياء كلها في أحياز وجودية، ولها جهات وجودية، وهو ما فوقها وما تحتها ونحو ذلك: إن أريد هذا فما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، وعليه: لا يكون الله في جهة موجودة، فسطح العالم مرئي وهو ليس في عالم آخر.
وإن أريد بالحيز والجهة الأمر العدمي وهو ما فوق العالم، فإن الله في تلك الجهة العدمية والحيز العدمي، فليس فوق العالم موجود غيره، فلا يكون سبحانه في شيء من مخلوقاته، فإذا كانت الجهة أو الحيز أمراً عدمياً فهو لا شيء، وما كان في جهة عدمية أو حيز عدمي، فليس هو في شيء، فإذا كان الخالق مبايناً للمخلوقات، عالياً عليها، وما ثم موجود إلا الخالق أو المخلوق، لم يكن معه غيره من الموجودات، فضلاً عن أن يكون هو سبحانه في شيء موجود يحصره أو يحيط به(303) .(106/139)
قال رحمه الله: (يقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق، فالله ليس داخلاً في المخلوقات. أم تريد بالجهة ما وراء العالم، فلا ريب أن الله فوق العالم بائن من المخلوقات.
وكذلك يقال لمن قال: إن الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات، فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل)(304) .
وفي استفصاله في لفظ المتحيز: إن أراد مطلق اللفظ: أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض، فقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67] .
وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات: أي مباين لها منفصل عنها، ليس حالاً فيها فهو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه(305) .
وأما موقف ابن تيمية رحمه الله من قياس الخالق بالمخلوق، فواضح أشد الوضوح إذ يرى أنه في غاية الفساد؛ لأن تشابه الشيئين من بعض الوجوه لا يقتضي تماثلهما في جميع الأشياء(306) .
وبين رحمه الله أن الله له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه، فإن الله سبحانه وتعالى ليس مثلاً لغيره، ولا مساوياً له أصلاً.
وهذه الأقيسة هي من الشرك بالله، وجعل الأنداد له، وجعل غيره له كفواً وسمياً.
ولا يثبت لله عزّ وجل إلا قياس الأولى وهو: أن كل ما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه؛ لأنه أكمل فيه؛ ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال، فمعطي الكمال لغيره أولى أن يكون هو موصوفاً به(307) .(106/140)
وقد رد ابن تيمية - رحمه الله تعالى - على نفاة الصفات، الذين ينفون العلو والاستواء (308) ويطلقون نفي الحيز والجهة، حين ألزموه بالقول بنفي الحيز والجهة بثلاثة عشر وجهاً هي كما يلي:
1 - أن هذه الألفاظ ومعانيها التي يريدونها بها ليست في كتب الله المنزلة، ولا هي مأثورة عن الأنبياء والمرسلين، ولا هي محفوظة عن سلف الأمة وأئمتها، فكيف تجعل من الإيمان والدين ويلزم باعتقادها، وقد قال الله عزّ وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3]
2 - أن الله عزّ وجل نزه نفسه في كتابه عن النقائص، تارة بنفيها، وتارة بإثبات أضدادها كقوله تعالى: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الإخلاص: 3 - 4] ، وقال سبحانه: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] ، إلى غيرها من الآيات، وليس فيها مع ذلك نفي الجهة والحيز ولا وصفه بها.
فكيف يصح أن يكون هذا من الدين والإيمان، ثم لا يذكره الله عزّ وجل ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم قط.
وكيف يجوز أن يدعى الناس ويؤمرون باعتقاد في أصول الدين ليس له أصل عمن جاء بالدين.
3 - إن أراد طالب نفي الجهة بطلبه أن ليس في السموات رب ولا فوق العرش إله. وأن محمداً صلّى الله عليه وسلّم لم يعرج به إلى ربه، وما فوق العالم إلا العدم المحض: فهذا باطل، مخالف لإجماع سلف الأمة وأئمتها، وهذا هو الذي يعنيه جمهور الجهمية ويصرحون به في كتبهم وكلامهم.
وإن أراد أن الله لا يحيط به مخلوقاته، ولا يكون في جوف الموجودات.
4 - إن الأمر بالاعتقاد لقول من الأقوال: إما أن يكون تقليداً للآمر، أو لأجل الحجة والدليل.
فإن كانوا أمروا بأن يعتقدوا هذا تقليداً لهم، ولمن قال ذلك فهذا باطل بإجماع المسلمين منهم ومن غيرهم.(106/141)
وهم يسلمون أنه لا يجب التقليد في مثل ذلك لغير الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لا سيما وعندهم هذا القول لم يعلم بأدلة الكتاب والسنة والإجماع، وإنما علم بالأدلة العقلية، والعقليات لا يجب فيها التقليد بالإجماع.
وإن كان الأمر بهذا الاعتقاد لقيام الحجة عليه: فهم لم يذكروا حجة، لا مجملة ولا مفصلة، ولا أحالوا عليها.
وهم يفرون من المناظرة والمحاجة بخطاب أو كتاب. فقد ثبت أن أمرهم بهذا الاعتقاد: حرام باطل في التقديرين بإجماع المسلمين.
5 - أن التقليد في الأمور التي يقولون إنها عقليات: لا يُعلم أحد جوّز التقليد فيها بدون حجة، فضلاً عن إيجابه، بل الناس فيها قسمان: منهم من ينكرها على أصحابها ويبين أنها جهليات لا عقليات.
ومنهم من يقول: بل من نظر في أدلتها العقلية علم صحتها.
أما أن يقول قائل: إن هذه الأمور المتنازع فيها بين الأمة يقلد فيها من يدعي أن قوله معلوم بالعقل قبل أن يُعلم صحة ما يقوله بالعقل فهذا لا يقوله عاقل.
6 - أنه لو فرض جواز التقليد أو وجوبه في مثل هذا، لكان لمن يسوغ تقليده في الدين كالأئمة المشهورين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا القول لم يقله أحد ممن يسوغ للمسلمين تقليده في فروع دينهم، فكيف يقلدونه في أصول دينهم التي هي أعظم من فروع الدين.
7 - أن هذا القول لو فرض أنه حق معلوم بالعقل لم يجب اعتقاده بمجرد ذلك؛ إذ وجوب اعتقاد شيء معين لا يثبت إلا بالشرع بلا نزاع.
وكذلك المنازعون يسلمون أن الوجوب كله لا يثبت إلا بالشرع، وأن العقل لا يوجب شيئاً وإن عرفه.
ولهذا اتفق عامة أئمة الإسلام على أن من مات مؤمناً بما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم يخطر بقلبه هذا النفي المعين، لم يكن مستحقاً للعذاب، ولو كان واجباً لكان تركه سبباً لاستحقاق العذاب.(106/142)
8 - أن الاعتقاد الواجب على المؤمنين هو: ما بينه الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأخبر به وأمر بالإيمان به فأصول الإيمان هي: أعظم ما يجب على الرسول تبليغه وبيانه، فهي ليست كحكم آحاد الحوادث التي لم تحدث في زمانه، حتى شاع الكلام فيها باجتهاد الرأي، إذ الاعتقاد في أصول الدين للأمور الخبرية الثابتة كأسماء الله وصفاته نفياً أو إثباتاً ليست مما يحدث سبب العلم به، أو سبب وجوبه.
فإذا كان وجوب ذلك منتفياً فيما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الكتاب والسنة وفيما اتفق عليه سلف الأمة، كان عدم وجوبه معلوماً علماً يقينياً، وكان غايته أن يكون مما يقال فيه باجتهاد الرأي.
9 - لا ريب أن من لقي الله بالإيمان بجيمع ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم مجملاً مقراً بما بلغه من تفصيل الإجمال، غير جاحد لهذه التفاصيل أنه يكون بذلك من المؤمنين.
ولهذا يسع الإنسان في مقالات كثيرة لا يقر فيها بأحد النقيضين لا نفياً ولا إثباتاً، إذا لم يبلغه أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نفاها أو أثبتها.
أما إذا كان أحد القولين هو الذي قاله الرسول صلّى الله عليه وسلّم دون الآخر، فهنا يكون السكوت عن ذلك وكتمانه من باب كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب.
وإذا كان أحد القولين متضمناً لنقيض ما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والآخر لم يتضمن مناقضة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لم يجز السكوت عنهما جميعاً بل يجب نفي القول المتضمن مناقضة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
أما القول الذي لا يوجد في كلام الله عزّ وجل وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم لا منصوصاً ولا مستنبطاً، بل يوجد في الكتاب والسنة مما يناقضه ما لا يحصيه إلا الله، فكيف يجب على المؤمنين عامة وخاصة اعتقاده، ويجعل ذلك محنة لهم.
1 - أن طلبهم اعتقاد نفي الجهة والتحيز عن الله لا يخلو:(106/143)
إما أن يتضمن نفي كون الله على العرش، ونفي العلو والفوقية، أو لا يتضمن هذا الكلام نفي ذلك.
فإن كان هذا الكلام لم يتضمن ذلك كان النزاع لفظياً، فلا ينازع في المعنى الذي أراده، لكن لفظه ليس بدال على ذلك.
وإما أن يتضمن كلامه نفي العلو والفوقية والاستواء، فيطلب ابن تيمية رحمه الله منهم أن يصرحوا بذلك في كلامهم، حتى يفهم المؤمنون كلامهم، ويعلموا مقصودهم، لكنهم لا يصرحون ولا يجترؤون أن يقولوا بهذا المعنى في ملأ من المؤمنين (309).
11 - أنهم إذا بينوا مقصودهم من أنه ليس فوق العرش رب، ولا فوق العالم موجود فيقال لهم:
هذا معلوم الفساد بالضرورة العقلية، والإيمانية السمعية الشرعية، بدلالة القرآن الكريم، وبالأحاديث المتواترة عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وبما اتفق عليه سلف الأمة، وأهل الهدى من أئمتها.
12 - أن لفظ الجهة عند من قاله: إما أن يكون معناه وجودياً أو عدمياً:
فإن كان معناه وجودياً:نفي الجهة عن الله نفي من أن يكون الله في شيء موجود،وليس شيء موجود سوى الله إلا العالم، أي ما ثم إلا الخالق أو المخلوق، وهذا باطل منفي عن الله.
وإن كان معناه عدمياً: كان المعنى أن الله يكون حيث لا موجود غيره، وهو ما فوق العالم، فإذا كان موجوداً في العدم ليس معناه أن العدم يحويه أو يحيط به، إذ العدم ليس بشيء أصلاً، حتى يوصف بأنه يحيط أو يحاط به، وهذا المعنى حق(310) .
13 - أن قولهم بنفي (التحيز) لفظ مجمل، فإن أرادوا أنه لا تحيط به المخلوقات، ولا يكون في جوف الموجودات، فهذا صحيح.
وإن أراد المتكلمون بالحيز: ما ليس خارجاً عن المتحيز كحدود المتحيز وجوانبه، فلا يكون الحيز شيئاً خارجاً عن المتحيز على هذا التفسير.
وإن أرادوا به ما هو خارج عن المتحيز منفصل عنه، فقد قالوا: إنه في العالم أو في بعضه، وهذا مما هو منفي عن الله عزّ وجل (311).
وقد سئل رحمه الله عمن يعتقد الجهة: هل هو مبتدع أو كافر أو لا؟.(106/144)
فأجاب بالتفصيل:
أ - من قال بالجهة معتقداً أن الله في داخل المخلوقات، وتحصره السموات، ويكون بعض المخلوقات فوقه، وبعضها تحته، فهذا مبتدع ضال.
ب - وإن كان يعتقد أن الله يفتقر إلى شيء يحمله - إلى العرش أو غيره -، فهذا مبتدع ضال.
جـ - وإن جعل صفات الله مثل صفات المخلوقين فيقول: استواء الله كاستواء المخلوق، أو نزوله كنزول المخلوق، ونحو ذلك، فهذا مبتدع ضال.
د - وإن كان يعتقد أن الخالق تعالى بائن عن المخلوقات، وأنه فوق سماواته على عرشه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، فهذا مصيب في اعتقاده موافق لسلف الأمة وأئمتها(312) .
المبحث الأول
معتقد أهل السنة في إمكان حوادث لا أول لها
المطلب الأول
التسلسل: تعريفه، أقسامه، حكم كل قسم
التسلسل لغة: اتصال بعض الأشياء ببعض إلى ما لا نهاية يقال: تسلسل الأمر: أي اتصل بعضه ببعض إلى ما لا نهاية، وشيء مسلسل: أي متصل بعضه ببعض، ومنه سلسلة الحديد(1) .
والتسلسل: لفظ مجمل لم يرد إثباته في الكتاب والسنة ولا نفيه فيهما وهو قسمان:
الأول: تسلسل في المؤثرين.
الثاني: تسلسل في الآثار.
أما القسم الأول وهو التسلسل في المؤثرين فيقصد به: أن يكون للحادث فاعل، وللفاعل فاعل وهكذا، أي أن يكون للمؤثر مؤثر معه لا يكون حال عدم المؤثر (2).
وهذا التسلسل في أصل التأثير والخلق باطل باتفاق العقلاء(3) ؛ ذلك أنه يقتضي أن لا يوجد شيء، وأن كل الأشياء الموجودة حادثة بعد العدم مفتقرة إلى من يوجدها، وليس فيها من يوجد نفسه أو يوجد شيئاً بنفسه، ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا النوع يستلزم تسلسل الممتنعات؛ لأن ما لا يوجد حتى يوجد ما لا يوجد ممتنع، وكذلك فإن تقدير أمور كلها مفعولات ليس فيها غير مفعول ومخلوق مع عدم وجود فاعل خالق مباين لها ممتنع ضرورة.(106/145)
وكثرة الممتنعات المفتقرات لا تقتضي إمكان شيء فيها فضلاً عن وجوده(4) وقد حذر النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم أمته من الوقوع في الوسواس الذي يرد على النفوس حول التسلسل في الفاعل، فقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة(5) رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله» وفي لفظ: «آمنت بالله ورسله»(6) . وفي لفظ آخر: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته»(7) .
وعن أنس بن مالك(8) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال الله عزّ وجل: «إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ وما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟» (9).
وعنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لن يبرح الناس يتساءلون: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟»(10).
وقد أجاب شيخ الإسلام رحمه الله عمن زعم أن طريقة العلاج النبوية بالاستعاذة لمن بلي بوسواس الفاعل ليست طريقة برهانية تقطع هذا الوسواس بأن المصطفى عليه الصلاة والسلام أمر بطريقة البرهان حيث يؤمر بها، والذي أمر به في دفع هذا الوسواس ليس هو الاستعاذة فقط، بل أمر بالاستعاذة، وأمر بالانتهاء عنه، وأمر بالإيمان بالله ورسوله، ولا طريق إلى نيل المطلوب من النجاة والسعادة إلا بما أمر به.
والشبهات القادحة في العلوم الضرورية لا يمكن الجواب عنها بالبرهان؛ لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها، فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق البحث والنظر، ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر، ومتى فكر العبد في الوساوس القادحة في العلوم الضرورية ونظر فيها ازداد ورودها على قلبه، وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه والعياذ بالله.(106/146)
ولهذا يزول بالاستعاذة بالله، فإن الله هو الذي يعيذ العبد ويجيره من الشبهات والوساوس قال عزّ وجل: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] .
وأما الأمر بالانتهاء عن التفكير في الوسواس مع الاستعاذة فهو إخبار بأن وجود هذا السؤال هو نهاية الوسواس فيجب الانتهاء عنه، وليس هو من البدايات التي يزيلها ما بعدها. ولما كان بطلان هذا السؤال معلوماً بالفطرة والضرورة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينتهي عنه، كما يؤمر أن ينتهي عن كل ما يعلم فساده من الأسئلة الفاسدة التي يُعلم فسادها كما لو قيل: متى حدث الله؟ أو متى يموت؟ ونحو ذلك(11) .
وأما الأمر بالإيمان بالله ورسوله فهو من باب دفع الضد الضار بالضد النافع فإن قوله: آمنت بالله، يدفع عن قلبه الوسواس الفاسد، وهذا القول إيمان، وذكر الله يدفع به ما يضاده من الوسوسة القادحة في العلوم الضرورية الفطرية (12).
ويقترن بالتسلسل في المؤثرات والفاعلية تسلسل آخر وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير: ولهذا التسلسل نوعان:
النوع الأول: تسلسل في جنس الفعل.
النوع الثاني: تسلسل في الفعل المعين.
أما النوع الأول: وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير فهذا مثل أن يقال: لا يفعل الفاعل شيئاً أصلاً حتى يفعل شيئاً معيناً، أو لا يحدث شيئاً حتى يحدث شيئاً، أو لا يصدر عنه شيء حتى يصدر عنه شيء.
وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء(13) .
أما النوع الثاني: وهو التسلسل: في حدوث الحادث المعين فصورته: أن يكون قد حدث مع الحادث تمامُ مؤثره، وحدث مع حدوث تمام المؤثر المؤثر وهكذا، فيلزم تسلسل الحوادث في الواحد.
وهذا - أيضاً - باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهو من جنس التسلسل في تمام التأثير(14) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رد عام على هذا القسم:(106/147)
(التسلسل ممتنع في العلة، وفي تمام العلة، فكما لا يجوز أن يكون للعلة علة، وللعلة علة إلى غير غاية، فلا يجوز أن يكون لتمام العلة تمام، ولتمام العلة تمام إلى غير غاية، والتسلسل في العلل وفي تمامها متفق على امتناعه بين العقلاء، معلوم فساده بضرورة العقل)(15) .
ولما كان التسلسل في المؤثرات ممتنعاً ظاهر الامتناع لم يكن المتقدمون من النظار يطيلون في تقرير فساده، لكن المتأخرون أخذوا يقررونه ويناقشونه مما سبب اشتباه التسلسل بالآثار بالتسلسل في المؤثرين عند كثير من المتكلمين(16) .
ومن أقدم من نفى التسلسل في المؤثرات من الفلاسفة ابن سينا (ت - 428هـ) ثم اتبعه من سلك طريقه كالسهروردي المقتول (ت - 578هـ) وأمثاله، وكذلك الرازي (ت - 606هـ) والآمدي (ت - 631) والطوسي(17) وغيرهم (18).
لكنَّ متأخري المتكلمين زادوا في الحاجة إلى نفي التسلسل في المؤثرات الحاجة إلى نفي الدور(19) أيضاً، إلا أن الدور القبلي مما اتفق العقلاء على انتفائه، ولذلك لم يحتج عامة العقلاء إلى تقرير ذلك لوضوحه بما فيهم المتقدمون من المتكلمين، والفلاسفة.
وهذا الطريق الذي سلكه المتأخرون في إبطال التسلسل في المؤثرات والدور القبلي طريق صحيح، إلا أنه طريق طويل شاق لا حاجة إليه، وإن كان منهم من يورد شكوكاً يعجز بعضهم عن حلها (20).
وأما القسم الثاني: وهو التسلسل في الآثار فيراد به أن يكون أثر بعد أثر، فلا يكون حادث إلا بعد حادث، ولا يكون حادث حتى يكون قبله غيره من الحوادث ، فتتسلسل الحوادث(21) المتعاقبة في الماضي والمستقبل.
والنزاع مشهور بين الطوائف في هذا القسم، وتعود الأقوال المشهورة فيه إلى ثلاثة أقوال (22):(106/148)
القول الأول: لا يجوز تسلسل الحوادث المتعاقبة لا في الماضي، ولا في المستقبل، ويطلقون عليه - أحياناً -: امتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل، وقال بهذا الجهم بن صفوان(23) ، وأبو الهذيل العلاف(24) وعن هذا الأصل قال الجهم (ت - 128هـ) بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل (ت - 235هـ) بفناء حركات أهلهما(25).
القول الثاني: يجوز تسلسل الحوادث في المستقبل دون الماضي، أو امتناع مالا يتناهى في الماضي دون المستقبل؛ لأن الماضي قد وجد، والمستقبل لم يوجد بعد، وهو قول أكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم.
القول الثالث: جواز تسلسل الحوادث المتعاقبة في الماضي والمستقبل، وقال بهذا أئمة أهل الملل، ومنهم أئمة أهل الحديث، وقال به أئمة الفلاسفة (26) .
وأما امتناع دوام الحوادث في المستقبل وجوازها في الماضي فلم يقل به أحد من الناس.
ومن الملاحظ أن الجهمية انفردت بنفي تسلسل الحوادث في المستقبل، وأول من أظهر هذا القول في الإسلام: الجهم بن صفوان (ت - 128هـ) ، وشبهته: أن ما كان له ابتداء فلا بد أن يكون له انتهاء، وأن الدليل الدال على امتناع ما لا يتناهى لا يفرق بين الماضي والمستقبل فقال بفناء الجنة والنار، بل وفناء العالم كله، حتى لا يبقى موجود إلا الله، كما كان الأمر في الابتداء كذلك.
وتبعه أبو الهذيل العلاف (ت - 235هـ) في ذلك لكنه يرى فناء الحركات فقال: إن الدليل إنما دل على انقطاع الحوادث فقط، فيمكن بقاء الجنة والنار، ولكن تنقطع الحركات فيبقى أهل الجنة والنار ساكنين ليس فيهما حركة أصلاً، ولا شيء يحدث، فيبقى أهل الجنة وأهل النار في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على الحركة (27).
وقد اشتد إنكار السلف - رحمهم الله - على الجهمية في هذه المسألة، بل كفروهم بهذه المسألة، لما قاله خارجة بن مصعب رحمه الله(28) :(106/149)
(كفرت الجهمية في غير موضع من كتاب الله، قولهم: إن الجنة تفنى، وقال الله: { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] فمن قال: إنها تنفد فقد كفر، وقال: { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا } [الرعد: 35] ، فمن قال: إنها لا تدوم فقد كفر، وقال: {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33] ، فمن قال: إنها تنقطع فقد كفر، وقال:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}[هود: 108](29) ،فمن قال: إنها تنقطع فقد كفر، وقال: أبلغوا الجهمية أنهم كفار، وأن نساءهم طوالق) (30).
ومما يدل على بقاء الجنة ودوامها غير ما ذكر من الآيات السابقة قول الله سبحانه وتعالى عن أهل الجنة: { لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، كل خالد فيما هو فيه».
وعن أبي سعيد الخدري(31) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت.
ثم يقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا، فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [مريم: 39] »(32) .
وقال عليه الصلاة والسلام: «ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً»(33) .(106/150)
وأما مناقشة الجهمية في عدم فناء النار وذكر الأدلة على عدم فنائها فسيأتي في فصل مستقل - إن شاء الله -.
ويناقش الإمام ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله مذهب أبي الهذيل العلاف (ت - 235هـ) الذي يقضي بفناء حركات أهل الدارين، الجنة والنار في نونيته المشهورة، مبتدئاً بذكر مذهبهم ثم مناقشته قائلاً:
قال الفناء يكون في الحركات لا *** في الذات واعجباً لذا الهذيان
أيصير أهل الخلد في جناتهم *** وجحيمهم كحجارة البنيان
ما حال من قد كان يغشى أهله *** عند انقضاء تحرك الحيوان
وكذاك ما حال الذي رفعت يدا *** ه أُكلة من صحفة وخِوَان (34)
فتناهت الحركات قبل وصولها *** للفم عند تفتح الأسنان
وكذاك ما حال الذي امتدت يد *** منه إلى قنو(35) من القنوان
فتناهت الحركات قبل الأخذ هل *** يبقى كذلك سائر الأزمان
تباً لهاتيك العقول فإنها *** والله قد مسخت على الأبدان
تباً لمن أضحى يقدمها على الـ *** آثار والأخبار والقرآن(36)
وقالت أكثر فرق المتكلمين بامتناع حوادث لا أول لها أي امتناع تسلسل الحوادث المتعاقبة في الماضي: وعمدتهم في نفي تسلسل الحوادث الماضية هو دليل (التطبيق)(37) ، وصورته: أننا لو افترضنا سلسلتين غير متناهيتين، إحداهما تزيد عن الأخرى، بأن نفرض أن الأولى بدأت من هذه السنة إلى غير بداية في الماضي، وأن الثانية بدأت من العام الماضي، إلى غير بداية في الماضي أيضاً، ثم نطابق بين هاتين السلسلتين، بأن نأخذ الحلقة الأولى من السلسلة الأولى، ونطبقها على الحلقة الثانية من السلسلة الثانية ثم نأخذ الحلقة الثانية من السلسلة الأولى، ونطبقها على الحلقة الثانية من السلسلة الثانية وهكذا، نطبق الثالثة بالثالثة، والرابعة بالرابعة، والخامسة بالخامسة، وهلم جراً، ذاهبين بالتطبيق نحو الماضي.(106/151)
حينئذٍ لا يخلو الأمر: إما أن يستمر التطبيق إلى غير نهاية، فيترتب على ذلك مساواة الزائد للناقص، وهذا ظاهر البطلان، أو تنتهي الناقصة، فيلزم أيضاً انتهاء الزائدة؛ لأنها قد زادت عليها بقدر متناهي، والزائد بالمتناهي متناهي. وبذلك ينقطع التسلسل، وهو المطلوب إثباته (38).
ويوضح ابن تيمية هذا الدليل ويلخصه بقوله: (إذا فرضنا الحوادث من الطوفان والحوادث من الهجرة، وطبقنا بينهما، فإن تساويا لزم أن يكون الزائد كالناقص وهو محال.
وإن تفاضلا لزم فيما لا يتناهى أن يكون بعضه أزيد من بعض. قالوا: وهذا محال)(39) .
وأجيب عن دليلهم بعدة أجوبة منها:
1 - أنا لا نسلم إمكان التطبيق مع التفاضل، وإنما يمكن التطبيق بين المتماثلين لا بين المتفاضلين (40).
2 - جواز وقوع التفاضل الذي منعوه وأحالوه، ذلك أن الحوادث من الطوفان إلى ما لا نهاية له في المستقبل أعظم من الحوادث من الهجرة إلى ما لا نهاية له في المستقبل، والعكس فإن من الهجرة إلى ما لا بداية له في الماضي، أعظم من الطوفان إلى ما لا بداية له في الماضي، وإن كان كل منهما لا بداية له، فإن ما لا نهاية له من هذا الطرف وهذا الطرف ليس محصوراً محدوداً موجوداً حتى يقال هما متماثلان في المقدار، فكيف يكون أحدهما أكثر؟ (41).
3 - أن الاشتراك في عدم التناهي لا يقتضي التساوي في المقدار إلا إذا كان كل ما يقال عليه إنه لا يتناهى له قدر محدود، وهذا باطل(42) .
4 - أن التطبيق إنما يمكن في الموجود، أما التطبيق في المعدوم فممتنع، كما في تطبيق مراتب الأعداد من الواحد إلى ما لا يتناهى، فإنا نعلم أن عدد تضعيف الواحد أقل من عدد تضعيف العشرة، وعدد تضعيف العشرة أقل من عدد تضعيف المائة، وعدد تضعيف المائة أقل من عدد تضعيف الألف والجميع لا يتناهى.(106/152)
وهذه الحجة من جنس مقابلة دورات أحد الكوكبين بدورات الآخر، لكن هناك الدورات وجدت وعدمت، وهنا قُدرت الأزمنة والحركات الماضية ناقصة وزائدة (43) .
5 - أنه يمكن أن يقال: إن دليل التطبيق شامل للماضي والمستقبل فيما لا يتناهى على حد سواء، والإشكال في الحوادث من الهجرة، ومن الطوفان إلى ما لا يتناهى: هل هما متفاضلان؟ أم متماثلان؟
فإن تماثلا فهو محال؛ لأن أحدهما أزيد من الآخر.
وإن تفاضلا فهو محال؛ لأن التفاضل في ما لا يتناهى محال.
ويورد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إشكالاً على لسانهم في نقاش هذه الحجة فيقول: (فإن قيل: هذا تقدير التفاضل والتماثل في ما لم يكن بعد)(44) ، ويجيب عنه بقوله: (قيل: نعم، لكن تقدير التفاضل والتماثل بتقدير وجوده لا في حال كونه معدوماً، كما أن الماضي قَدرتم فيه التماثل والتفاضل بعد عدمه لا في حال وجوده، لكن قدرتم تلك الحوادث الماضية التي عدمت كأنها موجودة، ففي كلا الموضعين إنما هو تقدير التفاضل والتماثل في ما هو معدوم. فإن صح في أحد الموضعين، صح في الآخر، وإن امتنع في أحدهما امتنع في الآخر)(45) .
6 - يقال لهم أيضاً: لا نسلم إمكان التطبيق، فإنه إذا كان كلاهما لا بداية له، وأحدهما انتهى أمس، والآخر انتهى اليوم، كان تطبيق الحوادث إلى اليوم على الحوادث إلى الأمس ممتنعاً لذاته، فإن الحوادث إلى اليوم أكثر، فكيف تكون إحداهما مطابقة للأخرى؟
فلما كان التطبيق ممتنعاً جاز أن يلزمه حكم ممتنع(46) .(106/153)
7 - أن يقال: كون الشيء ماضياً ومستقبلاً أمر إضافي بالنسبة إلى المتكلم المخبر، فما مضى قبل كلامه كان ماضياً، وما يكون بعده يكون مستقبلاً، وبنسبة أحدهما إلى الآخر: فالماضي ماض على ما يستقبل، والمستقبل مستقبلٌ لما قد مضى، وما من ماضٍ إلا وقد كان مستقبلاً، وما من مستقبل إلا وسيصير ماضياً، فليس ذلك فرقاً يعود إلى صفات النوعين حتى يقال: إن أحدهما ممكن، والآخر ممتنع، بل هذا الماضي كان مستقبلاً، وهذا المستقبل يصير ماضياً، فتتصف كل الحوادث بالمضي والاستقبال، فلم يكن في ذلك ما هو لازم للنوعين يوجب الفرق بينهما (47).
ويذكر أبو المعالي الجويني (ت - 478هـ) مثالاً يوضح قول المفرقين بين الماضي والمستقبل في التسلسل فيقول: (وضرب المحصلون مثالين في الوجهين، فقالوا: مثال إثبات حوادث لا أول لها قول القائل لمن يخاطبه: لا أعطيك درهماً إلا وأعطيك قبله ديناراً، ولا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك قبله درهماً، فلا يتصور أن يعطي على حكم شرطه ديناراً ولا درهماً) (48) .
ثم يقول: (ومثال ما ألزمونا أن يقول القائل: لا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك بعده درهماً، ولا أعطيك درهماً إلا وأعطيك بعده ديناراً...)(49).
ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن القياس العقلي الذي اعتمدوا عليه في أصل أصول الدين عندهم الذي يبنون عليه نفي أفعال الرب وصفاته أن ذلك قياس باطل من وجوه:
أ - أن قوله: (لا أعطيك حتى أعطيك) نفي للمضارع المستقبل إذا وجد قبله ماض، وحق القياس الصحيح أن يقال: (ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله ديناراً، ولا أعطيتك دينار(50) إلا أعطيتك قبله درهماً) فهذا إخبار أن كل ماض من الدراهم كان قبله دينار، وكل دينار كان قبله درهم، وهذا مثل الحوادث الماضية التي قبل كل حادث منها حادث(51) .(106/154)
ب - وأما قوله: (لا أعطيك درهماً إلا أعطيتك بعده ديناراً، أو لا أعطيك ديناراً إلا وبعده درهم) فهذا مثل الحوادث في المستقبل وهو ما يقرون به، حيث يكون بعد كل حادث منها حادث، فإن أمكن أن يصدق في قوله في المستقبل، أمكن أن يصدق في قوله في الماضي، وعكسه بعكسه؛ لأن العقل لا يفرق بين هذا وهذا، ولكنه يفرق بين قوله: (لا أعطيك حتى أعطيك) وبين قوله: (ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك)(52) .
جـ - أن قوله: (لا أعطيك حتى أعطيك)، مثل قوله: (ما أعطيتك حتى أعطيتك)، فالأول نفي المستقبل حتى يوجد المستقبل، والثاني نفي الماضي حتى يوجد الماضي، وكلاهما ممتنع، فإنه نفي للشيء حتى يوجد الشيء.
وحقيقته: الجمع بين النقيضين، إذ يجعل الشيء موجوداً معدوماً.
بخلاف قوله: (ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله، ولا أعطيك إلا وأعطيك بعده) فإنه إثبات بعد كل عطاء عطاء، وقبل كل عطاء عطاء، إذ هذا المثال يتضمن إثبات بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل، وقبل كل حادث ماض حادث ماض، وبهذا يتبين الفرق بين المثال الأخير وبين المثالين اللذين قبله(53) ، ولا يصح الاستدلال على منع الحوادث المتعاقبة في الماضي بقول الله عزّ وجل: { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] أو قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } [الجن: 28] ؛ لأن الباري عزّ وجل قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص(54) رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء»(55)(106/155)
وأما قوله سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] ، فهذا يدل على أن الله قد أحصى وكتب ما يكون قبل أن يكون إلى أجل محدود، فإن الله عزّ وجل قد أحصى المستقبل المعدوم الذي لم يوجد بعد، كما أحصى الماضي الذي وجد ثم عدم، ولفظ الإحصاء لا يفرق بين الماضي والمستقبل(56) .
ولما كان لازم قول المتكلمين في التسلسل: الترجيح بلا مرجح؛ لأنهم يرون أن الله كان معطلاً عن الفعل ثم فعل من غير تجدد أمر لهذا الحدوث، قالوا بعد ذلك: إن المرجح هو الإرادة القديمة، والإرادة لا تحتاج إلى تخصيص، وأن الله قادر على الفعل في الأزل لكنه لم يفعل ولا ينبغي له أن يفعل(57) ، وقد قالوا ذلك هروباً من القول بقدم العالم الذي تقول به الفلاسفة، إذ فهموا أن القول بإمكان تسلسل الحوادث من الماضي إلى ما لا نهاية يستلزم قول الفلاسفة، وليس ذلك لازماً (58) .
ومن المعلوم أن القول بترجيح الممكن من عدمه بلا مرجح يقتضي ذلك، باطل في بديهة العقل، وهذا مناقض لما يستدل به المتكلمون أنفسهم على قدم الصانع، وحدوث العالم من أن المحدَث لا بد له من محدث، وذلك يستلزم أن ترجيح الحدوث على العدم لا بد له من مرجح، ولا بد أن يكون المحدث المرجح قد حدث منه ما يستلزم وجود المحدث، وكل ما أمكن حدوثه إن لم يحصل ما يستلزم حدوثه لم يحصل(59) .
ويلزم من قول المتكلمين لوازم فاسدة منها:
1 - أن الله عزّ وجل لم يزل معطلاً عن الفعل: إما أن يكون غير قادر على الفعل ثم صار قادراً عليه من غير تجدد سبب يوجب له القدرة على الفعل.
وإما أن يكون الفعل ممتنعاً في الأزل ثم صار ممكناً من غير سبب اقتضى إمكانه، وهذا يستلزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي.
2 - وصف الله بالعجز والتعطل عن الفعل مدة لا تقاس بها مدة فاعليته، وهذا نقص يجب تنزيه الله عنه.(106/156)
3 - أن الحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، فما من وقت يقدّر إلا والإمكان ثابت قبله، فليس لإمكان الفعل وصحته مبدأ ينتهي إليه فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً فيلزم جواز حوادث لا نهاية لها(60) .
وأما القول بأن الإرادة لذاتها هي التي تقتضي التخصيص فهو قول باطل؛ ذلك أن الإرادة التي يعرفها الناس من أنفسهم لا توجب ترجيحاً إلا بمرجح، والإرادة إذا استوت نسبتها إلى جميع المرادات وأوقاتها وصفاتها وأشكالها، كان ترجيح الإرادة لمثلٍ على مثل ترجيحاً من غير مرجح، وهذا ممتنع لمن تصوره.
ويقال لهم أيضاً: إن إرادة الإنسان أحد الشيئين ليست هي إرادته للآخر، سواء ماثله أو خالفه، فضلاً عن أن تكون إرادة واحدة نسبتها إلى المثلين سواء، وهي ترجح أحدهما بلا مرجح.
والقادر المختار ذو القدرة التامة هو الذي إذا أراد الفعل إرادة جازمة: لزم من ذلك وجود الفعل، وصار واجباً بغيره لا بنفسه، كما قال المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وما شاءهُ سبحانه فهو قادر عليه، فإذا شاء شيئاً حصل مراداً له - وهو مقدور عليه - فيلزم وجوده.
وما لم يشأ لم يكن، فإنه لم يرده - وإن كان قادراً عليه - لم يحصل المقتضى التام لوجوده فلا يجوز وجوده (61).
ويستدل أهل السنة على هذا بقوله سبحانه وتعالى: { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 15 - 16] ، وأن هذه الآية تدل على أمور:
1 - أنه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته.
2 - أنه لم يزل كذلك، فقد ساق الله ذلك في معرض الثناء، وعدم فعله لما يريد في وقت من الأوقات نقص من ذلك الكمال وقد قال عزّ وجل { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}: [النحل: 17] .
3 - أنه إذا أراد أي شيء فإنه يفعله؛ لأن (ما) موصولة عامة أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله.(106/157)
4 - أن فعله وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعله فعله، وما فعله فقد أراده، بخلاف المخلوق فإنه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريد، فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده.
5 - إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعال، وأن كل فعل له إرادة تخصه، فشأنه سبحانه أنه يريد على الدوام، ويفعل ما يريد.
6 - أن كل ما صح أن تتعلق به إرادته، جاز أن يفعله، فإذا أراد أن ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، وأن يري عباده المؤمنين نفسه لم يمتنع عليه فعله فهو الفعال لما يريد، وإنما تتوقف صحة ذلك على إخبار الصادق به (62).
وبعد مناقشات طويلة من قبل شيخ الإسلام رحمه الله تجاه القائلين بامتناع حوادث لا أول لها يأتي حكمه رحمه الله على هذه الطريقة بقوله: (وامتناع حوادث لا أول لها، طريقة مبتدعة في الشرع باتفاق أهل العلم بالسنة، وطريقة مخطرة مخوفة في العقل، بل مذمومة عند طوائف كثيرة، وإن لم يعلم بطلانها لكثرة مقدماتها وخفائها... وهي طريق باطلة في الشرع والعقل عند محققي الأئمة، العالمين بحقائق المعقول والمسموع) (63).
ومما له صلة بموضوع التسلسل في الآثار، مسألة (التأثير)، فالخلاف في هذه المسألة مرتبط بالخلاف في موضع تسلسل الآثار:
ويرى شيح الإسلام رحمه الله أن لفظ (التأثير) لفظ مجمل لا يصح الحكم عليه بصحة أو خطأ قبل الاستفصال؛ لأن عامة اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء: فالتأثير في حق الله يراد به التأثير في كل ما سواه؛ وهو إبداعه لكل ما سواه. ويراد به التأثير في شيء معين وهو خلقه لذلك المعين، ويراد به مطلق التأثير وهو كونه مؤثراً في شيء ما.
فإن أريد بالتأثير التام: إبداعه لكل شيء في الأزل فهذا ممتنع بضرورة الحس والعقل، فإن الحوادث مشهودة، وأيضاً فكون الشيء مبدعاً أزلياً ممتنع.(106/158)
وإن أريد به التأثير في شيء معين: فمعلوم أن هذا التأثير حادث بحدوث أثره، فإحداث الأثر المعين لا يكون إلا حادثاً.
وإن أريد بالتأثير مطلق الفعل وهو كونه فاعلاً في الجملة، فهذا يوجب أنه لم يزل موصوفاً بمطلق الفاعلية(64) .
وقد اختلف الناس في مقارنة التأثير للمؤثر على حسب اختلافهم في التسلسل على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجب أن يقارن الأثر للمؤثر ولتأثيره، بحيث لا يتأخر الأثر عن التأثير في الزمان، وهذا قول الفلاسفة بناء على قولهم بقدم العالم، وقدم الحوادث مع محدثها، ويلزم من قولهم لوازم:
1 - أن لا يحدث حادث بعد الحادث الأول إلا ويفتقر إلى علة تامة مقارنة له، فيلزم تسلسل علل، أو تمام علل ومعلولات في آن واحد، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء.
2 - أن لا يحدث في العالم شيء؛ فإن العلة التامة إذا كانت تستلزم مقارنة معلولها في الزمان، وكان الرب علة تامة في الأزل لزم أن يقارنه كل معلول وكل ما سواه معلول له: إما بواسطة، وإما بغير واسطة.
فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء.
القول الثاني: يجب تراخي الأثر عن المؤثر التام، كما يقوله أكثر أهل الكلام بناء على قولهم بامتناع تسلسل الحوادث في الماضي، ويلزم من قولهم أن يصير المؤثر مؤثراً تاماً بعد أن لم يكن مؤثراً تاماً، بدون سبب حادث، أو أن الحوادث تحدث بدون مؤثر تام، وأن الممكن يرجح وجوده على عدمه بدون المرجح التام.
القول الثالث: أن المؤثر التام يستلزم وجود أثره عقبه، لا معه في الزمان، ولا متراخياً عنه، وهذا قول أهل السنة استناداً إلى قولهم بجواز تسلسل الحوادث في الماضي، لكنهم لا يقولون بقدم شيء من المحدثات المخلوقات.(106/159)
وقد استدلوا بقول الله عزّ وجل: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب؛ لأنه مسبوق بوجود التأثير، ليس زمنه زمن التأثير كما تقول الفلاسفة، ولا متراخياً عنه بحيث يعطل الرب عن الفعل فترة كما تقوله المتكلمة، ولهذا يقال: طلقتُ المرأة فطلقت، وأعتقتُ العبد فعتق، وكسرتُ الإناء فانكسر، فالطلاق والعتق والانكسار عقب التطليق والإعتاق والكسر. لا يقترن به، ولا يتأخر عنه (65).
وبعد هذه الجولة السريعة في مبحث التسلسل: يتبين لنا أن التسلسل عند أهل السنة والجماعة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: تسلسل واجب، وتسلسل ممكن، وتسلسل ممتنع:
فأما التسلسل الواجب فهو: ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الله تعالى في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له، وكذلك عذاب أهل النار.
وكذلك التسلسل في أفعاله - سبحانه - من جهة الأولية والأزل، وأن كل فعل له - سبحانه - فهو مسبوق بفعل آخر قبله.
وأما التسلسل الممكن: فهو في مفعولاته في طرف الأزل كما تتسلسل في طرف الأبد، فإن الله إذا لم يزل حيّاً قادراً مريداً متكلماً - وذلك من لوازم ذاته - فالفعل ممكن له بوجوب هذه الصفات له.
وأما التسلسل الممتنع فهو مثل التسلسل في المؤثرين وهو أن يكون مؤثرون كثر، كل واحد منهم استفاد تأثيره ممن قبله لا إلى غاية(66) .
المطلب الثاني
الصفات الاختيارية
يراد بالصفات الاختيارية: الصفات المتعلقة بمشيئة الله وقدرته.
مثل الكلام والسمع والبصر والإرادة والمحبة والرضى والرحمة والغضب والسخط والخلق والإحسان والعدل والاستواء وغيرها (67) .(106/160)
وكل ما وجد وكان من أفعال الله بعد عدمه فإنما يكون بمشيئته وقدرته، وهو - سبحانه - ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاءه وجب كونه، وهو يجب بمشيئة الرب وقدرته، وما لم يشأه امتنع كونه مع قدرته عليه، كما قال تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}[السجدة: 13] وقال سبحانه:{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [البقرة: 253] ، وقال عزّ وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]
ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله:
(كون الشيء واجب الوقوع لكونه قد سبق به القضاء، وعلم أنه لا بد من كونه لا يمتنع أن يكون واقعاً بمشيئته وقدرته وإرادته - وإن كانت من لوازم ذاته كحياته وعلمه - فإن إرادته للمستقبلات هي مسبوقة بإرادته للماضي: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82] ، وهو إنما أراد هذا الثاني بعد أن أراد قبله ما يقتضي إرادته، فكان حصول الإرادة اللاحقة بالإرادة السابقة) (68).
والفعل من الله قسمان: متعدٍ ولازم، فالمتعدي مثل: الخلق والإعطاء، واللازم مثل: الاستواء والنزول، ويُمثل لهما بقول الحق تبارك وتعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الحديد: 4] ، فذكر فعلين متعدٍ ولازم، فالخلق متعدي، والاستواء لازم، وكلاهما حاصل بقدرته ومشيئته وهو متصف به.
والفعل المتعدي مستلزم للفعل اللازم؛ لأن الفعل لا بد له من فاعل، سواء كان متعدياً إلى مفعول أو لم يكن، والفاعل لا بد له من فعل، سواء كان فعله مقتصراً عليه أو متعدياً إلى غيره، والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى حتى يقوم بفاعله.
ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن ذلك معلوم بالسمع والعقل:(106/161)
أما السمع: فإن أهل اللغة العربية التي نزل بها القرآن متفقون على أن الإنسان إذا قال: (قام فلان وقعد)، وقال: (أكل فلان الطعام وشرب الشراب)، فإنه لا بد أن يكون في الفعل المتعدي إلى المفعول ما في الفعل اللازم وزيادة، إذ كلتا الجملتين فعلية، وكلاهما فيه فعل وفاعل، والثانية امتازت بزيادة المفعول.
وأما من جهة العقل : فمن جوز أن يقوم بذات الله تعالى فعل لازم له كالمجيء والاستواء ونحو ذلك، لم يمكنه أن يمنع قيام فعل يتعلق بالمخلوق كالخلق والبعث والإماتة والإحياء، كما أن من جَوّز أن تقوم به صفة لا تتعلق بالغير كالحياة لم يمكنه أن يمنع قيام الصفات المتعلقة بالغير كالعلم والقدرة والسمع والبصر.
ولهذا لم يقل أحد من العقلاء بإثبات أحد الضربين دون الآخر، بل قد يثبت الأفعال المتعدية القائمة به كالتخليق من ينازع في الأفعال اللازمة كالمجيء والإتيان، وأما العكس فلا يعلم له قائل (69).
وقد تنوعت وكثرت الأدلة المثبتة للأفعال الاختيارية من الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة حتى لا تكاد تحصى كثرة:
أما الأدلة من القرآن الكريم فتبلغ المئين ومنها على سبيل المثال:
قول الله عزّ وجل: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة: 186] .
وقال سبحانه: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } [المجادلة: 1] .
وقال عزّ وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [البقرة: 174] .
وقال: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] .(106/162)
وقال - سبحانه -: { )إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
وقال عزّ وجل: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ } [آل عمران: 77] .
وقال: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] .
وقال: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى* إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [طه: 11 - 14] .
وقال - سبحانه -: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم } [الأنبياء: 83، 84] .
وقال: { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [الأنبياء: 89، 90] .
وقد ذكر عزّ وجل عن النداء قوله: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] .
وذكر عن الحكم والإرادة والمحبة قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] .(106/163)
وقال: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16] .
وقال سبحانه: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آل عمران: 31] وقال: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] .
وقال عن السخط والرضى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [محمد: 28] .
وقال عزّ وجل: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14] .
وقال: { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [النازعات: 27 - 32] .
والآيات في هذا كثيرة جدّاً تفوق الحصر(70) .
أما الأحاديث فمنها:
قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حَمِدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم: قال: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي»(71) .(106/164)
وفي الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقتل هذا فيلج الجنة، ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد»(72) .
وقال عليه الصلاة والسلام: «الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء»(73) .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قاعداً في أصحابه إذ جاء ثلاثة نفر، فأما رجل فوجد فرجة في الحلقة فجلس، وأما رجل فجلس، يعني خلفهم، وأما رجل فانطلق.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟
أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله .
وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه .
وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه»(74) .
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه - تبارك وتعالى -: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي(75) عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته ولا بد له منه»(76).
وعن عبادة بن الصامت(77) رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة: إنا لنكره الموت؟ قال: ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت يُبَشّر برضوان الله وكرامته، وإذا بشر بذلك أحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه
وإن الكافر إذا حضره الموت بُشر بعذاب الله وسخطه فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه»(78)(106/165)
وعن أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك.. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً»(79) .
وفي الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأما معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب إليَّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إليَّ ذراعاً اقتربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة»(80) .
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن عبداً أصاب ذنباً فقال: رب أصبت ذنباً فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً آخر فقال: أي رب، أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي»(81) .
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده .
ويقول: يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني فيقول: أي رب، وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول تبارك وتعالى: أما علمت أن عبدي فلاناً استسقاك فلم تسقه؟ أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟(106/166)
قال: ويقول: يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: أي رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه؟ أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي»(82) .
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله ينادون: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟ قال يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك. قال: فيقول: وكيف لو رأوني. قال: فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً. قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها. قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول: وهل رأوها. قال: يقولون: لا والله ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها. قال يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم»(83) .
والأحاديث كثيرة في هذا الباب يصعب إحصاؤها واستقصاؤها (84).
وأما المنقول من أقوال سلف الأمة الموافق للكتاب والسنة فكثير جدّاً:
فمنهم البخاري(85) رحمه الله فقد ذكر عن الفضيل بن عياض(86) رحمه الله قوله: (إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء) (87) .
وقال عبد الرحمن بن مهدي(88) رحمه الله: «من زعم أن الله لم يكلم موسى فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل)(89) .(106/167)
وروى البخاري (ت - 256هـ) حديث عبد الله بن أنيس(90) رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله يحشر العباد يوم القيامة، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب «أنا الملك وأنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحدٌ من أهل النار يطلبه مظلمة»»(91) .
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يحب أن يكون الرجل خفيض الصوت، ويكره أن يكون رفيع الصوت، وأن الله عزّ وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فليس هذا لغير الله.
قال البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله: (وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصواتب الخلق؛ لأن صوت الله - جل ذكره - يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال عزّ وجل: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 22] فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين)(92) .(106/168)
ومنهم الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله حيث رد على المريسي (ت - 218هـ) إنكاره نزول الباري عزّ وجل وتأويله النزول بنزول أمره ورحمته لا بنفسه بقوله: «وهذا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان؛ لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي صلّى الله عليه وسلّم يحدد لنزوله الليل دون النهار، ويؤقت من الليل شطره أو الأسحار؟. فبرحمته وأمره يدعو العباد إلى الاستغفار، أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا: هل من داع فأجيب؟ هل من مستغفر فأغفر؟ هل من سائل فأعطي؟... وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل، ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر ثم يرفعان؟...» (93).
وقال رحمه الله: (الله المتكلم أولاً وآخراً، لم يزل له الكلام، إذ لا متكلم غيره ولا يزال له الكلام، إذ لا يبقى متكلم غيره، فيقول: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] . - ثم ذكر آيات إلى أن قال: - وقال لقوم موسى حين اتخذوا العجل فقال: { أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه: 89] . وقال: { عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148] .
قال أبو سعيد: ففي كل ما ذكرناه تحقيق كلام الله وتثبيته نصاً بلا تأويل، ففيما عاب الله به العجل في عجزه عن القول والكلام بيانٌ بين أن الله غير عاجز عنه، وأنه متكلم، وقائل؛ لأنه لم يكن يعيب العجل بشيء وهو موجود فيه) (94) .(106/169)
ومنهم الآجري (ت - 360هـ) رحمه الله حيث ذكر حديث أبي موسى الأشعري(95) رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأربع قال: إن الله عزّ وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره)(96) .
وقال رحمه الله عن النزول: (الأخبار قد صحت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الله عزّ وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، والذين نقلوا إلينا هذه الأخبار هم الذين نقلوا إلينا الأحكام من الحلال والحرام، وعلم الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وكما قبل العلماء منهم ذلك كذلك قبلوا منهم هذه السنن، وقالوا: من ردها فهو ضال خبيث، يَحذَرونه، ويحذرون منه)(97).
ومنهم: الإمام الإسماعيلي (ت - 371هـ) حيث قال في عقيدته: (ويعتقدون أن الله.. مالك خلقه وأنشأهم لا عن حاجة إلى ما خلق، ولا لمعنى دعاه إلى أن خلقهم، لكنه فعال لما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل، والخلق مسؤولون عما يفعلون)(98) .
وقال رحمه الله: (ويقولون ما يقوله المسلمون بأسرهم: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [الإنسان: 30]
ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق... وإنه لا خالق على الحقيقة إلا الله عزّ وجل... وإنه عزّ وجل ينزل إلى السماء على ما صح به الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا اعتقاد كيف فيه) (99).(106/170)
ومنهم ابن أبي زمنين (ت - 399هـ) رحمه الله حيث قال: (ومن قول أهل السنة: أن الله عزّ وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وفي قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [الحديد: 4] ) (100).
وقال: (ومن قول أهل السنة: أن الله عزّ وجل ينزل إلى السماء الدنيا، ويؤمنون بذلك)(101) .
ومنهم الإمام الصابوني (449هـ) حيث قال في عقيدته: (ويعتقد أصحاب الحديث أن الله - سبحانه - فوق سبع سماواته، على عرشه مستو، كما نطق به كتابه في قوله عزّ وجل في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] وقوله في سورة يونس: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } [يونس: 3] )(102) .
وقال رحمه الله: (ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وينتهون فيه إليه) (103).(106/171)
وبعد: فهذه جملة مختصرة من أقوال سلف الأمة في بيان المعتقد الحق في أفعال الله وصفاته التي تكون بمشيئته وقدرته، وأقوالهم - رحمهم الله - تفوق الحصر في بيان هذا المعتقد عرضاً له، ورداً على مخالفيه من الجهمية ومن وافقهم (104). وقد كان الناس على قول واحد في صفات الله وأفعاله الاختيارية وهو الإيمان بها، وأنها متعلقة بمشيئة الله وقدرته، وأن الله متصف بها وهي قائمة بذاته سبحانه وتعالى.
حتى جاءت الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم فنفوا الصفات الاختيارية عن الله نفياً مطلقاً فلا يقوم بالرب - عندهم - شيء من الأمور الاختيارية، فلا يرضى على أحد بعد أن لم يكن راضياً عنه، ولا يغضب عليه بعد أن لم يكن غضبان، ولا يفرح بالتوبة بعد التوبة؛ ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن الكلام قائم بذاته. ويجعلون هذه الأمور الاختيارية مخلوقاً منفصلاً عن الله - تعالى -.
وكان الناس بعد ظهور الجهمية والمعتزلة فريقين حتى ظهرت الكلابية ومن وافقهم كأبي الحسن الأشعري(105) وأبي العباس القلانسي(106) ، ومن وافقهم من السالمية(107) وغيرهم، فأثبتوا بعض الصفات لكنهم لم يثبتوا الصفات الاختيارية التي تكون بمشيئة الله وقدرته، فالصفات التي أثبتوها هي قديمة بأعيانها لازمة لذات الله كالعلم والقدرة، وأما ما يكون بمشيئته وقدرته فلا يكون إلا مخلوقاً منفصلاً عنه، فلا تقوم الصفات الاختيارية - عندهم - بذات الرب - جل وعلا (108)- .
ومنشأ الخلاف بين الكلابية ومن وافقهم وبين أهل السنة: في مسألة الخلق: هل هو المخلوق أم غيره؟ والفعل هل هو المفعول أم غيره؟
وقد ذكر الإمام البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن نزاع الناس في أفعال الله اللازمة كالمجيء والإتيان والاستواء، والأفعال المتعدية كالخلق والإحسان والعدل ناشئ عن النزاع في هذه المسألة(109) .(106/172)
فالمأثور عن السلف أن الخلق غير المخلوق، وأن الفعل غير المفعول، فالفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث، لقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}[الأنعام:73] فالسماوات والأرض مفعول، وكل شيء سوى الله بقضائه فهو مفعول، فتخليق السماوات فعله؛ لأنه لا يمكن أن تقوم سماء بنفسها من غير فعل الفاعل، وإنما تنسب السماء إليه لحال فعله، ففعله من ربوبيته حيث يقول: {كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] .
والفعل صفة، والمفعول غيره، ويدل على هذا قول الله - تبارك وتعالى - {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51] ، ولم يرد بخلق السماوات نفسها، وقد ميز فعل السماوات عن السماوات، وكذلك فعل جملة الخلق.
قال البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله: (قال أهل العلم: التخليق فعل الله، وأفاعيلنا مخلوقة لقوله - تعالى -: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [الملك: 13، 14] يعني السر والجهر من القول، ففعل الله صفة الله، والمفعول غيره من الخلق)(109).
وقد استدل السلف على هذا بكلام الله عزّ وجل وأنه غير مخلوق، حيث استعاذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بكلمات الله، ولا يستعاذ بالمخلوق كما ذكر ذلك نعيم بن حماد (ت - 228هـ) رضي الله عنه وغيره(110) .(106/173)
وأما دليل السلف العقلي على أن الخلق غير المخلوق فقد ذكره ابن تيمية رحمه الله بقوله: (إن كل ما سوى الله تعالى مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، وأن الله انفرد بالقدم والأزلية، وقد قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [الفرقان: 59] . فهو حين خلق السماوات ابتداءً: إما أن يحصل منه فعل يكون هو خلقاً للسماوات والأرض، وإما أن لا يحصل منه فعل، بل وجدت المخلوقات بلا فعل، ومعلوم أنه إذا كان الخالق قبل خلقها ومع خلقها سواء، وبعده سواء، لم يجز تخصيص خلقها بوقت دون وقت بلا سبب يوجب التخصيص) (111).
وأما القول الثاني: وهو أن الخلق هو نفس المخلوق، والفعل هو المفعول، وليس لله عند هؤلاء صنع ولا فعل ولا خلق ولا إبداع إلا المخلوقات نفسها.
وشبهتهم هي قولهم: (لو كان خلق المخلوقات بخلق: لكان ذلك الخلق: إما قديماً، وإما حادثاً، فإن كان قديماً: لزم قدم كل مخلوق، وهذا مكابرة.
وإن كان حادثاً: فإن قام بالرب لزم قيام الحوادث به.
وإن لم يقم به كان الخلق قائماً بغير الخالق وهذا ممتنع.
وسواء قام به أو لم يقم به يفتقر ذلك الخلق إلى خلق آخر، ويلزم التسلسل)(112) .
وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بجواب السلف والجمهور عن كل مقدمة من مقدمات هذا الدليل:
فالمقدمة الأولى: قولهم: (بلزوم قدم كل مخلوق) بأن من يوافقونه على قدم الإرادة مع تأخر المراد يلزمونهم بأن الخلق قديم أزلي، وإن كان المخلوق متأخراً، ومهما قالوه في الإرادة ألزموا بنظيره في الخلق، وهذا جواب إلزامي لا حيلة لهم فيه ألزمهم به الحنفية والكرامية وكثير من الحنبلية، والشافعية، والمالكية، والصوفية، وأهل الحديث.(106/174)
وأما المقدمة الثانية: وهي قولهم: لو كان حادثاً قائماً بالرب لزم قيام الحوادث به وهو ممتنع: فقد منعهم ذلك السلف وأئمة أهل الحديث وغيرهم وقالوا: لا نسلم انتفاء اللازم، وقالوا: بأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأن الله لم يزل فعالاً. وهذه المسألة: - أي امتناع دوام الحوادث من عدمه - من الأصول الكبار الفارقة بين أهل السنة ومخالفيهم في صفات الله وفي خلقه.
وأما المقدمة الثالثة: وهي: إن لم يقم الخلق بالله كان الخلق قائماً بغير الخالق وهذا محال، وهذه المقدمة صحيحة، ولم يمنعهم ويخالفهم إلا بعض المتكلمين من المعتزلة وغيرهم. فمنهم من يقول: الخلق يقوم بالمخلوق، ومنهم من يقول: خلق وفعل بإرادة لا في مكان ومحل(113) . وهذا القول ممتنع لا يعرف عن أحد من السلف.
وأما المقدمة الرابعة: وهي قولهم: الخلق الحادث يفتقر إلى خلق آخر: فقد منعهم من ذلك عامة الناس ممن يقول بحدوث الخلق من أهل الحديث والسلف وأهل الكلام والفلسفة والفقه والتصوف وغيرهم.
وقالوا: إذا خلق السماوات والأرض بخلق لم يلزم أن يحتاج ذلك الخلق إلى خلق آخر، ولكن ذلك الخلق يحصل بقدرته ومشيئته، وإن كان ذلك الخلق حادثاً. ثم إنهم يسلمون أن المخلوقات محدثة منفصلة بدون حدوث (خلق)، فإذا جاز هذا في الحادث المنفصل عن المحدِث، فلأن يجوز حدوث الحادث المتصل به بدون (خلق) بطريق الأولى والأحرى.
وأما المقدمة الخامسة: وهي قولهم: إن ذلك يفضي إلى التسلسل، فيجاب عنهم بأن التسلسل هنا هو التسلسل في الآثار، وهذا قد اتفق السلف على جوازه، والبرهان إنما دل على امتناع التسلسل في المؤثرين، فإن هذا يعلم فساده بصريح المعقول، وهو مما اتفق العقلاء على امتناعه(114).(106/175)
وصلة مسألة الخلق هل هو المخلوق أم غيره؟ بالصفات الاختيارية هي في بدء خلق السماوات والأرض حين خلقها الله عزّ وجل ولم تكن قبل ذلك، وقد تجددت له صفة الخلق وهي ما يسميه المتكلمون (حلول الحوادث بالرب)، فيقولون: إن الصفة (الخلق) هي مخلوق منفصل عن الله عزّ وجل لا يقوم بذات الرب، فالخلق هو المخلوق، والصفة مخلوقة، وقال بعضهم: إن الصفة قديمة بأعيانها لازمة لذات الرب كما تقدم بيانه(115).
ومن منشأ الخلاف - أيضاً - بين أهل السنة ومخالفيهم في الصفات والأفعال الاختيارية: مسألة المضافات إلى الله سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة والتفريق بينها، وأنها ثلاثة أقسام:
القسم الأول: إضافة الصفة إلى الموصوف فهي: إما إضافة اسمية، كقوله - تعالى -: { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] ، وقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] .
وإما بصيغة الفعل كقوله تعالى: { )عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة: 187] ، وقوله: { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا} [المزمل: 20] .
القسم الثاني: إضافة المخلوقات والأعيان: كقوله تعالى: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } [الحج: 26] ، وقوله - تعالى -: { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } [الشمس: 13] ، وقال تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } [الإنسان: 6] .
وهذه الأعيان إذا أضيفت إلى الله - تعالى - فإما أن تضاف بالجهة العامة التي يشترك فيها المخلوق مثل كونها مخلوقة ومملوكة له ومقدرة، ونحو ذلك، فهذه إضافة عامة مشتركة كقوله: { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] .(106/176)
وقد تضاف الأعيان لمعنى يختص بها ليميز به المضاف عن غيره مثل: بيت الله، ناقة الله، عبد الله، روح الله، فمن المعلوم اختصاص ناقة صالح بما تميزت به عن سائر النياق، وكذلك اختصاص الكعبة وهكذا، فإن المخلوقات اشتركت في كونها مخلوقة مملوكة مربوبة لله يجري عليها حكمه وقضاؤه وقدره، وهذه الإضافة لا اختصاص فيها، ولا فضيلة للمضاف على غيره.
وامتاز بعضها بأن الله يحبه ويرضاه ويصطفيه ويقربه إليه، فهذه الإضافة يختص بها بعض المخلوقات كإضافة البيت، والناقة، والروح: مثل قوله تعالى: { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 91] .
القسم الثالث: ما فيه معنى الصفة والفعل مثل قوله تعالى: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] .
وقوله تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82] ،
وقوله: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي } [الكهف: 109] وقوله: { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] ، وقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } [النساء: 93] ، وقوله: { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] ، وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28] ، وقوله: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [الفجر: 22]
ومن الأحاديث قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة: «إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله»(116) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة»(117) .(106/177)
والخلاف في الصفات الاختيارية هو في القسم الثالث الذي فيه معنى الصفة والفعل؛ لأن القسم الأول قد اتفق أهل السنة على إثباته وأنه قديم غير مخلوق، خلافاً للجهمية الذين نفوا الصفات جملة.
وأما القسم الثاني فلم يخالف أحد في مخلوقيته.
وأما القسم الثالث: فهو موضع الخلاف ومنشأ النزاع والناس فيه على أقوال:
أحدها: أن الجميع إضافته إضافة ملك، وليس لله حياة قائمة به، ولا علم قائم به، ولا قدرة قائمة به، ولا كلام قائم به، ولا حب، ولا بغض، ولا غضب، ولا رضى، بل جميع ذلك مخلوق من مخلوقاته، وهذا قول المعطلة نفاة الصفات.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن أول من ابتدع هذا القول في الإسلام الجهمية، وقد ابتدعوه بعد انقراض عصر الصحابة وأكابر التابعين(118) .
الثاني: أن كل ما يضاف إلى الله هو صفة لله وإن كان بائناً عنه، وقال كثير منهم: إن أرواح بني آدم قديمة أزلية وهي صفة لله، وأن ما يسمعه الناس من أصوات القراء ومداد المصاحف قديم أزلي، وهو صفة لله، وقال بهذا القول الحلولية.
الثالث: أن صفات الله وأفعاله الاختيارية من الغضب والرضى والمحبة والبغض والإرادة وغيرها: إما أن تكون قديمة قائمة بالرب بأعيانها عند من يجوز ذلك وهم الكلابية، وإما مخلوقاً منفصلاً عنه فهو يلحق بأحد القسمين السابقين، فيمتنع أن يقوم به نعت أو حال أو فعل، أو شيء ليس بقديم، ويسمون هذه المسألة (مسألة حلول الحوادث بذاته) (119).
وقال بهذا المعتزلة وبعض الكلابية والأشعرية، وكثير من الحنبلية ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية وغيرهم.
الرابع: أن صفات الله وأفعاله الاختيارية قسم ثالث: فهي ليست من المخلوقات المنفصلة عن الله، وليست بمنزلة الذات والصفات القديمة الواجبة التي لا تتعلق بها مشيئته، لا بأنواعها، ولا بأعيانها، وهذا قول سلف المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين المشهورين بالإمامة، وهو القول الصحيح.(106/178)
وبهذا التفصيل في مسألة المضاف إلى الله والتفريق بين ما يضاف إلى الله من صفاته، وبين مخلوقاته يتضح لنا صلة هذه المسألة بالخلاف الدائر في صفات الله وأفعاله الاختيارية بين فرق المسلمين، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المضاف إلى الله في نصوص الكتاب والسنة أصل عظيم ضل فيه كثير من أهل الأرض من أهل الملل كلهم(120) .
ويستدل نفاة الصفات والأفعال الاختيارية بأدلة عقلية(121) منها:
الأول: قولهم: (أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، فلو جاز اتصافه بها لم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث). وهذا الدليل مبني على مقدمتين، وفي كل من المقدمتين نزاع معروف بين طوائف المسلمين.
أما الأولى: وهي أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده. فأكثر العقلاء على خلافها حتى المتكلمين أنفسهم لم يذكروا لها حجة عقلية صحيحة(122) .
وأما المقدمة الثانية: وهي أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فهذه - أيضاً - قد نازع فيها طوائف من أهل الكلام والفلسفة والفقه والحديث والتصوف وغيرهم، وقالوا: التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل، فأما التسلسل في الآثار المتعاقبة والشروط المتعاقبة فلا دليل على بطلانه، فلا يمكن حدوث شيء من الحوادث إلا على هذا الأصل، ومن لم يجوز ذلك لزمه القول بحدوث الحوادث بلا سبب حادث، وذلك يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح.
الثاني: هو قولهم: (لو كان قابلاً لها لكان قابلاً لها في الأزل، وذلك فرع إمكان وجودها ووجودها في الأزل محال).
وهذا الدليل أبطلوه هم بالمعارضة بالقدرة: بأنه - سبحانه - قادر على إحداث الحوادث، والقدرة تستدعي إمكان المقدور، ووجود المقدور وهو الحوادث في الأزل محال.
وهذا الدليل باطل من وجوه:
أولاً: أن يقال: وجود الحوادث: إما أن يكون ممتنعاً، وإما أن يكون ممكناً.(106/179)
فإن كان ممكناً أمكن قبولها والقدرة عليها دائماً، وحينئذٍ فلا يكون وجود جنسها في الأزل ممتنعاً، بل يمكن أن يكون جنسها مقدوراً مقبولاً.
وإن كان ممتنعاً فقد امتنع وجود حوادث لا تتناهى، وحينئذٍ فلا تكون في الأزل ممكنة، لا مقدورة ولا مقبولة، وحينئذٍ فلا يلزم امتناعها بعد ذلك، فإن الحوادث موجودة فلا يجوز أن يقال بدوام امتناعها، وهذا تقسيم حاصر يبين فساد هذا الدليل.
ثانياً: أن يقال: لا ريب أن الله تعالى قادر: فإما أن يقال: إنه لم يزل قادراً. وهذا هو الصواب. وإما أن يقال: بل صار قادراً بعد أن لم يكن.
فإن قيل: لم يزل قادراً، فقال: إذا كان لم يزل قادراً: فإن كان المقدور لم يزل ممكناً أمكن دوام وجود الممكنات، فأمكن دوام وجود الحوادث، وحينئذٍ فلا يمتنع كونه قابلاً لها في الأزل.
ثالثاً: إذا قيل: هو قابل لما في الأزل، فإنما هو قابل لما هو قادر عليه يمكن وجوده، فأما ما يكون ممتنعاً لا يدخل تحت القدرة فهذا ليس بقابل له.
رابعاً: أن يقال هو قادر على حدوث ما هو مباين له من المخلوقات، ومعلوم أن قدرة القادر على فعله القائم به أولى من قدرته على المباين له، وإذا كان الفعل لا مانع منه إلا ما يمنع مثله لوجود المقدور المباين، ثم ثبت أن المقدور المباين هو ممكن وهو قادر عليه، فالفعل أن يكون ممكناً مقدوراً أولى(123) .
الثالث: قولهم: إن قيام الحوادث به تغيّر، والله منزه عن التغير.
والجواب: أن لفظ (التغير) لفظ مجمل، فالتغير في اللغة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث، فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت إنها قد تغيرت، ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى إنه تغير، ولا يقولون إذا طاف وصلى، وأمر ونهى، وركب إنه تغير إذا كان ذلك عادته، بل إنما يقولون تغير لمن استحال من صفة إلى صفة، كالشمس إذا زال نورها ظاهراً لا يقال إنها تغيرت، فإذا اصفرت قيل: تغيرت.(106/180)
وإذا جرى أحد على عادته في أقواله وأفعاله فلا يقال إنه قد تغير، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11] ، ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة يقولون ويفعلون ما هو خير لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم، فإذا انتقلوا عن ذلك فاستبدلوا بقصد الخير قصد الشر، وباعتقاد الحق اعتقاد الباطل قيل: قد غيروا ما بأنفسهم.
وإذا كان هذا معنى التغير: فالرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال، وكماله من لوازم ذاته، فيمتنع أن يزول عنه شيء من صفات كماله، ويمتنع أن يصير ناقصاً بعد كماله (124).
الرابع: قولهم: حلول الحوادث أفول، والخليل قد قال: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76] والآفل هو المتحرك الذي تقوم به الحوادث، والخليل قد نفى محبة من تقوم به الحوادث فلا يكون إلهاً(125) .
وهذا الدليل حجة عليهم لا لهم، ذلك أن الله عزّ وجل قال: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 76 - 78] ، فقد أخبر الله في كتابه أنه حين بزغ الكوكب، والقمر، والشمس إلى حين أفولها لم يقل الخليل: لا أحب البازغين، ولا المتحركين، ولا المتحولين، ولا أحب من تقوم به الحركات ولا الحوادث.
والأفول في اللغة هو المغيب والاحتجاب(126) . وهذا باتفاق العلماء.(106/181)
ولم يقل إبراهيم: { لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } [الأنعام: 76] إلا حين أفل وغاب عن الأبصار، وهذا يقتضي أن كونه متحركاً منتقلاً وجسماً تقوم به الحوادث لم يكن دليلاً عند إبراهيم على نفي محبته، ثم إن قول إبراهيم له حين بزغ: { هَذَا رَبِّي } [الأنعام: 76، 77، 78] ولم ينف عنه الربوبية من حين بزوغه إلى حال أفوله دل ذلك على أنه لم يجعل حركته منافية لذلك، وإنما جعل المنافي الأفول، وإن كان الخليل إنما احتج بالأفول على أنه لا يصلح أن يتخذ رباً يشرك، ويدعى من دون الله، فليس فيه تعرض لأفعال الله تعالى، فقصة الخليل حجة عليهم لا لهم.
وأما قولهم: إن الأفول هو التغير: فإن أريد بالتغير الاستحالة: فالشمس والقمر والكواكب لم تستحل بالمغيب.
وإن أراد به التحرك: فهو لا يزال متحركاً، ولفظ التغير والتحرك مجمل: إن أريد به التحرك أو حلول الحوادث: فليس هو معنى التغير في اللغة، وليس الأفول هو التحرك، ولا التحرك هو التغير، بل الأفول أخص من التحرك، والتغير أخص من التحرك. وبين التغير والأفول عموم وخصوص، فقد يكون الشيء متغيراً غير آفل، وقد يكون آفلاً غير متغير، وقد يكون متحركاً غير متغير، ومتحركاً غير آفل(127) .
وبعد ذلك ذكر شيخ الإسلام أن نفي النفاة للصفات الاختيارية - التي يسمونها حلول الحوادث(128) - ليس لهم دليل عقلي عليه، وأما السمع فلا ريب أنه مملوء بما يناقض هذا القول. وقد احتال متأخروهم حين لم يكن معهم حجة عقلية ولا سمعية، فاحتجوا بما يسمونه بحجة الكمال والنقصان وهي: أن الصفات إن كانت صفات نقص وجب تنزيه الرب عنها، وإن كانت صفات كمال فقد كان فاقداً لها قبل حدوثها، وعدم الكمال نقص، فيلزم أن يكون كان ناقصاً، وتنزيهه عن النقص واجب بالإجماع (129).
وهذه الحجة فاسدة من وجوه:(106/182)
أحدها: لا نسلم أن عدم هذه الأمور قبل وجودها نقص، بل لو وجدت قبل وجودها لكان نقصاً، مثال ذلك: تكليم الله لموسى عليه السلام ونداؤه له، فنداؤه حين ناداه صفة كمال، ولو ناداه قبل أن يجيء لكان ذلك نقصاً، فكل منها كمال حين وجوده، ليس بكمال قبل وجوده.
الثاني: لا نسلم أن عدم ذلك نقص، فإن ما كان حادثاً امتنع أن يكون قديماً، وما كان ممتنعاً لم يكن عدمه نقصاً، إنما النقص فوات ما يمكن من صفات الكمال.
الثالث: أن هذا يرد في كل ما فعله الرب وخلقه فيقال: إن كان نقصاً فقد اتصف بالنقص، وإن كان كمالاً فقد كان فاقداً له.
فإن قال المخالف: صفات الأفعال عندنا ليست بنقص ولا كمال.
قيل: إذا قلتم ذلك أمكن المنازع أن يقول: هذه الحوادث ليست بنقص ولا كمال.
الرابع: أن يقال: إذا عُرض على العقل الصريح ذاتٌ يمكنها أن تتكلم بقدرتها وتفعل ما تشاء بنفسها، وذات لا يمكنها أن تتكلم بمشيئتها ولا تتصرف بنفسها ألبتة بل هي بمنزلة العاجز الذي لا يمكنه فعل يقوم به باختياره: فإن العقل الصريح يقضي بأن هذه الذات أكمل، وحينئذٍ فأنتم الذين وصفتم الرب بصفة النقص. والكمال باتصافه بهذه الصفات، لا في نفي اتصافه بها.
الخامس: أن يقال: الحوادث التي يمتنع كون كل منها أزلياً، ولا يمكن وجودها إلا شيئاً فشيئاً إذا قيل: أيهما أكمل: أن يقدر على فعلها شيئاً فشيئاً أو لا يقدر على ذلك؟، كان معلوماً بصريح العقل أن القادر على فعلها شيئاً فشيئاً أكمل ممن لا يقدر على ذلك، وهم يقولون: إن الرب لا يقدر على شيء من هذه الأمور، ويقولون: إنه يقدر على أمور مباينة له(130) .
المبحث الثالث
شرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه(106/183)
حدّث عمران بن حصين(131) رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناسٌ من بني تميم، فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا (مرتين)، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر، فقال: كان الله ولم يكن شيء قبله، وفي لفظ (غيره) وفي لفظ (معه) وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض، وفي لفظ: ثم خلق السماوات والأرض، فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا ابن حصين، فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب، فوالله لوددت أني كنت تركتها) (132).
قوله عليه الصلاة والسلام: اقبلوا البشرى: المراد بهذه البشارة أن من أسلم نجا من الخلود في النار، فبشرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما يقتضي دخول الجنة.
قالوا: بشرتنا فأعطنا في هذا دليل إسلامهم حيث بشرهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لكنهم طلبوا العاجل من أمر الدنيا على التفقه في الدين وطلب الآخرة، فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذكر الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله في الفتح سبب غضب الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: (سبب غضبه صلّى الله عليه وسلّم استشعاره بقلة علمهم لكونهم علقوا آمالهم بعاجل الدنيا الفانية، وقدموا ذلك على التفقه في الدين الذي يحصل لهم ثواب الآخرة الباقية)(133) ولذلك كان هذا الإقبال على الدنيا بمنزلة عدم قبول البشرى حيث قال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: إذ لم يقبلها بنو تميم.
ويؤخذ من هذا أنه يجب قبول ما جاء عن الله عزّ وجل أو عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بدون توقف أو استفسار أو طلب للعلة، بيان ذلك من الحديث أن قول بني تميم: قد بشرتنا فأعطنا لا يدل ظاهره على أنهم لم يقبلوها، ومع ذلك جعل طلبهم للعاجل بمنزلة عدم قبول البشرى(134) .(106/184)
قولهم: نسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ المراد بالأمر هنا: الشيء المشاهد الموجود وهو خلق السماوات والأرض وما بينهما على الصحيح، فالسؤال عن بدء الخلق المشاهد المعهود بـ(أل) العهدية (الأمر).
والأمر يطلق ويراد به المأمور المفعول، ويراد به المصدر والشأن والحكم، والمراد بالأمر في هذا الحديث المعنى الأول(135) .
قوله: كان الله ولم يكن شيء قبله وفي رواية (غيره) وفي رواية (معه):
الحديث روي بهذه الألفاظ الثلاثة فلفظ قبله ولفظ غيره وردا في البخاري، وأما لفظة (معه) فقد بين شيخ الإسلام أن هذه اللفظة ثابتة في الصحيح لكنها ليست في صحيح البخاري(136) ولما كانت الألفاظ المروية ثلاثة، وكانت القصة متحدة بمجلس واحد، وسؤالهم وجوابه كان في المجلس نفسه دل على أن لفظة واحدة هي التي قالها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأن لفظتين وقعتا بالمعنى. والراجح أن لفظة (قبله) هي التي قالها الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأمور:
الأول: أن أكثر أهل الحديث يروون هذا الحديث بلفظة قبله فيروونه: كان الله ولم يكن شيء قبله. وكثرة رواية الحفاظ والأئمة لهذه اللفظة مرجح لها على غيرها.
الثاني: أن لفظ (القبل) هو الموافق للنصوص الأخرى مثل قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم في دعائه: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)(137) .(106/185)
قوله: كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء: هذه الجمل الثلاث ورد الوصل بينها بالواو، ثم جاءت الجملة الرابعة موصولة بما قبلها بثم وهي (ثم خلق السماوات والأرض)، وهذا يدل على أن الحديث ليس مقصوده بيان أول المخلوقات؛ لأن الواو لا تفيد الترتيب على الصحيح. لكن المقصود هو إجابة أهل اليمن عن أول خلق السماوات والأرض، فجاء بثم التي تفيد الترتيب والتراخي ليبين أن خلق السماوات والأرض لم يكن هو أول مخلوقات الله، فقد سبقه مخلوقات لله سبحانه وتعالى والله أعلم(138) .
وقوله: كان الله: أي فيما مضى من الزمان وهي تنبئ - هنا - عن الأزلية، والأزل ليس وقتاً بعينه مثل قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 40] .
وقوله: وكان عرشه على الماء معناه: أنه خلق الماء سابقاً ثم خلق العرش على الماء، فوقت خلق السماوات والأرض كان عرشه على الماء، وتبين الأحاديث الأخرى أن القلم خلق بعد العرش، ثم خلق السماوات والأرض وما فيهن(139) ، ومطلق قوله: (وكان عرشه على الماء) يقيد بقوله: (ولم يكن شيء قبله) والمراد بكان في الأول: الأزلية، وفي الثاني: الحدوث بعد العدم(140) .
قوله: كتب في الذكر: يعني اللوح المحفوظ كما قال سبحانه: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } [الأنبياء: 105] أي من بعد اللوح المحفوظ(140) .
وأضيفت الكتابة إلى الله تعالى، ولا يلزم أنه - سبحانه - هو الذي يباشر الكتابة بنفسه بل يجوز أن يأمر بذلك ما يشاء، ودليل ذلك حديث عبادة بن الصامت (ت - 34هـ) رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة»(141) فالمأمور بالكتابة في هذا الحديث هو القلم وهو من مخلوقات الله .(106/186)
ولفظة (كل شيء) أي: من الكائنات، وهي تعم كل موضع بحسب ما سيقت له، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الرعد: 16] وقوله: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } [الأحقاف: 25] ، وقوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } [النمل: 23] .
قوله: فإذا هي يُقطع دونها السراب: أي يحول بيني وبينها السراب، والسراب هو: ما يُرى نهاراً في الفلاة كأنه ماء(142) ، وهذا كناية عن بُعدها.
قوله: فوالله لوددت أني كنت تركتها: وفي رواية (لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم). قال ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله (الود المذكور تسلط على مجموع ذهابها وعدم قيامه لا على أحدهما فقط؛ لأن ذهابها كان قد تحقق بانفلاتها، والمراد بالذهاب: الفقد الكلي)(143) .
فكانت رغبته في بقائه في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعلم العلم والإيمان، ولا يفوته آخر الحديث، فهو تأسف على أنه قد فاته آخر حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي هذا بيان حرص الصحابة - رضوان الله عليهم - على تحصيل العلم، والبحث عن الخير.(106/187)
وقد بحث ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله عن تتمة الحديث التي تأسف عليها عمران بن حصين (ت - 52هـ) رضي الله عنه فقال: (وقد كنت كثير التطلب لتحصيل ما ظن عمران أنه فاته من هذه القصة إلى أن وقفت على قصة نافع بن زيد الحميري(144) فقوي في ظني أنه لم يفته شيء من هذه القصة بخصوصها، لخلو قصة نافع بن زيد رضي الله عنه عن قدر زائد على حديث عمران) (145) وقد نبه ابن تيمية رحمه الله إلى أن بعض الناس يزيد في آخر الحديث قوله: (وهو الآن على ما عليه كان) وينسبون هذه الجملة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبين أن هذا كذب مفترى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن هذه الزيادة كذب موضوع مختلق، وليس هو في شيء من دواوين الحديث، لا كبارها ولا صغارها، ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد لا صحيح ولا ضعيف، ولا بإسناد مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة بعض متأخري الجهمية، فتلقاها منهم أهل وحدة الوجود الذين يقولون: وجوده عين وجود المخلوقات(246).
وصلة حديث عمران بن حصين (ت - 52هـ) رضي الله عنه بموضوع إمكان حوادث لا أول لها: أن المتكلمين الذين يرون امتناع دوام الحوادث في الماضي استدلوا بهذا الحديث ظناً منهم أن سؤال أهل اليمن وجواب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهم إنما كان عن بدء المخلوقات كلها، لا عن بدء خلق السماوات والأرض، فمقصود الحديث عندهم هو إخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن الله كان موجوداً وحده، معطلاً عن الفعل، غير قادر عليه، ثم إنه ابتدأ إحداث جميع أنواع الحوادث، وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان بلا سبب، وصار قادراً بعد أن لم يكن بلا سبب(147) .(106/188)
والذي عليه سلف الأمة ومن وافقهم أن مراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو الإخبار عن خلق الله لهذا العالم المشهود الذي خلقه في ستة أيام ثم استوى على العرش، كما قال عزّ وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3] .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص (ت - 65هـ) رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء»(148) ، فأخبر عن تقدير خلق هذا العالم، وأنه قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.
وقد ناقش ابن تيمية رحمه الله المخالفين الذين يرون أن المقصود في حديث عمران رضي الله عنه (ت - 52هـ) هو الإخبار عن أول المخلوقات مطلقاً بأجوبة عديدة منها:
1 - أن قول أهل اليمن: (جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر) إما أن يكون الأمر المشار إليه هذا العالم، أو جنس المخلوقات.
فإن كان المراد: خلق العالم المشاهد فيكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أجابهم؛ لأنه أخبرهم عن أول خلق هذا العالم.
وإن كان المراد بالأمر جنس المخلوقات، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجبهم في الحديث؛ ذلك أنه لم يذكر أول الخلق مطلقاً. بل قال: (كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض) فلم يذكر إلا خلق السماوات والأرض، وإذا كان قد أجابهم عن خلق السماوات والأرض ولم يجبهم عن أول الخلق مطلقاً علم أنهم سألوه عما أجابهم. والرسول صلّى الله عليه وسلّم منزه عن أن يجيبهم عما لم يسألوه، ويترك إجابة ما سألوه عنه.(106/189)
2 - أن قولهم: (هذا الأمر) الإشارة إلى الحاضر المشهود، ولو سألوه عن أول الخلق مطلقاً لما أشاروا إليه بهذا، فإن ذاك لم يشهدوه، فلا يشيرون إليه بهذا، بل لم يعلموه أيضاً، فإن ذاك لا يعلم إلا بخبر الأنبياء، والرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يخبرهم بذلك، فلو كان أخبرهم به لما سألوه عنه، فعلم أن سؤالهم كان عن أول هذا العالم المشهود.
3 - أن الثابت عن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله) - كما سبق بيانه - وإذا كان إنما قال هذا اللفظ: فلم يكن فيه تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق.
4 - أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض» . فلم يذكر في الجمل الثلاث الأول ترتيباً، لكنه رتب الجملة الرابعة بـ(ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي على ما قبلها من الجمل.
وعليه: فلا يفيد الحديث بيان أول المخلوقات مطلقاً، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء، وإن كان ذلك كله مخلوقاً، لكن القصد هو إخبار أهل اليمن عن بدء خلق السماوات والأرض وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا ابتداء ما خلقه الله قبل ذلك.
5 - أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حين أخبر عن العرش والماء والكتابة: أخبر عن كونها ووجودها، ولم يتعرض لابتداء خلقها، ولما ذكر السماوات والأرض أخبر بما يدل على خلقها، وسواء أكان قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (وخلق السماوات والأرض) أم (ثم خلق السماوات والأرض) فعلى التقديرين يكون قد أخبر بخلقهما، فلم يكن المقصود الإخبار بخلق العرش ولا الماء، فضلاً عن أن يقصد أن خلق ذلك كان مقارناً لخلق السماوات والأرض.(106/190)
6 - أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لو كان قال: (ولم يكن شيء معه) فليس فيه ما يدل على ذكر أول المخلوقات وترتيبها، بل المقصود: أنه لا شيء معه من هذا الأمر المسؤول عنه، وهم سألوه عن أول الأمر، وسياق الحديث يدل على أنه أخبرهم بأول هذا العالم الذي خلق في ستة أيام، ولم يخبرهم بما قبل ذلك (149).
7 - أن كثيراً من الناس يجعلون هذا الحديث عمدتهم من جهة السمع في أن الحوادث لها ابتداء وأن جنس الحوادث مسبوق بالعدم، إذ لم يجدوا في الكتاب والسنة ما ينطق به، وجعلوا هذا معنى حدوث العالم الذي هو أول مسائل أصول الدين عندهم، فيبقى أصل الدين الذي هو دين الرسل عندهم، ليس عندهم ما يعلمون به أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قاله، ولا في العقل ما يدل عليه، بل العقل والسمع يدل على خلافه.
ومن كان أصل دينه الذي هو عنده دين الله ورسوله لا يعلم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جاء به كان من أضل الناس في دينه.
8 - أن المتكلمين لما اعتقدوا أن هذا هو دين الإسلام أخذوا يحتجون عليه بالحجج العقلية المعروفة لهم.
وعمدتهم التي هي أعظم الحجج مبناها على امتناع حوادث لا أول لها، وبها أثبتوا حدوث كل موصوف بصفة، وسموا ذلك إثباتاً لحدوث الأجسام. فلزمهم على ذلك نفي صفات الرب عزّ وجل وأن الله لا يرى في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، وكان حقيقة قولهم تكذيباً لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتسلط أهل العقول من الفلاسفة وغيرهم على تلك الحجج التي لهم فبينوا فسادها.(106/191)
9 - أن الغلط في فهم معنى هذا الحديث سببه عدم المعرفة بنصوص الكتاب والسنة، بل والمعقول الصريح، فإنه أوقع كثيراً من المتكلمين وأتباعهم في الحيرة والضلال، فإنهم لم يعرفوا إلا قولين: قول الدهرية(150) القائلين بالقدم، وقول الجهمية القائلين بأنه: لم يزل معطلاً عن أن يفعل أو يتكلم بقدرته ومشيئته، ورأوا لوازم كل قول تقتضي فساده وتناقضه، فبقوا حائرين مرتابين جاهلين، وهذه حال من لا يحصى منهم، نسأل الله السلامة.
10 - أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لدعوة الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له، وذلك يتضمن معرفته لما أبدعه من مخلوقاته، وهي المخلوقات المشهورة الموجودة من السماوات والأرض وما بينهما، فأخبر في الكتاب الذي لم يأت من عنده كتاب أهدى منه بأنه خلق أصول هذه المخلوقات الموجودة المشهودة في ستة أيام ثم استوى على العرش، فهذا إخبار عن العالم الموجود وابتداء خلقه، وأما ما خلقه قبل ذلك شيئاً بعد شيء فهذا بمنزلة ما سيخلقه بعد قيام القيامة، ودخول أهل الجنة وأهل النار منازلهما، وهذا مما لا سبيل للعباد إلى معرفته تفصيلاً.
11 - أن الإقرار بأن الله لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء هو وصف الكمال الذي يليق به - سبحانه - وما سوى ذلك نقص يجب أن ينزه عنه، فإن كونه لم يكن قادراً ثم صار قادراً على الفعل فإنه يقتضي أنه كان ناقصاً فاقداً صفة القدرة التي هي من لوازم ذاته وهذا ممتنع: فإنه إذا لم يكن قادراً ثم صار قادراً فلا بد من أمر جعله قادراً بعد أن لم يكن، فإذا لم يكن هناك إلا العدم المحض امتنع أن يصير قادراً بعد أن لم يكن، وكذلك يمتنع أن يصير عالماً بعد أن لم يكن قبل هذا.
بخلاف الإنسان فإنه كان غير عالم وغير قادر ثم صار عالماً قادراً (151).
وقد ناقش الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله الجهمية بقوله:(106/192)
(ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم، حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق الله لهم كلاماً، وقد جمعتم بين كفر وتشبيه، وتعالى الله عن هذه الصفة.
بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إنه كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم، حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول: إنه كان ولا قدرة له، حتى خلق لنفسه القدرة، ولا نقول: إنه كان ولا نور له، حتى خلق لنفسه نوراً، ولا نقول: إنه كان ولا عظمة له، حتى خلق لنفسه عظمة.
فقالت الجهمية - لما وصفنا الله بهذه الصفات -: إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى، حين زعموا أن الله لم يزل ونوره، ولم يزل وقدرته.
قلنا: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته، ونوره، لا متى قدر ولا كيف.
فقالوا: لا تكونوا موحدين أبداً حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء.
فقلنا: نحن نقول: قد كان الله ولا شيء، ولكنا إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهاً واحداً بجميع صفاته؟)(152) .
ثم ضرب للجهمية مثلاً بالنخلة لها جذع، وكرب، وليف، وسعف، وخوص، وجمّار، واسمها اسم شيء واحد، سميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله - وله المثل الأعلى بجميع صفاته - إله واحد.
وقال الإمام الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله:
(والله - تعالى وتقدس اسمه - كل أسمائه سواء. لم يزل كذلك، ولا يزال، لم تحدث له صفة، ولا اسم لم يكن كذلك، كان خالقاً قبل المخلوقين، ورازقاً قبل المرزوقين، وعالماً قبل المعلومين، وسميعاً قبل أن يسمع أصوات المخلوقين، وبصيراً قبل أن يرى أعيانهم مخلوقة)(153) .
والنفاة يزعمون أن الفعل ممتنع في الأزل، والأزل ليس شيئاً محدوداً يقف عنده العقل، بل ما من غاية ينتهي إليها تقدير الفعل إلا والأزل قبل ذلك بلا غاية محدودة.(106/193)
ويضرب ابن تيمية رحمه الله مثلاً لذلك بأنه لو فرض وجود مدائن أضعاف مدائن الأرض، في كل مدينة من الخردل ما يملؤها، وقدر أنه كلما مضت ألف ألف سنة فنيت خردلة: فني الخردل كله، والأزل لم ينته (154).
فما من وقت يقدر إلا والأزل قبل ذلك؛ لأن الأزل يعني عدم الأولية، فهو ليس شيئاً محدوداً (155).
وما من وقت صدر فيه الفعل بالنسبة إلى الله عزّ وجل إلا وقد كان قبل ذلك ممكناً وإذا كان ممكناً فما الموجب لتخصيص حال الفعل بالخلق دون ما قبل ذلك فيما لا يتناهى؟ (156) .
وبهذا يتضح أن المراد في حديث عمران (ت - 52هـ) رضي الله عنه هو الإخبار عن حدوث العالم المشهود الموجود؛ ولذا فإن أهل السنة يجعلون هذا الحديث من أدلتهم على حدوث العالم، ولهم أدلة أخرى نقلية، وعقلية متعددة:
أما الأدلة النقلية فمنها:
قوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}[هود: 7].
وقال - سبحانه -: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 11، 12] .
والذي عليه سلف الأمة وأئمتها مع أهل الكتاب أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله وهي الدخان والبخار، وقد كان قبل خلق السماوات مخلوقات كالعرش والماء.
وقال الله -سبحانه-:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ }[الروم:33] .(106/194)
وقال: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف: 33] .
وقال: { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} [يس: 81].
وأما الأحاديث فمنها قوله صلّى الله عليه وسلّم في خطبته عام حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» (157) .
وثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص (ت - 65هـ) رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء»(158) .
إضافة إلى حديث عمران بن حصين (ت - 52هـ) رضي الله عنه وحديث القلم الذي مر ذكرهما قبل قليل.
وأما الأدلة العقلية لإثبات حدوث العالم عند أهل السنة فيمكن أن نذكر بعضاً منها:
1 - أن يقال: إن كان حدوث الحوادث بلا سبب حادث جائزاً: أمكن حدوث العالم، وبطل القول بوجوب قدمه.
وإن كان ممتنعاً بطل القول بقدمه لامتناع حدوث الحوادث عن الموجب الأزلي، وبعبارة أخرى: إن كان تسلسل الحوادث ممتنعاً لزم حدوث العالم، وإن كان ممكناً أمكن حدوث كل شيء منه بحادث قبله (159).
2 - أن يقال: إن العالم لو كان قديماً: لكان إما واجباً بنفسه وهذا باطل، فكل جزء من أجزاء العالم مفتقر إلى غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه.
وإما واجباً بغيره: فيكون المقتضي له موجباً بذاته، بمعنى: أنه مستلزم لمقتضاه، سواء كان شاعراً مريداً أم لم يكن، فإن القديم الأزلي إذا قُدِّر أنه معلول مفعول فلا بد له من علة تامة مقتضية له في الأزل، وهذا هو الموجب بذاته.(106/195)
ولو كان مبدعه موجباً بذاته علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله ومقتضاه. والحوادث مشهودة في العالم:فعلم أن فاعله ليس علة تامة، وإذا لم يكن علة تامة لم يكن قديماً.(160)
3 - أن العالم ممكن الوجود، والممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثاً، وأما القديم الذي يمتنع عدمه فلا يقبل العدم(161) .
4 - أن العالم إذا كان تحله الحوادث من غيره دل على أن غيره متصرف فيه قاهر له تحدث فيه الحوادث ولا يمكنه دفعها عن نفسه.
وما كان مقهوراً مع غيره لم يكن موجوداً بنفسه، ولا مستغنياً بنفسه، ولا عزيزاً ولا مستقلاً بنفسه، وما كان كذلك لم يكن إلا مصنوعاً مربوباً فيكون محدثاً (162).
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله إجماع أهل الملل والأديان على أن كل ما سوى الله فهو مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن (163) .
وذكر أنه قد استقر في فطر الناس أن السماوات مخلوقة مفعولة، وقد أحدثها خالقها بعد أن لم تكن، ولم يخطر بالفطر السليمة أن السماوات والأرض قد خلقتا مع الله أزلاً (164).
وأما المتكلمون فلهم طرق متعددة في إثبات حدوث العالم(165) . إلا أن أقواها عندهم هو دليل حدوث الأجسام، وهو ما سأذكره وأناقشه بشيء من الاختصار - بعد قليل -؛ ذلك أن الأدلة الأخرى قد زيفها أكثر متأخريهم وعقلائهم.
ومما له صلة بحدوث العالم عند المتكلمين مسألة (الجوهر الفرد) التي خاضوا فيها كثيراً في كتبهم المتقدمة، وفي دراساتهم المتأخرة؛ ذلك أن إثبات الجوهر الفرد مرتبط بالقول بتناهي الأجسام، فهو يؤيد قولهم بحدوث العالم حين يردون على الفلاسفة، إذ هذا المصطلح مقابل مصطلح الهيولي والصورة(166) عند الفلاسفة.
وتأتي فكرة الجوهر الفرد في مقابل ما ذهب إليه النظام(167) من القول بإمكان تجزؤ الأجسام إلى ما لا نهاية، مما يؤدي إلى تقرير القول بقدم العالم(168) .(106/196)
فعلى مذهب المتكلمين أن الله أزلي قديم، وأن العالم مكون من جواهر وأعراض حادثة، وكل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، ولا بد لهذه الجواهر والأعراض من محدث، وهو الله، والله يخلق هذه الأجزاء، ثم تفنى، ويعيد خلقها... (169).
والجوهر الفرد هو المتحيز الذي لا ينقسم، والجزء الذي لا يتجزأ (170).
والجوهر الفرد أصوله يونانية، وأول من قال به من الإسلاميين أبو الهذيل العلاف (ت - 235هـ) من المعتزلة.
والكلام في الجوهر الفرد مقدماته طويلة، وهي من الكلام المذموم شرعاً، حتى حذّاق النظار، وأذكياء الطوائف حار كثير منهم في مسألة الجوهر الفرد، فتوقفوا فيها تارة، وجزموا أخرى (171).
وإثبات حدوث العالم عن طريق الجوهر الفرد لا حاجة لنا به، ويتضح ذلك من أمور:
1 - أن العلم بحدوث ما يحدث، والاستدلال على ثبوت الصانع ليس مفتقراً إلى أن يُعلم: هل في النطفة جواهر منفردة أو مادة؟ وهل ذلك قديم أو حادث؟. بل مجرد حدوث ما شُهد حدوثه يدل على أن له مُحدثاً، كما يدل حدوث سائر الحوادث على أن لها محدثاً.
2 - أن الشك في حدوث الحيوان والنبات - عندهم - مبني على كونها من الجواهر المفردة أو المادة والصورة، وإمكان قدم الجواهر المفردة أو المادة. ومعلوم أن هذا لو كان صحيحاً، لكان من الدقيق الذي يحتاج إلى بيان، وهم لم يثبتوا ذلك، فذلك موضع اضطراب بين المتكلمين والفلاسفة.
3 - أن حدوث ما يشهد حدوثه من الثمار والزروع والحيوان وغير ذلك أمر مشهود، فإن الإنسان إذا تأمل في خلق الله، وما يخرجه الله من الأرض من الزروع، وما يخرجه من الحيوان من النطفة والبيض أيقن بحدوث هذه الأعيان(172) .
ويبين شيخ الإسلام رحمه الله أن القول بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة قول لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين، لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من بعدهم من الأئمة المعروفين (173) .(106/197)
وذكر مضمون كلام القائلين بالجوهر الفرد وهو: (أن الله لم يخلق منذ خلق الجواهر المفردة شيئاً قائماً بنفسه، لا سماءً، ولا أرضاً، ولا حيواناً، ولا نباتاً، بل إنما يحدث تركيب تلك الجواهر القديمة فيجمعها ويفرقها، والحوادث المتتابعة أعراض قائمة بتلك الجواهر، لا أعيان قائمة بنفسها)(174) ، وقال بعد ذلك: إن (هذا خلاف ما دل عليه السمع والعقل والعيان، ووجود جواهر لا تقبل القسمة منفردة عن الأجسام مما يعلم بطلانه بالعقل والحس، فضلاً عن أن يكون الله تعالى لم يخلق عيناً قائمة بنفسها إلا ذلك)(175) .
وذكر رحمه الله جانباً آخر من جوانب إثبات المتكلمين للجوهر الفرد وهو أن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض، بل الجواهر التي كانت مثلاً في الأول، هي بعينها باقية في الثاني، وإنما تغيرت أعراضها، وقال بعد ذلك: (هذا خلاف ما أجمع عليه العلماء - أئمة الدين وغيرهم من العقلاء - من استحالة بعض الأجسام إلى بعض، كاستحالة الإنسان وغيره من الحيوان بالموت تراباً، واستحالة الدم والميتة والخنزير وغيرها من الأجسام النجسة ملحاً أو رماداً، واستحالة العذرات تراباً، واستحالة العصير خمراً، ثم استحالة الخمر خلاً، واستحالة ما يأكله الإنسان ويشربه بولاً ودماً وغائطاً ونحو ذلك) (176).
إن الأجسام إذا صغرت أجزاؤها فإنها تستحيل كما هو موجود في أجزاء الماء إذا تصغّر فإنه يستحيل هواء، فلا يبقى موجود ممتنع من القسمة، بل يقبل القسمة إلى حد ثم يستحيل إذا كان صغيراً، وليس استحالة الأجسام في صغرها محدوداً بحد واحد، بل قد يستحيل الصغير، وله قدر يقبل نوعاً من القسمة، وغيره لا يستحيل حتى يكون أصغر منه(177) .
ودليل حدوث الأجسام عند المتكلمين يقوم على أربع دعاوى:
أ - إثبات الأعراض.
ب - إثبات حدوث الأعراض.
ج - استحالة تعري الأجسام عن الأعراض.(106/198)
د - ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، لاستحالة حوادث لا أول لها، أو: كل ما لا يخلو من الحوادث وهو لا يسبقها فهو إذاً حادث (178).
ويمكن أن يجاب عن دليل حدوث الأجسام عند المتكلمين بأجوبة عديدة منها:
1 - أن الاستدلال بحدوث الأعراض ليس من أصول الدين، ولم يثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا الناس إلى الالتزام بها؛ لذا ذم سلف الأمة وأئمتهم الاستدلال به وبغيره مما لم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم أعرضوا عنه لطول مقدماته، وللخوف على سالكيه من الشك والارتياب(179) .
2 - أن العقل يعلم بطلان هذا الدليل: يقول ابن تيمية رحمه الله: (انظر في هذا الأصل الذي اتبع فيه متأخروهم لمتقدميهم من إثباتهم حدوث العالم والأجسام بهذه الطريق: هل هي طريقة صحيحة في العقل أم لا؟ وهل هي موافقة للشرع أم لا؟ فاعرضها على الكتاب والميزان، فإن الله تعالى يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد: 25] ، فأعرض عما يذكرونه(180) بما ثبت من كتاب الله وسنة رسوله، وما ثبت عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين.
وزنه أيضاً بالميزان الصحيحة العادلة العقلية، واستعن على ذلك بما يذكره كل من النظار في هذه الطريقة وأمثالها، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، ولا تتبع الظن فإنه لا يغني من الحق شيئاً)(181) .
3 - أنه يلزم من هذا الدليل لوازم فاسدة كنفي الصفات عن الله عزّ وجل مطلقاً، أو نفي بعضها، والقول بخلق القرآن، وإنكار العلو، ونفي القدرة على الفعل قبل بدء الخلق - على مذهبهم - والترجيح بلا مرجح وغيرها، وكل هذا خلاف الكتاب والسنة(182) .(106/199)
4 - أن إثبات المتكلمين حدوث العالم من طريق حدوث الأجسام هو سبب تسلط الفلاسفة عليهم، فحين استدل المتكلمون بالأدلة السمعية والعقلية استدلالاً خاطئاً، تسلط عليهم الفلاسفة لما ظن الفلاسفة أنه ليس في إثبات حدوث العالم أو قدمه إلا قولان: قول المتكلمين، وقولهم، وقد رأوا أن قول المتكلمين باطل، فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم، وظنوا أنهم إذا قدحوا في أدلة المتكلمين يكونون قد قدحوا في أدلة الشرع، فالمتكلمون - كما يقول شيخ الإسلام عنهم -: لا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، بل سلطوا الفلاسفة عليهم، وعلى الإسلام (183).
5 - أن المتكلمين المقرين بهذا الدليل قد اختلفوا في كثير من جزئياته وتفاصيله، فالبعض يقر ببعض المقدمات، والبعض يرد على هذه المقدمات التي يترتب بعضها على بعض .(184)
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن طريقة إثبات الصانع التي لا تكون إلا بإثبات حدوث العالم، ولا يكون إثبات حدوث العالم إلا بإثبات حدوث الأجسام هي أساس الكلام الذي اشتهر ذم السلف والأئمة له.
والذامون لهذه الطريقة نوعان:(106/200)
منهم من يذمها؛ لأنها بدعة في الإسلام، فإنا نعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يدع الناس بها ولا الصحابة؛ لأنها طويلة مخطرة كثيرة الممانعات والمعارضات، فصار السالك فيها كراكب البحر عند هيجانه، وهذه طريقة الأشعري (ت - 324هـ) في ذمه لها، فبعد أن بين أن طريقة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أوضح من طريقة المتكلمين، بيّن رحمه الله بعض أوجه القصور في دليل المتكلمين إذ يقول عن طريقة المتكلمين إنه: (لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها، ويدق الكلام عليها، فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها، والمعرفة بفساد شبه المنكرين لها... وليس يحتاج - أرشدكم الله - في الاستدلال بخبر الرسول عليه الصلاة والسلام على ما ذكرناه من المعرفة بالأمر الغائب عن حواسنا إلى مثل ذلك؛ لأن آياته، والأدلة على صدقه محسوسة مشاهدة، قد أزعجت القلوب، وبعثت الخواطر على النظر في صحة ما يدعو إليه)(185) .
وإن كان الأشعري (ت - 324هـ) والخطابي(186) ، والغزالي(187) وغيرهم لا يفصحون ببطلانها.
ومنهم من ذمها؛ لأنها مشتملة على مقدمات باطلة لا تحصل المقصود بل تناقضه(188) .
المبحث الثاني
دعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لها
يستلزم القول بقدم العالم ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لها يستلزم القول بقدم العالم
ادعى المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه يقول بقدم العالم بناء على قوله رحمه الله بإمكان حوادث لا أول لها، ظناً منهم أنه ليس في المسألة إلا قولان: قول المتكلمين الذين يرون امتناع حوادث لا أول لها رداً على القائلين بقدم العالم، وقول الفلاسفة الذين يرون قدم العالم، فقال أبو بكر الحصني (ت - 829هـ) في رده على ابن تيمية رحمه الله (مبحث الرد عليه في القول بقدم العالم) (189) .
وقال آخر عن ابن تيمية رحمه الله: (أنه أثبت قدم الزمان) (190).(106/201)
ويدّعون أن ابن تيمية رحمه الله هو أوّل من قال بإمكان حوادث لا أول لها، كما يقول علي السبكي (ت - 756هـ) : (هذا هو الذي ابتدعه ابن تيمية والتزم به حوادث لا أول لها)(191) . وحين يجدون ابن تيمية رحمه الله يستدل بأقوال السلف، يبدأون بالإجابة عن هذه النصوص واحداً تلو الآخر، ولا يجدون لها مخرجاً، إلا أن يقولوا عن الإمام الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله إنه كان فيما سبق لا يخوض في صفات الله - سبحانه - ويصفون هذه بطريقة السلف، ثم انخدع بالكرامية، وأصبح مجسماً مختل العقل عند تأليفه النقض (192) .
ويزعم المناوئون أن ابن تيمية رحمه الله قد استفاد هذا القول من الفلاسفة، وبالأخص من متأخريهم، قال أحدهم: (اتفقت فرق المسلمين - سوى الكرامية وصنوف المجسمة - على أن الله - سبحانه - منزه من أن تقوم به الحوادث، وأن تحل به الحوادث، وأن يحل في شيء من الحوادث، بل ذلك مما علم من الدين بالضرورة، ودعوى أن الله لم يزل فاعلاً متابعة منه للفلاسفة القائلين بسلب الاختيار عن الله - سبحانه -) (193).
وقال آخر: (ابن تيمية قد أخذ هذه المسألة - أعني قوله بقدم نوع العالم - عن متأخري الفلاسفة؛ لأنه اشتغل بالفلسفة)(194) .
وانتقدوا عليه رحمه الله قوله بقدم النوع، وحدوث الأفراد فقالوا: إنه يقول بـ(القدم النوعي في الكلام، مع أنه لا وجود للكلي إلا في ضمن الأفراد، فلا معنى لوصف النوع بالقدم، بعد الاعتراف بحدوث كل فرد من أفراده) (195).
وقال: (عدم فناء النوع في الأزل بمعنى قدمه، وأين قدم النوع من حدوث أفراده؟ وهذا لا يصدر إلا ممن به مس بخلاف المستقبل) (196).
ويقولون: إنه يرى أن جنس الحوادث أزلي كما أن الله أزلي، أي لم يسبق الله - تعالى – بالوجود (197) .
ولذلك قالوا عنه بأنه يقول بالقدم الجنسي للعرش، أي أن الله لا يزال يعدم عرشاً ويحدث آخر من الأزل إلى الأبد حتى يكون له الاستواء أزلاً وأبداً (198).(106/202)
قال علي السبكي (ت - 756هـ) في ابن تيمية رحمه الله:
يرى حوادث لا مبدا لأولها ***في الله - سبحانه - عما يظن به(199)
وقد قال ابن حجر العسقلاني (ت - 852هـ) عن مسألة إمكان حوادث لا أول لها: (وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية)(200) .
وتتلخص الدعاوى في الآتي:
1 - استشناع القول بإمكان حوادث لا أول لها، وأنه أول من قال بهذا القول.
2 - رد القول بالقدم النوعي، وحدوث الأفراد، وهذه تابعة للتي قبلها.
3 - قولهم بأنه يرى قدم جنس العرش، وهذه تابعة للتي قبلها.
4 - قولهم بأنه موافق للفلاسفة في هذا القول(201) .
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
الدعاوى الباطلة التي تثار إما أن تكون كذباً من أصلها، بحيث لا يكون في كلام المدعى عليه شيء منها أصلاً، فالإجابة عن هذا سهلة، وهي بأن يقال له: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] .
وإما أن يكون في كلام المدعى عليه شيء من الدعوى، وأصل لها، لكن يدخل في ذلك:
إما اختلاف المعتقد بين صاحب الدعوى، وبين المدعى عليه، وإما سوء القصد من صاحب الدعوى، وإما سوء الفهم والجهل بقضية الدعوى، وقد تأتي إحدى هذه الاحتمالات منفردة، وقد تكون مجتمعة - أحياناً - وقد وقعت هذه الاحتمالات في هذه الدعوى على ابن تيمية رحمه الله.(106/203)
فأما استشناع المخالفين لابن تيمية رحمه الله قول ابن تيمية بإمكان حوادث لا أول لها فإنما هو استشناع مذهب السلف الذي أقروا به وقرروه في كتبهم، وهذا ما قرره البحث في هذا الفصل بكل تفاصيله وتشعباته، فلسنا في حاجة إلى إعادة الكلام عنها، إذ بيّن البحث قول السلف في التسلسل وأنه يجوز في الماضي والمستقبل، وأن الله يفعل ما يشاء كما اتضح من كلام الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله، والإمام الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله، وإنما كان بسط شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسائل أكثر ممن قبله؛ لكثرة المخالفة، ولاشتباه الحق بالباطل عند كثير من الناس(202) .
ويمكن بيان ما قرره ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة إجمالاً بأنه يرى جواز وإمكان حوادث لا أول لها - وليس بوجوب حوادث لا أول لها - فإن الواجب هو فعل الرب الذي هو صفته، فلم يزل - سبحانه - فعالاً، فالله - سبحانه - لا يزال يفعل - متى شاء كيف شاء، لم يكن الفعل ممتنعاً عليه فعله حتى فعله، بل كان ولا زال قادراً على الفعل، وأنه لا دليل للمتكلمين على التفريق بين جواز دوام الحوادث في المستقبل، وفي الماضي، وأن الله قد أخبرنا عن بعض المخلوقات الموجودة قبل خلق السماوات والأرض وما بينهما، لكنه لم يخبرنا عن وقت خلقها، ولم يخبرنا هل هي أول المخلوقات أم لا؟، لأن ما خلقه الله قبل خلق السماوات والأرض شيئاً بعد شيء إنما هو بمنزلة ما سيخلق بعد قيام القيامة، ودخول أهل الجنة، وأهل النار منازلهما وهذا مما لا سبيل للعباد إلى معرفته تفصيلاً.
وأما استشناع ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فلأنه رحمه الله لم يكن متخصصاً في دقائق المسائل العقدية، فقد كان جل اشتغاله بعلم الحديث وعلم الرجال، وإلا فإن هذا هو مذهب أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية من أهل البدع القائلين بامتناع حوادث لا أول لها والله أعلم (203).(106/204)
وأما قصيدة السبكي (ت - 756هـ) التي نقم فيها على ابن تيمية رحمه الله أنه يرى جواز حوادث لا أول لها، فقد عارضه يوسف السرمري(204) بقصيدة طويلة ذكر فيها مؤاخذات السبكي على ابن تيمية في قصيدته، ورد عليها واحدة واحدة، فكان رده على مسألة إمكان حوادث لا أول لها قوله:
أما حوادث لا مبدا لأولها *** فذاك من أغرب المحكي وأعجبه
قصّرت في الفهم فاقصر في الكلام فما *** ذا عشك ادرج فما صقر كعنظبه(205)
لو قلت قال كذا ثم الجواب كذا *** لبان مخطئ قول من مصوِّبه(206)
أجملت قولاً فأجملت الجواب ولو *** فصلتَ فصلتُ تبياناً لأغربه
إن قلت كان ولا علم لديه ولا *** كلام لا قدرة أصلاً كفرت به
أو قلت أحدثها بعد استحالتها ***في حقه سَمْتُ نقصٍ ما احتججتَ به
وكيف يوجدها بعد استحالتها *** فيه أيقدر ميت رفع منكبه
أو قلت فعل اختيار منه ممتنع *** ضاهيت قول امرئ مغوِ بأنصبه (207)
ولم يزل بصفات الفعل متصفا *** وبالكلام بعيداً في تقربه
سبحانه لم يزل ما شاء يفعله *** في كل ما زمن مامن معقبه
نوع الكلام كذا نوع الفعال قديـ *** ـم لا المعيّن منه في ترتبه
وليس يفهم ذو عقل مقارنة الـ *** ـمفعول مع فاعل في نفس منصبه
يحب يبغض يرضى ثم يغضب ذا *** من وصفه، أرضِهِ بُعداً لمغضبه
والخلق ليس هو المخلوق تحسبه *** بل مصدر قائم بالنفس فادر به
وقول كن ليس بالشيء المكوَّن والصـ *** ـغير يعرف هذا مع تلعبه
فالمصطفى قال كان الله قبل ولا *** شيء سواه تعالى في تحجبه(208)
وقد عارضت قصيدة السبكي (ت - 756هـ) قصيدة أخرى(209) جاء فيها:
وخالق قبل مخلوق يكوّنه *** وقاهر قبل مقهور يكون به
وراحم قبل مرحوم فيرحمه *** ورازق قبل مرزوق بأضربه
عن أمره صدر المخلوق أجمعه ***والأمر ويحك لا شك يقوم به
وقد تكلم رب العرش بالكتب الـ *** ـمنزلات كلاماً لا شبيه به
ولم يزل فاعلاً أو قائلاً أزلاً *** إذا يشاء هذا الحق فارض به(106/205)
هذي حوادث لا مبدا لأولها *** بالنص فافهمه يا نومان وانتبه
إذ هي صفات لموصوف تقوم به *** قديمة مثله من غير ما شُبه
ومذهب القوم مروها كما وردت *** من غير شائبة التكييف والشبه (210)
وأما دعوى قول شيخ الإسلام بقدم النوع، وأن هذا يستلزم القول بقدم العالم، فيحتاج المجيب عن هذه الدعوى إلى بسط قول شيخ الإسلام حول هذه المسألة، ليُعرف هل قوله يستلزم ما ألزموه أم لا؟
إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أهمية مسألة التفريق بين دوام النوع، وحدوث الأفراد والأعيان، وبيّن أن من اهتدى إلى الفرق بين النوع والعين تبين له فصل الخطأ من الصواب في مسألة الأفعال، ومسألة الكلام والخطاب، وكشف له الحجاب عن الصواب في هذا الباب، الذي اضطرب فيه أولوا الألباب، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم(211) .
وبين رحمه الله أن التفريق بين النوع والعين هو الذي نطق به الكتاب والسنة والآثار، وأن الرب أوجد كل حادث بعد أن لم يكن موجداً له، وأن كل ما سواه فهو حادث بعد أن لم يكن حادثاً، ولا يلزم أن يكون نفس كماله الذي يستحق متجدداً، بل لم يزل عالماً قادراً مالكاً غفوراً متكلماً كما شاء، كما نطق بهذه الألفاظ ونحوها الإمام أحمد (ت - 241هـ) وغيره من أئمة السلف(212) . وذكر أن أكثر أهل الحديث ومن وافقهم لا يجعلون النوع حادثاً، بل قديماً، ويفرقون بين حدوث النوع، وحدوث الفرد من أفراده، كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه، فإن نعيم أهل الجنة يدوم نوعه، ولا يدوم كل واحد من الأعيان الفانية.
ومن الأعيان الحادثة ما لا يفنى بعد حدوثه كأرواح الآدميين، فإنها مبدعة، كانت بعد أن لم تكن، ومع هذا فهي باقية دائمة (213).(106/206)
والقول بقدم النوع لا ينفيه شرع ولا عقل، بل هو من لوازم كماله، كما قال - سبحانه - { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] . والخلق لا يزالون معه، وليس في كونهم لا يزالون معه في المستقبل ما ينافي كماله، والعقل يفرق بين كون الفاعل يفعل شيئاً بعد شيء دائماً، وبين آحاد الفعل والكلام، فيقول: كل واحد من أفعاله لا بد أن يكون مسبوقاً بالفاعل وأن يكون مسبوقاً بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلاً وأبداً.
وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلاً بعد فعل فهذا من كمال الفاعل(214) ، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً، فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، فما من وقت يُقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فليس لإمكان الفعل وجواز ذلك وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادراً عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها(215) . ولا يلزم من دوام النوع دوام كل واحد من أعيانه وأشخاصه، ولذلك يفرق ابن تيمية رحمه الله بين فعل الحوادث في الأزل، وبين كونه لا يزال يفعل الحوادث.
فإن الأول يقتضي أن فعلاً قديماً معه فعل به الحوادث من غير تجدد شيء.
والثاني يقتضي أنه لم يزل يفعلها شيئاً بعد شيء: فهذا يقتضي قدم نوع الفعل ودوامه، وذاك يقتضي قدم فعل معين(216) .
إن قول ابن تيمية رحمه الله بقدم النوع، لا يعني مشاركة الخالق - سبحانه - في القدم، بل كل فعل فهو مسبوق بالعدم، وهو مسبوق بفاعله - أيضاً - كما قال رحمه الله:
(قولكم: الحادث - من حيث هو - يقتضي أنه مسبوق بغيره، أو الحركة من حيث هي، تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير.(106/207)
يقال لكم: الحادث المطلق لا وجود له إلا في الذهن لا في الخارج(217) ، وإنما في الخارج موجودات متعاقبة، ليست مجتمعة في وقت واحد، كما تجتمع الممكنات والمحدثات المحدودة، والموجودات والمعدومات، فليس في الخارج إلا حادث بعد حادث، فالحكم: إما على كل فرد فرد، وإما على جملة محصورة، وإما على الجنس الدائم المتعاقب.
فيقال لكم: أتريدون بذلك أن كل حادث فلا بد أن يكون مسبوقاً بغيره، أو أن الحوادث المحدودة لا بد أن تكون مسبوقة، أو أن الجنس لا بد أن يكون مسبوقاً؟
أما الأول والثاني فلا نزاع فيهما، وأما الثالث فيقال: أتريدون به أن الجنس مسبوق بعدم، أم مسبوق بفاعله، بمعنى أن لا بد له من محدث؟
الثاني: مسلّم، والأول محل النزاع)(218) .
فقوله رحمه الله الثاني مسلّم: أي جنس الحوادث مسبوق بفاعله.
وقال رحمه الله: (كل واحد من أفعاله لا بد أن يكون مسبوقاً بالفاعل، وأن يكون مسبوقاً بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلاً وأبداً... فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله، وذلك يوجب أن كل ما سواه محدث مخلوق)(219) .
وحين يناقش المتكلمين الذين يفرقون بين الماضي والمستقبل، يبين رحمه الله أن لا فرق بينهما، فالحوادث الماضية عدمت بعد وجودها، فهي الآن معدومة، كما أن الحوادث المستقبلة الآن معدومة، فلا هذا موجود، ولا هذا موجود الآن، فكلاهما له وجود في غير هذا الوقت، ذاك في الماضي وهذا في المستقبل، وكون الشيء ماضياً أو مستقبلاً أمر نسبي(220) ، وناقشهم في رأيهم بأن إمكان جنس الحوادث له بداية، بأنهم إذا أقروا بأن جنس الحوادث ممكن بعد أن لم يكن ممكناً، فهذا دليل على ضعف حجتهم؛ لأن الإمكان ليس له وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان، وإلا لزم انقلاب الجنس من الإمكان إلى الامتناع من غير حدوث شيء، ولا تجدد شيء، وهذا ممتنع في صريح العقل(221).(106/208)
وأما اشتراطهم على دوام إمكان جنس الفعل والحوادث بكونها مسبوقة بالعدم، فهذا يتضمن الجمع بين النقيضين؛ لأن كون هذا لم يزل، يقتضي أنه لا بداية لإمكانه، وأن إمكانه قديم أزلي. وكونه مسبوقاً بالعدم يقتضي أن له بداية، وأنه ليس بقديم أزلي، فصار مضمون كلامهم: أن ماله بداية ليس له بداية، فإن المشروط بسبق العدم له بداية، وإن قدر أنه لا بداية له كان جمعاً بين النقيضين(222) .
وفي مقابل رأي المتكلمين الذين يرون حدوث النوع وحدوث الأفراد، فقد ناقش ابن تيمية رحمه الله رأي الفلاسفة الذين يرون قدم النوع وقدم الأعيان والأفراد: فذكر أولاً سبب قولهم وهو: أنهم لما اعتقدوا أن الفاعل يمتنع أن يصير فاعلاً بعد أن لم يكن، ويمتنع أن يحدث حادثاً لا في وقت، وأن الوقت يمتنع في العدم المحض ظنوا أنه يلزم قدم عين المفعول، فالتزموا مفعولاً قديماً أزلياً لفاعل، وذكر أن هذا القول باطل(223) ، فليس شيء من أعيان الآثار قديماً، لا الفلك، ولا غيره، ولا ما يسمى عقولاً ولا نفوساً ولا غير ذلك، كما أنه ليس هو في وقت بعينه مؤثراً في مجموع الحوادث. بل التأثير الدائم الذي يكون شيئاً بعد شيء، وهذا من لوازم ذاته، فيكون مؤثراً في حادث بعد حادث، وفي وقت بعد وقت(224) .
وبعد مناقشاته رحمه الله المتكلمين والفلاسفة بيّن منشأ غلط الطائفتين، في عدم تفريقها بين قدم النوع، وحدوث الأفراد، وأن هذا راجع إلى غلطهم في الحركة والحدوث ومسمى ذلك فقال:
(ومما يعرف به منشأ غلط هاتين الطائفتين غلطهم في الحركة والحدوث ومسمى ذلك. فطائفة - كأرسطو وأتباعه - قالت: لا يعقل أن يكون جنس الحركة والزمان والحوادث حادثاً، وأن يكون مبدأ كل حركة وحادث صار فاعلاً لذلك بعد أن لم يكن، وأن يكون الزمان حادثاً بعد أن لم يكن حادثاً... فضلوا ضلالاً مبيناً مخالفاً لصريح المنقول المتواتر عن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، مع مخالفته لصريح المعقول.(106/209)
وطائفة ظنوا أنه لا يمكن أن يكون جنس الحركة والحوادث والفعل إلا بعد أن لم يكن شيء من ذلك، أو أنه يجب أن يكون لا على الجميع لم يزل معطلاً، ثم حدثت الحوادث بلا سبب أصلاً)(225) .
وذكر أن القول الأخير لم ينقل عن الأنبياء ولا عن أصحابهم، وهو - أيضاً - يخالف صريح العقل (226) .
وبعد هذا: تبين واتضح أن شيخ الإسلام لا يقول بقدم العالم ولا بقدم شيء منه، وأن كل فعل فهو مسبوق بفاعله.
ومن ظن أن القول بقدم النوع يستلزم القول بقدم العالم، فإن هذا الظن راجع إلى أن هذا لم يعلم في المسألة إلا قولين: قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم إما صورته وإما مادته.. وقول من رد على هؤلاء من أهل الكلام.. الذين يقولون: إن الرب لم يزل لا يفعل شيئاً ثم أحدث الفعل بلا سبب أصلاً (227).
فالقول بقدم النوع لا يستلزم القول بقدم العالم(228) ، ولذلك فإن شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله يقرر حدوث العالم في مواضع متعددة:
فقال رحمه الله: (وأما أهل الملل وأئمة الفلاسفة وجماهيرهم فيقولون: إن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وأن ما قامت به الحوادث من الممكنات فهو مخلوق محدث) (229)
وقال: (كل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن، وهو - سبحانه - المختص بالقدم والأزلية، فليس في مفعولاته قديم، وإن قدر أنه لم يزل فاعلاً، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ليس في المفعولات قديم ألبته، بل لا قديم إلا هو - سبحانه - وهو وحده الخالق لكل ما سواه، وكل ما سواه مخلوق كما قال - سبحانه - { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62] ) (230).(106/210)
وقال رحمه الله (اتفق سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب: أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله... كل ما سوى الله مخلوق، حادث، كائن بعد أن لم يكن، وأن الله وحده هو القديم الأزلي، ليس معه شيء قديم تقدمه، بل كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن، فهو المختص بالقدم، كما اختص بالخلق والإبداع والإلهية والربوبية، وكل ما سواه محدث مخلوق مربوب عبد له)(231) .
وبهذا يتبين أن شيخ الإسلام يقرر حدوث العالم، وأن قدم النوع لا يستلزم قدم العالم، ما دام الفعل مسبوقاً بفاعله، كما عليه السلف والأئمة.
ويتبع القول بقدم النوع: ما افتراه المناوئون لابن تيمية أن يقول بقدم جنس العرش، وأنه لا زال يخلق عرشاً ويفني آخر، وهذا ادعاء لا أساس له من كلام شيخ الإسلام رحمه الله(232).
بل المنقول عنه أن كل ما في العالم فهو محدث مخلوق، وليس مع الله قديم من مخلوقاته - كما تقدم بيانه قريباً -.
ولا يزال ابن تيمية رحمه الله يقرر هذه المسألة بعد أخرى، حتى لا يفهم منه أنه يقول بقدم شيء من العالم لا العرش ولا غيره.
وتحدث عن العرش - في مواضع متعددة - مبيناً أنه مخلوق بعد أن لم يكن، وأنه ليس بقديم، ومن هذا قوله رحمه الله:
(في الآثار المنقولة عن الأنبياء أنه كان موجوداً قبل خلق هذا العالم أرض وماء وهواء، وتلك الأجسام خلقها الله من أجسام أخر، فإن العرش - أيضاً - مخلوق، كما أخبرتنا بذلك النصوص، واتفق على ذلك المسلمون) .
ففي هذا النص يصرح ابن تيمية رحمه الله أن العرش مخلوق محدث بعد أن لم يكن، ويقرر أن هذا هو ما أخبرت به النصوص، واتفق عليه المسلمون(233).
وقال في شرح حديث عمران بن حصين (ت - 52هـ) رضي الله عنه عن الحديث إنه: (لم يذكر خلق العرش، مع أن العرش مخلوق أيضاً، فإنه يقول: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ، وهو خالق كل شيء: العرش وغيره، ورب كل شيء: العرش وغيره) (234).(106/211)
وقال عن الحديث - أيضاً -: (ليس في هذا ذكر أول المخلوقات مطلقاً، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء، وإن كان ذلك كله مخلوقاً كما أخبر به في مواضع أخر)(235) .
وعلى هذا (فليس مع الله شيء من مفعولاته قديم معه، لا بل هو خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن) (236) .
وأما القول بأن ابن تيمية يرى أن العرش أول المخلوقات فهذا غير صحيح، فترجيح ابن تيمية رحمه الله كون العرش خلق قبل القلم، لا يعني أنه أول المخلوقات، ولم يتعرض لذلك ابن تيمية رحمه الله لا من قريب ولا من بعيد، بل كان كثيراً ما ينبه إلى أن النصوص لم تصرح ولم تدل على إثبات أول المخلوقات، فقال رحمه الله: (وأما في حديث عمران فلم يخبر بخلقه - أي العرش -، بل أخبر بخلق السماوات والأرض، فعلم أنه أخبرنا بأول خلق هذا العالم، لا بأول الخلق مطلقاً) (237).
وقال: (وإذا كان إنما قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله) لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق)(238) .
وقال عن حديث عمران (ت - 52هـ):(وليس في هذا ذكر أول المخلوقات مطلقاً)(239).
وقال عن الحديث السابق: (إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقصد الإخبار بوجود الله وحده قبل كل شيء، وبابتداء المخلوقات بعد ذلك) (240).
وأما الزعم بأن مذهب ابن تيمية رحمه الله في قدم النوع موافق لرأي الفلاسفة، فهذا غير صحيح من وجهين:
الوجه الأول: أن شيخ الإسلام رحمه الله وافق السلف في إثبات الصفات، وأن الله يفعل ما يشاء متى شاء، وكيف شاء سبحانه وتعالى.
وأما الفلاسفة فهم وإن أثبتوا دوام الفاعلية للرب لا عن اختيار ومشيئة، وأثبتوا وجود الله، فهم في الحقيقة معطلة لا يؤمنون بصفات الله عزّ وجل ولا بأسمائه، وقالوا: إن المخلوقات لازمة لله أزلاً وأبداً.(106/212)
الوجه الثاني: أن لازم مذهب الفلاسفة في قدم النوع، وقدم العين والفرد، هو التعطيل عن الفعل، إذ على قولهم: لم يزل الفلك مقارناً له أزلاً وأبداً فيمتنع أن يكون شيء مفعولاً له؛ لأن الفاعل لا بد أن يتقدم على فعله.
فهم عطلوا الرب عن الفاعلية التي هي أظهر صفات الرب - تعالى - ولهذا وقع الإخبار بها في أول ما نزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم: { قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- 5] فالخلق يتضمن فعل الله، وخلق الإنسان يعني خلق الله الأشياء شيئاً بعد شيء.
والتعليم يتضمن قول الله وتعليم الإنسان يعني دوام هذه الصفة وتكرارها شيئاً بعد شيء، كما قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [النساء: 113] ، وقال: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } [آل عمران: 61] ، وقال: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] ، وقال: { الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [الرحمن: 1 - 5] .
وترتب على هذا قول الفلاسفة بعدم علم الله بالجزئيات، وعلم الله إنما هو بالكليات، والكليات أمر ذهني لا وجود له في الخارج، وإذا لم يعلم شيئاً من الجزئيات لم يعلم شيئاً من الموجودات، فامتنع أن يعلّم غيره شيئاً من العلم بالموجودات المعينة؛ لأن من لا يعلم شيئاً يمتنع أن يعلم غيره (241).
ويرى ابن تيمية أن قول الفلاسفة أردأ الأقوال في المسألة، ويفضل قول المتكلمين على قول الفلاسفة، فالمتكلمون أقرب إلى الإسلام والسنة من الفلاسفة، وإن كانوا ضالين فيما خالفوا به السنة، وذلك من وجوه:(106/213)
أحدها: أن يقول المتكلمون للمتفلسفة: أنتم ادعيتم قدم العالم، بناء على قدم الزمان - عندكم -، ووجوب دوام فاعلية الرب، ونحو ذلك، مما غايتكم فيه إثبات دوام الحوادث، إذ ليس في حججكم هذه وأمثالها ما يدل على قدم شيء من العالم لا السماوات التي أخبرنا الله أنه خلقها والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا غير ذلك.
الثاني: أن يقال: دوام فاعلية الرب - تعالى - ودوام الحوادث، يمكن معه أن تدوم الأفعال التي تقوم بالرب بمشيئته وقدرته، وتحدث شيئاً بعد شيء، وأن تحدث حوادث منفصلة شيئاً بعد شيء، وعلى كل من التقديرين فلا يكون شيء من العالم قديماً.
الثالث: أن يقال للفلاسفة: ما ذكرتموه من الأدلة العقلية الموجبة لدوام فاعلية الرب ودوام الحوادث يدل على نقيض قولكم لا على وفقه، فإن هذا يقتضي أن واجب الوجود لم يزل يفعل ويحدث الحوادث، وأنتم على قولكم يلزم ألا يكون أحدث شيئاً من الحوادث(242).
وقد رد شيخ الإسلام رحمه الله على القائلين بقدم العالم، وأطال النفس في ذلك. وبين أن جماهير العقلاء، وأهل الملل كلهم، وجمهور من سواهم من المجوس(243) ، وأصناف المشركين، وجماهير أساطين الفلاسفة لا يقولون بقدم العالم، وهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن، وأن هذا العالم كله مخلوق والله خالقه وربه(244) .
وذكر أن الفلاسفة الأوائل كانوا مقرين بحدوث العالم، وأن أول من اشتهر عنه القول بقدم العالم هو أرسطو (ت - 322ق.م)(245) .
وليس مع الفلاسفة دليل على قدم العالم، أو قدم شيء منه، وعامة حججهم إنما تدل على قدم نوع الفعل، وليس في شيء من أدلتهم ما يدل على قدم الفلك، أو شيء من حركاته، ولا قدم الزمان الذي هو مقدار حركة الفلك(246) .(106/214)
وكل ما يحتج به الفلاسفة في إثبات قدم العالم فإنه يلزم من القول به من المحذور أعظم مما فرّ منه، ويدل على نقيض ما يقصد، حتى يؤول الأمر إلى أن يعترف المبطل ببطلان قوله، وبطلان كل ما يدل على قوله، أو ينكر الوجود بالكلية. وقد قال الله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [الفرقان: 33] (247).
ولازم القول بقدم العالم هو التسلسل في المؤثرات وهذا مما اتفق على بطلانه حتى الفلاسفة أنفسهم، ويلزم أيضاً من القول بقدم العالم أن يكون الفاعل مستلزماً لمفعوله، لا يجوز أن يتراخى عنه مفعوله. فإن الفاعل لا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن يجب اقتران مفعوله به.
وإما أن يجب تأخر مفعوله عنه.
وإما أن يجوز فيه الأمران.
فلو كان العالم قديماً لم يجز أن يكون فاعله ممن يجب أن يتراخى عنه مفعوله؛ لأن ذلك جمع بين النقيضين: كيف يكون مفعوله قديماً أزلياً، ويكون متأخراً عنه حادثاً بعد أن لم يكن؟
وأما الاحتمال الثالث وهو جواز الأمرين فهو باطل؛ لأنه يجعل وجود المفعول ممكنا، والممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، والقول في المرجح كالقول في غيره إذ لا يخلو من الأقسام الثلاثة المذكورة.
فتبين أن العالم لو كان قديماً للزم أن يكون مبدعه مستلزماً له، ووجود المؤثر التام في الأزل ممتنع، ذلك أن أثره إن كان خالياً من الحوادث لزم أن لا يكون في العالم شيء من الحوادث، وهذا خلاف الحس.
وأما إن كان أثره متضمناً للحوادث، فهذا ممتنع؛ لأنه يلزم منه صدور ما فيه الحوادث عما لا حوادث فيه، فالحوادث هي - أيضاً - من الصادر عنه.
وفي الجملة: فقدم العالم لا يكون إلا مع كون المبدع واجباً بذاته(248) ، وصدور الحوادث عن الموجب بذاته ممتنع، فصدور العالم عن الموجب بذاته ممتنع، فقدم العالم ممتنع(249)
وقول الفلاسفة في قدم العالم باطل من وجوه كثيرة منها:(106/215)
1 - أن عمدة رأي الفلاسفة في قدم العالم هو امتناع حدوث الحوادث بلا سبب حادث، فيمتنع تقدير ذات معطلة عن الفعل لم تفعل، ثم فعلت من غير حدوث سبب. وهذا لا يدل على قدم العالم ولا قدم شيء منه، وإنما يدل على قدم نوع الفعل، وأن الله لا زال فعالاً (250) .
2 - أن يقال: دوام الحوادث في الماضي: إما أن يكون ممتنعاً، وإما أن يكون ممكناً، فلو كان ممتنعاً بطل قولهم، وعلم أن الحوادث لها ابتداء.
وإن كان ممكناً: أمكن أن تكون هذه الأفلاك حادثة مسبوقة بحوادث قبلها، كما قال الله عزّ وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [هود: 7] ، وعلى التقديرين فلا يلزم قدم العالم(251) .
3 - أن القول بقدم العالم يتضمن وجود حوادث لا تتناهى في آنٍ واحد، وهذا محال باتفاقهم مع جماهير العقلاء، بل يتضمن وجود تمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد، ووجود ممكنات لا تتناهى في آن واحد، وهذا مما يصرحون بامتناعه، مع قيام الدليل على امتناعه، ويتضمن امتناع وجود حادث، ويتضمن وجود الحوادث بلا مؤثر تام، وكل هذا ممتنع.
4 - أن وجود حوادث لا أول لها إنما يمكن في القديم الواحد، فإذا قدّر قديمان: كل منهما تقوم به حوادث لا تتناهى، كما يقولونه في الأفلاك، فهذا ممتنع؛ لأن كلاً منهما لا بداية لحركاته ولا نهاية، مع أن أحدهما أكثر من الآخر، وما كان أكثر من غيره كان ما دونه أقل منه، فيلزم أن يكون ما لا أول له ولا آخر يقبل أن يُزاد عليه ويكون شيء آخر أكثر منه، وهذا ممتنع (252).
وبهذا يتضح أن ابن تيمية رحمه الله لم يكن يقول بقول الفلاسفة، ولم يكن يرتضيه، بل كان رده عليهم كثيراً وصريحاً في بيان خطئهم.
الفصل الرابع
دعوى نهي ابن تيمية عن زيارة القبور
المبحث الأول: عقيدة أهل السنة في شد الرحال، وزيارة القبور.(106/216)
المبحث الثاني: الزعم بأن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور، ومناقشته.
المبحث الثالث: دعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومناقشتها.
المبحث الرابع: دعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور ومناقشتها.
المبحث الخامس: دعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياء وقبور غيرهم، ومناقشتها.
المبحث الأول
عقيدة أهل السنة في زيارة القبور وشد الرحل إليها
كانت زيارة القبور في بداية الإسلام مباحة على البراءة الأصلية، فكان الناس يزورون المقابر ويذهبون إليها، حتى جاء النهي من الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن زيارة القبور مطلقاً، وذلك خوفاً على أصحابه في بداية إسلامهم أن تتعلق نفوسهم بأهل القبور، حيث لم يمض على إسلامهم شيء كثير، وقد كان لأهل الجاهلية صولات وجولات في الاستنجاد بأهل القبور، والاستغاثة بهم مما يفضي إلى الشرك أو ذرائعه (1).
ولما استقر التوحيد في نفوس الصحابة، وامتلأت نوراً، جاء نسخ النهي عن زيارة القبور إلى الإذن والترغيب فيها، كما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)(2) .
وبقيت زيارة القبور مشروعة لعموم الأحاديث، ومنها حديث أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة) (3).
ومنها حديث بريدة(4) رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: (السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية)(5) .(106/217)
ومنها حديث عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا كانت ليلتي يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) (6).
وحديث أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه قال: زار النبي صلّى الله عليه وسلّم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال: (استأذنت ربي بأن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت)(7) ، ومنها ما روي عن عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف أقول يا رسول الله في زيارة القبور؟ قال قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)(8) .
وزيارة القبور تنقسم قسمين: زيارة مشروعة، وزيارة غير مشروعة:
فأما القسم الأول: وهو الزيارة المشروعة: فهي زيارة القبور من أجل تذكر الآخرة، والسلام على أهلها، والدعاء لهم، فهذه مقاصد الزيارة الشرعية يمكن إجمالها فيما يلي:
1 - تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ، ورقة القلب، كما هو الوارد في الأحاديث النبوية.
2 - إحسان الزائر إلى الميت بالدعاء له(9) .
3 - إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو استحباب الزيارة، وعدم هجر السنة (10) .
4 - حصول الأجر والثواب المترتب على فعل السنة.
وهذا النوع من الزيارة مستحب.
والقسم الثاني: الزيارة غير الشرعية وهي أقسام:(106/218)
أ - الزيارة المحرمة: وهي التي تتضمن شيئاً من المناهي الشرعية، ولم تصل إلى درجة البدعة وإن كانت من كبائر الذنوب، كالنياحة والجزع، ولطم الخدود، وكثير من الأفعال التي يفعلها العامة مما يوحي بالتسخط على قدر الله، كما روى أنس (ت - 93هـ) رضي الله عنه قال: مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأتت إليه صلّى الله عليه وسلّم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك؟ فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (11).
ب - الزيارة البدعية: وهي أن يزور قبراً من أجل أن يصلي عنده، أو يدعو الله عنده، أو يقرأ القرآن عنده.
ج - الزيارة الشركية: وهي التي يدعى فيها المقبور من دون الله، ويطلب منه قضاء الحوائج، ودفع المكروه وتفريج الكرب أو يصلي له أو يذبح له أو ينذر له (12) .
قال ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله في بيان هذا (القسم غير المشروع): (كل زيارة تتضمن فعل ما نهى عنه، وترك ماأمر به كالتي تتضمن الجزع، وقول الهجر، وترك الصبر، أو تتضمن الشرك أو دعاء غير الله، وترك إخلاص الدين لله، فهي منهي عنها، وهذه الثانية أعظم إثماً من الأولى - أي تضمن الزيارة الشرك أو دعاء غير الله -، ولا يجوز أن يصلي إليها، بل ولا عندها، بل ذلك مما نهى عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم) (13) ، وهذه من وسائل الشرك - كما سبق -.
ثم ذكر قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» (14) .
فالفرق بين الزيارة الشرعية وغير الشرعية: أن الزيارة الشرعية تتضمن السلام على أهل القبور، والدعاء لهم، وهو مثل الصلاة على جنائزهم، ومن شرطها ألا تتخذ القبور عيداً.(106/219)
أما الزيارة غير الشرعية: التي تتضمن تشبيه المخلوق بالخالق: فينذر زوار القبور للمزور أو يسجدون له ويدعونه، بأن يحبوه مثل ما يحبون الخالق فيكونون قد جعلوه لله نداً، وسووه برب العالمين، وهذا منهي عنه في كتاب الله؛ لأنه من الأعمال الشركية، حيث يقول: عزّ وجل: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 79 - 80] .
وقال - سبحانه -: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 56 - 57] .
وقال عزّ وجل: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23] .
والمقصود بالخطاب في زيارة القبور هم الرجال دون النساء، فالترغيب في زيارة القبور؛ إنما هو خاص بالرجال، وقد أجمع العلماء على أنه يستحب للرجال زيارة القبور، وقد حكى الإجماع على استحباب زيارة القبور للرجال الإمام النووي(15) رحمه الله في المجموع(16) .
وأما زيارة النساء للقبور: فقد اختلف فيها أهل العلم على أقوال:(106/220)
القول الأول: تحريم زيارة النساء للقبور، وقد استدل القائلون بهذا القول بما قاله أبو هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه:(إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعن زوارات القبور)(17) .
وحديث أم عطية(18) رضي الله عنها أنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا)(19) فالنهي يقتضي التحريم.
القول الثاني: الكراهة من غير تحريم: واستدلوا بحديث أم عطية رضي الله عنها السابق، فقولها رضي الله عنها (لم يعزم علينا) دليل على أن النهي ليس نهي تحريم.
القول الثالث: إباحة زيارة النساء للقبور: واستدلوا بحديث المرأة التي كانت تبكي عند قبر، فأوصى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالتقوى والصبر الذي ورد ذكره قبل قليل، ولم ينكر عليها زيارتها للقبر.
وبحديث عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها أنها سألت الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن الذي تقوله للموتى، فقال لها قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وقد ورد ذكره قبل قليل.
القول الرابع: التفصيل وهو: إن كانت زيارتهن لتجديد الحزن والبكاء والنوح على ما جرت به عادتهن حرم، وإن كانت زيارتهن للاعتبار من غير نياحة كره، إلا أن تكون عجوزاً لا تشتهي فلا يكره (20) .
والقول الصحيح - والله أعلم - هو القول بالتحريم؛ وذلك لإمكان الإجابة عن أدلة الأقوال الأخرى، وبقاء الأدلة الخاصة التي تنهى النساء عن زيارة القبور.
فحديث أم عطية رضي الله عنها في قولها (لم يعزم علينا). الجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أنه قد يكون مرادها لم يؤكد النهي، وهذا يقتضي التحريم، فهي نفت وصف النهي، وهو النهي المؤكد بالعزيمة، وليس ذلك شرطاً في اقتضاء التحريم، بل مجرد النهي كافٍ في ذلك.
الوجه الثاني: أن أم عطية رضي الله عنها ظنت أنه ليس بنهي تحريم فقالت ذلك باجتهادها، والحجة في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لا في ظن غيره.(106/221)
وأما حديث المرأة التي كانت تبكي عند القبر، فليس فيه أي دلالة على جواز زيارة النساء للقبور، حيث أمرها النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر، فلم تقبل أمره، فانصرف عنها، ثم إن هذا الحديث لا يُعلم تاريخه هل هو كان قبل أحاديث لعن زائرات القبور أم بعده؟
وعلى كل حال: فهذا الحديث إما أن يكون دالاً على الجواز فلا دلالة على تأخره عن أحاديث المنع.
وإما أن يكون دالاً على المنع؛ لأمرها بتقوى الله فلا دلالة فيه على الجواز.
وعلى كلا التقديرين فلا تعارض هذه الحادثة أحاديث المنع.
ومن الأجوبة على هذا الحديث أن المرأة لم تخرج للزيارة، لكنها أصيبت، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها، ولذلك خرجت، وجعلت تبكي عند قبره، ولهذا أمرها صلّى الله عليه وسلّم أن تصبر؛ لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة، بل خرجت لما في قلبها من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة، فالحديث ليس صريحاً بأنها خرجت للزيارة، وإذا لم يكن صريحاً فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح(21) .
وأما حديث عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها وتعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم إياها دعاء زيارة المقابر، فقد أجاب عنه أهل العلم بأجوبة عدة منها:
1 - أن يحمل سؤالها للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتعليمه إياها على ما إذا اجتازت ومرّت على المقابر في طريقها بدون قصد الزيارة، ولفظ الحديث ليس فيه تصريح بالزيارة(22)
2 - يحتمل أن يكون هذا كان على البراءة الأصلية في صدر الإسلام، قبل أن تحرم زيارة المقابر تحريماً عاماً على الرجال والنساء، ثم نسخ هذا الحكم عن الرجال دون النساء.(106/222)
3 - أن هذا الحديث من خصائص عائشة(ت-58هـ)رضي الله عنها لما تحلت به من الآداب اللائقة بزيارة القبور؛ لقوة إيمانها، وعظيم صبرها، وكمال عقلها، ووفور فضلها، وقد قال الله عزّ وجل عن عموم نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم: { يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء} [الأحزاب: 32] .
وقال عن عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران، وآسية، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» (23).
4 - أن يحمل السؤال من عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها وجواب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لها على أنها مبلغة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومثل هذا كثير في السنة(24)
ويبقى القول بالتحريم هو القول الصحيح؛ لأنه الموافق للنصوص الخاصة المانعة من زيارة النساء للقبور، والحكمة - والله أعلم - أن المرأة ضعيفة، ناقصة عقل ودين، وهي قليلة الصبر، كثيرة الجزع فلا تتحمل مشاهدة قبور الموتى وزيارتهم، ثم إن زيارة القبور للنساء يؤدي إلى مخالفات أخرى باطلة كالتبرج والاختلاط، وهذا محذور منهي عنه في الشريعة، وهو من كبائر الذنوب(25).
ويبقى إشكال في زيارة النساء للقبور، وهو أنه قد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه لعن زوارات القبور، فهل المراد باللعن لمن كررت الزيارة، وأما التي لا تزور إلا نادراً فلا تدخل تحت اللعن والنهي، أم الأمر بخلاف ذلك؟
والجواب عن هذا الإشكال من وجوه:
الأول: أن لفظ (زُوّارات)، بضم الزاي المعجمة، وجمع هذا اللفظ: زُوار، وهو جمع: زائرة سماعاً.
الثاني: أن لفظ (زوارات) لو كان بالفتح، فتكون الصيغة دالة على النسب فمعنى زوارات القبور أي ذوات زيارة القبور، كما قال تعالى: { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] .
الثالث: أن تصحيح حديث لعن زائرات القبور، يؤيد وينصر القول بالتحريم المطلق لزيارة النساء للقبور.(106/223)
الرابع: سلمنا جدلاً على أن لفظ (زوارات) يدل على التضعيف، لكن هذا التضعيف يحمل على كثرة الفاعلين، لا على كثرة الفعل، فزوارات: يعني النساء إذا كن مائة كان فعلهن كثيراً.
والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية كما قال تعالى: { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] ، فلما كانت الأبواب كثيرة كان فيها التضعيف إذ الباب لا يفتح إلا مرة واحدة(26) .
وأما زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم - لمن هو بالمدينة من الرجال، أو قدم لزيارة مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو لحاجة له في المدينة ثم صلى في المسجد -: فهذا كله مشروع لا ينكر أحد مشروعيته، ومشروعيته مستمدة من الحكم العام بالاستحباب لزيارة القبور، وليس هناك حديث واحد صحيح يخصص زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بخاصية دون غيره من القبور، ومن زار المدينة فيستحب له أن يدخل المسجد ويقدم رجله اليمنى ويقول: «اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك» (27)، ثم يأتي الروضة الشريفة - إن أمكنه ذلك -، فيصلي ركعتي تحية المسجد في أدب وخشوع، فقد روى عبد الله بن زيد المازني(28) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة»(29) .(106/224)
فإذا فرغ من تحية المسجد، اتجه إلى الحجرة الشريفة التي فيها قبره صلّى الله عليه وسلّم، فيستدبر القبلة، ويستقبل القبر، فيسلم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويردف ذلك بالصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم، وليس هناك صيغة محددة لهذا، فله أن يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، وأشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين: فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته.
اللهم آته الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، يغبطه الأولون والآخرون.
اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه مشرباً روياً لا نظمأ بعده أبداً.
ثم يتأخر إلى صوب اليمين قدر ذراع اليد للسلام على أبي بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه، ويسلم عليه بما يحضره من الألفاظ من غير تكلف، ثم يتنحى صوب اليمين قدر ذراع للسلام على الفاروق عمر بن الخطاب (ت - 23هـ) رضي الله عنه، ويسلم عليه بما يحضره من الألفاظ من غير تكلف - أيضاً - وله أن يقول: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضجيعيه ورحمة الله وبركاته، جزاكما الله تعالى عن صحبة نبيكما وعن الإسلام خيراً، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار(30) .(106/225)
ويسن لمن مكث في المسجد النبوي: أن يكثر من النوافل، وذلك للأجر العظيم المترتب على هذا العمل، كما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»(31).
قال ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله في نونيته بعد أن بين أن شد الرحل لا يكون إلا للمساجد الثلاثة، وهو يبين الآن الزيارة الشرعية:
فإذا أتينا المسجد النبوي *** صلينا التحية أولاً ثنتان
بتمام أركان لها وخشوعها *** وحضور قلب فعل ذي الإحسان
ثم انثنينا للزيارة نقصد الـ *** ـقبر الشريف ولو على الأجفان
فنقوم دون القبر وقفة خاضع *** متذلل في السر والإعلان
وتفجرت تلك العيون بمائها *** ولطالما غاضت على الأزمان
وأتى المسلم بالسلام بهيبة *** ووقار ذي علم وذي إيمان
لم يرفع الأصوات حول ضريحه *** كلا ولم يسجد على الأذقان
كلا ولم يُر طائفاً بالقبر أسـ *** ـبوعاً كأن القبر بيت ثان
ثم انثنى بدعائه متوجها *** لله نحو البيت ذي الأركان
هذي زيارة من غدا متمسكاً *** لشريعة الإسلام والإيمان
من أفضل الأعمال هاتيك الزيا *** رة وهي يوم الحشر في الميزان
لا تلبسوا الحق الذي جاءت به *** سنن الرسول بأعظم البرهان
هذي زيارتنا ولم ننكر سوى الـ *** ـبدع المضلة يا أولي العدوان
وحديث شد الرحل نص ثابت *** يجب المصير إليه بالبرهان (32)
وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً كل سبت فيصلي فيه ركعتين(33) ، ولذلك تسن زيارة مسجد قباء والصلاة فيه لمن جاء المدينة، أو من سكنها.
أما زيارة النساء قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد قال بعض الحنفية باستحبابها(34) إلا أن الجمهور على المنع منها كالمنع من زيارتهن قبور غيره صلّى الله عليه وسلّم؛ لعموم الأدلة، وعدم وجود مخصص - والله أعلم -(35) .(106/226)
وأما السفر لأجل زيارة القبور، فالصحيح هو تحريم إنشاء ذلك السفر؛ وذلك استناداً لقول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»(36) .
قوله: (لا تشد) بضم أوله على البناء للمفعول بلفظ النفي، والمراد النهي.
(الرحال): جمع رحل وهو كور البعير وهو للبعير كالسَرج للفرس، وكني بشد الرحال عن السفر؛ لأنه لازمه، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير، والمشي في المعنى المذكور.
(إلا إلى ثلاثة مساجد): الاستثناء مفرّغ، والتقدير: لا تشد الرحال إلى موضع، ولازم هذا التقدير: منع السفر إلى كل موضع غيرها؛ لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام.
(المسجد الحرام): أي المحرم، وهو كقولهم: الكتاب بمعنى المكتوب، والمسجد بالخفض على البدلية، ويجوز الرفع على الاستئناف.
(ومسجدي هذا): أي مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم في المدينة.
(ومسجد الأقصى): أي بيت المقدس، سمي بالأقصى: لبعده عن المسجد الحرام في المكان، وقيل: لأنه لم يكن وراءه حينئذٍ مسجد، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبث(37) .
قال النووي (ت - 676هـ) رحمه الله في شرحه الحديث: (فيه بيان عظيم فضيلة هذه المساجد الثلاثة، ومزيتها على غيرها؛ لكونها مساجد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولفضل الصلاة فيها)(38) .
ونقل الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله خلاف العلماء في حكم شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة كزيارة القبور وغيرها، فنقل عن أبي محمد الجويني(39) حرمة شد الرحل إلى غيرها عملاً بظاهر الحديث.
وقال بعض الشافعية بعدم الحرمة، ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين بسنية السفر لزيارة القبور .(40)
وذكر الشيخ مرعي الحنبلي(41) رحمه الله منشأ الخلاف بين القولين، وهو من احتمالي صيغة الحديث (لا تشد الرحال)، فهي ذات وجهين: نفي ونهي.(106/227)
فمن لحظ معنى النفي فقط فقد فهم أن معنى الحديث هو: نفي فضيلة واستحباب السفر إلى غير المساجد الثلاثة، وبنى على ذلك جواز قصر الصلاة إن كان السفر مسافة قصر.
ومن لحظ معنى النهي، فالمعنى حينئذٍ يحتمل التحريم أو الكراهة للسفر إلى غير المساجد الثلاثة، وهذا وجه متمسك من قال بعدم جواز القصر في هذا السفر لكونه منهياً عنه، واحتمال التحريم هو الأصل في النهي (42).
وقد أجاب القائلون بالإباحة عن هذا الحديث بأجوبة منها:
1 - أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائز.
2 - أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة فإنه لا يجب الوفاء به.
3 - أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي، لما روى أحمد (ت - 241هـ) في مسنده من طريق شهر بن حوشب(43) قال سمعت أبا سعيد (ت - 74هـ) وذكرت عنده الصلاة في الطور فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينبغي للمطي أن تُشَد رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي»(44) ، قال الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) ، (وشهر حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف)(45) .
وقد أجاب المباركفوري(46) رحمه الله عن هذه الصوارف عن ظاهر الحديث الذي هو التحريم إلى الإباحة بأجوبة:
1 - أن قولهم: المراد الفضيلة التامة... إلخ، فإن هذا خلاف ظاهر الحديث ولا دليل عليه، وأما لفظ (لا ينبغي)؛ في رواية أحمد (ت - 241هـ) فهو خلاف أكثر الروايات، فقد وقع في عامة الروايات (لا تشد) وهو ظاهر في التحريم.(106/228)
وأما قولهم: إن لفظة (لا ينبغي) ظاهر في غير التحريم فهو ممنوع، كما بين ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله أن المطرد في كلام الله وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم استعمال لفظ (لا ينبغي) في المحظور شرعاً وقدراً، وفي المستحيل الممتنع كقوله تعالى: { وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً }[مريم: 92] ، وقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69] ، وقوله سبحانه: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210 - 211] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام»(47) وغيرها من النصوص(48) .
2 - أن قولهم: إن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه... إلخ، أو من قال: إن المراد قصدها بالاعتكاف، كما حكاه ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله عن الخطابي (ت - 388هـ) رحمه الله(49) فالجواب عنهما: أن ذلك تخصيص بلا دليل.
3 - أما قولهم: إن المراد من المساجد فقط دون القبور، أو زيارة الصالحين للتبرك بهم... إلخ.
فهذا غير مسلّم، بل ظاهر الحديث العموم، وأن المراد: لا تشد الرحال إلى موضع إلا إلى ثلاثة مساجد، فإن الاستثناء مفرغ، والمستثنى منه في المفرغ يقدر بأعم العام.
وأما تفرد شهر بن حوشب (ت - 100هـ) برواية دون غيره من الحفاظ فلا يعتد بها؛ فهو كثير الأوهام (50) .
وأما السفر إلى موضع للتجارة، أو لطلب العلم، أو لغرض آخر صحيح مما ثبت جوازه بأدلة أخرى فهو مستثنى من حكم هذا الحديث(51) .
ولم ينقل عن أحد من الصحابة ولا التابعين ومن بعدهم من سلف الأمة، ممن شهد له بالعلم وصحة المعتقد أنه تكلم باسم زيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترغيباً في ذلك، ولا غير ترغيب، فلم يكن لمسمى هذا الاسم حقيقة عندهم، ولهذا كره بعض أهل العلم لفظة (زيارة القبر).(106/229)
وأما الذين أطلقوا لفظة الزيارة إنما يريدون بها إتيان المسجد، والصلاة فيه، والسلام على الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيه، إما قريباً من الحجرة أو بعيداً عنها، إما مستقبلاً القبلة، أو مستقبل القبر (52).
وعلى هذا فتكون أحوال زيارة القبر والمسجد النبوي كالتالي:
إن كانت الزيارة بدون شد رحل، فهذه جائزة، ومرغب فيها، ضمن الضوابط الشرعية كزيارة القبور الأخرى، ويزاد عليها في قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ألا يتخذ عيداً لقوله صلّى الله عليه وسلّم : «لا تجعلوا قبري عيداً ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» (53).
وأما إن كانت الزيارة تحتاج إلى سفر: فينظر في مقصود الزائر: إما أن يريد المسجد فقط، وإما أن يريد القبر فقط، وإما أن يريدهما معاً.
فإن أراد المسجد فقط فهذا مشروع، لحديث النهي عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وحديث تفضيل الصلاة في المسجد النبوي على غيره من المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام.
وإن أراد القبر فقط فهذا غير مشروع، فلا يجوز شد الرحل للقبور.
وإن أرادهما جميعاً فهذا جائز، فالأصل هو المسجد، ويدخل القبر بالتبع .(54)
المبحث الثاني
الزعم أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور ومناقشته
المطلب الأول
الزعم بأن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور
زعم المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه يمنع من زيارة القبور مطلقاً وأنه يقول بتحريم تلك الزيارة، وأنه يستدل بحديث «لعن الله زوارات القبور» (55) على منع الزيارة مطلقاً.
وقالوا بأنه - أيضاً - ينكر مشروعية زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مطلقاً، حتى من كان في المسجد لا يشرع له ذلك.
قال الحصني (ت - 829هـ) عن شيخ الإسلام رحمه الله: (ووجدوا صورة فتوى أخرى يقطع فيها بأن زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقبور الأنبياء معصية بالإجماع مقطوع بها) (56).
وزعم بعضهم بأن شيخ الإسلام رحمه الله هو أول من قال بهذا القول (57).(106/230)
ويستدلون لزيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأدلة من الكتاب والسنة، وإجماع الأمة والقياس:
أما الكتاب فقول الله عزّ وجل: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} [النساء: 64] .
قال ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) عن هذه الآية: (دلت على حث الأمة على المجيء إليه صلّى الله عليه وسلّم، والاستغفار عنده، واستغفاره لهم، وهذا لا ينقطع بموته.
ودلت - أيضاً - على تعليق وجدانهم الله تواباً رحيماً بمجيئهم واستغفارهم واستغفار الرسول لهم)(58) .
وأما من السنة: فيستدلون بأدلة عدة:
منها حديث: (من زار قبري وجبت له شفاعتي).
وحديث: (من حج فزار قبري بعد وفاتي، فكأنما زارني في حياتي).
وحديث: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني).
وحديث: (من زار قبري، أو من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً)، وغيرها من الأحاديث(59) .
ويرى أولئك أن الزيارة: سنة مؤكدة، لكنها مشروطة بالاستطاعة كاستطاعة الحج؛ لأنهم يرون أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد حذر أمته من ترك الزيارة أشد التحذير وأرشد إليها بأبلغ بيان، مما يخشى التارك لها على نفسه القطيعة والعواقب، فترك زيارته صلّى الله عليه وسلّم جفاء، وهو من ترك البر والصلة.
وأما ذكر الحج في الزيارة ليس قيداً فهو لا مفهوم له عندهم، إذن: التارك للزيارة يخشى عليه من العقوبات والقبائح (60).
وأما الإجماع فيقول ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) : (وأما إجماع المسلمين فقد نقل جماعة من الأئمة حملة الشرع الشريف الذين عليهم المدار والمعول في نقل الخلاف والإجماع)(61) .
وأما القياس: فتقاس زيارة قبر نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم على زيارة قبور غيره، بل زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى وأحرى، وأحق وأعلى (62).(106/231)
وأما كراهة الإمام مالك (ت - 179هـ) رحمه الله قول بعض الناس: زرت قبر النبي، فهذا لهم عليه توجيهات:
منها: أن لفظة (الزيارة) تستعمل في زيارة قبر كل ميت، وكراهة الإمام مالك (ت - 179هـ) لهذه اللفظة؛ إنما هو لرفعة مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يساوى وغيره بعبارة واحدة، فكراهة الإمام مالك (ت - 179هـ) رحمه الله إنما هو لأجل أن كلمة أفضل من كلمة.
ومنها: أنه كره لفظة (الزيارة)؛ لأن الزيارة تكون لوصل المزور ونفعه، وأما في زيارة قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم فلا تقال هذه اللفظة لعدم حاجة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لذلك، وإنما الحاجة للزائر في رغبته الثواب من عند الله عزّ وجل.
ومنها: أن كراهة الإمام مالك (ت - 179هـ) رحمه الله لفظة الزيارة؛ لإضافتها إلى القبر، وأنه لو قال: زرنا النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكرهه لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(63) . وبه قال القاضي عياض رحمه الله (64) .
ومنها: كراهة مالك (ت - 179هـ) رحمه الله لفظة (الزيارة)؛ لأن الزيارة من شاء فعلها، ومن شاء تركها، وزيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم من السنن الواجبة (65).
ويدّعي المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه يحرم شد الرحل إلى زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبر غيره من الأنبياء والصالحين، وأنه قد بلغ الغلو والشطط في هذا الأمر (66).
ولذلك يردون عليه، فقد جعل السبكي (ت - 756هـ) من شبه الخصم - ابن تيمية - فهمه الخاطئ لحديث شد الرحل فقال (فتوهم الخصم أن في هذا منع السفر للزيارة، وليس كما توهمه) (67) .
وجعل من شبه الخصم - أيضاً -: كون هذا - أي السفر لزيارة القبر - ليس مشروعاً، وأنه من البدع، التي لم يستحبها أحد من العلماء، لا من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من بعدهم (68).(106/232)
ويذكر هؤلاء تقدير الاستثناء في حديث شد الرحل وأنه يمكن أن يكون التقدير: لفظ (المكان) ويرون أن هذا باطل - بلا خلاف - ولا قائل به؛ لأنه يلزم على هذا التقدير ألا نسافر إلى تجارة أو علم أو خير، وهذا ضرب من الهوس.
ويمكن أن يكون تقدير الاستثناء في الحديث لفظ (قبر)، وهذا السياق ظاهر في عدم انتظام الكلام، وغير لائق بالبلاغة النبوية.
ويمكن أن يكون التقدير لفظ (مسجد)، وهذا التقدير أقرب الاحتمالات الثلاثة (69)، ويحث هؤلاء على شد الرحل لزيارة القبر ويندبون إليها حتى للنساء، ويرون أنه لا زيارة إلا بسفر.
قال ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) : (وجه شمول الزيارة للسفر أنها تستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور كلفظ المجيء الذي نصت عليه الآية الكريمة... وإذا كانت كل زيارة قربة كان كل سفر إليها قربة.. والقاعدة المتفق عليها أن وسيلة القربة المتوقفة عليها قربة)(70) .
ولا يكتفون بأن يجعلوها قربة بل هي من أعظم القربات عند الله عزّ وجل(71) .
المطلب الثاني
مناقشة دعوى أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور
تتميز هذه الدعوى (مسألة شد الرحل) بالذات، والدعوى التي تليها (مسألة التوسل)، عن غيرها من المسائل المنتقدة على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأمر مما يجعلها أكثر إثارة، وأوسع نقاشاً مع الخصم، ألا وهو: أن بداية الانتقاد على ابن تيمية رحمه الله من قبل مناوئيه كان في حياته، فعُقدت جلسات، وقامت مناظرات بينه وبين خصومه، بل وأُلفت الكتب في الرد على ابن تيمية رحمه الله في حياته، مما جعله يؤلف ردوداً عليها تبين وجه الحق في المسألة، والمسائل الملتبسة على الخصم وعلى العامة حتى يتضح الحق ويحيا من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، فألف (الرد على الأخنائي) وألف (الرد على البكري)، إضافة إلى كتب ورسائل أخرى تبين قوله في الموضوع.(106/233)
وقد بين رحمه الله أن لفظ (الزيارة) لفظ مجمل يدخل فيها الزيارة الشرعية والزيارة البدعية التي هي من جنس الشرك، بل صار في عرف كثير من الناس إذا أطلق لفظ زيارة قبور الأنبياء والصالحين إنما يفهم منه الزيارة البدعية.
وإذا كان اللفظ مجملاً يحتمل الحق والباطل عدل عنه إلى لفظ لا لبس فيه كلفظ السلام عليه .(72)
وقد ذكر رحمه الله الخلاف الدائر بين السلف في شرعية زيارة القبور.
فقال طائفة من السلف: إن زيارة القبور محرمة مطلقاً، وأن النهي عن الزيارة لم ينسخ، فإن أحاديث النسخ لم يروها البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله ولم تشتهر، ولما ذكر البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله زيارة القبور احتج بحديث المرأة التي بكت عند القبر.
ومنهم من لا يستحبها، ومنهم من يكرهها مطلقاً، كما نقل عن النخعي (73)، والشعبي (ت - 104هـ) وابن سيرين(74) ، وهؤلاء من أجلة التابعين.
ونقل ابن بطال(75) عن الشعبي (ت - 104هـ) أنه قال: (لولا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابني)(76) .
وقال النخعي (ت - 96هـ) رحمه الله (كانوا يكرهون زيارة القبور) (77).
ولا خلاف بين المسلمين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد نهى عن زيارة القبور، وقيل في سبب ذلك: لأن ذلك يفضي إلى الشرك، وقيل: لأجل النياحة عندها، وقيل: لأنهم كانوا يتفاخرون بها، كما ذكر طائفة من العلماء في قول الله عزّ وجل: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } [التكاثر: 1 - 2] أنهم كانوا يتكاثرون بقبور الموتى (78) .
لكن اختلف العلماء بعد ذلك: هل نسخ هذا التحريم أم لا؟
فقيل لم ينسخ - كما سبق -، وقال آخرون: بل نسخ ذلك، واختلف هؤلاء هل نسخ إلى الندب أم إلى الإباحة؟
فقال قوم: إنما نسخ إلى الإباحة، وقال قوم: نسخ إلى الاستحباب(79) .
وبين أن الأقوال الثلاثة صحيحة باعتبار:(106/234)
فالزيارة إذا تضمنت أمراً محرماً من شرك أو كذب أو ندب أو نياحة: فهذه زيارة محرمة.
وأما إن كانت الزيارة لمجرد الحزن على الميت، لقرابته أو صداقته: فهي مباحة، وهذا كزيارة قبر الكافر فرخص فيها؛ لأجل تذكر الآخرة، لا للدعاء له والاستغفار له.
قال الله عزّ وجل: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال: «استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» (80) .
وأما إن كانت الزيارة لقبور المؤمنين للدعاء للموتى كالصلاة على الجنازة: فهذا مستحب قد دلت السنة عليه (81).
ويقسم ابن تيمية رحمه الله الزيارة - في مواضع أخرى - إلى قسمين؛ زيارة شرعية، وزيارة بدعية، ومرد هذا الاختلاف إنما هو التنوع في التقسيم والعرض، حسب حاجة المخاطب(82) .
وبهذا يتبين أن ابن تيمية رحمه الله لم يحرم زيارة القبور مطلقاً، بل فرق بين الزيارة المحرمة، والزيارة المباحة، والزيارة المستحبة.
وأما زيارة قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم الزيارة الشرعية فهي ما يفعله علماء المسلمين (يصلون في مسجده صلّى الله عليه وسلّم، ويسلمون عليه في الدخول للمسجد، وفي الصلاة، وهذا مشروع باتفاق المسلمين) (83).
وزيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ليست واجبة باتفاق المسلمين، ولم يرد في الكتاب والسنة أمر بزيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على وجه الخصوص، وإنما الأمر الموجود في الكتاب والسنة: الصلاة والتسليم عليه، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً (84)، فزيارة قبره مستحبة كزيارة قبور غيره.(106/235)
وقد اتفق العلماء على أن أهل المدينة لا يزورون القبر النبوي كلما دخلوا المسجد أو خرجوا منه، لا للدعاء ولا لغيره، بل كانوا يأتون المسجد، وهم في كل صلاة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو في مسجد غيره يقولون: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ويصلون عليه ويسألون الله له الوسيلة إذا سمعوا الأذان.
وأما حكم إتيان أهل المدينة قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا قدموا من سفر، أو غير أهل المدينة إذا قدموا من سفر، فهذا فيه قولان:
القول الأول: الجواز لفعل ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما فتابعه جماعة، وإن لم يكن هذا من السنن المشهورة، إذ لم يأمرهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذلك، كما أمرهم أن يسلموا عليه في الصلاة.
والقول الثاني: المنع من إتيان القبر، والاكتفاء بالصلاة والسلام عليه في المسجد (85).
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله الخلاف بين أهل العلم حين السلام على الرسول صلّى الله عليه وسلّم عند القبر، وعلى صاحبيه، هل يستقبل القبر، أم يستقبل القبلة؟
فقال الأئمة الثلاثة مالك (ت - 179هـ) ، والشافعي (ت - 204هـ) ، وأحمد (ت - 241هـ) ، رحمهم الله إنه يستقبل القبر، ويستدبر القبلة، فيسلم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم من تلقاء وجهه، ثم ينحرف قليلاً فيسلم على أبي بكر (ت - 13هـ) ثم ينحرف قليلاً ويسلم على عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنهما، وهذا فعل أكثر الصحابة.
وأما مذهب أبي حنيفة (ت - 150هـ) رحمه الله فإن المسلم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم يستدبر الحجرة، وقيل يجعلها عن يساره (86).
وأما وقت الدعاء فإنه يستقبل القبلة اتفاقاً، وكان مالك (ت - 179هـ) رحمه الله من أعظم الأئمة كراهية لذلك.(106/236)
وأما الحكاية التي تذكر عنه أنه قال للمنصور(87) لما سأله عن استقبال الحجرة بالدعاء فأمره بذلك، وقال: (هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم)، فهذه كما يذكر ابن تيمية رحمه الله كذب على مالك ليس لها إسناد معروف، وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه (88) .
وأما قصد القبر ليدعو الزائر لنفسه، فهذا بدعة، لم يكن أحد من الصحابة يقف عند قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليدعو لنفسه.
قال ابن تيمية رحمه الله (لم يكن أحد من الصحابة يقصد شيئاً من القبور، لا قبور الأنبياء ولا غيرهم، لا يصلي عنده، ويدعو عنده، ولا يقصده لأجل الدعاء عنده، ولا يقولون إن الدعاء عنده أفضل، ولا الدعاء عند شيء من القبور مستجاب)(89) .
ويتعجب رحمه الله من كثير من الناس وقد نهي عن الصلاة عندها وإليها، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها»(90) ، ثم هو يقصد الدعاء عندها، فهل يقول مسلم عاقل: إن مكاناً نهينا أن نعبد الله فيه بالصلاة لله يكون الدعاء فيه مستجاباً (91) .
وهل يجوز التمسح بالقبر وتقبيله وتمريغ الخد عليه؟
أجاب رحمه الله بأن هذا منهي عنه باتفاق المسلمين، وليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها. إلا الحجر الأسود، لما ثبت في الصحيحين أن عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه قال: (والله إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبلك ما قبلتك) (92).
وأما الاستلام فلا يستلم إلا الركنان اليمانيان، فمن زار قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه لا يستلمه، ولا يقبله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.
وكل هذا لأجل المحافظة على التوحيد، وحماية جنابه؛ لأن من أصول الشرك اتخاذ القبور مساجد، كما قال تعالى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23] .(106/237)
وبهذا يتبين أن شيخ الإسلام رحمه الله لم ينه عن الزيارة الشرعية للقبور مطلقاً، أو قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإنما نهى عن الزيارة غير الشرعية وهي ما ينهى عنه الإسلام، وقد أنصفه ابن عابدين(93) في قوله: (وما نسب إلى الحافظ ابن تيمية الحنبلي من أنه يقول بالنهي عنها - أي زيارة قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم -، فقد قال بعض العلماء: إنه لا أصل له، وإنما يقول بالنهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاث(94) ، أما نفس الزيارة فلا يخالف فيه لزيارة سائر القبور)(95) .
وأما احتجاج مثبتة الزيارة البدعية بقوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} [النساء: 64] ، وأن ذلك يدل عليها، فقد رد ابن تيمية رحمه الله عليهم مبيناً المعنى الصحيح للآية بقوله:
(دعاهم - سبحانه - بعدما فعلوه من النفاق إلى التوبة وهذا من كمال رحمته بعباده، يأمرهم قبل المعصية بالطاعة، وبعد المعصية بالاستغفار، وهو رحيم بهم في كلا الأمرين.. وقوله (جاءوك): المجيء إليه في حضوره معلوم كالدعاء إليه.
وأما في مغيبه ومماته فالمجيء إليه كالدعاء إليه، والرد إليه، قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} [النساء: 61] ، وقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ } [النساء: 59] ، وهو الرد والمجيء إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة.
وكذلك المجيء إليه لمن ظلم نفسه هو الرجوع إلى ما أمره به...(106/238)
وأما مجيء الإنسان إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم عند قبره، وقوله: استغفر لي، أوسل لي ربك... فهذا لا أصل له، ولم يأمر الله بذلك، ولا فعله واحد من سلف الأمة المعروفين في القرون الثلاثة، ولا كان ذلك معروفاً بينهم...)(96) ، فليس في الآية أمر بزيارة قبره صلّى الله عليه وسلّم ولا شد الرحل إليه.
وأما الأحاديث التي تحث على زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بخصوصه، فليس فيها حديث واحد صحيح، بل هي إما من الموضوع، أو من الحديث الضعيف الذي لا يصح الاحتجاج به، ولا العمل به.
فأما الحديث الأول الذي ذكروه في فضل الزيارة وهو: «من زار قبري وجبت له شفاعتي»، فهذا رواه الدارقطني(97) رحمه الله في سننه(98) ، من طريق موسى بن هلال العبدي، عن عبد الله بن عمر العمري.
وموسى بن هلال: قال عنه أبو حاتم (ت - 277) رحمه الله: مجهول(99) .
وقال العقيلي(100) : لا يتابع على حديثه (101).
وقال ابن عدي(102) : أرجو أنه لا بأس به (103).
وقال الذهبي (ت - 748هـ) : صالح الحديث(104) ، لكن الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله أنكر عليه هذا الحديث(105) .
ورواه موسى بن هلال عن عبد الله بن عمر العمري، خلافاً لمن قال إنه: عبيد الله بن عمر العمري، فالمكبر ضعيف، وأما أخوه عبيد الله المصغر فثقة ثبت.
وقد أجاب الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله على من قال بأن الحديث من رواية عبيد الله الكبير المصغر الثقة، لا من رواية عبد الله الصغير المكبر المضعف، بأن أحد الأسانيد فيه التصريح بالكنية بأبي عبد الرحمن، وهي كنية الصغير المكبر المضعف فقال:
(فذكره هذا - أي الكنية بأبي عبد الرحمن - قاطع للنزاع من أنه عن المكبر لا عن المصغر، فإن المكبر هو الذي يكنى بأبي عبد الرحمن)(106) .
وبهذا يتبين أن الحديث ضعيف كما قال ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله:(106/239)
(وهو مع هذا حديث غير صحيح ولا ثابت، بل هو حديث منكر عند أئمة هذا الشأن، ضعيف الإسناد عندهم لا يقوم بمثله حجة، ولا يعتمد على مثله عند الاحتجاج إلا الضعفاء في هذا العلم) (107).
وأما الحديث الثاني وهو: (من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي).
فهذا رواه البيهقي(108) في سننه(109) ، والدارقطني (ت - 385هـ) في سننه(110) ومدار الحديث على حفص بن سليمان:
وهذا قال عنه البخاري (ت - 256هـ) : تركوه(111) .
وقال ابن حبان(112) في المجروحين: (كان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها، ويرويها من غير سماع، وقال ابن معين رحمه الله ليس بثقة)(113) .
وقال ابن أبي حاتم (ت - 327هـ) رحمه الله: (ضعيف الحديث) (114).
وقال ابن عدي (ت - 365هـ) رحمه الله: (وعامة حديثه عن من روى عنهم غير محفوظة) (115).
والخلاصة قول ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله (متروك الحديث مع إمامته في القراءة) (116).
وفي سنده - أيضاً -: ليث بن أبي سليم: وهو ضعيف متروك الحديث - أيضاً - كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله في تقريب التهذيب(117) .
قال ابن تيمية رحمه الله (وقد اتفق أهل العلم بالحديث على الطعن في حديث حفص هذا، دون قراءته)(118) .
وأما الحديث الثالث وهو: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني).
فهذا ذكره ابن عدي (ت - 365هـ) في ترجمة النعمان بن شبل(119) .
قال عنه ابن حبان (ت - 354هـ) : بعد أن ذكر أنه يروي عن مالك: (يأتي عن الثقات بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات) (120).
وقال الذهبي (ت - 748هـ) عن هذا الحديث: إنه (موضوع) (121).
وعده جماعة من أهل العلم في عداد الموضوعات(122) .(106/240)
قال ابن تيمية رحمه الله عن هذا الحديث: (لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هو موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعناه مخالف الإجماع، فإن جفاه (123) الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الكبائر، بل هو كفر ونفاق... وأما زيارته فليست واجبة باتفاق المسلمين). (124)
وأما حديث (من زار قبري أو من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً).
فهذا رواه البيهقي (ت - 458هـ) في سننه(125) ، وقال بعد ذكر الحديث:
(هذا إسناد مجهول) (126)؛ لأن في سنده رجلاً من آل عمر.
وأما سوار بن ميمون راوي الحديث عن (رجل من آل عمر) فقال عنه ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) (شيخ مجهول الحال قليل الرواية، بل لا يعرف له رواية إلا هذا الحديث الضعيف المضطرب)(127) .
ثم ذكر اختلاف الرواة في اسمه هل هو سوار أو ميمون ثم قال:
(والله أعلم هل كان اسمه سواراً أو ميموناً، فكيف يحسن الاحتجاج بخبر منقطع مضطرب نقلته غير معروفين، ورواته في عداد المجهولين)(128) .
وفي أحد أسانيد الحديث: هارون بن قزعة.
قال عنه الذهبي (ت - 748هـ) (هارون بن قزعة المدني عن رجل في زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال البخاري: لا يتابع عليه)(129) .
وذكر ابن عدي (ت - 365هـ) كلام البخاري (ت - 256هـ) عنه السابق ولم يعلق عليه(130) ، مما يفيد أنه ارتضى هذا الحكم.
وقال الأزدي(131) : متروك.
وقد ذكر الذهبي (ت - 748هـ) كلام الأزدي (ت - 409هـ) هذا في ترجمة هارون بن قزعة، بعد قول الذهبي (ت - 748هـ) عنه (لا يعرف)(132) .
لكن الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) تعقب الإمام الذهبي في إيراده كلام الأزدي (ت - 409هـ) في الذي لا يعرف وقال: (والذي أراد الأزدي هو الأول)(133) أي هارون بن قزعة، وقد بين ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله ضعف الحديث، وأن سبب هذا الضعف أمور متعددة وهي: (الاضطراب والاختلاف والانقطاع والجهالة والإبهام)(134) .(106/241)
وعلى كل حال: فليس في أحاديث فضل الزيارة حديث واحد صحيح، بل كلها إما ضعيفة، وإما موضوعة، كما قال ابن تيمية رحمه الله:
وليس في زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث حسن، ولا صحيح، ولا روى أهل السنن المعروفة، كسنن أبي داود، والنسائي(135) وابن ماجه(136) ، والترمذي(137) ، ولا أهل المسانيد المعروفة كمسند أحمد ونحوه، ولا أهل المصنفات كموطأ مالك وغيره في ذلك شيئاً، بل عامة ما يروى في ذلك أحاديث مكذوبة موضوعة) (138).
وأما حكاية الإجماع على استحباب الزيارة، وأن شيخ الإسلام لا يراها.
فقد أجاب شيخ الإسلام رحمه الله بأكثر من أربعين وجهاً على هذه الحكاية للإجماع، وعلى زعمهم أنه يخالف الإجماع فيها: فذكر أنه لم يقل بخلاف الإجماع مطلقاً، وإنما مقصود المخالفين بلفظ (الزيارة): الزيارة التي تستلزم السفر وشد الرحل، فهناك فرق بين زيارة القبور، وبين السفر لزيارة القبور، أما الأول فهو مستحب على قول الجمهور، وأما الثاني فلم يقل به الأئمة المجتهدون.
وأما جعل جنس الزيارة مستحباً بالإجماع فهذا باطل؛ لأنهم لم يفرقوا ويفصلوا بين المشروع والمحرم، فالزيارة بعضها مشروع، وبعضها محرم بالإجماع، والمخالفون لابن تيمية رحمه الله أنكروا هذا التفصيل، وهذا مخالف للإجماع، والحكم به باطل بالإجماع.
وأما حكاية الإجماع على جواز السفر لزيارة القبر فهذا ليس بصحيح، بل فيه نزاع مشهور، ودعوى الإجماع باطلة ما لم تثبت بنقل صحيح، وبتتبع واستقراء لأقوال العلماء المجتهدين.
وإذا كان هذا الأمر لا إجماع فيه فهو مما تنازع فيه العلماء، وما تنازع فيه العلماء يجب رده إلى الله والرسول إجماعاً، قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] .(106/242)
وأيضاً: فإن الأمور المتنازع فيها بين العلماء المجتهدين لا يصح لأحد من القضاة أن يفصل النزاع فيها بحكم، وقوله كقول آحاد العلماء إن كان عالماً، وأما إن كان مقلداً كان بمنزلة العامة المقلدين (139) .
وأما الاحتجاج بالقياس على جواز زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بجواز زيارة قبر غيره، فهذا لا ينكره أحد، حتى ابن تيمية رحمه الله لم يحرم زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم لمن كان في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن نقل عنه خلاف ذلك فهو باطل، والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع (140) .
وأما تخريجات المناوئين لابن تيمية كراهة الإمام مالك (ت - 179هـ) لفظة (الزيارة) في قول الناس: زرت قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد ذكر ابن تيمية تخريجات الناس لهذه الكراهة (141).
ورجح ثلاثة احتمالات:
الأول: أن قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يرد في فضل زيارته أحاديث مخصوصة، أو سنة متبعة (42).
الثاني: أن لفظ (الزيارة) صار في عرف الناس يحتمل الزيارة الشرعية، والزيارة المحرمة، فلا يصح الإطلاق لهذا اللفظ، وهذا محتمل لمعنى حق وآخر باطل (143) .
الثالث: أن زيارة قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليست في مقدور أحد، فهو داخل الحجرة، وإن ما يفعله الناس هو السلام عليه، فما بقي أحد يمكنه أن يزور قبره كما تزار سائر القبور، وإنما يمكن دخول مسجده، وهذا هو الذي يعنيه الناس بزيارة قبره، وهي تسمية غير متطابقة.
وقال ابن تيمية رحمه الله عن هذا التخريج: (وهذا من أحسن ما يعلل به كراهة من كره أن يقال زرت قبره)(144) .
وأما إذا أتى بلفظ (السلام) على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهذا لا يكره بالاتفاق(145)
وأما حديث شد الرحل: فقد توقف عنده ابن تيمية رحمه الله طويلاً مبيناً الكثير من جزئياته، حتى لا يلتبس كلامه، ولا يفهمه المخالف على غير ما أراده رحمه الله.(106/243)
فبين أن السفر إلى المساجد الثلاثة مشروع بنص هذا الحديث، قال رحمه الله:
(وقد اتفق أئمة الدين على أنه يشرع السفر إلى المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والمسجد الأقصى)(146) ، وذكر أن هذا هو فعل الصحابة - رضوان الله عليهم - (147).
ومشروعية السفر إلى المساجد الثلاثة ليست للوجوب إنما هي للندب والاستحباب، فلم يقل أحد: إن السفر إلى المسجد النبوي أو المسجد الأقصى واجب، مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد شرع السفر إليهما (148).
والمساجد جميعها تشترك في العبادات، فكل ما يفعل في مسجد يفعل في سائر المساجد، إلا ما خص به المسجد الحرام كالصلاة إليه دون غيره، والطواف ونحوه، وأما المسجد النبوي، والمسجد الأقصى، فكل ما يشرع فيهما من العبادات فإنه يشرع في سائر المساجد: كالصلاة والدعاء والذكر، ولا يشرع فيهما جنس لا يشرع في غيرهما، لكنهما أفضل من غيرهما، فالصلاة فيهما تضاعف على الصلاة في غيرهما (149).
وفضيلة المسجد النبوي ليس لأجل مجاورته القبر، بل هي ثابتة له في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يدفن في حجرة عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها وكذلك هي ثابتة بعد موته، كما أن المسجد الحرام مفضل لا لأجل قبره وكذلك المسجد الأقصى، فكيف لا يكون مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم مفضلاً لا لأجل القبر.
قال رحمه الله: (فمن ظن أن فضيلته لأجل القبر، أو أنه إنما يستحب السفر إليه؛ لأجل القبر فهو جاهل مفرط في الجهل، مخالف لإجماع المسلمين، ولما علم من سنة سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم، وهذا تنقص بالرسول وبقوله ودينه، مكذب له فيما قاله، مبطل لما شرعه وإن ظن أنه يعظمه) (150).(106/244)
وأما السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة فغير مشروع اتفاقاً، وحرمه الجمهور، مع أن المساجد أحب البقاع إلى الله، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أحب البلاد إلى الله مساجدها»(151) .
وقد ذكر رحمه الله الخلاف في حكم السفر إلى زيارة القبر، وأن للعلماء فيه قولين مع أن النزاع مرجوح ضعيف في هذه المسألة، فمن قائل: إنه معصية وهو قول الجمهور، ومن قائل: إنه ليس بمحرم، لكن لا فضيلة فيه، وليس بمستحب، فهو مباح، ولم يقل أحد باستحباب السفر إلى زيارة القبر، ومن قال به فهو مخالف للإجماع (152).
وهذا يجعلنا نفهم مراد العلماء الذين استحبوا السفر إلى زيارة قبر نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإن مرادهم بالسفر إلى زيارته هو السفر إلى مسجده، وليس إلى قبره؛ لأن السفر إلى مسجده هو المشروع باتفاق المسلمين سلفهم وخلفهم، أما السفر إلى قبره - فكما ذكر آنفاً - أنه لم يقل أحد باستحبابه (153).
وأما أصل زيارة القبور فلم يحرم ابن تيمية زيارتها، بل يرى الاستحباب - كما هو قول الجمهور - ومع ذلك فقد قال بعدم نسخ المنع من زيارة القبور بعض أئمة التابعين كالنخعي (ت - 96هـ) ، والشعبي (ت - 104هـ) وابن سيرين (ت - 110هـ) - رحمهم الله جميعاً - (154).
ولذا فإن ابن تيمية رحمه الله يفرق بين الزيارة الشرعية المستحبة، وبين السفر لزيارة القبر، فالأول مشروع اتفاقاً، وأما الثاني فغير مشروع(155) ، فلم يكن أحد من الصحابة والتابعين يسافر إلى قبر، لا قبر نبي ولا غيره، بل كان عامتهم يأتون المدينة النبوية، ويصلون في مسجده صلّى الله عليه وسلّم، ويسلمون عليه في الصلاة، ويرون ذلك هو غاية المطلوب (156) وأما حديث (لا تشد الرحال)، فهل المقصود به النهي، أو النفي فقط؟
فقد ذكر رحمه الله أنه لم يعرف نزاع بين السلف من الصحابة، والتابعين والأئمة أن مراد هذا الحديث هو النهي عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة.(106/245)
وقد جاء الحديث بصيغة النهي كما ورد عن أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تشدوا الرحال»(157) .
وقد أجاب رحمه الله على من قال بأن النفي في الحديث محمول على نفي الاستحباب بثلاثة أوجه:
الأول: أن هذا التخريج تسليم من قائله أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة، ولا هو من الحسنات، ومن سافر لاعتقاده أن هذا السفر طاعة فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحداً لا يسافر إليها إلا لذلك.
وأما إذا قدر شد الرحل إليها لغرض مباح فهذا جائز من هذا الباب.
الثاني: أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم.
الثالث: يكدر على تخريجهم النفي في الحديث على نفي الاستحباب، ما رواه أبو سعيد (ت - 74هـ) - في الحديث السابق - عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله: «لا تشدوا الرحال» (158).
وهو نهي صريح منه صلّى الله عليه وسلّم لأمته عن شد الرحل لغير المساجد الثلاثة (159) .
ويرجح رحمه الله في تقدير الاستثناء المفرغ في الحديث لفظ (مكان) فيكون معنى الحديث:
لا تشد الرحال إلى مكان إلا إلى ثلاثة مساجد، ومن ظن أن هذا التخريج يلزم منه النهي عن السفر لطلب علم أو تجارة أو غير ذلك، فهو ظن خاطئ، ولا يلزم من ذلك التقدير هذا اللازم، قال رحمه الله:
(أما السفر لتجارة، أو جهاد، أو طلب علم، أو زيارة أخ في الله، أو صلة رحم، أو نحو ذلك، فإنها لم تدخل في الحديث؛ لأن تلك لا يقصد فيها مكان معين، بل المقصود ذلك المطلوب حيث كان صاحبه، ولهذا لم يفهم أحد من هذا هذه الأمور) (160).(106/246)
وأجاب رحمه الله عن الشبهة القائلة بأن زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ميتاً، كزيارته في حياته، وقد استدل أصحابها بحديث الذي سافر لزيارة أخ له في الله وهو قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها(161) ، قال: لا غير أني أحببته في الله عزّ وجل ، فقال: فإني رسول الله إليك، فإن الله أحبك كما أحببته فيه» (162).
وبين رحمه الله أن زيارة الأخ في الله الحي - كما في الحديث - نظير زيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم في حياته، وذلك بزيارة أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم له حال حياته.
وأما قياس زيارة القبر كزيارته حياً فهذا لم يقل به أحد من علماء المسلمين، وهذا من أفسد القياس، فمن المعلوم أن من زار الحي حصل له بمشاهدته، وسماع كلامه، ومخاطبته، وسؤاله، وجوابه وغير ذلك ما لا يحصل لمن لم يشاهده ولم يسمع كلامه.
وليس رؤية القبر أو ظاهر جدار الحجرة بمنزلة رؤية الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومشاهدته ومجالسته وسماع كلامه، ولو كان هذا مثل هذا لكان كل من زار قبره مثل واحد من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم، وهذا من أبطل الباطل.
وأما السفر إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته فهو:
إما أن يكون لما كانت الهجرة إليه واجبة كالسفر قبل الفتح، فيكون المسافر إليه مسافر للمقام عنده بالمدينة، وهذا السفر انقطع بفتح مكة لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» (163).(106/247)
وإما أن يكون المسافر إليه وافداً إليه ليسلم عليه، ويتعلم منه ما يبلغه قومه كالوفود الذين كانوا يفدون إليه صلّى الله عليه وسلّم في السنة العاشرة من الهجرة، وقد أوصى صلّى الله عليه وسلّم في مرضه قبل أن يموت بثلاث فقال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم»(164) ، وكان السفر إليه في حياته لتعلم الدين، ولمشاهدته وسماع كلامه صلّى الله عليه وسلّم .
ومعلوم أنه صلّى الله عليه وسلّم لو كان حياً في المسجد لكان قصده في المسجد من أفضل العبادات، وأما قصد القبر بالسفر: فليس عند قبره صلّى الله عليه وسلّم مصلحة من مصالح الدين، وقربة إلى رب العالمين إلا وهي مشروعة في جميع البقاع، فلا ينبغي أن يكون المسافر للزيارة غير معظم للرسول صلّى الله عليه وسلّم التعظيم التام، والمحبة التامة إلا عند قبره، بل هو مأمور بهذا في كل مكان، فكانت زيارته في حياته مصلحة راجحة لا مفسدة فيها، والسفر إلى القبر لمجرده مفسدة راجحة لا مصلحة فيها بخلاف السفر إلى مسجده فإنه مصلحة راجحة، ومن شبه من زار قبر شخص بمن كان يزوره في حياته فهو مصاب في عقله ودينه(165) .
وأما دعوى أن الزيارة إذا كانت جائزة أو قربة، فالوسيلة إليها جائزة أو قربة، فهذه دعوى باطلة، فليس كل ما كان جائزاً، أو مستحباً، أو واجباً جاز التوسل إليه بكل طريق، بل هذا الطريق يكون في المحرم المنهي عنه فقط، فكل ما كان منهياً عنه كان التوسل إليه محرماً.
وأما ما كان مأموراً به فلا بد أن يكون له طريق، لكن لا يجوز أن يتوسل إليه بكل طريق، بل لو توسل الإنسان إلى الطاعة بما حرمه الله - مثل الفواحش والبغي والشرك به والقول عليه بغير علم - لم يجز ذلك.
وإتيان المساجد للجمعة والجماعة من أفضل القربات، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمساً وعشرين درجة»(166) .(106/248)
ولو أراد مع هذا أن يسافر إلى غير المساجد الثلاثة ليصلي هناك جمعة أو جماعة لم يكن هذا مشروعاً، بل هو محرم عند جمهور العلماء.
وكون الرحلة إلى القربة معصية كثير في الشريعة كالرحلة للصلاة والاعتكاف في غير المساجد الثلاثة، وكما لو رحلت المرأة إلى أمر غير واجب بدون إذن الزوج كحج التطوع، وكذلك لو رحل العبد إلى الحج بدون إذن سيده، وكذلك لو رحلت المرأة بغير زوج ولا ذي محرم لأمر مشروع غير واجب، وكذا لو أراد أن يسافر إلى الحج لكن الطريق يحصل فيه ضرر في دينه أو عرضه أو ماله.
وكذلك من طولب بقضاء دين لزمه قضاؤه لم يكن له أن يسافر بالمال الذي يجب صرفه في قضاء دينه، وهذا كثير في الشريعة أن يكون العمل في أصله مشروعاً، لكن الطريق إليه والوسيلة غير مشروعة (167) .
وبعد هذا تبين لنا أن شيخ الإسلام رحمه الله متابع لمن قبله من السلف والأئمة، يجيز زيارة القبور الزيارة الشرعية - بما فيها قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وينهى عن الزيارة غير الشرعية، ويرى حرمة شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة، وأنه لا صحة لما لفّقه أعداؤه عليه، وما لبسوا فيه من الحق بالباطل على عامة الناس، ولهذا قيل في الرد عليهم:
وما نسبتم إليه عند ذكركم *** ترك الزيارة أمرٌ لا يقول به
فقد أجابكم عن ذا بأجوبة *** أزال فيها صدى الإشكال والشبه
وقد تبين هذا في مناسكه *** لكل ذي فطنة في القول معربه
رميتموه ببهتان يشان به *** فالله ينصفه ممن رماه به
وفي الجواب أمور من تدبرها *** سقى الأنام بها من صفو مشربه
ولم يكن مانعاً نفس الزيارة بل *** شد الرحال إليها فادر وانتبه
تمسكاً بصحيح النقل متبعاً *** خير القرون أولي التحقيق والنَّبه
مع الأئمة أهل الحق كلهم *** قالوا كما قال قولاً غير مشتبه
وقد علمت يقيناً حين وافقه *** أهل العراق على فتياه فافت به (168)
المبحث الثالث(106/249)
دعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها
يرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه ينتقص من منزلة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا يعظمه حق تعظيمه، ولا يحله المنزلة التي يرضاها الله سبحانه وتعالى له والمؤمنون، فقالوا عنه: إنه يزدري النبي صلّى الله عليه وسلّم (169).
وقالوا عنه: إنه في قلبه ضغينة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم(170) .
ويرون أن مقلدة ابن تيمية (قد اعتقدوا أن كل ما فيه إجلاله صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل فهو شرك وعبادة له من قائله أو فاعله، فسجلوا على أنفسهم للعالم الإسلامي أنه(171) موتورون منه صلّى الله عليه وسلّم، يسوءهم ما فيه توقيرهم(172)، ويسرهم ما فيه انتهاك حرمته صلّى الله عليه وسلّم) (173)..
وحين حكم ابن تيمية رحمه الله بحرمة شد الرحل، جعل المناوئون ذلك من عدم توقيره للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم (174)
وحين رد السبكي (ت - 756هـ) على ابن تيمية رحمه الله في تحريم شد الرحل ذكر أن هذه الزيارة لأجل التبرك والتعظيم فقال: (ومن المعلوم أن الزيارة بقصد التبرك والتعظيم لا تنتهي في التعظيم إلى درجة الربوبية، ولا تزيد على ما نص عليه في القرآن والسنة (175) ، وفعل الصحابة من تعظيمه في حياته وبعد وفاته، فكيف يتخيل امتناعها)(176) .
ولذلك فالمناوئون في ردهم على ابن تيمية يذكرون أنواعاً من الغلو في التعظيم للرسول صلّى الله عليه وسلّم مثل التمسح بالقبر وتقبيله، فحين ذكر ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) أقوال العلماء في حكم التمسح ووضع اليد وتقبيل القبر ذكر قولاً مرتضياً له وهو قوله: (والناس تختلف مراتبهم في ذلك كما كانت تختلف في حياته صلّى الله عليه وسلّم، فأناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم بل يبادرون إليه، وأناس فيهم أناة يتأخرون، والكل على خير ) (177).(106/250)
ويذكرون الدعاء عند القبر رجاء بركة من فيه (178).
ويذكرون التبرك بما مسته يد النبي صلّى الله عليه وسلّم (179).
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
يربط المناوئون لابن تيمية رحمه الله، بل وأعداء عقيدة السلف - غالباً - بين محبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وبين الزيارة غير الشرعية المتضمنة للمحرمات أو البدع أو الشركيات، ويرون أن من لم يوافقهم على هذه المخالفات الشرعية في الزيارة وغيرها مما يتعلق بشخص النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو منتقص من منزلة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، محتقر له، لا يوقره حق توقيره، وقد قالوا مثل هذا في شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وسأستعرض عرضاً سريعاً موقف ابن تيمية رحمه الله من النبي صلّى الله عليه وسلّم، محبة، وتعظيماً، واتباعاً، ليتبين موقفه الواضح من هذه القضية.
وبادئ الأمر يحسن ذكر مقولة أحد تلاميذه المقربين منه ليعطينا صورة سريعة عن محبة ابن تيمية رحمه الله للرسول صلّى الله عليه وسلّم، ألا وهو الحافظ البزار (ت - 749هـ) رحمه الله فيقول عنه: (وكان لا يذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قط إلا ويصلي ويسلم، ولا والله ما رأيت أحداً أشد تعظيماً لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أحرص على اتباعه ونصر ما جاء به منه، حتى إذا كان أورد شيئاً من حديثه في مسألة، ويرى أنه لم ينسخه شيء غيره من حديثه يعمل به ويقضي ويفتي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائناً من كان، وقال رضي الله عنه: كل قائل إنما يحتج لقوله لا به إلا الله ورسوله) (180).
وتظهر محبة ابن تيمية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وجوه متعددة منها:(106/251)
أولاً: عرضه سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وبيانه صفات الرسول صلّى الله عليه وسلّم الخلقية والخُلقية فمما قاله في ذلك: (... كان من أكمل الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفاً بالصدق والبر والعدل، ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم، مشهوداً له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، وممن آمن به، وممن كفر بعد النبوة، لا يعرف له شيء يعاب به، لا في أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقه، ولا جرب عليه كذبة قط، ولا ظلم، ولا فاحشة.
وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها، وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أمياً من قوم أميين لا يعرف لا هو ولا هم، ما يعرفه أهل الكتاب: التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئاً عن علوم الناس، ولا جالس أهلها.
ولم يدّع نبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبرنا بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله)(181) .
ثم قال: (وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم، فتجتمع في الموسم قبائل العرب، فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابراً على ما يلقاه من تكذيب المكذب، وجفاء الجافي، وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب، وكانوا جيران اليهود، قد سمعوا أخباره منهم، وعرفوه، فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الذي تخبرهم به اليهود) (182).(106/252)
ثم تحدث عن الهجرة وما بعدها قائلاً: (فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار، ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة، إلا قليلاً من الأنصار أسلموا في الظاهر، ثم حسن إسلام بعضهم، ثم أذن له في الجهاد، ثم أمر به، ولم يزل قائماً بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة، ولا ظلمٌ لأحد، ولا غدرٌ بأحد، بل كان أصدق الناس، وأعدلهم، وأوفاهم بالعهد، مع اختلاف الأحوال عليه: من حرب وسلم، وأمن وخوف، وغنى وفقر، وقلةٍ وكثرة، وظهوره على العدو تارة، وظهور العدو عليه تارة، وهو على ذلك لازم لأكمل الطرق وأتمها... وهو صلّى الله عليه وسلّم مع ظهور أمره، وطاعة الخلق له، وتقديمهم له على النفس والأموال مات صلّى الله عليه وسلّم ولم يخلف درهماً ولا ديناراً، ولا شاة ولا بعيراً له إلا بغلته وسلاحه..) (183).
ثانياً: أن من سب الرسول صلّى الله عليه وسلّم من مسلم أو كافر فإنه يجب قتله، وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة في أغلب مباحث كتابه (الصارم المسلول) (184) .(106/253)
ثالثاً: أن من آذى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقد آذى الله، وهو محاد لله عزّ وجل ومن شاق الرسول فقد شاق الله، ومن عصى الرسول فقد عصى الله، قال الله عزّ وجل: { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 62 - 63] ، فأذى النبي صلّى الله عليه وسلّم محادة لله؛ لأنه ذكر هذه الآية بعد قوله عزّ وجل: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61] ، وبين الله عزّ وجل أن من حاد الله ورسوله فهو أذل في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20] ، والأذل أبلغ من الذليل.
وبين عزّ وجل أن المحادين لله ورسوله كبتوا كمن كان قبلهم بقوله: { ِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5] ، والكبت: الإذلال والخزي والصرع (185).
وجعل الله عزّ وجل مشاقته ومشاقة رسوله ومحادته ومحادة رسوله، وأذاه وأذى رسوله، ومعصيته ومعصية رسوله بمنزلة واحدة، فقال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [المجادلة: 20] ، وقال: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ } [التوبة: 63] ، وقال: { وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ } [النساء: 14] .(106/254)
وقذف أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من أذاه في عرضه، فمن قذفهن فقد آذى الرسول صلّى الله عليه وسلّم في عرضه، وقال الله عزّ وجل فيهن: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور: 23] .
ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي صلّى الله عليه وسلّم قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حادثة الإفك: «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي(186) ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً»(187).
قال ابن تيمية رحمه الله (فقوله: (من يعذرني): أي من ينصفني ويقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من أذاه في أهل بيتي والله لهم، فثبت أنه صلّى الله عليه وسلّم قد تأذى بذلك تأذياً استعذر منه) (188).
رابعاً: أن الاستهزاء بالرسول صلّى الله عليه وسلّم والاستخفاف به كفر مخرج من الملة، لقوله عزّ وجل: { قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66] (189).
خامساً: وجوب التحاكم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والتسليم لحكمه ظاهراً وباطناً لقوله عزّ وجل: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء: 65] .(106/255)
وجعل من رفض التحاكم إليه منافقاً بقوله عزّ وجل: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء: 60 - 61] .
وبين - سبحانه - حال المنافقين ثم حال المؤمنين وموقفهم من التحاكم إلى الله ورسوله بقوله: { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 47 - 51] .
وبهذا يتبين وجوب التحاكم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأن أقرب الطرق إلى مرضاته هو اتباع شرعه(190) ، وأقرب الطرق إلى محبة الله اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما قال - سبحانه -: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31] .(106/256)
وتعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم يكون بطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
سادساً: ذَكر بعض حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم على أمته ومنها:
1 - أن الله أخبر أنه صلّى الله عليه وسلّم أولى بالمؤمنين من أنفسهم بقوله: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ }، فمن حقه أنه يجب أن يؤثره العطشان بالماء، والجائع بالطعام، وأنه يجب أن يوقّى بالأنفس والأموال كما قال سبحانه وتعالى: { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} [التوبة: 120](191) .
2 - أن الله عزّ وجل خصه بالمخاطبة بما يليق، فلا ينادى أو يخاطب كغيره من المخاطبين باسمه المجرد أو بكنيته، قال عزّ وجل: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً} [النور: 63] .
3 - أن الله حرم على الأمة أن يؤذوه بما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضاً، تمييزاً له، مثل نكاح أزواجه من بعده فقال تعالى: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} [الأحزاب: 53] .
وأوجب الله احترام أزواجه وجعلهن أمهات المؤمنين فقال: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] .
4 - أن الله أمر بتعزيره وتوقيره فقال: { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } [الفتح: 9](192) ، ونصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وتعزيره واجب.
وبين ابن تيمية رحمه الله معنى التعزير والتوقير بقوله: (والتعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه.(106/257)
والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار) (193).
ومن توقيره صلّى الله عليه وسلّم أن الله حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، وحرم رفع الصوت فوق صوته، وأن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل، وأخبر أن ذلك سبب حبوط العمل، فهذا يدل على أنه يقتضي الكفر؛ لأن العمل لا يحبط إلا به قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] .
قال ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذه الآية:
(فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي والجهر له بالقول يُخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر، ويحبط عمله بذلك، وأنه مظنة لذلك وسبب فيه، فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التعزير، والتوقير، والتشريف، والتعظيم والإكرام، والإجلال) (194).
وبين رحمه الله أن قيام المدحة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، والثناء عليه، والتعظيم، والتوقير له: قيامُ الدين كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله(195) .
5 - أن الله عزّ وجل أمرنا بمحبته صلّى الله عليه وسلّم أكثر من محاب الدنيا جميعاً، ومنها محبوبات الدنيا الثمانية التي ذكرها الله عزّ وجل بقوله: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } [التوبة: 24] .(106/258)
وثبت في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان - وذكر منها - أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» (196).
وصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (197).
وتصديق هذا في القرآن قول الله عزّ وجل:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } [الأحزاب: 6].
قال ابن تيمية رحمه الله: (والنبي صلّى الله عليه وسلّم يجب علينا أن نحبه حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وآبائنا وأهلنا وأموالنا، ونعظمه ونوقره، ونطيعه ظاهراً وباطناً، ونوالي من يواليه، ونعادي من يعاديه، ونعلم أنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته صلّى الله عليه وسلّم) (198) .
6 - أن الله أمرنا بالصلاة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعدما ذكر أنه وملائكته يصلون عليه بقوله: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب: 56] .
وقال عليه الصلاة والسلام: «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً»(199).
وقد أُمر بها مع الأمر بطلب الوسيلة له صلّى الله عليه وسلّم، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة»(200) .
وثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته: حلت له شفاعتي»(201) ، وهذا يبين الحث على سؤال الله الوسيلة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم (202).(106/259)
وبعد: فهذه ملامح ووقفات يسيرة تبين لنا تعظيم ابن تيمية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حق التعظيم، الذي هو مضبوط بالاتباع.
أما التعظيم الذي يصل إلى درجة الغلو فيه فهذا منهي عنه في الإسلام من أوجه منها:
1 - النهي عن الغلو - عموماً - لقوله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ } [النساء: 171] ، وقوله - سبحانه - { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [المائدة: 77] .
وقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»(203).
2 - النهي عن الغلو في الرسول صلّى الله عليه وسلّم كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإني أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله»(204) .
ولما قال رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما شاء الله وشئت، عقب عليه وقال: «أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده»(205) .
والذي عليه عامة المسلمين أن لا يُحلف بالنبي لقوله عليه الصلاة والسلام: «من حلف بغير الله فقد أشرك» (206).(106/260)
3 - التأكيد على عدم معرفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، فقد ذكر الله عزّ وجل أن علم الغيب إنما هو من خصائص الربوبية: { قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [النمل: 65] ، وقال: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } [الأنعام: 59] ، وقال عزّ وجل: { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [لقمان: 34] ، وقد أمر الله نبيه أن يعلن للناس عدم علمه بالغيب بقوله: { ُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50] .
وأما الأحاديث التي تبين عدم علم الرسول صلّى الله عليه وسلّم الغيب فكثيرة منها:
أنه عليه الصلاة والسلام سمع جلبة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: «ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها»(207) .
وقد نهى نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم الجارية التي قالت: وفينا نبي يعلم ما في غد فقال: «دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين» (208).
وأما الدليل على أن الله يطلع الرسول صلّى الله عليه وسلّم على شيء من الغيب فهو قوله سبحانه: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } [الجن: 26 - 27] ، وقوله: { تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] .(106/261)
4 - التصريح بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يملك لنفسه، ولا لغيره ضراً ولا نفعاً، لقوله عزّ وجل: { قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً } [الجن: 20 - 21] ، وقوله - سبحانه -: { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } [الأعراف: 188] ، وقوله - سبحانه - عن رسوله صلّى الله عليه وسلّم: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ } [فصلت: 6] ، وقال تعالى: { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] .
وثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته فرس له حمحمة يقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً...»(209) .
وقد صرح عليه الصلاة والسلام على الملأ أنه لا يملك لأقرب قريب نفعاً ولا ضراً لقوله: «يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة(210) بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً»(211) .(106/262)
ومحبة ابن تيمية رحمه الله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقرونة بالاتباع كغيره من أهل السنة وأئمتهم وعلمائهم، أي هي المحبة التي يريدها الرسول صلّى الله عليه وسلّم من المؤمنين به، والتي أمرهم بها، أما دعوى التعظيم للرسول صلّى الله عليه وسلّم مع الغلو فيه، ودعوى أن المسلم كلما زاد في التعظيم كلما كانت محبته لرسول الله أكثر فهذا فهم خاطئ للمعنى الشرعي لمفهوم التعظيم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد بين ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم برئ ممن عصاه بالغلو فيه، وإن كان قصده تعظيمه، قال ذلك راداً على السبكي (ت - 756هـ) الذي رد على ابن تيمية في هذه المسألة (212).
وحين يقول شيخ الإسلام رحمه الله بحرمة شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة موافقاً بذلك نهي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، متبعاً له في قوله، فلا يكون هذا بغضاً وجفاءً له، بل هو عين المتابعة والمحبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إضافة إلى أنه قول جمهور العلماء كما تقدم.
وأما رد السبكي (ت - 756هـ) على ابن تيمية رحمه الله إنكاره شد الرحل وجعل إنكار شد الرحل من لوازم انتقاص الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فمن شد الرحل للزيارة فهو المعظم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن أنكرها فهو المنتقص للرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقد رد عليه ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) هذا التلازم مبيناً أن هذا لو كان تعظيماً له صلّى الله عليه وسلّم لكان مما لا يتم الإيمان إلا به، ولكان فرضاً معيناً على كل من استطاع إليه سبيلاً، من قرب ومن بعد، ولما أضاع السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان هذا الفرض والواجب (213).
وبين رحمه الله أن التعظيم نوعان:(106/263)
أحدهما: ما يحبه المعظَّم ويرضاه ويأمر به ويثني على فاعله فهذا هو التعظيم في الحقيقة، وهو موافقته على محبة ما يحب، وكراهة ما يكره، والرضا بما يرضى به، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والمبادرة إلى ما رغب فيه، والبعد عما حذر منه، وأن لا يتقدم بين يديه ولا يقدم على قوله قول أحد سواه.
والثاني: ما يكرهه المعظَّم ويبغضه ويذم فاعله، وهذا ليس بتعظيم، بل هو غلو مناف للتعظيم، وهذا هو ما يفعله أهل الغلو في القبور وعبادها من التعظيم الذي لأجله حرم الرسول صلّى الله عليه وسلّم اتخاذ القبور مساجد، كما قال المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(214) .
والتعظيم يكون باللسان، ويكون بالجوارح: فأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه، وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير.
وأما التعظيم بالجوارح فهو: العمل بطاعته، والسعي في إظهار دينه، وإعلاء كلمته، ونصر ما جاء به، وجهاد ما خالفه(215) .
وأما مسألة التمسح بالقبر وتقبيله، فقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا باطل، وقد اتفق المسلمون على النهي عنه، سواء أكان القبر لنبي أم لغيره، ولم يفعله أحد من سلف الأمة وأئمتها المشهود لهم بالعلم والتقوى، بل هذا من الشرك(216) .
وأما الدعاء عند القبر فهو ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق، لا لقصد الدعاء فيها، كمن يدعو الله في طريقه، ويتفق أن يمر بالقبور، أو من يزور القبور ويدعو بالدعاء الوارد عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فهذا لا بأس به.
الثاني: أن يتحرى الدعاء عند هذه القبور، بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوبُ منه في غيره، فهذا منهي عنه: إما نهي تحريم، وإما نهي تنزيه، وهو إلى التحريم أقرب(217) .(106/264)
إن قصد القبور للدعاء عندها، ورجاء الإجابة بالدعاء هناك، رجاءً أكثر من رجائها بالدعاء في غير ذلك الموطن: أمر لم يشرعه الله ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا ذكره أحد من العلماء، بل أكثر ما ينقل من ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية.
وقصد القبور بالدعاء لا يخلو: إما أن يكون الدعاء عندها أفضل منه في غير تلك البقعة أو لا يكون.
فإن كان أفضل لم يجز أن يخفى علم هذا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فتكون القرون الثلاثة الأولى الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، ويعلمه من بعدهم، ولم يجز أن يعلموا ما فيه من الفضل العظيم ثم يزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير، لاسيما الدعاء.
وإن لم يكن الدعاء عندها أفضل: كان قصد الدعاء عندها ضلالة ومعصية وكان القول باستحبابه أو وجوبه تشريعاً من الدين ما لم يأذن به الله، وقد قال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] .
وهذه العبادة عند المقابر - أي الدعاء عندها - نوع من أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطاناً، ومن جعل هذا من دين الله فقد قال على الله ما لا يعلم، قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] .
ويستحسن ابن تيمية رحمه الله الاستدلال بقوله تعالى: { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } [الأعراف: 33] ، لئلا يحتج المبتدعة بالمقاييس والحكايات(218) .
وأما التبرك(219) بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وآثاره المكانية فهي نوعان: معنوية، وحسية.(106/265)
أما البركة المعنوية، فهي بركة العمل والاتباع للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهذه تحصل لمن اتبعه بسبب متابعته للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتحصل البركة للناس بحسب اتباعهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم قوة وضعفاً، قال عليه الصلاة والسلام في النخلة: «إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم» (220).
وأما البركة الحسية فهي متعلقة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وهذه تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: البركة في أفعاله مما أكرمه الله فيه من خوارق العادات مثال ذلك ما رواه أنس بن مالك (ت - 93هـ) رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأُتي رسول الله بوضوء، فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضؤا منه، قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم»(221).
القسم الثاني: البركة في ذاته الشريفة صلّى الله عليه وسلّم، وبآثاره الحسية المنفصلة منه صلّى الله عليه وسلّم، والدليل على تبرك الصحابة بذات الرسول صلّى الله عليه وسلّم أي بأعضاء جسده، ما روته عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها»(222) .(106/266)
وأما دليل تبرك الصحابة - رضوان الله عليهم - بما انفصل منه صلّى الله عليه وسلّم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يدخل بيت أم سليم(223) ، فينام على فراشها وليست فيه، قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأُتيت فقيل لها: هذا النبي صلّى الله عليه وسلّم نام في بيتك على فراشك، قال: فجاءت وقد عرق، واستنقع(224) عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها(225) ، فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصر في قواريرها، ففزع النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وما تصنعين يا أم سليم؟» فقالت يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا، قال: «أصبت»(226) ، وهذا خاص به صلّى الله عليه وسلّم في حياته، فلا يقاس عليه غيره.
والتبرك بآثار الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته مشروع فيما بقي من آثاره، إلا أن آثاره صلّى الله عليه وسلّم قد انتهت بعد انتهاء جيل الصحابة على الصحيح.
وأما قصد الآثار المكانية كقبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو ما مسته يد الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأجل التبرك فهذا محذور من أوجه عدة منها:
1 - أن هذا النوع من التبرك لم يكن في عهده صلّى الله عليه وسلّم، ولم ينقل فيه شيء نقلاً مصدقاً، لا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف، وإذا لم ينقل مع توافر الدواعي على نقله علم أنه لم يكن في زمانه صلّى الله عليه وسلّم.
2 - أن بركة ذوات الأنبياء لا تتعدى إلى الأمكنة الأرضية، وإلا لزم أن تكون كل أرض وطئها، أو جلس عليها، أو طريق مر بها، تطلب بركتها، ويتبرك بها، وهذا لازم باطل قطعاً، فانتفى الملزوم.
3 - أن الأمكنة الأرضية لا تكون مباركة إلا بدوام الطاعة فيها، وهي سبب إعطاء الله البركة، حتى المساجد فإنها مباركة لذلك، إلا أن بركتها لا تدوم مع زوال الطاعات عنها.
4 - أن التبرك بالآثار المكانية وسيلة إلى ما هو أعظم من تقديسها، والاعتقاد فيها وهذا محذور.(106/267)
5 - أن تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والتماس بركته وتحريها يكون بما بقي لنا اليوم من نوعي البركة(227) ، وهي: بركة الاتباع، والعمل بسنته(228) .
المبحث الرابع
دعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور
يرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله أن البناء على القبور، وتشييدها، وجعل الستور عليها، وبناء المساجد عليها كله من الدين، وأن بناء المساجد على القبور سنة رائجة في صدر الإسلام(229) ؛ وأن عبارات العلماء قد تضافرت على بيان جواز البناء على القبور فكأنه إجماع عملي منهم (230).
ويرون - بعد ذلك - أن ابن تيمية رحمه الله هو مؤسس القول بحرمة بناء المساجد على القبور(231) ، زاعمين أن من شبهة ابن تيمية رحمه الله كما يذكر السبكي (ت - 756هـ) ، أن اتخاذ القبور مساجد - مطلقاً - من أصول الشرك، وقد رد السبكي (ت - 756هـ) على ابن تيمية رحمه الله هذا الإطلاق، مبيناً أن الشرك هو العكوف على القبور وتصوير الصور فيها(232) ، إذ يرى المناوئون أن تكريم أصحاب القور من صميم التوحيد (233).
وذكروا أن الذي أشكل على ابن تيمية رحمه الله هو حديث أبي الهيّاج الأسدي(234) ، وهو قوله: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)(235)، فيقولون: إن هذا لا يدل على وجوب هدم البناء على القبور،وأن استدلال ابن تيمية به على تحريم البناء على القبور ليس بصحيح(236) .
وحديث أبي الهياج رضي الله عنه قد أجابوا عنه بضعف في السند(237).
وبحثوا عن علة النهي عن البناء على القبور، ثم أتوا بعلل واهية، وأجابوا عنها بأجوبة - رأوا أنهم - ردوا فيها على ابن تيمية رحمه الله:(106/268)
فذكروا أن العلة قد تكون للنهي عن البناء بما مسته النار كالجبس، والطوب الآجر وغيره، فأجابوا بأن هذا خاص ببناء القبر نفسه، لا بما يبنى عليه أو حوله.
وذكروا أن العلة قد تكون لخوف تداعي القبر، وأجابوا بأن الإجراءات إذا اتخذت لتقوية القبر، فإن العلة تزول.
وذكروا أن العلة قد تكون من خوف المباهاة والتفاخر، وأجابوا بأن المباهاة انفعال شخصي يحاسب المرء عليه، ولا علاقة له بتحقق المصلحة العامة.
وذكروا أن العلة قد تكون من أجل التشبه بغير المسلمين، وأجابوا بأن إيجاد أي فارق بالبناء، فإن العلة تنتفي(238) .
وذكروا أن النهي في الحديث إنما هو للتنزيه، وليس للتحريم، أو أن معنى التسوية: هو التعديل إن كان القبر مسنماً، أو هدم الشرف إن كان مشرفاً فقط(239) .
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
يقرر ابن تيمية رحمه الله أن تعظيم القبور من أعظم أسباب الشرك، وهو ذريعة وطريق موصلة إلى تعظيم المقبورين من دون الله فيمن كان قبلنا، فقد قال الله عزّ وجل عن قوم نوح: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً} [نوح: 23 - 24] .
قال ابن عباس(240) رضي الله عنهما: (كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح لما ماتوا عكفوا على قبورهم، فطال عليهم الأمد، فصوروا تماثيلهم ثم عبدوهم) (241).
قال ابن تيمية رحمه الله: (وقد كان أصل عبادة الأوثان من تعظيم القبور)(242) ، ولذلك كان هذا التعظيم للقبور من دين المشركين، ومن عمل أهل الكتاب، وقد أمرنا بمخالفة أهل الكتاب والمشركين أصحاب الجحيم(243) .(106/269)
إن المأمور به في شريعة الإسلام هو عمارة المساجد لا بناء المشاهد على القبور، لكن الذين يعظمون القبور: يعمرون المشاهد، ويعطلون المساجد مضاهاة للمشركين، ومخالفة للمؤمنين، وقد قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف: 29] .
ولم يقل عند كل مشهد.
وقال تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [التوبة: 17 - 18] .
ولم يقل: إنما يعمر مشاهد القبور، بل عمار المشاهد يخشون بها غير الله، ويرجون غير الله.
وقال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18] ، ولم يقل: وأن المشاهد لله.
وقال - سبحانه -: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ } [النور: 36 - 37] .
قال ابن تيمية رحمه الله: (علم بالنقل المتواتر، بل علم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شرع لأمته عمارة المساجد بالصلوات، والاجتماع للصلوات الخمس، ولصلاة الجمعة والعيدين، وغير ذلك، وأنه لم يشرع لأمته أن يبنوا على قبر نبي ولا رجل صالح لا من أهل البيت ولا من غيرهم لا مسجداً ولا مشهداً، ولم يكن على عهده صلّى الله عليه وسلّم مشهد مبني على قبر...)(244) .(106/270)
وأما جعل بناء المساجد على القبور من الدين فهذا ليس بصحيح، وهي دعوى تحتاج إلى دليل بل هي مناقضة للدليل، وكل الأدلة القرآنية والأدلة من أقوال المصطفى صلّى الله عليه وسلّم تخالف القول بجواز البناء على القبور، والصلاة إليها، بل الأدلة تحذر من هذا الفعل أشد التحذير، وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على الأدلة التي تنهى عن اتخاذ القبور مساجد بالتواتر، فحين ذكر المحدثات من الأمور في تعظيم القبور قال: (منها: الصلاة عند القبور مطلقاً، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، فقد تواترت النصوص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه)(245) .
ومما ورد في النهي عن ذلك: ما رواه جندب بن عبد الله(246) رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لا تخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. إني أنهاكم عن ذلك»(247) .
وعن عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنه قالت: (لما نُزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(248) .
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(249) ، وفي رواية لمسلم (ت - 261هـ) : «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(250) .
وعن عبد الله بن مسعود(251) رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من أشرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد»(252) .(106/271)
ولما ذكرت أم سلمة(253) الكنيسة بأرض الحبشة، وذكرت ما فيها من التصاوير قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»(254) .
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(255) .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها»(256) .
ومن هذه الأحاديث يرد ابن تيمية رحمه الله على من جعل من الدين اتخاذ القبور مساجد، فهل من الدين أن يذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم عمل الأمم السابقة، ويحذر منه، وينهى عنه.
وهل من الدين أن يذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم لعن الله لمن اتخذ القبور مساجد، أو الدعاء بمقاتلة الله لمن فعل ذلك، أو الحكم عليهم بأنهم من شرار الناس، وشرار الخلق عند الله، ثم النهي عن اتخاذ القبور مساجد، والنهي عن الصلاة إليها.
قال رحمه الله: (وأما القبور فقد ورد نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن اتخاذها مساجد، ولعن من يفعل ذلك)(257) .
وأما دعوى مخالفة ابن تيمية رحمه الله إجماع الصحابة، فهذا باطل من أوجه عدة:
الأول: أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لا يقول واحد منهم، فضلاً عن حكاية إجماعهم بمخالفة الدين، ولا تقديم قولهم على قول الله ورسوله، أو أن يكون لهم الخيرة في أمرٍ قضاه الله ورسوله، وقد تقدم بيان تواتر الأحاديث التي تنهى عن اتخاذ القبور مساجد، ومن عظيم النهي عن هذا الأمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل التحذير منه وصية مودع تأكيداً لتحذيره لهم في حال حياته، ولذا كثرت الأحاديث التي حذر النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها عن اتخاذ القبور مساجد في مرض موته.
الثاني: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يشرع بناء المساجد على القبور، ولا وضع المشاهد، ولم يكن ذلك في عهد الصحابة - رضوان الله عليهم -.(106/272)
قال رحمه الله: (المشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من العامة، ومن أهل البيت كلها من البدع المحدثة المحرمة في دين الإسلام)(258) .
وقال رحمه الله: (لم يكن على عهده صلّى الله عليه وسلّم في الإسلام مشهد مبني على قبر، وكذلك على عهد خلفائه الراشدين، وأصحابه الثلاثة، وعلي بن أبي طالب ومعاوية، لم يكن على عهدهم مشهد مبني لا على قبر نبي ولا غيره)(259) .
الثالث: أن الأنبياء والصالحين لا يقرون أحداً على الشرك مع قدرتهم على نهيه، فهم في حياتهم ينكرون ما هو أقل من الشرك من المنكرات، وإنكارهم للشرك في حياتهم بهم أو بغيرهم من باب أولى، وقد بينوا لأممهم أنهم يصلى خلفهم في حياتهم، ولا يجوز أن يصلى خلفهم بعد مماتهم.
قال ابن تيمية رحمه الله: (الصلاة خلف أحدهم من أفضل العبادات في حال حياتهم، وبعد مماتهم: لا يجوز أن يصلى خلف قبورهم، ولا أن تتخذ قبورهم مساجد، ولا تستقبل في الصلاة) (260).
الرابع : حرص الصحابة على حماية التوحيد، وسد جميع ذرائع الشرك، والبعد عنها اتباعاً للرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن الدين أصله متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وموافقته بفعل ما أمرنا به، وشرعه لنا، وسنه لنا، ونقتدي به في أفعاله التي شرع لنا الاقتداء به فيها.
أما الفعل الذي لم يشرعه لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلاً سن لنا أن نتأسى به فيه، فهذا ليس من العبادات والقرب، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلّى الله عليه وسلّم، فالدين مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله، وأن نعبده بما شرع لنا في كتابه، وبما شرعه رسوله صلّى الله عليه وسلّم في سنته لا بالبدع.
وما وجد في زمن الصحابة في البلاد المفتوحة من المشاهد فإنهم يزيلونها ويسوونها في الحال من غير تأخير(261) .(106/273)
الخامس : عدم وجود مشاهد، وبناء على القبور في عهد الصحابة - رضوان الله عليهم - ولا في زمن التابعين، ولا في عهد بني أمية، وبني العباس، وإنما ظهر ذلك وكثر بعد ذلك، لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب، وكان بها زنادقة كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام، فبنوا المشاهد المكذوبة، وصنف أهل الفرية الأحاديث في زيارة المشاهد، والصلاة عندها، والدعاء عندها، فصار الزنادقة والمبتدعة المتبعون لهم يعظمون المشاهد، ويهينون المساجد(262) .
قال ابن تيمية رحمه الله :(ولهذا قال علماؤنا: لا يجوز بناء المسجد على القبور)(263) .
السادس : أن الإجماع المزعوم من الصحابة على اتخاذ القبور مساجد مردود على قائله، بإجماعهم رضي الله عنهم على عدم جواز بناء المساجد على القبور، وهو متفق مع نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة مربوط بموافقته النصوص، لا بمخالفته كل نصوص الكتاب والسنة.
وحين رد ابن تيمية رحمه الله قول القائل بتحديد مكان قبر نوح - عليه الصلاة والسلام - قال بعد ذلك: (ولو كان قبر نبي، أو رجل صالح لم يشرع أن يبنى عليه مسجد بإجماع المسلمين، وبسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المستفيضة عنه)(264) .
السابع : أن القائل بإجماع الصحابة على جواز بناء المساجد على القبور مطالب بتصديق دعواه، وذلك بأن يذكر أقوال الصحابة، أو أغلبهم، لإثبات هذا الإجماع المخالف لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأنى له أن يجد قولاً واحداً.
الثامن : أن رواية أحاديث المصطفى صلّى الله عليه وسلّم التي تنهى عن البناء على القبور، وجعل القبور مساجد، حتى بلغت حد التواتر، والتحديث بها في جيل الصحابة، ثم نقلها إلى جيل التابعين، ومن بعدهم، ولم ينقل لهم معارض أو مخالف، أو متردد في نقل الحديث، وتبليغ هذا الحكم للناس، لهو دليل واضح وكافٍ في أن الإجماع في عصر الصحابة على خلاف ما ذكره المبتدعة، وأهل تعظيم القبور.(106/274)
التاسع : أن النقول عن الصحابة والتابعين متوافرة على موافقة سنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
فقد رأى ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما فسطاطاً (265) على قبر عبد الرحمن(266) فقال: (انزِعه يا غلام، فإنما يظله عمله) (267).
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه أنه أوصى أن لا يضربوا على قبره فسطاطاً (268).
وعن محمد بن كعب(269) قال: (هذه الفساطيط على القبور محدثة)(270) .
وعن عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها أنها قالت بعد روايتها حديث (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قالت: (فلولا ذاك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) (271).
وعن أنس (ت - 93هـ) رضي الله عنه قال: (كنت أصلي قريباً من قبر، فرآني عمر بن الخطاب فقال: القبر القبر)(272) .
العاشر : أن من جاء بعد الجيل الأول من الأئمة، كان على ما كان عليه سلفهم من الاتباع والتأسي بحبيبهم، وقدوتهم محمد صلّى الله عليه وسلّم.
فقال محمد بن الحسن الشيباني(273) رحمه الله: (لا نرى أن يزاد على ما خرج من القبر، ونكره أن يجصص، أو يطين، أو يجعل عنده مسجداً، أو علماً، أو يكتب عليه)(274) .
وقال الإمام الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله: (وأكره أن يبنى على القبر مسجد، وأن يسوى، أو يصلى عليه وهو غير مسوى، أو يصلى إليه) (275) .
وقال ابن عبد البر(276) رحمه الله: (يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد) (277).
وقال ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله: (ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور)(278)
حتى من جاء بعد ابن تيمية رحمه الله من مناوئيه، فضلاً عن مؤيديه ممن يعتقد معتقد السلف، قالوا بحرمة اتخاذ المساجد على القبور، فيرى ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) أن اتخاذ القبور مساجد من الكبائر، وعدها الكبيرة الحادية والعشرين بعد المائة (279).(106/275)
وبعد هذا العرض لأقوال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأقوال الصحابة والتابعين، وأقوال طائفة من علماء الأمة: هل يبقى شيء من الشك في أن ابن تيمية رحمه الله لم يقل إلا بقول الصحابة والتابعين، وسلف الأمة، وأن المخالف لإجماع الصحابة في حرمة بناء المساجد على القبور إنما هم المناوئون أنفسُهم، ولكن أكثرهم لا يعلمون.
إن الصلاة إلى القبور واتخاذها مساجد لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى : أن يتوجه المصلي، وينوي هذه الصلاة لصاحب القبر، فيسجد له من دون الله، ويدعوه من دون الله، ويخافه ويرجوه من دون الله فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، وقد قال تعالى: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الزمر: 65] .
وقال - سبحانه -: { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72] ، فالعبادة يجب أن تكون خالصة لله عزّ وجل ليس لأحد فيها نصيب غيره، كما قال عزّ وجل: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء } [البينة: 5] .
الحالة الثانية : أن لا تكون الصلاة لصاحب القبر، لكن قصد المكان، إنما هو للتبرك بهذه البقعة - أي القبر - فهذا بدعة، وعده شيخ الإسلام رحمه الله محادة لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، كما قال:
(إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء والصالحين، متبركاً بالصلاة في تلك البقعة: فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله) (280).
الحالة الثالثة : أن يصلي عند القبر اتفاقاً لا لقصد شيء: لا لعبادة صاحب القبر ودعائه من دون الله، ولا التبرك بصاحب القبر، وهذا محرم ولا يجوز، لما فيه من التشبه بالمشركين والوسيلة إلى الشرك.(106/276)
قال ابن تيمية رحمه الله: (ليس لأحد أن يصلي في المساجد التي بنيت على القبور، ولو لم يقصد الصلاة عندها، فلا يقبل ذلك لا اتفاقاً ولا ابتغاء، لما في ذلك من التشبه بالمشركين، والذريعة إلى الشرك)(281) .
وقال رحمه الله: (المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين لا تجوز الصلاة فيها)(282)
وقد رد رحمه الله على من ظن من الفقهاء أن تحريم الصلاة عند القبور، لكونه مظنة النجاسة، لاختلاط تربتها بصديد الموتى، ولحومهم.
وذكر أن بعضهم يفرق بين المقبرة الجديدة والقديمة، وبين أن يكون بينه وبين التراب حائل، أو لا يكون، وقال: (التعليل بهذا ليس مذكوراً في الحديث، ولم يدل عليه الحديث لا نصاً ولا ظاهراً، وإنما هي علة ظنوها) (283).
وذكر أن السبب هو التشبه بالمشركين واليهود والنصارى، ومظنة اتخاذها أوثاناً، كما نقل عن الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله قوله: (كره - والله تعالى أعلم - أن يعظم أحد من المسلمين يعني يتخذ قبره مسجداً، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعده)(284) .
فالنهي عن الصلاة إلى القبور لأجل أمرين:
الأمر الأول : النهي عن التشبه بالمشركين، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: (ونهى أن يستقبل الرجل القبر في الصلاة حتى لا يتشبه بالمشركين الذين يسجدون للقبور)(285) .
الأمر الثاني : سد ذريعة الشرك، قال رحمه الله: (والسبب الذي من أجله نهي عن الصلاة في المقبرة في أصح قولي العلماء هو سد ذريعة الشرك، كما نهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها)(286) .
أما الرسول صلّى الله عليه وسلّم فإنه دفن في بيته، ولم يدفن في المسجد، كما أن مسجده صلّى الله عليه وسلّم لم يبن على قبره.(106/277)
والبيت بما فيه القبر أدخل في المسجد، ولم يكن في المدينة أحد من الصحابة، فأدخله الوليد بن عبد الملك(287) ، وقد كان يحب عمارة المساجد، فأمر عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز(288) رحمه الله أن يشتري حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من ملاكها ورثة أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأما جابر بن عبد الله رضي الله عنه فقد توفي سنة (78هـ) أي قبل تولي الوليد بن عبد الملك (ت - 96هـ) بثمان سنوات، إذ تولى الخلافة عام (86هـ).
إن قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن أن يباشر بالعبادة له من دون الله، وذلك استجابة من الله عزّ وجل دعاء رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يجعل قبره وثناً يعبد، ولذلك قال ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله:
ولقد نهانا أن نصير قبره *** عيداً حذار الشرك بالرحمن
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي *** قد ضمه وثنًا من الأوثان
فأجاب رب العالمين دعاءه *** وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه *** في عزة وحماية وصيان
ولقد غدا عند الوفاة مصرحاً *** باللعن يصرخ فيهم بأذان
وعنى الأُلى جعلوا القبور مساجداً *** وهم اليهود وعابدوا الصلبان
والله لولا ذاك أبرز قبره *** لكنهم حجبوه بالحيطان
قصدوا إلى تسنيم حجرته ليمتنع *** السجود له على الأذقان(289)
ومما قاله ابن تيمية رحمه الله في ذلك: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لما مات دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها، وكانت هي وحجر نسائه في شرقي المسجد وقبليه، لم يكن شيء من ذلك داخلاً في المسجد، واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة) (290).
وقال رحمه الله: (لما أدخلت الحجرة في مسجده المفضل في خلافة الوليد بن عبد الملك بنوا عليها حائطاً وسنموه، وحرفوه لئلا يصل أحد إلى قبره الكريم صلّى الله عليه وسلّم) (291).(106/278)
وأما حديث أبي الهياج الأسدي، فلا شك في ثبوته، فكل ما ورد في صحيح مسلم رحمه الله فهو صحيح، والمغالطة في صحة أحاديثه، مخالفة للقطعيات، وخرق لما عليه إجماع الأمة من تلقيه بالقبول، واتباع غير سبيل المؤمنين.
قال مسلم (ت - 261هـ) رحمه الله عن كتابه الصحيح: (لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث، فمدارهم على هذا المسند) (292).
وقال ابن الصلاح (293) رحمه الله: (جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر...؛ وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول، سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع) (294).
وحين تحدث السخاوي (295) رحمه الله عن المفاضلة بين الصحيحين قال بعد ذلك: (وبالجملة فكتاباهما أصح كتب الحديث) (296).
وأما معنى الحديث فيذكره ابن تيمية رحمه الله بقوله: (أمره بمحو التمثالين: الصورة الممثلة على صورة الميت، والتمثال الشاخص المشرف فوق قبره، فإن الشرك يحصل بهذا وبهذا) (297).
وأما علة النهي عن البناء على القبور: فهو سد ذريعة الشرك، ولذلك استدل ابن تيمية رحمه الله بهذا الحديث حين قال:
(ولما كان هذا مبدأ الشرك في النصارى، وفي القبور، سدّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ذريعة الشرك) (298).
وقد ذكر رحمه الله أن تعظيم القبور عند من يعظمها من المنتسبين إلى الإسلام، ولم ينقد إلى شرع الله فيها، أدى بهم إلى الشرك بالله عزّ وجل فبعضهم يعتقد أن زيارة شيخه مرة أفضل من عشر حجج، ومنهم من إذا سافر إلى مكان يضاف إلى نبي يُحرم إذا ذهب إليه كما يحرم الحاج، ومنهم من يستقبل قبر شيخه إذا صلى، ويستدبر الكعبة، ويقول: هذه قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذه الحالات موجودة عند كثير من أعيان العباد والزهاد.
وأما غير هؤلاء فمنهم من يصلي إلى القبر، ومنهم من يسجد له، ومنهم من يسجد من باب المكان المبني على القبر، ومنهم من يستغني بالسجود لصاحب القبر عن الصلوات الخمس.(106/279)
ومنهم من يطلب من الميت ما يطلب من الله، فيقول: اغفر لي، وارزقني، وانصرني إلى أمثال هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله (299).
ولورود النهي الصريح من الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعدم اتخاذ القبور مساجد، وعدم البناء عليها؛ فإن شيخ الإسلام رحمه الله ينقاد إلى هذه الأحاديث طائعاً متبعاً ليقول بحرمة بناء هذه المساجد المبنية على القبور فمن قوله: (المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين لا تجوز الصلاة فيها، وبناؤها محرم) (300)، وقد استدل بنهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن اتخاد المساجد على القبور بقوله: «فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» (301).
وقال رحمه الله: (لا يجوز اتخاذ القبور مساجد، سواء كان ذلك ببناء المسجد عليها، أو بقصد الصلاة عندها) (302).
ولأن المسجد المبني على القبر قد قام أساسه على غير طاعة الله عزّ وجل، وعلى معصية الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإنه يتعين إزالته وهدمه، حتى تسد ذريعة الشرك، وحتى لا يتشبه الناس بالمشركين، وحتى لا يغرر الجهلة به، أو المارة فيصلون فيه وهم لا يشعرون بوجود قبر بداخله، إضافة إلى امتثال أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونهيه عن اتخاذ القبور مساجد.
قال ابن تيمية رحمه الله: (هذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، والملوك وغيرهم: يتعين إزالتها بهدم أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين) (303).
وقال: (قال العلماء: يحرم بناء المساجد على القبور، ويجب هدم كل مسجد بني على قبر) (304).
المبحث الخامس
دعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياء
وقبور غيرهم ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياء
وقبور غيرهم(106/280)
يرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله أن قبور الأنبياء ليست كقبور غيرهم من سائر الناس من أمور متعددة، ويرون أن ابن تيمية رحمه الله ينكر هذه الخصائص التي تميزت بها قبور الأنبياء عن قبور غيرهم، ولا يثبتها.
فمما يرون أن ابن تيمية رحمه الله أنكره: مسألة شد الرحل لقبور الأنبياء دون قبور غيرهم، ولذلك يقول الحصني (ت - 829هـ) : (وكان السبب في اعتقاله - أي ابن تيمية - أنه قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وأن زيارة قبور الأنبياء لا تشد إليها الرواحل كغيرها) (305).
ويرون أنه رحمه الله ينكر حياة الأنبياء في قبورهم، سواء كان ذلك بالتصريح (306)، أو أن يبحث المناوئون لابن تيمية مسألة حياة الأنبياء في قبورهم ويركزوا عليها في كتبهم المخصصة للرد على ابن تيمية كما فعل ذلك السبكي (ت - 756هـ)(307) وغيره (308).
يقول التقي الحصني (ت - 829هـ) : (والرأي السخيف الذي أخذ به هؤلاء المبتدعة من التحاقه صلّى الله عليه وسلّم بالعدم حاشاه من ذلك، يلزمه أن يقال: إنه ليس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليوم) (309).
وقال في رده على ابن تيمية رحمه الله: (بيان زندقة من قال: إن روحه عليه الصلاة والسلام فنيت، وأن جسده صار تراباً، وبيان زيغ ابن تيمية وحزبه) (310).
ويرون أن حياة الأنبياء حياة حقيقية، إلا أنهم لا يحتاجون إلى الطعام والشراب، وليس في العقل ما يحيل هذه الحياة الحقيقية، كما يقول السبكي (ت - 756هـ) :
(ولا يلزم من كونها حقيقية أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب.... فليس في العقل ما يمنع من إثبات الحياة الحقيقية لهم) (311).
ويوردون السبب في قولهم بأن ابن تيمية ينكر حياة الأنبياء بأنه:
(التذرع بذلك إلى تحريم التوسل بهم عن هوى) (312).
ويرى المناوئون أن زيارة قبر النبي أفضل من زيارة قبر غيره لحقه علينا، ولورود أدلة خاصة تحث على زيارة قبره صلّى الله عليه وسلّم.(106/281)
قال السبكي (ت - 756هـ) : (لا أحد من الخلق أعظم بركة منه، ولا أوجب حقاً علينا منه فالمعنى الذي في زيارة قبره لا يوجد في غيره، ولا يقوم غيره مقامه، كما أن المسجد الحرام لا يقوم غيره مقامه، ومن ههنا شرع قصده بخصوصه، ويتعين بخلاف غيره من القبور) (313).
ثم قال: (فزيارة قبره صلّى الله عليه وسلّم مستحبة بعينها، لما ثبت فيها من الأدلة الخاصة) (314).
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
يتميز الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - بميزات عن غيرهم من سائر البشر، قد اختصهم الله بها تشريفاً لهم ورفعة منزلة.
وليس الأمر فقط في قبورهم، بل حتى في قبض أرواحهم، فهم صلوات الله وسلامه عليهم يأتيهم ملك الموت يستأذنهم في قبض أرواحهم، ويخيرهم.
ومن ذلك ما روته عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو صحيح يقول: «إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة» ، ثم يُحيا - أو يخير - فلما اشتكى، وحضره القبض، ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: «اللهم في الرفيق الأعلى»، فقلت: إذاً لا يجاورنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح) (315).
وعن أبي سعيد (ت - 74هـ) رضي الله عنه (أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس على المنبر، فقال: «عبدٌ خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده»، فبكى أبو بكر وبكى، فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا به) (316).(106/282)
وللأنبياء خصائص عديدة في قبورهم لا يشركهم فيها أحد غيرهم، قد أقر بها ابن تيمية رحمه الله وأوْضَحَهَا، إلا أن الإشكال عند المناوئين لابن تيمية رحمه الله أنهم يعادون عقيدة السلف كاملة عن طريق القدح في أعلامها، والدعاة إليها، فهم يتهمون ابن تيمية رحمه الله بهذه التهمة؛ لأنه لم يوافقهم على بدعهم الضالة الباطلة، فهو لا يقول بجواز التوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد مماته، ولا الاستغاثة به، وما دام الأمر كذلك فقد افتروا عليه بأنه يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياء وقبور غيرهم (317).
وقبل بيان بعض خصائص الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد دفنه، ينبه ابن تيمية رحمه الله إلى بعض التنبيهات المهمة ومنها:
1 - أنه لا يشرع لقبره أي جنس من أنواع العبادات لم تشرع لغيره من القبور، بل لا يعمل عند قبره إلا ما يعمل عند قبور غيره من حيث السلام على المقبور والدعاء له (318).
2 - أن السلام على الرسول صلّى الله عليه وسلّم عند قبره ليس من خصائصه، بل هو كالسلام على غيره من المؤمنين، فليس لهذا السلام مزية عن غيره من القبور.
يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه ذلك كالسلام على سائر المؤمنين ليس هو من خصائصه، ولا هو السلام المأمور به الذي يسلم الله على صاحبه عشراً كما يصلي على من صلى عليه عشراً) (319).
3 - عدم جواز شد الرحل، والسفر إلى قبره، وقبور غيره من الأنبياء كغيرها من قبور المؤمنين، للنهي العام عن شد الرحل إلا إلى المساجد الثلاثة، وعدم وجود دليل ينص على جواز شد الرحل لزيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن تيمية رحمه الله: (أما السفر إلى مجرد زيارة قبر الخليل، أو غيره من مقابر الأنبياء والصالحين ومشاهدهم وآثارهم فلم يستحبه أحد من أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم) (320).(106/283)
4 - أنه لا يجوز التوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد مماته في قبره، ولا بث الشكوى إليه، والاستغاثة به، أو الاستشفاع به عند الله، وهذا ما سيتضح تفصيلاً في الفصل القادم.
5 - أن قبور الأنبياء لا تستلم، ولا يتمسح بها، ولا يمرغ الخد عليها، ولا تستحب الصلاة عندها لذاتها، ولا تجوز الصلاة إليها، ولهذا يقول شيخ الإسلام - غفر الله له -: (اتفق السلف على أنه لا يستلم قبراً من قبور الأنبياء وغيرهم، ولا يتمسح به، ولا يستحب الصلاة عنده، ولا قصده للدعاء عنده، أو به؛ لأن هذه الأمور كانت من أسباب الشرك وعبادة الأوثان) (321).
6 - أن الداعي لا يتحرى الدعاء عند القبر لظنه أن الدعاء يستجاب في هذه البقعة أكثر منه في غيرها، بل نص العلماء على خلاف ذلك كما قال ابن تيمية رحمه الله:
(ومع هذا لم يقل أحد منهم إن الدعاء مستجاب عند قبره، ولا أنه يستحب أن يتحرى الدعاء متوجهاً إلى قبره صلّى الله عليه وسلّم، بل نصوا على نقيض ذلك، واتفقوا كلهم على أنه لا يدعى مستقبل القبر) (322).
وقال - أيضاً - بعد أن ذكر أن الدعاء عند بقعة - بحكم الاتفاق لا قصداً - فإنه لا بأس به: (الثاني: أن يتحرى الدعاء عندها، بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره، فهذا النوع منهي عنه، إما نهي تحريم أو تنزيه، وهو إلى التحريم أقرب) (323).
وإذا سلم الزائر لقبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه لا يشرع له أن يحدث دعاء جديداً خاصاً بقبر المصطفى صلّى الله عليه وسلّم (324).
وبعد هذه التنبيهات المهمة التي ينبه عليها ابن تيمية رحمه الله كثيراً في كتبه، يحسن أن أذكر وأتلمس بعض الخصائص التي يتميز بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو في قبره عن غيره من آحاد المسلمين أو الصالحين، وذلك باستعراض ما كتبه شيخ الإسلام في هذا المجال من فتاوى، أو مباحث ومؤلفات، فإلى بعض الخصائص:(106/284)
الأولى : أن قبره صلّى الله عليه وسلّم لايوصل إليه، بل هو داخل حجرته، ويسلم عليه الزائر لمسجده من بعد، فلا يستطاع الوصول إلى قبره الشريف، ولهذا قيل في أحد تخريجات كراهة مالك (ت - 179هـ) قول بعض الناس: زرت قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن الزيارة الحقيقية التي يقف الزائر فيها على قبر المزور غير متحققة في قبر نبينا صلّى الله عليه وسلّم ويوضح ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى بقوله: (ومما يوضح هذا أن الشخص الذي يقصد اتباعه زيارة قبره يجعلون قبره بحيث يمكن زيارته، فيكون له باب يدخل منه إلى القبر، ويجعل عند القبر مكان للزائر إذا دخل بحيث يتمكن من القعود فيه، بل يوسع المكان ليسع الزائرين، ومن اتخذه مسجداً جعل عنده صورة محراب، أو قريباً منه، وإذا كان الباب مغلقاً جعل له شباكاً على الطريق ليراه الناس فيه فيدعونه.
وقبره صلّى الله عليه وسلّم بخلاف هذا كله: لم يجعل للزوار طريق إليه بوجه من الوجوه، ولا قبر في مكان كبير يسع الزوار، ولا جعل للمكان شباك يرى منه القبر، بل منع الناس من الوصول إليه والمشاهدة له) (325).
وقال في كلام له نفيس: (لا تمكن زيارة قبره، فإنه دفن في بيته، وحجب قبره عن الناس، وحيل بين الزائر وبين قبره، فلا يستطيع أحد أن يزور قبره كما تزار سائر القبور...
ولهذا لم ينقل عن أحد من السلف أنه تكلم بزيارة قبره فإن ذلك غير ممكن، ولهذا كرهها من كرهها؛ لأن مسماها باطل....) (326).
مع أن الصلاة والسلام على الرسول صلّى الله عليه وسلّم عند قبره حسنٌ، لكن لو تمكن الناس منها لاتخذوها عيداً، ولأدت إلى الشرك، ولهذا نهي عن القرب من قبره، ودخول حجرته صلّى الله عليه وسلّم (327).(106/285)
الثانية : أن الأنبياء لا يبلون، فلا تأكل الأرض أجسادهم، ولذلك فإن تراب قبورهم طاهر، ودليل ذلك ما رواه أوس بن أوس (328) رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكثروا عليّ من الصلاة فيه - أي يوم الجمعة -، فإن صلاتكم معروضة علي» ، قال رجل: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ - يعني بليت - قال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» (329).
يقول ابن تيمية رحمه الله: (مقابر الأنبياء لا تنتن، بل الأنبياء لا يبلون، وتراب قبورهم طاهر) (330).
الثالثة : أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون، وقد دفن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم في مكانه الذي مات فيه، في بيته، في حجرة عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها (331).
ويروى في هذا حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لن يقبر نبي إلا حيث يموت» (332).
الرابعة: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يدعى له من بعد ومن قرب، ويسلم عليه - أيضاً - من بعد ومن قرب، بخلاف غيره، فإنه لا يسلم عليه إلا عند قبره، وسلامنا على الرسول صلّى الله عليه وسلّم من بُعد أو قرب يبلغه صلّى الله عليه وسلّم ويعرض عليه، وهذا ما دلت عليه النصوص:
كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله عزّ وجل ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام» (333).
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» (334).
قال ابن تيمية رحمه الله: (وقد أمرنا الله أن نصلي عليه، وشرع لنا ذلك في كل صلاة أن نثني على الله بالتحيات، ثم نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
وهذا السلام يصل إليه من مشارق الأرض ومغاربها، وكذلك إذا صلينا عليه فقلنا: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) (335)...) (336).(106/286)
فالرسول صلّى الله عليه وسلّم يشعر بالسلام عليه، ويبلغ به من قبل الملائكة.
قال رحمه الله: (وأما كون النبي صلّى الله عليه وسلّم يشعر بالسلام عليه، فهذا حق، وهو يقتضي أن حاله بعد موته أكمل من حاله قبل مولده) (337).
وقال - أيضاً -: (فهذه الأحاديث تدل على أن الصلاة والسلام يعرضان عليه، وأن ذلك يصل حيثما كنا) (338).
لكن هل يسمع صلاة وسلام البعيد أم يعرضان عليه، وتبلغه بهما الملائكة؟.
الصواب الذي عليه عامة أهل العلم، وهو مقتضى الأحاديث الصحيحة: أنه يبلغ ذلك ويعرض عليه.
وأما قول القائل: إنه يسمع الصلاة من البعيد فممتنع.
فإنه إن أراد وصول صوت المصلي إليه فهذه مكابرة.
وإن أراد أنه هو يكون بحيث يسمع أصوات الخلائق من بعيد فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم، قال تعالى: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [الزخرف: 80] ، وقال: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ } [المجادلة: 7] ، وليس لأحد من البشر بل ولا من الخلق يسمع أصوات العباد كلهم (339).
وأما سلام القريب: فإن الذي يسلم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإنه عليه الصلاة والسلام يسمعه بخلاف البعيد، كما قال ابن تيمية رحمه الله: (لكن إذا صلى وسلم عليه من بعيد بلغ ذلك، وإذا سلم عليه من قريب سمع هو سلام المسلم عليه) (340).
وقال رحمه الله عن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: (إنه يسمع سلام القريب، ويبلغ سلام البعيد وصلاته) (341).
لكن السلام على الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي تعبدنا الله به في الصلاة أفضل من السلام عليه صلّى الله عليه وسلّم عند قبره.
وهذا مما يدل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة أن السلام الذي لا يوجب الرد كما في الصلاة، أفضل من السلام الذي يوجب الرد.(106/287)
والسلام الذي لا يوجب الرد هو الذي يسلم الله على العبد بكل مرة عشراً، وأما السلام الموجب للرد فإنه صلّى الله عليه وسلّم يرد على المسلم، كما كان يرد السلام على من سلم عليه في حياته؛ ولأن السلام الذي لا يوجب الرد مأمور به في الصلاة، وفي كل صلاة، وأما السلام الذي يوجب الرد فهو في مكان مخصوص، وفي زمن مخصوص لا يحصل إلا في بعض الأوقات، فإن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكن أحدهم يأتي إلى القبر ويسلم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم كلما دخل المسجد النبوي؛ لأنه غير مأمور به شرعاً.
ولأن السلام الذي يوجب الرد هو حق المسلم عموماً فيشرك الرسول صلّى الله عليه وسلّم غيره في هذا السلام، كما قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] ولهذا كان الصحابة والتابعون يعلمون أن السلام والصلاة غير الموجبة للرد أفضل من الذي يرد جوابه (342).
ومن وجهة أخرى: فإن رد الرسول صلّى الله عليه وسلّم السلام على من سلم عليه لا يوجب الدعاء له بالسلامة من عذاب الدنيا والآخرة، وهذا معلوم بالضرورة، فقد كان المنافقون يسلمون عليه صلّى الله عليه وسلّم ويرد عليهم، ويرد على المسلمين أصحاب الذنوب وغيرهم، ولكن السلام فيه أمان (343).
الخامسة: أن ما يفعله الناس في زيارة غير قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم عند قبور من يزورونهم، من السلام والدعاء، فإنه يفعل مثله وأكثر منه للرسول صلّى الله عليه وسلّم في مواضع متعددة من العبادات المأمور بها، كالصلوات الخمس، وبعد الأذان، وعند دخول المسجد، وعند الخروج منه، وعند كل دعاء، فلا يختص السلام على الرسول أو الصلاة عليه عند قبره فقط، بل قد تبين أن الصلاة والسلام على الرسول عند غير قبره أفضل منه عند قبره.(106/288)
قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما النبي صلّى الله عليه وسلّم فله خاصة لا يماثله أحد من الخلق، وهو أن المقصود عند قبر غيره من الدعاء له هو مأمور في حق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الصلوات الخمس، وعند دخول المساجد، والخروج منها، وعند الأذان، وعند كل دعاء) (344).
السادسة: أن الأنبياء أحياء في قبورهم، وحياتهم أكمل من حياة الشهداء، إذ أثبت الله - سبحانه - حياة الشهداء بقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 14] ، وقال: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران: 169] .
أما المفترون على ابن تيمية رحمه الله بأنه لا يرى حياة الأنبياء فهذا باطل، بل هو صرح بحياتهم في قبورهم، لكن لما لم يوافقهم رحمه الله على ما ابتدعوه في الدين من جواز التوسل به بعد موته، أو الاستغاثة به، قالوا: بأنه لا يرى حياة الأنبياء في قبورهم؛ لأن هذا لازم حياة الأنبياء - كما يزعمون -.
قال ابن تيمية رحمه الله بعد أن تحدث عن تحريم اتخاذ قبور الأنبياء مساجد مستدلاً بكلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (فهذه نصوصه الصريحة توجب تحريم اتخاذ قبورهم مساجد، مع أنهم مدفونون فيها، وهم أحياء في قبورهم) (345).
ودليل حياة الأنبياء في قبورهم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الأنبياء أحياء في قبورهم» (346).
ولكن هل هذه الحياة في القبور حياة حقيقية لها لوازمها من الحاجة إلى الأكل والشرب وفعلهما، والنوم والحركة وغيرها، أم أنها حياة خاصة يقصد بها تشريف الأنبياء، وتخصيصهم عن غيرهم بمنزلة لم تكن لغيرهم؟.
أقول بادئ الأمر: إن الله سبحانه وتعالى قد أخبر وأثبت في كتابه العزيز موت الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } [الزمر: 30] .(106/289)
وقال: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144] ، وقال: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34] .
وقام أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه بعد موت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد فمن كان منكم يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) (347).
فموت الأنبياء حق، وانقطاع أحكام الدنيا عنهم بعد موتهم لا مرية فيه، حتى المخالف يقر بذلك، ولكن ما هذه الحياة البرزخية التي تكون للأنبياء بعد موتهم؟
بعد معرفتنا أن الأنبياء يموتون، وأن أحكام الدنيا لا يقومون بها بعد موتهم.
إن الحديث عن البرزخ من علم الغيب، والحديث عن تفصيلات تعلق الروح بالبدن في البرزخ هو من علم الغيب - أيضاً -، ما لم يرد نص صحيح صريح يبين هذه التفصيلات ويذكرها لنا، وإلا فالتوقف هو المنهج السوي، ورد العلم إلى عالمه أسلم وأعلم وأحكم.
لكن أهل العلم ذكروا أن للروح مع البدن تعلقات بحسب أحوالها:
أحدها: تعلق الروح بالبدن في بطن الأم للجنين.
الثاني: تعلق الروح بالبدن بعد خروجه إلى وجه الأرض مستيقظاً.
الثالث: تعلق الروح بالبدن في حال النوم، فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
الرابع: تعلق الروح بالبدن في البرزخ - وهذا ما نحن نبحث فيه -، فإن الروح إذا فارقت البدن بالموت وتجردت عنه، فإنها لا تفارقه فراقاً كلياً بحيث لا يبقى لها التفات إليه ألبتة، بل الأحاديث والآثار تدل على أن الميت ترد روحه وقت سلام المسلم عليه، وهذا الرد إعادة خاصة، لا يوجب حياة البدن إلى يوم القيامة.
وحياة الشهداء في هذه المرحلة أكمل من حياة غيرهم من سائر المؤمنين، وحياة الأنبياء أكمل من حياة الشهداء.(106/290)
الخامس: تعلق الروح بالبدن يوم البعث، وهذا أكمل أنواع تعلق الروح بالبدن، فهو تعلق لا يقبل البدن معه موتاً ولا نوماً ولا فساداً (348).
فأرواح الأنبياء في البرزخ في أعلى عليين، وهم متفاوتون في منازلهم في العلو، إلا أن أرواحهم لها تعلق بأجسادهم وأبدانهم، فترد إليها إذا سلم عليهم المسلم ليردوا عليها السلام (349).
وبعد ذلك يمكن أن يجاب على من قال بأنه صلّى الله عليه وسلّم حي حياة في قبره كحياته الدنيوية بأجوبة عدة منها:
1 - أن من زعم أن الحياة البرزخية كالحياة الدنيا فقد كذب وظلم، فمن أبرز الفروق بين حياة البرزخ، وحياة الدنيا، أن الحي في الدنيا يحتاج إلى الأكل والشرب، والحركة والسكون، والنوم واليقظة، والكلام والرد، والأخذ والإعطاء، وكل هذا منتف في الحياة البرزخية، وأما إذا استثنى أولئك هذه الأمور فنقول: إن التخصيص لا بد له من مخصص، فلا بد من دليل يخرج هذا الفرع عن أصله، والبعض عن كلِّه ولا دليل لهم.
2 - لو كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم حياً حياة كحياته الدنيوية لما ساغ له أن يبقى تحت الأرض، ولكنها سنة الله في الموتى، فلما انتفت الحياة الحقيقية بالموت ثبتت الحياة البرزخية مباشرة.
3 - يلزم من القول بحياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم حياة كحياته في الدنيا أن يبقى يسمع أصحابه يختلفون في كثير من الأمور، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم عاجز عن النطق وعن رد الجواب لمن سأله متلهفاً على سماع ذلك منه، وهذا وصف له بالنقص والعجز.(106/291)
4 - يلزم من القول بحياة الأنبياء كحياتهم الدنيوية، أن يكون لهم ثلاث موتات، ولغيرهم موتتان؛ لأنه بعد النفخ في الصور النفخة الأولى لا يبقى أحد ممن هو على وجه الأرض حياً، وقد قال تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] ، ولم يرد دليل من الكتاب والسنة على أن الله يبعث النبي للناس من قبره قبل يوم القيامة.
5 - يلزم من القول بحياة الأنبياء حياة كالحياة الدنيوية تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أقواله، ومثال ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» (350).
6 - ومما يلزم من ذلك - أيضاً -: تكذيب الصحابة في إقرارهم وتصديقهم بموت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأنهم دفنوه حياً، وأنه عليه الصلاة والسلام قد جنى على نفسه حين مكنهم من نفسه وهو حي قادر على البيان والبلاغ.(106/292)
7 - أما من استدل على حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن عقد نكاحه على أزواجه باق، بحيث لا يجوز لأحد أن يتزوج منهن، فهذا ليس فيه دليل على حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في قبره، بل ذلك خصوصية له صلّى الله عليه وسلّم حيث حرم على المؤمنين أن ينكحوا أزواجه من بعده كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} [الأحزاب: 53] ، وقوله: { مِنْ بَعْدِهِ} دليل على موته وقد أمر الله رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام أن يخير أزواجه بين أن يبقين معه ويردن الله ورسوله والدار الآخرة، وبين أن يقدمن الحياة الدنيا وزينتها، فيفارقنه فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة فكان جزاؤهن أن يكن أمهات المؤمنين في الدنيا، وأزواج الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة فلا يحل لأحد من المؤمنين أن ينكحهن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } [الأحزاب: 28 - 29] .
8 - وأما من قال بأن رد السلام من شأن الأحياء؛ لأن شأن الأموات حين ترد روح الرسول صلّى الله عليه وسلّم إليه، فيجاب عنه بأن هذا حجة عليهم لا لهم؛ لأن رد الروح مفاده قبضها قبل ذلك، ثم إن رد الروح إنما هو بقدر رد السلام على من سلم عليه، وهذا ليس من خصائص الرسول صلّى الله عليه وسلّم بل هو عام لكل من سلم على أحد قبور الموتى من المؤمنين (351).(106/293)
وعلى كلٍ: فالرسول صلّى الله عليه وسلّم حي في قبره حياة برزخية لا يعلم كنهها إلا الله عزّ وجل وهذه الحياة أكمل من حياة الشهداء.
الفصل الخامس
مسألة التوسل
المبحث الأول: عقيدة أهل السنة والجماعة في التوسل.
المبحث الثاني: دعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين، وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك، ومناقشتها.
المبحث الثالث: دعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدم جواز التوسل بالنبي، ومناقشتها.
المبحث الرابع: دعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين وإهانته لهم، ومناقشتها.
المبحث الأول
عقيدة أهل السنة والجماعة في التوسل
الوسيلة لغة: القربة، والمنزلة والدرجة، وهي فعيلة من توسلت إليه أي تقربت، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة: 35] .
وقال سبحانه: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [الإسراء:57].
وقال عنترة (1):
إن الرجال لهم إليك وسيلة *** أن يأخذوك تكحلي وتخضبي (2)
والواسل هو الراغب بالقرب من المتوسل إليه، كما قال لبيد (3):
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم *** بلى كل ذي دين إلى الله واسل (4)
فالتوسل بمعنى التقرب والتوصل إلى الشيء برغبة (5).
ومصطلح التوسل فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه، ويعطى كل ذي حق حقه، فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه.
ثم يعرف ما أحدثه المحدثون.
فالتوسل المشروع هو الذي أمر الله بابتغائه من الواجبات والمستحبات قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة: 35] .
وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل فيه سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً، وجماع الوسيلة الشرعية هو: التوسل باتباع ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم (6).(106/294)
وأنواعه ثلاثة (7):
الأول : التوسل إلى الله عزّ وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وذلك بأن يقدم شيئاً من الثناء على الله - عز جل - قبل مطلوبه في الدعاء فيكون من علامات قبول واستجابة الدعاء، قال الباري عزّ وجل: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف: 180] .
وما ذكره الله من توسل إبراهيم عليه السلام: { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 78 - 85] .
ومن الأدلة قول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في صلاته: «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي» (8).
ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، اسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجاً» (9).
وكان من استعاذة النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله: «اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني» (10).(106/295)
الثاني : التوسل إلى الله عزّ وجل بعمل صالح في قضاء الحوائج كتفريج الكربات ومغفرة الذنوب وغيرها، كما قال سبحانه: { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193] .
وقال عزّ وجل: { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 53] .
وقال - سبحانه -: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 16] .
وقوله سبحانه: { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } [المؤمنون: 109] .
وقال عزّ وجل: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] .
وعن بريدة بن الحصيب (ت - 63هـ) رضي الله عنه أنه قال: سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب» (11).(106/296)
وما رواه البراء بن عازب (12) رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على جنبك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت) فإن مت مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول» (13).
وعن ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما، وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمت بها سَنة (14) من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.(106/297)
وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين قال: يا عبد الله أدّ إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزي بي، فقلت: إني لا أستهزيء بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئاً، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون» (15).
وينبه ابن تيمية رحمه الله إلى أن هذا النوع من التوسل المشروع هو أهم أنواعه الذي يوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة فيقول: (التوسل بذلك - أي بالإيمان بالرسل وطاعتهم - إلى حصول ثواب الله وجنته ورضوانه فإن الأعمال الصالحة التي أمر بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم هي الوسيلة التامة إلى سعادة الدنيا والآخرة) (16).
ومما توسل به ابن تيمية رحمه الله من الأعمال الصالحة: محبة الصحابة، وآل البيت فقال في لاميته:
حب الصحابة كلهم لي مذهب *** ومودة القربى بها أتوسل (17)
الثالث: التوسل إلى الله - عز وجل - بدعاء الرجل الصالح:(106/298)
قال أنس بن مالك (ت - 93هـ) رضي الله عنه: (أصابت الناس سنة على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فبينا النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب قائماً في يوم الجمعة، قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع يديه يدعو، وما نرى في السماء قزعة (18)، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر عن لحيته صلّى الله عليه وسلّم، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا ، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة (19)، وسال الوادي قناةً شهراً ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود) (20).
وكان عمر بن الخطاب (ت - 23هـ) رضي الله عنه، إذا قحطوا استستقى بالعباس بن عبد المطلب (21) رضي الله عنه، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلّى الله عليه وسلّم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون) (22).
وقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت - 852هـ) رحمه الله أنه كان من دعاء العباس (ت - 32هـ) قوله: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء، مثل الجبال حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس) (23).(106/299)
والأصل في دعاء الرجل الصالح لأخيه أنه مأمور به مرغب فيه، كما قال ابن تيمية رحمه الله: (دعاء المسلم لأخيه حسن مأمور به، وقد ثبت في الصحيح عن أبي الدرداء (24)، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل» (25)، أي بمثل ما دعوت لأخيك به) (26).
ولكن هل يطلب المسلم من الرجل الصالح أن يدعو له؟
الصواب: أن هذا العمل في الأصل غير محرم، وغير مأمور به، إلا أن يكون قصد طالب الدعاء من الرجل الصالح أن ينتفع المطلوب منه بالدعاء، وينتفع هو - أيضاً -، أما إذا كان قصده انتفاع نفسه فقط فهذا غير مأمور به.
قال رحمه الله: (وأما سؤال المخلوقِ المخلوقَ أن يقضي حاجة نفسه، أو يدعو له فلم يؤمر به) (27).
وقال - أيضاً -: (ومن قال لغيره من الناس: ادع لي - أولنا - وقصده أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء، وينتفع هو أيضاً بأمره، ويفعل ذلك المأمور به كما يأمره لسائر فعل الخير، فهو مقتد بالنبي صلّى الله عليه وسلّم مؤتم به، ليس هذا من السؤال المرجوح.
وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته، لم يقصد نفع ذلك، والإحسان إليه، فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتمين به في ذلك، بل هذا من السؤال المرجوح الذي تركه إلى الرغبة إلى الله وسؤاله أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله، وهذا كله من سؤال الأحياء الجائز المشروع) (28).
وأما التوسل الممنوع فهو الذي لم يأمر الله بابتغائه، وهو توسل بغير ما شرعه وأراده الله ورسوله، وهو ثلاثة أنواع:
الأول: التوسل إلى الله - عز وجل - بذوات المخلوقين، كأن يقول المتوسل: اللهم إني أتوسل إليك بفلان - أي بذاته - أن تقضي حاجتي، في طلب رزق أو علم أو فك كربة أو غيرها.(106/300)
وهذا النوع من التوسل لم يكن الصحابة يفعلونه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا في الاستسقاء، ولا في غيره لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره، ولا عند غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المعروفة المشهورة بينهم، وكل ما نقل في هذا إنما هو أحاديث ضعيفة، أو عمن ليس قوله حجة.
وأما توسل الصحابة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فالمقصود به التوسل بدعائه في حياته، لا بذاته في حياته أو بعد مماته، كما يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأما التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته) (29).
وبيّن رحمه الله التوسل الصحيح بالأنبياء، وأن التوسل بذواتهم لا يجوز، ولا منفعة للعبد حاصلة منه: فقال: (التوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان بهم، وبطاعتهم، كالصلاة والسلام عليهم، ومحبتهم، وموالاتهم، أو بدعائهم وشفاعتهم.
وأما نفس ذواتهم فليس فيها ما يقتضي حصول مطلوب العبد، وإن كان لهم عند الله الجاه العظيم، والمنزلة العالية بسبب إكرام الله لهم وإحسانه إليهم، وفضله عليهم) (30).
وعلى ذلك فالتوسل بالأنبياء لا يكون إلا بأحد سببين:
إما سبب منه إليهم: كالإيمان بهم، والطاعة لهم.
أو بسبب منهم إليه، كدعائهم له، وشفاعتهم فيه.
وقد نهينا عن التوجه إلى ذات من الذوات إلا إلى الله - عز وجل - وأمرنا بالإخلاص لله - سبحانه - في دعائنا، وتوجهنا، واعتقادنا، وأعمالنا، وأقوالنا، كما قال - سبحانه -: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] ، وقال سبحانه: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] .(106/301)
الثاني : التوسل إلى الله - عز وجل - بجاه أحد، أو حقه على الله - عز وجل - أو حرمته، ومنزلته عند ربه - سبحانه وتعالى -، وهذا - أيضاً - باطل، فليس في النصوص ما يثبت صحة هذا التوسل، وجاه المخلوق إنما استفاده من قربه من شرع الله بكثرة العمل الصالح، وهذه المنزلة مختصة به دون غيره، وليس لها تأثير على بقية المخلوقين من حيث التوسل بها لهم في الدنيا، كما قال تعالى: { وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى} [النجم: 39 - 41] .
والسؤال بحق أحد من الخلق مبني على أصلين:
الأصل الأول: هل له حق عند الله؟. الصواب: أنه ليس لأحد من الخلق حق على خالقهم إلا ما أوجبه - سبحانه - على نفسه لخلقه تكرماً منه وتفضلاً، لا إلزاماً من أحد عليه، كما بين - سبحانه - بقوله: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام: 54] .
وقال: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم: 47] ، وقال: { وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الروم: 6] .
وقد ورد في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا» (31).
وثبت عن معاذ بن جبل (ت - 17هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا معاذ: أتدري ما حق الله على عباده؟ ». قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. يا معاذ: أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ ». قال: الله ورسوله أعلم. قال: «أن لا يعذبهم» (32).
الأصل الثاني : هل يُسأل الله عزّ وجل بذلك الحق؟
والجواب عن هذا أن يقال: إن كان الحق الذي سأل به سبباً لإجابة السؤال حَسُن السؤال به، كالحق الذي يجب لعابديه وسائليه.(106/302)
وأيضاً: فإن هذا الحق من الله لعباده أن لا يعذبهم، وأن يكرمهم: ليس في استحقاقهم له ما يكون سبباً لمطلوب هذا السائل، فإن هذا الذي استحق ما استحقه إنما هو بسبب ما يسره الله له من الإيمان والطاعة وليس في إكرام الله له ما يقضي بإجابة سؤال المسؤول بحقه.
فإن قيل: القصد هو شفاعة المتوسل به ودعاؤه: فيقال: هذا حق، وتوسل مشروع، كما سبق في التوسل بدعاء الرجل الصالح الحي، فيكون القصد صحيحاً إذا كان حياً قادراً، ويكون الإطلاق واللفظ خاطئاً بدعياً.
وإن قيل: السبب هو محبتي لفلان محبة شرعية؛ لإيمانه بالله، وقربه منه.
فيقال مثل ما يقال في الأول: إن السبب شرعي، وهو داخل في التوسل المشروع لكن الإطلاق واللفظ خاطئ.
ثم يجب أن يفرق بين المحبة لله، والمحبة مع الله، فمن أحب مخلوقاً لطاعته لربه وقربه منه، فهذه محبة لله وفي الله، ومن أحب مخلوقاً كما يحب الخالق فقد جعله نداً من دون الله، وهذه المحبة تضره ولا تنفعه (33)، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } [البقرة: 165] .
وأما قول القائل: أسألك بالله وبالرحم، أو بحق الرحم، فالجواب عنه من جهتين:
الأولى : أن الرحم لها حق توجبه على صاحبها بنص الكتاب والسنة، كما قال تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } [النساء: 1] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» (34).
الثانية : أن الإقسام بها لا يجوز فلا يجوز قسم مخلوق بمخلوق، والرحم مخلوقة.(106/303)
كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن، وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قد رضيت» (35)، أما إن كان قصد القائل: أسألك بسبب الرحم فإن هذا حق؛ لأنها توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقاً (36).
وأما الاستدلال على جواز السؤال بحق أحد على الله بحديث: «من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا رياء، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أقبل الله عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك» (37)، فهو ضعيف جداً؛ ذلك لضعف سنده، ولعدم صحة استدلالهم بالحديث على ما يريدون.
أما سند الحديث: فقد ورد من طريقين:
الطريق الأول : فيه عطية العوفي: وهو ضعيف، لضعف حفظه، ولتدليسه التدليس القبيح.
وقد وصفه الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) بضعف الحفظ (38).
وأما التدليس، فهو يدلس التدليس القبيح، وهو تدليس الشيوخ، ذلك أنه كان يأتي الكلبي (39)، وكنيته: أبو سعيد، فيحدث الناس ويقول: قال أبو سعيد يوهمهم أنه الخدري (40).
وقد عده ابن حجر (ت - 852هـ) ، من الطبقة الرابعة من طبقات المدلسين التي قال عنها: (الرابع: من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع؛ لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل) (41).
ولذلك ضعف حديثه جمع من أهل العلم؛ فقال ابن حبان (ت - 354هـ) :
(لا يحل الاحتجاج به، ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب) (42).
وقال ابن عدي (ت - 365هـ) : (كان سفيان الثوري يضعف حديث عطية) (43).
وقال عنه الذهبي (ت - 748هـ) : (تابعي شهير ضعيف) (44).
وقال - أيضاً -: (ضعفوه) (45).
وفي السند ضعفاء غير عطية العوفي: ففيه فضيل بن مرزوق وهو ضعيف، وإن كان عطية أضعف منه (46).(106/304)
وفي السند: الفضل بن موفق، وهو ضعيف - أيضاً - (47).
وأما الطريق الثاني: ففيه: الوازع بن نافع العقيلي: وهذا متروك الحديث.
فقال ابن معين (ت - 233هـ) : ليس بثقة (48).
وقال البخاري (ت - 256هـ) : منكر الحديث (49).
وقال النسائي (ت - 303هـ) : متروك الحديث (50).
وقال ابن حبان (ت - 354هـ) : (كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات على قلة روايته) (51).
وقد ضعف ابن تيمية رحمه الله هذا الحديث من طريقيه، كما قال: (هذا الحديث هو من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد، وهو ضعيف بإجماع أهل العلم، وقد روي من طريق آخر وهو ضعيف - أيضاً -) (52).
وأما عن استدلالهم بالحديث: فعلى فرض صحته، فإنه لا يدل على ما يريدون ويقصدون؛ لأن حق السائلين هو ما تكفل الله به، ووعد به، وجعله حقاً عليه تكرماً منه وتفضلاً على عباده ألا وهو إجابة سؤالهم وإعطاؤهم طلبهم، كما قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] وقال: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186] .
ومما أوجبه على نفسه ما ذكره سبحانه بقوله: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام: 54] ، وقوله: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم: 47] ، وقوله: { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا } [التوبة: 111] .
وإذا كان حق السائلين، والعابدين له هو الإجابة والإثابة بذلك فذاك سؤال لله بأفعاله كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك » (53)، فالاستعاذة بمعافات الله التي هي فعله، كالسؤال بإثابته التي هي فعله (54).(106/305)
قال ابن تيمية: (حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم) (55).
الثالث : الإقسام على الله بأحد من خلقه: الإقسام على الله: أن تحلف على الله أن يفعل، أو تحلف عليه أن لا يفعل، مثل: والله ليفعلن الله كذا، أو والله لا يفعل الله كذا.
والقسم إما أن يكون قسم بالله، أو قسم على الله.
فأما القسم بالله على أحد فهذا محله كتب الفقه في أبواب (الأيمان والنذور)، من حيث أنواعه وأحكامه.
وأما القسم على الله فهو أنواع:
أولاً : أن يقسم على الله بما أخبر به الله أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم في الشريعة، من نفي، أو إثبات، فهذا جائز، بل هو دليل قوة إيمان المقسم، مثل قوله: والله لا يغفر الله لمن أشرك به، أو والله ليدخلن الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب.
ثانياً : أن يقسم على ربه، لقوة رجائه به، وحسن ظنه بربه، وهؤلاء قليل (56)، كما أقر النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك في قصة الربيع بنت النضر (57) رضي الله عنها فقال أنس رضي الله عنه: والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا أنس، كتاب الله القصاص »، فرضي القوم وعفوا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» (58).
وثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رب أشعث أغبر ذي طمرين (59)، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» (60).
وأما إذا كان الحامل لهذا القسم: تحجر فضل الله عزّ وجل والإعجاب بالنفس، وسوء الظن به - سبحانه - فهذا محرم، وذريعة لإحباط عمل المقسم، ودليل ذلك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عزّ وجل: «من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت له، وأحبطت عملك» (61).(106/306)
ثالثاً : القسم على الله بأحد من خلقه، فهذا لم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا الصحابة، ولا التابعين، بل النص على تحريمه، فلا يجوز الحلف بغير الله، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف بغير الله فقد أشرك» (62)، وقال: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» (63).
فلا يحل لأحد أن يقسم بالمخلوقات ألبته (64)، وهو حرام إجماعاً، كما حكى ابن حزم (65) الإجماع على ذلك (66).
وبيّن ابن تيمية رحمه الله حرمة الإقسام على الله بمخلوق بقسمة عقلية جيدة، فذكر أن الإقسام على الله بأحد من المخلوقات: إما أن يكون مأموراً به: إيجاباً أو استحباباً، أو منهياً عنه: نهي تحريم أو كراهة، أو مباحاً لا مأموراً به ولا منهياً عنه.
فإن قيل: إن ذلك مأمور به مباح: فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق، وإما أن يقال: إن المشروع هو القسم بالمخلوقات المعظمة فقط، أو ببعضها.
فمن قال: إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها: لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن، وهذا لا يقوله مسلم.
وإن قيل: يُسأل بالمخلوقات المعظمة فقط كالمخلوقات التي أقسم بها في كتابه؛ لزم من هذا أن يسأل بالليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى، والشمس وضحاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، وسائر ما أقسم الله به في كتابه، فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته؛ لأنها آياته ومخلوقاته فهي دليل على ربوبيته، وألوهيته، ووحدانيته، فهو سبحانه يقسم بها؛ لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه، وأما نحن المخلوقين فليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع.
وهذا القسم بالمخلوقات: شرك، ويلزم منه أن يقسم بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها الله فجورها وتقواها، وبالرياح، والسحاب، والكواكب.
ويلزم من ذلك أن يسأل بالمخلوقات التي عبدت من دون الله كالشمس والقمر.(106/307)
قال ابن تيمية: (الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام) (67).
وأما إن قال قائل: إنه يقسم على الله بمعظم دون معظم من المخلوقات، كالأنبياء دون غيرهم، أو نبي دون غيره.
فيجاب: بأننا وإن أقررنا هذا التفاضل بين بعض المخلوقات، وأن بعضها أفضل من بعض، إلا أنها جميعاً مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها نداً لله - تعالى - فلا يُعبد، ولا يتوكل عليه، ولا يخشى، ولا يتقى، ولا يصام له، ولا يسجد له، ولا يرغب إليه ولا يقسم به، وقد سوى الله بين المخلوقات المعظمة وغيرها في ذم الإشراك بها مع الله بقوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 79 - 80] .
وقال سبحانه: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 56 - 57] .
وقال سبحانه: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)} [سبأ: 22] .(106/308)
قال ابن تيمية رحمه الله: (فقد تبين أن الله سوى بين المخوقات في هذه الأحكام، لم يجعل لأحد من المخلوقين سواء كان نبياً أو ملكاً أن يقسم به، لا يتوكل عليه، ولا يرغب إليه ولا يخشى، ولا يتقى) (68).
المبحث الثاني
دعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،
وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك، ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،
وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك
يرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله جواز التوسل بذوات المخلوقين من الأنبياء والصالحين، وأن هذا من شريعة الإسلام، قد جاءت به نصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة.
فمن الكتاب يستدلون بقوله تعالى: { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] .
إذ الوسيلة عامة تشمل التوسل بالأشخاص، والتوسل بالأعمال، بل يرون أن المتبادر من التوسل في الشرع هو هذا وذاك رغم تقول كل مفتر (69).
وأما من السنة فيستدلون بحديث توسل عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه بالعباس (ت - 32هـ) رضي الله عنه وبغيره (70).
وأما الإجماع: فقد حكى الإجماع على جواز التوسل بذوات الأنبياء في حياتهم حضوراً أو غائبين، وبعد مماتهم: جمع منهم، ويرون أن هذا هو اتفاق السلف عبر القرون المفضلة الأولى، حتى جاء ابن تيمية رحمه الله بعد القرن السابع، وخرق هذا الإجماع:
(وقد جرى عمل الأمة على التوسل والزيارة إلى أَنِ ابتدع إنكار ذلك الحراني) (71).
(الخلاف هو على التوسل بالميت الصالح، ولم يكن يختلف على جوازه أحد من السلف إلى القرن السابع، حيث ابتدع ابن تيمية هذا الخلاف الفتان) (72).
(وطوال أربعة عشر قرناً: لم ينكره أحد سوى ابن تيمية وتلاميذه في القرن الثامن الهجري!) (73).
(التوسل بالأموات زعم ابن تيمية أنه ممنوع) (74).(106/309)
وقال السبكي (ت - 756هـ) : (لم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان، حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار) (75).
ولا يكتفي المناوئون لابن تيمية رحمه الله بإباحة التوسل بالأنبياء والصالحين، واستحبابه، بل يرون أن التوسل مشروع بعامة المسلمين وخاصتهم (76).
وينكرون على من منع سؤال أولياء الله الموتى، بأنه لا حجة لهم إذا استدلوا بحديث: «إذا سألت فاسأل الله» (77)، لأن الأموات الصالحين أحياء في قبورهم يتصرفون، وأنه تواتر عن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم على أن موتى المؤمنين في البرزخ يعلمون، ويسمعون، ويرون، ويقدرون على الدعاء، وأن الشكوى لهم من ظلم الظالم قد تفيد، فلهم ما شاء الله من التصرفات (78).
ويرون تخطئة ابن تيمية رحمه الله حين فرق بين التوسل بالأحياء الحاضرين القادرين، وبين التوسل بالميت، بأنه لا دليل على التفريق بين الحي والميت، ومن فرق بين الحي والميت فهو دليل على أنه يرى فناء الأرواح، وهذا يؤدي إلى إنكار البعث (79).
ويذكرون مثالاً على جواز التوسل بالصالحين الموتى: أن الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله كان يتوسل بأبي حنيفة (ت - 150هـ) رحمه الله ببغداد، يأتي إلى ضريحه ويركع ركعتين، ويتوسل به (80).
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى(106/310)
حين يزعم المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه أول من قال بتحريم التوسل بالذوات مطلقاً، أو الأموات مطلقاً، أو الأحياء فيما لا يقدرون عليه، أو في مغيبهم، فليس هذا افتراءً على ابن تيمية رحمه الله وحده، بل هي فرية على القرون السبعة الأولى أنهم يحرمون ما أجازه الله ورسوله، ثم هو افتراء على الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، من غير دليل صحيح فيتبع، أو أثر فيقتفى، فليس في الكتاب العزيز، ولا السنة المطهرة أي دليل يجيز أو يشير إلى إباحة هذا التعلق بالذوات، والتجاء القلب إلى المخلوق وترك الخالق.
وابن تيمية رحمه الله قد أخذ عهداً على نفسه أن لا يقول بأي قول جديد لم يسبقه إليه صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتابعوهم، ومن جاء بعدهم من سلف الأمة الأخيار، فهو متبع لا مبتدع، ويرى أنه قد كُفي بمن سبقه؛ بما بينوا وأوضحوا من غوامض النصوص، ودقائق المسائل.
يقول رحمه الله عن نفسه: (المجيب - ولله الحمد - لم يقل قط في مسألة إلا بقول سبقه إليه العلماء، فإن كان يخطر له ويتوجه له فلا يقوله وينصره إلا إذا عرف أنه قد قاله بعض العلماء) (81).
ثم قال: (فمن كان يسلك هذ المسلك كيف يقول قولاً يخرق به إجماع المسلمين، وهو لا يقول إلا ما سبقه إليه علماء المسلمين؟ فهل يتصور أن يكون الإجماع واقعاً في مورد النزاع؟) (82).
ثم بيّن رحمه الله السبب في تسرع بعض الناس إذا وجد قولاً أو قولين حكم بالإجماع بأنه ناتج عن الظن الفاسد، والجهل بأقوال أهل العلم، مما ينتج عنه عدم معرفة مظان الإجماع فيقول: (لكن من لم يعرف أقوال العلماء قد يظن الإجماع من عدم علمه النزاع، وهو مخطيء في هذا الظن لا مصيب، ومن علم حجة على من لم يعلم، والمثبت مقدم على النافي) (83).(106/311)
وإذا ادعى مدع أن غيره خالف الإجماع فلا يقبل قوله إلا إذا كان ممن يعرف الإجماع والنزاع، وهذا يحتاج إلى علم عظيم يظهر به ذلك؛ لأن دعوى الإجماع من علم خاصة العلماء الذي لا يمكن الجزم فيه بأقوال العلماء، وغاية الأمر أن مدعي الإجماع لا يعلم منازعاً في المسألة، لا أنه يجزم بنفي المنازع؛ لأن عدم العلم لا يعني العلم بالعدم (84).
ومن زعم أن ابن تيمية رحمه الله قد خالف الإجماع، فإن هذه الدعوى تقلب عليه لينقلب مدحوراً، فيطالب بدليل واحد من القرآن يبيح ما أفتى ابن تيمية بحرمته، أو بدليل من السنة، أو بقول أحد من الصحابة، أو التابعين، أو المشهود لهم بالعلم والتقى والاعتقاد الحق من سلف الأمة، ولن يجدوا حتى يلج الجمل في سم الخياط، فلم يخالف ابن تيمية رحمه الله إلا أهواء المبتدعة، وتحريفهم لمعاني نصوص الكتاب والسنة، وأغاليطهم على سلف الأمة.
فالإجماع على خلاف ما ذكروه، كما يقول رحمه الله: (ثم سلف الأمة، وأئمتها، وعلماؤها إلى هذا التاريخ سلكوا سبيل الصحابة في التوسل في الاستسقاء بالأحياء الصالحين الحاضرين، ولم يذكر أحد منهم في ذلك التوسل بالأموات، لا من الرسل ولا من الأنبياء، ولا من الصالحين.
فمن ادعى أنه علم هذه التسوية التي جهلها علماء الإسلام، وسلف الأمة، وخيار الأمم، وكفّر من أنكرها، وضلله: فالله تعالى هو الذي يجازيه على ما قاله وفعله) (85).
ومن باب ذكر المثال ممن تقدم ابن تيمية رحمه الله من السلف على تحريم التوسل، ما نقله فقهاء الحنفية عن أبي حنيفة (ت - 150هـ) رحمه الله وصاحبه أبي يوسف (86)، رحمه الله من أنهما يحرمان التوسل بحق فلان، أو بحق الأنبياء والرسل (87).(106/312)
وحين يلزم ابن تيمية رحمه الله في باب العبادات التوقيف؛ فما ورد فإنه يقبل، وما لم يرد فإنه يرفض ويرد، فإن المناوئين لا تعجبهم هذه المنهجية الدقيقة؛ لأنها تحجر عليهم كثيراً من بدعهم، ومخترعاتهم في الشرع، فيزعم زاعم أنه ربما وقعت بعض أنواع التوسل التي ينكرها ابن تيمية لكنها لم تنقل إلينا، وبعضهم يرى أن ابن تيمية يتيه في بيداء العدم حين يلتزم بهذه المنهجية (88).
لكن هذه المزاعم مرفوضة: فلو وقعت أنواع من التوسل غير ما ذكر في الأحاديث والآثار الصحيحة لنُقل أيضاً؛ لأن الشرع محفوظ فقد نقل الصحابة ما هو أدق من هذا الموضوع المهم، فكيف يجمع الصحابة ويطبقون على عدم نقله: إما أن يكونوا جهلة، أو أنهم يكتمون الحق لغرض في نفوسهم، وكلا الأمرين باطل ممتنع، فلا يبقى إلا القول بأنه لم يقع في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا عهد الصحابة شيء من ذلك ويقرون عليه.
ويجاب عنهم - أيضاً -: بأن هذه العبارة وهي قولهم: إنه يتيه في بيداء العدم يلزم منها عدم كمال الدين، وعدم تبليغ الرسول صلّى الله عليه وسلّم البلاغ المبين، حتى يجتهد أولئك في اختراع عبادات لم تكن في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، على احتمال أن تكون وقعت ولم تنقل إلينا، وقد أخبر الله بكمال الدين في قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] .
لكن المناوئين لابن تيمية: لا يقولون بهذا إلا فيما يخالف أهواءهم، وإلا فهم يذكرون عن مسائل أنها لا تجوز لعدم ورودها، ومع ذلك لا يرد بعضهم على بعض فيها، وهذا يدل على أنهم يتبعون أهواءهم، والله تعالى يقول: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] .(106/313)
مثال ذلك قول ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) : (أنكر العز بن جماعة (89) هذا الموقف كالعَود بعد السلام على الشيخين رضي الله عنهما (90) إلى موقفه الأول محتجاً بأن واحداً منهما لم يرد عن الصحابة، ولا التابعين) (91) وأقره عى هذا.
وقال - أيضاً -: (ويظن من لا علم له أنه - أي الانحناء للقبر الشريف - من شعار التعظيم، وأقبح منه تقبيل الأرض له؛ لأنه لم يفعله السلف الصالح، والخير كله في اتباعهم) (92).
والمناوئون يسلكون كل الطرق لإقناع الناس بشبهاتهم وبدعهم، ومن عجيب أمرهم مع ابن تيمية رحمه الله أن قال بعضهم بأنه يرى التوسل البدعي!، ويوافق عليه، فإذا أجاز التوسل بدعائه، فقد أجاز التوسل بذاته، وأن ابن تيمية أثبت جواز التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم دون تفريق أو تفصيل بين حياته وموته، وحضوره وغيابه (93).
وهذا من عجائب المناوئين، فلا يدرون: أيقولون بأنه يمنع التوسل البدعي: تحذيراً لمن يضللونه من ابن تيمية، أم يقولون بأنه يقول بقولهم ويوافقهم: ويحرفون النصوص لأجل ذلك؛ إثارة للفتنة، وتلبيساً على العامة.
وأما التوسل بالشخص سواء كان نبياً أو ولياً صالحاً، فلم يمنع ابن تيمية رحمه الله ذلك، وإنما قال: إن هذا اللفظ فيه إجمال واشتراك: -
فإن أريد به التوسل بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم في حياته، والتوسل بدعاء الصالحين في حياتهم فهذا جائز.
وأما إن أريد به: التوسل بذات النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو ذوات الصالحين في حياتهم أو بعد مماتهم فهذا غير جائز، ولا يقره ابن تيمية رحمه الله ولا السلف السابقون.
فقال رحمه الله عن الأول الجائز: (دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واستغفارهم وشفاعتهم هو سبب ينفع، إذا جعل الله تعالى المحل قابلاً له) (94).(106/314)
وقال عن دعاء الصالحين بعد ما بين أن الصحابة كانوا يتوسلون بدعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته: (فهذا كان توسل الصحابة به في حياته، فلما مات توسلوا بدعاء غيره، كدعاء العباس، وكما استسقى معاوية، بيزيد بن الأسود الجرشي (95)) (96).
وقال عن الثاني الممنوع، وهو التوسل بذات النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو ذوات الصالحين: (وأما التوسل بدعائه وشفاعته - أي الرسول صلّى الله عليه وسلّم - كما قال عمر - فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس، ولو كان التوسل هو بذاته، لكان هذا أولى من التوسل بالعباس) (97).
وأما استدلال المناوئين باستسقاء عمر (ت - 23هـ) بالعباس (ت - 32هـ) رضي الله عنهما على جواز التوسل بالذوات، وبالصالحين، فهو استدلال ظاهر البطلان، وذلك من جوه:
1 - أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضاً، ويدل بعضها على بعض، وحديث توسل عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه مما يتفق فيه المبتدعة وأهل السنة على تقدير محذوف فيه، ولكن ما هو هذا التقدير في قوله: (كنا نتوسل إليك بنبينا.. وبعم نبينا).
أما المناوئون، فيرون أن المحذوف تقديره: بجاه نبينا، وقد بينا بطلان التوسل بالجاه - كما تقدم -.
وأما أهل السنة فيرون أن تقدير المحذوف: بدعاء نبينا، وبدعاء العباس، وهذا تقدم بيانه ويوضحه الوجوه القادمة - أيضاً - .
2 - أن الصحابة إذا أجدبوا، واحتاجوا الماء كان من عملهم أن يأتوا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته فيطلبون منه أن يدعو الله لهم، وأن يسأل الله إنزال الغيث فيفعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مراراً.
ولم يكن الصحابة - رضوان الله عليهم - إذا احتاجوا إلى المطر والسقيا يذهبون إلى بيوتهم ويمكثون فيها، ويقولون: اللهم بنبيك محمد اسقنا الغيث، وهذا معلوم لمن نظر واستبصر بالنصوص.(106/315)
3 - أن قول عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه: (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) معناه: أننا توسلنا بأمر يقدر عليه العباس (ت - 32هـ) ، ولا يقدر عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الدعاء في هذا الوقت بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فطلبنا منه أن يدعو لنا لتغيثنا، فالتوسل بالعباس (ت - 32هـ) ممكن، والتوسل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته غير ممكن، ولهذا عدل عمر (ت - 23هـ) عن التوسل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى التوسل بعمه العباس (ت - 32هـ) .
قال ابن تيمية رحمه الله: (لو كان توسلهم به في مماته كتوسلهم به في حياته لكان توسلهم به أولى من توسلهم بعمه العباس ويزيد وغيرهم.
فهل كان فيهم في حياته من يعدل عن التوسل به، والاستشفاع إلى التوسل بالعباس وغيره؟.
وهل كانوا وقت النوازل والجدب يَدَعونه ويأتون العباس؟) (98).
4 - ليس من المعقول أن يقر الصحابة عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه على الانصراف عن التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى التوسل بغيره، ولم ينكروا عليه، فيلزم أحد أمرين:
(إما أن يكون المهاجرون والأنصار جاهلين بهذه التسوية وهذا الطريق. أو أنهم سلكوا في مطلوبهم أبعد طريق) (99).
5 - لو كان التوسل بالذوات بعد الممات ممكنا - كما يقوله المبتدعة - لكان العدول عن التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى العباس (ت - 32هـ) في أصعب الظروف سخفاً ترفضه العقول السوية، خاصة وأنهم يقولون بحياة الأنبياء في قبورهم حياة حقيقية كحياتهم الدنيوية.
6 - أن الحديث بين أن عمر بن الخطاب (ت - 23هـ) كان إذا قحطوا، استسقى بالعباس (ت - 32هـ) .
وفي هذا اللفظ إشارة إلى تكرار استسقاء عمر (ت - 23هـ) بالعباس (ت - 32هـ) رضي الله عنهما، وليس من باب التعليم للناس بجواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل.(106/316)
7 - أن الآثار قد بينت دعاء العباس (ت - 32هـ) رضي الله عنه ربه في الاستسقاء، وفي هذا رد على من قال إن التوسل كان بذاته لا بدعائه.
8 - لو كان التوسل بذات العباس (ت - 32هـ) وجاهه عند الله، لما جاز أن يترك التوسل بذات الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجاهه، لجاه غيره وذاته.
9 - أن عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه قد أُمرنا بالاقتداء به شرعاً، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (100).
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (101).
وقد وافق القرآن مرات عديدة.
فعدوله رضي الله عنه عن التوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد مماته، إلى التوسل بدعاء غيره هو من سنة الخلفاء الراشدين (102).
وأما سؤال الخلق فهو قسمان: سؤال الخلق في حياتهم، وسؤال الخلق بعد مماتهم.
أما سؤال الخلق: فهو في الأصل محرم، ويجوز في حالات، وتركه توكلاً أفضل كما قال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [الشرح: 7 - 8] ، أي ارغب إلى الله لا إلى غيره.
وعن عوف بن مالك (103) أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بايع طائفة من أصحابه وأسرّ كلمة خفية أن لا تسألوا الناس شيئاً.
قال عوف: (فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه) (104).
ومن الحالات التي يجوز فيها أن يسأل المرء غيره شيئاً:
1 - إن كان له عند غيره حق من دين أو عين كالأمانات فله أن يسألها ممن هي عنده.
2 - وللرجل أن يطلب حقه من أموال الغنائم من ولي أمر المسلمين.
3 - وكذلك سؤال النفقة لمن تجب له: كالزوجة والأولاد.
4 - وأمور البيع والشراء: البائع يطلب الثمن، والمشتري يطلب السلعة.(106/317)
5 - ومن السؤال ما لا يكون مأموراً به، إلا أن المسؤول مأمور بإجابة السائل، كما قال تعالى: { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ } [الضحى: 10] ، وقال: { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [المعارج: 24 - 25] .
وقد يكون السؤال منهياً عنه نهي تحريم أو تنزيه، وإن كان المسؤول مأموراً بإجابة سؤاله، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم كان من كماله أن يعطي السائل، وإن كان نفس سؤال السائل منهياً عنه، قال ابن تيمية رحمه الله في ذلك: (ولهذا لم يعرف قط أن الصديق ونحوه من أكابر الصحابة سألوه شيئاً من ذلك، ولا سألوه أن يدعو لهم، وإن كانوا قد يطلبون منه أن يدعو للمسلمين) (105)، وضرب لذلك دليلاً بقول عمر (ت - 23هـ) لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نحر بعض الدواب خوف ملاقاة العدو وهم جياع: (إن رأيت أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فتجمعها، ثم تدعو الله بالبركة، فإن الله يبارك لنا في دعوتك) (106).
ومن السؤال ما يكون مأموراً به، ويكون المسؤول مأموراً بإجابته - أيضاً - لمن كان عنده إجابته كسؤال العلم، فإن الله أمر بسؤال العلم، كما في قوله تعالى: { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النحل: 43] ، وقال: { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } [يونس: 94] ، وقال: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف: 45] .
وأما سؤال المخلوق المخلوق أن يقضي حاجة نفسه، أو يدعو له فلم يؤمر به (107).(106/318)
وأما من طلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله مثل أن يطلب شفاء مريضه، أو وفاء دينه، أو عافية أهله، أو غفران ذنبه، فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من الله عزّ وجل فلا تطلب لا من ملك ولا نبي ولا ولي (108)، وهي نوع من الشرك.
وأما سؤال الخلق بعد مماتهم: فلا يجوز مطلقاً لا سؤال الأنبياء، ولا الأولياء، ولا غيرهم من باب أولى، كما قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما سؤال الميت فليس بمشروع ولا واجب ولا مستحب بل ولا مباح (109)، ولم يفعل هذا قط أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من سلف الأمة؛ لأن ذلك فيه مفسدة راجحة، وليس فيه مصلحة راجحة) (110).
وقال: (لا يجوز أن يُسأل الميت شيئاً، لا يطلب منه أن يدعو الله ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يُشكى إليه شيء من مصاب الدنيا والدين) (111).
والأنبياء والصالحون لا يقرون أحداً يعبدهم أو يغلو فيهم في حياتهم وهم يعلمون، بل ينهون عن ذلك ويعاقبونهم عليه، كما قال الله - عز وجل - عن عيسى - عليه الصلاة والسلام -: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المائدة: 117] .
وهذا شأن أنبياء الله وأوليائه، وإنما يقر الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علواً في الأرض وفساداً، كفرعون ونحوه، ومشايخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد.
والفتنة بالأنبياء والصالحين واتخاذهم أرباباً، والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم (112).
وبالجملة؛ فإن سؤال الخلق فيه ثلاث مفاسد، ويجتمع فيه أنواع الظلم الثلاثة:
فالمفسدة الأولى : مفسدة الافتقار إلى غير الله، وهي من نوع الشرك.
والثانية : مفسدة إيذاء المسؤول، وهي من نوع ظلم الخلق.(106/319)
وأما الثالثة : فهي مفسدة الذل لغير الله، وهو ظلم النفس (113).
وأما من دعا المخلوقين من دون الله فقد أشرك (114)، ولا يوجد نص عن نبي أنه أمر بدعاء الملائكة، ولا بدعاء الموتى من الأنبياء والصالحين، فضلاً عن دعاء تماثيلهم، فإن هذا من أصول الشرك. الذي نبهت عليه الرسل (115).
وقد أمر الله بدعائه وحده - سبحانه - فقال: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر: 60] .
وقال - سبحانه -: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ } [يونس: 106] .
وقال عزّ وجل: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [الأحقاف: 5] .
ولا يجوز صرف الدعاء إلا لله؛ لأن الدعاء عبادة يصحبها محبة، ورغبة، وخضوع للمدعو، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدعاء هو العبادة» (116).
ويعجب ابن تيمية رحمه الله من كثير من الناس الذين نهوا عن الصلاة عند القبور سداً لذريعة الشرك، ثم هو يقصد الدعاء عندها، ويرى أن الدعاء عندها مظنة الإجابة، فكيف بمن يدعو صاحب القبر من دون الله (117)؛ ولذا لم يكن الصحابة يطلبون من الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد موته الدعاء، ولا يدعونه من دون الله (118).
إن دعاء الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم وفي مغيبهم: هو من الدين الذي لم يشرعه الله، ولا ابتعث به رسولاً، ولا أنزل به كتاباً، وقد قال الله عزّ وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ } [الشورى: 21] ، وهذا الأمر ليس واجباً، ولا مستحباً باتفاق المسلمين، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين (119).(106/320)
وأما مسألة حياة الأنبياء في قبورهم، فقد بينت - سابقاً - القول الصواب فيها، وأنها حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء في قبورهم، لكنها ليست كالحياة الدنيوية.
وأما ما يروى من توسل الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله بأبي حنيفة (ت - 150هـ) رحمه الله فهذه: -
1- حكاية كغيرها من الحكايات التي تروى عن مجاهيل لا يعرفون، ليس لها أصل ولا سند.
2 - أن الشافعي (ت - 204هـ) لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده ألبته، ولم يكن هذا العمل معروفاً على عهد الشافعي (ت - 204هـ) .
3 - أن الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله قد رأى بالحجاز واليمن والشام والعراق وغيرها من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة (ت - 150هـ) وأمثاله من العلماء، فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عنده.
4 - أن أصحاب أبي حنيفة (ت - 150هـ) الذين أدركوه مثل أبي يوسف (ت - 183هـ) ومحمد بن الحسن (ت - 189هـ) وزفر (120)، والحسن بن زياد (121)، وطبقتهم: لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند قبر أبي حنيفة (ت - 150هـ) ، ولا عند قبر غيره.
5 - أن الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله ثبت عنه ما يدل على نهيه عن تعظيم القبور، مثل قوله: (وأكره أن يبني على القبر مسجد، وأن يسوى، أو يصلى عليه، وهو غير مسوى، أو يصلى إليه) (122).
وأيضاً: (كره والله تعالى أعلم أن يعظم أحد من المسلمين - يعني يتخذ قبره مسجداً -، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعد) (123).
وبهذا يتبين أن هذه القصة مكذوبة عليه، فلم يكن في عهده ذلك، وإنما وجدت هذه الأمور - أي تعظيم القبور والتوسل بأصحابها - لما تغيرت أحوال الإسلام في المائة الرابعة (124).
المبحث الثالث
دعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدم
جواز التوسل بالنبي، ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدم جواز التوسل بالنبي(106/321)
يرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله جواز التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في أحواله الأربعة:
فالحال الأول : التوسل به قبل خلقه: لحديث: «لما اقترف آدم الخطيئة، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه.
قال: يا رب؛ لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله سبحانه وتعالى: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي إذ سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك) (125).
والحال الثاني : التوسل به صلّى الله عليه وسلّم بعد خلقه في مدة حياته في الدنيا: ويستدلون لذلك بحديث عثمان بن حُنيف (26)رضي الله عنه أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: «إن شئتَ دعوت لك، وإن شئتَ أخرت ذاك، فهو خير، فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، لتقضى لي، اللهم فشفعه فيّ» ، قال: ففعل الرجل، فبرىء(127).
والحال الثالث : التوسل به صلّى الله عليه وسلّم في البرزخ كالتوسل به وهو في قبره، ويستدلون لذلك بحديث دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم لأم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنه قوله: (اللهم بحق نبيك، والأنبياء الذين قبلي) (128).
قال ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) في بيان الدلالة الثانية: من الحديث (الثانية في التوسل به بعد وفاته؛ لأن قوله صلّى الله عليه وسلّم: والأنبياء الذين من قبلي، معطوف على نبيك، وهي دلالة ظاهرة في التوسل بهم بعد وفاتهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فالتوسل به صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته أولى)(129).(106/322)
وحديث عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها حين قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إليها، فقالت: انظروا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا، فمطروا حتى نبت العشب، وسمنت الإبل، حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق) (130).
ويذكرون قصة الأعرابي الذي جاء إلى قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال: السلام عليك يا رسول الله، يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتاباً صادقاً، قال فيه: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} [النساء: 64] ، وقد جئتك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ربي - عز وجل - وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه *** فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء بقبر أنت ساكنه *** فيه العفاف وفيه الجود والكرم
قال راوي هذه القصة العتبي (131): ثم استغفر الأعرابي وانصرف، فحملتني عيناي، فرأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في النوم فقال: يا عتبي، الحق الأعرابي فبشره بأن الله تعالى قد غفر له، فخرجت خلفه فلم أجده(132) .
والحال الرابع : التوسل به صلّى الله عليه وسلّم في عرصات القيامة، حين يلجأ الناس إليه ليشفع لهم الشفاعة العظمى(133) .
ويرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه أول من منع التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته(134) .
ويرون أنه أخرج الأحاديث الصحيحة في التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته، عن دلالتها حين منع التوسل به صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته (135).
ويرون أن من لم ير التوسل بعد وفاته، فلازمه أنه يرى أنه ليس برسول الآن، وليس له جاه (136).(106/323)
ويرون أن من أنكر التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بحجة أنه بدعة فهو ذو فهم سقيم، وصدر ضيق، فروح الشريعة الإسلامية توجب التمييز بين أنواع البدعة، فمنها البدعة الحسنة، والبدعة السيئة، وأن هذا التوسل من البدعة الحسنة (137).
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
يستمر المناوئون لابن تيمية رحمه الله في كيل الدعاوى عليه بدون نقد ولا تمحيص، فيقوّلونه ما لم يقل، ويبحثون عن الأدلة الصحيحة فيصرفون دلالتها عن ما هي عليه، ويستدلون بالأحاديث الضعيفة، والقصص، والحكايات المكذوبة، نصرة للبدعة، وحرباً للسنة وأهلها.
وقد ظن المناوئون لابن تيمية رحمه الله حين يزعمون أنه أول من منع التوسل بالنبي بعد وفاته أنهم قد قدحوا فيه، ورموه بالعظائم، ولم يعلموا أن هذه شهادة له بحسن المعتقد، وقوة البصيرة في الدين، وإن كان هناك قدح فهو في القرون السبعة السابقة التي رميت وافتري عليها بأنها تقول بجواز التوسل بالنبي بعد موته، وهي لم تقل.
ولهذا يعجب ابن تيمية رحمه الله حين يناظره مخالفوه، ويعرضون عليه مسائل عدة، يرون أنه خالف الإجماع فيها فيقول: (أن لفظ (كم) يقتضي التكثير، وهذا يوجب كثرة المسائل، التي خرق المجيب فيها الإجماع)(138) .
ثم يبين عدم خرقه الإجماع بقوله: (والذين هم أعلم من هذا المعترض، وأكثر اطلاعاً اجتهدوا في ذلك غاية الاجتهاد، فلم يظفروا بمسألة واحدة خرق فيها الإجماع، بل غايتهم أن يظنوا في المسألة أنه خرق فيها الإجماع، كما ظنه بعضهم في مسألة الحلف بالطلاق، وكان فيها من النزاع نقلا، ومن الاستدلال فقهاً وحديثاً ما لم يطلع عليه)(139) .
ثم ذكر: (أن المجيب - ولله الحمد - لم يقل قط في مسألة إلا بقول سبقه إليه العلماء)(140) .(106/324)
وأما التوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم قبل خلقه فهذا من عجائب المبتدعة التي يقذفون بها على العامة، فيصدقهم من يصدقهم، ويعصم الله أهل السنة فيبعدهم عنها، ويكشف لهم كذبها وزيفها، وهذا من حفظه لهم - سبحانه وتعالى -.
وعمدة القائلين بالتوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم قبل وجوده على أحاديث، وقصص وحكايات عن الأنبياء السابقين، وأنهم يتوسلون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وهي كلها كذب، لا يصح منها شيء ألبتة، يقول ابن تيمية رحمه الله:
(وهذه القصص التي يذكر فيها التوسل عن الأنبياء بنبينا ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا لها إسناد معروف عن أحد من الصحابة، وإنما تذكر مرسلة، كما تذكر الإسرائيليات التي تروى عمن لا يعرف)(141) .
وأما توسل آدم بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم قبل خلقه: فهو حديث ضعيف سنداً ومتناً.
أما السند ففيه: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ وهذا مجمع على ضعفه:
قال يحيى بن معين (ت - 233هـ) : بنو زيد بن أسلم ليسوا بشيء (142).
وقال أبو زرعة (ت - 264هـ) : ضعيف الحديث(143) .
وقال النسائي (ت - 303هـ) : ضعيف(144) .
وضعفه على بن المديني(145) جداً (146).
وقال ابن حبان (ت - 354هـ) : (كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته.. فاستحق الترك) (147).
وقال البيهقي (ت - 358هـ) : (تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه عنه وهو ضعيف) (148).
وقال الذهبي (ت - 748هـ) : ضعفوه(149).
وقال ابن حجر (ت - 852هـ) : ضعيف(150).
وأما عن إخراج الحاكم(151) لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وتصحيحه الإسناد(152) ، فهذا له وقفات:(106/325)
1 - أن تصحيح الحاكم (ت - 405هـ) ، وتفرده به لا يعتد به، قال فيه ابن تيمية في نقده إخراجه هذا الحديث في مستدركه: (وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله، فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث، وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث، وهي موضوعه مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث) (153).
وذكر أمثلة لتصحيحه بعض الأحاديث وهي غير صحيحة ثم قال: (ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه، وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه)(154) .
2 - أخرج الحاكم (ت - 405هـ) في مستدركه حديثاً لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ولم يصحح إسناده، وإنما قال: (الشيخان رضي الله عنهما لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم)(155) ، وهذا تناقض.
3 - أن الإمام الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله لم يوافق الحاكم (ت - 405هـ) في تصحيحه هذا الإسناد، وإنما قال في تلخيص المستدرك: (بل موضوع، وعبد الرحمن واه)(156) .
وهناك علة ثانية في السند: وهي الجهالة، فالسند فيهم من لم يعرف، كما قال الهيثمي(157) : (فيه من لم أعرفهم)(158) .
وفي السند: عبد الله بن مسلم الفهري: فقد ذكر الذهبي (ت - 748هـ) في ترجمته هذا الحديث ووصفه بأنه: (خبر باطل)(159) ، ووافقه ابن حجر (ت - 852هـ)(160) .
وهناك - أيضاً - علة ثالثة في السند: وهي اضطراب عبد الرحمن، ومن دونه في إسناده، فتارة يروونه مرفوعاً، وتارة موقوفاً على عمر (ت - 23هـ) عن عبد الله بن إسماعيل بن أبي مريم، وعبد الله هذا لا يعرف(161) .
وأما المتن: فعليه ملحوظتان:(106/326)
الأولى : أن ظاهر الحديث ينص على أن مغفرة الخطيئة كانت بسبب توسل آدم بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مخالف لنص القرآن الكريم، إذ المغفرة كانت بسبب الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، قال عزّ وجل: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة: 37] ، وقيل: إن الكلمات هي ما ذكر في قوله تعالى: { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] .
قال ابن تيمية رحمه الله: (أخبر أنه تاب عليه بالكلمات التي تلقاها منه، وقد قال تعالى: { { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [الأعراف: 23] الآية)(162) .
الثانية : أن الحديث فيه زيادة: (ولولا محمد ما خلقتك) وهذه الزيادة تخالف القرآن الكريم، حيث نص على أن الحكمة من خلق الجن الإنس هي عبادة الله وحده، كما قال سبحانه: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
وبعد هذا: فإن توسل آدم بمحمد - عليهما الصلاة والسلام - ليس بصحيح، والحديث مكذوب، لا يصح الاحتجاج به، كما قال ذلك ابن تيمية رحمه الله(163) .
وأما الحال الثاني : وهو التوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته: فالمراد به التوسل بدعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا بذاته، وكان هذا هو المفهوم الصحيح لكلام الصحابة - رضوان الله عليهم - في معنى التوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم: أنه توسل بدعائه لا بذاته، كما قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته) (164).
والسبب في خلط بعض المتأخرين، وعدم معرفتهم مقاصد ألفاظ الصحابة: أن لفظ التوسل دخل فيه من تغيير لغة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، ما أوجب غلط من غلط عليهم في دينهم ولغتهم.(106/327)
والعلم يحتاج إلى نقل مصدّق، ونظر محقق، والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه، ومعرفة دلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم(165) .
وقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يطلبون من الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته أن يدعو للمسلمين إذا نزل بهم بلاء عام، أو فاقة، كطلبهم منه صلّى الله عليه وسلّم أن يستسقي لهم، ولذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (وكانوا في حياته إذا أجدبوا توسلوا بنبيهم صلّى الله عليه وسلّم، توسلوا بدعائه، وطلبوا منه أن يستسقي لهم)(166) .
ثم ذكر حديث ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما وهو قوله: (ربما ذكرت قول الشاعر وأنا انظر إلى وجه الرسول صلّى الله عليه وسلّم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى، عصمة للأرامل
ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستسقي على المنبر، فما نزل حتى يجيش له ميزاب)(167) .
وأما المنع من التوسل بالذات فسببه: أن الذات ليست سبباً ولا وسيلة لإجابة الدعاء، فتوسلنا بها لا ينفع؛ لأنها ليست وسيلة مشروعة لإجابته، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأما إذا لم نتوسل إليه - سبحانه - بدعائهم ولا بأعمالنا، ولكن توسلنا بنفس ذواتهم: لم تكن ذواتهم سبباً يقتضي إجابة دعائنا، فكنا متوسلين بغير وسيلة، ولهذا لم يكن هذا منقولاً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نقلاً صحيحاً، ولا مشهوراً عن السلف)(168) .
وأما حديث الضرير: فهو حديث صحيح(169) ، لكن النقاش في دلالة الحديث: فليس فيه ما يريدون تقريره من جواز التوسل بجاه الموتى وذواتهم، وذلك يتضح بأمور منها:
1 - أن الحديث فيه التوسل بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم في حياته، ذلك أن الأعمى جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وطلب منه الدعاء بقوله: (ادع الله أن يعافيني)، فطلب الأعمى هو دعاء الرسول له؛ لأنه يعلم أن دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم أرجى للقبول.(106/328)
2 - أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فهم من الأعمى أنه يطلب الدعاء، ولذا خيره بين أن يدعو له، أو أن يصبر، فاختار الدعاء، خلافاً للمرأة التي بها مس، فخيرها النبي صلّى الله عليه وسلّم بين أن يدعو لها، أو أن تصبر: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت لك.
فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف)(170) .
3 - أن الأعمى أصر على طلبه وقال: (بل ادع) وهذا ما يؤكد أنه توسل بدعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته.
4 - أنه لو كان توسل الأعمى بجاه النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو بذاته، لما احتاج أن يأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويطلب منه الدعاء، بل كان يكفيه أن يبقى في بيته، ويتوسل إلى الله بذات النبي وجاهه، لكنه لم يفعل، فدل على أنه طلب دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم.
5 - أن قوله: (فشفعه فيّ) معناه: اقبل دعاءه في، ولا يصح أن يحمل على التوسل بالذات، أو الجاه، أو الحق.
قال ابن تيمية رحمه الله: (وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وشفاعته، وهو طلب من النبي صلّى الله عليه وسلّم الدعاء وقد أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول: (اللهم شفعه فيّ)، ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلّى الله عليه وسلّم)(171) .
6 - أن معنى قوله: (وشفعني فيه): أي أقبل شفاعتي ودعائي، وهذه الجملة من الحديث لا يستطيع المبتدعة أن يجيبوا عنها، مع أنها ثابتة صحيحة كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله(172) .(106/329)
7 - أن هذا الحديث آية من آيات النبي ومعجزة من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم، ولذا رواه البيهقي (ت - 458هـ) في دلائل النبوة(173) ، كما قال ابن تيمية رحمه الله: (هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعائه المستجاب، وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق، والإبراء من العاهات، فإنه صلّى الله عليه وسلّم ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره) (174).
8 - أنه لو كان توسل الأعمى بذات الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجاهه، وحقه، لا بدعائه، لكان كل أعمى من الصحابة، ومن بعدهم، إلى هذا الزمان، يتوسل إلى الله بذات النبي صلّى الله عليه وسلّم، وجاهه، وحقه عند الله، ولن يبقى بعد ذلك أعمى.
كما قال ابن تيمية رحمه الله: (لو كان أعمى(175) توسل به، ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى، لكان عميان الصحابة، أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى)(176) .
وقال: (ولو أن كل أعمى دعا بدعاء ذلك الأعمى، وفعل كما فعل من الوضوء والصلاة بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم وإلى زماننا هذا لم يوجد على وجه الأرض أعمى)(177) .
وفي الجملة: فإن الذي يرى أن توسل الأعمى بالرسول المقصود به دعاء الرسول فهو الموافق لمعنى الحديث، وهو العامل به على الحقيقة، كما يقول ابن تيمية رحمه الله: (فإنا بالحديث عاملون، وله موافقون، وبه عالمون، والحديث ليس فيه إلا أنه طلب حاجته من الله عزّ وجل، ولم يطلبها من مخلوق، ونحن إلى الله - تعالى - نرغب، وإياه نسأل، فهو المدعو المسؤول، كما أنه المعبود المستعان لا نشرك به شيئاً (178)، وقد قال - تعالى -: { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15] .(106/330)
وأما الحال الثالث : وهو التوسل به صلّى الله عليه وسلّم وهو في قبره في الحياة البرزخية، - أي بعد مماته - فلم يكن أحد من الصحابة يتوسل به بعد موته صلّى الله عليه وسلّم، ولم ينقل هذا عن أحد من الأئمة نقلاً صحيحاً، كما صرح بهذا ابن تيمية رحمه الله مراراً(179) .
وأما قصة أم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهي ضعيفة، وعلتها: روح بن صلاح، وفيه ضعف.
قال ابن عدي (ت - 365هـ) : (في بعض حديثه نكرة)(180) .
وقال الدارقطني (ت - 385هـ) : (ضعيف الحديث)(181) .
وقال ابن ماكولا(182) : (ضعفوه)(183) .
وذكر الذهبي (ت - 648هـ) أن ابن عدي (ت - 365هـ) ضعفه (184).
وقال أبو نعيم(185) : (لم نكتبه إلا من حديث روح بن صلاح تفرد به) (186) .
وقال الهيثمي (ت - 807هـ) : (فيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح)(187).
وأما توثيق ابن حبان (ت - 354هـ) ، والحاكم (ت - 405هـ) له، وانفرادهما بهذا التوثيق فليس بحجة، وقد بينت سابقاً موقف أهل العلم من تفرد الحاكم (ت - 405هـ) بالتوثيق، وأما ابن حبان (ت - 354هـ) فهو متساهل أيضاً في التوثيق، فتراه يوثق المجاهيل، حتى الذين يصرح هو نفسه أنه لا يدري من هو ولا من أبوه؟ (188).
ولذا فإن تفردهما بالتوثيق لا يقبل أمام جرح غيرهما، حتى وإن كان جرح غيرهما مبهماً(189)
وأما حديث عائشة بنت الصديق (ت - 58هـ) رضي الله عنها وعن أبيها - فهو ضعيف لا يحتج به(190) ، لأمور منها:
أ - ضعف السند ففيه سعيد بن زيد، وهو لا يحتج به، فكان يحيى بن سعيد(191) يضعف حديث سعيد جداً (192).
وقال النسائي (ت - 303هـ) وغيره: ليس بالقوي(193) .
وقال ابن حبان (ت - 354هـ) : (كان صدوقاً حافظاً، ممن كان يخطىء في الأخبار، ويهم في الآثار حتى لا يحتج به إذا انفرد)(194) .
وقال ابن حجر (ت - 852هـ) : (صدوق له أوهام)(195) .(106/331)
وفيه محمد بن الفضل أبو النعمان، ويقال له عارم، وهذا صدوق اختلط في آخر عمره، وتغير فلا يدري ما يحدث به، فوقعت المناكير الكثيرة في روايته، وإذا لم يعلم التمييز بين سماع المتقدمين والمتأخرين منه: يترك الكل، ولا يحتج بشيء منه(196) .
قال ابن حجر (ت - 852هـ) : (ثقة ثبت تغير في آخر عمره)(197) .
ب - أن هذا الحديث موقوف، وليس بمرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى فرض صحته فإنه رأي اجتهادي من عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها قد خالف السنة، وخالف أقوال الصحابة، وقد بين ابن تيمية رحمه الله الموقف من اجتهادات الصحابة إذا لم يخالف الصحابي غيره، أو إذا لم يشتهر، أو لم يعرف هل خالفه غيره أم لا؟ ثم قال: (ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا فيما يخالفها بلا ريب عند أهل العلم)(198) .
جـ - أن هذا الحديث فيه مغالطة علمية وفيه مخالفة للواقع المحسوس: فليس في حجرة عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها في حياتها كوة، بل كان بعضه باقياً، كما كان على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم بعضه مسقوف، وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، ولم توضع الكوة في حجرتها إلا بعد أن أدخلت الحجر في المسجد زمن الوليد بن عبد الملك (ت - 96هـ) ، لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك؛ لأجل تنظيف وغيره (199).
وأما قصة الأعرابي الذي جاء إلى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم: فهذه إسنادها مظلم، وبعضهم يرويها بسند، وبعضهم بغير سند، وإسنادها فيه: الحسن بن محمد.
قال ابن حبان (ت - 354هـ) : (لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه بحال)(200).
قال عنه ابن عدي (ت - 365هـ) : (كل أحاديثه مناكير)(201) .
وقال ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) عن إسناد هذه القصة: (ليست هذه الحكاية المنكورة عن الأعرابي مما يقوم به حجة، وإسنادها مظلم مختلف، ولفظها مختلف أيضاً)(202) ، ففي سندها ومتنها اضطراب.(106/332)
ولو كان عمل هذا الأعرابي عند قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مشروعاً لسبقه إليه من كان إلى الخير أسبق، وإلى السنة أوفق من الصحابة والتابعين، لكنهم لم يعملوا هذا العمل، ولم يدلهم إليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم فدل على أن هذا العمل باطل لا تقوم به حجة، ولا يعمل مثل هذا العمل المبتدع إلا من ضعف إيمانه أو من جهل قدر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأمره (203).
وأما الحال الرابع : وهو التوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم في عرصات القيامة ليشفع للناس: فإن أريد بالتوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم طلب الشفاعة منه يوم المحشر الشفاعة العظمى(204) ، فهذا مما أجمع عليه المسلمون، كما قال ابن تيمية رحمه الله: (أجمع المسلمون على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يشفع للخلق يوم القيامة، بعد أن يسأله الناس ذلك وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة)(205) ، كما قال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] ، وقال: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255] .
وقال رحمه الله: (من شك في شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة فهو مبتدع ضال)(206) .
وأما إلزام من لم ير التوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته بأنه لا يرى أنه رسول الآن، وأنه ليس له جاه، فهذا إلزام باطل، وتصوره كافٍ في الرد عليه؛ لأنه قام على أساس باطل وهو مشروعية التوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته، والمشروعية حكم شرعي يحتاج إلى دليل، والدليل يدل على خلاف ذلك، إذ أنه يدل على أن التوسل بالنبي بدعة غير مشروعة، وبهذا يبطل الإلزام.(106/333)
ثم إن الدليل والميزان على قبول رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته كما هو الحال في حياته يكون باتباعه وطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، فهو صلّى الله عليه وسلّم رسول، وإثبات رسالته يكون بهذه الأمور، لا بالأمور المبتدعة، وهو الدليل على محبة الله - تعالى - كما قال - تعالى - { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران: 31] .
وأما مسألة جاه الرسول صلّى الله عليه وسلّم: فهو وجيه عند الله وهو أفضل الخلق، وجاهه ثابت لا يتغير بإحداث عبادة لا يرضاها الله ورسوله أو تركها، فهو - بأبي وأمي - أفضل الخلق على الإطلاق، ولا يؤثر في جاهه صلّى الله عليه وسلّم عند ربه فعل ما يغضبه ولم يأمر به من التوسل به بعد موته، ولا يزيد جاهه عند الله بطاعة الطائعين، ولا ينقص بمعصية العاصين، فربط عمل البدعة المحدثة بتقدير الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومعرفة جاهه، وربط ترك البدعة - اتباعاً للسنة - بتنقيص الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وجحده حقه وجاهه: ربطٌ لا أساس له من شرع صحيح، ولا عقل صريح والله المستعان.
وأما من زعم بأن التوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد موته بدعة حسنة؛ فقد ضل الطريق، ولم يهتد إليه سبيلاً، فليس هناك بدعة في الدين حسنة، بل البدع كلها ضلال كما قال المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: «كل بدعة ضلالة»(207) .
قال ابن تيمية رحمه الله: (من قال في بعض البدع إنها بدعة حسنة، فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة.
أما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين: إنها من الحسنات التي يتقرب بها إلى الله، ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمر إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبل الشيطان) (208) .
المبحث الرابع
دعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين،(106/334)
وإهانته لهم، ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين، وإهانته لهم
يعتقد المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه يبغض الأنبياء والصالحين، وأن في قلبه ضغينة وحقداً عليهم، وإذا سئلوا عن سبب هذه النظرة منهم إليه، وعن مبرراتها؟.
أجابوا: بأن الاستشفاع بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد موته جائز، وأنه لا يلزم من الاستشفاع به عليه الصلاة والسلام بعد موته أن يكون المستشفع قد عبده من دون الله، أو اتخذه إلهاً ورباً، وشريكاً لله - عز وجل - في الإلهية، وأن من جعل بين هذين الأمرين تلازماً فقد أُتي من جهله، وسوء فهمه، وعدم تعقله(209) .
ويرون أن الاستشفاع بالأموات قد أقرت به القرون الأولى إلى أن جاء ابن تيمية رحمه الله ثم حرمه بعد ذلك من عند نفسه (210).
وأجابوا - أيضاً - بأن التبرك بآثار الصالحين جائز، قد أقر به الصحابة في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن بعدهم، إلا أن ابن تيمية رحمه الله يحرم هذا النوع من التبرك (211).
ومن تبريرهم لبغض شيخ الإسلام رحمه الله للأنبياء والصالحين: أنه ينكر الاستغاثة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، كما قال السبكي (ت - 756هـ) : (اعلم أنه يجوز، ويحسن التوسل، والاستغاثة، والتشفع بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه سبحانه وتعالى...، ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان، حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء)(212) .
وقال ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) : (من خرافات ابن تيمية التي لم يقلها عالم قبله، وصار بها بين أهل الإسلام مُثلة: أنه أنكر الاستغاثة والتوسل به صلّى الله عليه وسلّم) (213).
ويرون أن الاستغاثة بمخلوق لا تكون عبادة له إذا صاحبها إيمان بالله وحده.
فإذا كان المستغيث بمخلوق مؤمناً بالله، فلا يكون عابداً لهذا المخلوق، إنما عبوديته لله وحده (214).(106/335)
ويرون أن المنع من الاستغاثة بالكلية مصادم للأحاديث الصحيحة، ولفعل السلف والخلف(215) ، وقد قال تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء: 115] .
ويستشهدون لجواز الاستغاثة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بقصص، وأخبار وأشعار(216) ، أشهرها قصيدة البوصيري(217) ، وفيها قوله:
يا أكرم الرسل مالي من ألوذ به *** سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي *** إذا الكريم تحلّى باسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم(218)
ومنها قوله - أيضاً - في همزيته:
الأمان الأمان إن فؤادي *** من ذنوب أتيتهن هواء
قد تمسكت من ودادك بالحبـ **** ل الذي استمسك به الشفعاء
فأغثنا يا من هو الغوث والغيـ *** ث إذا أجهد الورى اللأواء(219)
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
لا يزال المناوئون يفترون على ابن تيمية الكذب، ويلصقون به أشد التهم ظلماً وعدواناً، وقد تحدثت مراراً عن تعظيم ابن تيمية رحمه الله للأنبياء، ومحبته لهم في مواضع متعددة، وها هو رحمه الله ينقل - مرتضياً - عن القاضي عياض (ت - 544هـ) عن مالك (ت - 179هـ) رحمه الله أنه كان لا يحدث بحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا وهو على وضوء إجلالاً له.
وقد سئل مالك (ت - 179هـ) رحمه الله عن أيوب السختياني(220) فقال: (حج حجتين فكنت أرمقه، ولا أسمع منه، غير أنه كان إذا ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت كتبت عنه).(106/336)
وقال مالك (ت - 179هـ) - أيضاً -: (كنت أرى جعفر بن محمد(221) وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلّى الله عليه وسلّم اصفر، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، قال: ولقد رأيت عبد الرحمن بن القاسم(222) ، يذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة منه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم).
وقال: ولقد رأيت الزهري(223) وكان من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذكر عنده النبي صلّى الله عليه وسلّم فكأنه ما عرفك، ولا عرفته (224).
وأما موقف ابن تيمية رحمه الله من الصحابة فهو موقف التعظيم والتقدير، فيعتقد أن محبتهم من الإيمان، ويعتقد أنهم خيار المؤمنين فقال: (وأصحاب رسول صلّى الله عليه وسلّم خيار المؤمنين، كما ثبت عنه أنه قال: «خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (225)، وكل من رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤمناً به فله من الصحبة بقدر ذلك) (226).
ويعتقد أنهم أكمل الناس عقلاً، وأصحهم معرفة وعلما، فقال: (فهل سُمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوم كانوا أتم عقولاً، وأكمل أذهاناً، وأصح معرفة، وأحسن علماً من هؤلاء؟ - أي الصحابة -) (227)، وسأتحدث عن موقفه من الصحابة بشيء من التفصيل في الفصل القادم - إن شاء الله -.(106/337)
ومن جهة أخرى: فقد حذر القرآن عن اتخاذ أولياء من دون الله بإعطائهم منزلة مثل منزلة الباري - عز وجل - في صرف بعض أنواع العبادة لهم كالاستغاثة، والدعاء وغيرهما، فقال: { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] ، وقال عزّ وجل: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] ، وقال سبحانه: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [الأنعام: 14] .
وأما دعوى المناوئين أن الاستشفاع بالموتى، أو التبرك بآثارهم، أو الاستغاثة بهم دليلٌ على محبتهم، وأن من لم يفعل ذلك فليس محباً لهم: فهذه الدعوى باطلة والتلازم باطل، فلم يأمر الله - عز وجل - به، ولا أمر به رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولا فعله الصحابة الكرام، وإنما ضابط المحبة هو الاتباع والتأسي، كما قال الله عزّ وجل: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آل عمران: 31] وقال - سبحانه -: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب: 21] .
وأما الاستشفاع: وهو طلب الشفاعة: فهذا له أحوال:(106/338)
الحال الأولى : طلب الشفاعة من الشخص، وهو حي قادر، فهذه شفاعة جائزة، والشافع يشفع بحكم جاهه ومنزلته عند المشفِّع، كما قال الله - عز وجل -: { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا } [النساء: 85] ، والشافع سائل لا تجب طاعته، وإن كان عظيماً كما صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سأل بريرة (228) أن تمسك زوجها، ولا تفارقه لما أعتقت، وخيرها النبي صلّى الله عليه وسلّم فاختارت فراقه، وكان زوجها يحبها، فجعل يبكي، فسألها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تمسكه، فقالت: أتأمرني؟، قال: «لا إنما أنا شافع» (229)، فدل على جوازها، ولو لم تكن جائزة لم يعملها النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وحقيقة الاستشفاع بالشخص: الاستشفاع بدعائه، كما في حديث الأعمى حين علمه الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يقول: (اللهم فشفعه فيّ) أي اقبل دعاءه.
قال ابن تيمية رحمه الله (معنى الاستشفاع بالشخص - في كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه - هو استشفاع بدعائه، وشفاعته ليس هو السؤال بذاته، فإنه لو كان هذا السؤال بذاته لكان سؤال الخلق بالله تعالى أولى من سؤال الله بالخلق) (230).
أما طلب الشفاعة من غير القادر فهذا عبث، وأما طلبها من الحي الغائب فهذا مرتبط بالحال الثانية وهي طلبها من الميت.
الحال الثانية : طلب الشفاعة من الميت: فهذه محرمة باطلة، ولا يوجد نص عن أي نبي من الأنبياء أنه أمر بالاستشفاع به بعد موته (231).
ومخاطبة الميت - أيا كان نبياً أو ولياً - وطلب الشفاعة منه لا تجوز، قال ابن تيمية رحمه الله: (إن دعاءهم - أي الأنبياء والصالحين -، وطلب الشفاعة منهم في هذه الحال - أي بعد موتهم - يفضي إلى الشرك بهم، ففيه هذه المفسدة، فلو قدر أن فيه مصلحة لكانت هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه) (232).(106/339)
وطلب الدعاء والشفاعة من الموتى، والغائبين هو أصل الشرك، وهذه هي صورة اتخاذ المشركين شفعاء من دون الله، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [الأنعام: 94] ، وقال: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الأنعام: 51] ، وقال: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18] .
وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [سبأ: 22 - 23] .(106/340)
ومن المعلوم في بداهة العقل أن الاستشفاع بأحد يلزم منه علم الشافع بهذه الشفاعة، والميت إذا استشفع به فإنه لا يعلم بهذه الشفاعة بحكم موته، وعليه فإن الشفاعة باطلة من أساسها، يقول ابن تيمية رحمه الله: (يقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره: قد تشفع به، من غير أن يكون المستشفع به شفع له ولا دعا له، بل وقد يكون غائباً لم يسمع كلامه، ولا شفع له... وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل، ولا طلب له حاجة، بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعاً لا في اللغة، ولا في كلام من يدري ما يقول) (233).
الحال الثالثة : طلب الشفاعة يوم القيامة: وهذه جائزة إذا توافرت فيها شروط قبول الشفاعة وهي:
1 - إذن الله للشافع أن يشفع، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .
2 - رضى الله عن المشفوع له، كما قال تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء: 28] ، وقد جمع الله هذين الشرطين في قوله - تعالى -: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [النجم: 26] .
3 - إسلام المشفوع له، كما قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ } [غافر: 18] (234).
4 - قدرة الشافع على الشفاعة، كما قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] ، وقال: { وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [الزخرف: 86] .(106/341)
هذه هي شروط الشفاعة المثبتة، وأما الشفاعة المنفية فهي التي يتخلف عنها أحد شروط الشفاعة المثبتة، أو كل شروطها، فعلى سبيل المثال: لو توافرت جميع شروط الشفاعة إلا إذن الله للشافع أن يشفع لما صحت الشفاعة، ولما قبلت، فلا تكون شفاعة الشافعين مقبولة إلا إذا كانت بإذن الله - عز وجل -، وما وقع بغير إذنه لم يقبل، ولم ينفع، وإن كان الشفيع عظيماً (235).
وفي حديث الشفاعة العظمى الطويل ما يدل على شرط الإذن لقبول الشفاعة وفيه: «فانطلق، فاستأذن على ربي، فيؤذن لي، فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد لا أقدر عليها الآن يلهمنيها الله، ثم أخر ساجداً، فيقول: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع» (236).
ومثال ذلك أيضاً: وجوب إسلام المشفوع له، فلا تنفع الشفاعة الكفار كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] ، وقد حذر الله - عز وجل - من الاستغفار للمشركين والشفاعة لهم بقوله: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة: 113] .
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي» (237).
لكن هذه الشفاعة تنفع المؤمنين، والعصاة ممن كان معه أصل الإيمان، كما قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين بإحسان، وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم) (238).
ودليل ذلك حديث أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله: أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه» (239).(106/342)
وقال عليه الصلاة والسلام: «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله تعالى - من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً» (240).
قال ابن تيمية رحمه الله: (مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وسائر أهل السنة والجماعة أنه صلّى الله عليه وسلّم يشفع في أهل الكبائر، وأنه لا يخلد في النار من أهل الإيمان أحد، بل يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال ذرة من إيمان) (241).
وأما التبرك بالصالحين فهو لفظ مجمل لا يتضح الحكم فيه إلا إذا أُزيل الاشتباه والإجمال:
فإن أريد بالتبرك بالصالحين: التبرك بمجالستهم كالانتفاع بعلمهم، أو بدعائهم، أو نصيحتهم، فهذا تبرك مشروع (242).
كما قد بين ابن تيمية رحمه الله أن لفظ التبرك بالصالحين مجمل، ثم بين المعنى الصحيح للتبرك بقول: (أما الصحيح... فببركة اتباعه صلّى الله عليه وسلّم وطاعته حصل لنا من الخير ما حصل، فهذا كلام صحيح... وأيضاً: إذا أريد بذلك أنه ببركة دعائه وصلاحه دفع الله الشر، وحصل لنا رزق ونصر فهذا حق) (243).
إلى أن قال: (فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق بدعائهم إلى طاعة الله، وبدعائهم للخلق، وبما ينزل الله من الرحمة، ويدفع من العذاب بسببهم حق موجود، فمن أراد بالبركة هذا، وكان صادقاً، فقوله حق) (244).
وأما إذا أريد بالتبرك بالصالحين: التبرك بآثارهم من بعد موتهم، فهذا باطل، فلم يأمر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا أصحابه، ولا التابعون ومن بعدهم من سلف الأمة، والمؤمن مأمور بمتابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في كل أمر ونهي، بطاعته في فعل الأوامر على الوجه الذي فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأمر به، وكذلك في باب النهي ينتهي عما انتهى عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونهى عنه.(106/343)
وقد فرق أهل العلم في الأمكنة التي تعبّد بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو نبينا صلّى الله عليه وسلّم المعصوم الذي أمرنا بالاقتداء به، هل تعبده فيها قاصداً لهذه البقعة، أم تعبده فيها كان اتفاقاً. فإذا كان تعبده فيها قاصداً لها فنحن مأمورون بالاقتداء.
وأما إذا كان اتفاقاً لا قصداً: فجمهور الصحابة أنه لا يُتحرى هذا المكان بالعبادة. ويقال هذا في عمل النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي بركته ذاتية، وله من الخصائص من التبرك في حياته ما ليس لغيره، فيكون الصالحون من باب أولى أن لا يتبرك بآثارهم، ولا مواضع عبادتهم وجلوسهم (245)، وللشاطبي (246) رحمه الله كلام نفيس في هذا حيث يقول: (الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه الصلاة والسلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو كان خليفته، ولم يُفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم كذلك علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به على أحد تلك الوجوه - أي الثياب والشعر وفضل الوضوء - أو نحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء) (247).(106/344)
وأما إذا أريد بالتبرك بالصالحين: التبرك بذواتهم في حياتهم، أو بعد مماتهم بقبورهم، أما في حياتهم فكالتمسح بهم، أو تقبيلهم تبركاً، وأما بعد مماتهم فكالتمسح بقبورهم، وتقبيلها تبركاً، أو مجاورة القبر رجاء البركة، أو الدعاء عند القبر رجاء بركته، فكل هذا باطل لم تأت به شريعة إلهية، وقد قال الله عزّ وجل: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (248).
يقول ابن تيمية رحمه الله عن التبرك الباطل المذموم: (وأما المعنى الباطل فمثل أن يريد الإشراك بالخلق مثل أن يكون رجل مقبور بمكان، فيظن أن الله يتولاهم لأجله، وإن لم يقوموا بطاعة الله ورسوله، فهذا جهل.. فمن ظن أن الميت يدفع عن الحي مع كون الحي عاملاً بمعصية الله فهو غالط، وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به، وخرج عن طاعة الله ورسوله مثل أن يظن أن بركة السجود لغيره، وتقبيل الأرض عنده، ونحو ذلك يحصل له السعادة.. فهذه الأمور ونحوها مما فيه مخالفة الكتاب والسنة، فهو من أحوال المشركين، وأهل البدع، باطل لا يجوز اعتقاده، ولا اعتماده) (249).
وسبب النهي عن التبرك بذوات الصالحين أمور منها:
أ - عدم تحقق الصلاح، فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب، وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص كالصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله، أما غيرهم فغاية الأمر أن نظن صلاحهم فنرجو لهم.
ب - أن الناس لو ظنوا صلاح شخص، فلا يؤمن من أن يختم له بخاتمة السوء، والأعمال بالخواتيم، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» (250).
جـ - أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع بعضهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.(106/345)
د - أن التبرك بذوات الصالحين لا تؤمن معه الفتنة بالمتبرك به، فتعجبه نفسه، ويورثه الرياء والكبر.
هـ - أنه فتنة للمتبرك أيضاً؛ لأنه جعل سببا ما ليس بسبب، وهذا يوقعه في التعلق بغير الله، فجعل في المتبرك به ما ليس فيه.
و - أن التبرك بالذوات من وسائل الشرك، فيمنع سداً لذريعة الشرك (251).
وأما الاستغاثة: فهي طلب الغوث، ويقول الواقع في بلية: أغثني أي فرج عني، وغوَّث الرجل واستغاث: صاح واغوثاه، والغياث: ما أغاثك الله به (252).
والاستغاثة: طلب الإغاثة، والتخليص من الكربة والشدة (253).
والاستغاثة في الأصل تكون بالله عزّ وجل وحده لما قال تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] .
وقال تعالى: { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ } [الكهف: 29] ، وقال - سبحانه -: { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف: 17] .
وأما الاستغاثة بالمخلوق فلا تصح إلا بثلاثة شروط: وهي: أن يكون المستغاث به حياً، حاضراً، أما إن كان المستغاث به ميتاً، أو غائباً، أو أن الأمر المستغاث لأجله مما لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك بالله - عز وجل - (254).
يقول ابن تيمية رحمه الله: (واستغاثة الصحابة به صلّى الله عليه وسلّم في القحط؛ إنما استغاثوا به ليدعو لهم كما يستغيث الناس به يوم القيامة ليشفع لهم، والاستغاثة بالمخلوق ليدعو للعبد أو ليعينه بما يقدر عليه ليس بممنوع منها) (255).(106/346)
ويقول رحمه الله: (ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب ويستغيث به عند المصائب يقول: يا سيدي فلان، كأنه يطلب منه إزالة ضره، أو جلب نفعه) (256).
وينبه ابن تيمية رحمه الله على تقرير هذه الحقيقة، وهي أن الاستغاثة بالمخلوق إذا لم تتوافر شروطها فهي شرك فيقول: (ولا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني وانصرني وادفع عني، أو أنا في حسبك ونحو ذلك، بل كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله، وتحريمه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام) (257).
وأما دعوى أنه إذا جاز التوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم فقد جازت الاستغاثة به، فهذه غير صحيحة؛ لأنه لا يجوز لنا أن نتوسل بذات الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس لنا أن نتوسل بدعائه بعد موته، فالمقدمة باطلة، وأما إن أريد بجواز التوسل به: أي في حياته بدعائه، فنقول: وأيضاً يجوز الاستغاثة به صلّى الله عليه وسلّم في حياته، وحضرته، فيما يقدر عليه.
وأما بعد موته صلّى الله عليه وسلّم فعلينا الإيمان به، وطاعته، وتصديق خبره، ونشهد له أنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
وأما التعليل بجوازها بعد موته صلّى الله عليه وسلّم بأنه في مزيد دائم، ولا ينقص جاهه، فهذا تعليل - في حد ذاته - صحيح، ومقبول، إلا أنه لا يصح أن يُربط بجواز الاستغاثة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته، ثم إن هذه مسألة شرعية تؤخذ من الأدلة:
فإن الدليل على أن الطلب منه صلّى الله عليه وسلّم ميتاً كالطلب منه حياً، وعلو درجته بعد الموت لا يقتضي أن يُسأل كما لا يقتضي أن يستفتى (258).(106/347)
وسبب غلو المخالفين في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو خوفهم من نقص حقه بعد وفاته وإيفائه إياه كاملاً، فوقعوا في شر مما فروا منه، فلو فرض ذنبان: أحدهما: الشرك والغلو في المخلوق، والثاني: نقص رسولٍ من بعض حقه، كان خطأ الثاني دون خطأ من غلا فيه، وأشرك به، يقول ابن تيمية رحمه الله: (فالشرك عند الله أعظم إثماً، وصاحبه أعظم عقوبة، وأبعد عن المغفرة من المنتقص لهم عن كمال رتبتهم ..) (259).
وقال: (وهؤلاء الجهال المضاهون للنصارى غلوا في التخلص من النقص حتى وقعوا في الشرك والغلو وتكذيب الرسول الذي هو أعظم إثماً كما أصاب النصارى.
فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، وكان ما فروا إليه من الشرك والغلو وتكذيب الرسل وتنقصهم أعظم إثماً وعقاباً مما فروا منه مما ظنوه تنقصاً..) (260).
وأما الاستدلال على جواز الاستغاثة الشركية بقول الله عز وجل: { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } [القصص: 15] ، فهذا ليس فيه ما يؤيد جواز الاستغاثة الشركية، فهي استغاثة حي بحي حاضر، على أمر يقدر عليه موسى - عليه الصلاة والسلام - (261).
وأما دعوى أن الاسغاثة الشركية بالموتى لا تكون عبادة لهم إذا صاحبها إيمان بالله، فيجاب عنها بأن من صرف شيئاً مما هو لله لغيره فهو مشرك بالله، وإن لم يسجد ويركع لذلك الغير، ولذا فقد ذم الله أهل الكتاب الذين أطاعوا علماءهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، فقال عزّ وجل: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] ، وبين ابن تيمية رحمه الله معنى اتخاذهم أرباباً في تحليل الحرام، وتحريم الحلال بأنه يكون على وجهين:
أحدهما : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل وهذا كفر.(106/348)
الآخر : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب (262).
وقد أطلق صلّى الله عليه وسلّم لفظ العبودية على من تعلق قلبه بالدنيا، وإن لم يسجد لها أو يركع، كما قال عليه الصلاة والسلام: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس» (263).
وعلى هذا فلا يلزم من العبادة أن تكون بركوع وسجود، وكذلك من استغاث بميت فهو مشرك بالله - عز وجل -، وقد يكون قد صرف شيئاً من العبادة لغير الله، ولو لم يصلّ إليه، أو يسجد إليه.
وأما نظم القصائد في المديح، والاستغاثة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد بين ابن تيمية رحمه الله أن هذا العمل ليس بمشروع، ولا واجب، ولا مستحب بإتفاق أئمة المسلمين (264).
وقد أنكر ابن تيمية رحمه الله على الشيخ يحيى الصرصري (265) ما يقوله في قصائده في مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الاستغاثة به، مثل قوله: بل استغيث واستعين واستنجد، وأنكر على غيره - أيضاً - (266).
أما قصائد البوصيري (ت - 696هـ) التي فيها استغاثة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم استغاثة شركية، فقد نقد ابن تيمية أبياتاً منها، هي أخف من الأبيات المشهورة عنه، والتي ذكرتها في المطلب الأول من هذا المبحث.
فقال في مقام بيان غلو المادحين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ومنهم من يقول أسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت.
دع ما ادعته النصارى في نبيهم *** واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فإن فضل رسول الله ليس له *** حد فيعرب عنه ناطق بفم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف *** وانسب إلى قدره ما شئت من عظم (267)
لو ناسبت قدره آياته عظما *** أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم (268)) (269)(106/349)
وأبيات البوصيري الأولى التي فيها استغاثة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإعطائه منزلة فوق منزلته - بأبي هو وأمي - قد ناقشها المناوئون - أنفسهم - في ثنايا كلامهم، وبينوا ما فيها من المبالغات التي لا دليل عليها، وإن كانوا لم يجرؤوا على القول بأنها شرك، فقال أحدهم عن هذه الأبيات: (في هذا مبالغة لا دليل عليها) (270)، ثم ذكر بعض القصص والأحاديث الموضوعة في بيان منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: (وكتب الموالد ملأى بهذه الموضوعات وأصبحت عقيدة راسخة في أذهان العامة) (271)، وقال: (لا يفيد ما ادعاه الناظم من أن علم اللوح والقلم بعض علوم النبي صلّى الله عليه وسلّم، ففي هذه الدعوى مبالغة ليس عليها دليل.. والمقصود أن الغلو في المدح مذموم لقوله تعالى: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } [النساء: 171] .
وأيضاً: فإن مادح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر لم يثبت عنه يكون كاذباً عليه، فيدخل في وعيد «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» (272)، وليست الفضائل النبوية مما يتساهل فيها برواية الضعيف ونحوه.. وعلى هذا فما يوجد في كتب المولد النبوي، وقصة المعراج من مبالغات وغلو لا أساس له من الواقع: يجب أن تحرق، لئلا يحرق أصحابها وقارئوها في نار جهنم، نسأل الله السلامة والعافية) (273).(106/350)
وقد عدّل بعض الأبيات - وليست كلها - التي فيها غلو وشرك، وإن كان تعديله - أيضاً - لا يخلو من ملحوظات (274)، ولذا فإن نقلي عن هذا الكاتب الشاعر المحدِّث ليس من باب الاطمئنان إليه لاعتقاده معتقد السلف، بل في ثنايا كلامه في مقاله السابق، وفي بعض كتبه وفتاويه كلام كثير حول نصرة التوسل البدعي، وشد الرحل إلى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم (275)، إنما كان نقلي عنه من باب قول الله عزّ وجل: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] (276)، إذ بين أن كثيراً من المدائح النبوية التي تقال في الموالد فيها غلو وكذب على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيها تلبيس على أذهان العامة، حتى صارت عقائد راسخة لهم لا يبدلونها، نسأل الله أن يحفظنا بحفظه، وأن يجنبنا الفتن، وأن يهدينا صراطه المستقيم.
الفصل السادس
موقف شيخ الإسلام من الصحابة
المبحث الأول: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة.
المبحث الثاني: دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم الأئمة الخلفاء الأربعة، ومناقشتها.
المبحث الثالث: دعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت وتعمية مناقبهم ومناقشتها.
المبحث الرابع: دعوى رد الأحاديث الصحيحة في مقام المبالغة في توهين كلام الشيعة ومناقشتها.
المبحث الأول
عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة
الصاحب : مشتق من الصحبة، وهو اسم فاعل من صحب يصحب، والجمع: أصحاب، وأصاحيب، وصحب، وصحاب، وصحبة، وصحبان، وأما لفظ الصحابة فهو في الأصل مصدر ثم صارت جمعاً مفرده صاحب، ولم يجمع فاعل على فَعَالة إلا هذا.
ومعاني الصحبة في اللغة تدور حول: الملازمة، والانقياد (1).
وأما تعريف الصحابي اصطلاحاً: فأصح التعريفات: تعريف المحدثين (2)، وقد اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً.
ومن ذلك قول ابن المديني (ت - 234هـ) رحمه الله: (من صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم) (3).(106/351)
ومن ذلك قول الإمام البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله: (من صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه) (4).
وأصح التعريفات عند المحدثين هو حد الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) قال رحمه الله: (الصحابي من لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤمناً به ومات على الإسلام) (5).
ويشرح التعريف، ويذكر محترزاته بأنه يدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه، أو لم يرو عنه، ومن غزا معه، أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ومن لم يره لعارض كالعمى (6).
ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافراً ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى.
ويخرج بلفظة (به): من لقيه مؤمنا بغيره، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة.
وأما ورقة بن نوفل فقد لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمن به بعد بعثته، فلا يصح أن يمثل به على أنه مؤمن بغير النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنه مات على ذلك.
وأما اشتراط الموت على الإسلام: فيخرج به من لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤمنا به ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله، كعبد الله بن جحش، وربيعة بن أمية الجمحي، وابن خطل (7).
وأما من آمن بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ثم ارتد ثم آمن ولقيه في حياته فهذا صحابي اتفاقاً كعبد الله بن سعد بن أبي السرح (8)، وإن عاد من ردته إلى الإسلام في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يره، أو بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم كقرة بن هبيرة (9)، والأشعث بن قيس (10)، فهو صحابي على الصحيح (11).
وتعرف صحبة الصحابي بأحد أمور أربعة: إما بالتواتر على أنه صحابي كأبي بكر (ت - 13هـ) وعمر (ت - 23هـ) وبقية العشرة.
وإما بالاستفاضة والشهرة: وهذه منزلة أقل من الأولى.
وإما أن يثبت أحد الصحابة لآخر الصحبة، فتثبت له بشهادة صحابي آخر.(106/352)
وإما بإخباره عن نفسه بأنه صحابي. إذا كان ثابت العدالة والمعاصرة، فالصحابة كلهم عدول، ولذا قال الحافظ العراقي (12) في ألفيته:
وتعرف الصحبة باشتهار أو *** تواتر أو قول صاحب ولو
قد ادعاها وهو عدل قبلا *** وهم عدول وقيل لا من دخلا (13)
وقد أثنى الله عزّ وجل على الصحابة الكرام، فتارة يثنى على السابقين منهم، وتارة يثني على الذين جاهدوا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتارة يثني عليهم بمجموعهم.
قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] .
وقال - سبحانه -: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] .
وقال: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 29] .(106/353)
وقال عزّ وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] .
وقال: { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [الحديد: 10] .
ومن فضلهم في السنة ما حدث به أبو سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه - عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: قال: «يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: فيكم من صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟، فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟، فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم» (14).
وقال عليه الصلاة والسلام: «خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» (15).
وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يدخل النار - إن شاء الله - من أصحاب الشجرة أحد» (16).(106/354)
وأما ذكر فضل الصحابة في كلام السلف فكثير أذكر منه أمثلة: كقول الإمام الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله: (قد أثنى الله - تبارك وتعالى - على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الفضائل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله، وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين أدوا إلينا سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاماً وخاصاً، وعزماً وإرشاداً، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا...) (17).
وقال ابن أبي حاتم (ت - 327هـ) رحمه الله: (أما أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله - عز وجل - لصحبة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ونصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوة: فحفظوا عنه صلّى الله عليه وسلّم ما بلغهم عن الله - عز وجل - وما سن وشرع، وحكم وقضى، وندب وأمر، ونهى وحظر وأدب، ووعوه وأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمر الله ونهية، ومراده بمعاينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرفهم الله - عز وجل - بما من عليهم، وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة، فنفى عنهم الشك والكذب، والغلط والريبة والغمز) (18).
وقال ابن أبي زيد القيرواني (19): (وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآمنوا به، ثم الذين يلونهم) (20).
وبعد إثبات فضل الصحابة - رضوان الله عليهم - على غيرهم، تبقى مسألة وهي: هل الصحابة يتفاضلون فيما بينهم، أم أنهم في منزلة سواء؟.(106/355)
الصحيح: أن الصحابة - رضوان الله عليهم - يتفاضلون بينهم كغيرهم من سائر الخليقة، وأنهم ليسوا على درجة واحدة (21).
ودليل هذا التفاضل ما ثبت في كتاب الله عزّ وجل من التفريق بين الصحابة الذين آمنوا قبل الفتح، وبين الصحابة الذين آمنوا بعدهم، فأثبت أن الأوائل أعظم درجة عند الله، وإن كانوا جميعاً لهم فضل وأجر الصحبة، كما قال عزّ وجل: { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [الحديد: 10] .
وأفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه ثم عمر الفاروق (ت - 23هـ) رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان (ت - 35هـ) رضي الله عنه ثم علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه وترتيبهم في الفضل هو ترتيبهم في الخلافة على قول جمهور الصحابة، والمخالف للجمهور يرى أفضلية علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه على عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه لا أحقيته بالخلافة؛ لأن ترتيب الخلافة مما لا يعلم فيه مخالف من أهل السنة والجماعة.
ومما يدل على أفضلية أبي بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه ما جاء عن أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس وقال: «إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله» ، قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خير فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي، لا تخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ إلا بابُ أبي بكر» (22).(106/356)
وأما أفضلية عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه فيدل عليها قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «رأيتني دخلت الجنة، فإذا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفة (23) فقلت من هذا؟ فقال: هذا بلال (24)، ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك» ، فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار (25).
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون (26)، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر» (27).
وأما أدلة تفضيل عثمان بن عفان (ت - 35هـ) رضي الله عنه فكثيرة منها: ما رواه عبد الله بن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما قال: (كنا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نفاضل بينهم) (28).
وعن أبي موسى الأشعري (ت - 42هـ) رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم حائطاً، وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن، فقال: «ائذن له وبشره بالجنة» ، فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: «ائذن له وبشره بالجنة » فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن، فسكت هنيهة ثم قال: «ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه» فإذا عثمان بن عفان) (29).
وأما فضائل علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه فكثيرة، ومما ورد في فضله من أحاديث: قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر: «لأعطين الراية رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» (30).
وقال له صلّى الله عليه وسلّم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» (31).(106/357)
وقد تواترت النصوص عن أئمة أهل السنة والجماعة في بيان أفضلية الخلفاء الأربعة على غيرهم من الصحابة، وأن ترتيبهم في الفضل هو ترتيبهم في الخلافة، وقد جعلوا ذلك ديناً يدينون الله به، وجزءاً من معتقدهم، فأثبتوه في عقائدهم، ولعلي أستشهد ببعض قولهم للتمثيل على هذه القاعدة المهمة في معتقد أهل السنة في الصحابة الكرام:
فقد قال الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله: (أفضل أصحابه صلّى الله عليه وسلّم الصديق أبو بكر رضي الله عنه، ثم الفاروق - بعده - عمر، ثم ذو النورين عثمان بن عفان، ثم أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب - رضوان الله عليهم أجمعين -) (32).
وقال الإسماعيلي (ت - 371هـ) رحمه الله: (ويثبتون خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باختيار الصحابة إياه، ثم خلافة عمر بعد أبي بكر رضي الله عنه باستخلاف أبي بكر إياه.
ثم خلافة عثمان رضي الله عنه باجتماع أهل الشورى وسائر المسلمين عليه عن أمر عمر، ثم خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ببيعته من بايع من البدريين عمار بن ياسر (33)، وسهل بن حنيف (34)، ومن تبعهما من سائر الصحابة، مع سابقته وفضله) (35).
وقال ابن أبي زمنين (ت - 399هـ) رحمه الله: (ومن قول أهل السنة أن أفضل هذه الأمة بعد نبينا صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر وعمر، وأفضل الناس بعدهما عثمان وعلي) (36).
وقال الصابوني (ت - 449هـ) رحمه الله: (ويشهدون ويعتقدون أن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم الخلفاء الراشدون) (37).(106/358)
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي (ت - 600هـ) رحمه الله: (ونعتقد أن خير هذه الأمة، وأفضلها بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صاحبه الأخص، وأخوه في الإسلام، ورفيقه في الهجرة والغار: أبو بكر الصديق، ووزيره في حياته، وخليفته بعد وفاته عبد الله بن عثمان بن عتيق بن أبي قحافة، ثم بعده الفاروق، أبو حفص عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام، وأظهر الدين، ثم بعده ذو النورين أبو عبد الله عثمان بن عفان الذي جمع القرآن، وأظهر العدل والإحسان، ثم ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وختنه علي بن أبي طالب - رضوان الله عليهم أجمعين - فهؤلاء الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون) (38).
وأخيراً أذكر قول ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله : (وأصحابه خير أصحاب الأنبياء - عليهم السلام -، وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى - رضي الله عنهم أجمعين -) (39).
وقد اختلف أهل العلم في عدد طبقات الصحابة وأيها أفضل (40)؟، والصحيح أنهم على اثنتي عشرة طبقة وهم:
الطبقة الأولى : من أسلم بمكة متقدماً كالخلفاء الراشدين وغيرهم رضي الله عنهم -.
الطبقة الثانية : أصحاب دار الندوة.
الطبقة الثالثة : الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة.
الطبقة الرابعة : الذين بايعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عند العقبة الأولى، يقال: فلان عَقَبي.
الطبقة الخامسة : أصحاب العقبة الثانية وأكثرهم من الأنصار.
الطبقة السادسة : أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بقباء، قبل أن يدخلوا المدينة ويبنى المسجد.
الطبقة السابعة : أهل بدر، الذين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم: «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (41).
الطبقة الثامنة : المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية.(106/359)
الطبقة التاسعة : أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله تعالى فيهم: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [الفتح: 18] .
الطبقة العاشرة : المهاجرة بين الحديبية والفتح كخالد بن الوليد (42)، وعمرو بن العاص (43) وغيرهما.
الطبقة الحادية عشرة : الذين أسلموا يوم الفتح، وهم جماعة من قريش.
الطبقة الثانية عشرة : صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح، وفي حجة الوداع وغيرها، وعدادهم في الصحابة (44).
ونشهد لمن شهد له الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالجنة، كالخلفاء الأربعة الراشدين، وبقية العشرة المبشرين بالجنة، وهم طلحة بن عبيد الله (45)، والزبير بن العوام (46)، وسعد بن أبي وقاص (47)، وسعيد بن زيد (48)، وعبد الرحمن بن عوف (49)، وأبو عبيدة بن الجراح (50)رضوان الله عليهم أجمعين -.
وقد شهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لغير العشرة مثل ثابت بن قيس بن شماس (51)،
وعبد الله بن سلام (52)، وغيرهما كثير من الصحابة من الرجال والنساء (53).
وفي الجملة فإن معتقد أهل السنة في هذا، ما ذكره الحافظ عبد الغني المقدسي (ت - 600هـ) رحمه الله قوله: (كل من شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة شهدنا له، ولا نشهد لأحد غيرهم، بل نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء، ونكل علم الخلق إلى خالقهم) (54).
وهكذا قال ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله بعد أن ذكر العشرة المبشرين بالجنة (55).
ومن الإيمان بصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وجوب محبتهم، ودوام الدعاء لهم، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .(106/360)
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار» (56).
وقال عليه الصلاة والسلام في الأنصار: «لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» (57).
قال ابن أبي زمنين (ت - 399هـ) رحمه الله: (ومن قول أهل السنة أن يعتقد المرء المحبة لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن ينشر محاسنهم وفضائلهم) (58).
وقال الصابوني (ت - 449هـ) رحمه الله: (من أحبهم وتولاهم ودعا لهم، ورعى حقهم، وعرف فضلهم فاز في الفائزين) (59).
وقال ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله: (ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومحبتهم، وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم) (60).
ومن الإيمان والسنة: الإيمان والإقرار بعد التهم: وعدالة الصحابة ثابتة بالكتاب العزيز، والسنة المطهرة، وإجماع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
قال الله عزّ وجل: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143] ، ومعنى وسطا: أي عدولاً، كما قال: { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } [القلم: 28] ، أي اعدلهم. ويشهد لذلك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من شهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلّغ، ويكون الرسول عليكم شهيداً»، فذلك قوله جل ذكره: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143] ، والوسط العدل) (61).(106/361)
وقال صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع للصحابة: «.. ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب » (62)، وهذا فيه دلالة على عدالة الصحابة، كما قال ابن حبان (ت - 354هـ) رحمه الله: (وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب» أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح ولا ضعيف، إذ لو كان فيهم أحد غير عدل لاستثنى في قوله صلّى الله عليه وسلّم وقال: ألا ليبلغ فلان منكم الغائب، فلما أجملهم في الذكر بالأمر بتبليغ من بعدهم دل ذلك على أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شرفاً) (63).
وأما الإجماع على عدالة الصحابة فقد حكاه غير واحد من أهل العلم:
فقد قال ابن عبد البر (ت - 463هـ) رحمه الله: (ونحن وإن كان الصحابة رضي الله عنهم قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول) (64).
وقال ابن الصلاح (ت - 642هـ) رحمه الله: (للصحابة بأسرهم خصيصة وهي أنه لا يُسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة) (65).
ثم قال: (إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحساناً للظن بهم، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر، فكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك؛ لكونهم نقلة الشريعة، والله أعلم) (66).
وهكذا قال ابن حجر العسقلاني (ت - 852هـ) ، والسخاوي (ت - 902هـ) - رحمهما الله - (67)، وغيرهما.
ومن السنة والإيمان بصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عدم سبهم وتنقصهم، والتعرض لأعراضهم بسوء وقدح، وعدم الخوض فيما وقع بين الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -.(106/362)
يقول الله عزّ وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .
وهم داخلون من باب أولى في الوعيد العام على من آذى المؤمنين، وفي النهي عن الغيبة، في قول الله عزّ وجل: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً } [الأحزاب: 58] ، وقال سبحانه: { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } [الحجرات: 12] .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» (68).
وقال عليه الصلاة والسلام: «دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسى بيده لو أنفقتم مثل أحد ذهباً، أو مثل الجبال ذهباً لما بلغتم أعمالهم» (69).
وقال عليه الصلاة والسلام: «من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (70).
وهم داخلون في الوعيد العام على سباب المسلمين، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (71).
وسأورد نماذج من كلام السلف، وأهل العلم يبين تحريم سب الصحابة، ووجوب الإمساك عما شجر بينهم، وإن كان فيها شيء من الطول والكثرة، وذلك لكي يتضح منها منهج أهل السنة والجماعة في الموقف مما شجر بين الصحابة - رضوان الله عليهم -، وليتقرر إطباق علماء الأمة المعتبرين قاطبة على وجوب حفظ اللسان تجاه الصحابة، وأن لا يذكروا إلا بخير:(106/363)
فقال عمر بن عبد العزيز (ت - 101هـ) رحمه الله: (تلك دماء طهر الله يدي منها، أفلا أطهر منها لساني، مثل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها) (72).
وقال الإمام مالك (ت - 179هـ) رحمه الله: (من يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ قول الله سبحانه وتعالى: { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } [الحشر: 7 - 10] ، وذكر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرأ مالك هذه الآية: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ } إلى قوله: { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } [الفتح: 29] ، ثم قال: من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد أصابته الآية) (73).
وسئل الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية؟ قال: (ما أقول فيهم إلا الحسنى) (74).
وقال البربهاري (ت - 329هـ) رحمه الله: (اعلم أنه من تناول أحداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعلم أنه إنما أراد محمداً صلّى الله عليه وسلّم، وقد آذاه في قبره)(75) .
وقال ابن أبي زيد القيرواني (ت - 386هـ) رحمه الله: (وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب)(76) .
وقال الصابوني (ت - 449هـ) رحمه الله: (من أبغضهم وسبهم، ونسبهم إلى ما تنسبهم الروافض والخوارج - لعنهم الله - فقد هلك في الهالكين.. ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم، ونقصاً فيهم) (77).(106/364)
وقد انتقد ابن الصلاح (ت - 642هـ) رحمه الله ابن عبد البر (ت - 463هـ) رحمه الله إيراده ما شجر بين الصحابة، فحين أثنى على كتابه (الاستيعاب) قال بعد ذلك: (لولا ما شانه به من إيراده كثيراً مما شجر بين الصحابة)(78) .
وقال الإمام الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله: (تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين -، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا: فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه، لتصفو القلوب، وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة، وآحاد العلماء)(79) .
ثم جعل شروطاً لجواز الاطلاع على هذه الأمور، والبحث فيها بقوله: (وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوةً: للعالم المنصف، العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم، كما علمنا الله - تعالى - حيث يقول { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا } [الحشر: 10] ، فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم، وجهاد محّاء، وعبادة ممحصة)(80) .
ومن الإيمان بالصحابة: الإقرار بمنزلة أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفيهم أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وأن لهم مكانة خاصة بحكم قربهم منه صلّى الله عليه وسلّم(81) .(106/365)
ومما ورد فيهم في كتاب الله قوله عزّ وجل: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6] ، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] ، وقال عزّ وجل: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [الأحزاب: 28 - 32] .
ومن السنة قول المصطفى الكريم صلوات ربي وسلامه عليه حين قام خطيباً: «أما بعد: ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»(82) .(106/366)
وقد أمرنا بالصلاة عليهم في كل صلاة، وصيغتها ما ذكره الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد»(83) .
وقد كان أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه أعرف الناس بمنزلة أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقد حث على إرضائهم، والقرب منهم، وعدم إيذائهم وسبهم بقوله: (ارقبوا محمداً صلّى الله عليه وسلّم في أهل بيته)(84) .
وقوله: (والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحب إلي أن أصل من قرابتي) (85).
وفضائلهم كثيرة متعددة: سواء كان الفضل العام لهم جميعاً، أو فضائلهم بأشخاصهم وأعيانهم مما لا يتسع المقام لذكره (86).
المبحث الثاني
دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم
الأئمة الخلفاء الأربعة، ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم الأئمة الخلفاء الأربعة
يرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله: أن ابن تيمية رحمه الله يبغض الصحابة جميعاً بما فيهم الخلفاء الراشدون الأربعة وإن كان يستتر - أحياناً - بحبهم ويتظاهر بذلك.
فيقولون: إن قلمه لم يسلم منه حتى الصحابة(87) .
ويقولون إنه (اشتهر عنه تخطئة الناس جميعاً، حتى إمامه أحمد بن حنبل، بل الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي)(88) .
ويرى الحصني (ت - 829هـ) أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يبغض الشيخين (89).
ويقول: (مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم، والإشارة إلى الازدراء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، والشيخين، وتكفير عبد الله بن عباس رضي الله عنه(90) وأنه من الملحدين..)(91).
وقال: (رمز إلى تكفير الصديق..)(92) .
ويرون أن ابن تيمية يرى أنا أبا بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه (أسلم شيخاً يدري ما يقول)(93) .(106/367)
وأما عن موقفه من عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه فإنهم يرون أنه يرمز إلى عدم الاعتداد بقوله (94).
وأما عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه فكان يحب المال، وأما علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فأسلم صبياً، والصبي لا يصح إسلامه على قول(95) .
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
يعتقد ابن تيمية رحمه الله في صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عقيدة أهل السنة والجماعة فيهم، ولا عجب في ذلك؛ إذ هو أحد أبرز شُرّاح معتقد السلف فيعتقد رحمه الله وجوب الثناء على الصحابة - رضوان الله عليهم - بثناء القرآن الكريم والسنة النبوية عليهم، كما قال الله تعالى: { ُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } [الفتح: 29] ، وقال تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 18] .(106/368)
وقال عزّ وجل { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10] ، وقال سبحانه: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] .
وأما الأحاديث فيذكر ابن تيمية رحمه الله أنها مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم، وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون(96) كحديث: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ، وحديث: «لا تسبوا أصحابي ...»(97) ، فالقدح فيهم قدح في القرآن والسنة (98).
وحين ذكر ابن تيمية رحمه الله قول الله عزّ وجل: { هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } [الأنفال: 62 - 63] . قال: (وإنما أيده في حياته بالصحابة) (99).
وحين ذكر قول الله عزّ وجل: { وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33 - 35] . قال: (والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن القرآن حق: هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء)(100).(106/369)
وحين ذكر قول الله عزّ وجل: { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] . قال: (محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله)(101) .
ويعتقد ابن تيمية رحمه الله محبة الصحابة، وتوليهم، كما قال في لاميته:
حب الصحابة كلهم لي مذهب *** ومودة القربى بها أتوسل(102)
وقال: (أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الأديان يتولون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته، ويعرفون حقوق الصحابة، وحقوق القرابة كما أمر الله بذلك ورسوله)(103) .
وقد حكى رحمه الله اتفاق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة (104).
وقد أثنى رحمه الله على السابقين الأولين الذين منهم الخلفاء الأربعة، وبين أن الله أخبر أنه رضي عنهم، وأنه علم ما في قلوبهم، وأنه أثابهم فتحاً قريباً لقول الله عزّ وجل: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}[الفتح: 18 - 19] .
وبين رحمه الله منزلة السابقين الأولين بقوله: (لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم بل كان المسلمون كلهم يعرفون فضلهم عليهم، لأن الله تعالى بيّن فضلهم في القرآن بقوله: { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [الحديد: 10] ، ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح)(105) .(106/370)
وذكر أن قول الله عزّ وجل: { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [الفتح: 4] ، نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين المقاتلين بعده(106) .
وقال بعد ذلك: (ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله - تعالى -: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ } [التوبة: 100] ، وهم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم)(107) .
وأما موقف ابن تيمية رحمه الله من سب الصحابة فيعتقد أنه حرام بالكتاب والسنة:
فمن الكتاب قول الله عزّ وجل: { وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} [الحجرات: 12] ، وأدنى أحوال الساب أن يكون مغتاباً، وقال عزّ وجل: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [الأحزاب: 58] ، والصحابة خيار المؤمنين، ولم يكتسبوا ما يوجب أذاهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى - رضي عنهم - رضىً مطلقاً، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً، وكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة، وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح، فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو علم أنه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك(108) ، كما في قوله تعالى: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي } [الفجر: 27 - 30] .
واستدل رحمه الله من السنة بأحاديث منها: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» (109).
وحديث: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار »(110) ، وغيرها من الأحاديث (111).(106/371)
ويقسم ابن تيمية رحمه الله أنواع سب الصحابة وأحكامه تقسيماً جيداً: فمن اقترن بسبه دعوى أن عليا إله، أو أنه كان هو النبي فهذا لا شك في كفره.
ومن سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم فهذا يستحق التأديب والتعزير، ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك.
وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا نفراً قليلاً فهذا لا ريب في كفره.
وأما من لعن وقبّح مطلقاً فهذا محل الخلاف فيهم، لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد(112) ، واللعن أشد من السب وقارنه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقتل كما قال: «لعن المؤمن كقتله»(113).
وأما موقف ابن تيمية رحمه الله مما ورد في مساوئ الصحابة ومثالبهم فيمكن أن يفهم من مجموع كلامه أنه وضع قواعد ثابتة وسار عليها، ومن هذه القواعد:
القاعدة الأولى : أن ما يُذكر من المطاعن والمثالب على الصحابة نوعان:
الأول : منها ما هو كذب: إما كذب كله، وإما محرَّف قد دخله من الزيادة والنقصان والتغيير ما يخرجه إلى الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن يحيى(114) ، وهشام بن محمد بن السائب الكلبي(115) ، وأمثالهما من الكذابين.
الثاني : ومنها ما هو صدق، وهذا قليل، ولهم معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً، وتجعلها من موارد الاجتهاد، التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب، وقد أجاد شيخ الإسلام رحمه الله في بيان الاعتذار لهم بكلام نفيس أجتزئ منه قوله عنهم: (لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم...(106/372)
ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه.. ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر، مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة، والعلم النافع والعمل الصالح..)(116) .
القاعدة الثانية : أن الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، والكلام في الصحابة من باب أولى، فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا، لا يباح قط بحال، قال تعالى: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ} [المائدة: 8] .
وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحق من عدل عليهم في القول والعمل، والعدل مما اتفق أهل الأرض على محبته ومدحه، والله أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط كما في قوله: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد: 25] .
وقال: { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } [الشورى: 17] ، وقال: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } [النساء: 58] .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمقصود هنا أنه إذا وجب فيما شجر بين عموم المؤمنين أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل، ويرد ذلك إلى الله والرسول، فذاك في أمر الصحابة أظهر)(117).(106/373)
القاعدة الثالثة : الإمساك عما شجر بين الصحابة، وعدم الخوض فيه، وهذا هو منهج السلف - رضوان الله عليهم - كما تقدم بيانه. ولابن تيمية رحمه الله كلام نفيس في توضيح هذه القاعدة، وبيان لوازم الخوض فيما شجر بين الصحابة فهو يوقع في قلوب الخائضين ومن تلقى عنهم ذلك بغض الصحابة الكرام، ويتضمن أذية هؤلاء المتشاجرين، فيقول مبتدئاً توضيح المسألة بكلام عام: (إذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت، ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاماً بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة) (118).
ثم قال: (لكن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - أعظم حرمة، وأجل قدرا، وأنزه أعراضا، وقد ثبت في فضائلهم خصوصاً وعموماً ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثماً من الكلام في غيرهم)(119) .
وقال: (المختار الإمساك عما شجر بين الصحابة، والاستغفار للطائفتين جميعاً وموالاتهم) (120).
وقال رحمه الله بعد ذكره أقوال الناس فيما حصل بين الصحابة: (... الرابع: الإمساك عما شجر بينهم مطلقاً.. وهو مذهب أهل السنة والجماعة)(121) .
وقال رحمه الله: (ولهذا كان من مذاهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم، وما وقع: منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفوراً، فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضاً وذمّا، ويكون هو في ذلك مخطئاً بل عاصياً، فيضر نفسه، ومن خاض معه في ذلك.. ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف)(122) .(106/374)
وبهذا بتبين موقفه رحمه الله من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكرام، فيعتقد محبتهم، وعدم سبهم، وعدم الخوض فيما شجر بينهم، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة؛ وسط بين طرفين. وهدى بين ضلالتين، فهم وسط في باب صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الغلو في محبتهم أو بعضهم، وبين التفريط في بغضهم أو بعضهم.
يقول رحمه الله في تقرير وسطية أهل السنة: (هم وسط في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الغالي في بعضهم الذي يقول بإلهيةٍ، أو نبوةٍ، أو عصمةٍ، والجافي فيهم: الذي يكفر بعضهم، أو يفسقه، وهم خيار الأمة)(123) .
وأما عن ادعاء المناوئين لابن تيمية رحمه الله أنه يبغض الشيخين، وأنه ينتقص من منزلة الخلفاء الأربعة فهذا غير صحيح، بل لا يوجد له نص واحد ينتقص فيه الصحابة - رضوان الله عليهم - فضلاً عن الخلفاء الأربعة، الذين يعتقد أنهم خيار الأمة، فبعد أن ذكر أن أفضل الأمم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن أفضل الأمة: القرن الأول، وأن أفضل القرن الأول: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، قال: (وأفضل السابقين الأولين: الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الأمة، وجماهيرها)(124) .
ويبين أن مرتبتهم في الفضل كمرتبتهم في الخلافة، فقال ابن تيمية رحمه الله في عرضه معتقد أهل السنة: (وأن الخلفاء بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأن مرتبتهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة) (125).
وقال رحمه الله: (أما تفضيل أبي بكر ثم عمر على عثمان وعلي فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم..) (126).(106/375)
وسأستعرض بعض جوانب موقف ابن تيمية رحمه الله من الخلفاء الأربعة - كل على حده - مبتدئاً بأفضلهم، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ومؤخراً موقفه من الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلى المبحث الذي يليه؛ لأنه به ألصق حين الحديث عن آل البيت، وموقف ابن تيمية رحمه الله منهم.
أما أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه الذي يزعم المناوئون أن ابن تيمية يرمز إلى تكفيره، فقد كان له نصيب كبير في كتب ابن تيمية رحمه الله من الثناء عليه، والاعتراف بفضله، وذكر النصوص الدالة على تقديمه على جميع الصحابة - رضوان الله عليهم -، موافقاً بذلك اعتقاد أهل السنة والجماعة.
وهو كثيراً ما يذكر رحمه الله أن أكثر فضائل أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه تعد من خصائصه التي لا يشركه أحد غيره، فيقول: (... ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره)(127) .
ويمكن أن أجمع موقفه من خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأرتبه في النقاط التالية:
1 - أنه أحب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت متخذاً لا تخذت أبا بكر خليلاً، إن صاحبكم خليل الله»(128) .
وقيل للرسول صلّى الله عليه وسلّم أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» ، قيل: من الرجال؟ قال: «أبوها»(129) .
وثبت عن عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه أنه قال عنه: (أنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)(130) .
يقول رحمه الله (إن أبا بكر كان أحب الصحابة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأفضل عنده من عمر وعثمان وعلي وغيرهم، وكل من كان بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأحواله أعلم كان بهذا أعرف، وإنما يستريب فيه من لا يعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، فإما أن يصدق الكل، أو يتوقف في الكل)(131) .(106/376)
2 - أنه أفضل الأمة على الإطلاق بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويدل على ذلك قول عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه: (وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وأنه كان خيرنا حين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)(132) .
3 - أن مصاحبته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت أكمل من مصاحبة غيره، فهو أول من أسلم من الرجال، واستمر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل وقته لا يفارقه في حضر ولا سفر، وكان يستشيره النبي صلّى الله عليه وسلّم في أحايين كثيرة، ويصحبه معه في المواقف الصعبة كصحبته في الهجرة، كما في حديث الغار المتقدم، وقد خصه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصحبة بقوله: «هل أنتم تاركون لي صاحبي، هل أنتم تاركون لي صاحبي، إني قلت: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت»(133) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (الصديق في ذروة سنام الصحبة، وأعلى مراتبها، فإنه صحبه من حين بعثه الله إلى أن مات)(134) .
ثم بيّن رحمه الله أنه لا نزاع بين أهل العلم بحال النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أن مصاحبة أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة، وذكر من سبب ذلك أنه كان أدوم اجتماعاً به ليلاً ونهاراً، وسفراً وحضراً (135).
كما ثبت عن عائشة (ت - 57هـ) رضي الله عنها أنها قالت: (لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتينا فيه طرفي النهار) (136).(106/377)
4 - تبشير النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنة في خصالٍ اجتمعت فيه، ولم تجتمع في أحد من الصحابة؛ وهذه منقبة عظيمة لأبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه، فقد ثبت عن المصطفى الكريم صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لأصحابه: «من أصبح منكم اليوم صائماً؟»، فقال أبو بكر: أنا. قال: «فمن تبع منكم جنازة؟» . قال أبو بكر: أنا. قال: «هل فيكم من عاد مريضاً؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «هل فيكم من تصدق بصدقة؟». فقال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» (137).
5 - أنه أعلم الصحابة - رضوان الله عليهم -، وهذا بإجماع الصحابة، ومن بعدهم، كما ثبت في الصحيح أن أبا سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قال: (وكان أبو بكر أعلمنا) (138).
وقد نقل ابن تيمية رحمه الله الإجماع على أن أبا بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه أعلم الصحابة، وأن أبا بكر كان يفتي ويقضي في حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ساكت يقره على ذلك، ويرضى بما يقول، ولم تكن هذه المرتبة لغيره(139) ، ويقول: (أما الصديق فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره حتى بينها لهم لم يحفظ له قول مخالف نصاً، وهذا يدل على غاية البراعة) (140).
6 - أنه أشجع الناس وأصبرهم حين تضعف عزائم الأقوياء، وحين يأتي وقت الشجاعة فأبو بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه أشجع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لليقين والإيمان اللذين وقرا في قلبه. ففي الصحيح أن عقبة بن معيط(141) جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر فدفعه عنه، وقال: ({أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } [غافر: 28] ) (142).(106/378)
وتتضح شجاعته رضي الله عنه أيضاً في حادثة فزع الصحابة بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وثباته، بل وتثبيته الصحابة، وفي إنفاذه جيش أسامه(143) ، وقتال المرتدين، وغيرها.
يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمقصود هنا أن أبا بكر كان أشجع الناس، ولم يكن بعد الرسول صلّى الله عليه وسلّم أشجع منه) (144).
وقال - أيضاً - (وكان لأبي بكر مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية، وهي قوة يقينية بالله - عز وجل -، وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين، وهذه الشجاعة لا تحصل لكل من كان قوي القلب، لكن هذه تزيد بزيادة الإيمان واليقين، وتنقص بنقص ذلك)(145) .
7 - كثرة إنفاقه في سبيل الله وخاصة في بداية ظهور الإسلام في مكة، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر» (146)، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر»(147) .
وقال عليه الصلاة والسلام: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، قال أبو بكر: هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم»(148) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمقصود هنا أن الصديق كان أمن الناس في صحبته وذات يده لأفضل الخلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لكونه كان ينفق ماله في سبيل الله كاشترائه المعذبين، ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم محتاجاً في خاصة نفسه لا إلى أبي بكر، ولا غيره، بل لما قال له في سفر الهجرة: إن عندي راحلتين فخذ إحداهما: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بالثمن» (149).(106/379)
فهو أفضل صديق لأفضل نبي، وكان من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يطلب جزاء من أحد من الخلق) (150).
8 - أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخصه بأمور هي دلائل على أنه يتبوأ منزلة خاصة، فهم منها كثير من أهل العلم أحقيته بالخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومنها:
أ - طلب الكتابة بالعهد إليه بعده: فقد قال عليه الصلاة والسلام لعائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها: «ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً..» ثم قال: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»(151) .
ب - الإرشاد لمن طلب من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يحدد له رجلاً يأتيه إن لم يجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن يأتي أبا بكر، ومن ذلك: أن أمرأة أتت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ - كأنها تريد الموت -، قال: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر»(152) .
جـ - استخلافه بالصلاة عنه في حياته، كما ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما مرض واشتد مرضه قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، متى يقم مقامك لا يستطيع أن يصلي بالناس، فقال: «مري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف»(153) .(106/380)
يقول ابن تيمية رحمه الله: (بيّن صلّى الله عليه وسلّم أنه يريد أن يكتب كتاباً خوفاً، ثم علم أن الأمر واضح ظاهر ليس مما يقبل النزاع فيه، والأمة حديثة عهد بنبيها، وهم خير أمة أخرجت للناس، وأفضل قرون هذه الأمة، فلا يتنازعون في هذا الأمر الواضح الجلي، فإن النزاع إنما يكون لخفاء العلم، أو لسوء القصد، وكلا الأمرين منتف، فإن العلم بفضيلة أبي بكر جلي، وسوء القصد لا يقع من جمهور الأمة الذين هم أفضل القرون، ولهذا قال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، فترك ذلك لعلمه بأن ظهور فضيلة أبي بكر الصديق واستحقاقه لهذا الأمر يغني عن العهد فلا يحتاج إليه، فتركه لعدم الحاجة، وظهور فضيلة الصديق واستحقاقه، وهذا أبلغ من العهد) (154).
وأما فضائل عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه فكثيرة، فمنها ما هو مشترك مع غيره من الصحابة ككونه من السابقين الأولين، وكونه من العشرة المبشرين بالجنة، وغيرها.
ومنها ما هو مشترك مع أبي بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنهما مثل: الأمر بالاقتداء بهما لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»(155) .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا» (156) .
ومحبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهما، فقد كان الصحابة كثيراً ما يسمعون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر»(157) .
وقرن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إيمانه بإيمان أبي بكر (ت - 13هـ) ، وعمر (ت - 23هـ) رضي الله عنهما في بعض المواضع، فقال عليه الصلاة والسلام: «بينما راع يرعى في غنمه إذ عدا الذئب فأخذ منها شاة، فطلبها حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب، وقال: من لها يوم السَّبُع يوم لا راع لها غيري» ، فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «فإني أؤمن به وأبو بكر وعمر»(158) .(106/381)
وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينا رجل يسوق بقرة، قد حمَّل عليها، التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا! ولكني إنما خلقت للحرث».
فقال الناس: سبحان الله! تعجباً وفزعاً - أبقرة تتكلم؟.
فقال: «فإني أومن بهذا وأبو بكر وعمر»(159) .
ومن فضائله: ما أفردت بحديث مستقل: فهو أفضل الأمة بعد أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه للنصوص المذكورة قبل قليل، ولغيرها.
وهو مُحدَّث ملهم لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «قد كان في الأمم مُحدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» (160).
وقد رأى الرسول صلّى الله عليه وسلّم رؤى في عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه أوّلهَا عليه الصلاة والسلام بالعلم، وبالدين، فقد قال نبي الرحمة صلّى الله عليه وسلّم: «بينا أنا نائم إذ رأيت قدحاً أُتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الرّي يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي يعني عمر بن الخطاب»، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال:«العلم»(161).
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليّ وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثُّدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك» ، ومرّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: «الدين» (162).(106/382)
وقد جعل الله الحق على لسان عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه ووافق التنزيل مراراً، كما قال عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه عنه -: (وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة: 125] ، وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، قال: فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية)(163) .
وقد فرح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وصحابته معه بإسلام عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه حين أسلم، واعتز الإسلام بإسلامه، كما قال ابن مسعود (ت - 32هـ) رضي الله عنه: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر)(164) .
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله بعض صفات الفاروق - من غير ما ذُكر -، فمنها:
خوفه من الله عزّ وجل وذكر أحاديث في ذلك(165) ، منها ما وراه المسور بن مخرمة(166) رضي الله عنه قال: لما طعن عمر جعل يألم، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذلك: لقد صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، فقال: أمّا ما ذكرت من صحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضاه، فإنما ذاك مَنُّ منَّ به عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه، فإنما ذاك مَنٌ من الله مَنَّ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طِلاع(167) الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه)(168) .(106/383)
ومنها: أنه وقّاف عند حدود الله عزّ وجل ودليل ذلك: أن رجلاً دخل عليه وقال: هيه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به، فقال له الحر(169) : يا أمير المؤمنين؛ إن الله - تعالى - قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [الأعراف: 199] ، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله)(170) .
ومنها: عدله رضي الله عنه يقول ابن تيمية رحمه الله عن ذلك: (وبعدل عمر يضرب المثل)(171) ، ويقول: (ومعلوم أن رعية عمر انتشرت شرقاً وغرباً.. ومع هذا فكلهم يصفون عدله، وزهده، وسياسته، ويعظمونه، والأمة قرناً بعد قرن تصف عدله وزهده وسياسته، ولا يُعرف أن أحداً طعن في ذلك)(172) .
وهذه الصفات وغيرها نماذج من سيرة ثاني الخلفاء الراشدين التي يقول عنها ابن تيمية رحمه الله (لا يُعرف في سير الناس كسيرته)(173) ، ومناقبه كثيرة، أطال في ذكرها ابن تيمية رحمه الله موثقاً ذلك بالآثار الثابتة الصحيحة التي يقول عنها: (وهذه الآثار وأضعافها مذكورة بالأسانيد الثابتة في الكتب المصنفة في هذا الباب، ليست من أحاديث الكذابين، والكتب الموجودة فيها هذه الآثار المذكورة بالأسانيد الثابتة كثيرة جداً)(174) .(106/384)
وأما فضائل عثمان بن عفان (ت - 35هـ) رضي الله عنه فكثيرة أيضاً، وموقف ابن تيمية رحمه الله منها موقف المؤيد، بل والمقرر لها، والموضح، والشارح: فمن فضائله الواردة في النصوص: ما هو مشترك يدخل فيها معه غيره من الصحابة، سواء أكانوا قلة أم كثرة: كتبشيره بالجنة، وكونه من السابقين الأولين للإسلام، ومن النصوص ما يدل على أنه أفضل الأمة بعد الشيخين، وذلك لحديث ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما قال: (كنا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نفاضل بينهم) (175).
قال ابن عبد البر (ت - 463هـ) رحمه الله: (لم يكن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأرض أفضل من أبي بكر، ولم يكن بعده أفضل من عمر، ولم يكن بعده أفضل من عثمان، ولم يكن بعد عثمان على الأرض خير ولا أفضل من علي)(176) .
ومن فضائل عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم زوجه ابنتيه، ولذلك أطلق عليه لقب (ذو النورين)(177) .
ومن فضائله - أيضاً - مبايعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنه يوم بيعة الرضوان، فقد أراد رجل أن يطعن في عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه على أنه لم يحضر بيعة الرضوان، فأجابه ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما بأن بيعة الرضوان إنما كانت بسبب عثمان، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثه إلى مكة، وبايع عنه بيدِه، ويد النبي صلّى الله عليه وسلّم خير من يد عثمان(178) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (فقد أجاب ابن عمر بأن ما يجعلونه عيباً ما كان منه عيباً فقد عفا الله عنه، والباقي ليس بعيب، بل هو من الحسنات، وهكذا عامة ما يعاب به على سائر الصحابة، هو إما حسنة، وإما معفو عنه)(179) .(106/385)
ومنها: كثرة إنفاقه في سبيل الله، ويظهر ذلك جلياً حين جهز جيش العسرة، حتى جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك من الأسباب الماحية للذنوب، الموجبة لدخول الجنة، وحين حوصر عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه أشرف على من حاصره وقال لهم: (أنشدكم الله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألستم تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حفر رومة فله الجنة» فحفرتها، ألستم تعلمون أنه قال: «من جهز جيش العسرة فله الجنة» فجهزته، قال: «فصدقوه بما قال»(180) .
ومنها: حياؤه رضي الله عنه، فقد استأذن رضي الله عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مضطجع على فراش عائشة، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصلح عليه ثيابه، وقال لعائشة: «اجمعي عليك ثيابك» فأذن له، فقضى إليه حاجته، ثم انصرف، فقال عليه الصلاة والسلام: «يا عائشة إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلى حاجته» (181) .(106/386)
ومنها: صبره حين الفتن، وكفه عمّن قاتله، كل هذا مع اتفاق الصحابة - رضوان الله عليهم - على بيعته، فلم يكن هناك اختلاف في توليته، بل ولاه المسلمون بعد المشورة ثلاثة أيام، وهم مؤتلفون، متفقون، متحابون، متوادون، ولم يعدلوا بعثمان غيره، يقول الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله: (ما كان في القوم أوكد بيعة من عثمان كانت بإجماعهم)(182) ، ومع ذلك ابتلي رضي الله عنه بعد توليته كثيراً فصبر، وهذا من دلائل نبوة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم حين أخبر أنه من أهل الجنة على بلوى تصيبه، يقول ابن تيمية رحمه الله: (ومن المعلوم المتواتر أن عثمان كان أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس على من نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه فحاصروه، وسعوا في قتله، وقد عَرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه، ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال، ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم.. فكان صبر عثمان حتى قُتل من أعظم فضائله عند المسلمين)(183) .
وفي الجملة: فإن فضائل عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه كثيرة، قد أقرّ بها ابن تيمية رحمه الله ويذكرها وقت الحاجة إلى ذكرها، سواء أكانت مفرقة أم مجتمعة، فيقول في كلام عام عن فضائل عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه: (والمعلوم من فضائل عثمان، ومحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم له، وثنائه عليه، وتخصيصه بابنتيه، وشهادته له بالجنة، وإرساله إلى مكة، ومبايعته له عنه لما أرسله إلى مكة، وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة، وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات وهو عنه راض، وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه)(184) .(106/387)
وأما موقفه من ابن عباس (ت - 68هـ) رضي الله عنهما فهو: الثناء عليه؛ للثناء العام على الصحابة - جميعاً -، ولثناء الرسول صلّى الله عليه وسلّم عليه، ودعائه له بالفقه في الدين، ومعرفة التأويل، يقول ابن تيمية رحمه الله: (ابن عباس هو حبر الأمة، وأعلم الصحابة في زمانه..، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل»(185) ) (186).
وبعد هذا تبين لنا موقف ابن تيمية رحمه الله من الصحابة - جميعاً - وعقيدته فيهم، فهو يعتقد وجوب الثناء على الصحابة - جميعاً -، وأنهم أفضل الأمة، وقد حكى اتفاق أهل السنة على رعاية حقوق الصحابة، ويعتقد تحريم سب الصحابة، ووجوب الكف عن الخوض في مساوئ الصحابة، وفيما شجر بينهم.
ثم تبين لنا أن ابن تيمية يعتقد أن أفضل الأمة: الخلفاء الأربعة، وأن ترتيبهم في الفضل هو ترتيبهم في الخلافة، ويعتقد أن لكلٍ فضلاً ومناقب، وإذا تبين ذلك عنه: فلا يجوز لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتهم ابن تيمية رحمه الله بأنه ببغض الصحابة أو أحدهم، فضلاً عن تكفير الصحابة، أو أحدهم، أو أفضلهم.
وقبل ختام هذا المبحث: يحسن بي أن أتوقف قليلاً لأبين ما يعتقده ابن تيمية رحمه الله باختصار في معاوية بن أبي سفيان (ت - 60هـ) رضي الله عنهما خاصة، ذلك أن بعض الطوائف والأشخاص يكفرونه، وبعضهم يبغضه ويلعنه(187) .
وابن تيمية يعتقد فيه أنه صحابي، أسلم عام الفتح، وإيمانه ثابت بالنقل المتواتر، وإسلامه يجب ما قبله من الذنوب، وأن سيرته خير وعدل، وأنه أفضل ملوك المسلمين - فرضي الله عنه وأرضاه -، يقول ابن تيمية رحمه الله: (إيمان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ثابت بالنقل المتواتر، وإجماع أهل العلم على ذلك، كإيمان أمثاله ممن آمن عام فتح مكة) (188).(106/388)
وينقل ابن تيمية رحمه الله ثناء ابن عباس (ت - 68هـ) رضي الله عنهما عليه، والشهادة له بالفقه، فقد سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ إنه أوتر بركعة؟ قال: (أصاب إنه فقيه)(189) .
يقول ابن تيمية بعد ذلك: (فهذه شهادة الصحابة بفقهه، ودينه، والشاهد بالفقه ابن عباس) (190).
ويذكر رحمه الله أنه خير ملوك المسلمين، وأن سيرته في رعيته من خيار سير الولاة بقوله: (فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خير من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده)(191) ، وحكى اتفاق العلماء على أنه أفضل ملوك هذه الأمة (192).
المبحث الثالث
دعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت،
وتعمية مناقبهم، ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم
يرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه يبغض آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يألوا جهداً في بث هذا البغض في كتبه عن طريق الغمز فيهم، وفي فضائلهم، وإن تستر بحبهم، والثناء عليهم.
فيقولون عنه: إنه ينفي كل فضيلة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه، أو لأهل بيته (193).
وأنه من أعداء آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(194) .
وأنه شبّه فاطمة (ت - 11هـ) رضي الله عنها بالمنافقين(195) .
ويرون أنه أظهر بغضه لرابع الخلفاء الراشدين أكثر من غيره من آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك يتضح بالآتي:
أ - إنكاره العلم الخاص بعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه وإنكار كونه أكثر علماً من أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه يقول أحدهم: (زاد ابن تيمية فأنكر اختصاص علي عليه السلام بعلم لا يكون عند الشيخين رضي الله عنهما)(196) .(106/389)
وقال آخر في مقام بيانه أن علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه أكثر علماً من الشيخين رضي الله عنهما: (وابن تيمية أعرف الناس بذلك، ولكنه يفتري الكذب، ويتجاهل لنصرة رأيه، وغمط حق المولى علي عليه السلام، بل كل من يصرح بأعلمية أبي بكر على علي رضي الله عنهما فإنما يباهت، وينكر ما يكاد يعلمه من نفسه بالضرورة، بل هو معلوم بالضرورة جزماً)(197) .
وذكروا من علومه الخاصة به دون غيره: بسط اليد في العلم الظاهر والباطن، والإخبار عن الأحداث الماضية والآتية إلى قيام الساعة!(198) .
ب - الحقد الدفين عليه، وإبطان بغضه، وإن تستر بحبه، وأنه لم يكف - أبداً - عن انتقاص علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه وذكره بالقبيح(199) .
ج - أنه لا يرى أن خلافة علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه خلافة نبوة (200).
د - أنه يرى أن الباغي والمعتدي هو علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه على معاوية (ت - 60هـ) رضي الله عنه يقول أحدهم: (يشير بذلك إلى أن البغي وقع من علي عليه السلام) (201).
هـ - أنه ينتقص علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه في سائر صفات الفضل من العلم، والزهد، والصدق، والشجاعة وغيرها (202).
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
الحديث في هذا المطلب سوف ينحصر - بإذن الله - في مسألتين:
المسألة الأولى : موقف ابن تيمية من آل البيت عموماً.
المسألة الثانية : بيان موقف ابن تيمية رحمه الله من علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه خصوصاً، لإفراد خصوم ابن تيمية رحمه الله الحديث عنه كثيراً.(106/390)
أما الأولى : فموقف ابن تيمية رحمه الله من آل البيت واضح جلي لمن استعرض كتبه: فهو يعتقد اعتقاد أهل السنة والجماعة فيهم وهو محبتهم والثناء عليهم، وقد قرر وجوبها وفرضيتها في مواضع متعددة من كتبه، يقول رحمه الله: (محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه..)(203) ، وقال: (ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم واجبة)(204) ، وكلما زادت محبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في قلب امريء مسلم فإنه تزيد محبته لأهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك فإن أكثر من عرف حق آل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم هو أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه، وذلك لمحبته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المحبة الكاملة، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وكان رضي الله عنه من أعظم المسلمين رعاية لحق قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأهل بيته، فإن كمال محبته للنبي صلّى الله عليه وسلّم أوجب سراية الحب لأهل بيته، إذ كان رعاية أهل بيته مما أمر الله ورسوله به)(205) ، وذكر قول الصديق: (ارقبوا محمداً في آل بيته)(206) ، وقال: (والله لقرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحب إلي أن أصل من قرابتي)(207) .(106/391)
وقد توقف رحمه الله في كلام نفيس له حول أفضلية أهل البيت على غيرهم ممن هو دونهم؛ بأنه ليس للنسب فقط - وإن كان النسب له اعتبار - وإنما لاجتماع النسب مع الإيمان والتقوى، كما قال الله عزّ وجل عن آل الأنبياء بعد ذكره جملة منهم: { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] ، فحصول الفضيلة لهم كان بمجموع الأمرين: هدايتهم إلى الصراط المستقيم، واجتباؤهم وتفضيلهم على غيرهم في النسب، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»(208) ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»(209) .(106/392)
يقول رحمه الله: (لا ريب أن لآل محمد صلّى الله عليه وسلّم حقاً على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش، كما أن قريشاً يستحقون من المحبة والموالاة ما لا يستحقه غير قريش من القبائل.. وأما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة، ومدح الله عزّ وجل للشخص المعين، وكرامته عند الله تعالى فهذا لا يؤثر فيه النسب، وإنما يؤثر فيه الإيمان والعمل الصالح، وهو التقوى، كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .. وهذا لا ينافي ما ذكرناه من أن بعض الأجناس والقبائل أفضل من بعض، فإن هذا التفضيل معناه كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» ، فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب، ومعدن فضة؛ كان معدن الذهب خيراً؛ لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين فيه، فإن قُدِّر أنه تعطل ولم يُخرج ذهباً، كان ما يخرج الفضة أفضل منه)(210) .
وبين أن الأمر وسط فلا تلغى فضيلة النسب جملة، ولا تجعل هي المعيار الوحيد لقرب العبد من ربه أو بعده منه فقال: (هذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب دون من ألغى فضيلة الأنساب مطلقاً، دون من ظن أن الله تعالى يفضل الإنسان بنسبه على من هو مثله في الإيمان والتقوى، فضلاً عمّن هو أعظم إيماناً وتقوى، فكلا القولين خطأ وهما متقابلان، بل الفضيلة بالنسب فضيلة جملة، وفضيلة لأجل المظنة والسبب، والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية...)(211) .(106/393)
وقد نبّه رحمه الله إلى منهج الوسطية عند أهل السنة والجماعة في محبة آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا يجوز الغلو فيهم، وإعطاؤهم فوق منزلتهم؛ لأن هذا شرك بهم، كما أنه لا يجوز انتقاص قدرهم، وغمطهم حقهم، سواء كان ذلك تحقيراً لهم، وعدم اعتراف بحقهم، أو كان ذلك من باب مقابلة الغلو بالإجحاف والتقصير، يقول - قدس الله روحه -: (الغالية في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ، تجدهم مشركين بهم، لا متبعين لهم في خبرهم وأمرهم، فخرجوا عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)(212) ، ويقول رحمه الله في ضرب الأمثلة لمن قابل البدعة ببدعة مثلها: (كما قد يصير بعض الجهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت؛ إذا رأى أهل البدعة يغلون فيها)(213) .
وأهل البيت عقيدتهم هي عقيدة الصحابة، أهل السنة والجماعة، ودينهم الصدق والتقوى، لا الكذب والتقية - كما تزعمه الرافضة -، وهذا ما يقرره شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: (إن أئمة أهل البيت كعليّ وابن عباس ومن بعدهم، كلهم متفقون على ما اتفق عليه سائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان من إثبات الصفات والقدر)(214) .
ويقول: (وأئمة المسلمين من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغيرهم متفقون على القول الوسط، المغاير لقول أهل التمثيل، وقول أهل التعطيل)(215) .(106/394)
إن لأهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقوقاً على المسلمين، وإن عليهم حقوقاً - أيضاً - فمنها: استحقاقهم الفيء(216) ، وأن الصدقة لا تحل لهم(217) ، ومما يتميزون به أن إجماع العترة حجة(218) ، ومما يتميزون به - أيضاً - وجوب الصلاة عليهم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد»(219) ، وفي حديث أبي حميد الساعدي(220) «وعلى أزواجه وذريته»(221) ، يقول رحمه الله: (الصلاة والسلام على آل محمد، وأهل بيته تقتضي أن يكونوا أفضل من سائر أهل البيوت، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقولون: بنو هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل بني آدم)(222) .
وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من آل بيته - على الصحيح - كما يقول ابن تيمية رحمه الله: (هل أزواجه من أهل بيته؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد:
أحدهما : أنهن لسن من أهل البيت، ويروى هذا عن زيد بن أرقم(223) ، والثاني - وهو الصحيح - أن أزواجه من آله)(224) .
وقال:(ودليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلى عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين)(225).
ولذلك فإن محبتهن واجبة، وبغضهن وسبّهن محرم:
يقول رحمه الله: (ويتولون أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصاً خديجة(226) رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به، وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية.
والصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما التي قال فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»(227) )(228) .(106/395)
وأما من قذف أمهات المؤمنين أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم: سواء كانت عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها أو غيرها، فهو كافر؛ لأن هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده(229) .
ولا يزال ابن تيمية رحمه الله يثني على آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيعتقد أن أفضل أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الرسول عليه الصلاة والسلام(230) .
وأما أفضل آل بيته من بعده فهو علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه ثم حمزة(231) ، وجعفر(232) ، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب(233) ؛ وهؤلاء هم السابقون للإسلام(234) .
وأما أعلم آل بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه ثم ابن عباس (ت - 68هـ) رضي الله عنهما كما بين ذلك في منهاج السنة(235) .
وأما موقف ابن تيمية رحمه الله من فاطمة (ت - 11هـ) رضي الله عنها بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو مثل موقف أهل السنة، والجماعة تجاهها، حيث هي من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن السابقين إلى الإسلام، ويعتقد أنها سيدة نساء العالمين(236).
وأن تزويجها لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فضل له، لا لها(237) ، وقد بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم محبته لها في أحاديث متعددة منها قوله: «إنما ابنتي بضعة مني يَريبني مارابها ويؤذيني ما آذاها »(238) ، وفي مقام بيانه صلّى الله عليه وسلّم عدم قبوله الشفاعة في حدود الله حتى في أقرب قريب وحبيب ضرب لذلك مثلاً بأقرب الناس إليه وهي فاطمة حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها »(239) ، وبين رحمه الله أن الرافضة يذمونها بما ظاهره المدح(240) .(106/396)
وأما موقفه من الحسن(241) ، والحسين(242) رضي الله عنهما فهو: - كمن سبقهما -، واحتج بالحديث الصحيح في فضل الحسن (ت - 49هـ) رضي الله عنه وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم عنه: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه»(243) .
وقال عن الحسين (ت - 61هـ) رضي الله عنه: (والحسين رضي الله عنه ولعن قاتله قُتل مظلوماً شهيداً في خلافته(244) )(245) .
وقال عنهما في مقام الثناء عليهما، والاعتذار لهما: (الحسن تخلى عن الأمر وسلمه إلى معاوية، ومعه جيوش العراق، وما كان يختار قتال المسلمين قط، وهذا متواتر من سيرته... والحسين رضي الله عنه ما خرج يريد القتال، ولكن ظن أن الناس يطيعونه، فلما رأى انصرافهم عنه، طلب الرجوع إلى وطنه، أو الذهاب إلى الثغر..)(246) .
وقال: (والحسن والحسين من أعظم أهل بيته اختصاصاً به)(247) ، ثم ذكر الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أدار كساءه على علي، وفاطمة، والحسن والحسين ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»(248) .
وقال رحمه الله عن علي بن الحسين(249) : (من كبار التابعين، وساداتهم علماً وديناً) (250).
وقال: (وأما ثناء العلماء على علي بن الحسين ومناقبه فكثيرة...) (251).
وأما أبو جعفر الباقر (252)، فقد قال عنه ابن تيمية رحمه الله: (من خيار أهل العلم والدين، وقيل: إنما سمي الباقر، لأنه بقر العلم؛ لا لأجل بقر السجود جبهته) (253).
وقال رحمه الله عن جعفر الصادق (ت - 148هـ) : (من خيار أهل العلم والدين..) (254).
وقال عنه: (فإن جعفر بن محمد من أئمة الدين باتفاق أهل السنة) (255).
وقال عن أبي جعفر الباقر (ت - 114هـ) وجعفر الصادق (ت - 148هـ) - رحمهما الله -:
(ولا ريب أن هؤلاء من سادات المسلمين، وأئمة الدين، ولأقوالهم من الحرمة والقدر ما يستحقه أمثالهم) (256).(106/397)
ونقل في توثيق موسى بن جعفر (257)، قول أبي حاتم الرازي (ت - 277هـ) رحمه الله عنه: (ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين) (258).
وأما من بعد هؤلاء من الأئمة الاثني عشر فلم يؤخذ عنهم من العلم ما يذكر به أخبارهم في كتب المشهورين بالعلم وتواريخهم (259).
وفي الجملة: فمحبة ابن تيمية رحمه الله لآل البيت ظاهرة، وثناؤه عليهم متواصل، سواء كان ذلك في فضائلهم العامة التي يشتركون فيها جميعاً، أو كان ذلك في فضائل بعضهم على بعض، أو على سائر الأمة، يقول رحمه الله مقرراً حقوقهم بكلام عام: (ولا ريب أن لآلِ محمد صلّى الله عليه وسلّم حقاً على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش، كما أن قريشاً يستحقون من المحبة والموالاة ما لا يستحقه غير قريش من القبائل، كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر أجناس بني آدم.. ولا ريب أنه قد ثبت اختصاص قريش بحكم شرعي، وهو كون الإمامة فيهم دون غيرهم، وثبت اختصاص بني هاشم بتحريم الصدقة عليهم، وكذلك استحقاقهم من الفيء عند أكثر العلماء، وبنو المطلب معهم في ذلك.. فهم مخصوصون بأحكام لهم وعليهم، وهذه الأحكام تثبت للواحد منهم وإن لم يكن رجلاً صالحاً) (260).
وفي المقابل فإن الرافضة يلمزون أهل السنة والجماعة جميعهم بالوقيعة في أهل البيت، وبغضهم، كما فعلوا ذلك بابن كثير (ت - 774هـ) رحمه الله وغيره (261).
المسألة الثانية : موقف ابن تيمية رحمه الله من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
أثنى ابن تيمية رحمه الله على الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه وذكر فضائله، ومناقبه، وأنصفه من خصومه، ولكي أعطي صورة سريعة ومجملة حول موقفه منه يحسن بي أن أذكر النقاط التالية:
1 - علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه أفضل الأمة بعد الخلفاء الأوائل الثلاثة، وذلك موافق للنصوص الشرعية (262).(106/398)
2 - أنه آخر الخلفاء الراشدين، وأن ذلك مما اتفقت عليه الأمة، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين، وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم) (263).
وقد أثبت الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن خلافته خلافة نبوة، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله في مواضع متعددة (264)، من حديث سفينة(265) المشهور قوله: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء » قال سفينة رضي الله عنه: أمسك: مدة أبي بكر سنتان، وعمر عشر، وعثمان اثنتا عشرة، وعليّ كذا) (266)، أي ست سنوات.
قال ابن تيمية رحمه الله: (عليّ آخر الخلفاء الراشدين، الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة، وكلٌ من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء الله المتقين) (267).
3 - أن محبته من السنة ومن الإيمان، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأما علي رضي الله عنه فإن أهل السنة يحبونه ويتولونه، ويشهدون بأنه من الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين) (268).
4 - أنه من أهل الجنة وأنه يموت شهيداً (269).
5 - أن سيرته فيها العلم والعدل والبر والرشاد، كما يقول عنه شيخ الإسلام: (وأما عثمان وعلي رضي الله عنهما فهما من الخلفاء الراشدين، وسيرتهما سيرة العلم والعدل والهدى والرشاد والصدق والبر) (270)، ويقول - أيضاً -: (وكانت سيرة أبي بكر في قسم الأموال: التسوية، وكذلك سيرة علي رضي الله عنه، فلو بايعوا علياً أعطاهم ما أعطاهم أبو بكر، مع كون قبيلته أشرف القبائل..) (271).
6 - أثبت له ابن تيمية رحمه الله كثيراً من الصفات الحميدة، وقررها، فمنها:(106/399)
أ - أنه يحب الله، ويحبه الله، كما يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأما علي رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله...) (272).
ب - أثبت له صفة الزهد بقوله: (وأما زهد علي رضي الله عنه في المال فلا ريب فيه) (273).
جـ - أثبت له صفة الصدق بقوله: (نحن نعلم أن علياً كان أتقى لله من أن يتعمد الكذب) (274).
7 - جواز الدعاء له بالصلاة عليه؛ وذلك لدخوله في آل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل هو أفضلهم، فدخوله من باب أولى حين الصلاة على محمد وآله في قولنا: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...).
وأما الصلاة عليه منفرداً: فإن كان لا على سبيل الدوام والاستمرار فهذا جائز على الصحيح.
وأما إن كانت الصلاة عليه بحيث يجعل ذلك شعاراً مقروناً باسمه، مضاهاة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا لا يجوز وهو بدعة، سواء كان المصلى عليه علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه أو كان غيره من الصحابة أو القرابة (275).
ونجد من دعاء ابن تيمية رحمه الله له، أنه يعقب اسمه بقوله: (عليه السلام) مراراً (276).
8 - يدافع عنه ابن تيمية رحمه الله وينصفه من خصومه، ويعتقد أن سبه ولعنه من البغي الذي تستحق به الطائفة التي تلعنه، أو تسبه أن يقال لها: الطائفة الباغية(277) ثم ذكر حديث أبي سعيد (ت - 74هـ) رضي الله عنه فقال حين ذكر بناء مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فجعل ينفض التراب عنه ويقول: «ويح عمار! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» (278).
وفي حديث آخر أن عماراً حين جعل يحفر الخندق جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح رأسه ويقول: «بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية» (279).(106/400)
قال ابن تيمية رحمه الله: (وهذا أيضاً يدل على صحة إمامة علي، ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار..) (280).
9 - أنه أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية (ت - 60هـ) رضي الله عنهما فيما حصل بينهما، مع أن كلا الطائفتين معها بعض الحق، فبعد ذكره حديث أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قوله: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تمرق مارقة عند فُرقةٍ من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق »(281) . قال: (وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق، وأن علياً رضي الله عنه أقرب إلى الحق)(282) .
وقال رحمه الله: (ولو قدح رجل في علي بن أبي طالب بأنه قاتل معاوية، وأصحابه، وقاتل طلحة والزبير، لقيل له: علي بن أبي طالب أفضل وأولى بالعلم والعدل من الذين قاتلوه، فلا يجوز أن يجعل الذين قاتلوه هم العادلين، وهو ظالم لهم) (283).
وقال - أيضاً -: (ولم يسترب أئمة السنة، وعلماء الحديث: أن علياً أولى بالحق، وأقرب إليه، كما دل عليه النص، وإن استرابوا في وصف الطائفة الأخرى بظلم أو بغي، ومن وصفها بالظلم والبغي لما جاء من حديث عمار، جعل المجتهد في ذلك من أهل التأويل)(284) .
10 - وأما عن تخصيص علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه بعلم من علم الغيب، فليس بصحيح، فكل ما ينقل عنه أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم خصه بعلم الباطن فهذا كذب عليه، كيف وقد قال الله عزّ وجل: { قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [النمل: 65] ، وقوله: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } [الأنعام: 59] .(106/401)
يقول ابن تيمية رحمه الله بعد أن بين أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس له علم خاص باطن يخص به أحداً، بخلاف ما يظهره لعامة الناس: (وكل من كان عارفاً بسنته وسيرته علم أن ما يروى خلاف هذا فهو مختلق كذب، مثل ما يذكره بعض الرافضة عن علي أنه كان عنده علم خاص باطن يخالف هذا الظاهر)(285) .
ثم قال: (وقد أجمع أهل المعرفة بالمنقول على أن ما يروى عن علي وعن جعفر الصادق من هذه الأمور التي يدعيها الباطنية كذب مختلق)(286) .
وقال رحمه الله: (وأما ما يرويه أهل الكذب والجهل من اختصاص علي بعلم انفرد به عن الصحابة فكله باطل...، وما يقوله بعض الجهال أنه شرب من غُسل النبي صلّى الله عليه وسلّم فأورثه علم الأولين والآخرين، من أقبح الكذب البارد، فإن شرب غُسل الميت ليس بمشروع، ولا شرب علي شيئاً، ولو كان هذا يوجب العلم لشركه في ذلك كل من حضر، ولم يرو هذا عن أحد من أهل العلم، وكذلك ما يذكر أنه كان عنده علم باطن امتاز به عن أبي بكر وعمر وغيرهما: فهذا من مقالات الملاحدة الباطنية)(287) .
وقد قال علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما عهد إليّ النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئاً لم يعهده إلى الناس، إلا ما في هذه الصحيفة، - وكان فيها العقل (288) ، وفكاك الأسرى، وأن لا يقتل مسلم بكافر -، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في الكتاب)(289).
وفي الجملة: فثناء ابن تيمية رحمه الله على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه مبثوث في كتبه، قد أقره معترفاً به، مستدلاً على ذلك بنصوص الكتاب والسنة، يقول رحمه الله: (وعلي رضي الله عنه فضّله الله وشرّفه بسوابقه الحميدة، وفضائله العديدة)(290) .
وقال: (وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبة، وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق، وهم ينكرون على من سبه، وكارهون لذلك)(291) .(106/402)
ومع كل هذا الثناء، والاعتراف بقدره، وموافقة أهل السنة في عقيدتهم فيه، إلا أن المناوئين لابن تيمية رحمه الله يتهمونه بأنه يبغض علياً، وأنه ينتقص حقه، ويخفي فضائله، وحال المناوئين معه كما قال الشاعر:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد *** وينكر الفم طعم الماء من سقم(292)
وابن تيمية رحمه الله وإن كان قد أثنى على علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلا أنه لم يغل فيه، ولم يغمطه حقه، بل كان وسطاً، ففي مناقشاته للرافضة يحاول كثيراً إقناعهم بالمنهج الوسط ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وذلك ببيان فضائل الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه وخصائصهم، وأنهم أفضل منه، لأن الرافضة لا يثنون على علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلا وينتقصون الخلفاء الثلاثة قبله، فكل فضيلة تثبت له، يقابلها توهين وتحقير وتنقيص لفضائل الثلاثة قبله، ويظن الرافضة - أيضاً - أن علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه إذا كان أفضل آل البيت فمعناه أنه أفضل الأمة، وأنهم إذا سمعوا فضيلة له ظنوا أنها لا تكون إلا لأفضل الأمة، ثم يزيدون في فضائله آثاراً كاذبة، ونصوصاً مختلقة، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وليس إذا كان علي أفضل أهل البيت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجب أن يكون أفضل الناس بعده)(293) .
ويقول: (والرافضة لفرط جهلهم، وبعدهم عن ولاية الله وتقواه ليس لهم نصيب كثير من كرامات الأولياء، فإذا سمعوا مثل هذا عن علي ظنوا أن هذا لا يكون إلا لأفضل الخلق)(294) .(106/403)
ثم إن الرافضة ومن وافقهم - أيضاً لفرط جهلهم - لا يفرقون بين الخصائص والمناقب، فهم يظنون أن كل منقبة وفضيلة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إنما هي من خصائصه بالضرورة، وهذا خطأ ظاهر ينبه عليه ابن تيمية رحمه الله كثيراً بأن هذه الصفة ليست من خصائصه، من باب بيان الحق، وعدم تنقيص بقية الصحابة الذين يشركونه في هذه الصفة، فيظن المخالف أن شيخ الإسلام رحمه الله ينتقص من علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه وابن تيمية رحمه الله لم ينتقص علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه ولا غيره من الصحابة، بل عمله هذا دليل على عدم انتقاص أحد من الصحابة في مقام الثناء على أحد غيره، ولعلّي أذكر بعض الأمثلة على هذه القاعدة - أي التفريق بين الخصائص والمناقب - حتى تتضح الرؤية أكثر:
أ - أن استخلافه على المدينة في غزوة تبوك ليس من خصائصه، بل هو من فضائله، ولم يكن استخلافه على المدينة في غزوة تبوك، لأجل أن المتخلف عن الغزوة أفضل من غيرهم، أو أكثر من غيرهم من المتخلفين في الغزوات الأخرى.
يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأما استخلافه لعليّ على المدينة، فذلك ليس من خصائصه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا خرج في غزاة استخلف على المدينة رجلاً من أصحابه، كما استخلف ابن أم مكتوم(295) تارة، وعثمان بن عفان تارة)(296) وذكر أمثلة متعددة لاستخلاف النبي صلّى الله عليه وسلّم أفراداً من الصحابة على المدينة في أسفاره وغزواته ثم قال: (واستخلاف علي لم يكن على أكثر ولا أفضل ممن استخلف عليهم غيره، بل كان يكون في المدينة في كل غزوة من الغزوات من المهاجرين والأنصار أكثر وأفضل ممن تخلف في غزوة تبوك، فإن غزوة تبوك لم يأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأحد بالتخلف فيها، فلم يتخلف فيها إلا منافق، أو معذور، أو الثلاثة الذين تاب الله عليهم...)(297) .(106/404)
وقال: (وبالجملة فالاستخلاف على المدينة ليست من خصائصه، ولا تدل على الأفضلية، ولا على الإمامة، بل قد استخلف عدداً غيره، ولكن هؤلاء جهال ويجعلون الفضائل العامة المشتركة بين علي وغيره خاصة بعلي)(298) .
فشيخ الإسلام رحمه الله لم ينكر كونها منقبة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه لكنه يرد غلو الرافضة في حبه في مقابل تنقص غيره من الصحابة، فهو يثبتها فضيلة، لكنه دفاعاً عن بقية الصحابة لا يجعلها خاصية له دون غيره.
ب - أن ربط الإيمان بحبه، وربط النفاق ببغضه ليس من خصائصه، بل هو من فضائله، فقد رُبطا بغيره - أيضاً -، ولهما - أي الإيمان والنفاق - علامات وأسباب أخرى.
يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار»(299) .
يقول ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره بعض فضائل علي، ومنها هذه الفضيلة: (فهذه الأمور ليست من خصائص علي، لكنها من فضائله ومناقبه التي تعرف بها فضيلته، واشتهر رواية أهل السنة لها، ليدفعوا بها قدح من قدح في علي، وجعلوه كافراً أو ظالماً، من الخوارج وغيرهم)(300) .
جـ - أن القول بأنه أشجع الناس، أو أن من خصائصه أنه لم ينهزم قط، فهذا ليس بصحيح، فإن أشجع الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما في الصحيحين عن أنس (ت - 93هـ) رضي الله عنه قال: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت، وهو يقول: «لم تراعوا»(301) .
وعن علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه قال: (كنا إذا احمر البأس ولقي القوم اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه)(302) ،
ثم استعرض شيخ الإسلام رحمه الله شجاعة الخلفاء الثلاثة قبله، وشجاعة غيره من الصحابة بعد أن بين أن الشجاعة تفسر بشيئين:(106/405)
(أحدهما: قوة القلب وثباته عند المخاوف، والثاني: شدة القتال بالبدن...)(303) .
ويقول ابن تيمية رحمه الله عن تخصيصه بأنه لم يهزم: (هو في ذلك كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم فالقول في أنه ما انهزم، كالقول في أن هؤلاء ما انهزموا قط، ولم يعرف لأحد من هؤلاء هزيمة) (304).
د - أن الصدق، والإيمان بالله ورسوله ليس من خصائصه، بل هو في عداد الصادقين، والمؤمنين بالله ورسوله، وإن كان من أفضلهم لكن ليس من خصائصه هاتان الصفتان (305).
هـ - أن محبته لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ومحبة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم له ليس من خصائصه، بل من فضائله ومناقبه؛ لأنه يشركه فيها غيره من الصحابة، وقد يفوقه بعضهم بهذه الصفة، قال ابن تيمية رحمه الله في كلام عادل له، ومنصف للخلفاء الأربعة جميعاً عن هذه الصفة في مقام الرد على الرافضة: (وأما علي رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله، ويحبه الله، لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان، ولا كان جهاده للكفار والمرتدين أعظم من جهاد هؤلاء، ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم مما حصل بهؤلاء، بل كل منهم له سعي مشكور، وعمل مبرور، وآثار صالحة في الإسلام، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير جزاء، فهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون، الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون)(306) .
وفي الجملة فإن الشيعة يجعلون كل فضيلة لعلي خاصية له، وهذا معلوم بطلانه وخطؤه ببديهة العقل، ولذا يقول ابن تيمية رحمه الله: (وهكذا الأمر مع الشيعة: يجعلون الأمور المشتركة بين علي وغيره التي تعمه وغيره، مختصة به، حتى رتبوا عليه ما يختص به من العصمة والإمامة والأفضلية وهذا كله منتفٍ) (207).(106/406)
هذه نماذج مختصرة في بيان فضائل علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه ومناقبه، التي يشترك معه فيها غيره من الصحابة رضي الله عنهم قد بينها ابن تيمية رحمه الله مثنياً بها على الجميع، ومحباً لجميع الصحابة في إثبات هذه الفضائل لهم، لكن الرافضة لما كان من منهجهم أنهم لا يثبتون منقبة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلا ويتبعونها بالغمز واللمز على غيره من الصحابة، سواء كانوا أفضل منه أو أقل منه في مرتبة الفضل، قابلهم ابن تيمية رحمه الله في مقام المناظرة لهم بأن لا يذكر فضيلة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلا ويذكر من شاركه من الصحابه فيها، ويركز على الخلفاء الراشدين الثلاثة قبله، مبيناً فضلهم، ومنزلتهم، وأنهم أحق بهذه الصفات والمناقب منه، فصفاتهم أكمل من صفاته، وإن كان هو أفضل من بقية الصحابة من غير الخلفاء الثلاثة قبله، فما من صفة ذم يذم بها الرافضة الخلفاء الراشدين الثلاثة، إلا ويلزمهم ابن تيمية رحمه الله بأن علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه أولى بالذم منهم، وما من صفة مدح من الرافضة له، إلا والثلاثة قبله أولى بالمدح منه، ويلاحظ أن ابن تيمية رحمه الله لم يذم علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه قط، لكن الرافضة يظنون أن بيان ابن تيمية رحمه الله مشاركة الصحابة علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه في بعض الصفات هو من باب الذم له، إلا أن ابن تيمية رحمه الله بين أن الرافضة هم الذين يذمون علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه في مواضع يظنون أنهم يمدحونه ويثنون عليه فيها، أو أنهم في المقابل يغلون في حبه، ويفرطون في ذلك(308) .
ومن الأمثلة على مقابلة ابن تيمية رحمه الله مدح الرافضة علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه بمدح الخلفاء الثلاثة، وذم الرافضة الخلفاء الثلاثة بأن علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه أولى بالذم - من باب الإلزام في المناظرة - ما يلي:(106/407)
قال رحمه الله: (من العجب أن الرافضة تنكر سب علي، وهم يسبون أبا بكر وعمر وعثمان، ويكفرونهم ومن والاهم.
ومعاوية رضي الله عنه وأصحابه ما كانوا يكفرون علياً، وإنما يكفره الخوارج المارقون، والرافضة شر منهم، فلو أنكرت الخوارج السب لكان تناقضاً منها، فكيف إذا أنكرته الرافضة؟
ولا ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة: لا علي ولا عثمان ولا غيرهما، ومن سب أبا بكر وعمر وعثمان فهو أعظم إثماً ممن سب علياً...)(309) .
وقال رحمه الله: (وإن قالوا بجهلهم: إن هذا الذنب(310) كفر، ليكفروا بذلك أبا بكر، لزمهم تكفير علي، واللازم باطل فالملزوم مثله، وهم دائماً يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان، بل ويكفرونهم بأمور قد صدر من علي ما هو مثلها، أو أبعد عن العذر منها، فإن كان مأجوراً أو معذوراً فهم أولى بالأجر والعذر)(311) .
وبيّن رحمه الله وسطيته في موقفه من الصحابة بين الخوارج والرافضة فقال: (وإذا كنا ندفع من يقدح في علي من الخوارج، مع ظهور هذه الشبهة(312) ، فلأن ندفع من يقدح في أبي بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى.
وإن جاز أن يظن بأبي بكر أنه كان قاصداً للرئاسة بالباطل، مع أنه لم يعرف منه إلا ضد ذلك، فالظن بمن قاتل على الولاية - ولم يحصل مقصوده - أولى وأحرى... فإذا كنا نظن بعلي أنه كان قاصداً للحق والدين، وغير مريد علواً في الأرض ولا فساداً، فظن ذلك بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما أولى وأحرى..
أما أن يقال: إن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد، وعلي لم يكن يريد علواً في الأرض ولا فساداً، مع ظهور السيرتين، فهذا مكابرة، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك..)(313) .(106/408)
وفي الجملة فإن محبة ابن تيمية رحمه الله صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآل بيته، وعلي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنهم ظاهرة معلومة، وواضحة لمن قرأ كتب شيخ الإسلام بإنصاف، وطلبٍ للحق، ولكنه الهوى يُعمي ويُصم { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [النجم: 23] .
المبحث الرابع
دعوى رد الأحاديث الصحيحة في مقام المبالغة
في توهين كلام الشيعة ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى رد الأحاديث الصحيحة
في مقام المبالغة في توهين كلام الشيعة
يرى المناوئون لابن تيمية - رحمه الله رحمة واسعة - أن هواه هو المقدم في الحكم على الحديث صحة وضعفاً، فيطعن فيها إذا كانت تخالف هواه ومعتقده، وإذا لم يستطع أن يطعن في سند الحديث فإنه يلجأ إلى التأويل للأحاديث الدالة على فضل علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه وآل البيت، حتى يخرجها عن معناها الذي أراده الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
يقول أحد المناوئين - لا كثرهم الله -: (هذا شأن ابن تيمية فإنه يحتج بالحديث الموضوع الذي يوافق هواه، ويحاول أن يصححه، ويضعف الأحاديث، والأخبار الثابتة المتواترة التي تخالف رأيه وعقيدته.. وهذا لا يستغرب صدوره من رجل بلع سموم الفلاسفة ومصنفاتهم)(314) .
وقال آخر: (ثم إنه يتناول الأحاديث الدالة على سعة علم علي عليه السلام.. بتأويلاته الباطلة حتى يكاد يخرجها عن معناها) (315).
وقال آخر: (صرح بكل جرأة ووقاحة، ولؤم ونذالة، ونفاق وجهالة أنه لم يصح في فضل علي عليه السلام حديث أصلاً، وأن ما ورد منها في الصحيحين لا يثبت له فضلاً ولا مزية على غيره)(316) .
ويذكرون أمثلة للأحاديث الصحيحة التي يرون أن ابن تيمية رحمه الله قد ضعفها في رده على الشيعة منها ما يلي:
1 - حديث تحريم فاطمة وذريتها على النار (أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن فاطمة أحصنت فرجها، فحرم الله ذريتها على النار)(317) .(106/409)
2 - حديث: (علي مع الحق، والحق يدور معه حيث دار)(318) .
3 - حديث سد الأبواب كلها إلا باب علي(319) .
4 - حديث (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون وموسى)(320) .
5 - حديث مؤاخاة علي(321) .
6 - حديث أنت مني وأنا منك(322) .
7 - حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها(323) .
8 - حديث أنت ولي كل مؤمن بعدي (324).
9 - حديث رد الشمس لعلي(325) .
10 - حديث: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه)(326) .
11 - حديث تصدق علي بخاتمه(327) .
إلى غير ذلك من الأحاديث التي يزعمون أنها تدل على فضل علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه وأن شيخ الإسلام رحمه الله ينكرها ويردها(328) .
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
يحذر ابن تيمية رحمه الله من اتباع الهوى، ويعتقد أن مبدأ أنواع الضلالات هو تقديم الهوى على الشرع، وأن أهل الأهواء أهون شيء عليهم هو الكذب المختلق، يقول رحمه الله: (فالحذر الحذر أيها الرجل من أن تكره شيئاً مما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو ترده لأجل هواك، أو انتصاراً لمذهبك، أو لشيخك..)(329) .
ويقول: (وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه)(330) .
وقال: (ومبدأ هذا من أقوال الذين يعارضون النصوص بآرائهم)(331) ، ثم نقل عن الشهرستاني(332) أن مبدأ أنواع كل الضلالات هو تقديم الرأي على النص، واختيار الهوى على الشرع(333) .
وذكر عن أهل الأهواء أنهم يعتمدون على نصوص غير موثوقة وغير معتمدة، ولا يعرف لها قائل، وأن أهون شيء عندهم الكذب المختلق(334) .(106/410)
ويضرب مثالاً على هذه القاعدة بالرافضة وأنهم وضعوا في فضائل علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه مالا يكاد يحصى مع أن في فضائله الصحيحة ما يغني عن هذا الباطل الذي يذكرونه، يقول رحمه الله: (والمقصود هنا أنه قد كذب على علي بن أبي طالب من أنواع الكذب الذي لا يجوز نسبته إلى أقل المؤمنين)(335) .
ويذكر أن الذي ينكر فضائل أهل البيت ويعاديهم هم الرافضة فيقول: (الرافضة من أعظم الناس قدحاً وطعناً في أهل البيت، وأنهم الذين عادوا أهل البيت في نفس الأمر، ونسبوهم إلى أعظم المنكرات، التي من فعلها كان من الكفار، وليس هذا ببدع من جهل الرافضة وحماقاتهم) (336).
وفي مقابل اتهام ابن تيمية رحمه الله بأنه يخالف الأحاديث الصحيحة: ينبه إلى أن الحق دائماً مع الأحاديث والآثار الصحيحة، إلا أن بعض المصنفات تجمع بين الصحيح والضعيف بل والموضوع بدون تمييز أو تمحيص، ولذا يجب التنبيه على ما فيها من أحاديث غير صحيحة، يقول رحمه الله: (وبالجملة فما اختص به كل إمام من المحاسن والفضائل كثير ليس هذا موضع استقصائه، فإن المقصود أن الحق دائماً مع سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآثاره الصحيحة)(337) .
وفي مقابل اتهام ابن تيمية رحمه الله برد الأحاديث الصحيحة؛ لأجل هوى في نفسه؛ أو لأجل المبالغة في توهين كلام الشيعة. ينبه رحمه الله على أن الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم (338).
وأما القول بأن ابن تيمية رحمه الله يرى أنه لا يصح في فضل علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه - حديث أصلاً - فهذا غير صحيح بنص كلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: (مجموع ما في الصحيح لعلي نحو عشرة أحاديث)(339) .(106/411)
ومما ورد في فضله من الأحاديث قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» ، قال: فبات الناس يدوكون (340)ليلتهم أيهم يعطاها قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟» ، فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: «فأرسلوا إليه» ، فأُتي به فبصق رسول الله في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» (341)
ومن فضائله: جعل محبته من علامات الإيمان لقوله رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلّى الله عليه وسلّم إليّ أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق)(342) .
وفي بيان علو منزلة علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه عند النبي صلّى الله عليه وسلّم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء إلى بيت فاطمة، فلم يجد علياً في البيت فقال: «أين ابن عمك؟» قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لإنسان: «انظر أين هو؟» فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مضطجع، وقد سقط رداؤه عن شقه، وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسحه عنه ويقول: «(قم أبا تراب، قم أبا تراب» (343).(106/412)
وقد جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى علي وفاطمة رضي الله عنهما وقد طلبت منه فاطمة خادماً لها فقال: «ألا أعلمكما خيراً مما سألتماني: إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعاً وثلاثين وتسبحا ثلاثاً وثلاثين، وتحمدا ثلاثاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم »(344) ، وغيرها من الأحاديث الصحيحة الدالة على فضله(345) .
يقول ابن تيمية رحمه الله عن حديث الراية: (هو أصح حديث يروى في فضله) (346).
إن ابن تيمية رحمه الله من الأئمة في الحديث دراية ورواية، وهو ناقد لمتون الأحاديث الضعيفة والموضوعة، كما هو ناقد للأسانيد وبارع في معرفتها، وتمييز الضعيف منها عن الصحيح، ولما كان الروافض من أجهل الناس في العقليات، وأكذبهم في النقليات(347) ، ولما كانت كتبهم مليئة بالأحاديث الموضوعة التي لا إسناد لها، أو الضعاف الواهيات: لم يركز ابن تيمية رحمه الله نقده على السند، لوضوح وضعه أو ضعفه عند المشتغلين بالفن، وركز على نقد المتن، ومخالفته للنصوص الأخرى الواردة في المسألة.
وقد وافق الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله ابن تيمية رحمه الله في أن معظم الأحاديث التي نقد ابن تيمية رحمه الله الرافضة فيها هي من قبيل الأحاديث الموضوعات والواهيات(348) .
إن شيخ الإسلام رحمه الله كان يكتب كثيراً من مؤلفاته من حفظه، فقد لا تكون مراجعه قريبة منه إما لسفر، أو سجن أو غيره (349)، وقد اعتذر الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله - عنه لابن تيمية رحمه الله - في أخطائه على أنه يكتب من حفظه، والإنسان بشر طبيعته النسيان بقوله: (لكنه رد في رده كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانها؛ لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره، والإنسان عامد للنسيان) (350).(106/413)
إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مع إجماع أهل العلم على إمامته في كثير من العلوم والفنون، وتمكنه منها، لم يسلم من بعض الأوهام والأخطاء - كغيره من أهل العلم - وهذه الأوهام اليسيرة، والأخطاء القليلة لا تلغي إمامته، ولا تبعد به عن مصاف كبار العلماء المحدثين ونقاد الحديث، ولكنه نقص البشر الذي لا يسلم منه أحد. وقد نقل ابن ناصر الدين (ت - 842هـ) رحمه الله عن أحد تلامذة الشيخ قوله: (وحسب شيخنا مع اتساعه في كل العلوم إلى الغاية والنهاية، سمعاً وعقلاً، ونقلاً وبحثاً، أن يكون نادر الغلط)(351) .
وأما الأحاديث المنتقدة على ابن تيمية رحمه الله التي مر ذكرها في المطلب الأول من هذا المبحث، فيحسن بي أن أبين رأي شيخ الإسلام فيها، وهل ادعاء المناوئين عليه صحيح أم هو جناية عليه؟، وذلك يتضح أثناء عرض موقف ابن تيمية رحمه الله من هذه الأحاديث.
الحديث الأول : أما حديث تحريم فاطمة (ت - 11هـ) رضي الله عنها وذريتها على النار، فيقول ابن تيمية رحمه الله عنه: (الحديث الذي ذكره (352)عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن فاطمة هو كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ويظهر كذبه لغير أهل الحديث - أيضاً - فإن قوله: إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار، يقتضي أن إحصان فرجها هو السبب لتحريم ذريتها على النار، وهذا باطل قطعاً)(353) .
ويذكر مثالاً لذلك بـ سارَّة، فإنها أحصنت فرجها، ولم يحرم الله جميع ذريتها على النار، ودليل ذلك قوله - سبحانه -: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ{112} وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 112، 113] .
وقال عزّ وجل: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26] .(106/414)
ثم قال: (وفي الجملة فاللواتي أحصن فروجهن لا يحصى عددهن إلا الله عزّ وجل ومن ذريتهن البر والفاجر، والمؤمن والكافر)(354) .
وينقد ابن تيمية رحمه الله المتن من جهة أخرى وهو أن إحصان فاطمة فرجها، ليس هو المزية والمنقبة لفاطمة التي فاقت فيها جمهور نساء المسلمين؛ لأن هذه الصفة يشترك معها جمع كبير من نساء المؤمنين فيقول: (وأيضاً: ففضيلة فاطمة ومزيتها ليست بمجرد إحصان فرجها، فإن هذا يشارك فيه فاطمة جمهور نساء المؤمنين، وفاطمة لم تكن سيدة نساء العالمين بهذا الوصف، بل بما هو أخص منه.. وأيضاً: فليست ذرية فاطمة كلهم محرّمين على النار، بل فيهم البر والفاجر) (355).
وأما الحديث الثاني : وهو حديث دوران الحق مع علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فقد قال ابن تيمية رحمه الله: (هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف)(356) .
وقال: (وأما الحق الذي يدور مع شخص ويدور الشخص معه، فهو صفة لذلك الشخص لا يتعداه، ومعنى ذلك أن قوله صدق وعمله صالح، ليس المراد به أن غيره لا يكون معه شيء من الحق)(357) .
وقال: (وأيضاً فالحق لا يدور مع شخص غير النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو دار الحق مع علي حيثما دار لوجب أن يكون معصوماً كالنبي صلّى الله عليه وسلّم...) (358).
وأما الحديث الثالث : وهو سد الأبواب إلا باب علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فقد قال ابن تيمية رحمه الله: (هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة، فإن الذي في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في مرضه الذي مات فيه: «إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لا تخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر »(359) )(360) .(106/415)
وقال رحمه الله حين ذكر الحديث الصحيح السابق: (وأراد بعض الكذابين أن يروي لعلي مثل ذلك، والصحيح لا يعارضه الموضوع)(361) .
وأما الحديث الرابع وهو حديث: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)، فقد قال عنه ابن تيمية رحمه الله: (الحديث ثبت في الصحيحين بلا ريب، وغيرهما، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له ذلك في غزوة تبوك)(362) .
وقال رحمه الله: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا غزا استخلف رجلاً من أمته، وكان بالمدينة رجال من المؤمنين القادرين، وفي غزوة تبوك لم يأذن لأحد فلم يتخلف أحد إلا لعذر أو عاصي، فكان ذلك الاستخلاف ضعيفاً، فطعن به المنافقون بهذا السبب، فبين له أني لم أستخلفك لنقص عندي، فإن موسى استخلف هارون، وهو شريكه في الرسالة، أفما ترضى بذلك؟) (363).
وكان هذا الحديث كأنه تسلية لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه حين توهم أن الاستخلاف نقص بقوله: أتخلفني مع النساء والصبيان؟، وأما من استخلفه الرسول صلّى الله عليه وسلّم على المدينة غيره لما لم يتوهموا أن في الاستخلاف نقصاً لم يحتج أن يخبرهم بمثل هذا الكلام، وليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى(364) .
وإن قيل: إن استخلافه صلّى الله عليه وسلّم لأحد يدل على أنه أفضل الصحابة بإطلاق، فيلزم من ذلك أن يكون علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه مفضولاً في عامة الغزوات، وفي عمرته وحجته، لا سيما وكل مرة كان يكون الاستخلاف على رجال المؤمنين، وأما عام تبوك، فلم يكن الاستخلاف إلا على النساء والصبيان، ومن عذر الله، أو من هو متهم بنفاق (365).
يقول ابن تيمية رضي الله عنه: (فبين النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الاستخلاف ليس نقصاً، ولا غضاضة، فإن موسى استخلف هارون على قومه لأمانته عنده، وكذلك أنت استخلفتك لأمانتك عندي، لكن موسى استخلف نبياً، وأنا لا نبي بعدي، وهذا تشبيه في أصل الاستخلاف..)(366) .(106/416)
وأما الحديث الخامس وهو حديث المؤاخاة: فيرى أنه باطل موضوع، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، قال رحمه الله: (أما حديث المؤاخاة فباطل موضوع، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤاخ أحداً، ولا آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض، ولا بين الأنصار بعضهم مع بعض)(367) .
وقال: (إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤاخ علياً ولا غيره، وحديث المؤاخاة لعلي، ومؤاخاة أبي بكر لعمر من الأكاذيب، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار، ولم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري)(368) . وقال: (أحاديث المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض، والأنصار بعضهم مع بعض كلها كذب، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤاخ علياً، ولا آخى بين أبي بكر وعمر، ولا بين مهاجري ومهاجري)(369) .
وأما الحديث السادس ، وهو قوله: (أنت مني وأنا منك)، فيرى أن هذا الحديث صحيح، لكنه ليس خاصاً بعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه. وإنما شاركه في هذه المنقبة غيره، فأثبت صحة الحديث في مواضع متعددة (370). وأما استدلاله على أن هذه المنقبة ليست من خصائص علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فقد ذكر حديث الأشعريين (إن الأشعريين إذا أرملوا(371) في الغزو أو نفدت نفقة عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد، ثم قسموه في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم )(372) .
وقال صلّى الله عليه وسلّم لجليبيب(373) : « هذا مني وأنا منه »(374) وكل مؤمن هو من النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما قال الخليل: { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [إبراهيم: 36] ، وقال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } [البقرة: 249] .(106/417)
وأما الحديث السابع : أنا مدينة العلم وعلي بابها فيرى ابن تيمية رحمه الله أنه في عداد الأحاديث الموضوعة، فيقول عنه: (وأما حديث أنا مدينة العلم فأضعف وأوهى، ولهذا إنما يعد في الموضوعات المكذوبات، وإن كان الترمذي قد رواه، ولهذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وبين أنه موضوع من سائر طرقه)(375) وينقد المتن فيقول: (والكذب يعرف من نفس متنه، لا يحتاج إلى النظر في إسناده، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كان مدينة العلم لم يكن لهذه المدينة إلا باب واحد، ولا يجوز أن يكون المبلغ عنه واحداً، بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب.. وهذا الحديث إنما افتراه زنديق أو جاهل: ظنه مدحاً) (376).
وقال: (ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر: فإن جميع مدائن المسلمين بلغهم العلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غير طريق علي رضي الله عنه...)(377) .
وأما الحديث الثامن : أنت ولي كل مؤمن بعدي، فقد قال ابن تيمية رحمه الله عن هذا الحديث: (كذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل هو في حياته وبعد مماته ولي كل مؤمن، وكل مؤمن وليه في المحيا والممات، فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان... فقول القائل: علي ولي كل مؤمن بعدي: كلام يمتنع نسبته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه إن أراد الموالاة لم يحتج أن يقول: بعدي، وإن أراد الإمارة كان ينبغي أن يقول: والٍ على كل مؤمن) (378).(106/418)
وأما الحديث التاسع : وهو رد الشمس لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فقد أطال ابن تيمية رحمه الله في بيان ضعف الحديث بل وضعه (379)، فقال عنه: (وليس هذا الحديث في شيء من كتب المسلمين التي يعتمدون على ما فيها من المنقولات لا الصحاح ولا المساند، ولا المغازي ولا السير، ولا غير ذلك، بل بين أهل العلم بالحديث أن هذا كذب، وليس له إسناد واحد صحيح متصل، بل غايته: أن يروى عمن لا يعرف صدقه، ولم يروه إلا هو، مع توفر الهمم والدواعي على نقله..)(380) .
وقد أطال رحمه الله في نقد أسانيد الحديث، وبين أن كل أسانيد هذا الحديث لا تخلو من ضعف شديد: ذاكراً أحوال الرجال في كل سند من أسانيده(381) ومعقباً ذلك بذكر الاضطراب الحاصل بين الروايات المختلفة(382) .
وفي نقده متن الحديث قال: (لا يعرف قط أن الشمس رجعت بعد غروبها...
وإن كانت الشمس احتجبت بغيم، ثم ارتفع سحابها، فهذا من الأمور المعتادة، ولعلهم ظنوا أنها غربت، ثم كشف الغمام عنها)(383) .
وقال: (النبي صلّى الله عليه وسلّم فاتته العصر يوم الخندق حتى غربت الشمس، ثم صلاها، ولم ترد عليه الشمس، وكذلك لم ترد لسليمان لما توارت بالحجاب، وقد نام النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه علي وسائر الصحابة عن الفجر حتى طلعت الشمس، ولم ترجع لهم إلى المشرق.
وإن كان التفويت محرماً، فتفويت العصر من الكبائر، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله »(384) ، وعلي كان يعلم أنها الوسطى وهي صلاة العصر، وهو قد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين لما قال: «شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، حتى غربت الشمس، ملأ الله أجوافهم وبيوتهم ناراً» (385)، وهذا كان في الخندق، وخيبر بعد الخندق...) (386) .(106/419)
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة يريد أن يبني بها ولما يبن، ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سقفه، ولا آخر اشترى غنماً وهو ينتظر ولادها، قال: فغزوا، فدنا من القرية، حتى صلى العصر قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئاً، فحُبست عليه حتى فتح الله عليه »(387).
ويفرق ابن تيمية رحمه الله بين هذا الحديث، وحديث رد الشمس لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه بعدة فروق منها:
أن يوشع لم تُرد له الشمس، ولكن تأخر غروبها: طُوِّل له النهار، وهذا قد لا يظهر للناس، فإن طول النهار وقصره لا يدرك، ونحن إنما علمنا وقوفها ليوشع بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأيضاً: لا مانع من طول النهار، لو شاء الله لفعل ذلك، ويوشع كان محتاجاً إلى ذلك؛ لأن القتال كان محرماً عليه بعد غروب الشمس؛ لأجل ما حرم الله عليهم من العمل ليلة السبت ويوم السبت، وأما أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فلا حاجة لهم إلى ذلك، ولا منفعة لهم فيه(388) .
وأما الحديث العاشر: من كنت مولاه فعلي مولاه، فيرى شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه اللفظة ليست في الصحاح، لكن هي مما رواه العلماء، وقد تنازع الناس في صحتها (389).
وأما زيادة (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)، فيرى أنها كذب بلا ريب(390) ، وقد وافق في ذلك ابن حزم (ت - 456هـ) رحمه الله في تضعيفه هذا الحديث (391).
والواقع يدل على خلاف الحديث؛ فقوله: (اللهم انصر من نصره...) يدل الواقع على خلافه، فقد قاتل معه أقوام يوم صفين فما انتصروا، وأقوام لم يقاتلوا فما خذلوا كسعد (ت - 55هـ) رضي الله عنه الذي فتح العراق، ولم يقاتل معه، ومن جهة أخرى: أصحاب معاوية (ت - 60هـ) رضي الله عنه وبنو أمية الذين قاتلوه: فتحوا كثيراً من بلاد الكفار ونصرهم الله.(106/420)
وأما قوله: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه: فهو مخالف لأصل الإسلام، فإن القرآن قد بين أن المؤمنين إخوة مع قتالهم، وبغي بعضهم على بعض(392) .
وأما الحديث الحادي عشر : وهو تصدق علي بخاتمه في الصلاة: فقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أنه حديث موضوع مكذوب على رسول الله، فقال: (وحديث التصدق بالخاتم بالصلاة كذب باتفاق أهل المعرفة)(393) ، وقال رحمه الله: (وقد وضع بعض الكذابين حديثاً مفترى أن هذه الآية(394) نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة، وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل) (395).
ثم نقد المتن من وجوه كثيرة منها:
1 - أن قوله: (الذين) في الآية صيغة جمع، وعلي واحد.
2 - أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب، وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجباً ولا مستحباً باتفاق علماء الملة، فإن في الصلاة شغلاً.
3 - لو كان إيتاء الزكاة في الصلاة حسناً لم يكن فرق بين حال الركوع، وغير حال الركوع، بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن.
4 - أن عليّاً (ت - 40هـ) رضي الله عنه لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
5 - أن عليّاً (ت - 40هـ) رضي الله عنه لم يكن له خاتم، ولا كان الصحابة يلبسون الخواتم.
6 - أن الحديث فيه أنه أعطى الخاتم للسائل، والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء، ويخرجها على الفور، لا ينتظر أن يسأله سائل (396).
وفي الجملة فإن الأحاديث التي يدعي المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه ضعفها تنقسم إلى أقسام: إما أحاديث صحيحة تثبت منقبة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه، منهم من يرى أنها خاصة به، وابن تيمية يرى أنه يشركه في هذه الصفة غيره، وإما أحاديث واهية موضوعة أو ضعيفة، أو ضعفها ابن تيمية رحمه الله وهم يرون تصحيحها وإما أحاديث صحيحة وهم ابن تيمية رحمه الله في تضعيفها بسبب اعتماده في تأليفه على الحفظ - وهي قليلة جدّاً -(397) .
الفصل السابع
مسألة دوام النار(106/421)
المبحث الأول: دلالة نصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة على خلود النار.
المبحث الثاني: دعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار ومناقشتها.
المبحث الأول
دلالة نصوص الكتاب والسنة على خلود النار
دلت النصوص على خلود النار، من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة: فمن الكتاب قول الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [البقرة: 161 - 162] . ففي هذه الآية دلالة على أن عذاب أهل النار لا ينقطع أبداً، ولا يخفف عنهم العذاب فيها فهم في عذاب مستمر.
قال ابن جرير الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله: (خبر من الله تعالى ذكره، عن دوام العذاب أبداً من غير توقيت ولا تخفيف) (1).
وقال ابن عطية (2) رحمه الله: (ثم أعَلَم - تعالى - برفع وجوه الرفق عنهم؛ لأن العذاب إذا لم يخفف ولم يؤخر فهو النهاية) (3).
وقال ابن كثير (ت - 774هـ) رحمه الله: (لا يخفف عنهم العذاب فيها أي لا ينقص عما هم فيه، ولا هم ينظرون أي لا يغير عنهم ساعة واحدة، ولا يفتر بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك) (4).
وقال أبو السعود (5) رحمه الله: (ولا هم ينظرون: إيثار الجملة الاسمية لإفادة دوام النفي واستمراره أي لا يمهلون، ولا يؤجلون) (6).(106/422)
وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [البقرة: 167] . أي أن هؤلاء الكفار وإن ندموا، واشتدت ندامتهم على أعمالهم الخبيثة، فلا ينفعهم ذلك، ولن يخرجوا من النار، ويؤكد الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله هذا المعنى راداً على من زعم أن النار تفنى بقوله: (وفي هذه الآية الدلالة على تكذيب الله الزاعمين أن عذاب الله أهل النار من أهل الكفر منقضٍ، وأنه إلى نهاية، ثم هو بعد ذلك فانٍ؛ لأن الله - تعالى ذكره - أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم ختم الخبر عنهم بأنهم غير خارجين من النار، بغير استثناء منه وقتاً دون وقت، فذلك إلى غير حد ولا نهاية) (7).
ويقول القرطبي (ت - 671هـ) رحمه الله عن هذه الآية: (دليل على خلود الكفار فيها، وأنهم لا يخرجون منها) (8).
وقال عزّ وجل: { ِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } [النساء: 168 - 169] ، فهذا مصير الكفار، وطريقهم في الآخرة: جهنم يدخلونها، ويخلدون فيها لا يخرجون منها، وهذا يسير على الله عزّ وجل فلا يقدر أحد من الكفار أن يمتنع من ذلك، ولا يستطيع أحد أن يمنع الله من ذلك الفعل، فالخلق خلقه، والأمر أمره، يقول الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله عن هذه الآية (يقول: مقيمين فيها أبداً) (9).(106/423)
ومن أدلة أهل السنة على عدم فناء النار من القرآن، قول الله - تبارك وتعالى -: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [المائدة: 36 - 37] ، فقد أخبر الله عن الكفار أنهم باقون في النار وعذابهم دائم لا يتخلف ولا ينقطع، يقول شيخ المفسرين أبو جعفر ابن جرير الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله: (يريد هؤلاء الذين كفروا بربهم يوم القيامة أن يخرجوا من النار بعد دخولها، وما هم بخارجين منها، (ولهم عذاب مقيم) يقول: لهم عذاب دائم ثابت لا يزول عنهم، ولا ينتقل أبداً) (10).
وقال ابن عطية (ت - 546هـ) رحمه الله: (أخبر - تعالى - عن هؤلاء الكفار أنهم ليسوا بخارجين من النار بل عذابهم فيها مقيم متأبد) (11).
وقال القرطبي (ت - 671هـ) رحمه الله: (معناه: دائم ثابت لا يزول ولا يحول) (12).
ومنها قوله تعالى: { َيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } [الأنعام: 128] ، فبين الله عزّ وجل أن مصير عبدة الأوثان هو النار يستقرون فيها أبداً، ويفسر ابن جرير (ت - 310هـ) رحمه الله الاستثناء في الآية بقوله: (يعني إلا ما شاء الله من قَدْر مدة ما بين مبعثهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم، فتلك المدة التي استثناها الله من خلودهم في النار) (13)، وهناك أقوال أخرى في معنى الاستثناء في هذه الآية ليس هذا موضع ذكرها (14).(106/424)
ومن الأدلة - أيضاً - قول الله - تبارك وتعالى -: { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 106 - 107] ، وهذه الآية هي التي أطال فيها المفسرون.
ويفسر ابن جرير (ت - 310هـ) رحمه الله ربط خلود أهل النار في النار بدوام السماوات والأرض بأنها للتأبيد (ذلك أن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبداً قالت: هذا دوام السماوات والأرض، بمعنى أنه دائم أبداً.. فخاطبهم - جل ثناؤه - بما يتعارفون به بينهم) (15) ، ويشهد لذلك قول زهير :(16)
ألا لا أرى على الحوادث بواقيا *** ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا(17)
وقيل: إنها سماوات الآخرة وأرضها لبقائها على الأبد(18) ، ودليل ذلك قول الله عزّ وجل: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } [إبراهيم: 48] ، وقوله تعالى: { وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} [الزمر: 74] .
وأما الاستثناء في هذه الآية فقد توقف عنده المفسرون طويلاً (19)، وحاصل أقوالهم ما يلي:
1 - خالدين فيها ما دامت سماء الدنيا وأرضها إلا ما شاء ربك من الزيادة عليها بعد فناء مدتها.
2 - ما دامت سماوات الآخرة وأرضها إلا ما شاء ربك من قدر وقوفهم في القيامة.
3 - ما دامت السماوات والأرض، أي مدة لبثهم في الدنيا.
4 - خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك من أهل التوحيد أن يخرجهم منها بعد إدخالهم إليها، فيكونون أشقياء في النار سعداء في الجنة، ويشهد لهذا قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحمحمة(20) أخرجوا منها وأدخلوا الجنة فيقال لهم: الجهنميون»(21) ، ويرى الطبري (ت - 310هـ) وابن كثير (ت - 774هـ) - رحمهما الله - أن هذا هو القول الصواب(22) .(106/425)
5 - إلا ما شاء الله من أهل التوحيد أن لا يدخلهم إليها.
6 - إلا ما شاء ربك من كل من دخل النار من موحد ومشرك أن يخرجه منها إذا شاء.
7 - أن الاستثناء راجع إلى قوله: { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [هود: 106] إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي ليست بزفير ولا شهيق ممالم يسم ولم يوصف، ومما قد سُمّي ووصف، ثم استأنف { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } [هود: 107] .
8 - أن الاستثناء واقع على معنى: لو شاء ربك أن لا يخلدهم لفعل، ولكن الذي يريده، ويشاؤه، ويحكم به تخليدهم(23) .
وقد أجاب ابن عطية (ت - 546هـ) رحمه الله على من فهم من هذا الاستثناء أن جهنم تخرب، ويعدم أهلها بقوله: (هذا قول مختل، والذي روي ونقل عن ابن مسعود وغيره، إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين، وهو الذي يسمى جهنم، وسمي الكل به تجوزاً)(24) .
وقال أبو السعود (ت - 951هـ) رحمه الله عن الاستثناء في الآية: (استثناء من الخلود على طريقة قوله تعالى: { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } [الدخان: 56] ، وقوله: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [النساء: 22] ، وقوله تعالى: { حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } [الأعراف: 40] ، غير أن استحالة الأمور المذكورة معلومة بحكم العقل، واستحالة تعلق المشيئة بعدم الخلود معلومة بحكم النقل يعني أنهم مستقرون في النار في جميع الأزمنة إلا زمان مشيئة الله - تعالى - لعدم قرارهم فيها، إذ لا إمكان لتلك المشيئة ولا لزمانها بحكم النصوص القاطعة الموجبة للخلود فلا إمكان لانتهاء مدة قرارهم)(25) .(106/426)
ومن الأدلة القرآنية على عدم فناء النار قول الحق - تبارك وتعالى -: { وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء: 97] ، وهذه الآية تفيد بقاء أهل النار في النار أو أن النار باقية، لقوله: (كلما) التي تفيد التعميم والاستمرار، ومعنى (خبت) عند المفسرين وجهان:
أحدهما : كلما طفئت أوقدت.
ثانيهما : كلما سكن التهابها زدناهم سعيراً والتهاباً، وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم، ولا تخفيف من عذابهم(26) .
وقال تعالى:{إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى}[طه:74].
فهذه الآية دلالتها على عدم فناء النار، واستمرار العذاب فيها، مثل دلالة قوله تعالى: { لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36] ، وقوله: { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 11 - 13] ، ويذكر الماوردي(27) رحمه الله أن هذا السياق يحتمل وجهين:
أحدهما : لا ينتفع بحياته، ولا يستريح بموته.
الثاني : أن نفس الكافر معلقة بحنجرته، كما أخبر الله عنه، فلا يموت بفراقها ولا يحيا باستقرارها(28) .(106/427)
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 65 - 66] ، فعذاب الآخرة ملازم دائم لمن هو خالد في النار من الكفار، ولذا يقول الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله: (إن عذاب جهنم كان غراماً ملحاً دائماً لازماً غير مفارق من عذِّب به من الكفار، ومهلكاً له)(29) ، ومنه سمي الغريم لملازمته لغارمه. ومنه قول الأعشى(30) :
إن يعاقب يكن غراماً وإن يعـ *** ـط جزيلاً فإنه لا يبالي(31)
وقال تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] ، ففي هذه الآية دلالة على استقرار الكفار في النار، وأنها دائمة، فكلما أرادوا أن يخرجوا من شدة العذاب، ولأن لهب جهنم يدفعهم إلى أعلاها، ثم يضربون بمقامع من حديد ليعودوا فيها، ويقال لهم من باب التقريع والتوبيخ: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون(32) ، وهم مستمرون في ذلك أبد الآباد.
ومن الآيات قول الله - تبارك وتعالى -: { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} [الأحزاب: 64 - 65] ، فالكافر في السعير، ومكثه مؤبد فيها، لا يخرج منها أبداً، يقول ابن جرير (ت - 310هـ) رحمه الله: (ماكثين في السعير أبداً إلى غير نهاية)(33) ويقول ابن كثير (ت - 774هـ) رحمه الله: (ما كثين مستمرين فلا خروج لهم منها، ولا زوال لهم عنها)(34) .(106/428)
ومن الأدلة لأهل السنة والجماعة على عدم فناء النار - قول الله تعالى -: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [الزخرف: 74 - 78] ، فهم خالدون في عذاب دائم لا يخفف عنهم، ولا يخرجون منه، جزاء وفاقاً، فينادون خازن النار طالبين الموت، فيتركهم ولا يجيبهم ما شاء الله من السنين ثم يأتيهم الجواب الذي يزيدهم في العذاب، ويخبرهم بالبقاء في النار والمكوث فيها، فيلجأ الكفار مستغيثين بربهم { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] ، - فيرد عليهم - رب العزة والجلال - { قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108](35) .
وقال تعالى: { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ: 21 - 23] ، أي أن النار موضع أهل الكفر، وهي مآلهم ومرجعهم، فإذا دخلوا فيها لا يخرجون منها، فهم لا بثون مقيمون فيها أبداً.
وذكر المفسرون لهذه الآيات معنيين:
المعنى الأول: أن الأحقاب مُدَدٌ طويلة، وآجال متعددة لا تنقطع، ولا نهاية لها، قال الماوردي (ت - 450هـ) رحمه الله: (كلما مضى حقب جاء حقب، وكذلك إلى الأبد)(36)(106/429)
وقال القرطبي (ت - 671هـ) رحمه الله في كلام طويل له: (ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حقب جاء حقب.. والمعنى في الآية: لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها.. وذكر الأحقاب لأن الحُقُب كان أبعد شيء عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أذهانهم ويعرفونها، وهي كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبداً.. وإنما المعنى - و الله أعلم - ما ذكرناه أولاً: أي لابثين فيها أزماناً ودهوراً، كلما مضى زمن يعقبة زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع)(37) ، وقال القاسمي(38) رحمه الله: (أي دهوراً متتابعة إلى غير نهاية)(39) .
وأما المعنى الثاني فهو: أنهم يلبثون أحقاباً ومدداً طويلة على نوع من العذاب، ثم يحدث الله لهم أنواعاً أخرى من العذاب، ويميل إلى هذا الإمام الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله إذ يقول: (يحتمل أن يكون معنى ذلك: لابثين فيها أحقاباً في هذا النوع من العذاب أنهم: { لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً } [النبأ: 24 - 25] ، فإذا انقضت تلك الأحقاب صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك، كما قال - جل ثناؤه - في كتابه: { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ *جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ص~: 55 - 58] ، وهذا القول عندي أشبه بمعنى الآية)(40) ، وقال الشوكاني (ت - 1250هـ) رحمه الله: (الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب)(41) . وكلا المعنيين يدل على التأبيد والخلود، فلا انقضاء لعذابهم، ولا يخفف عنهم من عذابها. نسأل الله السلامة والعافية.(106/430)
والآيات في إثبات خلود أهل النار في النار، وأنهم لا يخرجون منها كثيرة جداً - غير ما ذكرت - فمنها قول الله سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39] ، وقال - سبحانه -: { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] ، ومنها قوله - تبارك وتعالى -: { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] ، وقال عزّ وجل: { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257] ، وقال سبحانه: { وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] ، وقال تعالى: { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [آل عمران: 88] ، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 116] ، وقال: { وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14] ، وقال تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63] ، وقال - سبحانه -: { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ(106/431)
فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [التوبة: 68] ، وقال تعالى: { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن: 23] .
والآيات كثيرة وصريحة في بيان أن أهل النار خالدون في النار خلوداً مؤبداً، وأن العذاب لا يخفف عنهم، وأنهم لا يخرجون من النار، وأنه كلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها زيادة لهم في العذاب، وأن هذا العذاب ليس مصروفاً عنهم، وأنهم ليس لهم في الآخرة إلا النار فلا يخرجون منها، وأنهم لا يقضى عليهم فيموتوا، وأن عذابهم مقيم دائم، وأن النار مؤصدة عليهم، نسأل الله أن يحفظنا بحفظه، وأن يجيرنا من عذاب النار، إنه سميع مجيب.
وأما الأحاديث الدالة على بقاء النار، واستمرار عذاب الكفار فيها فهي كثيرة - أيضاً - ومنها: قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون »(42) ، قال الإمام النووي (ت - 676هـ) رحمه الله: (الظاهر والله أعلم من معنى الحديث أن الكفار الذين هم أهل النار، والمستحقون للخلود لا يموتون فيها، ولا يحيون حياة ينتفعون بها، ويستريحون معها، كما قال الله تعالى: { لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] ، وكما قال تعالى: { ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 13] ، وهذا جار على مذهب أهل الحق أن نعيم أهل الجنة دائم وأن عذاب أهل الخلود في النار دائم)(43) .(106/432)
وقال عليه الصلاة والسلام: «يجاء بالموت يوم القيامة، كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال. يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون ، وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: ويقال: يا أهل النار: هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون(44) وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، قال: ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] ، وأشار بيده إلى الدنيا»(45) .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يُدخل الله أهل الجنة الجنة، ويُدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه» (46).
وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وصار أهل النار إلى النار، أُتي بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم»(47).
وقال صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة الطويل: «.. فأقول: يارب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن - أي وجب عليه الخلود -»(48) .(106/433)
قال الإمام النووي (ت - 676هـ) رحمه الله: (أي وجب عليه الخلود، وبيّن مسلم رحمه الله أن قوله: أي وجب عليه الخلود هو تفسير قتادة(49) الراوي(50) ، وهذا التفسير صحيح ومعناه: من أخبر القرآن أنه مخلد في النار وهم الكفار، كما قال الله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [النساء: 48، 116] ، وفي هذا دلالة لمذهب أهل الحق، وما أجمع عليه السلف أنه لا يخلد في النار أحد مات على التوحيد والله أعلم)(51) . وقال الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله في معنى إلا من حبسه القرآن: (أي من أخبر القرآن أنه يخلد في النار)(52) .
وأما أقوال سلف الأمة وعلمائها في تقرير عقيدة خلود النار وبقائها أبد الآباد، وأنها لا تفنى، فهي متواترة يتلقاها اللاحق عن السابق، ولعلي أتوقف قليلاً؛ لأذكر نماذج من مقولاتهم في تقرير هذه العقيدة:
قال إمام أهل السنة الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله: (وإن الله خلق الجنة قبل الخلق، وخلق لها أهلاً، ونعيمها دائم، ومن زعم أنه يبيد من الجنة شيء فهو كافر، وخلق النار قبل خلقه الخلق، وخلق لها أهلاً وعذابها دائم)(53) .
وقال أبو زرعة الرازي (ت - 264هـ) ، وأبو حاتم الرازي (ت - 273هـ) - رحمهما الله -: (والجنة حق، والنار حق، وهما مخلوقان لا يفنيان أبداً، والجنة ثواب لأوليائه، والنار عقاب لأهل معصيته إلا من رحم الله عزّ وجل)(54) .
وقال الطحاوي(55) رحمه الله: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً، ولا تبيدان) (56).
وقال الإمام البربهاري (ت - 329هـ) رحمه الله: (وكل شيء مما أوجب الله عليه الفناء يفنى، إلا الجنة والنار، والعرش والكرسي، والصور، والقلم، واللوح ليس يفنى شيء من هذا أبداً)(57) .
وقال الإمام الآجري (ت - 360هـ) رحمه الله: (وقد ذكر الله عزّ وجل في كتابه أهل النار الذين هم أهلها، يخلدون فيها أبداً.. وأن أهل النار الذين هم أهلها في العذاب الشديد أبداً)(58) .(106/434)
وقال ابن أبي زمنين (ت - 399هـ) رحمه الله: (وأهل السنة يؤمنون بأن الجنة والنار لا يفنيان، ولا يموت أهلوها... ولو لم يذكر الله - تبارك وتعالى - الخلود إلا في آية واحدة لكانت كافية لمن شرح الله صدره للإسلام، ولكن ردد ذلك ليكون له الحجة البالغة)(59) .
وقال الإمام الصابوني (ت - 449هـ) رحمه الله: (ويشهد أهل السنة: أن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما باقيتان، لا يفنيان أبداً، وأن أهل الجنة لا يخرجون منها أبداً، وكذلك أهل النار الذين هم أهلها خلقوا لها، لا يخرجون منها أبداً)(60) .
وقد نقل ابن حزم (ت - 456هـ) رحمه الله الاتفاق والإجماع على أن الجنة والنار باقيتان، لا تفنيان، فقال: (اتفقت فرق الأمة كلها على أنه لا فناء للجنة ولا لنعيمها، ولا للنار ولا لعذابها..)(61) .
وقال في مراتب الإجماع: (وأن النار حق، وأنها دار عذاب أبداً، لا تفنى ولا يفنى أهلها أبداً بلا نهاية، وأنها أعدت لكل كافر مخالف لدين الإسلام) (62) ، وقال الأصبهاني (ت - 535هـ) رحمه الله: (والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان؛ لأنهما خلقتا للأبد لا للفناء)(63).
وقال - أيضاً -: (وليس تفنى الجنة والنار والعرش والكرسي واللوح والقلم، والصور، ليس يفنى شيء من هذه الأشياء)(64) .
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي (ت - 600هـ) رحمه الله: (والإيمان بأن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً، خلقتا للبقاء لا للفناء، وقد صح في ذلك أحاديث عدة)(65) .
وقال ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة مأوى لأوليائه، والنار عقاب لأعدائه، وأهل الجنة مخلدون)(66) .(106/435)
وقال القرطبي (ت - 671هـ) رحمه الله بعد أن ذكر الأحاديث الدالة على الخلود لأهل الدارين فيها: (هذه الأحاديث مع صحتها نص في خلود أهل النار فيها، لا إلى غاية ولا إلى أمد، مقيمين على الدوام والسرمد من غير موت ولا حياة، ولا راحة ولا نجاة...، فمن قال: إنهم يخرجون منها، أو أن النار تبقى خالية بجملتها خاوية على عروشها، وأنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى العقول، ومخالف لما جاء به الرسول، وما أجمع عليه أهل السنة والأئمة العدول)(67) .
وقال مرعي الحنبلي (ت - 1033هـ) رحمه الله: (اعلم - وفقك الله تعالى - أن مذهب أهل الحق هو الحق في كل مسألة، ومذهبهم أن الجنة والنار موجودتان الآن خلافاً للمعتزلة، وإنما هما باقيتان لا يفنيان، ولا يفنى أهلهما خلافاً للجهمية حيث ذهبوا إلى أنهما يفنيان ويفنى أهلهما)(68) .
وقال السفاريني(69) رحمه الله: في الدرة المضية:
واجزم بأن النار كالجنة في *** وجودها وأنها لم تتلف(70)
وقال الصنعاني(71) رحمه الله: (إن هذه المسألة وهي فناء النار لا تعرف في عصر الصحابة، ولا دارت بينهم، فليس نفي ولا إثبات، بل الذي عرفوه فيها هو ما في الكتاب والسنة من خلود أهل النار أبداً، وأن أهلها ليسوا منها بمخرجين، وعرفوا ما ثبت من خروج عصاة الموحدين)(72) .
وقال صديق حسن خان(73) رحمه الله: (والجنة دار أوليائه، والنار عقابه لأعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون، والمجرمون في عذاب جهنم { لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75] ، وقد خلقت الجنة وما فيها، وخلقت النار وما فيها، خلقهما الله عزّ وجل قبل القيامة، وخلق لهما، ولا يفنيان أبداً)(74) .
وقال الشيخ حافظ حكمي(75) رحمه الله:
والنار والجنة حق وهما *** موجودتان لا فناء لهما(76)
ويعتقد الشيح حافظ (ت - 1377هـ) رحمه الله في الجنة والنار: (دوامهما وبقاؤهما بإبقاء الله لهما، وأنهما لا تفنيان أبداً، ولا يفنى من فيهما)(77) .(106/436)
هذه نقولات لبعض مقولات سلف الأمة وعلمائها تبين عقيدة أهل السنة والجماعة في أبدية الجنة، وأبدية النار، وأن الله خلقهما للبقاء، لا للفناء، وقد آثرت إكثار النقل عن أئمة أهل السنة والجماعة، على مختلف العصور ليتبين أن هذه المسألة - أي أبدية النار - هي من العقائد المتواترة، المجمع عليها، والراسخة على مر العصور بين علماء أهل السنة والجماعة، ومن اعتمد على غير هذا القول فهو مائل عن الجادة، وغاية مستنده ومعتمده النصوص الضعيفة، أو الاستدلالات الواهية، أو الأقيسة العقلية الفاسدة وهذا ما سيتبين في هذا المبحث - إن شاء الله -:
وقبل مناقشة القائلين بفناء النار يحسن بي أن أعرض لمذاهب الناس في هذه المسألة، وهي ما نقلها أهل العلم في كتبهم، وهي ثمانية مذاهب:
الأول: أن كل من دخل النار لا يخرج منها أبد الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة، بناء على أصلهم الفاسد، في تكفير مرتكب الكبيرة، وإنكار الشفاعة.
الثاني : أن أهل النار يعذبون فيها، ثم تنقلب طبيعتهم، وتبقى طبيعة نارية يتلذذون بها؛ لموافقتها لطبعهم، وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي (ت - 638هـ)(78) .
الثالث : أن أهل النار يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد أكذبهم الله - تعالى - في كتابه الكريم فقال: { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 80 - 81] .
الرابع : أن أهل النار يخرجون من النار بعد حين، ثم تبقى النار على حالها ليس فيها أحد (79).(106/437)
الخامس : أن النار تفنى بنفسها؛ لأنها حادثة، وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه، وهذا قول الجهم (ت - 128هـ) ، ومن وافقه، وهؤلاء يقولون بفناء الجنة والنار.
السادس : أن الفناء يكون لحركات أهل النار، لا للنار، فيصير أهل النار جماداً، لا يحسون بألم، وهذا قول أبي الهذيل العلاف (ت - 235هـ) (80).
السابع : أن الله يخرج منها من يشاء، كما ورد في السنة ثم يبقيها ما يشاء ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه، وهؤلاء يقولون بفناء النار فقط(81) .
الثامن : أن الله - تعالى - يخرج منها من يشاء، كما ورد في السنة، ويبقي فيها الكفار، بقاءً أبدياً لا انقضاء له(82).
هذه مذاهب الناس في أبدية النار، أو فنائها، وسيكون النقاش للمذهب السابع الذي يرى دخول الكفار، وعصاة المؤمنين في النار، ويرى أن عصاة المؤمنين يعذبون ما شاء الله أن يعذبوا، ثم يخرجون بعد انقضاء مدة تطهيرهم، أو يخرجون من النار، بشفاعة الشافعين، وأما الكفار فإنهم يمكثون في النار آماداً طويلة إلى أن يأذن الله بفناء النار، فتفني، وينتهي العذاب.
فالآيات التي استدل بها القائلون بفناء النار، وهي آية سورة هود، وسورة النبأ، وغيرها، وقد مرَّ في بداية هذا المبحث ذكرها، وذكر أقوال المفسرين في بيان أنه لا دلالة لهم فيما استدلوا به، وإنما تدل على أن النار باقية لا تفنى كالجنة، ويمكن الوقوف بعض الوقفات - إضافة إلى ما ذُكر - في استدلالهم بالآيات على فناء النار:
أ - أن الآيات المجملة التي فرح بها القائلون بفناء النار، قد بينتها النصوص الأخرى من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية التي صرحت بأن أهل النار خالدون فيها أبداً، وظاهرها أنه خلود لا انقطاع له(83) .(106/438)
ب - أن القائلين بفناء النار، قد فرّقوا بين النصوص الشرعية من حيث الدلالة من غير مفرِّق، أو مرجح، فقد ذكر الله الخلود في كتابه الكريم لأهل الجنة ولأهل النار، والخلود الذي علمنا به من النصوص الشرعية بقاء الجنة قد ذكر مثله في النار، وليس هناك دليل يصار إليه، وركن من الأدلة ركين يعتمد عليه في التفريق، خاصة إذا علمنا أن الخلود في كتب اللغة: (دوام البقاء في دار لا يخرج منها.. ودار الخلود الآخرة لبقاء أهلها فيها)(84) .
ج - أن الخلود في النصوص الشرعية مقابل بالموت الذي هو الفناء، فمن كان خالداً فهو لا يفنى كما قال سبحانه وتعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 34 - 35] ، فالخلود دوام البقاء، والموت هو الفناء والزوال والانتهاء من هذه الدنيا.
د - أن الله عزّ وجل أخبر عن دوام النار، ودوام عذابها بنصوص أخرى بغير ألفاظ الخلود والتأبيد، فمما قاله - سبحانه -: { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة: 37] ، وقال: { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى} [طه: 74] ، وقال - سبحانه -: { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] ، وقوله - سبحانه - عن أهل النار: { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77] ، وغيرها من الآيات الدالة على استمرار عذاب أهل النار إلى ما لا نهاية.(106/439)
هـ - أن الآيات التي فيها الاستثناء بالمشيئة لا تستلزم فناء النار، وانقطاع عذاب أهلها من الكفار، بل لها معانٍ توقف المفسرون عندها - كما بينت ذلك - في عرضي للآيات، وأقوال المفسرين حولها في بداية هذا المبحث.
و - أن آية سورة النبأ دليل على الخلود من حيث معنى الأحقاب - كما تقدم -، ومن حيث سياق الآيات بعدها، فقد قال الله عزّ وجل في نهاية السياق: { إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] . ففي هذه الآية دليل على أن الكافر يتمنى أن يكون تراباً، ولا يعذب في النار خالداً فيها، ولو كان يظن أن النار تفنى من الآن لظل على أمله، ورجائه في رحمة الله (85).
وأما الأحاديث والآثار التي يستدل بها القائلون بفناء النار، فلأهل العلم وقفات حولها:
أولاً : حديث: «ليأتين على جهنم يوم كأنها زرع هاج، وآخر تخفق أبوابها)(86) ، وهذا حديث باطل موضوع، وآفته: جعفر بن الزبير، وأيضاً الراوي عنه: عبد الله بن مسعر بن كدام.
أما جعفر بن الزبير، فقد وضع أربعمائة حديث على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكذبه شعبة بن الحجاج(87) ، وقال ابن معين (ت - 233هـ) رحمه الله: ليس بثقة. وقال البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله: تركوه، وقال ابن عدي (ت - 365هـ) رحمه الله: الضعف على حديثه بيّن، وذكر الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله هذا الحديث، وقال: إسناده مظلم(88) .
وأما عبد الله بن مسعر فهو متروك - أيضاً - وذكر الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله حديثه هذا وقال: هذا باطل(89) .(106/440)
ثانياً : الأثر المروي عن عمر بن الخطاب (ت - 23هـ) رضي الله عنه: (لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه)، وهذا الأثر ضعيف بسبب الانقطاع بين عمر (ت - 23هـ) والحسن البصري (ت - 110هـ) رحمه الله فلم يسمع الحسن (ت - 110هـ) من عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه، ومراسيل الحسن عند الأئمة واهية؛ لأنه كان يأخذ عن كل أحد، كما قال ذلك ابن سيرين (ت - 110هـ) رحمه الله(90) ، وإذا سقط سند هذا الحديث، ولم نحتجّ به لضعفه، لم يكن بنا حاجة إلى أن نوجه دلالته على أن المقصود به نار الموحدين (91).
ثالثاً : الأثر المروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص (ت - 65هـ) رضي الله عنهما قال: (ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً)، وهذا الأثر ضعيف لا يصح لا مرفوعاً ولا موقوفاً، وآفته: أبو أبلج يحيى بن سليم، وهذا الرجل ثقة في نفسه، إلا أن تضعيف الحفّاظ له جاء من قبل حفظه، فقال الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله عنه: (صدوق ربما أخطأ)(92) ، وقد جعل الإمام الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله هذا الحديث من بلاياه، وحكم عليه بأنه منكر(93) .
رابعاً : أثر أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه في قوله - تعالى -: { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] قال: هذه الآية قاضية على القرآن كله(94) .
وهذا الأثر وإن كان صحيحاً موقوفاً، إلا أنه لا دلالة فيه على فناء النار، بل كما يقول الإمام الصنعاني (ت - 1182هـ) رحمه الله: (غاية ما فيه أن كل وعيد في القرآن ذكر فيه الخلود لأهل النار، فإن آية الاستثناء حاكمة عليه، وهي عبارة مجملة لا تدل على المدعى بنوع من الدلالات الثلاث)(95) .(106/441)
ويجاب - أيضاً - بأن هذا الأثر محمول على عصاة المؤمنين من الموحدين الذي يبقون في النار - ما شاء الله - ثم يخرجون منها بهذه المشيئة الربانية، وعلى هذا يبطل الاستدلال به على فناء النار.
خامساً : أثر عبد الله بن مسعود (ت - 32هـ) رضي الله عنه قال: (ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد)، وهذا الأثر رواه ابن جرير (ت - 310هـ) رحمه الله في تفسيره(96) بإسناد تالف مظلم(97) ، وأما البغوي(98) رحمه الله فقد ذكره بدون إسناد، ثم قال: (ومعناه عند أهل السنة - إن ثبت - أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان، وأما مواضع الكفار فممتلئة أبداً)(99) .
سادساً : الأثر المروي عن أنس بن مالك (ت - 93هـ) رضي الله عنه: (ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها، وما فيها من أمة محمد أحد).
وهذا الأثر موضوع(100) ، وآفته: العلاء بن زيدل، فقد كان يضع الحديث كما قال البخاري (ت - 256هـ) وغيره: منكر الحديث(101) ، وقال أبو حاتم (ت - 277هـ) : هو متروك الحديث، قال ابن حبان (ت - 354هـ) : لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل التعجب(102) ، وذكر ابن عدي (ت - 365هـ) هذا الحديث في ترجمته وقال: (منكر الحديث)(103) ، وقال الذهبي (ت - 748هـ) : تالف، وذكر هذا الحديث(104) .
سابعاً : وأما الأثر المروي عن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه قوله: (ما أنا بالذي لا أقول إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد)، وقد ذكره بسنده ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله في حادي الأرواح(105) ، وإسناده صحيح(106) ، ومع هذا فإنه لا يدل على فناء النار، بل لم يفهم رواته منه ذلك؛ ولذا قال أحد رواة الحديث وهو عبيد الله بن معاذ(107) كما في تتمة الأثر: (كان أصحابنا يقولون: يعني به الموحدين)(108).(106/442)
ويجاب - أيضاً - على هذا الأثر بما أجاب الإمام الصنعاني (ت - 1182هـ) رحمه الله بقوله: (فإن قوله: (ليس فيها أحد) دال على بقائها، فإنك إذا قلت: ليس في الدار أحد، فإنه دال على بقاء الدار لا على فنائها)(109) .
ولو سلمنا أن هذا الأثر فيه دلالة على فناء النار فهو قول صحابي، لا يقف أمام النصوص الصحيحة من القرآن والسنة، واتفاق العلماء على عدم فناء النار، وبقائها أبد الآباد(110) .
وبهذا نعلم أنه لم يصح حديث أو أثر يثبت فناء النار، وأما ما صح سنده مما استدل به من قال بفناء النار فإنه لا يدل على فناء النار: - كما تم بيانه - ولله الحمد والمنة(111) .
ومما ينبغي أن يعلم في مقام مناقشة القائلين بفناء النار: أن دوام عذاب أهل النار من الكفار هو من حكمة أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى ولا ينافي ذلك حكمته، بل هو من حكمته، واستمرار عذابهم في النار لا يعارض رحمة أرحم الراحمين، فرحمته - سبحانه - لا تنافي حكمته، وحكمته عزّ وجل تقتضي دوام عذاب أهل النار من الكفار؛ لأن الله سبحانه وتعالى قضى وحكم في كتابه الكريم، وشرعه المطهر أن يستمر عذابهم، وقضاء الله سبحانه وتعالى مبني على حكمته - سبحانه - وفرقٌ بين عذاب الكفار الخُلَّص، وبين عذاب العصاة من المؤمنين، فعذاب الكفار هو للإهانة والانتقام فهو أبدي، وأما عذاب العصاة فهو للتطهير والتمحيص: فإذا مُحِصوا وطُهِروا خرجوا من النار(112) .
وأما من قال: إنه ليس من حكمته استمرار العذاب بالنسبة للكفار، فهذا ليس بصحيح، بل الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وليست هي اللين أو الضعف أو الرحمة لمن يستحقها ومن لا يستحقها، ولا يصح أن يقطع بأن هذا مخالف لحكمته حيث لم يرد نص يدل عليه، ولا هو مخالف لمجموع النصوص، أو هو مخالف لعدل الله عزّ وجل، وللأدلة العقلية، بل للمتأمل في حكمة الله عزّ وجل أن يقول: إن الحكمة تقتضي دوام عذاب الكفار.(106/443)
ومن الحكم: دوام ظهور آثار أسماء الرب عزّ وجل التي بها تتحقق الألوهية، ويتحقق العقاب الرادع للكفار كالعزيز والقهار وغيرها.
ومن الحكم: جعل العقاب بحيث يترتب على العلم به غايته التي أُريد لأجلها من منع انتشار الكفر إلى حد يفسد الكون قبل أجله المسمى.
ومنها: جعل العقاب مناسباً للجريمة في عدم التناهي، لما علم من أن خبث الكفر لا حد له، هذا إضافة إلى ما ذكره أهل العلم من بعض الحكم من خلق الشرور(113) .
ومن حكمته - سبحانه - إنفاذ وعيد الكفار، بخلاف وعيد المؤمنين فيجوز إخلافه كما قال تعالى: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48، 116] أي ما دون الشرك من المعاصي، وقد أوجب الله على نفسه إنفاذ الوعيد في حق الكفار كما قال تعالى: { قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق~: 28 - 29] .
وقال سبحانه: { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان: 33] ، بعد قوله: { وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان: 33] ، وقال - سبحانه -: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } [الطور: 7] ، هذا إضافة إلى أن النصوص الشرعية قد أكدت وقررت دوام النار وعذابها لأهلها من الكفار، والله أعلم(114) .(106/444)
وفي الجملة فإن القائلين بفناء النار يمكن أن يكون النقاش معهم على طرق متعددة - كما سبق - ويمكن أن يقال لهم: أين يذهب أهل النار بعد فناء النار؟ إن قيل: يبقون بلا عذاب، فهذا لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، فقد أخبر الله عزّ وجل أن الناس يوم القيامة فريقان لا ثالث لهما { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] ، وأخبر أن عذاب الكفار دائم لا يخفف عنهم، ولا هم ينظرون، وأنه لا يفتر عنهم، وأنهم ماكثون، وخالدون، ولو كانت النار تفنى لكان هذا من تخفيف العذاب عنهم.
وإن قيل: إنهم يموتون ويفنون بعد حين: فقد دل الدليل على خلافه؛ بأن أهل النار { لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] ، وما ورد في الحديث الصحيح من ذبح الموت حين يؤتى به على صورة كبش، ويقال لأهل الجنة ولأهل النار: خلود فلا موت.
وإن قيل إنهم يخرجون منها: فقد دل الدليل على خلافه، ذلك أن الله عزّ وجل قال عنهم: { كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22] ، ولم يحدد في النصوص مقرهم لو خرجوا منها، وهم - قطعاً - لا يذهبون إلى الجنة.
وتلاحظ الحرفية الزائدة، والظاهرية المتكلفة عند القائلين بفناء النار، فهم يذكرون أن الله سبحانه وتعالى أخبر بخلود أهل النار فيها، لكنه لم يخبر أنها لا تفنى!، وهل الخلود الأبدي إلا أبدية النار ودوام عذابها؟.
ويمكن أن يعكس عليهم الدليل فيقال: إن الله عزّ وجل لم يخبر عن النار أنها تفنى، بل ذكر المشيئة - كما ذكرها في الجنة -، ولأهل العلم تفسيرات لهذه المشيئة متعددة في خروج بعض أهل النار منها، بخلاف الجنة فمن دخلها فلا يخرج منها.(106/445)
ثم إن القائلين بالفناء، غاية استدلالهم: إما بأحاديث وآثار غير صحيحة، وهذه لا يعوّل عليها في تقرير مسألة أو حكم شرعي، لاسيما الأحكام الاعتقادية التي هي من جملة اعتقاد المسلمين التي تتعلق باليوم الآخر والجزاء.
وإما بنصوص محتملة غير صريحة فهي من المتشابه المجمل. فترد إلى المحكم المبين وهي النصوص الواضحة.
ويحسن بعد مناقشة القائلين بفناء النار أن يُفرق بين قولهم هذا، وبين قول الجهمية القائلين بفناء الجنة والنار.
فمنشأ القولين مختلف: إذ منشأ قول الجهمية هو امتناع وجود مالايتناهى من الحوادث لا في الماضي ولا في المستقبل، وقد ناقشتهم في الفصل الثالث من هذا البحث.
يقول ابن أبي العز(115) رحمه الله: (وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط، لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة، وكفرّوه به، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض، وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث..)(116) .(106/446)
وأما منشأ قول القائلين بفناء النار - وحدها - فهو الاعتماد على نصوص مجملة، أو ضعيفة لا تقوم بها حجة، والاعتماد على تغليب جانب الرحمة على الحكمة، فمنشأ قول أكثر هؤلاء بهذا هو الاعتماد على أحاديث وآثار ظنوا أنها تدل على ما ذهبوا إليه، ولذا لم يحكم أهل السنة على القائلين بهذا القول إنهم مبتدعة، بل قالوا: إنه خطأ صدر عن اجتهاد - لما قام في أذهانهم من صحة الأدلة التي استدلوا بها - وهو مغفور لهم - بإذن الله تعالى - كما جاء في الحديث الصحيح «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد »(117) ، يقول ابن تيمية رحمه الله في المسائل الاجتهادية: (وحقيقة الأمر: أنه إذا كان فيها - أي المسألة - نص خَفِيَ على بعض المجتهدين، وتعذر عليه علمه، ولو علمه لوجب عليه اتباعه، لكنه لما خفي عليه اتبع النص الآخر... والمجتهد المخطئ له أجر؛ لأن قصده الحق وطلبه بحسب وسعه، وهو لا يحكم إلا بدليل.. ففي الجملة: الأجر هو على اتباعه الحق بحسب اجتهاده، ولو كان في الباطن حق يناقضه هو أولى بالاتباع لو قدر على معرفته لكنه لم يقدر..)(118) .
ويفرق ابن تيمية رحمه الله بين العالم المتقدم الذي قال بقول يخالف الصواب، ويجانب الكتاب والسنة؛ لأجل أن الحجة لم تبلغه، فلم يعلم بالدليل المخالف لقوله، أو ظنه ضعيفاً، أو غير ذلك، وبين العالم الذي بلغته الحجة، وعلم الإسناد وصحته من ضعفه، وجمع الأدلة واتضحت له ثم هو يخالف ذلك كله إلى قول آخر، فالأول لا يبدع، والثاني يبدع، يقول رحمه الله: (إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت لعدم بلوغ الحجة له فلا يغتفر لمن بلغته الحجة. ما اغتفر للأول، فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك، ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع) (119).
المبحث الثاني(106/447)
دعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار ومناقشتها
المطلب الأول
دعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار
يذكر المناوئون لابن تيمية رحمه الله مسألة فناء النار حين يذكرون المسائل المنتقدة عليه.
ويجعلون القول بفناء النار هو قول ابن تيمية رحمه الله الذي لا يقول بغيره في هذه المسألة، يقول الحصني (ت - 829هـ) : (واعلم أنه مما انتقد عليه زعمه أن النار تفنى، وأن الله - تعالى - يفنيها، وأنه جعل لها أمداً تنتهي إليه، وتفنى، ويزول عذابها، وهو مطالب أين قال الله عزّ وجل وأين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصح عنه) (120).
وذكر أن القول بفناء النار بعد أمد نزعة يهودية (121)، مستدلاً بقول الله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً}.
وقال المناوئون عنه: إنه يتابع الجهمية في شطر معتقدهم، فالجهمية يقولون بفناء الجنة والنار، وأما ابن تيمية رحمه الله فهو يقول بفناء النار (122).
وقالوا: إن القول بفناء النار كفر (123).
وأشار ابن حجر (ت - 852هـ) إلى ميل ابن تيمية رحمه الله إلى القول بفناء النار، فبعد أن ذكر الأقوال في فناء النار عن ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله ذكر القول السابع الذي هو القول بفناء النار ثم قال بعد ذلك: (وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول السابع، ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد) (124).
ويقصد ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله بهذا كتاب (الاعتبار ببقاء الجنة والنار) (125).
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
اعلم - وفقك الله لطاعته - أن الناس بعد ابن تيمية رحمه الله من محبيه ومن مناوئيه قد اختلفوا في بيان موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من هذه المسألة إلى ثلاثة أقوال:(106/448)
الأول : القائلون بأنه يقول بفناء النار، وهذا قول عامة مناوئيه، وهو قول بعض من يوافقه في الاعتقاد، ويثني عليه في المسائل الأخرى (126)، وقد قال الصنف الثاني بهذا القول ومالوا إليه تأثراً بأقوال المناوئين، وقوة عرضهم للمسألة، وصاحب ذلك عدم بحث وتدقيق وتحقيق لهذه المسألة في كتب شيخ الإسلام في مظانها وغير مظانها.
الثاني : القائلون بأنه لا يقول بفناء النار، وأنه يرى خلودها كالجنة؛ اعتماداً على أن هذا قول السلف، وهو يقول به؛ إذ هو يعد من أكبر شراح عقيدة السلف، هذا إضافة إلى اعتمادهم على نصوص من كتب ابن تيمية رحمه الله تثبت أبدية النار.
وكذلك: عدم وقوفهم على نصوص أخرى تقابل هذه النصوص في أنه يرى فناء النار، ولو ذُكر لهم بعض النصوص المجملة المتشابهة لشككوا في دلالتها على المراد، أو في صحة نسبتها إلى ابن تيمية رحمه الله (127).
الثالث : وقالت طائفة ثالثة بأن ابن تيمية رحمه الله يميل إلى القول بفناء النار، لكنه لا يصرح بذلك، وقالوا بهذا القول لما وقفوا على بعض أقوال له رحمه الله لا تنص على فناء النار، إلا أن مجمل الكلام يشعر بأنه يرتضي هذا القول، وإن لم يصرح به، مع وقوفهم على أقوال له أخرى تدل على أنه يرى أبدية النار، فخرجوا بهذا القول ويرون أنه وسط بين الأقوال وهو الحكم بميل ابن تيمية رحمه الله إلى القول بفناء النار (128).
وسيركز البحث هنا على استقراء النصوص الواردة عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حول هذه المسألة من كتبه، سواء أكانت نصوصاً تشعر بالقول بفناء النار، أم النصوص الصريحة في عدم فناء النار، ثم دراسة دلالة هذه النصوص.
وتنقسم هذه النصوص إلى قسمين:
أ - نصوص يستدل بها القائلون بأنه يقول بفناء النار، أو يميل إلى القول به.
ب - ونصوص يستدل بها القائلون بأن ابن تيمية رحمه الله يرى أبدية النار موافقاً بذلك أئمة المسلمين في القول الصواب في هذه المسألة.(106/449)
فأما القسم الأول من هذه النصوص: فمنها قوله رحمه الله: (لم أجد نقلاً مشهوراً عن أحد من الصحابة يخالف ذلك، بل أبو سعيد وأبو هريرة هما رويا حديث ذبح الموت، وأحاديث الشفاعة، وخروج أهل التوحيد، وغيرهما، قالا في فناء النار ماقالا) (129)، وقال رحمه الله: (لكن إذا انقضى أجلها، وفنيت كما تفنى الدنيا، لم يبق فيها عذاب) (130).
وقال: (وحينئذ، فيحتج على فنائها بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة - مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب، ولا سنة، ولا أقوال الصحابة..) (131).
وقال: (ليس في القرآن ما يدل على أنها تفنى، بل الذي يدل عليه ظاهر القرآن أنهم خالدون فيها أبداً...) (132).
وقال - أيضاً -: (أحدها: أن الله أخبر ببقاء نعيم الجنة ودوامه، وأنه لا نفاد له ولا انقطاع في غير موضع من كتابه، كما أخبر أن أهل الجنة لا يخرجون منها، وأما النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك، بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها.
الثاني : أنه أخبر بما يدل على أنه ليس بمؤبد في عدة آيات.
الثالث : أن النار لم يذكر فيها شيء يدل على الدوام) (133).
وقال - أيضاً -: (فإذا قدر عذاب لا آخر له، لم يكن هناك رحمة ألبته) (134).
ويلاحظ في هذه النصوص أنها جميعاً منقولة من كتاب واحد فقط، وهو (الرد على من قال بفناء الجنة والنار)، ويلاحظ - أيضاً - من قراءة الكتاب أن ابن تيمية رحمه الله كان يظن صحة الآثار الواردة عن بعض السلف في فناء النار، ولذا حاول توجيه دلالة الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية إلى معنى الآثار التي ظن رحمه الله صحتها.
وأما القسم الثاني من هذه النصوص: وهي التي وافق فيها ابن تيمية رحمه الله القول الصواب في المسألة، وهو القول بأبدية النار، وعدم فنائها فمنها (135):(106/450)
1 - حين سئل رحمه الله عن حديث فيه ذكر الأمور التي لا تفنى، أجاب بأن هذا من كلام بعض العلماء، وليس من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال في نص صريح: (وقد اتفق سلف الأمة، وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم، ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار، والعرش وغير ذلك) (136)، فهذه حكاية للإجماع، واتفاق من إجماعه حجة، ولا يسوغ مخالفة هذا الاتفاق، ولذا قال رحمه الله في لاميته:
والنار يصلاها الشقي بحكمة *** وكذا التقي إلى الجنان سيدخل (137)
2 - حكى ابن حزم (ت - 456هـ) رحمه الله الإجماع على أن النار لا تفنى كالجنة، في قوله: (وأن النار حق، وأنها دار عذاب أبداً لا تفنى، ولا يفنى أهلها أبداً، بلا نهاية، وأنها أعدت لكل كافر مخالف لدين الإسلام، ولمن خالف الأنبياء السالفين قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعليهم الصلاة والتسليم، وبلوغ خبره إليه) (138)، ولم يتعقبه ابن تيمية رحمه الله -، ولو كان يرى فناء النار لتعقبه، ونقده في كتابه (نقد مراتب الإجماع لابن حزم)، فلما لم يتعقبه دل ذلك بدلالة المفهوم أنه رحمه الله يرى ما يراه ابن حزم (ت - 456هـ) رحمه الله من القول بأبدية النار.
3 - في مناقشة مسألة (التسلسل) ذكر أن التسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل، وغير أهل الملل، ثم قال: (فإن نعيم الجنة، وعذاب النار دائمان، مع تجدد الحوادث فيهما) (139)، فتقريره رحمه الله وجزمه بدوام عذاب أهل النار، كدوام نعيم أهل الجنة دليل على أنه يرى في النار من حيث الأبدية كما يرى في الجنة، وعقب على ذلك بتجدد الحوادث فيهما، واستمرارها إلى مالا نهاية.(106/451)
4 - ناقش رحمه الله المتكلمين القائلين بأن أجسام العالم تفنى حتى الجنة، والنار - أيضاً -، وحكم على هذا القول بأنه - بدعة باطلة باتفاق سلف الأمة وأئمتها، فقال: (وهذا الذي يذكره كثير من أهل الكلام الجهمية، ونحوه في الابتداء نظير ما يذكرونه في الانتهاء من أنه تفنى أجسام العالم حتى الجنة والنار، أو الحركات... وهذا الذي ابتدعه المتكلمون باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها) (140).
5 - قرر رحمه الله أن القرآن الكريم قد أخبر ببقاء الجنة، وبقاء النار بقاءاً مطلقاً، يمتنع معه الفناء، وأما الذي لم يرد في القرآن فهو تفاصيل ما سيكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قال رحمه الله: (ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءاً مطلقاً، ولم يخبرنا بتفصيل ما سيكون بعد ذلك..) (141).
6 - نقل رحمه الله عن الأشعري (ت - 324هـ) الخلاف في أفعال الله هل لها آخر أم لا آخر لها؟ وقد ذكر الأشعري (ت - 324هـ) رحمه الله قول الجهمية في هذه المسألة وهو قولهم بأن لها آخراً، وهذا هو الذي بنوا عليه مذهبهم في أن الجنة والنار تفنيان، ويفنى أهلهما، حتى بيقى الله - سبحانه - آخراً لا شيء معه، ثم قال بعد ذلك:
(وقال أهل الإسلام جميعاً: ليس للجنة والنار آخر، وإنهما لا تزالان باقيتين، وكذلك أهل الجنة لا يزالون في الجنة يتنعمون، وأهل النار لا يزالون في النار يعذبون، وليس لذلك آخر) (142)، وقد نقل هذا النص ابن تيمية رحمه الله مقراً له ومؤيداً، ولم يتعقبه، أو يرد عليه فدل على أنه يرى ما يراه أهل الإسلام جميعاً (143).
7 - نقل ابن تيمية رحمه الله عن ابن خفيف (144) رحمه الله من كتابه (اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات) (145) نقولاً كثيرة في الفتوى الحموية (146)، وقد نقل عنه مرتضياً كلامه قوله: (ونعتقد أن الله خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء لا للفناء) (147).(106/452)
8 - نقل في تفسير قول الله عزّ وجل: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] قول الضحاك (148)- مرتضياً له - في أن كل شيء يهلك إلا الله والجنة والنار والعرش (149).
9 - فرّق رحمه الله بين الكفار، وعصاة المؤمنين في المآل، فالكفار محلهم النار، ولا يخرجون منها، وأما عصاة المؤمنين فيدخلون النار، ثم يخرجون من النار، قال رحمه الله: (ومما يبين الفرق - أيضاً - أنه - سبحانه - قال هناك: { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} [الأحزاب: 57] ، والعذاب إنما أعد للكافرين؛ فإن جهنم لهم خلقت؛ لأنهم لابد أن يدخلوها، وما هم منها بمخرجين، وأهل الكبائر من المؤمنين يجوز أن يدخلوها إذا غفر الله لهم، وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بعد حين، قال سبحانه: { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] ، فأمر - سبحانه - المؤمنين أن لا يأكلوا الربا، وأن يتقوا الله، وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين، فعُلم أنهم يُخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا وفعلوا المعاصي، مع أنها معدة للكافرين لا لهم) (150).
10 - في تفسير قول الله تعالى: { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 11 - 13] ، قسّم الصلي إلى قسمين: صلي خلود وهو صلي مطلق، وصلي مؤقت وهم الذين يدخلون النار ثم يخرجون منها.
فقال رحمه الله: (وتحقيقه: أن الصلي هنا هو الصلي المطلق، وهو المكث فيها والخلود على وجه يصل العذاب إليهم دائماً.
فأما من دخل وخرج فإنه نوع من الصلي، ليس هو الصلي المطلق) (151).
وفي تفسير قوله تعالى: { لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } [الليل: 15 - 17] ذكر قولين للمفسرين ارتضى قول: (لا يصلونها صلي خلود) قال: (وهذا أقرب) (152).(106/453)
فدل على أن غير المتقين من الكفار يصلونها صلي خلود دائم، يتجدد معه العذاب إلى ما لا نهاية.
هذه النصوص تدل دلالة ظاهرة على أن ابن تيمية رحمه الله يقول بأبدية النار، واستمرار عذابها، ويبقى بعد عرض هذه النصوص، والنصوص التي قبلها تمييز القول الذي يمكن أن يُعد قولاً لابن تيمية رحمه الله في مسألة فناء النار أو أبديتها، ولترجيح أحد الأقوال على غيرها يمكن أن أضع بعض المقدمات والملاحظات التي تساعد في الترجيح:
أولاً : أن جميع الأقوال التي استدل بها القائلون بأنه يرى فناء النار، إنما استندوا إلى كتاب واحد، وهو (الرد على من قال بفناء الجنة والنار)، ولم تكن المعلومات متوفرة عن الكتاب - سابقاً -، حتى ظن البعض أن الردود على ابن تيمية رحمه الله كانت ردوداً على ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله في (حادي الأرواح) (153)؛ ذلك أن ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله قد نقل أغلب كتاب ابن تيمية رحمه الله آنف الذكر في كتاب (حادي الأرواح)، إضافة إلى أن المطبوع من كتاب ابن تيمية رحمه الله لم يخل - أيضاً - من بعض الملحوظات - كما سيأتي -.
وأما قول القائلين بأنه يقول بأبدية النار، فينقلون نصوصاً مبثوثة في أغلب كتب ابن تيمية رحمه الله كمنهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل، وبيان تلبيس الجهمية، وغيرها، وهذا مظنة تأييده ونصرته لهذا القول، بخلاف القول الأول الذي لم تكن مادته إلا من كتاب واحد، قد يكون لتأليفه، وكتابته، ثم مخطوطاته، ومَن نَسخها ظروف قد تضعف من دلالة هذه النصوص - كما سيأتي -.(106/454)
ثانياً : أن النصوص التي يستدل بها القائلون بأن ابن تيمية رحمه الله يرى فناء النار مجملة، غير صريحة في أنه يرى فناء النار، أما النصوص التي يستدل بها القائلون بأنه يرى أبدية النار، فهي مبينة صريحة في أنه يرى أبديتها، ومن القواعد المقررة عند أهل العلم أن المجمل مما في نصوص الكتاب والسنة يرد إلى المحكم، ولا يتعلق بالمتشابه والمجمل ويترك المحكم والمبين إلا أهل الزيغ والضلال كما قال تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] ويؤيد هذا القول حكايته اتفاق سلف الأمة، وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة على أبدية النار (154)، وهذا كافٍ في أنه يقول بهذا القول وينصره.
ثالثاً : أن كتاب ابن تيمية رحمه الله الموجود (الرد على من قال بفناء الجنة والنار)، لم يخل من بعض الخروم - في نظري - ومن الملحوظات عليه ما يلي:
أ - أن بداية الكتاب لم يفتتح بالبسملة والحمدلة، كغيره من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بل ابتدأ بكلام معطوف على ما قبله، وهو قوله: (وللناس في ذلك أقوال..) (155) ثم ذكرها.
ب - أن المخطوط ابتدأ بذكر: (فصل في فناء الجنة والنار) (156)، وهذه قرينة على أن هذا ليس أول كلامه رحمه الله في الرسالة، خاصة وأن الاعتماد في الصفحات الأولى في الكتاب على نسخة واحدة، وهي المقطع الأول من نسخة دار الكتب المصرية (157).
ج - تدخل النُسَّاخ في صلب الرسالة، فقالوا: (وقد تكلم الشيخ رحمه الله على الجهمية والهذيلية (158)... ورجح أدلة أهل السنة، وهدم شبه أهل البدعة، وأشار إلى بعض أدلة غلبة الرضا على الغضب..) (159)، وهذا كله ليس من كلام ابن تيمية رحمه الله -.(106/455)
د - أن ابن تيمية رحمه الله قال في الكتاب: (والفرق بين بقاء الجنة والنار: شرعاً وعقلاً، فأما شرعاً فمن وجوه) (160)، ثم ذكر ثمانية أوجه شرعية، ولم يذكر الأوجه العقلية، حيث انتهت نسخة المكتب الإسلامي، وأكمل من نسخة دار الكتب المصرية في موضوع آخر قد ذُكر في بداية الكتاب حين رد على الجهمية وهو آيات بقاء الجنة وقد ذكرها بحرف العطف على ما قبلها (وأما آيات بقاء الجنة) (161)، ولم يكن ما قبلها يصح أن يعطف عليه ما بعده، والله أعلم.
هـ - أن الإمام الصنعاني (ت - 1182هـ) رحمه الله في رده على ابن تيمية رحمه الله ذكر بعض النصوص، والأحاديث التي لم ترد في الكتاب المطبوع، وهي النصوص التي فيها تغليب جانب الرحمة، قال الصنعاني (ت - 1182هـ) رحمه الله: (ثم استدل شيخ الإسلام على سعة رحمة الله - تعالى -، وأنها أدركت أقواماً ما فعلوا خيراً، وساق أحاديث دالة على أن الرحمة أدركت من كان من عصاة الموحدين..) (162) وقد نقلت كلام النُسّاخ لكتاب ابن تيمية رحمه الله في ذكرهم أن ابن تيمية رحمه الله أشار إلى بعض أدلة غلبة الرضا على الغضب (163).
وقد ذكر الصنعاني (ت - 1182هـ) رحمه الله بعض الأدلة التي استدل بها ابن تيمية رحمه الله ومنها حديث الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه إذا مات (164)، وأحاديث أخرى (165)، ولم يرد ذكر هذه الأحاديث في الكتاب المطبوع.
رابعاً : أن كتاب ابن تيمية رحمه الله لا يدل على أنه يقول بفناء النار، وذلك لأمور:(106/456)
1 - أن ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله تعالى - وهو الذي نقل أغلب أجزاء كتاب ابن تيمية رحمه الله في كتاب (حادي الأرواح)، وهو يرتضي ما يقول به، لم يصرح بالقول بفناء النار، إنما اكتفى بذكر قول الله - تعالى -: { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ، ولو كان قال ابن تيمية رحمه الله غير ذلك لقاله، أو لناقشه ورد عليه، لكنه لم يفعل، فصار ذلك قرينة على أن ابن تيمية رحمه الله لم يصرح بالقول بفناء النار في هذا الكتاب.
2 - أن الكتاب قائم على حكاية قول القائلين بفناء النار على هيئة مناظرة وحوار، فذكر أدلة الطائفتين، وحين ذكر أدلة القائلين بفناء النار عرضها عرضاً يوحي بأنه منهم، ويستند هذا التعليل إلى أمور منها:
أ - أن ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله حين ذكر أدلة القائلين بأبدية النار ودوامها وبدأ مناقشة هذه الأدلة، صرّح بأنه يحكي هذا القول فقال: (قال أصحاب الفناء: الكلام على هذه الطرق يبين الصواب في هذه المسألة) (166).
وحين انتهى من ذكر مناقشاتهم قال: (فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة) (167).
ب - أن ابن تيمية رحمه الله ذكر في أبدية النار اتفاق سلف الأمة، وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة على هذا، ولا يسع ابن تيمية رحمه الله وأمثاله أن يخالف هذا الاتفاق، ولا سيما أنه حكى قول القائلين بالفناء بأنه يحتج على فناء النار بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة، ولا أقوال الصحابة (168)، فكيف يحكي الاتفاق والإجماع على مسألة، ويركز عليها في كتبه المتعددة. ثم هو يقول بهذا النص، لا شك أن هذا النص هو حكاية لقول القائلين بالفناء لا أنه يرتضيه.(106/457)
ج - يتفق ابن تيمية رحمه الله وابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله أنهما حكيا قول القائلين بالفناء، وذلك؛ لأن ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله نقل أغلب كلام ابن تيمية رحمه الله الذي ذكره في كتابه (الرد على من قال بفناء الجنة والنار)، وذلك بعدما سأل ابن القيم (ت - 761هـ) شيخه ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة (169)، ثم يجمعهما - أيضاً - أنهما قالا بقول أهل السنة والجماعة في أبدية النار في مواضع متعددة من كتبهما.
أما ابن تيمية رحمه الله فقد ذكرت في هذا المبحث ما وقفت عليه من كلامه الصريح في أبدية النار، وأما ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله فهو - أيضاً - له كلام صريح في أبدية النار في بعض كتبه، فقد قال رحمه الله: (وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب، ودار الخبيثين، فالله - تعالى - يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشيء لتراكب بعضه على بعض، ثم يجعله في جهنم مع أهله، فليس فيها إلا خبيث، ولما كان الناس على ثلاث طبقات:
طيب لا يشوبه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب، كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض، ودار الخبث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان. ودار لمن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد) (170).
ونقل ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله عقيدة ابن الحداد (171) رحمه الله وفيها (الجنة حق والنار حق وأنهما مخلوقتان لا يبيدان ولا يفنيان) (172)، وقد أقره على ذلك ووافقه (173).(106/458)
خامساً : مما يدل على أن ابن تيمية رحمه الله وابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله لم يقولا بفناء النار أنه لم ينقل أحد من تلامذتهما عنهما هذا القول، ولم يقل به أحد منهم، وتلاميذهما علماء محققون وهم كُثُر، ومن الأمثلة على ذلك أن الإمام الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله لما ذكر سيرة ابن برهان (174)، وهو من القائلين بفناء النار من علماء القرن الخامس (175)، ردّ عليه وقال: قلت: (حجته في خروج الكفار هو مفهوم العدد من قوله: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً } [النبأ: 23] ، ولا يتفق ذلك لعموم قوله: { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] ولقوله: { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } [النساء: 169] إلى غير ذلك) ثم ذكر أنه أفرد بحث هذه المسألة في جزء (176).
وكذلك الحافظ ابن كثير (ت - 774هـ) رحمه الله لما ذكر في ترجمة ابن برهان (ت - 456هـ) قوله بفناء النار، نقل كلاماً لابن الجوزي (ت - 597هـ) مرتضياً له في أن القول بهذا يخالف اعتقاد المسلمين (177).
وقال الحافظ ابن رجب (ت - 795هـ) رحمه الله: (وعذاب الكفار في النار لا يفتر عنهم، ولا ينقطع، ولا يخفف بل هو متواصل أبداً) (178).
وقال: (ولا يزال أهل جهنم في رجاء الفرج إلى أن يذبح الموت، فحينئذ يقع منهم الإياس، وتعظم عليهم الحسرة والحزن) (179).
وفي مقابل ذلك لم نجد من التلامذة من يذكر قولاً لابن تيمية رحمه الله في فناء النار، ولا رداً عليه في أي من كتبهم.(106/459)
سادساً : على التسليم بأن كتاب ابن تيمية رحمه الله (الرد على من قال بفناء الجنة والنار) فيه تأييد ونصرة للقول بفناء النار، فإن الذي يغلب على ظني وتقديري أن هذا الكتاب ليس من آخر ما كتب ابن تيمية رحمه الله -، فإن الكتب المتأخرة هي التي ذكر فيها ابن تيمية رحمه الله أبدية النار، فدرء تعارض العقل والنقل، تم تأليفه في السنوات من عام 713هـ إلى عام 717هـ (180)، وكتاب (منهاج السنة النبوية) كان تأليفه عام 710هـ تقريباً (181)، وفي تأريخ قريب منه كتاب (بيان تلبيس الجهمية) فقد أُلف هذان الكتابان مع غيرهما في مصر من عام (705 - 712هـ) (182)، وهذه الكتب قد ذكر فيها ابن تيمية رحمه الله القول بأبدية النار، وصرح بوضوح برأيه في هذه المسألة، وتعد هذه الكتب من مؤلفات ابن تيمية رحمه الله المتأخرة؛ فقد بدأ التأليف في مرحلة مبكرة، أي - تقريباً - قبل تأليف (درء تعارض العقل والنقل) بثلاثين سنة فأكثر، كما يقول ابن تيمية رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل: (وقد كنا صنفنا في فساد هذا الكلام مصنفاً قديماً من نحو ثلاثين سنة) (183)؛ ولذا فالغالب على الظن أن تكون الكتب التي يصرح فيها بأبدية النار هي المتأخرة زمناً، إذ هي من أواخر مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -، وأما الكتاب الذي يحوي في طياته ألفاظاً مجملة عن الموضوع فالذي يغلب على الظن أنه قد تم تأليفه في مرحلة مبكرة من وقت ابن تيمية رحمه الله الطويل الذي قضاه في التأليف (184)، وهذا قول بعض المحققين (185).
وفي الجملة فالذي يترجح لدي - والله أعلم - أن ابن تيمية رحمه الله يقول بما قال به سلف الأمة، وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة من أن النار لا تفنى ولا تبيد كالجنة، وهذا هو الذي يصرح به في عامة كتبه والله أعلم وأحكم.(106/460)
وإذا كان هذا هو قول ابن تيمية رحمه الله -، فلست في حاجة - بعد ذلك - أن أبين أقوال المعتذرين لابن تيمية رحمه الله عن مقالاته التي يظنون أنه بها يقول بفناء النار، أو مناقشة أقوال المكفرين له (186)؛ لأجل قوله بهذه المسألة (187)، والله أعلم.
الخاتمة
في نهاية البحث في (دعاوى المناوئين لابن تيمية - عرض ونقد)، يحسن بي أن أعرض ملخصاً لأبرز النتائج العامة التي توصلت إليها، وهي كالتالي:
1 - أن ابن تيمية رحمه الله أحد أعلام أهل السنة والجماعة البارزين، من حيث عرض العقيدة والاستدلال عليها، ومن حيث الرد على المبتدعة وتفنيد شبهاتهم، فهو يوافق السلف في تقرير العقيدة والاستدلال عليها، فهو يعظم النصوص الشرعية، ويؤيدها بأقوال سلف الأمة المعتبرين في كل مسألة من مسائل أصول الدين كما هو واضح من كتبه.
2 - يغلب على المناوئين لابن تيمية رحمه الله أنهم مبتدعة، وإن كانوا قد يوصفون بصفة أخرى لأمر من الأمور، وأبرز مناوئي ابن تيمية رحمه الله هم: الفقهاء المقلدة، أهل الكلام، الشيعة، الصوفية، أصحاب العداوات الشخصية.
3 - سلك المناوئون لابن تيمية رحمه الله منهجاً معه غير مرضي، أبرز ملامحه: التزوير والكذب، التلبيس والتضليل، التحذير من الاغترار به علانية، نسبة الأولية له في ابتداع الضلالات، كثرة الإلزامات الباطلة، كثرة السب والشتم، ومع ذلك فإن كثيراً منهم يعترف بالحق لأهله، ويقرّ برفعة منزلة ابن تيمية رحمه الله وكثرة علمه.
4 - ادعى المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه يقول بالتأويل، وأنه متبع لهواه، مخالف لمنهج السلف الصالح، مسارع في تكفير غيره من المسلمين، وقد أجاب البحث عن كل مسألة من هذه المسائل، ورد عليها من كلام ابن تيمية رحمه الله نفسه.(106/461)
5 - ابن تيمية رحمه الله من أوسع من ناقش نفاة الصفات، وله ردود على المشبهة، فهو ليس بمشبه ولا مجسم، لكن النفاة يطلقون على مثبتة الصفات لفظ التجسيم، وقد أخذ هذا المعتقد الحق عن أئمة السلف، حيث ملأ كتبه بأقوالهم رحمه الله -.
6 - أن ابن تيمية رحمه الله يقول بما قال به السلف في دوام الحوادث في المستقبل، وإمكان دوامها في الماضي، فهو يثبت التسلسل في الآثار، ويمنع التسلسل في المؤثرين إذ هو باطل باتفاق العقلاء.
7 - أن قول شيخ الإسلام رحمه الله بإمكان حوادث لا أول لها لا يستلزم القول بقدم العالم؛ إذ لابد من التفريق بين دوام النوع، وحدوث الأفراد، فهو يرى أن كل مخلوق فهو مسبوق بعدم، ثم إن ابن تيمية رحمه الله قد رد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم في بعض كتبه.
8 - يقول ابن تيمية رحمه الله بما يقول به سلف الأمة وأئمتها بشرعية زيارة القبور للرجال على وجه الإجمال، أما إذا تضمنت هذه الزيارة مفاسد فهي غير مشروعة، ولا يجوز السفر لزيارة قبر من القبور، وقبر النبي صلّى الله عليه وسلّم كقبر غيره لم يرد فيه أحاديث خاصة تبين تمييزه عن غيره من القبور بشيء من القرب، فزيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مشروعة غير واجبة، ولا يجوز شد الرحل إليها - كغيره من القبور -، وابن تيمية رحمه الله بهذا من المعظمين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذ التعظيم هو الاتباع.(106/462)
9 - في مسألة التوسل: يقول ابن تيمية رحمه الله تبعاً لقول السلف - بحرمة التوسل بالأموات، أو يالأحياء فيما لا يقدرون عليه، أو في مغيبهم، وأن التوسل المشروع هو التوسل إلى الله عزّ وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أو التوسل بعمل صالح في قضاء الحوائج، أو التوسل إلى الله عزّ وجل بدعاء الرجل الصالح، وأما التوسل بالذوات فلا يجوز، لا ذوات الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا في حياتهم، ولا بعد مماتهم، وكل ما استدل به المبتدعة على جواز التوسل أو الاستغاثة بهم فإما أن يكون الدليل غير صحيح، أو أن يكون صحيحاً لكن الاستدلال به غير صحيح.
10 - يعتقد ابن تيمية رحمه الله عقيدة أهل السنة والجماعة في صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من محبتهم وتوليهم، ورعاية حقوقهم، والإقرار بعدالتهم، وعدم سبهم وتنقصهم، وعدم الخوض فيما وقع بين الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -.
ويعتقد أن أفضلهم الخلفاء الراشدون الأربعة وأن مرتبتهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة.
11 - يعتقد ابن تيمية رحمه الله في آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وجوب محبتهم، والثناء عليهم، ومنهم أزواجه صلّى الله عليه وسلّم، وأن لهم مكانة بحكم قربهم منه صلّى الله عليه وسلّم، وقد بين ابن تيمية رحمه الله أن لهم حقوقاً لا يشركهم فيها أحد غيرهم.
12 - بعد دراسة كتب ابن تيمية رحمه الله حول تحديد قوله في مسألة دوام النار وبقائها، وهل هو يقول بما قال به السلف أم أنه يقول أو يميل إلى خلاف ذلك؟، فتبين - والله أعلم - أنه يقول بما قال به سلف الأمة، وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة من أن من المخلوقات ما لا يعدم، ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار.(106/463)
وأما النصوص الأخرى التي استدل بها من قال: إنه يقول بفناء النار أو يميل إلى القول به ، فهي: إما نصوص محتملة مجملة غير صريحة، فترد إلى النصوص الواضحة المبيَّنة، وإما نصوص استدلوا بها وهي لا تصلح للاستدلال كما قد تبين، والله أعلم بالصواب.
وبعد، فهذا جهد المقلّ، أرجو فيه الثواب والمغفرة من رب الأرض والسموات، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده وله المن والفضل، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، فأسأل الله أن يأجرني على غُنمه، وأن يغفر لي غُرمه، وأن يرزقني الإخلاص والسداد في القول والعمل، وفي السر والعلن، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو المستعان ونعم الوكيل.
الفهارس
1 - فهرس المراجع.
2 - فهرس الموضوعات.
1 - فهرس المراجع
- القرآن الكريم.
- الآثار، أبو يوسف يعقوب الأنصاري، تعليق أبو الوفا، دار الكتب العلمية، لبنان.
- آداب البحث والمناظرة، محمد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية - القاهرة، مكتبة العلم، جدة.
- آداب الفلاسفة، حنين بن إسحاق، تحقيق عبد الرحمن بدوي، معهد المخطوطات العربية، الأولى 1406هـ.
- إبطال التأويلات لأخبار الصفات، أبو يعلى الفراء، تحقيق محمد الحمود، دار الإمام الذهبي، الأولى 1410هـ.
- ابن تيمية حياته وعصره، آراؤه وفقهه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة.
- ابن تيمية حياته وعقائده، صائب عبد الحميد، الغدير للدراسات والنشر، بيروت 1414هـ.
- ابن تيمية السلفي، محمد هراس، مكتبة الصحابة، طنطا، الثانية 1405هـ.
- ابن تيمية ليس سلفياً، منصور عويس، دار النهضة العربية، الأولى 1970م.
- ابن تيمية المجتهد بين أحكام الفقهاء وحاجات المجتمع، عمر فروخ، دار لبنان للطباعة والنشر، الأولى 1411هـ.
- ابن قيم الجوزية عصره ومنهجه، عبد العظيم شرف الدين، مكتبة الكليات الأزهرية، الثانية 1387هـ.(106/464)
- ابن قيم الجوزية وجهوده في الدفاع عن عقيدة السلف، عبد الله بن محمد، مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، الأولى 1406هـ.
- ابن القيم وموقفه من التفكير الإسلامي، عوض الله حجازي، دار الطباعة المحمدية، الثالثة 1409هـ.
- أبو بكر الصديق أفضل الصحابة، محمد بن عبد الرحمن القاسم، دار القاسم، الأولى 1417هـ.
- اتحاف ذوي الرسوخ ممن رمي بالتدليس من الشيوخ، حماد الأنصاري، مكتبة المعلا، الكويت الأولى 1406هـ.
- إثبات الجوهر الفرد، أبو الفتح محمد الشهرستاني، ملحق نهاية الإقدام في علم الكلام، تحقيق ألفرد جيوم.
- اجتماع الجيوش الإسلامية، ابن قيم الجوزية، تحقيق عواد المعتق، مطابع الفرزدق، الأولى 1408هـ.
- الإحكام في أصول الأحكام، سيف الدين الآمدي، تعليق عبد الرزاق عفيفي، مؤسسة النور، الأولى 1387هـ.
- أخبار الآحاد في الحديث النبوي، عبد الله بن جبرين، دار طيبة، الأولى 1408هـ.
- أخبار أبي حنفية وأصحابه، أبو عبد الله حسين الصيمري، المكتبة الإمدادية، مكة، الثالثة 1402هـ.
- إخبار الحكماء بأخبار الحكماء، أبو الحسن القفطي، مكتبة المتنبي، القاهرة.
- أخبار القرامطة، سهيل زكار، دار الكوثر، الرياض 1410هـ.
- أخبار القضاة، محمد بن خلف (وكيع)، عالم الكتب، بيروت.
- أدب الدنيا والدين، أبو الحسين الماوردي، دار الصحابة للتراث.
- الأدب المفرد، محمد بن إسماعيل البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت.
- الأدلة والشواهد على وجوب الأخذ بخبر الواحد، سليم الهلالي، دار الصحابة، الأولى 1408هـ.
- الأذكار (حلية الأبرار وشعار الأخبار)، أبو زكريا شرف النووي، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، دار الملاح 1291هـ.
- الأربعين في أصول الدين، فخر الدين الرازي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الأولى 1406هـ.
- الإرشاد إلى قواطع أدلة الاعتقاد، أبو المعالي الجويني، تحقيق أسعد تميم، مؤسسة الكتب الثقافية، الأولى 1405هـ.(106/465)
- إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، محمد العمادي (أبو السعود)، دار إحياء التراث العربي.
- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد الشوكاني، دار المعرفة، بيروت 1399هـ.
- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الأولى 1399هـ.
- أساس التقديس، فخر الدين الرازي، تحقيق أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية 1406هـ.
- الأساليب البديعة في فضل الصحابة وإقناع الشيعة، يوسف النبهاني، ضمن شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
- الاستقامة، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الأولى 1403هـ.
- الاستيعاب في أسماء الأصحاب، أبو عمر بن عبد البر، مطبعة السعادة بمصر، الأولى 1328هـ.
- الأسماء والصفات، أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق عماد الدين حيدر، دار الكتاب العربي، الأولى 1405هـ.
- الأشاعرة، أحمد صبحي، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية.
- الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن حجر العسقلاني، دار السعادة بمصر، الأولى 1328هـ.
- أصالة علم الكلام، محمد صالح السيد، دار الثقافة للنشر والتوزيع 1987م.
- إصلاح المساجد من البدع والعوائد، محمد جمال الدين القاسمي، المكتب الإسلامي، الرابعة 1399هـ.
- أصول السنة، عبد الله الحميدي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، ضمن مسند الحميدي، الدار السلفية، الأولى 1383هـ.
- أصول السنة، أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين، تحقيق عبد الله البخاري، مكتبة الغرباء الأثرية، الأولى 1415هـ.
- الأصول الفكرية عند شيخ الإسلام ابن تيمية، خالد العك، المكتب الإسلامي، الأولى 1415هـ.
- أصول الوصول، محمد زكي إبراهيم، منشورات ورسائل العشيرة المحمدية، الثالثة 1404هـ.
- أضواء على التصوف، طلعت غنام، عالم الكتب، القاهرة.(106/466)
- الاعتبار ببقاء الجنة والنار، تقي الدين السبكي، تحقيق طه الدسوقي، مطبعة الفجر.
- الاعتصام، إبراهيم بن موسى الشاطبي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر.
- اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، فخر الدين الرازي، تعليق محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، الأولى 1407هـ.
- اعتقاد أهل السنة، أبو بكر الإسماعيلي، تحقيق جمال عزون، دار الريان، الإمارات، الأولى 1413هـ.
- الأعلام، خير الدين الزركلي، الثانية 1389هـ.
- الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، أبو حفص البزار، تحقيق صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، بيروت، الأولى 1396هـ.
- إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بالقاهرة، الأولى 1374هـ.
- أفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم ودلالتها على الأحكام الشرعية، محمد بن سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية 1408هـ.
- الإفهام والإفحام، محمد زكي إبراهيم، منشورات العشيرة المحمدية، الثالثة 1403هـ.
- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق ناصر العقل، دار المسلم، الخامسة 1415هـ.
- الإكليل في المتشابه والتأويل، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، المكتب الإسلامي، الثانية 1394هـ.
- الأم، محمد بن إدريس الشافعي، كتاب الشعب 1388هـ.
- الإمام ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل، محمد السيد الجليند، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية 1393هـ.
- الإمام الجويني، محمد الزحيلي، دار القلم، دمشق، بيروت، الأولى 1406هـ.
- الإمام زيد بن علي المفترى عليه، شريف صالح الخطيب، المكتبة الفيصلية 1404هـ.
- الأموال المشتركة، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق ضيف الله الزهراني، مطابع الصفا، الثانية 1409هـ.(106/467)
- إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء، عبد الرحمن السيوطي، ضمن الحاوي للفتاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية 1395هـ.
- إنباء الغمر بأبناء العمر، أحمد بن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية، لبنان، الثانية 1406هـ.
- الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، أبو بكر الباقلاني، تحقيق محمد زاهد الكوثري، مكتبة الخانجي، الثانية 1382هـ.
- أهل الفترة ومن في حكمهم، موفق شكري، مؤسسة علوم القرآن عجمان، دار ابن كثير دمشق، بيروت، الأولى 1409هـ.
- الأهواء والفرق والبدع عبر تاريخ الإسلام، ناصر العقل، دار الوطن، الأولى 1415هـ.
- أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، محمد الشيباني، مكتبة ابن تيمية، الكويت، الأولى 1409هـ.
- أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة، أحمد النجمي، طبع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، الأولى 1405هـ.
- إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد، محمد بن المرتضى (ابن الوزير)، دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية 1407هـ.
- الإيمان، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، مكتبة المعارف الرباط، ونسخة أخرى بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الثالثة 1401هـ.
- الباقلاني وآراؤه الكلامية، محمد رمضان عبد الله، مطبعة الأمة بغداد، وزارة الأوقاف، بغداد 1986م.
- بحوث الندوة العالمية عن حياة شيخ الإسلام ابن تيمية لعام 1408هـ، الجامعة السلفية بنارس، المطبعة السلفية، بنارس 1412هـ.
- بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية، دار الفكر.
- البداية والنهاية، إسماعيل بن كثير، مكتبة المعارف، بيروت، الأولى 1966م.
- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، محمد بن علي الشوكاني، دار المعرفة، بيروت.(106/468)
- بدع القبور وحكمها، محمد درامن، رسالة ماجستير من قسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
- براءة الأشعريين من عقائد المخالفين، أبو حامد بن مرزوق (188)، مطبعة العلم، دمشق 1387هـ.
- براءة أهل السنة من تكفير عصاة الأمة، عبد الله شاكر الجنيدي، مكتبة التربية الإسلامية، القاهرة، الأولى 1411هـ.
- البراهين الجلية في رفع تشكيكات الوهابية، محمد بن حسن الموسوي، مطبوعات النجاح القاهرة، الثالثة 1397هـ.
- البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي، أو: علي بن أبي طالب إمام العارفين، أحمد الغماري، مطبعة السعادة، الأولى، الأولى 1389هـ.
- البرهان في معرفة عقائد الأديان؛ أبو الفضل عباس السكسكي، تحقيق بسام العموش، مكتبة المنار، الأردن، الأولى 1408هـ.
- البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية، عبد الله بن علي القصيمي، مطبعة المنار بمصر 1350هـ.
- البشارة والإتحاف بما بين ابن تيمية والألباني من الاختلاف، حسن السقاف، دار النووي، الأولى 1413هـ.
- بغية المرتاد، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق موسى الدويش، مكتبة العلوم والحكم، الأولى 1408هـ.
- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، عبد الرحمن السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية.
- البوصيري مادح الرسول الأعظم، عبد المتعال الحمامصي، مكتبة الهداية، الثانية 1413هـ.
- بيان تلبيس الجهمية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق عبد الرحمن بن قاسم، مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، 1391هـ، وتحقيق رسالة دكتوراة لسليمان الغفيص من قسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
- البيان لأخطاء بعض الكتاب، صالح الفوزان، دار ابن الجوزي، الثانية 1413هـ.
- بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه في العقيدة، أبو بكر الموصلي، دار الكتاب العربي، الأولى 1410هـ.(106/469)
- التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول، صديق حسن خان، المطبعة الهندية العربية، الثانية 1382هـ.
- تاريخ بغداد، أحمد بن علي الخطيب، دار الفكر.
- تاريخ عجائب الآثار، عبد الرحمن الجبرتي، دار الجيل، بيروت.
- تاريخ العلماء النحويين، أبو المحاسن المعري، تحقيق عبد الفتاح الحلو، دار الهلال، الرياض، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1401هـ.
- تاريخ الفرق الإسلامية ونشأة علم الكلام عند المسلمين، علي مصطفى الغرابي، مكتبة الأنجلو، الثانية 1985م.
- تاريخ قضاة الأندلس المسمى بـ (المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا)، أبو الحسن النباهي، المكتب التجاري، بيروت.
- التاريخ الكبير، محمد بن إسماعيل البخاري، المكتبة الإسلامية، تركيا.
- تاريخ المذاهب الدينية في بلاد اليمين، أيمن فؤاد سيد، الدار المصرية اللبنانية، الأولى 1408هـ.
- تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب، محمد الكوثري، دار الكتاب العربي، بيروت 1401هـ.
- التبرك أنواعه وأحكامه، ناصر الجديع، مكتبة الرشد، الأولى 1411هـ.
- التبرك المشروع والتبرك الممنوع، علي العلياني، دار الوطن، الأولى 1411هـ.
- التبصير في الدين وتمييز الفرق الناجية عن الفرق الهالكين، أبو المظفر الإسفراييني، تحقيق كمال الحوت، عالم الكتب، الأولى، 1403، ونسخة أخرى بتحقيق محمد الكوثري، مطبعة الأنوار 1359هـ.
- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الأشعري، ابن عساكر الدمشقي، دار الكتاب العربي، بيروت 1399هـ.
- التجسيم عند المسلمين (مذهب الكرامية)، سهير مختار، شركة الإسكندرية للطباعة والنشر 1971م.
- تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الثالثة 1398هـ.
- تحريم النظر في كتب الكلام، ابن قدامة المقدسي، تحقيق عبد الرحمن دمشقية، عالم الكتب الرياض، الأولى 1410هـ.(106/470)
- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، محمد بن عبد الرحمن المباركفوري، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، مطبعة المدني، القاهرة، الثانية 1383هـ.
- تحفة الزوار إلى قبر النبي المختار، ابن حجر الهيتمي، تحقيق السيد أبو عمه، دار الصحابة، الأولى 1412هـ.
- تحفة النظار في غرائب الأمصار (رحلة ابن بطوطة)، شرح طلال حرب، دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية 1413هـ.
- التخويف من النار والتعريف بحال أهل البوار، ابن رجب الحنبلي، تحقيق بشير عيون، مكتبة المؤيد، الثانية 1409هـ.
- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، عبد الرحمن السيوطي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية 1399هـ.
- التدمرية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق محمد السعوي، شركة العبيكان للطباعة والنشر، الرياض، الأولى 1405هـ.
- تذكرة الحفاظ، محمد بن أحمد الذهبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- التذكرة في أحوال الموتى والآخرة، محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق أحمد حجازي السقا، دار الكتب العلمية، بيروت 1402هـ.
- تذكرة الموضوعات، محمد بن طاهر الهندي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الثانية 1399هـ.
- التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار، أحمد الواسطي، تحقيق علي عبد الحميد، مكتبة ابن الجوزي، الأولى 1408هـ.
- التذهيب على التهذيب، عبيد الله الخبيصي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1355هـ.
- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، القاضي عياض، مطبعة فضالة، المحمدية، وزارة الأوقاف ببغداد.
- الترغيب والترهيب، عبد العظيم المنذري، تحقيق محمد مصطفى عمارة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، الثانية 1373هـ.
- تسمية المفتين بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة، سليمان العمير، دار العاصمة، الأولى 1413هـ.
- التسهيل لعلوم التنزيل، محمد بن أحمد بن جزي، تحقيق محمد اليونسي وإبراهيم عوض، دار الكتب الحديثة.(106/471)
- التصور الذري في الفكر الفلسفي الإسلامي، منى أبو زيد، المؤسسة الجامعية، بيروت، الأولى 1414هـ.
- التعريفات، علي بن محمد الجرجاني، دار الكتب العلمية لبنان، الأولى 1403هـ.
- تفسير سورة الإخلاص، أحمد عبد الحليم بن تيمية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطبعة المعارف المغرب.
- تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن كثير، أشرف على طبعه لجنة من العلماء، دار الفكر، الثانية 1389هـ.
- تفصيل الإجمال في ما يجب لله من صفات الكمال، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطبعة المعارف، المغرب.
- تقريب التهذيب، أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الوهاب بن عبد اللطيف، دار المعرفة، بيروت، الثانية 1395هـ.
- التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، عبد الرحيم العراقي، تحقيق عبد الرحمن عثمان، دار الفكر 1401هـ.
- تلبيس إبليس، عبد الرحمن بن الجوزي، مكتبة المتنبي، القاهرة.
- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، أبو عمر بن عبد البر، تحقيق جماعة من العلماء، وزارة الأوقاف، المغرب.
- تنبيه الأخيار على عدم فناء النار، سليمان العلوان، مطبعة سفير.
- التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، محمد الملطي الشافعي، تحقيق يمان المياديني، رمادي للنشر، الأولى 1414هـ.
- التنبيه والرد على معتقد قدم العالم والحد، حسن السقاف، 1990م.
- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، علي الكناني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله الصديق، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1399هـ.
- تهافت الفلاسفة، أبو حامد الغزالي، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف السادسة.
- تهذيب الأسماء واللغات، شرف النووي، إدارة المطبوعات المنيرية.
- تهذيب التهذيب، أحمد بن حجر العسقلاني، دائرة المعارف النظامية، الهند، الأولى 1327هـ.(106/472)
- التوحيد، أبو منصور الماتريدي، تحقيق فتح الله خليف، دار الجامعات المصرية.
- التوحيد وإثبات صفات الرب - عز وجل -، ابن خزيمة، تحقيق عبد العزيز الشهوان، مكتبة الرشد، الخامسة 1414هـ.
- التوسل أنواعه وأحكامه، محمد ناصر الدين الألباني، تنسيق محمد عيد العباسي، المكتب الإسلامي، الخامسة 1406هـ.
- التوسل أنواعه وحكمه، عبد الكريم الحميدي، رسالة ماجستير في قسم العقيدة بجامعة الأمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
- التوسل بالنبي وجهلة الوهابيين، أبو حامد بن مرزوق (189)، مكتبة ايشيق، تركيا 1396هـ.
- التوسل الممنوع، عبد الباسط حسين، مكتبة المثنى، بغداد 1407هـ.
- التوضيح الجلي في الرد على النصيحة الذهبية المنحولة على الإمام الذهبي، محمد الشيباني، منشورات مركز المخطوطات، دار إحياء التراث، الكويت، الأولى 1413هـ.
- التوفيق الرباني في الرد على ابن تيمية الحراني، جماعة من العلماء.
- توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين، مرعي الحنبلي، تحقيق خليل السبيعي، دار طيبة، الأولى 1411هـ.
- تيسير التحرير على كتاب التحرير لابن همام، أمير بادشاه، دار الكتب العلمية، بيروت.
- تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، المكتبة الإسلامية، الثالثة 1387هـ.
- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن السعدي، تحقيق محمد زهري النجار، المؤسسة السعيدية، الرياض.
- الثبت، علي الشبل، دار الوطن، الرياض، الأولى 1417هـ.
- الجرح والتعديل، عبد الرحمن بن أبي حاتم، دائرة المعارف العثمانية، الهند، الأولى 1372هـ.
- جامع الرسائل، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، مطبعة المدني، الثانية 1405هـ.
- جامع الفرق والمذاهب الإسلامية، أمير مهنا، علي خريس، المركز الثقافي العربي، الثانية 1994م.(106/473)
- الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد القرطبي، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1387هـ.
- الجنة والنار، عمر الأشقر، دار النفائس، الأردن، السادسة 1415هـ.
- جزء في زيارة النساء للقبور، بكر أبو زيد، دار العاصمة، الثانية 1415هـ.
- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، ابن قيم الجوزية، تحقيق طه ياسين.
- جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، نعمان ابن الألوسي، مطبعة المدني، مصر.
- جامع بيان العلم وفضله، أبو عمر بن عبد البر، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
- جامع البيان في تفسير القرآن، محمد بن جرير الطبري، دار الفكر بيروت، 1398هـ، ونسخة محمود وأحمد شاكر دار المعارف بمصر.
- الجنة والنار والآراء فيهما، فيصل عبد الله، رسالة ماجستير إلى قسم العقيدة بجامعة أم القرى.
- الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه، عبد الرزاق معاش، دار الوطن، الأولى 1417هـ.
- الجواب الباهر في زوار المقابر، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تصحيح وتحقيق سليمان الصنيع وعبد الرحمن المعلمي، المطبعة السلفية.
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق علي حسن ناصر وعبد العزيز العسكر وحمدان الحمدان، دار العاصمة، الأولى 1414هـ.
- جواب على معنى حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها، محمد الشوكاني، تحقيق محمد الحلاق، دار الهجرة، صنعاء، الأولى 1411هـ.
- الجواهر المضية في طبقات الحنفية، أبو محمد القرشي، تحقيق عبد الفتاح الحلو، دار هجر، الأولى 1408هـ.
- الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم، أحمد بن حجر الهيتمي، دار جوامع الكلم.
- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت.
- الحاوي في فتاوى الحافظ أبي الفضل عبد الله الصديق الغماري، دار الأنصار، القاهرة، الأولى 1402هـ.
- حاشية رد المحتار على الدر المختار، محمد أمين (ابن عابدين)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1386هـ.(106/474)
- الحجة في بيان المحجة، إسماعيل الأصبهاني، تحقيق محمد مدخلي ومحمد أبو رحيم، دار الراية، الأولى 1411هـ.
- حجية أحاديث الآحاد في الأحكام والعقائد، الأمين الحاج أحمد، دار المطبوعات الحديثة، الأولى 1410هـ.
- الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الثانية 1400هـ.
- الحركات الباطنية في العالم الإسلامي، محمد أحمد الخطيب، مكتبة الأقصى، عمان، عالم الكتب - الرياض، الثانية 1406هـ.
- الحقائق الجلية في الرد على ابن تيمية فيما أورده في الفتوى الحموية، شهاب الدين بن جهبل، تحقيق طه الدسوقي 1987م.
- حقائق عن آل البيت والصحابة، يونس السامرائي، مراجعة عبد الله الأنصاري 1400هـ.
- حقيقة التوسل والوسيلة على ضوء الكتاب والسنة، موسى على، دار التراث العربي، الثانية 1410هـ.
- حكاية المناظرة في العقيدة الواسطية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطبعة المعارف، المغرب.
- حكاية المناظرة في القرآن، ابن قدامة المقدسي، تحقيق عبد الله الجديع، مكتبة الرشد، الأولى 1409هـ.
- حكم الإسلام في التوسل بالأنبياء والأولياء عليهم السلام، محمد حسنين مخلوف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مصر 1394هـ.
- الحكم الجديرة بالإذاعة، ابن رجب الحنبلي، إشراف زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، الثانية 1408هـ.
- حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد، محمد بن سلطان المعصومي، تحقيق محمد الخميس، دار العاصمة، الأولى 1414هـ.
- الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، محمد مدخلي، مكتبة لينة، الأولى 1409هـ.
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، مكتبة الخانجي ومطبعة السعادة، الأولى 1351هـ.
- الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، يوسف السرمري، تحقيق صلاح الدين مقبول، مجمع البحوث العلمية، نيودلهي، الأولى 1412هـ.(106/475)
- حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، محمد بهجه البيطار، المكتب الإسلامي، الثالثة 1407هـ.
- خبر الواحد في السنة، سهير مهنا، دار الشروق، الأولى.
- خطبة الحاجة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الثالثة 1397هـ.
- خلافة معاوية بن أبي سفيان، عمر بن سليمان العقيلي، الرياض، الأولى 1404هـ.
- خلق أفعال العباد، محمد بن إسماعيل البخاري، ضمن عقائد السلف للنشار وطالبي، منشأة المعارف، الإسكندرية.
- الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة، عامر النجار، عالم الكتب، الأولى 1406هـ.
- درء تعارض العقل والنقل، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، الأولى 1401هـ.
- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق محمد سيد جاد الحق، دار الكتب الحديثة.
- در السحابة في مناقب القرابة والصحابة، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق حسين العمري، دار الفكر، تصوير 1411هـ.
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي، الناشر محمد أمين دمج، بيروت.
- الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، مع شرحها لوامع الأنوار البهية، محمد بن أحمد السفاريني، مؤسسة الخافقين، دمشق، الثانية 1402هـ.
- دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة، صلاح الدين مقبول، مجمع البحوث العلمية، نيودلهي، الأولى 1412هـ.
- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، محمد الأمين الشنقيطي، مطابع الرياض، الأولى 1375هـ.
- دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، أبو الفرج ابن الجوزي، تحقيق حسن السقاف، دار ابن الجوزي، الثالثة 1413هـ. ونسخة محمد زاهد الكوثري، مكتبة الكليات الأزهرية.
- دفع الشبه الغوية عن شيخ الإسلام ابن تيمية، مراد شكري، الأولى 1415هـ.
- دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد، تقي الدين الحصني، دار إحياء الكتب العربية 1350هـ.(106/476)
- دلائل النبوة، أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1405هـ.
- ديوان البوصيري، أبو عبد الرحمن البوصيري، تحقيق محمد سيد كيلاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الثانية 1393هـ.
- ديوان السري الرفاء، مكتبة المقدسي، القاهرة 1355هـ.
- ديوان عامر بن الطفيل، دار بيروت للطباعة 1402هـ.
- ديوان عنترة، دار بيروت للطباعة، بيروت 1404هـ.
- ديوان لبيد بن ربيعة، دار صادر، بيروت.
- ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، أحمد الطبري المكي، حققه أكرم البوشي 1415هـ.
- ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث، عبد الغني النابلسي، دار المعرفة، بيروت.
- الذخيرة، علاء الدين الطوسي، عالم الكتب، بيرت 1982م.
- ذكر المذاهب الثنتين والسبعين، عبد الله بن أسعد اليافعي، تحقيق موسى الدويش، دار البخاري، الأولى 1410هـ.
- ذم التأويل، ابن قدامة المقدسي، تحقيق بدر البدر، الدار السلفية الكويت، الأولى 1406هـ.
- ذم الكلام، عبد الله بن محمد الهروي، تحقيق سميح دغيم، دار الفكر اللبناني، الأولى 1994م.
- ذم الهوى، أبو الفرج بن الجوزي، تحقيق أحمد عبد السلام عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1407هـ.
- ذيل تاريخ الإسلام، محمد بن أحمد الذهبي، ضمن ثلاث تراجم مستلة منه لمحمد العجمي، دار ابن الأثير، الكويت، الأولى 1415هـ.
- ذيل طبقات الحنابلة، ابن رجب الحنبلي، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، مصر.
- الرد الأقوم على ما في فصوص الحكم، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطبعة المعارف المغرب.
- رد الإمام الدرامي على بشر المريسي، تعليق محمد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- رد شبهات الإلحاد عن أحاديث الآحاد، عبد العزيز بن راشد، المكتب الإسلامي، الثانية 1401هـ.(106/477)
- الرد على الأخنائي واستحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق عبد الرحمن المعلمي، طبع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض 1404هـ.
- الرد على البكري، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، الدار العلمية، الهند، الثانية 1405هـ.
- الرد على الجهمية، الإمام الدارمي، ضمن عقائد السلف للنشار وطالبي، منشأة المعارف الإسكندرية.
- الرد على الجهمية والزنادقة، أحمد بن حنبل، ضمن عقائد السلف للنشار وطالبي، منشأة المعارف، الإسكندرية.
- الرد على الرافضة، أبو حامد المقدسي، تحقيق عبد الوهاب خليل الرحمن، الدار السلفية، الهند، الأولى 1403هـ.
- الرد على المنطقيين، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، المطبعة القيمة، بمباي، 1368هـ.
- الرد على من قال بفناء الجنة والنار، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق محمد السمهري، دار بلنسية، الأولى 1415هـ.
- الرد المحكم المبين على كتاب القول المبين، عبد الله الغماري، مكتبة القاهرة، الثانية 1374هـ.
- الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر، ابن ناصر الدين الدمشقي، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، الثالثة 1411هـ.
- الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق أحمد شاكر، المكتبة العلمية بيروت.
- رسالة تشتمل على ما ذكره ابن تيمية في منهاجه فيما يتعلق بالإمامة والتفضيل، الحسن بن إسحاق، تحقيق عبد الفتاح فؤاد، دار المعرفة الجامعية، جامعة الإسكندرية 1985م.
- رسالة الثغر، أبو الحسن الأشعري، تحقيق محمد الجليند، دار اللواء، الثانية 1410هـ.
- رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري، أبو القاسم بن درباس، تحقيق علي فقيهي.
- رسالة في الصفات الاختيارية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن جامع الرسائل، تحقيق محمد رشاد سالم، مطبعة المدني، الثانية 1405هـ.(106/478)
- رسالة في علم الله، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن جامع الرسائل، تحقيق محمد رشاد سالم، مطبعة المدني، الثانية 1405هـ.
- الرسالة المستطرفة، محمد بن جعفر الكتاني، دار الباز، الثانية 1400هـ.
- الرفاعية، عبد الرحمن دمشقية، الأولى 1410هـ.
- رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، محمد الصنعاني، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الأولى 1405هـ.
- رفع الاشتباه في استحالة الجهة على الله، يوسف النبهاني، ضمن شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
- رفع الملام عن الأئمة الأعلام، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، الثانية 1404هـ.
- الروح، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد أنيس ومحمد السرجاني، مكتبة نصير.
- الروض الأنف في شرح السيرة النبوية، عبد الرحمن السهيلي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب.
- زاد المسير في علم التفسير، أبو الفرج بن الجوزي، المكتب الإسلامي، الأولى 1387هـ.
- الزواجر عن اقتراف الكبائر، أحمد بن حجر الهيتمي، دار المعرفة، بيروت.
- الزيدية، أحمد صبحي، الزهراء للإعلام العربي، الثانية 1404هـ.
- الزيدية، الصاحب بن عباد، تحقيق ناجي حسن، الدار العربية للمطبوعات، الأولى 1986م.
- الزيدية نظرية وتطبيق، عي شرف الدين، العصر الحديث للنشر، الثانية 1412هـ.
- الزينة في المصطلحات الإسلامية والعربية، أبو حاتم الرازي الفاطمي، تحقيق حسين الهمداني، الرسالة 1956/1958م.
- سعادة الدارين في الرد على الفرقتين الوهابية ومقلدة الظاهرية، إبراهيم السمنودي، المطبعة العامرية، مصر 1326هـ.
- سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الرابعة 1405هـ.
- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الأولى 1399هـ.(106/479)
- سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، محمد خليل المرادي، دار البشائر، دار ابن حزم، الثالثة 1408هـ.
- سلم الوصول إلى علم الأصول، ضمن معارج القبول، حافظ حكمي، طبع رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.
- سنن ابن ماجه، أبو عبد الله القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.
- سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
- سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، عبد الرحمن عثمان، دار الفكر، بيروت، الثانية 1403هـ.
- سنن الدارقطني، علي بن عمر الدارقطني، ضمن التعليق المغني على سنن الدارقطني، نشر السنة، باكستان.
- سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عناية محمد أحمد دهمان، دار إحياء السنة النبوية.
- السنن الكبرى، أحمد بن الحسين البيهقي، دار صادر، الأولى 1356هـ.
- سنن النسائي، أحمد بن شعيب النسائي، ومعه شرحه للسيوطي، وحاشية السندي، دار الفكر، بيروت 1348هـ.
- السنة، أبو بكر الخلال، تحقيق عطية الزهراني، دار الراية، الأولى 1410هـ.
- السنة، أبو بكر بن أبي عاصم، تخريج محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الثانية 1405هـ.
- سؤال في يزيد بن معاوية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، بيروت، الثالثة.
- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، دار الكاتب العربي.
- سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي، أشرف على تحقيقه شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الثانية 1402هـ.
- سيرة الشيخ الكبير أبي عبد الله محمد بن خفيف، أبو الحسن الديلمي، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة 1397هـ.
- السيرة النبوية، ابن هشام المعافري، تحقيق جماعة من العلماء، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الثانية 1375هـ.(106/480)
- السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل، تقي الدين السبكي، وتكملته لمحمد الكوثري، مطبعة السعادة مصر 1356هـ.
- شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة، عبد الرحمن دمشقية، دار الجاري لبنان.
- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، محمد بن محمد مخلوف، دار الكتاب العربي، بيروت مصور من الطبعة الأولى 1349هـ.
- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد الحنبلي، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
- شرح إحياء علوم الدين (اتحاف السادة المتقين)، محمد بن الحسين الزبيدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- شرح أصول اعتقاد أهل السنة، هبة الله اللالكائي، تحقيق أحمد سعد حمدان، دار طيبة، الرياض، الثانية 1411هـ.
- شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار، تعليق أحمد هاشم، تحقيق عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، الثانية 1408هـ.
- شرح حديث عمران بن حصين، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطبعة المعارف المغرب.
- شرح حديث النزول، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق محمد الخميس، دار العاصمة، الأولى 1414هـ.
- شرح السنة، الحسن بن علي البربهاري، تحقيق محمد القحطاني، رمادي للنشر، الثانية 1414هـ.
- شرح السنة للبغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش، المكتب الإسلامي.
- شرح صحيح مسلم، محيي الدين النووي، دار الفكر 1401هـ.
- شرح الصدر في السؤال عن أول هذا الأمر، منصور السماري، دار العاصمة 1416هـ.
- شرح العقيدة الأصفهانية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تقديم حسنين مخلوف، دار الكتب الإسلامية، مصر.
- شرح العقيدة الطحاوية، علي بن أبي العز الحنفي، تحقيق عبد الله التركي وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الأولى 1408هـ.
- شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، عبد الله الغنيمان، مكتبة الدار، المدينة، الأولى 1405هـ.(106/481)
- شرح المقاصد، مسعود التفتازاني، تحقيق عبد الرحمن عميرة، عالم الكتب، الأولى 1409هـ.
- شرح الهمزية في مدح خير البرية، محمد شلبي، مطبعة النهضة 1343هـ.
- الشرك ومظاهره، مبارك الميلي، مكتبة النهضة الجزائرية، الثانية 1966م.
- شروط الأئمة الستة، محمد بن طاهر القيسراني، تعليق محمد الكوثري، دار زاهد القدسي.
- الشريعة، أبو بكر الآجري، تحقيق محمد الفقي، أنصار السنة المحمدية، لاهور.
- الشعر والشعراء، ابن قتيبة، تحقيق أحمد شاكر، دار المعارف.
- الشفا في شمائل صاحب الاصطفا صلّى الله عليه وسلّم، القاضي عياض، ضمن شرحيه شرح الشفا ونسيم الرياض، دار الكتاب العربي، بيروت.
- شفاء السقام في زيارة خير الأنام، تقي الدين السبكي، دار الجيل، بيروت، الأولى 1411هـ.
- شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور، مرعي الحنبلي، تحقيق عادل الجطيلي، مكتبة الصحوة.
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن قيم الجوزية، تحرير الحساني بن عبد الله، دار التراث، القاهرة.
- شفاء الفؤاد بزيارة خير العباد، محمد مالكي، وزارة الشؤون الإسلامية، الإمارات، الأولى 1411هـ.
- الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، مرعي الحنبلي، تحقيق نجم خلف، مؤسسة الرسالة، دار الفرقان، الأولى 1404هـ.
- شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، يوسف النبهاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
- شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه، عبد الرحمن الفريوائي، دار العاصمة، الأولى 1416هـ.
- شيخ الإسلام الحافظ أحمد بن تيمية، أبو الحسن الندوي، دار القلم، الكويت، الرابعة 1407هـ.
- الصارم المسلول على شاتم الرسول، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت 1398هـ.
- الصارم المنكي في الرد على السبكي، محمد بن أحمد عبد الهادي، تحقيق عقيل المقطري، مؤسسة الريان بيروت، الأولى 1412هـ.(106/482)
- صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الكتاب والسنة، عيادة الكبيسي، دار القلم، دمشق، المنارة بيروت، الأولى 1407هـ.
- الصحاح، إسماعيل الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الثانية 1402هـ.
- صحيح ابن حبان (ضمن الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان) علي بن بلبان الفارسي، ضبط كمال الحوت، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1407هـ.
- صحيح ابن خزيمة، أبو بكر بن خزيمة، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي.
- صحيح الأدب المفرد، محمد ناصر الدين الألباني، دار الصديق الجبيل، الأولى 1414هـ.
- صحيح البخاري ضمن فتح الباري لابن حجر، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة السلفية 1380هـ.
- صحيح الجامع الصغير وزيادته، محمد ناصر الدين الألباني، إشراف زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، الثانية 1406هـ.
- صحيح سنن ابن ماجه، محمد ناصر الدين الألباني، إشراف زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الثالثة 1408هـ.
- صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، مكتب التربية لدول الخليج، الأولى 1408هـ.
- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 1400هـ.
- الصفدية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الثانية 1406هـ.
- الصلة، أبو القاسم خلف بن بشكوال، الدار المصرية للتأليف والترجمة 1966م.
- الصمت وحفظ اللسان، ابن أبي الدنيا، تحقيق محمد عاشور، دار الاعتصام، الأولى 1406هـ.
- الصوفية الفقراء، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطبعة المعارف، المغرب.
- صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام، عبد الرحمن السيوطي، تعليق علي سامي النشار، مكتبة عباس الباز.(106/483)
- ضعيف سنن ابن ماجه، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الأولى 1408هـ.
- ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة، عبد الله القرني، مؤسسة الرسالة، الأولى 1413هـ.
- ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، عبد الرحمن الميداني، دار القلم دمشق بيروت، الثانية 1401هـ.
- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، محمد السخاوي، دار مكتبة الحياة.
- طبقات الحنابلة، القاضي أبو يعلى، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية مصر.
- طبقات الشافعية الكبرى، عبد الوهاب السبكي، تحقيق محمود الطناحي، مطبعة عيسى البابي الحلبي، الأولى 1383هـ.
- طبقات الصوفية، أبو عبد الرحمن السلمي، تحقيق نور الدين شريبه، دار الكتاب النفيس، الثانية 1406هـ.
- طبقات فحول الشعراء، محمد بن سلام الجمحي، تحقيق محمود شاكر، المدني، القاهرة.
- الطبقات الكبرى، عبد الوهاب الشعراني، دار الجيل، بيروت، الأولى 1408هـ.
- الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، دار بيروت للطباعة والنشر 1400هـ.
- طبقات المدلسين، أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق عاصم القريوتي، مكتبة المنار، الأولى.
- طراز البردة، محمد كامل عبد العظيم، دار الكتب الحديثة.
- ظاهرة التأويل وصلتها باللغة، السيد أحمد عبد الغفار، دار الرشيد للنشر 1400هـ.
- العبارة، أبو نصر الفارابي، تحقيق محمد سليم سالم، دار الكتب 1976م.
- العذر بالجهل عقيدة السلف، شريف هزاع، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الأولى 1408هـ.
- العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، محمد بن أحمد بن عبد الهادي، تحقيق محمد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، ناصر الشيخ، مكتبة الرشد، الأولى 1413هـ.
- عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي، تحقيق مصعب الحايك، مطبعة النرجس، الأولى 1413هـ.
- عقيدة الرازي، جمع محمود الحداد، دار الفرقان.(106/484)
- عقيدة السلف وأصحاب الحديث، إسماعيل الصابوني، تحقيق ناصر الجديع، دار العاصمة، الأولى 1415هـ.
- العقيدة السلفية بين الإمام أحمد وابن تيمية، سيد السيلي، دار المنار، الأولى 1413هـ.
- علم التوحيد عند خلص المتكلمين، عبد الحميد عز العرب، دار المنار 1407هـ.
- علم الكلام وبعض مشكلاته، أبو الوفا التفتازاني، دار الثقافة القاهرة 1991م.
- علي بن أبي طالب إمام العارفين: انظر البرهان الجلي.
- عمل اليوم والليلة، أبو بكر ابن السني، تحقيق بشير عيون، دار البيان دمشق، المؤيد الطائف، الأولى 1407هـ.
- عمل اليوم والليلة، أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق فاروق حمادة، مؤسسة الرسالة، الثانية 1406هـ.
- العواصم من القواصم، أبو بكر بن العربي، ضمن آراء أبي بكر بن العربي الكلامية لعمار طالبي، الشركة الوطنية، الجزائر، الثانية 1981م.
- عوامل وأهداف نشأة علم الكلام، يحيى فرغل، مجمع البحوث الإسلامية، مصر، 1392هـ.
- عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن أبي أصيبعة، تحقيق نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت.
- غاية الأماني في الرد على النبهاني، أبو المعالي الآلوسي، مطابع نجد، الرياض.
- الغدير في الكتاب والسنة والأدب، عبد الحسين النجفي، دار الكتاب العربي، بيروت، الخامسة 1403هـ.
- الغلو والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية، عبد الله السامرائي، دار واسط للنشر، الثانية 1982م.
- الفتاوى الحديثية، أحمد بن حجر الهيتمي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الثانية 1390هـ.
- الفتاوى الكبرى، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تقديم حسنين مخلوف، دار المعرفة.
- الفتاوى الهندية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الثانية.
- فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم، جمع وترتيب محمد بن قاسم، مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، 1399هـ.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن حجر العسقلاني، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة السلفية 1380هـ.(106/485)
- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد الشوكاني، دار الفكر.
- فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي، محمد بن عبد الرحمن السخاوي، دار الكتب العلمية، الأولى 1403هـ.
- فتح الملك العلي لصحة حديث باب مدينة العلم علي، أحمد الغماري، مطبعة السعادة، الأولى 1389هـ.
- الفتوى الحموية الكبرى، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق محمد عبد الرزاق حمزة، مطبعة المدني مصر 1403هـ.
- الفتوحات الإلهية، سليمان العجيلي (الجمل)، دار الفكر.
- الفرق الإسلامية في بلاد الشام في العصر الأموي، حسين عطوان، دار الجيل، الأولى 1986م.
- الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق عبد الرحمن اليحيى، دار طويق للنشر، الأولى 1414هـ.
- الفرقان بين الحق والباطل، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، ونسخة بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط، دار البيان دمشق الأولى 1405هـ.
- الفرق بين الفرق، عبد القاهر البغدادي، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت.
- فرق الشيعة، الحسن النوبختي، تعليق محمد صادق آل بحر العلوم، المكتبة المرتضوية، المطبعة الحيدرية، النجف 1355هـ.
- فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها، غالب عواجي، مكتبة لينة، الأولى 1414هـ.
- الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، عبد الله بن علي القصيمي، مكتبة رياض الجنة، الثانية 1989م.
- الفصل في الملل والأهواء والنحل، أبو محمد بن حزم، دار الندوة الجديدة بيروت.
- فصوص الحكم، محيي الدين بن عربي، دار الفكر العربي.
- فضائح الباطنية، أبو حامد الغزالي، تحقيق عبد الرحمن بدوي، دار الكتب الثقافية، الكويت.
- فضل المعتزلة وطبقات المعتزلة، للبلخي والقاضي عبد الجبار والجشمي، تحقيق فؤاد سيد، الدار التونسية تونس، المؤسسة الوطنية الجزائر، الثانية 1406هـ.(106/486)
- الفكر التربوي عند ابن تيمية، ماجد كيلاني، دار التراث المدينة، الثانية 1407هـ.
- فكرة الجوهر في الفكر الفلسفي الإسلامي، سامي لطف، الحرية الحديثة، مصر، الأولى 1978م.
- الفهرست لابن النديم، دار المعرفة، بيروت.
- الفوائد البهية، محمد اللكنوي، دار المعرفة للطباعة، بيروت.
- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، محمد الشوكاني، تحقيق عبد الرحمن المعلمي، الثانية 1392هـ.
- فوات الوفيات، محمد شاكر الكتبي، دار صادر، بيروت.
- فيض القدير شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف المناوي، دار المعرفة بيروت. الثانية 1391هـ.
- فيض الوهاب في بيان أهل الحق ممن ضل عن الصواب، عبد ربه بن سليمان (القليوبي)، دار القومية 1383هـ.
- الفيلسوف نصير الدين الطوسي، عبد الأمير الأعسم، دار الأندلس، الأولى 1975م.
- القاضي أبو يعلى وكتابه مسائل الإيمان، سعود الخلف، دار العاصمة، الأولى 1410هـ.
- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق ربيع مدخلي، مكتبة لينة، مصر، الأولى 1409هـ.
- قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام وعبادات أهل الشرك والنفاق، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق سليمان الغصن، دار العاصمة، الأولى 1411هـ.
- قاعدة في المحبة، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن جامع الرسائل، تحقيق محمد رشاد سالم، مطبعة المدني، مصر، الثانية 1405هـ.
- القاموس المحيط، محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، دار الجيل، بيروت.
- قراءة في علم الكلام (الغائية عند الأشاعرة)، نوران الجزيري، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992م.
- القرمطية بين الدين والثورة، حسن بزون، دار الحقيقة، بيروت، الأولى 1408هـ.
- القصائد الوترية في مدح خير البرية، للبغدادي، مكتبة مضوى.
- القصيدة البغدادية في مدح خير البرية، محمد بن أبي بكر الشافعي، الدار العالمية 1413هـ.(106/487)
- قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، صديق حسن خان، تحقيق عاصم القريوتي، الأولى 1404هـ.
- القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، محمد بن صالح بن عثيمين، مكتبة الكوثر الرياض 1406هـ.
- قواعد المنهج السلفي، مصطفى حلمي، دار الدعوة للنشر والتوزيع، الإسكندرية، الثانية 1405هـ.
- قواعد وضوابط التكفير، خالد فوزي، مكتبة لينة، الأولى 1412هـ.
- القول الجلي في ترجمة تقي الدين ابن تيمية الحنبلي، محمد صفي الدين البخاري، تحقيق سالم الدخيل، ضمن مجلة كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض 1399 - 1400هـ.
- القول المختار لبيان فناء النار، عبد الكريم الحميد، الأولى 1412هـ.
- القول المفيد على كتاب التوحيد، محمد بن صالح بن صالح بن عثيمين، تحقيق سليمان أبا الخيل وخالد المشيقح، دار العاصمة، الأولى 1415هـ.
- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق عزت عطية، دار الكتب الحديثة، القاهرة، الأولى 1392هـ.
- الكافية الشافية (النونية)، ابن القيم الجوزية، ضمن شرحها لمحمد هراس، مكتبة ابن تيمية، القاهرة 1407هـ.
- الكامل في التاريخ، علي بن الأثير، دار الكتاب العربي بيروت، الثانية 1405هـ.
- الكامل في ضعفاء الرجال، عبد الله بن عدي الجرجاني، دار الفكر، الثانية 1405هـ.
- كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار، علي الحربي، دار طيبة، الأولى 1410هـ.
- كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، العجلوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الثانية 1351هـ.
- كشف المحجوب، للهجويري، دراسة إسعاد قنديل، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مصر 1395هـ.
- كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب، أبو الحسن الطباطبائي، المطبعة الحيدرية، النجف 1345هـ.
- الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي، مراجعة عبد الحليم وعبد الرحمن محمود، دار الكتب الحديثة، القاهرة، الثانية.(106/488)
- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، حسام الدين الهندي، تحقيق بكري حياني وصفوت السقا، الرسالة 1399هـ.
- الكيلانية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطبعة المعارف المغرب.
- اللآليء البهية في شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية، أحمد المرداوي، تعليق صالح الفوزان، تخريج لجنة من طلاب العلم، دار المسلم، الأولى 1417هـ.
- لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، يوسف المكلاتي، تحقيق فوقية حسين، دار الأنصار، القاهرة، الأولى 1977م.
- لسان العرب، أبو الفضل ابن منظور، دار الفكر، دار صادر، بيروت، الأولى 1410هـ.
- لسان الميزان، أحمد بن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الثانية 1390هـ.
- اللمع، لأبي نصر الطوسي، تحقيق عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي، مطبعة السعادة 1380هـ.
- لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، ابن قدامة المقدسي، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، دار الهدى، الثالثة 1408هـ.
- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية، محمد بن أحمد السفاريني، مؤسسة الخافقين، دمشق، الثانية 1402هـ.
- المباحث المشرقية، فخر الدين الرازي، تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، الأولى 1410هـ.
- المبين شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين، سيف الدين الآمدي، ضمن كتاب الفليسوف الآمدي، دراسة وتحقيق عبد الأمير الأعسم، دار المناهل، بيروت، الأولى 1407هـ.
- مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، أبو الفرج ابن الجوزي، تحقيق مرزوق إبراهيم، دار الراية، الرياض، الأولى 1415هـ.
- مجاز القرآن، أبو عبيدة معمر بن المثنى، تحقيق فؤاد سزكين، مكتبة الخانجي، دار الفكر، الثانية 1390هـ.
- المجالس الأربعة من مجالس الأبرار، أحمد الرومي، تحقيق محمد الخميس، دار العاصمة، الأولى 1414هـ.(106/489)
- المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، محمد بن حبان البستي، تحقيق محمد زايد، دار الباز، مكة المكرمة.
- مجلة الحكمة، العدد الخامس، شوال 1415هـ.، بريطانيا.
- مجلة المنار العدد الخامس محفوظ في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية برقم 71354، والسابع برقم 71355.
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي الهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت، الثانية 1967م.
- مجمل اللغة، أبو الحسين بن فارس، تحقيق زهير سلطان، مؤسسة الرسالة، بيروت، الأولى 1404هـ.
- المجموع شرح المهذب، محيي الدين النووي، الناشر زكريا يوسف، مطبعة العاصمة، القاهرة.
- مجموع فتاوى ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، طبعة مكتبة المعارف، الرباط.
- مجموعة القصائد والموالد والأشعار في المدائح النبوية، دار النجم، الأولى 1994م.
- مجموعة مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، محمد الشيباني، منشورات مركز المخطوطات، دار إحياء التراث، الأولى 1413هـ.
- محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب، الأولى 1379هـ.
- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، عبد الحق بن عطية، تحقيق المجلس العلمي بفاس، وزارة الأوقاف بالمغرب.
- محق التقول في مسألة التوسل، محمد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، 1414هـ.
- مختصر الصواعق المرسلة، محمد الموصلي، دار الندوة الجديدة، بيروت 1405هـ.
- المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة، محمد بن سعد بن حسين، مطابع الفرزدق، الرياض، الأولى 1406هـ.
- المدخل إلى دراسة علم الكلام، حسن الشافعي، مكتبة وهبة، الثانية 1411هـ.
- المدخل إلى معاني الفلسفة، عرفان عبد الحميد، دار الجيل بيروت، دار عمار لبنان، الأولى 1409هـ.
- المدرسة الفلسفية في الإسلام، محمد الفيومي، دار الثقافة، مصر 1410هـ.(106/490)
- مذاهب الإسلاميين، عبد الرحمن بدوي، دار العلم للملايين، الثالثة 1983م.
- المذاهب الصوفية ومدارسها، عبد الحكيم قاسم، مكتبة مدبولي 1989م.
- مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات، ابن حزم الأندلسي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل، عبد الله الأحمدي، دار طيبة، الأولى 1412هـ.
- المسألة المصرية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطبعة المعارف، المغرب.
- المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم، دار الفكر بيروت، وبهامشه تلخيص المستدرك للذهبي.
- مسند أبي يعلى الموصلي، أحمد بن المثنى، تحقيق حسين أسد، دار المأمون للتراث، الأولى 1404هـ.
- مسند أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي، دار صادر، بيروت، الأولى 1389هـ، ونسخة بتحقيق أحمد شاكر، دار المعارف بمصر 1375هـ، وطبعة مؤسسة الرسالة بتحقيق شعيب الأرناؤوط.
- مسند الطيالسي، سليمان بن الجارود، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الأولى 1321هـ.
- المسودة، عبد السلام وعبد الحليم وأحمد بن تيمية، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني القاهرة 1384هـ.
- المشاهدات المعصومية عند قبر خير البرية، محمد بن سلطان المعصومي، تحقيق محمد الخميس، دار العاصمة، الأولى 1414هـ.
- مشكاة الأنوار الهادمة لقواعد الباطنية الأشرار، يحيى بن حمزة العلوي، تحقيق محمد الجليند، الدار اليمنية للنشر والتوزيع، الثالثة 1403هـ.
- مشكل الآثار، أبو جعفر الطحاوي، دار صادر، الأولى 1333هـ.
- مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام، علوي الحداد، المطبعة العامرة، مصر 1325هـ.
- المصباح المنير في غريب شرح الرافعي الكبير، أحمد الفيومي، المكتبة العلمية، بيروت.(106/491)
- المصنف، عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، الأولى 1392هـ.
- المصنف، عبد الله بن أبي شيبة، تحقيق مختار الندوي، الدار السلفية، الهند، الأولى 1401هـ.
- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.
- معارج الوصول، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطبعة المعارف، المغرب.
- معالم الانطلاقة الكبرى، محمد المصري، دار طيبة، الرابعة 1409هـ.
- معالم التنزيل، الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق خالد العك ومروان سوار، دار المعرفة بيروت، الأولى 1406هـ.
- معالم السنن، حمد الخطابي، المكتبة العلمية، الثانية 1401هـ.
- معاني القرآن، أبو جعفر النحاس، جامعة أم القرى 1408هـ.
- المعتزلة، زهدي جار الله، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، السادسة 1410هـ.
- المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها، عواد المعتق، دار العاصمة، الأولى 1409هـ.
- معتزلة اليمن، علي زيد، مركز الدراسات والبحوث، صنعاء، دار العودة بيروت، الثانية 1985م.
- معجم ألفاظ الصوفية، حسن الشرقاوي، مؤسسة المختار، القاهرة، الأولى 1987م.
- معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- معجم الفرق الإسلامية، عارف تامر، دار المسيرة، بيروت 1990م.
- المعجم الفلسفي، جميل صليبا، الشركة العالمية للكتاب، دار الكتاب اللبناني، دار الكتاب المصري.
- المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، مصر، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية 1403هـ.
- معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، مكتبة المثنى، دار إحياء التراث العربي 1376هـ.
- معيار العلم، أبو حامد الغزالي، شرح أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1410هـ.
- المغرب في حلي المغرب، ابن سعيد المغربي ومجموعة من المؤلفين، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، الثانية،(106/492)
- المغني لابن قدامة المقدسي، تحقيق عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، دار هجر، الأولى 1406هـ.
- المغني في أبواب التوحيد والعدل، القاضي عبد الجبار، تحقيق جماعة من المحققين، وزارة الثقافة، مصر.
- مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي، الثالثة.
- مفاهيم يجب أن تصحح، محمد علوي مالكي، دار الإنسان، الأولى 1405هـ.
- مقالات الإسلاميين، أبو القاسم البلخي، الدار التونسية تونس، المؤسسة الوطنية الجزائر 1406هـ.
- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، أبو الحسن الأشعري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية، الثانية 1389هـ.
- المقالات السنية في كشف ضلالات أحمد بن تيمية، عبد الله الهرري (الحبشي)، دار المشاريع، الثانية 1414هـ.
- مقالات الكوثري، محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث 1414هـ.
- المقالات والفرق، سعد الأشعري القمي، تصحيح محمد جواد مشكور، مطبعة حيدري، طهران 1963م.
- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، محمد بن عبد الرحمن السخاوي، تصحيح عبد الله بن محمد الصديق، دار الكتب العلمية، بيروت.
- مقاصد الفلاسفة في المنطق والحكمة الإلهية والحكمة الطبيعية، أبو حامد الغزالي، المطبعة المحمودية، الأزهر، الثانية 1355 هـ.
- المقدمات الخمس والعشرون في إثبات وجود الله ووحدانيته وتنزهه من أن يكون جسماً أو قوة في جسم من دلائل الحائرين، موسى بن ميمون، شرح التبريزي، تصحيح محمد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث 1413هـ.
- مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع، ناصر العقل، دار الوطن، الأولى 1414هـ.
- المقدمة لابن أبي زيد القيرواني، ضمن شرحها للأمين الحاج، دار المطبوعات الحديثة، جدة، الأولى 1412هـ.
- مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، أبو عمرو بن الصلاح، دار الكتب العلمية، بيروت 1398هـ.(106/493)
- الملل والنحل، عبد القاهر البغدادي، تحقيق ألبير نادر، دار المشرق، بيروت، الثانية.
- الملل والنحل، محمد الشهر ستاني، تحقيق أحمد فهمي، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1410هـ، وطبعة أخرى بتحقيق محمد بدران، مكتبة الأنجلو، القاهرة.
- مناظرة الدجاجلة البطائحية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطبعة المعارف، المغرب.
- مناقب الإمام أحمد، أبو الفرج بن الجوزي، تحقيق عبد الله التركي، مكتبة الخانجي، مصر، الأولى 1399هـ.
- مناقب الشافعي، أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق السيد أحمد صقر، دار التراث، الأولى 1391هـ.
- مناقب الشافعي، فخر الدين الرازي، تحقيق أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية 1406هـ.
- مناهج البحث عند مفكري الإسلام، علي سامي النشار، دار النهضة العربية، بيروت 1404هـ.
- المناهج والمذاهب الفكرية والعلوم عند العرب، محمد العريبي، دار الفكر اللبناني، الأولى 1994م.
- المنتقى من منهاج الاعتدال، محمد بن أحمد الذهبي، دار البيان دمشق، تحقيق محب الدين الخطيب، 1374هـ.
- منحة المعبود، أحمد البنا (الساعاتي)، المكتبة الإسلامية، بيروت، الثانية 1400هـ.
- المنحة الوهبية في رد الوهابية، داود بن سليمان، مكتبة ايشيق تركيا، الثالثة 1398هـ.
- منهاج السنة النبوية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الأولى 1406هـ.
- المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، عبد الرحمن العليمي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الأولى 1383هـ، مطبعة المدني.
- منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، عثمان حسن، مكتبة الرشد، الأولى 1412هـ.
- منهج إمام الحرمين في دراسة العقيدة، أحمد العبد اللطيف، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الأولى 1414هـ.(106/494)
- منهج الشهرستاني في كتابة الملل والنحل، محمد السحيباني، رسالة ماجستير في قسم العقيدة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
- منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير عقيدة التوحيد، إبراهيم البريكان، رسالة دكتواره في قسم العقيدة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
- منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في الدعوة، عبد الله بن رشيد الحوشاني، دار إشبيليا، الأولى 1417هـ.
- منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين، مصطفى حلمي، دار الدعوة، الإسكندرية.
- منهج القاضي أبي يعلى في أصول الدين، فهد الفايز، رسالة ماجستير من قسم العقيدة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
- المنية والأمل، القاضي عبد الجبار، جمع أحمد المرتضى، تحقيق عصام الدين علي، دار المعرفة الجامعية 1985م.
- المؤتلف والمختلف، الحسن بن بشر الآمدي، تحقيق ف. كرنكو، دار الكتب العلمية، لبنان، الثانية 1402هـ.
- المواقف في علم الكلام، عبد الرحمن الأيجي، عالم الكتب، بيروت.
- الموضوعات، أبو الفرج بن الجوزي، تخريج توفيق حمدان، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1415هـ.
- موقف ابن تيمية من الأشاعرة، عبد الرحمن المحمود، مكتبة الرشد، الأولى 1415هـ.
- موقف ابن تيمية من الرافضة، للشمسان، رسالة ماجستير في قسم العقيدة، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
- موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة، سليمان الغصن، دار العاصمة، الأولى 1416هـ.
- الموطأ مالك بن أنس، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، كتاب الشعب.
- ميزان الاعتدال، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق علي البجاوي، دار المعرفة، بيروت.
- النبوات، أحمد بن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت 1405هـ.
- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، جمال الدين يوسف بن تغري بردي الأتابكي، مصورة عن طبعة دار الكتب بمصر.(106/495)
- نزهة الألباء في طبقات الأدباء، عبد الرحمن بن الأنباري، تحقيق إبراهيم السامرائي، مكتبة المنار، الأردن، الثالثة 1405هـ.
- نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، علي النشار، دار المعارف، السابعة 1977م.
- نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، عرفان عبد الحميد، المكتب الإسلامي، 1394هـ.
- النصيحة في صفات الرب - جل وعلا -، أحمد الواسطي، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، الثالثة 1403هـ.
- نقد مراتب الإجماع، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، بهامش مراتب الإجماع لابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت.
- النكت والعيون (تفسير الماوردي)، أبو الحسن علي الماوردي، تحقيق السيد عبد الرحيم، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1412هـ.
- نهاية الإقدام في علم الكلام، محمد الشهرستاني، تحقيق ألفرد جيوم.
- النهاية في غريب الحديث، أبو السعادات ابن الأثير، تحقيق محمود الطناحي، المكتبة الإسلامية.
- نهاية القصد والتوسل لفهم كلمة الدور والتسلسل، أحمد بن عبد الرحيم الطهطهاوي، مخطوط في دار الكتب المصرية برقم 39788.
- نواقض الإيمان الاعتقادية، محمد الوهيبي، دار المسلم، الأولى 1416هـ.
- نواقض الإيمان القولية والعملية، عبد العزيز العبد اللطيف، دار الوطن، الأولى 1414هـ.
- هذه مفاهيمنا، صالح آل الشيخ، مطابع القصيم 1406هـ.
- الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب، ابن قيم الجوزية، تحقيق إسماعيل الأنصاري، نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، مطابع النصر الحديثة.
- الواسطية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطبعة المعارف، المغرب.
- وحدة الوجود في الفكر العربي، محمد الراشد، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1985م.
- وسطية أهل السنة بين الفرق، محمد باكريم باعبد الله، دار الراية، الأولى 1415هـ.(106/496)
- الوصية الكبرى، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق محمد الحمود، مكتبة ابن الجوزي، الثانية 1408هـ.
- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أحمد بن خلكان، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية، الأولى 1367هـ.
- الوهابية في الميزان، جعفر السبحاني، دار المنتظر، بيروت، الثانية 1408هـ.
2 - فهرس الموضوعات
* المقدمة
ترجمة ابن تيمية
منهج شيخ الإسلام في تقرير العقيدة والاستدلال عليها
أقسام المناوئين
المنهج العام للمناوئين
اعتراف خصومه بقدره
دعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية
مناقشة دعاوى المناوئين حول منهج ابن تيمية
التعريف بالمشبهة
اعتقاد السلف نفي التمثيل والتشبيه
رد السلف دعوى أن الإثبات يستلزم التشبيه
دعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه
مناقشة الدعوى
دعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله
مناقشة الدعوى
موقفه من اليهود
موقفه من أبي البركات
موقفه من الكرامية
موقفه من نسبة التجسيم إلى الحنابلة
دعوى قوله بالجهة والتحيز
مناقشة الدعوى
الموقف من الألفاظ المجملة
مناقشة دعوى قول شيخ الإسلام بالحيز والجهة
التسلسل
الصفات الاختيارية
شرح حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -
دعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لها يستلزم القول بقدم العالم
مناقشة الدعوى
عقيدة أهل السنة في زيارة القبور وشد الرحل إليها
الزعم بأن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور
مناقشة دعوى أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور
دعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلّى الله عليه وسلّم
مناقشة الدعوى
دعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور
مناقشة الدعوى
دعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياء وقبور غيرهم
مناقشة الدعوى
عقيدة أهل السنة والجماعة في التوسل
دعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين، وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك(106/497)
مناقشة الدعوى
دعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدم جواز التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم
مناقشة الدعوى
دعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين وإهانته لهم
مناقشة الدعوى
عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة
دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم الخلفاء الأربعة
مناقشة الدعوى
دعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت وتعمية مناقبهم
مناقشة الدعوى
دعوى رد الأحاديث الصحيحة في مقام المبالغة في توهين كلام الشيعة
مناقشة الدعوى
دلالة نصوص الكتاب والسنة على خلود النار
دعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار
مناقشة الدعوى
* الخاتمة
1 - فهرس المراجع
2 - فهرس الموضوعات(106/498)
دفاع عن العقيدة وعن العلامة ابن باز
والرد على جهالات المرتزقة
تأليف
أبي عبد الرحمن
محمد مال الله عبد الله الخالدي
رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }.
أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن عقيدة التوحيد منذ أن جهر بها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى يومنا الحاضر تعرضت لهجوم شديد من قبل الذين في قلوبهم مرض، ولكن أبى الله تعالى إلا أن يُظهر دينه، وسخّر لهذه العقيدة السمحة رجالاً يذودون عن حياضها، ورغم ما لاقوه في سبيل ذلك من العن والاضطهاد إلا أن الله تعالى شملهم برعايته وثبتهم على الصراط المستقيم، وفي عصرنا الحاضر تعرضت عقيدة التوحيد للهجوم من قبل الذين لا علم لهم أو إنهم يريدون إحياء المقبور من الفرق والمذاهب.(107/1)
والرافضة من أشد الفرق التي ما فتأت في الهجوم على عقيدة التوحيد منذ قرون ومازالت، ولكن أنّى لهم ذلك وهم بذلك يناطحون الصخر. وسلكوا في ذلك مسلك الكذب والتدليس على أهل السنة والجماعة معتقدين أنه لا يوجد في هذه الأمة من يكشف أكاذيبهم ويذود عن عقيدة التوحيد.
وكل يوم تظهر على الساحة الفكرية بعض التكابات التي تُمثّل ذلك الاتجاه، ولكن الملاحظ اجترار الشبهات القديمة وطرحها في ثوب جديد ظانين أنهم أتوا بشيء جديد ولكن خاب سعيهم وجهدهم.
ومن أولئك النفر شخص يُسمّى "صالح الورداني" الذي ارتد عن الإسلام وأصبح بوقاً من أبواق التشيع وصنّف العديد من الكتابات التي تهاجم أهل السنة والجماعة، وكتابات هذا الشخص تُعبر عن حقد دفين تجاه أهل السنة والجماعة، ولا أدر سبب ذلك، هل هو حب الظهور في ساحة التشيع بعد أن رفضه أهل السنة؟ أم باحث عن المال والجاه عند الرافضة؟ وقد قرأت كتبه فلم أقف على سبب موضوعي مقبول على ارتداده عن الإسلام واعتناقه مذهب التشيع. والحقيقة إن كتاباته مجرد اجترار لأفكار من سبقه من الرافضة سواء كان من السابقين أو من المعاصرين ولم يأت بشيء جديد.(107/2)
وقد طلب مني بعض الأخوة الرد عليه فوجدت أن الرد عليه لا يستحق ساعة من الزمن أقضيها في الكتابة. ولكن إزاء إلحاح بعض الأخوة الكرام الذين أعتز بأخوتهم فكرت في الأمر واخترت أحد كتبه التي تنضح بالحقد الدفين تجاه أهل السنة والجماعة والأئمة الأعلام، وذلك أن هذا الرافضي كتب كتاباً بعنوان "فتوى ابن باز" طعن فيه على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والعلامة ابن عثيمين – رحمهما الله تعالى وغفر لهما – وفضيلة الشيخ الدكتور صالح الفوزان – حفظه الله تعالى ونفع بعلمه سائر المسلمين – ولكن خصّ سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى بمزيد من العداوة والبغضاء وأيضاً معتقد أهل السنة والجماعة بكثير من التشويه والنقيصة، ولو كان الورداني ممن ينتهج النهج الموضوعي في الرد والمناقشة لما تطرقنا إليه أو مجرد قراءة ما يهذي، ولكن الدفاع عن عقيدة أهل السنة والجماعة وعن الأئمة الأعلام واجب نتقرب به إلى الله تعالى، فشرعت في قراءة الكتاب المذكور واقتصرت على مبحث واحد من الكتاب وهو "عقيدة ابن باز" ص65-80 وأهملت باقي الكتاب لتفاهته وسخافته. وأذكر للقراء الكرام بعض كلامه الذي ينم عن جهل مطبق وحقد دفين.
يقول الورداني ص73 وما بعدها: هل الروايات التي استند عليها ابن باز والحنابلة من قبله جاءت مطابقة للقرآن فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته؟.
إن الإجابة على هذا السؤال تفرض علينا عرض نماذج من هذه الروايات، حتى تتضح الصورة، وسوف ننتقي هذه الروايات من البخاري ومسلم، لا تدخل مجال الاعتراض من قبل القوم.
يروى عن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا.
ويروى: إنكم ترون ربك كما ترون هذا القمر لا تضامون من رؤيته.
ويروى قول للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها فإنها مؤمنة.
ويروى: أن الله كتب كتاباً عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي.
ويروى: يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر.(107/3)
ويروى: يد الله ملأى لا يغيضها نفقة.
ويروى: يقول الله لأهل الجنة: يا أهل الجنة.. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك.
ويروى: لا تزال جهنم يُلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله.. وفي رواية أخرى.. عليها قدمه – فينزوي بعضها إلى بعض. فتقول: قط.. قط.
ويروى: الله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم براحلته.
ويروى: أن الله يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك.
ويروى: أن الله يحمل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع.
ويروى: أن الله خلق آدم على صورته.
ويروى: لا أحد أغير من الله.
ويروى: أن الله يغار.
ويروى: أن رجلاً لم يعمل خيراً قط لما مات حرقوه وذروا نصفه في البر ونصفه في البحر هرباً من عذاب الله، فجمعه الله وأحياه وقال له: لم فعلت؟ قال: من خشيتك، فغفر له.
ومثل هذه الروايات وغيرها إنما تصطدم بنصوص القرآن التي تتعلق بصفات الله تعالى وقد اعتمد عليها الحنابلة وابن باز من بعدهم في بناء عقيدتهم حول أسماء الله وصفاته أكثر من اعتمادهم على نصوص القرآن كما اعتمدوا عليها في موقفهم من الواقع ورفع راية التكفير في مواجهته ونشر التطرف وبث الفرقة بين المسلمين.
وقد حكم الحنابلة والوهابيون الذين نطق ابن باز بلسانهم اليوم بكفر الذين ينكرون مثل هذه الروايات أو الذين يؤلونها على سبيل المجاز من الذين وجدوا حرجاً في رفضها من أصحاب المذاهب الأخرى من السلف والخلف.
وكيف لمسلم أن يقبل أن الله يصعد ويهبط ويجلس فوق العرش في السماء ويضحك ويفرح ويغير ويتكلم بصوت ويرى ويضم رجله في النار وله أصابع وخلق آدم على صورته. وهل رفض مثل هذه الروايات تنزيه لله عن التجسيم والمشابهة أم ضد ذلك" اهـ.(107/4)
وقد سلكت في ردي عليه المنهج الموضوعي حيث أثبتّ أن ما يُعيبه على أهل السنة والجماعة موجود في دينه ومذهبه، ولكن لجهله بأصول الدين الجديد الذي اعتنقه جعله يقع في أخطاء علمية منهجية لا يقع فيها طالب علم مبتدئ، وقد راعيت الاختصار قدر الإمكان في الرد.
ولا أملك في الختام إلا أن أقول كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "والمرغوب إلى من يقف على هذا الكتاب أن يعذر صاحبه فإنه ألفه في حال بعده عن وطنه وغيبته عن كتبه"(1).
فما عسى أن يبلغ خاطره المكدود وسعيه المجهود مع بضاعته المزجاة التي حقيق بحاملها أن يُقال فيه "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" وهاهو قد نصب نفسه هدفاً لسهام الراشقين، وغرضاً لألسنة الطاعنين، لقارئه غُنمه وعلى مؤلفه غُرمه، وهذه بضاعته تفرض عليك، وموليته تهدى إليك، فإن صادفت كفؤاً كريماً لها لن تعدم منه إمساكاً بمعروف أو تسريحاً بإحسان، وإن صادفت غيره فالله تعالى المستعان وعليه التكلان.
وقد رضي من مهرها بدعوة خالصة إن وافقت قبولاً وبردّ جميل إن كان حظها احتقاراً واستهجاناً والمنصف يهب خطأ المخطئ لإصابته وسيئاته لحسناته فهذه سنة الله في عبده جزاء وثواباً. ومن ذا الذي يكون قوله كله إلا سديداً، وعمله كله صواباً، وهل ذلك إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ونطقه وحي يُوحي، فما صح عنه فهو نقل صدق عن قائل معصوم، وما جاء عن غيره، فثبوت الأمرين فيه معدوم، فإن صح النقل لم يكن القائل معصوماً، وإن لم يصح لم يكن وصوله إليه معلوما"(2).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أبو عبد الرحمن
محمد مال الله
28/ رجب/ 1422هـ
النزول والمجيء
__________
(1) ولكني أقول كما قال فضيلة الشيخ الدكتور علي بن محمد الدخيل الله في "الصواعق المرسلة" 1/19: وإذا كان ابن القيم كتب كتابه في بُعد عن وطنه وغيبة عن كتبه، فإني في وطني وغالب المراجع ميسرة بين يدي، ولكنه العجز والضعف وكفى.
(2) روضة المحبين 21-13 .(107/5)
يقول الورداني ص74 متهكماً: يروى عن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ينزل تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا.
الجواب: نص الحديث كما هو: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة، حيث يبقى ثلث الليل الآخر. فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟".
وإن حديث النزول ثابت عند أهل السنة والجماعة ويرون أن نزوله حقيقة مع علوه حقيقة، وليس كمثله شيء.
ولبيان كذب الورداني وتدليسه فإننا نذكر له من كتب قومه بعض روايات المجيء والنزول ثم نتحداه بإنكارها لأن سادته من علماء القوم سوف يغضبون عليه ويقولون له: إن مراجعنا ليست مباحة كما هي مراجع أهل السنة.
عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد الله (ع)... قال سأله عن (الرحمن على العرش استوى)؟.
قال أبو عبد الله (ع): بذلك وصف نفسه، وكذلك هو مستول على العرش، بائن من خلقه، من غير أن يكون العرش حاملاً له، ولا أن يكون العرش حاوياً له، ولا أن العرش محتاز له، ولكنا نقول: هو حامل العرش، وممسك العرش، ونقول من ذلك ما قال: (وسع كرسيه السماوات والأرض) فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته، ونفينا أن يكون العرش أو الكرسي حاوياً له، وأن يكون عزَّ وجلَّ محتاجاً إلى مكان أو إلى شيء مما خلق، بل خلقه محتاجون إليه.
قال السائل: فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟.
قال أبو عبد الله (ع): ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء، ولكنه عزَّ وجلَّ أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش لأنه جعله معدن الرزق، فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم حين قال: (ارفعوا أيديكم إلى الله عزَّ وجلَّ) وهذا يجمع عليه فرق الأمة كلها.
قال السائل: فمن أين أثبت أنبياء ورسلاً؟.(107/6)
قال أبو عبد الله (ع): إنا لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه، ولا يباشرهم ولا يباشروه، ويحاجهم ويحاجوه فثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم: فثبت الآمرو والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أن له معبرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، فلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته.
قال السائل فتقول: إنه ينزل إلى السماء الدنيا؟.
قال أبو عبد الله (ع): نقول ذلك لأن الروايات قد صحت به والأخبار.
قال السائل: وإذا نزل أنيس قد حال عن العرش، وحؤوله عن العرش انتقال؟
قال أبو عبد الله (ع): ليس ذلك على ما يوجد من المخلوق الذي ينتقل باختلاف الحال عليه والملالة والسآمة، وناقل ينقله ويحوله من حال إلى، بل هو تبارك وتعالى لا يحدث عليه الحال، ولا يجري عليه الحدوث، فلا يكون نزوله كنزول المخلوق الذي متى تنحى عن مكان خلا منه المكان الأول، ولكنه ينزل إلى السماء الدنيا بغير معاناة ولا حركة فيكون هو كما في السماء السابعة على العرش كذلك هو في سماء الدنيا، إنما يكشف عن عظمته ويري أولياءه نفسه حيث شاء، ويكشف ما شاء من قدرته، ومنظره في القرب والبعد سواء(1).
__________
(1) بحار الأنوار 10/198 وما بعدها.(107/7)
عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (ع) قال: سمعته يقول: إن أعمال العباد تعرض كل خميس على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فإذا كان يوم عرفه هبط الرب تبارك وتعالى وهو قول الله تبارك وتعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا }.
فقلت: جعلت فداك أعمال من هذه؟.
قال: أعمال مبغضينا ومبغضي شيعتنا(1).
وقال الرضا (ع): من حج بثلاثة من المؤمنين فقد اشترى نفسه من الله عزَّ وجلَّ بالثمن، ولم يسأله من أين اكتسب ماله، من حلال أو حرام ومن حج أربع حجج لم تصبه ضغطة القبر أبداً، وإذا مات صور الله الحجج التي حج في صورة حسنة أحسن ما يكون من الصور بين عينيه، يصلي في جوف قبره حتى يبعثه الله من قبره، ويكون ثواب تلك الصلاة له، واعلم أن الركعة من تلك الصلاة تعدل ألف ركعة من صلاة الآدميين، ومن حج خمس حجج لم يعذبه الله أبداً، ومن حج عشر حجج لم يحاسبه الله أبداً، ومن حج عشرين حجة لم ير جهنم ولم يسمع شهيقها ولا زفيرها، ومن حج أربعين حجة قيل له: اشفع فيمن أحببت ويفتح له باب من أبواب الجنة يدخل منه هو من يشفع له، ومن حج خمسين حجة بني له مدينة في جنة عدن فيها ألف قصر، في كل قصر ألف حوراء من الحور العين، وألف زوجة، ويجعل من رفقاء محمد صلَّى الله عليه وآله في الجنة، ومن حج أكثر من خمسين حجة كان كمن حج خمسين حجة مع محمد والأوصياء، وكان ممن يزوره الله تبارك وتعالى في كل جمعة، وهو ممن يدخل جنة عدن التي خلقها الله عزَّ وجلَّ بيده ولم ترها عين، ولم يطلع عليها مخلوق، وما أحد يكثر الحج إلا بناها الله له بكل حجة مدينة في الجنة، فيها غرف، كل غرفة فيها حوراء من الحور العين مع كل حوراء ثلاثمائة جارية لم ينظر الناس إلى مثلهن حسناً وجمالاً(2).
__________
(1) بصائر الدرجات 446، ينابيع المعاجز للبحراني 103، بحار الأنوار 23/345 .
(2) وسائل الشيعة 8/90-91، من لا يحضره الفقيه 2/217 مختصراً.(107/8)
والله تعالى عند الرافضة يزور قبور أئمتهم مع الملائكة والأنبياء:
عن أبي وهب القصري قال: دخلت المدينة فأتيت أبا عبد الله (ع) فقلت له: جعلت فداك أتيتك ولم أزر قبر أمير المؤمنين (ع).
فقال: بئس ما صنعت لولا إنك من شيعتنا ما نظرت إليك، ألا تزور من يزوره الله مع الملائكة ويزوره الأنبياء (ع) ويزوره المؤمنون!!
قلت: جعلت فداك ما علمت ذلك.
قال: اعلم أن أمير المؤمنين (ع) أفضل عند الله من الأئمة وله ثواب أعمالهم وعلى قدر أعمالهم فضّلوا(1).
وعن منيع بن الحجاج بن صفوان الجمال قال: قال لي أبو عبد الله (ع) لما أتى الحيرة قال: هل لك في قبر الحسين؟.
أتزوره جعلت فداك؟.
قال: كيف لا أزوره والله يزوره في كل ليلة جمعة يهبط مع الملائكة إليه والأنبياء والأوصياء ومحمد أفضل الأنبياء ونحن أفضل الأوصياء.
فقال صفوان: جعلت فداك أفزوره في كل جمعة حتى أُدرك زيارة الرب؟.
قال: نعم يا صفوان إلزم زيارة قبر الحسين(2).
ويقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في "شرح العقيدة الواسطية" 398 معلقاً على حديث النزول المشهور: وهذا الحديث قال بعض أهل العلم: إنه من الأحاديث المتواترة، واتفقوا على أنه من الأحاديث المشهورة المستفيضة عند أهل العلم بالسنة.
__________
(1) الكافي 4/580، فرحة الغرى لابن طاووس 102، الغارات للثقفي 2/854، التهذيب 6/20، كتاب المزار للمفيد 30، بحار الأنوار 25/361 و97/258، مصابيح الجنان 192، وسائل الشيعة 10/293، كامل الزيارات لابن قولويه 89، مزار المشهدي 36، المختصر للحلي 89 .
(2) بحار الأنوار 98/60، كامل الزيارات لابن قولويه 223، وسائل الشيعة 10/374، مدينة المعاجز 4/208 .(107/9)
ويقول رحمه الله تعالى ص399 وما بعدها: بهذا يتبين لكل إنسان قرأ هذا الحديث أن المراد هنا نزول الله نفسه، ولا نحتاج أن نقول: بذاته، مادام الفعل أُضيف إليه، فهو له، لكن بعض العلماء قالوا: ينزل بذاته، لأنهم لجؤوا إلى ذلك، واضطروا إليه، لأن هناك من حرّفوا الحديث وقالوا: الذي ينزل أمر الله. وقال آخرون: بل الذي ينزل رحمة الله! وقال آخرون: بل الذي ينزل ملكٌ من ملائكة الله!.
هذا باطل! فإن نزول أمر الله دائماً وأبداً، ولا يختص نزوله في الثلث الأخير من الليل، قال الله تعالى: { يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ }(1) وقال: { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ }(2).
وأما قولهم: تنزل رحمة الله إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر! فسبحان الله! الرحمة لا تنزل إلا في هذا الوقت! قال الله تعالى: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ }(3)، كل النعم من الله، وهي من آثار رحمته، وهي تترى كل وقت!!.
ثم نقول: أي فائدة لنا بنزول الرحمة إلى السماء الدنيا؟.
ثم نقول لمن قال: إنه ملك من الملائكة: هل من المعقول أن الملك من ملائكة الله يقول: من يدعوني فأستجيب له... إلخ؟.
فتبين بهذا أن هذه الأقوال تحريف باطل يبطله الحديث.
ووالله، ليسوا أعلم بالله من رسول الله، وليسوا أنصح لعباد الله من رسول الله، وليسوا أفصح في قولهم من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
يقولون: كيف تقولون: إن الله ينزل؟! إذا نزل، أين العلو؟! وإذا نزل، أين الاستواء على العرش؟! إذا نزل، فالنزول حركة وانتقال، وإذا نزل، فالنزول حادث، والحوادث لا تقوم إلا بحادث.
فنقول: هذا جدال باطل، وليس بمانع من القول بحقيقة النزول.
هل أنتم أعلم بما يستحقه الله عزَّ وجلَّ من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟!
__________
(1) السجدة : 5 .
(2) هود : 123 .
(3) النحل : 53 .(107/10)
فأصحاب الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ما قالوا هذه الاحتمالات أبداً، قالوا: سمعنا وآمنا وقبلنا وصدقنا.
وأنتم أيها الخالفون المخالفون تأتون الآن وتجادلون بالباطل وتقولون: كيف؟! وكيف؟!
نحن نقول: ينزل، ولا نتكلم عن استوائه على العرش، هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟!.
أما العلو، فنقول: ينزل، لكنه عال عزَّ وجلَّ على خلقه، لأنه ليس معنى النزول أن السماء تقله، وأن السماوات الأخرى تظله، إذ أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته.
فنقول: هو ينزل حقيقة مع علوه حقيقة، وليس كمثله شيء.
أما الاستواء على العرش فهو فعل، ليس من صفات الذات، وليس لنا حق – فيما أرى – أن نتكل هل يخلو منه العرش أو لا يخلو، بل نسكت كما سكت عن ذلك الصحابة رضي الله عنهم.
وإذا كان علماء أهل السنة لهم في هذا ثلاثة أقوال: قول بأنه يخلو، وقول بأنه لا يخلو، وقول بالتوقف.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الرسالة العرشية" يقول: إنه لا يخلو منه العرش، لأن أدلة استوائه على العرش محكمة، والحديث هذا محكم، والله عزَّ وجلَّ لا تقاس صفاته بصفات الخلق، فيجب علينا أن نبقي نصوص الاستواء على إحكامها، ونص النزول على إحكامه، ونقول: هو مستو على عرشه، نازل إلى السماء الدنيا، والله أعلم بكيفية ذلك، وعقولنا أقصر وأدنى وأحقر من أن تحيط بالله عزَّ وجلَّ.
القول الثاني: التوقف، يقولون: لا نقول: يخلو، ولا: لا يخلو.
والثالث: أنه يخلو منه العرش.
وأورد المتأخرون الذين عرفوا أن الأرض كروية وأن الشمس تدور على الأرض إشكالاً، وقالوا: كيف ينزل في ثلث الليل؟! وثلث الليل إذا انتقل عن المملكة العربية السعودية، ذهب إلى أوربا وما قاربها؟! أفيكون نازلاً دائماً؟!(107/11)
فنقول: آمن أولاً بأن الله ينزل في هذا الوقت المعين، وإذا آمنت، ليس عليك شيء وراء ذلك، لا تقل: كيف؟ وكيف؟! بل قل: إذا كان ثلث الليل في السعودية، فالله نازل، وإذا كان في أمريكا ثلث الليل، يكون نزول الله أيضاً، وإذا طلع الفجر، انتهى وقت النزول له في كل مكان بحسبه.
إذاً، موقفنا أن نقول: إنا نؤمن بما وصل إلينا عن طريق محمد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير من الليل، ويقول: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له"؟.
رؤية الله تعالى
يقول الورداني ص74: ويروى: إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون من رؤيته.
الجواب: نص الحديث: عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم ستعرضون على ربكم عزَّ وجلَّ فترونه كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ }(1).
وحديث الرؤية متواتر رواه كل من:
ابن مسعود .
وابن عمر .
وابن عباس .
وصهيب .
وأنس .
وأبو موسى الأشعري .
وأبو هريرة .
وأبو سعيد الخدري .
وعمار بن ياسر .
وجابر بن عبد الله .
ومعاذ بن جبل .
وثوبان .
وعمارة ابن رويبة الثقفي .
وحذيفة .
وأبو بكر الصديق .
وزيد بن ثابت .
وجرير ابن عبد الله اليمني .
وأبو أمامة الباهلي .
وبريدة الأسلمي .
وأبو برزة .
__________
(1) البخاري 1/138، و143 و6/48 و8/179، مسلم 2/113، أحمد 4/360، سنن ابن ماجه 1/63، سنن أبي داود 2/419، السنن الكبرى للبيهقي 1/359، مسند الحميدي 2/350، السنن الكبرى للنسائي 1/176 و6/406، صحيح ابن حبان 16/473، المعجم الأوسط للطبراني 8/90، المعجم الكبير للطبراني 2/294 .(107/12)
وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي .
أبا رزين العقيلي .
وعبادة بن الصامت .
وكعب بن عجرة .
وفضالة ابن عبيد .
وأبي بن كعب .
وعبد الله بن عمرو .
وعائشة. رضي الله عنهم جميعاً.
ويقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في "شرح العقيدة الواسطية" ص436: ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن من أنكر رؤية الله تعالى، فهو كافر مرتد، وأن الواجب على كل مؤمن أن يقرّ بذلك. قال: وإنما كفرناه لأن الأدلة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، ولا يمكن لأحد أن يقول: إن قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إنكم سترون ربكم"، إنه ليس قطعي الدلالة، إذ ليس هناك شيء أشد قطعاً من مثل هذا التركيب.
لو كان الحديث: "إنكم ترون ربكم": لربما تحتمل التأويل، وأنه عبّر عن العلم اليقيني بالرؤية البصرية، ولكنه صرح بأنا نراه كما نرى القمر، وهو حسي.
ويقول رحمه الله تعالى ص471: فإن هذه الرؤية لا نعلم كيفيتها، بمعنى أن الإنسان لا يعلم كيف يرى ربه، ولكن معنى الرؤية معلوم، أنهم يرون الله كما يرون القمر، لكن على أي كيفية؟ هذه لا نعلمها، بل كما يشاء الله.
وقد سبق الورداني بقرون من يُنكر الرؤية من الرافضة، ولكن من الأسف فإنهم سلكوا مسلك التدليس والكذب فهذا المسمّى عندهم "المرتضى" يقول في كتابه "تنزيه الأنبياء" ص177-178:(107/13)
فإن قيل: فما معنى الخبر المروي عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: "سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته" وهذا خبر مشهور لا يمكن تضعيفه ونسبته إلى الشذوذ؟. الجواب قلنا: أما هذا الخبر فمطعون عليه مقدوح في راويه، فإن راويه قيس بن أبي حازم، وقد كان خولط في عقله في آخر عمره مع استمراره على رواية الأخبار. وهذا قدح لا شبهة فيه لأن كل خبر مروي عنه لا يعلم تاريخه يجب أن يكون مردوداً، لأنه لا يؤمن أن يكون مما سمع منه في حال الاختلال. وهذه طريقة في قبول الأخبار وردها ينبغي أن يكون أصلاً ومعتبراً فيمن علم منه الخروج ولم يعلم تاريخ ما نقل عنه. على أن قيساً لو سلم من هذا القدح كان مطعوناً فيه من وجه آخر، وهو أن قيس بن أبي حازم كن مشهوراً بالنصب والمعاداة لأمير المؤمنين (ع) والانحراف عنه، وهو الذي قال: رأيت علي بن أبي طالب (ع) على منبر الكوفة يقول: انفروا إلى بقية الأحزاب، فأبغضته حتى اليوم في قلبي. إلى غير ذلك من تصريحه بالمناصبة والمعاداة. وهذا قادح لا شك في عدالته.
وجوابنا على المسمّى "المرتضى" أن أحاديث الرؤية لم ينفرد بها قيس بن أبي حازم بل إن أحاديث الرؤية متواترة كما ذكرنا قبل قليل. وسيأتي في هذا المبحث اعتراف الرافضة بالرؤية م مصادرهم المعتمدة والموثوقة.
وأما قوله "فمقدوح في راويه" فهذا ليس بجديد على الرافضة، فإنهم قدحوا في أبي بكر وعمر وعثمان وكثير من الصحابة رضوان الله عليهم، أفلا يتجرأون على القدح في قيس بن أبي حازم؟!. وقد نص على عدالة قيس بن أبي حازم كثير من أئمة الجرح والتعديل، وجرح الرافضة للصحابة والتابعين وعلماء الإسلام ليس منقصة بل هو المدح الذي ليس بعده مدح، ويكفي الرافضة مدح رواة الإفك والضلال.(107/14)
ومن أجل نفي الرؤية سلك الجهمية ومن شايعهم إلى اختلاق روايات مكذوبة لتأييد باطلهم في نفي الرؤية، من هذه الأكاذيب الكذب على علي ابن المديني وانتصاره لمذهب نفاة الرؤية، فقد ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" ج11 ص52: قال ابن أبي داود للمعتصم: يا أمير المؤمنين، هذا يزعم – يعني: أحمد بن حنبل – أن الله يرى في الآخرة، والعين لا تقع إلا على محدود، والله لا يحد.
فقال: ما عندك؟.
قال: يا أمر المؤمنين عندي ما قاله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال: وما هو؟.
قال: حدثني غندر، حدثنا شعبة، عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير، قال: "كنا مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، في ليلة أربع عشرة، فنظر إلى البدر، فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا البدر، لا تضامون في رؤيته".
فقال لابن أبي داود: ما تقول؟.
قال: أنظر في إسناد هذا الحديث.
ثم انصرف. فوجه إلى علي بن المديني، وعلي ببغداد مملق، ما يقد على درهم، فأحضره، فما كلمه بشيء حتى وصله بعشرة آلاف درهم.
وقال: هذه وصلك بها أمير المؤمنين، وأمر أن يدفع إليه جميع ما استحق من أرزاقه. وكان له رزق سنتين.
ثم قال له: يا أبا الحسن حديث جرير بن عبد الله في الرؤية ما هو؟.
قال: صحيح.
قال: فهل عندك عنه شيء؟.
قال: يعفيني القاضي من هذا.
قال: هذه حاجة الدهر.
ثم أمر له بثياب وطيب ومركب بسرجه ولجامه. ولم يزل حتى قال له: في هذا الإسناد من لا يعمل عليه، ولا على ما يرويه، وهو قيس بن أبي حازم، إنما كان أعرابياً بوالاً على عقيبه. فقبل ابن أبي داود علياً واعتنقه.
فلما كان الغد، وحضروا، قال ابن أبي داود: يا أمير المؤمنين: يحتج في الرؤية بحديث جرير، وإنما رواه عنه قيس، وهو أعرابي بوال على عقبيه؟.
قال: فقال أحمد بعد ذلك: فحين أطلع لي هذا، علمت أنه من عمل علي بن المديني، فكان هذا وأشباهه من أوكد الأمور في ضربه.(107/15)
ثم عقّب الذهبي على هذه الرواية فقال رحمه الله تعالى: رواها المرزباني: أخبرني محمد بن يحيى، يعني: الصولي، حدثنا الحسين. ثم قال الخطيب: أما ما حكي عن علي في هذا الخبر من أنه لا يعمل على ما يرويه قيس، فهو باطل.قد نزه الله علياً عن قول ذلك، لأن أهل الأثر، وفيهم علي، مجمعون على الاحتجاج برواية قيس وتصحيحها، إذ كان من كبراء تابعي أهل الكوفة. وليس في التابعين من أدرك العشرة، وروى عنهم، غير قيس مع روايته عن خلق من الصحابة. إلى أن قال: فإن كان هذا محفوظاً عن ابن فهم، فأحسب أن ابن أبي داود، تكلم في قيس بما ذكر في الحديث، وعزا ذلك إلى ابن المديني. والله أعلم. قلت: إن صحت الحكاية، فلعل علياً قال في قيس ما عنده عن يحيى القطان، أنه قال: هو منكر الحديث، ثم سمى له أحاديث استنكرها، فلم يصنع شيئاً، بل هي ثابتة، فلا ينكر له التفرد في سعة ما روى، من ذلك حديث كلاب الحوأب، وقد كاد قيس أن يكون صحابياً، أسلم في حياة رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم هاجر إليه، فما أدركه، بل قدم المدينة بعد وفاة رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، بليال. وقد قال يحيى بن معين فيما نقله عنه معاوية بن صالح، كان قيس بن أبي حازم أوثق من الزهري. نعم، ورؤية الله تعالى في الآخرة منقولة عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، نقل تواتر، فنعوذ بالله من الهوى، ورد النص بالرأي. قال أبو داود: أجود التابعين إسناداً قيس بن أبي حازم، قد روى عن تسعة من العشرة، لم يرو عن عبد الرحمن بن عوف. قال الخطيب: ولم يحك أحد ممن ساق المحنة أن أحمد نوظر في حديث الرؤية. قال: والذي يحكى عن علي أنه روى لابن أبي داود حديثاً عن الوليد بن مسلم في القرآن، كان الوليد أخطأ في لفظة منه، فكان أحمد ينكر على علي روايته لذلك الحديث. فقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن علي بن المديني، حدث عن الوليد حديث عمر: "كلوه إلى عالمه" فقال: "إلى خالقه". فقال: هذا كذب. ثم(107/16)
قال: هذا قد كتبناه عن الوليد، إنما هو "فكلوه إلى عالمه"، وهذه اللفظة قد روي عن ابن المديني غيرها.
يقول الإمام الطبري في تفسيره 7/394 وما بعدها: القول في ذلك عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب فالمؤمنون يرونه، والكافرون عنه يومئذ محجوبون كما قال جل ثناؤه { كَلاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }. فأما ما اعتل به منكرو رؤية الله يوم القيامة بالأبصار، لما كانت لا ترى إلا ما باينها، وكان بينها وبينه فضاء وفرجة، وكان ذلك عندهم غير جائز أن تكون رؤية الله بالأبصار كذلك لأن في ذلك إثبات حد له ونهاية، فبطل عندهم لذلك جواز الرؤية عليه، وأنه يقال لهم: هل علمتم موصوفاً بالتدبير سوى صانعكم إلا مماساً لكم أو مبايناً؟ فإن زعموا أنهم يعلمون ذلك كلفوا تبيينه، ولا سبيل إلى ذلك. وإن قالوا: لا نعلم ذلك، قيل لهم: أو ليس قد علمتموه لا مماساً لكم ولا مبايناً، وهو موصوف بالتدبير والفعل، ولم يجب عندكم إذ كنتم لم تعلموا موصوفاً بالتدبير والفعل غيره إلا مماساً لكم أو مبايناً أن يكون مستحيلاً العلم به وهو موصوف بالتدبير والفعل، لا مماس ولا مباين؟ فإن قالوا: ذلك كذلك، قيل لهم: فما تنكرون أن تكون الأبصار كذلك لا ترى إلا ما باينها، وكانت بينه وبينها فرجة قد تراه وهو غير مباين لها، ولا فرجة بينها وبينه ولا فضاء، كما لا تعلم القلوب موصوفاً بالتدبير إلا مماساً لها أو مبايناً وقد علمته عندكم لا كذلك؟ هل بينكم وبين من أنكر أن يكون موصوفاً بالتدبير والفعل معلوماً لا مماساً للعالم به أو مبايناً وأجاز أن يكون موصوفاً برؤية الأبصار لا مماساً لها ولا مبايناً فرق؟ ثم يسألون الفرق بين ذلك، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولاً إلا ألزموا في الآخر مثله. وكذلك يسألون فيما اعتلوا به(107/17)
في ذلك، إن من شأن الأبصار إدراك الألوان، كما أن من شأن الأسماع إدراك الأصوات، ومن شأن المتنسم درك الأعراف، فمن الوجه الذي فسد أن يقتضي السمع لغير درك الأصوات فسد أن تقتضي الأبصار لغير درك الألوان. فيقال لهم: ألستم لم تعلموا فيما شاهدتم وعاينتم موصوفاً بالتدبير والفعل إلا ذا لون، وق علمتموه موصوفاً بالتدبير لا ذا لون؟ فإن قالوا نعم، لا يجدون من الإقرار بذلك بداً إلا أن يكذبوا، فيزعموا أنهم قد رأوا وعاينوا موصوفاً بالتدبير والفعل غير ذي لون، فيكلفوا بيان ذلك، ولا سبيل إليه، فيقال لهم: فإذا كان ذلك كذلك فما أنكرتم أن تكون الأبصار فيما شاهدتم وعاينتم لم تجدوها تدرك إلا الألوان، كما لم تجدوا أنفسكم تعلم موصوفاً بالتدبير إلا ذا لون وقد وجدتموها علمته موصوفاً بالتدبير غير ذي لون؟ ثم يسألون الفرق بين ذلك، فلن يقولوا في أحدهما شيئاً إلا ألزموا في الآخر مثله. وهل هذه المقالة مسائل فيها تلبيس كرهنا ذكرها وإطالة الكتاب بها وبالجواب عنها، إذ لم يكن قصدنا في كتابنا هذا قصد الكشف عن تمويهاتهم، بل قصدنا فيه البيان عن تأويل آي الفرقان. ولكنا ذكرنا القدر الذي ذكرنا، ليعلم الناظر في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون من قولهم إلا إلى ما لبس عليهم الشيطان مما يسهل على أهل الحق البيان عن فساده، وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل محكمة ولا رواية عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلمات يخبطون، وفي العمياء يترددون، نعوذ بالله من الحيرة والضلالة.
وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتابه "التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة" ص35-37: فإن اعترض جاهل مما لا علم أو بعض هؤلاء الجهمية الذين لم يوفقوا للرشاد، ولعب بهم الشيطان وحرموا التوفيق:
فقال: وهل المؤمنون يرون الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة؟. قيل له: نعم، والحمد لله على ذلك.
فإن قال الجهمي: أنا لا أؤمن بهذا.(107/18)
قيل له: كفرت بالله العظيم.
فإن قال: وما الحجة؟.
قيل له: لأنك رددت القرآن والسنة وقول الصحابة – رضي الله عنهم – وقول علماء المسلمين واتبعت غير سبيل المؤمنين، وكنت ممن قال الله عزَّ وجلَّ فيهم: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }(1).
فأما نص القرآن: فقول الله عزَّ وجلَّ { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }(2). وقال الله عزَّ وجلَّ عن الكفار أنهم محجوبون عن رؤيته، فقال جلّ ذكره: { كَلاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ }(3).
فدل بهذه الآية أن المؤمنين ينظرون إلى الله عزَّ وجلَّ وأنهم غير محجوبين عن رؤيته وكرامة منه لهم.
وقال الله عزَّ وجلَّ: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }(4) فروي أن الزيادة هو النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ.
وقيل لسفيان ابن عيينة: إن بشراً المريسي يقول: إن الله لا يرى يوم القيامة. فقال: قاتل الله الدويبة، ألم تسمع إلى قوله تعالى: { كَلاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }(5) فإذا احتجب عن الأولياء والأعداء، فأي فضل للأولياء على الأعداء؟(6).
وبعد هذا العرض السريع نستعرض بعض روايات الرافضة التي تدل على الرؤية من المصادر الموثوقة لعل وعسى أن يكون الورداني ممن يتبع الدليل والبرهان لا السب والشتم والهذيان بما لا يعلم:
__________
(1) سورة النساء : 115 .
(2) سورة القيامة : 22، 23 .
(3) سورة المطففين : 15، 16، 17 .
(4) سورة يونس : 26 .
(5) سورة المطففين : 15 .
(6) سير أعلام النبلاء للذهبي 8/468 .(107/19)
1 – ذكر المجلسي في بحار الأنوار ج8 ص207-216 رواية طويلة عن عوف بن عبد الله الأزدي عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جاء فيها: فبينا هم كذلك إذ يسمعون صوتاً من تحت العرش: يا أهل الجنة كيف ترون منقلبكم؟.
فيقولون: خير المنقب منقلبنا وخير الثواب ثوابنا، قد سمعنا الصوت واشتهينا النظر إلى أنوار جلالك وهو أعظم ثوابنا وقد وعدته ولا تخلف الميعاد.
فيأمر الله الحجب فيقوم سبعون ألف حجاب فيركبون على النوق والبراذين وعليهم الحلي والحلل فيسيرون في ظل الشجر حتى ينتهوا إلى دار السلام، وهي دار الله دار البهاء والنور والسرور والكرامة، فيسمعون الصوت فيقولن: يا سيدنا سمعنا لذاذة منطقك، فأرنا نور وجهك، فيتجلى لهم سبحانه وتعالى حتى ينظرون إلى نور وجهه – تبارك وتعالى – المكنون من عين كل ناظر، فلا يتمالكون حتى يخروا على وجوههم سجداً فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك يا عظيم. قال: فيقول: عبادي! ارفعوا رؤوسكم ليس هذه بدار عمل إنما هي دار كرامة ومسألة ونعيم قد ذهبت عنكم اللغوب والنصب، فإذا رفعوها رفعوها وقد أشرقت وجوههم من نور وجهه سبعين ضعفاً.
ثم يقول تبارك وتعالى: يا ملائكتي أطعموهم واسقوهم، فيؤتون بألوان الأطعمة لم يروا مثلها قط في طعم الشهد وبياض الثلج ولين الزبد، فإذا أكلوه قال بعضهم لبعض: كان طعامنا الذي خلفناه في الجنة عند هذا حلماً.
قال: ثم يقول الجبار تبارك وتعالى: يا ملائكتي اسقوهم، قال: فيؤتون بأشربة فيقبضها ولي الله فيشرب شربة لم يشرب مثلها قط.
قال: ثم يقول: يا ملائكتي طيبوهم فتأتيهم ريح من تحت العرش بمسك أشد بياضاً من الثلج تغير وجوههم وجباههم وجنوبهم تسمى المثيرة فيستمكنون من النظر إلى نور وجهه.
فيقولون: يا سيدنا حسبنا لذاذة منطقك والنظر إلى نور وجهك لا نريد به بدلاً ولا نبتغي به حولاً.(107/20)
فيقول الرب تبارك وتعالى: إني أعلم أنكم إلى أزواجكم مشتاقون، وأن أزواجكم إليكم مشتاقات.
فيقولون: يا سيدنا ما أعلمك بما في في نفوس عبادك؟!.
فيقول: كيف لا أعلم وأنا خلقتكم، وأسكنت أرواحكم في أبدانكم، ثم رددتها عليكم بعد الوفاة فقلت: اسكني في عبادي خير مسكن، ارجعوا إلى أزواجكم.
قال: فيقولون: يا سيدنا اجعل لنا شرطاً.
قال: فإن لكم كل جمع زورة ما بين الجمعة إلى الجمعة سبع آلاف سنة مما تعدون.
قال: فينصرفون فيعطى كل رجل منهم رمانة خضراء، في كل رمانة سبعون حلة لم يرها الناظرون المخلوقون، فيسيرون فيتقدمهم بعض الولدان حتى يبشروا أزواجهم وهن قيام على أبواب الجنان.
قال: فما دنا منها نظرت إلى وجهه فأنكرته من غير سوء.
فقالت: حبيبي! لقد خرجت من عندي وما أنت هكذا.
قال: فيقول: حبيبتي! تلومينني! أن أكون هكذا وقد نظرت إلى نور وجه ربي تبارك وتعالى فأشرق وجهي من نور وجهه.
ثم يعرض عنها فينظر إليها نظرة فيقول: حبيبتي! لقد خرجت من عندك وما كنت هكذا.
فتقول: حبيبي! تلومني أن أكون هكذا وقد نظرت إلى وجه الناظر إلى نور وجه ربي فأشرق وجهي من وجه الناظر إلى نور وجه ربي سبعين ضعفاً، فتعانقه من باب الخيمة والرب تبارك وتعالى يضحك إليهم فينادون بأصابعهم: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور.
2 – عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت له: أخبرني عن الله عزَّ وجلَّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟.
قال: نعم، وقد رأوه قبل يوم القيامة، فقلت: متى؟ قال: حين قال لهم: (ألست بربكم قالوا بلى) ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟.
قال أبو بصير: فقلت له: جعلت فداك فأحدث بهذا عنك؟.
فقال: لا، فإنك إذا حدثت به فأنكر منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما يصفه(1).
__________
(1) التوحيد للصدوق (!!!) 117 .(107/21)
إضافة إلى الروايات السابقة فإننا نجد الأئمة – على حد زعم الرافضة – في أدعيتهم دائماً يسألون الله تعالى رؤيته ولقائه فإذا كانت الرؤية كما يزعم الرافضة فلماذا الأئمة على حد زعمهم يسألون الله تعالى مستحيلاً، وإليك نماذج من ذلك(1):
ففي البحار (86/2 ح2) "باب ما يستحب عقيب كل صلاة" عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: من دعا به عقيب كل صلاة مكتوبة حفظ في نفسه وداره وماله وولده وهو "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، وإسرافي على نفسي... والرضا بالقضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقاً للقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلّة..".
وفي (ص85 وص87 ح11) "باب تعقيب صلاة العصر المختص بها: بما كانت الزهراء فاطمة سيدة النساء (ع) تدعو به في جملة دعائها للخمس صلوات وهو" سبحان من يعلم جوارح القلوب، سبحان من يحصى عنده الذنوب – إلى أن قالت – وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك لذة النظر إلى وجهك..".
وفي (ص2 وص104 ح8) "باب تعقيب صلاة المغر": "ومن تعقيب فريضة المغرب أيضاً ما يختص بها مما روي عن مولاتنا فاطمة الزهراء (ع) من الدعاء عقيب الخمس الصلوات وهو: "الحمد لله الذي لا يحصى مدحه القائلون، والحمد لله الذي لا يحصي نعماءه – إلى أن قالت – والنظر إلى وجهك فارزقني..".
وفي (90/133) "دعاء يوم الجمعة": "وتلقنني بها عند فراق الدنيا حجتي وأنظر بها إلى وجهك الكريم يوم القيامة، وعلي منك نور وكرامة..".
وفي (ص145) "اجعل له منزلاً مغبوطاً ومجلساً رفيعاً وظلاً ومرتفعاً جسيماً جميلاً ونظراً إلى وجهك يوم تحجبه عن المجرمين..".
وفي (ص159) "دعاء ليلة الأحد" "اللهم حبّب إلينا لقاءك وارزقنا النظر إلى وجهك، واجعل لنا لقاءك نضرة وسروراً..".
__________
(1) نقلاً عن "البرهان في تبرئة أبي هريرة من البهتان" ص162-165 للأخ عبد الله الناصر، وقد راجعت نقولاته فوجدتها سليمة.(107/22)
وفي (ص166) دعاء آخر للكاظم: "ولا تحرمني إلهي حين أسألك من أجل خطاياي ولا تحرمني لقاءك... اللهم وأسألك العفاف والتقى والعمل بما تحب وترضى والرضا بالقضاء والنظر إلى وجهك الكريم..".
وفي (ص201 و206): دعاء آخر عن الكاظم: "وأسألك لي ولهما الأجر يوم القيامة، والعفو يوم القضاء، وبرد العيش عند الموت، وقرة عين لا تنقطع، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقاً إلى لقائك..".
وفي (93/262): "وأسألك باسمك الذي طوّقت به أبصار عبادك يوم القيامة حتى ينظروا إلى نور وجهك الكريم الباقي يا الله..".
وفي (94/144): "إلهي لا تغلق على موحديك أبواب رحمتك، ولا تحجب مشتاقيك عن النظر إلى جميل رؤيتك..".
وفي (ص145): "أسألك بسبحات وجهك، وبأنوار قدسك.. وجميل إنعامك في القربى منك والزلفى لديك والتمتع بالنظر إليك..".
وفي (ص148): "بسم الله الرحمن الرحيم من ذا الذي ذاق حلاوة محبيك.. إلهي فاجعلنا ممن ااصطفيته لقربك وولايتك، وأخلصته لودّك ومحبيك، وشوّقته إلى لقائك، ورضيته بقضائك، والتمتع بالنظر إلى وجهك..".
وفي (ص149): "وأن تجعل حبّي إيّاك قائماً إلى رضوانك، وشوقي إليك ذائداً عن عصيانك، وامنن بالنظر عليّ وانظر بعين الودّ والعطف إليّ، ألا تصرف عني وجهك..".
وفي (ص150): "وشوقي إليك لا يبله إلا النظر إلى وجهك..".
وفي (225 ح1) "باب أحرز فاطمة الزهراء (ع) وبعض أدعيتها وعوذاتها" ".. وأسألك النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مظلمة..".
وفي (97/363) "باب نوافل شهر رمضان": "ولا تحرمني ولا تذلني ولا تستبدل بي غيري وخير السرائر فاجعل سريرتي، وخير المعاد فاجعل معادي ونظرة من وجهك الكريم فأنلني".(107/23)
وفي الكافي (2/547-548 ح6) عن محمد بن الفرج قال: كتب إليّ أبو جعفر ابن الرضا (ع) بهذا الدعاء وعلّمنيه. وقال: من قال في دبر صلاة الفجر لم يلتمس حاجة إلا تيسرت له وكفاه الله ما أهمه: بسم الله وبالله وصلى على محمد وآله وأفوّض أمري إلى الله – إلى أن قال -: وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول إذا فرغ من صلاته: "الله إني أسألك خشيتك في السر والعلانية – إلى أن قال -: وأسألك الرضا بالقضاء وبركة الموت بعد العيش وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك وشوقاً إلى رؤيتك ولقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.."(1).
ومن أدعية زين العابدين (السجاد) رحمه الله تعالى نذكر هذا الدعاء:
ففي "الصحيفة السجادية" (ص117): "كان من دعائه (ع) إذا حزنه أمر وأهمته الخطايا": "... وبيدك إلهي جميع ذلك السبب وإليك المفرّ والمهرب.. اللهم إنك إن صرفت عني وجهك الكريم أو منعتني فضلك الجسيم..".
وأما ما جاء من دعاء علي رضي الله عنه نذكر هذا الدعاء.
ففي "الصحيفة العلوية" (ص139) باب دعاؤه (ع) "باب المناجاة في شهر رمضان": "إلهي عبدك الضعيف المذنب، ومملوكك المنيب المعيب، فلا تجعلني ممن صرفت عنك وجهك، وحجبه.. وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة..".
ونذكر بعضاً من الأدعية الواردة في "مصابيح الجنان" ففي (ص88): "اللهم حبّب إلينا لقائك وارزقنا النظر إلى وجهك واجعل لنا في لقائك نظرة وسرور..".
وفي (ص527) "باب العاشر: مناجاة المتوسلين": "وأقررت أعينهم بالنظر إليك يوم لقائك..".
وفي (ص527-528) "باب الحادي عشر": "مناجاة المفتقرين": "لا يكتفه غير رأفتك، وغلتي لا يردها إلا وصلك، ولوعتي لا يطفيها إلا لقاؤك، وشوقي إليك لا يبله إلا النظر إليك..".
صفة العلو
__________
(1) وانظر "من لا يحضره الفقيه" 1/315 ح1 باب في التعقيب.(107/24)
قال الورداني ص74: "ويروى قول للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها فإنها مؤمنة.
الورداني يُنكر صفة العلو لله تعالى، وهذا مبعثه الجهل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم. وسنثبت له في المبحث التالي صفة الفوقية من مصادر قومه فلا يستعجل.
يقول العلامة ابن عثيمين – رحمه الله تعالى وغفر له – في "شرح العقيدة الطحاوية" ص329 وما بعدها وهو يشرح الآيات الدالة على العلو:
واعلم أن علو الله ينقسم إلى قسمين: علو معنوي وعلو ذاتي:
1 – أما العلو المعنوي، فهو ثابت لله بإجماع أهل القبلة، أي: الإجماع من أهل البدع وأهل السنة، كلهم يؤمنون بأن الله تعالى عال علواً معنوياً.
2 – وأما العلو الذاتي، فيُثبته أهل السنة، ولا يثبته أهل البدعة، يقولون: إن الله تعالى ليس عالياً ذاتياً.
فنبدأ أولاً بأدلة أهل السنة على علو الله سبحانه وتعالى الذاتي فنقول: إن أهل السنة استدلوا على علو الله تعالى علواً ذاتياً بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة.
أولاً: فالكتاب تنوعت دلالته على علو الله، فتارة يذكر العلو، وتارة يذكر الفوقية، وتارة يذكر نزول الأشياء من عنده، وتارة يذكر صعودها إليه، وتارة بكونه في السماء...
( 1 ) فالعلو مثل قوله: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }(1)، { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى }(2).
( 2 ) والفوقية: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }(3)، { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }(4).
( 3 ) ونزول الأشياء منه، مثل قوله تعالى: { يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ }(5)، { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ }(6)، وما أشبه ذلك.
__________
(1) سورة البقرة : 255 .
(2) سورة الأعلى : 1 .
(3) سورة الأنعام: 18 .
(4) سورة النحل : 50 .
(5) سورة السجدة : 5 .
(6) سورة الحجر : 9 .(107/25)
( 4 ) وصعود الأشياء إليه، مثل قوله: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }(1)، ومثل قوله: { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ }(2).
( 5 ) كونه في السماء، مثل قوله تعالى: { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ }(3).
ثانياً: وأما السنة فقد تواترت عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من قوله وفعله وإقراره:
( 1 ) فأما قول الرسول عليه الصلاة والسلام:
فجاء ذكر العلو والفوقية، ومنه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "سبحان ربي الأعلى"(4). وقوله لما ذكر السماوات، قال: "والله فوق العرش"(5).
وجاء بذكر أن الله في السماء، مثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من السماء"(6).
__________
(1) سورة فاطر : 10 .
(2) سورة المعارج : 4 .
(3) سورة الملك : 16 .
(4) رواه مسلم / كتاب صلاة المسافرين / باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل.
(5) رواه ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" (1/244)، واللالكائي في "شرح السنة" (659)، والطبراني في "الكبير" (9/228)، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/86): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(6) رواه البخاري / كتاب المغازي / باب بعث علي وخالد إلى اليمن، ومسلم / كتاب الزكاة / باب صفة الخوارج.(107/26)
( 2 ) وأما الفعل، فمثل رفع أصبعه إلى السماء، وهو يخطب الناس في أكبر جمع، وذلك في يوم عرفة، عام حجة الوداع، فإن الصحابة لم يجتمعوا اجتماعاً أكبر من ذلك الجمع، إذ إن الذي حجّ معه بلغ نحو مئة ألف، والذين مات عنهم نحو مئة وأربعة وعشرين ألفاً، يعني: عامة المسلمين حضروا ذلك الجمع، فقال عليه الصلاة والسلام: "ألا هل بلغت؟". قالوا: نعم. "ألا هل بلغت؟"، قالوا: نعم. "ألا هل بلغت؟". قالوا: نعم. وكان يقول: "الله اشهد" يشير إلى السماء بأصبعه، وينكتها إلى الناس(1).
ومن ذلك رفع يديه إلى السماء في الدعاء.
وهذا إثبات العلو بالفعل.
( 3 ) وأما التقرير، فإنه في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، أنه أتى بجارية يريد أن يعتقها، فقال لها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "أين الله؟". قالت: في السماء. فقال: "من أنا؟"، قالت: رسول الله. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة"(2).
فهذه جارية لم تتعلم، والغالب على الجواري الجهل، لا سيما وهي أمة غير حرة، لا تملك نفسها، تعلم أن ربها في السماء، وضلاّل بني آدم يُنكرون أن الله في السماء، ويقولون: إما أنه لا فوق العالم ولا تحته ولا يمين ولا شمال! أو أنه في كل مكان!!.
فهذه من أدلة الكتاب والسنة.
ثالثاً: وأما دلالة الإجماع، فقد أجمع السلف على أن الله تعالى بذاته في السماء، من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا.
إن قلت كيف أجمعوا؟.
نقول: إمرارهم هذه الآيات والأحاديث مع تكرار العلو فيها والفوقية ونزول الأشياء منه وصعودها إليه دون أن يأتوا بما يخالفها إجماع منهم على مدلولها.
__________
(1) رواه مسلم / كتاب الحج / باب حجة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
(2) رواه مسلم / كتاب المساجد / باب تحريم الكلام في الصلاة.(107/27)
ولهذا لما قال شيخ الإسلام: "إن السلف مجمعون على ذلك". قال: "ولم يقل أحد منهم: إن الله ليس في السماء، أو: إن الله في الأرض، أو إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل، أو: إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه".
رابعاً: وأما دلالة العقل، فنقول: لا شك أن الله عزَّ وجلَّ إما أن يكون في العلو أو في السفل، وكونه في السفل مستحيل، لأنه نقص يستلزم أن يكون فوقه شيء من مخلوقاته فلا يكون له العلو التام والسيطرة التامة والسلطان التام، فإذا كان السفل مستحيلاً، كان العلو واجباً.
وهناك تقرير عقلي آخر، وهو أن نقول: إن صفة العلو صفة كمال باتفاق العقلاء، وإذا كان صفة كمال، وجب أن يكون ثابتاً لله، لأن كل صفة كمال مطلقة، فهي ثابتة لله.
وقولنا: "مطلقة": احترازاً من الكمال النسبي، الذي يكون كمالاً في حال دون حال، فالنوم مثلاً نقصه، ولكنه لمن يحتاج إليه ويستعيد قوته به كمال.
خامساً: وأما دلالة الفطرة: فأمر لا يمكن المنازعة فيها ولا المكابرة، فكل إنسان مفطور على أن الله في السماء، ولهذا عندما يفجؤك الشيء الذي لا تستطيع دفعه، وإنما تتوجه إلى الله بدفعه، فإن قلبك ينصرف إلى السماء حتى الذين ينكرون علو الذات لا يقدرون أن ينزلوا أيديهم إلى الأرض.
وهذه الفطرة لا يمكن إنكارها.
حتى إنهم يقولون: إن بعض المخلوقات العجماء تعرف أن الله في السماء، كما في الحديث الذي يروى أن سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام وعلى أبيه خرج يستسقي ذات يوم بالناس، فلم خرج، رأى نملة مستلقية على ظهرها، ورافعة قوائمها نحو السماء، تقول: "اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك". فقال: "ارجعوا، فقد سقيتم بدعوة غيركم". وهذا إلهام فطري.
فالحاصل أن: كون الله في السماء أمر معلوم بالفطرة.(107/28)
ووالله، لولا فساد فطرة هؤلاء المنكرين لذلك، لعلموا أن الله في السماء بدون أن يطالعوا أي كتاب، لأن الأمر الذي تدل عليه الفطرة لا يحتاج إلى مراجعة الكتب.
والذين أنكروا علو الله عزَّ وجلَّ بذاته يقولون: لو كان في العلو بذاته، كان في جهة، وإذا كان في جهة، كان محدوداً وجسماً، وهذا ممتنع!.
والجواب عن قولهم: "إنه يلزم أن يكون محدوداً وجسماً" فنقول:
أولاً: لا يجوز إبطال دلالة النصوص بمثل هذه التعليلات، ولو جاز هذا، لأمكن كل شخص لا يريد ما يقتضيه النص أن يعلله بمثل هذه العلل العليلة.
فإذا كان الله أثبت لنفسه العلو، ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم أثبت له العلو، والسلف الصالح أثبتوا له العلو، فلا يقبل أن يأتي شخص ويقول: لا يمكن أن يكون علو ذات، لأنه لو كان علو ذات، لكان كذا وكذا.
ثانياً: نقول: إن كان ما ذكرتم لازماً لإثبات العلو لزوماً صحيحاً، فلنقل به، لأن لازم كلام الله ورسوله حق، إذ أن الله تعالى يعلم ما يلزم من كلامه. فلو كانت نصوص العلو تستلزم معنى فاسداً، لبينه، ولكنها لا تستلزم معنى فاسداً.
ثالثاً: ثم نقول: ما هو الحد والجسم الذي أجبلتم علينا بخيلكم ورجلكم فيها.
أتريدون بالحد أن شيئاً من المخلوقات يحيط بالله؟ فهذا باطل ومنتف عن الله، وليس بلازم من إثبات العلو لله، أو تريدون بالحد أن الله بائن من خلقه غير حال فيهم؟ فهذا حق من حيث المعنى، ولكن لا نطلق لفظة نفياً ولا إثباتاً، لعدم ورود ذلك.
وأما الجسم، فنقول: ماذا تريدون من الجسم؟ أتريدون أنه جسم مركب من عظم ولحم وجلد نحو ذلك؟ فهذا باطل ومنتف عن الله، لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. أم تريدون بالجسم ما هو قائم بنفسه متصف بما يليق به؟ فهذا حق من حيث المعنى، لكن لا نُطلق لفظة نفياً ولا إثباتاً، لما سبق.(107/29)
وكذلك نقول في الجهة، هل تريدون أن الله تعالى له جهة تحيط به؟ فهذا باطل، وليس بلازم من إثبات علوه. أم تريدون جهة علو لا تحيط بالله؟ فهذا حتى لا يصح نفيه عن الله تعالى.
الله تعالى فوق العرش
قال الورداني ص74: ويروى أن الله كتب كتاباً عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي.
الجواب: الورداني يستنكر أن يكون الله تبارك وتعالى فوق عرشه، وإنني مهما أوردت له من الروايات وكلام العلماء في ذلك فإنه لا يقتنع، ولكن أُورد له المراجع الرافضية التي أثبتت أن الله تبارك وتعالى فوق عرشه وذلك بذكر المصدر وباختصار العبارة، وليراجع بعد ذلك علماء دينه للإجابة حول الاستشكال الذي وقعوا فيه موافقين بذلك المسلمين.
المحاسن ج1: ص231: فإنكم لا تدرون لعله شيء من الحق فيكذب الله فوق عرشه.
الكافي ج4: ص585: قال: كمن زار الله عزَّ وجلَّ فوق عرشه.
ص586: كمن زار الله فوق عرشه.
الكافي ج5: ص465: فأحببت أن أطيع الله عزَّ وجلَّ فوق عرشه.
الكافي ج7: ص424: لأقضين اليوم بقضية بينكما هي مرضاة الرب من فوق عرشه.
الكافي ج8: ص104: القيامة، قال فيشرف الجبار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة.
كامل الزيارات: ص114: فإن الله يحبهما من فوق عرشه.
من لا يحضره الفقيه ج1: ص402: إن الله تبارك وتعالى لينادي ليل جمعة من فوق عرشه.
علل الشرائع ج2: ص395: لا تدرون لعله شيء من الحق فتكذبوا الله عزَّ وجلَّ فوق عرشه.
الأمالي: ص194: أمير المؤمنين بولاية من الله عزَّ وجلَّ، عقدها له فوق عرشه، وأشهد على ذلك ملائكته.
ص524: لا تبكي، فوالله ما زوجتك حتى زوجك الله من فوق عرشه، وأشهد بذلك جبرئيل وميكائيل.
ص733: فأول من يصلي على الجبار جل جلاله من فوق عرشه.
ثواب الأعمال: ص85: كان كمن زار الله فوق عرشه.
معاني الأخبار: ص51: وسماني الله من فوق عرشه عشرة أسماء.
ص373: فقد رد على الله فوق عرشه.(107/30)
خصائص الأئمة: ص84: والله لأقضين بينكم اليوم بقضية هي مرضاة الرب من فوق عرشه.
تهذيب الأحكام ج3: ص5: إن الله تعالى لينادي كل ليلة جمعة من فوق عرشه.
ص116: سبحان الله البصير الذي ليس شيء أبصر منه يبصر من فوق عرشه.
تهذيب الأحكام ج6: ص4: كمن زار الله فوق عرشه.
ص46: كمن زار الله فوق عرشه.
ص50: وقالت الملائكة: فلان صديق زكاه الله من فوق عرشه.
ص306: لأقضين اليوم بقضية بينكما هي مرضاة الرب من فوق عرشه علمنيها حبيبي رسول الله.
روضة الواعظين: ص72: الصلاة على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من فوق عرشه.
ص72: فأول من يصلي على الجبار جل جلاله من فوق عرشه.
ص122: لا تبكين فوالله ما زوجتك حتى زوجك الله من فوق عرشه واشهد بذلك جبرئيل وميكائيل.
ص195: وقالت الملائكة: فلان صديق زكاه الله من فوق عرشه.
مختصر بصائر الدرجات: ص77: فإنكم لا تدرون لعله شيء من الحق فتكذبون الله عزَّ وجلَّ فوق عرشه.
وسائل الشيعة ج4: ص1071: ناداه الله جل جلاله من فوق عرشه.
ص1125: إن الله تعالى ينادي كل ليلة جمعة من فوق عرشه.
وسائل الشيعة ج5: ص73: إن الله تعالى لينادي كل ليلة جمعة من فوق عرشه.
وسائل الشيعة ج10: ص262: كمن زار الله فوق عرشه.
ص319: كان كمن زار الله فوق عرشه.
ص306: وقالت الملائكة: فلان صديق زكاه الله من فوق عرشه.
ص366: ومن زاره يوم عاشورا فكأنما زار الله فوق عرشه.
وسائل الشيعة ج14: ص443: فأحببت أن أطيع الله عزَّ وجلَّ فوق عرشه.
وسائل الشيعة ج18: ص207: لأقضين اليوم بينكم بقضية هي مرضاة الرب من فوق عرشه.
مستدرك الوسائل ج2: ص235: وينظر الله تعالى إليه من فوق عرشه.
مستدرك الوسائل ج6: ص73: إن الله تعالى ليأمر ملكاً فينادي كل ليلة جمعة من فوق عرشه.
مستدرك الوسائل ج10: ص250: كان كمن زار الله فوق عرشه.
ص251: كان من محدثي الله تعالى فوق عرشه.
مستدرك الوسائل ج13: ص203: أربع لعنهم الله من فوق عرشه، وأمنت عليه ملائكته.(107/31)
مستدرك الوسائل ج14: ص156: أربعة يلعنهم الله من فوق عرشه.
ص241: ثم يلعنها الله من فوق عرشه وتلعنها الملائكة إلى أن تموت.
مستدرك الوسائل ج17: ص390: لأقضين بينكم اليوم بقضية هي مرضاة الرب من فوق عرشه.
دلائل الإمامة: ص86: قد زوجتك بابنتي فاطمة على ما زوجك الرحم من فوق عرشه.
شرح الأخبار ج2: ص37: ما زوجتك علياً حتى زوجك الله إياه من فوق عرشه.
الاعتقادات: ص86: يا محمد إن الله تعالى قد زوج فاطمة علياً من فوق عرشه.
المزار: ص46: وقالت الملائكة: فلان صديق زكاه الله من فوق عرشه.
الإرشاد ج1: ص196: لقد قضى أبو الحسن فيهم بقضاء الله عزَّ وجلَّ فوق عرشه.
الأمالي: ص236: علمه الله من فوق عرشه.
الأمالي: ص12: ورسول الله علمه الله من فوق عرشه.
بشارة المصطفى: ص24: عقدها له فوق عرشه وأشهد على ذلك ملائكته.
ص115: والله لأشرفكم كما شرفكما الله من فوق عرشه.
ص116: ألا وإن الله اطلع من فوق عرشه فاختارني من خلقه وبعثني نبياً.
ص116: فوالله ما زوجتك حتى زوجك الله من فوق عرشه وأشهد على ذلك جبرئيل وميكائيل ألا وإن الله اطلع من فوق عرشه فاختارني من خلقه وبعثني نبياً.
ص174: لا تبكي فوالله ما زوجتك حتى زوجك الله من فوق عرشه.
مناقب آل أبي طالب ج2: ص73: يكثر من الثناء والصلاة على علي بن أبي طالب فوق عرشه فاشتقاق العرش إلى علي بن أبي طالب فخلق الله تعالى هذا الملك على صورة علي بن أبي طالب تحت عرشه.
ص177: لقد قضى أبو الحسن فيهم بقضاء الله فوق عرشه.
مناقب آل أبي طالب ج3: ص272: كان كمن زار الله فوق عرشه.
مزار المشهدي: ص325: كان كن زار الله فوق عرشه.
التحصين: ص53: عقدها له فوق عرشه وأشهد على ذلك ملائكته.
ص535: عقدها له فوق عرشه وأشهد على ذلك ملائكته.
إقبال الأعمال ج1: ص208: يسمع من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين.
ص209: يبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين.
ص368: يسمع من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين.
ص372: يبصر من فوق عرشه.(107/32)
كشف الغمة ج2: ص5: ورسول الله علمه من الله من فوق عرشه.
ص101: كان الله تعالى مزوجه من فوق عرشه.
كشف اليقين: ص316: فإنني لم أزوجك حتى زوجك الله – تعالى – من فوق عرشه.
عدة الداعي: ص31: قال الله عزَّ وجلَّ من فوق عرشه.
الصراط المستقيم ج1: ص208: فاطمة زوجها الله فوق عرشه.
الصراط المستقيم ج2: ص126: بولاية من الله عقدها له فوق عرشه.
محاسبة النفس: ص9: وأسماؤهم مكتوبة فوق عرشه.
تأويل الآيات ج2: ص526: علي بن أبي طالب عليه السلام فوق عرشه، فاشتقاق العرش.
الجواهر السنية: ص319: قال الله من فوق عرشه.
مدينة المعاجز ج1: ص67: عقدها له فوق عرشه، وأشهد على ذلك ملائكته.
مدينة المعاجز ج2: ص330: على ما زوجك الرحمن من فوق عرشه.
مدينة المعاجز ج3: ص283: لا تبكين فوالله ما زوجتك حتى زوجك الله من فوق عرشه.
بحار النوار ج2: ص186: فإنكم لا تدرون لعله من الحق فتكذبوا الله فوق عرشه.
ص188: لا تدرون لعله شيء من الحق فتكذبوا الله عزَّ وجلَّ فوق عرشه.
ص212: لا تدرون لعله شيء من الحق فتكذبون الله عزَّ وجلَّ فوق عرشه.
بحار الأنوار ج7: ص268: فيشرف الجبار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه.
بحار الأنوار ج9: ص285: والله تعالى من فوق عرشه ناظر بالرضوان.
بحار الأنوار ج16: ص92: وسماني الله من فوق عرشه عشرة أسماء.
بحار الأنوار ج22: ص216: فزوجه الله من فوق عرشه.
ص507: فأول من يصلي على الجبار جل جلاله من فوق عرشه.
بحار الأنوار ج25: ص169: فمن تقدم عليه كفر بالله من فوق عرشه.
بحار الأنوار ج32: ص350: ورسول الله علمه الله من فوق عرشه.
بحار الأنوار ج36: ص228: عقدها له فوق عرشه.
بحار الأنوار ج37: ص91: ما زوجتك حتى زوجك الله من فوق عرشه.
بحار الأنوار ج39: ص97: من الثناء والصلاة على علي بن أبي طالب عليه السلام فوق عرشه.
بحار الأنوار ج40: ص245: لقد قضى أبو الحسن فيهم بقضاء الله عزَّ وجلَّ فوق عرشه.(107/33)
ص306: لأقضين اليوم بينكم بقضية هي مرضاة الرب من فوق عرشه.
بحار الأنوار ج41: ص20: فصلوات الله من فوق عرشه يتوالى عليه.
بحار الأنوار ج43: ص142: كان الله تعالى مزوجه من فوق عرشه.
ص270: فإن الله تبارك وتعالى يحبهما من فوق عرشه.
بحار الأنوار ج65: ص37: وكيف يلعنهم الله بأخس اللعن من فوق عرشه.
ص37: كيف يذكرهم الله بأشرف الذكر من فوق عرشه.
بحار الأنوار ج68: ص184: قال الله تعالى من فوق عرشه.
بحار الأنوار ج74: ص25: ومناجاتهم مع الجليل الذي فوق عرشه.
بحار الأنوار ج80: ص114: إن الله تعالى لينادي كل ليلة جمعة من فوق عرشه.
بحار الأنوار ج83: فوق عرشه ص103، المتجبر في ملكه القوي في بطشه، الرفيع فوق عرشه.
بحار الأنوار ج84: ص166: إن الله تبارك وتعالى لينادي كل ليلة جمعة من فوق عرشه.
ص289: الله البصير الذي ليس شيء أبصر منه، يبصر من فوق عرشه.
ص289: يسمع من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين.
بحار الأنوار ج86: ص282: فينادي كل ليلة جمعة من فوق عرشه من أول الليل إلى آخره.
بحار الأنوار ج95: ص54: يبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين.
ص105: يسمع من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين.
ص106: يبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين.
ص159: سبحان الله السميع الذي ليس شيء أسمع منه يسمع من فوق عرشه.
بحار الأنوار ج97: ص144: كمن زار الله فوق عرشه.
بحار الأنوار ج98: ص70: كان كمن زار الله فوق عرشه.
ص73: كان من محدثي الله فوق عرشه.
ص88: وقالت الملائكة: فلان صديق زكاه الله من فوق عرشه.
ص93: ومن زاره يوم عاشورا فكأنما زار الله فوق عرشه.
بحار الأنوار ج101: ص88: فإني قد زوجتك بابنتي فاطمة على ما زوجك الرحمن من فوق عرشه.
ص385: لقد قضى أبو الحسن فيهم بقضاء الله فوق عرشه.
ص393: لقد قضى أبو الحسن فيهم بقضاء الله عزَّ وجلَّ فوق عرشه.
بحار الأنوار ج107: ص10: فإن الله تبارك وتعالى يحبهما من فوق عرشه.(107/34)
شجرة طوبى ج1: ص71: بولاية من الله عزَّ وجلَّ عقدها له فوق عرشه.
المراجعات: ص289: بولاية من الله عزَّ وجلَّ عقدها فوق عرشه.
الغدير ج7: ص18: وأسمائهم مكتوبة فوق عرشه.
مواقف الشيعة ج1: ص108: ورسول الله علمه الله من فوق عرشه.
تفسير الإمام العسكري: ص85: فصلوات الله من فوق عرشه تتوالى عليه.
ص327: قال الله عزَّ وجلَّ من فوق عرشه.
ص451: والله تعالى من فوق عرشه ناظر بالرضوان إليه ناصره.
ص618: وتكذيباً بمقاله كيف يلعنهم الله بأخزى اللعن من فوق عرشه.
ص618: وتصديقاً لمقاله كيف يذكرهم الله بأشرف الذكر من فوق عرشه.
تفسير القمي ج2: ص173: فزوجه الله من فوق عرشه.
تفسير فرات الكوفي: ص415: قد زوجتك فاطمة ابنتي على ما زوجك الرحمن فوق عرشه.
تفسير الصافي ج1: ص167: وإسرافيل من خلفه وملك الموت أمامه والله تعالى من فوق عرشه.
تفسير الصافي ج4: ص164: فزوجه الله تعالى من فوق عرشه.
تفسير الصافي ج5: ص100: فيشرف الجبار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه.
تفسير الأصفى ج1: ص56: وإسرافيل من خلقه وملك الموت أمامه والله تعالى من فوق عرشه.
تفسير الأصفى ج2: ص1233: فيشرف الجبار عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة.
تفسير نور الثقلين ج1: ص72: فمن رد علي فقد رد على الله فوق عرشه.
تفسير نور الثقلين ج4: ص236: فزوجه الله عزَّ وجلَّ من فوق عرشه.
تفسير نور الثقلين ج5: ص177: فيشرف الجبار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة فيأمر ملكاً من الملائكة فينادى فيهم.
تفسير الميزان ج14: ص134: الله أعظم من ذلك. ويحك أتدري ما الله؟ أن الله فوق عرشه وعرشه فوق سماواته لهكذا وقال بأصبعه مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب.
تفسير الميزان ج16: ص281: فزوجه الله من فوق عرشه.
الدرجات الرفيعة: ص126: علمه الله من فوق عرشه.
ص440: فزوجه الله من فوق عرشه.(107/35)
فلاح السائل: ص238: في مكانه المتجبر في ملكه القوي في بطشه الرفيع فوق عرشه المطلع على خلقه.
كشف الغمة ج2: ص5: ورسول الله علمه من الله من فوق عرشه.
ص101: كان الله تعالى مزوجه من فوق عرشه وكان جبرئيل عليه السلام الخاطب.
نهج الإيمان: ص635: يكثر من الثناء والصلاة على علي بن أبي طالب فوق عرشه. فاشتقاق العرش إلى رؤيته فخلق الله هذا الملك على صورته تحت عرشه لينظر إليه، فسكن إليه شوقه.
حياة الإمام الحسين ج1: ص223: وأول من صلى على الجثمان المقدس هو الله تعالى من فوق عرشه.
صحيفة الزهراء: ص72: القوي في بطشه، الرفيع فوق عرشه. المطلع على خلقه، والبالغ لما أراد من علمه.
الشيعة في أحاديث الفريقين: ص32: وكيف يلعنهم الله بأخس اللعن من فوق عرشه.
ص32: وتصديقاً لمقاله، كيف يذكرهم الله بأشرف الذكر من فوق عرشه.
ص156: فصلوات الله من فوق عرشه تتوالى عليه.
في رحاب النبي وآله: ص119: فوالله ما زوجتك حتى زوجك الله تعالى من فوق عرشه، وأشهد على ذلك جبريل وميكائيل.
صفة الضحك
قال الورداني ص74: ويروى: يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر.
الجواب:
أولاً: نصيحة أُسديها للورداني ولكل حاقد على أهل السنة أن لا يقول شيئاً هو مذكور ومماثل عند طائفته ومن يعتقد دينه لئلا يكون سخرية عند أرباب العلم والمعرفة.
وثانياً: أن لا يجترّ سخافات غيره ويدّعي أنها من بنات أفكاره فهذا عيب وهضم لحقوق الآخرين وإن كانوا لا يدينون بديننا مثل عبد الحسين شرف الدين وغيره من أعداء أهل السنة.
وثالثاً: أذكر للورداني ولكل رافضي حاقد أن الذي عابه على أهل السنة موجود في دينه:
1 – عن الإصبغ بن نباته قال: قال أمير المؤمنين (ع): يضحك الله عزَّ وجلَّ إلى رجل كتيبة يعرض لها سبع أو لص فحماهم أن يجوزوا(1).
__________
(1) الكافي 5/54، وسائل الشيعة 11/108 .(107/36)
2 – أن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: ثلاثة يضحك الله إليهم يوم القيامة: رجل يكون على فراشه مع زوجته وهو يحبها فيتوضأ ويدخل المسجد فيصلي ويناجي ربه. ورجل أصابته جنابة ولم يصب ماء فقام إلى الثلج فكسره ثم دخل فيه واغتسل. ورجل لقي عدواً وهو مع أصحابه وجاءهم مقاتل فقاتل حتى قتل(1).
3 – ذكر المجلسي في بحار الأنوار ج8 ص207-216 رواية طويلة عن عوف بن عبد الله الأزدي عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جاء فيها: فبينا هم كذلك إذ يسمعون صوتاً من تحت العرش: يا أهل الجنة كيف ترون منقلبكم؟.
فيقولون: خير المنقلب منقلبنا وخير الثواب ثوابنا، قد سمعنا الصوت واشتهينا النظر إلى أنوار جلالك وهو أعظم ثوابنا وقد وعدته ولا تخلف الميعاد.
فيأمر الله الحجب فيقوم سبعون ألف حجاب فيركبون على النوق والبراذين وعليهم الحلي والحلل فيسيرون في ظل الشجر حتى ينتهوا إلى دار السلام، وهي دار الله دار البهاء والنور والسرور والكرامة، فيسمعون الصوت فيقولون: يا سيدنا سمعنا لذاذة منطقك، فأرنا نور وجهك، فيتجلى لهم سبحانه وتعالى حتى ينظرون إلى نور وجهه – تبارك وتعالى – المكنون من عين كل ناظر، فلا يتمالكون حتى يخروا على وجوههم سجداً.
فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك يا عظيم.
قال: فيقول: عبادي! ارفعوا رؤوسكم ليس هذه بدار عمل إنما هي دار كرامة ومسألة ونعيم قد ذهبت عنكم اللغوب والنصب.
فإذا رفعوها رفعوها وقد أشرقت وجوههم من نور وجهه سبعين ضعفاً.
ثم يقول تبارك وتعالى: يا ملائكتي أطعموهم واسقوهم، فيؤتون بألوان الأطعمة لم يروا مثلها قط في طعم الشهد وبياض الثلج ولين الزبد.
فإذا أكلوه قال بعضهم لبعض: كان طعامنا الذي خلفناه في الجنة عند هذا حلماً.
قال: ثم يقول الجبار تبارك وتعالى: يا ملائكتي اسقوهم.
__________
(1) الاختصاص للمفيد 188، بحار الأنوار للمجلسي ج75 ص32، مستدرك الوسائل للنوري 1/488.(107/37)
قال: فيؤتون بأشربة فيقبضها ولي الله فيشرب شربة لم يشرب مثلها قط.
قال: ثم يقول: يا ملائكتي طيبوهم فتأتيهم ريح من تحت العرش بمسك أشد بياضاً من الثلج تغير وجوههم وجباههم وجنوبهم تسمى المثيرة فيستمكنون من النظر إلى نور وجهه.
فيقولون: يا سيدنا حسبنا لذاذة منطقك والنظر إلى نور وجهك لا نريد به بدلاً ولا نبتغي به حولاً.
فيقول الرب تبارك وتعالى: إني أعلم أنكم إلى أزواجكم مشتاقون، وأن أزواجكم إليكم مشتاقات.
فيقولون: يا سيدنا ما أعلمك بما في نفوس عبادك؟!.
فيقول: كيف لا أعلم وأنا خلقتكم، وأسكنت أرواحكم في أبدانكم، ثم رددتها عليكم بعد الوفاة فقلت: اسكني في عبادي خير مسكن، ارجعوا إلى أزواجكم.
قال: فيقولون: يا سيدنا اجعل لنا شرطاً.
قال: فإن لكم كل جمعة زورة ما بين الجمعة إلى الجمعة سبعة آلاف سنة مما تعدون.
قال: فينصرفون فيعطي كل رجل منهم رمانة خضراء، في كل رمانة سبعون حلة لم يرها الناظرون المخلوقون، فيسيرون فيتقدمهم بعض الولدان حتى يبشروا أزواجهم وهن قيام على أبواب الجنان.
قال: فما دنا منها نظرت إلى وجهه فأنكرته من غير سوء، فقالت: حبيبي! لقد خرجت من عندي وما أنت هكذا.
قال: فيقول: حبيبتي! تلومينني! أن أكون هكذا وقد نظرت إلى نور وجه ربي تبارك وتعالى فأشرق وجهي من نور وجهه.
ثم يعرض عنها فينظر إليها نظرة فيقول: حبيبتي! لقد خرجت من عندك وما كنت هكذا.
فتقول: حبيبي! تلومني أن أكون هكذا وقد نظرت إلى وجه الناظر إلى نور وجه ربي فأشرق وجهي من وجه الناظر إلى نور وجه ربي سبعين ضعفاً.
فتعانقه من باب الخيمة والرب تبارك وتعالى يضحك إليهم فينادون بأصابعهم: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور.(107/38)
3 – ذكر المفيد في كتابه "الاختصاص" 345-349، وهادي النجفي في كتابه "ألف حديث في المؤمن" 299-304 رواية طويلة منها: قال علي أمير المؤمنين عليه السلام: يفتح لولي الله من منزله من الجنة إلى قبره تسعة وتسعون باباً، يدخل عليها روحها وريحانها وطيبها ولذتها ونورها إلى يوم القيامة، فليس شيء أحب إليه من لقاء الله، قال: فيقول: يا رب عجل عليّ قيام الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، فإذا كانت صيحة القيامة خرج من قبره مستورة عورته، مسكنة روعته قد أعطي الأمن والأمان، وبشر بالرضوان، والروح والريحان، والخيرات الحسان، فيستقبله الملكان اللذان كانا معه في الحياة الدنيا فينفضان التراب عن وجهه وعن رأسه ولا يفارقانه، ويبشرانه ويمنيانه ويفرجانه كلما راعه شيء من أهوال القيامة قالا له: يا ولي الله لا خوف عليك اليوم ولا حزن، نحن الذين ولينا عملك في الحياة الدنيا ونحن أولياؤك اليوم في الآخرة، انظر تلكم الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون.
قال: فيقام في ظل العرض فيدنيه الرب تبارك وتعالى حتى يكون بينه وبينه حجاب من نور. فيقول له: مرحباً، فمنها يبيض وجهه ويسر قلبه ويطول سبعون ذراعاً من فرحته فوجهه كالقمر وطوله طول آدم وصورته صورة يوسف ولسانه لسان محمد صلَّى الله عليه وآله وقلبه قلب أيوب، كلما غفر له ذنب سجد.
فيقول: عبدي اقرأ كتابك فيصطك فرائصه شفقاً وفرقاً.
قال: فيقول الجبار: هل زدنا عليك سيئاتك ونقصنا عليك من حسناتك؟.
قال: فيقول: يا سيدي بل أنت قائم بالقسط وأنت خير الفاصلين.
قال: فيقول: عبدي أما استحييت ولا راقبتني ولا خشيتني.
قال: فيقول: يا سيدي قد أسأت فلا تفضحني، فإن الخلايق ينظرون إلي.
قال: فيقول الجبار: وعزتي يا مسيء لا أفضحك اليوم.
قال: فالسيئات فيما بينه وبين الله مستورة والحسنات بارزة للخلائق.
قال: فكلما كان عيره بذنب قال: سيدي لتبعثني إلى النار أحب إلي من أن تعيرني.(107/39)
قال: فيضحك الجبار تبارك وتعالى لا شريك له ليقر بعينه.
قال: فيقول: أتذكر يوم كذا وكذا أطعمت جائعاً ووصلت أخاً مؤمناً، كسوت يوماً أعطيت سعياً حججت في الصحاري تدعوني محرماً، أرسلت عينيك فرقاً، سهرت ليلة شفقاً، غضضت طرفك مني فرقاً، فذا بذا وأما ما أحسنت فمشكور، وأما ما أسأت فمغفور، حول بوجهك، فإذا حوله رأى الجبار فعند ذلك ابيض وجهه وسر قلبه ووضع التاج على رأسه وعلى يديه الحلي.
والآن ما قول الورداني فهل يعتقد بما اعترض عليه، ولمزيد من الإيضاح والبيان أذكر للورداني قول أحد علماء أهل السنة لعله يراجع نفسه ويعود للإسلام من جديد وما ذلك على الله تعالى بعزيز.
يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في شرح العقيدة الطحاوية 407: الحديث يخبر فيه النبي عليه الصلاة والسلام أن الله يضحك إلى رجلين، عند ملاقاتهما يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخلان الجنة، وأحدهما لم يقتل الآخر إلا لشدة العداوة بينهما، ثم يدخلان الجنة بعد ذلك، فتزول تلك العداوة، لأن أحدهما كان مسلماً، والآخر كان كافراً، فقتله الكافر، فيكون المسلم شهيداً، فيدخل الجنة، ثم منّ الله على هذا الكافر، فأسلم، ثم قتل شهيداً، أو مات بدون قتل، فإنه يدخل الجنة، فيكون هذا القاتل والمقتول كلاهما يدخل الجنة، فيضحك الله إليهما.
ففي هذا إثبات الضحك لله عزَّ وجلَّ، وهو ضحك حقيقي، لكنه لا يماثل ضحك المخلوقين، ضحك يليق بجلاله وعظمته، ولا يمكن أن نمثله، لأننا لا يجوز أن نقول: إن لله فماً أو أسناناً أو ما أشبه ذلك، لكن نثبت الضحاك لله على وجه يليق به سبحانه وتعالى.
فإذا قال قائل: يلزم من إثبات الضحك أن يكون الله مماثلاً للمخلوق.
فالجواب: لا يلزم أن يكون مماثلاً للمخلوق، لأن الذي قال "يضحك" هو الذي أنزل عليه قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }(1).
__________
(1) الشورى : 11 .(107/40)
ومن جهة أخرى، فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم لا يتكلم في مثل هذا إلا عن وحي، لأنه من أمور الغيب، ليس من الأمور الاجتهادية التي قد يجتهد فيها الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم يقره الله على ذلك أو لا يقرّه، لكنه من الأمور الغيبية التي يتلقاها الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم عن طريق الوحي.
لو قال قائل: المراد بالضحك الرضى، لأن الإنسان إذا رضي عن الشيء، سرّ به وضحك، والمراد بالرضى الثواب أو إرادة الثواب، كما قال ذلك أهل التعطيل.
فالجواب أن نقول: هذا تحريف للكلم عن مواضعه، فما الذي أدراكم أن المراد بالرضى والثواب؟!.
فأنتم الآن قلتم على الله ما لا تعلمون من وجهين:
الوجه الأول: صرفتم النص عن ظاهره بلا علم.
الوجه الثاني: أثبتم له معنى خلاف الظاهر بلا علم.
ثم نقول لهم: الإرادة، إذا قلتم: أنها ثابتة لله عزَّ وجلَّ وجل، فإنه تنتقض قاعدتكم، لأن للإنسان إرادة، كما قال تعالى: { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ }(1)، فللإنسان إرادة، بلل للجدار إرادة، كما قال تعالى: { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ }(2)، فأنتم إما أن تنفوا الإرادة عن الله عزَّ وجلَّ كما نفيتم ما نفيتم من الصفات، وإما أن تثبتوا لله عزَّ وجلَّ ما أثبته لنفسه، وإن كان للمخلوق نظيره في الاسم لا في الحقيقة.
والفائدة المسلكية من هذا الحديث:
هو أننا إذا علمنا أن الله عزَّ وجلَّ يضحك، فإننا نرجو منه كل خير.
ولهذا قال رجل للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم: يا رسول الله! أوَ يضحك ربنا؟ قال: نعم. قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً(3).
إذا علمنا ذلك، انفتح لنا الأمل في كل خير، لأن هناك فرقاً بين إنسان عبوس لا يكاد يُرى ضاحكاً، وبين إنسان يضحك.
__________
(1) آل عمران : 125 .
(2) الكهف : 77 .
(3) أخرجه الإمام أحمد ج5 ص11-12 .(107/41)
وقد كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم دائم البِشر كثير التبسم عليه الصلاة والسلام.
صفة اليد
قال الورداني ص74: ويروى: يد الله ملأى لا يغيضها نفقة.
الجواب: أهل السنة والجماعة يُثبتون يداً حقيقية لله تعالى والإثبات نفي الماثلة بين الخالق تبارك وتعالى والعبد.
وقد أجاب العلامة ابن عثيمين – رحمه الله تعالى وغفر له – على أمثال هذه الفرية فقال في "شرح العقيدة الطحاوية" ص255 وما بعدها:
فإذا قال قائل: أنتم تثبتون أن لله تعالى يداً حقيقية، ونحن لا نعلم من الأيدي إلا أيادي المخلوقين، فيلزم من كلامكم تشبيه الخالق بالمخلوق.
فالجواب أن نقول: لا يلزم من إثبات اليد لله أن نمثل الخالق بالمخلوق لأن إثبات اليد جاء في القرآن والسنة وإجماع السلف، ونفي مماثلة الخالق للمخلوقين يدل عليه الشرع والعقل والحس:
أما الشرع، فقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }(1).
وأما العقل، فلا يمكن أن يماثل الخالق المخلوق في صفاته، لأن هذا يُعدّ عيباً في الخالق.
وأما الحس، فكل إنسان يشاهد أيدي المخلوقات متفاوتة ومتباينة من كبير وصغير وضخم ودقيق.. إلخ، فيلزم من تباين أيدي المخلوقين وتفاوتهم مباينة يد الله تعالى ليدي المخلوقين وعدم مماثلته لهم سبحانه وتعالى من باب أولى.
هذا، وقد خالف أهل السنة والجماعة في إثبات اليد لله تعالى أهل التعطيل من المعتزلة والجهمية والأشعرية ونحوهم، وقالوا: لا يمكن أن نُثبت لله يداً حقيقية، بل المراد باليد أمر معنوين وهو القوة!! أو المراد باليد النعمة لأن اليد تُطلق في اللغة العربية على القوة وعلى النعمة.
ففي الحديث الصحيح حديث النواس بن سمعان الطويل: "أن الله يوحي إلى عيسى أني أخرجت عباداً لي لا يَدَان لأحد بقاتلهم"(2)، والمعنى: لا قوة لأحد بقتالهم، وهم يأجوج ومأجوج.
__________
(1) الشورى : 11 .
(2) رواه مسلم / كتاب الفتن / باب ذكر الدجال.(107/42)
وأما اليد بمعنى النعمة، فكثير، ومنه قول رسول قريش لأبي بكر: "لولا يد لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك"(1) يعني نعمة.
وقول المتنبي:
وكم لظلام الليل عندك من يد تُحدّث أن المانوية تكذب
والمانوية: فرقة من المجوس الذي يقولون: إن الظلمة تخلق الشر، والنور يخلق الخير، فالمتنبي يقول: إنك تعطي في الليل العطايا الكثيرة تدل على أن المانوية تكذب، لأن ليلك يأتي بخير.
والمراد بيد الله: النعمة، وليس المراد باليد اليد الحقيقية، لأنك لو أثبت لله يداً حقيقية، لزم من ذلك التجسيم أن يكون لله جسماً، والأجسام متماثلة، وحينئذ تقع فيما نهى الله عنه في قوله: { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ }(2).
ونحن أسعد بالدليل منك أيها المُثبت للحقيقة!! نقول: سبحان من تنزه عن الأعراض والأبعاض والأغراض!! لا تجد مثل هذه السجعة لا في الكتاب ولا في السنة.
وجوابنا على هذا من عدة وجوه:
أولاً: أن تفسير اليد بالقوة أو النعمة مخالف لظاهر اللفظ، وما كان مخالفاً لظاهر اللفظ، فهو مردود، إلا بدليل.
ثانياً: أنه مخالف لإجماع السلف، حيث إنهم كلهم مجمعون على أن المراد باليد اليد الحقيقية.
فإن قال لك قائل: أين إجماع السلف؟ هات لي كلمة واحدة عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي، يقولون: أن المراد بيد الله اليد الحقيقية!.
أقول له: ائت لي بكلمة واحدة عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو غيرهم من الصحابة والأئمة من بعدهم يقولون: أن المراد باليد القوة أو النعمة.
فلا يستطيع أن يأتي بذلك.
إذاً، فلو كان عندهم معنى يخالف ظاهر اللفظ، لكانوا يقولون به، ولنقل عنهم، فلما لم يقولوا به، عُلم أنهم أخذوا بظاهر اللفظ وأجمعوا عليه.
__________
(1) رواه البخاري / كتاب الشروط / باب الشروط في الجهاد.
(2) سورة النحل: 74 .(107/43)
وهذه فائدة عظيمة، وهي أنه لم ينقل عن الصحابة ما يخالف ظاهر الكتاب والسنة، فإنهم لا يقولون بسواه، لأنهم الذين نزل القرآن بلغتهم، وخاطبهم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بلغتهم، فلابد أن يفهموا الكتاب والسنة على ظاهرهما، فإذا لم يُنقل عنهم ما يخالفه، كان ذلك قولهم.
ثالثاً: أنه يمتنع غاية الامتناع أن يُراد باليد النعمة أو القوة في مثل قوله: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }(1) لأنه يستلزم أن تكون النعمة نعمتين فقط، ونِعم الله لا تُحصى!! ويستلزم أن القوة قوتان، والقوة بمعنى واحد لا يتعدد، فهذا التركيب يمنع غاية المنع أن يكون المراد باليد القوة أو النعمة.
هب أنه قد يمكن في قوله: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }(2) أن يراد بهما النعمة على تأويل، لكن لا يمكن أن يُراد بقوله: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } النعمة أبداً.
أما القوة فيمتنع أن يكون المراد باليدين القوة في الآيتين جميعاً، في قوله { بَلْ يَدَاهُ } وفي قوله: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }، لأن القوة لا تتعدد.
رابعاً: أنه لو كان المراد باليد القوة، ما كان لآدم فضل على إبليس، بل ولا على الحمير والكلاب، لأنهم جميعاً خلقوا بقوة الله، ولو كان المراد باليد القوة، ما صح الاحتجاج على إبليس، إذ أن إبليس سيقول: وأنا يا رب خلقتني بقوتك، فما فضله علي؟.
خامساً: أن يُقال: أن هذه اليد التي أثبتها الله جاءت على وجوه متنوعة يمتنع أن يراد بها النعمة أو القوة، فجاء فيها الأصابع والقبض والبسط والكف واليمين، وكل هذا يمتنع أن يُراد بها القوة، لأن القوة لا تُوصف بهذه الأوصاف.
فتبين بهذا أن قول هؤلاء المحرفين الذين قالوا: المراد باليد القوة باطل من عدة أوجه.
__________
(1) سورة ص : 75 .
(2) سورة المائدة : 64 .(107/44)
وقد سبق أن صفات الله عزَّ وجلَّ من الأمور الخبرية الغيبية التي ليس للعقل فيها مجال، وما كان هذا سبيله، فإن الواجب علينا إبقاؤه على ظاهره، من غير أن نتعرض له. اهـ.
إن استنكار الورداني لهذه الصفة نابع من الجهل وإلا فإن قومه يثبتون هذه الصفة، وقد وردت هذه الصفة في كتبهم، وإليك نماذج منها لئلا يتبجح الورداني ويقول إن هذا كذب على قومه.
روضة الواعظين: ص426، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه مما في يديه.
مختصر بصائر الدرجات: ص183، الحرم ويمد يده فترى بيضاء من غير سوء وبقول هذه يد الله.
مستدرك الوسائل ج7: ص155، ما من شيء إلا وكل به ملك، إلا الصدقة فإنها تقع في يد الله.
مستدرك الوسائل ج11: ص217، ومن سرّه أن يكون أغنى الناس، فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده.
مستدرك الوسائل ج12: ص43، لا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله.
ص360، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله: "يد الله تبارك وتعالى فوق رؤوس المكفرين".
مستدرك الوسائل ج13: ص452، فإنه بلغنا أن يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا.
مستدرك الوسائل ج15: ص225، فليكن بما في يد الله أوثق منه مما في يديه.
الفصول المختارة: ص237، يد الله على الجماعة.
فقه القرآن ج1: ص222، أن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى السائل.
الطرائف: ص352، إن يد الله ملاء لا يغيضها نفقة سخاء الليل والنهار.
كشف الغمة ج1: ص21، وأحوطه باليد العليا، والكف التي لا ترى، يد الله فوق أيديهم.
عيون الحكم والمواعظ: ص543: لا يصدق إيمان عبد حتى يكون بما في يد الله أوثق بما في يده.
مشكاة الأنوار: ص18، ومن سرّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه في يديه.
ص113، في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله.
عوالي اللئالي ج2: ص70، من يده فيقبلها، ويضعها على عينه، لأنها وقعت في يد الله، ثم يضعها ثانياً في يد السائل.(107/45)
ص70، وفي الحديث "إن الصدق تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل.
عوالي اللئالي ج3: ص245، وقال عليه السلام: " يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا".
بحار الأنوار ج22: ص278، قال: نعم سمعاً وطاعة، وبسط يده، فقال لهم: يد الله فوق أيديكم.
بحار الأنوار ج26: ص258، وأن يد الله المبسوطة على عباده بالرحمة والمغفرة، وأنا باب حطة من عرفني وعرف حقي فقد عرف ربه.
بحار الأنوار ج33: ص83، وإن للناس جماعة يد الله عليها وغضب الله على من خالفها فنفسك نفسك قبل حلول رمسك فإنك إلى الله راجع وإلى حشره.
ص373، النمط الأوسط فالزموه والزموا السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة وإياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذة من الغنم للذئب.
ص374، وقال: إن يد الله على الجماعة أي أن الجماعة من أهل الإسلام في كنف الله ويد الله كناية عن الحفظ والدفاع عنهم.
بحار الأنوار ج39: ص88، عليك عين من عيون الله، وحجاب من حجب الله، تلك يد الله اليمنى يضعها حيث يشاء.
ص339، وأن يد الله المبسوطة على عباده بالرحمة والمغفرة، وأن باب حطة، من عرفني وعرف حقي فقد عرف ربه، لأني وصي.
بحار الأنوار ج42: ص101، إن علياً كان يد الله على أعدائه، وصاعقة من أمر الله أرسله على الكافرين به والجاحدين لحقه، فقتلهم بكفرهم.
بحار الأنوار ج46: ص89، وشمه ثم رده في يد السائل، وذلك أنها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، فأحببت أن أقبلها إذ ولاها الله.
بحار الأنوار ج64: ص184، فوق أيديهم في حال بيعتهم إياك، إنما هي بمنزلة يد الله.
ص184، "إنما يبايعون الله" لأنه المقصود بيعته "يد الله فوق أيديهم" يعني يدك التي فوق أيديهم في حال بيعتهم إياك، إنما هي بمنزلة يد الله.
ص314، لا يصدق إيمان عبد حتى يكون بما في يد الله سبحانه أوثق منه بما في يده.
بحار الأنوار ج70: ص178، من أراد أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يد غيره.(107/46)
بحار الأنوار ج71: ص17، فإنه بلغنا أن يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا.
ص280، الذنوب تتساقط عنهم كما تتساقط الورق، ولا يزال يد الله على يد أشدهما حباً لصاحبه.
بحار الأنوار ج72: ص41، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله: يد الله عزَّ وجلَّ فوق رؤوس المكفرين ترفرف بالرحمة.
ص381، لا تزال هذه الأمة بخير تحت يد الله وفي كنفه ما لم يمالئ قراؤها أمراءها، ولم يزك صلحاؤها فجارها ولم يمالئ أخيارها أشرارها.
بحار الأنوار ج74: ص87، وإن سرك أن تكون أغنى الناس فكن بما في يد الله عزَّ وجلَّ أوثق منك بما في يديك.
ص128، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده.
بحار الأنوار ج88: ص368، المبايعة مع الرسول صلَّى الله عليه وآله، حيث كان يد الله فوق أيديهم وكان يضمن لهم الجنة ويشفعها بالاستغفار بعد الموت ليتم لهم الضمان.
بحار الأنوار ج91: ص208، ولا في مقام، سجيس الليالي وأواخر الأيام، يد الله فوق أيديهم وحجاب الله فوق عاديتهم.
بحار الأنوار ج93: ص125، وشمه ثم رده في يد السائل، وذلك أنها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل.
ص128، وشمه ثم رده في يد السائل، وذلك أنها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل.
ص129، فقيل له: لم تفعل ذلك؟ قال: لأنها تقع في يد الله قبل يد العبد، وقال: ليس من شيء إلا وكل به ملك إلا الصدقة فإنها تقع في يد الله.
بحار الأنوار ج100: ص37: لا يصدق إيمان عبد حتى يكون بما في يد الله سبحانه أوثق منه بما في يده.
شجرة طوبى ج2: ص356، فلكم من صدقة خرجت من هاتين اليدين حتى وقعت في يد الله ابتغاء وجهه فلا سبيل لكم عليه فقال له: طبت هنيئاً طبت حياً وميتاً فيأتيه ملائكة الرحمة فتفرش له.
نهج السعادة ج8: ص276، الأيدي ثلاث: يد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد المعطي أسفل اليدي، فاستعفوا عن السؤال ما استطعتم.
فرح الله بتوبة العبد(107/47)
قال الورداني ص74: ويروى: الله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم براحلته.
الجواب: لا أعلم وجه إنكاره لهذه الرواية، ولو راجع كتب قومه لوجد نفسه الرواية مذكورة عندهم، ولكن الحقد أعمى.
عن أبي عبيدة الحذاء قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: إن الله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها. فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها(1).
والفرح عند أهل السنة فرح حقيقي ليس كفرح المخلوقين، وقد جانب الصواب ابن حجر رحمه الله تعالى حينما قال: وإطلاق الفرح في حق الله مجاز عن رضاه(2). وأيضاً النووي رحمه الله تعالى حينما قال: قال العلماء فرح الله تعالى هو رضاه(3). وأيضاً السيوطي غفر الله تعالى له: كناية عن الرضا(4).
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في شرح العقيدة الواسطية 403-404:
فالله عزَّ وجلَّ أفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه من هذا الرجل براحلته، وليس الله محتاج إلى توبتنا، بل نحن مفتقرون إليه في كل أحوالنا، لكن كرمه جل وعلا ومحبته للإحسان والفضل والجود يفرح هذا الفرح الذي لا نظير له بتوبة الإنسان إذا تاب إليه.
في هذا الحديث: إثبات الفرح لله عزَّ وجلَّ، فنقول في هذا الفرح: إنه فرح حقيقي، وأشد فرح، ولكنه ليس كفرح المخلوقين.
__________
(1) الكافي 2/435، وسائل الشيعة 11/358، بحار الأنوار 6/40، ألف حديث في المؤمن للنجفي ص590 وقال: أقول: الرواية صحيحة الإسناد.
(2) فتح الباري 11/89 .
(3) شرح النووي على مسلم 17/60 .
(4) الديباج على صحيح مسلم 6/91 .(107/48)
الفرح بالنسبة للإنسان هو نشوة وخفة يجدها الإنسان من نفسه عند حصول ما يسره، ولهذا تشعر بأنك إذا فرحت بالشيء كأنك تمشي على الهواء، لكن بالنسبة لله عزَّ وجلَّ لا نفسر الفرح بما نعرفه من أنفسنا، نقول: هو فرح يليق به عزَّ وجلَّ، مثل بقية الصفات، كما أننا نقول: لله ذات، لكن لا تماثل ذواتنا، فله صفات لا تماثل صفاتنا، لأن الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات.
فنحن نؤمن بأن الله تعالى له فرح كما أثبت ذلك أعلم الخلق به، محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق فيما نطق به عليه الصلاة والسلام.
ونحن على خطر إذا قلنا: المراد بالفرح الثواب، لأن أهل التحريف يقولون: إن الله لا يفرح، والمراد بفرحه: إثباته التائب، أو: إرادة الثواب، لأنهم هم يثبتون أن لله مخلوقاً بائناً منه وهو الثواب، ويثبتون الإرادة، فيقولون في الفرح: إنه الثواب المخلوق، أو: إرادة الثواب.
ونحن نقول: المراد بالفرح: الفرح حقيقة، مثلما أن المراد بالله عزَّ وجلَّ: نفسه حقيقة، ولكننا لا نمثل صفاتنا بصفات الله أبداً.
ويستفاد من هذا الحديث مع إثبات الفرح لله عزَّ وجلَّ: كمال رحمته جل وعلا ورأفته بعباده، حيث يحب رجوع العاصي إليه هذه المحبة العظيمة، هارب من الله، ثم وقف ورجع إلى الله، يفرح الله به هذا الفرح العظيم.
خلق الله آدم على صورته
يقول الورداني ساخراً ومستهزئاً ص75: ويروى: إن الله خلق آدم على صورته".
ولا أدري وجه اعتراض الورداني على هذا الحديث اللهم إلا اجترار ما سطره بعض المعاصرين من الرافضة أمثال عبد الحسين (!!) شرف الدين وغيره الذين يحاولون النيل من عقيدة أهل السنة.(107/49)
ومشكلة الورداني وكثير من الذين ارتدوا عن الإسلام واعتنقوا دين الرافضة أنهم لم يفهموا حقيقة الدين الذي انتقلوا إليه، ولا أدري هل سبب ذلك الجهل أم التغاضي مقابل الأعطيات التي تمنح لهم أم أنهم مجرد أبواق تردد صدى شبهات المعاصرين من الرافضة؟.
ونقول للورداني ومن هم على شاكلته: الرافضة أنفسهم أثبتوا ما يستنكره ويستبشعه، وممن يتخذهم أئمة يعمل بمقتضى أقوالهم وفتاويهم.
ربما يكابر الورداني وينفي أشد النفي وربما يُقسم يميناً كاذباً أن هذا مجرد افتراء وليس له في الواقع أدنى نصيب.
وأكتفي بنقل من مصدر واحد على سبيل الاستشهاد، وإلا فلدينا ولله تعالى الحمد والمنة من روايات الرافضة في هذا الشأن الكثير مما يُخرس بعض المتطفلين أمثال الورداني.
يقول الخميني في كتابه "الأربعون حديث":
الحديث الثامن والثلاثون "إن الله خلق آدم على صورته": محمد بن مسلم قال: "سألتُ أبا جعفر عليه السّلام عمّا يَروون أنَّ الله خَلَقَ آدَمَ عليه السلام على صورته، فقال: هي صورة مُحدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ واصطفاها الله واختارها على سائر الصُّور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه فقال: "بيتي" ونفختَ فيه من روحي. (أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحيد، باب الروح، ح4).(107/50)
الشرح: إنّ صدر هذا الحديث من الأحاديث المشهورة في أيام الأئمة عليهم السلام إلى يومنا هذا. وأنّ الفريقين السنة والشيعة يستشهدون في كتبهما. وقد أيّد الإمام الباقر سلام الله عليه صدور هذا الحديث وصدّقه وتولى بيان المقصد منه: وهناك حديث آخر رواه الصدوق في كتاب (عيون أخبار الرضا) عليه السّلام بسنده إلى ثامن الحجج عليهم السلام (عن الحسين بن خالد قال: قُلتُ للرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله إن الناس يروون أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن الله خلق آدم على صورته فقال: قاتلهم الله لقد حذفوا أول الحديث إن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مرّ برجلين يتسابّان فسمع أحدهما يقول لصاحبه قبّح الله وجهك ووجه من يُشبهك فقال عليه السلام: يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك فإن الله عزَّ وجلَّ خلق آدم على صورته) (بحار الأنوار، المجلد الرابع، الباب 3، من كتاب التوحيد ح1، ص11. (ولأجل هذا قال المجلسي (أو لم يتعرض لنفيه تقية) (مرآة العقول ج2، ص84 (واحتمل أيضاً أن الإمام عليه السلام (أجاب هكذا على تقدير تسليم الخبر) (مرأة العقول ج2، ص84) ولكن هذا الاحتمال بعيد جداً. ويحتمل أن يكون الحديث المروي عن الإمام الرضا عليه السلام)، قد أرجع إلى الحديث الأول ويكون المقصود من "آدم" في نهاية الخبر "إن الله خلق آدم على صورته" هو نوع الإنسان، ويعود الضمير في قوله "على صورته" إلى الحق المتعالي، ولَمّا علم الإمام الرضا عليه السلام بأن الراوي ليس في مستوى الاستيعاب والفهم لمدلول الحديث الشريف اقتصر صلوات الله عليه على ذكر صدر الحديث، حتى يتخيل الراوي بأن المقصود من آدم، هو أبو البشر، وأن ضمير على صورته يرجع إليه. تأمل. ولعل الحديثين قد صدرا عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كما في حديث الإمام الرضا عليه السلام. ولكن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قد حدّث تارة من دون ذكر أول الحديث وهو ما(107/51)
رواه الإمام الباقر عليه السلام بصورة مختصرة. وحدّث صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مرة أخرى مع تلك البداية وذلك المدخل. وحيث أن الإمام الرضا عليه السلام قد عرف بأن الراوي لا يستوعب معنى الحديث، أشار عليه السلام إلى الحديث الشريف المبدوّ بذلك المدخل. والشاهد عليه أن بعض الروايات تشتمل على جملة (صورة الرحمن) بدلاً عن (صورته).
وبعد أن أوردنا كلام الخميني فهل يجرؤ الورداني وكافة من يدين بدينه أن ينبس ببنت شفة، ويقول: إن الخميني أُصيب بلوثة عقلية حيث أورد ما ثبت عند أهل السنة(1).
وقد وقفت على كلام للعلامة ابن عثيمين رحمه الله وغفر له شرح هذا الحديث، فكان كلامه رحمه الله تعالى بلسماً للعليل وخنجراً في قلب المعطّل والمجسّم، فقال رحمه الله تعالى في كتابه القيم "شرح العقيدة الواسطية" ص86-91.
قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "إن الله خلق آدم على صورته"، والصورة مماثلة للأخرى، ولا يعقل صورة إلا مماثلة للأخرى، ولهذا أكتب لك رسالة، ثم تدخلها الآلة الفوتوغرافية، وتخرج الرسالة، فيقال: هذه صورة هذه، ولا فرق بين الحروف والكلمات، فالصورة مطابقة للصورة، والقائل: "إن الله خلق آدم على صورته" الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم وأصدق وأنصح وأفصح الخلق.
والجواب المجمل أن نقول: لا يمكن أن يناقض هذا الحديث قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }(2)، فإن يسر الله الجمع، فاجمع، وإن لم يتيسر، فقل { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا }(3)، وعقيدتنا أن الله لا مثيل له، بهذا تسلم أمام الله عزَّ وجلَّ.
__________
(1) وللاستزادة حول مدى وكذب وتدليس الروافض، انظر: "البرهان في تبرئة أبي هريرة من البهتان" لأخينا عبد الله الناصر ص146-153، فإنه حفظه الله تعالى أجاد وأفاد فجزاه الله تعالى خيراً ووفقه إلى ما يحبه ويرضاه.
(2) سورة الشورى : 11 .
(3) سورة آل عمران : 7 .(107/52)
هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه بعضاً، لأنه كله خبر وليس حكماً كي ينسخ، فأقول: هذا نفي للمماثلة، وهذا إثبات للصورة، فقل: إن الله ليس كمثله شيء، وإن الله خلق آدم على صورته، فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله والكل حق نؤمن به، ونقول: كل من عند ربنا، ونسكت وهذا غاية ما نستطيع.
وأما الجواب المفصل: فنقول: إن الذي قال: "خلق الله آدم على صورته" رسول الذي قال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }(1)، والرسول لا يمكن أن ينطق بما يكذب المرسل والذي قال: "خلق آدم على صورته" هو الذي قال: "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر"(2) فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة والحسن والجمال واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لا من كل وجه؟!، فإن قلت بالأول، فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين وليس له أناف وليس لهم أفواه!، وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار!، وإن قلت بالثاني، زال الإشكال، وتبين أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً له من كل وجه.
فإن أبى فهمك، وتقاصر عن هذا، وقال: أنا لا أفهم إلا أنه مماثل.
__________
(1) سورة الشورى : 11 .
(2) رواه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة. ومسلم: كتاب الجنة، باب في صفة الجنة وأهلها.(107/53)
قلنا: هناك جواب آخر، وهو أن الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فقوله: "على صورت" مثل قول الله عزَّ وجلَّ في آدم: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي }(1)، ولا يمكن أن الله عزَّ وجلَّ أعطى آدم جزءاً من روحه، بل المراد الروح التي خلقها الله عزَّ وجلَّ، لكن إضافتها إلى الله بخصوصها من باب التشريف، كما نقول: عباد الله، يشمل الكافر والمسلم والمؤمن والشهيد والصدّيق والنبي، لكننا لو قلنا محمد عبد الله، هذه إضافة خاصة ليست كالعبودية السابقة.
فقول: "خلق آدم على صورته"، يعني: صورة من الصور التي خلقها الله وصورها، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ }(2)، والمصور آدم إذاً، فآدم على صورة الله، يعني: أن الله هو الذي صوره على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات، { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }(3)، فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف، كأنه عزَّ وجلَّ اعتنى بهذه الصورة زمن أجل ذلك، لا تضرب الوجه، فتعيبه حساً، ولا تقبحه فتقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فتعيبه معنىً، فمن أجل أنه الصورة التي صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفاً وتكريماً، لا تقبحها بعيب حسي ولا بعيب معنوي.
ثم هل يعتبر هذا الجواب تحريفاً أم له نظير؟.
نقول: له نظير، كما في: بيت الله، ناقة الله، وعبد الله، لأن هذه الصورة (أي: صورة آدم) منفصلة بائنة من الله، وكل شيء أضافه الله إلى نفسه وهو منفصل بائن عنه، فهو من المخلوقات، فحنيئذ يزول الإشكال.
__________
(1) سورة ص : 72 .
(2) سورة الأعراف : 11 .
(3) سورة التين : 4 .(107/54)
ولكن إذا قال لقائل: أيما أسلم المعنى الأول أو الثاني؟ قلنا: المعنى الأول أسلم، ما دمنا نجد أن لظاهر اللفظ مساغاً في اللغة العربية وإمكاناً في العقل، فالواجب حمل الكلام عليه ونحن وجدنا أن الصورة لا يلزم منها مماثلة الصورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهره.
فإذا قلت: ما هي الصورة التي تكون لله ويكون آدم عليها؟.
قلنا: إن الله عزَّ وجلَّ له وجه وله عين وله يد وله رجل عزَّ وجلَّ، لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان، فهناك شيء من الشبه لكنه ليس على سبيل المماثلة، وبهذا يصدق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، من أن جميع صفات الله سبحانه وتعالى ليست مماثلة لصفات المخلوقين، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
نسمع كثيراً من الكتب التي نقرأها يقولون: تشبيه، يعبرون بالتشبيه وهم يقصدون التمثيل، فأيهما أولى: أنعبر بالتشبيه، أو نعبر بالتمثيل؟.
نقول: بالتمثيل أولى.
أولاً: لأن القرآن عبّر به: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }(1)، { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا }(2).. وما أشبه ذلك، وكل ما عبّر به القرآن، فهو أولى من غيره، لأننا لا نجد أفصح من القرآن ولا أدلّ على المعنى المراد من القرآن، والله أعلم بما يريده من كلامه، فتكون موافقة القرآن هي الصواب، فنعبّر بنفي التمثيل. وهكذا في كل مكان، فإن موافقة النص في اللفظ أولى من ذكر لفظ مرادف أو مقارب.
ثانياً: أن التشبيه عند بعض الناس يعني إثبات الصفات ولهذا يسمون أهل السنة: مشبهة، فإذا قلنا: من غير تشبيه. وهذا الرج لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات، صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات! فصار معنى التشبيه يوهم معنى فاسداً فلهذا كان العدول عنه أولى.
__________
(1) سورة الشورى : 11 .
(2) سورة البقرة: 22 .(107/55)
ثالثاً: أن نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح، لأن ما من شيئين من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقاً، لكنت نفيت كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما.
مثلاً: الوجود، يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك ونوع تشابه، لكن فرق بين الوجودين، وجود الخالق واجب ووجود المخلوق ممكن.
وكذلك السمع، فيه اشتراك، الإنسان له سمع، والخالق له سمع، لكن بينهما فرق، لكن أصل وجود السمع مشترك.
فإذا قلنا: من غير تشبيه. ونفينا مطلق التشبيه، صار في هذا إشكال. وبهذا عرفنا أن التعبير بالتمثيل أولى من ثلاثة أوجه.
فإن قلت: ما الفرق بين التكييف والتمثيل؟.
فالجواب: الفرق بينهما من وجهين:
الأول: أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل، فنقول يد فلان مثل يد فلان، والتكييف ذكر الصفة غير مقيدة بمماثل، مثل أن نقول: كيفية يد فلان كذا وكذا.
وعلى هذا نقول: كل ممثل مكيّف، ولا عكس.
الثاني: أن الكيفية لا تكون إلا في الصفة والهيئة، والتمثيل يكون في ذلك وفي العدد، كما في قوله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ }(1) أي: في العدد.
صفة الغيرة
يقول الورداني ص75: ويروى: لا أحد أغير من الله.
ويروى: أن الله يغار.
الجواب: أن ما يُعيبه الورداني موجود عند قومه، واختصاراً للموضوع نُورد له من كتب قومه ما يدحض كذبه وبهتانه.
__________
(1) الطلاق: 11 .(107/56)
1 – عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن إبراهيم (عليه السلام) كان مولده بكوثى ربا وكان أبوه من أهلها وكانت أم إبراهيم وأم لوط سارة وورقة – وفي نسخة رقية – أختين وهما ابنتان لللاحج وكان اللاحج نبياً منذراً ولم يكن رسولاً وكان إبراهيم (عليه السلام) في شبيبته على الفطرة التي فطر الله عزَّ وجلَّ الخلق عليها حتى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه واجتباه وأنه تزوج سارة ابنة لاحج وهي ابنة خالته وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وأرض واسعة وحال حسنة وكانت قد ملكت إبراهيم (عليه السلام) جميع ما كانت تملكه فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية والزرع حتى لم يكن بأرض كوثى ربا رجل أحسن حالاً منه وإن إبراهيم (عليه السلام) لما كسر أصنام نمرود أمر به نمرود فأوثق وعمل له حيراً وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار، ثم قذف إبراهيم (عليه السلام) في النار لتحرقه ثم اعتزلوها حتى خمدت النار ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم (عليه السلام) سليماً مطلقاً من وثاقه فأخبر نمرود خبره فأمرهم أن ينفوا إبراهيم (عليه السلام) من بلاده وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله، فحاجهم إبراهيم (عليه السلام) عند ذلك.
فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالي فإن حقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم واختصموا إلى قاضي نمرود فقضى على إبراهيم (عليه السلام) أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم وقضى على أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم (عليه السلام) ما ذهب من عمره في بلادهم فأخبر بذلك نمرود فأمرهم أن يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وما له وأن يخرجوه.
وقال: إنه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم وأضر بآلهتكم فأخرجوا إبراهيم ولوطاً معه (صلَّى الله عليهما) من بلادهم إلى الشام فخرج إبراهيم ومعه لوط لا يفارقه وسارة.
وقال لهم: "إني ذاهب إلى ربي سيهدين" يعني بيت المقدس.(107/57)
فتحمل إبراهيم (عليه السلام) بماشيته وماله وعمل تابوتاً وجعل فيه سارة وشد عليها الإغلاق غيرة منه عليها ومضى حتى خرج من سلطان نمرود وصار إلى سلطان رجل من القبط يقال له: عرارة فمر بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه فلما انتهى إلى العاشر ومعه التابوت.
قال العاشر لإبراهيم (عليه السلام): افتح هذا التابوت حتى نعشر ما فيه.
فقال له إبراهيم (عليه السلام): قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة حتى نعطي عشره ولا نفتحه.
قال: فأبى العاشر إلا فتحه.
قال: وغضب إبراهيم (عليه السلام) على فتحه فلما بدت له سارة وكانت موصوفة بالحسن والجمال.
قال له العاشر: ما هذه المرأة منك؟.
قال إبراهيم (عليه السلام): هي حرمتي وابنة خالتي.
فقال له العاشر: فما دعاك إلى أن خيبتها في هذا التابوت؟.
فقال إبراهيم (عليه السلام): الغيرة عليها أن يراها أحد.
فقال له العاشر: لست أدعك تبرح حتى أعلم الملك حالها وحالك.
قال: فبعث رسولاً إلى الملك فأعلمه فبعث الملك رسولاً من قبله ليأتوه بالتابوت فأتوا ليذهبوا به.
فقال لهم إبراهيم (عليه السلام): إني لست أفارق التابوت حتى تفارق روحي جسدي.
فأخبروا الملك بذلك فأرسل الملك أن احملوه والتابوت معه، فحملوا إبراهيم (عليه السلام) والتابوت وجميع ما كان معه حتى أدخل على الملك.
فقال له الملك: افتح التابوت.
فقال إبراهيم (عليه السلام): أيها الملك إن فيه حرمتي وابنة خالتي وأنا مفتد فتحه بجميع ما معي.
قال: فغضب الملك على فتحه، فلما رأى سارة لم يملك حمله سفهه أن مد يده إليها فأعرض إبراهيم (عليه السلام) بوجهه عنها وعنه غيرة منه.
وقال: اللهم احبس يده عن حرمتي وابنة خالتي، فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه.
فقال له الملك: إن إلهك الذي فعل بي هذا؟.
فقال له: نعم إن إلهي غيور يكره الحرام وهو الذي حال بينك وبين ما أردت من الحرام.
فقال له الملك: فادع إلهك يرد علي يدي فإن أجابك فلم أعرض لها.(107/58)
فقال: إبراهيم (عليه السلام): إلهي رد عليه يده ليكف عن حرمتي.
قال: فرد الله عزَّ وجلَّ عليه يده فأقبل الملك نحوها ببصره ثم أعاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم (عليه السلام) عنه بوجهه غيرة منه وقال: اللهم احبس يده عنها، قال: فيبست يده ولم تصل إليها.
فقال الملك لإبراهيم (عليه السلام): إن إلهك لغيور وإنك لغيور فادع إلهك يرد علي يدي فإنه إن فعل لم أعد.
فقال له إبراهيم (عليه السلام): اسأله ذلك على أنك إن عدت لم تسألني أن أسأله.
فقال الملك: نعم.
فقال إبراهيم (عليه السلام): اللهم إن كان صادقاً فرد عليه يده.
فرجعت إليه يده فلما رأى ذلك الملك من الغيرة ما رأى ورأى الآية في يده عظم إبراهيم (عليه السلام) وهابه وأكرمه(1).
2 – عن أبي عبد الله (ع) إن الله تبارك وتعالى غيور يحب كل غيور، ولغيرته حرم الفواحش ما ظهر وما بطن(2).
3 – عن غياث عن أبي عبد الله (ع) عن أبيه: قال: قال علي (ع): إن الله يغار من المؤمن، فليغر من لا يغار فإنه منكوس القلب(3).
4 – قال أمير المؤمنين (ع): إن الله يغار للمؤمنين والمؤمنات، فليغر المؤمن، إنه من لا يغار فإنه منكوس القلب(4).
5 – القطب الراوندي في لب الألباب مرسلاً: إن الله أوحى إلى داود (ع) بشر المذنبين وأنذر الصديقين. قال: كيف هذا؟. قال: بشر المذنبين إذا تابوا فإني غفور رحيم، وأنذر الصديقين إذا اعجبوا فإني غيور(5).
__________
(1) الكافي 8/370 وما بعدها، بحار الأنوار 12/44-46 .
(2) الكافي 5/535، الفصول المهمة 2/331، وسائل الشيعة 14/106-107، مشكاة الأنوار للطبرسي 236 .
(3) المحاسن للبرقي 1/115، وسائل الشيعة 14/176 .
(4) مشكاة الأنوار للطبرسي 236 .
(5) مستدرك الوسائل للنوري 1/141 .(107/59)
6 – عن إسحاق بن جرير، عن أبي عبد الله (ع) قال: إذا أغير الرجل في أهله أو بعض مناكحه من مملوكه فلم يغر ولم يغير بعث الله عزَّ وجلَّ إليه طائراً يقال له: القفندر حتى يسقط على عارضة بابه ثم يمهله أربعين يوماً ثم يهتف به إن الله غيور يحب كل غيور فإن هو غار وغير وأنكر ذلك فأنكره إلا طار حتى يسقط على رأسه فيخفق بجناحيه على عينيه ثم يطير عنه فينزع الله عزَّ وجلَّ منه بعد ذلك روح الإيمان وتسميه الملائكة الديوث(1).
7 – عن الحسين بن المختار: سألت أبا عبد الله عن مهر السنة؟.
قال: خمسمائة.
قلت: لم صار خمسمائة؟.
قال: إن الله أوجب على نفسه أن لا يحمده مؤمن مائة تحميدة ويسبحه مائة تسبيحة ويهلله مائة تهليلة ويكبره مائة تكبيرة ويصلي على النبي مائة مرة ويقول اللهم زوجني حوراً، إلا زوجه الله وجعل ذلك مهرها. وسئل (ع) عن علة المهر على الرجل؟ فقال: إن الله غيور جعل في النكاح حدوداً لئلا تستباح الفروج إلا بشرط مشروط وصداق مسمى ورضى بالصداق(2).
كلام جهنم
يقول الورداني ص74: ويروى: لا تزال جهنم يُلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة رجله.. وفي رواية أخرى: عليها قدمه – فينزوي بعضها إلى بعض. فتقول: قط.. قط.
الجواب: يتعجب الورداني أو بمعنى أصح يجهل كلام جهنم وصفة القدم أو الرجل لله تعالى. وسنحاول بمشيئة الرحمن تبارك وتعالى الجواب على شبهتيه والاستعانة بأقوال الأئمة الأعلام بعد الاستعانة بالله العلي العظيم.
أولاً: إن كلام جهنم ثابت في كتاب الله تعالى، حيث يقول الحق تبارك وتعالى: { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ }.
ثانياً: ورد في كتب القوم عدة روايات تُثبت أن جهنم تتكلم، فمن هذه الروايات:
__________
(1) الكافي 5/5360 .
(2) مناقب ابن شهر آشوب 3/391 .(107/60)
1 – عن محمد بن مسلم قال: قال لي أبو جعفر (ع): كان كل شيء ماءاً وكان عرشه على الماء فأمر الله عزّ ذكره الماء فاضطرم نار ثم أمر النار فخمدت فارتفع من خمودها دخان فخلق الله السماوات من ذلك الدخان وخلق الأرض من الرماد ثم اختصم الماء والنار والريح.
فقال الماء: أنا جند الله الأكبر.
وقالت الريح: أنا جند الله الأكبر.
وقالت النار: أنا جند الله الأكبر.
فأوحى الله عزَّ وجلَّ إلى الريح أنت جندي الأكبر(1).
2 – عن داو العجلي قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ثلاث أعطين سمع الخلائق الجنة والنار والحور العين.
فإذا صلى العبد فقال: اللهم أعتقني من النار وأدخلني الجنة وزوجني من الحور العين.
قالت النار: يا رب إن عبدك قد سألك أن تعتقه مني فأعتقه.
قالت الجنة: يا رب إن عبدك قد سألك إياي فأسكنه.
وقالت الحور العين: يا رب إن عبدك قد خطبنا إليك فزوجه منا.
فإن هو انصرف من صلاته ولم يسأل الله شيئاً من هذا.
قلن الحور العين: إن هذا العبد فينا لزاهد.
وقالت الجنة: إن هذا العبد فيّ لزاهد.
وقالت النار: إن هذا العبد بي لجاهل(2).
3 – عن السكونين ‘ن أبي عبد الله جعفر بن محمد، عن أبيه عن آبائه عن علي (ع) عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: قال: تكلم النار يوم القيامة ثلاثاً أميراً وقارياً وذا ثروة من المال.
فتقول للأمير: يا من وهب الله له سلطاناً فلم يعدل، فتزدرده كما يزدرد الطير حب السمسم.
وتقول للقارئ: يا من تزين للناس وبارز الله بالمعاصي فتزدرده.
وتقول للغني: يا من وهب الله له دنيا كثيرة واسعة فيضا وسأله الفقير اليسير قرضاً، فأبى إلا بخلاً فتزدرده. ثلاث قاصمات الظهر(3).
__________
(1) الكافي 8/95 و153 .
(2) الكافي 3/344، بحار الأنوار 8/156، 83/58، وسائل الشيعة 4/1040 .
(3) الخصال للصدوق (!!!) 111، بحار الأنوار 28/285، 72/337، 89/179، 93/12، مستدرك الوسائل 4/251 .(107/61)
بالنسبة إلى استنكار الورداني بأن يكون لله تعالى رجل أو قدم، فهذا جهل منه بعقيدة أهل السنة والجماعة، حيث إنهم يُثبتون ذلك دون مماثلة للمخلوقين أو تكييف.
يقول العلامة ابن عثيمين – رحمه الله تعالى وغفر له – في شرح "العقيدة الواسطية" ص414-415:
أن لله تعالى رِجلاً وقدماً حقيقية، لا تماثل أرجل المخلوقين، ويسمي أهل السنة هذه الصفة: الصفة الذاتية الخبرية، لأنها لم تُعلم إلا بالخبر، ولأن مسماها أبعاض لنا وأجزاء، لكن لا نقول بالنسبة لله: إنها أبعاض وأجزاء، لأن هذا ممتنع على الله عزَّ وجلَّ.
وخالف الأشاعرة وأهل التحريف في ذلك، فقالوا: "يضع عليها رجله"، يعني: طائفة من عباده مستحقين للدخول، والرجل تأتي بمعنى الطائفة، كما في حديث أيوب عليه الصلاة والسلام(1)، أرسل الله إليه رجل جراد من ذهب، يعني: طائفة من جراد.
وهذا تحريف باطل، لأن قوله "عليها": يمنع ذلك.
وأيضاً، لا يمكن أن يضيف الله عزَّ وجلَّ أهل النار إلى نفسه، لأن إضافة الشيء إلى الله تكريم وتشريف.
وقالوا في القدم: قدم، بمعنى مقدم، أي: يضع الله تعالى عليها مقدمة، أي: من يقدمهم إلى النار.
وهذا باطل أيضاً، فإن أهل النار لا يقدمهم الباري عزَّ وجلَّ، ولكنهم { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً }(2) إلقاء، فهؤلاء المحرفون فروا من شيء ووقعوا في شر منه، فروا من تنزيه الله عن القدم والرجل، ولكنهم وقعوا في السفه ومجانبة الحكمة في أفعال الله عزَّ وجلَّ.
__________
(1) رواه البخاري / كتاب الأنبياء / باب قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ..}.
(2) سورة الطور : 13 .(107/62)
والحاصل أنه يجب علينا أن نؤمن بأن لله تعالى قدماً، وإن شئنا، قلنا: رجلاً، على سبيل الحقيقة، مع عدم المماثلة، ولا تكييف الرجل، لأن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أخبرنا بأن لله تعالى رجلاً أو قدماً، ولم يخبرنا كيف هذه الرجل أو القدم، وقد قال الله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }(1).
صكوك الغفران
يقول الورداني ص75: ويروى: أن رجلاً لم يعمل قط لما مات حرقوه وذروا نصفه في البر ونصفه في البحر هرباً من عذاب الله، فجمعه الله وأحياه وقال له: لم فعلت؟ قال: من خشيتك. فغفر له.
وفي الهامش قال الورداني: وانظر كتابنا "أهل السنة شعب الله المختار".
وقد رجعت إلى كتابه "أهل السنة شعب الله المختار" فوجدت الرواية مذكورة ص 159 وأعقبها بقوله ص160: وحتى هذا الرجل الذي شك في قدرة الله سبحانه وفي إعادته وبعثه وهو الكفر بعينه. غفر له كفره وعفي من العقاب.
والغريب أن الورداني ذكر هذه الرواية تحت عنوان: صكوك الغفران ص159 حيث يقول تحت العنوان السابق: تبنّى أهل السنة الكثير من الروايات والتأويلات والتبريرات التي هي بمثابة صكوك غفران أمكن من خلالها إنقاذ الحكام والمنافقين والمفسدين وسائر المنحرفين من الدخول في دائرة الكفر وإدخالهم في دائرة الإيمان مع جزيل الثواب وضمان الغفران.
وهذه الرواية التي يستنكرها الورداني موجودة عند قومه ولكن باختلاف وإن كان المضمون واحداً، ولكن الورداني بحقده وجهله شنّع على أهل السنة بإيراده هذه الرواية ولم يراجع كتب دينه الجديد لئلا يقع في تناقض. ولكن أبى الله تعالى إلا فضحه وبيان كذبه وتدليسه.
__________
(1) سورة الأعراف : 33 .(107/63)
عن أبي بصير، عن أبي حمزة الثمالي، عن زين العابدين علي بن الحسين (ع)، قال: كان في بني إسرائيل رجل ينبش القبور، فاعتلّ جار له فخاف الموت، فبعث إلى النّبّاش، فقال له: كيف كان جواري لك؟ قال: أحسن جوار. قال: فإن لي إليك حاجة. قال: قضيت حاجتك. قال: فأخرج إليه كفنين، فقال: أحب أن تأخذ أحبهما إليك، وإذا دفنت فلا تنبشني. فامتنع النباش من ذلك، وأبى أن يأخذه، فقال له الرجل: أحب أن تأخذه، فلم يزل به حتى أخذ أحبهما إليه. ومات الرجل، فلما دفن قال النباش: هذا قد دفن، فما علمه بأني تركت كفنه أو أخذته، لآخذنه، فأتى قبره فنبشه، فسمع صائحاً يقول ويصيح به: لا تفعل، ففزع النباش من ذلك، فتركه وترك ما كان عليه.
وقال لولده: إي أب كنت لكم؟.
قالوا: نِعم الأب كنت لنا.
قال: فإن لي إليكم حاجة.
قالوا: قل ما شئت، فإنا سنصير إليه إن شاء الله.
قال: فأحب إذا أنا متّ أن تأخذوني فتحرقوني بالنار، فإذا صرت رماداً فدقوني، ثم تعمدوا بي ريحاً عاصفاً، فذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر.
قالوا: نفعل.
فلما مات فعل به ولده ما أوصاهم به، فلما ذروه، قال الله جل جلاله للبر: اجمع ما فيك، وقال للبحر: اجمع ما فيك. فإذا الرجل قائم بين يدي الله جل جلاله.
فقال الله عزَّ وجلَّ: ما حملك على ما أوصيت به ولدك أن يفعلوه بك؟.
قال: حملني على ذلك – وعزتك – خوفك.
فقال الله جل جلاله: فإني سأرضي خصومك وقد آمنت خوفك، وغفرت لك(1).
__________
(1) الأمالي للصدوق (!!!) ص406-407، بحار الأنوار 67/377-378، شجرة طوبى للقمي 1/205.(107/64)
والقصد من إيراد تلك الرواية هو الاستهزاء والسخرية من أهل السنة ولا يعلم هذا الجاهل أن علماء دينه وضعوا روايات تفيد بنجاة أجدادهم المجوس وهذا من باب البر بالأجداد وقد يستنكر الورداني هذا الكلام ويقول إنه محض افتراء، له العذر في عدم التصديق إذ كيف ينجو مجوسي يعبد النار ويتخذها إلهاً، ولكنه غاب عن عقله أن الذين اعتنق دينهم ونبذ الإسلام من أجلهم لا يتورعون عن الكذب واختلاق الروايات التي تؤيد دينهم، فهذا دأبهم وهذا هو دينهم، ونتحف الورداني بالرواية التي نرجوا منه أن يتأملها وليراجع دينه وعقيدته وبعد ذلك فليقل ما يشاء: عن عمار الساباطي قال: قدم أمير المؤمنين عليه السلام المدائن فنزل بأيوان كسرى، وكان معه دلف بن مجير، فلما صلى قام. وقال لدلف: قم معي، وكان معه جماعة من أهل ساباط، فما زال يطوف منازل كسرى ويقول لدلف: كان لكسرى في هذا المكان كذا وكذا، ويقول دلف: هو والله كذلك، فما زال كذلك حتى طاف المواضع بجميع من كان عنده ودلف يقول: يا سيدي ومولاي كأنك وضعت هذه الأشياء في هذه المساكن، ثم نظر عيه السلام إلى جمجمة نخرة، فقال لبعض أصحابه: خذ هذه الجمجمة، ثم جاء عليه السلام إلى الإيمان وجلس فيه، ودعا بطشت فيه ماء، فقال للرجل: دع هذه الجمجمة في الطشت، ثم قال: أقسمت عليك يا جمجمة لتخبريني من أنا ومن أنت؟ فقالت الجمجمة بلسان فصيح: أما أنت فأمير المؤمنين وسيد الوصيين وإمام المتقين وأما أنا فعبد الله وابن أمة الله كسرى أنو شيروان، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: كيف حالك؟ قال: يا أمير المؤمنين إني كنت ملكاً عادلاً شفيقاً على الرعايا رحيماً، لا أرضى بظلم، ولكن كنت على دين المجوس، وقد ولد محمد صلَّى الله عليه وآله في زمان ملكي، فسقط من شرفات قصري ثلاثة وعشرون شرفة ليلة ولد، فهممت أن أؤمن به من كثرة ما سمعت من الزيادة من أنواع شرفه وفضله ومرتبته وعزه في السماوات والأرض ومن شرف أهل بيته،(107/65)
ولكني تغافلت عن ذلك وتشاغلت عنه في الملك، فيالها من نعمة ومنزلة ذهبت مني حيث لم أؤمن، فأنا محروم من الجنة بعدم إيماني به، ولكني مع هذا الكفر خلصني الله تعالى من عذاب النار ببركة عدلي وإنصافي بين الرعية، وأنا في النار والنار محرمة علي، فوا حسرتاه لو آمنت لكنت معك يا سيد أهل بيت محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ويا أمير أمته(1).
ونعود إلى القضية التي أثارها الورداني وهي "صكوك الغفران" فنقول:
يعتقد الرافضة بأنهم جنس مميز عن سائر بني آدم، حيث يزعمون أن طينتهم التي خُلقوا منها صافية نقية وهي فضل من طينة أئمتهم التي هي مأخوذة من الجنة، ومن هذا الزعم ادّعى الرافضة النجاة يوم القيامة ودخول الجنة دون سائر مخالفيهم.
وإن الحمق بلغ بالرافضة إلى حدّ الادعاء بأن الذنوب التي يقترفها الرافضة إنما هي اختلاط الطينة بين الرافضة وبين غيرهم من البشر، وخصّوا أهل السنة والجماعة بمزيد من تحمل التبعة في ذلك. فالرافضي إذا أذنب فهو مغفورٌ له ويتحمل المسلم أوزاه التي اقترفها، ويعلم الله تبارك وتعالى أنني لم أقرأ في أي دين أو مذهب مثل هذا الادعاء، ولا يستغرب القراء من ذلك فالرافضة يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار.
ولا يظن القراء أنني أتهم الرافضة بما هم منه براء، ولكن أسوق لهم بعض الروايات الدالة على ما سبق بيانه وأترك لهم الحكم بعد ذلك.
__________
(1) مدينة المعاجز للبحراني 1/227، بحار الأنوار للمجلسي 41/213 .(107/66)
1 – عن بشر بن أبي عقبة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) قال: إن الله خلق محمداً (صلَّى الله عليه وسلَّم) من طينة من جوهرة تحت العرش، وأنه كان لطينة نضح فجبّل طينة أمير المؤمنين (ع) من نضح طينة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان لطينة أمير المؤمنين نضح، فجبل طينتنا من فضل طينة أمير المؤمنين (ع)، وكان لطينتنا نضح فجبل شيعتنا من نضح طينتنا فقلوبهم تحن إلينا، وقلوبنا تعطف عليهم تعطّف الوالد على الولد، ونحن خير لهم وهم خير لنا، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لنا خير، ونحن له خير(1).
2 – عن أبي الحجاج قال: قال لي أبو جعفر (ع): يا أبا الحجاج: إن الله خلق محمداً (صلَّى الله عليه وسلَّم) وآل محمد من طينة عليين وخلق قلوبهم من طينة فوق ذلك، وخلق شيعتنا من طينة دون عليين، وخلق قلوبهم من طينة عليين، فقلوب شيعتنا من أبدان آل محمد، وإن الله خلق عدو آل محمد من طين سجين، وخلق شيعتهم من طين دون طين سجين، وخلق قلوبهم من طين سجين، فقلوبهم من أبدان أولئك، وكل قلب يحن إلى بدنه(2).
__________
(1) بصائر الدرجات 14، بحار الأنوار 15/22 و 25/8 .
(2) بصائر الدرجات 14 .(107/67)
3 – عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: إن الله خلقنا من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه، وخلق أبدانهم من دون ذلك، فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا، ثم تلا هذه الآية { كَلاّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ، كِتَابٌ مَّرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ }، وخلق عدونا من سجين، وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه، وأبدانهم من دون ذلك، فقلوبهم تهوي إليهم، لأنها خلقت مما خلقوا منه، ثم تلا هذه الآية { كَلاّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، كِتَابٌ مَّرْقُومٌ }(1).
4 – عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) قال: إنا وشيعتنا خلقنا من طينة واحدة، وخلق عدونا من طينة خبال من حمأ مسنون(2).
5 – عن ربعي عن علي بن الحسين (ع) قال: إن الله تعالى خلق النبيين من طينة عليين، قلوبهم وأبدانهم وخلق المؤمنين من تلك الطينة، وخلق أبدان المؤمنين من دون ذلك، وخلق الكفار من طينة سجين قلوبهم وأبدانهم، فخلط بين الطينتين، فمن هذا يلد المؤمن الكافر، ويلد الكافر المؤمن، ومن هاهنا يصيب المؤمن السيئة، ومن هاهنا يصيب الكافر الحسنة، فقلوب المؤمنين تحنّ إلى ما خُلقوا منه، وقلوب الكافر تحنّ إلى ما خُلقوا منه(3).
__________
(1) بصائر الدرجات 15، بحار الأنوار 5/235، مرآة العقول للمجلسي 4/277-278 .
(2) بصائر الدرجات 15، بحار الأنوار 5/225، أمالي الطوسي 148 .
(3) بصائر الدرجات 15، الاختصاص للمفيد 20، بحار الأنوار 5/239 .(107/68)
6 - عن جابر الجعفي قال: كنا عند محمد بن علي (ع) فقال: يا جابر، خلقنا نحن ومحبينا من طينة واحدة بيضاء نقية من أعلى عليين، فخلقنا نحن من أعلاها، وخلق محبونا من دونها، فإذا كان يوم القيامة التقت العليا بالسفلى، وإذا كان يوم القيامة ضربنا بأيدينا إلى حجزة طينتنا، وضرب أشياعنا بأيديهم إلى حجزتنا، فأين ترى يصيّر الله نبيه وذريته؟ وأين ترى يصيّر ذريته محبينا؟. فضرب جابر يده على يده فقال: دخلناها ورب الكعبة(1).
ولقد استشكل على بعض الرافضة أمر هذه الطينة الارستقراطية، فإذا كان الشيعة بهذا السمو في الخلق، فكيف يمكن لتلك الطينة وهي المخلوقة من طينة الأنبياء والأئمة أن ترتكب الفواحش والمنكرات: شرب الخمور، الزنا، اللواط، أكل الربا، الاستهتار بالعبادات، وغير ذلك من الأفعال المشينة؟، بينما الجاحدون لإمامة الأئمة والنواصب – وهم أهل السنة – يتنزهون عن فعل تلك الأمور الموبقات، ويتسابقون في فعل الخيران ويجاهدون ويجتهدون في العبادة.
أيعقل بعد هذا الاصطفاء أن يقترف الشيعة كل مُحرّم؟ وأعداء الأئمة – على حد زعمهم – سابقون في الخيرات والأعمال الصالحة؟. لابد إزاء هذه المعادلة المعكوسة والمغلوطة من أن يحصل أي رافضي على بيان شاف حول هذا الأمر الذي سبّب الحيرة والتردد في أساسيات الدين الشيعي والواقع المزري الذي يعيشه الرافضة.(107/69)
ونتساءل هل الرافضة استطاعوا الحصول على الجواب الشافي لتلك الانحرافات السلوكية وذلك التناقض بين الفعل والتكوين؟ نترك الإجابة حول ذلك لهذه الرواية التي تُضحك الثّكلى وتُعطي التبريرات الساذجة للرافضة الذين يقعون في المحرمات والفواحش، ولا أدري هل الورداني يشمله هذا التبرير أم إن ماضيه العقدي والفكري – عند الرافضة – بحاجة إلى تطهير من جديد، لا سيما وإن طينة الورداني حتماً من النوع الآخر لأن أبويه من المسلمين، نستعرض الرواية وننتظر من الورداني المخدوع بدين الرافضة أن يُقدّم لنا تفسيراً وتبريراً مُقنّعاً لهذا الإسفاف الفكري.
عن أبي إسحاق الليثي قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع) يا ابن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزنى؟.
قال: اللهم لا.
قلت: فيلوط؟.
قال: اللهم لا، قلت: فيسرق؟.
قال: لا.
قلت: فيشرب الخمر؟.
قال: لا.
قلت: فيأتي بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش؟.
قال: لا قلت: فيذنب ذنباً؟.
قال: نعم هو مؤمن مذنب ملم.
قلت: ما معنى ملم.
قال: الملم بالذنب لا يلزمه ولا يصير عليه.
قال: فقلت سبحان الله ما أعجب هذا لا يزني ولا يلوط ولا يسرق ولا يشرب الخمر ولا يأتي بكبيرة من الكبائر ولا فاحشة.
فقال: لا عجب من أمر الله، إن الله تعالى يفعل ما يشاء ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فمم عجبت يا إبراهيم؟ سل ولا تستنكف ولا تستحي فإن هذا العلم لا يتعلمه مستكبر ولا مستحي.
قلت: يا ابن رسول الله إني أجد من شيعتكم من يشرب الخمر ويقطع الطريق ويخف السبل ويزنى ويلوط ويأكل الربا ويرتكب الفواحش ويتهاون بالصلاة والصيام والزكاة ويقطع الرحم ويأتي الكبائر، فكيف هذا ولم ذاك؟.
فقال: يا إبراهيم هل يختلج في صدرك شيء غير هذا.
قلت: نعم يا ابن رسول الله أخرى أعظم من ذلك!.
فقال: وهو ما يا أبا إسحاق؟.(107/70)
قال: فقلت يا ابن رسول الله وأجد من أعدائكم ومناصبيكم من يكثر من الصلاة ومن الصيام ويخرج الزكاة ويتابع بين الحج والعمرة ويحرص على الجهاد ويأثر على البر وعلى صلة الأرحاكم ويقضي حقوق إخوانه ويواسيهم من ماله ويتجنب شرب الخمر والزنا واللواط وسائر الفواحش فمم ذاك؟ ولم ذاك؟ فسره لي يا ابن رسول الله وبرهنه وبينه، فقد والله كثر فكري وأسهر ليلي وضاق ذرعي.
قال: فتبسم الباقر صلوات الله عليه، ثم قال: يا إبراهيم خذ إليك بياناً شافياً فيما سألت وعلماً مكنوناً من خزائن علم الله وسره أخبرني يا إبراهيم كيف تجد اعتقادهما.
قلت: يا ابن رسول الله أجد محبيكم وشيعتكم على ما هم فيه مما وصفته من أفعالهم لو أعطي أحدهما ما بين المشرق والمغرب ذهباً وفضة أن يزول عن ولايتكم ومحبتكم إلى موالاة غيركم وإلى محبتهم مازال ولو ضربت خياشيمه بالسيوف فيكم ولو قتل فيكم ما ارتدع ولا رجع عن محبتكم وولايتكم، ورأي الناصب على ما هو عليه مما وصفته من أفعالهم لو أعطى أحدكم ما بين المشرق والمغرب ذهباً وفضة أن يزول عن محبة الطواغيت وموالاتهم إلى موالاتكم ما فعل ولا زال ولو ضربت خياشيمه بالسيوف فيهم ولو قتل فيهم ما ارتدع ولا رجع وإذا سمع أحدهم منقبة لكم وفضلاً اشمأز من ذلك وتغير لونه ورأي كراهية ذلك في وجهه بغضاً لكم وحبه لهم.
قال فتبسم الباقر (ع)، ثم قال: يا إبراهيم هاهنا (هلكت العامة الناصبة تصلى ناراً حامية تسقى من عين آنية) ومن أجل ذلك قال تعالى (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً) ويحك يا إبراهيم، أتدري ما السبب والقصة في ذلك وما الذي قد خفي على الناس منه.
قلت: يا ابن رسول الله فبينه لي واشرحه وبرهنه.(107/71)
قال: يا إبراهيم إن الله تبارك وتعالى لم يزل عالماً قديماً خلق الأشياء لا من شيء ومن زعم إن الله تعالى خلق الأشياء من شيء فقد كفر لأنه لو كان ذلك الشيء الذي خلق منه الأشياء قديماً معه في أزليته وهويته كان ذلك الشيء أزلياً بل خلق الله تعالى الأشياء كلها لا من شيء، فكان مما خلق الله تعالى أرضاً طيبة ثم فجر منها ماء عذباً زلالاً فعرض عليها ولايتنا أهل البيت فقبلتها فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيام طبقها وعمها، ثم أنضب ذلك الماء عنها، فأخذ من صفوة ذلك الطين طيناً فجعله طين الأئمة عليهم السلام، ثم أخذ ثفل ذلك الطين فخلق منه شيعتنا ولو ترك طينتكم يا إبراهيم على حاله كما ترك طينتنا لكنتم ونحن شيئاً واحداً.
قلت: يا ابن رسول الله فما فعل بطينتنا؟.
قال أخبرك يا إبراهيم خلق الله تعالى بعد ذلك أرضاً سبخة خبيثة منتنة، ثم فجر منها ماء أجاجاً آسناً مالحاً فعرض عليها ولايتنا أهل البيت فلم تقبلها فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيام حتى طبقها وعمها، ثم نضب ذلك الماء عنها، ثم أخذ من ذلك الطين فخلق منه الطغاة وأئمتهم، ثم مزجه بثفل طينتكم ولو ترك طينتهم على حالها ولم يمزج بطينتكم لم يشهدوا الشهادتين ولا صلوا ولا صاموا ولا زكوا ولا حجوا ولا أدوا الأمانة ولا أشبهوكم في الصور وليس شيء أكبر على المؤمنين من أن يرى صورة عدوه مثل صورته.
قلت: يا ابن رسول الله فما صنع بالطينتين؟.(107/72)
قال: مزج بينهما بالماء الأول والماء الثاني، ثم عركها عرك الأديم، ثم أخذ من ذلك قبضة، فقال: هذه إلى الجنة ولا أبالي، وأخذ قبضة أخرى وقال: هذه إلى النار ولا أبالي ثم خلط بينهما ووقع من سنخ المؤمن وطينته على سنخ الكافر وطينته ووقع من سنخ الكافر وطينته على سنخ المؤمن وطينته، فما رأيته من شيعتنا من زنا أو لواط أو ترك صلاة أو صوم أو حج أو جهاد أو خيانة أو كبيرة من هذه الكبائر فهو من طينة الناصب وعنصره الذي قد مزج فيه لأن من سنخ الناصب وعنصره وطينته اكتساب المآثم والفواحش والكبائر. وما رأيت من الناصب من مواظبته على الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وأبواب البر فهو من طينة المؤمن وسنخه الذي قد مزج فيه لأن من سنخ المؤمن وعنصره وطينته اكتساب الحسنات واستعمال الخير واجتناب المآثم فإذا عرضت هذه الأعمال كلها على الله تعالى قال: أنا عدل لا أجور ومنصف لا أظلم وحكم لا أحيف ولا أميل ولا أشطط ألحقوا الأعمال السيئة التي اجترحها المؤمن بسنخ الناصب وطينته، وألحقوا الأعمال الحسنة التي اكتسبها الناصب بسنخ المؤمن وطينته ردوها كلها إلى أصلها، فإني أنا الله لا إله إلا أنا عالم السر وأخفى، وأنا المطلع على قلوب عبادي لا أحيف ولا أظلم ولا ألزم أحداً إلا ما عرفته منه قبل أن أخلقه.
ثم قال الباقر عليه السلام: اقرأ يا إبراهيم هذه الآية.
قلت: يا ابن رسول الله أية آية؟.
قال: قوله تعالى: { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ } هو في الظاهر ما تفهمونه هو والله في الباطن هذا بعينه يا إبراهيم إن للقرآن ظاهراً وباطناً ومحكماً ومتشابهاً وناسخاً ومنسوخاً.
ثم قال: أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إذا طلعت وبدا شعاعها في البلدان أهو باين من القرص؟ قلت: في حال طلوعه باين، قال: أليس إذا غابت الشمس اتصل ذلك الشعاع بالقرص حتى يعود إليه؟.
قلت: نعم.(107/73)
قال: كذلك يعود كل شيء إلى سنخه وجوهره وأصله، فإذا كان يوم القيامة نزع الله تعالى سنخ الناصب وطينته مع أثقاله وأوزاره من المؤمن فيلحقها كلها بالناصب وينزع سنخ المؤمن وطينته مع حسناته وأبواب بره واجتهاده من الناصب فيلحقها كلها بالمؤمن، افترى هاهنا ظلماً أو عدواناً؟.
قلت: لا يا ابن رسول الله.
قال: هذا والله القضاء الفاصل والحكم القاطع والعدل البين لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون هذا يا إبراهيم الحق من ربك فلا تكن من الممترين هذا من حكم الملكوت.
قلت: يا ابن رسول الله وما حكم الملكوت؟.
قال: حكم الله حكم أنبيائه، وقصة الخضر وموسى عليهما السلام حين استصحبه، فقال: { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } افهم يا إبراهيم واعقل أنكر موسى على الخضر واستفظع أفعاله، حتى قال له الخضر يا موسى ما فعلته عن أمري إنما فعلته عن أمر الله تعالى، من هذا ويحك يا إبراهيم قرآن يتلى وأخبار تؤثر عن الله تعالى من ردّ منها حرفاً فقد كفر وأشرك ورد على الله تعالى.
قال الليثي: فكأني لم أعقل الآيات وأنا أقرأها أربعين سنة إلا ذلك اليوم فقلت يا ابن رسول الله ما أعجب هذا تؤخذ حسنات أعدائكم فترد على شيعتكم، وتؤخذ سيئات محبيكم فترد على مبغضيكم؟! قال: أي الله الذي لا إله إلا هو فالق الحبة وبارئ النسمة وفاطر الأرض والسماء ما أخبرتك إلا بالحق وما أنبأتك إلا الصدق وما ظلمهم الله، وما الله بظلام للعبيد، وإن ما أخبرتك لموجود في القرآن كله.
قلت: هذا بعينه يوجد في القرآن؟.
قال: نعم يوجد في أكثر من ثلاثين موضعاً في القرآن، أتحب أن أقرأ ذلك عليك؟.
قلت: بلى يا ابن رسول الله.(107/74)
فقال: قال الله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } الآية، أزيدك يا إبراهيم؟.
قلت: بلى يا ابن رسول الله.
قال: { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ } أتحب أن أزيدك؟.
قلت: بلى يا ابن رسول الله.
قال: { فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } يبدل الله سيئات شيعتنا حسنات، ويبدل الله حسنات أعدائنا سيئات، وجلال الله إن هذا لمن عدله وإنصافه لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه وهو السميع العليم، ألم أبين لك أمر المزاج والطينتين من القرآن؟ قلت: بلى يا ابن رسول الله، قال: اقرأ يا إبراهيم: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ إنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ } يعني من الرض الطيبة والأرض المنتنة { فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } يقول لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته وصيامه وزكاته ونسكه لأن الله تعالى أعلم من اتقى منكم فإن ذلك من قبل اللمم – وهو المزاج – أزيدك يا إبراهيم.
قلت: بلى يا ابن رسول الله.(107/75)
قال: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ } يعني أئمة الجور دون أئمة الحق { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } خذها إليك يا أبا إسحاق، فوالله إنه لمن غرر أحاديثنا وباطن أسرارنا ومكنون خزائننا، وانصرف ولا تطلع على سرّنا أحداً إلا مؤمناً مستبصراً، فإنك إن أذعت سرّنا بليت في نفسك ومالك وأهلك وولدك(1).
وفي رواية أخرى: عن إسحاق القمي قال: دخلت على أبي جعفر الباقر عليه السلام فقلت له: جعلت فداك أخبرني عن المؤمن يزني.
قال: لا.
قلت: فيلوط.
قال: لا.
قلت: فيشرب المسكر.
قال: لا.
قلت: فيذنب.
قال: نعم.
قلت: جعلت فداك لا يزني ولا يلوط ولا يرتكب السيئات، فأي شيء ذنبه؟.
فقال: يا إسحاق قال الله تبارك وتعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ } وقد يلم المؤمن بالشيء الذي ليس فيه مراد.
__________
(1) علل الشرائع للصدوق (!!!) 201-203، بحار الأنوار للمجلسي 5/228-233، والعجيب أن الرافضي "المجلسي" بعد ذكره هذه الرواية المرفوضة عقلاً وشرعاً قال: ثم اعلم أن هذا الخبر وأمثاله مما يصعب على القلوب فهمه وعلى العقول إدراكه، ويمكن أن يكون كناية عما علم الله تعالى وقدره من اختلاط المؤمن والكافر في الدنيا واستيلاء أئمة الجور وأتباعهم على أئمة الحق وأتباعهم، وعلم أن المؤمنين إنما يرتكبون الآثام لاستيلاء أهل الباطل عليهم، وعدم تولي أئمة الحق بسياستهم فيعذرهم بذلك ويعفو عنهم، ويعذب أئمة الجور وأتباعهم بتسببهم لجرائم من خالطهم مع ما يستحقون من جرائم أنفسهم.
وانظر: صحيفة الأبرار 1/317-320، والأنوار النعمانية 1/284-288 .
لا نملك إلا أن نقول: الحمد لله الذي أنعم على أهل السنة والجماعة بنعمة العقل والدين والإيمان وفقدها قوم آخرون.(107/76)
قلت: جعلت فداك أخبرني عن الناصب لكم يطهر بشيء أبداً.
قال: لا.
قلت: جعلت فداك قد أرى المؤمن الموحد الذي يقول بقولي ويدين بولايتكم وليس بيني وبينه خلاف، يشرب المسكر ويزني ويلوط وآتيه في حاجة واحدة فأصيبه معبس الوجه كالح اللون ثقيلاً في حاجتي بطيئاً فيها، وقد أرى الناصب المخالف لما آتي عليه ويعرفني بذلك فآتيه في حاجة فأصيبه طلق الوجه حسن البشر متسرعاً في حاجتي فرحاً بها يجب قضاءها، كثير الصلاة، كثير الصوم كثير الصدقة يؤدي الزكاة ويستودع فيؤدي الأمانة.
قال: يا إسحاق ليس تدرون من أين أوتيتم؟.
قلت: لا والله جعلت فداك إلا أن تخبرني.(107/77)
فقال إسحاق: إن الله تعالى لما كان متفرداً بالوحدانية ابتدأ الأشياء لا من شيء، فأجرى الماء العذب على أرض طيبة طاهرة سبعة أيام بلياليها، ثم نضب الماء عنها فقبض قبضة من صفوة ذلك الطين، وهي طينة أهل البيت، ثم قبض قبضة من أسفل ذلك الطين وهي طينة شيعتنا، ثم اصطفانا لنفسه، فلو إن طينة شيعتنا تركت كما تركت طينتنا لما زنى أحد منهم ولا سرق ولا لاط ولا شرب المسكر ولا اكتسب شيئاً مما ذكرت، ولكن الله تعالى أجرى الماء المالح على أرض ملعونة سبعة أيام ولياليها، ثم نضب الماء عنها، ثم قبض قبضة وهي طينة ملعونة من حمأ مسنون، وهي طينة خبال وهي طينة أعدائنا، فلو أن الله عزَّ وجلَّ ترك طينتهم كما أخذهالم تروهم في خلق الآدميين، ولم يقروا بالشهادتين ولم يصوموا ولم يصلوا ولم يزكوا ولم يحجوا البيت ولم تروا أحد منهم بحسن خلق، ولكن الله تبارك وتعالى جميع الطينتين طينتكم وطينتهم فخلطها وعركها عرك الأدين ومزجها بالمائين، فما رأيت من أخيك المؤمن من شر لفظ أو زنا أو شيء مما ذكرت من شرب مسكر أو غيره، فليس من جوهريته، ولا من إيمانه، إنما هو بمسحة الناصب اجترح هذه السيئات التي ذكرت، وما رأيت من الناصب من حسن وجه وحسن خلق، أو صوم، أو صلاة أو حج بيت أو صدقة، أو معروف، فليس من جوهريته، إنما تلك الأفاعيل من مسحة الإيمان، اكتسبها وهو اكتساب مسحة الإيمان.(107/78)
قلت: جعلت فداك فإذا كان يوم القيامة فمه؟ قال لي: يا إسحاق أيجمع الله الخير والشر في موضع واحد؟ إذا كان يوم القيامة نزع الله تعالى مسحة الإيمان منهم فردها إلى شيعتنا ونزع مسحة الناصب بجميع ما اكتسبوا من السيئات فردها إلى أعدائنا وعاد كل شيء إلى عنصره الأول الذي منه ابتدأ، أما رأيت الشمس إذا هي بدت، ألا ترى لها شعاعاً زاجراً متصلاً بها أو بايناً منها، قلت: جعلت فداك الشمس إذا هي غربت بدأ إليها الشعاع كما بدأ منها ولو كان بايناً منها لما بدأ إليها، قال: نعم يا إسحاق كل شيء يعود إلى جوهره الذي منه بدأ.
قلت: جعلت فداك تؤخذ حسناتهم فترد إلينا وتؤخذ سيئاتنا فترد إليهم؟.
قال: أي والله الذي لا إله إلا هو.
قلت: جعلت فداك أجدها في كتاب الله تعالى؟.
قال: نعم يا إسحاق.
قلت: أي مكان؟.
قال لي: يا إسحاق أما تتلو هذه الآية { أُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } فلم يبدل الله سيئاتهم حسنات إلا لكم والله يبدل لكم(1).
لم يكتف الرافضة بأن يحمل أهل السنة والجماعة أوزارهم، بل تمادوا في طغيانهم وتأويلهم للآيات القرآنية الكريمة، وجعلوا من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يتحمل أوزارهم وأن الله سبحانه وتعالى قد غفرها له صلَّى الله عليه وسلَّم، ووضعوا في ذلك عدة روايات موضوعة، نُتحف القارئ بنماذج من تلك المرويات:
1 – عن عبد الجبار بن كثير التميمي، قال: سمعت محمد بن حرب الهلالي أمير المدينة يقول: سألت جعفر بن محمد عليه السلام فقلت: يا ابن رسول الله في نفسي مسألة أريد أن أسألك عنها؟.
قال: إن شئت أخبرتك بمسألتك قبل أن تسألني، وإن شئت فسل.
__________
(1) علل الشرائع 2/490-491، مختصر بصائر الدرجات 1/223-224، بحار الأنوار 5/246-248، وانظر: تفسير نور الثقلين للحويزي 3/10 و4/9 و35-40، 5/164، 215، 564 .(107/79)
فقلت له: يا ابن رسول الله وبأي شيء تعرف ما في نفسي قبل سؤالي عنه؟.
قال: قال: بالتوسم والتفرس أما سمعت قول الله عزَّ وجلَّ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ }؟! وقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عزَّ وجلَّ).
قال: فقلت له: يا ابن رسول الله فأخبرني مسألتي.
قال: أردت أن تسألني عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لِم لم يطق حمله علي عليه السلام عند حط الأصنام عن سطح الكعبة مع قوته وشدته وما ظهر منه في قلع باب القموص بخيبر والرمي بها وراءه أربعين ذراعاً، وكان لا يطيق حمله أربعون رجلاً، وقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يركب الناقة والفرس والبغلة والحمار، وركب البراق ليلة المعراج، وكل من ذلك دون علي (ع) في القوة والشدة؟.
قال: فقلت له: عن هذا – والله – أردت أن أسألك يا ابن رسول الله فأخبرني؟.(107/80)
فقال: إن علياً (ع) له برسول الله شرف وبه ارتفع، وبه وصل إلى إطفاء نار الشرك، وإبطال كل معبود، دون الله عزَّ وجلَّ ولو علاه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لحط الأصنام لكان بعلي عليه السلام مرتفعاً ومشرفاً وواصلاً إلى حط الأصنام، ولو كان ذلك كذلك لكان أفضل منه. ألا ترى أن علياً عليه السلام قال: لما علوت ظهر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم شرفت وارتفعت حتى لو شئت أن أنال السماء لنلتها؟ أما علمت أن المصباح هو الذي يهتدي به في الظلمة، وانبعاث نوره من أصله وقد قال علي (ع) "أنا من أحمد كالضوء من الضوء". أما علمت أن محمداً وعلياً صلوات الله عليهما كانا نوراً بين يدي الله جل جلاله قبل خلق الخلق بألفي عام وأن الملائكة لما رأت ذلك النور، رأت له أصلاً قد انشعب منه شعاع لامع فقالت: إلهنا وسيدنا ما هذا النور؟ فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليهم هذا نور من نوري، أصله نبوة، وفرعه إمامة: أما النبوة فلمحمد عبدي ورسولي. وأما الإمامة فلعلي حجتي ووليي، ولولاهما ما خلقت خلقي. أما علمت أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رفع يدي علي (ع) بغدير خم حتى نظر الناس إلى بياض إبطيهما، فجعله مولى المسلمين وإمامهم واحتمل الحسن والحسين عليه السلام يوم حظيرة بني النجار. فلما قال له بعض أصحابه: ناولني أحدهما يا رسول الله. قال صلَّى الله عليه وسلَّم: نعم الحامل أنا، ونعم الراكبان، وأبوهما خير منهما. وأنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصلي بأصحابه فأطال سجدة من سجداته، فلما سلم قيل له: يا رسول الله لقد أطلت هذه السجدة؟ فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى ينزل). وإنما أراد بذلك رفعهم وتشريفهم، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم رسول، نبي، إمام وعلي (ع) إمام ليس بنبي ولا رسول، فهو غير مطيق لحمل أثقال النبوة.
قال محمد بن حرب الهلالي: زدني يا ابن رسول الله.(107/81)
فقال عليه السلام: إنك لأهل للزيادة، إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حمل علياً على ظهره يريد بذلك أنه أبو ولده، وإمام الأئمة من صلبه، كما حول رداءه في صلاة الاستسقاء وأراد أن يعلم أصحابه بذلك أنه قد تحول الجدب خصباً.
قال: فقلت له: زدني يا ابن رسول الله.
فقال (ع): احتمل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم علياً يريد بذلك أن يعلم قومه أنه هو الذي يخفف عن ظهر رسول الله ما عليه من الدين والعدات والأداء عنه من بعده.
قال: فقلت: يا ابن رسول الله زدني.
فقال (ع): إنه قد احتمله، وما حمل إلا لأنه صلَّى الله عليه وسلَّم معصوم لا يحمل وزراً فتكون أقواله وأفعاله عند مجمع الناس حكمة وصواباً. وقد قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لعلي: يا علي إن الله تبارك وتعالى حملني ذنوب شيعتك ثم غفرها لي، وذلك قوله عزَّ وجلَّ: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }. ولما أنزل الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ }. قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: أيها الناس عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وعلي نفسي وأخي، أطيعوا علياً فإنه مطهر، معصوم، لا يضل ولا يشقى ثم تلا هذه الآية { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ } الآية.
ثم قال الصادق (ع) لي: أيها الأمير لو أخبرتك بما في حمل النبي صلَّى الله عليه وآله علياً (ع) عند حط الأصنام من سطح الكعبة من المعاني التي أرادها به لقلت: إن جعفر بن محمد لمجنون، فحسبك من ذلك ما قد سمعت.(107/82)
فقمت إليه وقبلت رأسه، وقلت: الله أعلم حيث يجعل رسالته(1).
2 – عن عمر بن يزيد بياع السابري قال: قلت لأبي عبد الله (ع) قول الله في كتابه { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }.
قال: ما كان له ذنب ولا هم، ولكن الله حمّله ذنوب شيعته ثم غفرها له(2).
3 – عن محمد بن سعيد المروزي قال: قلت لرجل (!!!) أذنب محمد صلَّى الله عليه وسلَّم قط؟.
قال: لا.
قلت: فقوله عزَّ وجلَّ: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } فما معناه.
قال: إن الله حمّل محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم ذنوب شيعة علي (ع) ثم غفر له ما تقدّم وما تأخر(3).
4 – عن أبي الحسن الثالث (ع) أنه سُئل عن قول الله عزَّ وجلَّ: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }.
فقال (ع): وأي ذنب كان لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم متقدماً أو متأخراً، وإنما حمّله ذنوب شيعة علي (ع) من مضى منهم ومن بقي منهم ثم غفرها له(4).
5 – عن المفضل بن عمر عن الصادق (ع) قال: سأله رجل عن هذه الآية.
فقال: والله ما كان له ذنب، ولكن الله سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي (ع) ما تقدم من ذنبهم وما تأخر(5).
__________
(1) علل الشرائع للصدوق (!!!) 1/173-175، معاني الأخبار 350-352، أربعون الشهيد الأول (!!!) 69-73، مدينة المعاجز للبحراني 6/155-157، تأويل الآيات الطاهرة للنجفي 1/287-289، تفسير البرهان للبحراني 2/441 و4/195، بحار الأنوار 38/79 .
(2) تفسير البرهان 4/195، تفسير نور الثقلين 5/54، تفسير القمي 635، تأويل الآيات 2/593، بحار الأنوار 17/89 و68/23 .
(3) تفسير البرهان 4/195 .
(4) تفسير البرهان 4/195 .
(5) تفسير البرهان 4/195 ، تفسير نور الثقلين 5/55، بحار الأنوار 68/24 .(107/83)
ويشرح لنا أحد أحبار الرافضة كيفية تحمّل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ذنوب الرافضة بشكل فلسفي صوفي ممزوج بالمصطلحات الصوفية الكفرية مثل وحدة الوجود والحقيقة المحمدية وغيرها من المصطلحات التي يهذي بها المتصوفة، فيقول:
ورد في عدة أخبار أنه حمّله ذنوب شيعة علي والمعنى واحد، لأن المغفور له الذنب فرقة واحدة وهي الفرقة الناجية، وهم التابعون لأهل بيته صلَّى الله عليه وسلَّم.
ثم أقول: إن هذا الخبر وما في معناه من الأخبار لم يزل في حجاب الخفاء لم يكشف عن وجهه الغطاء، فإني أرى الناس يروون ويسمعون أن الله حمّل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذنوب شيعته أو شيعة أمير المؤمنين، ويكتفون بمجرد سماع ذلك ويسكتون عليه، ولم أجد إلى الآن أحداً يسأل: ما معنى تحمّل ذنب الغير وكيف يتعقل هذا؟ حتى يبلغ الأمر إلى أن ينسبه الله تعالى إلى رسوله المعصوم صريحاً، ويكون ذلك أحد أسباب تشنيع الملل الخارجة عن الإسلام.(107/84)
فنقول في بيان هذه النكتة على وجه الاختصار والله ولي الهداية: لقد علم المستحفظون من حملة الآثار أن الله تعالى أول ما ابتدأ في خلق الوجود نور نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم ثم خلق من أشعة نوره الشعشاني وجودات سائر الخلق، بمعنى أن من قبل منه خلق في الخلق الثاني التكليفي من شعاع نوره، ومن أنكر خلقه في الخلق المذكور من ظل نوره، وذلك بعدما كانوا في الخلق الأول الكوني متساوين في الخلق أمة واحدة، كلهم من أثر نوره المشرق في العالم منحصر في وجود الصادر الأول صلَّى الله عليه وسلَّم مع من خلق من سنخ نوره وحقيقته وهم المعصومون الثلاثة عشر، وما صدر عنهم من الآثار، إما على سبيل الإقبال، وإما على نحو الإدبار، أما المدبرون فهم مطرودون عن بابه، ومحجوبون عن جنابه، لا نسب بينه وبينهم لأنهم منسوبون إلى قوله تعالى: { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }، وأما المقبلون وهم شيعته بالمعنى الأعم، فهم منسوبون إليه قد وصلوا نسبهم بنسبه، وسببهم بسببه، فهم كشعاع الشمس بالنسبة إليها، يدورون معه حيثما دار، لأنهم آخذون بحجزة أهل بيته، وأهل بيته آخذون بحجزته، والحجزة النور.
وقد ورد أن كل نسب منقطع يوم القيامة إلا نسب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فافهم، فالشيعة ليست بأجنبية عنه صلَّى الله عليه وسلَّم بأن تكون بينهم وبينه بينونة عزلة، كما أن الأشعة ليست بأجنبية من الشمس لأنها أشعتها صادرة عن إشراقها.
والشيعة إنما سميت شيعة لأنهم من شعاع نور أئمتهم وأصل ذلك النور رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فعلى الحقيقة ما بالديار سواه لابس مغفر.(107/85)
وإذ تبينت هذا فنقول: إن الأمور المضافة إلى الشيء على قسمين: قسم هو من آثاره بغير واسطة كالأفعال الصادرة منه نفسه. وقسم: هو من آثار آثاره وهو أيضاً قد يضاف إليه في النسبة، لأن الآثار واقعة في ملكه وليست بأجنبية عنه مثاله: الأدران العارضة للشخص فإنها قد تعرض جسده فتنسب إليه بغير إشكال، وقد تعرض ثوبه الذي هو ملكه ومع ذلك ينسب إليه فإنه يقال: اغسل درنك وطهره بالماء، ويراد به الدرن العارض لجسده، وقد يقال: اغسل درنك ويراد به الدرن العارض لثوبه، ومثل هذه النسبة شايع بين أهل العرف ولا ينكره أحد وكلتاهما عند أهل الحقيقة حقيقة، غير أن الأولى حقيقة أولية، والثانية حقيقة ثانوية.
ووجه كون الثانية نسبة حقيقته هو أنها وأمثالها نسب عارضة للشخص في مقام ظهوره بالمالكية حقيقة، وإن كان في مقام تجرده الذاتي منزهاً عنها، فافهم ولا أظنك تفهم، لكن لكل إشارة أهلٌ يفهمها والكلام معه، والقوم حيث حُرموا عن رحيق التحقيق جعلوا أمثال هذه النسب من النسب المجازية ولا وجه لذلك مادام الحمل على الحقيقة ممكناً، والمقام منه ونظير ذلك ما يُنسب إلى الشخص من حيث هو هو، وما يُنسب إليه من حيث عروض إضافة له، ككونه أباً لشخص وابناً له إلى غير ذلك من عروضات إضافة له، وكلتا النسبتين حقيقة ليست من المجاز في شيء، كما يقال: زيد وارث عمرو، فإنه يُقال عليه من حيث كونه ابناً له لا من حيث كونه زيداً من حيث هو زيد، فافهم ومع ذلك الحمل حمل حقيقي لا مجازي.(107/86)
وإذا تقرّر هذا فنقول: إن نسبة الذنب في الآية إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من القسم الثاني، بمعنى أن الله تعالى نسب ذنوب شيعته إليه وحمّلها إياه لكونها صادرة عن أشعته من باب عروض الوسخ لثوبك، الذي أنت لابسه ونسبته إليك في التعبير فإنك حامل لذلك الوسخ بواسطة الثوب، وإذا كنت في نفسك طيباً طاهراً لا وسخ فيك، وإنما غفرها الله لنبيه صلَّى الله عليه وسلَّم لأنها ليست ناشئة من ذوات أشعته من حيث هي أشعته، وإنما هي أعراض عارضة من لطخ طينة الأعداء ومجاورتها نظيره أيضاً الثوب قد يكون نجس العين كالمنسوج من شعر خنزير مثلاً، وهذا لا يطهر بالغسل، وقد يكون طاهر العين، وتعرضه النجاسة من خارج، كالأثواب المتنجسة، وهذا يطهر بالغسل لا محالة، وذنوب الشيعة من القسم الثاني، ولذا طهرها الله تعالى بفاضل نورانية نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم الذي هو بمنزلة الماء فافهم وتبصّر(1).
الوثنية لا تزال موجودة
يقول الورداني ص79: وهكذا يؤكد لنا ابن باز أنه يعيش بعقل الماضي عقل قدامى الحنابلة حيث لازال يتصور أن الناس تعكف على القبور والأضرحة كما كان مشركو العرب يعكفون حول الأصنام.
الجواب: لا أدري هل يعيش الورداني على كوكب الأرض أم يعيش في المريخ، والعلامة ابن باز رحمه الله تعالى حينما قال ذلك الكلام إنما يعيش عصره بواقعية، والورداني يعيش بالقاهرة ولكي يتأكد من صحة كلام العلامة ابن باز رحمه الله تعالى فليذهب إلى طنطا ويعاين قبر البدوي ليرى صدق كلام ابن باز رحمه الله تعالى، وليذهب إلى قبر البدوي يوم مولده ليتأكد أن زوار البدوي أكثر من حجاج بيت الله الحرام في موسم الحج.
ولا أعلم هل سادته من الرافضة منحوه فرصة الذهاب إلى الكوفة أو إلى كربلاء أو مشهد ليرى الجموع الغفيرة التي تتمسح بالحجارة وتطوف بالقبور أم لا؟. مع إن زيارته متكررة لإيران كما يذكر بنفسه في كتبه.
__________
(1) صحيفة الأبرار، ميرزا محمد تقي، ج1 ص175-177 .(107/87)
والحقيقة أننا نظلم العرب في الجاهلية إذا اعتقدنا أن عكوفهم على الأصنام ليس له مثيل، وذلك إذا قارناهم بالمتصوفة والرافضة، فإننا نجد المتصوفة والرافضة وضعوا الكثير من الروايات التي تُوجب عكوفهم على قبور الأولياء المزعومين والأئمة المفترضين في العقول الواهية.
ونأخذ الورداني في جولة سريعة في تراث الذين اعتنق دينهم ونبذ الإسلام وراءه من أجلهم ليتأكد عن يقين أنه لا يوجد في العالم دين يُقدّس القبور والأضرحة مثل قومه وأبناء دينه. وليقل بعد ذلك أننا نعيش غير الواقع الذي نعاصره. ولنأخذ زيارة قبر الحسين رضي الله عنه كمثال على الوثنية التي يمارسها الرافضة.
زيارة قبر الحسين رضي الله عنه تعدل حجة وعمرة
1 – عن محمد بن سنان قال: سمعت أبا الحسن الرضا (ع) يقول: من أتى قبر الحسين (ع) كتب الله له حجة مبرورة(1).
2 – عن عبد الله بن عبيد الأنباري قال: قلت لأبي عبد الله (ع): جعلت فداك إنه ليس كل سنة يتهيأ لي ما أخرج به إلى الحج؟.
فقال: إذا أردت الحج ولم يتهيأ لك فأت قبر الحسين فإنها تُكتب لك حجة. وإذا أردت العمرة ولم يتهيأ لك فائت قبر الحسين فإنها تكتب لك عمرة(2).
3 – عن عبد الكريم بن حسان قال: قلت لأبي عبد الله (ع): ما يُقال: إن زيارة الحسين (ع) تعدل حجة وعمرة؟.
قال: إنما الحج والعمرة هاهنا، ولو أن رجلاً أراد الحج ولم يتهيأ له فأتاه كُتبت له حجة، ولو أن رجلاً أراد العمرة فلم يتهيأ له كُتبت له عمرة(3).
4 – عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبي عبد الله (ع) يقول: لو أن رجلاً أراد الحج ولم يتهيأ له ذلك، فأتى الحسين (ع) فعرّف عنده يجزئه ذلك من الحج(4).
__________
(1) بحار الأنوار 98/30 ، وسائل الشيعة 10/332 .
(2) بحار الأنوار 98/31، وسائل الشيعة 10/332 .
(3) بحار الأنوار 98/31، وسائل الشيعة 10/332، مستدرك الوسائل 10/267 .
(4) بحار الأنوار 98/32 .(107/88)
5 – عن إبراهيم بن عقبة قال: كتبت إلى العبد الصالح (ع) إن رأى سيدي أن يخبرني بأفضل ما جاء في زيارة أبي عبد الله الحسين (ع) وهل تعدل ثواب الحج لمن فاته؟.
فكتب (ع): تعدل الحج لمن فاته الحج(1).
6 – عن أبي خديجة عن رجل (!!!) سأل أبا جعفر (ع) عن زيارة قبر الحسين.
فقال: إنه يعدل حجة وعمرة(2).
7 – عن أم سعيد الأحمسية قالت: قلت لأبي عبد الله (ع): أي شيء تذكر في زيارة قبر الحسين (ع) من الفضل؟.
قال: نذكر فيه يا أم سعيد فضل حجة وعمرة، وخيرها كذا، وبسط يده ونكس أصابعه(3).
زيارة قبر الحسين رضي الله عنه تعدل عشرين بل أفضل منها
1 – عن بشير الدهان قال: قال أبو عبد الله (ع): أيما مؤمن زار الحسين بن علي (ع) عارفاً بحقه في غير يوم عيد كتبت له عشرون حجة وعشرون عمرة مبرورات متقبلات وعشرون غزوة مع نبي مرسل وإمام عادل(4).
2 – عن بن معمر عن بعض أصحابنا (!!!) قال: قلت لأبي عبد الله (ع) إن فلاناً أخبرني أنه قال لك: إني حججت تسعة عشرة حجة وتسعة عشرة عمرة. فقلت له: حج حجة أخرى واعتمر عمرة أخرى تكتب لك زيارة قبر الحسين (ع).
فقال: أيما أحب إليك أن تحجّ عشرين عمرة وتعتمر عشرين عمرة، أو تُحشر مع الحسين (ع).
فقلت: لا، بل أُحشر مع الحسين (ع).
قال: فزر أبا عبد الله (ع)(5).
3 – عن يزيد بن عبد الملك قال: كنت مع أبي عبد الله (ع) فمرّ يوم على حُمُرٍ.
قال: أين يريد هؤلاء؟.
قلت: قبور الشهداء.
قال: فما يمنعهم من زيارة الشهيد الغريب؟.
__________
(1) بحار الأنوار 98/32، مستدرك الوسائل 10/267-268 .
(2) بحار الأنوار 98/32 .
(3) بحار الأنوار 98/33، مستدرك الوسائل 10/259-260 .
(4) بحار الأنوار 98/34 و85، مستدرك الوسائل 10/268، من لا يحضره الفقيه 2/580، الأمالي للصدوق (!!!) 206-107، ثواب الأعمال للصدوق (!!!) 89، روضة الواعظين للفتال 194 .
(5) التهذيب 6/48، وسائل الشيعة 10/348، بحار الأنوار 98/38 .(107/89)
فقال له رجل من العراق: وزيارته واجبة؟!.
قال: زيرته خير من حجة وعمرة، حتى عدّ عشرين حجة وعمرة. ثم قال: مبرورات متقبلات.
قال: فوالله ما قمت عنده حتى أتاه رجل فقال له: إني حججت تسعة عشر حجة فأدعُ الله لي أن يرزقني تمام العشرين.
قال: فهل زرت الحسين؟.
قال: إن زيارته خير من عشرين حجة(1).
4 – عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (ع) قال: زيارة قبر الحسين (ع) تعدل عشرين حجة، وأفضل من عشرين عمرة وحجة(2).
5 – عن شهاب بن أبي عبد الله (ع) قال: سألني فقال: يا شهاب كم حججت من حجة؟.
فقلت: تسعة عشر حجة.
فقال لي: تتمها عشرين حجة تحسب لك بزيارة الحسين (ع)(3).
زيارة قبر الحسين رضي الله عنه أفضل من إحدى وعشرين حجة
وتعدل اثنتين وعشرين حجة
1 - عن حذيفة بن منصور قال: قال أبو عبد الله (ع): كم حججت؟
قلت: تسعة عشر.
قال: فقال: أما إنك لو أتممت أحداً وعشرين حجة لكنت كمن زار الحسين (عليه السلام) (4).
2 - عن أبي سعيد المدائني قال: دخلت على أبي عبد الله (ع) فقلت: جعلت فداك آتي قبر الحسين؟
قال: نعم يا أبا سعيد ائت قبر الحسين بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب الأطيبين وأطهر الطاهرين وأبرّ الأبرار، فإذا زرته كتبت لك اثنتان وعشرون حجة(5).
زيارة قبر الحسين رضي الله عنه تعدل خمساً وعشرين حجة
__________
(1) الكافي 4/581، بحار الأنوار 98/30، مستدرك الوسائل 10/272، الوافي 8/553، مزار المشهدي 33-334، كامل الزيارات ابن قولويه 306، ثواب الأعمال للصدوق (!!!) 94 .
(2) الكافي 4/580، التهذيب 6/47، وسائل الشيعة 10/347، بحار الأنوار 98/41، مستدرك الوسائل 10/273، الوافي 8/553 .
(3) بحار الأنوار 98/42، وسائل الشيعة 10/350، مستدرك الوسائل 10/ 274 .
(4) بحار الأنوار 98/42، مستدرك الوسائل ج10 ص274 .
(5) بحار الأنوار 98/28-29، مستدرك الوسائل 10/265: فإذا زرته كتبت لك اثنتان وعشرون عمرة.(107/90)
عن أبي سعيد المدائني قال: دخلت على أبي عبد الله (ع) فقلت: جعلت فداك آتي قبر الحسين (ع)؟
قال: نعم يا أبا سعيد ائْت قبر الحسين بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب الأطيبين وأطهر الطاهرين وأبرّ الأبرار، فإذا زرته كتبت لك خمسة وعشرين حجة(1).
زيارة قبر الحسين رضي الله عنه تعدل ثمانين حجة
عن مالك بن عطية عن أبي عبد الله (ع) قال: من زار قبر أبي عبد الله (ع) كتب الله له ثمانين حجة مبرورة(2).
زيارة قبر الحسين رضي الله عنه تعدل ألف حجة
عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) قال: ما خلق الله خلقاً أكثر من الملائكة، وإنه لينزل كل يوم سبعون ألف ملك فيأتون البيت المعمور فيطوفون به، فإذا هم طافوا نزلوا فطافوا بالكعبة، فإذا طافوا بها أتوا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فسلموا عليه، ثم أتوا قبر أمير المؤمنين (ع) فسلّموا عليه، ثم أتوا قبر الحسين (ع) فسلموا عليه، ثم عرجوا، وينزل مثلهم أبداً إلى يوم القيامة.
وقال (ع): من زار أمير المؤمنين عارفاً بحقه غير متجَبِّر ولا مُتكبِّر كتب الله له أجر مائة ألف شهيد، وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبُعث من الآمنين وهوّن عليه الحساب واستقبله الملائكة، فإذا انصرف شيّعته إلى منزله، فإن مرض عادوه، وإن مات تبعوه بالاستغفار إلى قبره.
قال: ومن زار الحسين (ع) عارفاً بحقه كتب الله له ثواب ألف حجة مقبولة، وألف عمرة مقبولة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر(3).
زيارة قبر الحسين رضي الله عنه تعدل حجة مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم
__________
(1) الكافي 4/581، بحار الأنوار 98/41، مستدرك الوسائل 10/273، الوافي 8/553 .
(2) كتاب المزار للمفيد 47، بحار الأنوار 98/34 و42، وسائل الشيعة 10/350، مستدرك الوسائل 10/274 .
(3) بحار الأنوار 97/257، وانظر: وسائل الشيعة 10/347 .(107/91)
عن فضيل عن أبي جعفر (ع) قال: زيارة قبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وزيارة قبور الشهداء وزيارة قبر الحسين (ع) حجة مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم(1).
زيارة قبر الحسين رضي الله عنه تعدل ثلاث حجج مع النبي صلّى الله عليه وسلّم
عن صالح النيلي قال: قال أبو عبد الله (ع): من أتى قبر الحسين (ع) عارفاً بحقه كان كَمَنْ حجّ ثلاث حجج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(2).
زيارة قبر الحسين رضي الله عنه تعدل خمسين حجّة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم
عن محمد بن صدقة قال: قلت لأبي عبد الله (ع): ما لمن زار قبر الحسين (ع)؟.
قال: تكتب له حجة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال: فقلت له: جُعْلِتُ فداك حجّة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟.
قال: نعم، حجّتان.
قال: قلت له: جعلت فداك حجتان؟.
قال: نعم وثلاث.
فما زال يعدّ حتى بلغ عشراً.
قال: فقلت له: جعلت فداك عشر حجج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟.
قال: نعم وعشرون حجّة.
قلت: جعلت فداك عشرون؟.
فما زال يعدّ حتى بلغ خمسين فسكتُّ(3).
الراوي والإمام في مزاد علني في الثواب، ولو لم يسكت الراوي لبلغ الثواب إلى أكثر من مليون حجة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم.
زيارة قبر الحسين رضي الله عنه تعدل تسعين حجّة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم
عن الحسين بن أبي غندر، عمن حدّثه (!!!) عن أبي عبد الله (ع) قال: كان الحسين بن علي (ع) ذات يوم في حجر النبي صلّى الله عليه وسلّم يلاعبه ويضاحكه.
فقالت عائشة: يا رسول الله ما أشدّ إعجابك بهذا الصبي؟.
فقال لها: وكيف لا أحبّه ولا أعجب به وهو ثمرة فؤادي وقرّة عيني، أما إن أمتي ستقتله، فمن زاره بعد وفاته كتب الله له حجة من حججي. قالت: يا رسول الله حجة من حججك؟.
__________
(1) بحار الأنوا 98/30، مستدرك الوسائل للنوري 10/268 .
(2) بحار الأنوار 98/36، وسائل الشيعة 10/353 .
(3) بحار الأنوار 98/43، مستدرك الوسائل 10/275 .(107/92)
قال: نعم وحجتين من حججي.
قال: حجتين من حججك؟
قال: نعم وأربعة.
قال: فلم تزل تزاده ويزيد ويضعّف حتى بلغ تسعين حجة من حجج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأعمارها(1).
زيارة قبر الحسين رضي الله عنه تعدل مائة حجّة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم
عن صالح النيلي عن أبي عبد الله (ع) قال: من أتى قبر الحسين (ع) عارفاً بحقه كان كمن حجّ مائة حجّة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(2).
زيارة قبر الحسين رضي الله عنه تعدل ألف حجة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم
رُوي (!!) أنه دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم يوماً إلى فاطمة (ع)، فهيأت له طعاماً من تمر وقرص وسمن، فاجتمعوا على الأكل هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع).
فلما أكلوا سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأطال سجوده، ثم بكى، ثم ضحك ثم جلس. وكان أجرأهم في الكلام عليّ (ع)، فقال: يا رسول الله رأينا ما رأينا منك اليوم ما لم نره قبل ذلك؟
فقال صلّى الله عليه وسلّم: إني لما أكلت معكم فرحت وسررت بسلامتكم واجتماعكم فسجدت لله تعالى شكراً. فهبط جبرائيل (ع) يقول: سجدت شكراً لفرحك بأهلك؟.
فقلت: نعم.
فقال: ألا أخبرك بما يجري عليهم بعدك؟.
فقلت: بلى يا أخي جبرائيل.
قال: أما ابنتك فهي أول أهلك لحاقاً بك بعد أن تُظلم ويؤخذ حقها، وتُمنع إرثها، ويُظلم بعلها ويُكسر ضلعها، وأما ابن عمك فيُظلم ويُمنع حقه ويُقتل، وأما الحسن فإنه يُظلم ويُمنع حقه ويُقتل بالسم. وأما الحسين فإنه يُظلم ويُمنع حقه وتُقتل عترته وتطؤه الخيول ويُنهب رحله، وتُسبى نساؤه وذراريه، ويُدفن مرمّلاً بدمه ويدفنه الغرباء.
فبكيت وقلت: وهل يزوره أحد؟.
قال: يزوره الغرباء.
قلت: فما لمن يزوره من الثواب؟.
__________
(1) بحار الأنوار 98/35، مستدرك الوسائل 10/268-269، وفي وسائل الشيعة 10/352: سبعين حجّة من حجج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأعمارها.
(2) بحار الأنوار 98/34 و 42، مستدرك الوسائل 10/274 .(107/93)
قال: يكتب له ثواب ألف حجّة وألف عمرة كلها معك، فضحك(1).
ومن مظاهر الوثنية الواضحة عند الرافضة أن زيارة قبر الحسين رضي الله عنه يوم عرفة أفضل من الوقوف بعرفات وهذا التفضيل نتيجة طبيعية لتفضيل الرافضة كربلاء على مكة المكرمة، ورغبة منا في الاختصار ولئلا يتبجح الورداني بأن هذا كذب على أبناء دينه وملته نستعرض بعض الروايات التي وضعت لترغيب الروافض في زيارة قبر الحسين رضي الله عنه وترك الحج والوقوف بصعيد عرفات الطاهر، وأن ثواب الزيارة يفوق كثيراً الثواب في الوقوف بعرفات، إضافة إلى سبب جوهري عند الرافضة في ذلك التفضيل ألا وهو: إن زوّار الحسين رضي الله عنه لا يوجد فيهم ابن زنا، بخلاف الذين يقفون على صعيد عرفات الطاهر فإن فيهم أبناء زنا، حيث إن الرافضة يعتقدون وحدهم من أصلاب آبائهم بنكاح وغيرهم من سفاح(2) ولا أظن أن الورداني الحديث عهد بالتشيع يعجبه هذا الكلام.
وإليك بعض روايات الرافضة التي تنضح بالكذب:
1 – عن بشير الدّهان قال: قلت لأبي عبد الله (ع): ربما فاتني الحج فأُعرّف عند قبر الحسين عارفاً بحقه؟.
قال: أحسنت يا بشير، أيما مؤمن أتى قبر الحسين (ع) عارفاً بحقه في غير يوم عيد كتب الله له عشرين حجة وعشرين عمرة مبرورات مقبولات، وعشرين غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل، ومن أتاه في يوم عيد كتب الله له مائة حجة ومائة عمرة ومائة غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل.
قلت: وكيف لي بمثل هذا الموقف؟.
فنظر إلي شبه المغضب، ثم قال: يا بشير إن المؤمن إذا أتى قبر الحسين (ع) يوم عرفة واغتسل من الفرات، ثم توجه إليه كتب الله له بكل خطوة حجة بمناسكها.
__________
(1) بحار الأنوار 98/44، مستدرك الوسائل 10/275-276 .
(2) انظر كتابنا "الرافضة وطهارة المولد".(107/94)
ولا أعلم إلا أن قال: وغزوة(1).
2 - عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (ع) قال: من زار قبر الحسين (ع) يوم عرفة كتب الله له ألف ألف حجة مع القائم (ع)، وألف ألف عمرة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعتق ألف ألف نسمة، وحملان ألف ألف فرس في سبيل الله تعالى، وسمّاه الله عز وجل عبدي الصدِّيق آمن بوعدي، وقالت الملائكة: فلان صدّيق زكّاه الله من فوق عرشه، وسُمّي في الأرض كروبياً(2).
والإنسان العاقل يتعجب من هذه الملايين المتدفقة على الذي يزور القبر ولكن إذا عرف السبب بطل العجب.
3 - عن علي بن أسباط عن بعض أصحابنا (!!!) عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت له: إن الله يبدأ بالنظر إلى زوّار قبر الحسين بن علي (ع) عشية عرفة قبل نظره إلى أهل الموقف؟.
قال: نعم.
قلت: وكيف ذلك؟.
قال: لأن في أولئك أولاد زنا وليس في هؤلاء أبناء زنا(3).
ومن اعتقادات الرافضة أن من زار قبر الحسين رضي الله عنه يوم العاشر من محرم ودعا بدعاء مخصوص تدعو به الملائكة عند زيارتها للقبر فله مليون درجة، وكمن قُتل مع الحسين رضي الله عنه، وكُتب له ثواب زيارة كل نبي وكل رسول وزيارة كل من زار الحسين رضي الله عنه منذ يوم مقتله إلى يوم الزيارة التي قام بها. وللوقوف على هذا الدعاء انظر: مفاتيح الجنان للقمي 455-458، بحار الأنوار ج98 ص291-293، عمدة الزائر للكاظمي 147-150 .
__________
(1) الكافي 4/580، التهذيب 6/36، من لا يحضره الفقيه 2/346، أمالي الصدوق 127، بحار الأنوار 98/85، مستدرك الوسائل 10/282، مفاتيح الجنان 449، كتاب المزار للمفيد 56-57، وسائل الشيعة 10/359، الوافي للفيض الكاشاني 8/553 .
(2) التهذيب 6/49-50، بحار الأنوار 98/88، مستدرك الوسائل 10/285-286، كتاب المزار للمفيد 54، وسائل الشيعة 10/359-360 .
(3) التهذيب 6/50-51، معاني الأخبار 391، بحار الأنوار 98/85، مستدرك الوسائل 10/283، وسائل الشيعة 10/361، من لا يحضره الفقيه 2/347 .(107/95)
المعتزلة في العصر الحديث
يقول الورداني ساخراً ومستهزئاً بسماحة العلامة ابن باز رحمه الله تعالى وغفر له، حيث يقول ص79: "ولازال يتصور أن خصوم الحنابلة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة لازالوا على قيد الحياة وهو يستخدم في مواجهتهم نفس المصطلح القديم وهو أهل البدع".
ولا أعلم هل قول الورداني عن علم أم أنه نتيجة التخدير العقدي والفكري الذي يعيشه في دنيا الوهم والخيال والغطرسة؟.
فهل يستطيع باحث مهما كان اتجاهه أن يُنكر وجود أمثال هذه التيارات الفكرية المنحرفة في أفكار كثير من المعاصرين؟.
وليس من اللازم التسمية بتلك المسميات – عدا الأشعرية – حتى لا تكون موجودة في ساحة الفكر المعاصر. بل الأسس الفكرية والعقائدية لتلك المسميات موجودة فعلاً في أرض الواقع، والعلامة ابن باز رحمه الله تعالى ليس جاهلاً أو ساذجاً حتى يقول ذلك الكلام، بل مقصوده رحمه الله تعالى أن من يعتقد بتلك العقائد وإن اختلف التسمية فهو ضال مبتدع ويوافقه في ذلك جميع العلماء المقتفين آثار النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فهو رحمه الله تعالى لا يتكلم بأشياء مثالية بل عن أمور واقعية محسوسة بين ظهراني المسلمين.
ونعود للمعتزلة ونسأل نفس سؤال الورداني: هل فعلاً أن المعتزلة فرقة اندثرت وليس لها امتداد فكري في عقول بعض المعاصرين؟. وهل فعلاً إن الكلام عن المعتزلة والفرق الأخرى لا جدوى من طرحه ومناقشته باعتبار أن ذلك ماضياً وليس له حضور في الواقع؟ وما الجدوى من مناقشة أفكارهم لا سيما وإنهم في خبر كان؟ وغير ذلك من الأسئلة التي يطرحها الجهلة أمثال الورداني.(107/96)
الواقع يُثبت أن تلك الفرق لها وجود فكري بل مؤسسات رسمية تدعمها وتحاول نشرها وفرضها على الناس، فالأشعري مثلاً تهتم بها كثير من الجامعات في الدول العربية والإسلامية وتُدرّسها وتعمل على نشرها وتُضلّل من لم يأخذ بها. وكذلك المعتزلة يُطبّل لها كثير من الكُتاب المعاصرين وينادي بها تارة باسم الحرية وتارة باسم التجديد، ووجود الرافضة أكبر دليل على الوجود الاعتزالي، حيث إن الكثير من الأسس عند الرافضة إنما هي انعكاس للتأثر الرافضي بالمعتزلة، ولا أظن أن الورداني يُدرك هذه الحقيقة، والورداني نفسه يعتقد بأفكار المعتزلة أثناء تقلباته الفكرية قبل ارتداده واعتناق دين الرافضة.
وفي هذا المبحث نعرض ملامح من الأفكار الاعتزالية لدى بعض الكتّاب المعاصرين(1) لنرى هل يقتنع الورداني بوجود المعتزلة أم أن ذلك من أوهام علماء الكتاب والسنة.
وللمعتزلة – أو بالأصح فكر الاعتزال – شأن في عصرنا الحديث، ولو ذلك الشأن ما اجتهدنا في التعريف بهذه الفرقة وأفكارها ومبادئها ولاعتبرناها من الفرق التي اندثرت في التاريخ، ذلك أن فضح مباحثها من خلال فكر الشيعة الرافضة أو تزييف مناهجها من خلال مناهج الأشاعرة، وإنما يتم في ثنايا الرد على الرافضة والقواعد المنهجية للاعتزال لما أطلّ خلفهم في عصرنا هذا برؤوسهم، ونادوا بما أودعته المعتزلة من مناهج واتخذوا من سبيل المدح لهم والثناء على "تحررهم" و "عقلانيتهم"! ذريعة إلى نشر آرائهم الفاسدة، والاستتار تحت شعار الاعتزال لدسّ السم في الفكر الإسلامي التوحيدي السليم.
__________
(1) نقلاً عن كتاب "المعتزلة بين القديم والحديث" ص125-140 للأستاذين: محمد العبدة وطارق عبد الحليم بتصرف يسير جداً.(107/97)
نعم! قالوا: أليس المعتزلة من "المسلمين"؟! ألا يحق لنا الاقتباس منهم والرجوع إليهم! وما لنا "نجمد" مع الجامدين من الفقهاء والأئمة والمحدثين من السلف ونلتزم طريقهم ولا نقتبس عن المعتزلة "ثوريتهم" التي تتناسب ومقتضيات عصرنا الراهن؟!. تلك هي مجمل دعاواهم وملخص قولهم الذي أرادوا به القضاء على عقيدة المسلمين والتفافهم حول كتابهم من خلال تلبيس الحق بالباطل – بعد أن نجحت جهودهم في إزاحة شريعة الحق عن الساحة – وهو شأن المفسدين في كل زمان ومكان.
وقد بدأت جذور ذلك الأمر تظهر في بعض البلاد الإسلامية بعد أن ذاعت المبادئ الثلاثة التي أطلقها الصهاينة من خلال الثورة الفرنسية ليتمكنوا من خلالها من هدم الخلقية البشرية عامة وإقامة المجتمع اليهودي على أنقاضها، وهي مبادئ "الحرية – المساواة – العدل".
"والحرية" تعني أن يتحرر الإنسان من كل القيم والأعراف والأديان ويفعل ما يحلو له كالبهيمة، وأن تمحك دعاتها في معاني الحرية السياسية أو الفكرية التي لم يقف الإسلام حائلاً في سبيلها يوماً من الأيام داخل الإطار الشرعي لها.
"والمساواة" تعني أن لا فرق بين مسلم ونصراني ومجوسي بل الكل مشتركون في صفة الإنسانية فهم إخوة بهذا المعنى، ولا معنى للتفريق بينهم بسبب العقيدة، فلتسقط الأديان كلها باسم المساواة، وليتح البشر باسم الإنسانية، وسبحان القائل: { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } وقال: { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ }. فكيف السبيل للاتحاد مع أمثال هؤلاء من المشركين؟!.
"والعدل" يعني نزع الثروات من أيدي مالكيها بدعوى سلامة التوزيع وردّها إلى فئة من اليهود المسيطرين على الاقتصاد العالمي كله، وما تجارب الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية إلا أفكاراً يهودية في أصلها ومنشئها.(107/98)
وقد ساعدت على نشر الأفكار الهدامة المؤسسات التي أقامها الصهاينة لتكون شعاراً لهم ينشرون من ورائه تلك الخبائث كنوادي الروتاري والليونز، وهي مؤسسات ماسونية تنتشر في العالم كله لامتصاص طاقته وثرواته واجتذاب علية القوم فيه للاستفادة منهم. وقد سرت عدوى "التحرر" و "العقلانية" وأمثالها إلى الوطن الإسلامي نتيجة الاختلاط بين الشرق والغرب في مطلع القرن الماضي عن طريق البعثات التعليمية وغيرها، فتأثر تلامذة البعثات بما وجدوه في أوربا ونقلوا ذلك في كتبهم – بقصد أو بدون قصد – كرفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، إلى أن جاء دور جمال الدين الأسد آبادي – المعروف بالأفغاني – وهو إيراني المولد والمنشأ تربى في أحضان الرافضة(1) وقد قام بالعديد من الأعمال التي كان لها أسوأ الأثر في العالم الإسلامي رغم ما يحلو للبعض من المسلمين "الطيبين" أن يدعوه باسم "باعث الشرق"! وباعث الشرق هذا كان مؤسساً ورئيساً لأكبر محفل ماسوني في الشرق، وترقى في درجات الماسونية إلى أعلى المراتب.
ولا مجال للإطالة في الحديث عن جمال الدين هذا إلا بمقدار ما ينبغي أن نعرفه كأستاذ لمحمد عبده صاحب المدرسة العقلية الاعتزالية – التي اصطلح على تسميتها بالمدرسة الإصلاحية! – والتي ظهرت أوائل هذا القرن في مصر وخرج من عباءتها كثير من الكتّاب الذين اتهموا بالدَّخَل في دينهم من بعد مثل طه حسين، الذي وضع كتاب الشعر الجاهلي فحشاه بالكفر البواح وحوكم بسببه في مصر وعزل من منصبه بالجامعة.
__________
(1) راجع: الإسلام والحضارة الغربية، محمد محمد حسين، ودعوة جمال الدين الأفغاني في الميزان، مصطفى فوزي غزال ص380 .(107/99)
ثم تتابعت الكتابات الهدامة المستترة تحت ستار الاعتزال والتحرر والعقلانية تنخر في جسد الأمة المسلمة بعد أن سقطت الخلافة – التي كانت آخر درع يُتقى به كيد المفسدين – فظهرت كتابات طه حسين عن الشعر الجاهلي ثم عن مستقبل الثقافة في مصر وضرورة نبذ "التقاليد الشرقية" جملة وتفصيلاً. كذلك كتابات قاسم أمين عن "تحرير المرأة"، وقد تمحك هؤلاء بلفظ الحرية ودعوى العقلانية والتقدم، وامتدحوا الاعتزال والمعتزلة واعتبروهم الأجدر بالاتباع في "تراثنا الإسلامي"!.
تساءل أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام": "والآن يحق لنا أن نتساءل: هل في مصلحة المسلمين موت الاعتزال وانتصار المحدثين"؟(1) ثم أعلن أنه ليس في صالحهم القضاء على الاعتزال، بل كان من الواجب على المعتزلة والمحدثين أن يستمر كحزبين أحدهما تقدّمي والآخر محافظ! ليستفيد المسلمون من كليهما!(2) وما أبعد هذا الفكر عن الفهم الإسلامي المستوحى من أحاديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم التي تقرر أن هناك طائفة واحدة منصورة ظاهرة على الحق وأنها وحدها الناجية دون سائر الفرق الاثنتين والسبعين.
ويعلن أحمد أمين في صراحة: "في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة"(3).
ولم يكن هذا الرأي الذي عبّر عنه أحمد أمين، بشأن دور الاعتزال، وأهميته وضرورة تبني المسلمين له في طرق البحث ومنهاجه، رأياً ارتآه وحده بل عرف عند كثير غيره من الكتّاب الذين لمعت أسماؤهم في هذه الحقبة الأخيرة من الزمان.
__________
(1) ضحى الإسلام 3/202 .
(2) المصدر السابق 3/203 .
(3) المصدر السابق 3/207 .(107/100)
فهذا كاتب آخر هو زكي نجيب محمود – الذي تبنى الوضعية المنطقية(1) كنظرية يدين بها – يزعم أنه إن كان لنا أن نحيي جزءاً من تراثنا الإسلامي فليكن هو الاعتزال، يقول في "تجديد الفكر العربي": يبدو لكاتب هذه الصفحات أن أهم جماعة يمكن لعصرنا أن يرثها في وجهة نظرها.. أعني أن يرثها في طريقته ومنهاجها عند النظر إلى الأمور هي جماعة المعتزلة التي جعلت العقل مبدأها الأساسي كلما أشكل الأمر"(2).
ويؤكد ذلك بعد صفحات فيقول: "فما زلت أرى أنه لو أراد أبناء عصرنا أن يجدوا عند الأقدمين خيطاً فكرياً ليتمسكوا بطرفه فيكونوا على صلة موصولة بشيء من تراثهم، فذلك هو الوقفة المعتزلية من المشكلات القائمة"(3).
__________
(1) وفحواها إنكار عالم الغيب في صورة مستترة هي ادعاء أنه ليس لنا شأن بما لا يخضع لتجاربنا ويمكننا تحسسه، فالألفاظ التي لا يوجد لها رصيد في الواقع المحسوس المجرب لا تعني شيئاً، ويجب أن ينصب جهد الناس على ما في إمكانهم تحقيقه والتحقق منه، أما عالم الغيب فهو دائرة الإحساس والمشاعر لا غير، وهي صورة معدلة خبيثة لإنكار الغيب بالكلية دون التصريح بذلك، مراعاة للوسط الذي يعيشه الكاتب، ولاستدراج من ينفرون من دعوى الإلحاد المباشرة.
(2) تجديد الفكر العربي ص117 .
(3) المصدر السابق 123 .(107/101)
وهذا المسكين قد وقع في خطأ كان لابد له من الوقوع فيه نظراً لانشغاله طوال حياته بالفكر الغربي دراسة وتحليلاً وتسلية كما عبّر بنفسه في مقدمة كتابه المذكور إلا سنوات قليلة أخذ "يعب فيها التراث عبّاً" على عجل بنظر المستشرقين لا بنظر المؤمن، هذا الخطأ هو اعتقاد أن أهل السنة والجماعة كانوا يقفون بالمرصاد لمحاولات إعمال العقل في مجال الطبيعة والحياة بحرية وانطلاق، وهو أمر ما كان في يوم من الأيام، وإنما يشهد التاريخ أن الصراع بين أهل السنة وبين غيرهم من الفرق الضالة كان بسبب إدخال العقل في مجال الغيب أولاً، ومحاولة تحكيمه في نصوص الشارع الثابتة التي توجه الحياة البشرية بكليات وقواعد قد رضيها الله سبحانه لخلقه – وهو أعلم بهم -، ثانياً، أما في مجال العلوم الطبيعية والتجريبية فعلى أمثال هؤلاء المفسدين إبراز دليل واحد يستدلون به على وقوف أهل السنة والجماعة في وجه تلك العلوم أو عدم إعمال العقل فيها، وحتى مهاجمة أهل السنة للفلاسفة إنما كانت في الجانب الميتافيزيقي الذي خاضوا فيه غمار العلوم الإلهية بعقولهم القاصرة فخرجوا إلى الكفر البواح كما فعل ابن سينا والفارابي، بينما لم ينكر أحد على ابن سينا وضعه لكتاب "القانون" في الطب مثلاً، وإنما ادعاءات هؤلاء كلها محض باطل وتجن وهوى، ولما كان الإسلام يعالج في مبادئه وأساسياته قواعد اجتماعية وتشريعات دولية وسياسية واقتصادية تصادمت في كثير منها مع تلك الاتجاهات الهدامة، كان لهم ي المواقف الاعتزالية التي قدمت العقل فيما لا يمكن الحكم فيه خير سند في دعواهم للقضاء على الشريعة الإسلامية والنهج الرباني.
وقد تناثرت تلك الدعاوي عن المعتزلة في العديد من أعمال بعض الباحثين والمحدثين، كما ذكرنا، فمدحوا الاعتزال وتابعوا المستشرقين ونقلوا عنهم ما أوردوه في تحسينه وتزيينه.(107/102)
يقول عرفان عبد الحميد في كتابه "دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية" تحت عنوان أهمية المعتزلة في الفكر الإسلامي: "المعتزلة أول مدرسة كلامية ظهرت في الإسلام وكان لها دور كبير في تطور الفكر الديني والفلسفي فيه، فهي التي أوجدت الأصول العقلية للعقيدة الإسلامية!! وجعلت للنزعة العقلية في الفكر الإسلامي مكانة مرموقة، ورفعت من شأن العقل وأحكامه وقدرته في الوصول إلى الحقيقة"(1)، ولا نحتاج إلى التعليق، حيث سبق أن بيّنّا موقف أهل السنة من "العقل" ومجالاته، وبيّنّا المجال الذي عملت فيه النزعة العقلية في الإلهيات فأنتجت ذلك الضلال والانحراف. ولكن أنّى لمثل هذا الباحث أن يتفهم موقف الإسلام في مثل تلك الأمور وهو ينقل عن المستشرقين نص كلامهم مرتئياً له وموافقاً عليه، فيقول: "المعتزلة تمثل أول محاولة في الفكر الإسلامية تعرضت لمسألة الصلة بين الحقائق الدينية وأحكام العقل وذلك (بقوة فكرية عجيبة وثبات عظيم وحاول حلّها بطريقة مبتكرة)" وما بين القوسين منقول عن سوزانا فلزر في مقدمة كتاب المعتزلة وواضح تبنيه لهذا الرأي الاستشراقي! فالله الله في المسلمين وعقائدهم أيها الباحثون المجددون.
ولو ذهبنا نتتبع هذا التيار الذي انتشر في الكتابات الحديثة لطال الحديث ولكننا نكتفي بما ذكرنا ليكون دليلاً وشاهداً على صحة ما ذهبنا إليه من محاولة الفكر الاعتزالي العودة إلى السطح – من خلال مفاهيم التحرر والتقدم والعقلانية – محمولاً على أقلام بعيدة كل البعد عن منهج الإسلام الصافي الأصيل.
__________
(1) دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية 125 .(107/103)
ومما يدعو للأسف أن هذا الاتجاه – يشكل أقل حدّة – قد تعدى إلى بعض الفضلاء ممن ينتمون للحركة الإسلامية في عصرنا، فالدكتور عدنان زرزور يقدم رسالته عن الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير وينقل ثناء الشيخ محمد أبو زهرة على المعتزلة في كتابه "تاريخ المذاهب الإسلامية" مؤيداً هذا الثناء فيقول: "قال – أي أبو زهرة – حفظه الله: أولاً: إن هؤلاء – أي المعتزلة – يعدون فلاسفة الإسلام حقاً لأنهم درسوا العقائد الإسلامية دراسة عقلية مقيدين أنفسهم بالحقائق الإسلامية غير منطلقين في غير ظلها، فهم يفهمون نصوص القرآن فهماً فلسفياً، ويغوصون في فهم الحقائق التي تدل عليها غير خالعين للشريعة ولا متحللين من النصوص"(1)!(2).
كما إنه يدعو "للإفادة من منهج المعتزلة العقلي – ومن سائر المناهج الكلامية الأخرى – في الدفاع عن الإسلام وشرح حقائقه أمام مناوئيه ومخالفيه من أتباعه والغرباء عنه على حد سواء"(3)، فهل يا ترى في منهج المتكلمين وطريقة المعتزلة ما يُدفع به عن الإسلام بحق؟!.
ثم يدّعي الدكتور عدنان دعوى عريضة خالف فيها منطوق ومفهوم نصوص ثابتة صريحة عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كحديث الفرق الثلاثة والسبعين وحديث الفرقة المنصورة الذي رواه مسلم فقال: "وليس في تاريخ الإسلام فرقة واحدة تستطيع أن تزعم لنفسها فهم العقيدة الإسلامية على الوجه الأكمل حتى يكون كل من خالفها في شيء ضالاً مبتدعاً أو من أهل الزيغ والأهواء(4)! ولا تخلو فرقة واحدة من الغلو في جانب والتفريط في جانب آخر، وليست مهمتنا الانتصار لفرقة على أخرى أو تعميق الخلاف بين هذه الفرق"!(5).
__________
(1) والتحلل من النصوص إما أن يكون رفضها كما فعلت الملاحدة أو بتأويلها وتحريفها عن مواضعها كما فعلت المعتزلة والشيعة وسائر المؤولة المبتدعة.
(2) عدنان زرزور، الحاكم الجشمي 21 .
(3) المصدر السابق 18 .
(4) وعلامة التعجب من عنده.
(5) الحاكم الجشمي 18 .(107/104)
والعجب العجاب مما قاله! فقد اشتملت هذه الفقرة وحدها على ثلاثة أخطاء مركبة، أولها: قوله: أنه لا توجد فرقة واحدة فهمت العقيدة الإسلامية على الوجه الأكمل! فأين قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" رواه مسلم. وأين قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة إحداها الناجية" رواه الترمذي، وأين فرقة أهل السنة والجماعة التي من زعمائها أئمة الإسلام: مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وابن تيمية وابن القيم وابن كثير ومحمد بن عبد الوهّاب.. وغيرهم كثير كثير ممن اتفقت عقائدهم وإن اختلفوا في بعض الفروع!؟. وهل العقيدة الإسلامية بهذا القدر من الصعوبة ليتعذر فهمها على أي طائفة طوال هذه القرون؟!.
أو ليس معنى ما تقدم من أنه "حتى يكون من خالفها في شيء ضالاً ومبتدعاً أو من أهل الزيغ والأهواء" إنكاراً صريحاً لوجود أهل الأهواء ابتداء إذ أين تذهب بأقوال أئمة الإسلام التي تحذر من اتباع أهل الأهواء والبدع؟ وكفانا في ذلك ما أورده الشاطبي في الاعتصام الجزء الأول عن أهل الأهواء والتحذير منهم وكلام أئمة السنة فيهم.. ونترك للقارئ المسلم الحكم على صحة أقواله وتقييمها من خلال ما طالع في ثنايا بحثنا.
ثانيها: قوله "ولا تخلو فرقة واحدة من الغلو في جانب والتفريط في جانب آخر"!.(107/105)
ونقول: إن سمة أهل السنة الوسطية لا إلى إفراط ولا إلى تفريط كما وصفهم ابن تيمية بقوله: "وهم (أهل السنة والجماعة) وسط في باب أفعال الله عزَّ وجلَّ بين المعتزلة والمكذبين بالقدر والجبرية النافين لحكمة الله ورحمته وعدله. وفي باب الوعد والوعيد، بن الوعيدية الذين يقولون بتخليد عصاة المسلمين في النار وبين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد وما فضّل الله به الأبرار على الفجار. وهم وسط في أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بين الغالي في بعضهم الذين يقول فيه بإلهية أو نبوة، والجافي فيهم الذي يكفر بعضهم أو يفسقه وهو خيار هذه الأمة"(1).
وثالثها: قوله: "وليست مهمتنا اليوم الانتصار لفرقة على أخرى..".
ونقول: بل إن مهمتنا الأساسية في الحياة هي إظهار عوار الباطل الذي تشتمل عليه أقاويل تلك الفرق الاثنتين والسبعين كما إن من مهمتنا مناهضة الكفر والإلحاد سواء بسواء، والمقبول من العمل هو ما كان خالصاً صواباً، خالصاً لوجه الله تعالى وصواباً على سنة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، فالتلفيق ومحاولة التقارب المزعوم بين الفرق هو بمثابة الطعن في صحة عقيدة الحق التي عليها أهل السنة والجماعة، عقيدة السلف الصالح، وعقيدة صحابة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
المدرسة الإصلاحية الحديثة:
__________
(1) ابن تيمية، الجواب اصحيح 1/8 .(107/106)
يمكن للباحث من خلال كتابات عديدة من الكُتّاب، في بضع العقود الماضية، أن يتلمس آثار مدرسة فكرية مميزة ينتمي إليها فكر هؤلاء الكتّاب وآراؤهم، يُستدل عليها بوحدة الآراء، وتقارب المفاهيم، وتُميز بتشابه الموضوعات، وتلاقي المقاصد والغايات. هذه المدرسة – التي لم تتخذ صبغة رسمية – تفجأ القارئ المسلم بتلك الدعاوي والآراء، التي هي امتداد لما عرف بالمدرسة الإصلاحية وزعماؤها: السير أحمد خان الهندي وجمال الدين الأسد آبادي ومن بعده الشيخ محمد عبده، في نهاية القرن الماضي، وهي كذلك إحياء للمنهج الاعتزالي في تناول الشريعة، وتحكيم العقل فيما لا يحتكم فيه إليه.
ويمكن تحديد ما تجتمع عليه آراء تلك المدرسة في كلمة واحدة هي "التطوير" أو العصرانية كما تترجم عن الإنجليزية Modernism وما تعنيه من تناول أصول الشريعة وفروعها بالتعديل والتغيير، تبعاً للمناهج العقلية التي اصطنعها الغرب حديثاً، أو ما تُمليه عقليات أرباب ذلك المذهب، التي تتلمذت لتلك المناهج.. ولا يسلم من هذا التطوير أمر من أمور الشريعة كأصول الفقه والحديث أو التفسير أو مسائل الفقه كالحجاب والطلاق أو تعدد الزوجات، والحدود أو الطامة التي عرفت بالتقارب بين الأديان.
على رأس تلك المدرسة السير أحمد خان الهندي، الذي منح لقب "سير" من قبل السلطات البريطانية تكريماً له، والذي يرى أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد الذي يجب أن نستقي منه أحكام الشريعة، والأحاديث لا يُعتدّ بها في هذا الشأن لتأخر تدوينها، ولأن أكثريتها أحاديث آحاد لا تفيد يقيناً، كما يحل الربا البسيط في التجارة والمعاملات، ويرفض عقوبة الرجم والحرابة، وينفي شرعية الجهاد لنشر الدين.(107/107)
ويُحل سيد أمير علي – تلميذ أحمد خان – زواج المسلمة من كتابي، والاختلاط بين الرجل والمرأة، كذلك يرى محمد أسد(1) أن الله سبحانه لا يُصف إلا بالصفات السلبية (أي ليس كذا وكذا..) تماماً كما قالت المعتزلة(2)، وينحو منحى محمد عبده في إنكار المعجزات المادية، كتفسير إهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل!.
ومن المعاصرين الأحياء، ينادي د. محمد فتحي عثمان بتطوير العقيدة والشريعة معاً في كتابه عن الفكر الإسلامي والتطور، ويزيد الدكتور حسن الترابي خطوة فيدعو إلى تجديد أصول الفقه حيث يقول: "إن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد عقلي كبير وللعقل سبيل إلى ذلك لا يسع عاقل إنكاره، والاجتهاد الذي نحتاج إليه ليس اجتهاداً في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول أيضاً"(3).
ويشكك محمد سعاد جلال في إمكانية وجود نص قاطع في الشريعة ثبوتاً ودلالة، حتى القرآن الكريم، الذي وإن كان ثابتاً من جهة النقل، إلا أن الظن يتطرق إليه من قبل الدلالة..
ويدعو عبد اللطيف غزالي إلى دثر التراث كله حيث يقول: "وأما علوم سلف المسلمين فهي شيء متخلف غاية التخلف بالنسبة لما لدينا، ولا أقول لما لدى الأوربيين من علوم.."(4).
__________
(1) هو المستشرق النمساوي الأصل (ليوبولد فايس) أسلم عام 1926 إثر عمله في السعودية لفترة طويلة.
(2) عن مفهوم تجديد الدين، بسطامي محمد سعيد ص151 .
(3) عن بحث "الدعوة إلى التجديد في منهج النقد عن المحدثين"، عصام أحمد البشير لنيل درجة الماجستير من جامعة الرياض.
(4) المصدر السابق 49 .(107/108)
وفي مجال الفقه يعبر د. فتحي عثمان عن حجاب المرأة ومسألة عدم الاختلاط بقوله: "فإذا التقى الرجل بالمرأة في ظروف طبيعية هادئة محكمة، فلن يغدو هذا اللقاء قارعة شديدة الوقع.. سيألف الرجل رؤية المرأة ومحادثة المرأة ومعاملة المرأة، في إطار من الدين والخلق تحدد معالمه تربية الأسرة وعرف المجتمع ورعاية الدولة، وستألف المرأة بدور الرجل فيهدأ السعار المضطرم ولا يكون هناك مجال للانحراف والشذوذ، وتتجمع لدى الطرفين خبرات وحصانات وتجارب".
سبحان الله العظيم! وكأن تجربة الأوربيين في الاختلاط لقرون عديدة أنتجت الخبرات والحصانات، وكفلت الإحصان للمرأة والرجل! إن هذا إلى جانب كونه افتياتاً على الشريعة الحنيفة، فهو جهل بالفطرة الإنسانية التي يعلم حقيقتها خالقها سبحانه.
ويعلن عبد اللطيف غزالي "نحن اليوم لا نجد حرجاً في التفكير في تقييد حق الرجل في الأربع وتقييد حقه في الطلاق"(1).
أما في الحدود فيرى حسن الترابي أن الردة الفكرية التي لا يصاحبها خروج على نظام الدولة لا تستوجب إقامة الحد، ويعني بالردة الفكرية الكفر الاعتقادي بالتعبير الشرعي.
ويرى الدكتور محمد فتحي عثمان أن عقوبة الردة كانت لضرورة عسكرية أملتها الظروف على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
أما عن التقارب بين الأديان فيرى عبد العزيز كامل أن منطقة الشرق الأوسط هي منطقة التوحيد بديانتها الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية، وهو ما يؤكده كذلك فهمي هويدي ومحمد سعيد عشماوي(2).
أما عبد الله غزالي فيشرح معنى الإسلام! بقوله: "الإسلام هو أن تسلم وجهك لله وأنت محسن، وأي امرئ كان هذا حاله فإنه مسلم سواء كان مؤمناً بمحمد أو كان من اليهود أو النصارى أو الصابئين".
__________
(1) المصدر السابق ص 60 .
(2) جريدة الأخبار المصرية 17/10/1979 نقلاً عن بحث الدعوة إلى التجديد.(107/109)
ويبين أن الجنة ليست حكراً على المسلمين الموحدين وأن الدين المنجي عند الله ليس الإسلام وحده! فيقول: "لماذا يعتقد أتباع كل دين أن الله يختصهم بالجنة ويذر غيرهم وأكثر الناس في النار؟" ثم يؤكد أن حقيقة الشرك هي العداء بين الأديان(1).
وبعد: فليحذر الشباب من تلك الدعوات الباطلة وإن تحلت بالأسماء الرنانة واللافتات المضيئة التي تتحدث عن العقل والتحرر والتجديد والتوفيق، أو تستتر خلف تلك الفرق التي تعلقت باسم الإسلام في تاريخه رغم ضلالها وانحرافها.
الأشاعرة
يقول الورداني ص79: وفي الوقت الذي يهاجم فيه ابن باز الأشاعرة – وهم فرقة من فرق أهل السنة الذين يدّعي التحدث بلسانهم – ويعتبرهم من أهل البدع يعود ويناقض نفسه بقوله: "وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأتباعهم بإحسان وهي التي نقلها الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه "المقالات" عن أصحاب الحديث وأهل السنة ونقله غيره من أهل الإيمان".
الجواب: يبدو أن الورداني لا يعي ما يقول ولا ما يسطره من هذيان فخلط الحابل بالنابل.
__________
(1) نظرات في الدين ص16-24 .(107/110)
وسماحة الشيخ العلامة ابن باز – رحمه الله وغفر له – لم يكن متناقضاً كما زعم هذا الرافضي، بل إن قوله هذا مما أجمع العلماء على أن الإمام أبي الحسن الأشعري رحمه اله تعالى من أئمة أهل السنة والجماعة وكتابه "الإبانة عن أصول الديانة" من الكتب التي تنتهج عقيدة أهل السنة والجماعة، والفرقة التي تُسمى بالأشاعرة بعيدة كل البعد عن منهجه وعقيدة، بل هي أخذت عنه ما مرّ في المرحلة الثانية من حياته رحمه الله تعالى، حيث إنه مرّ في حياته بثلاث مراحل فكرية: المرحلة الأولى: كان معتزلياً وأقام على الاعتزال أربعين سنة ثم نبذه بعد أن سبر غوره وكشف وهتك شتره، والمرحلة الثانية: أثبت الإمام الأشعري رحمه الله تعالى الصفات العقلية السبعة وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، وتأويل الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى. والحال الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جرياً على منوال السلف وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخراً.
والأشاعرة ليسوا من أهل السنة والجماعة وليس كما يزعم الرافضي الجاهل، وذلك أن الفاحص لعقيدة الأشاعرة يجد أنهم يباينون أهل السنة والجماعة في كثير من العقائد.
يقول فضيلة الشيخ سلمان العلوان في كتابه القيم "القول الرشيد في حقيقة التوحيد" ص57: اعلم أن المذاهب المخالفة لمذهب السلف في باب الأسماء والصفات، كالمعتزلة، والجهمية، والأشاعرة، والماتريدية، والإباضية، والمفوضة كثيرة جداً، وأكثر هذه المذاهب الضالة شيوعاً مذهب الأشاعرة، كثير من كتب التفسير والحديث والأصول تمتلئ به. وكثيراً من أتباع هذا المذهب يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة، فكثيراً ما يرد في عبارات بعض علماء الأشاعرة: "اتفق أهل السنة"، و"هذا مذهب أهل السنة والجماعة"، ويعنون بذلك مذهب الأشاعرة.(107/111)
والأشاعرة ليسوا في عداد أهل السنة والجماعة، لا في باب الأسماء والصفات، ولا في كثير من أبواب العقيدة، إنما هم في عداد أهل الفرقة والضلالة، وفيهم أيضاً، أو في أكثرهم: إرجاء، وجبر، وشيء من التجهم، فإنهم يوافقون الجهمية في كثير من أصولهم.
ومن زعم أن الأشاعرة من أهل السنة والجماعة، فهو إما جاهل بمذهب السلف وحقيقته. فهذا يجب عليه أن لا يقف ما ليس به علم، فإن الكلام بلا علم جهل وضلال. وإما صاحب هوى، وباطل، يجادل بالباطل ليدحض به الحق. اهـ.
وسنحاول جاهدين إبراز تلك الفروقات بينهم وبين أهل السنة في العقيدة مع الجزم بأنه لا تصح نسبتهم إلى أهل السنة ولا يعني بذلك وصف بعض الذين يوافقونهم في تأويل بعض الصفات بأنهم أشاعرة كما يحلو لبعض طلبة العلم الذين تطاولوا على بعض العلماء المشهورين، وأيضاً لا نحكم بصواب من يوافقونهم في ذلك.
وفيما يلي نستعرض الأصول المنهجية لمذهب الأشاعرة بإيجاز(1) لندرك عن علم ويقين بأن الأشاعرة ليسوا كما يزعم الورداني.
الأول: مصدر التلقي:
مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل، وقد صرّح الجويني والرازي والبغدادي والغزالي والآمدي والإيجي وابن فورك والسنوسي وشرّاح الجوهرة وسائر أئمتهم بتقديم العقل على النقل عند التعارض، وعلى هذا يرى المعاصرون منهم، ومن هؤلاء السابقين من صرّح بأن الأخذ بظاهر الكتاب والسنة أصل من أصول الكفر وبعضهم خففها فقال هو أصل الضلالة!!.
الثاني: إثبات وجود الله:
ومعلوم أن مذهب السلف هو أن وجوده تعالى أمر فطري معلوم بالضرورة والأدلة عليه في الكون والنفس والآثار والآفاق والوحي أجل من الحصر، ففي كل شيء له آية وعليه دليل.
__________
(1) باختصار عن "منهج الأشاعرة في العقيدة" لفضيلة الشيخ الدكتور سفر الحوالي ص31-57 .(107/112)
أما الأشاعرة فعندهم دليل يتيم هو دليل "الحدوث والقدم" وهو الاستدلال على وجود الله بأن الكون حادث وكل حادث فلابد من محدث قديم، وأخص صفات الله هذا القديم مخالفته للحوادث وعدم حلولها فيه، ومن مخالفته للحوادث إثبات أنه ليس جوهراً ولا عرضاً ولا جسماً ولا في جهة ولا مكان.. إلخ. ثم أطالوا جداً في تقرير هذه القضايا، هذا وقد رتبوا عليه من الأصول الفاسدة ما لا يدخل تحت العد مثل إنكارهم لكثير من الصفات كالرضا والغضب والاستواء بشبهة نفي حلول الحوادث في القديم ونفي الجوهرية والعرضية والجهة والجسمية.. إلى آخر المصطلحات البدعية التي جعلوها نفيها أصولاً وأنفقوا الأعمار والمداد في شرحها ونفيها، ولو أنهم قالوا الكون مخلوق وكل مخلوق لابد له من خالق لكان أيسر وأخصر، مع أنه ليس الدليل الوحيد ولكنهم تعمدوا موافقة الفلاسفة حتى في ألفاظهم(1).
الثالث: التوحيد:
التوحيد عند أهل السنة والجماعة معروف بأقسامه الثلاثة وهو عندهم أول واجب على المكلف، أما الأشاعرة قدماؤهم ومعاصروهم فالتوحيد عندهم هو نفي التثنية أو التعدد ونفي التبعيض والتركيب والتجزئة أي حسب تعبيرهم "نفي الكمية المتصلة والكمية المنفصلة" ومن هذا المعنى فسّروا الإله بأنه الخالق أو القادر على الاختراع وأنكروا بعض الصفات كالوجه واليد والعين لأنها تدل على التركيب والأجزاء عندهم.
__________
(1) انظر: جمع الأبواب الأولى من أي كتاب في عقيدتهم، ومجموع الفتاوى 2/7-23، وأول شرح الإصفهانية، ويلاحظ أن تعمدهم استخدام كلمة (حادث) سببه أنهم لو قالوا (مخلوق) لألزمهم الفلاسفة بأن هذا هو موضع النزاع ولا يستدل بالدعوى على نفسها في نظرهم، ومع هذا فالفلاسفة يقولون الكون قديم ولا نسلّم أنه حادث، فالأشاعرة كما قال شيخ الإسلام (لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا).(107/113)
أما التوحيد الحقيقي وما يقابله من الشرك ومعرفته والتحذير منه فلا ذكر له في كتب عقيدتهم إطلاقاً ولا أدري أين يضعونه أفي كتب الفروع؟ فليس فيها أم يتركونه بالمرة، فهذا الذي أجزم به.
أما أول واجب عند الأشاعرة فهو النظر أو القصد إلى النظر أو أول جزء من النظر أو.. إلى آخر فلسفتهم المختلف فيها، وعندهم أن الإنسان إذا بلغ سن التكليف وجب عليه النظر ثم الإيمان واختلفوا فيمن مات قبل النظر أو في أثنائه.. أيحكم له بالإسلام أم بالكفر؟!.
وينكر الأشاعرة المعرفة الفطرية ويقولون إن من آمن بالله بغير طريق النظر فإنما هو مقلد ورجّح بعضهم كفره واكتفى بعضهم بتعصيته، وهذا ما خالفهم فيه الحافظ ابن حجر – رحمه الله – ونقل أقوالاً كثيرة في الرد عليهم، وإن لازم قولهم تكفير العوام بل تكفير الصدر الأول(1).
الرابع: الإيمان:
الأشاعرة في الإيمان مرجئة جهمية أجمعت كتبهم قاطبة على أن الإيمان هو التصديق القلبي، واختلفوا في النطق بالشهادتين أيكفي عند تصديق القلب أم لابد منه، قال صاحب الجوهرة:
وفسر الإيمان بالتصديق
والنطق فيه الخلف بالتحقيق
وقد رجّح الشيخ حسن أيوب من المعاصرين أن المصدق بقلبه ناج عند الله وإن لم ينطق بهما، ومال إليه البوطي. فعلى كلامهم لا داعي لحرص النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقول عمه أبو طالب لا إله إلا الله، لأنه لا شك في تصديقه له بقلبه، وهو من شابهه على مذهبهم من أهل الجنة!.
__________
(1) عن هذه الفقرة انظر: نهاية الإقدام للشهرستاني 90، شرح الكبرى 3-4، غاية المرام للآمدي 149، كبرى اليقينيات (للبوطي) 91-93، الله جل جلاله، سعيد حوى: 131، أركان الإيمان لوهبي غاوجي 30 .
وبخصوص أول واجب والمعرفة الفطرية انظر: درء تعارض العقل والنقل ج7، 8، 9 كلها، الإنصاف للباقلاني 22، الإرشاد 3، المواقف 32-33، الشامل 120، أصول الدين للبغدادي 254-255، فتح الباري 3/357، 361، 13/347-358 .(107/114)
هذا وقد أولوا كل آية أو حديث ورد في زيادة الإيمان ونقصانه أو وصف بعض شُعبه بأنها إيمان أو من الإيمان(1).
الخامس: القرآن:
وقد أفردت موضوعه لأهميته القصوى، وهو نموذج بارز للمنهج الأشعري القائم على التلفيق الذي يسميه الأشاعرة المعاصرون "التوفيقية"، حيث انتهج التوسط بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة في كثير من الأصول فتناقض واضطراب.
فمذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه تعالى يتكلم بكلام مسموع تسمعه الملائكة وسمعه موسى – عليه السلام – ويسمعه الخلائق يوم القيامة.
ومذهب المعتزلة أنه مخلوق. أما مذهب الأشاعرة فمن منطق التوفيقية – التي لم يحالفها التوفيق – فرّقوا بين المعنى واللفظ. فالكلام الذي يثبتونه لله تعالى هو معنى أزلي أبدي قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت ولا يوصف بالخبر ولا الإنشاء. واستدلوا بالبيت المنسوب للأخطل النصراني:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
أما الكتب المنزلة ذات الترتيب والنظم والحروف – ومنها القرآن – فليست هي كلامه تعالى على الحقيقة بل هي "عبارة عن كلام الله النفسي. والكلام النفسي شيء واحد في ذاته لكن إذا جاء التعبير عنه بالعبرانية فهو توراة وإن جاء بالسريانية فهو إنجيل، وإن جاء بالعربية فهو قرآن، فهذه الكتب كلها مخلوقة ووصفها بأنها كلام الله مجاز لأنها تعبير عنه".
__________
(1) انظر: الإنصاف 55، الإرشاد 397، غاية المرام 311، المواقف 384، الإيمان لشيخ الإسلام: أكثره رد عليهم فلا حاجة لتحديد الصفحات، تبسيط العقائد الإسلامي، حسن أيوب 29-33، كبرى اليقينيات 196 .(107/115)
واختلفوا في القرآن خاصة فقال بعضهم: إن الله خلقه أولاً في اللوح المحفوظ ثم أنزله في صحائف إلى سماء الدنيا، فكان جبريل يقرأ هذا الكلام المخلوق ويبلغه لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم. وقال الآخرون: إن الله أفهم جبريل كلامه النفسي وأفهمه جبريل لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم، فالنزول نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال (لأنهم ينكرون علو الله) ثم اختلفوا في الذي عبّر عن الكلام النفسي بهذا اللفظ والنظم العربي من هو؟ فقال بعضهم: هو جبريل، وقال بعضهم: بل هو محمد صلَّى الله عليه وسلَّم!!.
واستدلوا بمثل قوله تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } في سورتي الحاقة والانشقاق حيث أضافه في الأولى إلى محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وفي الأخرى إلى جبريل بأن اللفظ لأحد الرسولين "جبريل أو محمد (صلَّى الله عليه وسلَّم)" وقد صرّح الباقلاني بالأول وتابعه الجويني.
قال شيخ الإسلام: "وفي إضافته تعالى إلى هذا الرسول تارة وإلى هذا تارة على أنه إضافة بلاغ وأداء لا إضافة إحداث لشيء منه وإنشاء كما يقول بعض المبتدعة الأشعرية من أن حروفه ابتداء جبريل أو محمد (صلَّى الله عليه وسلَّم) مضاهاة منهم في نصف قولهم لمن قال أنه قول البشر من مشركي العرب".
وعلى القول أن القرآن الذي نقرؤه في المصاحف مخلوق سار الأشاعرة المعاصرون وصرحوا، فكشفوا بذلك ما أراد شارح الجوهرة أن يستره حين قال: "يمتنع أن يقال أن القرآن مخلوق إلا في مقام التعليم"(1).
السادس: القدر:
__________
(1) عن القرآن عندهم انظر: الإنصاف 96-97 وما بعدها، الإرشاد 128-137، أصول الدين 107، المواقف 293، شرح الباجوري على الجوهرة 64-66، 84، متن الدردير 25 من مجموع المتون، التسعينية وقد استغرق موضوع الرد عليهم في القرآن أكثر مباحثها ومن أعظمها وأنفسها ما ذكره في الوجه السابع والسبعين فليراجع.(107/116)
أراد الأشاعرة هنا أن يوفقوا بين الجبرية والقدرية فجاءوا بنظرية الكسب وهي في مآلها جبرية خالصة لأنها تنفي أي قدرة للعبد أو تأثير، أما حقيقتها النظرية الفلسفية فقد عجز الأشاعرة أنفسهم عن فهمها فضلاً عن إفهامها لغيرهم ولهذا قيل:
مما يقال ولا حقيقة تحته
معقول تدنوا إلى الأفهام
الكسب عنه الأشعري والحال
عند البهشمي وطفرة النظام
ولهذا قال الرازي الذي عجز هو الآخر عن فهمها: "إن الإنسان مجبور في صورة مختارة".
أما البغدادي فأراد أن يوضحها فذكر مثالاً لأحد أصحابه في تفسيرها شبّه فيه اقتران قدرة الله بقدرة العبد مع نسبة الكسب إلى العبد "بالحجر الكبير قد يعجز عن حمله رجل ويقدر آخر على حمله منفرداً به فإذا اجتمعا جميعاً على حمله كان حصول الحمل بأقواهما، ولا خرج أضعفهما بذلك عن كونه حاملاً"!!.
وعلى مثل هذا المثال الفاسد يعتمد الجبرية وبه يتجرأ القدرية المنكرون، لأنه لو أن الأقوى من الرجلين عذّب الضعيف، وعاقبه على حمل الحجر فإنه يكون ظالماً باتفاق العقلاء، لأن الضعيف لا دور له في الحمل، وهذه المشاركة الصورية لا تجعله مسؤولاً عن حمل الحجر.
والإرادة عند الأشاعرة معناها "المحبة والرضا" وأولوا قوله تعالى: { وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } بأنه لا يرضاه لعباده المؤمنين! فبقي السؤال وارداً عليهم: وهل رضيه للكفار أم فعلوه وهو لم يرده؟.
وفعلوا بسائر الآيات مثل ذلك.
ومن هذا القبيل كلامهم في الاستطاعة، والحاصل أنهم في هذا الباب خرجوا عن المنقول والمعقول ولم يعربوا عن مذهبهم فضلاً عن البرهنة عليه!!(1).
السابع: السببية وأفعال المخلوقات:
__________
(1) الإنصاف: 45-46، بهوامش الكوثري، الإرشاد: 187-203، أصول الدين: 133، نهاية الأقدام: 77، المواقف: 311، شفاء العليل 259-261 وغيرها.(107/117)
ينكر الأشاعرة الربط العادي بإطلاق وأن يكون شيء يؤثر في شيء، وأنكروا كل "باء سببية" في القرآن، وكفّروا وبدّعوا من خالفهم ومأخذهم فيها هو مأخذهم في القدر، فمثلاً عندهم: من قال أن النار تحرق بطبعها أو هي علة الإحراق فهو كافر مشرك لأنه لا فاعل عندهم إلا الله مطلقاً، حتى أن أحد نحاة الأندلس من دولة الموحدين التومرتية الأشعرية هدم "نظرية العامل" عند النحاة مدعياً أن الفاعل هو الله!!.
قالوا إن الأسباب علاقات لا موجبات حتى أنهم يقولون: الرجل إذا كسر الزجاجة ما انكسرت بكسره وإنما انكسرت عند كسره، والنار إذا أحرقت ما تحرق ما احترق بسببها وإنما احترق عندها لا بها فالإنسان إذا أكل حتى شبع ما شبع بالأكل وإنما شبع عند الأكل.
الثامن: الحكمة الغائبة:
ينفي الأشاعرة قطعاً أن يكون لشيء من أفعال الله تعالى علّة مشتملة على حكمة تقضي إيجاد الفعل أو عدمه، وهذا نص كلامهم تقريباً، وهو رد فعل لقول المعتزلة بالوجوب على الله، حتى أنكر الأشاعرة كل لام تعليل في القرآن، وقالوا إن كونه يفعل شيئاً لعلّة ينافي كونه مختاراً مريداً. وهذا الأصل تسميه بعض كتبهم "نفي الغرض عن الله" ويعتبرونه من لوازم التنزيه، وجعلوا أفعاله تعالى كلها راجعة إلى محض المشيئة ولا تعليق لصفة أخرى – كالحكمة مثلاً – بها، ورتبوا على هذا أصولاً فاسدة كقولهم بجواز أن يُخلّد الله في النار أخلص أوليائه ويُخلّد في الجنة أفجر الكفار، وجواز التكليف بما لا يُطاق.(107/118)
وسبب هذا التأصيل الباطل عدم فهمهم ألا تعارض بين المشيئة والحكمة أو المشيئة والرحمة. ولهذا لم يثبت الأشاعرة الحكمة مع الصفات السبع واكتفوا بإثبات الإرادة مع أن الحكمة تقتضي الإرادة والعلم وزيادة حتى أن من المعاصرين من أضافها مثل سعيد حوى(1).
التاسع: النبوات:
يختلف مذهب الأشاعرة عن مذهب أهل السنة والجماعة في النبوات اختلافاً بعيداً، فهم يقررون أن إرسال الرسل راجع للمشيئة المحضة – كما في الفقرة السابقة – ثم يقررون أنه لا دليل على صدق النبي إلا المعجزة، ثم يقررون أن أفعال السحرة والكهان من جنس المعجزة لكنها لا تكون مقرونة بادعاء النبوة والتحدي، قالوا: ولو ادّعى الساحر أو الكاهن النبوة لسلبه الله معرفة السحر رأساً وإلا كان هذا إضلالاً من الله وهو يمتنع عليه الإضلال.. إلى آخر ما يقررونه مما يخالف المنقول والمعقول، ولضعف مذهبهم في النبوات مع كونها أخطر أبواب العقيدة إذ كل أمورها متوقفة على ثبوت النبوة أغروا أعداء الإسلام بالنيل منه واستطال عليهم الفلاسفة والملاحدة.
والصوفية منهم كالغزالي يفسرون الوحي تفسيراً قرمطياً فيقولون هو انتقاش العلم الفائض من العقل الكلي في العقل الجزئي(2).
العاشر: التحسين والتقبيح:
__________
(1) انظر: المواقف: 331، شرح الكبرى: 322، 423، شرح أم البراهين: 36، النبوات: 163-230، مجموع الفتاوى: 16/299، وقد أطال ابن القيم في رد شبه الأشاعرة في شفاء العليل: انظر مثلاً ص291 إلى 521، حيث رد عليهم من 36 وجهاً، ومنهاج السنة: 1/128 الطبعة القديمة. الله جل جلاله (سعيد حوى): 90 وقد ذكر الحكمة ضمن الظواهر ولم يذكرها ضمن الصفات.
(2) انظر: الإرشاد: 306، 356، نهاية الأقدام: 461، أصول الدين: 176، المواقف: 359-361، غاية المرام: 318، الرسالة اللدنية: 1/114-118 (من مجموعة القصور العوالي).(107/119)
ينكر الأشاعرة أن يكون للعقل والفطرة أي دور في الحكم على الأشياء بالحسن والقبح ويقولون مرد ذلك إلى الشرع وحده، وهذا رد فعل مغال، لقول البراهمة والمعتزلة أن العقل يوجب حسن الحسن وقبح القبيح، وهو مع منافاته للنصوص مكابرة للعقول، ومما يترتب عليه من الأصول الفاسدة قولهم أن الشرع قد يأتي بما هو قبيح في العقل فإلقاء دور العقل بالمرة أسلم من نسبة القبح إلى الشرع، مثلاً ومثّلوا لذلك بذبح الحيوان فإنه إيلام له بلا ذنب وهو قبيح في العقل ومع ذلك أباحه الشرع، وهذا في الحقيقة قول البراهمة الذين يحرمون أكل الحيوان فلما عجز هؤلاء عن رد شبهتهم ووافقوهم عليها أنكروا حكم العقل من أصله وتوهموا أنهم بهذا يدافعون عن الإسلام. كما أن من أسباب ذلك مناقضة أصل من قال بوجوب الثواب والعقاب على الله بحكم العقل ومقتضاه(1).
الحادي عشر: التأويل:
ومعناه المبتدع صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى احتمال مرجوح لقرينة فهو بهذا المعنى تحريف للكلام عن مواضعه كما قرّر ذلك شيخ الإسلام.
وهو أصل منهجي من أصول الأشاعرة وليس هو خاصاً بمبحث الصفات بل يشمل أكثر نصوص الإيمان خاصة ما يتعلق بإثبات زيادته ونقصانه وتسمية بعض شُعبه إيماناً ونحوها، وكذا بعض نصوص الوعد والوعيد وقصص الأنبياء خصوصاً موضوع العصمة، وبعض الأوامر التكليفية أيضاً.
وضرورته لمنهج عقيدتهم أصلها أنه لما تعارضت عندهم الأصول العقلية التي قرّروها بعيداً عن الشرع مع النصوص الشرعية وقعوا في مأزق ردّ الكل أو أخذ الكل، فوجدوا في التأويل مهرباً عقلياً من التعارض الذي اختلقته أوهامهم، ولهذا قالوا إننا مضطرون للتأويل، وإلا أوقعنا القرآن في تناقض. وأن الخلف لم يؤولوا عن هوى ومكابرة وإنما عن حاجة واضطرار؟ فأي تناقض في كتاب الله يا مسلمون نضطر معه إلى ردّ بعضه أو الاعتراف للأعداء بتناقضه؟.
__________
(1) المصادر السابقة.(107/120)
وقد اعترف الصابوني بأن في مذهب الأشاعرة "تأويلات غريبة"، فما المعيار الذي عرف به الغريب من الغريب؟.
وهنا لابد من زيادة التأكيد على أن مذهب السلف لا تأويل فيه لنص من النصوص الشرعية إطلاقاً ولا يوجد نص واحد – لا في الصفات ولا غيرها – اضطر السلف إلى تأويله ولله الحمد، وكل الآيات والأحاديث التي ذكرها الصابوني وغيره تحمل في نفسها ما يدل على المعنى الصحيح الذي فهمه السلف منها والذي يدل على تنزيه الله تعالى دون أدنى حاجة إلى التأويل.
أما التأويل في كلام السلف فله معنيان:
التفسير كما تجد في تفسير الطبري ونحوه "القول في تأويل هذه الآية" أي في تفسيرها.
الحقيقة التي يصير إليها الشيء كما في قوله تعالى: { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } أي تحقيقها وقوله: { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } أي تحقيقه ووقوعه.
وإن تعجب فاعجب لهذه اللفظة النابية التي يستعملها الأشاعرة مع النصوص وهي أنها "توهم" التشبيه، ولهذا وجب تأويلها فهل في كتاب الله إبهام أم أن العقول الكاسدة تتوهم والعقيدة ليست مجال توهم.
فالعيب ليس في ظاهر النصوص – عياذاً بالله – ولكنه في الأفهام – بل الأوهام السقيمة. أما دعوى أن الإمام أحمد استثنى ثلاثة أحاديث وقال لابد من تأويلها، فهي فرية عليه افتراها الغزالي في (الإحياء وفيصل التفرقة) ونفاها شيخ الإسلام سنداً ومتناً.(107/121)
وحسب الأشاعرة في باب التأويل ما فتحوه على الإسلام من شرور بسببه فإنهم لما أوّلوا ما أوّلوا تبعتهم الباطنية واحتجت عليهم في تأويل الحلال والحرام والصلاة والصوم والحج والحشر والحساب، وما من حجة يحتج به الأشاعرة عليهم في الأحكام والآخرة إلا احتج الباطنية عليهم بمثلها أو أقوى منها من واقع تأويلهم للصفات. وإلا فلماذا يكون تأويل الأشاعرة لعلو الله – الذي تقطع به العقول والفطر والشرائع – تنزيهاً وتوحيداً وتأويل الباطنية للبعث والحشر كفر وردّة(1)
__________
(1) عن التأويل جملة انظر كتاب ابن فورك كاملاً، والإنصاف: 56، 156، وغيرها والإرشاد: فصل كامل له، أساس التقديس: فصل كامل أيضاً. وعن الثلاثة أحاديث انظر: إحياء علوم الدين طبعة الشعب: 1/179، والرد في مجموع الفتاوى 5/398، وانظر كذلك 6/397، 580 .
تنبيه حول التأويل: التأويل الذي يذكره الفقهاء في باب البغاة وقد يرد في بعض كتب العقيدة لا سيما في موضوع التكفير والاستحلال هو غير التأويل المذكور هنا إن كانت أكثر الكتب تسميه تأويلاً وهو في الحقيقة تأولاً لأن الفعل الماضي منه "تأول".
فالتأول هو: وضع الدليل في غير موضعه باجتهاد أو شُبه تنشأ من عدم فهم دلالة النص، وقد يكون المتأول مجتهداً مخطئاً فيُعذر وقد يكون متعسفاً متوهماً فلا يُعذر فيه، وعلى كل حال يجب الكشف عن حاله وتصحيح فهمه قبل الحكم عليه، ولهذا كان من مذهب السلف عدم تكفير المتأول حتى تقام عليه الحجة مثلما حصل مع بعض الصحابة الذين شربوا الخمر في عهد عمر متأولين قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } الآية. ومثل هذا من أوّل بعض الصفات عن حسن نية متأولاً قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فهو مؤول متأول ولا يكفر، ولهذا لم يطلق السلف تكفير المخالفين في الصفات أو غيرها لأن بعضهم أو كثير منهم متأولون. أما الباطنية فلا شك في كفرهم لأن تأويلهم ليس لأي شبه بل أرادوا هدم الإسلام عمداً بدليل أنهم لم يكتفوا بتأويل الأمور الاعتقادية بل أوّلوا الأحكام العملية كالصلاة والصوم والحج. إلخ..(107/122)
.
أليس كل منهما رداً لظواهر النصوص، مع أن نصوص العلو وأكثر وأشهر من نصوص الحشر الجسماني؟. ولماذا يكفّر الأشاعرة الباطنية ثم يشاركونهم في أصل من أعظم أصولهم؟.
الثاني عشر: السمعيات:
يُقسّم الأشاعرة أصول العقيدة بحسب مصدر التلقي إلى ثلاثة أقسام:
قسم مصدره العقل وحده وهو معظم الأبواب ومنه باب الصفات ولهذا يسمون الصفات السبع "عقلية" وهذا القسم هو" ما يحكم العقل بوجوبه" دون توقف على الوحي عندهم.
قسم مصدره العقل والنقل معاً كالرؤية – على خلاف بينهم فيها – وهذا القسم هو "ما يحكم العقل بجوازه استقلالاً أو بمعاضدة الوحي".
قسم مصدره النقل وحده وهو السمعيات أي المغيبات من أمور الآخرة كعذاب القبر والصراط والميزان وهو عندهم: ما لا يحكم العقل باستحالته لكن لو لم يرد به الوحي لم يستطع العقل إدراكه منفرداً. ويدخلون فيه التحسين والتقبيح والتحليل والتحريم.
والإيمان بالآخرة وهو أصل كل السمعيات ليس هو في مذهب أهل السنة سمعياً فقط بل إن الأدلة عليه من القرآن هي في نفسها عقلية كما إن الفطر السليمة تشهد به فهو حقيقة مركوزة في أذهان البشر ما لم يجرفهم عنها جارف. لكن لو أن العقل حكم باستحالة شيء من تفصيلاته – فرضاً وجدلاً – فحكمه مردود وليس إيماننا به متوقفاً على حكم العقل. وغاية الأمر أن العقل قد يعجز عن تصوره إما أن يحكم العقل باستحالته فغير وارد ولله الحمد(1).
الثالث عشر: التكفير:
التكفير عند أهل السنة والجماعة حق لله تعالى لا يُطلق إلا على من يستحقه شرعاً ولا تردده على إطلاقه على ثبت كفره بشروطه الشرعية.
__________
(1) انظر: الإرشاد: 358، الإنصاف 55، شرح الإصفهانية 49، النبوات 48، وانظر الجزء الثاني من مجموع الفتاوى 7-27 .(107/123)
أما الأشاعرة فهم مضطربون اضطراباً كبيراً فتارة يقولون نحن لا نكفّر أحداً، وتارة يقولون نحن لا نكفّر إلا من كفّرنا وتارة يكفرون بأمور لا تستوجب أكثر التفسيق أو التبديع وتارة يكفرون بأمور لا تُوجب مجرد التفسيق وتارة يكفّرون بأمور هي نفسها شرعية، ويجب على مسلم أن يعتقدها.
فأما قولهم لا نكفّر أحداً فباطل قطعاً إذ في المنتسبين إلى الإسلام فضلاً عن غيرهم كفار لا شك في كفرهم، وأما قولهم لا نكفّر إلا من كفّرنا فباطل كذلك، إذ ليس تكفير أحد لنا بمسوغ أن نكفّره إلا إذا كان يستحق ذلك شرعاً.
وأما تكفير من لا يستحق سوى التبديع فمثل تصريحهم في أغلب كتبهم بتكفير من قال إن الله جسم لا كالأجسام، وهذا ليس بكافر بل هو ضال مبتدع لأنه أتى بلفظ لم يرد به الشرع، والأشاعرة تستعمل ما هو مثله وشر منه. وأما تكفير من لا يستحق حتى مجرد الفسق أو المعصية فكما مر في الفقرة السابعة من تكفيرهم من قال إن النار علة الإحراق والطعام علة الشبع.
وأما التكفير بما هو حق في نفسه يجب اعتقاده فنحو تكفيرهم لمن يثبت علو الله ومن لم يؤمن بالله على طريقة أهل الكلام وكقولهم إن الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر، كقولهم أن عبادة الأصنام فرع من مذهب المشبهة ويعنون بهم أهل السنة والجماعة.
ومن شواهد تكفير بعضهم قديماً وحديثاً لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وحسبك ما في كتب الكوثري وتلميذه براءة الأشعريين(1).
المصادر الإسلامية
الأم للشافعي.
الأنوار الكاشفة، عبد الرحمن المعلمي اليماني، عالم الكتب، بيروت 1402ه.
البرهان في تبرئة أبي هريرة من البهتان، عبد الله الناصر، دار النصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، القاهرة 1419ه.
التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة لأبي بكر الآجري، تحقيق: محمد غياث، دار عالم الكتب، الطبعة الثانية 1406، الرياض.
__________
(1) انظر: المواقف: 392، أساس التقديس: 16، 196، شرح الكبرى 62، أركان الإيمان 298-299.(107/124)
تفسير الطبري.
تفسير ابن كثير.
تفسير فتح القدير.
تفسير روح المعاني للألوسي.
تلخيص الحبير لابن حجر العسقلاني.
الجامع الصغير للسيوطي.
جمع الجوامع للسيوطي.
دفاع عن السنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار اللواء، الطبعة الثانية، الرياض 1407ه.
الرافضة وتفضيل زيارة قبر الحسين على حج بيت الله الحرام، د. عبد المنعم السامرائي، مكتبة ابن تيمية، الطبعة الأولى 1412ه.
الرسالة للشافعي.
روضة الطالبين للنووي.
سبل السلام للصنعاني.
سنن أبي داود.
سنن البيهقي.
سنن الدارقطني.
سنن الدارمي.
سنن ابن ماجه.
سنن النسائي.
شرح العقيدة الواسطية، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، إعداد: فهد السليمان، دار الثريا، الطبعة الأولى 1419ه، الرياض .
شرح العقيدة الواسطية، الدكتور صالح الفوزان، دار السلام، الطبعة الثانية 1417ه، الرياض.
صحيح البخاري.
صحيح مسلم.
الصواعق المرسلة على الجهمية والمطلة، ابن القيم، تحقق: د. علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الطبعة الأولى 1408ه، الرياض .
فتح الباري لابن حجر.
فتح العزيز للرافعي.
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، الشيخ محمد الصالح العثيمين، خرج أحاديثه وعلّق عليه: أشرف بن عبد المقصور، أضواء السلف، الرياض 1416ه.
القول الرشيد في حقيقة التوحيد، سليمان بن ناصر العلوان، دار المنار، الطبعة الأولى 1414ه، الرياض .
منتخب مسند عبد بن حميد.
كنز العمال للهندي.
المبسوط للسرخسي.
مجمع الزوائد للهيثمي.
مختصر المزني.
المجموع للنووي.
المحلى لابن حزم.
المستدرك للحاكم النيسابوري.
المدونة الكبرى للإمام مالك.
مسند ابن الجعد.
مسند ابن راهويه.
مسند سعد بن أبي وقاص للدروقي.
مسند أبي داود الطيالسي.
مسند أحمد.
مسند أبي عوانة.
مسند أبي يعلى.
مسند الحميدي.
مصنف ابن أبي شيبة.
المعتزلة بين القديم والحديث، محمد العبدة وطارق عبد الحليم، دار الأرقم، الطبعة الأولى، برمنجهام 1408ه.(107/125)
المغني لابن قدامه.
مغني المحتاج للشربيني.
منهاج السنة لابن تيمية.
منهج الأشاعرة في العقيد، سفر بن عبد الرحمن الحوالي، الدار السلفية، الطبعة الأولى 1407ه، الكويت .
الموطأ للإمام مالك.
موقف ابن تيمية من الأشاعرة، د. عبد الرحمن المحمود، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى 1415ه، الرياض .
نيل الأوطار للشوكاني.
وغير ذلك من المراجع المذكورة في الحواشي.
المصادر الشيعية
الاحتجاج، الطبرسي.
أحكام الخلل في الصلاة، مرتضى الأنصاري، تحقيق: لجنة التحقيق، الطبعة الأولى – ربيع الأول 1413ه، قم ، الأمانة العامة للمؤتمر المئوي لميلاد الأنصاري .
إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، الحسن بن يوسف بن المطهر، تحقيق: فارس الحسون، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجامعة المدرسين بقم، الطبعة الأولى 1410ه.
إرشاد السائل، الكلبايكاني.
إشارة السبق، علي بن الحسن الحلبي، تحقيق: إبراهيم بهادري، الطبعة الأولى 1414ه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم .
الإثنا عشرية، بهاء الدين العاملي.
الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، محمد بن الحسن الطوسي.
الاستغاثة في بدع الثلاثة، أبو القاسم الكوفي.
الأصول الستة عشر، الناشر: دار الشبسترى للمطبوعات، قم الطبعة الثانية 1405ه.
الاقتصاد، الطوسي.
الأقطاب الفقهية على مذهب الإمامية، ابن أبي جمهور الأحسائي، تحقيق: محمد الحسون، مكتبة المرعشي النجفي – قم، 1410ه، الطبعة الأولى.
الألفية والنقلية، محمد بن مكي العاملي، مركز التحقيق الإسلامي للمكتب الإعلام في الحوزة العلمية قم.
الأمالي، الصدوق.
الإمامة والتبصرة، ابن بابويه القمي.
الانتصار، المرتضى.
الألفية والنقلية، الشهيد الأول.
الأقطاب الفقهية، ابن أبي الجمهورة.
الأنوار النعمانية، نعمة الله الجزائري.
الأنوار الوضية في العقائد الرضوية، حسين العصفور.
أسئلة وأجوبة، اليزدي.
أنوار الأصول، ناصر مكارم الشيرازي.(107/126)
أوائل المقالات، المفيد محمد بن محمد بن النعمان، دار المفيد، الطبعة الثانية 1414ه-1993م، بيروت. لبنان.
الإيضاح، الفضل بن شاذان، تحقيق: جلال الدين الحسيني الأرموي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت، الطبعة الأولى 1402ه.
إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، علق عليه وأشرف على طبعه: حسين الموسوي الكرماني، طبع بأمر محمود الشاهرودي، الطبعة الأولى 1387ه، المطبعة العلمية، بقم .
بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، الطبعة الثانية 1403ه مؤسسة الوفاء، بيروت.
بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ الصفار، مؤسسة الأعلمي – طهران، 1404ه.
بلغة الفقيه، محمد بحر العلوم، منشورات مكتبة الصادق، طهران، الطبعة الرابعة 1403ه.
البيان، محمد بن جمال الدين مكي العاملي، مجمع الذخائر الإسلامي، قم، إيران.
البيان في تفسير القرآن لأبي القاسم الخوئي، دار الزهراء، الطبعة الرابعة 1395، بيروت.
تاريخ الأئمة، نشر: مكتبة المرعشي النجفي – قم، باهتمام: محمود المرعشي، طبع: مطبعة الصدر التاريخ: 1406ه.
تأويل الآيات الطاهرة، شرف الدين الحسيني.
تحف العقول، ابن شعبة الحراني.
تفسير البرهان، هاشم البحراني.
تفسير الصافي، الكاشاني.
تفسير العياشي.
تفسير القمي.
تفسير الميزان، الطباطبائي.
التقية، الخميني.
التقية في فقه أهل البيت، مسلم الدواري.
التوحيد، الصدوق.
ثواب الأعمال، الصدوق.
الجامع العباسي، بهاء الدين العاملي.
الجامع للشرائع، يحيى بن سعيد الحلي.
جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، محمد حسن النجفي.
الحبل المتين، بهاء الدين العاملي.
الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، يوسف البحراني.
الحاشية على القوانين، مرتضى الأنصاري.
حاشية المكاسب، اليزدي.
حاشية المكاسب، النائيني.
حاشية المكاسب، الأصفهاني.
حصر الاجتهاد، آغا بزرك الطهراني.
الحكومية الإسلامية، لخميني.
الخراجيات، المحقق الكركي.(107/127)
الخصال، الصدوق.
الخلاف، الطوسي.
الخلل في الصلاة، الخميني.
الخمس، مرتضى الحائري.
الدر المنضود، الكلبايكاني.
الدرر النجفية، يوسف البحراني.
دليل الناسك، محسن الحكيم.
الذكرى، الشهيد الأولى.
الرسائل العشر، الطوسي.
رسائل فقهية، مرتضى الأنصاري.
رسالة حول خبر مارية، المفيد محمد بن النعمان، تحقيق: مهدي الصباحي، إيران.
شرح دعاء السحر، الخميني.
صراط النجاة، جواد التبريزي.
صلاة الجمعة، محمد مقيم اليزدي.
العقد الحسيني، حسين البهائي.
عوائد الأيام، النراقي.
عيون أخبار الرضا، الصدوق.
فتاوى ابن باز، صالح الورداني، دار الهدف، الطبعة الأولى، القاهرة 1419ه.
فتاوى ابن الجنيد، الاشتهاري.
فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب الأرباب، النوري.
فقه ابن أبي عقيل العماني، مركز المعجم الفقهي.
فقه الرضا، علي بن بابويه.
القضاء والشهادات، مرتضى الأنصاري.
الكافي، الكليني.
كافي الحلبي، أبو الصلاح الحلبي.
كتاب الإجارة، الخوئي.
كتاب الاجتهاد والتقليد، الخوئي.
تكاب البيع، الخميني.
كتاب الحج، الخوئي.
تكاب الحج، الكلبايكاني.
كتاب الخمس، مرتضى الأنصاري.
كتاب الخمس، الخوئي.
كتاب الزكاة، مرتضى الأنصاري.
كتاب الزكاة، الخوئي.
كتاب الشهادات، الكلبايكاني.
كتاب الطهارة، مرتضى الأنصاري، تحقيق: لجنة التحقيق، الطبعة الأولى – ربيع الأول 1415ه، قم، الأمانة العامة للمؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الأنصاري.
كتاب الطهارة، الخميني، أشرف على طبعه وعنى بتصحيحه هاشم الرسولي المحلاتي، قم – جابخانه مهر.
كتاب الطهارة، الخوئي.
كتاب الطهارة، الكلبايكاني.
كتاب الصلاة، المرتضى الأنصاري، الطبعة الأولى 1415ه، الأمانة العامة للمؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الأنصاري، إيران.
كتاب الصلاة، الخوئي.
كتاب الصلاة، تقريرات النائيني للكاظمي.
كتاب الصوم، مرتضى الأنصاري.
كتاب الصوم، الخوئي.(107/128)
كتاب القضاء، الأشتياني.
كتاب القضاء، الكلبايكاني.
كتاب المساقاة، الخوئي.
كتاب المضاربة، الخوئي.
كتاب المكاسب، مرتضى الأنصاري.
كتاب النكاح، مرتضى الأنصاري، تحقيق: لجنة التحقيق، الطبعة الأولى 1415ه، قم، الأمانة العامة للمؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الأنصاري.
كتاب النكاح، الخوئي.
كتاب الغيبة، ابن أبي زينب محمد بن إبراهيم النعماني، تحقيق: علي أكبر الغفاري، مكتبة الصدوق، طهران.
كشف الرموز شرح المختصر النافع، زين الدين أبي علي الحسن بن أبي طالب المعروف بالآبي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم.
كشف الغطاء عن مبهمات شريعة الغراء، جعفر المدعو بكشاف الغطاء انتشارات مهدوي بازار – باغ قلندرها – باساز علوي.
كشف اللثام، الفاضل الهندي.
كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر، علي بن محمد بن علي الخزاز القمي الرازي، تحقيق: عبد اللطيف الحسيني الكوه كمرى الخوئي، انتشارات بيدار، قم (1401ه).
كفاية الأحكام، محمد باقر السبزواري، مركز نشر أصفهان بازار مدرسة صدر مهدوي.
كمال الدين وتمام النعمة، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، صححه وعلق عليه: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، إبران، محرم الحرام 1405ه.
اللمعة الدمشقية، الشهيد الأول، دار الفكر، إيران – قم، الطبعة الأولى 1411ه.
اللوامع النورانية في أسماء علي وأهل بيته القرآنية، هاشم البحراني، الطبعة الأولى 1394ه، المطبعة العلمية، قم .
مائة منقبة من مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من ولده من طريق العامة، محمد بن أحمد بن علي بن الحسن القمي المعروف بابن شاذان، مدرسة المهدي، قم.
مباني تكملة المنهاج، أبو القاسم الخوئي، الطبعة الثانية، طبع في المطبعة العلمية بقم 1396ه.(107/129)
المبسوط في فقه الإمامية، محمد بن الحسن بن علي الطوسي، صححه وعلق عليه: محمد تقي الكشفي، عنيت بنشره – المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، إيران.
مثير الأحزان، ابن نما الحلي، منشورات المطبعة الحيدرية في النجف 1369ه-1950م.
المجازات النبوية، الشريف الرضي، تحقيق وشرح الدكتور طه محمد الزيني، مكتبة بصيرتي، قم – شارع إرم.
مجمع الفائدة والبرهان، الأردبيلي.
المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عنى بنشره وتصحيحه والتعليق عليه جلال الدين الحسيني، دار الكتب الإسلامية، إيران.
محصل المطالب في تعليقات المكاسب، صادق الطهوري، الطبعة الأولى 1419ه، انتشارات أنوار الهدى، إيران.
المختصر النافع في فقه الإمامية، جعفر الحلي، منشورات: قم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة، الطبعة الثالثة: طهران 1410ه.
مختصر الأحكام: محمد رضا الموسوي الكلبايكاني، دار القرآن الكريم، إيران.
مختصر الأحكام، الكلبايكاني.
مختصر بصائر الدرجات، حسن بن سليمان الحلي، الطبعة الأولى، منشورات المطبعة الحيدرية في النجف 1370ه.
مختلف الشيعة، الحسن بن يوسف بن المطهر، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة: الأولى 1412ه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم..
مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، محمد بن علي العاملي. تحقيق: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – مشهد، الطبعة الأولى 1410ه.
مدينة المعاجز، هاشم بن سليمان البحراني، تحقيق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامية/ بإشراف عزة الله المولائي. الطبعة الأولى 1413ه.
المراسم العلوية، حمزة بن عبد العزيز الديلمي، تحقيق: محسن الحسيني الأميني، الناشر: المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت، 1414ه، قم .
مزار الشهيد الأول، محمد بن مكي العاملي، تحقيق ونشر مدرسة المهدي، قم، الطبعة الأولى 1410ه.(107/130)
مزار المشهدي، محمد بن المشهدي، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني، الطبعة الأولى 1419ه، إيران .
المسائل الصاغانية، المفيد، تحقيق: محمد القاضي، الطبعة الأولى 1413ه، الناشر: المؤتمر العالمي لألفية المفيد، إيران.
مستمسك العروة الوثقى، محسن الحكيم.
المسائل الطوسية، المفيد محمد بن محمد بن النعمان، إيران.
المسائل الفقهية، عبد الحسين شرف الدين.
مسائل علي بن جعفر ومستدركاتها، تحقيق: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – قم – نشر: المؤتمر العالمي للإمام الرضا – مشهد – الطبعة الأولى – ذو القعدة 1409ه.
مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، زين الدين بن علي العاملي، تحقيق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامية، إيران، الطبعة الأولى 1413ه.
مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، حسين النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأولى 1408ه-1987م، بيروت.
المسترشد في إمامة أمير المؤمنين، محمد بن جرير بن رستم الطبري الشيعي، تحقيق: أحمد المحمودي، الناشر: مؤسسة الثقافة الإسلامية، قم – الطبعة الأولى.
مستند الشيعة في أحكام الشريعة، أحمد بن محمد مهدي النراقي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – مشهد، الطبعة الأولى 1415ه.
مستمسك العروة، محسن الطباطبائي الحكيم، الطبعة الرابعة، مكتبة المرعشي النجفي، قم – إيران 1404ه.
مسند الإمام الرضا، تحقيق: عزيز الله العطاردي، الناشر: المؤتمر العالمي للإمام الرضا، 1406ه، إيران .
مسند الرضا، داود بن سليمان بن يوسف الغازي، تحقيق: محمد جواد الحسيني الجلالي، الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، 1418ه.
مشارق الشموس الدرية في أحقية الطائفة الإخبارية، عدنان البحراني/ المكتبة العدنانية بالبحرين، الطبعة الأولى 1406ه.
مشارق الشموس، الخوانساري.
مشرق الشمسين، بهاء الدين العاملي.(107/131)
مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، علي الطبرسي، الطبعة الثانية، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف 1385ه-1965م.
مصادر الاستنباط بين الأصوليين والإخباريين، محمد الغراوي.
مصباح الشريعة: جعفر الصادق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1400ه-1980م.
مصباح الفقاهة، أبو القاسم الموسوي الخوئي، المطبعة الحيدرية، النجف 1374ه-1954م، الطبعة الثانية، مطبعة سيد الشهداء، قم.
مصباح الفقيه، محمد بحر العلوم.
مصباح المتهجد، محمد بن الحسن الطوسي، الطبعة الأولى 1411ه-1991م مؤسسة فقه الشيعة، بيروت – لبنان.
مصباح المنهاج، محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، مؤسسة المنار، الطبعة الأولى 1415ه-1994م، إيران.
المعتبر في الشرح المختصر، المحقق الحلي، مؤسسة سيد الشهداء، 1364ه.
معدن الجواهر ورياضة الخواطر، محمد بن علي الكراجكي، تحقيق: أحمد الحسيني، الطبعة الثانية، قم 1394ه.
معالم المدرستين، مرتضى العسكري.
معاني الأخبار، الصدوق.
مصباح المنهاج، محمد سعيد الحكيم.
معجم أحاديث المهدي، الهيئة العلمية في مؤسسة المعارف الإسلامية تحت إشراف علي الكوراني، مؤسسة المعارف الإسلامية، الطبعة الأولى 1411ه. قم.
معجم رجال الحديث، الخوئي.
مفتاح الفلاح، بهاء الدين العاملي.
مقتضب الأثر في النص على الأئمة الاثنى عشر، أحمد بن عبيد الله بن عياش الجوهري، مكتبة الطباطبائي قم، مدرسة فيضية المطبعة العلمية – قم.
مقتل الحسين: لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف، منشورات المكتبة العامة المرعشي النجفي، تعليق: حسن الغفاري، محرم الحرام 1398 المطبعة العلمية قم.
المقنع، محمد بن علي بن بابويه، التحقق: لجنة التحقيق التابعة لمؤسسة الإمام الهادي، الناشر: مؤسسة الإمام الهادي – قم 1415ه.
المقنع في الغيبة، المرتضى، تحقيق: محمد علي الحكيم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – قم، الطبعة الأولى 1416ه.(107/132)
المقنعة، المفيد، تحقق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية 1410ه. مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم.
المكاسب المحرمة، مرتضى الأنصاري، تحقيق: محمد حسين أمر الله، محمد رضا فاكر، الطبعة الأولى 1418ه. مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم.
المكاسب المحرمة، الخميني، مؤسسة إسماعيليان، الطبعة الثالثة 1410ه، إيران .
منار الهدى في النص على إمامة الأئمة الاثني عشر، علي البحراني، وحققه وعلق عليه عبد الزهراء (!!!) الخطيب، دار المنتظر، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1405ه.
مناسك الحج، الكلبايكاني.
مناسك الحج، علي السيستاين.
مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، قام بطبعه محمد كاظم الكتبي صاحب المكتبة والمطبعة الحيدرية، 1376ه-1956م، المطبعة الحيدرية في النجف.
مناقب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، محمد بن سليمان الكوفي، تحقيق: محمد باقر المحمودي، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، الطبعة الأولى 1412ه إيران – قم.
منتهى المطلب في تحقيق المذهب، الحلي، التحقيق: قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلامية. الناشر: مجمع البحوث الإسلامية، إيران، مشهد، الطبعة الأولى 1412ه.
من لا يحضره الفقيه، الصدوق.
الهداية الكبرى، الحسين بن حمدان الخصيبي، الطبعة الرابعة 1411ه-1991م، مؤسسة البلاغ، بيروت.
الوافي، الفيض الكاشاني.
وسائل الشيعة، الحر العاملي.
الوسيلة إلى نيل الفضيلة، أبي جعفر الطوسي المعروف بابن حمزة، تحقيق: محمد الحسون، مكتبة المرعشي النجفي – قم، 1408ه، الطبعة: الأولى.
وغيرها من المصادر المذكورة في حواشي الكتاب.
تم الكتاب ولله الحمد.(107/133)
رسالة جوابية على مذكرة
أستاذ شيعي إثني عشري
أ.د. أحمد بن سعد حمدان الغامدي
الأستاذ بالدراسات العليا
قسم العقيدة – بجامعة أم القرى
المملكة العربية السعودية
مكة المكرمة العزيزية
ص . ب . ( 7998 )
جوال : 0553544535
تلفاكس : 5591294 /02
Email : asghamdi@uqu.edu.sa
قامت شبكة الدفاع عن السنة بنشر هذه المادة على شبكة الإنترنت نسأل الله أن يجعل عملنا خالصاً لوجه الكريم آمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وبعد:
... ففي شهر رمضان المبارك من عام 1423هـ زارني في منزلي السيد/أبو مهدي الحسيني القزويني "أستاذ في إحدى جامعات إيران" راغبًا في إجراء حوار بيني وبينه في القضايا الخلافية بين أهل السنَّة والشيعة الإمامية فأبديت موافقتي وافتتحت اللقاء بكلمة بين يدي الحوار لا أذكرها بتفاصيلها الآن لأنَّني لم أكن أظن أنَّ الاتصال سيستمر بيني وبينه، وأنا أسجل هذا الكلام بعد مرور سنتين تقريبًا من اللقاء.
... وملخص الكلمة التي ذكرتها بين يدي الحوار ما يلي:
... "ذكرت أنَّ الله - عز وجل - يبعث الرسل ليقيم بهم الحجة على الخلق كما قال تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) ثمَّ ختمهم بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو آخر الرسل ولم يعد بعده رسول يأتي ليصحح للناس أو يجدد لهم ما عدا عيسى - عليه السلام - سيأتي في آخر الزمان متبعًا لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
... ولهذا فلا بد أن يهيء الله - عز وجل - لهذا النبي الكريم من أسباب النجاح وإقامة الحجة ما يقطع به عذر الناس إلى قيام الساعة.
... ولا يتم ذلك إلاَّ إذا توافرت عدة أمور منها:
... أولاً: أن يكون كتابه الذي ينزله عليه شاملاً لكل حاجات الناس الدينية.
... ثانيًا: أن يحفظه من كل نقص أو زيادة حتَّى تقوم به الحجة.(108/1)
... ثالثًا: أن يهيء رجالاً يحفظون هذا الدين ويبلغونه للناس.
... فهل تحققت هذه الأمور في دعوته أم لا؟
... عند السنة: تحققت.
... وعند الشيعة الإمامية: لم تتحقق.
... أهل السنَّة يقولون: إنَّ الله - عز وجل - قد أنزل كتابًا كافيًا عاصمًا للأمَّة يكفيها في معرفة دينها ولا تحتاج معه إلى غيره ، فإنَّ الله تعالى قد بين ذلك وأكده في غير ما آية.
... قال تعالى: (إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) [سورة الإسراء (آية"9")].
... وقال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن..) [سورة محمد (آية"24")].
... وقال تعالى: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) [سورة ق (آية"45")].
... وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول..).
... والقرآن قد تعهد الله - عز وجل - بحفظه، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه.
... ثمَّ إنَّ الله - عز وجل - قد هيَّأ للنبي - صلى الله عليه وسلم - أشراف الناس وأخيارهم فآمنوا به، ونصروه، ثمَّ حملوا الراية من بعده جهادًا ودعوةً وتعليمًا، وها هو الدين يغطي قرابة ربع المعمورة ولا زال غضًا طريًا يهتدي به كل من أراد الحق.
... هذا معتقد أهل السنة.
... أمَّا الشيعة الإمامية فإنَّها تزعم أنَّ القرآن غير كافٍ فلا بد من: "إمام" يبينه للناس وإنَّ هذا الإمام لم يُمكَّن ـ أي إمام مع إيقاف التنفيذ ـ.
... وغالبية علماء الشيعة الإمامية القدماء يزعمون أنَّ القرآن ناقص فانتهت الثقة به لأنَّا لا ندري ما نقص منه وإذا قبل النقص قبل الزيادة.
... وكل الشيعة الإمامية تزعم أنَّ الصحابة الذين يقدر عدد من وردت أسماؤهم في الكتب بعشرة آلاف_كلهم قد ارتدوا وخانوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ أربعة أشخاص مع عليّ - رضي الله عنهم -_.
... وبهذا فقد حكموا على هذا الدين بالفشل منذ اللحظة الأولى:
... فشل القرآن في التأثير.(108/2)
... وفشل الرسول في التربية".
... هذا معنى افتتحت به اللقاء.
... ثمَّ جرى حوار لا أذكر بقية تفاصيله.
... لكن الأستاذ أبا مهدي كان مؤدبًا أثناء الحوار ويترضَّى عن الصحابة ويدعي أنَّه لا يسبهم..ونحو ذلك من الكلام.
... ثمَّ جرى حديث عن تصحيح الأحاديث وهل إذا صحح أحد علماء السنة حديثًا يُقبل؟
... فقلت: إنَّ علماء الحديث من أهل السنَّة قد وضعوا ضوابط لقبول الحديث أو رده فإذا توافرت في الحديث قُبل، وإذا اختلفت تلك الضوابط حكم على الحديث على ضوئها.
... فإذا خالف أحد العلماء هذه الضوابط فصحح حديثًا رُد العالم إلى تلك الضوابط.
... ولهذا نرى العالم يصحح حديثًا ويرد عليه عالم آخر منبهًا إلى اختلال شروط الصحة في ذلك الحديث.
... وقد يوثق العالم راويًا ويطلع عالم آخر على نقص شروط التوثيق فيه فيرد على العالم الذي وثقه.
... فأهل السنَّة أهل منهج يحكم لهم وعليهم(1).
... وانتهى اللقاء ثمَّ أرسل إليَّ قبل مغادرته مكة المكرمة برسالة مكونة من صفحتين يستفسر فيها عن بعض الأحاديث ومسائل أخرى.
... وقد أجبته إجابات مختصرة ركزت فيها على الجانب العقلي لأنَّ عرض أقوال أهل السنَّة لا تقنع عندهم.
... وبعد سنة وثلاثة أشهر تقريبًا وصلتني رسالة هاتفية خطية ـ فاكس أرفقت صورتها مع البحث ـ يشير فيها إلى أنَّه قد عكف على إجاباتي المختصرة قرابة: "خمسمائة ساعة" لمراجعة ما يتعلق بها من كتب الشيعة وكتب السنَّة، ثمَّ كتب بحثًا يرد فيه على رسالتي تلك.
... وقد وصلني هذا البحث في منتصف شهر ربيع الآخر من عام 1425هـ وعندما وقفت عليه وجدته بحثًا غريبًا.. غريبًا في منهجه، وغريبًا في نتائجه.. غريبًا في أدلته، وغريبًا في مفاهيمه.
... فرأيت أنَّه يلزمني عرض هذا البحث وإظهار ما تضمنه من تلك الغرائب مع نقدها وكشف خطئها.
__________
(1) وسيأتي مزيد بيان بمشيئة الله تعالى في البحث لمنهجية أهل السنة.(108/3)
... فاستقطعت جزءًا من وقتي وكتبت هذا البحث والذي استغرق قرابة الشهرين كان كتابة جلها في مكة المكرمة ثمَّ أكملته خارجها.
... وأعتذر عن عدم ترتيب البحث بالصورة الجيدة وذلك لأنَّه لم يسبق تخطيط وإعداد وإنَّما كان ردًا على بحث اشتمل على مسائل متنوعة قد يتطلب ضرورة البحث أحيانًا إلى التكرار أو الإحالة ونحو ذلك، إضافة إلى رغبتي في أن يعود الجواب إلى الأستاذ أبي مهدي في أقرب وقت مع المعتمرين قبل شهر رمضان.
... وقد أوردت كلام الأستاذ أبي مهدي مفرقًا في أكثر من مائة وستين فقرة ثمَّ أعقب عليها بما يتيسر من الجواب.
... وقد أرفقت الرسائل التي جرت بيني وبينه بالبحث وجعلتها بين يديه لتكون مدخلاً إلى البحث.
... كل ذلك رغبةً في أن يحقق هذا البحث إيقاظًا له ولكل شيعي إلى خطورة عقائدهم وهشاشة قواعدهم لاستدراك أنفسهم قبل الرحيل وسميته:
" "
هذا وأسأل الله - عز وجل - أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه
ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
أ.د/ أحمد بن سعد حمدان الغامدي
مكة المكرمة
بسبسم الله الرحمن الرحيم
( الأسئلة الأولى التي سألها أبو مهدي من خلال هذه الرسالة التي أرسلها إليّ )
الأخ الفاضل المحقق الأستاذ سماحة الدكتور أحمد سعد حمدان
سلامٌ عليكم
... أقدم شكري الوافر إلى سماحتكم كما أقدم ثنائي العاطر مما شاهدت من أخلاقكم الحسنة وإكرامكم الجميلة.
... ولقد استفدت من جنابكم كثيرًا وأرجوا أن يستمر هذا اللقاء ولا يكون آخر العهد من زيارتكم.
... وفي الختام أقدم إلى سماحتكم بعض الأسئلة ، راجيًا أن أزور ( قلت لعلها أزود ) منكم أجوبة مستدلة! تقنع النفس بها.(108/4)
... ماذا تقول سماحة الأستاد فيما رواه البخاري وغيره بأن عدة من الأصحاب يدخلون النار يوم القيامة ويقول رسول الله: يارب أصحابي! أصحابي! فيقال ما تدري ما أحدثوا بعدك فإنّهم ارتدّوا بعدك على أعقابهم.
... هل مضمون هذه الروايات لم تكن مخالفة لوثاقة الأصحاب؟
... ماذا تقول ما ورد من سب بعض الأصحاب بعضًا آخر ؟ هل يوجب الفسق في الساب أم لا؟
... أو الاجتهاد والخطأ والوصول إلى أجر واحد ، يختص بالأصحاب أو يعمّ غيرهم من الفقهاء وأصحاب الفتيا؟
... ماذا تقول فيما جرى على بعض الأصحاب أو شرك في قتله؟ هل يحكم فيهم بأنّهم اجتهدوا وأخطؤو ولهم أجر واحد أم لا ؟
... ورد في الروايات المتعددة بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني، وورد أيضًا بأنّ فاطمة هجرت أو غضبت على أبي بكر ولم تكلمه حتى ماتت.
... وكما صرحتم في كلامكم بأنّ فاطمة ماتت وهي غضبان على أبي بكر؟
... هذا لا ينافي قوله تعالى إنّ الذين يؤذون الله ورسوله ... .
... وورد في الروايات الكثيرة بأنّ النبي قال عند موته ائتونى اكتب لكم كتابًا لن تضلّوا بعده أبدًا ومنعه عمر وقال إنّ النبي قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، بحيث أذي رسول الله وقال قوموا عنيّ.
... هل يكون عمر أعلم من النبي بمصالح الأمة ؟ وهل لا يعلم رسول الله بأنّ الكتاب يكفي للناس ؟ وهل هذا لم يكن منافيًا لقوله تعالى " ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ".
... وسمعت من سماحتكم بأنّ قوله تعالى " الطيبات للطيبين " يدل على أنّ عائشة زوجة كانت طيبة لكون النبي من الطيبين.
... ماذا يقول سماحة الاستاد في توجيه هذه الآية وما في قوله تعالى " ضرب الله مثلاً للذين كفروا إمرأة نوح وإمرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا ... وقيل ادخلا النار مع الداخلين".
... هل نوح النبي لم يكن طيبًا وكذلك لوط؟(108/5)
... وقد أشرتم في مطاوي كلامكم : بأنّي أعتقد أنّ تسعون بالمائة ما في الكافي عن الصادق كذب.
... وكيف يمكن الوفق بين كلامكم هذا مع ما قال الذهبي : فلو ردّ حديث هؤلاء ( الرواة الشيعة ) لذهب جملة من الآثار النبوية وهذه مفسدة بيّنة . ميزان الاعتدال: 1/56 سير أعلام النبلاء: 1/59 تهذيب الكمال: 2
... نشكركم لو كنت أزور كلامكم هذا مستدلاً بأدلة قاطعة قانعة.
أبو مهدي محمد الحسيني القزويني
( تنبيه: توجد عبارات فيها ركاكة تركتها كما هي).
الإجابة الأولى على أسئلة الأستاذ أبي مهدي
بسم الله الرحمن الرحيم
... حديث البخاري في دخول عدة من الأصحاب النار:
... يحتاج الجواب على ذلك إلى توطيئة وهي بيان فضلهم:
... أولاً: قد ثبت بالأدلة القاطعة من القرآن الكريم والسنَّة النبوية فضل الأصحاب وتزكيتهم من رب العالمين ومن نبيه سيد المرسلين- صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك ما يلي:
من القرآن الكريم:
قال تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم) [سورة التوبة/100/].
أثنى الله - عز وجل - على جميع المهاجرين وجميع الأنصار بدون قيد لأنَّ (ال) للعموم فيما دخلت عليه وجميع الذين اتبعوهم بإحسان فالمتبعون قيدهم بالإحسان وهذا أصل فلا يخرج أحد من المهاجرين والأنصار إلاَّ بدليل قطعي والآية في غاية الوضوح (كنت أستحضر في ذهني الصحابة الذين هم أساس المجتمع المسلم الأول الذين وصفهم الله - عز وجل - بـ: "السابقين").
ثمَّ أثنى الله - عز وجل - على الذين اتبعوهم بإحسان والذين اتبعوهم هم أهل السنَّة وليسوا الشيعة لأنَّ الشيعة ما بين مكفر لهم وذام لهم ـ أعني الشيعة الإمامية المتأخرين بدون استثناء ـ: (أي من أطلق عليهم فيما بعد: الرافضة).(108/6)
وقال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرًا عظيمًا) [سورة الفتح/29/].
ذكر - عز وجل - أنَّه رباهم ورعاهم كما يرعى النبتة التي تخرج من الأرض حتَّى نضجت واكتملت وأنَّ ذلك سيكون سببًا لغيظ الكفار فمن كرههم أو غاضهم لحقه الوعيد.
وقال تعالى:(إنَّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياءبعض..)إلى أن قال تعالى:(والذين آمنواوهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقًا لهم مغفرة ورزق كريم - والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم..) [سورة الأنفال/72-75/].
حكم - عز وجل - للمهاجرين الذين جاهدوا في سبيله ولإخوانهم الأنصار بأنَّهم مؤمنون حقًا ووعدهم مغفرة ورزقًا كريمًا.
... أليس هذا ثناءً من الله - عز وجل - على المهاجرين والأنصار وتأكيد إيمانهم بما لا يدع مجالاً للشك فيهم، فمن شك فيهم فقد كذب الله - عز وجل - ولعل الله سبحانه وتعالى عالم الغيب أراد أن يرد على كل من سيأتي بعد فيطعن فيهم.
وقال تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى) [سورة الحديد/10/].
هذه الآية الكريمة تمدح الذين آمنوا من قبل الفتح وأنفقوا في سبيل الله وقاتلوا لإعلاء كلمة الله - عز وجل - وأنَّ من لحقهم بعد ذلك لا يدرك فضلهم وهذه شهادة عظيمة من الله - عز وجل -.(108/7)
وقال تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ممَّا أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوقَ شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنَّك رؤوف رحيم) [سورة الحشر/8-10/].
أرأيت هذا التقسيم العجيب لطوائف المؤمنين..
مهاجرون
أنصار
متبعون يحبونهم ويدعون لهم ولا يكرهونهم.
أين مكان الإمامية هنا؟؟
وأين مكان أهل السنَّة هنا؟
... هذه بعض الآيات التي تثني على جيل الصحابة الذين جاهدوا لرفع راية الإسلام وما تراه في العالم الإسلامي من خير فهو بسببهم.
... ثمَّ جاءت أجيال أهل السنَّة لتكمل المسيرة فنقلت الدين وفتحت الأرض وعلمت الناس دينهم.
... فأين الأرض التي فتحها أهل التشيع؟
... إنَّ معتقد أهل التشيع يلزم منه أنَّ الدين لم يطبق لأنَّ الصحابة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - خانوه ولم ينفذوا أمره وجاء أئمة أهل التشيع بعد عليّ - رضي الله عنه - ولم يتمكنوا من إبلاغ الدين لأنَّهم لم يُمكَّنوا إذن الدين الحق لم يظهر، وإنَّما عملت به الشيعة في الخفاء وهذا يخالف القرآن الكريم.....
... قال الله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)[سورة النور/55/].
... ألم يتحقق هذا الوعد فاستخلف الله - عز وجل - الأمَّة الإسلامية ومكَّن لهم الدين وأمن الناس في عهود الحكومات الإسلامية؟!
ومن السنَّة:(108/8)
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبوا أصحابي فلو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) [رواه البخاري/ ح/3673/ ومسلم/ح/2541]..
وهذا قاله - صلى الله عليه وسلم - لخالد عندما سبّ عبدالرحمن بن عوف، وعبدالرحمن من السابقين وخالد ممَّن أسلم بعد.
وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير الناس قرني ثمَّ الذين يلونهم ثمَّ الذين يلونهم..) [البخاري/ح/2652/ ومسلم/2533].
وفضائل الصحابة بأسمائهم في الصحيحين وغيرها كثير فراجعها إن شئت.
... وأنت تعلم أنَّ المحققين من أهل السنَّة يتثبتون في الرواية ويدققون في الرواة وخاصة البخاري ومسلمًا فلا يوردون إلاَّ ما صح عندهم.
... بعد هذه المقدمة ننظر في الرواية التي وردت في الحديث السابق:
هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة منهم عبدالله بن عباس وأبو هريرة وأنس وأسماء بنت أبي بكر وكلها في صحيح البخاري.
... وله ألفاظ:
ففي رواية عبدالله بن عباس: (أنَّه سيجاء برجال من أمتي..).
وفي رواية لأبي هريرة: (ألا ليذادن رجال عن حوضي..).
وهنا عدة وقفات:
أولاً: هذه الروايات رواها الصحابة أنفسهم - رضي الله عنهم - وهذه لأمانتهم وصدق إيمانهم ولو كانوا قد ارتدوا ما رووها.
... ثانيًا: المعنى: إمَّا أنَّه يُراد به الصحابة أنفسهم جميعهم وهذا مردود للآيات السابقة والأحاديث الصحيحة في فضلهم جميعًا وفي فضائل أفرادهم.
... وإمَّا أن يُراد به بعضهم (أي الصحابة) وهذا يحتاج إلى دليل قطعي وهذا غير موجود.(108/9)
... وإمَّا أن يُراد به بعض أفراد الأمَّة وسماهم بأصحابه لأنَّ كل أمَّته أصحابه لمشاركته في دينه وفي الجنَّة أي يصاحبونه فيها فعندما يقدم هؤلاء على حوضه وعليهم علامة المسلمين بآثار الوضوء ويمنعون عن الحوض فيقول: أصحابي.. وفي بعضها لا يقول أصحابي وإنَّما يقول: ألا هلم وفي بعضها بالتصغير: أصيحابي والذي يظهر أنَّ هذا هو المراد وهو الذي نعتقده.
حديث فاطمة: إنَّما فاطمة بضعة منِّي يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها.
... سبب هذا الحديث كما هو معروف أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - أراد أن يتزوج ابنة أبي جهل.
... وهنا وقفات:
أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - هو الذي ورد فيه الحديث فهل فعله هذا كان كفرًا حاشاه - رضي الله عنه - وإنَّما أراد أمرًا مباحًا في الشرع وهو التعدد في الزواج ولم يكن يعلم أنَّ لابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خصوصية خاصة فخطب عليها.
وفعله هذا بين أمور ثلاث:
أن يكون كفرًا وهذا لم يقل به أحد ولم يرد أنَّه أسلم من جديد.
وإمَّا أن يكون معصية فتاب منها فقبلت توبته فمحيت معصيته.
أو يكون اجتهادًا خاطئًا ومغفورًا له اجتهاده.
هذا الفعل من علي - رضي الله عنه - يدل أنَّه غير معصوم.
أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - لم يفعل فعلاً مباحًا له أن يفعله وأن لا يفعله وإنَّما فعل فعلاً واجبًا روى فيه حديثًا عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو لشدة حبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخوفه من ربه ما كان ليعصيه وقد سمعه يقول: (لا نورث ما تركناه صدقة).
هذا الحديث رواه أبو بكر وعمر بن الخطاب وقد أشهد عليه عمر من حضره من الصحابة منهم عثمان وعلي والعباس وعبدالرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص فأقروا به كما في الصحيحين أخرجه البخاري في الفرائض/ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا نورث وفي الجهاد والمغازي ورواه مسلم في الجهاد/ باب حكم الفئ..(108/10)
وقد سلمها عمر (أي أموال بني النضير التي كانت ممَّا أفاء الله - عز وجل - بها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لعليّ والعباس ليلياها فاختلفا.
أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - بعد أن تولى الخلافة لم يغير شيئًا ممَّا كان في عهد الشيخين فلم يقسم ميراثًا ولم يعطِ الحسن والحسين رضي الله عنهما شيئًا منه ممَّا يدل على أنَّه قد تحقق عنده قول أبي بكر - رضي الله عنه -.
وفاطمة رضي الله عنها طالبت بميراثها ظنًّا أنَّها ترث كما يرث بقية الناس فلمَّا أُخبرت بالحديث لا نظن بها رضي الله عنها أنَّها استمرت على مطالبتها لأنَّها ما كانت لتخالف أباها عليه الصلاة والسلام ولو خالفت لكان اتباع أمر أبيها وهو المُشرِّع أولى من اتباع قولها.
هب أنَّ أبا بكر اجتهد فأخطأ وهذا فرض ممتنع لوجود النص لكن هب ذلك ـ فليس أقل من فعل عليّ - رضي الله عنه - وما أجبتم به عن عليّ - رضي الله عنه - كان الجواب به عن أبي بكر - رضي الله عنه -.
قال الله تعالى: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤون ممَّا يقولون لهم مغفرة ورزق كريم).
وهنا عدة وقفات منها:
الآية نزلت لتبرئة عائشة رضي الله عنها ممَّا رميت به وأخبر تعالى أنَّ الخبيثات للخبيثين و...إلخ ليدل على أنَّه - عز وجل - ما كان ليدع امرأة خبيثة (وحاشاها من ذلك) زوجة لرسول أطيب الطيبين.
والمراد هنا بالخبث هو: (الزنا) أمَّا زوجتا نوح ولوط عليهما السلام فقد كانتا كافرتين والزواج من الكافرة في شريعتهم جائز أمَّا في شريعتنا فلا يجوز إلاَّ من الكتابية المحصنة (أي غير زانية).
وأمَّا الزواج من الزانية فلا يجوز في شريعتنا ولو كانت مسلمة لما يؤدي إليه من مفاسد واختلاط الأنساب ونحو ذلك كما قال تعالى: (والزانية لا ينكحها إلاَّ زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين).
فالفرق إذن واضح.(108/11)
الآية برأت عائشة رضي الله عنها ووعدتها بمغفرة ورزق كريم فدل هذا على أنَّها تموت على الإيمان لأنَّ حكم الله - عز وجل - لا يتغير.
حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا فيه عدة أمور منها:
إرادة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب كتابًا لئلا يختلف الصحابة - رضي الله عنهم -. ولم يذكر القضية التي أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يكتبها. ولو كانت أمرًا واجبًا من واجبات الدين لما ترك كتابتها للغطهم بل يخرجهم ويستدعي من يكتب خاصة وقد عاش بعد ذلك أربعة أيام لأنَّ هذا كان يوم الخميس كما في لفظ آخر للبخاري (يوم الخميس وما يوم الخميس) ح/4431/ وتوفي يوم الاثنين.
أنَّ الموجودين اختلفوا وليس هذا خاصًا بعمر - رضي الله عنه -.
أنَّ عمر - رضي الله عنه - قد شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (إنَّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنَّه إن كان في أمتي هذه منهم فإنَّه عمر بن الخطاب) رواه البخاري/ح/3469.
وقوله: (والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكًا فجًا إلاَّ سلك فجًا غير فجك) رواه البخاري /ح/3294/ ومسلم/ح/2396.
... وروى البخاري ومسلم من فضائله ستة عشر حديثًا في أصح الكتب ومنها عن محمد بن الحنفية - رضي الله عنه - قال قلت لأبي: (أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر, قلت: ثمَّ من؟ قال: ثمَّ عمر. وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثمَّ أنت. قال: ما أنا إلاَّ رجل من المسلمين) رواه البخاري/ح/3671/.
...(108/12)
وروى ابن عباس - رضي الله عنه - قال: وُضِع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع وأنا فيهم فلم يرعني إلاَّ رجل أخذ منكبي فإذا عليّ بن أبي طالب فترحم على عمر، وقال: ما خلفتَّ أحدًا أحب إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أنِّي كثيرًا أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر) رواه البخاري/ح/3685/ ومسلم/ح/2389.
هذه بعض شهادات الصحابة من آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن غيرهم.
أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ أحيانًا بقول عمر وينزل القرآن بموافقته - رضي الله عنه - كما في اتخاذ مقام إبراهيم مصلى والحجاب وغيرهما فلعله هنا مال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قوله - رضي الله عنه - ولعل عمر - رضي الله عنه - قال ذلك لما رأى ما به من الوجع فكان رأفة به - صلى الله عليه وسلم - أو نحو ذلك ولا يتصور أنَّه أراد إيذاءه - صلى الله عليه وسلم - وهو ممَّن شهد له القرآن لأنَّه من المهاجرين ومن السابقين الأولين وفضائله في السنَّة كما تقدم.
هذه هي أهم ما سألت عنه.
وأمَّا البقية فهي قضايا اجتهادية.
نظرات في اتجاهات أهل السنَّة والشيعة ومناهجهم.
المتأمل للعقيدتين يستنتج ما يلي:
أنَّ أهل السنَّة يفهم من عقيدتهم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الناس عامة وأنَّه يجب أن يَنقل أتباعه سنته إلى من بعدهم.
والشيعة يفهم من عقيدتهم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى عليّ - رضي الله عنه - وأنَّ الله - عز وجل - قد أبدى وأعاد في الوصية لعليّ وأنَّ الأمر بالإبلاغ أي إبلاغ الوصية فلا يجوز أخذ العلم إلاَّ منه - رضي الله عنه - إذن كل الدين المبلغ من غيره ليس دينًا.(108/13)
أنَّ أهل السنَّة يفهم من عقيدتهم أنَّ فهم الدين ممكن لكل إنسان وأنَّ بإمكان الإنسان أن يكون عالمًا ويتحمل الأداء.
وأمَّا أهل الشيعة فتشترط وجود معصوم يرجع إليه وهذا يعني أنَّه لا بد أن يكون في كل بقعة معصوم ليرجع إليه إذ كيف يستطيع من بالمشرق أو بالمغرب أن يعمل فيما يجد من مسائل؟!
... فإذا جاز له الاجتهاد (أي البعيد عن الإمام جازبدون بدون إمام) فما الحاجة للمعصوم..
أنَّ أهل السنَّة يعظمون الصحابة الذين هم نقلة الدين والمجاهدون في سبيله الذين فتحوا الأرض شرقًا وغربًا وحفظوا القرآن والسنَّة وبلغوها للعالم.
وأمَّا أهل التشيع فهم يطعنون في الصحابة ويتلمسون أخطاءهم ويتجاهلون فضلهم وبلاءهم ويقيدون عمومات القرآن ويقيدونها بناءً على ما رسخ في أذهانهم من معتقدات.
يظهر من معتقدات أهل السنَّة أنَّ الدين قد ظهر وعمل به الناس وفتحت عليه البلدان.
وأمَّا أهل التشيع فإنَّ الدين عندهم لم يظهر ولم يعمل به.
أنًَّ أهل السنَّة يفهم من معتقدهم أنَّهم يجلون عليًّا - رضي الله عنه - ويعتقدون أنَّه كان شجاعًا في ذات الله - عز وجل - ولا يمكن أن يكون وصيًا ويسكت طيلة حياته بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي قرابة خمس وعشرين سنة.
ولو تكلم في شيء من ذلك لرواه رواة أهل السنَّة كما رأينا طرفًا من رواياتهم فهم يروون كل ما رأوه أو سمعوه. وقد ترد روايات لكنَّها لا تصح ونحن لا ننكر أنَّ كتب أهل السنَّة قد وردت فيها روايات ربَّما لأنَّ الرواية كما هو معروف قد تعرضت لكثير من الكذب.
وأمَّا أهل التشيع فإنَّهم زعموا أنَّهم يجلون عليًا - رضي الله عنه - وزعموا أنَّه لم يُظهِر أنَّه وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوفًا على نفسه وهذا من أقبح التصورات وإن كانوا قد أوردوا أخبارًا لا يخفى عدم صحتها على المحققين.(108/14)
أنَّ أهل السنَّة يعتقدون أنَّ الإمامة أمر اصطلاحي شوري للأمَّة أن تختار من تراه أهلاً لذلك ليحكمها بالقرآن والسنَّة ولا حرج في الاختلاف في مجالات الفهم.
وأمَّا أهل التشيع فإنَّه يفهم من عقيدتهم أنَّه يجب على الله أن ينصب إمامًا وأنَّ هذا الإمام هو عليّ - رضي الله عنه - مع أنَّه لم يرد في القرآن ولا في السنَّة أي لفظ في ذكر الإمامة أو الوصاية وإنَّما هي عمومات قابلة للتأويل على أوجه.
... وقضية الإمامة قضية كبيرة فلو كانت مطلبًا دينيًا محددًا لنزلت آيات بلفظها ولجاءت أحاديث بلفظها سواء عمل الناس بها أو لم يعملوا، ثمَّ لأبقى الله - عز وجل - نسل الأئمة إلى قيام الساعة.
... فإنَّ الله - عز وجل - قد صرَّح بأقل من ذلك في قضية زيد وزوجته وتردد النبي - صلى الله عليه وسلم - في مصارحة زيد بذلك.
... فأي القضيتين أهم يا ترى؟!
والذي عمله الشيعة بعد انقطاع النسل هو الذي عمله أهل السنَّة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنَّ أهل التشيع حاولوا المغالطة فبقوا مدة بدون تجمع ثمَّ ابتدعوا (ولاية الفقيه) ألا قالوا بها بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -؟! وأنهوا معاناتهم إلى اليوم؟!
يعترف أهل السنَّة بأنَّه قد حدث كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعض الرواة من بعد الصحابة - رضي الله عنهم - لأنَّ الصحابة كلهم عدول ولم يجرب عليهم تعمد الكذب وعدم اعتقاد عدالتهم هدم للدين.
وأمَّا أهل التشيع فلا يرون ذلك بل يصفون كثيرًا من الصحابة بالكذب وهذا يشكك في كامل الدين إذ لا دين حق يمكن أن نتعبد الله به من رواة كفرة كذابين.
... وهذا هو الذي شكك في مقاصد الشيعة إذ موقفهم من الصحابة يهدم كامل الدين ويطعن في رب العالمين - عز وجل - وفي نبيه سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -.(108/15)
يعترف أهل السنَّة بأنَّ أحاديث كثيرة وآثارًا كثيرة قد ظهر لهم بطلانها أدخلها قوم أرادوا هدم الدين أو جهلة لينصروا الدين وقد كشفها أهل العلم.
وإذا كان قد وضع في كتب السنَّة ألف حديث مثلاً فقد وضع في كتب التشيع اثنا عشر ألفًا لأنَّ أكثر الوضع على المعصوم عند أهل السنَّة ولا معصوم إلاَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمَّا أهل التشيع فعندهم اثنا عشر معصومًا فكم يا ترى سيكون عدد الموضوعات؟ والمطلع على كتب الطائفتين يتضح له صدق ذلك.
أنَّ أهل السنَّة يفهم من عقيدتهم أنَّهم لا يقولون بعصمة أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبي بكر وعمر وإن كانوا يرون أنَّ اجتهادهم إذا لم يخالف نصًا فإنَّه مقبول.
وأمَّا أهل التشيع فإنَّهم يقولون بعصمة أئمتهم وإذا رأوا أحدهم يخالف قواعد معتقدهم زعموا أنَّ ذلك: (تقية) يا لها من جراءة!!
... والحسن يتخلى عن الإمامة وهو معصوم ويتخلى عن ركن من أركان الإيمان حفاظًا على حياته كما زعموا.
... أيليق بإنسان من بيت النبوة يعتقد أنَّه وصي من الله - عز وجل - وهي مرتبة نبوية لو صحت ثمَّ يتنازل حفاظًا على حياته ونحن نرى التاريخ مملوءًا بمن ثبت على دينه حتَّى قتل في سبيل الله وهم ليسوا بأنبياء ولا بأوصياء معصومين!!
... فهذا الخميني ثبت على عقيدته وأوذي وأخرج ثمَّ رجع منتصرًا إذن الخميني خير من وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذ الله...
منهج أهل السنَّة في قبول الروايات منهج حازم فإنَّهم قد دونوا تراجم جميع الرواة وحكموا عليهم من خلال مروياتهم فما قبله ميزان الجرح والتعديل قبلوه وما خالفه ردوه وهذه قاعدة من خالفها أعادوه إليها.
... ولا يوجد لدى أهل التشيع مثل ذلك.
... وبإمكانك أن تأخذ عددًا من أول أي كتاب من كتب التراجم لدى أهل السنَّة وعددًا مماثلاً من كتب التراجم عند الشيعة وقارن بين المعلومات المدونة عندهما..(108/16)
... وأنت (محدث) وابحث: (متجردًا).
... وفيما يلي مقارنة:
تهذيب الكمال عند أهل السنة:
أحمد بن إبراهيم الموصلي.. كنيته.. بلده.
أسماء شيوخه أورد أكثر من عشرين راويًا:
أسماء تلاميذه كذلك
ثمَّ درجته
وهكذا كل راوٍ تقريبًا إلاَّ النادر.
أمَّا في كتاب مجمع الرجال عند الشيعة:
أول راوي فيه:
آدم بن إسحاق بن آدم له كتاب أخبرنا به عدة من أصحابنا
عن...........
فلا شيوخ ولا تلاميذ ولا درجة
والثاني: (آدم بن إسحاق) كذلك وفيه أنَّه ثقة ولم يذكر شيوخه
وفي الحقيقة من يطلع على المنهجين بعين الإنصاف يرى البون شاسعًا.
والله الموفق،،،،،،
نصوص من كتب الخميني(1):
(لو كانت مسألة الإمامة قد تم تثبيتها في القرآن فإنَّ أولئك الذين لا يعنون بالإسلام والقرآن إلاَّ لأغراض الدنيا والرئاسة كانوا يتخذون من القرآن وسيلة لتنفيذ أغراضهم المشبوهة ويحذفون تلك الآيات من صفحاته ويسقطون القرآن من أنظار العالمين إلى الأبد...)/131.
(وواضح أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان بلغ بأمر الإمامة طبقًا لما أمر به الله وبذل المساعي في هذا المجال لما نشبت في البلدان الإسلامية كل هذه الاختلافات..) [كشف الأسرار/155/].
لقد جاء الأنبياء جميعًا من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم لكنَّهم لم ينجحوا حتَّى النبي محمد خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية وتنفيذ العدالة وتربية البشر لم ينجح في ذلك،، /نهج خميني/46/
(إنَّ النبي أحجم عن التطرق إلى الإمامة في القرآن لخشيته أن يُصاب القرآن من بعده بالتحريف أو أن تشتد الخلافات بين المسلمين فيؤثر ذلك على الإسلام) كشف الأسرار/149/
... أرأيت يا أستاذ محمد كيف تنتهي العقيدة الشيعية...
__________
(1) ذيلت الرسالة بنصوص من كلام الخميني يطعن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها وقد أغفلها أبو المهدي فلم يعلق عليها لا بالقبول ولا بالرد!!(108/17)
... اتهام الصحابة بإخفاء آيات... وهل يستطيع بشر أن يخفي شيئًا من كتاب تعهد الخالق - عز وجل - بحفظه أليس هذا طعنًا في الخالق؟!
... ثمَّ أرأيت أنَّه انتقل من اتهام الصحابة إلى اتهام سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه لم يبلغ كما أمره به ربه... وهل يبقى بعد هذا إيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يزعم الخميني أنَّه لم ينفذ أمر خالقه.
... ثمَّ أرأيت الحكم: (برسوب) محمد - صلى الله عليه وسلم - وجميع الأنبياء في ميزان الخميني؟!
... هذه ثمرات العقائد الباطلة التي يحدد أصحابها مقصدًا معينًا هم يحاكمون الخالق - عز وجل - والرسول - صلى الله عليه وسلم - إليه.
... ولو تتبعت كلام الخميني لما وجدته يعظم الله - عز وجل - فهو يذكره سبحانه بدون تعظيم (الله) في أكثر صفحات كشف الأسرار.
... ولا يعظم رسوله - صلى الله عليه وسلم -: (محمد) كما هو مبين في هذه النصوص إلاَّ نادرًا.
... اللهم إنِّي استغفرك يا رب من هذه النصوص.
... وأعتذر إلى رسولك - صلى الله عليه وسلم - عظيم الدنيا وسيد البشر وخليل الرحمن من نقل هذه النصوص.
... وأعتذر إلى سادات المؤمنين الخلفاء الراشدين من كتابة هذه النصوص.
والله الهادي إلى سواء السبيل،،،
نهاية الإجابة الأولى
رسالة هاتفية " فاكس " قبل وصول رده على إجابتي السابقة
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة الأخ المفضال سماحة الدكتور أحمد سعد حمدان الغامدي ... ... وفقه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته(108/18)
... بعد الحمد لله والدعاء لكم بالخير في مساعيكم ونشاطاتكم الهادفة إلى تشخيص الحق والصواب، فإنّي أشكركم على ما لقيته منكم من حفاوة وتكريم خلال اجتماعاتنا ومحادثاتنا ولا أكتمكم تأثري بأخلاقكم الكريمة وتجاوبكم في بياناتكم ورسالتكم ممّا حملني على التحدث عنها لطلابي في الجامعة ولطلاب العلوم الدينية في الحوزة العلمية ، ولا شكّ أنّ التسامح واللين في المراجعات والمذاكرات تؤول في النهاية إلى تضييق شقّة الخلاف في كثير من المسائل المطروحة للبحث.
... وقد أوجبت رسالتكم الكريمة أن أسبر في الجوامع الروائية والرجالية والفقهية من الفريقين زهاء خمسمائة ساعة ، زائدًا على مطالعتي طليلة عشرين سنة في كتب الفريقين وقمت بتقرير ومناقشة بعض ما أرسلتم إليّ وتوضيح جملة من المسائل المشتبهة ، وأردت إرسالها إلى جنابكم واتصلت حولها بكم وبالأخ الفاضل جابر ، كثيرًا ولكن من المؤسف إنّي لم أظفر بسماع صوتكم ، فالرجاء من جنابكم لو وصلت هذه الرسالة إليكم، إعلامنا رقم هاتفكم أو الجوال الذي يسمعني كلامكم وإرسال عنوانكم البريدي وفي موقع انتيرنت وايميل بحيث يمكنني استمرار العلاقة بكم والالتقاء معكم والاستفادة من جنابكم.
... فإنّي أعلن مع الفخر والسرور أنّ مراجعاتنا في المسائل الدينية إلى الجوامع الروائية والرجالية والفقهية من مؤلفات علماء الفريقين ستكسبنا معرفة مدراك الحق ومرضاة الله أكثر من ذي قبل وفوائدها تتضاعف يومًا بعد يوم. ...
أخوك في الله ...
أبو مهدي القزويني
بسم الله الرحمن الرحيم
سعادة الدكتور/ أبو المهدي الحسيني القزويني
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... ... وبعد:
... فقد تسلمت مذكرتكم التي تعقبتم فيها إجابتي على أسئلتكم التي بعثتها إليكم قبل سنة ونصف تقريبًا.(108/19)
... وقد وصلتني مذكرتكم في منتصف شهر ربيع الثاني لعام 1425هـ تقريبًا، ولمَّا اطلعت عليها عجبت من كثرة استدلالاتكم بالأحاديث الضعيفة والموضوعة على أمر هو من أخطر الأمور وهو أمر الاعتقاد وأنتم متخصصون في: "الحديث ورجاله" حسبما فهمت منكم عند الالتقاء بكم.
... كما أذهلني موقفكم من الصحابة رضي الله عنهم وعدم التفريق بين: "الصحابي" و:"المنافق" ممَّا كان وسيكون له أسوأ الأثر على دين الأمة ويفتح الباب لهدم الإسلام ـ كما سترون بيانه بمشيئة الله تعالى ضمن المبحث المرفق ـ.
... ولحرصي الشديد على علاقتي بكم وكشف ما خفي عليكم من خطورة مذهبكم فقد اقتطعت جزءً كبيرًا من وقتي (من منتصف ربيع الثاني إلى منتصف جمادى الآخرة تقريبًا من هذا العام 1425هـ) للإجابة على ما أوردتموه من تساؤلات والتنبيه على ما في بحثكم من تجاوزات وخاصة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان ما ينتج عن معتقد الشيعة الإمامية من إلغاء للعقيدة وإبطال للدين.
... والله الهادي إلى سواء السبيل.
حرر في: 18/6/1425هـ
محب الخير لكم
أ.د/ أحمد بن سعد حمدان الغامدي
الأستاذ بجامعة أم القرى
الدراسات العليا
1) ذكرتم في البداية اعتذاركم عن تأخر الإجابة وإشارتكم بأنَّني أرغب في تحليل ما كتبت لكم ثمَّ عنونتم بعنوان (الإنصاف في الكلام حين يتكلم في الخلاف ... إلخ).
أولاً: أشكر لكم اهتمامكم بالإجابة المختصرة التي أجبت فيها على أسئلتكم والتي لم أكن أريد بها إلا إيقاظ التفكر في تلك المسائل لا الاستدلال لأنَّ مصادر الاستدلال غير متَّفق عليها بيننا وبينكم.
ثانيًا: الإنصاف في المناظرة أو في غيرها مبدأ من مبادئ الدين ولو اتبعنا الإنصاف لما وقع الخلاف.
الإنصاف مع عظماء الأمَّة، والإنصاف مع أفراد الأمة، ولكن النظرية ما لم تكن سلوكًا عمليًا فإنَّها لا تفيد .(108/20)
فنسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا وإيَّاكم الإنصاف.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
2) قلتم: (وممَّا يُؤسف له جدًا أنَّنا لم نجد في المكتبات الخاصة والعامة لإخواننا السنَّة شيئًا يعبأ به من كتب الإمامية).
قلت الجواب من عدة أوجه:
أولاً: إنَّ كتبكم على قسمين:
قسم كله روايات وآثار وهذا القسم عندما يطلع عليه السنِّي لا يرى فيه آثارًا علمية تستحق الاهتمام فهي أشبه ما تكون بالأساطير ـ أرجوا المعذرة هذا بيان الحقيقة لا غير ـ ولهذا لم يُعِرها اهتمامًا، إضافةً إلى كثرة الروايات الغريبة والطاعنة التي تسللت إلى هذه الكتب والتي تأباها الفطرة السليمة.
ثانيًا: الكتب المتأخرة المصنَّفة في المسائل المختلف فيها جل ما فيها إنْ لم يكن كل ما فيها أحاديث من كتب السنَّة بصرف النظر عن ضعفها أو نكارتها فلماذا إذن يحرص على مثل هذه الكتب واستدلالاتها أو معظمها من كتب السنَّة؟!
فإذا كان أصحابها أعرضوا عنها واتجهوا إلى كتب أهل السنَّة للاستدلال على عقائدهم فمن باب أولى أن يعرض عنها أهل السنَّة.
ثالثًا: نسبة إمكان صحة عقائد الشيعة عند أهل السنَّة ربَّما تكون صفرًا في المائة فلِمَ يا تُرى يُهتَم بشيء لا يرى أنَّه على حق؟!
فهذا من الأسباب التي يبدو أنَّها صرفت أهل السنَّة عن كتب الشيعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
3) قلتم (والغريب أنَّ بعضهم يتقوَّل على الإمامية وضربتم مثالاً بما في كتاب [لله .. ثم للتاريخ]).
قلت:
أولاً: هذا ليس كتابًا سُنيًا بل هذا كتاب شيعي!!
ثانيًا: لعل الصفحة التي أشرتم إليها في طبعة أخرى، ولا أظن أنَّه يخاطب إخوانه الشيعة ليصحح لهم معتقدهم ثم يكذب عليهم بذكر روايات غير موجودة، لأنَّ ذلك سينكشف وتبطل الفائدة التي قصدها.
وأنا لا أدافع عنه لكن هذا الذي خطر لي عندما قرأت كلامكم.
وإنْ فعل ذلك فلا شكَّ أنَّه خيانة علمية مستنكرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ(108/21)
4) قلتم: (كثيرًا ما اتفق لي بعد أن سألت بعض علماء أهل السنة في إيران وخارجها عن بعض الشبهات العقائدية ...) ثم ذكرتم أنَّكم لم تجدوا من يجيبكم.
الجواب من عدة أوجه:
أولاً: إنَّ البحث عن الحقيقة بالطريق المؤدب سِمَة أهل العلم وينبغي على كل عالم أن يجيب على أسئلة واستفسار من يبحث عن الحق.
ثانيًا: أمَّا أهل السنَّة في داخل إيران فنحن نسمع أنَّهم يتعرَّضون للمضايقات فكيف يستطيعون أنْ يحاوروا!
ثالثًا: وأمَّا خارج إيران فالنظرة للشيعة الإمامية غير طيبة، لاعتقادهم بأنَّ الشيعة الإمامية فرقة خارجة على الدين ولهذا يصعب قبول حوارها.
رابعًا: إنَّ الشُّبَه التي أثارها الشيعة لا تكاد توجد شبهة منهالم يتصدَّ لها علماء السنَّة بالبيان، فقد ظهر عشرات المؤلفات وإن كان أسلوب بعضها فيه شدَّة، لكنَّها قابلت إفراطًا واعتداءً من المخالف، ومجازفات في الدعاوى لم يتمالك العلماء أنفسهم أثناء ردودهم عليها.
ومن أوسع ما كُتِب في ذلك كتاب: "منهاج السنة" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأظن أنَّكم لو وقفتم عليه وقرأتموه بتأمُّل لانكشفت لكم حقائق كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
5) قلتم: (وقد ذكرت في كتابي الذي بعثته إليكم بأنِّي ألتمس أجوبة تقنع النفس بها ولمَّا أجلت النظر فيما بعثته لي لم أعثر فيها على ضالتي المنشودة).
... قلت: أرجو أن تجد في الإجابة الثانية الضالة المنشودة مع أنَّني قد حرصت على الاختصار.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
6) قلتم: (إنَّ الاستدلال على موضوع خاص بالكتاب والسنَّة إنَّما يتِّم فيما إذا سردت قاطبةً الآيات المتعلقة أو الروايات المتعلقة به، لا أن ننتقي ما يفيدنا في البحث ونغض الطرف عمَّا يضرنا، لأنَّ فيه مجانفة عن روح التحقيق العلمي).
... الجواب من عدة أوجه:(108/22)
... أولاً: هذا كلام جميل وتقعيد علمي دقيق لو اتُّبِع من كل باحث ومن كل طائفة لما حدثت الخلافات ولضاق كثير من الفجوات.
... ثانيًا: هل التزمتم سعادتكم بهذا الكلام الجميل في بحثكم؟!
... أمَّا أنا فلا أبالغ إذا قلت: إنَّني لم أجد في بحثكم أثرًا لهذه القاعدة وإلاَّ لو حكمتموها في بحثكم لكان المسار غير المسار.
... فقد اتجهتم إلى كتب التواريخ ومصادر تعتبر من الدرجة الثالثة والرابعة عند أهل السنَّة وتركتم المصادر المعتمدة وخاصة: "الصحيحين".
... ثمَّ توسعتم في الاستدلال بالأحاديث الضعيفة وأعرضتم عن الأحاديث الصحيحة التي تثني على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
... ثمَّ أبطلتم دلالات الآيات التي تثني على الصحابة أو قيدتموها لتتفق مع معتقداتكم.
... ثمَّ أوهمتم القارئ بأنَّ أكثر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منافقون إن لم يكن جميعهم.
... ثمَّ أوهمتم القارئ بأنَّه لا يمكن معرفة المؤمنين من المنافقين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر تلك الاستدلالات الإنتقائية التي لا تتفق مع ما ذكرتموه من المنهج العلمي.
... ثالثًا: نموذج من منهجكم في الانتقاء:
... الواقف على رسالتكم يرى منهجًا غريبًا.
... فقد تركتم المراجع الأصيلة عند أهل السنَّة والأحاديث الصحيحة التي تثني على عظماء الصحابة وتزكيهم وتؤكد قربهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وحبه لهم وتبشيرهم بالجنَّة وكثرة مشاورته لهم واصطحابهم في كل موقع وتجريد سيوفهم لنصرته وهي أحوال عظيمة تؤكد إيمانهم وإخلاصهم.
... ثمَّ عمدتم إلى أحاديث ضعيفة أو موضوعة تزعم وجود وصية خانها هؤلاء وامتنعوا عن تنفيذها إذا وضعت أمام تلك الأحاديث الصحيحة دلت على كذب هذه الأحاديث ولم تلتفتوا لتلك الأحاديث وتزعمون الإنصاف.(108/23)
... وها هو نموذج واحد من تلك الأحاديث الصحيحة لصحابي واحد لتوازن بين أحاديثك وهذا النموذج لترى مدى الإنصاف وصحة المنهج بعد ذلك:
نماذج من أحاديث فضائل الصدِّيق:
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس على المِنبر فقال: (إنَّ عبدًا خيَّره الله بين أن يُؤتِيَه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده). فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمَّهاتنا. فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ،يُخبِر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبدٍ خيَّره الله بين أن يُؤتِيَه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمَّهاتنا، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المُخيَّر، وكان أبو بكر هو أعلمنا به.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ مِن أَمِنِّ الناس عَلَيَّ في صُحبته وماله أبا بكر، ولو كنت مُتَّخذًا خليلاً من أمَّتي لاتخذت أبا بكر، إلاَّ خُلة الإسلام، لا يبقينَّ في المسجد خوخةُ إلاَّ خوخة أبي بكر)(1).
__________
(1) صحيح البخاري/ح/3904/ومسلم/ح/2382/(108/24)
عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: كنت جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه، حتَّى أبدى عن ركبته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمَّا صاحبكم فقد غامر). فسلَّم وقال: إنِّي كان بيني وبين ابن الخطَّاب شيءٌ فأسرعتُ إليه ثمَّ ندِمت، فسألته أن يغفر لي فأبى عَلَيَّ، فأقبلت إليك، فقال: (يغفر الله لك يا أبا بكر). ثلاثًا، ثمَّ إنَّ عمر ندم فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أَثَمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلَّم، فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعَّر، حتَّى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي). مرتين، فما أُوذِي بعدها(1).
عن ابن عباس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه، عاصبًا رأسه بخِرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال: (إنَّه ليس من الناس أحدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قُحافة، ولو كنت مُتِّخذًا من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خُلَّة الإسلام أفضل، سُدُّوا عنِّي كل خوخةٍ في هذا المسجد، غير خوخة أبي بكر)(2).
... ... وفي رواية: (ولكن أخي وصاحبي)(3).
عن عبدالله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنَّه قال: (لو كنت مُتَّخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً. ولكنَّه أخي وصاحبي. وقد اتخذ الله - عز وجل - صاحبكم خليلاً)(4).
__________
(1) صحيح البخاري/ح/3661/
(2) صحيح البخاري/ح/467/
(3) صحيح البخاري/ح/3656/
(4) صحيح مسلم/ح/2383/(108/25)
عن عائشة قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في مرضه، (ادعي لي أبا بكر، وأخاك، حتَّى أكتب كتابًا. فإنِّي أخاف أن يتمنَّى مُتمَنِّ ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر)(1).
عن جُبير بن مُطعم قال: أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنَّها تقول: الموت، قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن لم تجديني فأتي أبا بكر)(2).
... ... هذه نماذج من روايات الصحيحين، أليست هذه أولى من تلك الروايات التي في كتب التواريخ والأدب ومصادر لا يُعتَمد عليها إلا بعد دراسة أسانيدها.
... ... ثمَّ وأنت تتصفح كتاب المستدرك الذي اعتمدت عليه في كثير من الأحيان ألم تنتبه إلى عشرات الأثار التي تُثني على أبي بكر وتُؤكد خلافته فقد روى عشرات الأحاديث والأثار ومنها:
عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أنَّ عبدالرحمن بن عوف كان مع عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وأنَّ محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير ثمَّ قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم وقال: والله ما كنت حريصًا على الإمارة يومًا ولا ليلة قط ولا كنت فيها راغبًا ولا سألتها الله - عز وجل - في سر ولا علانية ولكنِّي أشفقت من الفتنة ومالي في الإمارة من راحة، ولكن قلدت أمرًا عظيمًا ما لي به من طاقة ولا يد إلاَّ بتقوية الله - عز وجل - ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم فقبل المهاجرون منه ما قال وما اعتذر به. قال علي - رضي الله عنه - والزبير: ما غضبنا إلاَّ لأنَّا قد أُخرنا عن المشاورة وإنَّا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنَّه لصاحب الغار وثاني اثنين وإنَّا لنعلم بشرفه وكبره ولقد أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة بالناس وهو حي.
__________
(1) صحيح مسلم/ح/2387/
(2) رواه البخاري/ح/3659/ومسلم/ح/2386/(108/26)
... ... ثمَّ قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه(1).
عن عبدالله - رضي الله عنه - قال: لما قُبِض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت الأنصار: منَّا أمير ومنكم أمير. قال: فأتاهم عمر - رضي الله عنه - فقال: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمَّر أبا بكر يؤُم الناس فأيُّكم تطيب نفسه أن يتقدَّم أبا بكر - رضي الله عنه -؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكر.
... ... ثمَّ قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه(2).
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد وإحدى يديه على أبي بكر والأخرى على عمر فقال: (هكذا نُبعَث يوم القيامة)(3).
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أول من تنشق عنه الأرض أنا ثمَّ أبو بكر ثمَّ عمر ثمَّ آتي أهل البقيع فتنشق عنهم فأُبعث بينهم). ثمَّ قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه(4).
عن علي - رضي الله عنه - قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأبي بكر مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل وإسرافيل ملَك عظيم يشهد القتال ويكون في الصف.
... ... ثمَّ قال: هذا حديث صحيح الإسناد لم يُخرجاه(5).
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أُري الليلة رجل صالح أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - نيط برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر" قال جابر: فلمَّا قمنا من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا الرجل الصالح النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمَّا ذِكر من نوط بعضهم بعضًا فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) المستدرك/ح/4422/
(2) المستدرك/ح/4423/
(3) المستدرك/ح/4428/
(4) المستدرك/ح/4429/
(5) المستدرك/ح/4430/(108/27)
... ... ثمَّ قال: ولعاقبة هذا الحديث إسناد صحيح عن أبي هريرة ولم يُخرجاه(1).
... ... ثمَّ وأنت تتصفح كتاب: "مجمع الزوائد للهيثمي" ألم تقف على عشرات الأحاديث في أبي بكر ـ طبعًا وغيره من الصحابة ولكن هذا نموذج ـ
ومن تلك الأحاديث:
عن علي قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ولأبي بكر: (مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل وإسرافيل ملَك عظيم يشهد القتال أو يكون في الصف). رواه أبو يعلى والبزار وأحمد بنحوه ورجال أحمد والبزَّار رجال الصحيح(2). وقد تقدم في المستدرك وقد قال الهيثمي: إنَّ رجاله رجال الصحيح.
وعن ابن عمر قال خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال رأيت قُبيل الفجر كأنِّي أُعطيت المقاليد والموازين فأمَّا المقاليد فهذه المفاتيح وأمَّا الموازين فهذه التي يُوزن بها فوُضعت في كفَّة ووُضِعت أمَّتي في كفَّة فوزنت بهم فرجحت ثمَّ جيء بأبي بكر فوزن بهم فوزن ثمَّ جيء بِعُمر فوزن بهم فوزن ثمَّ جيء بعثمان فوزن بهم ثمَّ رُفعت. رواه أحمد والطبراني إلاَّ أنَّه قال فرجَّح بهم في الجميع وقال ثمَّ جيء بعثمان فوُضِع في كفَّة ووُضِعت أمَّتي في كفَّة فرُجِّح بهم ثمَّ رُفِعت. ورجاله ثقات(3).
عن سهل بن سعد الساعدي قال: استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر فأشاروا عليه فأصاب أبو بكر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الله يكره أن يُخطئ أبو بكر). رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثِقات(4).
__________
(1) المستدرك/ح/4439/
(2) مجمع الزوائد/9/58/
(3) مجمع الزوائد/9/58/
(4) مجمع الزوائد/9/46/(108/28)
عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يدخل الجنَّة رجل لا يبقى في الجنَّة أهل دار ولا غرفة إلاَّ قالوا: مرحبًا مرحبًا إلينا إلينا، فقال أبو بكر يا رسول الله ما ثواب هذا الرجل في ذلك اليوم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أجل أنت هو يا أبا بكر). رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن أبي بكر السالمي وهو ثِقة(1).
عن أمِّ سَلَمَة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنَّ في السماء ملَكين أحدهما يأمر بالشدَّة والآخر يأمر باللين وكلٌ مصيب جبريل وميكائيل، ونبيان أحدهما يأمر بالشدَّة والآخر يأمر باللين وكلٌ مصيب وذكر إبراهيم ونوحًا، ولي صاحبان أحدهما يأمر بالشدَّة والآخر يأمر باللين وكلٌ مصيب وذكر أبا بكر وعمر). رواه الطبراني ورجاله ثِقات(2).
عن شقيق قال: قِيل لعليّ ألا تستخلف؟ قال: ما استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأستخلف عليكم وإن يرد الله تبارك وتعالى بالناس خيرًا فسيجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم. رواه البزَّار ورجاله رجال الصحيح غير إسماعيل بن أبي الحارث وهو ثقة(3).
عن أبي جُحيفة قال: دخلت على عليّ في بيته فقلت: يا خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: مهلاً ويحك يا أبا جُحيفة ألا أُخبرك بخير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر. ويحك يا أبا جُحيفة لا يجتمع حبي وبغض أبي بكر وعمر في قلب مؤمن. رواه الطبراني في الأوسط وفيه الفضل بن المختار وهو ضعيف(4).
__________
(1) مجمع الزوائد/9/46/
(2) مجمع الزوائد/9/51/
(3) مجمع الزوائد/9/47/
(4) مجمع الزوائد/9/53/(108/29)
عن عليّ قال: سبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلَّى أبو بكر وثلث عمر ثمَّ خبطتنا فتنة أو أصابتنا فتنة يعفو الله عمَّن يشاء. رواه أحمد وقال ثمَّ خبطتنا فتنة، يريد أنْ يتواضع بذلك. رواه الطبراني في الأوسط ورجال أحمد ثِقات(1).
... ... رابعًا: ألم تلتفتوا إلى الأحاديث والوقائع الثابتة التي عاش عليها الصحابة - رضي الله عنهم - والتي تُؤكِّد محبة الجميع لبعضهم وتعاونهم فيما بينهم ممَّا لا يظهر معها أي أثر لفكرة الإمامة؟
... ... وفيما يلي نماذج من ذلك:
عن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبي: أيُّ الناس خير بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "أبو بكر" قلت: ثمَّ من؟ قال: "عمر"(2).
عن ابن عباس أن عليًّا - رضي الله عنه - قال في عمر: (ما خلَّفتَ أحدًا بعدك أُحب أن ألقى الله بمثل عمله منك)(3).
عن علي - رضي الله عنه - قال: (اقضوا كما كنتم تقضون فإنِّي أكره الاختلاف حتَّى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي)(4).
عن عُقبة بن الحارث قال: صلَّى أبو بكر - رضي الله عنه - العصر ثمَّ خرج يمشي فرأى الحسن يلعب مع الصبيان فحمله على عاتقه وقال: (بأبي شبيه بالنبي لا شبيه بعليّ وعليّ يضحك)(5).
عن أبي بكرة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر والحسن بن عليّ إلى جنبه وهو يُقبِل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: (إنَّ ابني هذا سيد ولعل الله أنْ يُصلِح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)(6).
__________
(1) مجمع الزوائد/9/54/
(2) رواه البخاري/ح/3671/
(3) رواه البخاري/ح/3685/ومسلم/ح/2389/
(4) رواه البخاري/ح/3707/
(5) رواه البخاري/ح/3542/
(6) رواه البخاري/ح/2704/(108/30)
عن ابن عمر سأله رجل عن دم البعوض فقال: "ممَّن أنت؟" فقال: "من العراق" قال: "انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (هما ريحانتاي من الدنيا)(1).
ألم يبايع عليّ الخلفاء الثلاثة؟
ألم يكن يصلِّي خلفهم؟
ألم يتزوج من سبيهم؟
ألم يُزوِّج عمر من ابنته؟
ألم يُسمِّ أبناءه الثلاثة بأسماء الثلاثة ـ أبي بكر وعمر وعثمان ـ؟
... ... ومن كتبكم:
ألم تقرأ في نهج البلاغة قول عَلِيّ - رضي الله عنه -: (أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج..)(2).
وكذلك قوله: (لله "فلان" ـ أُسقط اسمه ولكن الظاهر أنَّه أبو بكر أو عمر ـ لقد قوَّم الأمد، وداوى العمد، وأقام السنَّة، وخَلَفَ الفتنة، وذهب نقيَّ الثوب قليل العيب...)(3).
وقوله: (أمَّا بعد فإنَّ بيعتي يا معاوية لزمتك وأنت بالشام فإنَّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه... وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار...) ولم يحتج بإمامة منصوصة!(4)
وما أورده الأردبيلي عن أبي جعفر عندما سُئِل عن حلية السيف فقال: (قد حلى بها الصدِّيق).. فقال الراوي: (أتقول هكذا؟) قال: (نعم الصدِّيق نعم الصدِّيق نعم الصدِّيق فمن لم يقل له الصدِّيق فلا صدق الله قوله في الدنيا والآخرة)(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
7) قلتم: (وهكذا يلزم للمحقق فيما إذا! ينقل كلامًا عن رجل أو فرقة أن يذكر مصدر كلامه حتَّى يمكن للآخرين ملاحظة المصدر ثمَّ القضاء والتمييز بين ما هو الحق عما هو الباطل).
... ... قلتُ: هذا أصل يجب على كل باحث ينشد الحق أن يلتزمه، والكلام الذي لا يُعزى إلى صاحبه من خلال المراجع لا يُقبَل.
__________
(1) رواه البخاري/ح/5994/
(2) نهج البلاغة/290/
(3) نهج البلاغة/505/
(4) نهج البلاغة/526/
(5) كشف الغمة عن معرفة الأئمة/2/147/(108/31)
... ... لكن هذا يبين مصدر الكلام لا قيمته، فإنَّ قيمة الكلام بحسب مصدره ونحن وإيَّاكم غير متفقين على مصادر! ما عدا القرآن، والقرآن قد قيدتم مطلقه وتأولتم مقيده ـ كما سيأتي بمشيئة الله تعالى بيانه ـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
8) قلتم: (والمشهود في كتابكم في قضية الصحابة والسيدة عائشة هو ذِكر الآيات التي تدل على المدح مع التأويل والتفسير بما يُخالف السياق كما نشير إليه من دون ذِكر ما ورد في الذم ثمَّ التحليل بينها حتى يمكن للمُخاطب الوصول إلى النتائج المفيدة).
... ... أولاً: قولكم: (..مع التأويل والتفسير بما يُخالف السياق..) حكم غير دقيق ولكن ما رسخ في ذهنكم من المعاني ظننتم أنَّ ما قلته: "تأويل" أي صرف اللفظ عن ظاهره ولعلَّه يأتي مزيد بيان إن شاء الله.
... ... ثانيًا: وأمَّا قولكم: (من دون ذِكر ما ورد في الذم) فهو كلام غير سليم، فإنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - قد مدحهم الله - عز وجل - ولم يذمهم، وأمَّهات المؤمنين رضي الله عنهن لم يرد فيهن ذم.
... ... نعم وردت آيات عتاب لا تنقص من مكانتهم التي ثبتت في عشرات الآيات المادحة وتسمية ذلك ذمًّا من أعجب الكلام.
... ... فليس كل عتاب في القرآن يكون ذمًّا.
... ... فإنَّ الله - عز وجل - قد عاتب من هو أفضل من الصحابة ومن أمَّهات المؤمنين وما كان ذلك ذمًّا: فقد عاتب نبينا محمدًا صلوات الله وسلامه عليه في عدة مواطن ولم يكن ذلك ذمًّا: عاتبه في الأعمى، وعاتبه في الأسرى، وعاتبه في موضوع مولاه زيد، وعاتبه في تحريم ما أحل سبحانه، ولم يكن ذلك ذمًّا أو منقصًا من مكانته صلوات الله وسلامه عليه.
... ... أمَّا آيات النفاق التي تذم فئة معينة قد كشفتها الأحداث، فإنَّها ليست فيمن آمن وهاجر وجاهد وصاحب نبيه صلوات الله وسلامه عليه طوال حياته والذي لا يفرق بين خيار المؤمنين وأهل النفاق كيف يمكنه أن يقرر إيمان الصحابة؟!(108/32)
... ... بل كيف يمكن أن يفهم القرآن؟ وكيف يستطيع أن يستدل بالأحاديث؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
9) قلتم: (أيُّها الأخ العزيز: قد ذكرتم في كتابكم هذا تحت عنوان: "نظرات في اتجاهات أهل السنَّة والشيعة ومناهجهم بعض ما يرتبط بعقائد الإمامية دون ذكر قائله... ثمَّ تساءلتم: هل المراد: الشيعة الغلاة..).
... ... قلت: لا أظن أنَّ المعنى غير واضح من كلامي فإنَّني لم أنسب الكلام إلى أحد من علمائكم ولا إلى كتاب من كتبكم، وإنَّما قلت لكم: (يُفهم من عقيدة الشيعة كذا..) ولم أقل قال: "فلان"، ولعلَّكم لو رجعتم إلى العبارة لتبيَّن لكم المراد.
... ... وأنا أعني بذلك الإمامية لا الفرق الغالية الآخرى، فإنَّها قد ادَّعت مسألة في الدين وهي: "الإمامة" ثمَّ ضخمت هذه الإمامة حتَّى رفعت أصحابها فوق الأنبياء وفسَّرت القرآن خطابًا للأئمة وشيعتهم، فما كان من خير وإيمان فهو للشيعة، وما كان من كفر وضلال فهو للمُخالف، ثمَّ الجنَّة لهم والنار لأعدائهم .. وهكذا... وهكذا.
... ... وإذا أردت مزيد بيان ففي ما يلي نماذج من ذلك.
... ... ويتضح ذلك في الكتب التالية:
الكافي.
تفسير العسكري.
تفسير العياشي.
تفسير الصافي.
تفسير الفرات.
كتاب الاختصاص.
بصائر الدرجات.
تأويل الآيات الظاهرة.
وغيرها من كتب الإمامية.
... ... بل والله إنَّ المسلم الذي تربَّى على الوحيين ليستحي أن تُنسَب هذه الكتب إلى دينه وخاصة كتاب "بصائر الدرجات".
... ... وسأذكر نماذج للدلالة على ما قلت:
... ... فقد ورد في أصح كتاب عند الشيعة وهو "الكافي" وفي عدة تفاسير روايات تُقرِّر أنَّ القرآن نزل في الشيعة ـ مع أئمتهم ـ ومخالفيهم.
فهناك رواية عن جعفر الصادق تقول: (نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدوِّنا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام)(1).
__________
(1) الكافي/2/628/تفسير العياشي/1/9/تفسير الفرات/1/46و48/(108/33)
وفي رواية عن جعفر الصادق كذلك: (نزل القرآن أثلاثًا: ثلث فينا وفي عدوِّنا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام)(1).
ولا ندري أيُّ التقسيمين هو المُعتمَد؟! أرباعًا أو أثلاثًا؟!!
... ... ويُؤكد هذا المعنى الصافي فيقول: (جل القرآن إنَّما نزل فيهم: "أي الأئمة الاثنى عشر" وفي أوليائهم وأعدائهم)(2).
... ... وبعد أن أورد العياشي هذه الروايات أورد رواية: (عن محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر ع يا محمد: إذا سمعت الله ذكر أحدًا من هذه الأمَّة بخير فنحن، وإذا سمعت الله ذكر بسوء ممَّن مضى فهم عدوّنا)(3).
... ... سبحان الله!! إلغاء لجميع المدح في المؤمنين السابقين، وإلغاء لجميع الذم في الكفار السابقين!!
... ... أليست هذه الروايات وغيرها كثير في التفاسير الشيعية تدل على أنَّ القرآن أُنزِل في الشيعة وحدهم مدحًا لهم وذمًّا لأعدائهم_طبعًا أعداؤهم أهل السنة_.
... ... إذن كيف تُنكر عليَّ عندما قلت: يُفهم أنَّ القرآن نزل في الشيعة وأعدائهم وهذه نصوص ظاهرة المعنى.
... ... ثمَّ تقول: (وأقسم بالله..أقول بكل ثقة بأنَّكم لو أخذتم رأي الإمامية عن كتبهم المدوَّنة طيلة أربعة عشر قرنًا لكان رأيكم فيهم غير هذا الذي قرأته في جواباتكم).
... ... وهذه الكتب التي نُقِلت منها هذه النصوص أليست من كتبكم؟!.
... ... والله يا أبا مهدي إنَّني عندما قرأت في كتبكم كأنَّني أقرأ في خرافات عقول لا تعرف صفاء الإسلام ونقاءه، وأحمد الله - عز وجل - على الهداية وصفاء المعتقد.
... ... ثمَّ ألا ترى أنَّ قسمكم هذا قد حنثتم فيه؟؟
... ... وأرجو أن تعذرني فإنَّني أحب أن تعرف مشاعري عندما وقفت على تلك الكتب.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) الكافي/2/627/ورواه العياشي وعزاه إلى عليّ - رضي الله عنه -/1/9/
(2) تفسير الصافي/1/24/
(3) تفسير العياشي/1/13/(108/34)
10) ثمَّ تطلب منِّي أن أُقارن بين كتبكم وكتبنا؛ فلا بأس بالبدء بأصح كتاب عندكم وأصح كتاب عندنا بعد كتاب الله - عز وجل -.
صحيح البخاري: قال:
بدء الوحي:
... ... باب: "كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول الله جلَّ ذِكره: (إنَّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيين من بعده)"
... ... ثمَّ أورد حديثًا بسنده: (إنَّما الأعمال بالنيات وإنَّما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)
وهذا الحديث افتتاح لكتابه.
... ... ثمَّ أورد حديثًا آخر بسنده وفيه: أنَّ الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف يأتيك الوحي.." فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
وهكذا استمر يذكر نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
... ... ثمَّ قال: "كتاب الإيمان" أورد فيه آيات وأثارًا ثمَّ بدأ الأحاديث بإيراد حديث بسنده وفيه: (بُنِي الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان).
انظر كيف تتجلَّى أنوار النبوة في هذا الكتاب العظيم ثم قارن.
الكافي: قال: "كتاب العقل والجهل"
... ... ثمَّ أورد أثرًا عن أبي جعفر قال فيه: (لمَّا خلق الله العقل استنطقه ثمَّ قال له أقبِل فأقبَل، ثمَّ قال له أدبِر فأدبَر، ثم قال: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقًا هو أَحب إليَّ منك ولا أكملتك إلاَّ فيمن أُحب، أما إنِّي إيَّاك آمر وإيَّاك أنهى وإيَّاك أُعاقب وإيَّاك أُثيب).(108/35)
... ... وأورد بعده أثرًا آخر عن علي - رضي الله عنه - قال: (هبط جبريل على آدم فقال: يا آدم أُمِرت أن أُخيِّرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين. فقال له آدم: يا جبريل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين. فقال آدم: إنِّي اخترت العقل. فقال جبريل للحياء والدين انصرفا ودعاه، فقالا إنَّا أُمِرنا أن نكون مع العقل حيث كان. قال: فشأنكما وعرج).
... ... وهكذا استمر في ذكر روايات عن العقل ثمَّ أورد بعده فضل العلم، وكلها أو جلها ليست عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يستفتح لا بالقرآن ولا بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأظن أنَّ الأئمة نسخوا النبوة!!
المقارنة:
... ... البخاري بدأ بذِكر بداية الإسلام مستدلاً بكلام الله- عز وجل - وكلام رسوله- صلى الله عليه وسلم -.
... ... والكليني بدأ بذِكر آثار عن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ينبغي أن يبدأ بكلام الله - عز وجل - أو كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
... ... ثمَّ الكافي ذكر أنَّ آدم خُوطِب وخُيِّر بين العقل والحياء والدين.
... ... قلتُ: فعندما خُوطِب آدم هل كان معه عقل أم لا؟!
... ... فإن كان معه عقل فكيف يُخيَّر بين شيء هو معه وبين مثيله؟!
... ... وإن كان ليس معه عقل فكيف يُخاطَب من لا عقل له؟!
... ... ثمَّ من أخبر أبا جعفر بذلك؟! يأتيه الوحي بالغيب أم كيف عرف ذلك؟! ـ طبعًا إذا صحت الرواية عنه ولا أظنها ـ.
... ... ثمَّ البخاري أورد قرابة ألفَي حديث مفرَّقة بلغت قرابة سبعة آلاف حديث_بالمكرر_كلها إلاَّ النزر اليسير منها صحيح.
... ... والكليني أورد أكثر من ستة عشر ألف حديث ضعَّف علماء الشيعة منها ثلثيها أي قرابة تسعة آلاف حديث، ولو طُبِّقت ضوابط أهل السنَّة في الرواية لعلَّه يختفي هذا الكتاب من الوجود أو يصفو منه القليل.
... ... ومن أبواب البخاري:
"المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده"(108/36)
"حب الرسول من الإيمان"
"الدين يسر"
"الجهاد من الإيمان"
"فضل العلم"
"قول الله تعالى: (عالم الغيب فلا يُظهِر على غيبه أحدًا)"
... ... ومن أبواب الكافي:
"باب: أنَّ الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل"
"باب: أنَّ الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا"
"باب: أنَّ الأئمة يعلمون متى يموتون وأنَّهم لا يموتون إلا باختيارهم"
... ... فقلتُ: إذن لماذا هرب المهدي خوفًا من الموت أليس الأولى أن يبقى يقود الناس ويمتنع عن الموت؟!
وفيه كذلك: "باب: أنَّ الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنَّه لا يخفى عليهم شيء"
... ... قلت: يقول الله - عز وجل - لنبيه صلوات الله وسلامه عليه قل: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير..)(1).
... ... وقال تعالى: (عالم الغيب فلا يُظهِر على غيبه أحدًا إلاَّ من ارتضى من رسول..)(2).
... ... الله - عز وجل - يقول: يا محمد بلِّغ الناس أنَّك لا تعلم الغيب.
... ... ويقول تعالى: إنَّه عالم الغيب لا يأذن ببعضه إلا للرسل ولم يذكر من سميتموهم بالأئمة!! إلاَّ إذا استدركتم على الله - عز وجل - على حسب المنهج الشيعي كما سيأتي!!
... ... وكتاب الكافي يقول خلاف ذلك؟!! فمن الصادق يا تُرى؟! استغفر الله.
... ... فأيهما أفضل يا تُرى؟! كتاب مادته الوحي الإلهي (القرآن والسنة الصحيحة) التي تتحدث عن مسائل الإيمان والإسلام والجهاد ونحو ذلك.
... ... أو كتاب مادته عن أشخاص نُصبوا أئمة وأعطوهم صفات الإله فلا تكاد تجد في غير المسائل الفرعية إلاَّ الحديث عن الإمامة والأئمة...والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) سورة الأعراف آية(188)
(2) سورة الجن آية(26-27)(108/37)
11) قلتم: (فلا يصح الاعتماد في نقل بعض الدواهي ونسبتها إلى الشيعة استنادًا على من تقدَّم من مخالفيهم من دون الرجوع في معرفة أقوال الإمامية إلى علمائهم وأخذ مذهبهم في الأصول والفروع من مؤلفاتهم).
... ... قلت: نعم نحن نُؤكد على هذا المنهج وها نحن كما ترى لم ولن ننقل عن غير مؤلفات الشيعة!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
12) قلتم: (ومن الغرائب أحمد أمين المصري كتب في كتابه "فجر الإسلام": (أنَّ التشيُّع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام) وبعد انتشار كتابه عُوتب فاعتذر بعدم الاطلاع وقلة المصادر) [فجر الإسلام/33].
... ... قلت: إنَّ قول أحمد أمين هذا يقول بمعناه كثير من العلماء قديمًا وحديثًا وذلك لأنَّ منهج تعامل الشيعة مع الإسلام يُؤدي إلى إلغاء الإسلام ويتبيَّن ذلك بما يلي:
طعنت الشيعة في عدالة الصحابة ـ إلاَّ أربعة أشخاص ونحوهم كما سيأتي بمشيئة الله تعالى ـ وهذا الطعن يُشكِّك في أمانة الصحابة ولهذا فكل ما رووه غير موثوق به بناءً على ذلك.
والإسلام: "قرآن" و"سنَّة".
والقرآن قد صرَّح قرابة ثلاثين عالمًا من علماء الشيعة الإمامية بأنَّه مُحرَّف وناقص وذلك يعني أنَّ القرآن غير موثوق به وهذه أسماؤهم:
الفضل بن شاذان النيسابوري المتوفي عام "260هـ" قال في كتابه "الإيضاح /112-114/" باب: ذِكر ما ذهب من القرآن.
... ... وأورد روايات من كتب السنَّة ـ أساء فهمها ـ قرر بها نقصان القرآن وأكَّد النوري الطبرسي أنَّه يقول بتحريف القرآن.
فرات بن إبراهيم الكوفي من علماء القرن الثالث فقد روى بسنده في تفسيره أنَّ أبا جعفر يقرأ هذه الآية: (إنَّ الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم "وآل محمد" على العالمين) وأورد عدة آيات على هذا المنوال/1/48018/.
العياشي من علماء القرن الثالث في تفسيره 1/12و13و47و48/.
القمي شيخ الكليني في تفسيره /1/5و9و10/.(108/38)
الكليني في أصول الكافي/1/413/ رويات كثيرة 8و23و25و26و27...
أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي "ت:352" اتهم أبا بكر بعدم جمعه كل القرآن خوفًا من ظهور ما يفسد عليهم أمرهم ذكر ذلك في كتاب: (الاستغاثة من بدع الثلاثة) /1/51-53/.
محمد بن إبراهيم النعماني في القرن الخامس ذكر ذلك في كتاب (الغيبة).
أبو عبدالله محمد بن النعمان الملقب بالمفيد (ت:413) قال في كتابه (أوائل المقالات): (أقول: إنَّ الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف والنقصان...).
أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي من القرن السادس في كتابه: (الاحتجاج)/1/240و245و249/.
أبو الحسن علي بن عيسى الإربلي (ت:692) في كتابه: (كشف الغمة في معرفة الأئمة)/1/319/.
الفيض الكاشاني (ت:1091) في تفسيره الصافي /1/24و25و32و33/.
محمد بن الحسن الحر العاملي (ت:1104) في كتابه وسائل الشيعة /18/145/.
هاشم بن سليمان البحراني (ت:1107) في تفسيره البرهان /4/151-152/.
محمد باقر المجلسي (ت:1111هـ) ملأ كتابه "بحار الأنوار" بالروايات التي تُقرِّر النقص وكذلك في كتابه "مرآة العقول" /12/525/.
نعمة الله الموسوي الجزائري (ت:1112) في كتابه "الأنوار النعمانية" /2/360_364/.
يوسف بن أحمد البحراني (ت:1186) في كتابه "الدرر النجفية" /294-296/.
... ... هذه بعض أسماء القائلين بنقص القرآن وتحريفه وهناك غيرهم العشرات وقد أورد النوري الطبرسي في مقدمة كتاب "فصل الخطاب" قرابة أربعين اسمًا ممَّن يقول بهذا القول ولم يستثنِ من القدماء إلا أربعة أشخاص/51/.
... ... أليس هذا الاتجاه في المذهب الإمامي يهدم الإسلام؟؟!!(108/39)
... ... نعم هناك تيار آخر يُخالف هذا التيار ـ في القول بتحريف القرآن ـ ولكن هذا التيار أكثره من المتأخرين وقد يُقال إنَّه: تقية لأنَّ التقية عقيدة إمامية من لا يستعملها لا دين له كما صرَّحت بذلك كتبهم، وإنْ كنَّا لا ندَّعي ذلك بل قد يكون عن قناعة لأنَّ تلك الدعوى كفر تضاد القرآن الكريم نفسه الذي يقول فيه تعالى: (إنَّا نحن نزَّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون). لكن القصد بيان سبب شدة العلماء على المذهب الشيعي.
... ... هذا في القرآن.
فأمَّا في السنَّة فإنَّ الشيعة إذا جاء حديث يُخالف معتقدهم طعنوا فيه بل طعنوا في الصحابة الذين نقلوا السنَّة ولم يبقَ منهم أحد لم يُكفَّر أو يُفسَق إلاَّ أربعة أشخاص، أليس هذا بابًا يأوي إليه كل زنديق يُحارب الإسلام؟!
ما هو الإسلام؟ أليس هو: الكتاب والسنَّة ورواة لهما وهم الصحابة؟!
فإذا طعن في الرواة وشكك في إيمانهم فكيف يوثق فيما نقلوه؟
ثمَّ ماذا يستطيع الزنادقة أكثر من ذلك؟
ــــــــــــــــــــــــــــــ
13) قلتم إنَّ ابن حزم قال: (ومن الإمامية من يجيز نكاح تسع نسوة) وخطأته في دعواه ثمَّ قلت: (فيقرأ الفاتحة على ورع ابن حزم) [الفصل/4/182].
... ... قلت: ابن حزم رحمه الله كغيره من علماء السنَّة لا يستبيحون الكذب بل يتحرون في نقلهم وعزوهم وربَّما يقول بهذا القول إحدى فرق الإمامية والتي تبلغ العشرات.
... ... فإنَّ جميع الطوائف والفرق التي تدَّعي الإمامة في آل البيت يجمعها اسم: "الإمامية" ثمَّ تنفرد الإمامية الاثنا عشرية بهذا الاسم والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
14) قلتم: إنَّ الدكتور عبدالله محمد الغريب قال: (بأنَّ الشيعة تعتقد بأنَّ نكاح الأم هو من البر بالوالدين) [وجاء دور المجوس/222/].
... ... الجواب من وجوه:
... ... أولاً: رجعت إلى الصفحة المذكورة وهي (222) فلم أجد فيها هذا الكلام فلعلَّكم اعتمدتم على كتاب آخر.(108/40)
... ... ثانيًا: لم يذكر الإمامية على وجه الخصوص وإنَّما ذكر الشيعة وهذا اسم يعم عشرات الفرق ولعلَّه قول لأحد تلك الفرق الغالية.
... ... ثالثًا: لا يجوز له أن يعمم إن كان ذلك كذلك.
... ... رابعًا: هذا من المحرمات الظاهرة التي لا يجرؤ مسلم على القول بها ولا أدري هل ذكر مرجعًا لكلامه أم أنَّه أطلقه بدون عزو؟
... ... خامسًا: هذا شخص غير معروف ولا ندري من هو فالله أعلم بحاله.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
15) قلتم: إنَّ أبا حنيفة يرى أنَّه (لا يجب الحد بوطء من استأجر امرأة ليزني بها) ثمَّ تساءلتم عن جواز نسبة هذا القول (إلى جميع أهل السنَّة).
... ... قلت:
... ... أولاً: إذا اجتهد العالم فأخطأ في اجتهاده فهو مغفور له خطؤه، مأجور على اجتهاده، فإنَّه ما من عالِم إلاَّ وله خطأ أو أخطاء في اجتهاده، لأنَّ العالم غير معصوم ولكن إخوانه من أهل العلم يصححون له خطأه، فليس هناك فتوى خاطئة إلاَّ وقد ردَّها العلماء.
... ... فهذه المسألة قد خالف فيها تلميذاه: محمد بن الحسن وأبو يوسف وذهب إليه المحققون من علماء المذهب كما بينه صاحب: "الدر المختار" وابن عابدين في حاشيته: 4/29/ وأفاض في رد هذه الحيل ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" /3/377/.
... ... وهذه الفتوى الغريبة من أبي حنيفة رحمه الله ليست بأغرب من كثير من الفتاوى الشيعية والتي أطلقها علماء الشيعة قديمًا وحديثًا.
فمن الفتاوى القديمة:
روى الطوسي عن محمد بن أبي جعفر ع قال قلت: (الرجل يُحل لأخيه فرج جاريته؟ قال: نعم لا بأس به، له ما أحل منها)(1).
وروى الكليني والطوسي عن محمد بن مضارب قال: قال لي أبو عبد الله ع: يا محمد! خذ هذه الجارية تخدمك وتصيب منها فإذا خرجت فارددها إلينا)(2).
ومن الفتاوى الحديثة:
__________
(1) الاستبصار/3/136/
(2) الكافي/ الفروع/2/200/ الاستبصار/3/136/(108/41)
فتوى الخميني قال: (لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين دوامًا كان النكاح أو مقطعًا!!
... ... وأمَّا سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة!!!!!)(1).
فتوى الخوئي قال: (لا يبطل الصوم إذا قصد التفخيذ فدخل في أحد الفرجين من دون قصد)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
16) قلتم: (وهنا استلطف نظركم السامي إلى آراء بعض علماء الأزهر الشريف حول الشيعة الإمامية التي صدرت بعد قراءة كتبهم بقول الاستاذ عبدالهادي مسعود الأبياري: (ليس من شك في أنَّ المذهب الشيعي هو فرع من أهم فروع المذاهب الإسلامية العامة...)إلخ
ونقلتم عن الدكتور أبي الوفاء التفتازاني قوله: (وقع كثير من الباحثين سواء في الشرق أو في الغرب قديمًا وحديثًا في أحكام خاطئة عن الشيعة لا تستند إلى أدلة أو شواهد نقلية جديرة بالثقة وتداول بعض الناس هذه الأحكام فيما بينهم دون أن يسألوا أنفسهم عن صحتها وخطئها.. وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ أي باحث يتصدى للبحث عن تاريخ الشيعة أو عقائدهم أو فقههم لا بد له من الاعتماد أولاً وقبل كل شيء على تراث الشيعة أنفسهم في هذه المجالات.. إلى أن قال: (إنَّ مدى الخلاف الموجود بين السنَّة والشيعة ليس فيما يبدو لنا بأبعد ممَّا هو موجود مثلاً بين مذهبي الإمام مالك وأتباعه من أهل الرأي والقياس) [مع رجال الفكر في القاهرة 1/221/ للأستاذ السيد مرتضى الرضوي].
... ... قلت الجواب على هذه الأقوال من أوجه:
... ... الوجه الأول: نحن نحب والله أن لا يكون بيننا وبين الشيعة خلاف ونتمنى أن ينحصر الخلاف فيما بيننا وبينهم ليكون مثل ما بين مالك والأحناف أو أي مذهبين من مذاهب السنَّة.
__________
(1) تحرير الوسيلة للخميني/2/241/
(2) منهاج الصالحين للخوئي/1/263/(108/42)
... ... الوجه الثاني: يقول التفتازاني المذكور كما تقدَّم: (إنَّ أي باحث يتصدى للبحث عن تاريخ الشيعة أو عقائدهم أو فقههم لا بد له من الاعتماد أولاً وقبل كل شيء على تراث الشيعة أنفسهم في هذه المجالات).
... ... قلت: هذا منهج واجب الاتباع لكل من يريد أن يقف على عقيدة طائفة أو فقهها أو رأيها ولكن يبدو أنَّ هذا الكاتب لم يقف عليها وإلاَّ لما قال هذا القول.
... ... والمطلع على كتب الشيعة القديمة يرى أنَّ هناك فرقًا كبيرًا بين الشيعة وأهل السنَّة بل يرى اتجاهين لا يلتقيان أبدًا.
... ... وكتب الشيعة الأصول مملوءة بما يقرر عدة عقائد كل واحدة منها كافية لجعل الشيعة مذهبًا خارجًا في نظر السنَّة عن الإسلام ولم تحظَ هذه الكتب بعناية علماء الشيعة القدماء فيميزون الصحيح من الضعيف ممَّا جعل كل ما في هذه الكتب من صحيح وضعيف وموضوع دليلاً يُستدل به على عقائد الشيعة سواء من أتباع المذهب أو من المُخالفين وخاصة الكتب الأربعة التي تُسمَّى عند الشيعة الإمامية بالأصول وهي:
... ... "كتاب الكافي"، و"من لا يحضره الفقيه"، و"التهذيب"، و"الاستبصار" فقد أثنى عليها كثير من علماء الشيعة ووصفوها بالصحة ووصفوا مؤلفيها بصفات المجتهدين الموثوقين.
... ... ومنهم من يجعل الكتب المعتمدة ثمانية.
... ... وفي مقدمة هذه الكتب كتاب "الكافي".
... ... ونذكر نموذجًا من رواياته التي تقرر إمامة علي - رضي الله عنه - وكفر الصحابة بتركها وفيه تقرير ردة الصحابة إلا ثلاثة أو أربعة أو نحوهم.
... ... فقد عقد بابًا بعنوان: "باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية".
... ... ثمَّ أورد تحته اثنتين وتسعين رواية تفسيرًا لآيات من القرآن تُقرِّر الولاية.(108/43)
... ... أول رواية فيها عن سالم الحناط قال: قلت لأبي جعفر ع أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى: (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) قال: هي الولاية لأمير المؤمنين ع.
... ... والثانية في تفسير الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض عن جعفر الصادق أنها: "ولاية أمير المؤمينن ع).
... ... والثالثة في قول الله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال: (بما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - من الولاية ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان فهو الملبِّس بالظلم) طبعًا المراد: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
... ... واستمر يُفسِّر الآيات بكلام غريب عجيب والأعجب زعمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - داخل في ولاية علي - رضي الله عنه -.
... ... ففي الرواية (24) عن أبي جعفر قال: (أوحى الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنَّك على صراط مستقيم) قال: إنَّك على ولاية عليّ، وعليّ هو الصراط المستقيم؟؟!!!
... ... وبعدها رواية (25) عن أبي جعفر قال: (نزل جبريل بهذه الآية على محمد - صلى الله عليه وسلم - هكذا (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله: "في عليّ" بغيًا).
... ... وهكذا على هذا النمط من الكذب على الله - عز وجل - ورسوله.
... ... فجميع هذه الروايات تُقرِّر ولاية عليّ - رضي الله عنه - وإمامته وكفر الصحابة بها.
... ... وهذا نزر يسير من تلك الروايات التي لا يخلو منها أو من مثلها كتاب شيعي.
... ... وإذا كان الصحابة جميعهم لم يؤمنوا بهذه الولاية ومن سار على منهاجهم من أهل السنَّة فقد كفروا على حسب هذه الروايات.
... ... ونحن نعتقد اعتقادًا جازمًا أنًَّها روايات كاذبة نُسِبت إلى آل البيت وربَّما يوجد من الشيعة الإمامية من يُكذِّبها.(108/44)
... ... لكن ماذا يُصنع وقد نشأت على هذه الروايات أجيال وتقرَّر في أذهانهم أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - إمام من الله وأنَّ الصحابة عصوا أمر الله - عز وجل - وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يُنفِّذوا هذه الوصية، بل وقعوا في الكفر كما في تلك الروايات وعشرات غيرها تُقرر أنَّّ الصحابة ارتدوا إلاَّ عددًا يسيرًا منهم.
... ... فكيف يُقال بعد هذا إنَّ الفرق بين الشيعة والسنَّة كالفرق بين المذاهب الأربعة الفقهية من أهل السنَّة؟! أليس هذا قولاً باطلاً؟
... ... ولا أظن أنَّ شيعيًا أو سنيًا يعرف كل منهما مذهبه يوافق على قول هذين الشخصين إلاَّ إذا استعمل أحدهما التقية فلربَّما.
... ... إنَّ مصادر الشيعة تحتاج إلى جهد صادق من أتباعها لتنقيتها من الموضوعات والمنكرات وتحذير الأتباع من أخذ كل ما ورد فيها ليُعاد تشكيل العقلية الشيعية وفق الآثار الصحيحة.
... ... فإنَّ كثرة ما فيها من التناقضات مع القرآن الكريم ومع بعضها البعض قد تنبَّه له كثير من أتباع المذهب وكان سببًا لهجر المذهب وتركه من بعضهم كما يُقرِّره أحد أعلام المذهب وهو الطوسي المتوفي عام "460هـ".
... ... فقد قال في مقدمة كتابه: "التهذيب": (ذاكرني بعض الأصدقاء أيده الله ممَّن أوجب حقه علينا بأحاديث أصحابنا أيدهم الله ورحم السلف منهم وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتَّى لا يكاد يتفق خبر إلاَّ وبإزائه ما يُضاده ولا يسلم حديث إلاَّ وفي مقابلته ما ينافيه حتَّى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون في مذهبنا.. إلى أن قال: حتَّى دخل على جماعة ممَّن ليس لهم قوة في العلم ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبهة وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لِما اشتبه عليه الوجه في ذلك وعجز عن حل الشبهة فيه.(108/45)
... ... سمعت شيخنا أبا عبدالله أيَّده الله يذكر أن أبا الحسين الهاروني العلوي كان يعتقد الحق ويُدين بالإمامة فرجع عنها لَما التبس عليه الأمر وترك المذهب ودان بغيره..)(1).
... ... نعم إنَّ العاقل ينفعه عقله.. ومن أراد الله به خيرًا وفَّقه.
... ... هذا اعتراف من أحد أئمة المذهب بأنًَّ الروايات متناقضة، فلا تكاد توجد رواية أو قول إلاَّ ويقابلها ما يناقضها وأنَّ جماعة...بل جماعات وإلى اليوم توفق إلى إدراك الحقيقة فتهتدي.
... ... وهذا يُؤكد أن الاختلاف بين المذهبين ليس اختلافًا يسيرًا.
... ... وأنَّ سببه وجود روايات متعارضة متناقضة لا يقبلها القلب السليم.
... ... وبهذا يتبين بطلان دعوى أنَّ الخلاف بين أهل السنَّة وأهل التشيع كالفرق بين المذاهب الفقهية عند أهل السنَّة.
... ... وقد تقدم نموذج من أقوالهم في القرآن الكريم ودعوى التحريف ودعوى ردة الصحابة وذلك من كتبهم فكيف يقال بعد هذا إنَّ الخلاف ليس أبعد ممَّا بين مذاهب أهل السنَّة؟!!
... ... أين في أهل السنَّة من يقول بشيء من هذه الأقوال؟؟؟
... ... الوجه الثالث: يبدو أنَّ هذا الحال الذي عليه المذهب من التناقضات هو سبب: "استحداث عقيدتي التقية والبداء على الله - عز وجل -".
... ... فإنَّ الدين: "إمَّا أحكام وإمَّا أخبار" فتناقض الأحكام يُحلُّ: "بالتقية"، وتناقض الأخبار يُحلُّ: "بالبداء" وبهاتين العقيدتين لا يمكن أن يقع خطأ في الوجود.
... ... والواقف على الروايات يرى التناقض واضحًا.
__________
(1) التهذيب/ المقدمة/(108/46)
... ... فقد روى الكليني عن زرارة بن أعين أنَّه سأل أبا جعفر عن مسألة فأجابه ثمَّ جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابه ثمَّ جاءه رجل ثالث فأجابه بخلاف ما أجاب به الآخرَين فتعجب زرارة وسأله عن هذا التناقض فقال أبو جعفر الصادق: (يازرارة إنَّ هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم..)؟!!
... ... جعفر: "الصادق" يكذب ويفتي بغير الحق حفاظًا على نفسه.. "تقية" حاشاه من ذلك.
... ... فهذا التناقض في الفتاوى يُحلُّ بـ: "التقية".
... ... وأمَّا في الأشخاص فقد أورد الكشي أثارًا متضاربة في أكثر من شخص عن أبي عبدالله منهم:
... ... "زرارة بن أعين" قال فيه: أبو عبدالله: "جعفر الصادق": (بشر المخبتين بالجنَّة: بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير: ليث بن البختري، ومحمد بن مسلم، وزرارة أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست).
... ... ورواية بعدها عن أبي عبدالله: (إنَّ أصحاب أبي كانوا زينًا أحياء وأمواتًا أعني: زرارة.. هؤلاء القوامون بالقسط..)(1).
... ... وفي رواية أخرى قال أبو عبدالله: (لعن الله زرارة، لعن الله زرارة، لعن الله زرارة..)(2).
... ... وفي أخرى: (لعن الله بريدًا ولعن الله زرارة)(3) ـ بريد أي المتقدم سابقًا بريد بن معاوية العجلي ـ
... ... فأي هذه الأقوال حق وأيها تقية؟!
__________
(1) رجال الكشي/1/170/
(2) رجال الكشي/1/1/147/
(3) رجال الكشي/1/148/(108/47)
... ... والتناقض في الأخبار إذا أخبر الإمام بخبر زعم أنَّه من الله - عز وجل - ثمَّ لم يَصدُقِ الخبر فالخطأ ليس من الإمام لكنَّه من الله - عز وجل - ـ استغفر الله ـ لأنَّه قال قولاً ثمَّ بدا له أن يغيره والإمام أخبر بالخبر الأول كما أخبره الله - عز وجل - ثمَّ فوجئ أنَّ الله - عز وجل - يغير الخبر...وهذا يُحلُّ بـ: "بالبداء" أي أنَّ الله - عز وجل - بدا له فألغى الخبر الأول!!!
... ... ومثال ذلك ما ورد في: "إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق" ثمَّ مات قبل أبيه فانتقلت الإمامة إلى أخيه: "موسى" وهذا طعن في علم الله - عز وجل - إذ أخبر بإمامة شخص لا يعيش ثمَّ غير فجعل الإمامة في أخيه مع أنَّ الشيعة أوردت في كتبها أنَّ الإمامة لا تنتقل إلى الأخ بعد الحسين - رضي الله عنه -.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
17) قلتم:(إذا كان المدعى أمراً غريبًا على العقول فإثباته يحتاج إلى دليل واضح ثم ضربتهم مثالاً ثم قلتم: وما أشبهه بنظرية عدالة الصحابة فإن كل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعةً أو يومًا أو أسبوعًا أو شهرًا صار عدلاً فالقول بعدالتهم من أولهم إلى آخرهم وأنهم رجال مثاليون من أغرب الغرائب الممكنة التي لا تثبت إلا بدليل يقطع جميع الشبهات حول عدالتهم).
الجواب من وجوه :
أولاً: الخلاف بيننا وبينكم ليس في عدالة جميع الصحابة الذين أُطلق عليهم هذا اللفظ سواء من كان من السابقين الأولين أو كان من المسلمين المتأخرين.
وإنَّما خلافنا معكم في عظماء الصحابة وأفاضلهم من المهاجرين والأنصار وخاصة الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان وإخوانهم وأمَّا من أسلم متأخراً هل هو عدل أم لا فالخطب فيه يسير بالنسبة للخلاف السابق.
ولعلماء السنَّة أنفسهم تفصيلات وتفريعات في الصحابي الذي قلّت صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يخرجهم هذا التفصيل عن أهل السنَّة .(108/48)
لكن المحققين من علماء السنَّة يرون أنَّ كل من أسلم وصحِب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد إسلامه فهو عدل حتى يثبت خلاف ذلك.
وهذا موقف سليم فإنَّ من أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك دينه السابق وأعلن الدخول في الإسلام ورضي به ديناً والإسلام يحرِّم الكذب والفواحش فالأصل أنَّه متبع له لأنَّه قد أعلن التزامه به حتى يثبت خلافه خاصة وقد أشرقت عليه أنوار النبوة ونالته بركة صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - شرف وتزكية وليست كصحبة غيره مهما كان ذلك الغير.
ثم ليس هذا هو خلافنا مع الإمامية.
ثانيًا: إنَّ ادعاء كفر الصحابة أو فسقهم أو خيانتهم عن بكرة أبيهم ما عدا أربعة أشخاص أشد غرابة من القول بعدالتهم.
فإنَّ اعتقاد أنَّ الذين تربوا على مائدة القرآن قرابة ثلاث وعشرين سنة تقريبًا أو عشرين سنة أو عشر سنين أو خمس سنين أو نحوها أسلموا نفاقًا أو طلبًا لمنصب أو رغبة في الدنيا مع عدم وجودها أثناء الدخول في الإسلام.
أو امتنع عن تنفيذ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في إمامة علي - رضي الله عنه - من غير سبب ظاهر بأوهام غريبة ثمَّ هم يقاتلون لأجل إقامة الدين ويفتحون الأرض بالإسلام وعلي معهم في كل ذلك.
ثمَّ يعيشون حياة الزهد والعفة وهم خلفاء ويطيعهم آلاف الصحابة ولا ينكر عليهم منكر.
ثمَّ يروون فضائل عليّ - رضي الله عنه - وينقلون ما يحدث من خلاف حتَّى نقلوا خلاف فاطمة رضي الله عنها مع أبي بكر في أمر دنيوي ولم ينقلوا عنها ولا عن عليّ خلافًا في إمامة...إلى آخر ما هنالك من أحوالهم ثمَّ يزعم أنَّهم مرتدون أو رادون لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم غرابة..
فقارن بين الدعويين بقلب سليم وعقل مستقيم يظهر لك الحق إن شاء الله تعالى.
ولمزيد من البيان نضيف تمهيدًا في الوجه الآتي:(108/49)
ثالثًا: تمهيد يُحتاج إليه هنا لأن كتب الشيعة الإمامية قد أهملته كما يظهر من أصح كتاب عندهم وهو كتاب الكافي. فإنني لم أجد فيه ذكر أحداث العهد المكي ومعاناة المؤمنين فيه.
هذا التمهيد هو: (التذكير بمعاناة الصحابة في بداية الإسلام) وكيف دخلوا الإسلام وما لاقوه من ابتلاء وأذى في سبيل ذلك.
فإنَّ الله - عز وجل - عندما بعث نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأمره بأن يعلن الدعوة بالإسلام في مجتمع مشرك عاش على الشرك هو وآباؤه فإن ذلك يعني تغيير عقيدة المجتمع وإبطالها والإقرار بفسادها وهي عقيدة عاش عليها الآباء والأجداد.
... ثمَّ إنَّ الذي يقبل الإسلام ويعترف بتلك الحقيقة يعني أنه يواجه المجتمع: أسرته أولاً ثم قبيلته ثانيًا ثم المجتمع المشتمل على عدة قبائل ثالثًا ثم جميع قبائل العرب رابعًا وهو موقف عظيم لا يقدم عليه إلا من خالط قلبه بشاشة الإيمان.
... وبمراجعة تلك الفترة الزمنية ومعرفة أحداثها نرى أمرًا عجبًا. وفيما يلي إشارة إلى تلك المرحلة بإيجاز.
الدعوة في مكة:
... عندما بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته داخل المجتمع المكِّي واجه المجتمع مواجهةً شديدة وآذوه أشد الأذى وآذوا كل من اتبعه.
... وقد تنوع الأذى وتباين ما بين هجر وضرب وقتل.
... وكتب السير والتواريخ مملوءة بأنواع القصص التي تكشف عن مدى ما عانى منه الصحابة من شدَّة وكرب عندما دخلوا في الإسلام.(108/50)
... قال ابن مسعود: (أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمار بن ياسر، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأمَّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأمَّا أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأمَّا سائرهم فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلاَّ بلال! فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأعطوه الولدان وأخذوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد)(1).
... وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مرَّ على المعذبين يثبتهم ويبشرهم. فقد مرَّ على آل ياسر: ياسر وابنه عمار وأمه فيقول لهم: (ابشروا آل ياسر موعدكم الجنة)(2).
... وفي قصَّة إسلام أبي ذر أنَّه أعلن بإسلامه في المسجد الحرام فقاموا إليه فضربوه حتى أوجعوه فلم يمنعهم منه إلا العباس(3).
وعن سعيد بن زيد قال: (والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام قبل أن يسلم عمر)(4).
... وعن عبدالله بن عمرو قال: (رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فوضع رداءً في عنقه فخنقه به خنقًا شديدًا فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم)(5) [سورة غافر (28)].
... وزاد البزار: (فتركوه وأقبلوا على أبي بكر)(6).
__________
(1) رواه ابن ماجه في المقدمة/ح/150/ وابن حبان/ح/7082- الإحسان/ والحاكم/3/384/ وأحمد/1/404/ وغيرهم قال البوصيري في زوائد ابن ماجه: إسناده رجال ثقات
(2) السيرة الحلبية/1/456/
(3) صحيح البخاري/ح/3446/
(4) رواه البخاري /ح/3862/
(5) رواه البخاري /ح/3678/
(6) مجمع الزوائد/6/17/ وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح(108/51)
... ولشدَّة ما لقيه الصحابة من البلاء والأذى وجَّههم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحبشة، فذهب كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - إلى الحبشة وتركوا أرضهم وأهليهم فارِّين بدينهم(1).
... وقد هاجر الصحابة إلى الحبشة هجرتين، كان عدد المهاجرين في الثانية أكثر من ثمانين رجلاً وامرأة(2).
... ثمَّ كان من ترتيب الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه أنَّ وفدًا من الخزرج من المدينة ذهبوا إلى مكة يستنصرونهم على الأوس فلقيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فعرض عليهم الإسلام فأعجبهم ما سمعوا، ثمَّ إنَّهم وعدوه بأن يعرضوه على قومهم.
... فعرضوه على قومهم فجاء منهم في الحج من العام القابل اثنا عشر رجلاً فبايعوه على الإسلام(3).
... ثم أرسل النبي معهم مصعب بن عمير يعلمهم الدين ويؤمهم في الصلاة.
وبعد أن وصل إلى المدينة قام بالاتصال بالناس فأسلم على يديه خلقٌ كثير.
... وقد أسلم على يديه زعيمَا بني عبد الأشهل وهما: أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ ولمَّا أسلم سعد بن معاذ ورجع إلى قومه وحرَّم كلامه عليهم إنْ لم يؤمنوا، فأسلموا جميعًا وأخذ مصعب يعلمهم الدين، ما عدا بعض البطون لم تُسلِم إلاَّ بعد الخندق(4).
__________
(1) رواه أحمد/الفتح الرباني/ /20-224-225/ والبيهقي في دلائل النبوة /2/67/ وحسنه ابن حجر في/ الفتح/ 7/179/
(2) أوردها البيهقي في دلائل النبوة/ 2/6/297-298/
(3) روى البخاري مبايعتهم على الإسلام/ح/ 3893/، ومسلم/ح/1709/، ومقدمات الإسلام ذكرها البيهقي/دلائل النبوة/ 2/433-435/ بسند حسن
(4) ورد من طرق عدة/ تاريخ الطبري/2/357/، والبيهقي/ دلائل النبوة/2/438/ وغيرهما(108/52)
... ثمَّ فشى الإسلام في المدينة، قال جابر بن عبدالله في حديث طويل: (فقلنا حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُطرد في جبال مكة ويخاف، فرحلنا إليه سبعون رجلاً منَّا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا. فقلنا: يا رسول الله على مَ نبايعك؟ قال: (تبايعوني على السمع والطاعة في المنشط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني ممَّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنَّة).
... قال: فقمنا إليه فبايعناه.
... وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو أصغرهم - فقال: رويدًا يا أهل يثرب: فإنَّا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلاَّ ونحن نعلم أنَّه رسول الله وأنَّ إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن تعظكم السيوف إمَّا أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإمَّا أنتم تخافون من أنفسكم جبنة فتبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله.
... قالوا: أمط عنَّا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبدًا ولا نسلبها أبدًا.
فبايعناه فأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة)(1).
ولم يَعدْهم بخلافة ولا وزارة ولا دنيا.
... ثم إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في الهجرة إلى المدينة.
... قال البراء بن عازب: (أوَّل من قدم علينا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: مصعب بن عمير، وابن أمِّ مكتوم فجعلا يُقرئاننا القرآن ثم جاء عمَّار، وبلال، وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم -...)(2).
__________
(1) رواه أحمد/3/322/، والبيهقي في/ السنن/9/9/، ورجاله ثقات، وقال ابن حجر: إسناد جيد على شرط مسلم/ الفتح/7/220/
(2) رواه البخاري/ ح/3924/(108/53)
وقد همَّ أبو بكر - رضي الله عنه - بالهجرة مع إخوانه المهاجرين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (على رِسلك فإنِّي أرجو أن يُْؤذن لي). فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي وأمِّي؟ قال: (نعم)(1).
... فجهَّز أبو بكر - رضي الله عنه - راحلتين مدة من الزمن، ثم جاءه النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أُذن له في الهجرة وطلب أبو بكر الصحبة فقال: نعم. فخرجا واختفيا في غار ثور ثلاثة أيَّام، وأسرة أبي بكر - رضي الله عنه - ترعى هذه الهجرة.
... عبدالله بن أبي بكر يأتيهما ليلاً بأخبار أهل مكة.
... وأهل أبي بكر يعدون لهما طعامهما يوميًا.
... وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر يأتيهما بغنم أبي بكر يشربان من لبنها(2).
... ثمَّ تمَّت الهجرة العظيمة لسيد البشر مع أفضل النَّاس بعد الأنبياء والرسل لتكون بداية ظهور الإسلام وإعزازه.
... وخلَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًّا - رضي الله عنه - في مكة لينام في فراشه حتَّى لا يلفت أنظار قريش خروج النبي - صلى الله عليه وسلم -(3).
... المرحلة المدنية:
... وقد استقبل أهل المدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم استقبال، وأحاطوا به من جوانبه كلٌ يود لو ينزل في داره ليَشرف بذلك النزول، ولكنَّه - صلى الله عليه وسلم - بقي في "دار بني عمرو بن عوف" أربع عشرة ليلة ثمَّ أرسل إلى بني النجَّار فجاءوا متقلدي السيوف ثمَّ سار حتى نزل في بني النجَّار مكان مسجده الشريف وهناك بدأ ببناء المسجد وشاركه المهاجرون والأنصار في بناء المسجد(4).
... ثمَّ إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين والأنصار ليُذهب عن المهاجرين وحشة الغربة ويتأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة.
__________
(1) رواه البخاري/ح/3905/
(2) صحيح البخاري/ح/3905/
(3) رواه أحمد/ الفتح الرباني/20/279/ وصححه أحمد شاكر
(4) ذكره البخاري/ح/3932/، ومسلم/ح/524/(108/54)
... ثمَّ بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتأسيس المجتمع المسلم من لبنات الإيمان: المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم ينصرون الله ورسوله، والأنصار الذين يحبُّون من هاجر إليهم.
... وبدأت مسيرة الجهاد والصحابة - رضي الله عنهم - يعيشون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتمرون بأمره وينتهون عن نهيه.
... وقد قاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه الشريفة إحدى وعشرين(1) غزوة وقيل تسع عشرة غزوة(2) ورجّح ابن حجر القول الأول(3).
... وأمَّا السرايا التي أمَّر عليها أحدًا من أصحابه فقد بلغت ستًّا وثلاثين وقيل أكثر من ذلك(4).
... كل تلك الغزوات والسرايا لنُصرة دين الله - عز وجل -.
فانتشر الإسلام وذلَّت الجزيرة بكاملها للإسلام.
هؤلاء هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمنوا به، ونصروه، وواسوه بأنفسهم وأموالهم، وهجروا الديار والأهل فِرارًا بدينهم وإعزازًا لدين الله - عز وجل -.
ولم يكن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعوهم إلى الله - عز وجل - مالٌ يدفعه إليهم، أو يطمعون في الحصول عليه، وإنَّما كان وعْده لهم: الجنة.
تربية الصحابة في العهد المكِّي:
كان القرآن الكريم يتنزَّل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يقرأه عليهم ويلقِّنهم إيَّاه وقد نزل في العهد المكِّي أكثر من ثمانين سورة، وهذا يمثِّل أكثر من ثلثي القرآن الكريم.
وقد كانت هذه السور تُقرِّر العقيدة وخاصة عقيدة اليوم الآخر والبعث والحساب، وتصف الجنَّة والنار وأحوال أهلهما، وصنوف العذاب التي أعدَّها لأهل النار، وأنواع النعيم التي أعدَّها للمؤمنين، كل ذلك يُتلى في مئات الآيات والصحابة يتلقَّون تلك الآيات آناء الليل وآناء النهار والرسول - صلى الله عليه وسلم - يرعى خُطاهم ويوجه مسيرهم.
__________
(1) رواه مسلم /ح/1813/
(2) رواه البخاري/ح/3949/
(3) فتح الباري/7/280-281/
(4) ذكر ذلك ابن حجر في/الفتح/7/281/(108/55)
ولقد عاش الصحابة - رضي الله عنهم - في مكَّة في عناء وشدَّة وعذاب وفتنة ولولا صِدق الإيمان ورعاية الله - عز وجل - لهم بالتثبيت والتوفيق لما تحمَّلوا تلك المعاناة الشديدة.
أهؤلاء تحمَّلوا هذه المعاناة طمعًا في مال، أو رغبةً في جاه، أو نفاقًا ورياءً؟!
تربية الصحابة في العهد المدني:
العهد المدني استمرار للعهد المكِّي في تربية الصحابة - رضي الله عنهم - ورعاية إيمانهم والتدرج بهم إلى مراقي الكمال.
فإنَّ الإنسان بدخوله إلى الإسلام لا يعني أنَّه أصبح ملَكًا لا يصدر منه أخطاء ولا يقع منه هفوات.
فالصحابة بشر لهم رغبات ولهم أخطاء وليسوا معصومين.
لكنَّهم مؤمنون يحبُّون الله ورسوله ويتمسكون بدينهم ويدافعون عنه ويجاهدون في سبيل إعزازه ونشره.
وقد كانوا يتحرَّكون تحت سمع الله - عز وجل - وبصره، وتحت إشراف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمدة ثلاثة وعشرين عامًا في مدرسة واحدة ينهلون من علومها ويحفظون دروسها ويتربَّون في فصولها.
فنِعْمَت المدرسة ونِعم الدارسون.
هذه المدرسة هي أعظم مدرسة في التاريخ وأنجحها وأبركها.
خرَّجت جيلاً عظيمًا حمل مِشعل الهداية وفتَح الأرض في فترة زمنية لم يعرف التاريخ لها مثيلاً.
مرحلة ما بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -:
توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أكمل الله - عز وجل - به الدين وأتمَّ به النعمة.
ثم إنَّ الناس الذين لم يتربوا على مائدة النبوة ممَّن أسلم من أهل القرى والبوادي البعيدة اهتز إيمان كثير منهم، وجَهِل كثير منهم فرائض الدين، فحدثت رِدَّة عن دين الله - عز وجل - من بعضهم، وامتناع عن دفع الزكاة من البعض الآخر، ولم يبقَ على الدين سوى ثلاث مدن: "المدينة، ومكَّة، والطائف"، وما عداها فقد أعلنوا عصيانهم.(108/56)
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عقد لأسامة بن زيد - رضي الله عنه - الراية ووجهه إلى الشام ثمَّ مات النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يغادر أسامة المدينة فانتظر حتَّى دُفِن - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ أنفذ الصدِّيق - رضي الله عنه - جيش أسامة.
قال ابن كثير رحمه الله: (قال سيف بن عمر: عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لمَّا بُويع أبو بكر وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه، قال: ليتم بعث أسامة وقد ارتدَّت العرب إمَّا عامة وإمَّا خاصة، في كل قبيلة، ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، لِفقد نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وقِلَّتهم وكثرة عدوّهم، فقال له الناس: إنَّ هؤلاء جُلَّ المسلمين والعرب على ما ترى قد انتقصت بك، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، فقال: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لمْ يبقَ في القرى غيري لأنفذته)(1) وقد روي هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
ثمَّ إنَّ الصدِّيق - رضي الله عنه - أخذ يجهِّز الجيوش لحرب المرتدِّين وأخضع الجزيرة بكاملها للإسلام، ثمَّ أرسل الجيوش إلى خارج الجزيرة لدعوة فارس والروم، ففتح الله - عز وجل - كثيرًا من تلك البلدان، ثمَّ أكمل عمر - رضي الله عنه - مسيرة الجهاد وفتح البلدان، ثمَّ سار بعدهما عثمان - رضي الله عنه - فاتسعت دائرة الإسلام، وتوقف الجهاد في عهد علي - رضي الله عنه - للخلاف الذي وقع بينه وبين معاوية - رضي الله عنه -، ثم عاد الفتح بعد ذلك(2).
وقفات:
هذه نبذة يسيرة عن مراحل الدعوة وظهور جيل الصحابة - رضي الله عنهم - ولنا هنا وقفات:
__________
(1) البداية/6/304/
(2) هذه النبذة توجد في جميع كتب تواريخ أهل السنة والسير.(108/57)
الإسلام جاء بإبطال عقائد المشركين وتسفيه عقولهم وتغيير معاملاتهم، ولا شكَّ أنَّ هذا من أشدِّ المواقف وأشقها على النفس. ولا يقبل إنسان تغيير عقيدته والاعتراف بالخطأ إلا إذا تبين له أن العقيدة الجديدة هي الحق.
أنَّ الذين تركوا دينهم واعتنقوا الإسلام كانوا عظماء في أنفسهم، عقلاء في قراراتهم لدخولهم في الإسلام رغم ما يترتب عليه من تكاليف شاقة وتضحيات وعداوات لو لم يكن البديل عظيمًا في نظرهم لَمَا أقدموا عليه.
لقد ترتَّب على اعتناق الإسلام مقاطعة من أقوامهم، بل والإيذاء الشديد باللسان واليد، بل والقتل أحيانًا.
إنَّ كثيرًا ممَّن أسلم هجر وطنه وخرج إلى بلاد الحبشة، بلاد تختلف عن بلادهم عقيدة ولغة وعادات، كل ذلك للحفاظ على دينهم الجديد.
ثمَّ إنَّ القرآن كان يتنزَّل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرعى مسيرة الإيمان ويغرس عقيدة التوحيد واليوم الآخر، عارضًا نماذج من أحداث اليوم الآخر، وصورًا من أحوال المعذبين في النار، وصورًا من نعيم الجنَّة، ممَّا يُعمق الإيمان ويرسخه في القلوب.
واستمر القرآن كذلك في العهد المدني يتنزَّل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجه الأفراد والمجتمع ويرعى خواطرهم وأقوالهم وأعمالهم، فلا تكاد تنزل آية إلا وهي مرتبطة بحادثة مُؤيدة أو مُصححة أو مُحذِّرة، فعاش الصحابة مكشوفي الضمائر والحركات والله - عز وجل - يرعى ضمائرهم وحركاتهم.
وتولَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه تربية أصحابه وتوجيههم وتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والحكمة ويتخذ منهم الوزراء والأمراء، ويُزوجهم ويتزوج منهم، ويُثني عليهم، ويمدحهم، ويُبشِّر بعضهم بالجنَّة، وهكذا كان معهم إلى أن لقي الله - عز وجل -.
أليست هذه الأمور مجتمعة كافية لإخراج جيل ربَّاني لا يلحقه جيل ولا يساويه في إيمانه وأخلاقه وعلمه؟(108/58)
إذا لم تنجح هذه المدرسة الربَّانية بإشراف محمد- صلى الله عليه وسلم - في تربية الإنسان فلا خير في الأرض بعد ذلك ولا قبله.
وإذا لم ينجح الإسلام في بدايته وقد تهيَّأت له تلك الأسباب والظروف فلا أمل في نجاحه بعد ذلك.
ونحن نشهد أنَّ المدرسة الربَّانية بإشراف محمد - صلى الله عليه وسلم - قد نجحت في تربية الأصحاب، والتاريخ يشهد.
إنَّ القول بردَّة هؤلاء أو خيانتهم رغم كل هذه الأسباب التي لابد أن يكون ثمارها خير الثمار إن مدعي ذلك صاحب قلب مريض.
نسأل الله له الشفاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 18) قلتم: (إنَّ الصحابة اختلفت مقدار صُحبتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فبعضهم صَحِب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أول ساعة...) إلخ ما أشرتم إليه من تفاوت في زمن صُحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
... ثمَّ قلتم: (فهل يصح أن يُقال: إنَّ صُحبة ساعات أو أيام قلعت ما في نفوسهم...) إلخ.
... قلت: هل يعني أنَّ الشيعة يُقرون بأنَّ الذين صَحِبوه من أول أمره - صلى الله عليه وسلم - قد: (قُلِعت ما في نفوسهم من جذور غير صالحة وملكات رديئة، وكوَّنت منهم شخصيات ممتازة) أم أنَّهم هم والذين أسلموا آخر البعثة سواء؟!
... وهل أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وإخوانهم الذين أسلموا في أول البعثة قد تهذبت نفوسهم ـ عندكم ـ أم لا؟!
... فهم قد صَحِبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من أول الإسلام.
... إنَّ المطلع على جميع كتب الشيعة بدون استثناء لا يرى إلاَّ التكفير أو التفسيق لهؤلاء العظماء.
... إذن ما الفائدة في التفريق بين من أسلم قديمًا ومن أسلم بعد ذلك عندكم؟!
... قال الطوسي الإمامي: (ودفع الإمامة وجحدها كدفع النبوة وجحدها سواء)(1).
__________
(1) الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد/358/(108/59)
... والصحابة الأوائل لم يعرفوا الإمامة فضلاً عن أنْ يُقال: إنَّهم دفعوه عنها، والشيعة يعتقدون أنَّهم دفعوه عنها فما حكمهم إذن؟!
... ويقول الشيخ المفيد الإمامي: (أول أئمة المؤمنين وولاة المسلمين وخلفاء بعد رسول الله الصادق الأمين ... أخوه وابن عمه ووزيره على أمره ... عليّ بن أبي طالب...)(1).
... ثمَّ قال كلامًا وادّعى دعاوى في غاية الغرابة ممَّن يُوصف بالعلم والإيمان؟!
... وإذا كان عليّ - رضي الله عنه - لم يحكم إلاَّ بعد ثلاثة خلفاء، وكان هو أول أئمة المؤمنين فماذا كان وصف من سبقه؟! هل كانوا أئمة لغير المؤمنين؟! وهل هؤلاء ممَّن أسلم متأخرًا أم كان من أوائل من أسلم؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 19)قلتم:(فلهذا نرى القرآن يقسِّم الأصحاب إلى أصناف يمدح صنفًا منهم كما يذم الصنف الآخر)
... قلت: هذا الكلام غير دقيق فإنَّ القرآن الكريم لم يقسم الأصحاب المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وإنَّما مدحهم جميعًا وأثنى عليهم.
... وأمَّا الذم فهو للمنافقين وليس للمؤمنين.
... فإنَّ تعريف الصحابة هم الذين رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم مؤمنون به وماتوا على ذلك، والمنافقون لم يؤمنوا به أصلاً، فكيف يُقال إنَّه يقسم الأصحاب إلى قسمين؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 20) قلتم: (أمَّا الممدحون فهم كما ذكرتم: فالسابقون من المهاجرين والأنصار والمبايعون تحت الشجرة وأصحاب الفتح... فالناظر المتجرد عن كل رأي مسبق والبريء قلبه من كل مرض يجد في نفسه تكريمًا لهؤلاء الصحابة).
__________
(1) الإرشاد/1/5/(108/60)
... قلت: هذا القول الذي ذكرته الآن حق ووفاء لهذه العصبة المؤمنة التي كانت سببًا في إسلامي وإسلامك فقد آمنوا وهاجروا وجاهدوا ونشروا الدين وأزالوا الشرك ودخل الناس بسبب جهادهم في دين الله - عز وجل - أفواجًا فلهم علينا حق أن ندعوا لهم وأن نترضى عنهم فجزاهم الله عن نبيه ودينه وعنَّا أفضل الجزاء.
... ولكن هل يستقيم هذا الاحترام ودعوى: "الوصية" التي تزعم الشيعة أنَّها من الله - عز وجل - وأمر رسوله ( أن يبلغها للناس ثمَّ إنَّه بلَّغها عند قوم ولم يبلِّغها عند آخرين كما سيأتي بمشيئة الله تعالى، ثمَّ إنَّ الصحابة رفضوها وأخفوها على حد زعمهم؟! لا أظن ذلك!!
... 21) ثمَّ تحدَّثتم عن النفاق والمنافقين وأنَّ القرآن الكريم تحدَّث عنهم ثمَّ قلت: (وهذا يدل على كثرة أصحاب النفاق وتأثيرهم يوم ذاك في المجتمع الإسلامي).
... قلت: إنَّ النفاق كان موجودًا وكان له ما ذكرت، ولكن لا يعني ذلك أنَّ الصحابة كانوا منافقين، بل هم تيَّار آخر معارض لتيَّار الإيمان، وكان لظهوره أسباب ومراحل نوجزها فيما يلي:
... أولاً: أسبابه:
... عندما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سبقه أصحابه المهاجرون ودانت المدينة لحكمه كان هناك رجل اسمه "عبدالله بن أُبي بن سلول" كان ينظَّم له الخرز ليتوجوه على المدينة، فكان قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - سببًا في صرف ذلك عنه، فكان سبب العداء للإسلام والمسلمين(1).
... وكان أول أمره يُظهِر كفره، ولكنه بعد غزوة بدر وهي الغزوة التي أعز الله - عز وجل - فيها الإسلام على أيدي أصحابه البررة رأى أنَّه لم يعد يستطيع يُظهِر كفره فأظهر الإسلام مع استبطان الكفر وبقي معه على ذلك جماعة غير قليلة من أتباعه.
__________
(1) صحيح البخاري/ح/4566/وسيأتي بعض ألفاظه بمشيئة الله تعالى.(108/61)
... فالنفاق إذن كان في الأوس والخزرج حيث من أسلم منهم سُمِّي: "أنصاريًّا" ومن لم يسلم أو تظاهر بالنفاق لا يستحق ذلك الاسم.
... ولم يُعرَف النفاق في المشهورين المعروفين من الأوس والخزرج ولله الحمد، وإنَّما كان في أفراد مغمورين مقهورين قُصارى جهدهم المكر والخديعة.
كما لا يُعرف أصلاً في أحد من المهاجرين لأنَّ المهاجر أصلاً خرج من أرضه وماله باختياره فكيف ينافق؟!
... أمَّا أهل المدينة فإنَّ الشخص إذا لم يسلم في الظاهر فإنَّه يبقى مستهجنًا مستنكرًا ذليلاً، فرأى أنَّ إعلان الإسلام يرفع عنه هذه الوصمة من العار.
... قال تعالى: (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) [سورة المنافقون (8)].
... أخبر الله تعالى أنَّ العزَّة للمؤمنين، وأنَّ المنافقين أذلَّة، والواقف على حال الصحابة يرى أن سادتهم بل جميعهم كانوا أعزة بين المؤمنين وخاصة الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم -.
... ثانيًا: مراحل النفاق:
... كان النفاق في أول أمره ذا شوكة وعدد، لكن أهله كانوا أقل عددًا من المسلمين بكثير إذ لو كانوا أكثر فما الذي يمنعهم من المواجهة؟!
... ثالثًا: كشف المنافقين:
... القرآن الكريم تولى كشف المنافقين بذكر أعمالهم ومواقفهم حتَّى لكأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يرونهم بل ويعرفونهم.
قال تعالى: (فإن رجعك الله إلى طائفةٍ منهم فاستئذنوك للخروج...) [سورة التوبة (83)].
وقال تعالى: (ولا تُصلِّ على أحدٍ منهم مات أبدًا...) [سورة التوبة (84)].
وقال تعالى: (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبَّأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله...) [سورة التوبة (94)].(108/62)
هذه الآيات تدل على أنَّه يعرفهم وإلاَّ فكيف ينفذ أوامر الله - عز وجل - في من لا يعرفه؟! فكيف لا يأذن لمن لا يعرفه؟ وكيف يمتنع عن الصلاة على من لا يعرفه؟ وكيف يقول لمن لا يعرفه: لن نؤمن لكم؟
وقال تعالى: (والذين اتخذوا مسجدًا ضِرارًا...) [سورة التوبة (107)].
وقال تعالى: (يحذر المنافقون أن تُنزل عليهم سورةٌ تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إنَّ الله مُخرجٌ ما تحذرون) [سورة التوبة (64)]
وهذه الآيات في سورة التوبة وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم فقد توعدهم الله - عز وجل - بإظهار نفاقهم وأعمالهم التي يخفونها.
قال تعالى: (لئن لم ينتهِ المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ والمرجفون في المدينة لنغرينَّك بهم ثمَّ لا يُجاورونك فيها إلاَّ قليلاً - ملعونين أينما ثُقِفوا أُخِذوا وقُتِّلوا تقتيلاً) [سورة الأحزاب (60-61)].
وهذا تهديد لهم بالانتهاء عن النفاق وإلاَّ فإنَّه سيُغري رسوله - صلى الله عليه وسلم - بهم بإخراجهم أو بقتلهم، فلمَّا لم يغره بذلك دلَّ على انتهائهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 22) قلتم (ص"6"): (إنَّ في القرآن الكريم آيات تدل بوضوح على وجود مجموعات من الصحابة تضاد الأصناف السابقة... كالمنافقين...).
... قلت: المنافقون ليسوا من الصحابة، ولكنَّهم معهم وهذا إطلاق خاطئ.
... قال تعالى: (ويحلفون بالله إنَّهم لمنكم وما هم منكم...) [سورة التوبة (56)].
... فالله تعالى يبرِّئ الصحابة من مشاركتهم في نفاقهم، وأنَّهم غيرهم.
... والقرآن الكريم في كل آياته يبيِّن أنَّ المنافقين ليسوا من المؤمنين أي ليسوا ممَّن يُوصفون بالصُحبة فإنَّ الصُحبة الإيمانية لا يُوصف بها إلاَّ المؤمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 23) قلتم: (...إن المنافقين كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي...)(108/63)
... قلت: لا يسلَّم هذا الإدعاء فإنَّهم لو كانوا كثيرين لواجهوا المسلمين، ولكنَّهم كانوا قليلين مغمورين مقهورين.
... وأمَّا كثرة ورود الآيات فيهم فهي لكثرة أذاهم وشرّهم على المسلمين، فإنَّ الإشاعات قد يُطلقها شخص واحد فيكون لها آثارها السيئة بما يعادل جيشًا جرارًا يواجه المسلمين، ولهذا فدعوى الكثرة مردود وليس في القرآن ولا في السنَّة ما يدل على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 24) قلتم: (...بين معروف عُرِف بِسِمَة النفاق وغير معروف بذلك مقنع بقناع التظاهر بالإيمان والحب للنبي - صلى الله عليه وسلم -...).
... قلت: هذه دعوى ينقصها الدليل فأين من المنافقين من زعم أنَّه يحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي أيّ كتاب وجدت ذلك؟! وأنت تقرر أنَّه لابد من ذكر المصدر!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 25) قلتم: (بحيث كان كل من حول النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاف على نفسه أن تنزل فيه آية تفضحه بمرأى من المسلمين ومسمعهم)؟!
... قلت: عجبًا لهذا الخيال العجيب إنَّ هذا الكلام يُوحي بأنَّهم جميعًا منافقون متستِّرون ويترقَّبون أن ينزل فيهم قرآن يكشف نفاقهم!!
... وهذا خيال عجيب!!
... فلم ينزل ما توهمته فهل يعني ذلك إقرار النفاق أو تغريرًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بإبقاء المنافقين حوله يخدعونه بالإيمان وهم غير مؤمنين، ثمَّ هذا خداع للأمَّة أن يبقى أشخاص يحيطون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهم منافقون وتحسبهم الأمَّة مؤمنين فتتلقى عنهم الدين وهم منافقون.
إنَّ هذا الكلام يفقد الثقة في كل من حول النبي- صلى الله عليه وسلم -أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وغيره من سادات المؤمنين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 26) أوردتم قولاً عُزي إلى عمر - رضي الله عنه - وهو: (ما فرغ من تنزيل براءة حتى ظننَّا أن لن يبقى منَّا أحد إلاَّ ينزل فيه شيء) وعزوته إلى زاد المسير 3/306/(108/64)
إنَّ ذلك ليس معناه أنَّهم منافقون وإنَّما أراد - رضي الله عنه - أنَّنا جميعًا أصحاب ذنوب وخطايا.
... ولمَّا نزلت السورة تكشف أخطاء المنافقين بصورة مفصلة خشينا أن لا تترك أحدًا له خطأ أو أخطاء إلاَّ كشفته وهل يمكن أن يعترف المنافق بالنفاق؟! إنَّ حساسية القلب المؤمن والاعتراف بالتقصير درجات رفيعة لا تعرفها القلوب المريضة.
... ثمَّ لماذا يُنافق عمر - رضي الله عنه - وهو الذي آمن باختياره، وهاجر باختياره، وقد تحمَّل في سبيل ذلك أنواع الأذى والابتلاء، وفارق الوطن والعشيرة، أكان يعلم الغيب؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 27) قلتم (ص"7"): (أ: أين ذهب هؤلاء المنافقون...).
... قلت: مرَّ معنا أنَّ الله - عز وجل - قد هددهم إن لم ينتهوا أنْ يُغري بهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو أن يُقتلوا، ولمَّا لم يقع هذا الإغراء والتقتيل عرف أنَّهم تابوا أو هلكوا أو ذلوا.
... وقد ورد في صحيح مسلم عن حُذيفة - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (في أصحابي اثنا عشر منافقًا: فيهم ثمانية لا يدخلون الجنَّة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سَمّ الخياط: وثمانية منهم تكفيكموهم الدُّبيلة: سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 28) قلتم: (أين ذهب هؤلاء المنافقون بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -...).
... قلت:
... أولاً: هل هناك دليل أنَّ هؤلاء المنافقين قد بقوا إلى وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
... ثانيًا: إنَّ الدلائل تدل على أنَّهم إمَّا تابوا وانتهوا من نفاقهم، أو أنَّهم نُقِصوا حتى ضعفوا، إمَّا نُقِصوا بالموت كما تقدَّم في الحديث، وإمَّا أنَّهم دخلوا الإسلام وخاصة عندما مات زعيمهم الذي كانوا يوالونه، ثمَّ بعد أن مات لم يبقَ لهم مطمع في الظفر والنصر.
__________
(1) صحيح مسلم/ح/2779/(108/65)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 29) أوردتم ثلاث صفحات تقريبًا (6-9) تتساءلون فيها عن المنافقين الذين كانوا في المدينة وتشيرون إلى كثرتهم وكيف انتهى الحديث عنهم...إلخ).
... والجواب نذكره إجمالاً وتفصيلاً:
... أولاً: الرد الإجمالي:
الناظر في عرضكم للصحابة والمنافقين يلحظ عدة أمور منها:
أنَّكم عند عرضكم للصحابة حاولتم أن تُقلِّلوا من عددهم وأن تحملوا الآيات على أنَّها أرادت بعض من يُسمَّى بالصحابة ممَّا يُوحِي بأنَّ الآيات لا تشير إلاَّ إلى أفراد لأنَّها تُحمل على البعض لا على الكل ولمَّا كان معتقد الشيعة أنَّ جميع الصحابة كفروا أو فسقوا إلاَّ أربعة أشخاص أو نحوهم فلم ييقَ إذن إلاَّ ذلك العدد.
فسيأتي قولكم: (وبما أنَّ لفظة: "من" في: "من المهاجرين" للتبعيض فهو يخرج المتأخرين) [ص"28"].
وقلتم: (يُلاحظ عليه: أنَّه سبحانه لا يُثني لا على عامة المهاجرين ولا على عامة الأنصار بل صنف خاص منهم) [ص"29"].
وإن كان كلامكم فيه استدراكات لكنَّها مشوبة بهذه التشككات وعند التحقيق لا ممدوح عند الشيعة سوى عليّ والأربعة.
مع أنَّ بعض الآيات كما سيأتي ليس فيها التقييد بالبعض.
بل نلمح أنَّ التأثر بالروايات الضعيفة يكاد يحصر الممدوحين في الآيات على أنَّ (المراد من السابقين هو عليّ بن أبي طالب...) [ص"31"] كما سيأتي من قولكم لولا ما استدركتموه بعد ذلك.
لكنكم أنتم ربَّما تمثِّلون بهذا الاستدلال فئة قليلة لا تمثل المذهب وإنَّما لكثرة دراستها وتحقيقاتها توصلت إلى هذه النتيجة وإن كان ذلك قد يحمل على التقية عندما نرى قناعتكم بنظرية"الوصية"كما سيأتي.(108/66)
ثمَّ إذا ذكرتم المنافقين وإذا بكم تضخمونهم وتدَّعون كثرتهم حتَّى ليُخيَّل إلى القارئ أنَّ المنافقين يمثِّلون أكثرية المجتمع فقد قلتم: (فلو كان المنافقون جماعة قليلة غير مؤثرة لما رأيت هذه العناية البالغة في القرآن) إلى أن قلتم: (وهذا يدل على كثرة أصحاب النفاق وتأثيرهم يوم ذاك في المجتمع الإسلامي) إلى أن قلتم: (الدالة على أنَّ المنافقين كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي) [ص"6"].
عند عرضكم للمنافقين أوردتم آثارًا تُوحي بأنَّه كل من حول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسلم من النفاق.
وهذا يدل دلالة واضحة على قوة تأثير الروايات الشيعية التي لا تستثني أحدًا من الصحابة - رضي الله عنهم - غير الأربعة أو نحوهم من العدول عن جادة الصواب مع أنَّ جميع تلك الروايات ممَّا ابتُلي به المذهب الشيعي كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
ثانيًا: نحن نتساءل عدة أسئلة على ضوء عرضكم هذا:
كم كان عدد المنافقين في المجتمع المدني؟
وهل هذه الحملة عليهم في القرآن تدل على كثرتهم؟
وهل بقي أحدٌ منهم بعد موته - صلى الله عليه وسلم -؟
وهل كانوا يَخفون على الصحابة - رضي الله عنهم - وعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - كذلك؟
هذه التساؤلات نحاول أن نجيب عنها باختصار.
أمَّا عدد المنافقين فلا شكَّ أنَّه كان في البداية كثيرًا_لكنهم لم يكونوا أكثر من المؤمنين _ وذلك لأنَّ رئيسهم عبدالله بن أُبي كان يتوق إلى الزعامة لم ييئس منها طوال حياته ولعلَّ من كان معه يحمل نفس الأمل.
... لكن لا نتصور أنْ يستمر التابعون له بنفس العدد وهم يسمعون القرآن يُتلى في أرضهم وبيوتهم وأسواقهم ومساجدهم فلا بد أنْ يتأثَّر بعضهم بما يسمع.
... ثمَّ لا شكَّ أنَّ الطمع في العودة إلى الجاهلية والوصول إلى الزعامة قد انقطع بموت عبدالله بن أُبي بن سلول وأنَّ المنافقين قد ضعُفوا بعد ذلك.(108/67)
... وقد روى البخاري قصة فيها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على مجلس فيه عبدالله بن أُبي بن سلول فدعاهم إلى الله - عز وجل - فقال ابن سلول: (أيها المرء إنَّه لا أحسن ممَّا تقول إنْ كان حقًّا فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه) وكان المجلس فيه خليط من المسلمين واليهود والمشركين فوقع بينهم الخلاف حتى كادوا أن يقتتلوا، فخفضهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سكنوا، ثمَّ ركب دابته فسار إلى سعد بن عُبادة يزوره فلمَّا دخل عليه قال: (يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب ـ يريد عبدالله بن أُبي ـ قال كذا وكذا.
... قال سعد بن عُبادة: (يا رسول الله اعفُ عنه واصفح عنه فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أُنزِل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البُحيرة_أي البلد_على أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة_يعني يرئسوه عليهم_فلمَّا أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرِق_أي غص: كناية عن الحسد_بذلك...)(1).
... وهذه الواقعة كانت قبل أن يتظاهر بالإسلام قبل غزوة بدر.
... ثمَّ بعد غزوة بدر عندما انتصر المسلمون وظهرت قوتهم قرَّر عبدالله بن أُبي أن يدخل في الإسلام.
... ثمَّ تُوفي ابن سلول في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - العام التاسع(2). ولا شكَّ أنَّ هذا سبب كبير لضعف النفاق.
أمَّا هذه الحملة على المنافقين فليس لكثرتهم، وإنَّما لكثرة شرهم وما يقومون به من إشاعات وتخذيل في صفوف المؤمنين.
... ... وإذا رجعنا إلى كتب السير والتواريخ لا نكاد نجد ذِكرًا لأسماء المنافقين غير ابن أُبي وقد تورد أسماء قليلة وبدون أسانيد.
__________
(1) رواه البخاري/ح/4566/
(2) ذكره ابن كثير عن ابن إسحاق/البداية/5/34/(108/68)
... ... وقد تقدم عن حُذيفة بن اليمان أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (في أصحابي اثنا عشر منافقًا... ثمانية منهم تكفيكم الدُبيلة ـ سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم)(1) فدل هذا الحديث أنَّ عددهم في أواخر أمرهم لم يزد على هذا العدد وأنَّ الله - عز وجل - تكفَّل بإهلاكهم.
وهل بقي أحد منهم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
... ... إن بقي أحد فلا يتجاوز عدد أصابع اليد وذلك لعدة أدلة:
أ ) ما تقدم من الحديث.
ب) لم يذكر أحد من الصحابة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم شيئًا.
ج) عندما حدثت الردَّة من كثير من الناس لم يسمع لهم خبر ولم يحدث في داخل المدينة أي حادث يدل على وجود أحد منهم، ولو كانوا موجودين لاستغلوا حادثة الردَّة وآذوا المسلمين كعادتهم.
د) إنَّ الله - عز وجل - لم يهلكهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنَّه سيتولى فضح مخططاتهم بنفسه - عز وجل - ولبيان أحكام من سيأتي في المستقبل ممن هو على شاكلتهم في المجتمع المسلم.
... ... وأنَّا يجب أنْ نتعامل مع الناس بحسب الظاهر منهم ولو كانوا في الباطن على خلاف ذلك.
هـ) وأخيرًا ما ثبت في صحيح البخاري عن حذيفة - رضي الله عنه - والذي هو الخبير بالمنافقين أنَّه لم يبقَ من المنافقين إلاَّ أربعة أشخاص.
... ... فقد أورد البخاري بسنده عند هذه الآية: "فقاتلوا أئمة الكفر إنَّهم لا أيمان لهم" عن زيد بن وهب قال: (كنَّا عند حذيفة فقال: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلاَّ ثلاثة ولا من المنافقين إلاَّ أربعة ـ فقال أعرابي: إنَّكم يا أصحاب محمد تخبروننا فلا ندري، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون؟ ـ قال: أولئك الفساق. أجل لم يبقَ منهم إلاَّ أربعة: أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده)(2).
... ... وحذيفة هو أعرف الناس بالمنافقين.
__________
(1) صحيح مسلم/ح/2779/
(2) صحيح البخاري/ح/4658/(108/69)
وهل كانوا يخفون على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
... ... إنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا من أذكى الناس وأعظمهم نباهة ولم يكونوا مغفلين تخفى عليهم مثل هذه الشخصيات الخبيثة.
... ... أمَّا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد عرفهم بالوحي، إمَّا بصفاتهم ولحن قولهم،وإمَّا بخبر الله - عز وجل - له في أواخر حياته - صلى الله عليه وسلم -.
... ... وأمَّا كثير منهم فقد كانت أعمالهم تكشفهم والقرآن فصَّل فيهم فذكر: منهم ومنهم... إلخ حتى لكأن الصحابة - رضي الله عنهم - يرونهم.
... ... وبعد هذه الإجابة الإجمالية نعود إلى الإجابة التفصيلية حسب عرضكم للموضوع.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 30) قلتم: (قال السيوطي: وأخرج أبو عوانة وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردوية عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنَّ عمر - رضي الله عنه - قيل له: سورة التوبة قال: هي إلى العذاب أقرب! ما أقلعت عن الناس حتَّى ما كادت تدع منهم أحدًا) [الدر المنثور/3/208].
... ... قلت:
... ... أولاً: هذا القول والذي قبله متقاربان.
... ... ثانيًا: لم أجد هذا القول في المصادر الموجودة كتفسير الطبري وابن أبي حاتم وهما أصل لجميع كتب التفاسير والكتب المذكورة قد فُقِدت ولهذا لا نستطيع أن نحكم عليه ولكن غالب الظن أنَّه لا يصح لأنَّ عدم وجوده في أقدم موسوعة للتفسير يدل على اختلاقه.
... ... ثالثًا: هب أنَّه قال فما هو المعنى يا تُرى؟!
... ... هل المراد أنَّ جميع من حول النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق!!! إذن على الأمَّة السلام.
... ... رابعًا: قد يُراد بالناس: "المنافقون" أي أنَّها كشفت عنهم حتَّى لم يبقَ منهم أحد فإنَّها إنَّما تحدثت عن النفاق وأهله وجميع الأفعال التي أوردتها السورة إنَّما حدثت من المنافقين فأين في السورة إشارة إلى أحد ممَّن حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة المشهورين؟؟(108/70)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 31) أوردتم (ص"7") عدة أسئلة
... ... أظن أنَّ الإجابة الإجمالية كافية لبيان جوابها.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 32) أوردتم حديث حُذيفة قال: (إنَّ المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يومئذٍ يُسرُّون واليوم يجهرون)(1).
... ... للحديث أحد معنيين:
... ... المعنى الأول: أنَّ المنافقين الذين ظهروا في عصر حُذيفة - رضي الله عنه - جاهروا بنفاقهم على خلاف ما كان المنافقون السابقون.
... ... قال ابن التين: (أراد أنَّهم أظهروا من الشرّ ما لم يُظهِر أولئك غير أنَّهم لم يُصرِحوا بالكفر وإنَّما هو النفث يلقونه بأفواههم فكانوا يُعرفون به)(2).
... ... فهذا الذي فهم العلماء من هذا النص وهو الراجح لما في لفظ آخر أورده الفريابي بسنده عن حُذيفة أنَّه قال: (المنافقون الذين فيكم اليوم شرٌّ من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا أبا عبدالله: وكيف ذاك؟ قال: إنَّ أولئك كانوا يُسرُّون نفاقهم وإنَّ هؤلاء يعلنون)(3) وفي هذا إشارة إلى أنَّ المنافقين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد انتهوا.
... ... المعنى الثاني: أنَّ المنافقين الذين كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - جهروا بالنفاق وأعلنوه وهذا المعنى غير واضح فإنَّه لم ينقل لنا أي خبر يدل على أنَّ المراد بهم هم أولئك بأعيانهم ثمَّ لو كان هذا هو المراد لكان يعني أنَّهم انكشفوا وظهر نفاقهم فلم يعد يُخشى منهم أن يزوِّروا حديثًا أو أن ينسبوا إلى الدين ما ليس منه لأنَّهم انكشفوا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) رواه البخاري/ح/7113/
(2) أورده ابن حجر في الفتح/13/74/
(3) صفة المنافق/ح/53/ وابن أبي شيبة/15/109/(108/71)
... 33) ثمَّ أوردتم حديثًا آخر عن حُذيفة: (إنَّما كان النفاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمَّا اليوم فإنَّما هو الكفر بعد الإيمان)(1)[صحيح البخاري/8/100 ـ كتاب الفتن].
... ... قلت: هذا الحديث بنفس المعنى السابق.
... ... قال ابن التين:(كان المنافقون على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم -آمنوا بألسنتهم ولم تُؤمن قلوبهم، وأمَّا من جاء بعدهم فإنَّه وُلِد في الإسلام وعلى فطرته، فمن كفر منهم فهو مرتد، ولذلك اختلفت أحكام المنافقين والمرتدِّين)(2).
... ... ونص الحديث واضح فهو يقول: (فأمَّا اليوم فإنَّما هو الكفر بعد الإيمان) أي أنَّ أُناسًا آمنوا ثمَّ غيَّروا وهذا لا يكاد يخلو منه زمن.
... ... ثمَّ لو كان المراد أن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلنوا الكفر فذلك خير لأنَّه يكشف عن عقائدهم الكاذبة التي استتروا وراءها في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم -.
... ... ولا شكَّ أنَّ أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم -غير مقصودين بهذا الخبر لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا عليّ ولا إخوانهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 34) قلتم: (ز ـ وبعد ذلك كله ماذا نقول بما ورد بأنَّ عمر بن الخطاب لم يكن يُصلِّي على أحدٍ مات إلاَّ بعد شهادة حُذيفة بأنَّه لم يكن من المنافقين) ثم قلتم: (كما قال ابن كثير: (وذُكر لنا أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا مات رجل ممَّن يرى أنَّه منهم نظر إلى حُذَيفة فإن صلَّى عليه وإلاَّ تركه) [تفسير ابن كثير/2/399].
... ... قلت:
... ... أولاً: هذا القول المنسوب إلى عمر لم يورده ابن كثير بسند أو يعزوه إلى كتاب مُسند وإنَما أورده بصيغة التضعيف له حيث قال: (وذُكِر لنا) وهذه الصيغة تدل على تضعيف الأثر.
... ... إذن لا حجة في حديث أو أثر لا يصح .
__________
(1) رواه البخاري/ح/7114/
(2) أورده ابن حجر في/الفتح/13/74/(108/72)
... ... ثانيًا: هذا إنْ صحَّ يدل على أنَّ حُذَيفة - رضي الله عنه - يعرف المنافقين وبهذا فلا يستطيع مُنافق أن يقول في الدين شيئًا لأنَّه مكشوف وقد عاش حُذيفة إلى سنة ست وثلاثين للهجرة(1).
... ... ثالثًا: ثمَّ إن هذا منكم تناقُض ففي السابق تؤكدون أنَّ المنافقين: (كانوا يستترون واليوم ـ أي في عهد حُذَيفة ـ يجهرون).
... ... وهذا يعني أنَّهم عُرِفوا ثمَّ هناك تزعُم أنَّهم مستترون غير معروفين؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 35) قلتم: (وكيف نجيب الطالب إذا استفسر عن مدلول ما ورد أنَّ أمر النفاق وعدم تغلغل الوعي الإيماني في نفوس الصحابة بلغ بالدرجة التي يشك الخليفة عمر بن الخطاب هل هو منهم أم لا؟ كما ذكر ابن كثير والطبري: (وذُكِر لنا أنَّ عمر قال لحُذَيفة أنشدك الله: أمنهم أنا؟ قال: لا، ولا أومن! منها أحدًا بعدك) [تفسير ابن كثير/2/299/جامع البيان للطبري/11/16].
... ... قلت: هذا القول كسابقه أورده ابن كثير بصيغة التمريض وهذا إشارة إلى عدم صحته عنده ثمَّ لم يذكر له سندًا أو يعزوه إلى كتاب مسند ليعرف سنده ويحكم عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 36) قلتم: (هل نقبل بأن يُقال: إنَّ المنافقين كانوا معروفين فلا نخلطهم بالصحابة).
... ... قلت: نعم إنَّ المنافقين لم يكونوا مجهولين كما تقدم بل كانوا معروفين وقد تقدَّم تقرير ذلك وما أوردتموه من الآثار لا تصح.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 37) قلتم: (ثمَّ كيف نبُرِّر ونُؤوِّل ما ورد في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب حين قام وقال: يارسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق "أراد عبدالله بن أُبي" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعه لا يتحدَّث الناس أنَّ محمدًا يقتل أصحابه)(2) [صحيح البخاري/6/66/ومسلم(8/19)].
... ... قلت الجواب من وجوه:
__________
(1) تهذيب الكمال/3/342/
(2) رواه البخاري/ح/2940/(108/73)
... ... أولاً: هذا دليل على غيرة الصحابة - رضي الله عنهم - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستعدادهم لقتل المنافقين وهذا دليل إيمانهم وإلاَّ لو لم يكونوا كذلك لرضوا بقول المنافقين.
... ... ثانيًا: يدلنا على قرب عمر - رضي الله عنه - من النبي - صلى الله عليه وسلم - ووقوفه معه جُنديًا يُنفِّذ ما يأمره به وينتهي عمَّا ينهاه عنه.
... ... ثالثًا: لو كان عمر - رضي الله عنه - وحاشاه منافقًا لقال النبي - صلى الله عليه وسلم - له وأنت يا عمر مثله ولم نقتلك أو نحو ذلك إلاَّ إذا قلتم بأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يعمل بـ: "التقية"!!
... ... رابعًا: النبي - صلى الله عليه وسلم - ينسب القول إلى الناس أي غير المسلمين الذين لا يعرفون حقيقة الأمر فلا يُفرِّقون بين مسلم ومنافق ويعتقدون أنَّ كل من مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلم، فلو قتل واحدًا بحجة عدم الإسلام وقد أعلن الإسلام الذي يلحقه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأشاع الناس أنَّ محمدًا يقتل أصحابه أي أتباعه حسب الظاهر.
... ... وليس المقصود أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يصفهم بصفة الصُحبة التي هي صفة تكريم.
... ... ولم يكن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولا من التابعين ولا من جميع المسلمين يُطلِق على: "المنافقين" أنَّهم: "صحابة".
... ... وهكذا كل الأحاديث التي أوردتموها إنَّما أطلق عليهم فيها: "أصحابه"، و: "أصحابي" باعتبار المتحدثين من غير المسلمين ولا يخفى هذا على صاحب قلب سليم!!.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 38) قلتم: (وههنا وقفة أخرى: كيف يُطلِق عمر على صحابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه منافق، ويطلب ضرب عنقه وهو جايز لا طعن فيه ولكن من قال فيه بأنَّه صحابي غير عادل فيحكم عليه بالزندقة؟ّ!!!).
... ... قلت: الرد من وجوه:(108/74)
... ... أولاً: عمر هو عمر فاروق الأمَّة الخليفة الراشد الذي أثنى عليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - وامتدحه في عدَّة مواقف وينبغي أن يُذكَر بكل احترام وتقدير.
... ... وهذه بعض أحاديث وردت في فضله - رضي الله عنه - إضافة إلى ما تقدم:
... ... روي البخاري أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بشره بالجنَّة(1).
... ... وروى البخاري أنَّ أهل بدر في الجنَّة وعمر من أهل بدر(2).
... ... وروى البخاري أنَّه أحب الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي بكر(3).
... ... وروى البخاري أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رؤيا وأعطى فضله ـ من الشراب ـ لعمر وأنَّه فسره بالعلم(4).
... ... ثمَّ إنَّ عمر بن الخطاب ليس مُزارعًا في مزرعة أحدنا أو حارسًا لعمارتنا.. عمر هو الذي فتح العالم ونشر الإسلام وأدخل آباءك وأجدادك في الإسلام فحقه عليك أولاً عظيم وينبغي أن تستحضر هذا المعنى وأنت تذكره..
... ... تستحضر جيوشه وهي تحمل: "الهداية" إلى آبائك وأجدادك ولولا أنَّ الله - عز وجل - قيَّضه وأعانه لربَّما كانت بلاد فارس اليوم على دينها السابق.
... ... فتستحضر هذا الأمر في ذهنك وأنت تذكر هذا الإمام العظيم.
... ... والذي يُكتب مثلُ أعمال هذه البلاد التي فُتِحَت في عهده في صحيفته فكم من مسلم عبد الله - عز وجل - كان عمر سببًا لإسلامه وإسلام آبائه؟! أليس لعمر مثل عمل هؤلاء؟! ..اللهم ارضَ عنه وأجزه عن دينك وأمَّة نبيك خير ما يُجْزى فاتح عظيم.
... ... عمر - رضي الله عنه - الذي لا نستطيع أن نوفيه حقه من الدعاء والثناء.
__________
(1) صحيح البخاري/ح/3613/
(2) صحيح البخاري/ح/3895/
(3) صحيح البخاري/ح/4252/
(4) صحيح البخاري/ح/6854/(108/75)
... ... ثانيًا: عمر - رضي الله عنه - أطلق هذا الاسم في حضرة سيد البشر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يعاتبه لعلمه بحُسن قصده وهو يصف صحابيًا آخر.. أنَّه أطلقه بسبب عمل حدث من ذلك الصحابي وهو كشف خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأعدائه وهو عمل كبير من هذا الصحابي الجليل الذي شفع له حسن قصده وماله من رصيد عظيم. رصيد: "بدر" أول غزوة غزاها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.. الغزوة التي أعز الله فيها - عز وجل - الإسلام فكل عمل خاطئ يقع بعدها فهو ذرَّة في جانب ذلك الرصيد العظيم.
... ... ثالثًا: عمر - رضي الله عنه - حكم على الصحابي بحسب الظاهر ولم يكن يعلم مكانة أهل بدر ولا يعلم ما يكنّه من حب لله - عز وجل - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - فردَّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيَّن له أنَّه صدق في عذره فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّه صدقكم)(1) عندما ذكر عذره فقد علم - صلى الله عليه وسلم - أنَّه صادق في عذره وأنَّ باطنه وظاهره سواء ثمَّ قال لعمر ما قال وكان قول عمر هذا سببًا لمعرفة مكانة أهل بدر.
... ... رابعًا: أنَّ غير عمر ممَّن امتلأ قلبه غِلّ على عظماء الأمَّة بسبب روايات كاذبة في حقهم وعقائد باطلة فهؤلاء لا يشاركون عمر - رضي الله عنه - في سلامة المقصد وصحَّة الخبر الذي يحكمون به على الصحابي الذي يريدون.
... ... فشتَّان إذن بين الأمرين، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 39) قلتم (ص"8"): (وإذا كان الأصحاب كلهم عدول لا استثناء فما معنى الحدود الشرعية التي أقامها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي- عليه السلام - بحق الزُناة والسُّراق وشاربي الخمر من الصحابة).
... ... قلت الرد من وجوه:
__________
(1) رواه البخاري/ح/3305/(108/76)
... ... أولاً: ذكرت عظماء الأمَّة وخلفاءها الراشدين ولم تترضَ عليهم وأفردت عليًّا - رضي الله عنه - بالسلام مع أنَّك قلت في السابق: (فالناظر المتجرد عن كل رأي مسبق والبريء قلبه من كل مرض يجد في نفسه تكريمًا لهؤلاء الصحابة)!! فأين التكريم؟!
... ... ولا شكَّ أنَّ هذا من آثار عقائد الإمامية التي تعتقد أنَّ هؤلاء إمَّا كُفَّار على قول وإمَّا فُسَّاق ظَلَمَة على قول آخر وحاشاهم وزراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنصاره وآباء زوجاته أمَّهات المؤمنين وفاتحي العالم وناشري الإسلام.
... ... ثانيًا: لقد مرَّ معنا أنَّ العدالة ليس القصد منها: "العصمة" من الخطأ فإنَّ العصمة من الخطأ ليست لأحد من البشر إلا الأنبياء عليهم السلام فيما يبلِّغون من شرع الله - عز وجل - ثمَّ لا يُقرُّون على خطأ في غير ذلك.
... ... وليس من شرط أولياء الله - عز وجل - أن لا يقع منهم الخطأ.
... ... وليس القصد من قولنا بعدالتهم أنَّهم لا يُخطئون لكن مُرادنا أنَّهم أُمناء على شرع الله - عز وجل - ولا يكذبون في حديثهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو وقع من أحدهم خطأ فإنَّه يُسارع إلى التوبة إلاَّ حالات شاذة لا تكاد تُذكَر في جانب الآلاف من المؤمنين الصادقين.
... ... أمَّا الخطأ في الاجتهاد فهو وارد ولكنَّهم مأجورون على صوابهم وعلى خطأهم لكن الأجر في الخطأ أقل.
... ... قال ابن الأنباري: (وليس المُراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم لاستحالة المعصية منهم وإنَّما المُراد قبول رواياتهم من غير تكلُّف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلاَّ إنْ ثبت ارتكاب قادح ولم يثبت ولله الحمد)(1).
__________
(1) أورده صاحب المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل/219/(108/77)
... ... وقال ابن القيِّم: (قد يُغلط في مُسمَّى العدالة فيُظن أنَّ المُراد بالعدل من لا ذنب له وليس كذلك بل هو عدل مؤتمن على الدين وإن كان منه ممَّا يتوب إلى الله منه فإنَّ هذا لا يُنافي العدالة كما لا يُنافي الإيمان والولاية)(1).
... ... ثالثًا: كم عدد الذين زنوا في عهد الخلفاء وأقاموا عليهم الحد؟
... ... وكم منهم يا تُرى شرب الخمر وسرق؟
... ... إنَّ هذا الكلام يُوحي بأنَّ الزُناة، والسراق، وشاربي الخمر كانوا بالمئات؟!
... ... وهذا أسلوب لا يليق بباحث محقق!
... ... هل تستطيع أنْ تُحصي لنا العدد؟! إنَّ العدد لا يتجاوز أصابع اليد.
... ... رابعًا: إنَّ من وقع في معصية ثمَّ تاب منها، تاب الله عليه ولا يُعَيَّر بمعصيته، فإنَّ التوبة تجُّب ما قبلها.
... ... أمَّا إنْ لم يتب فلا شكَّ أنَّ هذا مجروح العدالة لكن يبقى أسلوب التضخيم أسلوبًا غير مُرضي عند المحققين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 40) قلتم / ص"8"/: (ما هو المراد من الاجتهاد والتأويل الذي يبرِّر صاحبه فيما يرتكب من المخالفات للكتاب أو السنَّة كما في قضية خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة وأبي الغادية في قتل عمار..).
... قلت: الجواب من وجوه:
... أولاً: لقد أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على خالد بن الوليد ووصفه بأنَّه سيف من سيوف الله.
... ... فقد روى البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - وهو يروي ما حدث في مؤتة: (أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى زيدًا وجعفرًا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: (أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب – وعيناه تذرفان – حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم)(2).
__________
(1) مفتاح دار السعادة/1/163/
(2) رواه البخاري/ح/4262/(108/78)
هنيئًا لسيف الله.اسم أطلقه أصدق الناس وأعلم الناس بأحوال الناس وأحرص الناس على دين الله - عز وجل -.
... ثانيًا: خالد بن الوليد سيف الله المسلول هو الذي حارب المرتدين حتى أعادهم إلى الإسلام وبعد ذلك انطلق إلى العراق يقود كتائب الإيمان وسيرته من أعجب السير وهو الذي فتح تلك البلدان وأدخلها في الإسلام فرضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام خير الجزاء.
وإنَّ أي إنسان سليم القلب يقرأ سيرته ليرى قائدًا عظيمًا نفع الله به الإسلام والمسلمين.
... اقرأ قيادته للجيوش وفتوحاته العظيمة لترى أنَّنا أقزام نقف أمام عملاق نستحي أنْ نثير قصة وقعت نعتقد أنَّه أخطأ فيها إن صحت عنه.
... ثالثًا: الروايات التاريخية مختلفة في بيان الحقيقة ولذلك لا ينبغي التعويل على تلك الروايات التي تشنع عليه دون الروايات التي تبرر عمله فقد ورد في الروايات التي تبرر عمله ما يلي:
... قال ابن كثير: (ويقال بل استدعى خالد مالك بن نويرة فأنَّبه على ما صدر منه من متابعة سجاح وعلى منعه الزكاة وقال: ألم تعلم أنَّها قرينة الصلاة؟ قال مالك: إنَّ صاحبكم (أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كان يزعم ذلك! فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟! يا ضرار اضرب عنقه فضربت عنقه)(1). فالله أعلم أي ذلك كان.
... رابعًا: خالد بن الوليد قائد أمَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وقد وقع منه خطأ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فتبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعله ولم يعزله وذلك قرينة على أنَّ القائد قد يخطئ ولا يستوجب ذلك عزله إذا كان يحتاجه الجهاد في سبيل الله - عز وجل -.
__________
(1) البداية والنهاية/ح/6/322/(108/79)
... روى البخاري بسنده عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بعث خالد بن الوليد إلى بني جُذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا. فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ودفع إلى كل رجل منَّا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أنْ يقتل كل رجل منَّا أسيره فقلت والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرناه فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه فقال: (اللهم إنِّي أبرأ إليك ممَّا صنع خالد مرتين)(1).
... فخالد هنا قتل قومًا أعلنوا إسلامهم بلفظ غير لفظ الإسلام وعندما علم النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يرضَ صنيعه وتبرَّأ من عمله ومع ذلك لم يعزله بل كان يوليه بعد ذلك.
... فما هو قولك في عدم عقابه وعدم عزله أتنتقد النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك أم تسكت أم تؤمن بأنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقب خالدًا لأنه اجتهد فأخطأ؟؟
... ثمَّ ما الفرق بين من قتلهم في المرة الأولى ومن قتلهم في المرة الثانية؟ أليس المقتولون في المرة السابقة كانوا كفارًا وفي المرة الثانية كانوا مرتدِّين ثمَّ أعلنوا الإسلام في كلا الحالين؟
... نحمد الله عز وجل على سلامة الصدر لسيف الإسلام الذي حطَّم دول الكفر وأدخل أهلها في الإسلام وغفر الله له ما أخطأ في جانب بحر حسناته.
... خامسًا: قد وقع مثل هذا الاجتهاد الخاطئ من ابن حب النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد بن حارثة حيث قتل رجلاً بعد أن قال: (لا إله إلا الله) فعاتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ولم يعاقبه(2).
... فما رأيك أتعترض على عدم عقاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بدعوى أنَّه اجتهاد يخالف الكتاب والسنَّة؟!
__________
(1) صحيح البخاري/ح/4339/
(2) رواه مسلم/ح/96/(108/80)
... اجمع بين هذه المواقف النبوية واستحضر موقف الصديِّق - رضي الله عنه - ثمَّ أعد النظر بقلب سليم.
... سادسًا: وقع مثل ذلك لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - فإنَّه لم يقتل قتلة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - خليفة راشد زوج بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قُتِل مظلومًا وهو أعظم وأفضل من مثل الأرض من مالك بن نويرة ولم نُعِب عليه - رضي الله عنه - لأنَّه كان مجتهدًا كأخيه الصدِّيق - رضي الله عنه -. اللهم سلِّم قلوبنا لأحبابك وأصحاب رسولك - صلى الله عليه وسلم - الذين نصروا دينك وجاهدوا مع رسولك - صلى الله عليه وسلم -.
... سابعًا: ألم يحدث هذا الفعل في حياة الصحابة - رضي الله عنهم - ولم يحدث منهم اعتراض إلاَّ ما كان من عمر - رضي الله عنه - فلم نسمع من عليّ ولا غيره - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أنكر ذلك، أتظن أنَّكم أغْيَر على دين الله من جيل القرآن الذي اختاره الله - عز وجل - لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والجهاد لرفع راية الإسلام ونقل الدين إلى الأمَّة كما أنزله الله - عز وجل -؟!
... إنَّ الروايات التاريخية التي تغُصُّ بها كتب الشيعة بالإزراء على الصحابة وإحداث عقائد جديدة هو السبب في هذا الإزدراء والاتهام لعظماء الأمَّة كما سيأتي بيانه بمشيئة الله تعالى.
... أمَّا (قتل أبي الغادية لعمار) إنْ كان هو أو غيره فإنَّه كان يقاتل مع جيش معاوية وقد قُتل عمار وغيره من الصحابة في كلا الجيشين جيش عليّ - رضي الله عنه - وجيش معاوية - رضي الله عنه - وكل من قاتل بتأويل فيرجى له المغفرة، لا ندري عمَّا في نفوسهم، لكنّا نعتقد أنَّهم متأولون ولا شك أنَّ الحق كان مع عليّ - رضي الله عنه - ويشهد لذلك حديث: "تقتل عمار الفئة الباغية".(108/81)
... ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفئة القاتلة بأنًّها باغية ولم يصفها بأنَّها كافرة فهل يجوز لكم أن تكونوا أكثر غيرة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتخطئوه لعدم وصف الطائفة بأنَّها كافرة وتكفرون أبا الغادية؟!
... إنَّ البغي من إحدى الطائفتين لا يخرجها من الإسلام كما قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ... )، ثم قال - عز وجل -: (إنَّما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعكلم ترحمون) [الحجرات(9-10)] فالله - عز وجل - سمَّى المؤمنين المتقاتلين إخوة مع وصفه إحداهما بالبغي وأطلق عليهما إخوَّة الإيمان ولكنَّه حثَّ على قتال الباغي.
... فقاتل المؤمن عن عمد متوعد بالنار إذا كان ليس له في ذلك شبهة وهؤلاء أظهروا المطالبة بدم الخليفة الراشد الذي قُتِل مظلومًا - رضي الله عنه - فإن كان باطن أمرهم كظاهره فهم متأولون ونحن ليس لنا إلا الظاهر، وإنْ كان غير ذلك فالله يتولى السرائر يوم تُبْلى السرائر.
... قال الكيا الطبري: (وأما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فتلك أمور مبنية على الاجتهاد)(1).
... وقال الشوكاني وهو يرد على جماعة من المعتزلة والشيعة الذين زعموا أنَّ الصحابة كلهم عدول إلاَّ من قاتل عليًا: (ويجاب عنه بأنَّ تمسكهم بما تمسكوا به من الشبه يدل على أنَّهم لم يقدموا على ذلك جراءة على الله وتهاونًا بدينه.
... وجناب الصحبة عظيم فمن انتهك أعراض بعضهم فقد وقع في هوة لا ينجو منها سالمًا)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 41) قلتم /ص "8"/ (وهل يصح تبرير عمل الصحابة تحت ظل الاجتهاد في كل ما صدر عنهم من مخالفات الأحكام القطعية؟ وأنَّهم مجازون في ارتكاب كل حرام وترك كل واجب).
... قلت: الرد من وجوه:
__________
(1) ذكره عنه الشوكاني إرشاد الفحول/127/
(2) إرشاد الفحول/128/(108/82)
... أولاً: عجبًا لهذا الكلام الغريب: (ارتكاب كل حرام وترك كل واجب) هذا التعميم بهذا الأسلوب يوحي بأنَّهم قوم فُجَّار أضاعوا الدين وانتهكوا المحرمات فهل نتأول لهم؟! وهذا ثمرة الروايات الباطلة التي تربى عليها الشيعة وإن لم يفتح الله - عز وجل - قلوبهم للحق فالله المستعان.
... ثانيًا: الصحابة - رضي الله عنهم - قوم أثنى الله - عز وجل - عليهم في عشرات الآيات واختارهم الله سبحانه لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهم الذين نصروا الدين وهم الذين رووا لنا الدين وكل خير في الأمَّة لهم مثله إلى قيام الساعة وما قد يحدث منهم من أعمال في ظل الاجتهاد فإنَّه مغفور لهم إن شاء الله.
... وأمَّا الافتراض الخاطئ في حقهم فهو افتراض سببه تلك الروايات التي تكاثرت على مدى قرون حتى أصبحت تصور أفضل جيل بشري في صورة سيئة إمَّا كافرة وإمَّا فاسقة، فليستعد أهل التشيع لمخاصمتهم لهم يوم القيامة.
... أمَّا نحن فإنَّا نترضى عنهم ونُثني عليهم كما أثنى عليهم ربهم - عز وجل -وندعو لهم جزاء حفظهم لديننا ونصرتهم لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - ونسأل الله أن يغفر لهم خطأهم (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنَّك رؤوف رحيم).
... ثالثًا: ما هي المخالفات التي خالفوا بها الأحكام القطعية؟!
... إن كانت الأحكام وردت في القرآن الكريم فما هي؟
... وهل هي قطعية المعنى؟! ومن هو الذي حكم بأنَّها قطعية المعنى؟!
... وإن كانت في السنَّة فما هي كذلك؟ ومن الذي حكم بأنَّها قطعية؟!
... رابعًا: قد وردت عشرات الآيات في كتاب الله - عز وجل - تثني عليهم بلفظ عام وبلفظ خاص وقد أوَّلتموها وأخرجتموها عن معناها بشتَّى التأويلات فما الذي أباح لكم التأويل وحرمه على غيركم؟!
... خامسًا: وإن كان ورد في السنَّة فهم قد رووا السنَّة فهل يروون شيئًا يعتقدون صحته ثمَّ يخالفونه؟(108/83)
... ثمَّ أنتم هل تؤمنون بالسنَّة التي صحت في كتب المحدثين من أهل السنَّة؟ وأنتم تنتقون منها ما تريدون مما يوافق مذهبكم ولو كان ضعيفًا وتردون ما يخالفه ولو كان صحيحًا!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 42) قلتم/ ص"8"/: (حتى في الخروج على إمام زمانهم وإزهاق أرواح كثيرة وسفك دماء غزيرة).
... تقدم بيان ذلك وأنَّهم لم يخرجوا بقصد الخروج وإنَّما للمطالبة بدم خليفة مقتول فقد أورد ابن كثير أنَّ (أبا الدرداء وأبا أمامة دخلا على معاوية فقالا له: على مَ تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنَّه أقدم منك ومن أبيك إسلامًا وأقرب منك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحق بهذا الأمر منك؟ فقال: أقاتله على دم عثمان وأنَّه آوى قتلته فاذهبا إليه فقولا له: فليقدنا من قتلة عثمان ثمَّ أنا أول من بايعه من أهل الشام. فذهبا إلى عليّ - رضي الله عنه - فقالا له ذلك فقال: هؤلاء الذين تريان فخرج خلق كثير فقالوا: كلنا قتلة عثمان فمن شاء فليرمنا. قال: فرجع أبو الدرداء وأبو أمامة فلم يشهدا حربًا)(1).
... فهذا ظاهرهم وأمَّا سرائرهم فالله يعلم بها.
... فهل هذا كان خروجًا أم كان قتالاً على شبهة؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 43) قلتم/ ص"8"/: (وهل هذا الاجتهاد يختص ببعضهم أو يعمهم ويشمل من يأتي من بعدهم اقتداءً بسيرتهم وعملاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم").
... قلت: الرد من وجوه:
... أولاً: أنت أوردت هذا من باب التهكم لا من باب الاستفسار وهذا من ثمار الروايات التي صاغت هذه المفاهيم عن هذا الجيل القاعدة للأمة.
... ثانيًا: الخطأ من صفات البشر وقد أبان عن تلك الصفات القرآن الكريم والسنَّة النبوية إضافة إلى ما تقدَّم من نصوص.
__________
(1) البداية والنهاية/7/260(108/84)
... قال تعالى وهو يعلِّمنا أن ندعوه أن لا يؤاخذنا بخطئنا: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه تعالى قال: (قد فعلت)(1) فهو علَّمنا أن ندعوه إذا أخطأنا وأن نعتذر وقبل مِنَّا عذرنا فهل يلغي الشيعة صفة الخطأ من البشر؟!
... ثمَّ من قال: إنَّه يُقتَدى بالمخطئ في خطئه؟!
... ثالثًا: أمَّا الحديث الذي ذكرتموه وهو: "أصحابي كالنجوم ... " فقد أوردته على غير عادتك بغير عزو ولا أظن أنَّه يُخفي عليك أنَّه حديث مكذوب وأنت رجل محدث!!
... والحديث أورده ابن عبدالبر(2)، وابن حزم(3) من طريق سلام بن سليم _أو ابن سليمان على خلاف_ ثم قال ابن حزم: (هذه رواية ساقطة .. وسليم بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة وهذا منها بلا شك) وقال ابن خراش في: سليم هذا: (كذاب) فهل يصح أن تستشهد به وأنت محدث ولا تذكر مصدرك؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 44) قلتم: (الثالث: الآيات القرآنية في حق مرضى القلوب الذين يتلون المنافقين في الروحيات والملكات.
... قال سبحانه بحقهم: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاَّ غرورًا) [الأحزاب(12)]
... فكيف يمكن أن يوصف الذين ينسبون خلف الوعد إلى الله وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتقوى والعدالة؟
... الرابع: الآيات الواردة في ذوي التشكيك والإثارة للفتنة والسمَّاعين لهم: (إنَّما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون..) [التوبة(45-47)]
... الخامس: الآيات النازلة في الذين يؤذون الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويستحقون بذلك عذابًا أليمًا: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن...)
__________
(1) صحيح مسلم/ح/289/
(2) جامع العلم/2/91/
(3) الإحكام/6/82/(108/85)
... وهل يحكم العقل السليم بعدالة من أوعده الله العذاب ولعنه: (إنَّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابًا أليمًا) [الأحزاب(57)].
... السادس: ...أوردتم قوله تعالى: (وطائفة أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية..) ثمَّ قلتم: هل يمكن أن يعد الذين هم أهل الشك والريب في الله - عز وجل - من العدول الثقات؟!)
... الجواب من وجوه:
... أولاً: هذه الآيات في طوائف من المنافقين وليست بحمد الله في المؤمنين من المهاجرين والأنصار وقد امتلأت كتب السير بأسماء الصحابة المؤمنين ووردت بعض الأحاديث والآثار فيها أسماء بعض المنافقين ولم تَسمْ أحدًا من الصحابة المؤمنين - رضي الله عنهم - بالنفاق.
... ثانيًا: لا ندري من هم هؤلاء الذين وصفوا هؤلاء المنافقين بالتقوى والعدالة ولم تذكر لنا أحدًا من هؤلاء المنافقين أطلق عليه أهل السنَّة بأنَّه أهل عدالة وتقوى؟!
... ثالثًا: نحن لم نعرف إيمان أعيان المهاجرين والأنصار وإخوانهم المؤمنين إلاَّ عن طريق الأحاديث والآثار_الصحيحة_لا الضعيفة والمكذوبة_فلم نعرف إيمان أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وإخوانهم إلاَّ عن طريقهم هم فإن كان إيمانهم ثابتًا استطعنا أن نفرق بين المؤمنين والمنافقين وإن لم يكن إيمانهم ثابتًا لم نستطع أن نثبت إيمانهم.
... رابعًا: لو طلب من الشيعة أن يفرقوا بين المؤمنين من الصحابة والمنافقين الذين يعيشون معهم لم يستطيعوا وهذا هو سبب خلطهم بين صفوة الخلق ورذالة الخلق والذي لا يخفى على طالب حق.
... أمَّا أهل السنَّة فهم يعرفون أعيان المؤمنين من المهاجرين والأنصار وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان من خلال ذكر أسمائهم في كتب السير حتَّى يرد دليل ينقض ذلك أو يبطله.(108/86)
... خامسًا: جميع هذه الآيات ذكر المفسرون لها أسبابًا من أهل النفاق وجميع المفسرين يذكرون أنَّ ذلك من المنافقين ولم يذكر شخص واحد أنَّ ذلك من المؤمنين ولو رجعت إلى أقوالهم لرأيت أنَّ تلك الأقوال والأعمال لم تنسب إلى صحابي واحد ولم يتشكك مفسر في شيء من ذلك وذلك من خلال روايات التفسير.
... ونذكر نموذجًا من ذلك:
روي البيهقي بسنده عن أبي طلحة أنَّه قال: (غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أُحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه قال: والطائفة الأخرى: المنافقون ليس لهم هم إلاَّ أنفسهم أجبن قوم وأرعنه وأخذله للحق: (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية) كذبُهم إيمانهم أهل شك وريبة في الله - عز وجل -)(1) وهذه الرواية أوردها ابن كثير فلِمَ لَمْ تذكرها أو تتذكرها مع أنَّك عزوت إليه؟!
... وأورد كذلك حديثًا عن الزبير بن العوام بسند صحيح قال فيه: (لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منَّا من رجل إلا ذقنه في صدره قال: فوالله إنِّي لأسمع قول: مُعتب بن قشير ما أسمع إلا كالحلم: (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا) فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله تعالى: (يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتِلنا ههنا) لقول معتب)(2).
... فهل هؤلاء من الصحابة الذين نقول بعدالتهم؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 45) ثم ختمتم هذا المبحث بقولك: (فحصيلة ما يلاحظ في هذه الآيات أنَّ في الأصحاب عدولاً وثقات من غير شك وريب ومنهم أيضًا غير عدول وضعاف).
... الجواب: من وجوه:
__________
(1) دلائل النبوة/3/273-274/ وسنده حسن وأصله في البخاري/ح/4068/
(2) تفسير ابن كثير/2/162/ وذكره ابن هشام في السيرة/2/130(108/87)
... أولاً: لا زلت مصرًّا على تسمية جميع من في المدينة من المؤمنين والمنافقين بأنَّهم: "أصحاب" وهذا في الحقيقة تَجنِّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث جعلت المنافقين أصحابًا له ينسبون إليه ويعرف بهم فإن الشخص يوزن بأصحابه فمن كان أصحابه فُضلاء كان فاضلاً ومن كانوا غير ذلك كان غير ذلك.
... والشيعة لم يتورَّعوا أن ينسبوا المنافقين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا نعوذ بالله غاية الخذلان.
... ثانيًا: لم يقل أحد من علماء الأمَّة ولا من جهلتها أنَّ المنافقين أصحاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولو قلت هذا الكلام عند بعض القوم لربَّما لا تسلم من عقاب فكيف عند علماء الأمَّة وأفاضلها، وقد مرَّ معنا كلام الصحابيَّين الجليلين: أبي طلحة والزبير أنَّ ذلك القول صدر من المنافقين.
... ثالثًا: قولك إنَّ في الأصحاب عدولاً وغير عدول هل تستطيع أن تذكر لنا أسماء العدول منهم وغير العدول؟ وهل هناك عدول غير "الأربعة" عندكم؟! دين ختم الله به الأديان وأنزل من أجله القرآن لم ينتفع به في وقت نزوله إلا أربعة أشخاص؟! يا لها من مهزلة يستحي من ذكرها العقلاء.
... أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مُنافقون أو فُساق مرتكبون للحرام !!
... زوجاته كافرات أو فاسقات ـ كما سيأتي ـ!!
... جميع آل بيته كُفار أو فُساق إلا عليًّا وبعض ذريته!!
... القرآن مُحرَّف أو ناقص!!
... أيُّ دين هذا أراد الله - عز وجل - أن يهدي به البشرية فَشِل منذ اللحظة الأولى؟!
... الحمد لله الذي عافانا ممَّا ابتلى به بعض الناس.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 46) قلتم: (4- مقام الصحابة لم يكن أكثر امتيازًا من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أرفع من مقامهن)(108/88)
... قلت: سبحان الله بعد أنْ شككت في عدالة الصحابة انتقلت إلى أمَّهات المؤمنين رضي الله عنهن...لتشكِّك في طهارتهن وإيمانهن...جرأة عجيبة! ثم ما هي الثمرة التي تريد أن تحققها بهذه المطاعن إلا الطعن في ذات النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدم نصرة: "وصية" كما تزعمون بناءً على روايات محدثة كما سيأتي بمشيئة الله تعالى بيانه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 47) قلتم: (إنَّ التشرف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازًا وتأثيرًا من التشرف بالزواج من النبي وقد قال سبحانه في شأن أزواجه: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرًا) [سورة الأحزاب/آية(30)].
... الجواب من وجوه:
... أولاً: الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذُكر أن يُصلَّى عليه تعظيمًا لمكانته عليه الصلاة والسلام.
... ثانيًا: دعواك أن التشرف بصحبة النبي والزواج منه لا قيمة لها ممَّا يجب عليك أن تستغفر الله - عز وجل - منه.
... فإنَّ مصاحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - شرف يرفع من مكانة الصاحب لا يعدله صحبة بشر، ولهذا فإن أصحاب الأخيار يلحقهم من خيرهم وبركتهم وأصحاب الأشرار يلحقهم من شرهم وفسادهم.
... والله - عز وجل - قد جعل لبعض الأماكن فضلاً ينال من يتعبد فيها من بركاته سبحانه وجعل لبعض الأزمان فضلاً يُضاعَف فيها أجور الأعمال.
... فالمدينة تشرَّفت بنبينا - صلى الله عليه وسلم - وقلوب المؤمنين تُعظِّمها تعظيمًا لمن عاش بها ودُفِن بها.
... ومكَّة تشرَّفت ببيت الله الحرام والصلاة في مسجدَي المدينتين مُضاعَفة الأجور.
... قال تعالى عن كتابه الكريم: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك...) [الانعام (92)].
... وقال تعالى: (إنَّ أول بيت وضع للناس للذي ببكَّة مبارك وهدىً للعالمين) [آل عمران(96)](108/89)
... قال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) [الإسراء(1)].
... وقال عيسى عن نفسه - عليه السلام -: (وجعلني مباركًا أين ما كنت) [مريم (31)]
... وقال تعالى عن ليلة إنزال القرآن: (إنَّا أنزلناه في ليلةٍ مباركة) [الدخان (3)]
... وأما نبينا محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه فهو إنسان مبارك وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يتبركون بوضوئه وبشعره وملابسه وكان صلوات الله وسلامه عليه إذا وضع يده في الماء أو الطعام تبارك وكثر فإذا تبارك الطعام والماء بملامسته له ألا يتبارك من يصاحبه أو يتزوج به ممن لامس جسده الشريف جسده من أمهات المؤمنين؟!
... أرأيت لو وقفت أمام الخميني وقلت له: من يصاحبك ومن يصاحب إبليس سواء، أو من يصاحبك ويصاحب فرعون سواء، فماذا سيكون الرد عليك؟؟
... ولماذا إذن كان بعض الشيعة يفرح باستمتاع الخميني بطفلته الصغيرة يا تُرى أليس لاعتقاد بركته؟!!
... استمع إلى القصة التي يرويها السيد حسين الموسوي وقد كان هو شاهدها:
... أنَّ الخميني لما كان مقيمًا في العراق وجهت إليه دعوة من إحدى مدنها فطلب من الموسوي مرافقته وتمت الرحلة وفي طريق العودة أرادوا أن يرتاحوا من عناء السفر فأمر الخميني بالتوجه إلى منطقة العطيفية حيث يسكن هناك رجل: "إيراني" الأصل اسمه: "سيد صاحب" كانت بينه وبين الإمام معرفة قوية قال الموسوي:
... (فرح سيد صاحب بمجيئنا... وطلب سيد صاحب المبيت عنده تلك الليلة فوافق الإمام... ولما حان وقت النوم... أبصر الخميني صبية بعمر أربع سنوات أو خمس ولكنَّها جميلة جدًا فطلب الإمام من أبيها سيد إحضارها للتمتع بها فوافق أبوها بفرح بالغ، فبات الخميني والصبية في حضنه ونحن نسمع بكاءها وصريخها!!)(1).
__________
(1) لله ثم للتاريخ/35-36/(108/90)
... فما رأيكم في فرح الأب بمس جسد الخميني لجسد ابنته الصغيرة عن طريق المتعة لظنه أنَّ قرب: "الإمام" شرف ولو بهذه الصورة المزرية.
... نستغفر الله - عز وجل - من أن نحتقر صحبته صلوات الله وسلامه عليه ثمَّ نحكم عليها بأنَّها غير مفيدة.
... إنَّ صُحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - شرف ورفعة يرتفع بها كل من حصل عليها ونحن نعظِّم كل مؤمن صاحبه صلوات الله وسلامه عليه ونغبطه على تلك الصحبة التي كانت قاعدة الإسلام وأساس الخير لهم وللبشرية.
... قال الشوكاني: (وجناب الصحبة أمر عظيم) كما مرَّ معنا.
... وقد تجلَّت بركة صحبته صلوات الله وسلامه عليه في الآثار المباركة التي أشرقت على الأرض.
... ثالثًا: إنَّ الزواج منه صلوات الله وسلامه عليه شرف ورفعة وكل امرأة تزوجت به فقد ارتفعت مكانتها وزاد شرفها فأصبحت لها من المكانة ما ليس لغيرها.
... قال تعالى: (يا نساء النبي من يأتِ منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرًا - ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحًا نؤتها أجرها مرتين واعتدنا لها رزقًا كريمًا - يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ...) إلى أن قال تعالى: (إنَّما يريد الله أن يُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا).
... أرأيت كيف بيَّن سبحانه أنَّهن لسن كأحد من النساء إن اتقين، وكيف وعدهن بمضاعفة الأجر وتوعدهن بمضاعفة العقوبة؟ لماذا يا تُرى ألسن نساءً من حيث الأنوثة كغيرهن وبشرًا من حيث البشرية كغيرهن فما المقصود بقوله تعالى: (لستن كأحد من النساء) أليس بسبب تشرفهن بالزواج من سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه؟!
... ثمَّ أليس الله تعالى قد أبان لهن عن إرادته بأنَّه إنَّما يريد بهذه التشريعات أن يُذهب عنهن الرجس ويطهرهن تطهيرًا ونحن نعتقد أنَّ ذلك قد تحقق فيهن.(108/91)
... رابعًا: إنَّ تمثيل حال الصحابة - رضي الله عنهم - بحال امرأتَي نوح ولوط تمثيل خاطئ سببه ما استقر في ذهن الشيعة من اتهام الصحابة - رضي الله عنهم - بالكفر والخيانة كما أنَّ هاتين الزوجتين لما خانتا زوجيهما حكم بكفرهما.
... عجبًا لهذا التمثيل وهل كفر الصحابة - رضي الله عنهم - أو خانوا إذا كفر الصحابة أو خانوا فمن يا ترى سيكون مؤمنًا وأمينًا بعد؟!.
... خامسًا: إنَّ الكفر يحرم الاستفادة من الأنبياء أمَّا الإسلام إذا شابه معصية فلا يحرمه الاستفادة فإنَّ المسلم العاصي يناله بركة متابعته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد سأل أبو هريرة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أسعد الناس بشفاعته فقال: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلاَّ الله خالصًا من قلبه)(1) وأمَّا الخوارج والمعتزلة والشيعة الإمامية فهم محرومون من هذه الشفاعة لإنكارهم لها.
... ويوم القيامة يشفع صلوات الله وسلامه في الموحدين من أمَّته فيخرجهم من النار ويشفع قبل ذلك لأهل الموقف جميعًا وهكذا تنال بركته صلوات الله وسلامه عليه حتى غير المسلمين وهذا معنى قوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا).
... سادسًا: كتبكم تجعل كل من انتسب إلى الأئمة فإنَّه مغفور له ولو عصى الله - عز وجل - وتجعل من لم يوالهم في النار ولو عبد الله - عز وجل - فهل هم أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟؟!!
... روى الكليني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: (..فلو أنَّ الرجل من أمتي عَبَدَ الله - عز وجل - عمره أيام الدنيا ثمَّ لقي الله - عز وجل - مبغضًا لأهل بيتي وشيعتي ما فرج الله صدره إلاَّ عن النفاق)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) صحيح البخاري/ح/6423/
(2) الكافي/الروضة/2/46/(108/92)
... 48) قلتم: (نقرأ معك يا أخي ما ورد عن أكابر علماء السنَّة في تفسير هذه الآية الشريفة: قال ابن الجوزي: قوله - عز وجل -: (فلم يغنيا عنهما من الله شيئًا) أي فلم يدفعا عنهما من عذاب الله شيئًا وهذه الآية تقطع طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره ثمَّ أخبر أنَّ معصية الغير لا تضر المطيع بقوله تعالى: (وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون) وهي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها.
... وقال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذر به عائشة وحفصة رضي الله عنهما ثمَّ ضرب لهما هذا المثل يرغبهما في التمسك بالطاعة وكانت آسية قد آمنت بموسى) /زاد المسير/ لابن الجوزي/8/56/
... ثمَّ نقلتم كلام الطبري وهو يؤكد معنى كلام ابن الجوزي.
... الجواب من وجوه:
... أولاً: القرآن الكريم يضرب الأمثال للتربية وقد قال - عز وجل - هنا: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا..) وقال بعدها: (وضرب الله مثلاً للذين آمنوا..) فهما مثلان للكافرين والكافرات وللمؤمنين والمؤمنات يحذر من المعصية ويرغب في الطاعة وليس في المثل ما يصف عائشة وحفصة رضي الله عنهما بالكفر أو يصفهما بالمعصية وإنَّما يحذر - عز وجل - ويرغب وهذا أسلوب قرآني في التربية.
... ثانيًا: قول ابن الجوزي رحمه الله أنَّ الآية: "تقطع طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره.." صحيح وهو استنباط معتمد ونحن نعتمد هذا الفهم منه رحمه الله وأنَّ المسؤولية أمام الله - عز وجل - فردية وقد أكد ذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه من أول يوم بعث حيث خاطب قومه وعمه العباس وعمته صفية وبنته فاطمة قائلاً: (أنقذوا أنفسكم من النار فإنِّي لا أملك لكم من الله شيئًا..)(1).
__________
(1) رواه مسلم/ح/204/وأخرجه البخاري بنحوه/5/382/باب التفسير وأنذر عشيرتك الأقربين/(108/93)
... وهذا لا ينافي ما تقرر من شفاعته في عصاة الموحدين لأنَّ عدم الانتفاع سببه: "الكفر" كما تدل عليه الآية لا: "الإيمان" الذي يكون معه معصية فإنَّ ذلك تناله الشفاعة يوم القيامة ببركة متابعته لرسوله - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم وفضل الصحبة والزواج أعظم.
... ثالثًا: أمَّهات المؤمنين لا يخرجن عن دائرة البشرية فهن يحتجن إلى تربية وتوجيه ولا يعني أنَّهن بمجرد الزواج منه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ طباعهن ومشاعرهن البشرية تتغير بين عشية وضحاها لابد من التربية وذلك لأمرين:
... أولاهما: أنَّ النفس البشرية هكذا خلقها الله - عز وجل - تحتاج إلى تربية وتوجيه وتذكير.
... ثانيهما: أنَّ حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها تشريع فلابد أن يظهر منها ما يكون دروسًا ومنهاجًا لأمته.
... وإلاَّ لو كان كل شيء يتم بالخوارق لما تحققت من حياته الأسوة صلوات الله وسلامه عليه.
... ولهذا فإنَّنا نعتقد أنَّ هذا الدرس قد حقق نتائجه وآتى ثماره في حياتهن رضي الله عنهن كما سيأتي من قول الشوكاني رحمه الله.
... رابعًا: أنَّ كلام ابن الجوزي لم ينفِ حصول التشريف بالزواج منه - صلى الله عليه وسلم - وإنَّما يقرر رحمه الله أنَّ الإنسان محاسب على عمله إن خيرًا وإن شرًا ولكن الله - عز وجل - فضَّلهن على غيرهن من النساء.
... قال رحمه الله في سورة الأحزاب عند آية تخييرهن في الطلاق أو الصبر معه صلوات الله وسلامه عليه وأنَّهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة قال رحمه الله: (قال المفسرون: فلمَّا اخترنه أثابهن الله - عز وجل - ثلاثة أشياء:
... أحدها: التفضيل على سائر النساء،
... والثاني: أن جعلهن أمهات المؤمنين،
... والثالث: أن حظر عليه طلاقهن..)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) زاد المسير/ سورة الأحزاب/(108/94)
... 49) ثمَّ قلتم: (قال ابن الجوزي: (ثمَّ في هذه من الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة فإنَّها سيقت في ذكر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من تظاهرهن وأنَّهن إن لم يطعن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله - صلى الله عليه وسلم -..ثمَّ أوردت كلام يحيى بن سلام السابق عند ابن الجوزي /الأمثال في القرآن/57/
... ثمَّ قلتم: (وأوضح منه ما أورده الشوكاني بقوله: (وما أحسن من قال: فإن ذكر امرأتَي نبي بعد ذكر قصتهما ومظاهرتهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرشد أتم إرشاد ويلوح أبلغ تلويح إلى أنَّ المراد تخويفهما مع سائر أمَّهات المؤمنين وبيان أنَّهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله وخاتم رسله فإنَّ ذلك لا يغني عنهما من الله شيئًا) فتح القدير/5/255/
والجواب من وجوه:
... أولاً: لا يخرج هذا الكلام عن مسألة تربية أمَّهات المؤمنين وتحذيرهن من تجاوز الغيرة التي هُنَّ عليها إلى إيذاء الرسول صلوات الله وسلامه عليه وأنَّ الانتساب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكفي في النجاة من عذاب الآخرة لكن لا يعني ذلك إلغاء فضيلة الزواج منه صلوات الله وسلامه عليه كما تقدم.
... ثانياً: كان في نقلك قصور ويتبين ذلك بإيراد بقية النصوص التي تركتها:
فتركت بقية نص ابن القيم فقد قال بعد إيراد كلام يحيى بن سلام وفيه: (وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضًا اعتبار آخر وهو: أنَّها لم يضرها عند الله شيئًا قذف أعداء الله اليهود لها ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأهما الله منه مع كونها الصدِّيقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه وفي هذا أيضًا تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت قبل قصة الإفك وتوطين نفسها على ما قال الكاذبون إن كانت بعدها)(1).
__________
(1) إعلام الموقعين/1/255-228/(108/95)
نقلت عن الشوكاني نصًا بترته وليس هذا من منهج المنصفين.
فالنص الذي نقلته ينتهي إلى قوله: [... فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئًا] وبعده مباشرة: [وقد عصمهما الله من ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة] فلِمَ لم تنقل هذا النص الذي يقرر فيه هذا العالم تزكيتهما مع أنَّ الشوكاني كان شيعيًا زيديًا ثم هداه الله - عز وجل - إلى الحق وهو يستحضر مذهب الشيعة عندما يفسر الآيات رحمه الله وهو هنا يرد على الإمامية في موقفهم من أمَّهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 50) قلتم: (5- أقوال العلماء في عدالة الصحابة)
... أوردتم بعدها قولي: (والذين اتبعوهم هم أهل السنَّة وليسوا الشيعة لأنَّ الشيعة ما بين مكفر لهم وذام لهم أعني الشيعة الإمامية المتأخرين بدون استثناء)
... ثم قلتم: أقول أيها الأخ العزيز لقد كنت عزيزًا عندي إلى الغاية لما شاهدت منكم من الإنصاف... إلى أنْ قلتم: كيف خفي عليك كلام القوم من السنَّة والشيعة في عدالة الصحابة؟)
الجواب من وجوه:
... أولاً: لم يخفَ علي كلام السنَّة ولا كلام الشيعة في هذه المسألة وما قلته لك عليه أكثرية أهل السنَّة بل ذكر المحققون من العلماء أنَّه إجماع وذكروا أنَّه لم يشذ عنه إلا المبتدعة هو ما ذكره ابن حجر رحمه الله حيث قال: (اتفق أهل السنَّة على أنَّ الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة)(1).
... وقال الألوسي: (اعلم أنَّ أهل السنَّة ـ إلا من شذ ـ أجمعوا على أنَّ جميع الصحابة عدول يجب على الأمَّة تعظيمهم)(2).
... وأمَّا ما أوردتُموه من أقوال قد يُظن منها أنَّها مخالفة لمذهب أهل السنَّة فليس كذلك.
... فابن الحاجب يورد الأقوال المخالفة بصيغة التمريض حيث قال: (وقيل كغيرهم وقيل إلى حين الفتن...) ولم ينسب القول إلى أحد من علماء السنَّة.
__________
(1) الإصابة/1/10/
(2) الأجوبة الوافية/2/471/(108/96)
... وكذلك رواية صاحب جمع الجوامع قال: (والأكثر ..) لورود أقوال ضعيفة خروجًا من حرج ذكر الإجماع والأقوال الضعيفة لا يعتد بها في الخلاف.
... والقصد من عدالة الصحابة هو قبول رواياتهم من غير بحث عنهم وهذا قد أجمع عليه جميع المحدثين ولم ينقل عن أحد منهم من ردَّ رواية صحابي ثبتت صحابته بدعوى جهالته أو عدم عدالته وكذلك الفقهاء والأصوليون والمفسرون لم يرد عن أحد منهم جميعًا أنَّه ردَّ رواية صحابي أو توقف فيها بشبهة عدم العدالة.
... والمطلع على كتب التراجم يرى ذلك واضحًا جليًا.
... قال الشوكاني: (اعلم أنَّ ما ذكرناه من وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي إنَّما هو في غير الصحابي فأمَّا فيهم فلا، لأنَّ الأصل فيهم العدالة فتُقبل روايتهم من غير بحث عن أحوالهم حكاه ابن الحاجب عن الأكثرية قال القاضي هو قول السلف وجمهور الخلف وقال الجويني بالإجماع...)(1).
... قال الجويني: (ولعل السبب في قبولهم من غير بحث عن أحوالهم أنَّهم نَقَلة الشريعة ولو ثبت التوقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما استرسلت على سائر الأعصار)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 51) أوردتم قول التفتازاني مختصرًا ومطولاً (ص10و11) وسيأتي ومنه قوله: (إنَّ ما وقع من الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقات يدل بظاهره على أنَّ بعضهم قد حاد عن طريق الحق وبلغ حد الظلم والفسق وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد وطلب المُلك والرئاسة).
__________
(1) إرشاد الفحول/126/
(2) ذكره الشوكاني/إرشاد الفحول/127/(108/97)
ثم يقول: (ليس كل من لقي النبي بالخير موسومًا إلا أنَّ العلماء لحسن ظنِّهم بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكروا محامل وتأويلات بها تليق وذهبوا إلاَّ أنهم محدودون عمَّا يوجِب التضليل والتفسيق صونًا لعقائد المسلمين من الزلل والضلالة في حق كبار الصحابة سيما المهاجرين منهم والأنصار والمبشرين بالثواب في دار القرار) [شرح المقاصد/5/310].
... الجواب من وجوه:
... أولاً: التفتازاني قد شذ بهذا القول عن أقوال أهل السنَّة التي تؤكد عدالة جميع الصحابة ولم يشذ عن ذلك إلاَّ أهل البدع ـ كما تقدم من قول ابن حجر والألوسي ـ.
... ثانيًا: التفتازاني لم يرد بكلامه الطعن في الطبقات العليا من الأصحاب بل برَّأهم كما هو واضح في كلامه ولكن أراد ما وقع بينهم من الخلاف والقتال بعد عصر الخلفاء الثلاثة.
... ثالثًا: كلامه في الطعن يشمل الصحابة المتقاتلين في عهد علي ومعاوية رضي الله عنهما ويحتمل كلامه الطعن في كل منهما ونحن نبرئ كلاً منهما عن قوله وإن كنَّا نعتقد أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - هو المحق في هذا القتال وأنَّ معاوية - رضي الله عنه - مخطئ ولا نتجاوز هذا المقدار.
... رابعًا: اعتمد في حكمه على كتب التواريخ ولم يستطع أن يورد كتابًا من كتب الحديث المعتمدة وكتب التواريخ كما هو معروف مملوءة بالروايات الضعيفة والمكذوبة بل بعض الروايات يعارض البعض الآخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــ(108/98)
... 52) قلتم: (وهذا أبو حامد الغزالي المتوفي "505" بعد أن قال: (إنَّ عدالتهم معلومة بتعديل الله - عز وجل - إياهم وثنائه عليهم في كتابه فهو معتقدنا فيهم) قد نقل اختلاف العلماء في حكم الصحابة بقوله: (وقد زعم قوم أنَّ حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث وقال قوم: حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهور الحرب والخصومات ثم تغير الحال وسُفِكت الدماء فلا بد من البحث وقال جماهير المعتزلة: عائشة وطلحة والزبير وجميع أهل العراق والشام فُسَّاق بقتال الإمام الحق.
... وقال قوم من سلف القدرية: يجب رد شهادة علي وطلحة والزبير مجتمعين ومفترقين... إلخ)[المستصفى/130/الباب الثالث في الجرح والتعديل_الفصل الرابع في عدالة الصحابة]
... قلت الرد من وجوه:
... أولاً: الغزالي ذكر مذهب أهل السنَّة الذي عليه علماؤهم والمحققون منهم ثمَّ ذكر أقوالاً لا يُدرى من أصحابها مصدرًا لها بقوله:(وقد زعم قوم..)وهذا يذكر لتضعيف القول ورده وذكر قول المعتزلة وهو قول خارج عن قول أهل السنَّة.
... ثانيًا: هذه الأقوال لم تحض بالقبول لدى جميع المحدثين الناقلين للحديث ولا الفقهاء المستنبطين للأحكام ولا المفسرين لكتاب الله - عز وجل - وإنَّما هي أقوال تُذكر لتحذير القارئ من أقوال شذَّ أصحابها عن جماهير الأمَّة فأيُّ فائدة في أقوال لا نرى لها أثرًا في التطبيق والعملُ على خلافها؟!
... وهل تعارض أقوال آلاف العلماء بأقوال شاذة مفردة؟!
... ثالثًا: بعض هذه الأقوال تطعن في جميع المتقاتلين وترد شهاداتهم: عليّ وطلحة والزبير فهل يمكن أن نعتبرها أو نحترمها؟!(108/99)
... إنَّ الشذوذ لا تخلو منه طائفة والعبرة بمذهب الطائفة الذي يتوارد عليه علماؤها ومحققوها لا الأقوال الشاذة، فقد مرَّ معنا قول ابن حجر رحمه الله الحافظ الموسوعة الذي يعتبر إمام عصره حيث قال: (اتفق أهل السنَّة على أنَّ الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المتبدعة)(1). فهذا ملخص المسألة عند أهل السنَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 53) قلتم (ص"11"): (فقد صرح جماعة من أكابر علماء أهل السنَّة من المتقدمين والمتأخرين بأنَّ الصحابة غير معصومين وفيهم العدل وغير العدل وإليك نص كلمات بعضهم..ثمَّ ذكرتم الأقوال..)
... أولاً: كلامك يوحي بأنَّ من ذكرتهم يطعنون في عدالة الصحابة وهذا ليس صحيحًا فإنَّ أكثر من أوردت أسماءهم يتحدثون عن عدم عصمتهم وعدم وجوب متابعتهم في فتاواهم فأين هذا من موضوع العدالة؟!.
... وسيأتي بيان ذلك بمشيئة الله تعالى.
... ثانيًا: أوردت أشخاصًا من أذناب المستشرقين ممَّن أساءوا إلى الدين ورددوا أراء أعدائه ووصفتهم بأنَّهم من أكابر علماء السنَّة وهذا فيه تساهل ولا أدري من أخبرك أنَّهم من: (أكابر علماء السنَّة)؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 54) ثم أوردتم كلام ابن حزم (ص"11") وهو: (فمن المحال أن يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتِّباع كل قائل من الصحابة - رضي الله عنهم - وفيهم من يحلل الشيء وغيره يحرمه ـ إلى أن قال ـ وقد كان الصحابة يقولون بآرائهم في عصره - صلى الله عليه وسلم - فيبلغه ذلك فيصوب المصيب ويخطئ المخطئ ... إلخ) [الإحكام/6/810].
... الجواب من وجوه:
... أولاً: أين في قول ابن حزم نفي عدالة الصحابة في هذا النص ولا في بقية قوله؟!
... إنَّ ابن حزم يتكلم عن قضية الاتباع فهل نحن مأمورون باتباع الصحابة في كل ما يقولون؟ هذا هو موضوع كلامه رحمه الله وهذه مسألة خلافية فيها للعلماء تفصيلات لا علاقة لها بموضوع العدالة.
__________
(1) الإصابة/10/(108/100)
... ثانيًا: نحن لا ندَّعي العصمة في أحد من الصحابة والصحابي قد يجتهد في الاستنباط أو الاستدلال فيخطئ ويرده أخوه الصحابي وهذا واقع.
... فالعبرة عندنا برواية الصحابي لا برأيه إذا خالف النص لعدم بلوغه إليه أو لأي سبب آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 55) أوردتم قول المازري (ص"11") وهو: (لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كل من رآه - صلى الله عليه وسلم - يومًا ما أو زاره لمامًا أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كثب وإنَّما نعني الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [الإصابة/1/163].
... الجواب من وجوه:
... أولاً: عندما أورد ابن حجر هذا القول عقَّب عليه بقوله: (وأمَّا كلام المازري فلم يوافق عليه بل اعترضه جماعة من الفضلاء)(1).
... فهو قول ردَّه العلماء.
... ثانيًا: ما ذكره المازري لا يخرج من حيث المضمون عن مذهب الجماعة فإنَّنا كذلك نقول إنَّما الصحابة الذين لازموه وعزروه ونصروا واتبعوا النور الذي أنزل معه.
... فأيُّ صحابي لم يلزمه أو لم ينصره أو لم يتبع النور الذي أنزل معه فليس صحابيًا.
... والخلاف في مدة الملازمة لا في بقية القيود.
... ثالثًا: هذه قضية بين أهل السنَّة وكلهم يعظم عظماء الصحابة ويعترف بفضلهم ولا يتفقون مع الإمامية في معتقدهم في عظماء الصحابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 56) ثم أوردتم كلام ابن عقيل أنَّه قال بعد نقل كلام المازري: (قال السيد الألوسي: وإلى نحو هذا ذهب ابن العماد في شذرات الذهب) [النصائح الكافية/168].
... قلت فيه وقفات:
... أولاً: هذا الشخص (ابن عقيل) ليس هو ابن عقيل العالم الحنبلي المعروف فذلك عالم قديم وهذا شخص معاصر مجهول غير معروف لدى أهل السنَّة وقد استدللت بكلامه مرتين.
__________
(1) الإصابة/12/(108/101)
... ثانيًا: نقل كلام الألوسي وترك إشارته إلى أنَّه متعقب فقد قال الألوسي رحمه الله: (وتعقبه الشيخ صلاح الدين العلائي ...)(1) فهو قول إذن متعقب ولم يذكرابن عقيل هذه التكملة وهذا يدل على مذهبه كما سيأتي.
... ثالثًا: أمَّا ابن العماد فقد أورد ثلاثة أشخاص هم: مروان والوليد بن عقبة والحكم بن أبي العاص ثم قال: (وإلى هؤلاء المذكورين ونحوهم الإشارة بما ورد في حديث المحشر وفيه ((فأقول يا رب أصحابي فيقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك)) ولا يرد على ذلك ما ذكره العلماء من الإجماع على عدالة الصحابة وأنَّ المراد به الغالب وعدم الاعتداد بالنادر والذين ساءت أحوالهم ولابسوا الفتن بغير تأويل ولا شبهة)(2).
... قلتُ: فأمَّا مروان فليس صحابيًا.
... وأمَّا الحكم ابن أبي العاص فما ورد في حقه من روايات تاريخية غير موثوقة.
... وأمَّا الوليد بن عقبة فالقرآن الكريم قد حكم فيه حيث نزلت فيه آية: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ...) وقد ثبت فسقه بروايات صحيحة ولا ندري عمَّا لقي الله - عز وجل - به.
... وابن العماد يقرر أنَّ هذا نادر والنادر لا حكم له فكيف تهدر محاسن الآلاف أو يتوقف في الآلاف لأجل أفراد؟ في الحقيقة ليس هذا منهج المنصفين الذين يريدون الحقيقة.
... رابعًا: ابن العماد يفرق بين من وقع في الخطأ عمدًا وبين من وقع فيه عن تأويل أو شبهة وهذا هو مذهب أهل السنَّة كما أكده غير واحد من العلماء.
__________
(1) الأجوبة الوافية/2/474/
(2) شذرات الذهب/1/279/(108/102)
... قال ابن خلدون: (ولمَّا وقعت الفتنة بين علي ومعاوية وهي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهم متوهم وينزع إليه ملحد وإنَّما اختلف اجتهادهم في الحق وسفه كل واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحق فاقتتلوا عليه وإن كان المصيب عليًّا فلم يكن معاوية قائمًا فيها بقصد الباطل، إنَّما قصد الحق وأخطأ والكل كانوا في مقاصدهم على الحق)(1).
... فهذا ملخص معتقد أهل السنَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 57) أوردتم قول الذهبي: (ولو فتحنا هذا الباب ـ أي الجرح والتعديل ـ على نفوسنا لدخل فيه عدة من الصحابة والتابعين والأئمة فبعض الصحابة كفَّر بعضهم بعضًا بتأويل ما!! والله يرضى عن الكل ويغفر لهم فماهم بمعصومين وما اختلافهم ومحاربتهم بالتي تلينهم عندنا ...) [أضواء على السنة المحمدية/342/عن الذهبي في رسالته: الثقات/3/21].
... هنا وقفات:
... أولاً: الذهبي يقصد أنَّا لو فتحنا باب النقد لكل عمل خاطئ بالتأويل أو بغيره لما سلم أحد من البشر لا من الصحابة ولا من غيرهم وهذا صحيح كما يبينه قوله: (فبعض الصحابة كفَّر بعضهم بعضًا بتأويل) وهذا يحدث بين الناس الأفاضل وغيرهم.
... ألا ترى إلى عمر - رضي الله عنه - عندما قال لحاطب: (فقد نافق) اجتهادًا منه وحكمًا بظاهر الفعل ولم يعاقبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يعاتبه.
... ثانيًا: نحن لا ننكر بشرية الصحابة - رضي الله عنهم - ولكنَّا نعترف بسبقهم وصحبتهم وجهادهم لنُصرة الدين وهذه كلها أعمال وأحوال ترفعهم.
... ألا ترى إلى حاطب وقد ارتكب أمرًا كبيرًا شفع له ما سبق له من فضل عظيم في بدر وفي بيعة الرضوان.
__________
(1) المقدمة/205/(108/103)
... ثالثًا: ختم كلامه بقوله: بأنَّ العمل على عدالتهم وقبول ما نقلوا أي من الروايات وهذا هو ثمرة الخلاف فالأمَّة من الناحية العملية قَبِلَت رواياتهم من غير توقف أو بحث.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 58) قلتم بعد إيراد كلام التفتازاني: (ويؤيده ما ورد عن أبي بكر خطابًا للمهاجرين: (بأنَّكم تريدون الدنيا وستور الحرير ونضائد الديباج وتريدون الرئاسة وكلكم يريدها لنفسه وكلكم ورم أنفه) [مجمع الزوائد/5/202/معجم الطبراني الكبير/1/62..].
... الجواب من وجوه:
... أولاً: قد عقب الهيثمي على الحديث فقال: (رواه الطبراني وفيه علوان بن داود البجلي وهو ضعيف وهذا الأثر ممَّا أنكر عليه) والأمانة العلمية تقتضي أن تذكر تضعيف الحديث بل تقتضي أن لا تستشهد به وهو ضعيف وأنت محدث.
... ثانيًا: تصرفت في لفظ الحديث المنقول فلفظه: (... وجعلت لكم عهدًا من بعدي واخترت لكم خيركم في نفسي فكلكم ورم لذلك أنفه رجاء أن يكون الأمر له ورأيت الدنيا أقبلت ولما تقبل وهي خائنة وستجدون بيوتكم بستور الحرير...).
... فلم يقل: (تريدون الدنيا وستور الحرير...) فمن أين أتيت ب:(تريدون)...؟!
... ثالثًا: الحديث في سنده: (علوان بن داود) قال فيه البخاري: (منكر الحديث) وكذلك قال أبو سعيد بن يونس.
... وقال العقيلي: (لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلا به)(1).
... رابعًا: الذي يعرف الصدِّيق - رضي الله عنه - ويقف على خطابه مع الناس من الروايات الصحيحة يدرك أنَّ هذا الحديث ليس من كلامه فإنَّ لفظ الحديث فيه من الخشونة والشدة والاتهام ما لا يعرف مثله عنه - رضي الله عنه - بل لا يعرف هذا الأسلوب في أقوال فضلاء الصحابة - رضي الله عنهم -.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) الضعفاء الكبير/3/419/، وميزان الاعتدال/3/108(108/104)
... 59) أوردتم كلام ابن خلدون وهو: (إنَّ الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فُتْيا ولا كان الدين يُؤخذ عن جميعهم وإنَّما كان ذلك مُختصًا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومُحكمه...) [تاريخ ابن خلدون/1/446].
... قلت: كلام ابن خلدون ليس في عدالة الصحابة وإنَّما في الفُتْيَا وهذا صحيح فليسوا كلهم علماء يفتون ولم يقل أحد من أهل السنَّة إنَّهم جميعهم فقهاء مفتون ولهذا لم يُذكر من يُفْتي من الصحابة إلا عدد قليل وهذا لا علاقة له بالعدالة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 60) أوردتم كلامًا كثيرًا عن: (طه حسين) أشار فيه إلى ما وقع بينهم من فتن وخلاف ولا يرى تكذيب شيء ممَّا جاء من الأخبار بدعوى أنَّ ذلك يؤثر على بقية رواياتهم في الجوانب التاريخية الأخرى...إلخ) [الفتنة الكبرى/170-173].
... قلت الجواب على هذا من وجوه:
... أولاً: طه حسين رجل ملحد طعن في الدين كله وكذَّب القرآن واتهمه بالاحتيال فكيف يُستدل بقوله بعد ذلك في أي قضية دينية.
... وإلحاده يظهر في عدة كتب من كتبه من أشهرها كتابه: (في الشعر الجاهلي) الذي طبع سنة 1926م وقد أثار ضجة كبيرة وحُوكِم أمام النيابة في مصر وجُمِعت نسخه من الأسواق، يقول في هذا الكتاب: (للتوراة أنْ تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكَّة ونشأت العرب المستعربة فيها ونحن مضطرون إلى أن نرى أنَّ في هذه القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين العرب واليهود من جهة دين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى)(1).
__________
(1) أورد النص ونصوصًا أخرى: د/ محمد محمد حسين في/ الاتجاهات الأدبية الوطنية في الأدب المعاصر/2/299/(108/105)
... فهل يمكن أن يكون مسلمًا بله أن يكون عالمًا يستفتى في دين الله - عز وجل -؟!
... وإذا كان هذا كلامه في القرآن فما عسى أن يقول في أتباعه؟!.
... والعجب أنَّ كلام من اتهم في دينه ممن ينتسب إلى الإسلام يناسبكم لأنَّه وافقكم على مذهبكم!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 61) قلتم (ص"13"): قال الدكتور أحمد أمين المتوفى سنة 1373هـ: (إنَّا رأينا الصحابة أنفسهم ينقد بعضهم بعضًا بل يلعن بعضهم بعضًا ... إلخ) [ضحى الإسلام/3/75].
... والجواب: لقد قمتم ببتر النص وقطعه بطريقة لا تليق بكم.
فالنص ليس من قول أحمد أمين وإنَّما هو يحكي عن المعتزلة وأول النص_قبل الفقرة التي نقلتموها بخمسة أسطر فقط_قال: (وللمعتزلة بعد ذلك أراء سياسية في الإمامة وفي أحداث التاريخ..إلى أن قال: وفي كلامهم ما يدل دلالة واضحة على أنَّهم وضعوا الصحابة والتابعين موضع الناس ... بل قالوا: (إنَّا رأينا الصحابة أنفسهم ينقد بعضهم بعضًا بل ويلعن بعضهم بعضًا...)(1).
... فهو كما ترى ينقل مذهب المعتزلة، والمعتزلة كما تقدم وكما هو معروف من منهجهم مختلفون في الصحابة على مذاهب شتى ما بين الطعن في بعض المتقاتلين والطعن في جميعهم، ومذاهب المعتزلة عند أهل السنَّة مهجورة مغمورة، وإنَّما أراد إحياءها جيل تأثر بالمستشرقين ومنهم أحمد أمين فهو صديق لطه حسين والذي قدم لكتابه فجر الإسلام(2).
... وقد أكد طه حسين أنَّه هو وأحمد أمين وعبدالحميد العبادي شركاء في الفكر والمنهج(3).
وإنْ كان أحمد أمين أخف من طه حسين لأنَّ نزعة أحمد أمين إلى المعتزلة أقرب منها إلى المستشرقين.
... فأحمد أمين إذن لم يَقُل ما نسبته إليه وإنَّما نقله وهو يتحدث عن المعتزلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ضحى الإسلام/1/75
(2) مقدمة فجر الإسلام/ل/
(3) مقدمة فجر الإسلام/ل/(108/106)
... 62) نقلتم عن ابن عقيل المتوفى سنة 1350هـ أنه قال: (وأما تعديلهم كل من سمُّوه بذلك الاصطلاح صحابيًا وإن فعل ما فعل من الكبائر ووجوب تأويلها فغير مسلم إذ الصحبة مع الإسلام لا تقتضي العصمة اتفاقًا حتى يثبت التعديل ويجب التأويل على أنهم اختلفوا في ذلك التعديل اختلافًا كثيرًا والجمهور هم القائلون بالعدالة)(1) [النصائح الكافية/166].
الجواب من وجوه:
... أولاً: هذا الشخص غير معروف عند أهل السنة وترجمته تدل على أنه شيعي حيث أورد الزركلي من كتبه كتاب: (النصائح الكافية لمن تولى معاوية) وأهل السنة لا يتبرأون من معاوية - رضي الله عنه - فهو صحابي وإنَّما يخطئونه فيما فعل مع علي - رضي الله عنه - وفيما فعل في تولية ابنه للحكم ولكنه متأوِّل والله يتولى السرائر.
... ثانيًا: عبارته كأنَّه يتحدَّث عن طائفة أخرى غير طائفته حيث يذكرهم بضمير الآخر: (تعديلهم .. سمُّوه..) ممَّا يشير إلى أنَّه شيعي يتحدث عن طائفة غير طائفته.
... ثالثًا: استنكاره تسمية من ارتكب معصية بأنَّه صحابي غريب فإن الصحبة لا تُلغى بمجرد الذنب، فالصحبة باقية لكن الذنب إذا كان متعمدًا فإنه ينقص من مكانة صاحبه عن مكانة الذي لم يُذنِب، ولهذا فإن الصحابة على مراتب عند أهل السنُّة.
... رابعًا: زعمه أنهم يتأوَّلون ما فعل الصحابي من الكبائر مردود فإن أحدًا من العلماء لم يتأول لأحد ارتكب كبيرة من الذنوب كالزنا وشرب الخمر ونحوهما مع أنهم بحمد الله لا يوجد في الصحابة من فعل ذلك إلا أقل من القليل لا يتجاوز الآحاد.
... فكم عدد الذين ارتكبوا هذه الكبائر؟ ومن هو الذي تأول لهم؟ فإنَّ الدعوى ما لم يؤيدها دليل مردودة.
... أمَّا إن كان القصد بالكبائر القتال الذي وقع بينهم، فهذا وقع بتأويل كل فريق يزعم أنَّه على حق، وليسوا قاصدين لارتكاب المحرَّم حسب ظاهرهم ـ كما مر معنا أكثر مرة ـ.
__________
(1) النصائح الكافية/166/(108/107)
... خامسًا: زعم أنَّهم_أي أهل السنَّة_اختلفوا في التعديل اختلافًا كثيرًا_غير مسلم فالسلف قاطبة على التعديل وإنَّما خالف بعض المتأخرين من بعد القرن السادس وهم أفراد فكيف يُعارض ما أطبقت عليه جماهير العلماء بأقوال أفراد وعند التأمُّل في المذكورين نجدهم: إمَّا أصحاب كلام لا صلة لهم بالأثار، وإمَّا أشخاص تأثروا بمناهج أهل البدع، وقد مرَّ معنا كلام ابن حجر رحمه الله في ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
63) أوردتم كلام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وهو: (كيف يسوغ لنا أن نتصور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجيز لنا أن نقتدي بكل رجل من الصحابة مع أن فيهم العالم والمتوسط في العلم ومن هو دون ذلك...) [سلسلة الأحاديث الضعيفة/1/82].
الجواب من وجوه:
... أولاً: الشيخ الألباني رحمه الله يقرر معتقد أهل السنَّة والجماعة فإنَّهم لا يقولون: إنَّه يجوز أن نقتدي بكل صحابي ولا نعرف أحدًا من أهل العلم قال بجواز الاقتداء بكل صحابي.
... ثانيًا: عظماء الصحابة كالصدِّيق والفاروق وذي النورين وأبي السبطين ومن كان قريبًا منهم في الفضل والعلم يُقتدى بهم ويُرجع إلى فتاواهم لعلمهم وفضلهم.
... ثالثًا: مسألة العدالة لا علاقة لها بهذا الموضوع فليس معنى: "عدل" أنَّه يُقتدى به وإنَّما العدالة مسألة شخصية تتعلق بالسلوك والمعاملة وليس من شرطه أن يكون عالمًا مفتيًا.
... فليس من قيل فيه إنَّه: "عدل" يعني أنَّه: "قدوة" ولا أدري من أين فهمتم أنَّ العدالة تعني: "الاقتداء" وأمَّا الحديث الذي أوردتموه فقد تبين لكم بطلانه.
... ولم تذكروا لنا أي عالم قال بما قلتم به.
ــــــــــــــــــــــــــــــ(108/108)
64) قلتم بعد الكلام السابق: (وقريب من ذلك عن الشوكاني"1255هـ" [إرشاد الفحول/158]، والشيخ محمود أبو رية المتوفى سنة "1370هـ" [أضواء على السنة المحمدية/356]، والشيخ محمد عبده المتوفى سنة "1322هـ" والسيد محمد رشيد رضا المتوفى سنة "1354هـ" [تفسير المنار/10/375]، والرافعي المتوفى سنة "1356هـ" [إعجاز القرآن/141]).
قلت الجواب من وجوه:
... أولاً: جمعت بين المتناقضات بين رجال يدافعون عن السنَّة أو يحرصون على اتباعها وبين رجل حاربها وخرج عليها كما سيأتي ووصفته (بالشيخ) ولا أدري هل تعرف عنه ذلك أم لا؟!
... ثانيًا: أمَّا الشوكاني فالذي ذكره على خلاف ما تذكر فقد قال رحمه الله: (اعلم أن ما ذكرناه من وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي إنَّما هو في غير الصحابة فأمَّا فيهم فلا، لأن الأصل فيهم العدالة فتُقبل رواياتهم من غير بحث، حكاه ابن الحاجب عن الأكثرين قال القاضي: هو قول السلف وجمهور الخلف وقال الجويني بالإجماع...)(1).
... ثم ذكر ثلاثة أقوال أخرى وردها.
... ثالثًا: أبو رية ليس من أهل السنَّة بل هو رجل خارج عليهم وقد كتب كتابًا بعنوان: (أضواء على السنة المحمدية) نشر عام 1958م وردَّ عليه العلماء منهم: الدكتور محمد أبو شهبة، ومحمد السماحي، والسباعي، وسليمان الندوي، ومحب الدين الخطيب، وغيرهم رحمهم الله جميعًا.
... ومن أشهر الكتب التي ردَّت عليه: (ظلمات أبي رية أمام أضواء السنة المحمدية) لعبدالرزاق حمزة و(الأنوار الكاشفة لما في أضواء السنَّة من الزلل والتضليل والمجازفة).
... وقد ضمن الدكتور السباعي كتابه: (السنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي) شيئًا من الردود عليه وذكر في مقدمة كتابه مصادر أبي رية في كتابه وأنَّها تنحصر في المصادر الآتية:
آراء أئمة الاعتزال.
آراء غلاة الشيعة.
آراء المستشرقين.
حكايات تذكر في بعض كتب الأدب.
__________
(1) إرشاد الفحول/26/(108/109)
أهواء دفينة للمؤلف ظلَّت تحرك في صدره سنين طويلة(1).
فهل يصلح مثل هذا أن يستشهد بكلامه؟!
رابعًا: كلام الشيخ محمد عبده ورشيد رضا:
لم أجد في هذا المجلد ما له علاقة بهذا الموضوع لا في هذه الصفحة ولا في غيرها وإنَّما الذي وجدته فيه هو ذم الشيعة وتأكيد عدم سلامة مذهبهم ... إلخ (ص"11و135").
ــــــــــــــــــــــــــــــ
65) قلتم: (وهذا بعينه هو رأي الشيعة الإمامية)
قلت: هذا الكلام الذي ذكرته لا أدري ما المقصود منه؟!
... فهو إحالة على كلام تقدم بعضه من خارجين على الإسلام وبعضه من أئمة الإسلام وهذا جمع بين متناقضات وليتك أوضحت ما تريد لأنَّك أحلت على أقوال متناقضة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
66) قلتم: (ذهب بعض إلى أن من يأتي بعد الصحابة يكون أفضل منهم كما قال القرطبي وذهب ابن عبدالبر المتوفى سنة "463هـ" إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة وإن قوله عليه السلام: (خير الناس قرني...) ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول وقد جمع قرنه جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان وأهل الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود...)(2) [تفسير القرطبي/4/171].
أولاً: ابن عبدالبر رحمه الله يقسم الصحابة قسمين:
... القسم الأول: السابقون الأولون الذين أسلموا وهاجروا وشهدوا بدرًا والحديبية.
... القسم الثاني: من كان بعدهم.
... ويرى أن القسم الأول لا يلحقون، ولكن القسم الثاني يمكن أن يلحقوا في العمل ـ لا في الصحبة ـ وذلك عندما يفسد الزمان.
__________
(1) السنة ومكانتها في التشريع/ص"18"
(2) تفسير القرطبي/4/109/(108/110)
... قال رحمه الله بعد إيراده أحاديث في الثناء على من يأتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قد عارض قوم هذه الأحاديث بما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم -: (خير الناس قرني ثمَّ الذين يلونهم ثمَّ الذين يلونهم) وهو حديث حسن المخرج جيد وليس ذلك عندي بمعارض.
... لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خير الناس قرني) ليس على عمومه بدليل ما يجمع ... إلخ الكلام السابق ثم ذكر حديث: (لا تسبوا أصحابي) وآية: (كنتم خير أمة ...) وقولاً لعمر ثم قال: (وقال ابن عباس في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدرًا والحديبية وهذا يشهد أن خير قرنه فضلاً أصحابه وأن قوله: (خير الناس قرني) أنه لفظ خرج على العموم ومعناه الخصوص)(1).
... أراد رحمه الله أن يبين أن المراد بـ:(قرني) أصحابي وهو لفظ عام والمراد به الخصوص ليخرج المنافقين وغيرهم.
... ولعله يشير كذلك إلى أنَّه عندما يفسد الزمان ويعود الابتلاء على المؤمنين فإنَّهم يضاعف لهم الأجور كما ضوعفت للصحابة في بداية الإسلام ما عدا أهل بدر والحديبية.
... فقد قال بعد في أواخر كلامه: (فيستوي حينئذ أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية والله أعلم)(2).
... إذن عبارتكم لا تنطبق على كلامه ومذهبه رحمه الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
67) قلتم: (وهكذا نقل النووي عن القاضي عياض عن ابن عبدالبر [شرح مسلم/3/138] والمناوي في فيض القدير والمباركفوري في تحفة الأحوذي وابن حجر في فتح الباري ثم ناقش فيه...) [فيض القدير/4/368 وتحفة الأحوذي/8/337، وفتح الباري/7/6].
... قلت هنا وقفات:
__________
(1) التمهيد (بترتيب فتح البر)/2/314-315
(2) المرجع السابق/2/321/(108/111)
... أولاً: أشار النووي إلى كلام ابن عبدالبر بعد حديث: (وددت أنا قد رأينا إخواننا) قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: (بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)(1) ولم يورده بنصه وأورد كلام الباجي في تفسير: (بل أنتم أصحابي) فقال: (ليس نفيًا لأُخوَّتهم ولكن ذكر مرتبتهم الزائدة بالصحبة فهؤلاء إخوة صحابة والذين لم يأتوا إخوة وليسوا بصحابة كما قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة).
... ثم أورد كلام القاضي عياض فقال: (قال القاضي عياض: ذهب ابن عبدالبر في هذا الحديث وغيره من الأحاديث في فضل من يأتي آخر الزمان إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من هو أفضل ممن كان من جملة الصحابة وأن قوله: (خيركم قرني) على الخصوص معناه: خير الناس قرني: أي السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن سلك مسلكهم فهؤلاء أفضل الأمَّة وهم المرادون بالحديث.
... وأمَّا من خلَّط في زمنه وإن رآه وصحبه أو لم يكن له سابقة ولا أثر في الدين فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول من يفضلهم على ما دلَّت عليه الآثار.
... قال القاضي: وقد ذهب إلى هذا أيضًا غيره من المتكلمين على المعاني.
... قال: وذهب معظم العلماء إلى خلاف هذا وأنَّ من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورآه مرَّةً من عمره وحصلت له مزية الصحبة أفضل من كل من يأتي بعد فإنَّ فضيلة الصحبة لا يعد لها عمل قالوا: (وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)(2).
... فكلام القاضي كما ترى تفسير لكلام ابن عبدالبر وقد قسم الصحابة إلى طبقتين:
... الأولى: هم: (السابقون.. ومن سلك مسلكهم..) وهؤلاء لا يلحقون.
... الثانية: من خلَّط ولم يكن له سابقة.
__________
(1) شرح صحيح مسلم/ح/141/
(2) شرح النووي على صحيح مسلم/3/141/(108/112)
... وليس بحمد الله في السابقين من خلط ولم يقل أحد من علماء السنَّة إنَّ أحدًا من السابقين يمكن أن يلحق كما سيأتي في: "رابعًا".
... ثانيًا: لم أجد المناوي نقل شيئًا عن ابن عبدالبر ولا غيره عند حديث: (وددت أني لقيت إخواني)(1) والنسخة التي اعتمدتم عليها غير معروفة لدي.
... والذي ذكره هنا قوله: (وقد دل إثبات الأخوة لهؤلاء على علو مرتبتهم وأنَّهم حازوا فضيلة الأخروية كما حاز المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فضيلة الأولية وهم الغرباء...)(2).
... ثالثًا: أما تحفة الأحوذي فلم أجد فيه نقلاً لكلام ابن عبدالبر عند آية: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ولا في المكان الذي أشرتم إليه.
... وإنَّما وجدته نقل من تفسير ابن كثير لهذه الآية والذي يُقِر فيه فضل القرن الأول(3).
... رابعًا: وأما ابن حجر رحمه الله فقد أشار إلى قول ابن عبدالبر وتعقبه في تضعيفه بعض الأحاديث التي أوردها في التمهيد لتقوية مذهبه ثم قال: (نعم والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأما من اتَّفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة أو النصرة وضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد ممَّن يأتي بعده لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها بعده فظهر فضلهم.
... ومُحصِّل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة كما تقدم).
... خامسًا: تبين بما تقدم أن العلماء الذين أوردت أسماءهم لم يوافقوا ابن عبدالبر على قوله.
... سادسًا: كل شخص من المتأخرين للصحابة مثل أجره لأنَّ الصحابة هم السبب في نصرة الإسلام وحفظه ونشره فكيف يمكن أن يلحقهم؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) فيض القدير/ح/961/
(2) فيض القدير/6/468/
(3) تحفة الأحوذي/8/278(108/113)
... 68) قلتم: (لا شك أن من سبر تاريخ الصحابة بعد رحيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجد فيه صفحات مليئة بألوان الصراع والنزاع بينهم حافلة بتبادل السب والشتم بل تجاوز الأمر بهم إلى التقاتل وسفك الدماء فكم من بَدريّ وأحديّ انتهكت حرمته أو أُريق دمه بيد صحابي آخر وهذا ممَّا لا يختلف فيه اثنان).
... الجواب من وجوه:
... أولاً: شهادتك على تاريخ الصحابة فيه تجاوز لا يليق بأمثالك.
... فتاريخ الصحابة ليس كما ذكرت.
... فإنَّ للصحابة - رضي الله عنهم - تاريخًا مشرقًا ومضيئًا يعتبر أفضل تاريخ في حياة الأمَّة بل في حياة البشرية لو لم يعكر عليه ما وقع في أواخر عهد الخلفاء الراشدين.
... فقد فتحوا الأرض ودخل الناس في دين الله - عز وجل - على أيديهم أفواجًا وحفظوا لنا دين الله - عز وجل - ونقلوه كما أنزل وعاشوا إخوة متحابين طوال خلافة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلى أواخر خلافة عثمان - رضي الله عنهم - جميعًا وذلك إلى عام ثلاثة وثلاثين أو أربع وثلاثين ثم بدأت شرارة الفتنة كما ذكر ابن كثير رحمه الله.
... وقد ذكر ابن كثير رحمه الله سببين لبداية هذه الفتنة:
... الأول: بعض القرَّاء وقد كانوا تسعة أو عشرة في الكوفة وآخرون في البصرة بسبب عزل عثمان - رضي الله عنه - بعض الصحابة من الولايات وتولية أصحابه ـ هذا في الظاهر ـ وأخذوا يشنعون عليه فسيَّر بعضهم إلى الشام ومصر.
... الثاني: قال ابن كثير: (وذكر سيف بن عمر أن سبب تألب الأحزاب على عثمان أن رجلاً يقال له: "عبدالله بن سبأ" كان يهوديًّا فأظهر الإسلام وصار إلى مصر فأوحى إلى طائفة من الناس كلامًا اخترعه من عند نفسه. فذكر منه أن قال: (وقد كان أُوصي إلى عليّ بن أبي طالب فمحمد خاتم الأنبياء وعليّ خاتم الأوصياء ثم يقول: فهو أحق بالإمرة من عثمان، وعثمان معتد في ولايته)(1).
__________
(1) البداية والنهاية/7/166-168/(108/114)
... فاستمال به كثيرًا من الناس فوقعت الفتنة وقُتِل عثمان - رضي الله عنه - على أيدي هؤلاء الخوارج ومن وقتها بدأت الفتنة في الأمة.
... إذن إطلاق القول بأن تاريخ الصحابة مليء بالصراع بتناسي الفترة المضيئة التي كان من بركتها حفظ الدين وفتح العالم إلى أن وصل الفتح إلى بلاد الهند وشمال الجزيرة وشمال أفريقيا فيه تجاوز.
... أتنسى هذه الفترة المضيئة؟! وتبرز الفترة التي وقعت فيها الفتنة بمكر أعداء الإسلام؟ فإن قتل عثمان - رضي الله عنه - كان بوابة لكل الشر الذي بعده.
... ثانيًا: ما حدث من الاقتتال كان اقتتال فتنة أذكاها الخوارج على عثمان إلى اجتهاد خاطئ من معاوية - رضي الله عنه - والله - عز وجل - قد أبان سبحانه أن المؤمنين قد يقتتلون ولم يحكم بكفرهم - عز وجل - وأطلق على الظالمة أنها:"باغية" ولم ينف عنها أُخوة الإيمان.
كما قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله...) (إنَّما المؤمنون إخوة...)(1).
... ثالثًا: قلت: (حافلة بتبادل السب والشتم...) سبحان الله!!: "حافلة" أليست هذه حالات فردية؟! كم هم الذين سبوا وشتموا؟!
... نعم ما حدث من بعضهم بل من أفراد منهم لا يمثل الأغلبية وهو فعل خاطئ لكن هذا الإطلاق: "حافلة" فيه إجحاف وتجن غير مقبول من باحث وأستاذ جامعي.
... وسيأتي مزيد بيان في الفقرة الآتية ـ إن شاء الله ـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 69) قلتم (ص"15"): (فإذا كان الصحابي يعتقد أن خصمه الصحابي الآخر منحرف عن الحق ومجانب شريعة الله ورسوله وأنه باغي يستحق القتل وهو على هذا الأساس يبيح سل السيف عليه وقتله فكيف يجوز أن نحكم بعدالتهم ونزاهتهم جميعًا والحال أن الصحابة أعرف منَّا بنوازع أنفسهم وبنفسيات أبناء جيلهم وهل سمعت ظئرًا أعطف بالطفل من أمه).
__________
(1) سورة الحجرات (9-10)(108/115)
... لنا هنا وقفات:
... أولاً: هذا الكلام كسابقه لا يرى إلا جانبًا واحدًا من حياة الصحابة وبالغ في عرض الأمور بتعميم لا يليق بباحث يقدر قيمة الكلام.
... ثانيًا: أين في حياة الصحابة من يرى خصمه خصمًا جهنميًا!! يستحق القتل؟! هل تستطيع أن تذكر أمثلة بالاسم؟! مُدللاً على ذلك من كلامهم؟!
... ثالثًا: أمَّا ما حدث من خلاف أدَّى إلى التقاتل فهو أمر خارج عن إرادتهم ولم يقصدوا القتال وفيما يلي عرض موجز بالحوادث التي وقعت بينهم.
بعد قَتل عثمان حُمل قميصه ملطخ بدمه إلى الشام وأصابع زوجته نائلة التي قُطعت وهي تحاجف عنه رضي الله عنهما فوضعه معاوية على المنبر وندب الناس إلى الأخذ بثأره - رضي الله عنه -.
ولما استقر الأمر لعلي - رضي الله عنه - دخل طلحة والزبير على علي - رضي الله عنه - وطلبوا منه إقامة الحدود والأخذ بدم عثمان فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا.
حدث في جميع الأمصار اضطراب بسبب مقتل عثمان وكلهم يطالب بقتل قتلته.
كان هناك تبادل نصائح بين علي وابنه الحسن رضي الله عنهما.
خرج طلحة والزبير ومعهما عائشة رضي الله عنهم إلى البصرة لتحريض الناس على قتلة عثمان.
عند وصولهم إلى البصرة وقع اختلاف بينهم وبين عامل علي - رضي الله عنه - عليها أدى إلى قتال بين الطرفين.
كان علي - رضي الله عنه - يريد أن يتجه إلى الشام فلما علم بذهاب طلحة والزبير وعائشة إلى الشام غيَّر وجهته واتجه إلى البصرة.
تراسل الطرفان علي وطلحة ومن معه واتفقا على الصلح.
عندما علم قتلة عثمان وكانوا ضمن جيش علي - رضي الله عنه - وأدركوا أن إمضاء الصلح يعني الأخذ بالثأر منهم فعمدوا إلى حيلة بأن يثيروا الحرب من أواخر الليل ويشيعوا بأنًّ أهل البصرة خدعوهم ففعلوا ووقعت المعركة.(108/116)
هذا ملخص قتال علي - رضي الله عنه - مع طلحة ومن معه كما عرضها ابن كثير رحمه الله(1).
فأين في هذه الحادثة استحلال الدماء وهي فتنة لم يقصدها كلا الطرفين؟!
رابعًا: وقعة صفين كانت بعد أن انتهى علي - رضي الله عنه - من وقعة الجمل فقد أرسل إلى معاوية وطلب منه أن يبايع فامتنع إلا إذا سلَّم له قتلة عثمان فجهَّز عليّ جيشًا واتجه به إلى الشام وجهزمعاوية جيشًا فالتقوا في صفين وبعد مراسلات لم تثمر شيئًا مفيدًا وقع القتال(2).
فأين في هذه الحادثة يا تُرى استحلال الدماء؟!
أليس ظاهر الأمر أنَّ كل طرف يرى أنَّ الحق معه؟! وأنَّ اقتتالهم كان لقضية لا لقتل شخص بعينه؟!
خامسًا: ما يوجد في روايات التاريخ كثير منه لا يصح والذي يريد أن يستبرئ لدينه فلا ينبغي له أن يصغي إلى تلك الروايات لكثرة ما شابها من الأكاذيب.
وبهذا العرض الموجز يتبين أنَّ الإدعاء غير دقيق والله المستعان.
سادسًا: إنَّ الحرص على نقص عدالة الصحابة بمثل هذه الدعاوى له آثاره السيئة التي تفقد الثقة في هذا الجيل وفيما نقله إلينا من دين، بل تجرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه خلَّف جيلاً انتقض على الدين واستباح الحرمات والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
70) ما أوردتموه عن من يسمى بـ: "ابن عقيل" وهو رجل مجهول ومتحامل وكثير من دعاواه كاذبة.
... فمن الكذب: أنَّه زعم أنَّ أهل السنَّة يقولون بعصمتهم أو بحفظهم وهذا كذب.
... أهل السنَّة يقولون بأنَّ الأصل فيهم الخير لكونهم دخلوا الإسلام طائعين مختارين حتى يتبين لنا خلاف ذلك لشرف صحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) البداية/7/230-245/والطبري في تاريخه في سنة: 36هـ
(2) البداية/7/253-276/(108/117)
... ثم إنَّه كرر ما أوردتموه سابقًا بنفس النبرة حيث قال: (بل وما تواتر من ارتكاب بعضهم ما يخرم العدالة وينافيها من البغي والكذب والقتل بغير حق وشرب الخمر وغير ذلك مع الإصرار...)
... وقد تقدم المطالبة بذكر عدد وأسماء من وقع في ذلك مع إثبات دعوى الإصرار...؟!
... إنَّ رقة الدين ومرض القلب سببان عظيمان لقول الزور والجراءة عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
71) قلتم: (ومع هذا كله نرى أنَّ بعضهم يتَّهم من ينتقد الصحابة بالزندقة والخروج من الدين والإلحاد كما قال السرخسي: (من طعن فيهم فهو ملحد مُنابذ للإسلام دواؤه السيف إن لم يتب) [أصول السرخسي/2/124].
وأوردتم رواية الخطيب البغدادي عن أبي زرعة أنَّه قال: ( إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنَّه زنديق. وذلك: أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق والقرآن حق وإنَّما أدى إلينا هذا القرآن والسنَّة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنَّة والجرح بهم أولى وهم زنادقة) [الكفاية/67].
... والجواب من وجوه:
... أولاً: لماذا يجرح الشيعة الصحابة ويرفضون عدالتهم؟ ما هو المقصد من ذلك؟ أليس المقصد هو إفقاد الثقة في مروياتهم والتشكيك في إيمانهم وإخلاصهم؟!
... لا نفهم من مواقف الشيعة إلا هذه المقاصد.
... ثانيًا: ماذا يترتب على جرح الصحابة والتشكيك في عدالتهم؟
... يترتب عليه ما يلي:
أنَّ الصحابة غير أُمناء على الشريعة لأنَّهم قتلة، شاربوا خمر، زناة، سراق، وخونة لدينهم ـ كما زعمتموه أنتم ومن نقلتم كلامه ـ.
وهذا يؤدي إلى إبطال الشريعة.
لو أراد أعداء الشريعة أن يبطلوا الدين لما وجدوا طريقًا أمضى من هذه الطريق الشيعية.(108/118)
هذا الدين غير صحيح لأنَّه لم يستطع أن يربي الجيل الأول تربية إيمانية سليمة فما إن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى انقضوا على دينهم وارتكبوا كل محرم.
أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يربي جيلاً مجرمًا قرابة ثلاث وعشرين سنة وهو لا يدري أنَّهم مجرمون ومخادعون كانوا معه على النفاق والخداع فلمَّا مات انكشفت النوايا وظهر المستور.
أنَّ الله تعالى كان يعلم عن ذلك الجيل وأنَّه جيل شرير ولم يخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - به ليستبدل به غيره وهذا إقرار للباطل وتغرير بالناس، لأنّ الناس يرون هؤلاء يرافقون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحيطون به والرسول يعاشرهم ويستشيرهم ويزوجهم من بناته ويتزوج من بناتهم ويُثني عليهم ويذكر من فضائلهم وهذا اتهام لله - عز وجل - أولاً بعدم كشفهم لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وللأمَّة لئلا ينخدعوا بهم ثانيًا.
بل الله - عز وجل - أكثر من الثناء عليهم عامًّا وثناءً خاصًا وذلك فيه تغرير للناس بذلك الثناء ـ حسب زعمكم ـ.
... هذه هي نتيجة جرح الشيعة الإمامية للصحابة - رضي الله عنهم -.
في دعاوى الشيعة الإمامية أنَّ الله - عز وجل - لم يبين البيان الكافي لمعرفة الأخيار من الأشرار ممَّا يجعل الأمر مختلفًا فإمَّا أن يُزكَّى الأشرار وإمَّا أن يُتَّهم الأخيار لعدم الوضوح والبيان.
... ثمَّ يترتب على ذلك عدم الثقة في مروياتهم لأنَّنا نشك فيهم ونخشى أن يكذبوا علينا.
... أو لا ندري من هو المؤمن فنقبل روايته، ومن هو المنافق فنرد روايته، فإنَّ الأمر مختلط والقرآن لم يُحدَّد والسنَّة نقلها هؤلاء.
... وبهذا نفقد الثقة في القرآن والسنَّة لأنَّ نقلَتها مشكوك فيهم.
... ثالثًا: لو أردنا أن نثبت إيمان الصحابة على هذا المنهج الشيعي لما استطعنا.
... فأين الدليل على إثبات إيمان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة؟!(108/119)
القرآن؟ القرآن أورد آيات كثيرة عامة وآيات خاصة وكلها أبطل دلالتها: (العينية) الشيعة ما عدا ما فسروه في علي ـ أي أبطلوا أنَّها تدل على فلان وفلان وقالوا إنَّها عامة لا يمكن تفسيرها في أعيان من الصحابة فإنَّها إمَّا عامة وإمَّا مقيدة ولا ندري من هو الذي توافر فيه القيد الشيعي!!
فلو قال قائل: أنا أشك في إيمان هؤلاء الخلفاء الأربعة فإنَّ آيات النفاق كانت فيهم للأدلة الآتية:
قالت الشيعة إنَّ أبا بكر وعمر وعثمان اغتصبوا الخلافة وكان المعيَّن لها هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - تعيينًا عينيًا من الله - عز وجل - ومن رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهؤلاء خانوا الوصية وامتنعوا من تنفيذها وعليّ أضاع الوصية حفاظًا على حياته.
قال هذا القائل: وهذا دليل نفاقهم ولهذا فإنِّي أشك في إيمانهم بل كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُخفُون نفاقهم والآن ظهر النفاق فكيف ترد عليهم؟!
ثم استطرد قائلاً:
القرآن الكريم وصف من مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان ووصفهم في نفس الوقت بالنفاق ولم يخبرنا من هو المؤمن ومن هو المنافق وهذه الأعمال تدل على النفاق؟!
قلنا نحاكمكم إلى السنة:
قالوا: السنَّة رواها هؤلاء الأشخاص الذين نشك في إيمانهم ولهذا فإنَّا لا نقبلها لأنَّهم يشهدون لبعضهم وهذه شهادة مردودة.
ثم قالوا: وعلى هذا فلا القرآن نُصدِّق ولا السنَّة نُصدِّق، الدين باطل.
قلتُ: رحم الله أبا زرعة: (إنَّما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنَّة والجرح بهم أولى وهم زنادقة).
هذا هو السبب الذي أكَّد العلماء أنَّ مذهب الشيعة بوابة هدم الدين ويلتحق به كل من أراد هدم الدين.
... رابعًا: كتب الشيعة الروائية لا يكاد يخلو كتاب من كتب الآثار المروية في العقائد أو التفاسير أو الرجال من تضليل الصحابة أو تكفيرهم إلاَّ أربعة أشخاص.
... ونورد هنا نماذج من كتب الروايات:
من كتاب الكافي:(108/120)
روى بسنده عن أبي جعفر قال: لما نزلت هذه الآية: (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) قال المسلمون يا رسول الله ألست إمام الناس كلهم؟ قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا رسول الله إلى الناس أجمعين ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي يقومون في الناس فيُكذَّبون ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو مني ومعي وسيلقاني...)(1).
وعن أمير المؤمنين قال: (ما بال أقوام غيَّروا سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدلوا عن وصيه)(2).
وروى حديثًا مرفوعًا في تفسير قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) (أبِالنبي أم بالوصي تكذبان...) حتى القرآن أضافوا إليه الوصية!
عن أبي عبدالله في تفسير قول الله - عز وجل -: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا) قال عنى بها قريشًا قاطبة الذين عادوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصبوا له الحرب وجحدوا وصيه(3).
وهكذا استمر في إيراد الأحاديث والآثار في تقرير الوصية والإمامة والتي لم يعرفها الصحابة ولم يعملوا بها فضلُّوا... ـ حسب زعمه ـ.
وفيه عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: جعلت فداك ما أقلَّنا! لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها؟ فقال: ألا أحدثك بأعجب من ذلك: المهاجرون والأنصار ذهبوا إلاَّ ـ وأشار بيده ـ ثلاثة)(4) أي ارتدوا إلاَّ ثلاثة!!
رجال الكشي:
عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان الناس أهل الردة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ ثلاثة فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود، وأبو ذر، وسلمان الفارسي...)(5).
__________
(1) الكافي1/216/
(2) الكافي1/217/
(3) الكافي1/217/
(4) الكافي2/244/
(5) رجال الكشي/1/6/ ورواها الكافي/12/321 (مع شرح جامع للمازندراني)(108/121)
... وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله ع: ارتد الناس إلاَّ ثلاثة: أبو ذر، وسلمان، والمقداد. قال: فقال أبو عبدالله ع: فأين أبو ساسان وأبو عمرة الأنصاري؟(1).
تفسير الصافي والقمي:
عن الصادق لمَّا أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم غدير خم كان بحذائه سبعة من المنافقين: أبو بكر وعمر ـ وعند القمي الأول والثاني ـ وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص،وأبو عبيدة،وسالم مولى أبي حذيفة، والمغيرة بن شعبة.
قال عمر: أما ترون عينه كأنَّما عين مجنون ـ يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - واستغفر الله من هذا الكذب ـ الساعة يقوم ويقول: قال لي ربي. فلما قام قال: أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: الله ورسوله. قال: اللهم فاشهد. ثم قال: ألا من كنت مولاه فعلِّي مولاه وسلموا عليه بإمرة المسلمين.
فنزل جبريل وأُعلم رسول الله بمقالة القوم فدعاهم وسألهم فأنكروا وحلفوا فأنزل الله: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر)(2).
... ولو ذهبنا نبحث في هذه الكتب لرأينا عشرات ومئات الروايات تطعن في الصحابة وتصفهم بكل وصف سيء وهذا بين أمرين:
... الأول: أن تكون رويات معتمدة عند الشيعة.
... الثاني: أن لا تكون معتمدة.
... فإنْ كانت معتمدة فهذا كافٍ لبيان سوء هذا المعتقد.
... وإنْ كانت غير معتمدة فهي كذلك دليل على أنَّ هذا المذهب استغله الزنادقة للطعن في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل والطعن في القرآن وهذا يدل على قابلية هذا المذهب لدس الزنادقة فيه وبهذا يتبين صحة كلام علماء السنَّة في ذلك.
__________
(1) رجال الكشي/1/7/
(2) تفسير الصافي: 2/359/ وتفسير القمي/1/301(108/122)
... خامسًا: ونحن نعتقد أنَّ هذه الآثار كلها مكذوبة على آل البيت فقد حذروا في أكثر من رواية من الكذابين فقد روى الكشي عن أبي عبدالله أنَّه قال: (إنَّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بِكَذِبه علينا عند الناس..) ثمَّ ذكر الكذابين على آل البيت وهم:
مسلمة.
عبدالله بن سبأ.
المختار.
الحارث الشامي.
بنان.
المغيرة بن سعيد.
بزيغ.
السري.
أبو الخطاب.
معمر.
بشار الشعيري.
حمزة البربري.
صايد النهدي(1).
... وذكر غيرهم في روايات أخرى وهذا يؤكد أنَّ هذا التناقض سببه هؤلاء الكذابون وإخوانهم الذين أفسدوا عقائد الشيعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 72) أوردتم حديثًا مرفوعًا لفظه: (الله الله في أصحابي...) [الإصابة/1/10].
... ثم ذكرت من ضعفه وأوردت شيئًا من شرحه) [الترمذي/5/358، والألباني في تحقيقه للسنة لابن أبي عاصم/465/...].
... قلت: لا أدري ماذا تقصد من إيراد هذا الحديث وتضعيفه؟!
... فإن كنت تريد أنَّ الحديث الذي ينهى عن إيذاء الصحابة ضعيف فيجوز إيذاؤهم لأنَّه ليس هناك أحاديث أخرى في هذا الباب فإنَّك لم تُصِب.
... وإنْ أردت أنْ تعتمد عليه لما ذكرته بعد ذلك في علي - رضي الله عنه - فنحن لا نحتاج إلى أحاديث ضعيفة في الاستدلال. ...
... والعجب أنَّك تورد تضعيف العلماء للحديث ثمَّ تستطرد للاستشهاد به ومناظرة شُرَّاحه فكان الأولى الإعراض عنه لعدم صحته.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 73) قلتم: (فتدل الرواية على وجوب حب كل صحابي يحبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وبغض كل صحابي يبغضه النبي - صلى الله عليه وسلم -).
... قلت: هذا كلام حق. لكن من هم الذين يحبهم النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وكيف تثبت حبه لهم؟
... إنَّ ذلك لا يتم إلا من خلال الأحاديث.
__________
(1) مجمع الرجال/5/113/(108/123)
... والأحاديث نقلها الصحابة - رضي الله عنهم - فإنْ كانوا ثقات فقد رووا أحاديث في فضل من كفَّرتموهم أو ضلَّلتموهم بل هم الذين كُفِّروا أو ضُلِّلوا رووا لنا تلك الأحاديث.
... فلا يستقيم لكم الاستدلال بمرويَّاتهم إلا إذا عدلتموهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 74) قلتم: (ولا ريب أنَّ حب جميع الصحابة ولو كان فيهم من يبغضه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أغضبه أو لعن - صلى الله عليه وسلم - إياه فليس من حب النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء).
... كما ورد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (أصدقاؤك ثلاثة...) [شرح نهج البلاغة/19/200/ ينابيع المودة/2/247].
... قلت الجواب من وجوه:
... أولاً: هذا كلام عام ولم تبين المقصود به!
... ثانيًا: ثبت عندنا أنَّه - صلى الله عليه وسلم - يحب أصحابه جميعًا ولم يثبت عندنا أنَّه يبغضهم، وخاصة أهل بدر وبيعة الرضوان ثبتت فيهم الأدلة القرآنية والنبوية القطعية التي لا نشك في صحتها فمن خالفها عندنا فهو مبتدع معارض لكلام الله - عز وجل - راد على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
... ولعلَّه يأتي بمشيئة الله تعالى مزيد بيان.
... ثالثًا: الحديث غير معروف في دواوين الإسلام والله أعلم بواضعه!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
... 75) عنونتم بعنوان: (أراء الشيعة الإمامية في الصحابة) وأوردتم قول علي - رضي الله عنه - وبعض آل البيت.
... قلت: أمَّا إيرادك لعلي - رضي الله عنه - تحت هذا العنوان فدعوى مردودة لأنَّ عليًّا - رضي الله عنه - ليس من الشيعة ولا نعتقد أنَّ له بهم صلة أصلاً بل نعتقد أنَّ أقوالهم فيه قد شانته ولم تزنه بل هم أعداؤه لأنَّهم اتهموه بما لم يقل وبما لم يدَّعِ كما أنَّه يلزم من مذهبهم أن يوصف بالجبن والدياثة والنفاق وإن لم يصرِّحوا بذلك لكن هذا لازم قولهم.
... وفيما يلي بيان ذلك:(108/124)