قال أكثر علماء الأمة : إن الآية في النكاح المؤبد ، وقيل المراد بها حكم المتعة ... واتفقوا على أنها كانت مباحة في أول الإسلام ، ثم السواد الأعظم من الأمة على أنها صارت منسوخة ، وذهب الشيعة إلى أنها ثابتة كما كانت .....{ ولاجناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } الذين حملوا الآية على بيان حكم النكاح ، قالوا : المراد أنه إذا كان المهر مقدرا بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئا أو تبرئه عنه بالكلية . كقوله { فإن طبن لكم عن شيء }
وقال الزجاج : لا أثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها ، أو يهب الزوج للمرأة تمام المهر إذا طلقها قبل الدخول .
قال أبوحنيفة : إلحاق الزيادة بالصداق جائز ، لأن التراضي قد يقع على الزيادة ، وقد يقع على النقصان ، وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها ، أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد .
وقال الشافعي : الزيادة بمنزلة الهبة ، فإن أقبضها ملكته بالقبض ، وإن لم يقبضها بطلت . والدليل على بطلان هذه الزيادة أنها لو التحقت بالأصل ، فإما أن ترفع العقد الأول وتحدث عقدا ثانيا وهو باطل بالإجماع ،وإما أن تحصل عقدا مع بقاء العقد الأول وهو تحصيل الحاصل .
والذين حملوا الآية على حكم المتعة قالوا : المراد أنه ليس للرجل سبيل على المرأة من بعد الفريضة وهي المقدار المفروض من الأجر والأجل ، فان قال لها زيدي في الأيام وأزيد في الأجر فهي بالخيار(1).
__________
(1) " غرائب القرآن ورغائب الفرقان "4/ 15-18(56/72)
9- وقال الشنقيطي عند تفسيره { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} ما نصه : يعني : كما إنكم تستمتعون بالمنكوحات فأعطوهن مهورهن في مقابلة ذلك وهذا المعنى تدل له آيات من كتاب الله كقوله تعالى { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } فإفضاء بعضهم إلى بعض المصرح بأنه سبب لاستحقاق الصداق كاملا هو بعينه الاستمتاع المذكور هنا في قوله { فما استمتعتم به منهن} وقوله { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } وقوله { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } فالآية في عقد النكاح لا في نكاح المتعة كما قال به من لا يعلم معناه (1).
10- وقال جلال الدين في تفسير الجلالين ما نصه : { فما } فمن { استمتعتم } تمتعتم { به منهن } ممن تزوجتم بالوطء {فآتوهن أجورهن } مهورهن التي فرضتم لهن { فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم } أنتم وهن { به من بعد الفريضة } من حطها أو بعضها أو زيادة عليها (2).
11- وقال الشيخ عبد الكريم الخطيب في تفسيره : {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } الاستمتاع المطلوب إيتاء الأجر عنه هنا ، هو ما يحققه الزواج للرجل من سكن نفسي ، وأنس روحي ، وقرة عين بالبنين والبنات إلى ما يجد من إشباع لغريزته الجسدية مع العفة والتصّون .. و "ما " في قوله تعالى فما استمتعتم به منهن .. اسم موصول لغير العاقل ، معدول به عن " من" التي يقع في حيزها العقلاء وهن النساء المرغوب في الزواج منهن وفي اختيار النظم القرآني لهذا الأسلوب إعجاز من إعجازه ... فإن ما في كلمة {ما } من التجهيل والتفخيم ما يلقي إلى شعور الرجال إحساساً بعظم الأمانة التي سيحملونها بهذا الزواج الذي هم مقدمون عليه وبأنه نعمة عظيمة من نعم الله لمن يعرف كيف يكشف أسرارها ويتعرف على مواقع الخير فيها (3).
__________
(1) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" 1/384
(2) الجلالين ص 95
(3) التفسير القرآني للقرآن " 5/740 -753 .(56/73)
فالمرأة عالم رحيب ، أشبه بالبحر ، تكمن في أعماقه اللآلئ والدرر كما تضطرب في كيانه الحيتان والأخطبوطات .. والصيد في هذا البحر يحتاج إلى مهارة وكياسة وإلا وقع المحذور وساءت العاقبة.
هذا وقد حمل كثير من المفسرين قوله تعالى فما استمتعتم به منهن .. على نكاح " المتعة " وإن قوله تعالى فآتوهن أجورهن هو إشارة إلى الثمن الذي يقدمه الرجل للمرأة مقابل الاستمتاع بها.
والآية الكريمة في منطوقها لا تعطي هذا المفهوم ، الذي فوق إنه - في وضعه هذا - عنصر دخيل على القضية التي أمسك القرآن الكريم بجميع أطرافها هنا ، وهي قضية " الزواج " وما أحل الله وما حّرم على الرجال من النساء - فوق هذا فإن هذا المفهوم يناقض قوله تعالى {فريضة } الذي هو وصف ملازم للمهر الذي أشار إليه سبحانه تعالى بقوله فآتوهن أجورهن فريضة كما إنه يناقض قوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون .
والمرأة المتمتع بها ليست زوجة لأنها لا تحسب في الأربع المباح للرجل الإمساك بهن ولا ترث المتمتع بها ولا يرثها كما أنها ليست ملك يمين لمن يتمتع بها ...إن القرآن الكريم لم يجر فيه ذكر بإباحة المتعة وإن الآية الكريمة التي يستشهدون بها لهذا وهي قوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن إنما هي لتقرير حكم من أحكام الزواج الشرعي الدائم وهذا الحكم هو المهر الواجب لصحة عقد هذا الزواج (1) .
__________
(1) " التفسير القرآني للقرآن " 5/740 -753(56/74)
12- وقال الشيخ محمد علي السايس في تفسيره { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} - ما - واقعة على الاستمتاع والعائد في الخبر محذوف أي فآتوهن أجورهن عليه كقوله { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } أي منه ويجوز أن تكون واقعة على النساء وأعاد الضمير في به عليها باعتبار اللفظ وفي منهن باعتبار المعنى وقوله فريضة معمول لفرض محذوف والمراد بالأجور المهور لأنها في مقابلة الاستمتاع فسميت أجر.{ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} من حط لكله أو بعضه أو زيادة عليه - أمر بإيتاء الأزواج مهورهن وأجاز الحط بعد الاتفاق برضا الزوجين - وعلى ذلك تكون الآية نزلت في النكاح المتعارف .
وقيل نزلت في المتعة وهي أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين وكان الرجل ينكح امرأة وقتاً معلوماً ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً بثبوت أو غير ثبوت ويقضي منها وطراً ثم يتركها .
واتفق العلماء على أنها كانت جائزة ثم اختلفوا فذهب الجمهور إلى أنها نسخت وذهب ابن عباس إلى إنها لم تنسخ وهناك رواية عنه أنها نسخت وروى أنه رجع عن القول بها قبل موته.
والراجح أن الآية ليست في المتعة لأن الله ذكر المحرمات في النكاح المتعارف ثم ذكر إنه أحل ما وراء ذلكم أي في هذا النكاح نفسه .
والراجح أن حكم المتعة الثابت بالسنة قد نسخ لما أخرج مالك عن علي أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الإنسية .....(1)
13- وقال الشيخ محمد السيد طنطاوي في تفسيره :
قال تعالى { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة}
والاستمتاع : طلب المتعة والتلذذ بما فيه منفعة ولذة .
والمراد بقوله { أجورهن } أي مهورهن لأنها في مقابلة الاستمتاع فسميت أجراً .
و (ما) في قوله { فما استمتعتم به منهن .. }واقعة على الاستمتاع . والعائد في الخبر محذوف أي فآتوهن أجورهن عليه .
__________
(1) " آيات الأحكام " ص76(56/75)
والمعنى : فما انتفعتم وتلذذتم به من النساء عن طريق النكاح الصحيح فآتوهن أجورهن عليه.
ويصح أن تكون { ما } واقعة على النساء باعتبار الجنس أو الوصف .
وأعاد الضمير عليها مفرداً في قوله { به} باعتبار لفظها ، وأعاده عليها جمعا في قوله { منهن}
باعتبار معناها .
ومن في قوله { منهن } للتبعيض أو للبيان . والجار والمجرور في موضع النصب على الحال من ضمير {به} والمعنى : فأي فرد أو الفرد الذي تمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فأعطوهن أجورهن على ذلك . والمراد من الأجور : المهور وسمى المهر أجراً لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين.
وقوله { فريضة } مصدر مؤكد لفعل محذوف أي : فرض الله عليكم ذلك فريضة ، أو حال من الأجور بمعنى مفروضة . أي : فآتوهن أجورهن حالة كونها مفروضة عليكم .
ثم بين - سبحانه - أنه لا حرج في أن يتنازل أحد الزوجين لصاحبه عن حقه أو عن جزء منه مادام ذلك حاصلاً بالتراضي فقال - تعالى { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما } أي : لا إثم ولا حرج عليكم فيما تراضيتم به أنتم وهن من إسقاط شيء من المهر أو الإبراء منه أو الزيادة عليه ما دام ذلك بالتراضي بينكم ومن بعد اتفاقكم على مقدار المهر الذي سميتموه وفرضتموه على أنفسكم .
وقد ذيل - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { إن الله كان عليما حكيما } لبيان أن ما شرعه هو بمقتضى علمه الذي أحاط بكل شيء وبمقتضى حكمته التي تضع كل شيء في موضعه .(56/76)
فأنت ترى أن الآية الكريمة مسوقة لبيان بعض الأنواع من النساء اللاتي حرم الله نكاحهن ، ولبيان ما أحله الله منهن بعبارة جامعة ، ثم لبيان أن الله تعالى قد فرض على الأزواج الذين يبتغون الزوجات عن طريق النكاح الصحيح الشريف أن يعطوهن مهورهن عوضاً عن انتفاعهم بهن وأنه لا حرج في أن يتنازل أحد الزوجين لصاحبه عن حقه أو عن أي شيء منه مادام ذلك بسماحة نفس ، ومن بعد تسمية المهر المقدر .
هذا ، وقد حمل بعض الناس هذه الآية على أنها واردة في نكاح المتعة وهو عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين لكي يستمتع بها .
قالوا : لأن معنى قوله تعالى { فما استمتعتم به منهن فأتوهن اجورهن } : فمن جامعتموهن ممن نكحتموهن نكاح المتعة فآتوهن أجورهن .
ولا شك أن هذا القول بعيد عن الصواب ، لأنه من المعلوم أن النكاح الذي يحقق الإحصان والذي لا يكون الزوج به مسافحا . هو النكاح الصحيح الدائم المستوفى شرائطه ، والذي وصفه الله تعالى بقوله { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا باموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة}
وإذاً فقد بطل حمل الآية على أنها في نكاح المتعة ، لأنها تتحدث عن النكاح الصحيح الذي يتحقق معه الإحصان ولا يقصد به سفح الماء وقضاء الشهوة ..
قال بعض العلماء : وهذا النص وهو قوله تعالى { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } قد تعلق به بعض المفسدين الذين لم يفهموا معنى العلاقات المحرمة بين الرجل والمرأة ، فادعوا أنه يبيح
المتعة ... والنص بعيد عن هذا المعنى الفاسد بعد من قالوه عن الهداية ، لأن الكلام كله في عقد الزواج فسابقه ولاحقه في عقد الزواج والمتعة حتى على كلامهم لا تسمى عقد نكاح أبداً .(56/77)
وقد تعلقوا مع هذا بعبارات رواها عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه أباح المتعة في غزوات ثم نسخها ، وبأن ابن عباس كان يبيحها في الغزوات وهذا الاستدلال باطل لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - نسخها فكان عليهم عند تعلقهم برواية مسلم أن يأخذوا بها جملة أو يتركوها ، وجملتها تؤدي إلى النسخ لا إلى البقاء (1).
14- وقال سعيد حوى في تفسيره " الأساس في التفسير " ما نصه : حمل بعضهم قوله تعالى { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } على أنه في نكاح المتعة ، والنص لا يفهم ذلك كما رأينا ، وسواء كانت في نكاح المتعة أو لم تكن ، فحرمة نكاح المتعة مقررة في السنة وثابتة فيها ، فالمسألة تدور بين كون الآية منسوخة بالسنة إذا فهمناها على أنها في المتعة أو أنها غير منسوخة إذا فهمناها على إنها في غير المتعة ، والعمدة في تحريم المتعة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر " ، وفي صحيح مسلم عن سبرة بن معبد الجهني أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم فتح مكة فقال : " يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا (2).
15- وقال عبد الحميد كشك في تفسيره " في رحاب التفسير " ما نصه : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } أي وأي امرأة من النساء اللواتي أحللن لكم تزوجتموها ، فأعطوها الأجر وهو المهر بعد أن تفرضوه في مقابلة ذلك الاستمتاع .
__________
(1) " الوسيط " 3/ 144
(2) " الأساس في التفسير المجلد الثاني(56/78)
وسر هذا : أن الله لما جعل للرجل على المرأة حق القيام ، وحق رياسة المنزل الذي يعيشان فيه : وحق الاستمتاع بها ، فرض لها في مقابلة ذلك جزاء وأجراً تطيب به ويتم به العدل بينها وبين زوجها.
والخلاصة : أن أي امرأة طلبتم أن تتمتعوا وتنتفعوا بتزوجها فأعطوها المهر الذي تتفقون عليه عند العقد فريضة فرضها الله عليكم ، وذلك أن المهر يفرض ويعين في عقد النكاح ويسمى ذلك إيتاءً وإعطاء ويقال عقد فلان على فلانة وأمهرها ألفاً كما يقال فرض لها ألفاً ومن هذا قوله تعالى { وقد فرضتم لهن فريضة } وقوله { ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } فالمهر يتعين بفرضه في العقد ويصير في حكم المعطى وقد جرت العادة بان يعطى كله أو أكثره قبل الدخول ولكن لا يجب كله إلا بالدخول فمن طلق قبله وجب عليه نصفه لا كله ومن لم يعط شيئاً قبل الدخول وجب عليه كله بعد .{ ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } أي ولا تضييق عليكم إذا تراضيتم على النقص في المهر بعد تقديره أو تركه كله والزيادة فيه إذ ليس الغرض من الزوجين إلا أن يكونا في عيشة راضية يستظلان فيها بظلال المودة والرحمة ، والهدوء والطمأنينة ، والشارع الحكيم لم يضع لكم إلا ما فيه سعادة الفرد والأمة ورقى الشؤون الخاصة والعامة .
{ إن الله كان عليما حكيما } وقد وضع لعباده من الشرائع بحكمته ما فيه صلاحهم ما تمسكوا به ومن ذلك أنه فرض عليهم عقد النكاح الذي يحفظ الأموال والأنساب وفرض على من يريد الاستمتاع بالمرأة مهراً يكافئها به على قبولها قيامه ورياسته عليها ثم أذن للزوجين أن يعملا ما فيه الخير لهما من رضى فيحطا المهر كله أو بعضه أو يزيدا عليه .(56/79)
ونكاح المتعة " وهو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر " كان مرخصاً فيه في بدأ الإسلام وأباحه النبي لأصحابه في بعض الغزوات لبعدهم عن نسائهم ، فرخص فيه في مرة أو مرتين خوفاً من الزنا فهو من قبيل ارتكاب أخف الضررين ثم نهى عنها نهياً مؤبداً لأن المتمتع به لا يكون مقصده الإحصان و إنما يكون مقصده المسافحة وللأحاديث المصرحة بتحريمه تحريماً مؤبداً إلى يوم القيامة ونهى عمر في خلافته وإشادته بتحريمه على المنبر وإقرار الصحابة له(1).
فكبار أهل التفسير من أهل السنة ذهبوا إلى أن الآية في النكاح القرآني كابن الجوزي والزجاج والطبري والنحاس و الجصاص و الكيا الهراسي وابن كثير والشوكاني والألوسي ورشيد رضا والسايس والخطيب والطنطاوي أجمعوا على تفسير الآية على اعتبارها في النكاح ثم حكاية الرأي القائل إنها في المتعة .
ثانيا : إن الشيعة لم يتفقوا على نزول هذه الآية في المتعة واليك البيان :
ب- ذكر تفاسير الشيعة :
1- قال الطبرسي في تفسيره ما نصه : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة } قيل المراد بالاستمتاع هنا درك البغية والمباشرة وقضاء الوطر من اللذة ... عن الحسن ومجاهد وابن زيد والسدي فمعناه على هذا فما استمتعتم أو تلذذتم من النساء بالنكاح فآتوهن مهورهن .
وقيل المراد به نكاح المتعة ..... عن ابن عباس والسدي وابن سعيد وجماعة من التابعين وهو مذهب أصحابنا الإمامية ....(2)
2- وقال الطوسي في تفسيره التبيان 3/165 ما نصه : {فما استمتعتم به منهن }
قال الحسن ومجاهد وابن زيد هو النكاح!
وقال ابن عباس والسدي : هو المتعة إلى أجل مسمى وهو مذهبنا (3).
__________
(1) في رحاب التفسير " المجلد الأول 5/ 879-880
(2) مجمع البيان 5/71
(3) التبيان 3/165(56/80)
3- ويقول عبد الله شبر في تفسيره المسمى "الجوهر الثمين "2/ 31 ما نصه : قوله تعالى {فما استمتعتم به منهن} فمن تمتع به من المنكوحات أو فما استمتعتم به منهن من جماع أو عقد عليهن(1).
4- وقال الشيخ محمد المشهدي في تفسيره " كنز الدقائق" ما نصه :{ فما استمتعتم به منهن } فمن تمتعتم به من المنكوحات أو فما استمتعتم به منهن من جماع أو عقد عليهن (2).
5- وقال الشيخ السبزواري في تفسيره "الجديد في تفسير القرآن المجيد " ما نصه: فقوله تعالى {استمتعتم } يعني تمتعتم به منهن من لذة (3).
وقيل المراد به نكاح المتعة ..... عن ابن عباس والسدي وابن سعيد وجماعة من التابعين وهو مذهب أصحابنا الإمامية .) انتهى كلامه .
من كل هذا نلخص أن السنة والشيعة لم يتفقوا على نزول هذه الآية في نكاح المتعة بل لم يتفقوا على تشريع المتعة بهذه الآية .
فأين اتفاق أهل التفسير من السنة والشيعة على تشريع هذا النكاح بآية 24 من سورة النساء ؟!
وبعد أن علمنا أن أغلب أهل التفسير فسروا الآية أنها في النكاح القرآني ، لابد من بيان أنها في النكاح الدائم فعلا بأدلة قاطعة لا يتطرق إليها الشك أبدا وأن هذا القول يستند إلى أقوى الأدلة والبراهين ، ومن أجل بيان ذلك نورد بقية شبهات القائلين بالمتعة مع أدلتنا لكي تكون هذه الحجج دامغة .
والجواب عن الشبهة (2) :
__________
(1) الجوهر الثمين "2/ 31
(2) " كنز الدقائق" 2/414
(3) "الجديد في تفسير القرآن المجيد(56/81)
إن الآية الكريمة في منطوقها لا تعطي هذا الفهم - أي أنها في المتعة -الذي فوق انه في وضعه هذا - عنصرا دخيلا على القضية التي أمسك القرآن بجميع أطرافها هنا وهي قضية الزواج وما أحل الله وما حرم على الرجال من النساء فدلالة الآية لا تدل على ما ذهبوا إليه من جواز عقد المتعة بل هي حجة عليهم بدليل سياقها إذ لا تعلق لها بموضوعنا " المتعة " إطلاقا فهو استدلال في غير موضوع البحث بل الآية واردة في نكاح الزوجات الدائم المشروع يدل على ذلك سوابقها وسياقها ولواحقها فاستدلالهم مردود يتنافى مع أسلوب اللغة وبلاغتها يرشدك إلى هذا ما يلي :
أ) سوابق الآية :
بين سبحانه من يحرم نكاحهن من الأقارب فقال تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما والمحصنات من النساء إلا ما ملكت ايمانكم .
ب) سياق الآية :
ثم قال تعالى مباشرة { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما}
ج) لواحق الآية :(56/82)
ثم قال الله تعالى مباشرة { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشى العنت منكم وأن تصبروا خيرلكم والله غفور رحيم }
ولا جرم أن هذا السياق من أول الآية إلى آخرها خاص بالنكاح الدائم فكان هذا مانعا أن يقحم نكاح المتعة في وسطها و مانعا أيضا من الدلالة على ذلك لوحدة السياق الذي ينتظم وحدة الموضوع التي تتناولها الآيات بأحكامها ، فالاستدلال بهذه الآية على جواز المتعة تكلف وتأويل للآية الكريمة تأويلا مستكرها ويؤكد هذا النظر أنك لو أمعنت النظر في السابق واللاحق لوجدت :
1) أن قوله تعالى { فما استمتعتم } مراد به الاستمتاع بالنكاح الصحيح المشروع لا هذا السفاح - المتعة !! لأن منطوق الآية من أوله إلى آخره في موضوع النكاح الدائم المشروع فقد ذكر الله ثلاث مرات لفظة " النكاح " تارة بقوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } و ثانية بقوله تعالى { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح }
و ثالثة بقوله {فانكحوهن بإذن أهلهن } و لم يذكر المتعة و لا الإجارة فيصرف قوله تعالى {فما استمتعتم } إلى النكاح ، فحمل العبارة المتوسطة بقطع الكلام من السياق والسباق تحريف صريح لكلام الله تعالى لأن العطف بالفاء مانع من قطع المعنى بعدها عما قبلها فالفاء تربط ما بعدها بما قبلها وإلا تفكك النظم القرآني فيتعين أن يكون قوله تعالى ( فما استمتعتم ) منصرفا إلى النكاح الدائم الصحيح لا إلى المتعة لأن العطف يمنع هذا الانقطاع كما هو مبين في النحو ......(56/83)
ولو كانت هذه الجملة لبيان المتعة لاختل نظم هذه الآيات الثلاث و لبقى الكلام الأول في أصل النكاح أبتر و لبطل التفريع بالفاء و هذا غير صحيح لغة .
2) إن قوله تعالى { أن تبتغوا بأموالكم محصنين } أي وأحل لكم ما وراء ذلكم لأجل أن تبتغوه وتطلبوه بأموالكم التي تدفعونها مهرا للزوجة أو ثمنا للأمة ، محصنين أنفسكم ومانعين لها من الاستمتاع بالمحرم باستغناء كل منهما بالآخر ، إذ الفطرة تدعو الرجل إلى الاتصال بالأنثى ، والأنثى إلى الاتصال بالرجل ليتزوجا.
فالإحصان هو هذا الاختصاص الذي يمنع النفس أن تذهب أيّ مذهب ، فيتصل كل ذكر بأي امرأة وكل امرأة بأي ذكر ، إذ لو فعلا ذلك لما كان القصد من هذا إلا المشاركة في سفح الماء الذي تفرزه الفطرة إيثارا للذة على المصلحة ، إذ المصلحة تعدو إلى اختصاص كل أنثى بذكر معين ، لتتكون بذلك الأسرة ويتعاون الزوجان على تربية أولادهما ، فاذا انتفى هذا المقصد كما هو الحال في امرأة المتعة إذ كل شهر تحت صاحب بل كل يوم في حجر ملاعب فالمتمتع بها لا يقصد الإحصان دون المسافحة بل يكون قصده المسافحة ، فانحصرت الداعية الفطرية في سفح الماء وصبه ، وذلك هو البلاء العام الذي تصطلي بناره الأمة كلها.....
و الإحصان هنا بمعنى العفة وتحصين النفس ومنعها فيما يغضب الله أي متناكحين نكاحا شرعيا صحيحا يحصنهم والإحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح لأن الناكح بالمتعة لا يكون محصناً بل عند المجيزين لا يثبت حكم الإحصان إلا بالعقد الدائم أو الملك بخلاف العقد المنقطع فلا إحصان به ، فبطلت المتعة بهذا القيد لأن الإحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح والقائلين بالمتعة يقولون أن المتعة لا يوجب إحصانا فالإحصان لا يكون مقصودا في المتعة أصلا إذ امرأة المتعة كل شهر تحت صاحب بل كل يوم في حجر ملاعب فالمتمتع بها لا يقصد الإحصان دون المسافحة بل يكون قصده المسافحة فلزمهم أن يفسروه بالنكاح الصحيح .(56/84)
إن قوله تعالى { غير مسافحين } أي لا زانين مسافحين يعني في حال كونكم مخصصين أزواجكم بأنفسكم ومحافظين عليهن لكي لا يرتبطن بالأجانب ولا تقصدوا بهن محض قضاء شهوتكم وصب مائكم واستبراء أوعية المني ، والسفاح مأخوذ من السفح وهو صب الماء وسيلانه وسمي به الزنا لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقط دون النظر إلى الأهداف الشريفة التي شرعها الله وراء النكاح ، وهذا إشارة إلى تحريم المتعة وذلك لما كان الزنا ليس إلا مجرد سفح الماء في الرحم وليس لأحكام النكاح به تعلق ، سماه الله تعالى سفاحاً، ولما كانت المتعة لا تتعلق بها لوازم الزوجية أيضا أشبهت السفاح ، فكذلك صاحب المتعة لا غرض له إلا سفح الماء فبطلت المتعة بهذا القيد .(56/85)
4) ومما يدل على أن الآية في النكاح الشرعي الدائم ، أن سياق ما بعد الآية منصب في النكاح الشرعي ، حيث يقول الله تعالى بعد الآية مباشرة { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ....... فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان............... ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خيرلكم والله غفور رحيم } فدل على أن القرآن الكريم في هذه الآيات يبين أحكام النكاح ، الذي فصل أحكامه وأرسى قواعده ، لا متعة الشيعة التي لا هدف لها سوى مباشرة الجنس ليس إلا، فلو كانت متعة الشيعة جائزة لما نصت الآية التي بعدها صراحة على التزوج من الإماء ولما أضطر الناس إلى ذلك ولما جعل الشارع عن ترك نكاح الإماء خيرا من نكاحهن ولكان في نكاح المتعة مندوحة عن ذلك ، ففي هذه الآية ما يشير إلى وهن استدلالهم بالآية السابقة على حل المتعة لأن الله أمر بالاكتفاء بنكاح الإماء عند عدم الطول إلى نكاح الحرائر فلو كان أحل المتعة في الكلام السابق لما قال سبحانه بعده { ومن لم يستطع } لأن المتعة في صورة عدم الطول فمجرد نزول هذه الآية بعد قوله تعالى { فما استمتعتم } يكفي في تحريم المتعة فإن الآية نقلت من لا يستطيع أن ينكح " الحرة " المحصنة إلى ملك اليمين " الأمة " ولم يذكر له ما هو عليه أقدر من ملك اليمين فلو كان التمتع بكف من بر جائز لذكره ! فأية ضرورة كانت داعية إلى تحليل نكاح الإماء بهذا التقييد والتشديد و إلزام الشرط والقيود.
فيعلم أن أنواع الأنكحة ثلاثة لا كما زعموا :
1- نكاح دائم بالحرة أو حرتين أو ثلاث أو أربع .
2- نكاح دائم بالأمة لمن خاف العنت ولا يملك الطول .
3- التسري بالإماء .(56/86)
وهكذا في معرض المقارنة بين نكاح الإماء ونكاح الحرائر : لم نجد القرآن يشير إلى المتعة في معرض بيان الرخصة ورفع المشقة عند خشية العنت ..بل أباح الإماء وحث على الصبر ... قال تعالى في نفس الآية { وأن تصبروا خيرلكم والله غفور رحيم } أي أن الحل الوحيد لمن خشي العنت وعجز عن نكاح الحرائر دائر بين نكاح الإماء و الصبر !
{ انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} المائدة /75.
ومن ذلك يعلم بطلان قولهم : " لو كانت هذه الآية في بيان الدائم للزم التكرار في سورة واحدة، لأنه لا تكرار لحكم واحد في هذه السورة ، مع أنه لا مانع يمنع ذلك ، بل إن كل آية دلت على خلاف ما دلت عليه الآية الأخرى ...وبيان ذلك : أن الآية الأولى { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } تنشئ للمرأة حقا صريحا وحقا شخصيا في صداقها ، وتنبئ بما كان واقعا في المجتمع الجاهلي من هضم هذا الحق في صور شتى ، ومنها قبض الولي لهذا الصداق وأخذه لنفسه ، وكأنما هي صفقة بيع هو صاحبها ....فدلت الآية على نهي الأولياء عن أكل مهور مولياتهن .....
أما الآية الثانية أي قوله { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } فأوجبت على الأزواج المستمتعين من زوجاتهم بالدخول ، بإيتاء مهورهن التي سميت عند عقدة النكاح ....
فعلى هذا فلا تكرار في السورة الواحدة لحكم واحد (1).
وبالجملة هذه الآيات صريحة الدلالة على تحريم المتعة وقد تبين عدم دلالة الآية التي استدلوا بها على مدعاهم ولعمري أن القول بذلك بعيد كما لا يخفى على من أطلق ربقة قيد التقليد .
تفسير آية الاستمتاع :
__________
(1) المتعة للأهدل ص308-309(56/87)
بدأ الله تعالى بذكر المحرمات في النكاح فقال { حرمت عليكم ....} أي هؤلاء المذكورات وبعد أن أنهى البيان في ذلك عطف بقوله{و أحل لكم ما وراء ذلكم } اقتضى ذلك إباحة النكاح فيمن عدا المحرمات المذكورة أي سواهن من النساء ، فتعين أن يكون المعنى إباحة نكاح ما عدا المحرمات لا محالة ، لأنه لا خلاف في أن النكاح مراد بذلك فوجب أن يكون ذكر الاستمتاع بائنا لحكم المدخول بها بالنكاح في استحقاقها لجميع الصداق ، فقال { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } يعني بالنكاح أي الإحصان بعقد النكاح والمراد بقوله تعالى {محصنين } حث الرجال على حظهم المحمود فيما أبيح لهم من الإحصان دون السفاح ، فقيل لهم : اطلبوا منافع البُضع بأموالكم على وجه النكاح لا على وجه السفاح ، والسفاح اسم الزنا ، وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه ....، ثم عطف عليه حكم النكاح إذا اتصل به الدخول بقوله { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} والمعنى فكل امرأة أو أية امرأة من أولئك النساء اللواتي أحل لكم أن تبتغوا تزوجهن بأموالكم استمتعتم بها أي تزوجتموها فأعطوها الأجر والجزاء بعد أن تفرضوه لها في مقابلة ذلك الاستمتاع وهو المهر ، والأجور : المهور وسمى المهر أجرا لأنه أجر الاستمتاع وهذا نص على أن المهر يسمى أجرا ، وذلك دليل على انه في مقابلة البُضع ، لأن ما يقابل المنفعة يُسمى أجرا .
وهل يعطى هذا الأجر المفروض والمهر المحدود قبل الدخول بالمرأة أو بعده ؟(56/88)
إذا قلنا إن السين والتاء في " استمتعتم " للطلب يكون المعنى فمن طلبتم أن تتمتعوا وتنتفعوا بتزوجها فأعطوها المهر الذي تفرضونه لها عند العقد عطاء فريضة أو حال كونه فريضة تفرضونها على أنفسكم أو فرضها الله عليكم ، وإذا قلنا إنها ليست للطلب يكون المعنى فمن تمتعتم بتزوجها منهن بأن دخلتم بها أو صرتم متمكنين من الدخول بها لعدم المانع بعد العقد فأعطوها مهرها فريضة أو افرضوه لها فريضة أو فرض الله عليكم ذلك فريضة لا هوادة فيها ، أو حال كون ذلك المهر فريضة منكم أو منه تعالى . فالمهر يفرض ويعين في عقد النكاح ويسمي ذلك إيتاء و إعطاء حتى قبل القبض
يقولون حتى الآن عقد فلان على فلانة وأمهرها بألف أو أعطاها عشرة آلاف مثلاً . وكانوا يقولون أيضاً فرض لها كذا فريضة ولذلك اخترنا أن الذي فرض الفريضة هو الزوج بتقديمه في التقدير ويؤيده قوله تعالى { ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } وقوله { وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } فالمهر يجب ويتعين بفرضه وتعيينه في العقد ويصير في حكم المعطى والعادة أن يعطى كله أو أكثره قبل الدخول وجب عليه نصف المهر لا كله . ومن لم يعطه قبل الدخول يجب عليه إعطاءه بعده .
والجواب عن الشبهة (3) :
إن لفظة "الاستمتاع " لا يراد بها نكاح المتعة وبيان ذلك :
أ- إن أئمة اللغة قالوا : إن " الاستمتاع " في اللغة الانتفاع ، وكل ما انتفع به فهو متاع ، يقال : استمتع الرجل بولده ، ويقال فيمن مات في زمان شبابه : لم يتمتع بشبابه ، قال تعالى عن الكفار أنهم قالوا { ربنا استمتع بعضنا ببعض } وقال تعالى { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها} يعني تعجلتم الانتفاع بها ، وقال { فاستمتعتم بخلاقكم } يعني بحظكم ونصيبكم من الدنيا .
ب- إن لفظ " الاستمتاع " ورد في غير هذا الموضع من القرآن ولم يرد به المتعة اتفاقاً .(56/89)
قال تعالى في سورة الأنعام / 128 { ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا }.
وقال تعالى في سورة الأحقاف /20 { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها}
وقال تعالى في سورة التوبة / 69 { فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} .
ج- إن الله تعالى لم يعبر في الآية الكريمة بلفظ المصدر " الاستمتاع " ولا بلفظ اسمه " المتعة " فهو لم يقل مثلا " فما نكحتم بالمتعة " وإلا لما وجد خلاف ولكن عبر بلفظ الفعل فقال { فما استمتعتم } والفرق بينهما واضح والفعل يدور معناه على الالتذاذ والنفع كما في كتب اللغة وهو هنا بهذا المعنى وصرح أئمة اللغة بأن الفعل " استمتع " في هذا الموضع لا معنى له إلا ما ذكرنا والقول بأنه يدل على المتعة يدل على جهل بالعربية من القائل به و أهل اللسان أدرى ولو كان الله تعالى يريد نكاح المتعة لاستعمل لفظة " المتعة " التي جاءت في القرآن عدة مرات في غير النكاح { ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى } هود /3
{ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } الحجر /3
{والذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام }محمد /12
{ قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار} إبراهيم /30
{و أمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم} هود /48
{ كلوا و تمتعوا قليلا إنكم مجرمون} المرسلات /46
فهذا دليل قاطع على أن لفظ " الاستمتاع " و" التمتع " لم يقتصر في عرف الشرع على هذا العقد المعين كما زعموا.(56/90)
د- إن حقيقة " الاستمتاع " في القرآن الكريم وفي عرفه الاستعمالي لا تدل على " إنشاء عقد المتعة " أصلا في أي موضع من آي القرآن ومن ذهب إلى أن المقصود بالاستمتاع هنا هو " إنشاء عقد المتعة " فعليه بالدليل وإلا كان تقولا على الله تعالى و إنما يعبر القرآن عن إنشاء " العلاقة الزوجية الصحيحة الدائمة " إما بلفظ " النكاح " و مشتقاته وهو الكثير الغالب وإما بلفظ " التزويج ، " أما بلفظ " الاستمتاع " فلم يعهد استعماله في القرآن الكريم لإنشاء عقدٍ أصلا ، فيبقى " الاستمتاع " إذن على معناه الحقيقي اللغوي و الشرعي حتى يقوم الدليل على صرفه عن معناه الأصلي ، ثم لو كان استعمال " الاستمتاع " هنا في إنشاء عقد المتعة لاستدل ابن عباس رضي الله عنه في محاورته ابن الزبير ، وابن عباس ترجمان القرآن ولهذا قلنا إنه لا ينبغي لأحد أن يستدل على إباحة "المتعة" بالقرآن الكريم وأن ُيحمّل آياته مالا تحتمل انتصاراً لمذهب أو رأي فإن القرآن الكريم فوق كل المذاهب و الآراء جميعاً . ...
والجواب عن الشبهة (4) :
4- إن إيتاء الأجر بعد الاستمتاع بهن لا يجوز اعتباره على إباحة المتعة في شيء لأن في الآية الكريمة تقديما وتأخيرا كأنه تعالى قال : فآتوهن أجورهن إذا استمتعتم بهن أي إذا أردتم الاستمتاع بهن فهذا على طريقة في اللغة من التقديم والتأخير مثل قوله تعالى { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } أي إذا أردتم الطلاق أو تطليق النساء ومثل قوله تعالى{ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة .
والجواب عن الشبهة (5) :
إن استدلالهم بان الله تعالى قد ذكر "الأجر" { فآتوهن أجورهن} ولم يذكر المهر لا حجة فيه من وجوه:
1- " الأجر" في المفهوم القرآني ينصرف إلى " المهر" في كثير من المواضع بدلالة السياق ، ألا ترى أن القرآن الكريم استعمل " الأجر " بمعنى “ المهر" في مثل قوله تعالى :(56/91)
أ) في سورة النساء : {فأنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف}
ب) في سورة الأحزاب { ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن}
ج) في سورة الممتحنة : {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن}
د) في سورة المائدة : {اليوم أحل لكم الطيبات ....... والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن}
و) في سورة النساء : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن}
2- لم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطى " أجرا " و إنما أعطى "مهرا " قال تعالى { ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن}
يقول الطبرسي -وهو من علماء الشيعة البارزين - عند تفسيره لهذه الآية : {أجورهن} أي مهورهن لأن المهر أجر على البضع .
وقال أحمد الجزائري من علماءهم عند تفسيره لهذه الآية ما نصه : والأجور هي المهور لأن المهر أجر
البضع (1).
3- إن شيخ طائفة الشيعة الإمامية الطوسي وشيخه المرتضى قد سفها هذا القول.
قال الطوسي شيخ طائفة الشيعة الإمامية في تفسيره " التبيان " 3/166 ما نصه : وفي أصحابنا من قال: قوله : يدل على إنه أراد المتعة لأن المهر لا يسمى أجرا بل سماه الله صدقة ونحلة وهذا ضعيف لأن الله سمى المهر أجرا في قوله { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن } {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن}ومن حمل ذلك كله على المتعة كان مرتكبا لما يعلم خلافه (2).
__________
(1) جوامع الجامع 2/330 وتفسير قلائد الدرر 3/204
(2) " التبيان " 3/166(56/92)
وقال الشريف المرتضى من أعلام الإمامية في كتابه الانتصار ما نصه : وفي أصحابنا من استدل على أن لفظة "استمتعتم " تنصرف إلى هذا النكاح المؤجل دون المؤبد بأنه تعالى سمّى العوض عليه أجرًا ولم يسم العوض على النكاح المؤبد بهذا الاسم في القرآن كله بل سماه نحلا و صداقا وفرضا و هذا غير معتمد لأنه تعالى قد سمى العوض عن النكاح المؤبد في غير هذا الموضع بالأجر في قوله تعالى { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } و في قوله عز و جل { فأنكحوهن باذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف} (1).
و قال ابن العربي في تفسيره : قوله تعالى{ فآتوهن أجورهن }سمّاه في هذه الآية أجرا وسماه في الآية الأولى في أول السورة نحلة (2) .
4- أن أئمتهم الذين يدعون فيهم العصمة وإنهم يعلمون تأويل القرآن وتفسيره ، يقولون إن الأجر بمعنى المهر !!
فعن عمر بن حنظلة قال : قلت لأبي عبد الله : أتزوج المرأة شهرا بشيء مسمى فتأتي بعض الشهر ولا تفي ببعض قال : يحبس عنها من صداقها مقدار ما احتبست عنك إلا أيام حيضها فإنها لها (3).
وفي رواية أخرى : " أتزوج المرأة شهرا فتريد مني المهر كملا .....
وعقد شيخهم العاملي في وسائله تحت هذه الروايات بابا سماه " باب جواز حبس المهر عن المرأة المتمتع بها.
والجواب عن الشبهة (6) :
إن هذا الاحتجاج غير سديد من وجوه:
__________
(1) الانتصارص112
(2) أحكام القرآن 1 / 499
(3) الوسائل باب جواز حبس المهر عن المرأة المتمتع بها بقدر ما تخلف من المدة إلا أيام حيضها فانها لها .(56/93)
1- إن قوله سبحانه { فما استمتعتم به منهن} متناول لكل من دخل بها ، أما غير المدخول بها ، فإنها لا تستحق إلا نصفه وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحالة ، وهي المطلقة قبل الدخول المسمى لها بقوله تعالى { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } فأما الآية { فما استمتعتم به منهن } فهي كقوله سبحانه { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا } فجعل الإفضاء مع العقد موجبا لاستقرار الصداق فتبين بذلك ، انه ليس لتخصيص النكاح المؤقت بإعطاء الأجر فيه دون النكاح المؤبد معنى ، بل إعطاء الصداق كاملا في المؤبد أولى.
2- إن هذا الاحتجاج غير صحيح لحكم استحقاق المبلغ في نكاح المتعة عند المجوزين .....
فهذا اكبر مرجع للشيعة يقول في كتابه تحرير الوسيلة وفي كتابه زبدة الأحكام ما نصه بالحرف الواحد : " تملك المتمتعة المهر بالعقد فيلزم على الزوج دفعه إليها بعده لو طالبته وان كان استقراره بالتمام مراعي بالدخول ووفائها بالتمكين في تمام المدة فلو وهبها المدة ، فان كان قبل الدخول لزمه نصف المهر وان كان بعده لزمه الجميع(1).
ويقول المبيحون للمتعة من علماء الشيعة في كتابهم " المتعة ومشروعيتها في الإسلام " ما نصه :
" إذا طلق الزوجة قبل الدخول يثبت لها نصف المهر المسمى وكذا إذا وهب المدة للزوجة المؤقتة قبل أن يدخل أما إذا انقضت المدة دون أن يدخل لسبب فلها المهر كاملا وقيل نصف المهر (2).
__________
(1) تحرير الوسيلة 2/289 وفي كتابه زبدة الأحكام ص248
(2) " المتعة ومشروعيتها في الاسلام ! ص119(56/94)
ويقول شيخهم بحر العلوم في كتاب المتعة ومشروعيتها في الإسلام ما نصه : " وتستحق كل من الدائمة والمنقطعة جميع المهر على الزوج بعد الدخول أما قبل الدخول فيثبت نصف المهر لو طلق في الدائم أو وهبها المدة في المنقطع (1).
ويقول العاملي في كتابه الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية : ولو كانت الهبة بعد الدخول للجميع أو البعض لم يسقط منه شيء قطعا لاستقراره بالدخول (2).
وإذا كان المهر في الزواج يتشطر ، نصفه تستحقه بالعقد ونصفه بالدخول وأوضح ما يكون ذلك في الطلاق قبل الدخول أو بعده ، فان الأمر في المتعة لا يختلف بشهادة أكبر إمام شيعي إمامي معاصر.
مع ملاحظة أن المتعة لا طلاق فيها لا قبل الدخول ولا بعده ، و إنما تنتهي العلاقة بانتهاء الأجل المتفق عليه وهناك صورة محتملة يشبه الأمر فيها الطلاق قبل الدخول في النكاح المعتاد .
فلو أن إنسانا كان في سفر وعقد اتفاقا مع امرأة ليتمتع بها بمبلغ معين في زمن معين ، ثم كلف بالسفر أو الخروج من هذا البلد لسبب من الأسباب قبل انقضاء المدة المتفق عليها فليس بإمكانه الطلاق لأنه لا يملكه ولكن بإمكانه أن يهبها المدة الباقية . ولا تخلو هذه الهبة التي حلت محل الطلاق من أن تكون قبل الدخول أو بعده . فان كانت قبله استحقت نصف المتفق عليه وان كانت بعده استحقت المبلغ كله وبهذا ينعدم الفرق بين المتعة والنكاح المشروع في هذه الحالة . ويصبح فهم الآية على أنها خاصة بالمتعة لا أساس له . وإذا كان أصحاب المتعة يرون عدم صلتها بالنكاح المعتاد لعدم إشارتها إلى تشطير المهر فإننا نقول لهم : وهي بهذا الشرط لا علاقة لها بالمتعة ، لأنها لا تختلف عن الزواج في هذا الحكم !
وهل لأن الآية لم تشر إلى تشطير المهر تصبح دليلا على المتعة ؟!
__________
(1) كتاب المتعة ومشروعيتها في الاسلام ص266
(2) العاملي في كتابه الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 5/285(56/95)
فماذا تقولون في قوله تعالى { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } وهي لم تشر إلى تقسيم الصداق ..
فهل هذا أيضا في المتعة ؟!
إنها تتحدث عن الصداق الذي هو من خواص النكاح ولا علاقة له بمسألة الأجر المتفق عليه في المتعة موضوع البحث (1).
والجواب عن الشبهة (7) من وجوه :
1- إن المقصود " بالاستمتاع" في سياق الآية الكريمة هو "الاستمتاع بالزوجة " المعقود عليها نكاحا صحيحا مشروعا دائما و إنما أورده الله تعالى هنا ، للدلالة على "تأكيد المهر" بعد الاستمتاع وعدم قابليته للسقوط بعد هذا الاستمتاع ، إذ من المعلوم أن "عقد الزواج" وان كان يثبت به المهر كاملا ، أثر إبرامه ، وتستحقه الزوجة بنفس العقد ،غير انه يثبت ثبوتا قابلا لسقوط بعضه ، كالطلاق قبل الدخول ، مثلا حيث يثبت نصفه فقط ، أما بعد "الاستمتاع " بالزوجة فيتأكد "المهر" كاملا ويصبح العقد غير قابل لأن يسقط شيء منه .
فالآية الكريمة { فما استمتعتم به منهن } تفيد أن المهر يتأكد وجوبه كاملا بالاستمتاع ، لا بعقد الزواج وحده لأنه عرضة لأن يسقط نصفه بالطلاق قبل الدخول فيتأكد حق المرأة في تمام المهر بالدخول فالاستمتاع هنا أثر لعقد النكاح الصحيح الدائم الذي يثبت به المهر كاملا غير قابل للسقوط وليس إنشاء لعقد المتعة.
فالآية الكريمة تبين حكم المرأة المدخول بها التي سمي لها الصداق ولم تستلمه فقال سبحانه { فما استمتعتم به منهن } أي بالدخول فعلا بموجب العقد وقد سميتم لهن الصداق ولكن لم تسلموه إليهن فآتوهن أجورهن فريضة لازمة لا يحق لكم أن تنقصوهن منه شيئا كما قال تعالى في آية أخرى { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا}
فتكون الآية مبينة لحكم صداق المدخول بها المسمى لها المستمتع منها .
فالآية { فما استمتعتم به منهن فآتوهن } أمر بإيتائهن وهو إنشاء الإيتاء .
__________
(1) انظر كتاب السائح علي " الأصل في الأشياء ص78-79و96-98 .(56/96)
وآية { وآتيتم إحداهن قنطارا } أخبار عن إيتاء سابق والفرق بينهما هو الفرق بين مدلول الأمر الذي للإنشاء والخبر الواقع بالفعل .
فآية { فما استمتعتم } تتكلم عن استمتاع سابق وقع بهن وحصل الرجل عليهن منهن ، فطولبوا بدفع أجورهن إليهن .
وهذا الاستمتاع الواقع بالفعل المطلوب إعطاء الأجر عليه لا بد له من عقد سابق يبيحه ولا يكون إلا بالملك أو النكاح الدائم .
فالزوجات مع المهر لهن أربع حالات :
أ- معقود عليها ولم يسم لها ولم يدخل بها .
ب- معقود عليها وسمي لها وغير مدخول بها .
ج- معقود عليها ولم يسم لها ودخل بها .
د- معقود عليها وسمي لها ودخل بها .
وقد جاء القرآن الكريم ببيان تلك الحالات بالنسبة لاستحقاق المهر كله أو بعضه قبل الدخول أو بعده أي في حالة الفرقة بالطلاق .
الحالة الأولى : وهي إذا عقد عليها ولم يسم لها صداقا ولم يدخل بها وطلقها قال تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين}
الحالة الثانية : هي المعقود عليها والمسمى لها ولم يدخل بها وطلقها فقال تعالى : {وإن طلقتموهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} .
الحالة الثالثة : فشملها عموم قوله تعالى{وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } وقد أجمع الفقهاء على أن المدخول بها التي لم يسم لها أن لها صداق المثل ولعل التعبير عن الصداق بنحلة مما يؤيد ذلك لأنه بعد الدخول والتمكين أصبح كالهبة والعطية يعطيه الزوج نحلة وإلا لتوقفت عن تسليم نفسها حتى تقبض صداقها .(56/97)
الحالة الرابعة : فلعل هذه الهدية تعتبر تتمة حلقة التشريع وذلك في حق المدخول بها المسمى لها ولم تستلم صداقها فقال تعالى : {فما استمتعتم به منهن } أي بالدخول فعلا بموجب العقد السابق وقد سميتم لهن الصداق ولكن لم تسّلموه إليهن {آتوهن أجورهن فريضة }لازمة لا يحق لكم أن تنقصوهن منه شيئا {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} فاستوجب الإفضاء والمسيس كامل الصداق { فان طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } وهذا لا يكون إلا في غير المدفوع فتكون الآية { فما استمتعتم به منهن } مبينة لحكم صداق المدخول بها المسمى لها المستمتع منها .
وقد أشار القرطبي إشارة مجملة خفيفة إلى هذا فقال : ولو قال قائل إن آية {آتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا }كافية عن هذا المعنى فإنما يقال له ليست كافية ، لأن تلك فيها آتاها وسلّمها بالفعل فلا يعود للأخذ منه وهذه لمن لم يسلمها شيئا فليؤتها أجرها فريضة لازمة .
ومما يشهد لهذا تقدم الآية بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}
فحرم أن يرثوهن كرها وهذا يشمل عدم إعطائهن ما لهن من الصداق ونهى عن عضلهن للذهاب ببعض ما آتيناهن وهذا يشمل ما قد تسلمنه فعلا ليسترجع منهن بعضه فقد فرقت الآية هنا بين المسلّم لها فعلا وما لم يسلّم فما لم يسلّم لا يحل له ميراثه كرها عليها ، اللهم إلا إن طبن نفسا عن شيء منه وما سلم فعلا فلا يضيعه عليهن لاسترجاع بعضا منه ولو كان قنطارا (1).
والجواب عن الشبهة (8) من وجوه عديدة:
1- إن لفظة " إلى أجل مسمى " جاءت في القرآن ( 18) مرة في آيات متفرقة وهي:
قال تعالى في سورة البقرة / 282 {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه}
__________
(1) انظر تحريم نكاح المتعة مقدمة شيخنا عطية محمد ص75- 78(56/98)
وقال تعالى في سورة الأنعام / 2 { و هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى}
وقال تعالى في سورة الأنعام / 60 {ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم}
وقال تعالى في سورة هود / 3 {ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى}
وقال تعالى في سورة النحل / 61 { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى}
وقال تعالى في سورة فاطر / 45{ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى}
وقال تعالى في سورة إبراهيم / 10 {يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى}
وقال تعالى في سورة طه /129 {ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى}
وقال تعالى في سورة الحج / 5 {ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى}
وقال تعالى في سورة الحج / 33{ لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق }
وقال تعالى في سورة العنكبوت / 53 { ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب}
وقال تعالى في سورة الرعد / 2 { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى }
وقال تعالى في سورة لقمان / 29{وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى }
وقال تعالى في سورة فاطر /13 {وسخر الشمس والقمر كل يجري لأ جل مسمى}
وقال تعالى في سورة الشورى / 14{ ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم}
وقال تعالى في سورة نوح / 4{ يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى}
وقال تعالى في سورة غافر / 67 {ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى }
فهذه اللفظة لم تأت في آية { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } كما يزعم القائلون بالمتعة ، وكان الأولى أن تذكر " هذه اللفظة هنا في هذه الآية ، لكي لا يكون هناك خلاف . فترى ما هو السبب في عدم ذكرها في الآية ؟(56/99)
إن السبب واضح وجلي لأدنى من له أدنى مسكة من عقل ، وهو أن هذه الآية المفترى عليها بزعمهم إنها في المتعة ، لا دخل لها بالمتعة إطلاقاً لا من قريب ولا من بعيد ، وهذا ما نصت عليه الآية كما أنزلها الله وبينه لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فلو كان الله شرع نكاح المتعة بالقرآن كما يدّعون لأثبت هذا الحرف أو هذه اللفظة " إلى أجل مسمى " في هذه الآية -المختلف حولها - ولما نسخ هذا الحرف من القرآن ولما اختلف اثنان حول الآية ، هذا يقول إنها في المتعة ! وذاك يقول إنها في النكاح الدائم .
وأما قولهم : انه قد استفاضت الرواية عن الصحابة والتابعين في أن الآية المذكورة نزلت في المتعة ...
فالجواب :
إن هذا من الكذب فان هذه الرواية غير مستفيضة بل آحادية ، كما وان هذه القراءة شاذة واليك بيان ذلك بالتفصيل :
1- إن هذه الرواية غير متواترة بل أحادية والقراءة شاذة بخلاف ما جاءت به مصاحف المسلمين.
قال ابن جرير الطبري في تفسيره ما نصه بالحرف الواحد : وأما ما روي عن أبيّ بن كعب وابن عباس من قراءتهما " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى " فقراءة بخلاف ما جاءت به مصاحف المسلمين وغير جائز لأحد أن يلحق بكتاب الله شيئاً لم يأت الخبر القاطع العذر عمن لا يجوز خلافه(1) .
وقال القيسي في الإيضاح بعد أن ذكر قراءة ابن عباس وأبي بزيادة إلى أجل مسمى قال ص 222 ما نصه : ولا يجوز لأحد اليوم أن يقرأ بذلك ، لأنها قراءة على التفسير مخالفة للمصحف ، ولأن القرآن لا يؤخذ بأخبار الآحاد .(2)
__________
(1) جامع البيان " 4/ 15
(2) الإيضاح ص 222(56/100)
وقال المازري في " المعلم : إن طائفة من المستبدعة تعلقوا بقوله تعالى {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } وفي قراءة ابن مسعود : فما استمتعتم به منهن إلى أجل ، وقراءة ابن مسعود هذه شاذة لا يحتج بها قرآناً ولا خبراً ولا يلزم العمل بها (1).
وقال الجصاص ما نصه: وأما احتجاج من احتج فيها بقوله تعالى { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } أن قراءة أبي " إلى أجل مسمى " فإنه لا يجوز إثبات الأجل في التلاوة عند أحد من المسلمين فالأجل عندنا غير ثابت في القرآن .(2)
وقال الرازي ما نصه : إنا لا ننكر أن المتعة كانت مباحة ، إنما الذي نقوله : إنها صارت منسوخة ، وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحا في غرضنا ، وهذا هو الجواب أيضا عن تمسكهم بقراءة أبي وابن عباس ، فإن تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل إلا على أن المتعة كانت مشروعة ، ونحن لا ننازع فيه ، إنما الذي نقوله : إن النسخ طرأ عليه ، وما ذكرتم من الدلائل لا يدفع قولنا .
ثم أن هذه القراءة الشاذة أي " إلى أجل مسمى " جار ومجرور ، متعلق بالاستمتاع ، لا بنفس " العقد " في حين أن المدة المتعينة إنما تكون متعلقة بنفس العقد .....ومن هنا أبطلوا متعتهم بأيديهم وهم لا يشعرون!
2-فاذا ثبت أن هذه القراءة بخلاف ما جاءت به مصاحف المسلمين فإنها إذن لم تتجاوز حد الآحاد ، فليست بقرآن لأن القرآن من شرط ثبوته التواتر ولم تتواتر !
فأما إنها ليست بقرآن فلما استقر في علم الأصول أن " القراءة الشاذة " لا تثبت قرآنا يتلى لأنها ليست متواترة فيكون من قبيل تفسير الآية وليس ذلك بحجة وأما عند من لم يشترط التواتر في ثبوت القرآن فلا مانع من نسخ ظني القرآن بظني السنة كما تقرر في علم الأصول.
__________
(1) " المعلم بفوائد مسلم " 2/ 130
(2) " أحكام القرآن " 2/ 148(56/101)
فاذا كان ليس بقرآن وليس بمنزل من الله تعالى إذ لو كان قرآنا لوجدناه فيه ولقريء به في المحاريب وبين أظهر الناس ولما لم يجز ذلك بحال علم أنه ليس من القرآن وكفانا بالمصحف وإجماع الصحابة ، ألا ترى أنا أجمعنا على أن سورتي القنوت ليستا من القرآن وإنْ كانتا في قراءة أبي فكذلك هذا مثله ، فهذه الزيادة لم تثبت قرآنا لإجماع الصحابة على عدم كتابتها في المصاحف العثمانية وأكثر الأصوليين على أن ما قرأه الصحابي على أنه قرآن ولم يثبت كونه قرآناً لا يستدل به على شيء لأنه باطل من أصله .
وأما أنها لا تثبت سنة أيضاً على الأصح ، فلأنها لم تُروَ على أنها سنة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ يعوزها السند ، فبقيت على إنها مجرد فهم صحابي ، عبر عنه بلفظه هو ، ومعلوم - أصولياً - أن رأي الصحابي ليس بحجة ، لأنه محض اجتهاد ، ولو لزمنا رأي الصحابي كما يلزمنا قول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لتعدد الرسل، وعلم الله أنه لم يرسل لنا إلا رسولاً واحداً فلا يصح الاحتجاج أذن على إباحة المتعة بقراءة شاذة منسوبة إلى صحابي ، إطلاقاً ، لأنها لا تعدو أن تكون رأياً اجتهادياً خاصاً به .
3-فاذا ثبت أن هذه القراءة ليست متواترة فغايتها أن تكون كأخبار الآحاد ونحن لا ننكر إن المتعة أحلت في أول الإسلام ولكن الكلام في دلالة القرآن على ذلك ، فإن كان هذا الحرف أنزل فلا ريب إنه ليس ثابتاً من القراءة المشهورة فيكون منسوخاً ويكون لما كانت المتعة مباحة فلما حرمت نسخت هذا الحرف .
4-لو مشينا على الاحتجاج بهذا التفسير كخبر آحاد فهو معارض بأقوى منه لأن القرآن على خلافه لقوله تعالى في آيتي المؤمنون والمعارج إذ كلتاهما تدلان على تحريم المتعة وهما ترشدان أيضاً إلى أن آية النساء غير واردة في المتعة وبالتالي تسقط قراءة ابن عباس إذ لا يعدو كون هذا الحرف خبر آحاد عورض بنص قرآني وخبر نبوي أصح منه أيضاً .(56/102)
قال الألوسي في تفسيره :القراءة شاذة وما دل على التحريم كآية {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } قطعي فلا تعارضه .
كما أن الأحاديث الصحيحة الصريحة القاطعة بتحريم نكاح المتعة إلى يوم القيامة وجمهور العلماء على خلافه كما سبق .
5-ونقول هذه القراءة على الرغم من شذوذها ومعارضتها بأقوى منها فلو فرضنا جدلاً أن الدليلين متساويان في القوة وتعارضا في الحل والحرمة يلزم تقديم دليل الحرمة منهما لأن الحظر مقدم على الإباحة أصولياً وذلك لأن تقديم المحرم قد يؤدي إلى ترك المباح وتقديم المبيح قد يؤدي إلى ارتكاب الحرام وترك المباح أولى من ارتكاب الحرام .
6- إنه ليس في الآية ما يدل على أن الاستمتاع إلى أجل مسمى حلال فإنه تعالى لم يقل : وأحل لكم أن تستمتعوا بهن إلى اجل بل قال تعالى{فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن }.
7- لو كان في القرآن ذكر الأجل على الفرض الجدلي ، لما دل على متعة النساء لأن الأجل يجوز أن يكون داخلا على المهر ، فيكون تقديره - فما دخلتم به منهن بمهر إلى أجل مسمى فآتوهن مهورهن عند حلول الأجل .
وجواب آخر : لو سلمنا ما ذكروا من الزيادة في القراءة ، فليس فيها دليل على إباحة نكاح المتعة ، و إنما فيها دليل على وجوب المهر على من ارتكب الحرام من ذلك ووطيء فيه ، ونحن نقول : إن المهر يلزم بالوطيء فيه لأجل الشبهة التي سقط الحد لأجلها عنه ، فهو كما لو وجد امرأة نائمة على فراشه فوطأها معتقدا أنها زوجته ، فانه يجب عليه مهر مثلها لأجل الشبهة ، فكذلك ها هنا .(56/103)
8-ونقول إن هذه القراءة الشاذة " إلى أجل مسمى " تتعلق بالاستمتاع لا بنفس العقد والمدة المتعينة في المتعة حسب مذهبهم إنما تكون متعلقة بنفس العقد لا بالاستمتاع فصار معنى الآية : فان تمتعتم بالمنكوحات إلى مدة معينة فأدوا مهورهن تماماً وفائدة زيادة هذه العبارة دفع ما عسى أن يتوهم إن وجوب تمام المهر معلق بمضي تمام مدة النكاح كما اشتهر في العرف أن ثلث المهر يعجّل والثلثين يؤجلان إلى بقاء النكاح فهذا التأجيل يحصل بتصرف المرأة واختيارها وإلا فلها المطالبة بعد الوطء مرة تمام المهر في الشرع ولو كان " إلى أجل مسمى " قيد العقد لم تصح المتعة عندهم إلى مدة العمر أبداً مع إنها صحيحة كذلك بإجماعهم وهذا عجيب !
9- ونقول إن هذه القراءة الشاذة " إلى أجل مسمى " جار ومجرور ، متعلق بالاستمتاع ، لا بنفس العقد ، ومعلوم أن المدة المتعينة في المتعة عند أتباع المتعة ، إنما تكون متعلقة بنفس العقد ، لا بالاستمتاع على ما هو مقرر عندهم بسبب بسيط ، هو أنهم جعلوا تعيين الأجل شرطا لصحة العقد ، فاذا لم يعين الأجل فيه ، لا يكون زواج متعة ! ولذلك قالوا : لو وهبها المدة قبل الدخول ، لزمه المهر!
10- ونقول إن القائلين بالمتعة تضاربت وتناقضت روايات وأقوال أئمتهم في لفظة " إلى أجل مسمى " من آية 24 من سورة النساء أهي تنزيل من الله أو قراءة ! وفيما يلي ذكر جملة من رواياتهم المعتبرة :
أ- قالوا :إن الآية نزلت هكذا " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن .
فعن أبي جعفر " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة.(1)
وروى الكليني في كافيه عن أبي عبد الله قال : إنما نزلت " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة (2).
__________
(1) انظر مستدرك الوسائل للنوري 14/ 447-448 .
(2) الكليني في كافيه 5/ 449(56/104)
وروى شيخهم العياشي في تفسيره عن أبي عبد الله قال : قلت له : ما تقول في المتعة ؟ قال : قول الله تعالى " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة إلى أجل مسمى ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة (1).
وروى شيخهم القمي في تفسيره ما نصه بالحرف : " فمن استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة " قال الصادق (ع) فهذه الآية !! دليل على المتعة (2).
ب- في أن الآية نزلت {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة}
روى الكليني والطوسي وأحمد بن عيسى عن أبي بصير قال : سألت أبا جعفر عن المتعة فقال : نزلت في القرآن {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة }(3)
و روى شيخهم المفيد في خلاصة الإيجاز و الكليني عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : سمعت أبا حنيفة يسأل أبا عبد الله (ع) عن المتعة فقال : عن أي المتعتين تسأل ؟ قال : سألتك عن متعة الحج فأنبئني عن متعة النساء أحق هي ؟ قال : سبحان الله أما تقرأ كتاب الله { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } فقال أبو حنيفة : والله لكأنها آية لم أقرأها قط .(4)
__________
(1) العياشي في تفسيره 1/260
(2) القمي في تفسيره 1/ 136
(3) الكليني في كافيه 5/448ح1 والطوسي في تهذيبه 2/186 وفي استبصاره 3/141 وانظر البحار 103/ 315ح20 ، والوسائل 14/ 436ح1 ، وقال المجلسي في مرآة العقول 20/ 225 ، وفي تهذيب الأخيار 12/ 29 عن هذا الحديث بانه " حسن كالصحيح!
(4) خلاصة الإيجاز في المتعة " ص 29 و الكليني في الفروع 5/ 449 ح6 وانظر الوسائل 14/ 437 ح6
وقال المجلسي في مرآة العقول 20/229 عن هذا الحديث بأنه " حسن " .(56/105)
و روى العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن أبي جعفر قال : نزلت هذه الآية {فما استمتعتم به منهن فآتوهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة }قال: لا بأس بأن تزيدها وتزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما يقول : استحللتك بأجل آخر برضى منها ولا تحل لغيرك حتى تنقضي عدتها وعدتها حيضتان (1).
وروى الحميري في قرب الإسناد عن بكر بن محمد قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن المتعة فقال {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة}(2)
وروي الصفار في بصائر الدرجات في رواية طويلة ص85 عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (ع) ...وان مما أحل الله المتعة من النساء في كتابه ..كما قال الله عز و جل{ما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة }(3)
ج- في أقوال أئمتهم أنهم يقرأون الآية " فما استمتعتم به منهن " إلى أجل مسمى"
روى العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) قال : كان يقرأ ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) فقال : هو أن يتزوجها إلى أجل مسمى ثم يحدث شيئا بعد الأجل .(4)
__________
(1) انظر العياشي 259ح86وانظر نوادر أحمد بن محمد ص65 ، والكاشاني في تفسيره الصافي 1/346 والبحراني في تفسيره البرهان 1/360 و المجلسي في بحاره 23/ 73 ، والعاملي في وسائله 14/ 477ح6 ، ومستدرك الوسائل للنوري 14/ 449 .
(2) انظر الوسائل 14/ 439ح17 ، قرب الاسناد ص21
(3) الصفار في بصائر الدرجات ص85 وانظر الوسائل 14/ 476ح5 .
(4) العياشي في تفسيره 1/ 260ح87وانظر ، الوسائل 14/ 477ح7 ، و البحار 103/ 314-315 ح 17 ، ومستدرك الوسائل للنوري 14/ 447 .(56/106)
وروى العياشي أيضا في تفسيره ما نصه بالحرف : وكان ابن عباس يقول : " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة(1).
وجاء في تفسير ناسخ القرآن ومنسوخه لسعد بن عبد الله : برواية جعفر بن قولويه بإسناده قال : قرأ أبو جعفر وأبو عبد الله " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة(2) .
وقال ابن بابويه القمي في الفقيه وعلله ما نصه : وقرأ ابن عباس " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة (3).
نلخص من كل ما تقدم أن القائلين بالمتعة - وهم الفرقة الوحيدة - الشيعة الاثنا عشرية- اختلفوا في " إلى أجل مسمى " هل هي قول الله تعالى أي بمعنى آخر هل هي آية أم قراءة ؟ وإذا كانت آية ، فهل هي قبل قوله تعالى {فآتوهن أجورهن فريضة } أم بعدها ؟؟
فمنهم من أثبتها بعد قوله تعالى {فآتوهن أجورهن فريضة } ومنهم من أثبتها قبل قوله تعالى{فآتوهن أجورهن}.
فما أكثر الاختلافات والكل يدعي أن هذا من عند الله ........ فهذا الاختلاف أن دل على شيء فإنما يدل على أن هذه اللفظة " إلى أجل مسمى " ليست من القرآن !!
قال تعالى { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } النساء /82
وأما احتجاجهم بحديث ابن عباس على متعتهم بهذا النص المقطوع ، فالجواب من وجوه :
أولا : أن الحديث لم يرووه بتمامه كما أشاروا إليه في السنن الكبرى.... ، واليك متن الحديث في كتب الحديث(4).
__________
(1) في تفسيره 1/259ح85وانظر الوسائل 14/ 440ح20 ، والبحار 103/ 314ح15 .
(2) انظر البحار 103/ 305ح 12 ، ومستدرك الوسائل للنوري 14/ 448ح6.
(3) الفقيه 3/ 292ح3 والعلل ص173وانظر الوسائل 14/ 438ح 13 .
(4) انظر تحفة الأحوذي 4/ 269 ، والسنن الكبرى للبيهقي 7/ 205-206 ، ونيل الأوطار للشوكاني 6/ 134-135 والحازمي في كتابه " الناسخ والمنسوخ من الآثار" ص429-430(56/107)
أ- رواية البيهقي في السنن :
عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب عن ابن عباس رضي الله عنهم قال كانت المتعة في أول الإسلام وكانوا يقرؤن هذه الآية فما استمتعتم به منهن إلى اجل مسمى الآية فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى انه يفرغ من حاجته لتحفظ متاعه وتصلح له شأنه حتى هذه الآية ( حرمت عليكم أمهاتكم ) إلى آخر الآية فنسخ الله عز و جل الأولى فحرمت المتعة وتصديقها من القرآن { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } وما سوى هذا الفرج فهو حرام .
ب- رواية الترمذي :
عن موسى ابن عبيدة عن محمد بن كعب إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شيئه حتى إذا نزلت الآية { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } قال ابن عباس : فكل فرج سوى هذين فهو حرام .
ج- رواية الحازمي :
عن موسى بن عبيدة سمعت محمد ابن كعب القرظي يحدث عن ابن عباس قال : كانت في أول الإسلام :متعة النساء فكان الرجل يقدم بسلعته البلد ليس له من يحفظ عليه ضيعته ويضم إليه متاعه فيتزوج المرأة إلى قدر ما يرى أنه يقضي حاجته وقد كانت تقرأ ( فما استمتعتم به منهن- إلى اجل مسمى- فآتوهن أجورهن ) الآية حتى نزلت : {حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم } إلى قوله : {محصنين غير مسافحين}فتركت المتعة وكان الإحصان إذا شاء طلق وإذا شاء امسك ، ويتوارثان وليس لهما من الأمر شيء .
ثانيا : إن هذا الحديث ضعيف ، فقد رواه البيهقي والترمذي والحازمي كلهم من طريق موسى بن عبيدة .
قال الحازمي بعد إيراده الرواية كما سبق 0 ما نصه : هذا إسناد صحيح لولا موسى بن عبيدة وهو الربذي كان يسكن الربذة .(1)
__________
(1) الحازمي بعد ايراده الرواية كما سبق ص430(56/108)
وقال ابن حجر في الفتح :و أما ما أخرجه الترمذي من طريق محمد بن كعب عن ابن عباس قال : إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى انه يقيم فتحفظ له متاعه " فإسناده ضعيف ، وهو شاذ مخالف لما تقدم من علة إباحتها .(1)
وقال في " تقريب التهذيب ": موسى بن عبيدة ضعيف من صغار السادسة (2) .
وأما احتجاجهم بحديث عبد الله بن مسعود بأنه قرأ : فما استمتعتم به منهن إلى أجل إلخ ......
فقد تقدم الجواب عن هذه القراءة من أكثر من وجه وأضيف هنا ما قاله الإمام المازري .
قال رحمه الله تعالى : هذه القراءة ليست عندنا بحجة لأنها من طريق الآحاد والقرآن لا يثبت بخبر الواحد ولا يلزم العمل بخبر الواحد في مثل هذه النقول على أنه قرآن على الصحيح من القول في ذلك .
فالمخالف ملزم بإثبات أن ابن مسعود كان يقرأ ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى ) على إنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وان نسبت بعض كتب التفسير ذلك القول إليه ، وإذا لم يستطع المخالف إثبات ذلك ولن يستطيع أبداً ، فيلزم أن يفتري على الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .. وُيلزم المسلمين بقراءة شاذة لا يستطيع هو أن يثبتها أنها من قراءة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
والجواب عن الشبهة (9) من وجوه :
1- إن الآية محكمة غير منسوخة نزلت في النكاح الدائم كما بيناها سالفا ، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها وابن عباس مثل ذلك ....
قال أبو محمد القيسي في " الإيضاح " ص 22-223 : وقالت عائشة رضي الله عنها : حرم الله المتعة بقوله { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم }
__________
(1) ابن حجر في الفتح 9/ 77
(2) " تقريب التهذيب " ص 552 ، وانظر ترجمته في الميزان 4/ 213 ، والضعفاء الكبير للعقيلي 4/ 16 .(56/109)
قال أبو محمد : وهذا قول حسن ، لأن المتعة لم تكن زواجا صحيحا ولا ملك يمين ، ففرض الله في هذه الآية حفظ الفروج إلا على زوجةٍ أو ملك يمين ، ونكاح المتعة ليس بملك يمين ، ولا بنكاح صحيح ......
فقد ذكر القيسي عن ابن عباس : أن الآية محكمة غير منسوخة لكنها نزلت في النكاح الصحيح .(1)
فالمعنى على هذا القول : فما استمتعتم به ممن تزوجتم وإن قلّ الاستمتاع فلها صداقها فريضة ، فالاستمتاع على هذا القول : النكاح الصحيح .
2- ليس من الإنصاف أن يقتصروا على قول الزمخشري في كشافه ويتركوا أقوال بقية المفسرين المتقدمين عليه عند الأمة ، خاصة في الأحكام الذين صرحوا بنسخها ، ولاسيما الزمخشري لم يقتصر على القول بالنسخ ، ولكنه ذكره قولا محكيا كما صرح به النسفي الذي لخصه ..
وأما قولهم : أن الحكم ابن عتيبة سئل : عن آية المتعة هل هي منسوخة ؟ فقال لا.
فالجواب :
إن هذا الحديث ضعيف من طريقنا وطريقهم .
فأما من طريق السنة فلأمور :
1- الحكم بن عتيبة كان يدلس كما قال ابن حبان ولم يصرح بالسماع من علي فالسند غير متصل وهو دليل الضعف إلا أن يصرح بسماعه !
2- إن الحكم بن عتيبة لم يدرك عليا رضي الله عنه وذلك يظهر من تاريخ ميلاده فانه ولد سنة خمسين وقيل سنة سبع وأربعين وكان استشهاد سيدنا علي بن أبي طالب سنة أربعين فالسند منقطع جزما لا تقوم به الحجة (2).
3-إن هذا الحديث مع انقطاعه وضعفه معارض بما ثبت عن علي رضي الله عنه من التشديد في المتعة حتى قال لابن عمه ابن عباس حينما بلغه أنه يرخص في المتعة " إنك امرؤ تائه " .
فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن الحنفية قال : سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان انك رجل تائه نهانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
__________
(1) " الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه " ص 221
(2) انظر التهذيب لإبن حجر 2/434(56/110)
وفي رواية أن عليا سمع ابن عباس يلين في متعة النساء فقال مهلا يا ابن عباس فان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأنسية .
فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي أنكر على ابن عباس في تحليله للمتعة كما رواه مسلم وأما إنكاره على عمر رضي الله عنه في تحريمه للمتعة كما جاء ذلك في تفسير الطبري فسنده ضعيف فيما سبق !
وأما من طريق الشيعة فلأمور :
1- إن الحكم بن عتيبة غير ثقة ومطعون فيه عند الشيعة وإليك أقوالهم :
قال الطوسي: الحكم بن عتيبة أبو محمد الكوفي الكندي مولى زيدي بتري(1).
وقال الحلي: الحكم بن عتيبة مذموم من فقهاء العامة (2).
كما أن ابن داود الحلي أورده في رجاله في القسم الثاني أيضا المختص بالمجهولين والمجروحين ، قال عنه ما نصه : زيدي بتري(3) .
وقال الأردبيلي: روى الكشي في ذمه روايات كثيرة (4).
فإن احتجوا بهذا الحديث بما رووه من طرقهم فيما أخرجه الكليني في كافيه عن ابن مسكان عن عبد الله بن سليمان قال : سمعت أبا جعفر يقول : كان علي يقول (ع) : لولا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنى إلا شقي .
وكذلك فيما أخرجه الطوسي في تهذيبه بنفس الإسناد المذكور عن ابن مسكان عن أبي جعفر الباقر.
فان احتجاجهم باطل لأن الحديث ضعيف من طرقهم أيضا ....
فقد حكم المجلسي على الحديث بأنه مجهول وذلك في كتابه ملاذ الأخيار وفي كتابه مرآة العقول(5).
__________
(1) في رجاله ص171
(2) في رجاله ص218 في القسم الثاني المختص بالضعفاء
(3) ابن داود الحلي في رجاله ص243
(4) في جامع الرواة 1/266
(5) ملاذ الأخيار 12/29ح5 وفي كتابه مرآة العقول 20/227ح2 .(56/111)
فإن احتجوا بما أورده المجلسي في بحاره في رواية طويلة عن المفضل بن عمر يقول المفضل للصادق (ع) : يا مولاي فالمتعة قال المتعة حلال طلق .... وقول أمير المؤمنين (ع) : لعن الله ابن الخطاب فلولاه ما زنى إلا شقي أو شقية لأنه كان يكون للمسلمين غناء في المتعة عن الزنا (1)..
فإن هذه الرواية باطلة أيضا من طرقهم : لأن الراوي هو المفضل بن عمر الخطابي المتهافت ، مطعون فيه عندهم وإليك ايها القارئ أقوال علمائهم في الجرح والتعديل فيه :
قال النجاشي: المفضل بن عمر أبو عبد الله وقيل أبو محمد الجعفي الكوفي ، فاسد المذهب ! مضطرب الرواية لا يعبأ به و قيل : أنه كان خطابيا و قد ذكرت له مصنفات لا يعول عليها و إنما ذكره للشرط الذي قدمناه له .(2)
وقال ابن الغضائري كما نقل عنه صاحب مجمع الرجال للقهبائي 6/131 والحلي في رجاله ص258 وأبو داود الحلي في رجاله ص280 : المفضل بن عمر الجعفي أبو عبد الله ضعيف متهافت مرتفع القول خطابي وقد زيد عليه شيء كثير وحمل الغلاة في حديثه حملا عظيما ولا يجوز أن يكتب حديثه (3).
وقال الأردبيلي: وروى روايات غير نقية الطريق في مدحه وأورد الكشي أحاديث تقتضي مدحه والثناء عليه لكن طرقها غير نقية كلها ، وأحاديث تقتضي ذمه والبراءة منه وهي أقرب إلى الصحة فالأولى عدم الاعتماد والله أعلم (4).
وأخرج الكشي في رجاله بسند معتبر صحيح ص322 عن إسماعيل بن جابر : قال أبو عبد الله: ائت المفضل وقل له يا كافر يا مشرك ما تريد إلى ابني تريد أن تقتله(5) .
__________
(1) في بحاره 103/305 والبحراني في حدائقه 24/116.
(2) رجاله 2/359 -360
(3) مجمع الرجال للقهبائي 6/131 والحلي في رجاله ص258 وأبو داود الحلي في رجاله ص280
(4) في جامع الرواة 2/258 - 259
(5) الكشي في رجاله ص322(56/112)
وأخرج الكشي بإسناد صحيح عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله يقول للمفضل بن عمر الجعفي يا كافر يا مشرك مالك ولابني يعني إسماعيل بن جعفر وكان منقطعا إليه يقول فيه مع الخطابية ثم رجع بعد (1).
وروى الكشي بسند صحيح عن عبد الله بن مسكان قال : دخل حجر بن زايدة وعامر بن جذاعة على أبي عبد الله فقالا : جعلنا فداك إن المفضل بن عمر يقول لكم : إنكم تقدرون أرزاق العباد فقال والله ما يقدر أرزاقنا إلا الله ولقد احتجت إلى طعام لعيالي فضاق صدري وأبلغت إلى فكرة في ذلك حتى أحرزت قوتهم فعندها طابت نفسي لعنه الله وبرىء منه قالا أفتلعنه وتتبرأ منه ؟ قال نعم فالعناه وابرءا منه برىء الله ورسوله منه....
وأما احتجاجهم بحديث عمران فباطل روايةً و درايةً.....
فأما رواية فمن وجوه :
أولاً : إن الحديث الذي استشهدوا به من صحيح البخاري أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحج لا في كتاب النكاح .
ثانيا :إن الحديث نفسه قد رواه غير البخاري و صرح فيه عمران بأنه يقصد متعة الحج وأخرجه مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه والنسائي في سننه وابن سعد في الطبقات الكبرى والطيالسي في مسنده والدارمي في سننه وغيرهم .
ثالثا : أطبق شراح صحيح البخاري كالعسقلاني والعيني و القسطلاني وشراح صحيح مسلم كالنووي والمازري وغيرهم على تفسير المتعة هنا " بمتعة الحج" .
وفيما يلي ذكر لمتن الحديث في كتب السنة .
أولاً : ذكر أحاديث صحيح البخاري :
1- أخرج البخاري في صحيحه بإسناده عن مطرف عن عمران رضي الله عنه قال : " تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فنزل القرآن قال رجل برأيه ما شاء .
والحديث أخرجه البخاري في كتاب الحج باب التمتع على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
__________
(1) الكشي في رجاله ص321ح581(56/113)
2- أخرج البخاري بإسناده عن أبي رجاء عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : أنزلت آية المتعة في كتاب الله . ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنه حتى مات قال رجل برأيه ما شاء .
والحديث أخرجه البخاري في كتاب التفسير " تفسير سورة البقرة " باب { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج}.
وعلق الحافظ ابن حجر على الحديث الأول في فتح الباري ما لفظه(1) : قوله أي قول عمران " ونزل القرآن " أي بجوازه يشير إلى قوله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } الآية ورواه مسلم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن همام بلفظ " ولم ينزل فيه القرآن " أي بمنعه وتوضحه رواية مسلم الأخرى من طريق شعبة وسعيد بن أبي عروبة كلاهما عن قتادة بلفظ " ثم لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنها نبي الله " وزاد من طريق شعبة .. عن مطرف " ولم ينزل فيه قرآن بحرمة " وله من طريق أبي العلاء عن مطرف " فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم تنه عنه حتى مضى لوجهه " ... وقد أخرجه المصنف في تفسير البقرة .
ثانياً : ذكر أحاديث صحيح مسلم :
1-أخرج مسلم بإسناده عن مطرف قال : قال لي عمران بن حصين إني لأحدثك بالحديث اليوم ينفعك الله بعد اليوم واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أعمر طائفة من أهله في العشر فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم ينه عنه حتى مضى لوجهه ارتأى كل امريء بعد ما شاء أن يرتئي .
2- وأخرج مسلم بإسناده عن مطرف قال : قال لي عمران بن حصين أحدثك حديثا عسى الله أن ينفعك به أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحّرمه وقد كان يسلم علّى حتى اكتويت فتركت ثم تركت الكي فعاد .
__________
(1) في فتح الباري 3/505(56/114)
3- وأخرج مسلم بإسناده عن مطرف قال بعث إليّ عمران بن حصين في مرضه الذي توفى فيه فقال إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي فإن عشت فأكتم عني وإن مت فحدث بها إن شئت إنه قد سُلّم عليّ واعلم أن نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنها نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال رجل فيها برأيه ما شاء .
4- وأخرج مسلم بإسناده عن مطرف عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين حج وعمرة ثم لم ينزل فيها كتاب ولم ينهنا عنهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال فيها رجل برأيه ما شاء .
5- وأخرج مسلم بإسناده عن مطرف عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم ينزل فيه القرآن قال رجل برأيه ما شاء .
6- وأخرج مسلم بإسناده عن مطرف عن عمران بن حصين رضي الله عنه بهذا الحديث قال تمتع نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتمتعنا معه .
7-وأخرج مسلم بإسناده عن أبي رجاء قال قال عمران بن حصين نزلت آية المتعة في كتاب الله " يعني متعة الحج " وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم لم ينزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى مات قال رجل برأيه بعد ما شاء .
8- وأخرج مسلم بإسناده عن أبي رجاء عن عمران بن حصين بمثله غير أنه قال وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يقل وأمرنا بها .(56/115)
قال النووي في صحيح مسلم عند شرحه لهذه الأحاديث : وهذه الروايات كلها متفقة على أن مراد عمران أن التمتع بالعمرة إلى الحج جائز وكذلك القران وفيه التصريح بإنكاره على عمر بن الخطاب رضي الله عنه منع التمتع وقد سبق تأويل فعل عمر أنه لم يرد إبطال التمتع بل ترجيح الإفراد عليه (1).
ثالثاً : ذكر أحاديث مسند أحمد :
روى أحمد بإسناده عن مطرف بن عبد الله قال : بعث إليّ عمران بن حصين في مرضه فأتيته فقال لي : إني كنت أحدثك أحاديث لعل الله تبارك وتعالى ينفعك بها بعدي ، واعلم أنه كان يسلّم علّي فان عشت فاكتم علّي وان مت فحدث إن شئت واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينزل فيها كتاب ولم ينه عنها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال رجل فيها برأيه ما شاء (2).
وعن أبي العلاء بن الشخير عن مطرف قال : قال لي عمران : اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أعمر من أهله في العشر ، فلم تنزل آية تنسخ ذلك و لم ينه عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى مضى لوجهه ، ارتأى كل امريء بعد ما شاء الله أن يرتئي .
رابعاً: سنن النسائي :
1- أخرج النسائي في سننه من كتاب الحج " باب القران " بإسناده عن عمران بن حصين قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين حج وعمرة ثم توفى قبل أن ينهى عنها وقبل أن ينزل القرآن بتحريمه .
2- وأخرج النسائي بإسناده عن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين حج وعمرة ثم لم ينزل فيها كتاب ولم ينه عنهما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال فيهما رجل برأيه ما شاء .
__________
(1) النووي في صحيح مسلم 9/ 208
(2) اسناده صحيح على شرط الشيخين وأخرجه إبن سعد في الطبقات الكبرى 4/290(56/116)
3- و أخرج النسائي بإسناده عن عمران بن حصين قال : تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .(1)
خامساً : سنن ابن ماجة :
1-أخرج ابن ماجة في سننه من كتاب الحج باب "التمتع بالعمرة إلى الحج " بإسناده عن مطرف قال : قال لي عمران بن الحصين : إني أحدثك حديثا لعل الله أن ينفعك به بعد اليوم اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد اعتمر طائفة من أهله في العشر من ذي الحجة ولم ينه عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم ينزل نسخه قال في ذلك ، بعد رجل برأيه ما شاء أن يقول (2).
وأما بطلانه دراية فذلك من وجوه :
أولاً : أن اللفظ الذي استدلوا به يرشد إلى أن المنهي عنه " متعة الحج " و ذلك عند قول عمران " فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " ومعلوم أن الصيغة هنا تقتضي التعميم وهذا ما حدث في حجة الوداع عندما أمر أصحابه الذين لم يسوقوا هدياً أن يحلوا من إحرامهم بعمل عمرة .
ثانياً : قول عمران " ولم ينه عنها حتى مات " لم يحصل إلا بشأن متعة الحج لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لما قيل له : ألنا خاصة قال: لا الحديث .
أما متعة النساء فقد نهى عنها قبل ذلك ..
والجواب عن الشبهة (10) :
قولهم : إن نسخ آية المتعة بآية الأزواج مستحيل .....
فالجواب :
إن آية الاستمتاع محكمة غير منسوخة نزلت في النكاح الصحيح الدائم.
فلا يوجد نسخ بين الآيتين البتة ، أعني بين آية الاستمتاع بالأزواج بعقد دائم المدنية وبين آية الفروج المكية !
وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها بهذه الآية على تحريم المتعة ونسخها في القرآن .
__________
(1) انظر صحيح سنن النسائي للألباني 2/76 .
(2) انظر صحيح سنن إبن ماجه للألباني 2/ 166.(56/117)
فقد روى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح على شرط الشيخين(1) عن أبي مليكة أن عائشة كانت إذا سئلت عن المتعة قالت : بيني وبينكم كتاب الله قال الله عز و جل { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} فمن ابتغى غير ما زوجه الله فقد عدا .
فهذا النص من أم المؤمنين ، يدل على أنها ترى تحريم المتعة بنص كتاب الله تعالى ، ولم تفهم عائشة رضي الله عنها من قوله سبحانه { فما استمتعتم به منهن } المتعة ، لأنها لو اعتبرت هذا المعنى لصرحت بالنسخ ، ولأنه لا يتم لكون آية المؤمنون متقدمة نزولا على آية النساء ، فالأولى مكية ، والثانية مدنية ومثل هذا لا يجهله مثل أم المؤمنين.
قال ابن عبد البر و أبو محمد القيسي : وقالت عائشة رضي الله عنها : حرم الله المتعة بقوله { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم}(2)
قال أبو محمد : وهذا قول حسن ، لأن المتعة لم تكن زواجا صحيحا ولا ملك يمين ، ففرض الله في هذه الآية حفظ الفروج إلا على زوجةٍ أو ملك يمين ، ونكاح المتعة ليس بملك يمين ، ولا بنكاح صحيح .
وهذا إنما يجوز على أن تكون إباحة المتعة بالسنة ، ثم نسخت بالقرآن ، ولا يجوز أن تكون إباحة المتعة على هذا القول بالقرآن ، لأنها نزلت في سورة مدنية ، وهي النساء وقوله { إلا على أزواجهم } الآية : مكي ، والمكي لا ينسخ المدني ، لأنه قبل المدني نزل ، ولا ينسخ القرآن قرآنا لم ينزل بعد.
قال القيسي : إن المتعة كانت بإباحة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم نهى عنها ، فهو من نسخ السنة بالسنة ، والآية إنما هي في النكاح الصحيح الجائز.
وقال القيسي : وروي أن الإباحة في المتعة من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانت ثلاثة أيام ثم نهى عنها فنسخت بنهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
__________
(1) الحاكم في المستدرك 2/305 والبيهقي في سننه 7/ 207
(2) الاستذكار 16/ 297(56/118)
وقيل : بل أبيحت في أول الإسلام مدة ثم نسخت بالنهي عنها من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
لذا قال بعض العلماء : وهذا النص وهو قوله تعالى { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } قد تعلق به بعض المفسدين الذين لم يفهموا معنى العلاقات المحرمة بين الرجل والمرأة ، فادعوا أنه يبيح المتعة .... والنص بعيد عن هذا المعنى الفاسد بعد من قالوه عن الهداية ، لأن الكلام
كله في عقد الزواج فسابقه ولاحقه في عقد الزواج ، والمتعة -حتى على كلامهم -لا تسمى عقد نكاح أبدا !!!
وأما قولهم : إن النسخ إنما يثبت بآية قرآنية أو بخبر متواتر لا بخبر الواحد ....
فالجواب من وجوه :
أولا : إن المتعة شرعت بالسنة وليس بالكتاب ، ومادامت أبيحت بالسنة ، فان نسخها بالسنة جائز ..وهذا مما اتفق عليه الأصوليون ......
قال ابن الجوزي :" و قد تكلف قوم من مفسري القرآن فقالوا المراد بهذه الآية نكاح المتعة ثم نسخت بما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه نهى عن متعة النساء وهذا تكلف لا يحتاج إليه لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أجاز المتعة ثم منع منها فكان قوله منسوخا بقوله وأما الآية فإنها لم تتضمن جواز المتعة " ...
ثانيا : إن المتواتر هو العلم بما كانت عليه قبل النسخ ، وهذا لا جدال فيه إنما موضوع البحث والشيء المطلوب هو ، أن يكون بقاء الحكم متواترا بعد ورود النسخ وهذا الذي لا وجود له ، لأن القائلين بحليتها بعد النسخ أشخاص معدودون ومعروفون بالاسم وفي ثبوته عن بعضهم خلاف كبير.
ومع هذا ادعى المجوزون للمتعة بأن حديث جواز المتعة حديث متواتر بينما حديث النسخ من أخبار الآحاد ..
وبالتالي خرجوا بنتيجة أن النسخ إنما يثبت بآية قرآنية أو بخبر متواتر لا بخبر الواحد ..(56/119)
فيقال : إن المتواتر على الرغم من الخلاف الكبير حوله ، حول إمكان وجوده من عدمه ، يشترط فيه أن يرويه جمع عن جمع عن جمع من أول السند إلى آخره ، دون أن ينقص هذا العدد ، مع ملاحظة عدم إمكانهم على الكذب ..
فهل بقى القائلون بهذا الاتجاه ، جمعا عن جمع ..حتى بعد النسخ ؟!
إن الذي حصل بالفعل ، هو أن عنق الزجاجة قد ضاق ، وبدلا من أن رواية الجواز كانت جمعا عن جمع أصبحت أفرادا يروون أمرا قد كان ، وإلا لما سار الركبان بفتوى ابن عباس ، ورويت فيها الأشعار وتندر بها الظرفاء .
غير أن المجوزين خلطوا تواتر العلم بما كانت عليه ، بتواتر بقاء الحكم ، وبين الاثنين فرق كبير .....
فالمنسوخ في فهم الفقهاء ، هو استمرار حل المتعة واستمرار حل المتعة ظني لا قطعي !
فالبحث ليس موضوع أصل الحل بل استمراره استصحابا للحال، وهذا يفيد الظن بلا نزاع ورفع الظني بالظني لا ينازع فيه أحد لأنه من بدائه علم الأصول .
وبهذا يتضح أن ما يدعونه من التواتر مغالطة غير صائبة ...و دعوى أن النسخ خبر آحاد مجازفة غريبة..لأن التواتر وفقا لما ذكره أهل الاختصاص ، متوفر في أحاديث النسخ من دون شك لتناول أصحاب السنن لجميع طرقها ورواتها وهي كثيرة متعددة .(1)
والجواب عن الشبهة (11) :
إن آية الاستمتاع لا صلة لها بالمتعة ، كما سبق .
أما نكاح المتعة فإنما أجازه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم نهى عنه ، وعليه لا نسخ بين الآيتين البتة ، أعني بين آية الاستمتاع بالأزواج بعقد دائم وبين آية الميراث .
نعم قد وقع نسخ نكاح المتعة - وليس بآية المتعة لأنه ليس في القرآن آية تشرع المتعة - من القرآن موضع ذكر ميراث الزوجة الثمن والربع فلم يكن لها في ذلك نصيب .
وأما قولهم : إن هناك من فقهاء الشيعة من يقول التوارث فيها وهذه المسألة خلافية بين أئمة الإمامية وفيها ثلاثة أقوال .
فالجواب من وجوه :
__________
(1) الأصل في الأشياء ص 105(56/120)
1- إن الدليل لابد أن يكون إما من الكتاب أو السنة النبوية المطهرة .
قال تعالى في سورة الرعد / 41 { والله يحكم لامعقب لحكمه}
وقال تعالى في سورة يوسف / 40 { إن الحكم إلا لله}
ولا يجوز لمسلم أن يخالف الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويتبع البشر ولو كان هذا الشخص من أعظم العلماء ، ومن يفعل ذلك فقد صدق عليه قوله تعالى في سورة البقرة / 170
{ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} فالله أمرنا في محكم كتابه باتباع قوله سبحانه و تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي بعثه رحمة للعالمين فقال تعالى { و ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } الحشر/7
فأين الدليل من الكتاب أو السنة النبوية المطهرة أن امرأة المتعة هي زوجة !
وأين الدليل من الكتاب أو السنة النبوية المطهرة بالتوارث فيها ؟
وسواء كانت هذه المسألة موضع اتفاق بين فقهاء الشيعة على الفرض الجدلي أو كانت موضع خلاف بينهم كما هو الحال ، فالنتيجة هي هي ، وهي أنه لا يوجد في القرآن ولا السنة المطهرة حكم ميراث امرأة المتعة ، بل لا يوجد حكم واحد لهذه المرأة المسماة " امرأة المتعة !
وأما سبب هذا الاختلاف فيما بينهم فناشيء بسبب اختلاف أقوال أئمتهم في حكم ميراث " امرأة المتعة " ، لذلك اختلفوا على أربعة أقوال !! ذكرها المجلسي في مرآة عقوله و البحراني في حدائقه.
قال البحراني في الحدائق الناضرة في حكم ميراث امرأة المتعة ما نصه : اختلف الأصحاب في ثبوت التوارث بهذا العقد على أقوال (1).
وأما قولهم : إنه قد خرج القسمان الأخيران بالدليل الخاص ! فخصص به الكتاب...
فالجواب :
إن هذا الدليل الخاص المزعوم ليس هو قول الله تعالى ولا قول رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
__________
(1) 24/ 175(56/121)
وأما تخصيصكم المتمتع بها من ظواهر آية المواريث كتخصيصنا الذمية والمقاتلة فهو تخصيص باطل لسبب يسير هو أننا لا نملك التخصيص والنسخ ، فليس لنا أن نخصص من عند أنفسنا ، إذ أن السنة النبوية هي التي تخصص وتنسخ أو ما شابه ذلك .......
فعدم ميراث القاتلة خصصته السنة النبوية المطهرة قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم " لا يرث القاتل شيئا " وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " ليس لقاتل ميراث "
فالتخصيص والنسخ من عمل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وقد قال أهل السنة إن المتعة نسخت ! ولكن من الذي نسخها ، فهل هو أبو بكر أو عمر أو علي أو نسخها الشافعي أو أحمد أو الأوزاعي ؟
لا ، ليس لهؤلاء أن ينسخوا ، بل الذي نسخها هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما ثبت ذلك بالدليل القاطع من أحاديث سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم ....
أذن فشتان ما بين التخصيصين ، تخصيصنا من قبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتخصيصكم من قبل أئمتكم -الذين تعتقدون فيهم العصمة المطلقة!
وكذلك الذمية خصصها قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " لا يتوارث أهل ملتين شتى(1)" .
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " لا يرث المسلم الكافر والكافر المسلم"(2).
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته" (3) .
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ، انظر نيل الأوطار 6/73 المجلد الثالث باب امتناع الارث باختلاف الدين والحكم وحكم من أسلم على ميراث قبل أن يقسم
(2) رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي ، انظر نيل الاوطار 6/73
(3) رواه الدار قطني ، انظر نيل الاوطار 6/73(56/122)
ومما يدل على أن تشريع عدم ميراث امرأة المتعة أو اشتراط الميراث في المتعة من تشريع أئمة الشيعة كما نقلوا عنهم، وانه ليس من عند الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قول إمامهم المعصوم في حديثي أبان بن تغلب وهشام بن سالم .
فعن أبان بن تغلب في صيغة المتعة انه قال لأبي عبد الله(ع) فإني استحي أن أذكر شرط الأيام قال : هو أضر عليك قلت كيف ؟ قال : لأنك إن لم تشترط !! كان تزويج مقام ولزمتك النفقة ...وكانت وارثا (1).
أي إن لم يشترط رجل المتعة عند ارتباطه بامرأة المتعة تحول هذا "الزنا " إلى زواج مشروع ، كما نص الله ورسوله على ذلك فيرثها وترثه وينفق عليها ولا يفك هذا الميثاق الغليظ عندئذ إلا الطلاق في طهر كما يدل على ذلك حديث المعصوم الآتي .
وعن هشام بن سالم قال : قلت لأبي عبد الله (ع) أتزوج المرأة متعة !! مرة مبهمة ؟ قال : فقال ذاك أشد عليك ، ترثها وترثك !! ولا يجوز لك أن تطلقها إلا على طهر وشاهدين . (2)
و أما قولهم : إن في الشرع مواضع كثيرة لا ترث فيها الزوجة الكافرة والقاتلة والمعقود عليها في المرض إذا مات زوجها فيه قبل الدخول.....و.....
فالجواب :
صحيح إن في الشرع مواضع كثيرة لا ترث فيها الزوجة كالكافرة وكالقاتلة... وكالأمة ،و.....و...و.....و
ولكن نسأل : لماذا لا يرثن؟
وبعبارة أخرى لنضرب لذلك أمثلة .
إن الزوجة الكافرة لم ترث لوجود المانع وهو الكفر .
والزوجة القاتلة لم ترث لوجود المانع وهو القتل .
والزوجة الأمة لم ترث لوجود المانع وهو الرق .
وهكذا قس على بقية الزوجات اللاتي لم يرثن لوجود المانع .
__________
(1) الوسائل 14/ 470 ح2و3
(2) الوسائل 14/ 476-477ح5(56/123)
فسبب عدم الإرث يعود إلى وجود مانع أي الكفر في الذمية ،والقتل في القاتلة ،والرق في الأمة ...فاذا زال أحد هذه الموانع ورثت بالإجماع ، فالمسألة وقتية لا تدوم ، تزول بزوال المؤثر ، فالمانع طارئ هنا أو قابل للزوال كالقتل طرأ على الزوجية فمنع الميراث بعد أن كان لازما ، وكذلك الكفر، فلو أسلمت في حياة زوجها ورثته بالعقد الأول ، وكذلك الرق فاذا أعتقت في حياة زوجها ورثته .
لذلك نقول : إنما لم يرث هؤلاء أي "الذمية والأمة والقاتلة " للكفر والرق والقتل وذلك غير موجود في نكاح المتعة ، فإن كل واحد منهما من أهل الميراث من صاحبه فاذا لم يكن بينهما ما يقطع الميراث ثم لم يرث مع وجود المتعة علمنا أن المتعة ليست بنكاح أصلا ، لأنها لو كانت نكاحا لأوجب الميراث مع وجود سببه من غير مانع له ، فالعقد الصحيح للزوجية الصحيحة موجب للميراث بمجرده فاقتضى عقلا وشرعا أن العقد الذي لا يقتضي الميراث لذاته ليس عقدا صحيحا وان الزوجة التي لا ترث بهذا العقد لا تكون زوجة صحيحة !!
فهل المتمتع بها ترث بأي حال من الأحوال ؟
وهل المتمتع بها تورث بمجرد العقد ؟؟
إنها لا ترث ولا تورث بعقد المتعة بخلاف الزوجة القاتلة التي منعت من الميراث ، فان منعها كما قلنا طارئ بسبب تعديها بالقتل ، ونقرب المسألة أقرب من هذا فنقول : لو قدر أن إنسانا آخر اعتدى عليها هي بعد اعتدائها على زوجها فماتت قبل زوجها ورثها زوجها ولا ترثه هي ! وكونها مُنعت من الميراث بالقتل لم يمنع زوجها من ميراثه فيها إذا ماتت قبله بخلاف المتمتع بها !!
لذلك نسأل : لماذا لا ترث امرأة المتعة المسلمة الحرة غير القاتلة ؟؟
فما السبب لمنعها من الميراث ، أو بصيغة أصرح لماذا حرمتموها من الميراث ؟
لذلك قال علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنه منسوخ ، فيما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما .(56/124)
وأخرج الدارقطني في سننه بإسناده عن علي رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن المتعة قال و إنما لمن لم يجد فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت .(1)
وأخرج الدارقطني بإسناده عن أبي هريرة فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : هدم المتعة الطلاق والعدة والميراث .(2)
والجواب عن الشبهة (12) من وجوه :
أولا : إن القرآن لم يشرع نكاح المتعة ، ، لكي نقول إنه منسوخ بآية العدة .
والدليل قوله تعالى في عدة الطلاق { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } وقوله
{ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } .
وفي عدة الوفاة { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } وقوله { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن }
فدل أن العدة عند الطلاق ، أو الوفاة ...لا عند انتهاء الأجل في المتعة !
فأما عدة الطلاق فلإعطاء الفرصة الكافية للزوج بعد الطلاق ليعود لزوجته المطلقة ....وذلك حرصا من الإسلام على إبقاء الرابطة الزوجية وتنويهاً بتعظيم شأن الزواج ....
__________
(1) أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 260 والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 207 و الحازمي في الاعتبار في الناسخ والمنسوخ ص428وعبد الرزاق في المصنف 7/ 505
(2) قال الشوكاني في النيل 3/6/ 138 : حسنه الحافظ ولا يمنع من كونه حسنا كون في اسناده مؤمل بن اسماعيل لأن الاختلاف فيه لايخرج حديثه عن حد الحسن اذا انضم اليه من الشواهد ما يقويه كما هو شأن الحسن لغيره .(56/125)
و أما عدة الوفاة فيراد تذكر نعمة الزواج ، ورعاية حق الزوج وأقاربه ..وإظهار التأثر لفقده !! وإبداء وفاء الزوجة لزوجها ، وصون سمعتها وحفظ كرامتها ....وأنى لامرأة المتعة التي تؤخذ لساعة أو عرد أن تذكر نعمة الزواج ، أو رعاية حق الزوج وأقاربه ..أو إظهار التأثر لفقده !! أو إبداء وفاء الزوجة لزوجها ، أو صون سمعتها وحفظ كرامتها .....
وأما قولهم : إن المتعة أيضاً لها عدة لكنها نصف عدة النكاح الدائم .....
فالجواب من وجوه :
1- إن القائلين بالمتعة هم الذين قالوا " إن عدة المتعة نصف عدة النكاح الدائم ...وهذا ليس لهم دليل عليه من القرآن أو السنة النبوية المطهرة ......
2- إن القائلين بالمتعة تضاربت وتناقضت أحاديثهم حول عدة امرأة المتعة (1) ....رغم انهم هم القائلون بالمتعة من بين جميع المذاهب والفرق ...
قال شيخهم البحراني في حدائقه ما نصه بالحرف : اختلف الأصحاب في عدة المتمتع بها متى دخل بها الزوج !! وانقضت مدتها ، أو وهبها إياها ولم تكن يائسة وكانت ممن تحيض على أقوال ، ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف الروايات !!! في المسألة (2).
وفيما يلي ذكر لهذه الروايات التي نسبوها إلى أهل البيت وأقوال مشايخهم :
فعن زرارة عن أبي عبد الله انه قال : إن كانت تحيض فحيضة وان كانت لا تحيض فشهر ونصف .
وعن زرارة قال : سألت أبا جعفر ما عدة المتعة إذا مات عنها الذي تمتع بها ؟ قال : أربعة أشهر وعشرا ، قال : ثم قال : يا زرارة كل النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرة كانت أو أمة وعلى أيّ وجه كان النكاح منه متعة أو تزويجا أو ملك يمين فالعدة أربعة أشهر وعشرا وعدة المطلقة ثلاثة أشهر والأمة المطلقة عليها نصف ما على الحرة ، وكذلك المتعة عليها مثل ما على الأمة (3).
__________
(1) انظر هذه الروايات المزعومة في الوسائل 14/ 473 باب 22
(2) الحدائق 24/182-183
(3) الوسائل كتاب الطلاق باب 52ح2(56/126)
وعن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا قال : قال أبو جعفر عدة المتعة خمسة وأربعون يوما والاحتياط خمسة وأربعون ليلة .
وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا قال : سمعته يقول : قال أبو جعفر عدة المتعة حيضة ، وقال : خمسة و أربعون يوما لبعض أصحابه .
و عن عبد الله بن عمرو عن أبي عبد الله في حديث في المتعة قال : قلت : فكم عدتها ؟ فقال : خمسة وأربعون يوما أو حيضة مستقيمة .
وعن علي بن يقطين عن أبي الحسن قال : عدة المرأة إذا تمتع بها فمات عنها خمسة وأربعون يوما (1).
وعن عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألت أبا عبد الله عن المرأة يتزوجها الرجل متعة ثم يتوفى عنها هل عليها العدة ؟ فقال : تعتد أربعة أشهر وعشرا وإذا انقضت أيامها وهو حي فحيضة ونصف مثل ما يجب على الأمة.
وعن علي بن عبيد الله عن أبيه عن رجل ! عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن رجل تزوج امرأة متعة ثم مات عنها ما عدتها ؟ قال : خمسة وستون يوما (2).
أي انهم اختلفوا في عدة هذه المرأة على خمسة أقوال !!
قال المجلسي في المرآة :واختلف في عدة المتعة إذا دخل بها على أقوال :
أحدها - إنها حيضتان ذهب إليه الشيخ في النهاية وجماعة .
الثاني : إنها حيضة واحدة اختاره ابن أبي عقيل .
والثالث : إنها حيضة ونصف اختاره الصدوق في المقنع .
والرابع : إنها طهران ، اختاره المفيد وابن إدريس والعلامة في المختلف (3).
والجواب عن الشبهة (13) :
قولهم : إن تشريع الطلاق لم يحصر إباحة الوطء وشرعيته بما كان مورداً للطلاق وإلا فما تقولون في التسري والوطء بملك اليمين.
فالجواب :
صحيح إن تشريع الطلاق لم يحصر إباحة الوطء وشرعيته بما كان مورداً للطلاق ، ولكن ما علاقة التسري وملك اليمين بالطلاق !
__________
(1) الوسائل 15/ 485ح3
(2) المصدر السابق ح4
(3) مرآة العقول في شرح الكافي للمجلسي 20/ 242 ، وانظر الحدائق 24/ 182-187 وجواهر الكلام 30/ 196-202(56/127)
وبعبارة أخرى قياسكم عدم الطلاق في التسري والوطء بملك اليمين قياس فاسد لسبب بسيط هو أن التسري ملك والزواج عقد !
لذلك فالتسري لا يحتاج إلى طلاق لأنه ملك بينما الزواج هو الذي يحتاج إلى الطلاق لأنه عقد !
وأما قولهم : أن الطلاق ليس السبب الوحيد للمفارقة بل الفسخ إذا وجدت أسبابه أيضاً سبب للفراق كما أن انقضاء الأجل في النكاح المنقطع أيضاً سبب للفراق فلم ينحصر السبب في الطلاق.
فالجواب :
صحيح إن الطلاق ليس هو السبب الوحيد للمفارقة بل الفسخ إذا وجدت أسبابه أيضاً سبب للفراق، ولكن أين الدليل من الكتاب أو السنة على أن انقضاء الأجل في المتعة أو هبة المدة الباقية أيضاً سبب للفراق!! إن كان لم ينحصر السبب في الطلاق على الفرض الجدلي !
فالقضية ليست أن الطلاق ليس السبب الوحيد للمفارقة ،بل القضية أنكم تقيسون الطلاق أو الفسخ في الزواج الدائم على انقضاء الأجل في المتعة !
ثم إن الطلاق أمر وجودي شرعه الله تعالى في كتابه في سور وآيات كثيرة حتى إن سورة بكاملها سميت بسورة الطلاق ، بينما انتهاء مدة أو أجل المتعة أو هبة المدة أمر عدمي .
كما أن الطلاق فك عصمة قابلة للامتداد أي أن هناك رجعة بينما هبة المدة في المتعة ليست كذلك.
و أما قولهم : إن هناك حالات من الزواج لا طلاق فيها مثل الزوجة الملاعنة تبين بغير طلاق ، الأمة المزوجة إذا اشتراها زوجها فإنها تبين منه بغير طلاق ، الزوجة المرتدة ، الزوج المرتد تبين منه زوجته ، الزوجة الصغيرة التي أرضعتها أم الزوج تبين من زوجها لأنها بهذا الإرضاع أصبحت أختاً له ، الزوجة الصغيرة التي أرضعتها زوجته الكبيرة تبين من زوجها بغير طلاق ، زوجة المجنون إذا فسخت عقد زواجها منه تبين بغير طلاق ، الزوجة التي ملكت زوجها المملوك بأحد أسباب الملك..
فالجواب :(56/128)
إن هذا القول خطأ فاحش ، ولا يجوز الاحتجاج به لسبب يسير وهو أن القائلين بالمتعة خلطوا بين الفسخ والطلاق ..فأخذوا يقيسون مواضع الفسخ على مواضع الطلاق وبين الاثنين فرق كبير...
وبيان ذلك أن كلا من الطلاق والفسخ يعتبر فرقة بين الزوجين ، وهي انحلال عروة الزوجية ، فهي تتنوع إليهما ، وبينهما هذه الفروق :
فالطلاق: إنهاء للعقد ولا يزول الحل إلا بعد البينونة الكبرى أي بعد التطليقة الثالثة ....
بينما الفسخ : يكون رفعا لعقد الزواج ونقضا له من أساسه وإزالة الحل المترتب عليه في الحال بسبب حالات طارئة على العقد تنافي الزواج أو حالات مقارنة للعقد تقتضي عدم لزومه من الأصل .
فمن أمثلة الحالات الطارئة : ردة الزوجة أو إباؤها الإسلام ، أو الاتصال الجنسي بين الزوج وأم زوجته أو بنتها أو بين الزوجة وأبي زوجها أو ابنه مما يحرم المصاهرة ، وذلك ينافي الزواج .....
أما الطلاق فلا يكون إلا بناء على عقد صحيح لازم وهو من حقوق الزوج ، فليس فيه ما يتنافى مع عقد الزواج أو يكون بسبب عدم لزومه !
فنلخص من هذا ، أن الفرقة إذا كانت بعد زواج صحيح ، ولم تكن بسبب أمر اقترن بالعقد فجعله غير لازم من الأصل ، ولا بسبب طارىء يوجب الحرمة بين الزوجين ، ولا بسبب يوجب الخيار لأحد الزوجين ، فإنها تعتبر طلاقا أيا كان مصدره .
وأما إذا كانت الفرقة إثر زواج غير صحيح ، أو كانت بسبب أمر اقترن بالعقد ، فجعله غير لازم من الأصل ، أو كانت بسبب أمر طارىء يوجب الحرمة بين الزوجين ، أو كانت بسبب عيب يوجب الخيار لأحدهما ، فإنها تعتبر فسخا ...
وقد ذكر المالكية أن الفراق بين الزوجين يقع على خمسة عشر وجها وهي :(56/129)
الطلاق على اختلاف أنواعه ، والايلاء أن لم يفئ الزوج عن يمينه ، واللعان ، والردة ، وملك أحد الزوجين الآخر ، والإضرار بالزوجة ، وتفريق الحكمين بين الزوجين ، واختلاف الزوجين في الصداق قبل الدخول ، وحدوث الجنون أو الجذام أو البرص في الزوج ، ووجود العيوب في أحد الزوجين ، والإعسار بالنفقة ، أو الصداق ، والتغرير ، والفقد ، وعتق الأمة زوجة العبد ، وتزوج أمة على الحرة .
فهل انتهاء مدة المتعة أو هبة المدة بسبب حالات طارئة على العقد تنافي الزواج؟؟
وبمعنى آخر هل فسخ المتعة بانتهاء المدة أو هبتها بسبب الايلاء أن لم يفئ الزوج عن يمينه ؟
أو أن فسخ المتعة بانتهاء المدة أو هبتها كان بسبب اللعان ؟
أو أن فسخ المتعة بانتهاء المدة أو هبتها كان بسبب الردة ؟
أو أن فسخ المتعة بانتهاء المدة أو هبتها كان بسبب ملك أحد الزوجين الآخر ؟
أو أن فسخ المتعة بانتهاء المدة أو هبتها كان بسبب الإضرار بالزوجة ؟
أو أن فسخ المتعة بانتهاء المدة أو هبتها كان بسبب تفريق الحكمين بين الزوجين؟
أو أن فسخ المتعة بانتهاء المدة أو هبتها كان بسبب اختلاف الزوجين في الصداق قبل الدخول؟!
وأما قولهم : أن هبة المدة تغني عن الطلاق ولا حاجة إليه فالطلاق إنما يحتاج إليه في النكاح المؤبد لأنه غير موقت والنكاح الموقت لا يفتقر إلى الطلاق لأنه ينقطع حكمه بمضي الوقت ...
فالجواب :
وهل تملكون دليلا واحدا من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما زعمتموه ؟! ودون ذلك خرط القتاد .
والجواب عن الشبهة (14) من وجوه :
قولهم : إن آية المتعة !! مما يستدل بها على مشروعية المتعة وعلى أنها تحصن.....قول باطل فإن المتعة لا تحصن عندهم ، وإليك نص أقوال أئمتهم وفقهائهم .
فعن هشام وحفص البختري عمن ذكره !! عن أبي عبد الله في رجل يتزوج المتعة أتحصنه ؟ قال : لا إنما ذاك على الشيء الدائم عنده .(56/130)
وعن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله في حديث قال : لا يرجم الغائب عن أهله ولا المملك الذي لم يبن بأهله ، ولا صاحب المتعة .
وعن إسحاق بن عمار قال : قلت لأبي إبراهيم الرجل تكون له الجارية أتحصنه ؟ قال : فقال : نعم إنما هو على وجه الاستغناء قال : قلت والمرأة المتعة ؟ قال :فقال : لا إنما ذلك على الشيء الدائم قال : قلت : فإن زعم انه لم يكن يطأها قال : فقال ¨لا يصدق و إنما أوجب ذلك عليه لأنه يملكها .
وعن أبي عبد الله انه قال : لا يقع الإحصان ولا يجب الرجم إلا بعد التزويج الصحيح !! والدخول ومقام الزوجين بعضهما على بعض فان أنكر الرجل أو المرأة الوطء بعد أن دخل الزوج بها لم يصدقا ، قال : ولا يكون الإحصان بنكاح متعة (1).
أما فقهاؤهم فقال شيخ طائفتهم الطوسي في مبسوطه ما نصه : " الإحصان عندنا أن يكون له فرج يغدو إليه ويروح ويكون قد دخل بها سواء كانت حرة أو أمة زوجة كانت أو ملك يمين وفي أصحابنا من قال أن ملك اليمين لا يحصن ولا خلاف بيننا أن المتعة لا تحصن(2).
وقال الطباطبائي : " ولا إحصان في النكاح المنقطع - ولذلك لا يرجم الرجل المتمتع إذا زنا لعدم كونه محصنا (3).
لذلك اشترطوا في إحصان الرجل ما يلي : الحرية و الدوام .
قالوا : " يعتبر في إحصان الرجل أمران :
الأول : الحرية فلا رجم على العبد .
الثاني : أن تكون له زوجة دائمة قد دخل بها أو أمة !!
وأما إحصان المرأة فقالوا ما يلي : " الحرية وان يكون لها زوج دائم قد دخل بها(4).
__________
(1) انظر الوسائل 18/ 352-356باب ثبوت الاحصان الموجب للرجم وعدم ثبوت الاحصان بالمتعة ، وانظر الدعائم 2/451
(2) المبسوط للطوسي 4/268
(3) تفسير الميزان 4/282
(4) مباني تكملة المنهاج للخوئي 2/201-207(56/131)
فاذاً بطل حمل الآية على أنها في المتعة وبطل الاستدلال بها على مشروعية المتعة وعلى أنها تحصن في نكاح المتعة! لأنها تتحدث عن النكاح الصحيح الذي يتحقق معه الإحصان ولا يقصد به سفح الماء وقضاء الشهوة فقط.
فالمتمتع بها لا يقصد الإحصان دون المسافحة بل يكون قصده المسافحة ، فانحصرت الداعية الفطرية في سفح الماء وصبه .... فقوله تعالى { أن تبتغوا بأموالكم محصنين } أي وأحل لكم ما وراء ذلكم لأجل أن تبتغوه وتطلبوه بأموالكم التي تدفعونها مهرا للزوجة أو ثمنا للأمة ، محصنين أنفسكم ومانعين
لها من الاستمتاع بالمحرم باستغناء كل منهما بآخر ، إذ الفطرة تدعو الرجل إلى الاتصال بالأنثى ، والأنثى إلى الاتصال بالرجل ليزدوجا وينتجا .فالإحصان هو هذا الاختصاص الذي يمنع النفس أن تذهب أيّ مذهب ، فيتصل كل ذكر بأي امرأة وكل امرأة بأي رجل ، إذ لو فعلا ذلك لما كان القصد من هذا إلا المشاركة في سفح الماء الذي تفرزه الفطرة إيثارا للذة على المصلحة ، إذ المصلحة تدعو إلى اختصاص كل أنثى بذكر معين ، لتتكون بذلك الأسرة ويتعاون الزوجان على تربية أولادهما ، فاذا انتفى هذا المقصد كما هو الحال في امرأة المتعة إذ كل شهر تحت صاحب بل كل يوم في حجر ملاعب فالمتمتع بها لا يقصد الإحصان دون المسافحة بل يكون قصده المسافحة ......
وأما قولهم : أن المراد بالإحصان في قوله{ محصنين غير مسافحين} هو إحصان العفة دون إحصان التزوج لكون الكلام بعينه شاملاً لملك اليمين كشموله النكاح ولو سلم أن المراد بالإحصان هو إحصان التزوج عاد الأمر إلى تخصيص الرجم في زنى المحصن بزنى المتمتع المحصن بحسب السنة ! دون الكتاب فإن حكم الرجم غير مذكور في الكتاب من أصله.
فالجواب من وجوه :(56/132)
1- إن الإحصان جاء في القرآن على أربعة معان ...فجاء في قوله { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } بمعنى الزواج أي المتزوجات ، وجاء بمعنى الحرية في قوله { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } وجاء بمعنى الإسلام في قوله { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة } وجاء بمعنى العفاف في قوله { والذين يرمون المحصنات } .
و هنا في هذه الآية بمعنى العفة وتحصين النفس ومنعها فيما يغضب الله أي متناكحين نكاحا شرعيا صحيحا يحصنهم والإحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح دائم.
2- لو سلم أن المراد بالإحصان هو إحصان التزوج عاد الأمر ليشمل النكاح الصحيح و ملك اليمين فقط كما قال إمامكم المعصوم : لا يقع الإحصان ولا يجب الرجم إلا بعد التزويج الصحيح !! وقال : ولا يكون الإحصان بنكاح متعة!!
وهذا هو الفيصل بيننا وبين المخالفين فقد أبطلوا متعتهم من حيث لا يشعرون ....فلو كان هذا النكاح صحيحا لوجب الرجم فلما انتفى هذا ، بطل أن يكون المتعة نكاحا صحيحا !
فالناكح بالمتعة لا يكون محصناً عندهم إذ لا يثبت حكم الإحصان إلا بالعقد الدائم أو الملك بخلاف العقد المنقطع فلا إحصان به ، فبطلت المتعة بهذا القيد فلزمهم أن يفسروه بالنكاح الصحيح .
3- إن الإحصان من "حصن " وتدل على المنع ومنه الحصن لأنه يمنع من فيه ويقال أحصن الرجل إذا تزوج و أحصن إذا عف وفي جميع ذلك معنى المنع فالرجل إذا تزوج منع نفسه من الزنا والعفيف يمنع نفسه من الفحش ....وهذا بخلاف المتعة فان امرأة المتعة كل شهر تحت صاحب وكل يوم في(56/133)
حجر ملاعب ...كما أن رجل المتعة لا يقصد الإحصان دون المسافحة بل يكون قصده المسافحة دون الإحصان ......فصاحب المتعة لا يطلب العفة ولا يقصد إحصان المرأة وحفظها من أن ينالها أحد سواه ! ...كما انه لاشيء يحصل من إحصان المرأة التي تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فلا صاحب المتعة يستغني عن امرأة المتعة ولا امرأة المتعة تستغني عن غيره ، فليس هناك استغناء كل منهما بالآخر عن طلب الاستمتاع المحرم !
فأي نوع من الإحصان هذا ؟!!
وأما تخصيصهم الرجم في زنى المحصن بزنى المتمتع المحصن بحسب السنة.....
فالجواب من وجوه :
1- انه لا يوجد في السنة النبوية أحكام المتعة لكي نخصصها ....
2- إن حكم الرجم موجود في القرآن ولكن مما نسخت تلاوته .....وهذا مما استفاضت الأخبار من طرق الفريقين(1).
فمن طرق الشيعة في الكافي والتهذيب عن أبي عبد الله قال : الرجم في القرآن قول الله عز وجل " إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فانهما قضيا الشهوة .
وعن سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبد الله في القرآن رجم ؟ قال : نعم : قلت : كيف ؟ قال : الشيخة والشيخ فارجموهما البت(2).
والجواب عن الشبهة (15) :
__________
(1) انظر ذلك في الطبراني والترمذي والنسائي وأبي داود عن ابن عباس من حديث عمر بن الخطاب
(2) انظر الكافي 7/ 177ح3والتهذيب 10/3ح 7 ، والملاذ 16/10 ، والفقيه 4/17ح12، والوسائل 18/350ح18 ، والمرآة 23/ 267 ، ودعائم الاسلام 2/ 449، .....وتفسير القمي 2/ .....وانظر مباني تكملة المنهاج للخوئي 1/ 196 وقد صحح المجلسي هاتين الروايتين في ملاذه 16/ 10، وفي مرآته 23/267 وقال مانصه بالحرف : “ وعدت هذه الآية مما نسخت تلاوتها دون حكمها(56/134)
قولهم : إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان المنكر الأول على من حرم المتعة وهو عمر .......هذا القول من أعظم الكذب ...إذ لا يستند إلى دليل أو حجة ! واحتجاجهم بالحديث الذي رواه الطبري في تفسيره أوهى من بيت العنكبوت !! لأنه حديث ضعيف منقطع ..من طرقنا وطرقهم كما بينت ...بل الثابت الذي لا يقبل النقاش إن عليا رضي الله عنه كان المنكر الأول على من استحل المتعة، وإنكاره على ابن عمه حبر الأمة معروف .
أخرج مسلم في صحيحه عن محمد بن الحنفية عن علي أنه سمع ابن عباس يلين في متعة النساء فقال : مهلا يا ابن عباس فان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية .
وفي رواية : سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان إنك رجل تائه نهانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (1).
والآن إليك بيان مذهب علي رضي الله عنه في المتعة من عدة طرق ومذاهب .
1- من طرق الشيعة الإسماعيلية :
روى القاضي المغربي صاحب دعائم الإسلام عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه حرم نكاح المتعة ، وعن علي (ع) أنه قال : لا نكاح إلا بولي وشاهدين وليس بالدرهم والدرهمين واليوم ويومين ، ذلك السفاح ولا شرط في النكاح (2).
2- من طرق الشيعة الإمامية المستحلين لهذه " المتعة " :
روى شيخ طائفة الشيعة الطوسي في كتابيه الاستبصار و التهذيب بإسناده عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (ع) قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة (3).
3- من طرق الشيعة الزيدية :
__________
(1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 189-190
(2) انظر دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام للقاضي أبي حنيفة النعمان التميمي 2/ 228-229ح858
(3) التهذيب 2/186 ، والإستبصار 3/142 وانظر الوسائل كتاب النكاح 14/441 ح32(56/135)
جاء في مسند الإمام زيد بن علي عن أبيه عن جده علي (ع) قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن نكاح المتعة عام خيبر .(1)
قال السياغي الصنعاني من علماء الزيدية في الروض النضير :قال المؤيد بالله أخبرنا أبو العباس الحسني قال نا عبد العزيز بن إسحاق قال نا أحمد بن منصور الحري نا محمد بن الأزهر الطائي نا إبراهيم بن يحيى المزني عن عبد الله بن الحسن عن أبيه عن جده عن علي (ع) قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم المتعة من النساء يوم خيبر وقال لا أجد أحدا يعمل بها إلا جلدته .
قال السياغي : ولعل قوله :لا أجد أحدا يعمل بها إلا جلدته من قول علي (ع)(2) .
4- من طرق أهل السنة :
أخرج البخاري ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد والموطآت .... عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية . وهذا الحديث رواه أكثر أصحاب كتب السنة النبوية (3).
__________
(1) الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير4/ 23
(2) في الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير4/ 23
(3) البخاري في صحيحه والبيهقي في السنن ومسلم في صحيحه و الدارقطني في السنن و.الترمذي في سننه وابن حبان في صحيحه
والنسائي في سننه.و مالك في الموطأ.وابن ماجه في سننه.و ابن أبي شيبة في المصنف .والدارمي في سننه. والشافعي في مسنده و.ابو داود في سننه و أحمد في مسنده .والبزار في مسنده .و الطبراني في المعجم?و .سعيد بن منصور في سننه.و ابن جارود في المنتقى .وعبد الرزاق في مصنفه والمقدسي في تحريم نكاح المتعة.والنحاس في الناسخ و المنسوخ .وأبو نعيم في الحلية .والطيالسي في مسنده .(56/136)
ومن الملاحظ ، وهذه للمقارنة وبيان وجه الحق ، أن حديث تحريم متعة النساء الذي رواه الإمام علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رواه كل أصحاب المذاهب فهو متفق عليه...بينما الحديث الذي أخرجه الثعلبي في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور بعدة طرق والرازي وأبوحيان و رواه ابن جرير الطبري في تفسيره بإسناد منقطع ضعيف !! ومن المعلوم أن كتب التفسير تحوي الغث والسمين ، فإذا عرفت هذا ، فكيف يزعمون أن الرواية عن ابن الحنفية عن أبيه ( ع) موضوعة !! وما هو دليلهم ؟؟
الحقيقة أنه ليس لهم دليل سوى أقاويل منحوتة ومنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وآل بيته الأطهار ،كزعمهم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعليا رضي الله عنه تمتعا والعياذ بالله.
فقد روى شيخهم المفيد في كتابه " المتعة " قال : يروي الفضل الشيباني بإسناده إلى الباقر (ع) أن عبد الله بن عطاء المكي سأله عن قوله تعالى { وإذا أسر النبي } الآية فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تزوج بالحرة متعة فاطلع عليه بعض نسائه فاتهمته بالفاحشة ! فقال : إنه لي حلال إنه نكاح بأجل فأكتميه فأطلعت عليه بعض نسائه .(1)
__________
(1) انظر خلاصة الإيجاز في المتعة " ص 24-25والوسائل 14/440 ح22 .من كتاب النكاح ، من أبواب المتعة.(56/137)
وروى ابن بابويه القمي -الملقب عندهم " بالصدوق !! - في الفقيه قال الصادق ! : إني لأكره للرجل إن يموت وقد بقيت عليه خلة من خلال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يأتها فقلت : فهل تمتع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ قال : نعم و قرأ هذه الآية { و إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا } إلى قوله { ثيبات و أبكارا } .(1)
فانظر كيف حمل التعصب البغيض هؤلاء على نسبة هذا الأمر القبيح إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولو فعل ذلك أبوه أو جده لعابه عليه ووبخه ، فاعتبروا يا أولى الأبصار !!
بيان مذهب بقية أهل البيت كابن الحنفية والباقر وزيد وجعفر :
أ)من كتب الشيعة الزيدية :
قال السياغي في شرحه على مسند زيد : وأما الباقر وولده الصادق فنقل في الجامع الكافي عن الحسن بن يحي بن زيد فقيه العراق أنه قال اجمع آل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على كراهية المتعة والنهي عنها وقال أيضا أجمع آل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أنه لا نكاح إلا بولي وشاهدين وصداق بلا شرط في النكاح وقال محمد يعني ابن منصور سمعنا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعن علي وابن عباس وأبي جعفر يعني الباقر وزيد بن علي وعبد الله بن حسن وجعفر بن محمد عليهم السلام أنهم قالوا لا نكاح إلا بولي وشاهدين (2).
ب) من كتب أهل السنة:
روى البيهقي في السنن بإسناده عن بسام الصيرفي قال : سألت جعفر بن محمد عن المتعة فوصفتها فقال لي ذلك الزنا (3).
__________
(1) الوسائل 14/442و الفقيه 2/151وجواهر الكلام 30/ 151-152 ?وكاشف الغطاء في " أصل الشيعة واصولها " ص 177والفكيكي في كتابه " المتعة" تحت عنوان " تفسير آية متعة النساء" ص47وهامش كتاب " المحجة البيضاء " للكاشاني 3/ 765-77
(2) مجموع الفقه الكبير 4/26
(3) السنن الكبرى7/207(56/138)
وهذا الوصف من جعفر للمتعة ليس ببعيد ، فقد سبقه السلف فوصفوا المتعة بالسفاح ، وهذا الوصف ، قد أخذه جعفر من شيوخه ، كالقاسم بن محمد بن أبي بكر جده أبي أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر ، أحد الفقهاء السبعة الذين كونوا العلم المدني ، و القاسم هذا قد روى عن عائشة رضي الله عنها وعائشة كانت إذا سئلت عن المتعة قالت : بيني وبينكم كتاب الله قال الله عز و جل { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين} فمن ابتغى غير ما زوجه الله فقد عدا ..... و القاسم بن محمد قال : إني لأرى تحريمها في القرآن ، قال : فقلت : أين ، فقرأ عليّ هذه الآية {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم }
ج) من كتب الشيعة الإمامية - المجوزين للمتعة :
روى أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره و ابن إدريس في سرائره عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله في المتعة قال : ما يفعله عندنا إلا الفواجر(1) .
وروى ابن إدريس في سرائره ص66 و أحمد بن محمد في نوادره ص66 بإسناده عن ابن سنان قال : سألت أبا عبد الله عن المتعة فقال لا تدنس بها نفسك .(2)
وروى الكليني عن المفضل قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول في المتعة :دعوها أما يستحي أحدكم أن يرى في موضع العورة فيحمل ذلك على صالحي إخوانه وأصحابه (3).
وروى المفيد والكليني عن علي بن يقطين قال : سألت أبا الحسن عن المتعة فقال : ما أنت وذاك قد أغناك الله عنها(4)..
__________
(1) ابن ادريس في سرائره ص483والوسائل 14/456 ، وبحار الأنوار100/318
(2) الوسائل 14/450
(3) انظر الكافي 5/ 453، البحار 100، 103/ 311، العاملي في وسائله 14/450 ، النوري في المستدرك 14/ 455.
(4) انظر خلاصة الإيجاز في المتعة للمفيد ص57 ، الوسائل 14/449 ، ونوادر أحمد ص87ح199(56/139)
وروى الكليني عن عمار قال : قال أبو عبد الله (ع) لي و لسليمان بن خالد : قد حرمت عليكما المتعة .
وروى المفيد والكليني عن ابن شمون قال : كتب أبو الحسن (ع) إلى بعض مواليه لا تلحوا علّي المتعة إنما عليكم إقامة السنة فلا تشتغلوا بها عن فرشكم وحرائركم فيكفرن ويتبرين ويدعين على الآمر بذلك ويلعنونا !!
فان أرادوا الإفلات عن هذه الأحاديث وان الإمام قالها تقية كما زعم بعضهم ، فالجواب إن لا تقية في متعة النساء !
قال عالمهم كاشف الغطاء في أصل الشيعة ما نصه بالحرف الواحد :" ومن طرقنا الوثيقة !! عن جعفر الصادق (ع) أنه كان يقول : ثلاث لا أتقي فيهن أحدا : متعة الحج ، ومتعة النساء ، والمسح على الخفين .(1)
د) من كتب الشيعة الإسماعيلية :
روى صاحب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد الصادق إن رجلا سأله عن نكاح المتعة قال : صفه لي قال : يلقى الرجل المرأة فيقول أتزوجك بهذا الدرهم والدرهمين وقعة أو يوما أو يومين قال : هذا زنا وما يفعل هذا إلا فاجر (2).
من كل هذه الأقوال يتبين لنا أن أهل البيت مذهبهم كمذهب القرآن و النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم و الصحابة في تحريم المتعة وهم موافقون للقرآن ولأحاديث جدهم في منع و تحريم هذه العلاقة المشبوهة المسماة " متعة " !
والجواب عن الشبهة (16)
قولهم : إن جابر بن عبد الله أنكر على عمر تحريمه للمتعة ،و لو كان هناك نهي من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما غاب عن الصحابة الذين تمتعوا في عهد أبي بكر و شطر من عهد عمر نفسه ، وهذا ينفي نسخها في عهد الرسول وإلا كان الخليفة الأول محللا لما حرم الله والرسول
فالجواب من وجوه :
هذا القول مجازفة ، فمتى يا ترى أنكر جابر رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه ؟!
وفيما يلي أحاديث جابر فيما رواه مسلم في صحيحه .
__________
(1) أصل الشيعة وأصولها ص100
(2) دعائم الاسلام 2/229ح859(56/140)
1- خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أذن لكم إن تستمتعوا ، يعني متعة النساء .
2- نعم استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر وعمر وذلك فيما يرويه عطاء لما قدم معتمرا قال فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة.
3- كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث وذلك فيما أخبرنا أبو الزبير قال سمعت جابر بن عبد الله.
هذه هي أحاديث جابر و لا يجوز الاحتجاج بها على حلية المتعة لأمور :
أ) إن الحديث الأول منسوخ .
قال ابن القيم في الزاد : كان هذا زمن الفتح قبل التحريم ثم حرمها بعد ذلك بدليل ما رواه مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع قال : رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثاً ثم نهى عنها وعام أوطاس هو عام الفتح لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة .
قال المازري : ثبت أن نكاح المتعة كان جائزا في أول الإسلام ثم ثبت بالأحاديث الصحيحة المذكورة هنا أنه نسخ ..... ولم يخالف فيه إلا طائفة من المستبدعة وتعلقوا بالأحاديث الواردة في ذلك وقد ذكرنا أنها منسوخة فلا دلالة لهم فيها .
ب) الحديث الثاني:
1- محمول على أن الذي استمتع في عهد أبي بكر وشطراً من خلافة عمر لم يبلغه النسخ منهم جابر رضي الله عنه نفسه (1)..
__________
(1) كما ذكر ذلك النووي في شرحه لصحيح مسلم 9/ 183(56/141)
2- ليس في الحديث دلالة على أن أبا بكر رضي الله عنه يرى حلها إذ لم يذكر جابر اطلاع أبي بكر على فاعلها والرضى به ، كما أن كتب السنة لم تذكر رأي أبي بكر رضي الله عنه في المتعة والظاهر أن موقفه - وهو الملازم لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جميع غزواته وأغلب حالاته -التحريم لها ، والذي نقصده في هذه السطور أنه لا يلزم من كون البعض فعلها أو مارسها في عهد أبي بكر أن يكون مطلعاً عليها (1).
وأعتقد شخصياً أنه لو اطلع الصديق على فاعلها في خلافته لوقف منها موقف الفاروق عمر رضي الله عنه لأن الفاروق فعلت في عهده ولم يطلع عليها كما يدل عليه حديث جابر الثاني ثم اطلع بعد ذلك ، فنهى عنها وقال فيها أشد القول ولعل السبب في عدم اطلاع الصديق عليها لكونها " نكاح سر" حيث لم يشترط فيها الإشهاد ، ولما كانت خالية عن الإعلان حق لها أن تخفي على القريب فضلا عن المضطلع بأعباء الخلافة وأمر المسلمين كافة كأبي بكر (2).
وفي ذلك يقول ابن العربي عن حديث جابر بما لفظه : فأما حديث جابر بأنهم فعلوها على عهد أبي بكر فذلك من اشتغال الخلق بالفتنة عن تمهيد الشريعة فلما علا الحق على الباطل وتفرغ المسلمون ونظروا في فروع الدين بعد تمهيد أصوله أنفذوا في تحريم المتعة ما كان مشهوراً لديهم حتى رأى عمر معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن حريث فنهاهما .(3)
فهذا بالنسبة إلى قول جابر "استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم و أبي بكر" .......
__________
(1) نكاح المتعة لمحمد شميلة الأهدل ص190-191
(2) المصدر السابق
(3) ابن العربي في عارضة الأحوذي 3/51(56/142)
فغاية الأمر أنهم لم يبلغهم النسخ وهذا ليس معناه أنهم استمتعوا بعلم من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وافقهم وأقرهم أو أن الصدّيق أقرهم لقول جابر بأنهم فعلوها على عهد أبي بكر ، أو أن عمر أقرهم قبل بيانه لتحريم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنها .
وليس معنى هذا أن ممارستها دليل على حلها كما يظن بعض الجهال .....لأن أشياء كثيرة يمنعها القانون سواء الإسلامي أو الوضعي وتمارس من غير علم الحاكم وإذا بلغ ذلك للحاكم وقف منها الموقف الذي يجب وقفه ...
وما أحسن ما قاله شارح بلوغ المرام وهو : إن المبيحين إنما بنوا على الأصل لما لم يبلغهم الدليل الناسخ وليس مثل هذا من باب الاجتهاد و إنما هم معذورون لجهل الناسخ ، فالمسألة لا اجتهاد فيها بعد ظهور النص ، على أن الذي أوجب هذا الخفاء على بعض الصحابة ولم يعلم بالنسخ أمور أهمها :
أ- إن هذا النكاح " نكاح سر" حيث لم يشترط فيها الإشهاد ، ولما كانت خالية عن الإعلان حق لها أن تخفى حتى على القريب .
ب - إن هذا النكاح وقع فيه الترخيص مرتين وقد يحضر الصحابي موطن الرخصة فيسمعه ويفوته سماع النهي مما أدى إلى تمسك بعضهم بالرخصة فيه .(56/143)
والذي يعتقده أهل السنة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصورة عامة إنهم أحرص الناس على امتثال أوامر الله تعالى والابتعاد عن نواهيه فكل من بلغه نهي رسول الله عن المتعة فذلك موقفه منها وكل من لم يبلغه النهي في عصر النبوة ثم بلغه بعد ذلك فإنه التزمه وقال به إلا ابن عباس رضي الله عنهما فإن له مسلكاً سوف أتكلم عليه بعد ذلك (1).....ومع هذا فلا ينكر إن بعض الصحابة لم يبلغه النهي إطلاقاً إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذا ليس بغريب فقد حدث مثل هذا كثير ، قد خفى على عدد من كبار الصحابة أحاديث كثيرة مع قربهم من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتقدمهم في السن وطول صحبتهم .فقد خفى عن عمر حديث الجزية حتى أخبره عبد الرحمن رضي الله عنه .كما خفى عليه حديث الاستئذان حتى أخبر أبو موسى رضي الله عنه .
روى مسلم في صحيحه عن أبي نضرة قال كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال ابن عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين فقال جابر فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما.
فهذا الحديث يدل على امتناع جابر عنها لما أطلع على نهي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن طريق عمر و تصريحه بعدم العودة إليها دليل على رجوعه عن القول بحلها ...
فأين إنكار جابر يا ترى على عمر ؟
__________
(1) نكاح المتعة ص189(56/144)
لذلك نقول لو كانت الإباحة باقية لورد النقل بها مستفيضاً متواتراً لعموم الحاجة إليه ولعرفتها الكافة كما عرفتها بدياً ولما اجتمع الصحابة على تحريمها لو كانت الإباحة باقية لما وجدنا الصحابة منكرين لإباحتها موجبين لحضرها مع علمهم بدياً بإباحتها دل ذلك على حضرها بعد الإباحة ألا ترى أن النكاح لما كان مباحاً لم يختلفوا في إباحته ومعلوم أن بلواهم بالمتعة لو كانت مباحة كبلواهم بالنكاح فالواجب إذا إن يكون ورود النقل في بقاء إباحتها من طرق الاستفاضة ولا نعلم أحداً من الصحابة روى عنه تجريد القول في إباحة المتعة غير ابن عباس .
والجواب عن الشبهة (17 )
قولهم : إن عبد الله بن عمر أنكر على أبيه تحريمه لمتعة النساء ....
هذا القول الذي نقله أغلب علماء الشيعة بالإجماع من أعظم الكذب ، وقد رجعت إلى جامع الترمذي ومسند أحمد(1) فلم أجد ما نسبته كتب الشيعة(2) .....
والحقيقة أنهم بدلوا حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي أخرجه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه ، فبدلوا لفظة " متعة الحج " ووضعوا مكانها لفظة "متعة النساء ".
وفيما يلي بعض الأمثلة من هذا التحريف .
__________
(1) وجامع الترمذي ، وتفسير القرطبي ، و مسند الامام أحمد بن حنبل انظر.
(2) نهج الحق وكشف الصدق للحلي .،الطرائف لرضي الدين ابن طاوس الحلي .،الصراط المستقيم للنباطي .،الحدائق الناضرة للبحراني .،الفصول المهمة لعبدالحسين شرف الدين . ،النص والاجتهاد لعبد الحسين شرف الدين . ومسائل فقيه لعبدالحسين شرف الدين .،الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية للعامليين.،نقض الوشيعة لمحسن الأمين .،الزواج المؤقت ودوره في حل مشكلات الجنس لتقي الحكيم .،المتعة واثرها في الاصلاح الاجتماعي لتوفيق الفككي.،الزواج في القرآن والسنة لعزالدين بحر العلوم .،تفسير قلائد الدرر للجزائري 3/ 68 .(56/145)
قال الحلي في كتابه " نهج الحق وكشف الصدق " : تحت عنوان تحريم عمر لمتعة النساء قال ما نصه : وفي صحيح الترمذي قال: سئل ابن عمر عن متعة النساء ؟ فقال : هي حلال وكان السائل من أهل الشام فقال له : إن أباك قد نهى عنها ؟ فقال له ابن عمر إن كان أبي قد نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نترك السنة ونتبع قول أبي ...(1)
وقال زين الدين في الروضة ما نصه : وفي صحيح الترمذي إن رجلاً من أهل الشام سأل ابن عمر عن متعة النساء فقال هي حلال فقال : إن أباك قد نهى عنها فقال ابن عمر : أرأيت إن أبي قد نهى عنها وقد سنها [ صنعها] رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتترك السنة وتتبع قول أبي.(2)
وقال عبد الحسين شرف الدين ص 80 ما نصه : ونقل العلامة في نهج الصدق والشهيد الثاني من روضته البهية عن الصحيح الترمذي إن اً رجلاً من أهل الشام سأل ابن عمر عن متعة النساء فقال هي حلال فقال : إن أباك قد نهى عنها فقال ابن عمر : أرأيت إن أبي قد نهى عنها وقد سنها [ صنعها] رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنترك السنة ونتبع قول أبي(3).
وقال عبد الحسين في كتابه "مسائل فقهية ما نصه : وسئل ابن عمر مرة أخرى عن متعة النساء فقال - كما عن صحيح الترمذي ! هي حلال ، فقيل له أن أباك نهى عنها ... فقال : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنترك السنة ونتبع قول أبي (4).
وأخيرا كلام صاحب النص والاجتهاد للموسوي أيضا .
__________
(1) نهج الحق وكشف الصدق ص283
(2) الروضة البهية 5/ 283
(3) الفصول المهمة في تأليف الأمة ! ص80
(4) "مسائل فقهية " تحت عنوان المنكرون على عمر ص84(56/146)
في هذا الكتاب يتبين للقارىء الأكاذيب السابقة وأترك الكلام للموسوي لكي يكتشف أو يكشف أكاذيبه السابقة للقراء في كتابيه السابقين فتحت المورد [21] بعنوان " متعة الحج إذ نهى عنها عمر " . وتحت فصل المنكرون عليه أورد الموسوي حديث ابن عمر نقلاً عن جامع الترمذي فقال ما نصه: "وفي صحيح الترمذي أن عبد الله بن عمر سئل عن متعة الحج قال : هي حلال فقال له السائل : أن أباك قد نهى عنها فقال : أرأيت أن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ فقال الرجل
بل أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (1).
ومما يدل أن الكذابين يكذبون على ابن عمر ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم قال : سئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل له إنك تخالف أباك فقال : إن أبي لم يقل الذي تقولون : إنما قال : افردوا العمرة من الحج أي أن العمرة لا تتم في شهور الحج إلا بهدي و أراد أن يزار البيت في غير أشهر الحج فجعلتموها أنتم حراما و عاقبتم الناس عليها و قد أحلها الله عز و جل و عمل بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإذا أكثروا عليه قال : أو كتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر . (2)
__________
(1) تحت المورد [21] بعنوان " متعة الحج اذ نهى عنها عمر من كتابه النص والاجتهاد ص190
(2) رواه أحمد 2/95 وأورده إبن قدامة في المغني 3/281(56/147)
وفي رواية عن سالم بن عبد الله بن عمر قال : كان ابن عمر رضي الله عنهما يفتي بالذي أنزل الله عز و جل من الرخصة بالتمتع وسن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيه فيقول ناس لابن عمر كيف تخالف أباك و قد نهى عن ذلك ؟ فيقول لهم عبد الله ويلكم ألا تتقون الله إن كان عمر نهى عن ذلك فيبتغي فيه الخير يلتمس به تمام العمرة فلِمَ تحرمون ذلك وقد أحله الله و رسوله و عمل به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أفرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحق إن تتبعوا أم سنة عمر ؟ إن عمر لم يقل لكم إن العمرة في أشهر الحج حرام و لكنه قال أتم العمرة إن تفردها من أشهر الحج .
وقد صدق ابن عمر رضي الله عنهما حينما قال إن هناك ثلاثين كذابا يكذبون عليه ..
فعن الأعرج وغيره قال : سأل رجل ابن عمر عن متعة النساء - وأنا عنده فغضب وقال : ما كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بزنائين ولا مسافحين ثم قال : والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : ليكونن قبل يوم القيامة المسيح الدجال وثلاثون كذابا أو أكثر من ذلك (1).
ونختتم بيان كشف الكذب على ابن عمر بما رواه ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : سئل ابن عمر عن متعة النساء فقال : لا نعلمها إلا السفاح (2).
والجواب عن الشبهة ( 18 )
__________
(1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (851) ص252 ، وأبو يعلي الموصلي في مسنده 10/ 69، وأحمد 2/95واسناده حسن....انظر الفتح الرباني للساعاتي 16/191 وانظر مسند أحمد 8/58 شرح ووضع الفهارس أحمد شاكر .....
(2) انظر مصنف ابن أبي شيبة 4/292-293 واسناده صحيح .(56/148)
قولهم : إن أهل السنة أنفسهم يعترفون بأن روايات النسخ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مضطربة متناقضة .....هذا القول أو هذه النسبة إليهم غير صحيحة ......فصحيح إن روايات تحريم المتعة متعددة كيوم خيبر أو يوم الفتح أو غزوة تبوك أو حجة الوداع أو عمرة القضاء أو عام أوطاس .......ولكن هل هذه الروايات صحيحة أم هناك الغث والسمين ...لنرى ما ذا يقول علماء الحديث في هذا الموضوع أعني عن تعدد روايات تحريم المتعة .
قال ابن حجر في الفتح : قال السهيلي : وقد اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة فأغرب ما روي في ذلك رواية من قال في غزوة تبوك ، ثم رواية الحسن أن ذلك كان في عمرة القضاء ، والمشهور في تحريمها أن ذلك في غزوة الفتح كما أخرجه مسلم من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه ، وفي رواية عن الربيع أخرجها أبو داود أنه كان في حجة الوداع ، قال ومن قال من الرواة كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن قال عام الفتح ، فتحصل مما أشار إليه ستة مواطن : خيبر ، ثم عمرة القضاء ، ثم الفتح ، ثم أوطاس ، ثم تبوك ، ثم حجة الوداع ، وبقى حنين لأنها وقعت في رواية قد نبهت عليها قبل ، فإما أن يكون ذهل عنها أو تركها عمدا لخطأ رواتها ، أو لكون غزوة أوطاس وحنين واحدة(1).
وفيما يلي أقوال علماء الحديث عن هذه الغزوات وموطن تحريم المتعة .
1- غزوة خيبر :
قال الزرقاني في شرح الموطأ : فلم يبق صحيح صريح سوى خيبر والفتح ......
وقال الغماري في الهداية : " الصحيح من هذه الأقوال أن ذلك كان يوم خيبر ويوم الفتح والمراد زمنهما ....(2)
2- غزوة عمرة القضاء :
قال الحافظ ابن حجر في الفتح : وأما عمرة القضاء فلا يصح الأثر فيها لكونه من مرسل الحسن ومراسيله ضعيفة لأنه كان يأخذ عن كل أحد ..(3)
__________
(1) فتح الباري 9/ 74
(2) الهداية 6/510
(3) فتح الباري 9/ 75(56/149)
وقال ابن سعد في ترجمة الحسن البصري : كان عالما جامعا رفيعا ...الخ وكل ما اسند من حديثه وروى عمن سمع منه فهو حجة وما أرسله فليس بحجة (1).
3- فتح مكة :
اعلم أن حديث سبرة لم يرو عنه إلا من طريق ابنه الربيع هكذا في ما اطلعنا عليه من كتب الحديث التي في متناولنا وشروحها(2).... إلا ما رواه الإمام أبو حنيفة عن الزهري عن محمد بن عبد الله عن سبرة الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن متعة النساء يوم فتح مكة ......والأحاديث التي أخرجها مسلم كلها ذكرت النهي عنها في فتح مكة .....إلا ما أخرجه أبو داود من طريق إسماعيل بن أمية عن الزهري عن الربيع فانه يذكر النهي في حجة الوداع ....وقد تفرد بها إسماعيل وهي شاذة ، وأما ما رواه أحمد وابن ماجة وغيرهما فمن طريق عبد العزيز بن عمر عن الربيع عن أبيه ....وتفرد عبد العزيز بذكر حجة الوداع يتعين توهيمه ، وتوهيم المتفرد المخالف وان كان ثقة فكيف وقد تقرر انه صدوق يخطئ (3)ولاسيما والراوون عن الربيع جماعة بلغوا درجة الشهرة في تلك الطبقة (4)....بينما جميع الرواة الذين يروون القصة عن الربيع عند مسلم عمارة بن غزية وعبد الملك وعبد العزيز ابنا الربيع عنه والزهري كلهم يذكرون وقوع القصة في فتح مكة ....ورواية عبد العزيز نقدها الحفاظ و وهموه فيها لأن سائر الرواة عن الربيع وعن سبرة أطبقوا على إن الحادثة كانت في فتح مكة ..ولذا لم يخرج مسلم في صحيحه روايته (5).
4- غزوة أوطاس :
__________
(1) التهذيب لإبن حجر 2/ 266 وقال ابن سعد في ترجمة الحسن البصري : كان عالما جامعا رفيعا ...الخ وكل ما اسند من حديثه وروى عمن سمع منه فهو حجة وما أرسله فليس بحجة .
(2) الأهدل ص175
(3) التقريب لإبن حجر ص215
(4) الأهدل ص158
(5) الأهدل ص155(56/150)
قال ابن القيم في الزاد : " فان قيل : فكيف تصنعون بما روى مسلم في صحيحه من حديث جابر وسلمة بن الأكوع قالا : خرج علينا منادى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أذن لكم إن تستمتعوا ، يعني متعة النساء ، قيل : إن هذا كان زمن الفتح قبل التحريم ثم حرمها بعد ذلك بدليل ما رواه مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع قال : رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها وعام أوطاس هو عام الفتح لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة .(1)
وقال البيهقي : وعام أوطاس وعام الفتح واحد ، فأوطاس وان كانت بعد الفتح فكانت في عام الفتح بعده بيسير فما نهى عنه لا فرق بين إن ينسب إلى عام أحدهما أو إلى الآخر (2).
5- غزوة حنين :
قال ابن حجر في الفتح : وبقى حنين لأنها وقعت في رواية قد نبهت عليها قبل ، فأما إن يكون ذهل عنها أو تركها عمدا لخطأ رواتها ، أو لكون غزوة أوطاس وحنين واحدة ........(3)
وقال الشوكاني في النيل : وأما في غزوة حنين فهو تصحيف كما تقدم ، والأصل خيبر وعلى فرض عدم ذلك التصحيف فيمكن إن يراد ما وقع في غزوة أوطاس لكونها هي وحنين واحدة (4).
وقال الصنعاني في السبل : " وعن علي رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن المتعة عام خيبر ...وقد وهم من رواه عام حنين أخرجه النسائي والدارقطني ونبه على انه وهم ....(5)
6- غزوة تبوك :
__________
(1) انظر زاد المعاد 3/462
(2) سنن البيهقي 7/204
(3) فتح الباري 9/ 74
(4) نيل الأوطار 3/ 137
(5) سبل السلام 3/126(56/151)
قال ابن حجر في الفتح : فأما رواية تبوك فأخرجها اسحق بن راهويه وابن حبان من طريقه من حديث أبي هريرة والحازمي عن طريق جابر ...وفي حديث أبي هريرة مقالا فانه من رواية مؤمل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمار وفي كل منهما مقال ، وأما حديث جابر فلا يصح فانه من طريق عباد بن كثير وهو متروك(1).
وقال النووي : وذكر غير مسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عنها في غزوة تبوك من رواية إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبد الله بن محمد بن علي عن أبيه عن علي ولم يتابعه أحد على هذا وهو غلط منه ...(2)
7- حجة الوداع :
قال القرطبي : فأما حديث سبرة الذي فيه إباحة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لها في حجة الوداع فخارج عن معانيها كلها وقد اعتبرنا هذا الحرف فلم نجده إلا في رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خاصة وقد رواه إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فذكر أن ذلك كان في فتح مكة وأنهم شكوا إليه العزبة فرخص لهم فيها ومحال أن يشكوا إليه العزبة في حجة الوداع لأنهم كانوا حجوا بالنساء وكان تزويج النساء بمكة يمكنهم ولم يكونوا حينئذ كما كانوا في الغزوات المتقدمة.(3)
وقال ابن حجر في الفتح :" وأما حجة الوداع فالذي يظهر انه وقع فيها النهي مجردا إن ثبت الخبر في ذلك لأن الصحابة حجوا فيها بنسائهم بعد أن وسع عليهم فلم يكونوا في شدة ولا طول عزبة وإلا فمخرج حديث سبرة راويه هو من طريق ابنه الربيع عنه وقد اختلف عليه في تعيينها والحديث واحد في قصة واحدة ، فتعين الترجيح والطريق التي أخرجها مسلم مصرحة بأنها في زمن الفتح أرجح فتعين المصير إليها والله أعلم .(4)
__________
(1) فتح الباري 9/ 74
(2) صحيح مسلم بشرح النووي المجلد الثالث 9/ 180
(3) تفسير القرطبي 5/ 131
(4) فتح الباري 9/76(56/152)
وقال الشوكاني في النيل : وأما النهي عنها في حجة الوداع فهو اختلاف على الربيع بن سبرة والرواية عنه بأن النهي في يوم الفتح أصح وأشهر (1).
وقال : لم يقع منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذن بالاستمتاع (2).
وقال ابن القيم في الزاد : " واختلف في الوقت الذي حرمت فيه المتعة ....- إلى إن قال - والرابع : انه عام حجة الوداع وهو وهم من بعض الرواة سافر وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع كما سافر وهم معاوية من عمرة الجعرانة إلى حجة الوداع حيث قال : قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وسفر الوهم من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة كثيرا ما يعرض للحفاظ فمن دونهم .....(3)
من ذلك نلخص : " إن الصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين ، وكانت حلالا قبل خيبر ثم حرمت يوم خيبر ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة (4) .
ملخص هذه الأقوال : وفيما يلي جدول يبين غزوات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وموطن تحريم المتعة .
اسم الغزوة
راوي الحديث
متن الحديث
التخريج
درجة الحديث
التاريخ
1- خيبر
علي بن أبي طالب
" أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية
البخاري ومسلم ومالك والحميدي وأحمد والدارمي وابن ماجة والترمذي والنسائي
صحيح
محرم 7 هـ
2- عمرة القضاء
الحسن البصري
"إنما كانت المتعة من النساء ثلاثة أيام ولم يكن قبل ذلك ولا بعده
سعيد بن منصور ومصنف
عبد الرزاق
ضعيف من مراسيل الحسن
ذي القعدة 7 هـ
3- فتح مكة
سبرة بن معبد الجهني
" نهى رسول الله
صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن نكاح المتعة
__________
(1) نيل الأوطار 3/ 137
(2) المصدر السابق
(3) زاد المعاد 2/459
(4) انظر صحيح مسلم بشرح النووي 3/181، وانظر تفسير الألوسي 5/7(56/153)
عام الفتح
مسلم والحميدي والدارمي وأبو داود والنسائي وأحمدوالطحاوي وسعيد وابن أبي شيبة
صحيح
رمضان 8 هـ
4- أوطاس
سلمة بن الأكوع
" رخص رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها
مسلم وأحمد والطحاوي وابن أبي شيبة والدارقطني والطيالسي والبيهقي
صحيح
8 هـ
5-حنين
علي بن أبي طالب
" نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم حنين عن متعة
النساء
النسائي(1)
والدارقطني(2)
ضعيف (تفرد به عبد الوهاب الثقفي)
8 هـ
6-تبوك
أ-علي بن أبي طالب
ب-أبو هريرة
ج-جابر بن عبد الله
د- جابر بن عبد الله
" نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن المتعة في تبوك
".. قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : حرم أو هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث
" خرجنا ومعنا النساء اللاتي استمتعنا بهن حتى أتينا ثنية الركاب فقلنا يا رسول الله هؤلاء النسوة اللاتي استمتعنا بهن فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هن حرام إلى يوم القيامة ....
" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جئن نسوة فذكرنا تمتعنا وهن يجلن في رحالنا أو قال يطفن في رحالنا فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فنظر إليهن فقال من هؤلاء النسوة فقلنا يا رسول الله نسوة تمتعنا منهن قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى احمرت وجنتاه وتغير لونه واشتد غضبه وقام فينا خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم نهى عن المتعة .......الخ
الدارقطني
الدارقطني والطحاوي والبيهقي
الطبراني
__________
(1) قال ابن المثنى يوم حنين ، وقال هكذا حدثنا عبد الوهاب من كتابه . انظر سنن النسائي 2/ 126
(2) وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى عن يحيى بن سعيد فقال خيبر على الصواب ....(56/154)
الحازمي
ضعيف
( لتفرد إسحاق بن راشد عن الزهر)
ضعيف (لوجود مؤمل بن إسماعيل
ضعيف (لضعف راويه صدقة بن عبد الله)
ضعيف جدا لضعف عباد بن كثير الثقفي
رجب 9 هـ
7- حجة الوداع
سبرة بن معبد
" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجة الوداع .........فتزوجتها فمكثت عندها ...ثم غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائم بين الركن والباب وهو يقول : أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع ألا وان الله حرمها إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا
" كنا عند عمر بن عبد العزيز فتذاكرنا متعة النساء
فقال رجل يقال له ربيع بن سبرة اشهد على أبي انه حدث إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عنها في حجة الوداع .
أحمد والحميدي والدارمي وابن ماجة وعبد الرزاق
أبو داود وأحمد
ضعيف (وهم من عبد العزيز بن عمر)
ضعيف شاذ
( تفرد به إسماعيل بن أمية عن الزهري
وأما قولهم : إن أصدق شيء في الدلالة على عدم النسخ في عهده صلى الله عليه وعلى آله وسلم قول عمر بالذات : "متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ، متعة الحج ومتعة النساء ....".
فالجواب من وجوه عديدة :
إن عمر لم يحرم المتعتين ، أي لا متعة الحج ولا متعة النساء ...ولبيان ذلك لابد من معرفة ما هي متعة الحج .
متعة الحج :
فأما متعة الحج :فقيل :هي العمرة في أشهر الحج ثم الحج من عامه .
و قيل : التمتع أيضا القران لأنه تمتع بسقوط سفره للنسك الآخر من بلده .
و قيل : التمتع أيضا فسخ الحج إلى العمرة .
فما هي المتعة التي نهى عنها عمر ؟
اختلف العلماء في المتعة التي نهى عنها عمر في الحج .
فقيل هي فسخ الحج إلى العمرة .(56/155)
أما التمتع بمعنى فسخ الحج إلى العمرة فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمرهم بأن يفسخوا إحرامهم بالحج ويحرموا بالعمرة و إنما فعل بهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك لأنهم كانوا يستعظمون فعل العمرة في أشهر الحج و يقولون : إذا عفا الأثر و بدأ الدبر و انسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر .
فأمرهم أن يفسخوا الحج و يجعلوها عمرة لتأكيد البيان وإظهار الإباحة . و إنما أبيحت للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يكن ذلك إلا في تلك السنة فإنه أمرهم بالإحرام بالحج ثم أمرهم بفسخه إلى العمرة .
وقد اختلف العلماء فيه .
هل هو خاص للصحابة تلك السنة أو باق لغيرهم إلى يوم القيامة ؟
فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر ليس خاصا بل هو باق إلى يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بحجٍ و ليس معه هدى أن يقلب إحرامه عمرة و يتحلل بأعمالها .
وقال مالك و الشافعي و أبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف و الخلف هو مختص بهم في تلك السنة لا يجوز بعدها و إنما أمروا به في تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج و مما يستدل به للجماهير حديث أبي ذر الذي أخرجه مسلم : كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاصة - يعني فسخ الحج إلى العمرة .(56/156)
و أما التمتع بمعنى الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج ، فإن الناس كانوا في عهد أبي بكر وعمر لما رأوا في ذلك من السهولة صاروا يقتصرون على العمرة في الحج ويتركون سائر الأشهر لا يعتمرون فيها من أمصارهم فصار البيت يعرى عن العمار من أهل الأمصار في سائر الحول فأمرهم عمر بن الخطاب بما هو اكمل لهم بأن يعتمروا في غير اشهر الحج فيصير البيت مقصودا معمورا في اشهر الحج وغير اشهر الحج وعلم أن أتم الحج والعمرة أن ينشأ لهما سفراً من الوطن كما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعل حيث اعتمر قبل الحجة ثلاث عمر مفردات، فلم ير عمر رضي الله عنه لتحصيل هذا الفضل والكمال لرغبته طريقا إلا أن ينهاهم عن الاعتمار مع الحج وإن كان جائزا فقد ينهى السلطان بعض رعيته عن أشياء من المباحات والمستحبات لتحصيل ما هو افضل منها من غير أن يصير الحلال حراما .
قال يوسف بن ماهك : إنما نهى عمر عن متعة الحج من أهل البلد ليكون موسمين في عام فيصيب أهل مكة من منفعتهما .
وقال عروة بن الزبير : إنما كره عمر العمرة في أشهر الحج إرادة ألا يعطل البيت في غير أشهر الحج .
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: ولم يكن نهيه عن ذلك على وجه التحريم والحتم كما قدمنا و إنما كان ينهي عنها لتفرد عن الحج بسفر آخر ليكثر زيارة البيت(1) .
وأيضا : خاف إذا تمتعوا بالعمرة إلى الحج إن يبقوا حلالا حتى يقفوا بعرفة محلين ثم يرجعوا محرمين كما بين ذلك في حديث أبي موسى الذي رواه أحمد عن أبي موسى الأشعري أن عمر قال : هي سنة رسول الله - يعني المتعة - ولكن أخشى أن يعرشوا بهن تحت الأراك ثم يحجوا حجاجا (2).
__________
(1) 5-6 /141
(2) في مسنده 1/49(56/157)
روى مسلم والنسائي و أحمد عن إبراهيم بن أبي موسى أنه كان يفتي بالمتعة فقال له رجل رويدك بعض فتياك فإنك ما تدري ماذا أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك حتى لقيه بعد فسأله فقال عمر رضي الله عنه قد علمت أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد فعله وأصحابه ولكن كرهت إن يظلوا بهن معرسين في الأراك ثم يروحوا بالحج تقطر رؤوسهم (1).
وعن ابن عباس عن عمر انه قال : والله إني لأنهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله وقد فعلها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعني العمرة في الحج (2).
وعن طاوس عن ابن عباس قال : هذا الذي تزعمون أنه نهى عن المتعة -يعني عمر - سمعته يقول : لو اعتمرت ثم حججت لتمتعت .
وفي رواية رواه أبو حفص عن طاوس أن عمر قال : لو اعتمرت وسط السنة لتمتعت ولو حججت خمسين حجة لتمتعت .
وروى الأثرم عن طاوس قال : قال أبي بن كعب و أبو موسى الأشعري لعمر : ألا تقوم فتبين للناس أمر المتعة .
وفي رواية أن عمر قال : وهل بقى أحد إلا علمها أما أنا فأفعلها .
وأخرج البيهقي من طريق عبيد بن عمير قال ، قال علي بن أبي طالب لعمر بن الخطاب : أنهيت عن المتعة قال لا ولكني أردت زيارة البيت فقال علي من أفرد الحج فحسن ومن تمتع فقد أخذ بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم
فقد أراد عمر بنهيه عنها اختيار الأفضل والترغيب فيه لا تحريم التمتع وهو إفراد كل واحد منهما بسفر ينشئه له من بلده وهذا أفضل من القران والتمتع الخاص بدون سفرة أخرى وقد نص على ذلك أحمد وأبو حنيفة ومالك والشافعي وهذا هو الأفراد الذي فعله أبو بكر وعمر .
فعمر لم يحرم متعة الحج و مما يدل على ذلك أيضا علاوة على ما سبق ما رواه أصحاب السنن :
__________
(1) أخرجه أحمد 1/ 50ومسلم 4/45 والنسائي 5/153 ...
(2) أخرجه النسائي 5/ 153(56/158)
فروى النسائي وابن ماجة و غيرهما أن الضبي بن معبد لما قال له : إني أحرمت بالحج والعمرة جميعا فقال له عمر : هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وعلى آله وسلم (1).
ولما كان نهيه عن متعة الحج إنما هو رأي رآه واختاره غير مستند إلى نص كمتعة النساء لم يسلم له الصحابة ذلك حتى قال عمران بن حصين : نزلت آية المتعة - أي متعة الحج - في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء أي يقصد عمر .
ومع أن نهي عمر لم يكن على وجه التحريم والحتم و إنما كان ينهى عنها لتفرد عن الحج بسفر آخر ليكثر زيارة البيت .
فعن أبي سعيد قال : خطب عمر الناس فقال : إن الله عز وجل رخص لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما شاء وان نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد مضى لسبيله ، فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله عز وجل وحصنوا فروج هذه النساء (2).
ولكن رغم ذلك خالفه الصحابة وهذا يؤكد ما قلناه في بداية البحث أن عمر لو رام تحريم ما أحلّه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقره الصحابة عليه وفي ذلك يقول ابن تيمية: وعمر لما نهى عن المتعة خالفه غيره من الصحابة كعمران بن حصين وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وغيرهم وهذا بخلاف نهيه عن متعة النساء فان عليا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك (3).
__________
(1) أخرجه الحميدي 18 وأحمد 1/ 14 وأبوداود1798 وابن ماجه 2970
(2) أخرجه أحمد 1/ 17 (104)
(3) في الفتاوي 33/96(56/159)
وفي ذلك يقول البيهقي في السنن الكبرى عن المتعتين : ونحن لا نشك في كون المتعة على عهد رسول الله لكن وجدنا نهى نكاح المتعة عام الفتح بعد الإذن فيه ثم لم نجد أذن فيه بعد النهي عنه حتى مضى لسبيله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكان نهي عمر بن الخطاب عن نكاح المتعة موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأخذنا به و لم نجده صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن متعة الحج في رواية صحيحة عنه ووجدنا في رواية عمر رضي الله عنه ما دل على انه أحب أن يفصل بين الحج و العمرة ليكون أتم لهما فحملنا نهيه عن متعة الحج على التنزيه و على اختيار الإفراد على غيره لا على التحريم .
متعة النساء :
وأما متعة النساء فإن أهل السنة يقولون إن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي أباحها وهو الذي حرّمها تحريما أبدياً إلى يوم القيامة كما سبق ذكر أحاديث التحريم .
ومما يدل على أن عمر رضي الله عنه نهى عنها لنهي الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنها ما رواه البيهقي في السنن من طريق سالم بن عبد الله عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال : صعد عمر على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنها ألا و إني لا أوتى بأحد نكحها إلا رجمته(1).
قال البيهقي في تعليقه على هذا الحديث ما نصه : " فهذا إن صح يبين أن عمر رضي الله عنه إنما نهى عن نكاح المتعة لأنه علم نهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنه (2).
وروى الدارقطني بسند حسن عن ابن عباس أن عمر نهى عن المتعة التي في النساء وقال : إنما أحل الله ذلك للناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والنساء يومئذ قليل ثم حرم عليهم بعد فلا أقدر على أحد يفعل من ذلك شيئا فتحل به العقوبة (3).
__________
(1) السنن الكبرى 7/206
(2) السنن الكبرى 7/206
(3) الدارقطني 2/258(56/160)
و روى ابن ماجة عن ابن عمر قال لما ولى عمر بن الخطاب خطب الناس ،فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها والله لا أعلم أحدا يتمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة إلا إن يأتيني بأربعة شهداء يشهدون إن رسول الله أحلها بعد إذ حرمها (1).
فهذه الآثار تدل على أن عمر رضي الله عنه إنما نهى عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وفي ذلك يقول الطحاوي: فهذا عمر قد نهى عن متعة النساء بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم ينكر عليه وفي هذا دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه من ذلك وفي إجماعهم على النهي في ذلك عنها دليل على نسخها وحجة (2).
وقال الشيخ محمود شلتوت: وما كان نهي عمر عنها وتوعده فاعلها أمام جمع من الصحابة و إقرارهم إياه إلا عملا بهذه الأحاديث الصحيحة واقتلاعا لفكرة مشروعيته من بعض الأذهان (3).
ومما يدل على ذلك ما رواها الشيعة بأنفسهم وهي حجة عليهم .
فقد روى أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن الفضل قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول بلغ عمر أن أهل العراق يزعمون أن عمر حرم المتعة فأرسل فلانا قد سماه فقال : أخبرهم أني لم أحرمها وليس لعمر إن يحرم ما أحل الله ولكن عمر قد نهى عنه (4).
لأن عمر لم يحرم المتعتين أما متعة الحج فقد سبق بيانها و أما متعة النساء فإن الله تعالى هو الذي حرمها حسب رواياتهم ..
فروى القمي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله قال : إن الله تبارك وتعالى حرم على شيعتنا المسكر من كل شراب وعوضهم من ذلك المتعة(5) .
__________
(1) سنن ابن ماجة كتاب النكاح
(2) معاني السنن والآثار2/258
(3) الفتاوي ص275
(4) انظر الوسائل 14 / 441 .
(5) أخرجها العاملي في وسائله 14/438 وانظر هذا الحديث في صحيح من لايحضره الفقيه للبهبودي ص288(56/161)
وروى ثقتهم الكليني في الروضة عن محمد بن مسلم قال عن أبي جعفر (ع) في حديث قال : إن الله رأف بكم فجعل المتعة عوضا لكن من الأشربة (1).
وأما قولهم : إن عمر أضاف النهي إلى نفسه ولو كان الرسول نهى عنهما لأضاف النهي إليه ولكان أوكد وأولى.
فالجواب :
لو كان التحريم من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال عمر : نهى النبي عنهما أي عن المتعتين لكان مفتريا عمدا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذا لا يصح وبيان ذلك :
أولا : إن الرسول لم يحرم متعة الحج بل حرم متعة النساء ولكن عمر قرن المنسوخ بالثابت المستقر .
فأما المنسوخ فهو متعة النساء و أما الثابت المستقر فهو متعة الحج، فان قوله "كانتا " يدل بظاهره على استقرار ذلك في زمنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يستقر حتى مات إلا التمتع إلى الحج .
وهو الذي نطق به القرآن والسنة وقد روى عمر بنفسه تحليل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمتعة الحج ، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : أتاني الليلة آت من ربي في هذا الوادي المبارك قل عمرة في حجة .
وروى النسائي وابن ماجة و غيرهما أن الضبي بن معبد لما قال له : إني أحرمت بالحج والعمرة جميعا فقال له عمر : هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وعلى آله وسلم
وأخرج البيهقي من طريق عبيد بن عمير قال ، قال علي بن أبي طالب لعمر بن الخطاب : أنهيت عن المتعة قال لا ولكني أردت زيارة البيت فقال علي من أفرد الحج فحسن ومن تمتع فقد أخذ بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
__________
(1) الروضة ص132(56/162)
فكيف تقولون : لو كان التحريم من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكان عليه أن يقول : نهى النبي عنهما ، فإن هذا لا يصح إطلاقا ، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم ينه عن المتعتين بل نهى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقط عن متعة النساء فلو كان عمر قال إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عنهما أي عن المتعتين لكان افتراء على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما بيناه فيما مضى .
ثانيا : إن هذا من باب التشريع وهو لا يحتمل ولا يجوز شرعا ومما يدل على ذلك قول عمر
" أنهي عنهما " ولم يقل كما يدعون أنه قال : "أنا أحرمهما" .
فهذا ما قاله عمر رضي الله عنه وهذا معنى قوله : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء و متعة الحج .
ولم يقل عمر كما ادعوا " متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم و أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج (1).
او"متعتان كانتا محللتين على عهد رسول الله وأنا انهي عنهما " .
أو : " متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حلالا وأنا أنهي عنهما "
أو " متعتان كانتا على عهد رسول الله حلالين وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما .
__________
(1) المرتضى في انتصاره ص111 الكوفي في الاستغاثة ص44 الحلي في كتابه " منهاج الكرامة " 1/223 .البحراني في كتابه " الحدائق الناضرة " 24/ 114 . النجفي في كتابه " جواهر الكلام " 30/139 - 14 ، وعبد الحسين ! الأميني في كتابه " الغدير" 6/ 213. محمد بن مهدي الخالصي في كتابه " الإسلام سبيل السعادة والسلام " ص193.توفيق الفكيكي في كتابه " المتعة " ص110 وص148 .زين الدين العاملي في كتابه " الروضة البهية " 5/283 .(56/163)
أو " ثلاث كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنا أنهي عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن وهي : متعة النساء ومتعة الحج وحى على خير العمل ..... .
ولكن الصحيح من قول عمر - كما سبق تخريجه - كما في صحيح مسلم وسنن البيهقي أنه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج.(1)
وقد نقلوا بأنفسهم في كتبهم هذه الخطبة بهذا النص الصحيح .....(2)
وقد أورد الرازي في تفسيره ثلاثة احتمالات حينما ذكر عمر هذا الكلام في مجمع من الصحابة وما أنكر عليه أحد فالحال ههنا لا يخلو إما أن يقال :
أ - انهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا .
ب - أو كانوا عالمين بأنها مباحة ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة .
ج- أو ما عرفوا إباحتها أو حرمتها فسكتوا لكونهم متوقفين في ذلك .
والأول : هو المطلوب .
__________
(1) صحيح مسلم وسنن البيهقي 7/ 206
(2) منهم المرتضى في كتابه " الشافي " 4/196-197، و منهم علامتهم الحلي في كتابه المسمى " نهج الحق وكشف الصدق " ص281 حيث ناقض نفسه فيما افتراه في كتابه " منهاج الكرامة " و كشف عن كذبه ! ومنهم الأميني في غديره 6/ 211. ومنهم كاشف الغطاء في كتابه " أصل الشيعة " ص104، ومنهم البحراني في حدائقه 24/ 116 وكشف عن كذبه ص114، ومنهم مرتضى العسكري في مقدمة مرآة العقول للمجلسي 1/ 200 و 273 ، ومنهم الجزائري في تفسيره قلائد الدرر 3/ 68 ، ومنهم الفكيكي في كتابه " المتعة " ص 47 ومنهم عبد الله نعمة في كتابه روح التشيع ! ص470 ،ومنهم شيخهم محمد تقي الجواهري في كتابه " الحلال والحرام " ص 290، ومنهم مرجع هذا "المهتدي " الخوئي في كتابه " البيان " ص325(56/164)
والثاني : يوجب تكفير عمر وتكفير الصحابة لأن من علم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حكم بإباحة المتعة ثم قال إنها محرمة محظورة من غير نسخ لها فهو كافر بالله ومن صدقه عليه مع علمه بكونه مخطئا كافراً ، كان كافراً أيضا وهذا يقتضي تكفير الأمة وهو على ضد قوله { كنتم خير أمة}
والثالث : وهو انهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة فلهذا سكتوا فهذا أيضا باطل لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح واحتياج الناس إلى معرفة الحال في كل واحد منهما عام في حق الكل ، ومثل هذا يمنع إن يبقى مخفيا بل يجب أن يشتهر اعلم به فكما أن الكل كانوا عارفين بأن النكاح مباح ، وأن إباحته غير منسوخة ، وجب أن يكون الحال في المتعة كذلك ، ولما بطل هذان القسمان ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الإنكار على عمر رضي الله عنه لأنهم كانوا عالمين بأن المتعة صارت منسوخة في الإسلام (1).
وخلاصة القول أن الرازي قد ألزمهم بما يلي:
أ - إن الصحابة لم ينكروا على عمر حينما نهى عن متعة النساء لأنهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا .
ب- بتكفيرهم الإمام علي إذا لم يكن النسخ طرأ على المتعة وسكت على عمر حين نهى عنها من عنده ، و إلى يومنا هذا لم يستطعوا حل هذا الإشكال وفك هذا الإلزام و لله الحمد .
وقد يتوهم أحد أنهم يستطيعون الجواب عن ذلك بقولهم: انه سكت " تقية " ......وهذا لا يصح لأمور :
1- إن عليا - عندنا نحن أهل السنة وهو الإمام المعصوم الأول عندهم - من أفقه وأشجع وأعلم المسلمين ، وعلينا فقط أن نراجع أقواله وأفعاله كرم الله وجهه.
يقول كرم الله وجهه : علامة الإيمان إن تؤثر الصدق حين يضرك على الكذب حين ينفعك ...ولا يكون في حديثك فضل على علمك ...وأن تتقي الله في حديث غيرك " .
ويقول : " لا أداهن في ديني .. ولا أعطي الدنية في أمري " .
__________
(1) الرازي في تفسيره 10/41-42(56/165)
هذا هو الإمام علي .. وهذه أخلاقه ...وكلماته ...دلت سيرته وحياته على معدنه ...وانطبقت أعماله ...وحطم عقيدة التقية في جمل قليلة .
لذا فنحن أهل السنة نعتبر عليا من الأمثلة الوضاءة التي يجب إن نتمثل بها في الصدق والشجاعة والأخلاق والإقدام ..فالحق أحق أن يتبع .. وأن يعلن جهارا نهارا مهما كانت نتائجه (1).
و يقول كرم الله وجهه فيما جاء في أصح كتاب بعد القرآن عندهم وهو " نهج البلاغة" يقول لعمر في الثناء عليه ما نصه : لله بلاء فلان فقد قوم الأود وداوى العمد خلف الفتنة وأقام السنة ، ذهب نقي الثوب قليل العيب أصاب خيرها وسبق شرها أدى إلى الله طاعته وأتقاه بحقه رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي .(2)
2- إن القائلين بالمتعة لا يبيحون التقية لا في متعة النساء و لا في متعة الحج .
أما متعة الحج فقد جاء في الكافي عن زرارة قال : قلت له : في مسح الخفين تقية ! فقال : ثلاثة لا أتقي فيهن أحد :شرب المسكر ومسح الخفين و متعة الحج (3).
وروى الطوسي عن الحلبي عن أبي عبد الله قال إن عثمان خرج حاجا فلما صار إلى الأبواء أمر مناديا ينادي بالناس : اجعلوها حجة ولا تتمتعوا ، فنادى المنادي فمر المنادي بالمقداد بن الأسود فقال : أما لتجدن عند القلائص رجلا ينكر ما تقول فلما انتهى المنادي إلى علي (ع) وكان عند ركائبه يلقمها خبطا ودقيقا فلما سمع النداء تركها ومضى إلى عثمان فقال ما هذا الذي أمرت به ؟ فقال : رأي رأيته فقال : والله لقد أمرت بخلاف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم أدبر موليا رافعا صوته لبيك بحجة وعمرة معا لبيك وكان مروان بن الحكم يقول بعد ذلك : فكأني انظر إلى بياض الدقيق مع خضرة الخبط على ذراعيه (4).
__________
(1) الشيعة فلسفة وتاريخ ص 222
(2) ص498
(3) انظر الوسائل 1/ 321 كتاب الطهارة
(4) التهذيبين 1/470 و 2/ 171(56/166)
كما روى أصحاب السنن مثل ذلك....(1).
وأما متعة النساء فقد قال شيخهم كاشف الغطاء في كتابه أصل الشيعة وأصولها : ومن طرقنا الوثيقة عن جعفر الصادق (ع) انه قال : ثلاث لا أتقي فيهن أحدا : متعة الحج ومتعة النساء والمسح على الخفين (2).
3-إن روايات أئمتهم تقول وتؤكد أن الله تعالى هو الذي حرم المتعة وليس عمر! وذلك حسب رواياتهم الصادرة كما يزعمون عن أهل البيت فان أهل البيت أدرى بما فيه كما يزعمون ونحن نلزمهم بروايات أهل البيت !!
فروى صدوقهم عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله قال : إن الله تبارك وتعالى حرم على شيعتنا المسكر من كل شراب وعوضهم من ذلك المتعة .
وروى ثقتهم الكليني في الروضة عن محمد بن مسلم قال عن أبي جعفر (ع) في حديث قال : إن الله رأف بكم فجعل المتعة عوضا لكن من الأشربة (3).
__________
(1) فروى النسائي في سننه 2/576 وصححه الألباني عن مروان بن الحكم قال : كنت جالسا عند عثمان فسمع عليا يلبي بعمرة وحجة فقال : ألم نكن ننهى عن هذا ؟ قال : بلى ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يلبي بهما جميعا فلم ادع قول رسول الله لقولك .
وعن مروان : ان عثمان نهى عن المتعة وأن يجمع الرجل بين الحج والعمرة فقال علي : لبيك بحجة وعمرة معا فقال عثمان : أتفعلها وانا انهي عنهما فقال علي : لم أكن لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأحد من الناس .
وعن سعيد بن المسيب قال : حج علي وعثمان فلما كنا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع فقال علي : اذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا ، فلبى علي وأصحابه بالعمرة فلم ينههم عثمان فقال علي : ألم أخبرك انك تنهى عن التمتع قال : بلى ، قال له علي : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تمتع قال بلى .
انظر صحيح النسائي 578 للألباني
(2) أصل الشيعة وأصولها ص100
(3) انظر العاملي في وسائله 14/438(56/167)
وروى صدوقهم : قيل لأبي عبد الله: لم جعل في الزنا أربعة من الشهود وفي القتل شاهدين ؟ قال : إن الله أحل لكم المتعة وعلم أنها ستنكر عليكم فجعل أربعة الشهود احتياطا عليكم (1).
وروى أيضا : قال الصادق : " ليس منا من لم يؤمن بكرتنا ، ويستحل متعتنا (2).
والجواب عن الشبهة (19) :
قولهم : إن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أباح المتعة لأصحابه ........
فالجواب :
يرد عليكم أن هذه " الإباحة " لأمر عارض ، يوم فتح مكة ، وهذا استثناء من أصل التحريم العام ، وقد ثبت قطعا نسخها ، بالأحاديث الصحيحة فنعود إلى الأصل ، وهو التحريم .... على أن ثمة تصريحا من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتحريمها مؤبدا والى يوم القيامة ، وهذا إيذان
بأنه إذا تكرر السبب فلا يترتب عليه المسبب ، لأن النسخ أبدي وهو يمنع القول بالاستمرار ، ولو تجدد السبب ، استصحابا للحال فلا يجوز اللجوء إلى هذا الاستصحاب ، مادام قد قام الدليل على حكم التحريم على التأبيد ، على ما هو مقرر في علم الأصول ...على أن نسخ الحكم ، يوجب نسخ " العلة " التي اقتضته أيضا ، والعلة مظنة الحكمة ، كما هو معلوم ، ومعنى نسخها إلغاء الحكمة التي بنى عليها الحكم المنسوخ ، فلم تعُد ثمة " حكمة " بعد هذا الإلغاء أبدا ، ومن هنا قلنا ، لا يجوز تجدد الحكم بتجدد سببه .
وأما قولهم : إن المتعة كانت مباحة جائزة على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فمن ادعى أنه حرم ذلك احتاج إلى دليل .
فالجواب :
__________
(1) في الفقيه 2/ 150 وفي العلل ص173 وفي المحاسن للبرقي ص330
(2) الوسائل من أبواب المتعة 14/438(56/168)
إن هذه الأخبار ، ليس فيها أكثر من أنها قد أبيحت على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وقد ثبت من الأحاديث فيما تقدم بيانه أن الإباحة كانت مدة مخصوصة وهي ثلاثة أيام لقوم مخصوصين ، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم دون من سواهم من الناس ، لعذر مخصوص ، وهو الإباحة على هذه الوجوه لا تجوز استدامته لكل حال ، والمخالف يبيح ذلك على الإطلاق فلم يكن له في هذه الأخبار دليل !
وأما قولهم : أجمع المسلمون على شرعية نكاح المتعة والإذن فيه في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بغير شبهة ثم ادعى نسخها ولم يثبت وقد ثبتت الإباحة.....
فالجواب :
إن تعريف الإجماع كما في كتب الأصول هو : اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على حكم شرعي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذا لا ينعقد إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ........أما في حياته فهو المبين لحكم المسألة و قوله الحجة فيها ، فلا حاجة - من في عصره - إلى نظر أئمة الاجتهاد في مسألة وإجماعهم على حكمها .
وان قصدوا أن أهل العلم متفقون على أن المتعة رخص فيها الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لظروف خاصة ثم حرّمت فاتفاقهم على الطرفين وليُسمّه المخالف بما أحب ، فان حكى الترخيص بلفظ الإجماع .
قيل : التحريم إجماع ، على أن لفظ الترخيص مؤذن التوقيت ، مشعر بأن هذا الحكم في طريقه إلى النسخ ...
وجواب آخر : إن الصحابة أجمعوا على تحريم هذا النكاح المسمى "متعة " .
قال الجصاص : وقد دللنا على ثبوت الحظر بعد الإباحة من ظاهر الكتاب والسنة وإجماع السلف ...ولا خلاف فيها بين الصدر الأول على ما بينا وقد اتفق فقهاء الأمصار مع ذلك على تحريمها ولا يختلفون (1).
__________
(1) الجصاص في تفسيره 2/153(56/169)
وقال ابن المنذر : جاء عن الأوائل الرخصة فيها ، ولا أعلم اليوم أحدا يجيزها إلا بعض الرافضة ولا معنى يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وقال ابن عبد البر : وأما الصحابة ، فإن الأكثر منهم علي النهي عنها وتحريمها(1).
وقال المازري : ثبت أن نكاح المتعة كان جائزا في أول الإسلام ثم ثبت بالأحاديث الصحيحة المذكورة هنا أنه نسخ و انعقد الإجماع على تحريمه ولم يخالف فيه إلا طائفة من المستبدعة وتعلقوا بالأحاديث الواردة في ذلك وقد ذكرنا إنها منسوخة فلا دلالة لهم فيها .(2)
و قال الخطابي في معالم السنن : تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع إلى المختلفات إلى علي و آل بيته فقد صح عن علي أنها نسخت ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال هي الزنا بعينه .
وقال القاضي عياض : اتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحا إلى أجل لا ميراث فيها وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إلا الروافض (3).
وقال القرطبي : الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل وأنه حرم ثم أجمع السلف و الخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض(4).
فأين هذا الإجماع المزعوم يا ترى ؟!
وأما قولهم : إننا نتفق معكم على الإباحة ونخالفكم في النسخ فنأخذ المجمع عليه ونترك غيره.
فالجواب :
إن النصوص التي أثبتت الإباحة هي التي أثبتت النسخ ، وما اتفقنا معكم على الإباحة لأننا نقرر نسخ الإباحة .
وأما قولهم : بأنه قد ثبت إباحتها بالإجماع فلم يعدل إلى تحريمها إلا بالإجماع فمن وجهين :
__________
(1) ابن عبد البر في الاستذكار 16/ 294
(2) في "المعلم " 2/ 131
(3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي 9/181
(4) انظر فتح الباري 9/78-79(56/170)
الأول : انه ما ثبت به إباحتها هو الذي ثبت به تحريمها ، فان كان دليلا في الإباحة وجب إن يكون دليلا في التحريم .
الثاني : إن الإباحة الثابتة بالإجماع هي إباحة مؤقتة تعقبها نسخ ، وأنتم تدعون إباحة مؤبدة لم يتعقبها نسخ ، فلم يكن إجماعاً .
وأما قولهم : إن النسخ مجرد ادعاء لم يثبت ........
فالجواب :
هذا ليس ادعاء إذ الدعوى هي قول مجرد عن الدليل .....وأما النسخ فمرافق الأدلة التي تثبت الترخيص بها كأحاديث سلمة وابن مسعود وسبرة وعلي وغيرهم، فليس مجرد ادعاء ولكنه أمر ثابت .
و جواب آخر : إن الإجماع لم ينعقد على إباحتها ، والتعبير بإباحتها خطأ ، فلم يقل المحققون بأنها كانت مباحة ، إنما أذن فيها كما أذن بأكل الميتة فإن الإباحة تكون لأمر ذاتي في الفعل .
أما الإذن فإنه يكون لضرورة سوغت الإذن ، وإذا عبر بعض الأئمة بالإباحة فمن قبيل التسامح في التعبير ، وان الصحابة من بعد نهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أجمعوا على نسخها فلا موضع للقول بالإجماع .
و جواب ثالث : إن الأدلة التي أذنت بها هي التي نسخها فلا يقال إجماع على الإذن وعدم إجماع على النسخ ، فالأدلة ملزمة في الأمرين .
وجواب رابع : إن ترك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المتعة لهم قبل الأمر الجازم بالمنع ، ليس من قبيل الإباحة بل هو من قبيل الترك حتى تستأنس القلوب بالإيمان وتترك عادات الجاهلية وقد كان شائعاً بينهم اتخاذ الأخدان وهو ما نسميه اتخاذ الخلائل وهذه هي متعتهم ، فنهي القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنها وإن الترك مدة لا يسمى إباحة وإنما يسمى عفوا حتى تخرج النفوس من جاهليتها والذين يستبيحونها باقون على الجاهلية الأولى .
وأما قولهم : إنه لا نزاع ولا خلاف في أن المتعة كانت مشروعة والخصم يقول إنها نسخت ، قلنا المشروعية دراية والنسخ رواية و لا تطرح الدراية بالرواية .....
فالجواب :(56/171)
إن أردتم بقولكم " المشروعية دراية " أنها دُريت وفُهمت من نصوص شرعية ، فكذلك نسخها دلت عليه نصوص شرعية وفُهِمَ منها فنسخت النصوص الدالة على الإذن فيها نصوص شرعية أخرى أفهمت رفع الإذن المتقدم وتحريمها على وجه التأبيد والنص المتأخر المشعر برفع الرخصة التي دل عليها النص المتقدم يعتبر ناسخا للمتقدم وأيضا الرخصة الثانية لم يرد نصها إلا مقيدا بثلاثة أيام كما في بعض الروايات ، فلو لم يرد النهي على الإطلاق لأغنى التقييد والتحديد بثلاثة أيام عن ذكر النص الناهي ، فكيف وقد ورد .
وإن أردتم بقولكم " المشروعية دراية " أن العقل حكم بحلية المتعة من غير استناد إلى نص من الشارع الحكيم .
فالجواب :
إنه لا حكم للعقل بعد الشرع .
وأما قولهم : إن المتعة ثبتت بدليل قطعي والأدلة المانعة لها كلها ظنية والقطعي لا ينسخ إلا بقطعي مثله...
فالجواب :
إن المراوغة بأن التحليل قطعي والتحريم ظني ، مدفوع بان استمرار ذلك القطعي ظني بلا خلاف والنسخ إنما للاستمرار لا لنفي ما قد وقع فإنه لا يقول عاقل بأنه ينسخ ما قد فرغ من فعله ..
وجواب آخر : إن هذه الحجة مردودة لأن الذين رووا إباحة المتعة هم الذين رووا ما يفيد نسخها وذلك إما قطعي في الطرفين أو ظني في الطرفين وقد تواترت الأخبار بالتحريم ونقلت عن عديد من الصحابة ولم ينكر ذلك عليهم أحد.
وجواب آخر أيضا : إن مستندهم لمصادر جواز المتعة هي هذه المصادر التي حرمتها والشك الذي يمكن أن يتسرب إلى هذه المصادر يشمل الحل والتحريم إذا كان بحثهم نزيهاً لم تترتب نتائجه قبل مقدماته ولكن أتباع مدرسة المتعة يشاركوننا في السبب ويفردوننا بالعجب !! فتتعدد روايات التحليل والتحريم فيقبلون الحل والجواز ويرفضون التحريم للتعدد.
وجواب آخر أيضا : بمنع هذه الدعوى أعني كون القطعي لا ينسخه الظني .
فما الدليل عليها ؟(56/172)
ومجرد كونها مذهب الجمهور غير مقنع لمن قام في مقام المنع يسائل خصمه عن دليل العقل والسمع بإجماع المسلمين .
وجواب آخر أيضا : إن البحث ليس موضوع أصل الحل بل استمراره استصحابا للحال وهذا يفيد الظن بلا نزاع ورفع الظني بالظني لا ينازع فيه أحد لأنه من بدائه علم الأصول .
والجواب عن الشبهة (20) :
قولهم : إن أهل البيت ابتداءً بالإمام علي ( ع) وانتهاء إلى آخر أولاده من الأئمة ومن شيعتهم أيضا أطبقوا على ذلك حتى عرفت كلمة الإمام ( ع) : لولا ما نهى عنه عمر ما زنى إلا شقي .....
فالجواب : ليس هناك إجماع من أهل البيت على إباحتها، بل أجمع أهل البيت قاطبة على تحريمها كما سبق بيانه بأدلة قاطعة منها :
1-فيما اطلعت عليه من كتبهم أنهم يزعمون أن الإمام علي يقول بحلية المتعة ومع ذلك لم يسندوا حديثا واحدا عنه في حلية المتعة إلا ما يحتجون به بما رواه الثعلبي و الطبري في تفسيره بإسناده عن شعبة عن الحكم قال : وقال علي رضي الله عنه : لولا أن عمر نهىعن المتعة ما زنى إلا شقي .
وهذا الأثر ضعيف من طريقنا وطريقهم .
ثم إن هذا الأثر مع انقطاعه وضعفه معارض بما ثبت عن عليا رضي الله عنه من التشديد في المتعة حتى قال لابن عمه ابن عباس حينما بلغه انه يرخص في المتعة " انك امرؤ تائه " .
فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن الحنفية قال : سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان انك رجل تائه نهانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وفي رواية إن عليا سمع ابن عباس يلين في متعة النساء فقال مهلا يا ابن عباس فان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأنسية .(56/173)
2- وأما الباقر وولده الصادق فنقل في الجامع الكافي عن الحسن بن يحي بن زيد فقيه العراق أنه قال اجمع آل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على كراهية المتعة والنهي عنها وقال أيضا أجمع آل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أنه لا نكاح إلا بولي وشاهدين وصداق بلا شرط في النكاح.
وروى البيهقي في السنن بإسناده عن بسام الصيرفي قال : سألت جعفر بن محمد عن المتعة فوصفتها فقال لي ذلك الزنا .
وروى القاضي النعمان في دعائمه عن جعفر بن محمد أن رجلا سأله عن نكاح المتعة قال : صفه لي قال : يلقى الرجل المرأة فيقول أتزوجك بهذا الدرهم والدرهمين وقعة أو يوما أو يومين قال : هذا زنا وما يفعل هذا إلا فاجر .
من كل هذه الأقوال يتبين لنا أن أهل البيت أجمعوا على تحريم المتعة فهم موافقون للقرآن ولأحاديث جدهم في منع و تحريم هذه العلاقة المحرمة المسمى " متعة " !
والجواب عن الشبهة (21) :
قولهم : لا نعلم فيها ضررا عاجلا أو آجلا وكل ما هذا شأنه فهو مباح لأنه لو كان فيها شيء من المفاسد لكان إما عقليا ! وهو منتف اتفاقا و إما شرعيا وليس كذلك وإلا لكان أحد مستمسكات الخصم ... هذا القول فاسد من أساسه فلو تأمل العاقل في أصل المتعة يجد فيها مفاسد مكنونة كلها تعارض الشرع فنفيهم جهة القبح عن هذا النوع من العلاقة - غفلة شديدة عما طفحت به كتبهم من تقبيحه وعقلائهم من استهجانه وأشرافهم من الترفع عنه ، على الرغم من الإشادة به وبيان هذه المفاسد من وجوه :
1- هل يرضى الذين يجوزون هذه العلاقة شيئا كهذا لبناتهم وأخواتهم وقريباتهم أم انهم إذا سمعوها اسودت وجوهم وانتفخت أوداجهم ولم يكظموا لذلك غيظا (1).
__________
(1) " الشيعة والتصحيح لموسى الموسوي ص113(56/174)
ويذكرني هذه " المتعة " بذلك الشاب الذي طلب من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يأذن له بالزنا !! فما كان من الرسول إلا أن قال له أتحبه لأمك أتحبه لأختك أتحبه لأبنتك !
فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ قَالُوا مَهْ مَهْ فَقَالَ ادْنُهْ فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا قَالَ فَجَلَسَ قَالَ أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ قَالَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ (1).
فلو كانت" المتعة" حلالا لأذن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بها بدلا من "الزنا " الذي طلب منه الشاب ، ولكن لا يرضاه الناس لِأُمَّهَاتِهِمْ ولا لِبَنَاتِهِمْ ولا لِأَخَوَاتِهِمْ ولا لِعَمَّاتِهِمْ ولا لِخَالَاتِهِمْ كما بينه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
__________
(1) مسند أحمد والحديث صحيح الاسناد(56/175)
فلماذا يغضبون حين يطلب منهم الواحد إن يزوجه ابنته زواج متعة ؟ كما شاهدت هذا بنفسي وسمعته بأذني ؟ وكان ذلك أثناء مناقشة حول المتعة ، والعالم الشيعي يتمسك بمشروعيتها ويمدحها فألقى عليه هذا الطلب ، فغضب وثار وقام من المجلس !! مع انه قبلها بدقيقة كان شديد التحمس لها(1).
هذا أحد علمائهم ويدعى " الملا هاشم " ، نقلت عنه إحدى الباحثات الشيعيات التي أجرت المقابلات مع من تمتعوا ، أنه أجرى كثيراً من زيجات المتعة ....
تقول الباحثة ما نصه : " لم يشعر الملا هاشم بأي إحراج من إخباري أنه منذ انتقاله إلى مدينة مشهد يعقد سرا ، زيجات متعة بكثرة وانتظام قال : في قريتي في الشمال ، لا أحد يمارس المتعة لأنه يجلب العار ! ولكنه ما أن وصل إلى مدينة مشهد حتى بدأ بممارسة زواج المتعة ، بدا لي انه يتفاخر بكثرة زيجاته المؤقتة ، إذ يعقد زواج المتعة مرة أو مرتين شهريا ومن دون علم زوجته ، لكن عندما سألته إذا كان مستعدا للسماح لابنته البالغة ستة عشر عاما من العمر بعقد زواج المتعة ، أجابني بحزم " أبد اً(2).
مع انهم يقولون : " أهل النجف خاصة ، وكل بلاد الشيعة يرون المتعة عيبا وان كانت حلالا " " والشيعة في كل مكان ترى المتعة عيبا وان كانت حلالا وليس كل حلال يفعل (3) .
__________
(1) كتاب الحرية لعبد المنعم النمر ص136
(2) انظر المتعة لشهلا حائري ص225-226
(3) أعيان الشيعة لمحسن الأمين ص159(56/176)
وفي ذلك تقول هذه الباحثة ما نصه : " أبدي الكثير من الناس ، مثل هذا التردد في كشف هوية الأشخاص الذين يمارسون المتعة ، لكن التردد كان أكبر ، عندما يتعلق الأمر برجال الدين ، على المستوى النظري البحت ، كانوا يستفيضون في تأكيد شرعية زواج المتعة والثواب الديني لممارسيها ، لكن عند الانتقال إلى المستوى العملي الفردي ، كانوا يصبحون مراوغين ، ويترددون في الحديث عن تجاربهم أو في تقديمي إلى أشخاص يمارسون المتعة ، كانوا متكتمين ، وبدا أنهم يتبنون النظرة الثقافية السلبية إلى زواج المتعة ، هذه الازدواجية كانت أشد وضوحا خلال عملي الميداني عام 1978 (1).
هذا إمام جليل من أئمة الشيعة محمد الباقر - حسب رواياتهم - يسكت ولا يبدي جوابا عندما سأله عبد الله بن عمير فقال :يسرك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن ؟ فأعرض عنه أبو جعفر حين ذكر نساءه وبنات عمه (2).
ومعنى هذا السكوت إن الباقر لم يقبل على أسرته إن يكون بينهم هذا النوع من الزواج (3).
__________
(1) المتعة لشهلا حائري ص235
(2) وسائل الشيعة 14/ 437
(3) النكاح والقضايا المتعلقة به للحصري ص 185(56/177)
قال الشرباصي :و إني أذكر ليلة كنت جالسا فيها إلى المرحوم اللواء محمد صالح حرب وكان معنا كبار الفكر الإسلامي ، ثم دخل علينا شاعر لبناني شيعي ، ومعه ابنته المثقفة الأديبة ، وتجاذبنا أطراف الحديث ، حتى جاء ذكر زواج المتعة ، فأخذ الشاعر اللبناني الشيعي يدافع عنه ، لأن مذهبه يبيحه ، فما كان من المفكر الإسلامي إلا إن نهض ، ومد يده إلى الشاعر قائلا : إني أطلب يد ابنتك هذه لأتزوجها زواج متعة ، وحدد مدة قصيرة ، فأحمر وجه الفتاة خجلا ، واشتد الغضب بأبيها وأخذ يحتد في مخاطبة المفكر الإسلامي ، فما كان من اللواء صالح حرب إلا إن قال للشاعر في حدة : لا تغضب فأنت الذي فتحت على نفسك مجال النقد والهجوم ، ومادمت لا ترضى لابنتك أن تتزوج زواج متعة ، فكذلك كرام الناس لا يقبلون ذلك لأنفسهم ولا لبناتهم (1).
وقال الحصري : " أما في الحاضر فقد اختلطت بعديد من الرجال الشيعة بعضهم يمثل مركزا دينيا مرموقا وسطهم والبعض وان كان لا يعرف من مذهبه إلا انه منتسب له ، لكن والده من علماء هذا المذهب ، أو من أسرة دينية إلى آخره وبسؤالهم جميعا هل هم متمتعون " أي عاقدوا نكاح المتعة " كان الجواب لي دائما : لا ، وكان سؤالي لهم دائما : فلم الخلاف ؟ ولم لا تكون وحدة القول واجتماع الكلمة بتحريم هذا العقد الذي هو أشبه ما يكون باستئجار المرأة للزنى بها ساعات وأيام ؟ وكان جوابهم لي غير مقنع ، وكانت دعواتي دائما أن يجمع الله شمل المسلمين وأن يزيل ما بينهم من خلاف(2).
__________
(1) يسألونك في الدين والحياة للشرباصي 5/ 123-124
(2) الحصري في كتابه " النكاح والقضايا المتعلقة به " ص185(56/178)
فالمسألة ليست بهذه الصورة أي الذين لا يرتضونها لبناتهم وأخواتهم وقريباتهم في حدود التنزه والترفع بل لأنهم يرون فيها أمرا مهينا مشينا يتنافى وكرامة العائلة وشرف الأسرة (1).......وكل امرأة كريمة على أهلها أو على نفسها ، لا تقبله لذاتها ، ولا يقبل أهلوها لها إن تتزوج هذا الزواج الذي تحيط به الظنون (2).
كما أن مثقفي الشيعة والمجتمع الشيعي يرفضون هذا " الزنا " المتسمى باسم " المتعة" .
فان الناس في بعض المجتمعات حتى الشيعية ، ينظرون إلى علاقة المتعة نظرة أكثر خطورة من نظرتهم إلى الزنا ، فقد يواجهون الزنا بنظرة عدم الرضا ، بينما قد يواجهون المتعة بطريقة العنف ، وهذا ما لاحظناه عندما أثير الحديث في الإعلام في بداية الحركة الإسلامية الملتزمة التي تسمى بالحركة الإسلامية الأصولية في الوسط الشيعي حيث أثير في الإعلام الكثير من الحديث عن انتشار هذا الزواج وما إلى ذلك ، ورأينا أن هناك كلاما يعمل على مهاجمة هذه الحركة من خلال هذه الظاهرة التي لم تكن ظاهرة (3).
2- إن عقد المتعة من باب استئجار بضع المرأة وفي ذلك تضييع للمرأة نفسها ، وإذلالها ، وامتهانها وهذه شناعة يمجها الذوق السليم ، ، لذا ضج بالشكوى منه عقلاء فارس (4).
تقول إحدى الباحثات : " ....على الرغم من أن الشابات الخمس اللواتي صادفتني في قم يؤيدن زواج المتعة من حيث المبدأ ، فإنهن يرفضن ممارسته ، ووفقا لمنطقهن فان زواج المتعة يسيء إلى سمعة الفتاة ، وبالتالي يؤثر سلبا على حظها في عقد زواج دائم لائق (5).
__________
(1) موسى الموسوي في كتابه " الشيعة والتصحيح ص 113
(2) الشرباصي 5/ 124
(3) فضل الله في كتابه " تأملات إسلامية حول المرأة ص 129
(4) ضحى الاسلام لأحمد أمين 4/ 259
(5) شهلا حائري في كتابها المتعة عند الشيعة حالة ايران 1978- 1982 ص 32- 33(56/179)
ولابد من إيراد بعض الأمثلة والشواهد على مفاسد هذه المتعة من المجتمعات -الشيعية - التي مارستها وتمارسها....
تقول إحداهن وتدعى ل.أ وهي تروي قصتها مع زواج المتعة قائلة :" عمري 35 سنة طلقني زوجي بعد أن تزوج بأخرى منذ ست سنوات وترك أطفالي أربيهم بنفسي ولم أجد لإيوائى غير مؤسسة تابعة لأحد الأحزاب الأصولية ، فعملت لديها وبدأت تدريجيا أؤمن بمادئها ومع أنني لم أفكر يوما بأن أتزوج ثانية وجدت نفسي أغرم بشاب يسكن في حينا فانجذبت إليه وكذلك هو ، ولأنه أصغر مني سنا قررنا إن نتزوج زواجا مؤقتا دون علم الأهل ودون علم أولادي ، ولكن بتردده عليّ بدأ الأولاد يسألونني عن سبب تردده الدائم علينا ، فكنت أكذب وأقول ، لأنه يشفق علينا !
حتى قلت في إحدى المرات لابنتي انه سينتظرك لفترة سنتين حتى تكوني قد كبرت ويتزوجك وما زلت أعاني بعض المشاكل مع ابنتي بسبب هذه الجملة لأنني وفي أحد الأيام فوجئت بابنتي تستيقظ باكراً وتدخل غرفتي لتجده موجوداً في غرفتي مما سبب لها صدمة كبيرة وتركت البيت وذهبت إلى دارة جدها ولم تعد لغاية الآن ، ولهذا السبب اضطرينا في اليوم نفسه أنا وزوجي إن نذهب إلى المحكمة الشرعية ونتزوج زواجاً شرعياً وذلك فقط من أجل الحصول على وثيقة الزواج لكي أريها إلى أهلي وخاصة أخي الذي حمل سكينا وكاد يذبحني بها مع العلم انه هو قد مارس هذا النوع من الزواج عدة مرات ، وبالرغم من أن زواجي أصبح شرعيا ، إلا أن ابنتي لم تعد وحتى الآن مازال هذا الزواج سريا وغير معلن بسبب أهل زوجي لأنهم يرفضون هذا الزواج
وفي النهاية قالت ل. أ أنها تجربة قاسية ومريرة ، ولو كنت أعلم انه سيحصل لي ما حصل ، لما أقدمت على هذه الخطوة ....(1)
وهذه بعض الحالات التي تتكلم عن تجربتها في زواج المتعة كما أجرتها المجلة السابقة .
الشاب م. س ( غير متدين )
- ما هي المدة التي حددتها للزواج المنقطع ؟
__________
(1) " مجلة الشراع " العدد 684ص7(56/180)
- عشرة أيام !
- لماذا ؟
- لأنه أفضل من الزنى !!
- هل أعلنته ؟
- لا بقى سرا .
- لماذا ؟
- من أجل مصلحة الفتاة !
- كم مرة مارسته ؟
- عدة مرات .
- هل هي مطلقة أو أرملة ؟
- لا بل عذراء .
- إذا حملت ماذا ستفعل .
- سأجعلها تتخلى عن حملها .
- هل أنت عازب أم متزوج ؟
- عازب .
- هل ستسمح لأختك بالزواج المنقطع .
- لا .
الشاب أ. ع .
- ما هي مدة زواج المتعة الذي مارسته ؟
- 6 أشهر .
- لماذا تزوجت بالمتعة ؟
- لأنه أفضل من " الدوران " وراء الفتيات في الشوارع .
- هل تفضله على الزنى ؟
- نعم .
- هل أعلنته ؟
- لا بقى سرا .
- هل أهلك أو أهلها يتقبلون الفكرة ؟
- لا يهمني رأيهم !!
- كم عمرك ؟
-23 .
- كم عمرها ؟
- 21 .
- هل هي عزباء ؟
- مطلقة .
- ماذا ستفعل بالولد إذا حملت ؟
- سأضعه في " الميتم " .
- هل تسمح لأختك بهذا النوع من الزواج ؟
- لا ، بل لأذبحها إذا قامت بذلك .
أما الشاب هـ. م فدام عقد زواجه ساعتين ويقول إن ذلك كان فقط من أجل إن تهدأ شهوتي !!
ولكن هـ . م يختلف عن الذين سبقوه لأنه مؤمن بهذا النوع من الزواج ، فقال : أنا مستعد لأن أتحمل المسئولية الكاملة .. ، ولكن لم يختلف عن غيره بنقطة وهو انه غير مستعد لأخته بعقد زواج المتعة لأن المجتمع لن يتقبل هذه الفكرة ، وسينظر إلينا نظرة سيئة لم أتحملها (1).
__________
(1) انظر مجلة الشراع ص7، وانظر ممارسات المتعة في كتاب المتعة في إيران لشهلا حائري ص155- 276(56/181)
3- ومن مفاسد هذه المتعة ، تضييع الأولاد ، فان أولاد الرجل إذا كانوا منتشرين في كل بلدة ولا يكونون عنده فلا يمكنه أن يقوم بتربيتهم فينشأون من غير تربية كأولاد الزنا ، ولو فرضنا أولئك الأولاد إناثا يكون الخزي أزيد ، لأن نكاحهن لا يمكن بالأكفاء أصلا ، ومنها احتمال وطء موطوءة الأب للابن بالمتعة أو النكاح أو بالعكس بل وطء البنت وبنت البنت وبنت الابن والأخت وبنت الأخت وغيرهن من المحارم في بعض الصور خصوصا في مدة طويلة ، وهو أشد المحظورات ، لأن العلم بحبل امرأة المتعة في مدة شهر واحد أو أزيد لا يكون حاصلا لاسيما إن وقعت في السفر ويكون السفر أيضا طويلا ويتفق في كل منزل الشغل بالمتعة الجديدة ويتعلق الولد في كل منها وتولد الجارية من بعد تلك العلوقات ويرجع هذا الرجل إلى ذلك الطريق بعد خمسة عشر عاما مثلا أو يمر إخوته أو بنوه في تلك المنازل فيفعلون بتلك البنات متعة أو ينكحونهن ، ومنها عدم تقسيم ميراث مرتكب المتعة مرات كثيرة إذ لا يكون ورثته معلومين ولا عددهم ولا أسماؤهم وأمكنتهم ، فلزم تعطيل أمر الميراث ، وكذلك لزم تعطيل ميراث من ولد بالمتعة فان آباءهم وإخوتهم مجهولون ولا يمكن تقسيم الميراث ما لم يعلم حصر الورثة في العدد ويمتنع تعيين سهم من الأسهم ما لم تعلم صفات الورثة من الذكورة والأنوثة والحجب والحرمان وبالجملة فالمفاسد المترتبة على المتعة مضرة جدا ولاسيما في الأمور الشرعية كالنكاح والميراث ، فلهذا حصر الله سبحانه أسباب حل الوطء في شيئين : النكاح الصحيح ، وملك اليمين ، لأن الاختصاص التام الحاصل بين المرء وزوجته بسبب هذين العقدين ليحفظ الولد ويعلم الإرث .... (1)
__________
(1) التحفة الأثنى عشرية للدهلوي ص228(56/182)
4- انه لما حرمه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان قبيحا ، ولما استعملته الطائفة الجعفرية التي استحلته ، وشاع في دورها ونظرنا إلى آثارها السيئة (1)، قوى عندنا ظهور الحكمة الإلهية في منع المسلمين من تعاطيه (2)....
بل إن هذا النوع من الزواج ، تستقبحه بقية الأديان ..
يقول المطران جورج خضر : " إن زواج المتعة يتعارض مع الزواج أصلا الذي هو تعاهد بين رجل وامرأة للعيش معا على مدى العمر ، يعني في كل أعراف العالم وشرائعها وقوانينها كل زواج دائما كان قائما على روحية البقاء وعهده لأنه بنى على أساس تخطي فكرة المتعة والتمتع .....
ويقول المطران : " عندنا 99،99 متزوجون وليس الكل رهبانا ولكنهم يحاولون بالصلاة والنضال والجهاد الشخصي العظيم إن يعفوا .
ويقول عن المتعة :" إن هذا زواج جنسي محض غير إنساني (3) .
وبعد ، فقد أرسلنا أشعة البحث وأضواء الفكر على موضوع المتعة حتى تنفس صبح الحق معلنا تحريمها ، ببراهين بينة لا تدفع مكشوفة لا تتقنع ، مشكاة القرآن مصدرها ، وهدى النبوة معتمدهاوأحرقنا الهيكل المصنوع من الشبه الباطلة وهي حوالي (20) شبهة ، بنور الحق ، فأصبح هشيما تذروه الرياح، حيث دفعنا الشبهة المكسوة ثياب الحجة بالحجة ، فبان الحق واضح المحجة ، فإذا الحقيقة ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا أعمى نظر ، فاقد رشد ، يتخبط في ليل من الحيرة لا يدري أين يقع { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون } الأنبياء /18
هذا مما وفقني الله لتحريره وأسأله أن يكون عملا نافعا والحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والصلاة والسلام على خير الأنام وعلى آله الطيبين الأطهار وصحابته الأبرار الكرام .
1- خيبر
2- عمرة القضاء
__________
(1) راجع كتاب المتعة عند الشيعة " لشهلا حائري
(2) الأهدل ص 324
(3) انظر مجلة الشراع اللبنانية الشيعية العدد 684 سنة 1995ص6-7(56/183)
3- فتح مكة
4- أوطاس
5- حنين
6- تبوك(56/184)
( ان الذين قالو ربنا الله ثم استقموا تتنزل عليهم الملئكة الا تخافوا ولاتحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون )
المطاف الاخير
نداء إلى الشباب الذين يسطرون التاريخ بدمائهم الزكية .
إلى المناضلين في كل مكان .
إلى الذين زعزعت اعمال النظام الحاكم باسم الاسلام معتقداتهم الدينية .
إلى علماء الاسلام في كل مكان .
المطاف الاخير
لقد حان الوقت والكتاب بلغ نهايته ان اصارح جهات عديدة تهددهم اخطار النظام الحاكم في ايران بالحقائق التالية :(57/1)
1- النظام الارهابي الحاكم في ايران لايستطيع الصمود امام التيارات المختلفة التي بدأت تعصف به من كل جانب ، ولكن المشكلة الاساسية هي عدم اتفاق المعارضة فيما بينها في تعيين الطريقة التي يجب وينبغي أن تسلك لاسقاط النظام ، لقد قلت لابو الحسن بني صدر في باريس ان المعارضة في اوربا وامريكا وغيرهما لاتستطيع اسقاط الخميني وزمرته ، ان النظام يجب ان يسقط على يد المعارضة الداخلية وكان هذا هو رأيه ايضا ، وفي لقاء مع شخصيات عسكرية وسياسية في اوربا اكدت على هذه النظرية وكنت اسمع تأييدا مطلقا لرأيي ، ومع كل هذا لم يتحرك احد من اقطاب المعارضة من مكانه ليترك كرسيه الوثير قاصدا الحدود الايرانية ليبدأوا مسيرة الحرية والشرف ، ولذلك فاني اكرر هنا ماقلته اكثر من مرة ، وهو ان اسقاط الخميني وزمرته لا يمكن ان يتحقق الا بمجابهة داخلية مع اركان نظامه ، وهذه المجابهة يجب ان تبدأ من الحدود وتنتهي في العمق ، ان سقوط مدينة من المدن الكبيرة مثل كرمنشاه او شيراز في يد الثوار يضمن سقوط المدن التي تليها وحتى ان تصل رايات الحرية إلى طهران ، واني لا اشك ان مدينة واحدة اذا سقطت فان الجبهة الداخلية التي تنتظر الفرج العاجل ستلتحق بتلك القوى الثائرة وتوحد صفوفها وتتعاون معها للقضاء على الزمرة الحاكمة . ان فيدل كاستروا اسقاط باتيستا بهذه الطريقة ، وان أي شعب يريد الحياة يجب ان يتحرك على هذا النمط المعقول .(57/2)
ان الوضع الداخلي في ايران الان مهدد بالانفجار ، فقد بلغ الوضع إلى مرحلة من السوء لايمكن تصويره ، ولكن لعدم وجود قوة منظمة تثبت وجودها وتستطيع استقطاب الملايين من الشعب الذين ينتظرون ساعة الخلاص بفارغ الصبر يستمر الخمينيون على كراسي الحكم شاهري سلاح الابادة والقمع ، ان من السذاجة ان نتصور احتمال وقوع انقلاب عسكري يطيح بالنظام القائم في الوقت الراهن بسبب التصفية الشاملة التي تعرض لها القادة العسكريين الكبار وحتى الضباط منهم ، ثم ان الحرس الثوري الذي اسسه الخميني على غرار أي أي النازي والحساسية الموجودة بين القوتين يجعل من الصعب ان يقوم العسكر بانقلاب ناجح ، اما الثورة الداخلية على غرار ما حدث ضد الشاه فهذا ايضا صعب لسببين اساسيين ، (اولهما) الارهاب الحاكم على البلاد والذي يفوق الارهاب الذي شهده الشعب الكمبودي في ظل نظام الخمر الحمر وزعيمهم بل بت ، (والثاني) ان الشعب لايلتف بسهولة بعد الان حول اية شخصية سياسية تريد قيادته بسبب الخدعة الخمينية الكبرى ، فاذا كان مرجعا دينيا مثل الخميني وهو يحمل على رأسه شعار الانتساب إلى رسول الله وبعد نضال طويل وحياة قضاها في العلم والتقوى والزهد يجسد بين عشية وضحاها قصة الشيطان ويخرج من جلده مشمرا ذراعيه لقتل العباد وافناء البلاد ، ويخون ثقة الشعب وحسن ظنه به وبلبوسه وبمواعيده وهواليه مطمئن البال .
فهل يستطيع شعب بعد هذا ان يلتف حول قائد ديني او سياسي او عسكري ؟ كلا .(57/3)
اني اعتقد ان اكبر خيانة ارتكبها الخميني وزمرته ، انهم افسدوا ثقة الشعب وايمانهم بالثورة والقائد والنضال ، فلذلك ليس من السهل تحريك الجماهير حول قائد جديد يقود الثورة المضادة ، اللهم الا اذا كان ذلك القائد فذا يضع الامور في نصابها ويعيد الامن والاستقرار إلى البلاد ويقضي على هذه الفوضى السائدة ، وتعدد مراكز القوى ، ويسحب الاسلحة النارية من ايدي الناس ، ويعيد إلى البلاد الامان والاستقرار والاطمئنان والكرامة المهدورة ، فحينئذ يكسب ثقة الشعب لانه قدم اليهم مايرضيهم وماكانوا بحاجة ملحة اليه ، والقائد الفذ لن ينتخب انتخابا بل يفرض نفسه على الشعب فرضا ويستقطب الجماهير من كل صوب وحدب .
وهنا اود اشير إلى موضوع خطير جدا ارجو ان لا يساء فهمه ، وهو ان خلافنا مع الخميني وزمرته الحاكمين المعممين ليس ابدا لانهم رجال دين في ظاهر الاحوال يحكمون البلاد ، فانا اول المؤمنين بسيادة الشعب على مصيره والسيادة الشعبية تعني ان الشعب حر في ان ينتخب من يشاء للحكم وتسير دفة البلاد ، والسيادة الشعبية لا تتقيد بقيد ، والديمقراطية لاتتجزأ ابدا ، ورجل الدين الوطني المخلص كسائر الرجال يستطيع ان يتبوأ أي مقعد يقدمه اليه الشعب ويختاره لملثه ، ونحن عاصرنا الاسقف مكاريوس رئيسا لجمهورية قبرص ووزراء معممين في دولة الرئيس عبدالناصر بمصر ، ووزيرا وعالما فذا هو الشيخ محمد رضا الشبيبي في العراق ، وفي ايران انتخب الامام الكاشاني رئيسا لمجلس الشورى وقبله توزر الامام السيد حسن المدرس ، اذن المشكلة القصوى ليست المهنة والتخصص العلمي في الحاكمين ولا لبوسهم ، بل المشكلة الخطيرة التي يعاني منها الشعب الايراني ونحن لها بالمرصاد هي ان الحكام الايرانيين معممين وغير معممين اغتصبوا الحكم بالتزوير والتزييف وهم يحكمون البلاد بالنار والحديد ، وكل جرم وجريرة وفساد يرتكبونها ينسبونها إلى الاسلام تشويها لسمعته وخداعا للشعب .(57/4)
ان الخميني وزمرته اذا كانو يحكمون ايران بالديمقراطية السليمة وكانوا يمثلون الشعب تمثيلا ديمقراطيا صحيحا لم يكن من حق احج ان يعترض على الشعب في انتخاب ممثليه ، ولكن كما يعلم الجميع ان هؤلاء استولوا على الحكم بالخدعة والمكر ونصبوا انفسهم ولاة على الشعب في ظل دستور مزيف مهين ، واستولوا على الحكم بفضل انتخابات مزيفة ومزورة بيضت وجه النظام الملكي المقبور ، وعندما وجدوا ضالتهم اخذوا يستبدون بالامور كابشع طغاة التاريخ ، واتخذوا القمع الدموي الرهيب الاداة الوحيدة لبسط سلطانهم على الشعب الذي كان يطالب بحقوقه المغتصبة ، ولذلك فنحن نقول بصراحة اننا لسنا من انصار الرهبانية ، فلا رهبانية في الاسلام بل اننا من انصار الحرية السليمة التي هي جزء لايتجزأ من الاسلام .
واذا قلنا على الزعامة الروحية ان تترفع عن المناصب الزمنية فهذا لا يعني انه حرام عليها ولكننا نود القول ان من الاليق والاولى على الزعيم الروحي ورجل الدين ان لايشغل نفسه الا بمهامه الروحية العليا التي هي اهم من اية مهمة اخرى . وبما اننا نؤمن بالازدواجية في هذا الكون ، ونعتقد ان الانسان يتألف من روح وجسد ولكل منهما شأن خاص به ، فكما يحتاج الانسان للرعاية الجسدية المادية يحتاج للرعاية الوحية ، والرعاية الروحية اهم بكثير من اختها الجسدية ، والمشاكل البشرية كلها تنمو من اهمال الجانب الروحي في الانسان ، والانسان اذا ضمن سعادة الروح ضمن سعادة الجسد ايضا ولاعكس فيه اطلاقا .(57/5)
ان عدد المنتحرين في السويد سنويا يتجاوز اعلى الارقام في العالم بالمقارنة مع البلاد الاخرى والشعب السويدي اسعد شعوب العالم من الناحية الاقتصادية والسياسية ومع ذلك ينتحر آلاف من هذا الشعب لانه يريد الخلاص من الفراغ الذي يعيش فيه ، وهذا الفراغ نتيجة لاهمال الجانب الروحي في الانسان والذي يفقد في اثره الثقة والاطمئنان الداخلي الذي شرط الاستمرار في الحياة بنفس راضية مرضية . اذن العناية بالجانب الروحي في الحياة اهم بكثير من العناية بالجانب المادي ، وقد يكون من الاليق بالرجل الذي اتخذ المهام الروحية مهنة لنفسه وسراج منيرا يمشي على ضوئه ان لا يبالي بالجانب الاوضع من الحياة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " اخر ما يخرج من رأس الصديقين حب الجاه " ولكن اذا شاء احد ان يجمع بينهما فله الحق ان يكون كما شاء ولكن بشرط ان يسلك طريق الحق والعدل والانصاف لا طريق القرصنة والخداع والظلم والامام علي عليه السلام يقول " والله ان دنياكم هذي عندي كعفطة عنزالا ان اقيم حقا او ابطل باطلا ." والحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه الحكيم " تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين " .
3- اعرج من هنا إلى موضوع اخر ، هو من الاهمية بمكان لقد التقيت بكثير من ابناء الشعب الايراني وقد ضعف ايمانهم بالاسلام بل ارتد بعضهم على اعقابهم لانهم يزعمون ان الاسلام هو هذا الذي يمثله الخميني وزمرته كما التقيت باناس كانوا عبادا اتقياء صالحين قبل الثورة ، اما بعدها فقد تركوا صلواتهم وصيامهم وكل شعائرهم الدينية واصبحوا تائهين في خضم هذه الدنيا وقد ارتابوا في الاسلام كل الريب بعد ان زعموا ان اعمال الحاكمين في ايران تمثل واقع الاسلام وحقيقته .(57/6)
اني ابدأ كلامي مع هؤلاء الذين وقعوا فريسة للعدوان الديني باية من القرآن الكريم " يمنون عليك ان اسلموا قُل لاتمنوا عَليَّ اسلامكم بَل الله يَمنّ عليكم ان هَداكم للايمان ان كُنتم صدقين " . ثم اقول لهم ليس هذه اول مرة يحكم حاكم مجتمعا اسلاميا وهو يقترف باسم الاسلام ما الاسلام منه براء ، ولاسيما انتم معاشر المسلمين الايرانيين عرفتم بحبكم الجارف للامام الحسين عليه السلام واقامة الشعائر في كل سنة من محرم في طول البلاد وعرضها تخليدا لذكرى شهادته .
من الذي قتل الحسين ؟
ولماذا استشهد سيد الشهداء في كربلاء ؟
الذي قتل الحسين هو يزيد بن معاوية الخليفة الذي كان يحكم العالم الاسلامي باسم رسول الله وكان يعتلي المنبر ويخطب باسم الله ورسوله وكان معمما يلبس الجلباب والطيلسان . وقد قتل الحسين بذريعة الخروج على امام الزمان وشق عصا الطاعة . اذن الامام الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله وولده واصحابه قتلوا جميعا باسم الاسلام وسبيت عائلة ، رسول الله باسم الحفاظ على دين رسول الله فهل يجوز للمسلم ان يرتاب في دينه لان يزيدا وهو خليفة المسلمين الحاكم باسم الاسلام قتل ابن رسول الله .(57/7)
وليس يزيد هو الحاك الاول والاخير في الاسلام الذي اقترف باسم الاسلام ماهو الاسلام منه براء فحجاج بن يوسف الثقفي كان واليا من ولاة الاسلام وكان يتعمم بالسواد وهو القائل متى اضع العمامة تعرفوني وكن سجل اعماله يحتوي على مئة الف شخص قتلهم صبرا ، وتيمورلنك كان معمما يلبس الجلباب والطيلسان وكنه خرب البلاد الاسلامية وقتل نصف مليون من ابناء الاسلام ، والخلفاء العثمانيون ارتكبوا طيلة خلافتهم التي دامت سبعة قرون باسم الاسلام ماتندى منها الجباه ، فهل يعني ان ما فعله هؤلاء الطغاة كان يمثل واقع الاسلام وهل ينبغي للمسلم ان يرتاب في عقيدته . ان الاسلام شيء وما يفعله الطغاة باسمه شيء آخر ، ان الواجب يملي على المرتاب في عقيدته ودينه ان يضع كتاب الله الحكيم امامه ويقارن بين ما فعله الطغاة باسمه وبين ما يأمر به كتاب الله . كما ان الواجب عليه ان يمعن النظر في سيرة الرسول العظيم والامام علي عليه السلام ويقارنهما بما فعلته الخمينية التي تدعي ان حكومة امامها امتداد لحكومة الرسول العظيم والامام علي عليه السلام ، وحينئذ تنجلي الغبرة ويتميز الحق من الباطل ويصبح المرتاب على هدى وبينة من دينه . لا اريد ان اطيل البحث في هذا الموضوع اكثر من هذا فاكثرية المسلمين والحمد لله على هدى وبينة من امر دينهم .
وهنا اود ان اوجه نداء إلى علماء الاسلام في كل الارض واكرر على مسامعهم ما قاله الرسول العظيم " الساكت عن الحق شيطان اخرس " واحثهم على تشكيل محكمة اسلامية عليا تتألف من علماء الاسلام من مختلف المذاهب لينظروا في ما فعله الخميني باسم الاسلام وليقولوا كلمتهم فيه وفي اعماله والبدع التي ابتدعها في الدين ، ولا شك ان مثل هذا الموقف دفاع عن الاسلام ومبادئه الانسانية العظيمة وقيمه الروحية امام العالم والتاريخ والاجيال الحاضرة والقادمة من ابناء الامة الاسلامية.(57/8)
المقالات الدمشقية في الدفاع عن ابن تيمية وكشف الضلالات الحبشية
تأليف
عبد الرحمن محمد سعيد دمشقية
نشر
موقع الفرقان
www.frqan.com
http://www.saaid.net/
اتهامات الحبشي لأبن تميمة
... وقد نسب الحبشي إلى ابن تميمة جملة من الإفتراءات واتهمه باتهامات شتي لم يحل فيها إلى كتاب من كتب ابن تميمة وننتظر منه ذلك ، وربما أحال إلى بعض النصوص التي يحملها ما لا تحتمل ، أو يوردها مقطوعة مبتورة على طريقة لصوص النصوص .
... وشهادة الحبشي وأتباعه مردودة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تقبل شهادة خائن ، ولا خائنة ، ولا ذي غمر على أخيه المسلم " (1)
... وذو الغمر : ذو الحقد ، والحقد المذهبي أعمي ترد به شهادتهم في حق ابن تميمة ، فاجتمعت فيهم الصفتان في الحديث : الخيانة المعروفة عنهم ، والحقد المذهبي الذي أمتازوا به.
... وهذه الالسن التي تطعن هي نفس الألسن التي تمد الظالمين وتدخلهم على حسابها إلى بيت الإسلام
... فمن أثني على هؤلاء فلا يؤخذ بشهادته في أولئك .
... وهذه الألسن التي تطعن في سلف الامة كمعاوية وم نوافقه من الأصحاب . وليس ابن تميمة بأفضل عند أهل السنة من معاوية والعلم عند الله .
... ولا يدري هؤلاء أنهم بطعنهم بابن تميمة إنما يطعنون بأنفسهم وجرحهم له تجريح لأنفسهم ولكنهم لا يفقهون .
... فيوم أن طعن ابن معين في الشافعي قائلاً " ليس بثقة " قال الذهبي " فقد آذي ابن معين نفسه بذلك ، ولم يلتفت أحد إلى كلامه في الشافعي ولا إلى كلامه في جماعة من الأثبات . كما لم يلتفتوا إلى توثيقه بعض الناس "
وإليكم مجموعة الإفتراءات التي اختلقها .
__________
(1) رواه أبو داود وأبن ماجه بسند قواه الحافظ في التلخيص 4/198(58/1)
... *زعم أن بن تميمة يشبه الله بخلقه . مع ان نقل عن السبكي أن كلامه يقتضي تشبيه الله بخلقه (1) ، ومعلوم أن طريقة غلاة التنزية : " التأويل " وإثبات الصفات من غير تأويل لها يقتضي التشبيه عندهم ، مع لازم المذهب ليس بمذهب . فهل صرح ابن تميمة بالتشبيه أم قال ما يقتضي ذلك عند الحبشي ؟!
هكذا تتقد الامانة العلمية عند أهل البدع .
- وزعم أنه قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له جاه (2) . اكتفي بذلك من غير ان يحيل إلى شئ من كتب ان تميمة .ويأبي الله إلا أن يكشف كذب الحبشي ، فقد قال ابن تميمة " وقد اتفق المسلمون على انه - صلى الله عليه وسلم - أعظم الخلق جاءها عند الله ولا شفاعة أعظم من شفاعته " قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 7 "
... - وزعم أن ابن تيميه قال " لا مانع أن يكون نوع العالم غير مخلوق لله (3) وأنه كذاب أفاك لدعواه أن السلف قالوا " إن الله ينزل ولا يخلو منه العرش " (4) مع أن القاضي أبا يعلى ذكر للسلف ثلاثة أقوال : أولها أن نزوله بحركة وانتقال وهو قول عبدالله بن حامد وحرب الكرماني والدرامي وابن راهوية وسعيد بن منصور ، والثاني أنه بغير حركة وانتقال وهو قول أبي الحسن التيمي والثالث وهو لا يخلو منه العرش : قول ابن بطه وغيره .
... - وزعم أن ابن تميمة قال " إن الله مركب مفتقر إلى ذاته افتقار الكل إلى الجزء " (5)
... - وأنه " بقدر العرش لا أكبر منه ولا أصغر منه .
... - وأنه وأتباعه يكفرون (6) المتوسلين بالرسولصلعم .
... - وأنه جعل زيارة الأنبياء والصالحين بدعة بل معصية بالإجماع (7)
__________
(1) المقالات السنية 15 .
(2) المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية 16 و 76 .
(3) المقالات السنية160
(4) المقالات السنية 24 .
(5) المقالات السنية76 .
(6) المقالات السنية26 .
(7) المقالات السنية 73 .(58/2)
... - وأنه نقض إجماع المسلمين فقال إن نار جهنم تفني (1)
... ولكن لماذا لم يحل الحبشي إلى شئ من كتبه ؟ الجواب ببساطة لأنه لا يوجد شئ مما يزعم .
... - وزعم تلميذه " نزار حلبي " أن " ابن تميمة رأس التطرف في القرن الثامن الهجري حيث كفر كل المسلمين باختلاف مذاهبهم ومشاربهم " (2) ونسي أن يحيلنا إلى الكتاب الذي قال فيه ذلك .
عصبية ابن الهيتمي
... وسبقه إلى هذه الاتهامات أحمد المكي الهيتمي عفا الله عنه حيث رمي ابن تيميه بالعظائم والمفتريات وزعم أنه عبد أضله الله 0000 إلخ "
... وهذا مادعا الآلوسي رحمة الله إلى أن يكتب كتاباً بعنوان " جلاء العينين في محاكمة الاحمدين " قارن فيها بين إدعاءات الهيتمي ظلماً وطالبه بالدليل عليها من كتب ابنتيميه ، ثم ختم كتابه يقوله " قد ظهر لك جميع ما تقدم أن الشيخ ابن حجر الهيتمي نسب إلى شيخ الإسلام من الاقوال التي لا أصل لها ولا سند في نقلها " (3)
... بل يظهر لك تعصبه رحمة الله حين صب جام سخطه على شيخ الإسلام زاعماً أنه ارتكب العظائم .
... ولعلك تسأل ما هي هذه العظائم : يقول الهيتمي " فإنه وقع في حق الله تعالي ونسب إليه العظائم كقوله إن لله تعالي وجهه ويداً ورجلاً وعيناً وغير ذلك من القبائح الشنيعة .(4)
__________
(1) المقالات السنية 57 و 76 .
(2) المقالات السنيةمجلة منار الهدي 29 / 5 .
(3) جلاء العينين في محاكمت الاحمدين 526 ز
(4) حاشية ابن حجر الهيتمي على شرح الأيضاح ص 489 نقلا عن المقالات السنية للحبشي ص 94 .(58/3)
... ولا يخفاك أيها المنصف أن هذه التي يصفها الهيتمي بالعظائم والقبائح ليست من اختلاق ابن تيميه بل هي مما وصف الله به نفسه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالي لأبليس " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله " كتب التوارة بيده " وقوله عن الدجال " إنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور " وأن جهنم " لا تزال تقول هل من مزيد حتي يضع الجبار فيها رجله " قمه " فتقول قط قط .
الهيتمي والباقلاني يرجحان إيمان فرعون.
... وموقفه الشديد من ابن تيميه يقابله لين ورقه تجاه أهل الكفر . فلقد عاتب الهيتمي أبن عربي عتاباً رقيقاً لأعتقاد هذا الأخير بإيمان فرعون قائلاً (1) " فنحن وإن كنا نعتقد بجلالة ابن عربي فقوله بإيمان فرعون مردود " وكان حرياً به أن يغلظ له القول .
ولكن وكما يوقل الشاعر :
فرصاص من أجببته ذهباً كما
... ... ... ... ذهب الذي لم ترض عنه رصاص .
... فإن هذا القول من مستنشعات الصوفية أخدوه عن أئمة الزنادقة كابن عربي وزينة الشيطان لهم فبرؤوا به ساحة فرعون .
... بل قد نقل الزبيدي عن ابن حجر المكي الهيتمي أن ظاهر الآية يفيد وجود إيمان فرعون . ونقل الباقلاني قوة دليل من استدل بالآية على إيمان فرعون .
الزبيدي والقاري يثبتان قول ابن عربي بايمان فرعون (2).
__________
(1) الزواجر 1/33
(2) إتحاف السادة المتقين 2/246 .(58/4)
... قال المرتضي الزبيدي " وممن قال بإيمانه – أي فرعون – الشيخ محيي الدين بن عربي في مواضع من قتوحاته وفصوصة : لا يستريب مطالعها أنه كلامه وأنه غير مدسوس عليه " وقد رد على الشيخ عبد الوهاب الشعراني زعمه أن هذا الكلام مدسوس على ابن عربي المقري صاحب الأرشاد والحافظ بن حجر وتلميذه البقاعي ومن المتأخرين ملا على لقارئ من الحنفية والذي يصف ابن عربي بأنه زنديق منافق إمام الاتحادية (1) وكتب رسالة بعنوان " فر العون من القول بإيمان فرعون " وقال في شرح الفقيه الأكبر " وفيه رد على بن عربي ومن تبعه كالجلال الدواني ، وقد ألفت رسالة مستقلة في تحقيق هذه المسألة " (2) وحكي عن العلامة ابن نور الدين أنه صنف مجلداً كاملاً في الرد على ابن عربي " (3)
واعترف السرهندي النقشبندي أن ابن عربي أول من صرح بالتوحيد الوجودي وبوب مسألة الوجود وفصلها وقال إن خاتم النبوة يأخذ بعض العلوم والمعارف عن خاتم الولاية وأراد بخاتم الولاية نفسه (4) . أي أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يأخذ العلم من ابن عربي .
وممن ذهب إلى تأييد كلامه في وحدة الوجود شراح الفصوص الجندي والكازروني والقيصري والجامي وعلى المهايمي والجلال الدواني وعبدالله الرومي وللكازورني كتاب بالفارسية سماه " الجانب الغربي " رد فيه على من اعترض على الشيخ ابن عربي منها هذه المسألة " (5)
وقد عرض بعض الصوفية على يهودي بعد أن أسلم " أن يوافقهم باعتقاد بإيمان فرعون فصرخ قائلاً : قد كنت أقول بكفره حين كنت يهودياً أفاقول بعد ان أسلمت .
__________
(1) الرد على القائلين بوحدة الوجود " 56 و 60 وأنظر 64 تحقيق على رضا ط : دارالمأمون للتراث دمشق .
(2) الفقه الأكبر 25 وقال مثله في كتابه " الرد على القائلين بوحدة الوجود " ص 32 و 37 .
(3) الرد على القائلين بوحدة الوجود 37 .
(4) مكتوبات الأمام الرباني 287 .
(5) اتحاف الساده المتقين 2/246 .(58/5)
... وقد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أنموذج الكفر وقدوة الجبابرة والطغاة ، فلما مات أبو جهل جعل - صلى الله عليه وسلم - يشير إلى جثته ويوقل " هذا فرعون هذه الأمة " فكيف يشبه النبي أبا جهل برجل مؤمن "؟!
... ولوكان أبو تيميه هو القائل بإيمان فرعون لتوقعنا حينئذ من الهيتمي أن يقول " وهذا من ابن تيميه كفر ، فإن القرآن والسنة يشهدان بكفر فرعون ، وكل من شك في كفره فهو كافر ، لأن من لم يكفر كافراً فقد كفر " . ولكنه لتحيزة لأبن عربي وتعصبه له لا يقول بمثل ذلك لأنه من الاولياء عنده ، ونعوذ بالله من التعصب المقيت .
ولاننسي أن الهيتمي من أهل الغلو الصوفية القائلين بازلية نور النبي - صلى الله عليه وسلم - وزعموا أن الله أخذ قبضة من نوره قبل أن يخلق الخلق وقال لها كوني محمداً ، وقد حكي عنه الحبشي هذا الاعتقاد في النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) لكنه لم يلزمه بالقول بقدم شئ مع الله مع ان العقيدة الحبشية أن من الكفر " قول أن محمد خلق من نور " (2)
... وكان يميل بعصبية إلى قل من زعم أن الله أحيا أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - حتي أسلما . (3) ومعتمده في ذلك الاحاديث الضعيفة المخالفة للصحيحة مثل ثول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إستاذنت ربي ان أستغفر لأمي فلم يأذن لي " (4) وقوله لرجل " إن أبي وأباك في النار " (5)
__________
(1) الدليل القويم 179 .
(2) منار الهدي 34/25 .
(3) الزواجر 1/33 .
(4) رواه مسلم ( 976 ) .
(5) رواه مسلم ( 203 ) أن من مات عاى الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعة قرابة المقربين .(58/6)
فموقفه المؤيد لأبن عربي الاتحادي وغلوه في النبي حتي جعل نوره أزلياً . ووافق من زعموا أن القول بكفر أبويه قله أدب في حقة - صلى الله عليه وسلم - كل هذا يلحقه بالغلاة الذين لا يؤخذ منهم جرح ولا تعديل ولا يجوز تقديم تجريحهم على تعديل العدول لابن تيميه كالعسقاني والذهبي والحافظ المزي وابن كثير والزملكاني والسيوطي رحمهم الله .
موقفه من ابن عربي دليل على الظلم
... وقبل الدخول في تفاصيل الرد على هذه الافتراءات الجائرة أود لفت نظر القارئ إلى أن الحبشي وجماعته يكفرون من لا يستحق التكفير " كابن تيميه ويدافعون عمن ثبت تكفيره من قبل معاصرية .
... *كابن عربي الذي حكم عليه معاصره .
... العز بن عبد السلام " سلطان العلماء " بالزندقة والانحلال وذلك حين سأله عنه ابن دقيق العبد فأجابه قائلاً " إبن العربي " شيخ سوء كذاب ، يقول بقدم العلماء ولا يحرم فرجاً " (1)
... *وقد اعترف ابن حجر الهيتمي بأنه كان يصرح بإيمان فرعون (2)
...
*واتهمه الحافظ بن حجر العسسقلاني وابن حيان النحوي بالقول بوحدة الوجود المطلقة والتعصب للحلاج (3) .
... *واتهمه السخاوي بالقول بوحدة الوجود وأنه من جملة الاتحادية المحضة للقائلين بوحدة الوجود بين الله وخلقه كالحلاج وابن الفارض ، وعاتب ابن قطلوبغا من حسن العقدية .(4) !
... *وذكر البنهاني أنه كان يقول بأن الأولياء ينتقلون إلى مقام كريم يقولون للشئ كن فيكون . (5)
__________
(1) سير أعلام النبلاء 23 / 48 – 49 ورسالة القاري في الرد على القائلين بوحدة الوجود ص 34 .
(2) الزواجر 1/35 .
(3) لسان الميزان 2/384 تفسير البحر المحيط 3/449 .
(4) الضوءاللامع 6/186 و 9/220 – 221 .
(5) جامع كرامات الأولياء 1/32 .(58/7)
... *وذكر السرهندي أنه كان يقول بقدم أرواح الكمل من المشايخ وأن ترتيب الخلفاء كان بحسب أعمارهم . وأعترف أن أكثر كشوفاته تأتي مخالفة لعقدية أهل السنة ولا يتابعها إلا مريض القلب (1)
وقال ابن المقري في أبن عربي " ومن لم يكفره كان كمن لم يكفر اليهود والنصاري " (2) حكاه عنه ابن حجر المكي غير أنه علق على ذلك بقوله " وهذا اعتراض منه على بن عربي وابن الفارض " ثم تسأءل عن الدليل الذي يبرر تكفيره متجاهلاً بذلك ما في الفتوحات والقصوص من مقولات الكفر الصريح في حين يرمي بن تيميه بسلسلة من التهم ولا يكلف نفسه الإتيان بدليل عليها من كتبه ، فأجدر به أن يلحق بطائفة المتعصبين الذين لا يؤخذ منهم جرح ولا تعديل .
افحام المتعصبين
... وهذه الأجابة تخرس ألسنة المتعصبين لأبن عربي ، فأن قالوا من لم يكفر ابن تيميه فهو كافر فقل لهم : هؤلاء كبار الأئمة كالحافظ ابن حجر وابن عبد السلام وابن المقري سراج الدين البلقيني " (3) وأبي حيان قالوا بكفر ابن عربي .
... وأبي بكر محمد بن صالح المعروف بابن الخياط والقاضي شهاب الدين أحمد بن أبي بكر على الناشري وهما مما يقتدي بهما من علماء اليمن " (4)
... فإما أن توافقوهم في ذلك ، وإلا فمن لا يكفره يكون كافراً ، وإما أن تقولوا ليس كافراً فيصير من حكموا بكفره كابن عبد السلام وابن المقري وابن حجر وغيرهم كفاراً .
... وهكذا نلحظ الفرق بين موقف أهل البدع من ابن تيميه وبين موقفهم من ابن عربي ، نري التحامل على ابن تيميه بينما نجد التغاضي المطلق عن ابن عربي الذي شهد علماء عصره وشهدت كتبه بزندقته .
__________
(1) مكتوبات الأمام الرباني السرهندي الفاروقي 264 و 277 و 303 .
(2) الزواجر عن أقتراف الكبائر 2/379 .
(3) الأعلام بقواطع الإسلام للهيتمي 77 .
(4) الرد على القائلين بوحدة الوجود للشيخ على قاري 135 و 138 – 139 .(58/8)
... حتي إننا لنجد السبكي يطعن في ابن تيميه في كتابه " طبقات الشافعية " في حين يسكت عن التحذير من ابن عربي أو على الأقل من كتبه الفصوص والفتوحات المكية التي اتفق الجميع على أن فيها كفراً يفوق كفر اليهود والنصاري ، وقد حكي محقق كتاب سير أعلام النبلاء " أن السبكي مؤاخذات على الذهبي صاغها بأسلوب مقيت ينبئ عن تحامل وحقد وبعد عن الانصاف وجهل أو تجاهل بمعرفة القول الفصل في مواطن الخلاف (1) .
... وهؤلاء المتعصبون إذا قالوا : " إن هذا الكلام مدسوس عليه " فأنهم يقولونه تقليداً لأئمتهم لا عن تحقيق علمي ورجوع إلى اصل مخطوطة كتاب من يدافعون عنه .
ثناء بدر الدين العيني على ابن تيميه
... وقد أثني بدر الدين العيني على ابن تيميه ومواقفه الشجاعة من التتار وأنه كان يحرض الناس على قتالهم حتي دحرهم ، (2) ولهذ كان العيني يجله ويدعو له بالرحمة (3) .
... ويذكر انه كان ينزل إلى الأسواق مع تلاميذه فيمر بالمعروف وينهي عن المنكر بيده ، وأن أهل مشق شكوه إلى السلطان لأنه ذهب لقلع صخرة يعتقدون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قعد عليها فكانوا يعظمونها ويسألون الله عندها ، فأخذ بن تيميه فأساً ونزعها فلما بلغ الامر السلطان أثني عليه لذلك وكان يوقم بنفسه بإزالة المنكرات فيقلب الرقع التي توضع عليها الشطرنج ويمر ومن معه على الخمارات وأماكن الفواحش فيربقوا ويكسروا أونيها (4) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 18/471 .
(2) عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان 4/30 الهيئة المصرية العامة للكتاب .
(3) عقد الجمان 4/223 .
(4) عقد الجمان 4/357 العقود الدرية 288 البداية والنهاية 14/11(58/9)
... وذكر العيني مناظرة ابن تيميه المشهورة مع دجاجلة الرفاعية وأنه عرض عليهم حين زعموا أنهم اصحاب كرامات يدخلون النار فلا يصيبهم شئ منها : عرض أن يدخلها معهم واشترط عليهم أن يغتسل الجميع بالماء الحار والخل وأثبت أنهم يستخدمون بعض الدهون يحتالون بذلك على العامة حتي يظنوا فيهم الولاية ، وأن زعيمهم اعترف لأبن تيميه أن كراماتهم تظهر أمام التتار وأما قدام الشراع فلا (1) .
... وأوضح العيني أن الشكوي ازدادت من ابن تيمية لكثرة ما ينال من ابن عربي حتي سجن بإشارة من المنبجي (2) الذي كان معظماً لأبن عربي . هذا موقف العيني رحمة الله من ابن تيميه فماذا تقولون في ذلك ؟!
... إذن ، فقد بات واضحاً سبب سجن السلطان لأبن تيميه فقد كان وراء المرسوم السلطاني شيخ متعصب ينتصر لأبن عربي وتواطؤ شلة من المتعصبين للحلاج وابن عربي .
الذين اثنوا على ابن تيمية
... وقد شهد العديد من الأئمة المعتبرين بصلاح حالة وقوته في الحق وذبه عن السنة وتفرده عن أقرانه في سعة علمه واجتهاده واقتفائه أثر السلف الصالح حتي قالوا " كان السنة نصب عينيه " ونذكر منهم :
... الشيخ محمد ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي " ت 842 " الذي كتب كتاباً بعنوان " الرد الوافر على من زعم بأن من سمي ابن تيمية " شيخ الإسلام " كافر " أورد فيه شهادات المئات من كبار الائمة في الثناء على ابن تيمية وقرظه : الحافظ ابن حجر والعيني والتفهني والبلقيني " (3)
نص تفريط الحافظ بن حجر للرد الوافر
كما أورده السخاوي
... قال السخاوي في الجواهر والدور في ترجمة الحافظ ابن حجر في معرض سرد تقريظات ابن حجر للكتب ما نصه :
__________
(1) عقد الجمان 473 .
(2) عقد الجمان 4/460 – 461 .
(3) الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية 72 لمرعي الحنبلي .(58/10)
... " ومن ذلك ما كتب في الرد الوافر على من زعم أن ابن تيميه شيخ الإسلام كافر لحافظ الشام ابن ناصر الدين في سنة خمس وثلاثين وحدث به في أواخر السنة التي تليها بالشام بقراءة صاحبنا النجم الهاشم .
... الحمدلله وسلام على عبده الذين أصطفي وقفت على هذا التأليف النافع والمجموع الذي هو للمقاصد التي جمع لأجلها جامع ، فتخفقت سعة إطلاع الإمام الذي صنفه وتضلعه من العلوم النافعة بما عظمه بين العلماء وشرفه .
... وشهرة إمامه الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس ، وتلقيبه بشيخ الإسلام باق إلى الآن على الألسنة الزكية ويستمر غداً كما كان بالأمس ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره أو تجنب الإنصاف مما أكثر غلط من تعاطي ذلك وأكثر عثارة .
... فالله تعالي هو المسؤول أن يقينا شرور أنفسنا وحصائد ألسنتنا بمنه وفضله ، ولو لم يكن من الدليل على إمامة هذا الرجل إلا مانبه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في تاريخه أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لمامات في جنازة الشيخ تقي الدين وأشار إلى أن جنازة الإمام أحمد كانت حافلة جداً شهدها ما بين مئي ألوف ، ولكن لو كان بدمشق من الخلائق نظير من كان ببغداد بل أضعاف ذلك لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته .
... وأيضاً فجميع من كان ببغداد إلا الأقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد زكان أمير بغداد وخليفة الوقت إذ ذاك في غاية المحبة له والتعظيم بخلاف ابن تيميه فكان أمير البلد حين مات غائباً وكان أكثر من في البلد من الفقهاء فتعصبوا عليه حين مات محبوساً بالقلعة ، ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم عليه والتأسف عليه إلا ثلاثة أنفس تأخروا خشية على أنفسهم من العامة .
... ومع حضور هذا الجمع العظيم فلم يكن لذلك باعث إلا اعتقاد إمامته وبركته : لا بجمع سلطان ولا غيره .
... وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أنتم شهود الله في الأرض .(58/11)
... ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً بسبب أشياء أنكروها عليه من الأاصول والفروع وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة ودمشق ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته حكمه بسفك دمه مع الشدة المتعصبين عليه حينئذ من أهل الدولة حتي حبس بالقاهرة ثم بالاسكندرية ،ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وكثرة ورعه وزهده ووصفة بالسخاء والشجاعة وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام والدعاء الى الله تعالى في السر والعلانية فكيف لا ينكر على من أطلق أنه كان كافراَ بل من أطلق على من سماه شيخ الإسلام الكفر . وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك فإنه شيخ شيخ الإسلام بلا ريب والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي ولا يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عناداَ .
وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبري منه ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب فالذي أصاب فيه – وهو الأكثر – يستفاد منه ويترجم عليه بسببه والذي أخطأ فيه – بل هو معذور – لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الأجتهاد أجتمعت فيه حتى كان أشد المتشغبين عليه القائمين في إيصال الشر اليه وهو كمال الدين الزملكاني يشهد له بذلك وكذلك الشيخ صدر الدين ابن الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره .ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم قياماَ على أهل البدع من الروافض والحلولية والأتحادية وتصانيفه في ذلك كثيرة مشتهرة وفتاويه فيهم لا يدخل تحت الحصر فيا قرة أعينهم أذا سمعوا تكفيره ويا سرورهم أذا رأوا من يكفره من أهل العلم فالواجب على من تلبس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشهورة أومن ألسنة من يوثق به من أهل النقل فيفرد من ذلك ما ينكر فيحذر منه على قصد النصح ويثني عليه بفضائله فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء(58/12)
ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب الا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان غاية في الدلالة على عظيم منزلته فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم والتميز في المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم فضلا عن الحنابلة .
فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء الكفر أو على من سماه شيخ الإسلام لا يلتفت اليه ولا يعول في هذا المقام عليه بل يجب ردعه عن ذلك الى أن يراجع الحق ويذعن للصواب "
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وحسبنا الله ونعم الوكيل " (1) انتهي كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله .
وقد أثني الحافظ ابن حجر العسقلاني عليه في الدرر الكامنة 1/154 ودعا له بالرحمة فقال " قال شيخ شيوخنا الحافظ المزي (2) في ترجمة ابن تيمية " كان يستوعب السنن والآثار حفظاَ إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته أو أفتى في الفقه فهو مدرك أبناء جنسه " (3)
وخذه حيث حافظ عليه نص
فهاهو حافظ عليه نص فمابال الأحباش خالفوا موقف الحافظ هنا مع أنهم حاملو راية " خذه حيث حافظ عليه نص "؟
وما زال الحافظ ابن حجر يحتج بأقواله بل يسلم له في نقده في الحديث كما في رواية ( كان الله ولا مكان ) (4) بل أعطاه لقب (حافظ) فقد ذكر في ( التلخيص الحبير 3/109 ) حديث ( الفقر فخري وبه أفتخر ) ثم قال " وهذا الحديث سئل عنه الحافظ ابن تيمية فقال إنه كذب لا يعرف في شيء من كتب المسلمين المروية "
ووصفه الشيخ ابن عابدين الحنفي صاحب الحاشية المشهورة بصفة ( الحافظ ) (5)
__________
(1) مخطوطة موجوده في مكتبة طوبقبو بتركيا رقم المخطوطة 2991 .
(2) قال فيه السبكي " حامل راية أهل السنة والجماعة " ( طبقات السبكي 10/395 محققة ).
(3) الدرر الكامنة 1 : 156 و 157 .
(4) فتح الباري 6/289 .
(5) رد المحتار على الدر المختار 2/257 ط : دار إحياء التراث العربي .(58/13)
الشيخ ملا على القاري (1) الذي يذب عنه وعن تلميذه ابن القيم ويقول " ومن طالع كتاب مدارج السالكين تبين له أنهما من أكابر أهل السنة والجماهة ومن أولياء هذه الأمة " (2)
وشيخكم محمد رمضان البوطي لا يكاد يذكره مره الا قال " رحمه الله تعالى " (3)
الحافظ عمر بن على البزار له كتاب الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية ذكر فيه فضائلة ومناقبه ومنذلته عند العلماء.
محمد ابن عبد البر السبكي القائل " والله ما يبغض ابن تيمية الا جاهل أو صاحب هوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به " (4).
ابن الزملكاني الذي اوذي بسبب انتمائه لابن تيمية وكان ذلك بإشارة من المنبجي (5) المنتصر لعقيدة ابن عربي في وحدة الوجود وأدى إنكاره الى النقمة عليه والوشاية به ذكره الحافظ (6)
وكان على أعدئه أن ينصفوه لهذا الموقف الشجاع وهم الذين يزعمون أنهم أعداء للقائلين بوحدة الوجود لكن أعداءه لا يعرفون الانصاف ولا العدل .
وأثني عليه ابن سيد الناس .
وتاج الدين الفزارى شيخ الشافعية (7)
وابن دقيق العيد الذي قال لابن تيمية لما اجتمع به " ما أظن بقي يخلق مثلك " ذكره الحافظان ابن كثير وأبن رجب (8)
وأنصفه ابن كثير: وبين عقيدته وعلمه وكيد الحاسدين له وقد زعم الحوت في رسائله السبكية أن الأرموي ناظر ابن تيمية وأفحمه مع أن أبن كثير كذب ذلك وأكد أن ساقية الأرموي لاطمت بحراَ " (9)
__________
(1) وصفة الكوثري بأنه " ناصر السنة " ( تبديد الظلام 100 )
(2) مرقات المفاتيح 8 : 251 – 252 .
(3) السلفية مرحلة زمنية مباركة ص : 155 ط : دار الفكر .
(4) الرد الوافر 95 .
(5) البداية والنهاية 14/50 .
(6) الدرر الكامنة 1/147 .
(7) البداية والنهاية 13: 303 .
(8) البداية والنهاية 14 : 27 الذيل على طبقات الحنابلة 2/392 .
(9) البداية والنهاية 14 : 36 ووصف السبكي الأرموي بأن خطه في غاية الرداءة وكان رجلا ساذجاَ " ( طبقات السبكي 9/163 محققة ).(58/14)
وأنهم لما عقدوا له مجلساَ لمناقشة رسالته الحمودية أجابهم بما أسكتهم (1) وكتب لهم عقيدته الواسطية وأمهلهم ثلاث سنوات أن يراجعوها ويجدوا فيها ما يخالف عقيدة السلف .
وشرف الدين المقدسي الذي كان يفتخر بابن تيمية ويفرح به (2)
وابن منجا التنوخي .
والشيخ أحمد ولي الله الدهلوي كما في كتابه التفهيمات الالهية.
والشيخ محمد أنور الكمشيري صاحب فيض الباري الذي غالبا ما يصفه بالحافظ (3) وشيخ الإسلام (4)
وشيخ الحزاميين الوسطي الذي قال " فوالله ثم والله لم ير تحت السماء مثل شيخكم ابن تيمية علماَ وعملا وحالا وخلقاَ واتباعاَ وكرماَ وقياماَ في حق الله تعالى عند أنتهاك حرماته " (5)
وأثني عليه الشيخ شهاب الدين الأذرعي وذكر شيئاَ من كراماته قاله الحافظ ابن حجر (6)
وابن طولون الحنفي (7)
وابن عبد الهادي وله كتاب العقود الدرية في مناقب ابن تيمية رد فيه على السبكي وكشف ضعفه في الحديث وأعتماده في رده على ابن تيمية حول شرعية شد الرحال الى القبور على الروايات الضعيفة الموضوعة
وبالغ الحافظ العلائي في الثناء عليه الى أن قال " اللهم متعنا بعلومه الفاخرة وأنفعنا به في الدنيا والآخرة " (8)
والحافظ عبد الرحمن ابن رجب الذي أثني عليه كثيراَ وقال " هو الامام الفقيه المجتهد المحدث الحافظ المفسر الزاهد تقي الدين أبو العباس شيخ الإسلام وعلم الأعلام وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره ... كان رحمه الله فريد دهره في فهم القرآن ومعرفة حقائق الإيمان " (9)
والحافظ العراقي .
__________
(1) البداية والنهاية 14 : 40 .
(2) البداية والنهاية 14 : 341 .
(3) إكفار الملحدين 23 و 46 و 75 و 90 و 103 و 113 .
(4) إكفار الملحدين 113 .
(5) البداية والنهاية لابن كثير 14/137 .
(6) الدرر الكامنة 1 : 160 .
(7) القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية 2/583 .
(8) الدرر الكامنة 1:159 .
(9) الذيل على طبقات الحنابلة 2/387 – 392 .(58/15)
وعمر بن سعد الله ابن نجيح .
وحافظ زمامه الشيخ أبو الحجاج المزي .
وأبو بكر الرحبي .
وفضل الله العمري .
والشيخ قاسم بن طوبغا الحنفي .
وشيخ الإسلام عمر بن سلان البلقيني مجتهد عصره.
وامام الحنفية الشيخ بدر الدين " محمود بن أحمد " العيني الذي قال " فمن قال ابن تيميه كافر : فهو الكافر حقاً ، ومن نسبه إلي الزندقة فهو نديق ، وكيف ذلك ، وقد سارت تصانيفه في الآفاق ، وليس فيها شئ مما يدل علي الزيغ والشقاق " (1)
الحافظ السخاوي الذي لم يزل يحتج ويعتممده في ترجيح درجة الاحاديث " وناهيك بابن تيميه إطلاعاً وحفظاً أقر له بذلك المخالف.
شمس الدين الذهبي : وما رأيت أشد استحضاراً للمتون وعزوها منه كأن السنة بين عينيه وعلي طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحه .
... ووصفة العلامه فتح الدين ابن سيد الناس مصنف السيرة النبوية المشهورة فقال " وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً ثم قال السخاوي بعد هذا النقل " نعم . قد نسبت إليه مسائل أنكرت عليه مقرره عند أهل العلم ، والسعيد من عدت غلطاته رحمة الله وإياناً " (2)
... وقد أمتلاء كتابه " المقاصد الحسنة " بالاحتجاج بابن تيميه في نقده للاحاديث الروايات تصحيحاً وتضعيفاً ونحيلك إلي جملة من ذه الأحاديث : حديث رقم " 45 " و " 17 " و " 233 " و " 384 " و " 609 " و " 838 " و 865 " و 856 " و 883 " و " 714 " و " 1356 " و "1126 " ولم يزل يحتج بتصحيحه وتضعيفه لروايات الحديث فيقول مثلاً " قال ابن تيميه : هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم . (3)
تعظيم الزبيدي لأبن تيميه
__________
(1) الرد الوافر 245 .
(2) الفتاوي الحديثية عند حديث " كنت نبياَ وآدم بين الماء والطين ".
(3) أنظر الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ص 200 و 204 تحقيق الصباغ ط : الوراق – الرياض(58/16)
... وما زال الزبيدي يعظم ابن تيميه وتلميذه ابن القيم كقوله " والله يغفر لابن القيم " " 1 / 39 " ويكثر من الاحتجاج باقوال بن القيم " 1 / 67 " و 132 و 406 و 413 و 420 و 2 / 270 " وبأقوال شيخه ابن تيميه 1 / 170 و 176 " ويصف بن تيميه ب " الحافظ " " 1 / 400 " " 2 / 106 " و الإمام " 1 / 170 " بل وبشيخ الإسلام " 4 / 537 و 3 / 482 " فمإذا يقول الاحباش الذين يحتجون بقول العلاء البخاري " من قال ابن تيميه شيخ الإسلام فهو كافر (1) هل يحكمون بكفر الزبيدي ؟
... ولئن كان تكفير العلاء البخاري حجة فليوافقوه في تكفيره لأبن عربي كما ذكر صاحب براءة الأشعريين " 2 / 65 – 66 " !! وابن طولون في " القلائد الجوهرية 2 / 538 " وكتب في الرد عليه كتاب " فاضحة الملحدين "
... وهذا العلاء كان طعاناً بالنووي ويحرم النظر في كتبه فإن كانت شهادته عندكم معتبره فخذوا بحكمة في النووي وابن عربي .
... ويحتج الزبيدي هو والحافظ العراقي بتصحيحات وتضعيفات ابن تيميه في الحديث كما في شرح الأحياء " 1 / 449 " فقد قال عن حديث " الشيخ في قومه كالنبي في أمته " قال العراقي : وسئل عنه الشيخ تقي الدين ابن تيميه في جملة أحاديث فأجاب بأنه لا أصل له .
... ولقد قرأت كتابه " الإتحاف كله " وعرفت الزبيدي رجلاً دث الخلق موقراً لأهل العلم ولو كان مخالفاً لهم في بعض المسائل .
السيوطي يقل ثناء الزملكاني علي ابن تيميه
__________
(1) يحتج جميل حليم بما ذكره صاحب كتاب " براءة الأشعريين من عقائد المخالفين 2/65 – 66 " كدليل على كفر من يقول بأن ابن تيمية شيخ الإسلام وقد كتب الشيخ ناصر الدين الدمشقي كتابا في الرد على مقولة العلاء البخاري بعنوان " الرد الوافر على من زعم أن ابن تيمية كافر " .(58/17)
... والسيوطي يصف ابن تيميه " شيخ الأسلام أحد المجتهدين ( تقي الدين ) وتلميذه ب " العلامه شمس الدين ابن القيم " (1)
... ونقل عن الزملكاني ثناءه علي ابن تيميه أنه " سيدنا وشيخنا الإمام العالم الأوحد الحافظ المجتهد الزاهد العابد القدوة إمام ألأئمة قدوة الأمة علامة العلماء وارث الأنبياء أخر المجتهدين وأحد علماء الدين بركة الأسلام حجة العلام برهان المتكلمين قامع المبتدعين ذي العلوم الرفيعة والفنون البديعة ، محي السنة ، ومن عظمت به الله علينا المنه ، وقامت به علي أعدائه الحجة ، وايتبانت ببركته وهديه المحجة تقي الدين بن تيميه : أعلي الله منارة وشيد الدين أركانه "
ثم أنشد يقول :
مإذا يقول الواصفون له ... ... ... وصفاته جلت عن الحصر .
هو حجة لله قاهرة ... ... ... وهو بيننا أعجوبة الدهر .
هو آية في الخلق ظاهرة ... ... وأنوره أربت علي الفجر .
... قال السيوطي : نقلت هذه الترجمة من خط العلامه فريد دهره ووحيد عصره الشيخ كمال الدين الزملكاني .
وكان يقول " لم ير منذ خمسمائه سنة أحفظ منه " (2)
وكان يدعو لأبن تيميه (3) ويحتج كثيراً بأقوال تلميذه ابن القيم ويصفه بالعلامه شمس الدين . (4)
وينقل ثناء البرزالي عليه .
__________
(1) صون المنطق 201 الحاوي للفتاوي 1/123 و 221 و 2/136 و 341 .
(2) الأشباه والنظائر النحوية 3/681 أعين العصر وإعوان النصر لصلاح الصفدي 1/71 الذيل على طبقات الحنفية 2/392 – 393 .
(3) صون المنطق 201
(4) صون المنطق 201 الحاوي للفتاوي 1/123 و 221 و 2/136 و 341 .(58/18)
... قال السيوطي " ونقلت من علم الدين البرزالي : قال : قال سيدنا شيخنا الإمام العالم العلامة القدوة ، الحافظ ، الزاهد ، العابد ، الورع ، إمام الأئمة ، حبر الأمة ، مفتي الفرق ، علامة الهدي ، ترجمان القرآن ، حسب الزمان ، عمدة الحفاظ ، فارس المعاني والألفاظ ، زكي الشريعة والفنون البديعة ، ناصر السنة ، قامع البدعة ، تقي الدين ابن تيميه الحراني ، أدام الله بركته ورفع درجته " الأشياء والنظائر النحوية 3 / 681 – 683 "
الذين لقبوا ابن تيميه " شيخ الإسلام "
أما عن استحقاق ابن تيميه للقب شيخ الإسلام :
فأسال الحفاظ : السيوطي وابن رجب وأسأل الشعراني لمإذا لقبوه بهذا اللقب ، فقد جاء في كلام السيوطي عن بن تيميه " شيخ الإسلام . الحافظ الفقية المجتهد المفسر البارع . شيخ الأسلام نادرة العصر ، علم الزهاد " (1)
وأسأل الزبيدي صاحب تاج العروس واتحاف السادة : لمإذا وصفه في كتابه " إتحاف السادة " بشيخ الإسلام وأثني عليه وأحتج بأقواله مرات عديده في اتحافه ثم بعد أن وصفه بشيخ الإسلا مونقل له كلاماً عظيماً في أصول القرآن قال " انتهي ملخصاً من كلام ابن تيميه وهو كلام نفيس جداً " (2)
بل أسأل التاج السبكي الذي كان يفخر بأن الحافظ أبا الحجاج المزي لم يكتب لفظ شيخ السلام إلا أثنين : لأبيه تقي الدين السبكي ولتقي الدين بن تيميه . (3)
واعترف الحافظ العلائي بأن المزي لم يكن يثبت لفظ " شيخ الإسلام " إلا للتقي السبكي ولأبن تيميه " (4)
__________
(1) طبقات الحافظ 516 ترجمة رقم ( 1144 ) ومقدمة كتاب السيوطي صون المنطق والكلام ص 1 والأشباه والنظائر للسيوطي 3/683
(2) أتحاف السادة المتقين 4/537 .
(3) طبقات الشافعية 10/195 الذيل على طبقات الحنابلة 2/387 الأشباه والنظائر 3/681 – 683 .
(4) نقد الطالب لزغل المناصب 54 للعلائي .(58/19)
والشيخ ملا علي القارئ الحنفي الذي كان كثير الذب عن ابي تيميه وتلميذه ابن القيم كما في شرح الشمائل ووصفهما بأنهما شيخا الإسلام ومن أولياء هذه الأمة وأكابرها .
والشعراني " عبد الوهاب " الذي كان يصفه " شيخ الإسلام " (1)
والشيخ شمس الدين محمد بن صفي الدين الحنفي الذي قال " إن لم يكن ابن تيميه شيخ الإسلام فمن ؟ وقالها قاضي القضاة ابن الحريري الحنفي الذي لقي الأذي بسبب وقفته المنصفة تجاهه (2) .
وابن طولون الذي يصفه ب " التقي شيخ الإسلام " ويشهد له بأنه " علامة زمانه " (3) فهؤلاء أثنو عليه بعد موته حتماً وفيه رد علي أدعاء الحبشي أن ذاك الثناء كان أول الأمر .
ومحمد أنور الكشميري الحنفي صاحب فيض الباري شرح صحيح البخاري الذي يثني عليه الكوثري وأبو غدة الثناء البالغ " (4)
الذهبي يصفه بشيخ الإسلام :
... ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الذهبي من الثناء علي بن تيميه ووصفه بشيخ الإسلام (5)
... وقال في كتاب دول الإسلام " وفي ذي القعدة توفي بالقلعة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيميه الحراني ، عن سبع وستين وأشهر ، وشيعه خلق أقل ما حزروا بستين ألفاً ، ولم يخلف أقاربه بعده من يقاربه في العلم والفضل " (6)
... وأنتم تبطلون كلام الحافظ بن حجر الذي يثبت اختلاط السبيعي وترجحون عليه قول الذهبي في نفي الاختلاط عنه : فما لكم تتجاهلون ثناءه علي بن تيميه ووصفه بشيخ الإسلام ؟
__________
(1) لطائف المنن والأخلاق في التحدث بنعمة الله على الأطلاق 556 .
(2) الدرر الكامنة 1/147 البداية والنهاية لابن كثير 14/142 .
(3) القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية 2/452 و 458 .
(4) إكفار الملحدين 113 نشر المجلس العلمي في كراتشي وأنظر التصريح بما تواتر في نزول المسيح 12 .
(5) سير أعلام النبلاء 7/373 و 11/350 و 21/156 – 21/161 .
(6) دول الإسلام للذهبي 237 ط : الهيئة المصرية العامة للكتاب 1974 .(58/20)
موقف الرفاعية من ابن تيميه
... وبالرغم من نقد ابن تيميه للرفاعية إلا ان العديد من كبارهم كانوا يثنون عليه ومع هذا لم يخطر ببال واحد منهم أن يتهمه بالكفر .
... *فمع تحامل الصيادي " محمد أبو الهدي " عليه إلا أنه كان يدعو له قائلاً " نسأل الله أن يرحمه ويعفو عنه " (1) وكذلك الوتري (2)
... *وكان الشيخ صالح المنيعي الرفاعي يصفه ب " العالم المبارك " مع معاداته له (3) وهذا يدل علي أنه لم يكن عندهم كافراً ومع كون الحبشي رفاعي الطريقة فإنه لا يبالي برأي أعيان طريقته في ابن تيميه . فأن كنا عند الحبشي ضالين لأمتناعنا عن تكفيره فلمإذا لا يحكم بكفر الأئمة الآفاضل الذين أثنوا علي بن تيميه أولاً ، وبكفر الشعراني الذي وصفه ب " شيخ الإسلام " ثم بكفر رفقائه في الطريقة الرفاعية التي ينتمي إليها لثنائهم عليه ، ثم يحكم علينا بعد 1ذلك بالكفر ! .
... فلست أعتقد أن يخفي حال ابن تيميه علي هؤلاء جميعاً ، ثم لا يتفطن لذلك إلا الحبشي وأتباعه المشتهرون بتكفير أغلب الناس حتي ضرب بهم المثل ولقبهم الآخرون ب " فرقة المكفرة"(4)
الجواب الفصل
... وإذا كان الحبشي يحتج بتزكية عبد الوهاب الشعراني لأبن عربي وتبرئته من الكفر (5) فلمإذا لا يقبل في ابن تيميه وهو الذي كان إذا ذكره يلقبه بشيخ الإسلام (6) والفرق أن أكثر الذين أثنوا علي بن تيميه اتفقوا علي كفر ابن عربي وعلي التحذير من كتبه الفاسدة
__________
(1) قلادة الجواهر في سيرة الرفاعي وأتباعة الأكابر لمحمد بن حسن وادي الصيادي 208 و 215 و 217 .
(2) روضة الناظرين وخلاصة مناقب الصالحين للوتري 141 .
(3) روضة الناظرين 141
(4) الموسوعة الحركية 259 للأستاذ فتحي يكن .
(5) الدليل القويم 152 .
(6) لطائف المنن والأخلاق 556 .(58/21)
... غير أن الحبشي لا يقيم لشهاداتهم وزناً ويتمسك بشهادة الشعراني : فهلا تمسك بشهادة الشعراني في ابن تيميه ؟ هذا جواب ملزم له ولأتباعه لا يسهل لهم الأجابة عليه .
... وإذا لم يقل أفاضل العلماء بكفره بل أثنوا عليه وعظموه وأنصفوه فما الذي يجعلنا نبطل شهادتهم كلهم ونستبدلها بشهادة حبشي شهد أن ألفاظ القرآن من إنشاء جبريل لا من كلام الله ، وان القرآن ليس باللغة العربية وأباح خروج المرأة متعطرة متزينة متبرجة وأباح الربا ومنع الزكاة وأباح صلاة المتلبس بالنجس والتحايل علي الله وأجاز الأستغاثه بالموتي دون الله ، واستباح الكذب واستعان بالباطنيه والقرامطه كيف تؤخذ شهادة رجل كهذا وترد شهادات العدول الأفذاذ ؟
... نعم .روي عن العلائي تضليل ابن تيميه ولعله حمله علي ذلك تعصبه عفا الله عنه (1) ومثال التعصب قوله بأن رئيساً أهل السنة هما الماتريدي والأشعري اللذين لا يعارضهما إلا ضال مبتدع(2)
... وهذا عجيب منه : فإن إتباع كل من الفريقين لم يزل معترضاً علي الآخر ، حتي حكم الماتريدية بضلال الأشاعرة في بعض المسائل بل كفروهم كما في مسألة خلق الإيمان . فالمذهبان ليسا مذهبا واحداً وأحدهما يري الآخر ضالاً . وكلاهما يتفقان علي تقديم الرأي علي النص ولهذا تضاربت أراؤهم واختلفوا .
... وكذلك مر بالنسبة للسبكي والحصني والهيتمي فهؤلاء أشاعرة في العقيدة مدافعون عن المذاهب ، دعاة إلي التأويل في أسماء الله وصفاته يحكمون علي مثبت الصفات بخبث الاعتقاد وتشبيه الله بخلقه فتنه له عن إثبات الصفات ، ودفعاً به إلي التأويل المحفوف بالمخاطر .
__________
(1) وروي عنه عكس ذلك من الثناء عليه .
(2) نقد الطالب لزغل المناصب 36 .(58/22)
... وليس من النصاف جعل الخصم هو الحكم وتحكيم من تخاصموا مع ابن تميميه في العقائد فإنهم علي مذهب جديد أسمه المذهب الأشعري أو الماتريدي لم يعرفه الأشعري نفسه الذي تاب من بدعة الاعتزال وصار يحيل الناس إلي معتقد أحمد بن حنبل ومجرد تعصب المنتمين لمذهبهم سبب كاف للطعن في المخالف له ، كما رأيت من العلائي .
... ولذلك قال بن تيميه لخصومه الذين عقدوا له مجلس تحقيق : من الذي يحكم بيننا فقالوا : نحن الحكم فيك فقال : أنتم خصمي فكيف تكونون الحكم فيما بيني وبينكم .
قاعدة في جرح العلماء لبعضهم البعض
... قال الألوسي " فإن قلت : قد تبين أن من العلماء من هو قادح في الشيخ ابن تيميه وإن كانوا أقل من الفرقة الراضية المرضية ، إلا أنه قد عرف من القاعدة التي عليها التعويل : أن الجرح مقدم علي التعديل ، فما الجواب المميز للخطأ عن الصواب "
... والجواب : قال العلامة ابن عابدين في محشي " الدر المختار " في كتابه " سل الحسام " (1) " إن هذه القاعدة " الجرح مقدم علي التعديل " إنما هي في غير من اشتهرت عدالته ، وفي غير علم أن التكلم فيه ناشئ عن عداوة أو جهالة وغباؤه ، فقد قال الحافظ الباجي .
... الصواب عندنا أن من كثر مادحوه ومزكوه ، وندر جارحه ، وكانت هناك قرينة دالة علي سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره فأنا لا نلتفت إلي الجرح فيه ونعمل فيه بالعدالة ، وإلا : فلو فتحنا هذا الباب وأخذنا تقديم الجرح علي إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة ، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون .
... وعن مالك بن دينار " يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شئ إلا في قول بعضهم في بعض " (2) وعن ابن عباس " اسمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم علي بعض فوالذي نفسي بيدي هو أشد تغايراً من التيوس علي زوربها " (3)
__________
(1) لعله نقلها عن السبكي .
(2) طبقات السبكي محقق 2/9 غير محقق 1/188 .
(3) أتحاف السادة المتقين 6/362 .(58/23)
... قال " ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح : حال العقائد وخلافتها بالنسبة إلي الجارح والمجروح ، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه لذلك ، وإليه شار الرافعي بقوله " وينبغي أن يكون المزكون براء من الشحناء والعصبية في المذهب في المذهب خوفاً من أن يحملهم ذلك علي جرح عدل أو تزكية فاسق ، وقد وقع هذا لكثير من الأئمة جرحوا بناء علي معتقدهم المخطئون والمجروح مصيب "
... وقال الذهبي والحافظ بن حجر العسقلاني وأبو نعيم الأصفهاني " إن قول الآقران بعضهم في بعض غير مقبول ، لا سيما إذا لاح أنه لعداوة أو مذهب إذ الحسد لا ينجو منه إلا من عصمه الله تعالي . قال الذهبي " وما علمت عصراً سلم أهله من ذلك "
... وقال عند ترجمة الفضيل " إذا كان مثل كبراء السابقين قد تكلم فيهم الروافض والخوارج ومثل الفضيل بن عياض يتكلم فيه ، فمن الذي يسلم من ألسنة الناس ؟ ولكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله لم يضره ما قيل فيه ، وإنما الكلام في العلماء يفتقر إلي وزن بالعدل والورع " (1)
... وقال القنوجي في هداية السائل إلي أدلة المسائل " قد فتح باب التقليد والتمذهب عدوات وتعصبات قل من سلم منها إلا من عصمه الله " (2)
... وقال الإمام أحمد " كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتي يبين ذلك بأمر لا يحتمل غير جرحه " (3)
... وقال ابن جرير الطبري " لو كان كل من أدعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما أدعي به ، وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك للزم ترك أكثر محدثي الأمصار ، لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلي ما يرغب به عنه ومن ثبتت عدالته لم يبل فيه الجرح ، وما تسقط العدالة بالظن " (4)
__________
(1) سير أعلام النبلاء 8/448 .
(2) ميزان الأعتدال 1/111 سير أعلام النبلاء 5/399 وأنظر كلام الصيادي في ذلك ( قلادة الجوأهر 207 ) .
(3) تهذيب التهذيب ص 428 .
(4) هدي الساري ص 428 .(58/24)
... ولنمض بعد هذه القواعد المهمة مع بعض خصوم بن تيميه .
عصور التعصب والمذهبية
... وقد اتسم عصر بن تيميه بالتحيز الفكري والغلو الصوفي والتعصب الأشعري " فكل له إمام وفي العقيدة " (1) وفي كل مدينة أربعة قضاة : قاض يقضي حسب المذهب ، وإمام يؤم حسب المذهب .
... قال في مقدمة سير أعلام النبلاء للذهبي " وكانت بلاد الشام تشهد نزاعاً مذهبياً وعقائدياً حاداً ، كان الحكام المماليك يتدخلون فيه فيكثير من الأحيان فيناصرون فئة علي أخري ، وكان الأيوبيون قبل ذلك قد عنوا بنشر عقيدة الأشعري وأعتبروها العقيدة الحقة الت ييجب أتباعها وكان صلاح الدين الأيوبي رحمة الله أشعرياً متعصباً كما هو معروف من سيرته ، فلذلك أصبحت للأشاعرة قوة عظيمة في مصر والشام " (2)
... وكل هذا يؤكد أنه من الأجحاف أن تكون محاكمة ابت تيميه بيد خصومه ، وأن العصبية للمذهب وحسد العلماء المعاصرين كان الدافع وراء الحملات عليه عفا الله عنهم جميعاً .
موقف الحصني من ابن تيميه
... واحتج الحبشي بموقف تقي الدين الحصني الشدسد العادء من ابن تيميه .
... *ويكفي في بطلان هذا الاحتجاج بشهادة كثيرين في الحصني كالحافظ بن حج ر وابن قاضي شهبه والقريزي والسخاوي أنه كان شديد التعصب (3) يعمي عن الحق ويودي إلي ظلم الآخرين .
... وكان الحصني يصرح بكفر ابن تيميه فأهانة القضاة والحنابلة وأهالي دمشق إهانات كثيرة واحتقروه (4) .
__________
(1) تاريخ المذهب الإسلامية 642 محمد أبو زهرة .
(2) سير أعلام النبلاء 1/13 .
(3) الضوء اللأمع 6/83 أنباء الغمر بأنباء العمر 8/110 - 111 طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 4/98 الضوء اللأمع 6/83 .
(4) الرد الوافر 261 الضوء اللأمع 1/145 البدر الطالع 1/28 .(58/25)
... ونرى الإمام السخاوي ينقل عن الإمام المقريزي شدة عصبية الحصني وغلوه تجاه ابن تيميه بل وتجاه الحنابلة بشكل عام فيقول وذكر المقريزي في عقوده أن الحصني كان شديد التعصب للأشاعرة منحرفاً عن الحنابلة إنحرافاً يخرج منه عن الحد وتفحش في ابن تيميه وتجهر بتكفيره من غير احتشام ، بل يصرح بذلك في الجوامع والمجامع ، بحيث تلقي ذلك عنه أتباعه ، واقتدوا به جرياً علي عادة أهل زماننا في تقليد من اعتقدوه ، وسيعرضان جميعاً علي الله الذي يعلم المفسد من المصلح ، ولم يزل علي ذلك حتي مات عفا الله عنه " (1)
... وذكر السخاوي أيضاً أن الشيخ إبراهيم بن محمد الطرابلسي اجتمع بالحصني وقال له " لعلك التقي الحصني ثم سأله عن شيوخه فسماهم فقالله إن شيوخك الذين سميتهم عبيد ابن تيميه أو عبيد من أخذ عنه ، فما بالك تحط عليه أنت ؟! فما وسع الحصني إلا أن أخذ نعله وانصرف ولم يجسر يرد عليه " (2) انتهي قول السخاوي .
... فهذا الموقف من الحصني دليل علي الشذوذ والتعصب لا سيماأن عامة أهل العلم لم يعرف عنهم مثل هذا الموقف ولذلك كان كلام المقريزي السخاوي مشعران بتوبيخه .
... وقد نقل الحبشي من كلام الحصني (3) أنه " بلغه عن شخص أنه نبش قبر بن تيميه فوجد علي صدره ثعباناً مخيف المنظر . (4)
... وهذا الذي بلغه عن مجهول " ولعله من مكاشفي الصوفية " لو صح لكان كرامة لأبن تيميه فلعل ذلك الثعبان يكون من جنود الله يحميه به من أمثال هذا الحاقد الذي يحمله حقده علي نبش قبور أعدائه ، ونبشه للقبر يجعله مستحقاً مستحقاً للعنة لما جاء عن عائشة " أن النبي صلي الله عليه وسلم لعن المختفي والمختفية " (5) أي نباش القبور .
__________
(1) الضوء اللأمع 6/83 – 84 .
(2) الضوء اللأمع للسخاوي 1/145 البدر الطالع للشوكاني 1/30 .
(3) في كتابه دفع شبه من شبه وتمرد 88 .
(4) المقالات السنية 77 .
(5) رواه البيهقي في السنن 8/270 بسند صحيح ( الصحيحة 2148 ).(58/26)
... والمتأمل في كتاب الحبشي المذكور يجد العديد من الخرافات والمبالغات وكثرة محادثة رسول الله والاستغاثة به عند قبره فالحصني " حبشي المنهج "
موقف أبي حيان من ابن عربي
... وذكر الحبشي أن السبكي نقل عن أبي حيان المعاصر لأبن تيميه أه أطلع علي رسالة ابن تيميه العرشية فلما قرأها زال يلعنه حتي مات لما رأي فيها من الكفر (1) زعموا أنه قال فيها إن الله أخلي لمحمد صلي الله عليه وسلم مكاناً علي عرشه ليجلسه عليه .
... وهذا جرح مبهم فما الذي قاله ليستحق عليه اللعن فليعرضه حتي ننظر فيه أم أنكم مقلدون حتي في اللعن المطلق .
... أين هذه الرسالة المجهولة التي لا يبدو أن كبار الأئمة يعرفون عنها شيئاً .
... وقد كان السبكي بحاجة ماسة إلي ما يثبت موقفه من ابن تيميه فلمإذا لم يحك ما في فحواها؟
... ولمإذا لم يتكلم عنها العلماء عصره حتي يثبتوا فيها إنحراف ابن تيميه ؟
... وكيف مع ذلك يضرب عنها امراء النقد صحيحاً ، فيبالغوا في الثناء علي ابن تيميه كالسيوطي والمزي والذهبي وابن حجر العسقلاني وابن رجب وابن دقيق العيد ، والحافظ البزار وبدر الدين وملا علي قاري وغيرهم ؟
... وتقديم شهادة لغوي أشعري متعصب علي جملة من الحفاظ هو عين التجني .
الصوفية يدعون أن العرش مملوء من رسول الله .
... *فإن كان صاحب هذا الكلام – علي افترض صحته عن ابن تيميه يستحق صاحبه به اللعن فإليكم ما حكاه السيوطي (2) عن أبي العباس الطنحي تلميذ شيخكم أحمد الرفاعي ، وفيها أن الشيخ عبد الرحيم بقنا قال له " هب إلي بيت المقدس لتعرف رسول الله هناك . قال : فحين وضعت رجلي وإذا بالسماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلي الله عليه وسلم .
... فالعرش مملوء بالنبي صلي الله عليه وسلم وليس جزءاً منه فقط ؟!
هل يعني ذلك جواز لعن ابن فورك والخطيب
__________
(1) الدليل القويم 39 .
(2) الحاوي للفتاوي 2/260 و 265 .(58/27)
... فإن كان ابن تيميه يستحق اللعن لمجرد روايتها فقد رواها الخطيب في تاريخه الذي أخذتم منه رواية تبرط الشافعي بقبر أبي حنيفة وتمسكتم بها تعصباً منكم وتحيزاً . فقد ذكر الخطيب رواية " الكرسي الذي يجلس عليه الرب عز وجل ، وما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع وإن له أطيطاً كأطيط الرجل الجديد " قال الخطيب " قال أبو بكر المروذي قال لي أبو علي الحسين بن شبيب قال لي أبو بكر بن العابد – حين قدمنا بغداد – أخرج ذلك الحديث الذي كتبناه عن أبي حمزة فكتبه أبو بكر بن سلم بخطه وسمعناه جميعاً .
... وقال أبو بكر بن سلم " إن الموضع الذي يفضل لمحمد صلي الله عليه وسلم ليجلسه عليه ، قال أبو بكر الصيدلاني : من رد هذا فإنما أراد الطعن علي أبي بكر المروذي وعلي أبي بكر بن سلم العابد " تاريخ بغداد 8 / 52 "
... فهل تلعنون الخطيب البغدادي لهذه الرواية التي لا يعقب عليها بشئ بل يحكي ما يفيد الزجر علي من يطعن في صحتها !
... وهل تلعنون ابن فورك وهو الذي روي الحديث الباطل الذي تتهمون ابن تيميه بروايته وهو " إن الله ملأ العرش حتي ان له إطيطاً كأطيط الرجل الجديد قائلاً ووضع أحدهما علي الاخري ، قال ووضع حماد ساقه علي ركبته اليسري "
... ثم حاول أن يوجد له تأويلاً علي عادته في سياقة الروايات الباطئة وتأويلها " فقال " يحتمل أن يكون المراد ملأة عظمة ورفعة " (1)
... وبالجملة فالرسالة العرشية التي بين أيدينا ليس فيها ما يزعمون ؟ بيد أنهم يصرون علي أن له رسالة عرشية أخري غير هذه المتداولة أو أن هذه الرسالة قد تم حذف شئ منها ، هكذا ادعاء لا أساس له ، فليبرزوا لنا الأصل المخطوط للرسالة إن كانوا صادقين .
... وعجباً لهؤلاء أن يقولوا عن كتب خصومهم " حذف منها هذا الكفر ، بينما يقولون في كتب أحبابهم من أهل الحلول والاتحاد كابن عربي " دس فيها هذا الكفر "فتأمل التحيز والتعصب واتباع الهوي .
__________
(1) مشكل الحديث وبيانه 341 .(58/28)
... ثم أن الحافظ ابن الحجر صرح بأن الأشكال بين ابي حيان وابن تيميه إنما وقع حول قضية تتعلق بالنحو فقد دار جدال بينهما في النحو فخطأ ابن تيميه سيبويه في مسائل فلما عارضه أبو حيان لذلك قال له ابن تيميه " لم يكن سبيويه نبياً معصوماً "
... قال ابن حجر (1) فأعتبر أبو حيان هذه الكلمة ذنباً لا يغتفر وكان هذا سبب مقاطعته إياه .
اختبار الصدق
... ولئن كانت شهادة أبي حيان معتبرة عند الحبشي إلي هذا الحد : فليأخذ بشهادته في ابن العربي بأنه حلولي فاجر بوحدة الوجود ؟!
... فقد قال أبو حيان في قوله تعالي " لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم " " ومن بعض اعتقادات النصاري استنبط من تسر بل الإسلام ظاهراً وانتمي إلي الصوفية : " استنبط " حلول الله في الصور الجميلة .
... ومن ذهب من ملاحدتهم إلي القول بالاتحاد والوحدة كالحلاج والشوزي وابن عربي المقيم بدمشق وابن فارض والمعلعون العفيف التلمساني 00 قال " وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدين الله تعالي وليحذر المسلمون منهم " (2) انتهي .
... فلمإذا يميل الحبشي إلي موقف أبي حيان من ابن تيميه ولا يميل إلي موقفه من ابن عربي ؟ أنه الهوي والجور .
... وبهذه الطريقة أيضاَ تستطيع أن تلقم هؤلاء المفرين حجراً فإن قالوا لك إن أبا حيان لعن ان تيميه (3) فقل لهم وكذلك لعن أبو حيان ابن عربي فهل تقبلون بحكمة في كلا الرجلين .
... علي ابن حيان لا يعبأ بقوله في ابن تيميه بعد أن ثبت ثناء أكابر أهل العلم عليه الثناء البالغ . فهو ليس من الائمة المعتبرين المعروفين الذين يؤثر قولهم علي قول ابن حجر والمزي والذهبي والحافظ ابن عبد الهادي وابن رجب وغيرهم .
ابن طولون يحكي الإجماع علي كفر ابن عربي
__________
(1) الدرر الكامنة 1/152 – 153 .
(2) تفسير البحر المحيط 3/449 .
(3) وهل كل لاعن يكون محقاَ في لعنه ؟!(58/29)
... ونص ابن طولون علي أن غالب الفقهاء وجميع المحدثين يعتقدون في ابن عربي أنه مبتدع إتحادي ملحد " قال وسمعت الشيخ الكفر السوسي بقول : رقاهم بعض المتأخرين إلي نحو خمسمائة منهم قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعز المصري والعلامة شهاب الدين أحمد بن حمدان الحراني ، وعلامة زمانه تقي الدين ابن تيميه والعلامة كمال الدين جعفر الأدفوي والحافظ بن كثير ونادرة زمنه علماً وعملاً علاء الدين البخاري وقاضي القضاه أبو زرعة العراقي وقاضي القضاه بدر الدين العيني وشيخ الإسلام شمس الدين البلاطنسي والعلامة محمد بن امام الكاملية الصوفي ، وحافظ العصر شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني ، والفقيه تقي الدين ابن الصلاح وقاضي القضاه ابن دقيق العيد ، وبدر الدين ابن جماعة ، وشيخ الاسلام تقي الدين لسبكي (1) فمإذا عساكم تقولون ؟!
... ثم أن محاولة تبرئة ابن العربي محاولة فاشلة فقد ثبت عليه القول بوحدة الوجود وتتلمذ عليه أناس من كبار القائلين بوحدة الوجود مثل القونوي وبخاصة عبد الحق ابن سبعين الذي شنع عليه أبو حيان والذهبي وابن حجر وكذلك بدر الدين العيني الذي أثني علي موقف ابن تيميه في التشنيع عليه وعلي أمثاله من القائلين بوحدة الوجود . (2)
... فتلمذة ابن سبعين علي بن عربي وتأثره بتعاليمه يعتبر الدليل الأكبر علي صحة نسبة كتاب الفصوص إليه لا سيما وان ابن بعين شرح الكتاب المذكور (3) .
موقف التقي السبكي
... وقد وبخ الذهبي السبكي لتكلمه في حق ابن تيميه فأجابه السبكي برساله أثني فيها علي ابن تيميه .
... قال الحافظ ابن حجر " وكتب الذهبي إلي السبكي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيميه فكان من جملة جواب السبكي .
__________
(1) القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية 2/538 – 539 .
(2) عقد الجمان لبدر الدين العيني 2/86 النجوم الزاهرة للاتابكي 7/232 .
(3) مخطوط بمكتبة برلين 2849 .(58/30)
... " وأما قول سيدي الشيخ في حق ابن تيميه ، فالمملوك يتححق كبير قدره وزخارة يحره وتوسعة في العلوم النقلية والعقلية وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ اذي يتجاوز الوصف والمملوك يقول ذلك دائماً ، وقدرة " أي قدر ابن تيميه " في نفسي أكبر من ذلك وأجل ، مع ما جمعه الله له من الزهاده والورع والديانه ونصرة الحق والقيامة فيه لا لغرض سواه ، وجريه علي سنن السلف وأخذخ من ذلك بالمآخذ الأوفي ، وغرابة مثلة في هذا الزمان بل من أزمان " أنتهي قول السبكي فيما حكاه الحافظان ابن حجر وابن رجب (1)
... هكذا كان موقف السبكي الأب " تقي الدين " من ابن تيميه يدعو له بالرحمة بالرغمن من العداء العقائدي ويصفه ب" تقي الدين " (2)
تهور السبكي الابن :
... ولم يسلك السبكي الابن مسلك والده ، فقد يطعن في ابن تيميه بأقذع النعوت وأقبحها وانتقده الناس علي ذلك حتي نسبه السخاوي إلي التعصب المقيت لقوله في طبقاته " وهل ارتفع للحنابلة قط رأس "
قال السخاوي وهذا من أعجب العجائب وأصحب التعصب . ولذا كتب تحت خطه قاضي عصرنا وشيخ المذهب العز الكنائي ما نصبه " كذلك والله ما ارتفع للمعطلة رأس 000 " إلي أن قال عن التاج السبكي " هو رجل
قليل الأدب .
عديم الانصاف .
جاهل بأهل السنة ورتبهم " (3) انتهي .
... ولقد عامل الله السبكي بما يستحق ، فقد ذكر الشعراني في الأجوبة المرضية أن الناس شهوداً علي السبكي بالكفر والانحلال والزنا وشرب الخمر وأنه كان يلبس الغيار والزنار بالليل زيخلعهما بالنهار " (4)
__________
(1) الدرر الكامنة 1/159 الذيل على طبقات الحنابلة 2/392 .
(2) شفاء السقام 139 و 145 و 147 و 148 و 150 و 129 – 132 .
(3) الإعلام بالتوبيخ لمن ذم التاريخ 94 ط : الرسالة .
(4) قلادة الجواهر 206 جلاء العينين 24 – 25 والأعلام للزركلي 4/184 .(58/31)
... قالوا ابن كثير " وعقد مجلس لقاضي القضاة السبكي بسبب عظائم اتهموه بها ينبو السماع عن استماعها " (1)
... ونحن والله لا نرجو أن يكون صدقاً . ولن نسارع أو نميل إلي تصديقه . ولكن لعل الله ابتلاه بما ظلم ابن تيميه ولابد للظالم أن يبتلي بظلم مثله .
... *وأي إنصاف نتوخاه من رجل لم يتورع عن الطعن واللعن بالمخالفين لمذهبه حتي ادي به الأمر أن أكثر من النيل من شيخه الذهبي ، ولم يتوخ الأدب بحقه وهو من هو الناقد البصير الذي شهدت كتبه وسيرته الحسنة بإنصافه وحسن عقيدته ولا زال أهل العلم بل والمخالفون له من أهل البدع يحتجون بحكمه علي احاديث الحاكم في المستدرك صحة وضعفاً .
... وإذا بلغ الأمر بالتاج السبكي إلي هذا الحد فما الذي يجعله يتورع عن شب شيوخه والتشهير بهم ؟! أليس هذا التطاول والجرأة في الطعن يجعله جديراً بما رواه السخاوي عن الكناني من أن السبكي رجل " قليل الأدب عديم الأنصاف ، جاهل بأهل السنة ورتبهم " (2)
... ولذلك فلا أزال أقول : راقبوا وتأملوا سير وأخلاق ومنهج الطاعتين – المتعصبين – في ابن تيميه وقارنوهم بأولئك الائمة العدول الكبار الذين أثنوا عليه : عندها تعرفون الحقيقة .
دعاؤه لابن تيميه بالمغفرة يكشف أحقاد المعاصرين
... ومع طعن السبكي الكبير بابن تيميه فأنه كان يدعو له من وقت لآخر كما قال في طبقاته " يغفر الله لابن تيميه ولا حرمه وسيلة النبي صلي الله عليه وسلم " (3) ويصفه بالشيخ تقي الدين (4). ومعلوم أن تقي الدين وصف له وليس اسماً .
__________
(1) البداية والنهاية 14 : 316 .
(2) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ 97 – 95 .
(3) طبقات السبكي 10/149 محققة ذكر ذلك عند ترجمة والده .
(4) طبقات السبكي 10/167 و 195 محققة .(58/32)
... كما كان يترجم الذهبي علي ابن تيميه وكان يدعو له في كل مناسبة يذكره فيها (1) خاصة بعد موته ، ودعا له الوتري (2) والصيادي (3) والامام الأذرعي كما حكاه الحافظ (4) ودعا له بدر الدين العيني بالرحمة (5)
... ودعاء السبكي لابن تيميه في لاطبقات نفي صاحب الرسائل السبكية والتوفيق الرباني أن يكون السبكي قد دعا له بالمغفرة
علامات التحيز والتعصب والعلو
... ومن تعصب التاج السبكي قوله عن أبيه وهو يترجم له :
... *" إعلم أن باب مباحثه بحر لا ساحل له ، بحيث سمعت بعض الفضلاء يقول : أنا أعتقد أن كل بحث يقع اليوم علي وجه الارض فهو له ، أو مستمد من كلامه وتقريراته التي طبقت الأرض . (6)
... وكانت دعواته تخترق السموات السبع الطباق ، وتفترق بركانها فتملأ الآفاق . وتسترق خبر السماء . (7)
... وأقسم بالله إنه لفوق ما وصفته ، وإني لناطق بهذا وغائب ظني أني ما ،صفته " إلي ان قال " وما ساقة الله حين قبضه إلا إلي جنة عدن أعدت لأمثاله من المتقين الأبرار " (8) وما عانده أحد ألا وأخذه الله بعقوبته سريعاً " (9)
... وسافر إلي مصر وكان يذكر أنه لا يموت إلا في في مصر (10) وكأن الله استثناه من الأية " وما تدري نفس بأي أرض تموت " فصارت : إلا السبكي .
__________
(1) المعجم المختص 25 .
(2) روضة الناظرين 141 .
(3) قلادة الجواهر 208 و 217 .
(4) الدرر الكامنة 1/160 .
(5) عقد الجمان 4/223 .
(6) طبقات الشافعية 10/266 .
(7) وما أدراك أيها الغالي ويحك قطعت ظهر أبيك !
(8) طبقات الشافعية 10/142 – 143 محققة وقد سقطت العبارة الأتية من النسخة المطبوعة ( وإن سيظن في أمراَ ما تصورتة ) وجاء في الطبقات الوسطى ( ولو عددت ما شاهدت وحكيت ما عانيت لطال الفصل وقال الغبي النذل : ولد يشهد لأبيه .
(9) طبقات السبكي 10/210 .
(10) طبقات السبكي 10/315 .(58/33)
... وزعم أن رجلاً رآه في المنام فسأله عما فعل الله به فقال : فتحت لي أبواب الجنة وقال لي : أدخل ، فقلت : وعزتك لا أدخل حتي يدخل كل من حضر الصلاة علي " (1)
ونقل عن برهان الدين القيراطي رثاءه لأبيه قائلاً (2) :
أمسي ضريحك موطن الغفران ... ... ... ومحل وفد ملائك الرحمن
وتبوأت غرف الجنان وجوزيت ... ... ... فيها علي الإحسان بالاحسان .
وتلقيت بتحية وأتت لها ... ... ... ... تحف الجنان علي يدي رضوان .
واستبشرت بقدومها أملاكها ... ... ... وسعي لها رضوان بالرضوان .
روح لها حور الجنان تشوفت ... ... ... حبا لها كتشوق الولدان .
كانت لها الدنيا محلاً أولا ... ... ... والجنة العليا محل ثان .
وهكذا جعلوه قبره مصدر المغفرة ، وحكموا له نيابة عن الله بأنه يتقلب الآن في الجنة ، هكذا يروج الولد لأبيه بضاعته .
واما أبوه فكان يتلو القرآن جهراً ولو في الحمام ، وإذا كانت له حاجة يكتب بخطه إلي الله تعالي ويعلقها علي خشبة السطح (3).
وكان يسعي سعياً حثيثاً إلي منصب القضاء (4) حين كان يعتبر هروب كثيرين من القضاء منقبه وفضيله . وكان قد أمر المؤذنين بزيادات طويلة بعد الإذان وقبله (5) .
وكان الناس يبغضونه وينقمون منه (6)
وكان عصبي المزاج متعصب المنهاج لا يتورع عن وصف مخالفي رأية بالزندقة فقد حكي عنه الهيتمي وقوله " لا ينقص الغزالي إلا حاسد أو زنديق " (7) والنقد عنده انتقاص .
__________
(1) طبقات السبكي 10/317 .
(2) طبقات السبكي10/331 .
(3) طبقات السبكي 10/205 و 215 مفتاح السعادة 2/329 طاش كبري زادة .
(4) البداية والنهاية 14 : 204 .
(5) البداية والنهاية 14 : 194 .
(6) 14 : 206 .
(7) الزواجر 2/379 الإعلام بقواطع الإسلام 77 .(58/34)
... ولا يخفاك أيها الأخ المنصف نقد كثيرين للغزالي أبرزهم في ذلك ابن الجوزي وابن الصلاح والقاضي أبو بكر ابن العربي الذي كان معاصراً له ، والمازري وأبو كبر الطرطوشي .
... قال ابن الجوزي " وجاء أبو حامد فصنف لهم كتاباً علي طريقة القوم " الصوفية " وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا علم بطلانها ، وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه ، وقال إن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي راهن إبراهيم أنور هي حجب الله ولم يرد هذه " الكواكب " المعروفات " هذا من جنس كلام الباطنية ، وأن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الانبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد . ثم يرقي الحالمن مشاهدة الصور إلي درجات يضيق عنها نطاق النطق " (1)
... وأوصي الغزالي سالك التصوف أن " لا يفرق كره بقراءة القرآن ولا بالتأمل في تفسير ولا بكتب حديت " وذكر في ميزان العمل " 31 " أنه رغب مرة في قراءة القرآن فمنعه شيخه الصوفي من ذلك قائلاً " السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية " فجعل تلاوة القرآن من مشاغل الدنيا .
طلب علم الحديث ركون إلي الدنيا ؟؟
... وأما طلب علم الحديث فقد نقل عن الداراني قوله " إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلي الدنيا لأن الزهد عندنا ترك كل شئ يشغلك عن الله عز وجل " (2)
... علق ابن الجوزي علي ذلك قائلاً : " عزيز أن يصدر هذاالكلام من فقيه ، فإنه لا يخفي قبحه فإنه طر لبساط الشريعة التي حثت علي تلاوة القرآن وطلب العلم (3) فهل نعتبرالزندقة في نقد ابن الجوزي أما مإذا ؟
__________
(1) تلبيس ابليس 166 وأنظر المنقذ من الضلال للغزالي 50 .
(2) الأحياء 1/61 و 2/24 و 2/237 و 4/229 .
(3) تلبيس ابليس 323 .(58/35)
... غير ان المتعصبين أول ما يتبادر إليهم عند نقد من يحبونه أنه طعن فيه ولا ينصفونه ولا يتقبلون نقده مع إحسان ظن ولا ينظرون نظرة تجرد وغيره علي الدين ولا إلي ما وراء نقد الخاطئين من صيانة للدين ومن هنا يسارعون إلي الطعن والتشكيك في مصداقية الناقد في نصحه بل في نيته ، ولا ينظرون نظرة واقعية متجردة إلي ما فيه قيام الدين .
هجاء السبكي لابن تيمية
والرد عليه في ذلك
هذا ويحتج الحبشي ببعض أبيات للسبكي يقول فيها:
ولابن تيمية رد عليه وفي
بمقصد الرد استيفاء اضربه
لكنه خلط الحق المبين بما
يشوبه كدر في صفو مشربه
يحاول الحشو أنى كان فهو له
حثيث سير بشرق أو بمغربه
يرى حوادث لا مبدا لأولها
في الله سبحانه عما يظن به
كما رددت عليه في الطلاق وفي
ترك الزيادة أقفو إثر سبسبه
ولقد ردَّ عليها اليافعي [وهو عبد الله بن أسعد بن علي وقصيدته لا تزال مخطوطة محفوظة في مكتيبة شيستربتي بإيرلندا رقم (4907/3) تحت عنوان (قصيدة فريدة) ومصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وذكرها الآلوسي كاملة في جلاء العينين 19] بقصيدة مطولة جاء فيها:
اليافعي يستعرض كلام السبكي
وبعد فاسمع كلاماً قد تقوله
قاضي القضاة تقي الدين وانتبه
أعني أبا الحسن السبكي حين غدا
يبغي من الأمر ما لا يستق به
فقال ذلك إذ رد الإمام على حزب
الروافض رداً غير مشتبه
أعني ابن تيمية الحبر الذي شهدت
بفضله فضلاء الناس والنبه
فاستحسن الرد حتى راح يمدحه
بما أزال من الإشكال والشبه
لكنه بعد هذا المدح خالفه
وقال أبيات شعر غير منجبه
أبيات السبكي في حق ابن تيمية
إن الروافض قو لا خلاق لهم
من أجهل الناس في علم وأكذبه
والناس في غنية عن رد إفكهم
لهجنة الرفض واستقباح مذهبه
وابن المطهر لم تطهر خلائقه
داع إلى الرفض غال في تعصبه
ولابن تيمية رد عليه وفى(58/36)
بمقصد الرد استيفاء أضربه
لكنه خلط الحق المبين بما
يشوبه كدر في صفو مشربه
يحاول الحشو أنى كان فهو له
حثيث سير بشرق أو بمغربه
يرى حوادث لا مبدأ لأولها
في الله سبحانه عما يظن به
كما رددت عليه في الطلاق وفي
ترك الزيارة أقفو إثر سبسبه
وبعده لا أرى للرد فائدة
هذا وجوهره مما أظن به
هذا الذي قاله السبكي مرتجلاً
وللبسيط أنمي بعض أضربه
رد اليافعي على اتهامات السبكي
فقال مرتجلاً للحق منتصراً
عبد يرد عليه في تأدبه
يا أيها الرجل الحامي لمذهبه
ألزمت نفسك أمراً ما أمرت به
وما عزوتم إلى الشيخ الجليل أبي
العباس أحمد أمر لا يخص به
في قولكم خلط الحق المبين بما
يشوبه كدر في صفو مشربه
يحول الحشو أنى كان فهو له
حثيث سير بشرق أو بمغربه
يرى حوادث لا مبدأ لأولها
في الله سبحانه عما يظن به
لقد علمتم بأن السلف الـ
ـماضين ما خرجوا عما أقر به
هم القرون الألى في نص سيدنا
حازوا الفخار بأمر غير مشتبه
لئن رددت عليه في مقالته
فقد رددت عليهم فبادر وانتبه
ثم الأئمة أهل الحق كلهم
يرون ما قاله من غير ماجبه
فردكم ليس مخصوصاً بواحدهم
بل بالجميع وهذا موضع الشبه
هلا جمعت الألى قالوا بمقالته
ليستبين خطاهم من مصوبه
فكلهم خلط الحق المبين بما
يشوبه كدر في صفو مشربه
فكلهم كان حشوياً لديك يرى
وكلهم أنت تقفو إثر سبسبه
وانظر إلى مطلب حاولته طلبا
فنسبة للمر تلغى عند مطلبه
وخذ أدلة ما قالوه واضحة
من الكتاب ودع ما قد هذوت به
فللإله صفات الذات قد وردت
بها النصوص بلا ريب ولا شبه
كما تراها على قسمين قائمة
بها يقينا يراها من أقر به
هو القديم بأوصاف منزهة
عن الحدوث كما تأتيك فانتبه
حي سميع بصير قادر صمد
فرد جليل عظيم الشأن فارض به
فهذه كلها ذاتية وردت(58/37)
ومثلها في المعاني غير مشتبه
كذلك فعليه فانظر مثالهما
وقس عليه وراع الفرق تنج به
يحب يبغض يرضى يستجيب يرى
يجيء يأتي بلا كيف ولا شبه
وخالق قبل مخلوق يكونه
وقاهر قبل مقهور يكون به
وراحم قبل مرحوم فيرحمه
ورازق قبل مرزوق بأضربه
عن أمره صدر المخلوق أجمعه
والأمر ويحك لا شك يقوم به
وقد تكلم رب العرش بالكتب الـ
ـمنزلات كلاماً لا شبيه به
ولم يزل فاعلاً أو قائل أزلاً
إذا يشاء وهذا الحق فارض به
هذي حوادث لا مبدأ لأولها
بالنص فافهمه با نومان وانتبه
إذ هل صفات لموصوف تقوم به
قديمة مثله من غير ما شبه
ومذهب القوم مروي كما وردت
من غير شائبة للتكييف والشبه
ولا يرون بتعطيل الصفات كما
يقول جهم ومن والاه في الشبه
ما شبه الله إلا عابد صنماً
يدلي بأخبث معبود وأغربه
ولا يعطل إلا عابد عدماً
وليس يدري رباً يلوذ به
سوى أباطيل ما يختاره عبثاً
يرى أمانيه تسري لمركبه
وما رددت عليه في الطلاق فما
حققت عقلاً ولا نقلاً ظفرت به
بل فاسد القصد أعيا الذهن منك كما
هو عادة الله في قال لمذهبه
نزلت حول حماه كي تنازله
فما علوت عليله بل علوت به
وما نسبتم إليه عند ذكركمو
ترك الزيارة أمراً لا يقول به
فقد أجابكمو فيها بأجوبة
أزال فيها صدا الإشكال والشبه
وقد تبين هذا في مناسكه
لكل ذي فطة في القول والنبه
رميتموه ببهتان يشان به
فالله ينصفه ممن رماه به
وفي الجواب أمور من تدبرها
سقى الأنام بها من صفو مشربه
ولم يكن مانعاً نفس الزيارة بل
شد الرحال إليها فوق مركبه
مستمسكاً بصحيح القول متبعاً
خير القرون الألى جاءوا بمذهبه
وقال آخر
فضحت نفسك في هذا المقال ولم
تشعر وعجت عن المرعى وأخصبه
عرفتنا أن ما قد قلت ليس لوجه
الله بل للمراء أقبح منصبه
إذ لو أردت بيان الحق قلت به(58/38)
في محضر الخصم أما في مغيبه
ما ذاك صدك بل خوف الجواب كما
أجبت قبل بسهم من مصوبه
لكن إذا الأسد الضرغام غاب عن الـ
عرين تسمع فيه ضبح ثعلبه
وفي الزيارة لم تنصف رددت على
ما لم يقله ولم تمرر بسبسبه
رد ملخص أشياء أذكرها
إما حديث ضعيف عند مطلبه
إما صحيح ولكن لا دليل به
على مرادك بل هدم لمنصبه
ثناء الحافظ بن حجر علي بن تيميه
ووصفه بشيخ الاسلام
... إن أهم الادلة علي ثناء الحافظ علي ابن حجر علي بن تيميه ما قاله فيه عند تفريطه كتاب الرد الوافر علي من زعم ان ابن تيميه كافر لابن ناصر الدين المشقي كما أثبته السخاوي في كتابه الجواهر والدرر في ترجمة الحافظ بن حجر قال فيه ما نصه
... قال السخاوي في الجواهر والدرر في ترجمة الحافظ بن حجر (1) في معرض سرد تفريطات ابن حجر للكتب ما نصه .
" ومن ذلك ما كتب به في الرد الوافر علي من زعم أن ابن تيميه شيخ الإسلام كافر لحافظ الشام ابن ناصر الدين في سنة خمس وثلاثين وحدث به في أواخرالسنة التي تليها بالشام بقراءة صاحبنا النجم الهاشم .
... الحمد لله وسلام علي عبادة الذين أصطفي .. وقفت علي هذا التأليف النافع المجموع الذي هو المقاصد التي جمع لأجلها جامع . فتحققت سعة إطلاع الإمام الذي صنفه ، وتضلعه من العلوم النافعة بما عظمة بين العلماء وشرفه .
... وشهرة إمامه الشيخ تقي الدين أشهر من شمس ، وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باق إلي الأن علي الآلسنة الزكية ويستمر غداً كما كان بالأمس ، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره أو تجنب الأنصاف مما اكثر غلط من من تعاطي ذلك وأكثر عثاره فالله تعالي هو المسؤول أن يقينا شرور أنفسنا وحصائد ألسنتنا بمنه وفضله .
__________
(1) المخطوط موجود في مكتبة طوبقبو بتركيا رقم المخطوط 1992 .(58/39)
... ولو لم يكن من الدليل علي إمامة هذا الرجل إلا ما نبه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في تاريخه أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين ، وأشار إلي أن جنازة الإمام أحمد كانت حافلة جدا شهداها ما بين ألوف ، ولكن لو كان بدمشق من الخلائق نظير من كان ببغداد بل أضعاف ذلك لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته .
... وأيضاً فجميع من كان ببغداد إلا أقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد وكان أمير بغداد وخليفة الوقت إذ ذاك في غاية المحبة له والتعظيم ، بخلاف ابن تيميه فكان أمير حين مات غائباً ، وكان أكثر من في البلد من الفقهاء فتعصبوا عليه حين مات محبوساً بالقلعة ، ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم عليه والتأسف عليه إلا ثلاثة أنفس تأخروا خشية علي أنفسهم من العامة .
... ومع حضور هذا الجمع الكبير والعظيم فلم يكن لذلك باعث إلاعلي إعتقاد إمامته وبركته لا بجمع سلطان ولا غيره .
... وقد صح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال أنتم شهود الله في الارض .
... ولقد قام علي الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً بسبب أشياء أنكروها عليه من لااصول والفروع وعقدت له بسبب ذلك مجالس بالقاهرة ودمشق ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفني بزندقته ظلا حكم بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه حينئذ من أهل الدولة ، حتي حبس بالقاهرة ثم بالاسكندرية ، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وكثرة ورعه وزهده ووصفه بالسخاء والشجاعة وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام والدعاء إلي الله تعالي في السر والعلانية .
... فكيف لا ينكر علي من أطلق أنه كان كافراً بل من أطلق علي من سماه شيخ الاسلام الكفر . وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك فانه شيخ الإسلام بلا ريب .
... والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي ولا يصر علي القول بها بعد قيام الدليل عليه عناداً .(58/40)
... وهذه تصانيفه طافحة بالرد علي من يقول بالتجسيم والتبري منه ، ومع ذلك فهو بشؤ يخطئ ويصيب فالذي أصاب فيه – وهو الأكثر – يستفاد منه ويترحم عليه بسببه ، والذي أخطأ فيه – بل هو معذور – لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه حتي كان أشد المتشغبين علي القائمين في إيصال الشر إليه وهو كمال الدين الزملكاني يشهد له بذلك ، وكذلك الشيخ صدر الدين ابن الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره .
... ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم قياماً علي أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية ، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة ، وفتاويه فيهم لا يدخل تحت الحصر .
... فيا قرة أعينهم إذا سمعوا تكفيره ويا سرورهم إذا رأوا من يكفره من أهل العلم .
فالواجب علي من تلبس بالعلم وكان له عقلاً من تصانيفه المشهورة أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل فيفرد من ذلك ما ينكر فيحذر منه علي قصد النصح ، ويثني عليه بفضائله فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء .
ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب الا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان غاية في الدلالة علي عظيم منزلته – فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم والتميز في المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن الحنابلة .
... فالذي يطلق عليه – مع هذه الأشياء – الكافر أو علي من سماه شيخ الاسلام لا يلتفت إليه ولا يعول في هذا المقام عليه بل يجب ردعه عن ذلك إلي ان يرجع الحق ويذعن للصواب .
... والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وحسبنا الله ونعم الوكيل "
... انتهي كلام الحافظ بن حجر رحمة الله وهو كلام نفيس جداً.
احتجاجه الدائم بابن تيميه(58/41)
... ويكفيك من ثناء الحافظ بن حجر علي بن تيميه احتجاجه بأقواله وأقوال تلميذه ابن القيم في العديد من المسائل ويصفة بـ" العلامة " و الحافظ وقد احتج بحكم بن تيميه علي زيادة " كان الله ولا مكان " بأنه لا أصل لها . قال الحافظ بن حجر في الفتح " 6 / 289 " ما نصه .
... " تنبيه : وقع في بعض الكتب في هذا الحديث " كان الله ولا مكان " " وهو الآن علي ما عليه كان " وهي زيادة ليست في شئ من كتب الحديث نبه علي ذلك العلامة تقي الدين ابن تيميه ، وهو مسلم في قوله " وهو الآن " إلي أخره (1)
... وهذه الرواية معتمد الاحباش وغيره يتمسكون بها ويعارضون بها كثيراً من نصوص الأيات والأحاديث .
... فهذا يبين منزلة بن تيميه عند الحافظ رحمة الله . قال الحافظ بعد موت بن تيميه فهل خفي عليه أخر حال بن تيميه كما تدعون ؟
وشهد لأبن تيميه استحقاقه مرتبة " حافظ " واحتج بحكمة علي درجة الاحاديث كما في كتاب " التلخيص الحبير 3 / 109 "
... وحكي المرتضي الزبيدي في شرح الأحياء " 1 / 449 " عن الحافظ العراقي احتجاه بحكم بن تيميه علي الحديث فقال عن حديث " الشيخ في قومه كالنبي في أمته " " قال العراقي : وسئل عنه الشيخ تقي الدين ابن تيميه في جملة أحاديث فأجاب بأنه لا أصل له "
__________
(1) فتح الباري 6/289 .(58/42)
... قال الحافظ " وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي عن وصف بن تيميه منها قوله " متعنا الله بعلومه الفاخرة ونفعنا به في الدنيا والاخرة وهو الشيخ الإمام العالم الرباني والحبر البحر القطب النوواني إمام الأئمة بركة الأمة وارث علوم الأنبياء : آخر المجتهدين واحد علماء اليدن شيخ الإسلام ، قدوة الانام برهان المتعلمين ، قامع المبتدعين سيف المناظرين بحر العلوم كنز المستفدين ، ترجمان القرآن أعجوبة الزمان ، فريد العصر والاوان ، تقي الدين إمام المسلمين ، حجة الله علي العالمين ، اللاحق بالصالحين والمشبه بالماضيين ، مفتي الفرق ، ناصر الحق ، علامة الهدي عمدة الحفاظ فارس المعاني والألفاظ ركن الشريعة ذو الفنون البديعة أبو العباس بن تيمية " (1)
... ولم يقل الحافظ " هذا المدح كان قبل أن تفسد عقيدة بن تيميه كما يزعمه المفتري .
موقف الذهبي من ابن تيميه
وحقيقة النصيحة الذهبية المزعومة
... وأوردوا ما يسمي ب " النصحية الذهبية " زعموا نسبتها للذهبي وجهها إلي ابن تيميه وهي رسالة :
... * لم تعرف عنه أبداً .
... *ولم يذكرها أحد ممن أعتني بمؤلفات الذعبي .
... *أنها كتبت بخط خصم ابن تيمية وهو بن قاضي شهبة علي زعم ناشرها المقدسي بتعليقات الكوثري . فهي محكمة أشعرية أو قل تحكم أشعري .
... *وهي تخالف اخر ما كتبه عنه الذهبي .
... *أن أهل كتاب الذهبي ورد فيه كلام علي بن تيميه ينادي بأن هذه النصيحة جهمية لا ذهبية ولا تعدو نصحية أعتبره صاحبها " ذهبية " وليس كل الذهب حكراً علي الذهبي ! .
أخر أقوال الذهبي قبل موته .
__________
(1) الدرر الكامنة 159 – 160 وللمذيد طالع الكتاب المذكور . وأنظر كتاب الأشباة والنظائر 3/681 – 683 للسيوطي .(58/43)
... ومن يطلع علي كلام الذهبي عن بن تيميه بعد وفاته يتأكد له كذب هذه الرسالة المزعومة . فلا يوجد كتب للذهبي إلا وفيه الثناء علي ابن تيميه لا سيما بعد موته . وإذا أنكره الذهبي قال " شيخنا " وتارة يقول " شيخ الإسلام " (1) مثال ذلك .
... قال في كتاب دول الأسلام " وفي ذي القعدة توفي بالقلعة شيخ الاسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيميه الحراني ، عن سبع وستين سنة وأشهر ، وشيعه خلق أقل ما حزروا بستين ألفاً ، ولم يخلف بعده من يقاربه في العلم والفضل " (2)
... وقال في تذكرة الحافظ " كان بحور العلم ومن الاذكياء المعدودين ، والزهاد والافراد الشجعان الكبار والكرماء الاجواد : أثني عليه الموافق والمخالف وسارت بتصانيفه الركبان وقد أمتحن وأوذي وحبس بقلعة مصر والقاهرة والاسكندرية وبقلعة مصر مرتين وبها توفي ثم جهز وأخرج إلي جامع البلد فشهده أمم لا يحصون فحزروا بستين ألفاً . وقد أنفرد بفتاوي نيل من عرضه لأجلها . وهي مغفورة في بحر علمه ، فما رأيت مثله " (3)
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7/373 و 11/ 350 و 21/156 – 21/161 .
(2) دول الإسلام للذهبي 237 ط : الهيئة المصرية العامة للكتاب 1974 .
(3) تذكرة الحافظ 4/1497 .(58/44)
... " نصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين ، واوذي في ذات الله من المخالفين ، واخيف في نصر السنة المحضة حتي أعلي الله منارة وجمع قلوب أهل التقوي علي محبته " (1) والدعاء له وكبت أعداءه وأحيا به الشام : بل والاسلام ، وهو أبر من أن ينبه علي سيرته مثلي فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله . (2) وقال في المعجن المختص " فوالله ما مقلت عيني مثله ولا راي هو مثل نفسه " (3)
... ونقل الحافظ ابن رجب عن الذهبي ان ابن تيميه " كان إماما ً متبحراً في علوم الديانة . صحيح الذهن ، سريع الإدراك ، سيال الفهم كثير المحاسن ، موصوفاً بفرط الشجاعة والكرم ، فارغاً عن شهوات المأكل والملبس والجماع ، لا لذه له إلا نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه " ونقل الذهبي عن إعجاب ابن سيد الناس به وقوله " أن تكلم في التفسير فهو حامل رايته ، أو أفتي في الفقه فهو مدرك غايته أو ذاكر بالحديث فهو ذو رايته . برز فب كل فن علي أبناء جنسه ، ولم تر عيني مثله ولا رأت عينه مثل نفسه " (4)
... فهذا الثناء البالغ من الذهبي علي بن تيميه لا يتفق و " النصيحة الذهبية " المزعومة .
... وقال الذهبي " قد سجن غيره مرة ليفتر عن خصومه يقصر عن بسط لسانه وقلمه ، وهو لا يرجع ولا يلوي علي ناصح إلي أن توفي معتقلاً بقلعة دمشق ، وشيعه أمم لا يحصون إلي مقبرة الصوفية ، غفر الله له ورحمه أمين (5) انتهي .
__________
(1) ولذا بغضتة قلوب أهل الكلام لآنهم كما وصفهم أبو حنيفة ( ليس عندهم ورع ولا تقوي ) سير أعلام النبلاء 6/399 مفتاح دار السعادة 2/136 والذيل على طبقات الحنابلة 2/389 – 390 .
(2) الذيل على طبقات الحنابلة 2/390 .
(3) المعجم المختص 25 تحقيق محمد حبيب الهيلة .
(4) الذيل على طبقات الحنابلة 2/390 .
(5) المعجم المختص 25 .(58/45)
... أوردت هذا النص لأن أتباع الحبشي زوروا كلاماً علي الذهبي ونسبوا إليه في هذا الكتاب أن بن تيميه معجب برأية جرئ علي الامور (1) وهذه العبارة لم ترد في حق بن تيميه وإنما وردت في ترجمة بن القيم (2) وحول ثبوتها كلام . فقد جاء في النسخة الأصلية من كتاب المعجم " جري عليه أمور " ولكن وردت في الدور الكامنة " معجب " حول إثباتها في النسخة المخطوطة كلام .
... فواعجبا من الكذب ومن تصرفهم في نصوص الكتب . ومن أراد التأكد فليسأل صاحب دار عالم الكتب كيف تصرف كمال الحوت في نص الكتاب الذي أرسله الشيخ عبد الفتاح أبو غدة للطبع مما أثار سخط صاحب الدار عليه وجعله يطرده من داره لينظر مإذا فعل الأاحباش بكتاب " تحفة الانام " للشيخ عبد الباسط فاخوري حيثأسقطوا منه ما يقارب الست صفحات .
... فهذا الذهبي يثني عليه الثناء البالغ ويذكر علمه وفضله ، وبخلاف ما زوروه عليه ، لا سيما تلك النصيحة المزعومة التي تخالف كل مصنفات الذهبي التي يبن أيدينا .
... وقال في كتاب زغل العلم " فوالله ما رمقت عيني أوسع علماً ولا اقوي ذكاء من رجل يقالله ابن تيميه مع الزهد في المأكل والملبس والنساء مع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن 000 مقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا للكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة ومحبة الظهور نسأل الله تعالي المسامحة ، فقد قام عليه أناس ليسوا بأروع منه ولا بأعلم منه ولا أزهد منه ، بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وأثام أصدقائهم . وما سلطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه ، وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر وما جري عليهم إلا بعض ما يستحقون (3)
__________
(1) الرسائل السبكية في الرد على ابن تيمية 78 .
(2) أنظر المعجم المختص 269 .
(3) كتاب زغل العلم 38 تحقيق محمد بن ناصر العجمي ط : الصحوة الكويت .(58/46)
... فهذه شهادة الذهبي المنثورة في كتبه منها ما كتبه في حياة ابن تيميه ومنها ما كتبه بعدها ، فمنذ متي تقدمون أبا حيان النحوي اللغوي علي الذهبي المحدث الناقد في الجرح والتعديل ؟ هل صار أبو حيان ناقداً في الجرح والتعديل مقدماً – في حكمه علي الرجال – علي كل هؤلاء العلماء الحفاظ الذين أثنوا علي ابن تيميه كالبزار والمزي ؟
تزوير أخر من الحبشي
ويضاف إلي تزوير الحبشي علي أبي حنيفة والطحاوي " كما مر معنا " هذا التزوير حيث أستغل الحبشي جملة " وما جري عليهم إلا بعض ما يستحقون " وجملة " وما سلطهم الله عليهم بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه " (1) استغلالاً سيئاً وزعم أن هاتين الجملتين في النص صريحتان في طعن الذهبي بابن تيميه . وهو كذب وتلفيق علي النص فإن المقام في النص مقام ثناء لا ذم وكيف يكون ذماً وهو وكيف يكون ذماً وهو يقول " فوالله ما رمقت عيني اوسع علماً ولا اقوي ذكاء من رجل يقال بن تيميه ويقول " فقد قام عليه اناس ليسوا باروع منه ولا باعلم منه ولا بازهد منه .
... فانظر كيف ينصرف عن نعن صريح كلام الذهبي في النصوص الاخري التي كتبها بعد موت ابن تيمية حتي دفعة الجور وعدم انصاف الي الاعراض عن صريح ثناء الذهبي هلي ابن تيميه وبني علي المبهم من الكلام ما يوافق هواه .
... فاما العبارة " جري هليهم الا بعض ما يستحقون " فالمقصود بها اعداء ابن تيميه حين تغير السلطان القديم الذي كان يطيعهم في سجن اب تيميه فلما استولي السلطان السابق بخوله السجن فرفض قائلاً " من إذاني فهو في حل مني ، ومن آذي الله ورسوله فالله ينتقم منه . وانت إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم " (2)
__________
(1) المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية 18 .
(2) العقود الدرية 195 .(58/47)
... وقد جري علي السبكي فتن ومحن فقد شهد عليه الناس بالكفر والانحلال وشرب الخمر وغير ذلك من الاتهامات (1) ,وتعرض الحصني لنقمة أهل الشام عليهم وإذلالهم له (2) ونقل السخاوي معاتبة المقريزي للحصني علي تفحشه ومبالغته في ابن تيميه وكذا نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني الشئ نفسه عن ابن قاضي شهبة
... واما العبارة الثانية " بل بذنوبه " بل بذنوبه " فقد أجلب الحبشي عليها بخيله ورجله ونفخ الشيطان وزعم انها صريحة في ذم الذهبي له .
وهذا باطل :
... فقد قال الذهبي عن مالك – حين ابتلي وثبت علي الابتلاء – ما نصه " هذه ثمرة المحنة المحمودة ، انها ترفع العبد عند المؤمنين ، وهي بكل حال بما كسبت ايدينا ويعفو عن كثير (3).
... فوضح مقصودة أن الله يجعل من طعن الاخرين وحسدهم سبباً يكفر به عن ذنوب أهل العلم والفضل كابن تيميه ويبتليهم بذلك :
فالذهبي من كبار أئمة الجرح والتعديل والحكم علي الرجال .
وهو من المأخوذ بحكمهم علي الحديث والحبشي معترف بذلك حين اشترط لقبول تصحيح الحاكم : أن يوافقه الذهبي .
وقد عاصر الذهبي بن تيميه وعرف تفاصيل أحواله . فلمإذا تعرض عن شهادته فيه وتقبل شهادة رجل كالحبشي له بالكفر ؟
أن الذهبي بالغ في الثناء علي بن تيميه في الكتب التي كتبها بعد موته كالمعجم المختص ودول الاسلام وغيرهما من غير أن يذكر نقداً واحداً مما تضمنته النصيحة المكذوبة وهذا اكبر دليل علي كذبها .
شهادة الحبشي لا يعتد بها
... وذكر الحبشي أن الالسن اتفقت بالثناء علي بن تيميه إلا من لا يعتد به وأن الناس في شأن هذا الرجل قسمان :
قسم يرميه بالعظائم .
وقسم أخر يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد .
__________
(1) الاعلام للزركي 4/184 قلادة الجواهر 206 جلاء العينين 24 – 25 البداية والنهاية 14 : 316 .
(2) أنظر البدر الطالع للشوكاني 1/28 .
(3) سير أعلام النبلاء 8/81 .(58/48)
... وهذه قاعدة مطردة في كل عالم يتبحر في المعرف العلمية ويفوق أهل عصره ويدين بالكتاب والسنة .فأنه لابد أن يستنكره المقصرون ، ويقع له معهم محنة بعد محنة بعد محنة . ثم يكون من الاعلي وقوله الاولي ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره .
... وهكذا حال هذا الامام ، فإنه بعد موته عرف الناس مقداره ، واتفقت الألسن بالثناء عليه إلا من لا يعتد به (1)
... وقال الكتاني " ابن تيميه من الأفراد الذين كثر الخلط فيهم بين مكفر وبين ذاهب بهم إلي منزلة المعصومين . والإنصاف فيه قول الحافظ بن كثير " كان من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطأه بالنسبة إلي صوابه كنقطة في بحر ن وخطأه أيضاً مغفور له كما في الصحيح " (2)
وقال فيه ابن شاكر في " فوات الوفيات " " 00 وصار بن تيميه " من أئمة النقد وعلماء الأثر مع التدين والذكر والصيام والنزاهة عن حطام هذه الدار ، ثم أقبل علي الفقه ودقائقه ، أما أصول الدين ومعرفة أقوال الخوارج والروافض والمعتزلة والمبتدعة فكان لا يشق فيها غباره مع ما كان عليه من الكرم الذي لم يشاهد مثله ، والشجاعة المفرطة والفراغ من ملاذ النفس "
... ثم نقل عن الذهبي قوله " 000 وكان قوالاً بالحق نهاء عن المنكر ذا سطوة وإقدام وعدم مداراة " (3)
اتهام ابن تيميه بأنه من المشبهه
... وزعم الحبشي ان ابن تيميه يشبه الله بخلقه ، غير ان الحافظ ابن حجر نص علي أن التشبيه والتجسيم شئ ينسبه الناس إلي ابن تيميه (4) وهي طريقة أهل الكلام المعتادة في إلزام الخصم بما لا يلزم وهي عين طريقة المعزلة في إلزام الأشاعرة بالتجسيم لإثباتهم رؤية الله والصفات السبعة .
البوطي يحكم بكذب السبكي وإضرابه
__________
(1) البدر الطالع 1/65 .
(2) فهرس الفهارس لعبد الحي الكتاني 1/201 – 202 تحقيق أحسان عباس .
(3) فوات الوفيات 1/5 و 74 – 80 تحقيق أحسان عباس .
(4) الدرر الكامنة 1/155 .(58/49)
وينفي عن ابن تيميه تهمة التجسيم
... قال الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي " ونحن نعجب عندما نجد غلاة يكفرون ابن تيميه رحمه الله ويقولون أنه كان مجسداً ، ولقد بحثت طويلاً كي أجد الفكرة أو الكلمة التي كتبها أو قالها ابن تيميه والتي تدل علي تجسيده ، فيما نقله عنه السبكي أو غيره فلم أجد كلاماً في هذا قط (1) كل ما وجدته أنه في فتواه يقول " أن الله يدا كما قال واستوي علي العرش كما قال ، وله عين كما قال "
... وأضاف البوطي " ورجعت إلي اخر ما كتبه أبو الحسن الأشعري وهو كتاب الأبانة – فرأيته هو الآخر يقول كما يقول ابن تيميه وأقرأوا كتاب الإمام أبي حسن الأشعري " الأبانة " الذي يقول فيه نؤمن أن لله يدا كما قال ، وأنه علي العرش استوي كما قال " إذن فلمإذا نحاول أن نعظم وهماً لا وجود له ؟ ولمإذا نحاول أن ننفخ في نار شقاق ؟ والله سبحانه وتعالي سيحاسبنا علي ذلك (2) انتهي كلامه النفيس .
... لكن الحبشي يريد نفخ الشقاق كما نفخها من قبل في موطنه هرار ، ولذلك حكم علسي كفر ابن تيميه بالاجماع ، ويبدو أنه يعني بالإجماع : إجماع حفنة من المتعصبين .
ولقد تعقب الشيخ إبراهيم الكوراني في إفاضة العلام من اتهم ابن تيميه وتلميذه ابن القيم بالتجسيم قائلاً :
__________
(1) وهذا ولله الحمد شهادة على تعدي السبكي وظلمه لابن تيمية وأن أتهامه له كان زوراَ وعدواناَ منه .
(2) ندوت أتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر 264 – 265 مجموعة محاضرات ألقيت في البحرين عام 25/2 1985 .(58/50)
... " اما إثبات الجهة والجسمية إليهما فقد تبين حالة وإنهما لم يثبتا الجسمية أصلاً بل صريحاً بنفيها في غير غير موضع من تصانيفهما " وقد احتج الألوسي بكلام الكوراني في تبرئة ابن تمييه من تهمة التشبيه والتجسيم " (1) وبرأه من تهمة التجسيم والتشبيه قائلاً " حاشا لله تعالي أن يكون من المجسمة ! بل هو أبرأ الناس منهم " (2)
... والاتهام بالتجسيم ناشئ عن القاعدة الكلامية أن الاجسام متماثلة فبسبب هذا هربوا من إثبات ما أثبته الله لنفسه وهذه القاعدة مبنية علي جهل بحقيقة الاجسام : فأن الأجسام مختلفة فالهواء جسم وليس كالماء وأبدان الحيوان ليست كأجسام الحديد فإذا كانت الأجسام المخلوقة تتفق في لفظ الجسم وتختلف حقائقها فما بين المخلوق أولي مع العلم أن لا أطلق علي الله بأنه جسم فهو بدعة لا ننفي ولا نثبت ولا يوصف الله إلا بما وصف نفسه .
أكذوبة الاستقرار علي بعوضة .
... وقد موه بعضهم بعبارة نسبها لأبن تيميه إنما هي في الحقيقة عبارة لعثمان بن سعيد الدرامي نقلها ابن تيميه من كتابه " الردعلي بشر المريسي ص 85 " . ونص العبارة كالآتي " ولوشاء لاستقر علي ظهر بعوضة ، فاستقلت بقدرته ولطف ربوبيته ، فكيف علي عرش عظيم أكبر من السموات والأرض " " بيان تلبيس الجهمية 1 / 568 "
... وهذا من أعظم الافتراءات علي بن تيميه رحمه الله ، وعلي اقل تقدير فقد يرد السؤال التالي : إذا كان ليس من كلامه فمإذا أرد بنقله لهذا الكلام من الدرامي أراد ؟
... فالجواب أن الدرامي أراد بذلك أن الله غني عن العرش غناه عن البعوضة سواء بسواء .ويؤكده ما قاله في " مجموع الفتاوي ص 2 / 88 " " وإذا كان المسلمون يكفرون من يقول : إن السموات نقله أو تظله لما في ذلك من احتياجه إلي مخلوقاته ، فمن قال " أنه في استوائه علي العرش محتاج إلي العرش كاحتياج الرسول إلي حامله ،فأنه كافر "
__________
(1) جلاء العينين 569 .
(2) جلاء العينين 340 .(58/51)
أكذوبة قصة ابن بطوطه
... ويحتج الحبشي وأصحابه برواية أبن بطوطة المكذوبة علي ابن تيميه بل والتي ربما كانت مكذوبة علي ابن بطوطة نفسه كما ستعلم .
... فقد ذكروا (1) أن ابن بطوطه دخل المسجد الأموي بدمشق ورأي بن تيميه علي المنبر وهو يوقل " إن الله ينزب إلي السماء الدنيا كنزولي هذا " ثم نزل درجة من المنبر " (2)
... *أن رحلة ليست من كتب التاريخ المعتمدة ، وليس مؤلفها معروفاً من اهل العلم ، وإنام كان من عوام المتصوفة . وقد غلب علي رحلته زيارة أضرحة الاولياء والتبرك بقبورهم وتقبيل أعتابها حتي أن الشيخ حسن السائح أشار إلي هذه الحقيقة في مقدمته لكتاب تاج المفرق " في تحلية علماء المشرق " للشيخ خالد بن عيسي البلوي . وأنه ربما سمع بأسم عالم من علماء المشرق " للشيخ خالد بن عيسي البلوي ، وأنه ربما سمع بأسم عالم من علماء البلد التي زارها فيذكر اسمه في الرحلة ولو لم يتصل به اتصالاً شخصياً كما فعل في تونس حسن ذكر علماً من أعلامها وهو ابن الغماز "
... وثمة ملاحظة أخري مهمة وذكرها الحافظ الحافظ بن حجر وهي أن ابن بطوطة لم يكتب تفاصيل رحلته إنما جمعها منه أبو عبد الله بن جزي ونمقها وكان البلفيقي يتهمه بالكذب (3) وعلي كل حال فهذا يفيد أن ابن بطوطة ليس هو الذي كتب تفاصيل رحلته بيده .
__________
(1) أنظر مجلتهم منار " الهدي " 15/50 .
(2) رحلة أبن بطوطة أو تحفة النظار في غرائب الأمصار 110 .
(3) الدرر الكامنة 3/480 .(58/52)
... ولقد عجب محقق كتاب رحلة ابن بطوطة " الدكتور علي المنتصر الكتاني " من هذا الكذب فقال " هذا محض افتراء علي الشيخ رحمه الله فإنه كان قد سجن بقلعة دمشق قبل مجئ ابن بطوطة إليها بأكثر من شهر . فقد أتفق المؤورخون أنه أعتقل بقلعة دمشق لأخر مرة في اليوم السدس من شعبان " سنة 726 هـ ولم يخرج من السجن إلا ميتاً ، بينما ذكر الملف في الصفحة " 102 " من كتابه هذا انه وصل دمشق في التاسع من رمضان " وهذا ما نص عليه الحافظ ابن كثير والحافظ بن رجب والحافظ بن عبد الهادي حيث ذكروا ان ابن تميمه مكث في السجن في السادس من شعبان سنة ست وعشرين سنة 726 حتي موته " (1)
ومعلوم أن تيميه كان واعظاً وكان يلقي الدرس جالساً علي كرسي وكان الخطيب المسجد الأموي آنذاك قاضي القضاة القزويني .
... ولو كان ما ادعاه ابن بطوطة صحيحاً لقام عليه علماء عصره ولشكوه إلي السلطان ولألفوا رسائل في الرد علي قوله . فالمشنعون عليه كثر ومع ذلك لم يذكر احد منهم شيئاً من ذلك .
... ثم أن ابن تيميه كتب كتاباً ضخماً في شرح حديث النزول ، ولم يقل فيه شيئاً مما ادعاه ابن بطوطه ، وانما شدد فيه علي نزول الله كنزول البشر .
راي ابن تيميه في المشبهه :
... ومن المثير للعجب ان ينسب الي ابن تيميه مثل هذا الكلام في الوقت الذى يحكم هو بالكفر على من يقول بمثله ، فقد قال في مجموع الفتاوى " فمن قال أن علم الله كعلمى ، أو قدرته كقدرتى .. أو إستواؤه على العرش كاستوائى أو نزوله كنزولى ، أو إتيانه كاتيانى : فهذا قد شبه الله بخلقه ، تعالى الله عما يقولون ، وهو ضال خبيث مبطل بل كافر .(2)
__________
(1) طبقات الحنابلة 2/405 البداية والنهاية 14/123 العقود الدرية 329 .
(2) مجموع الفتاوي 11/482 الرسالة التدمرية 20 ط المكتب اٌسلامي .(58/53)
... وقال " ونزوله واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا " (1) فالدليل من كتاب إبن تيمية نفسه أقوى شهادة من هذه والروايات والإشاعات .
... إن هؤلاء يتذمرون مما يشيعه النصارى حول الآسلام ونبيه من الأكاذيب ويطالبونهم بأن لا يتكلموا عن الاسلام إلا بدليل ، ولكنهم بدورهم يستخدمون طريقة النصارى في إشاعة الأكاذيب من غير تدقيق ولا تحقيق .
... ومن المثير للعجب أيضاً أن نجد تشديد إبن تيمية في تكفير من يشبه الله بخلقه في حين نجد إبن حجر الهيتمى يصرح بأننا لا نكفر المشبهة على المشور الا إن إعتقدوا لازم ما يثبتونه من الحدوث(2) .
أول القائلين بالتجسيم عند إبن تيمية
... وحول لفظ الجسم قال إبن تيمية " وإثبات لفظ الجسم ونفيه بدعة لا أصل لها في الكتبا والسنة ، ولم يتكلم به أحد من السلف والأئمة ، وأهل السنة والجماعة لا يطلقون هذا اللفظ لا نفياً ولا إثباتاً ، كما أنهم لم يثبتوا لفظ التحيز و لا نفوه و لا لفظ الجهة و لا نفوه ، ولكن أثبتوا الصفات التى جاء بها الكتاب والسنة ، ونفوا مماثلة المخلوقات " . قال " وإنما يطلقه أهل الكلام مثال هشام إبن الحكم الرافضى و هشام الجواليقى فانه " أول من قال إن الله جسم(3) " .
... ثم بين اختلاف المتكلمين في معنى لفظ الجسم أن مفهومه للجسم مخالف لمهوم اللغويين له
... وذكر أن " ما كان مبتدعاً من الألفاظ يجب إستفصال صاحبه والنظر إلى مراده : فإن كان يريد معنى صحيحاً قبل منه ذلك ونبه على أنه لايجوز إستعمال مثل هذه الألفاظ . إن كان مراده نفي ما وصف الله به نفسه من العلو والأستواء والنزول فالمعنى باطل واللفظ باطل .(4)
__________
(1) مجموع الفتاوي 5/352 .
(2) الإعلام بقواطع الإسلام 68
(3) درء التعارض 2 : 288 – 289 وأنظر مجموع الفتاوي 17 : 301 – 329 .
(4) بيان تلبيس الجهمية 9 ط الرياض(58/54)
... ومع ذلك فإن كبار الأشاعرة من يجيز وصف الله بالجسم بشرط معين ، فقد صرح أبو جعفر السمانى رأس الأشاعرة وكبيرهم (1) أن " من سمى الله جسماً من أجل أنه حامل لصفاته في ذاته فقد أصاب المعنى أخطا في التسمية " (2)
... فهذا اللفظ الذى قاله أحد كبار الأشاعرة يرفض إبن تيمية مجرد إطلاقه على الله تعالى فكيف يكون قائلاً بأن الله جسم كما زعم المفترون ؟!
... وعلى إفتراض تصريح إبن تيمية بالجسم فإنه لم يقل " جسم كجسم " أو " يد كيد " أو " عين كعين " كما تقول المجسمة والمشبهة ، فكيف وانه لم يقل ذلك وهيهات أن يجد أعداؤه في كتبه ما يؤيد افتراءهم .
لذا فأنتم مطالبون بأمرين
1)أن تثبتوا بالدليل أن ابن تيمية صرح بأن الله جسم .
2) أن تثبتوا لنا على أفتراض أنكم وجدتم أنه جسم أن تثبتوا أنه قال جسم كجسمي
((( حكم التجسيم عند الشافعية)))
*ولقد نص ابن حجر المكي الهيتمي على أن المشهور [ بل ] الصحيح من المذهب عدم تكفير المجسمة كما قاله جمع من المتأخرين : من أن المجسمة لا يكفرون ولكن أطلق في المجموع تكفيرهم (3)
قال " وينبغي حمل الأول [ أي عدم التكفير ] على ما إذا قالوا جسم لا كالأجسام والثاني [ أي التكفي ] على ما إذا قالوا : جسم كالأجسام لأن النقص الازم على الأول قد لا يلتزمونه ولازم المذهب ليس بمذهب (4) وانتهي إلى أن الصحيح أننا لا نكفر الجهوية (5) ولا المجسمة إلا إن صرحوا بإعتقاد لوازم الحدث .... " الخ .
__________
(1) فتح الباري 1/70 .
(2) سير أعلام النبلاء 17 : 651 – 652 .
(3) الإعلام بقواطع الإسلام ص 38 و 50 .
(4) الزواجر عن أقتراف الكبائر 2/358 وأنظر 351 و 387 .
(5) أي القائلين على الله بالجهة .(58/55)
*ونص العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى على أن معتقد الجهة مخطئ خطاَ معفواض عنه لأن اعتقاد موجود ليس بمتحرك ولا ساكن ولا منفصل عن العالم ولا متصل به ولا داخل فيه ولا خارج عنه لا يهتدي إليه أحد بأصل الخلقة في العادة ولا يهتدي اليه أحد الا بعد الوقوف على أدلة صعبة المدرك عسرة الفهم (1) قال : فإن قيل يلزم من الأختلاف في كونه سبحانه في جهة أن يكون حادثاَ قلنا : لازم المذهب ليس بمذهب لأن المجسمة جازمون بأنه في جهة وبأنه قديم أزلي ليس بمحدث فلا يجوز أن ينسب إلى مذهب من يصرح بخلافه وإن كان لازما من قوله " (2)
وقال الأسنوي " لا نكفر المجسمة على المشهور كما دل عليه كلام الشرح والروضة في الشهادات "(3)
*وقال به أبو حامد الغزالي (4)
وقال الجلال الدواني في شرحه على العقائد العضدية " ص532 " " ومنهم من تستر بالبلكفة وقال : هو جسم لا كالأجسام وله حيز لا كالأحياز ونسبته إلى حيزه ليست كنسبة الأجسام إلى أحيازها " وهكذا ينفي عنه جميع خواص الجسم حتى لا يبقي الا أسم الجسم وهؤلاء لا يكفرون بخلاف المصرحين بالجسمية "
*وقال العضد الإيجي في المواقف ( 273 ) :
" أنه تعالى ليس بجسم وذهب إلى ذلك بعض الجهال كالكرامية وقالوا : هو جسم : أي موجود وقوم قالوا : هو جسم : أي قائم بنفسه فلا نزاع معهم إلا في التسمية .
الذهبي ينفي التجسيم عن الحنابلة
__________
(1) قواعد الأحكام الكبري 170 الحاوي للفتاوي 2/133 والحمد لله على أعتراف العز بأن طريقة أهل الكلام صعبة المدرك عسيرة الفهم فهذا أحد أدلة أهل السنة على بطلان طريقة أهل الكلام .
(2) قواعد الأحكام الكبري 172 .
(3) الإعلام بقواطع الإسلامللهيتمي 25 و 38 و 50 .
(4) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة 129 و 148 .(58/56)
قال الحبشي " هؤلاء الحنابلة يحبون ابن تيمية لأنه مجسم وهم يكثر فيهم التجسيم وفي مشايخهم قبل ابن تيمية وبعد ابن تيمية هؤلاء سموه شيخ الإسلام ثم بعض علماء أهل السنة قد أغتر بكلام هذين فسموه شيخ الإسلام من أين يستحق هذا اللقب (1) ؟
وقد رد الذهبي هذه التهمة فقال " والجهال يتكلمون على الحنابلة ويرمونهم بالتجسيم وبأنه يلزمهم وهم بريئون من ذلك الا النادر والله يغفر لهم " (2) وصدق الذهبي بذلك فإن المعتزلة المعطلة يقولون لمن أثبت الصفات وخالفهم في التأويل : يلزم من ذلك التجسيم والتشبيه (3) .
ومن هذا النادر ما كتبه القاضي أبو يعلي الحنبلي صاحب كتاب إبطال التأويل الذي أنتقده ابن تيمية لأنه حشا فيه الضعيف والموضوع من روايات ونصوص الصفات التي لا تليق بالله تعالى وهذا يدل على إنصاف الرجل وأنه يثبت نصوص الصفات من كتاب الله وما صح من السنة (4)
ولهذا صرح كثير من المنصفين بأن تهمة التجسيم التي ألصقت بالامام ما هي الا شهادة زور في حقه يؤكد ذلك كلامه نفسه كما في فتاويه ( 11/482 ) حيث أفتي بكفر الذين يشبهون الله بخلقه .
ولهذا فإنا نطالب هؤلاء أن يأتونا بكتاب من كتب الحنابلة المعتبرة يقولون فيها إن يد الله كيدي أو سمعه كسمعي أو أستواءة كاستوائي الخ .
وإنما يراد بهذه الاتهامات تقبيح طريقة إثبات صفات الله عند عامة الناس وترغيبهم بطريقة التأويل ويعتمدون في ذلك سياسة المعتزلة في التهويل والتهور في تكفير المثبتين لصفات الله .
كما تظلموننا يظلمونكم
__________
(1) شريط 12 ( أ ) 300 – 345 .
(2) زغل العلم 39 .
(3) مجموع الرسائل الكبري 1 : 418 .
(4) الدرء 5 : 237 .(58/57)
وقد نص الكوراني في شرح عقيدة القشاشي في بحث رؤية الله يوم القيامة : أن المعتزلة كفرت أهل السنة ( الأشاعرة ) لقولهم برؤيته سبحانه يوم القيامة ظناَ منهم أن ذلك يستلزم التجسيم وهذا ظن فاسد لأن أهل السنة يثبتونها بلا كيف لكن الأشاعرة أنفسهم يكررون اليوم الظلم نفسه فيزعمون أن إثبات صفة الاستواء يلزم منه التجسيم لأنهم لا يتصورون مستوياَ إلا ما كان جسماَ ولم يتصوروا مرئيا الا ما كان جسماَ لأنهم على التقليد في العقائد .
لفظ الحد
وقد حكم نبيل الشريف بكفر ابن تيمية لقوله " وقد أتفقت كلمة المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوه بذلك " (1) .
فكفره حيث زعم أنه وصف نفسه الله بأنه حد وهذا جهل وتسرع وظلم بل الحد هو الوصف نفسه إذ قوله وحدوه أي أثبتوا له هذا الوصف .
وكان عليه أن يعترف باختلاف أهل المنطق والكلام اختلافاَ كثيراَ حول تعريف الحد .
إذ ليس للحد تعريف واحد وانما تعريفات متعددة .
فالحد في عرف النحاة والفقهاء والأصوليين هو ما يميز الشيء عن جمع ما عداه .
وعند أهل الكلام أن حد الشيء معناه : الذي لأجله استحق الوصف المقصود بالذكر .
وعند أهل المنطق : هو القول الدال على ماهية الشيء . ويطلق ويراد به نهاية الشيء (2) .
وقد أصيبوا بالوسوسة من قول النبي " جعل الله الرحمة مئة جزء " لأنه عندهم صريح في التحديد والتجزئة نقل الزبيدي تعليق التوربشتي على الحديث بقوله " رحمة الله تعالى غير متناهية فلا يعتورها التقسيم ... ولم يرد – أي النبي به تحديد ما قد جل عن الحد أو تعديد ما جاوز العد " (3)
قال أبو القاسم التيمي " تكلم أهل الحقائق في تفسير الحد بعبارات مختلفة محصولها أن حد كل شيء موضع بينونته عن غيره " (4)
__________
(1) شريط 15 مجالس الهدي الوجه ( ب ) 65 .
(2) معيار العلم للغزالي 234 والبحر المحيد للزركشي 1/29 الكفاية في الجدل 1 .
(3) أتحاف السادة المتقين 10/557 – 558 .
(4) سير أعلام النبلاء 20/86(58/58)
فإذا كان للحد معان متضاربة لم يجز تحميل أحدها على ابن تيمية الا يصرح هو بالمعني الذي يقصده .
وقد أبان ابن تيمية عن مفهومه للحد فقال " الحد ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره " (1) وسبب الحد الرد على الجهمية الذين قالوا ليس له حد وقصدوا بذلك أنه لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك عندهم مستلزم للحد .
ونحن نعلم أن أهل المتاب يقرون بأنه في السماء ولا يقال هذا تقليد لهم لأن معنا من الأدلة القرآنية على ذلك ما لا يحصى .
وذكر ابن تيمية (2) أن أهل السنة قالوا إن الله ينزل إلى السماء الدنيا من غير أن يحدوا فيه حدا وأحتج بقول ابن وضاح " وسألت يوسف بن عدي عن النزول : قال نعم اؤمن به ولا أحد فيه حدآ وسألت ابن معين فقال : نعم أقر به ولا أحد فيه حداَ "
يتجاهلون تحديد الغزالي لقدرة الرب
ولكن لمإذا لم يحاكم الأشاعرة الغزالي لتحديده قدرة الله حين قال " ليس في الامكان أفضل من مما كان "(3) أليس في هذا وضع حد لقدرة الله أو إثبات لعجز الله كما أعترف به البيجوري في شرحه على جوهرة التوحيد ؟ (4) إن إنكار المنكر والغيرة على الدين بقدر ما هو تعصب مذهبي وتقليد محض في الثناء والذم والا فهل يجوز السكوت عن الطاعن في قدرة الله إذا كان أشعرياَ ؟
بل إن الأشاعرة هم الذين يحدون الله بصفة الحد حيث يجعلون لقدرة الله حداَ فيقولون : لا يستطيع أن يظلم . وبسبب ذلك ألزم ابن حزم الأشعرية بتحديد قدرة الله تعالى (5)
عبد الله ابن المبارك
وموقفه من لفظ الحد
__________
(1) نقض التأسيس 1/442 .
(2) الفتاوي 5/65 .
(3) الاملاء في أشكالات الأحياء 5/13 على هامش أحياء علوم الدين
(4) أنظر تحفة المريد شرح جوهر التوحيد ص 40 .
(5) الفصل في الملل والنحل 4/213 .(58/59)
غير أن هناك أثرا عن عبد الله بن المبارك رواه البيهقي في الاسماء والصفات عن علي بن الحسن قال " سألت عبد الله بن المبارك : كيف نعرف ربنا ؟ قال : في السماء السابعة على عرشه قلت : فإن الجهمية تقول : هو هذا قال إنا لا نقول كما قالت الجهمية نقول هو هو قلت : بحد ؟ قال : أي والله بحد " (1)
فتأمل كذب الأحباش حيث قالوا " والحد عن الله منفي على لسان السلف " (2)
وتأمل كيف كان موقف البيهقي رحمه الله من لفظ الحد الذي قاله المبارك فقد قال " إنما أراد عبد الله بالحد حد السمع وهو أن خبر الصادق ورد بأنه على العرش أستوى فهو على عرشه كما أخبر وقصد بذلك تكذيب الجهمية فيما زعموا أنه بكل مكان , وحكايته تدل مراده "
__________
(1) الأسماء والصفات 2/169 والسنة لعبد الله بن أحمد 1/175 والرد على الجهمية للدرامي 162 والرد على بشر المريسي الجهمي 34 قال الذهبي في مختصر العلو " هذا صحيح ثابت عن ابن المبارك " غير أن الكوثري أعل هذا الأثر بثلاث علل : اولاَ : الحسن بن الصباح روايه عن علي بن الحسن عند البيهقي : قال النسائي " ليس بالقوي " ثانياَ : ابن شقيق تكلموا فيه في الإرجاء . ثالثاَ : أختلاف الروايات عن ابن المبارك كما تري ( الاسماء والصفات بتحقيق الكوثري ص 537 ) وقد رد على هذه العلل بما يلي : أولاَ : الحسن بن الصباح متابع من غير واحد فضلاَ عن أن قول النسائي هذا فيه غير مقبول كما تراه بالدلائل في دفاع الحافظ بن حجر عنه في " هدي الساري ص 397 " ثانياَ : الطعن بالبدعة – على الراجح – لا يطعن برواية الثقة من الحفاظ وبخاصة أن روايته هذه ليس لها مدخل في شيء من الإرجاء . ثانيهما : أن دعوي الإرجاء باطلة مردودة فقد قيل له في ذلك فقال " لا أجعلكم في حل " وقد جاء في تاريخ بغداد ( ص 371 ) وتهذيب الكمال ( 20 / 372 ) ثالثاَ : دعوي أختلاف الروايات مردودةأذ ليس هناك أدني وجه من وجوه الأختلاف .
(2) منار الهدي 41/44 .(58/60)
هكذا بدون تكفير ولا تضليل مع أن ابن المبارك لم يفصل مقصده من اللفظ في حين أن ابن تيمية فصل مراده من لفظ الحد فقال بأن " لفظ الحد عند كل من تكلم به يراد به شيئان : يراد به حقيقة الشيء في نفسه ويراد به الوجود العيني أو الوجود الذهني فأخبر الامام أحمد أن الله على العرش بلا حد يحده أحد أو صفة يبلغها وأصف وأتبع ذلك بقوله " لا تدركه الأبصار لا بحد ولا غاية " والقصد أن تفسير الحد بالوجود العيني – وهو ما يقع تحت إدراك البصر وإحاطته أو الوجود الذهني وهو ما يقع تحت إدراك الذهن والعقل وتحديده مشاهدة أو تصوراَ – كلاهما باطل منفي عن الله عز وجل وليس لله صفة اسمها الحد وإنما الحد تعبير عن تميز الله عن غيره بصفاته وأختصاصه بكماله وعلوه عرشه ومباينته لخلقه " ( بيان تلبيس الجهمية 2/163 ) وهذا معني الحد عند الأصوليين والفقهاء والمناطقة (1)
فهل يصر اعداء ابن تيمية على تكفيره لتصريحه بلفظ صرح هو بأن مراده به تميز صفات الله عن صفات المخلوقين وليس بمعني أدراك منتهى الله . وهل يقتدون بأدب البيهقي ؟
ويسخر ابن تيمية ممن يتوهم أن الله صفة هي صفة الحد قائلا " أن هذا الكلام الذي ذكره أنما يتوجه لو قالوا : إن له صفة هي الحد كما توهمه هذا الراد عليهم وهذا لم يقله أحد ولا يقوله عاقل فإن هذا الكلام لا حقيقة له إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شيء من الموصوفات كما وصف باليد والعلم صفة معينة يقال لها : الحد وإنما ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره كما هو معروف في الحد في المددات فيقال : حد الانسان وحد كذا وهي من الصفات المميزة له " ( بيان تلبيس الجهمية 1/442 ) .
ثانياَ كان عليهم أن يبينوا موقف ابن تيمية من هذا اللفظ فقد شرحه في مواطن كثيرة من كتبه فقال بأن هذا لفظ لم يقل به السلف ولكن يطلق ويراد به معنيان :
__________
(1) الحدود في ثلاث رسائل ص 9 تأليف الفاكهي وأخوان الصفا وابن سينا تحقيق عبد الطيف محمد العبد .(58/61)
الأول : بمعني الإحاطة بالله علماَ فلا شك أن الحد منفي عن الله تعالى .لأن الله تعالى غير مدرك بالإحاطة وعلى هذا يحمل قول من نفي الحد من السلف كسفيان الثوري وحماد بن زيد .
الثاني : بمعني أن الله تعالى متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم عال عليهم وعلى هذا يحمل قول من أثبت الحد لله تعالى (1) كابن المبارك .
" إن كان المراد من معني ( الحد ) أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر بل قد وسع كرسيه السموات والأرض وقد قال (( والأرض جميعاَ قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه )) وفي حديث ابن عباس " ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن الا كخردلة في يد أحدكم "
وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات أي مباين لها منفصل عنها ليس حالا فيها فهو سبحانه كما قال أئمة أهل السنة فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه " (2)
" فمن قال : إن الله متحيز : أراد بقوله ( متحيز ) على معني أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات بائن عنها عال عليها : فقد أصاب ومن قال ليس بمتحيز :
إن أراد أن المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب .
وإن أراد ليس ببائن عنها بل هو لا داخل فيها ولا خارج عنها فقد أخطأ قال " وقد علم أن الله تعالى كان قبل أن يخلق السموات والأرض ثم خلقهما : فإما أن يكون دخل فيهما وهذا حلول باطل وإما أن يكون دخلا فيه وهو أبطل وأبطل وإما أن يكون الله سبحانه بائناَ عنهما لم يدخل فيهما ولم يدخلا فيه وهذا قول أهل التوحيد والسنة "
وبهذا يتبين لك أنهم يأتون بالمجمل من كلام الأئمة ولا يذكرون ما يفصل كلامهم ويبينه : حسيبهم الله
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 2/33 – 35 .
(2) الرسالة التدمرية 46 .(58/62)
... * وبالجملة فهذه الاقوال كالحد والتحيز والجهة لا يفهمها عامة الناس وفيها إجمال يشتبه عليهم ، وإنما دأب أهل البدع الهيمنة على العوام بمصطلحات و ألفاظ غربية عليهم و إيهامه أنهم متعمقون في العلم ، ولتشويه منهج أهل السنة ، فيسلم العامى لهم قولهم ويقلدهم في باطلهم وفي معادة خصومهم ويقلدهم في تكفيرهم .
... ورحم الله الامام أحمد إذ قال عن المتكلمين (1) يتكلمون بالمتشابه من الكلام و يخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ، فنعوذ بالله نت فتن المضلين " .
القول بالجهة
كذلك زعموا أن ابن تيمية صرح بإثبات لفظ الجهة على الله. وصريح كلام ابن تيمية يكذب ما يزعمون. لأنه يكرر دائمًا أن هذا اللفظ من جملة الألفاظ المبتدعة التي لم يتكلم السلف والأئمة فيها نفيًا ولا إثباتًا.
بل إننا نرى إثباتها من قِبَل الشيخ عبد القادر رحمه الله الذي يزعم الحبشي الانتساب إلى طريقته. قال الجيلاني: « وهو بجهة العلو، مستوى على العرش، محتو على الملك، وأن استواء الله هو (ذات) على العرش لا على معنى القعود والمماسة ولا على العلوِّ والرِّفعة كما قالت الأشعرية، بل يقال إنه في السماء على العرش كما قال: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [الآية 5 من سورة طه] [الغنية لطالبي طريق الحق 56]. فهل عندكم الجرأة على تكفير من تعتبرونه شيخ طريقتكم القادرية وقد صرّح بما تعتبرونه كفرًا؟!!
وقد مشى الغزالي [فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة 129 و 148] وابن عبد السلام [قواعد الأحكام 170 – 172 الحاوي للفتاوي 2/133] وابن حجر الهيتمي [الزواجر 2/351 و 358 و 378] على عدم تكفير القائل بالجهة. فإن رضيتم بذلك وإلا لزمكم تكفير الشيوخ: عبد القادر الجيلاني والعز بن عبد السلام والغزالي وابن حجر الهيتمي!
مفهوم الجهة عند ابن تيمية
__________
(1) الرد على الجهمية ص6 وهو ثابت له ( أنظر فتح الباري 13/493 ) .(58/63)
يرى ابن تيمية أن لفظ الجهة لفظ مبتدع لم يتلفظ به السلف نفيًا ولا إثباتًا، وليس ثمة نص لا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة أن الله متحيز أو هو جسم أو جوهر إلى غير ذلك من الألفاظ المبتدعة.
والناظرون بها قد يريدون معنى صحيحًا، فإن أرادوا معنى صحيحًا يوافق الكتاب والسنة كان ذلك مقبولاً منهم وإن أرادوا معنى فاسدًا كان ذلك مردودًا عليهم.
قال: « للناس في إطلاق الجهة ثلاث أقوال: فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصّل ... وذلك أن لفظ الجهة قد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو به ما هو معدوم.
ومن المعلوم أن لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله كان مخلوقًا لله، والله تعالى لا يُحصَرُ ولا يحيط به شيء من المخلوقات، وإن أريد بالجهة أمر عدمي – وهو ما فوق العالم – فليس هناك إلا الله وحده » [منهاج السنة 1/216].
وقد يراد بالجهة شيء موجود غير الله فيكون مخلوقًا كما لو أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السماوات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم، ومعلوم أنه ليس في النص إثبات الجهة ولا نفيه.
- فإذا قال القائل: « هو في جهة » قيل له ما تريد بذلك؟ أتريد أن الله سبحانه في جهة موجودة تحصره وتحيط به؟ مثل أن يكون في جوف السماوات؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات! أما تريد بالجهة أمرًا عدميًا وهو ما فوق العالم، فإنه ليس فوق العالم شيء من المخلوقات، والله فوق العالم؟
- فإن أردت الجهة الوجودية وجعلت الله محصورًا في المخلوقات فهذا باطل.
- وإن أردت الجهة العدمية، وأردتَ أن الله تعالى وحده فوق المخلوقات بائن عنها فهذا حق ... وقد قال ابن عباس: « ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم » فما كان بهذا الحقر والصغار كيف يحيط به ويحصره؟(58/64)
ومن قال: إن الله تعالى ليس في جهة قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السماوات رب يُعبَد ولا على عرش إله، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - لم يُعرَج به إلى الله تعالى، والأيدي لا تُرفَع إلى الله تعالى في الدعاء ولا تتوجه القلوب إليه: فهذا فرعوني معطِّل، جاحد لرب العالمين.
ومن هنا دخل أهل الحلول والاتحاد وقالوا: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، وأن وجود المخلوقات هو وجود الخالق [استغل المتصوفة هذا الاعتقاد الأشعري لا سيما قول الأشعري أن وجود كل شيء عين ذات ذلك الشيء لا زائدًا عليه. وبنوا عليه قولهم بوحدة الوجود وكان أبرزهم في ذلك ابن عربي وابن الفارض والقونوي وابن سبعين وقد ابتدأ عبد الغني النابلسي كتابه « إيضاح المقصود من معنى وحدة الوجود » عبارة الشعري ثم انطلق يوافق ابن عربي وابن الفارض في قولهم بوحدة الوجود جاعلاً إياهم أئمة الهدى وأنه لا قول إلا بوحدة الوجود وأن هذا القول باقٍ إلى يوم القيامة إن شاء الله، وجعل منكر وحدة الوجود جاهلاً محجوبًا عن الحق. (إيضاح المقصود من وحدة الوجود 306 – 310 للنابلسي). واستغلوا فكرة الجوهر والعرض عند الأشاعرة فجعلوا الجوهر هو الباطن، والعرض ظاهرًا وقالوا إن الله متجلٍ ظاهرًا في موجوداته لأن موجوداته هي صفاته]. انتهى كلامه [الفتاوى 3: 41 و 5: 626 – 298 و6: 38 و 17: 326 ومنهاج السنة 2: 252].
ولذلك قيل عن أهل التعطيل إنهم معطلة في العقائد، حلولية اتحادية في التصوف، فإن تعطيلهم يؤول إلى تضييع الرب [بسبب إنكارهم علوه سبحانه]، فإذا بحثوا عنه في التصوف وجدوه في كل مكان.
لفظ الحركة
أما لفظ الحركة فلم يثبت أن ابن تيمية اعتقده في الله، بل هذا من مفتريات الحبشي الذي زعم أن ابن تيمية ينسب الحركة إلى الله(1).
__________
(1) الدليل القويم 40 .(58/65)
جل ما قاله ابن تيمية أن "طوائف(1) من أهل السنة والحديث قالوا إن الحركة من لوازم الحياة وكل حي متحرك كحرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي ومنهم من نفاها كنعيم بن حماد الخزاعي والبخاري وابن خزيمة" أضاف "ومن أهل الحديث والفقهاء من لم يتكلم بنفي ولا إثبات"(2).
ولم يذكر ابن تيمية ترجيحاً لطريقة أحد الفريقين، وإنما ذكر الخلاف في ذلك. وتبنى موقفاً حذراً من هذه الألفاظ المبتدعة، فهل يلزم من هذا أنه يقول بالحركة؟
ولنضرب مثالاً من كلام الحبشي: فقد سئل عن حكم شرب الخمر فقال "عند بعض الفقهاء لا يجوز التداوي بالخمر في حال من الأحوال. يجوز عند بعضهم إعطاء المريض جرعة من الخمر لإساغة اللقمة بالنسبة لمن أصيب بالغصة، يجوز أن يسيغ اللقمة بالخمر، وقال بعضهم يجوز التداوي بالخمر إن لم يوجد دواء غيره"(3). فبناءً على قاعدة الحبشي يمكن أن نحكم عليه بأنه رجح شرب الخمر والتداوي به.
ومسألة الحركة لكم فيها تلبيس ماكر، وهي لوثة آرسطية آلت بكم إلى نفي الصفات الفعلية لله تعالى فصار إثبات أفعاله إثباتاً للحركات، فلا يتكلم الله بمشيئته وقدرته ولا يستوي إلى السماء ولا ينزل في الثلث الأخير من الليل، ولا يجيء إذا شاء، وقد كفرتم ابن تيمية إرضاء لشيخكم وسلفكم آرسطو الذي يعتقد أن الله لا ينزل ولا يستوي ولا يجيء كما قال "بل لا بد من محرِّكٍ أزلي يُحَرِكُ ولا يَتَحرَّكُ هو. ولا ينفعل بغيره وإلا لما كان أولا"(4).
__________
(1) حرف الحبشي النص من (طوائف أهل السنة) إلى (أئمة أهل السنة) الدليل القويم 40.
(2) درء تعارض العقل والنقل 2/7-8 مجموع الفتاوى 5/ 578 .
(3) شريط رقم 7 عداد 400 .
(4) الطبيعة لأرسطو ترجمة إسحاق بن حنين 2: 733 .(58/66)
وحرفتم معنى قوله تعالى {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} ليتلاءم ومذهب شيخكم فزعمتم أنه قال ذلك حين رأى الشمس تتحرك، لأنه كان يعلم أن كل متحرك مخلوق. ولكن ألم يكن يعلم أن الشمس جسم والأجسام مخلوقة فيستدل على خلقيتها بجسميتها؟
ثم لماذا تتجاهلون أن الأفول معناه الغياب وأن الآية لا علاقة لها بالحركة لأن الماشي والمتحرك لا يقال له آفل؟
ولقد نقد العز بن عبد السلام هذا الاستدلال وذكر أنه غاية في الإشكال(1).
موقف ابن تيمية من لفظ الحركة
وغيره من الألفاظ المبتدعة
وموقف ابن تيمية من هذا اللفظ كموقفه من غيره من الألفاظ التي لم يتكلم بها السلف نفياً ولا إثباتاً فقال "إن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث فيما يثبتونه وينفونه عن الله من صفاته وأفعاله، فلا يأتون بلفظ محدث مبتدع في النفي والإثبات … والألفاظ المبتدعة ليس لها ضوابط، بل كل قوم يريدون بها معنىً غير المعنى الذي أراده أولئك كلفظ الجسم والجهة والحيز بخلاف ألفاظ الرسول … والألفاظ المبتدعة تضمنت تكذيب كثير مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يعارضون به الكتاب والسنة، واللفظ المحدث يجب استفصال صاحبه"(2).
قال "فمن قال ينزل فيتحرك وينتقل من مكان إلى آخر، أو يفرغ منه ليشغل آخر؟ فهذا كله باطل قطعاً يجب أن ينزه الله عنه"(3).
وذكر أن "تلك العبارات من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل، وفي إثباتها إثبات حق وباطل، فيُمنع من كلا الإطلاقين بخلاف النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل …" ولهذا كان السلف لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل. بخلاف كلام الله ورسوله فإنه يجب قبوله وإن لم يفهم معناه.."(4).
__________
(1) فوائد في مشكل القرآن ص 119 .
(2) مجموع الفتاوى 5/ 432 .
(3) مجموع الفتاوى 5/ 458 – 459 و578 .
(4) درء تعارض العقل والنقل 1/75 .(58/67)
- قال "فالمعتزلة عندما ينزهون الباري عن الأعراض والحدود والأحياز والجهات والجسمية لا يقصدون تنزيه الباري عما يجب تنزيهه عنه … وإنما يُدخلون في مضامينها نفي ما أثبته الله لنفسه وأاثبته رسوله من صفات الكمال.
فإذا قالوا "إن الله منزه عن الأعراض لم يكن في ظاهر العبارة ما يُنكر لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة والفساد كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض، ولا ريب أن الله منزه عن ذلك، ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام قائم به ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها أعراضاً.
وإذا قالوا: إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات: أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أن لا تحصره المخلوقات ولا تحوزه المصنوعات. وهذا المعنى صحيح. ومقصودهم: أنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله، وأن محمداً لم يعرج به إليه، ولم ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء.
وإذا قالوا: إنه ليس بجسم: أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات. ولا مثل أبدان الخلق: وهذا المعنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يُرى ولا يتكلم بنفسه . . .".
قال "إن خطأ المتكلمين في تحديد مفاهيم تلك اللفاظ لا يرجع إلى مجرد التعبير عنها بمعان مخالفة لمعاني الكتاب والسنة، بل يرجع كذلك إلى تفسيرها تفسيراً مخالفاً للغة العرب التي خاطبهم بها القرآن. ويؤدي نفيهم للمعاني اللغوية الصحيحة التي يقرها القرآن إلى تنزيه الله عن معان صحيحة في حقه وهو باطل: لقد عبّروا عن المعاني التي أثبتها القرآن بعبارات أخرى ليست في القرآن وربما جاءت في القرآن بمعنى آخر"(1).
تحريف المعاني من عمل اليهود
واعترضوا على قول ابن تيمية "إن التوراة والإنجيل لم تبدل ألفاظهما وإنما وقع التحريف في معانيهما(2).
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 1/310 – 311 .
(2) المقالات السنية ص 15 .(58/68)
وهذا أسلوب المدلسين الذين يُظهرون للعوام هذه المسائل وكأنها مخالفة لأصل الإسلام. وقد كتم هذا المدلس عليهم أن هذا قول ابن عباس رضي الله عنه وهو ترجمان القرآن وقال به وهب بن منبه وهو من أعلم الناس بالتوراة. وهو مختار البخاري" كما حكاه الحافظ ابن حجر(1).
ورد على بدر الدين الزركشي.
وفي صحيح البخاري "قال ابن عباس "{يُحَرِّفُونَ}: يزيلون، وليس أحد يُزيل لفظ كتاب من كتب الله، ولكنهم يحرّفونه: يتأولونه عن غير تأويله" قال الحافظ في فتح الباري بأن تحريف أهل الكتاب لمعاني النصوص لا يُنكر بل موجود عندهم بكثرة" أضاف "قال الراغب: التحريف: الإمالة، وتحريف الكلم أن يجعله على حرف من الاحتمال بحيث يمكن حمله على وجهين فأكثر"(2).
سلف الحبشي في تحريف معاني النصوص
ويجدر التنبيه إلى أن الحبشي حريص على أن يكتم على الناس تلك الحقيقة وهي أن أهل الكتاب كانوا يحرّفون معاني النصوص. وهو ثابت عنهم باعتراف الحافظ ابن حجر الذي أفاد بأن أهل الكتاب لمعاني النصوص لا يُنكر بل موجود عندهم بكثرة.
والمؤولة أمثال الحبشي يتهربون من تبيين هذه الحقيقة حتى لا يقول الناس إن الحبشي يضاهئ أهل الكتاب في تحريفاته معاني النصوص والتي يسميها زوراً بـ (التأويلات) جاعلاً الاستواء بمعنى الاستيلاء والغضب بمعنى العقوبة والرضى بمعنى الثواب الخ . . . متذرعاً بذريعة التنزيه. وبالطبع لا بد للشر من تزيين وزينة التحريف دعوة التنزيه.
قال تعالى {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} وقال {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}.
ثم أثبت ابن حجر أن هذا ما رجحه الإمام البخاري صاحب الصحيح. فقال "قال شيخنا ابن الملقن في شرحه: هذا الذي قاله أحد القولين في تفسير هذه الآية وهو مختار البخاري"(3).
__________
(1) فتح الباري 13/523 .
(2) فتح الباري 13/524 .
(3) فتح الباري 13/523 .(58/69)
وأخذ الحافظ يسرد الأقوال التي قيلت في تفسير في معنى التحريف: حتى وصل إلى القول الثالث: وهو أنه وقع اليسير منها، ومعظمها باق على حاله، ونصره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه (الرد الصحيح لمن بدل دين المسيح).
ولقد رد الحافظ ابن حجر على الزركشي دعواه إبطال هذا القول فقال "وفي وصفه القول المذكور بالبطلان نظر، فقد نسب لوهب بن منبه وهو من أعلم الناس بالتوراة، ونُسِب لابن عباس ترجمان القرآن، وكان ينبغي له ترك الدفع بالصدر والتَّشاغل بِرَدّ أدلة المخالف التي حكيتها" انتهى.
اتهامه بالقول بفناء النار
هل قال ابن تيمية بفناء النار.
وأشاع خصوم ابن تيمية أنه كان يقول بفناء النار وأنها تنطفئ بأهلها.
أما خصومه فمنهم الحبشي الذي قال "وكان ابن تيمية نقل في كتابه منهاج السنة النبوية أنه لا خلاف بين المسلمين في ذلك إلا أن جهماً خالف فكفّره المسلمون. ثم قال هو [أي ابن تيمية] بخلاف ذلك في النار"(1).
وأنا ما تركت كتاباً للحبشي إلا وقد قرأته ومع ذلك لم يأت بنص واحد من كتب ابن تيمية يؤيد ما يزعم، وأتحداه أن يأتي بدليل واحد وإلا كان حكمي فيه أنه كذاب ومفترٍ. وإنما وجدت في كتاب الحبشي (فتح الرحمن) أن الشيخ عبد القادر الجيلاني يمكنه أن ينفخ في نار جهنم فيطفئها. فهذا عندي قول بفناء النار. وهو قول أشر من القول المنسوب لابن تيمية.
بل قد تجد من الأشاعرة كأبي منصور البغدادي من يجوز فناء النار في العقل مع قوله بدوامها حسبما جاء في الخبر(2).
أن تصيبوا قوماً بجهالة
- وأما أصحاب ابن تيمية ومحبّوه فمنهم الشيخ شعيب الرناؤوط محقق الطحاوية الذي نسب القول بفناء النار إلى ابن تيمية وابن القيم(3). وليس في كتب ابن تيمية ما يفيد ذلك بل قد نصت كتبه على دوام النار إلى الأبد.
القاري ينفي التهمة عن ابن تيمية
__________
(1) إظهار العقيدة السنية 191 .
(2) أصول الدين 230 .
(3) شرح الطحاوية لابن أبي العز ص 422 ط: المؤيد .(58/70)
وقد نفى العلامة القاري هذه التهمة عن ابن تيمية فقال في رسالته القيمة التي رد بها على ابن عربي "وأما قول المؤول إن ابن تيمية الحنبلي ذهب إلى أن الكفار في عاقبة المر يخرجون من النار فافتراء عليه"(1).
أقوال ابن تيمية في أبدية الجنة والنار
قال "وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يُعدم ولا يَفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش. ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة. وهذا قولٌ باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع سلف الأمة وأئمتها"(2). "ولهذا اشتد إنكار السلف عليهم لقولهم بفناء الجنة والنار"(3).
قال "والجهم يقول بفناء الجنة والنار وأبو الهذيل الذي يقول بانقطاع حركات أهل الجنة والنار … وخالفهم جماهير المسلمين(4). وطريقة الأعراض عند أهل الكلام ألجأتهم إلى أن يلتزموا لوازم فاسدة أدت بالجهم بن صفوان وغيره إلى القول بفناء الجنة والنار(5).
قال "وقال أهل الإسلام جميعاً: ليس للجنة والنار آخر، وإنهما لا تزالان باقيتينن لا يزال أهل الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يُعذَّبون: ليس لذلك آخر"(6). "وقد أخبر الله ببقاء الجنة والنار بقاء مطلقاً"(7).
فها هو يؤكد اتفاق أئمة السلف على أبدية النار وإنكارهم قول الجهمية بفنائها فكيف يوافق هؤلاء ويخالف السلف؟
__________
(1) الرد على القائلين بوحدة الوجود 86 .
(2) مجموع الفتاوى 18: 307 .
(3) درء تعارض العقل والنقل 8: 345 .
(4) الفتاوى 8: 380 و12: 45 و14: 348 منهاج السنة 1/146 و310 و351 .
(5) مجموع الفتاوى 3: 304 . درء تعارض العقل والنقل 1: 39 و305 و 3: 158 تحقيق د: محمد رشاد سالم. ط: جامعة الإمام بالرياض .
(6) درء التعارض 2: 358 .
(7) بيان تلبيس الجهمية 157 .(58/71)
فهاهو يعزو القول بفناء النار إلى الجهم بن صفوان رأس الجهمية وأبي الهذيل العلاف رأس المعتزلة. فكيف يأخذ بقولهم مع أنه صرح – بما رأيت – أن جمهور المسلمين مخالفون لهم؟
والعجيب أن ابن عبد الهادي ذكر عند سرد مؤلفات ابن تيمية أن "له كتاب قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار"(1).
هل قال ابن القيم بفناء النار؟
وقد قسَّم ابن القيم منازل الناس يوم القيامة إلى ثلاث دور: دار الطيب المحض، ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان، ودارٌ لمن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد، فإنهم إذا عُذِّبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة: ولا يبقى إلا دار الطيب المحض ودار الخبيث المحض(2).
واحتج ابن القيم على الجهمية بعقيدة أبي زرعة وأبي حاتم الرازي وسرد عقيدتيهما ومما احتج بقولهما فيه أن الجنة والنار مخلوقان لا يفنيان(3).
قال ابن القيم "وأنا في هذه المسالة على قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه ذكر دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ووصف ذلك أحسن صفة، ثم قال: ويفعل الله بعد ذلك في خلقه ما يشاء(4).
فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق داراً لطالبي رضاه العاملين بطاعته، المؤثرين لأمره القائمين بمحابِّه: وهي الجنة … وخلق داراً أخرى لطالب أسباب غضبه وسخطه … فهاتان الداران هما دارا القرار"(5).
موقف أهل التحريف من ابن القيم
وقد أبى لصوص النصوص إلا الدسّ واتباع ما تشابه من كلام ابن القيم مع تجاهل لمحكم أقواله وصريحها التي نصت عليها كتبه، فانظروا أدلتهم لتعرفوا حقيقتهم:
__________
(1) العقود الدرية في مناقب ابن تيمية 67 دار الكتب العلمية .
(2) الوابل الصيب شرح الكلم الطيب 49 تحقيق الأنصاري .
(3) اجتماع الجيوش الإسلامية 233 تحقيق عواد المعتق ط: الرياض .
(4) شفاء العليل 264 ط: دار المعرفة .
(5) طريق الهجرتين 140 ط: دار الوطن للنشر والإعلام .(58/72)
قالوا(1) "وكذب على الله حين قال في (حادي الأرواح 257) أن النار قد أخبر سبحانه وتعالى في ثلاث آيات عنها بما يدل على عدم أبديتها" انتهى.
وتجاهلوا أن ابن القيم كان ينقل أقوال الفريقين المختلفين في هذه المسألة، ثم ختم مقالة الفريقين بقوله "فهذه نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة".
قال "فإن قيل فإلى أين انتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن؟ قيل: إلى قوله تعالى {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} وإلى هنا انتهى قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها حيث ذكر دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وقال: ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء، وإلى هنا انتهت أقدام الخلائق. وما ذكرناه من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريء منه" انتهى.
فمن أين زعمتم أن ابن القيم تبنى القول الصريح بفناء النار أيها المحرفون؟
ثم لجأوا إلى تحريف آخر فقالوا "وقال [الحافظ ابن حجر] وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول السابع ونصره" قالوا: ويريد الحافظ ببعض المتأخرين: ابن القيم الجوزية، ولا يخفى ذلك على من طالع حادي الأرواح"(2).
يا لجرأة المحرفين كيف علموا أن مراد الحافظ بذلك ابن القيم بينما لم يصرح ابن القيم نفسه بتبني هذا القول في كتابه المشار إليه؟ وعلى من لا يخفى؟
هكذا فعل الذين في قلوبهم مرض في القرآن فاتبعوا ما تشابه منه وأعرضوا عن محكمه، وهكذا يفعلون مع نصوص العلماء: يتبعون ما تشابه ويتجاهلون ما صرحوا باعتقاده بكلمات واضحة.
__________
(1) مجلتهم منار "الهدى" عدد 13 ص 53 .
(2) مجلتهم منار "الهدى" . 31 / 53 .(58/73)
ثم زعموا أن ابن أبي العز قال في (شرح الطحاوية 427) "السابع: أن الله يُخرج منها من يشاء كما ورد في الحديث ثم يبقيها شيئاً فشيئاً ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهى إليه" وهم يهجمون بمثل هذا الدس على العامة والجهال. وأما طلبة العلم فيعلمون أن قوله (السابع) أي القول السابع من الأقوال المختلفة. حيث كان يسرد أقوالهم في هذه المسألة.
فانظر إلى أهل التحريف كيف يحرفون كلام المخلوقين بعد تحريفهم كلام الله ورسوله.
من القائلون بفناء النار
ولو فرضنا أن ابن تيمية وتلميذه قد صرّحا بذلك فلا يجوز أن يُعتَبر ذلك كفراً فإن فيه روايات منقولة عن السلف أبي هريرة وأبي سعيد وعمر وابن مسعود منها ما أورده السيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ}:
- أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر رضي الله عنه "لو لبِث أهل النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه"(1).
- وقال الشعبي "يأمر النار أن تأكلهم". وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال "ما في القرآن أرجى لأهل النار من هذه الآية". وقال "جهنم أسرع الدارَين عمراناً وأسرعهما خراباً"(2).
وقال في قوله تعالى { إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم ثم يجدد خلقهم"(3).
- وأخرج اسحق بن راهويه عن أبي هريرة قال "سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد".
وعن ابن مسعود قال "ليأتينّ على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً".
__________
(1) قال الألباني في شرح الطحاوية 484 "ضعيف فإن الحسن لم يدرك عمر بن الخطاب".
(2) تفسير الطبري المجلد السابع 12/ 71 والدر المنثور للسيوطي 3/350 .
(3) تفسير القرطبي 10/100 .(58/74)
فهذه النصوص المحكية عن السلف كانت مورد الشبهة، وقد يأخذ بها من لا يتحقق من درجة ثبوت هذه الروايات أو ضعفها. وهذا بخلاف من بنى قوله أصلاً على قواعد أهل الكلام أدت به إلى التزام لوازم فائدة كالجهم بن صفوان.
فكيف وأن الثابت عن ابن تيمية وتلميذه تصريحهما المطلق بأبدية الجنة والنار وأنهما لا تفنيان أبداً! وهو ما أذهب إليه.
ولقد أنكر الشعراني صحة نسبة القول بفناء النار إلى محي الدين بن عربي، مع أن ذلك موجود في كتبه، فقال الشعراني في الأجوبة المرضية "ثم إنه بتقدير صحة نسبة ذلك إلى الشيخ محي الدين فالشيخ لم ينفرد بذلك، فقد قال جمع من الظاهرية وفرقة من الحنابلة والقدرية بفناء النار"(1). ومع ذلك فإن المتعصبين لم يُشيروا إلى ذلك وإنما سكتوا عنه وكتموا الحق بشأنه لأنه من الأولياء:
نعم؛ هو من الأولياء ولكن أولياء من؟
قال تعالى {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}. وقال {فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ}.
قيام الحوادث بالرب هو قول الأشعري
أما عن استنكار الحبشي قول ابن تيمية "فإن قلتم لنا: فقد قلتم قيام الحوادث بالرب. قلنا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل"(2):
فالحبشي يكتم الناس أن هذه من مسائل الأشعري نفسه خالفه فيها الماتريدية وأن الأشاعرة يوافقون ابن تيمية في ذلك.
الرازي يصرح بقيام الحوادث بالرب
ويكتم الحبشي أيضاً عن عامة أتباعه أن هذا ليس مذهب ابن تيمية وحده وإنما هو ما انتهى إليه نُظّار الأشاعرة حيث انتقدوا القول بأزلية الصفات مطلقاً بعد أن واجهتهم مشكلات بسبب هذه النظرية، فتفرقوا واضطربوا:
حتى صرح إمامهم في المذهب الأشعري وهو الرازي بأن أكثر العقلاء يقولون بقيام الحوادث بالرب وإن أنكروه باللسان:
أضاف الرازي:
__________
(1) نقلاً عن جلاء العينين للألوسي 425 .
(2) المقالات السنية 19 .(58/75)
فأبو علي وأبو هاشم من المعتزلة وأتباعهما قالوا بإرادة حادثة لا في محل.
وأبو الحسين البصري يثبت في ذاته تعالى علوماً متجددة بحسب تجدد المعلومات.
والفلاسفة يقولون بأن الإضافات وهي القبلية والبعدية موجودة في الأعيان. فيكون الله مع كل حادث. قال الرازي: وذلك الوصف الإضافي حدثٌ في ذاته.
والأشعرية يثبتون نسخ الحكم، ويثبتون للعلم والقدرة تعلقات حادثة(1) وانتهى إلى أن القول بقيام الصفات الفعلية (ذكر منها صفة الكلام) بمشيئة الله واختياره هو أصح الأقوال عقلاً ونقلاً" قال الحافظ ابن حجر "وهو المحفوظ عن السلف"(2).
وقال في المطالب العالية "هل يعقل أن يكون الله محلاً للحوادث؟ قالوا(3) هذا قول لم يقل به إلا الكرامية. وأنا أقول: إن هذا قول قال به أكثر أرباب أهل المذاهب، أما الأشعرية: فإنهم يدعون الفرار من هذا القول إلا أنه لازم عليهم". ثم أوضح بطلان عقيدة الأشاعرة في الكلام النفسي هو قول بعيد عن الصواب(4).
فإذا كان قيام الحوادث بصفات الرب الفعلية: لزم الحبشي تكفير ابن حجر والرازي والأشاعرة عموماً، فإنهم أكدوا قيام الحوادث في أفعاله سبحانه. وأنه قول لا مهرب منه.
أليس غريباً حينئذ أن يتهم ابن تيمية بأنه يقول بقيام الحوادث بالرب بينما يكتم عن عامة أتباعه أن هذا ما اتُّهم به الأشعري نفسه في موقفه من صفة التكوين وسائر صفات الأفعال. ولقد زعم أن الأشعرية والماتريدية تمثلان عقيدة أهل السنة والجماعة. وأنه لا حرج على من يختار أي من الطريقتين شاء. فإذا كان يلزم من القول بحدوث صفات الرب حدوث الرب نفسه فأخرِجوا الأشاعرة من بوتقة أهل السنة والجماعة. وهذا لا ريب فيه.
__________
(1) الأربعين في أصول الدين للرازي 118 .
(2) فتح الباري 13/441 .
(3) يعني أصحابه من الأشاعرة .
(4) الدليل القويم 76 .(58/76)
ولقد اعترف الحبشي بأن معظم الأشاعرة خالفوا الماتريدية قائلين: إن الصفات الفعلية ليست أزلية لأنها لا تتعلق بذات الله تعالى(1) وإنما تقوم بإرادة الله ومشيئته(2). ويلزمهم من ذلك أن يعترفوا بأن الخلاف بين الأشاعرة والماتريدية خلاف في أصل العقيدة. وأن منه ما جعلهم يكفّر ويبدّع بعضهم بعضاً.
ولقد اعترف الحبشي بصحة ما ذكره الحافظ ابن حجر في (الفتح 13/439) بمعارضة الأشعري القول بأزلية كل الصفات لله تعالى مما جعل الماتريدية يُلزمونه بأنه يقول بحلول الحوادث بالله(3). وبقي هذا الخلاف قائماً بين الفريقين إلى اليوم:
فالأشاعرة يقولون بأن الصفات الفعلية لله ليست أزلية بخلاف الصفات الذاتية فإنها أزلية. وهذا باعتراف الحبشي نفسه(4).
التعلقات والإضافات هروب شبيه بالكسب
وقد فسروا أفعال الله بالتعلقات والإضافات وهي في الحقيقة ليست إلا الأفعال ولكنها مخالفة لها في اللفظ موافقة لها في المعنى كقولهم في الكسب الذي خالفوا في الجهم لفظاً ووافقوه معنى. ولهذا ألزم الرازي الأشاعرة بأن التعلقات والإضافات التي يقول بها المتكلمون هي الحدث بنفسه في الله(5).
أما عن التعلقات فيسألهم ابن تيمية أولاً عن الدليل الشرعي من الكتاب والسنة على وجود إضافات وتعلقات لله وهو أمر غيبي لا قِبَلَ لهم بالعلم به إلا من عند الله؟ فهذا افتراء شبيه بافترائهم أن جبريل فهم ما في نفس الله من المعاني وصاغه بألفاظ من عنده.
ثم يناقشهم ابن تيمية فيقول "إما أن يكون التعلق أمراً وجودياً أو عدمياً؟
فإن كان عدمياً فلم يتجدد شيء والعدم لا شيء. فهذا قول غير معقول.
وإن كان وجودياً بطل قولهم من أصله فيلزمهم إثبات إرادة فعلية مستقبلة(6)..
نفي قيام الحوادث بالرب
__________
(1) إظهار العقيدة السنية 31 .
(2) فتح الباري 13/ 441 و455 و 491 .
(3) الدليل القويم 76 .
(4) الدليل القويم 75 .
(5) الأربعين في أصول الدين 118 .
(6) درء تعارض العقل والنقل 8/283 .(58/77)
ذريعة اعتزالية قديمة موروثة
ولقد استخدم المعتزلة هذه الذريعة فقالوا: لا تحِلّ الحوادث بالله: لا الأعراض ولا الجواهر. وأرادوا بذلك نفي أن تقوم به صفة العلم والقدرة أو أن يقوم به الفعل كالخلق والاستواء والإحياء والإماتة. غير أن السلف ردوا عليهم.
- قال البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقوله {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} بأن حدَثه سبحانه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
فإنكار قيام الحدث في أفعال الرب يؤدي إلى القول بأزلية المخلوقات، وإثبات ذلك على وجه لا يشبه حدث المخلوقين هو الموافق للشرع والعقل كما قال البخاري".
وأين هذه الأزلية من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - المتفق على صحته "لما فرغ الله من الخلق كتب على عرشه رحمتي سبقت غضبي"؟!
تفصيل معنى الحوادث
ولا بد لنا أن نتفهم مراد ابن تيمية من عبارة (قيام الحوادث بالرب):
قال "فمن قال: الرب تعالى ليس محلاً للحوادث، نقول له: إن هذا لفظٌ مجمل لا يُقبل على إطلاقه، بل يُفسَّر ويُفصّل كالآتي:
فإن أريد بهذا النفي المجمل أن الله تعالى ليس محلاً للحوادث، أي ليس داخل ذاته المقدسة شيء من المخلوقات المحدثة فهذا نفيٌ صحيح.
وإن أريد بذلك النفي: نفي ما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الصفات الاختيارية من أن لا يتكلم بما شاء إذا شاء ولا أنه يغضب ويرضى ولا أن يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته: فهذا نفيٌ باطل ومردود على قائله"(1).
وأهل الكلام المذموم يطلقون [لفظ] نفي الحوادث، فيسلّم السُّنّي له ذلك على ظن أنه ينفي عن الله ما لا يليق بجلاله.
فإذا سلّم له ذلك ألزمه [المتكلم] بنفي الصفات الإختيارية وصفات الفعل، وهو غير لازم له.
__________
(1) مجموع الفتاوى 6/ 273 .(58/78)
وإنما أُتِيَ السّنّيُّ من تسليمه لهذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه" أي لم يتمكن المتكلم من إلزامه بهذا النفي.
مسألة قدم العالم
وزعم الحبشي أن ابن تيمية كفر لقوله بقدم العالم بنوعه، ونقل عن التقي السبكي قوله في الدرة المضية أن ابن تيمية "جعل الحادث قديماً والقديم حادثاً" يعني قوله بقدم المخلوقات وقوله بحدوث الإرادة بالله. قال: ولم يجمع أحد سواه بين هاتين الضلالتين(1).
- قلت لو كان هذا صحيحاً فكيف يثني السبكي عليه الثناء البالغ ويصرح أن الله جمع له بين الورع والزهادة وبلوغه والاجتهاد والديانة ونصرة الحق، واتباعه مذهب السلف(2) رواه الحافظ ابن حجر.
وإذا كان السبكي يصف ابن تيمية بهذه الأوصاف العظيمة: كيف يجرؤ لرجل ككمال الحوت أن ينفي دعاء السبكي له بالرحمة(3) فإنه بالرغم من تعصب السبكي الإبن ضد ابن تيمية إلا أنه كان يدعو له بالرحمة والفوز بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ووسيلته(4).
القائلون بأزلية فعل الخالق يلزم أزلية المخلوق
بل إن من يدعون أن صفات الله كلها أزلية ولا يعترفون بأن أفعال الله كالتخليف والتصوير أفعال حادثة: يلزمهم القول بأزلية المخلوق، لأنه إذا كان فعل الله بلا أول لزم أن يكون المفعول المخلوق بلا أول.
الفخر الرازي يمنع من تكفير القائلين بقدم العالم
وتعجب إذا علمت أن الفخر الرازي – مقعد المذهب الأشعري – قرر في "شرح إشارات ابن سينا" (1/42-43) أنه لا كُفرَ لمن يقول بقدم العالم على طريقة الفلاسفة مع إثبات الخالق وأن العالم مخلوق لازم لذات الله، بل لم يجعلها من مسائل التوحيد ما دام الكل متفقاً على أن الله هو خالق كل شيء.
__________
(1) الدليل القويم 160 .
(2) الدرر الكامنة 1/159 الذيل على طبقات الحنابلة 2/293 .
(3) التوفيق الرباني 68 و76 والرسائل السبكية 60 .
(4) طبقات السبكي 10: 149 تحقيق الحلو والطناحي ط: الحلبي مصر .(58/79)
قال "فأما القائلون بأن واجب الوجوب واحد، فقد اختلفوا على قولين:
فمنهم من قال: إنه تعالى لم يكن في الأزل فاعلاً، ثم صار فيما لا يزال فاعلاً، ثم صار فيما لا يزال فاعلاً وهم الملِّيوّن بأسرهم. ومنهم من قال: إنه كان في الأزل فاعلاً، وهم الفلاسفة". ثم قال بعد سطور: إنه كان في الأزل فاعلاً وهو الفلاسفة.
قال "فثبت أنه لا تعلق لمسألة القدم والحدوث بالتوحيد".
اختبار الصدق
وكنا نود أن يكون الحبشي شديداً على القائلين الحقيقيين بقدم العالم، غير أننا رأيناه على عكس ذلك فإنه يتستر عليهم ويتأول ألفاظهم.
فمع أنه يذكر أن الأمة اتفقت على كفر القائلين بقدم العالم، إلا أنه لا يريد أن يعترف بأن أبرز القائلين بقدم العالم هم الصوفية، يتزعمهم في ذلك ابن عربي كما صرّح به:
العز بن عبد السلام (الذي كان معاصراً لابن عربي).
وأبو حيّان النّحوي.
والحافظ ابن حجر.
حيث صرحوا أن ابن عربي يقول بقدم العالم ولا يحرِّم فرجاً(1).
لكن الحبشي ينسب القول بقدم العالم (زوراً) إلى ابن تيمية ويتكتم على شهادة العز بن عبد السلام وأبي حيان في ابن عربي أنه كان مؤمناً بقدم العالم: فهل هذا إلا الظلم والتعصب الأعمى؟!
هذه كتب ابن تيمية: أين قال فيها بقِدَم العالم؟ قارنوها بكتب ابن عربي التي قال فيها الذهبي "إن لم تكن كفراً فلا يوجد في الدنيا كُفر"(2).
ما حكم القائلين بأزلية النور المحمدي؟
إن الحبشي يخفي حقيقة لا يعرفها من يتعصبون له، وهو أنه في الوقت الذي يتهجم فيه على ابن تيمية ويتهمه كذباً بأنه يقول بأزلية شيء مع الله، يخفي عليهم أن القول بوجود مخلوق أزلي مع الله هو قول المنحرفين الصوفية الذين يفخر بأنه على طريقتهم كالرفاعية والنقشبندية.
__________
(1) لسان الميزان 2/384 سير أعلام النبلاء 23/48 تفسير البحر المحيط 3/449 تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي 157 للبقاعي طبقات ابن الملقن (153) صفحة 469 .
(2) سير أعلام النبلاء 23/48 .(58/80)
الصيادي والرواس يصرحان بأزلية نور النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقد ذكر الصيادي في قلادته الصلاة الرفاعية ونصها:
"اللهم صلّ على نورك الأسبق الذي أبرزته رحمة شاملة لوجودك: نقطة مركز الباء الدائرة الأولية الذي فتقت به رتق الوجود وخصصته بالمقام المحمود وأقسمت بحياته: فهو سرك القديم الساري وماء جوهر الجوهرية الجاري الذي أحييتَ به الموجودات من معدنٍ وحيوان ونبات(1).
ووصفه الصيادي بأنه - صلى الله عليه وسلم - نور من نور الله وسر من أسراره(2). وهذا السر قديم مع قدم الله.
وهذا ما صرح به المهدي الرواس في كتابه (بوارق الحقائق)(3) حيث جعل نور النبي - صلى الله عليه وسلم - أزلياً وأن عمامته فوق عرش الله، قال:
وهو نور أزليٌ طرزُه صار في وجه وجود الكون شامة
طُوِيَ العالم في جبّته وعلى العرش علت منه العمامة
وتسألهم: كيف اعتقدتم بوجود أزلي مع الله؟ أليس هذا كفراً؟ لماذا لا تحكمون بكفر زعيمين من كبار الطريقة الرفاعية: الصيادي والرواس؟
وهنا ستخرس ألسنتهم ولن يرضوا بتكفير الصيادي ولا الرواس، لأنهما رأس الطريقة الرفاعية، وسيحاولون التملص من الإحراج، وسيشعرون بالذلة بعد تعاظمهم، يتبجحون بتكفير ابن تيمية لقوله بزعمهم بأزلية المخلوقات، ألا فليجيبوا عن انحرافات الصيادي والرواس إن كانوا صادقين. فإن أبوا فاعلم أنهم متعصبون: يصدق فيهم قول أبي حنيفة "إني وجدت أهل الكلام قاسية قلوبهم، غليظة أفئدتهم، يبالون مخالفة الكتاب والسنة، وليس عندهم ورع ولا تقوى"(4)
__________
(1) قلادة الجواهر 249 وهذا الكتاب يعتمده الحبشي ويعظمه .
(2) قلادة الجواهر 263 .
(3) بوارق الحقائق ص333 وص15 من المجموعة النادرة .
(4) سير أعلام النبلاء 6/399 مفتاح دار السعادة 2: 136 .(58/81)
والصيادي يزعم أنه لولا محمد لما خلق الله السماوات والأرض. قال "فالكل لأجله كان وبه نظم، بمعنى لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك"(1) وقد كذّبه الله حين قال {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
والصوفية يزعمون أنهم يصيرون إلى حالة تجعلهم مع الله شيئاً واحداً، وكلامهم في "الفناء بالله" مشهور منثور في كتبهم. فكيف يصير القديم والحادث شيئاً واحداً؟!
عقيدة مصطفى نجا من وحدة الوجود
كما يعبر عنه عبد السلام بن بشيش "اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة"(2)، هذه العبارة المشؤومة قد استحسنها من تجعلونه قدوة لكم في الاعتقاد وهو الشيخ مصطفى نجا(3). قاله في كشف الأسرار الذي أثنى عليه الأحباش وزعموا أنه دليل على صحة عقيدته(4).
فيا من تزعم أن من مزايا الطريقة الرفاعية محاربة القائلين بوحدة الوجود لماذا تثني أنت وأتباعك على مصطفى نجا الذي استحسن هذا الكلام الكفري من ابن بشيش، فالتوحيد عنده أوحال، والوحدة عنده هو عين التوحيد!!
وإليك المزيد من عقيدة مصطفى نجا الشاذلي اليشرطي(5):
__________
(1) قلادة الجواهر 252 .
(2) النفحة العلية في أوراد الشاذلية 16 .
(3) كشف الأسرار لتنوير الأفكار ص9 طبع على نفقة أحمد اليشرطي شيخ الطريقة اليشرطية الشاذلية.
(4) مجلة منار الهدى 43/47 .
(5) اليشرطية طائفة صوفية فاسدة حكي عنها أمور مذمومة واعتقادات مشؤومة حتى نفتهم الحكومة العثمانية، حكى في (حلية البشر أنهم كانوا يفخرون بمخالفة الشريعة وأن فعل المنكرات يوصل إلى رب الأرباب، ويُذكر أنهم كانوا يرتكبون الفواحش، وكان كثيرون يشكونهم إلى مؤسس الطريقة علي بن أحمد اليشرطي فكان يقتصر على قوله: "عظوهم وعرّفوهم أن هذا محرم. وإذا وعظهم إنسان سخروا منه وعدّوه من أهل الجهالة" (انظر الأعلام للزركلي 4/261).(58/82)
وكان يؤمن بقدم نور نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأن من نوره - صلى الله عليه وسلم - خلق الله الأشياء، وأن نور النبي - صلى الله عليه وسلم - أول صادرٍ عن الله(1).
وأنه لولا محمد ما خلق الله سماءً ولا أرضاً، ولم يخرج شيء من العدم إلى الوجود لولا سريان سره في الأشياء وإمداده لها: لم يصح بقاء موجود(2).
وزعم أن الله يتجلى لمن شاء من خلقه كما وقع لموسى حين تجلى الله له على النار المخلوقة(3).
طريقة أهل البدع في الحكم على الآخرين
وزعم أن ابن تيمية قال "لا مانع أن يكون نوع العالم غير مخلوق لله"(4) من غير أن يحيل إلى شيء من كتبه.
ولا وجود لمثل هذا في كلام ابن تيمية وإنما هذا ما يراه الحبشي مما يزعم أنه من كلامه، ولو سألته عن المصدر الذي أخذ منه هذه العبارة لقال لك أنا لم أنقل هذا نصاً وإنما هو لازم كلام ابن تيمية في قوله بالقدم النوعي.
ولقد نبه ابن تيمية من قبل على أن هذه طريقة من طرق أهل الكلام في الافتراء على خصومهم حيث يُلزمونهم بما لم يقولوه، ثم يحكونه للناس فيظنون أنه نص كلامهم، وإذا طولبوا بالدليل على ما زعموه من مصدر خصومهم قالوا لك: هذا لازم قول خصمنا. وهو تحريف واضح وليس بجديد، فقد حرفوا كلام الله: جعلوا الاستواء استيلاء، فما الذي يمنعهم من تحريف كلام غير الله؟! ولا يعتقدون أن لازم المذهب ليس بمذهب.
تبرئة ابن تيمية من القول بقدم العالم
__________
(1) كشف الأسرار ص128 .
(2) كشف الأسرار 74 – 75 وانظر 86 .
(3) الكشف الإلهي 80 .
(4) الدليل القويم 160 .(58/83)
قال الحبشي "فإن قلت أين قال ابن تيمية بأن دوام النوع أزليته. قلنا مراده بدوام النوع الأزلية كما لا يخفى(1) فلم ينقل الحبشي شيئاً من كتب ابن تيمية وإنما قال "لا يخفى أن يكون هذا مراده" أي مقصوده. ولو كان لابن تيمية نص صريح لتمسك به الحبشي وأظهره على الملأ. لكنه لا يملك نصاً فلم يسمعه إلا أن يقول: ومراده بدوام النوع الأزلية كما لا يخفى". وهذا تلبيس ماكر لا يتفطن له العامة من الناس.
وهو لا يخبرهم أن ابن تيمية يرى أن الصفات الفعلية لله تعالى وإن كانت أزلية النوع إلا أنها حادثة الأفراد كالخلق والكلام.
لكن الظالمين قلبوها إلى "قدم العالم النوعي" وجعلوا ذلك موافقاً لقول ابن سينا والفارابي وابن رشد الحفيد(2)، بطريقة اعتباطية جائرة. وهذا كقولهم عن الحنابلة أنهم يعتقدون بأزلية وقدم ورق المصحف والحبر وجلد الغلاف. وقد جهلوا أن الله مطلع على هذا التلبيس الذي لا يزيد طالب الحق إلا نفوراً من مذهب الظلم.
وقد أفتى ابن تيمية بكفر الفلاسفة لقولهم بقدم العالم، وصرّح مراراً بأن الله لم يزل خالفاً فعّالاً وأن دوام خالقيته من لوازم وجوده، فهذا ليس قولاً بقِدَم شيءٍ من العالم(3).
وأكد أن القول بقدم العالم قول الدهريين وهو كفرٌ ظاهرٌ معلومٌ فساده بالعقل والشرع، إذ لو كان العالم قديماً لوجب أن يكون مع الله قديم آخر(4) بل هذا من أبطلِ الباطل وأن من قال بذلك فليس معه إلا الجهل" (منهاج السنة 1/101-104). فإن "كل ما سوى الله مخلوق حادث كائنٌ بعد أن لم يكن، وأن الله هو وحده القديم الأزلي ليس معه شيء قديم تقدّمه" (درء التعارض 1/125).
__________
(1) الدليل القويم 41 .
(2) قاله في كتابه إظهار العقيدة السنية 41 .
(3) مجموع الفتاوى 16/95 .
(4) شرح حديث النزول 160 و170 ط المكتب الإسلامي .(58/84)
قال "ويمتنع أن يكون مفعوله (أي ما خلقه الله) مقارناً له أزلياً معه، لأن كونه مقارناً في الأزل يمنع كونه مفعولاً له، فإن كون الشيء مفعولاً مقارناً ممتنع عقلاً" (منهاج السنة 1/117). مما يؤكد أن كلام ابن تيمية عن دوام النوع لا يعني به شيئاً من دوام أحد غير الله.
وقال "وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ليس في المفعولات قديم ألبتّة، بل لا قديم إلا هو سبحانه، وهو الخالق لكل ما سواه، وكل ما سواه مخلوق" (المنهاج 8/272).
فها هو يصرح بوضوح أن القول بوجود قديم آخر مع الله تعالى من أبطل الباطل، فأوضحوا كلامكم وأجيبوا ببساطة ووضوح: هل يقول ابن تيمية بقِدَم شيء مع الله أم لا؟ إن سؤالاً مثل هذا على بساطته سوف يُحرجهم لأنهم لن يجدوا من كلام ابن تيمية ما يؤيد فريتهم.
تسلسل الحوادث لا إلى أول
يمنعون على الله التخليق
وأما مذهبكم الذي أخذتموه من الحبشي فإن العامة لم يقفوا بعد على حقيقته وهو أنكم تجعلون ممتنعاً على الله أن يخلق شيئاً قبل خلق الماء أو العرش. وهو الذي جعل ابن تيمية يخالفكم في ذلك أشد المخالفة، لأن مذهبكم ينتهي إلى نسبة العجز لله عز وجل، لا سيما وأنه محالٌ على الله برأيكم أن يخلق شيئاً قبل خلق السماوات والأرض، لأن الامتناع عندكم داخل في باب المحالات.
وهذا ما حدا بابن تيمية إلى مخالفتكم قائلاً بأنه:(58/85)
"إذا لم يزل الله حياً قادراً مريداً متكلماً – وذلك م لوازم ذاته – فالفعل ممكن له بموجب هذه الصفات له، وإنه: أنْ يوصف الله بالفعل أكملُ من أن لا يفعل شيئاً وأنه لا يلزم من هذا القول أن يكون شيء من مخلوقاته ملازم معه أزلاً لأنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدماً لا أول له. فالكل مخلوق أول، والله لا أول له. وليس من العقل أن يكون الله خالقاً من غير خلق". وقال "إذا عُرض على العقل ذات يمكنها أن تتكلم بقدرتها وتفعل ما تشاء بنفسها، وذات لا يمكنها أن تتكلم بمشيئتها ولا تتصرف بنفسها: قضى العقل الصريح أن هذه الذات أكمل"(1).
وإثباتكم أن الله خالق لكنه لم يكن خالقاً قول مرجوح، ونسألكم: هل يمكن أن يخلق مذ كان خالقاً؟ فإن قلتم نعم فقد قلتم بإمكان حوادث لا أول لها، ولا فرق عند العقلاء بين إمكانها وبين حدوثها فعلاً. وإن قلتم: لا، وقعتم في سفسطات لا نهاية لها.
فأنتم لم تعرفوا إلا مذهبين: مذهب الفلاسفة القائلين بقدم العالم ومذهبكم في الاستدلال على الخالق بحدوث العالم آل بكم إلى نفي صفات الله الفعلية. لأن الفعل عندكم حدوث، وظننتم أنه إذا بطل مذهب الفلاسفة صح مذهب الأشاعرة.
بينما هناك قول ثالث: وهو التفريق بين الخلق والمخلوق، فالخالق هو الله تعالى والخلق هو الصفة التي قامت به والمخلوق هو الموجد المنفصل عنه.
فيقال في صفة الخلق لله ما يقال في صفة الكلام. وهذا معنى دوام النوع عند ابن تيمية الذي احتج بقوله تعالى {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} على دوام خالقيته مع تصريحه الدائم بأنه ليس مع الله شيء قديم(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى 6/242 درء التعارض 4/7 – 10 .
(2) مجموع الفتاوى 18/228 .(58/86)
ولكن ليس عندكم أي رغبة في الاعتراف بوجود الفرق بين نوع الصفة وبين عين الصفة، وذلك هرباً من القول بحلول الحوادث بذاته تعالى، وقد فعلتم الشيء نفسه في صفات الله الأخرى فألحدتم في الصفات الفعلية منها وعطلتموها وجعلتم الصفات كلها أزلية، وهو السبب الذي جعلكم تنكرون أن يدخل كلام الله تحت مشيئته وقدرته. وأن يدخل فعله تحت مشيئته وقدرته.
بينما يفرّق ابن تيمية بين النوع والعين ويقسّم الصفات إلى ذاتية أزلية وفعلية غير أزلية على النسق الذي فعله الأشعري والبيهقي والكرماني والحافظ ابن حجر من قبل.
وهذا ما حملكم على ظلم الرجل واتهامه بموافقة الفلاسفة مع أنه يكفّرهم لقولهم بقدم العالم. وشهدتم عليه شهادة زور تُسألون عنها أمام الله يوم يقوم الأشهاد!.
وفي صفة الإرادة يفرق ابن تيمية بين الإرادة للشيء وبين إرادة فعله كقوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فكلمة (إذا) ظرفية تمحض الفعل الماضي للاستقبال. ففي الآية إثبات إرادة مستقبلة تتعلق بالمراد(1).
وهو لا شك أنه أراد هذا الشيء قبل كونه أزلاً، وهي الإرادة القديمة. وأما إرادة الشيء عند خلقه فهي إرادة متعاقبة لا تتعارض مع إرادة الله الأزلية.
ويقول "أنتم تسلمون قدم الإرادة والقدرة وحدوث المخلوقات بعد أن لم تكن، فما أوجب حدوث المخلوقات في وقت دون آخر؟
فإما أن يوجد سبب لحدوثها أو لا يوجد. ولا يمكن أن يقال: لا يوجد سبب.
وهذا السبب هو الفعل الحادث الذي يفر الأشاعرة المتأخرون منه هروباً من القول بقيام الحوادث بالله. وهو لازم لهم كما ألزمهم به الرازي.
__________
(1) رسالة الصفات الاختيارية لابن تيمية 2/13 ضمن جامع الرسائل .(58/87)
وفي صفة العلم يفرق التفريق نفسه فيرى أن الله يعلم بالشيء قبل وقوعه فلما خلقه تجدد له علم مع علمه المتقدم أنه سيكون. كقوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} وقوله{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وقوله{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ولا يرد على ذلك قولهم أنه يلزم من ذلك التغير في ذات الله. فإن التغير من حجج الفلاسفة وشبهاتهم التي جعلتهم ينفون علم الله. وكتاب الله جاء بخلاف ما تخرصت به الفلاسفة وأتباعهم الذين جعلوا العلم والإرادة شيئاً واحداً حتى لا يقولوا بتجدد العلم والإرادة.
وصفة السمع والبصر لا تتعلقان بالمعدوم فإذا خلق الله الأشياء رآها، وإذا دعاه عبادُه سمع دعاءهم. فلله سمع وبصر ذاتيان وفعليان ففي الرؤية يقول تعالى {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ} ولم يقل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} {قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ} إلا بعد أن قالوا ما قالوا.
وهذا ما انتهى إليه الرازي في شرح الإشارات حيث ذهب إلى أن قول أبي الحسين البصري بتغير العلم عند تغير المعلوم هو المذهب الصحيح(1).
إما حدوث الفعل وإما أزلية المفعول
__________
(1) شرح الإشارات 1/76 عن الزركان ص 309 .(58/88)
وأما قولكم بأزلية صفات الله الفعلية فإنه يؤدي إلى القول بأزلية المفعولات، لأننا إذا قلنا بأن الفعل كان أزلياً صار المفعول أزلياً مثله. وإن كان الفعل محدداً بوقت صار المفعول محدداً غير أزلي. فإن من قال إن الله خلق السماوات والأرض والبشر منذ الأزل فقد جعل وجود المخلوقات أزلياً. ولهذا كان قولكم هو المشعر بالتصريح بقدم العالم، وهو الذي دعا الرازي إلى مخالفتكم وإلى التصريح بأن جميع من تهربوا من القول بالحدوث في أفعال الله تعالى اضطروا إلى العودة إليه بصيغة أخرى.
ولهذا لم يكن يوافقكم ابن تيمية على زعمكم في:
1 ) التحديد الزمني لابتداء فعل الله التخليف. لأنه ما من وقت إلا كان الله فيه خالقاً. ولم يكن معطلاً عن الخلق.
2 ) ولم يوافقكم على زعمكم أن الله كان موصوفاً بأنه خالق لكن التخليق كان ممتنعاً عليه.
3 ) ومع ذلك لم يكن يرى ابن تيمية وجود شيء قديم مع الله عز وجل كما تزعمون عليه بلا تقوى ولا إنصاف، فإنه قال "وكل مخلوق فهو مُحدَث مسبوقٌ بالعدم وما ثم قديم أزلي إلا الله وحده، وإذا قيل لم يزل خالقاً فإنما يقتضي قِدَم نوع الخلق [أي التخليق ولهذا قال] ودوام خالقيته لا يقتضي قِدَم شيء من المخلوقات، فيجب الفرق بين أعيان المخلوقات الحادثة بعد أن لم تكن، فإن هذه لا يقول عاقل أن منها شيئاً أزلياً"(1). فأين قال ابن تيمية بقدم شيء من المخلوقات؟!
والذين يجعلون لفعل التخليق لله تعالى تحديداً ويمنعون عليه أن يكون خالقاً شيئاً قبل خلق السماوات والأرض فليس عندهم إلا رواية "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض" ويفهمون من ذلك أنه قبل السماوات والأرض لم يكن ثمة خلق. مع أن الرواية هذه تفيد بأن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السماوات والأرض. مما يدل على أن هذه الرواية لا يلزم منها القول بأن الله لم يكن خالقاً شيئاً قبل خلق السماوات والأرض.
__________
(1) مجموع الفتاوى 16/95 .(58/89)
- فقد جاء أهل اليمن يسألونه عن هذا العالم المشهود وليس عن جنس المخلوقات. فأخبرهم عن خلق السماوات والأرض حال كون عرشه على الماء ولم يخبرهم عن ابتداء خلق العرش الذي تؤكد الرواية أنه كان مخلوقاً خلق قبل السماوات والأرض.
- وأيضاً فقد قال "كان الله ولم يكن شيء قبله" وفي رواية "معه" وفي رواية "غيره" – والمجلس كان واحداً – فعُلِم أنه قال أحد هذه الألفاظ الثلاثة والآخران رُويا بالمعنى. ولهذا كان كثير من أهل الحديث يروونه بلفظ "القبل" كالحميدي والبغوي وابن الأثير.
ولفظ "القبل" ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الحديث:
فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الله "قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة: وكان عرشه على الماء" (مسلم 6243) وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء" (مسلم 2713).
القائلون من أئمة الكلام بتسلسل الآثار(1).
قال الأسنوي في شرح منهاج الوصول (2/103) "وأجاب في التحصيل (للآرموي) بجوابين … الثاني "أن المحال من التسلسل إنما هو التسلسل في المؤثرات والعِلل، وأما التسلسل في الآثار فلا نسلّم أنه ممتنع.
قال الأصفهاني في (شرح المحصول) وفيه نظر لأنه يلزم منه تجويز حوادث لا أول لها، وهو باطل على رأينا" انتهى كلام الأسنوي ونقلُه.
__________
(1) هذا الفصل مستفاد من الكتاب القيم (دفع الشبه الغوية عن شيخ الإسلام ابن تيمية) ص38 لمؤلفه مراد شكري شكر الله سعيه.(58/90)
قال العلامة محمد بخيت المطيعي في الصفحة نفسها على (شرح الأسنوي) معلقاً على كلام الأرموي قال "كلام جيد، وأما قول الأصفهاني: (وفيه نظر…) فلا يلزم من كونه باطلاً على رأيه أنه باطل في الواقع ونفس الأمر، فإنه لغاية الآن لم يقم دليل على امتناع التسلسل في الآثار الموجودة في الخارج، وإن اشتهر أن التسلسل فيها محال، ولزوم حوادث لا أول لها يضر بالعقيدة إلا إذا قلنا: لا أول لها: بمعنى لا أول لوجودها: وهذا مما لم يقم به أحد، بل الكل متفق على أن ما سوى الله تعالى – لما كان أو يكون – حادث: أي موجود بعد العدم بقطع النظر عن أن تقف آحاده عند حدٍ من جانبي الماضي والمستقبل أو لا تقف عند حد من جانبيهما".
فالأرموي مجوّز، والأصفهاني مبطل بقوله (وفيه نظر) والإسنوي ناقل، وبخيت المطيعي شيخ الأزهر ناصر لقول الأرموي، وكذلك أثير الدين الأبهري(1) في كتابه المعروف بـ "تحرير الدلائل في تقرير المسائل" قائل بها، والشيخ محمد عبده والجلال الدوّاني قائل بذلك كما ستراه: ومع هذا فلا تفسيق ولا تضليل ولا تفكير على النحو الذي نراه من الحبشي وأضرابه.
وقد رجّح الدوّاني القول بحوادث لا أول لها في حدوث العالم فقال "أنت خبير مما سبق أنه يمكن صدور العالم مع حدوثه، وعلى هذا الوجه، فلا يلزم القِدَم الشخصي في شيء من أجزاء العالم، بل القدم الجنسي بأن يكون فرد من الأفراد لا يزال على سبيل التعاقب موجوداً"؟
__________
(1) أثير الدين المفضل بن عمر الأبهري السمرقندي صاحب كتاب (هداية الحكمة) شيخ الأصفهاني شارح المحصول توفي 363هـ.(58/91)
وقال الشيخ محمد عبده في حاشيته على "شرح الدوّأني للعقائد العضديّة" (ص179) ما نصه "وقد استشهد الحكماء على قِدَم الممكنات بدليل نقلي، وهو ما ذمّ الله به اليهود {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وبيانه: أنه لو قيل بحدوث العالم فقد قيل بأن الحق في أزليته لم يزل معطلاً عن الفيض والجود أزمنة غير متناهية لا ابتداء لها ثم أخذ يعطي الوجود، ومعلوم أنه على فرض أنه لم يزل خلاقاً إلى الأبد فكل ما خلقه فهو متناه، ونسبة المتناهي إلى غير المتناهي كلا نسبة، وذلك جلي التصور، فنسبة إعطاء الحق للوجود إلى منعه عن كل موجود ليست بشيء، وإن هذا إلا غِلّ اليد، حيث أن الإعطاء ليس بشيء يُذكَر في جانب المنع، وهذا من الشناعة بمكان … والجواب أن ذلك – التخلص من الشناعة – لا يتوقف على القول بقدم شيء من أجزاء العالم، بل يكفي أن يقال: إن الله لم يزل خلاقاً، وإن كان كل جزء من أجزاء العالم حادثاً، فلا أول لعطائه، ولا مانع يقهره سبحانه، وهو الجواد الحق، ينفق كيف يشاء، ولا شيء من العالم قديم، بل كل حادث فهو مسبوق بالعدم، فلا دلالة في الآية على القدم" انتهى.
فتأمل قوله (فلا أول لعطائه) وقوله (كل جزء من أجزاء العالم حادث) وقوله (لم يزل خلاقاً).
قال الأستاذ مراد شكري "واعجب أخي أن أحداً من المحققين النّظار لم يخطر بباله أبداً أن قدم النوع هو شيء قديم مع الله، وأن النوع شيء محسوس له وجود.
واسأل هؤلاء: هل نوع الحوادث منفك عن الحوادث أم ملازم لها؟ أهو هي؟ إذ لا يمكن أن يكون شيئاً آخر كما يبدو؟
إن كان هو هي – وهو محال – فما الداعي لذكره؟ فهو حادث مثلها، وإن كان ملازماً لها فالمعلوم أن القديم: زائد الحديث يساوي = حادثاً.
والمركب من القديم والحادث هو حادث وهذا بيّنٌ عند من شدا شيئاً من علم الكلام.(58/92)
وأما إن قالوا: إن النوع شيء والحوادث شيء، فقل لهم: فسّروا لنا كلمة (نوع) وحدها هكذا مجرداً، والأفضل أن ترجعوا لـ "الآجرومية" فتدرسوا باب المضاف والمضاف إليه، وتعربوا جملة (نوع الحوادث) فهذا أليق بكم"(1).
ثم نقل عن ابن تيمية في (درء التعارض 9/153) ما نصه "فيقال لكم: أتريدون بذلك أن كل حادث فلا بد أن يكون مسبوقاً بغيره وأن الحوادث المحدودة لا بد أن تكون مسبوقة، أو أن الجنس لا بد أن يكون مسبوقاً؟
أما الأول والثاني فلا نزاع فيها، وأما الثالث فيقال: أتريدون به أن الجنس مسبوق بعدم أم مسبوق بفاعله؟ بمعنى أنه لا بد له من محدِثٍ؟ الثاني [أي أنه مسبوق بفاعله] مسلّم، والأول محل نزاع".
قال الأستاذ مراد "فهذا تقرير وتسليم أن جنس الحوادث مسبوق بالفاعل وهو الله جل وعلا، [وهذا يؤكد أن] القول بحوادث لا أول لها، أو تسلسل الآثار لا يفهم عاقل هذه العبارة إلا أنها متعلقة بمشيئة الله التي هي أزلية، وهي مسبوقة بالفاعل رب العالمين، وهذا بدهي وإلا لما كانت حوادث جمع حادثة، وهي المخلوقة المسبوقة بالعدم بأفرادها".
قال "ويُسأل القائل (إن إثبات حوادث لا أول لها مشاركة لله في اسمه "الأول" فيقال له: ماذا تقول في هذه الحوادث التي لا أول لها الآن؟ هل هي موجودة أم معدومة؟
فإما أن يقول: موجودة أو معدومة. أو يفتح فمه ويقول: ها، هاه لا أدري.
قال شيخ الإسلام في (درء التعارض 3/51) "وأيضاً فالحوادث الماضية عُدِمَت بعد وجودها، فهي الآن معدومة كما أن الحوادث المستقبلية الآن معدومة، فلا هذا موجود ولا هذا موجود الآن، وكلاهما له وجود في غير هذا الوقت، ذاك في الماضي، وهذا في المستقبل"(2).
اتهامه بالقول بقدم العرش
__________
(1) دفع الشبه الغوية 45 – 46 .
(2) دفع الشبه الغوية 49 .(58/93)
وهذه كذبة أخرى يفتريها الحبشي على ابن تيمية وينقلها عن الجلال الدواني كما في شرح العضدية "وقد رأيت في تأليفٍ لابن تيمية القول بالقدم الجنسي للعرش"(1).
ولعلك تلاحظ عبارة "تأليف" وما تتضمنه من الافتراء فلماذا لم يذكر اسم هذا التأليف.
وإذا كنت لا تعرف من هو الجلال الدواني فابحث عن كتاب "إيمان فرعون"(2) فإن الدواني كتبه دفاعاً عن فرعون ولإثبات أنه مات على الإيمان. فقد ردّ عليه الشيخ ملا علي القاري في كتاب "فرّ العون من مدّعي إيمان فرعون". ألم يجد الحبشي رجلاً يحتج به غير من يدافع عن فرعون ويحكم بإيمانه؟
قال الآلوسي المفسر "وحاشا ابن تيمية أن يثبت عنه هذا الكتاب بل نسبته إليه كنسبة كتاب "إيمان فرعون" إلى الجلال الدواني، فاحفظ ذلك" ثم تعقب الجلال الدواني قائلاً "وجلال الدين وأضرابه أجهل الناس بالحديث".
وكذلك حكى الألوسي طعن الكوراني في حاشيته المسماة: "مجلى المعاني على شرح عقائد الدواني" في صحة نسبة هذا الكتاب إلى ابن تيمية قائلاً "لم أقف على هذا التصنيف لابن تيمية"(3).
وهكذا حال من يحتج الحبشي بتجريحهم لابن تيمية لا يخلون من التعصب والانحراف الصوفي كالدواني والسبكي والهيتمي والحصني.
إقعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش
وزعم الحبشي أن ابن تيمية قال "إن الله تعالى قاعد على الكرسي وترك موضعاً لمحمد ليجلسه عليه في الآخرة. وهذا الكتاب غير الرسالة العرشية"(4):
ولكن؛ أين قال ابن تيمية هذا؟ وفي أي كتاب. إننا لم نره يؤيد ذلك في كتاب من كتبه، بل إنه حكى أن من السلف من قال بذلك وأنكرها آخرون(5).
__________
(1) إظهار العقيدة السنية 60 .
(2) تحقيق ابن الخطيب ط المطبعة المصرية 1924 .
(3) عن جلاء العينين في محاكمة الأحمدين للألوسي 340 و 332 – 333 .
(4) شريط 13 (وجه أ) 94 .
(5) رسالة الرد على البكري 329 المعروفة بكتاب الاستغاثة.(58/94)
وصدق فيما قاله، فإن من السلف من قال بذلك، ونقلت أسانيدُ كلامهم في هذه المسألة بأسانيد صحيحة منها:
ـ رواية مجاهد التي صححها الطبري في تفسير قوله تعالى {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} روى لها المحدِّثون كالخلال في السنَّة أسانيد كثيرة جداً. بلغ بعضها الصحة. قالوا إن الله يُقعِد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليُرِيَ الخلائقَ منزلتَه(1).
ولذلك قال الحافظ ابن حجر "قال ابن الجوزي: وقيل إن المقام المحمود أي إقعاده على العرش، وقيل على الكرسي وحكى كلا من القولين عن جماعة(2) ورواه الطبري عن جماعة من السلف ولم ينكر رواية مجاهد في إقعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش(3).
وقد رد الحافظ ابن عبد البر كلام مجاهد واعتبره مخالفاً للصواب ومهجوراً عند أهل السنة"(4). ومنهم من أيد قول مجاهد وبالغ في الانتصار له كأبي بكر المروزي الذي جمع فيه كتاباً وروى عن إبراهيم بن عرفة سمعت ابن عمير يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول "هذا قد تلقته العلماء بالقبول". وكذلك انتصر وأفتى بوجوب التسليم له جماعة من أهل العلم والحديث منهم أبو داود السجستاني صاحب السنن وإبراهيم الحربي ومحمد بن مصعب العابد شيخ بغداد وخلقٌ كثير، بحيث قال ابن الإمام أحمد عقيب رواية قول مجاهد "أنا منكِرٌ على كل من رد هذا الحديث، وهو عندي رجل سوء متهم، سمعته من جماعة وما رأيت محدّثاً ينكره، وعندنا إنما تنكره الجهمية" بل انتصر له ابن جرير وقال "ليس في فِرَق الإسلام من يُنكِر هذا" وقال بأن ما قاله مجاهد غير مدفوع صحته لا من خبر ولا من نظر(5). وذكر بأنه لا يلزم منه لوازم باطلة.
__________
(1) رواه الخلال في السنة 218 وانظر العلو للذهبي 75 .
(2) فتح الباري 2 : 95 .
(3) تفسير الطبري المجلد الثامن الجزء 15 .
(4) التمهيد 7 / 157 .
(5) تفسير الطبري المجلد الثامن 8: 15/98-99 والعلو للذهبي 124 .(58/95)
فمسألة إقعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش على افتراض صحة نسبتها إلى ابن تيمية مسألة تكلم فيها طائفة من السلف كمجاهد وغيره.
فانظر مدى دقة ابن تيمية حول رواية الإقعاد "رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة، وهي كلها موضوعة، وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه ويتلقونه بالقبول(1).
وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توقيفاً، لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول، وما ثبت من كلام غيره سواء كان من المقبول أو المردود"(2).
ابن فورك يقر الإقعاد فهل تكفرونه؟
وحتى ابن فورك فإنه روى رواية مجاهد أن الله يقعد محمداً - صلى الله عليه وسلم - على العرش وجعل لها تأويلاً محتملاً – على عادته – وهو أن معنى (يقعده معه على العرش) أي بمعنى النصر والمعونة". فقد قال:
"فإن قيل: فما تقولون فيما روي عن مجاهد أنه قال في تأويل قوله تعالى {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} قيل … يحتمل أن يقال إنه معه بمعنى النصر والمعونة" (مشكل الحديث وبيانه 339). ثم قال "ولم ينكر إقعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش تأويلنا لفظة معه على ما يليق به من معنى النصرة والمعونة" (291). انتهى كلامه. فها هو ابن فورك يثبت الرواية ويصرح باعتقادها ولكن مع تأويل سائغ لها.
ونقل الخفاجي في شرح الشفا عن الدارقطني في حديث: أن المقام المحمود للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أن يُجلِسه معه تعالى على العرش ما نصه:
حديث النبوة عن أحمد
إلى أحمد المصطفى مسنده
وجاء حديث بإقعاده
على العرش أيضاً فلا نُنكره
أمرّوا الحديث على وجهه
ولا تُدخلوا فيه ما يُفسِده
ولا تُنكروا أنه قائم
ولا تُنكروا أنه يُقعده
__________
(1) ذكر أهل العلم أن الأسانيد إلى مجاهد مدارها على الليث بن أبي سلمة.
(2) درء تعارض العقل والنقل 5/ 237 – 238 .(58/96)
وهذه الأقوال مرجوحة، ولقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسند صحيح أنه قال "المقام المحمود: الشفاعة"(1).
ومن الطريف أن الذين لا يؤمنون باستواء الله على العرش – وإنما يؤمنون باستيلائه عليه – تعتبريهم هنا غيرة على العرش بعد أن نفوا أن يرتفع الله عليه كما قال مجاهد في البخاري.
الرفاعية والنقشبندية
يفضلّون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش
ويزعمون علو مشايخهم فوق عرش الرحمن
وأهل البدع الصوفية يفضلون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عرش الرحمن والكرسي بل والجنة أمثال محمد الصيادي الرفاعي(2) وقالوا إن قبره - صلى الله عليه وسلم - أفضل من عرش الرحمن وكرسيه! فأي القولين أعظم ضلالة: إقعاده على العرش أو تفضيل قبره عليه؟
ويزعمون أن الله وضع ديكاً عند العرش اسمه (ديك العرش) وأن أبا الوفا (من كبار الرفاعية) كان ينظر إليه وهو جالس في مكانه ويأمر الناس بالنظر إليه وهو يصيح للصلاة من على العرش(3).
وزعم الصيادي (كبير الرفاعية) أنه لما أخرج آدم من الجنة جعل يبكي على فراق "الملائكة الصوفية" السبعين ألفاً" جُردٌ مُرد(4) يرقصون حول العرش وجبريل رئيس الراقصين وميكائيل قوالهم (منشدهم)(5) يقولون:
جل الملك ملكنا لولا الملك هلكنا
__________
(1) أخرجه أحمد 2/478 والترمذي (3137) وأبو نعيم 8/372 .
(2) قلادة الجواهر 104 ضوء الشمس 1/176 الذخائر المحمدية 161 و206 لعلوي مالكي .
(3) تريقا المحبين 42، روضة الناظرين للوتري 27 .
(4) جمع أمرد وهو الولد الذي لم تظهر لحيته بعد .
(5) قلادة الجواهر 185 الفجر المنير 80 .(58/97)
وزعم النقشبنديون (الذين يفخر بهم الحبشي وينتسب إلى طريقتهم) أن أولياءهم يعرجون إلى السماء بل ويرتفعون فوق عرش الرحمن متى يشاءون. فقد نقلوا عن أحمد الفاروقي قوله "كثيراً ما كان يُعرج بي فوق العرش المجيد، فلما ارتفعت فوقه بقدر ما بين مركز الأرض وبينه (أي العرش) رأيت مقام الإمام شاه نقشبند" أضاف "واعلم أني كلما أريد العروج يتيسر لي"(1).
ولقد اطلعت على كثير من كتب التصوف ورأيت أكثرها يتضمن مثل هذه القصص التي يرفعون بها مشايخهم فوق عرش الله ويجعلون من كراماته ارتقاء العرش وتعديل ما في اللوح المحفوظ لتغيير الشقي سعيداً أو السعيد شقياً. ونسبة التصرف في الأكوان إليهم.
كذبة الرسالة العرشية
__________
(1) المواهب اللدنية 184 الأنوار القدسية 182 .(58/98)
وقد افترى عليه الحبشي وزعم أن كلامه موجود في الرسالة العرشية، وهو ما لم نجده فيه. ولذلك اضطر إلى تقليد الكوثري جهمي العصر(1) في كذبه على ابن تيمية أنه تم مؤخراً حذفها من المطبعة في مصر(2)، ونحن نتحداه بمخطوطات الرسالة العرشية(3) التي كُتِبَت قبل القرن الذي ولد فيه الكوثري وليس فيها هذه الدعوة الكاذبة.
__________
(1) وهو حنفي متعصب يصحح ما لا أصل له كحديث (أبو حنيفة سراج أمتي) دفعه لذلك غلوه في أبي حنيفة حتى وصفه الغماري بـ (مجنون أبي حنيفة) (بدع التفسير 180) قد تطاول على الصحابة حتى رمى أنساَ بالخرف وطعن في البخاري حتى نفى عنه ما وصفوه به بأنه أمير المؤمنين في الحديث وزعم أنه رجل متبجح ومن المتساهلين الذين لا يفرّقون شمالهم من يمينهم (انظر تأنيب الخطيب 44-45) والكوثري صاحب العنوان المزور (السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل) يعني ابن القيم وقد سأله الغماري عن أصل هذا الاسم فلم يُجب، وكان يدعي أن ابن تيمية كان يتقاضى خمسة دراهم مقابل كل فتوى يحل فيها الحرام ويحرم فيها الحلال (ستُكتَب شهادتهم ويُسألون) وقد أعلن حسام الدين القدسي ناشر كتب الكوثري براءته من حقده الدفين وطعنه المطلق بالبشر (مقدمة القدسي لكتاب الانتقاء 3) وقد أحسن من كشف ضلالاته في مجلد ضخم أسماه التنكيل لما عند الكوثري من الأباطيل. وقد صدر مؤخراً كتاب للشيخ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري بعنوان "بيان تلبيس المفتري محمد زاهد الكوثري" أثبت فيه طعن الكوثري في جملة من أئمة أهل العلم بدأ بالشافعي مروراً بأحمد. والكتاب بتحقيق أخينا الفاضل الشيخ علي عبد الحميد.
(2) إظهار العقيدة السنية 152 المقالات السنية 25 .
(3) موجودة في خزانة مخطوطات مركز الملك فيصل .(58/99)
قال الحبشي "كان ابن تيمية يُخفي بعض كتبه عن عامة أتباعه لئلا ينقلب عليه أحد منهم ولكن أحدهم اطلع على أحد كتبه يقول في هذا الكتاب أن الله تعالى قاعد على الكرسي وترك موضعاً لمحمد ليُجلسه عليه في الآخرة وأن تلميذه ذهب بهذا الكتاب إلى أبي حيان فلما اطلع عليه لا زال يلعنه حتى مات"(1).
وهذه كذبة باردة، فمتى كان ابن تيمية يستخدم هذه التقية وقد قال أمام أعدائه "أي يذهب بي أعدائي، أنا جنتي وبستاني في صدري أينما ذهبت، أنا حبسي خلوة ونفيي سياحة وقتلي شهادة".
ويوم أن منعه السلطان أن يفتي بطلاق الثلاث قال: لا يسعني أن أكتم علماً. فلم يداهن ولم يتّق أحداً غير الله.
فأيهما أكثر شجاعة: ابن تيمية أم ذاك (…) الذي يرتمي هو أتباعه بين أحضان الظالمين الذين يستخدمونه خنجراً في وجه الدعاة إلى الله؟ قد أتوا به وطلبوا منه نشر عقيدة أهل سنته وجماعته المتضمنة للبدع والشرك وتكفير المسلمين والدفاع عن العلمانيين الذين ينبذون القرآن ويحكمون عوضاً عنه بقوانين البشر الوضعية. وينصّبون أنفسهم محامين ومدافعين عن الحكّام بغير ما أنزل الله؟
ومتى كان ابن تيمية يُخفي شيئاً عن الناس وقد وضع بين أيدي خصومه كتاب الواسطية وبيّن فيه عقيدته وأعطاهم مهلة ثلاث سنوات أن يجدوا فيه ما يخالف الكتاب والسنة فلم يستطيعوا معارضته.
__________
(1) إظهار العقيدة السنية 151 – 152 الدليل القويم 39 .(58/100)
لو فرضنا أنه قالها فإن مسألة إقعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش ليست ذاك السر الذي يحتاج ابن تيمية إلى إخفائه فإن روايات الإقعاد قد ملأت بطون كتب الحديث حتى إن الخلال والطبري والسيوطي ساقوا عشرات الروايات منها واعتُبرتْ تفسيراً لقوله تعالى {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} غير أنها كما قلت لم ترتفع إلى درجة الصحة وإنما صحت الروايات إلى بعض التابعين الذين قالوا بها كمجاهد في أحد قوليه(1).
بل هو قول الجيلاني
قال الشيخ عبد القادر "إن أهل السنة يعتقدون أن الله يُجلِس رسوله معه على العرش يوم القيامة(2)، غير أن عامة أهل السنة والحديث كأحمد والذهبي منعوا هذا القول لعدم صحة السند فيه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولكن من تمسك بهذه المسألة ظناً منه صحة الأحاديث الواردة فيه فلا يجوز تكفيره، وإلا كان المكفّر له شرّاً منه وأقرب إلى الحرورية الغلاة.
نسبة المخادعة إلى ابن تيمية
يبطلها العيني وغيره
وزعم الأحباش أنه لم عقدوا مجلساً لابن تيمية احتال عليهم وزعم أنه أشعري. وأنا لم أجد أنه قال ذلك وإنما قال أنه على اعتاد الشافعي فرضوا ذلك منه(3).
فأما إن ذكر أنه على اعتقاد الشافعي فأي كذب في ذلك فإنه بإثبات الصفات وعدم التأويل ونقد علم الكلام أقرب إلى منهج الشافعي منهم. فإن الشافعي كان يحذر من علم الكلام وابن تيمية يوافقه، بينما الأحباش يلقبون الحبشي (إمام علم الكلام) وهو يؤوّل الصفات وقد قالوا: التأويل مذهب الخلف والإثبات مذهب السلف!
__________
(1) انظر كتاب السنة للخلال (244 و250 و253 و 268 و271 و272 و273) .
(2) الغنية لطالبي الحق 71 .
(3) عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان 4/411 .(58/101)
أما إن قال إن أشعري المعتقد فأي كذب في ذلك وقد استقر أمر الأشعري رحمه الله على موافقة عقيدة أحمد بن حنبل، وشهد بذلك الأشاعرة المتقدمون كابن عساكر في التبيين والبيهقي والمتأخرون كالتاج السبكي في طبقاته والزبيدي في إتحافه وابن عذبة، وشهد بذلك غيرهم الذهبي وابن كثير(1).
فقوله (أنا أشعري) أفضل من قولكم: إننا أشاعرة بينما تخالفون الأشعري وتوافقون المعتزلة. فهو أقرب وأكثر موافقة مع عقيدة الأشعري منكم. فالأشعري في الحقيقة حنبلي المذهب في العقيدة أيها الأشاعرة.
وإن كنتم تعتبرون ذلك جبناً ومراوغة فهل تقولون ذلك في أبي الحسن الأشعري رحمه الله وقد حكى الكوثري أنه كان يقول للحنابلة (أنا حنبلي أنا على مذهب أحمد) وزعم الكوثري أنه كان يراوغهم بقصد التدرج بهم(2)!
ابن تيمية الشجاع
ولم يزل بدر العيني يحكي مواقفه الشجاعة في حق سلاطين التتار كقوله لغازان ملك التتار فيما رواه ابن كثير عن الشيخ عبد الله بن قوام البالسي "أنت تزعم أنك مسلم وتقتل المسلمين وأبواك كانا كافرين ولم يفعلا ما فعلتَ، قد عاعدتَ فغدرتَ وقلت فيما وفيتَ".
__________
(1) تبيين كذب المفتري 150 و152 – 158 و392 طبقات السبكي 3/99 الاعتقاد للبيهقي 96 و109 إتحاف السادة المتقين 2/4 للمرتضى الزبيدي الخطط المقريزية 3/308 الروضة البهية 53 .
(2) تبيين كذب المفتري 117 – 118 .(58/102)
قال كلمة الحق ولم يخش إلا الله عز وجل. قال: ثم قرّبوا طعاماً فأكلوا إلا ابن تيمية فقيل له: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكلُ من طعامكم وكلّه مما نهبتموه من أغنام الناس. ثم إن قازان الملك طلب منه الدعاء فقال ابن تيمية: اللهم إن كان هذا عبدك محمود إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا وليكون الدين كله لك فانصره وأيّده، وملّكه البلاد والعباد، وإن كان إنما قام رياء وسمعة وطلباً للدنيا ولتكون كلمته هي العليا وليذلَّ الإسلام وأهله: فاخذُلْهُ وزلزله ودمّره واقطع دابره. قال: وكان قازان يؤمّن على دعائه ويرفع يديه. قال: فجعلنا نجمع ثيابنا خوفاً من أن تتلوث بدمه إذا أمر السلطان بقتله".
قال "فما خرجنا من عند السلطان قال القاضي نجم الدين ابن صصري لابن تيمية: لقد كِدتَ أن تهلكنا وتهلك نفسك، والله لا نصحبك من هنا، فقال: وأنا والله لا أصحبكم. فانطلقنا وتأخر هو ومعه جماعة من أصحابه، فتسامعت به الخواقين والأمراء من أصحاب قازان فأتوه يتبركون بدعائه طول الطريق. وهو سائر إلى دمشق، وأما الذين أبوا أن يصحبوه فخرج عليهم جماعة من التتار فسلبوهم عن آخرهم"(1).
ولما سمع بتقديس أهل دمشق لصخرة أخذ فأساً وكسرها(2)، ولذا وصفه الذهبي بأنه كان أمّاراً بالمعروف نهّاءً عن المنكر.
مقارنة
بين موقف الرفاعية من التتار وبين موقف ابن تيمية
هناك فرق عظيم بين موقف ابن تيمية من التتار وبين موقف الرفاعية (سلف الحبشي) منهم، فإن سجل ابن تيمية مشرف حافل بالجهاد وتحريض ولاة المسلمين ضد التتار بل خروجه بنفسه مع طائفة من المخلصين لملاقاتهم، وكان بهذا العمل النبيل رمز العالم العامل الشجاع.
__________
(1) انظر البداية والنهاية 14/89 ومن أراد الوقوف على مواقفه الشجاعة يجدها في البداية والنهاية لابن كثير (14/7 و10 و11 و12 14-16 و19 و24-26 و33-35 و43 و132).
(2) عقد الجمان 2/51 و86 و312 .(58/103)
أما مواقف الرفاعية (سلف الحبشي) فتتسم بالخسة والخيانة. فقد كثر ترددهم على التتار وتقربهم إليهم بالأحاييل التي يسمونها (كرامات) وقد تولوهم طمعاً في هداياهم وأموالهم حتى قال الذهبي "قد كثر الزغل (الفساد) في أصحاب الطريقة الرفاعية، وتجدَّدتْ لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق: من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيَّات. قال "وهذا ما عرفه الشيخ أحمد الرفاعي ولا صلحاء أصحابه، فنعوذ بالله من الشيطان"(1).
وقول الذهبي "منذ أخذت التتار العراق" إشارة إلى أنهم كانوا يوالون التتار الذين احتلوا العراق بإيعاز من زعماء الروافض الشيعة وقتلوا مليوني مسلم، فكانوا يتقربون إلى التتار بتلك الأحاييل.
وكان التتار يعجبهم ما يفعله الرفاعية، ويجزلون لهم العطاء، فكانت إشارة من الذهبي إلى أن من يوالي أعداء الله: كيف يكرمه الله بالكرامات؟
وكذلك حمل عليهم الشيخ الألوسي فقال "وأعظم الناس بلاء في هذا العصر على الدين والدولة: مبتدعة الرفاعية، فلا تجد بدعة إلا ومنهم مصدرها وعنهم موردها ومأخذها، فذِكْرُهُم عبارة عن رقص وغناء والتجاء إلى غير الله وعبادة مشايخهم. وأعمالُهُم عبارة عن مسك الحيات"(2).
تحريف كلام الحافظ ابن حجر حول تنقيص علي
وقد زعم الحبشي أن الحافظ ابن حجر اتهم ابن تيمية بأنه كان ينتقص سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث كتب رداً على ابن المطهر الحلي. ثم حرف الحبشي النقل عن الحافظ فقال "وكم من مبالغة له لتوهين كلام الحلي أدت إلى به أحياناً إلى تنقيص علي رضي الله عنه" انتهى.
وهذا تلاعب بالنصوص: فإن النص من النسخة المطبوعة التي أحال إليها الحبشي "وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدته أحياناً إلى تنقيص علي رضي الله عنه"(3).
__________
(1) العبر في خبر من غبر 3/75 .
(2) غاية الأماني في الرد على النبهاني 1/370 .
(3) المقالات السنية ط: جديدة 200 .(58/104)
فزاد الحبشي لفظ (له) ليؤكد أن الكلام عائد على ابن تيمية. وبدل كلمة (الرافضي) بكلمة الحلي ليزيد القارئ تأكيداً بأن الضمير ما زال يعود على ابن تيمية. واستبدل لفظ (أدته) إلى (أدت به) ليؤكد أن الضمير ما زال يعود على ابن تيمية.
مفاجأة بعد الرجوع إلى مخطوطة لسان الميزان
لقد رجع إلى مخطوطتين لتاب لسان الميزان فاكتشفت ما يلي:
المخطوطة الأولى لا تتضمن ترجمة يوسف والد الحسن المطهر.
المخطوطة الثانية تتضمن:
ترجمة يوسف (ابن) الحسن، وتم تصحيحها في المطبوع إلى (والد) الحسن. وكأن مقحم هذا النص لم يتقن عمله.
وفيها اضطراب ففيها أن يوسف هو شارح ابن الحاجب وأنه هو الذي رد عليه ابن تيمية. في حين أن ولده (الحسين) هو شارح ابن الحاجب. وهو الذي رد عليه ابن تيمية لا على أبيه. فالخلط والتحريف واضحان جداً فيمن يجري مقارنة بين ترجمة الابن (لسان الميزان 2/319) وبين ترجمة والده يوسف (5/317).
فهل الأب هو شارح ابن الحاجب أم ابنه؟
وهل الأب هو الذي رد عليه ابن تيمية أم الابن؟
إن مثل هذا الخطأ لا يمكن أن يكون صادراً عادة من ناقد حافظ عظيم كابن حجر مما يرجح أن تكون بعض الأيدي قد عمدت إلى إقحام هذه الترجمة ولم يتقنوا تحريفهم فجعلوا يوسف والد الحسن هو شارح ابن الحاجب وهو الذي رد عليه ابن تيمية. ثم إن يوسف هذا ليس له عادة ترجمة خاصة.
أن النص في المخطوطة غير واضح ويتعذر قراءة هذه العبارة التي تتضمن التنقيص. ولا يسلم أنها تتضمن عبارة (وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي…). وقد تقدم صورة المخطوط(1).
وحتى النسخ المطبوعة حصل فيها خلط والتباس. ففي طبعة دار الفكر لفظ (ذاته) بدل (أدته). فهناك خلط واحتمال للتزوير ثم بياض طويل لا يدرى كيف انتهى الكلام فيه. الأمر الذي يجعل الاحتجاج بهذا النص في لسان الميزان ساقطاً.
__________
(1) انظر صفحة 1040 .(58/105)
وحينئذ نرجع إلى صيح كلام الحافظ ابن حجر في ابن تيمية حيث كان يحتج بنقده العلمي لأدق المسائل وحكمه على الروايات والأحاديث وترجيحه للمسائل المختلف فيها. بل ونرجع إلى صريح كلام ابن حجر في ابن تيمية كما أورده السخاوس في الجواهر والدرر. فقد سفّه فيه ابن حجر المتحاملين على ابن تيمية وأكد أنه يستحق الوصف بشيخ الإسلام.
أن السبكي كان حريصاً على كشف أخطاء ابن تيمية وذكر رد ابن تيمية على الرافضي ولكنه أثنى على رد ابن تيمية على ابن المطهر ولم يحك لنا شيئاً عن طعنه في علي رضي الله عنه. ولو وجد من ذلك شيئاً لطار به واحتج به ضد ابن تيمية. فقال قال:
ولابن تيمية رد عليه وفيّ
بمقصد الرد واستيفاء أضربه
لكنه خلط الحق المبين بما
يشوبه كدر في صفو مشربه
يحاول الحشو أنى سار فهو له
حثيث سير بشرق أو بمغربه
يرى حوادث لا مبدا لأولها
في الله سبحانه عما يظن به
تمويهات الحوت
وقد قام كما الحوت بعمل حيلة، فجمع بعض الرسائل والمقالات في كتاب أسماه (الرسائل السبكية) ثم غيّر اسم هذا الكتاب من (الرسائل السبكية في الرد على ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية) إلى (التوفيق الرباني في الرد على ابن تيمية الحراني) وحذف منه رسالة السبكي في الرد على نونية ابن القيم، وزاد فيه رسالة أحمد الكلابي في نفي الجهة في الرد على ابن تيمية.
وقام ببعض التغييرات الطفيفة في المقدمة أيضاً حتى بدا للناس أنه كتاب آخر مختلف عن الكتاب السابق، وهو رجل معروف بهذا النوع من العمل والشكوى تزداد منه يوماً بعد يوم، حيث إنه يأخذ كتب الآخرين يصورها وينشرها ويغير غلافها وعنوانها.
وقد ثبت تزويره حذفاً وإضافة حين كان يعمل بقسم التحقيق بدار (عالم الكتب) وقام بحذف بعض العبارات من كتاب للشيخ عبد الفتاح أبي غدة مما أدى إلى طرده من الدار بعدما ظهر عدم أمانته.
الشيخ محمد بن درويش الحوت
يعظم ابن تيمية ويحتج به(58/106)
وتجاهل موقف قرابته من العلماء الشيخ محمد بن درويش الحوت الذي كان يحتج بحكم ابن تيمية على روايات الحديث كما في كتاب (أسنى المطالب، الصفحات التالية (41، 89، 118، 125، 181، 236، 253، 341، 350، 359، 399، 435، 452، 566) كذلك كان يحتج بأقوال ابن القيم (صفحات 89، 168، 452).
أوَ تَعلمت أيها الحوت من شيخك الحبشي ما جهله سلفك وقرابتك؟
وإذا كان الحوت معظماً لابن تيمية وتلميذه الأمر الذي يجعله يكثر من الاحتجاج بأقوالهما فهل يكون موافقاً لعقيدة شيخك الحبشي كما زعمتم في مجلتكم المنار (44/54) أم مخالفاً له؟
وهذه حيلة يراد بها التعطيل
ومن تمويهاته قوله "جمهور الأمة الإسلامية على تنزيه الله عن مابهة الحوادث"(1).
نعم، التنزيه على طريقة أحمد وغيره من سلف الأمة بإثبات صفات الله إثباتاً بلا تشبيه وتنزيهاً بلا تعطيل: فعلى الرأس والعين.
أما أن يقصد بالجمهور: جماهير الجهمية والمعتزلة وأفراخهم الذين يعبثون بصفات الله ويؤولونها على الوجه الذي يحلو لهم: فهو إلحاد مكسو بكساء التنزيه كمن قال: اتخذوا من دعوى التنزيه جُنةً ليصدوا بها عن إثبات ما وصف الله بن نفسه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فالمعتزلة قبلكم كانوا يرون طريقة أحمد باطلة وكانوا يرونه مشبهاً ويزخرفون باطلهم بدعوى التنزيه، وكان الجهمية يدندنون حول التنزيه عن التشبيه أكثر منكم. وكان جهم أول المستائين من آية الاستواء والمجيء واليدين وحديث النزول.
هل كان سجنه دليلاً على فساد عقيدته؟
وأما صورة مرسوم ابن قلاوون في ابن تيمية ودندنتكم حول موت ابن تيمية في السجن وقولكم يكفيكم دليلاً على ضلاله: رميه في السجن حتى مات فيه.
فلا تغرنكم المراسم السلطانية الصادرة من السلاطين ضد العلماء ولا تعوّلوا عليها، فقد وقع لغيره من كبار العلماء نظير ما وقع له.
__________
(1) التوفيق الرباني 7 الرسائل السبكية 15 .(58/107)
- فقد صدر مرسوم سلطاني ضد أحمد بن حنبل يشبه مرسوم ابن قلاوون في ابن تيمية، وأتوا به مكبلاً إلى الخليفة المأمون، وتعرض للضرب ولم يمنعه ذاك من الثبات على الحق والصبر على الأذى في الله.
- وكذلك فعلوا بمالك حين تعرض للضرب من قبل المنصور.
- وقاسى البخاري من أهل عصره حتى أخرجوه إلى مدينة خرتنك فمات بها.
- وقاسى أبو حنيفة من الحبس والضرب حتى مات وهو في السجن.
- وقاسى الشافعي من أهل مصر لما ادعى الاجتهاد المطلق.
- ومن قبلهم فعلوا بسعيد بن المسيب وبسعيد بن جبير بوالحسن البصري كما في السير.
فلو كان تعَرُّضُ العلماء لاضطهاد السلاطين وظلمهم دليلاً على فساد معتقدهم لما بقي لنا عالم واحد، إذ ما منهم إلا وقد نال نصيبه من أذاهم إلا من كان موالياً أو شيطاناً أخرس. فكيف وقد علمتم أن البلاء الذي وقع فيه ابن تيمية كان بسبب وشاية أبي نصر المنبجي به إلى السلطان بيبرس الجاشنكير. وذلك أن ابن تيمية بلغه تعظيم المنبجي لابن عربي وشيوع القول بوحدة الوجود بين أتباعه، فأنكر عليه ابن تيمية، مما دفع بالمنبجي إلى تسليط السلطان ضده كما حكاه بدر الدين العيني(1).
زعمه أنه طعن بعلي رضي الله عنه
قال الحبشي "وابن تيمية هذا طعن في علي بن أبي طالب وقال إن حروبه أضرت بالمسلمين". ثم انتهى إلى أن ابن تيمية يحرف القرآن"(2). وللجواب على ذلك نقول:
1 ) أن ابن تيمية لم يقل ذلك ومن ادعى شيئاً من ذلك فعليه الدليل. ولقد طالب الألوسي ابن حجر الهيتمي بالدليل على ذلك من كتب شيخ الإسلام. فلماذا لا يشير الحبشي إلى الموضع الذي سب فيه ابنُ تيمية علي بن أبي طالب؟
ويوم أن اتهموا الطبري بالتشيع وزعموا أنه أجاز مسح الرجلين في الوضوء: ردّ الذهبي على ذلك قائلاً "ولم نر ذلك في كتبه"(3). ونحن نطالبكم بالدليل على الطعن المزعوم المنسوب إلى شيخ الإسلام.
__________
(1) عقد الجمان 4/461 .
(2) شريط 13 الوجه الأول 94 .
(3) سيير أعلام النبلاء 14/277 .(58/108)
ولقد ذكر ابن كثير كيف قُبِض على أحد أعداء ابن تيمية وقد زوّر عليه كتاباً فقطع السلطان يده هو ومن تواطؤا معه على ذلك(1) فما يمنع أن تكون هذه الرسالة المزعومة مدسوسة عليه لا سيما وأنك تقرأ من كتبه المنتشرة ما يخالفها.
2 ) إن الحبشي لا يملك أي مستند يدعم به فريته، ولهذا لا يملك إلا أن يقول: إن ابن تيمية كتم معتقده هذا ولم يظهره في كتبه التي بين أيدينا، ولكن كيف توصل الحبشي إلى معرفة ذلك؟ ألعله اطلع على كلامه النفسي ففهم ما في نفسه من المعاني.
إنه تارة يفتري لابن تيمية رسالة عرشية غير التي بأيدينا، ويدافع عن ابن عربي تارة أخرى فيدعي وجود نسخة للفتوحات المكية ليس فيها الكلام الكفري الموجود في النسخة المتداولة. وهكذا هوىً متبع، من غير دليل.
ثم جاء صاحب كتاب التوفيق (85-89) وتحت عنوان (افتراؤه على الإمام علي) جعل ينقل عن الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة (1/114) ما يظنه دليلاً على طعن ابن تيمية بعلي رضي الله عنه، ثم نقل عن مواضع عديدة من كتاب منهاج السنة لشيخ الإسلام يستدل بها بزعمه على مسألة الطعن. وقد كان في ذلك ملبساً للحق بالباطل، ونحن سنرى خيانته وتلبيسه وكيف حرّف عبارات شيخ الإسلام وشوّهها.
نماذج من تحايل هذا الرجل
ذكر في (ص 89) من كتابه عن ابن تيمية قوله "علي رضي الله عنه كان عاجزاً عن قهر الظلمة من العسكرين. ولم تكن أعوانه يوافقونه على ما يأمر به، وأعوان معاوي يوافقونه. وكان يرى أنه لم يحصل المطلوب بالقتال… إلى أن قال: فأئمة السنة يعلمون أنه ما كان القتال مأموراً به ولا واجباً ولا مستحباً ولكن يعذرون من اجتهد فأخطأ(2).
__________
(1) البداية والنهاية 14/22 .
(2) منهاج السنة 2/202 – 203 .(58/109)
- وقال في (ص 85) "وقد ذكر ابن تيمية في حق علي في كتاب منهاج السنة (2/203) ما نصه: وليس علينا أن نبايع عاجزاً عن العدل علينا، ولا تاركاً له. فأئمة السنة يسلّمون أنه ما كان القتال مأموراً به ولا واجباً ولا مستحباً".
- وقال في (ص 89) وانظر الصحيفة (204) يقول فيها: "فإن قال الذابّ عن علي: هؤلاء الذين قاتلهم علي كانوا بغاة فقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار رضي الله عنه: "تقتلك الفئة الباغية" وهم قتلوا عماراً.
فهاهنا للناس أقوال:
منهم من قذف في حديث عمار.
ومنهم من تأوله على أنه الباغي الطالب(1) وهو تأويل ضعيف.
وأما السلف والأئمة فيقول أكثرهم كأبي حنيفة ومالك وغيرهم: لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية.
قلت: قد صرح المرتضى الزبيدي بهذا فانظره(2).
وقال المتجني (ص89) "مرادنا من هذا الكلام تبيين أن عليّاً هو الخليفة الواجب الطاعة وأن مخالفيه بغاة. فكيف يقول هذا السخيف [أي ابن تيمية] أنه ما كان القتال مأموراً ولا واجباً ولا مستحباً، وأنه لم يحصل للمسلمين في مصلحة لا في دينهم ولا في دنياهم. فهذا فيه مخالفة للأحاديث التي أوردناها، ليس هذا ذمّاً بعلي؟!
قلت: لعله لم يطلع على ما قاله ابن الهمام في المسايرة من أن كثيراً من العلماء ذهبوا إلى أن قتلة عثمان لم يكونوا بغاة بل ظلمة وقتلة وعتاة لعدم الاعتداد بشبهتهم(3). ففرق بين البغي وبين غيره.
الجواب عن شبهات الحوت
__________
(1) قال شيخ الإسلام في المنهاج (2/210 – 211) "وأما تأويل من تأويله أن علياً وأصحابه قتلوه وأن الباغي: الطالب بدم عثمانك فهذا من التأويلات الظاهرة الفساد للعامة والخاصة).
(2) إتحاف السادة المتقين 2/225 .
(3) إتحاف السادة المتقين 2/225 .(58/110)
على القارئ الكريم أن يقارن ما نقله هذا الظالم بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية ليرى خيانته في النقل مع ادعائه أنه نقل كلامه نصاً وحرفاً: راجع النصوص الثلاثة الأولى المقتطعة المختزلة(1).
ثم اقرأ ما كتبه شيخ الإسلام رداً على ابن المطهر الحلّي الرافضي بنصه "…وعسكرُ معاوية يعلمون أن عليّاً أفضل وأحق بالأمر منه. ولا ينكر ذلك منهم إلا معاند أو مع أعمى الهوى قلبه. ولم يكن معاوية قبل تحكيم الحَكَميْن يدّعي الأمر لنفسه، ولا يتسمّى بأمير المؤمنين، وإنما ادعى ذلك بعد حُكمِ الحَكَميْن، وكان غير واحد من عسكر معاوية يقول له: لماذا نقاتل معك عليّاً وليس لك سابقته وفَضله ولا صهره وهو أولى بالأمر منك؟! فيعترف لهم معاوية بذلك، ولكن قاتلوا مع معاوية لظنهم أن عسكر علي فهيم ظلمة يعتدون عليهم كما اعتدوا على عثمان، وأنهم يقاتلونهم دفعاً لصيالهم عليهم، وقتال الصائل جائز. ولهذا لم يبدأهم بالقتال حتى بدأهم أولئك.
__________
(1) دعوة شيخ الإسلام وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة ص 352 .(58/111)
ولهذا قال الأشتر النخعي: إنهم ينصرون علينا لأنا نحن بدأناهم بالقتال، وعلي رضي الله عنه كان عاجزاً"(1) عن قهر الظلمة من العسكريين، ولم تكن أعوانه يوافقونه على ما يأمر به. وأعوان معاوية يوافقونه. وكان يرى أن القتال يحصل به المطلوب، فما حصل به إلا ضد المطلوب. وكان في عسكر معاوية من يتهم عليّاً بأشياء من الظلم هو بريء منها. وطالب الحق من عسكر معاوية يقول: لا يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ولا يظلمنا، ونحن إذا بايعنا عليّاً ظلمنا عسكره كما ظلموا عثمان. وعليّ إما عاجزٌ عن العدل علينا أو غير فاعل لذلك: وليس علينا أن نبايع(2) عاجزاً عن العدل علينا ولا تاركاً له.
فأئمة السنة يعلمون أنه ما كان القتال مأموراً به لا واجباً ولا مستحباً ولكن يعذرون من اجتهد فأخطأ".
"وقوله (أي الرافضي) وقاتل (أي معاوية) علياً وهو عندهم رابع الخلفاء إمام حق، وكل من قاتل إمام حق فهو باغ ظالم. فيقال له:
أولاً: الباغي قد يكون متأولاً معتقداً أنه على حق. وقد يكون متعمداً يعلم أنه باغ، وقد يكون بغيه من شبهة أو شهوة وهو الغالب".
"وعلى كل تقدير: فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة فإنهم لا ينزّهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب، فضلاً عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد. بل يقولون: إن الذنوب لها أسباب: تدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفّرة. وهذا أمر يعمّ الصحابة وغيرهم…".
__________
(1) هذه خلاصة رأي عسكر معاوية رضي الله عنه ولكن الظالم حاول إيهام القارئ بأنه من رأي شيخ الإسلام ابن تيمية .
(2) هذا من كلام عسكر معاوية ولكن الظالم أوهم القارئ بل خدعه بأنه من كلام ابن تيمية .(58/112)
إلى أن قال: "أما الرافضي فإذا قدح في معاوية رضي الله عنه بأنه كان باغياً ظالماً قال له الناصبي(1). وعلي أيضاً كان باغياً ظالماً قاتل المسلمين على إمارته وبدأهم بالقتال وصال عليهم وسفك دماء الأمة بغير فائدة لا في دينهم ولا في دنياهم. وكان السيف في خلافته مسلولاً على أهل الملة ومكفوفاً عن الكفار.
والقادحون في علي طوائف: وكلهم مخطئون في ذلك ضالون مبتدعون. وخطأ الشيعة في القدح بأبي بكر وعمر: أعظم خطأ في من أولئك في علي.
وأما السلف والأئمة فيقول أكثرهم كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم: لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية: فإن الله لم يأمر بقتالهم إبتداءً، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما ثم إن بَغَتْ إحداهما على الأخرى قوتلت التي تبغي، وهؤلاء قوتلوا ابتداءً قبل أن يبدأوا بقتال".
"ومذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما أن مانعي الزكاة: إذا قالوا نحن نؤديها بأنفسنا ولا ندفعها إلى الإمام لم يكن له قتالهم.
ولهذا كان هذا القتال عند أحمد وغيره كمالك قتال فتنة. وأبو حنيفة يقول: لا يجوز قتال البغاة حتى يبدءوا بقتال الإمام: وهؤلاء لم يبدءوا بل الخوارج بدءوا به. وقتال الخوارج ثابت بالنص والإجماع"(2) انتهى.
فهذا نص شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ردّ به على افتراءات الرافضي الحلّي، ثم قارنه مع النص الثالث المتقدم الذي نقله عنه هذا الظالم مختزلاً ليثبت أنه كان يذم علياً رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية "قال الرافضي: وقال (أي عمر) بالرأي والحدس والظن.
__________
(1) هذا الكلام عبارة عن جدال مفترض بين رافضي وناصبي قادح في علي: وليس هو من كلام ابن تيمية، ولذلك قال بعدها ابن تيمية: والقادحون في علي طوائف: وكلهم مخطئون.
(2) منهاج السنة 2/203 – 205 .(58/113)
والجواب أن القول بالرأي لم يختص به عمر رضي الله عنه بل علي كان من أقولهم بالرأي وكذلك أبو بكر وعثمان وزيد وابن مسعود وغيرهم من الصحابة رضي الله عنه كانوا يقولون بالرأي.
وكان رأي علي في دماء أهل القبلة من الأمور العظام كما في سنن أبي داود وغيره عن الحسن عن قيس بن عبّاد قال: قلت لعلي: أخبرنا عن مسيرك هذا أعهد عهده إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم رأيٌ رأيتَه(1)؟
بل روى الأحاديث الصحيحة هو وغيره من الصحابة في قتال الخوارج المارقين".
"وأما قتال الجمل وصفين فلم يروِ أحد منهم فيه نصاً إلا القاعدون. فإنهم رووا الأحاديث في ترك القتال في الفتنة.
وأما الحديث الذي يُروى أنه أُمِرَ بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين فهو حديث موضوع على النبي - صلى الله عليه وسلم -"(2).
"ومعلوم أن الرأي إن لم يكن مذموماً فلا لوم على من قال به. وإن كان مذموماً فلا رأي أعظم ذماً من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من المسلمين. ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم: بل نقص الخيرُ عما كان، وزاد الشر على ما كان.
فإذا كان مثل هذا الرأي لا يُعاب به: فرأيُ عمرَ وغيره في مسائل الفرائض والطلاق أولى أن لا يعاب.
مع أن علياً شركهم في هذا الرأي وامتاز برأيه في الدماء.
وقد كان ابنه الحسن وأكثر السابقين الأولين لا يرون القتال مصلحة وكان هذا الرأي أصلح من رأي بالدلائل الكثيرة"(3) انتهى.
وقد ردّ شيخ الإسلام على ابن المطهر الحلي الرافضي حين عاب عمرَ رضي الله عنه بالرأي والحدس والظن، ولكن هذا الظالم تلاعب بالنص ونقله مقطوعاً عما قبله وبعده:
حاول هذا الكاتب الظالم تنفير الناس عن شيخ الإسلام، بعدما نقل عنه نقلاً مشوهاً واستدل به على ذم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. عليه من الله ما يستحق.
__________
(1) سنن أبي داود (4658) .
(2) اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1/410 .
(3) منهاج السنة 3/156 .(58/114)
منزلة علي رضي الله عنه عند ابن تيمية
وغير خاف على من له إلمامٌ بكتب شيخ الإسلام أنها مليئة بالدفاع عن آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومن نصوص شيخ الإسلام في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه الفاضحة لتزوير هذا الظالم:
قال رداً على الرافضي: "والرافضة لا يمكنهم أن يثبتوا وجوب موالاته (أي علي) كما يمكن أهل السنة، وأهل السنة متفقون على ذم الخوارج الذين هم أشد بغضاً له وعداوة من غيرهم.
وأهل السنة متفقون على وجوب قتالهم. فكيف يفتري المفتري بأن مدح هذا (أي معاوية) لبغضه علياً وذم هذا لمحبة عليّ مع أنه ليس من أهل السنة من يجعل بغض علي طاعة ولا حسنة ولا يأمر بذلك ولا من يجعل مجرد حبه سيئة. ولا معصية ولا ينهى عن ذلك.
وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبه وبذم الذين يذمونه من جميع الفرق.
وهم ينكرون على من سبّه وكارهون لذلك.
وما جرى من التسابِّ والتلاعن بين العسكريْن من جنس ما جرى من القتال وهم من أشد الناس بغضاً وكراهة لأن يتعرض له بقتال أو سب. بل هم كلهم متفقون على أنه أجلّ قدراً وأحق بالإمامة وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه وأخيه الذي كان خيراً منه.
وعلي هو أفضل ممن هو أفضل من معاوية، فالسابقون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من الذين أسلموا عام الفتح، وفي هؤلاء خلق كثير أفضل من معاوية. وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء كلهم.
وعلي أفضل جمهور الذين بايعوا تحت الشجرة، بل هو أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة(1). فليس في أهل السنة من يقدِّم عليه أحداً غير الثلاثة". يعني أبا بكر وعمر وعثمان.
كلمة أخيرة
أخبرونا: أين الطعن في علي الذي تزعمونه؟ لماذا التمويه على العامة من الناس؟
__________
(1) منهاج السنة 2/206 .(58/115)
إن هذه النصوص تفضح كذب من يجعلون كلام عسكر معاوية كلام ابن تيمية، بينما يعرضون عن صريح نصوص ابن تيمية التي يثني فيها على علي رضي الله عنه اتباعاً للهوى وإيثاراً للظلم والتجني.
اتهامه بتحريم التوسل مطلقاً
قال الحبشي "ومن أشهر ما صح عن ابن تيمية بنقل العلماء المعاصرين له: تحريمه التوسل بالأنبياء والصالحين بعد موتهم وفي حياتهم، وتحريم زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال السبكي "ولم يسبق ابن تيمية في إنكاره التوسل أحد من السلف ولا من الخلف، بل قال قولاً لم يقله عالم قط"(1).
وهذا الكلام الذي وضعت لك تحته خطأ هو محض افتراء، فإن ابن تيمية لم يحرم التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته، بل أثبته محتجاً بحديث الأعمى الذي طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له، لكنه حرم التوسل به ميتاً واحتج بترك الصحابة التوسل به بعد موته كتوسل عمر بالعباس وتوسل معاوية بيزيد بن الأسود(2) مما يستنتج منه أن المفهوم المتأخر للتوسل ينافي فهم السلف له، حيث فهموا منه التوسل بدعاء المتوسَّل به لا بشخصه. وقد كانوا في حياته - صلى الله عليه وسلم - يأتونه ويطلبون منه أن يدعو الله أن يسقيهم.
ولابن تيمية في هذا الفهم الصحيح سلف: فقد سبقه بذلك أبو حنيفة وأحمد في أحد قوليه، وهذا يبطل ادعاء السبكي أنه لم يسبق أحدٌ ابن تيمية في موقفه من التوسل. ويكفيك أن تتطلع على هذه الفقرة وفيها:
جاء في الدر المختار(3) وهو من أشهر كتب الحنفية ما نصه "عن أبي حنيفة قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه المأمور به: هو ما استفيد من قوله تعالى {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}.
__________
(1) المقالات السنية 26 .
(2) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 92 و94 و126 .
(3) 2/630 ونقله القدوري وغيره عن أبي يوسف .(58/116)
وقال أبو حنيفة "وأكره أن يقول: بحق فلان أو بِحَق أنبيائك ورسلك"(1). وقال أبو يوسف "لا يُدعى الله بغيره". وقال المرتضى الزبيدي "وقد كره أبو حنيفة وصاحباه أن يقول الرجل: أسألك بِحَقّ فلان، أو بحق أبنيائك ورسلك، إذ ليس لأحد على الله حق"(2) وذكر الآلوسي أن نصوص علماء المذهب تدل على أن الكراهية للتحريم وهي كالحرام في العقوبة بالنار عند محمد(3).
وأما حديث "أسألك بحق السائلين عليك" ففيه عطية العوفي وفي روايته وَهَن.
هل حرّم ابن تيمية زيارة القبور؟
وأما زعم السبكي وغيره أن ابن تيمية كان يرى المنع من زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ابن تيمية لا يحرم زيارة القبور ولا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كيف وقد كتب كتاباً بعنوان (الرد على البكري واستحباب زيارة قبر خير البرية)؟ ومن نقل خلاف هذا فليأت بدليل من كتب الشيخ. وإنما منع شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، ومأخذُه النص؟!
واحدة بواحدة!!!
ونحن نذكّر الحبشي بقوله حين صرف الناس عن الزكاة قائلاً "كيف تنكرون على الشافعي ومالك فتواهما بعدم الزكاة في غير الذهب والفضة ومأخذهما النص"(4).
ونحن نستخدم عبارته هذه ونقول: كيف تُنكِر على ابن تيمية فتواه بتحريم شد الرحال إلى غير المساجد ومأخذه النص؟ وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاث: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا"(5).
كتب كتاباً بعنوان (الرد على البكري واستحباب زيارة قبر خير البرية)؟ ومن نقل خلاف هذا فليأت بدليل من كتب الشيخ. وإنما منع شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، ومأخذُه النص؟!
__________
(1) الفتاوى الهندية 5/280 .
(2) إتحاف السادة شرح إحياء علوم الدين 2/285 .
(3) جلاء العينين 452 .
(4) بغية الطالب 160 .
(5) رواه البخاري (1189) و(1864) و(1197) ومسلم (827).(58/117)
وابن تيمية لم يتفرّد بهذا القول بل قاله الإمام الجويني وهو من كبار أصحاب المذهب الأشعري، كما حكاه عنه النووي(1) وحكاه المناوي عن القاضي عياض والقاضي حسين في تحريم شد الرحال لمجرد زيارة القبر(2).
ولئن كان النووي قد تعقب الجويني وخالفه فإن اعتراضه مردود بموقف الإمام مالك الذي كان يرى تحريم شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاث تمسكاً بالحديث النبوي.
أكذوبة تحريم زيارة القبر النبوي
وقد دافع ابن كثير عن هذا الافتراء قائلاً "فانظر إلى التحريف على شيخ الإسلام فإنه. جوابه ليس فيه منع زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما فيه ذكر قولين في شد الرحال والسفر إلى مجرد زيارة القبور، وزيارة القبور من غير شد رحال شيء: وشد الرحال لمجرد الزيارة أمر آخر. والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض إلى الزيارة ولا قال إنها معصية ولا حكى الإجماع على المنع منها ولا هو جاهل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "زوروا القبور فإنها تذكّر الآخرة"(3). بل صرح بأن السفر لزيارة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبره معاً مستحب ويدخل القبر تبعاً(4).
وجوب التفريق بين الزيارة وبين شد الرحال
وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - "لا تُشَدُّ الِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا" ولم يقل "وقبري هذا" والحديث نصٌ في تحريم شد الرحال إلى القبور"(5).
- نعم قال الحافظ العسقلاني أن تحريم زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية(6).
__________
(1) النووي على مسلم 9/106 و168 .
(2) فيض القدير 6/403 .
(3) البداية والنهايرة 14/124 .
(4) الرد على الأخنائي 172 – 173 .
(5) البخاري (1995) ومسلم (1338) .
(6) فتح الباري 3/66 .(58/118)
قلت بل من المسائل المكذوبة عليه، ولا يفيد قول الحافظ العسقلاني له ولكن عموم كلامه يدل على أنه لا يزال له قدره ومنزلته عنده لا سيما وأنه وصفه بالعلامة في (فتح الباري 6/289) وبـ "الحافظ" كما في (التّلخيص الحبير) كما سيأتي واحتج به في الحكم على كذب رواية (وهو الآن على ما عليه كان) وأنها ليست في شيء من كتب الحديث.
الحافظ يعطيه رتبة حافظ
فخذوه حيث حافظ عليه نص
بل أعطاه ابن حجر رتبة ((حافظ)). فقد ذكر في (التلخيص الحبير 3/109) حديث (الفقر فخري وبه أفتخر) ثم قال "وهذا الحديث سئل عنه الحافظ ابن تيمية فقال: إنه كذب لا يُعرَف في شيء من كتب المسلمين المروية".
والتحريم المزعوم لزيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - إنما هو شيء ألزمه به أعداؤه كما اعترف بذلك الحافظ نفسه. وكان السبكي واحداً من أبرز الملزمين له بذلك حين زعم أنه يحرّم زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مع علمه أنه يحرّم شد الرّحال إليه ولا يحرّم مجرد الزيارة.
فقد أكد أن زيارة المسجد النبوي الشريف (ثم) زيارة القبر النبوي عمل صالح ومستحب(1)، جلّ ما في الأمر أنه يفرق بين الزيارة الشرعية وبين الزيارة البدعية التي تتضمن إما السفر من أجل القبر وإما المخالفات التي تُرتكب عند القبر من تقبيل الجدران والاستغاثة به - صلى الله عليه وسلم - أو أن يكشف ضراً أو يقضي حاجة. وحصول الخشوع والإقبال على الدعاء لمجرد الوقوف عند القبر بما لا يحصل مثله بين يدي الله في الصلاة". قال:
__________
(1) الجواب الباهر 14 .(58/119)
"فالزيارة الشرعية مقصودها السلام على الميت والدعاء له، سواء أكان نبياً أو غير نبي، ولهذا كان الصحابة إذا زاروا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلّمون عليه، ويدعون له ثم ينصرفون، ولم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفسه، وقال "وقد اتفق العلماء على أن من زار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين من الصحابة وأهل البيت أنه لا يتمسح به ولا يقبّله، بل ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود، وقد ثبت في الصحيحين أن عمر قال "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبّلتُك".
أضاف:
"ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركنَيْ البيت ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت المقدس ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين "فهذه هي الزيارة البدعية وهي من جنس دين النصارى وهو أن يكون قصد الزائد أن يُستجاب دعاؤه عند القبر أو أن يدعو الميت أو يقسم به على الله في طلب حاجاته وتفريج كرباته، فهذه من البِدَع التي لم يشرعها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا فعلها أصحابه"(1).
قال:
"وأما زيارة القبور المشروعة فهو أن يسلم على الميت ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين …"(2).
وبهذا يتبين لك غلط السبكي وأمثاله على ابن تيمية حيث نسبوا إليه ما ثبت خلافه من كلامه، وسارعوا إلى ركوب أهوائهم من غير أن تثبت. ولهذا صرح الحافظ ابن حجر أن تحريم زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - من المسائل المنسوبة إلى ابن تيمية.
__________
(1) كتاب الزيارة 13 – 14 .
(2) كتاب الزيارة 81 – 88 .(58/120)
أما قوله (مستشنع) فليس فيه مذمة، فقد قال بعض أهل العلم إن مسألة التزوج بالبنت من الزنا من أبشع المسائل المنقولة عن الشافعي وأن جواز التيمم بالثلج من أبشع المسائل المنقولة عن مالك. وأن تزوج المغربي من المشرقي (وبالعكس) ثم ولدت الزوجة ولداً يلحق بالأب وإن لم يجتمع الزوجان قط: من أبشع المسائل المنقولة عن أبي حنيفة.
الجويني سبق ابن تيمية بهذه الفتوى
وقد تحدى الحبشي أن يكون أحد من السلف أو الخلف سبق ابن تيمية زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -(1)، ونحن نتحداه أن يأتي بدليل من كلام ابن تيمية يحرّم فيه زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما تحريم شد الرحال إلى القبر فقد سبقه إلى ذلك الإمام الحرمين كما حكاه عنه النووي والمناوي(2).
وقال الإمام مالك قبلهما "أكره أن يقول القائل: زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -" ولا يعني هذا تحريم زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما تحريم السفر من أجله تمسكاً بالحديث. ويجب التفريق بين زيارة القبر وبين شد الرحال إليه لا كما يفعله الشيعة. وحاشا مالكاً أن يكون بذلك مخالفاً للإجماع وهو أعلم أهل زمانه. فإنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه كان يأتي من سفر للقدوم على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ما كان من فعل ابن عمر. وقد جاء في مصنف عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر أنه قال: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر".
الرافضة وأضرحة الأئمة
__________
(1) المقالات السنية 137 .
(2) فيض القدير 6/403 وشرح مسلم 9/106 و168 .(58/121)
ولقد بيّن ابن تيمية أمراً مهماً تجب ملاحظته وعدم إغفاله وهو أن أول من وضع الأحاديث المكذوبة في السفر لزيارة المشاهد (أضرحة الأئمة والأولياء) هم أهل البدع الرافضة الذين يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد: يتركون بيوت الله التي أمر أن يُذكر فيها اسمُه، ويعظمون المشاهد التي يُشرَك عندها به، والكتاب والسنة جاءا بتعظيم المساجد لا المشاهد. قال تعالى {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وليس عند كل ضريح أو مقام.
الشرك المجرب وليس الترياق المجرب
أما روايات الحبشي المظلمة التي يزعم فيها أن "قبر معروف الكرخي: الترياق المجرب" فما أظلم وأكذب أسانيده في العقائد التي نقض بها ما تعهد به، أنه لا تجوز الرواية في أمور العقائد إلا بما صح سنده، ولئن كان هذا الترياق مجرّباً فما بال الصحابة لم يجربوا (ترياق) قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!! لماذا تدافعون عن شيء هلك به المشركون وبنوا لأجله الأصنام؟
إنكم لن تجدوا في أفعال الصحابة ما يوافق ذلك اللهم إلا الشيعة ومن قبلهم اليهود والنصارى ومن قبلهم قوم نوع الذين كانوا يعتبرون قبور ود سواع ويغوث ويعوق ونسر: هي الترياق المجرب: أعني الشرك المجرب: هم سلفكم: يا خلفَهُم!
أما قول إبراهيم الحربي (الترياق المجرب) فهو أولى عندكم بالأخذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لعن الله اليهود والنصارى: اتخذوا قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد". تعارضون ما صح سنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأكاذيب المروية من غير المعصومين!!!
منهجية السبكي في إثبات الزيارة
ومصادره في هذه المسألة
ولم يلتفت السبكي إلى تفريق ابن تيمية بين مجرد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين شد الرحال إليه، فكتب كتاباً بعنوان "شفاء السقام في زيارة خير الأنام" ملأه بالموضوع والمكذوب من الروايات.(58/122)
وقد رد عليه الحافظ بن عبد الهدي وفند جميع رواياته الضعيفة في كتاب بعنوان (الصارم المنكي في الرد على السبكي) قال فيه:
"أما بعد فإني وقفت على هذا الكتاب فوجدته كتاباً مشتملاً على تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة"(1).
وصرح الحافظ بأن طرق حديث "من زار قبري" كلها ضعيفة ونقله عن ابن خزيمة أنه لم يصح حديث في هذا الباب(2).
منهجية السبكي في رد ابن تيمية
غير أن السبكي لم يلتفت إلى تفريق ابن تيمية وكتب كتاباً بعنوان "شفاء السقام في زيارة خير الأنام" مع أنه نقل فيه عنه التفريق بين الزيارة البدعية والزيارة الشرعية(3).
ويا ليت السبكي لم يكتب هذا الكتاب، فقد ملأه بالموضوع والمكذوب من الروايات، فكشف بكتابه هذا عن مدى علاقته بفن الحديث. ودافع الحبشي بدوره عن هذه الروايات بتعصب وانحراف بالغين(4).
وقد اقترح السبكي أن يسمي كتابه "شن الغارة على من أنكر الزيارة" لكن سلاحه لا يصلح لشن الغارة لأنه ضعيف لم يزد خصمه إلا رسوخاً وثباتاً فضلاً عن أن زعمه أن خصمه أنكر الزيارة هو ظلم كبير لا سيما إذا علم أن لابن تيمية كتاباً اسمه "الرد على البكري واستحباب زيارة قبر خير البرية".
وقد رد الحافظ ابن عبد الهادي على كتاب السبكي المذكور قائلاً "أما بعد فإني وقفت على هذا الكتاب فوجدته كتاباً مشتملاً على تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة"(5).
__________
(1) الصارم المنكي في الرد على السبكي 18 – 19 .
(2) انظر لسان الميزان 6/258 وميزان الاعتدال 4/225 .
(3) شفاء السقام 129 .
(4) انظر كتابه المقالات السنية ص 139 .
(5) الصارم المنكي في الرد على السبكي 18 – 19 .(58/123)
ويكفي اليوم في الرد على السبكي: مجرد تخريج الأحاديث التي حشاها في كتابه ليتعرَف المنصف على صدق كلام ابن عبد الهادي وعلى ضعف السبكي في علم الحديث، وعلى تعصبه وعدم إنصافه لابن تيمية، ولنذكر بعضاً من هذه الأحاديث من غير توسع في تخريجها:
ـ "من زار قبري وجبت له شفاعتي"(1).
ـ "من جاءني زائراً لا يعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً على الله أن أكون له شفيعاً"(2).
ـ "ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر"(3).
ـ "من لم يزر قبري فقد جفاني"(4).
ـ "من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي"(5). قال الشيخ محمد بن درويش الحوت في (أسنى المطالب ص429) "رواه البيهقي وفيه حفص القاريء رمي بالكذب".
ـ "من حج البيت ولم يزُرني فقد جفاني"(6). قال الشيخ محمد بن درويش الحوت في (أسنى المطالب ص467) "لا يصح".
وتعجب كيف يمكن أن يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا وهو الذي صح عنه أنه قال "لا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم". وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثناً ثم يأمر بشد الرحال إليه بل يوبخ من لا يفعل ذلك ويصفه بالمجافاة؟!
ـ "من زارني إلى المدينة كنت له شفيعاً وشهيداً"(7).
__________
(1) شفاء السقام 2 ضعفه السيوطي والألباني (إرواء الغليل 1127 اللآلئ المصنوعة 2/129).
(2) شفاء السقام 16 ضعفه الحافظ ابن حجر في التلخيص 2/267 .
(3) شفاء السقام 16 ضعفه الألباني في كتابه "دفاع عن الحديث" 109 .
(4) شفاء السقام 39 ذكره ابن الجوزي في الموضوعات 2/217 .
(5) شفاء السقام 20 ضعيف انظر الإرواء 1128 وسلسلة الضعيفة 47 ومشكاة المصابيح 2756 .
(6) شفاء السقام 39 قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء "ذكره ابن الجوزي في الموضوعات" الإحياء 1/258 .
(7) شفاء السقام 36 ضعفه الحافظ في التلخيص 2/267 وانظر ميزان الاعتدال 1/53 .(58/124)
ـ "من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة"(1).
ـ "من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي"(2). قال الشيخ محمد بن درويش الحوت في (أسنى المطالب ص435) "رواه الدارقطني وفي سنده مجهول". فهذا اعتراف من مشايخ الأحباش المعتبرين فاعتبروا يا أولي الأبصار.
فهذه الروايات الضعيفة التي تحث على اتخاذ القبور مساجد تتعارض مع الروايات الصحيحة الناهية عن اتخاذ القبور مساجد كحديث "لا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك".
وليس شيء من هذه الأحاديث صحيحاً حتى تكون شفاءً للسقام وإنما هي بين موضوع وضعيف جداً فكيف تكون شفاءً للسقام، وإنما كان هذا السقم نفسه هو رأسمال السبكي في رده على صحاح البراهين التي احتج بها ابن تيمية، ولم يستطع مناقضته ولا بحديث واحد صريح صحيح، لأنه لا يوجد.
ابن تيمية ومسألة الطلاق
وأما اتهامه لابن تيمية بمخالفة إجماع الأئمة في مسألة طلاق الثلاث وطلاق اليمين. فنسأل أولاً:
هل كل مخالفة للأئمة تكون مخالفة للدين؟
وهل كان تفرُّدُ ابن تيمية في هذه المسألة مخالفاً لما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
وهل كان مخالفاً بعضَ الأئمة أم خالف إجماعهم؟
إن كانت من مسائل الاجتهاد فلا ضير أن يجتهد من وصفه ابن حجر والسيوطي بالحافظ والعلامة وشيخ الإسلام ومجتهد وقته وبحر عصره. أما أن يكون مخالفاً للإجماع فلا يقول ذلك إلا (حقود أو جاهل) أو (واهم).
قال الحافظ ابن حجر "ويتعجب من ابن التين حين جزم بأن لزوم الثلاث لا اختلاف فيه، مع ثبوت الاختلاف كما ترى"(3).
__________
(1) شفاء السقام 31 نقده الذهبي في ميزان الاعتدال ترجمة رقم (9168).
(2) ذكره السيوطي في الأحاديث الموضوعة 2/130 .
(3) فتح الباري 9/363 .(58/125)
وقال النووي "وقد اختلف العلماء فيمن قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، فقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد وجماهير العلماء من السلف والخلف: يقع الثلاث، وقال طاووس وبعض أهل الظاهر: لا يقع بذلك إلا واحدة، وهو رواية عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق، والمشهور عن الحجاج بن أرطأة أنه لا يقع به شيء، وهو قول ابن مقاتل، ورواية عن محمد بن إسحاق"(1).
قلت: وهو قول جماعة من الصحابة كابن عباس والزبير بن العوّام وعبد الرحمن بن عوف كما حكاه ابن وضّاح وابن مغيث في (كتاب الوثائق)(2) وأفتى به علي بن أبي طالب وابن مسعود، ومن التابعين ابن المسيب وجماعة من التابعين والفقهاء كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار كما ذكر الألوسي في تفسير روح المعاني، وكأحمد بن بقي بن مخلد ومحمد بن القاسم بن هبة الله الشافعي(3) قالوا إن طلاق الثلاث طلاق بدعي وكل بدعة مردودة"(4).
__________
(1) شرح مسلم 10/325 حديث رقم (1472).
(2) فتح الباري 9/ 363 .
(3) ذكره ابن كثير من جملة المفتين بذلك. البداية والنهاية 13 / 132 .
(4) أعلام الموقعين 3/38 .(58/126)
وأفتى به من المتأخرين جمع من العلماء والمفتين أبرزهم الشيخ عبد المجيد سليم الحنفي المصري شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية. وقد بحث المسألة بحثاً شديداً. قال الفقي "وكانت خاتمة بحثه ومحط رأيه: أننا لو طرحنا الأحاديث لِمَا يقال من اضطرابها وعدم بيانها: يبقى معنا النص القرآني {الطّلاَقُ مَرَّتَانِ …} فمما لا يشك فيه بعد ذلك أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة"(1). والشيخ أحمد شلتوت الذي قال "وعلى هذا فلا نحكم بوقوع الطلاق إلا إذا كان مرة مرة وكان منجزاً مقصوداً للتفريق، في طهر لم يقع في طلاق ولا إفضاء وكان الزوج بحالة تكمل فيها مسئوليته. وبهذا لا نحكم بوقوع الثلاث دفعة واحدة إذا قال: أنت طالق ثلاثاً"(2).
__________
(1) حاشية الفقي على المنتقى للمجد ابن تيمية 2/600 .
(2) الفتاوى للشيخ شلتوت ص 310 ط: دار الشروق. القاهرة – بيروت.(58/127)
وقال الحافظ ابن حجر "ومن القائلين بالتحريم واللزوم من قال: إذا أطلق ثلاثاً مجموعةً وقعت واحدة، وهو قول محمد بن إسحاق صاحب المغازي، واحتج بما رواه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلّق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثاً فحزن على طلاقها حزناً شديداً فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - "كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثاً، فقال: في مجلس واحد؟ قال نعم، قال: فإنما تلك واحدة فارتجعها إن شئت"(1).
قال الحافظ "وهذا الحديث نص في المسألة لا يُقبل التأويل الذي في غيره من الروايات الأخرى".
وأما رواية أبي داود وفيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استحلف ركانة "آلله ما أردتَ إلا واحدة؟ فقال ركانة والله ما أردتُ إلا واحدة" ففيها علي بن يزيد بن ركانة وهو مجهول وابنه عبد الله: ضعيف والزبير بن سعيد: ضعيف. قال الترمذي (رقم 1177) "وسألت محمد (أي البخاري) عن هذا الحديث فقال: فيه اضطراب" وقال الحافظ المنذري "ضعّفوه" وأعلّ الحافظ في التلخيص (3/213) طرق هذا الحديث(2).
__________
(1) رواه البيهقي وقال "هذا الإسناد لا تقوم به حجة" وقال الألباني "هذا الإسناد صححه الإمام أحمد والحاكم والذهبي وحسّنه الترمذي في متن آخر، وذكرنا اختلاف العلماء في داود بن الحصين وأنه حجة في غير عكرمة، ولولا ذلك لكان إسناد الحديث لذاته قوياً ولكن ذلك لا يمنع من الاعتبار بحديثه والاستشهاد بمتابعتها لبعض بني رافع، فلا أقل من أن يكون الحديث حسناً بمجموع الطريقين عن عكرمة، وكلام ابن حجر في الفتح يشعر بأنه يرجح صحته أيضاً، فإنه قال "أخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه من طريق محمد بن إسحاق . . . ويقوي حديث ابن إسحاق المذكور ما أخرجه مسلم (فتح الباري 9/362 إرواء الغليل 7/144).
(2) انظر إرواء الغليل 7/139 .(58/128)
وهؤلاء ما أرادوا بروايتهم هذا الحديث العمل به، وإنما أرادوا التشغيب وضرب حديث مسلم به، وإلا فلا نعهدهم يعتبرون الثلاثة واحداً لمن طلق ثلاثة ونوى واحدة. ثم إن الطلاق هزله جد، ومن تلفظ بالثلاثة ونوى بها واحدة وجب على من يعتبرها ثلاثة أن يلزمه بالثلاثة عقوبة له. كما أن من تلفظ بالطلاق ونوى عدمه لا يقبلون منه النية وإنما يلزمونه بما تلفظ به.
قال ابن عباس رضي الله عنه "كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم في أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم" وفي رواية لمسلم أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تُجعَلُ واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وثلاثاً من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم (قد كان ذلك)"(1).
فانظر كيف قدموا هنا فعل عمر الموقوف على المرفوع، بينما قدموا المرفوع على موقوف أبي هريرة لما قال للمتطيبة "آلمسجد تريدين يا أمة الجبار". فتارة يقدمون فعل الصحابي على فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتارة يعكسونها!
قال ابن تيمية بعد ذكر هذين الحديثين "ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف هذه السنة بل ما يخالفها إما أنه ضعيف، بل مرجوح. وإما أنه صحيح لا يدل على خلاف ذلك" وقال "ولا نعرف أحداً طلق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأته ثلاثاً بكلمة واحدة فألزمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالثلاث ولا روي في ذلك حديث صحيح ولا حسن، ولا نقل أهل الكتب المعتمد عليها في ذلك شيئاً. بل رويت في ذلك أحاديث كلها ضعيفة باتفاق علماء الحديث؛ بل موضوعة"(2).
الإجماع منعقد على أن الثلاث واحدة
__________
(1) رواه مسلم رقم (1472) .
(2) مجموع الفتاوى 33/71 وانظر ص 12 و13 .(58/129)
وبهذا يبطل قول من زعم أن ابن تيمية خالف بهذه الفتوى الإجماع من الخلف والسلف. فإن الإجماع قد انعقد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلافة أبي بكر وسنتين من خلافة عمر على أن طلاق الثلاث واحدة كما نص عليه ابن عباس رضي الله عنهما.
فما يفيد ذلك؟ أليس يفيد إجماعاً؟
أما الموقف الآخر الذي اتخذه عمر فإنه اتخذه مع علمه بأن طلاق الثلاث واحدة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بل وعمله به لسنتين، وإنما اتخذه لمصلحة طارئة رآها، ومع ذلك فل ينعقد بين الصحابة على ذلك. وما أكثر المسائل التي يظن الناس أنها مجمعٌ عليها بينما ليست كذلك.
وقد استنكر العلامة الآلوسي بشدة ادّعاء عبد الغني النابلسي أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن المطلقة بالثلاث في المجلس الواحد "كيف حكمه عندك يا رسول الله؟ فقال: "تقع ثلاثاً"(1)! مع أن الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث عكس ذلك. وهذا جرياً على عادة الصوفية في حسم المسائل المتازع عليها بكشوفات ومنامات يُحلّون بها في عالم المنام ما ثبت تحريمه في عالم اليقظة.
موقف الحبشي من هذا الحديث
وقد نقض الحبشي هذا الحديث(2) وأقترح لإبطال العمل به: عدة مقترحات:
1ـ أن يقال بأنه لا يجوز العمل بظاهره. ولست أدري ما يمنعه بعد هذا أن يقول "لا يجوز العمل به"!
__________
(1) جلاء العينين في محاكمة الأحمدَيْن 236 .
(2) المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية 55 – 56 .(58/130)
2ـ أنه يمكن معارضة الحديث بإجماع الصحابة على العمل بخلافه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأن الإجماع يُقدَّم على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله. وإن كان كذلك فلماذا تمسكتم بحديث الأعمى وتجاهلتم إجماع الصحابة على ترك التوسل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والتوسل مكانه بالعباس. فقد توسل عمر بالعباس على مرأى الصحابة جميعاً ولم ينكر أحد منهم عليه، فلماذا لا تتركون التوسل بالموتى وتحمون بنسخ الإجماع لحديث الأعمى؟!.
وكيف وأن هذا الإجماع المزعوم في مسألة الطلاق لم ينعقد. فقد عمل جماعة من الصحابة كابن عباس والزبير بن العوّام وعبد الرحمن بن عوف بمقتضى الفتوى النبوية كما حكاه ابن وضّاح وأفتى به علي بن أبي طالب وابن مسعود، ومن التابعين ابن المسيب وجماعة من التابعين والفقهاء كما ذكر الألوسي في تفسير روح المعاني. وهو معتمد المحاكم الشرعية في أكثر البلاد الإسلامية. أولم يكفهم أنه كان معتمداً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلافة أبي بكر؟!
3ـ أن يقال إن الحديث ضعيف بالشذوذ. وهذا تلبيس فإن الشذوذ في رواية (عارم) كما عند أبي داود والنسائي والدارقطني، أما رواية مسلم والبيهقي فليست شاذة. ولذا لم تتضمن زيادة (قبل أن يدخل بها).
4ـ أن يقال إن الحديث مؤوّل بأن معنى (كان الطلاق طلاق الثلاث واحداً) أن البتة كانت تستعمل للطلاق الواحد للتأكيد ثم صار الناس يستعملونها في خلافة عمر بصد الثلاث فأجرى عليهم عمر الحكم على موجب قصدهم.
وهذا التأويل مردود. ثم إن هذه التأويلات المعتادة ليست بأعظم من تأويلاتهم لصفات الله وقولهم على الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ويبطل التأويلَ قولُ عمر (قد استعجلوا) وقد رأى وقف العمل لمصلحة راجحة عنده وهو تعزير الناس وتأديبهم، وذلك مثل تعطيله حد السرقة عند الرمادة وإقرار الصحابة له على ذلك.(58/131)
قال الألباني "وهل يجوز مع هذا كله أن يُترّك الحُكمُ المُحكَم الذي أجمع عليه المسلمون في خلافة أبي بكر وأول خلافة عمر من أجل رأي بدا لعمر واجتهد فيه: فيؤخَذُ باجتهاده ويُترَك حكمُه الذي حكَمَ هو به أول خلافته تَبَعاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر؟!
اللهم إن هذا لمن عجائب ما وقع في الفقه الإسلامي، فرجوعاً إلى السنّة المُحكَمة أيها العلماء، لا سيما وقد كثرَتْ حوادث الطلاق في هذا الزمان كثرة مدهشة تُنذِر بِشرٍّ مستطير تُصابُ به مئات العائلات"(1).
المفاسد المترتبة على توسيع الطلاق
وقد أوضح ابن تيمية المفاسد التي ترتبت على توسيع باب الطلاق، فقال:
"ومن تدبر نصوص الكتاب والسنة وجدها مفسرة لأمر النكاح، لا يشترط فيها ما تشترطه طائفة من الفقهاء".
كما اشترط بعضهم: ألا يكون إلا بلفظ الإنكاح والتزويج.
واشترط بعضهم: أن يكون بالعربية.
واشترط هؤلاء وآخرون: ألا يكون إلا بحضرة شاهدين، ومع هذا فقد صححوا النكاح مع نفي المهر. ثم صاروا طائفتين: طائفة تصحح نكاح الشغار، لأنه لا مفسد له إلا نفي المهر، وذلك ليس بمفسد عندهم. وطائفة: تبطله، وتعلل ذلك بعللٍ فاسدة.
ثم صححوا "نكاح المحلل"(2).
"فكان قول أهل الحديث وأهل المدينة الذين لم يشترطوا لفظاً معيناً في النكاح، ولا إشهاد شاهدين مع إعلانه وإظهاره، وأبطلوا نكاح الشغار، وكل نكاح فيه نفى فيه المهر، وأبطلوا نكاح المحلل … أشبه بالكتاب والسنة وآثار الصحابة".
__________
(1) سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/272 .
(2) وهذا التحليل الذي وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعله بالتيس المستعار صار وصمة عار في جبين الشريعة الإسلامية وموضع تهكم أعداء الدين.(58/132)
"ثم إن كثيراً من أهل الرأي الحجازي والعراقي وسّعوا "باب الطلاق" فأوقعوا طلاق السكران، والطلاق المحلوف به، وأوقع هؤلاء طلاق المكره، وهؤلاء طلاق المشكوك فيه فيما حلف به، وجعلوا الفُرقة البائنة طلاقاً محسوباً من الثلاث إلى أمور أخرى، ووسّعوا بها الطلاق الذي يحرّم الحلال، وضيّقوا النكاح الحلال. ثم لما وسّعوا الطلاق صار هؤلاء يوسّعون في عود المرأة إلى زوجها، وهؤلاء لا سبيل عندهم إلى ردها. فكان هؤلاء في آصارٍ وأغلال. وهؤلاء في خداع واحتيال".
"ومن تأمل الكتاب والسنة وآثار الصحابة تبين له أن الله أغنى عن هذا، وأن الله بعث محمداً بالحنيفية السمحة التي أمر فيها بالمعروف ونهى عن المنكر، وأحلّ الطيبات وحرّم الخبائث"(1).
وقال أيضاً: ولكن بعض علمائنا لما ظنوا أن من الإيمان ما لا مخرج لصاحبه منه، بل يلزمه ما التزمه. فظنوا أن شرعنا في هذا الموضع كشرع بني إسرائيل: احتاجوا إلى الاحتيال في الأيْمَان: إما في لفظ اليمين، وإما بخلع اليمين، وإما بدور الطلاق، وإما بجعل النكاح فاسداً فلا يقع فيه الطلاق.
وإن غُلِبوا عن هذا كله دخلوا في "التحليل" وذلك لعدم العلم بما بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع من الحنيفية السمحة، وما وضع الله به الآصار والأغلال. كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ 156 الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف157]..
__________
(1) مجموع الفتاوى 32: 133 – 134 .(58/133)
وصار ما شرعه النبي لأمته هو الحق في نفس الأمر. وما أحدث غيرُه غايته: أن يكون بمنزلة شرع من قبله من شرعه، وإن كان الذين قالوه باجتهادهم لهم سعىٌ مشكور وعمل مبرور. وهم مأجورون على ذلك مثابون عليه.
ولهذا أذاعوا ما دلّ عليه الكتاب والسنة على تلك الطريقة التي تتضمن من لزوم ما يبغضه الله ورسوله: من القطيعة والفرقة وتشتيت الشمل، وتخريب الديار، وما يحبه الشيطان والسحرة من التفريق بين الزوجين، وما يظهر فيها من الفساد لكل عاقل.
ثم إما أن يلتزموا هذا الشر العظيم، ويدخلوا في الآصال والأغلال. وإما أن يدخلوا في منكرات أهل الاحتيال. فالطرق ثلاثة:
إما الطريقة الشرعية المحضة الموافقة للكتاب والسنة، وهي طريقة أفاضل السابقين الأولين، وتابعيهم بإحسان.
وإما طريقة "الآصار والأغلال".
وإما طريقة "المكر والاحتيال".
ـ ومن صور التحايل (التجحيش) ويتم بقصد إرجاع المرأة التي طلقها زوجها إليه عن طريق زواج صوري شكلي يرضى أحد الوسطاء لنفسه أن يكون تيساً مستعاراً ويفتي بعض مشايخ السوء بجواز استعارته منهم الباجوري في حاشيته(1). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال "هو المحلِّلُ والمُحَلَّل له"(2) وهو رجوع إلى متعة الشيعة.
وكان الأولى بالحبشي وأتباعه أن يوسعوا على الخلق وأن لا يحرموا على الناس ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مما اضطرهم إلى التجحيش الذي لا علاقة شرعية فيه بين المطلقة من الأول وبين التيس المستعار فإن الحيلة لا تجعل المحرم مباحاً ولا تقبل الحلال حراماً.
__________
(1) حاشية الباجوري على ابن قاسم 1/154 .
(2) ابن ماجة (1936) والبيهقي 7/208 والحاكم 2/199 وصححه ووافقه الذهبي والحديث حسن بشواهده.(58/134)
وإنما هي علاقة زنا ورجوع إلى الزوج الأول غير مشروع وإنما هو زنا لأنها بانت منه، ولم تنكح زوجاً غيره في الحقيقة كما قال تعالى {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وإنما زنت بتيسٍ غيره.
حول تطبيق الشريعة
إن هذا التحليل الذي وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعله بالتيس المستعار صار وصمة عار في جبين الشريعة الإسلامية وموضع تهكم أعداء الدين.
ولهذا نسأل ماذا لو أتيح لنا تطبيق الشريعة الإسلامية التي يطالبون بها وعندنا كمّ هائل من الحِيَل الشرعية والتلفيق بين المذاهب والتقليد الأعمى.
يبدو أننا نحن المطالبون بتطبيق قواعد أحكام الشريعة مُطالَبون بالمرونة وانفتاح العقل وعدم التعصب وشطب الحيل الشرعية من كتب الفقه، وإلا فإن حرماننا من تطبيق الشريعة خير لنا من التطبيق المشوه للشريعة أمام الآخرين، والذي لا يتطابق مع الإرادة الإلهية. بل ربما كان حرماننا منه عقوبة من الله على فساد فكرنا وروغاننا.
إن هذا التحليل الشبيه بالمتعة كان السبب في دخول إيران في التشيع. حيث طلق الملك المغولي خدا بنده زوجته ثلاثاً وهو غاضب، فأفتوه بأن يبحث له عن تيس مستعار، فاستنكف الملك عن ذلك، فدله بعض الشيعة على ابن مطهر الحلي فأفتاه بأن الطلاق الذي أوقعه باطل، فتشيع الملك. ولو أنه اهتدى إلى ابن تيمية لوجد لمسألته عنده حلاً نبوياً سنياً غير شيعي، ولوفر على ملايين البشر أن يدخلوا في المذهب الشيعي بعد أن خرّجت فارس قبل تشيعها آلاف العلماء الجهابذة:
قال الشاعر:
ألا قل في الطلاق لموقعيه
بما في الشرع ليس له وجوب
غلوتم في ديانتكم غلوّاً
يضيق به الشرع الرحيب
أراد الله تيسيراً وأنتم
من التعسير عندكم ضروب
وقد حلّت بأمتكم كروب
لكم فيهن – لا لهم – الذنوب
هل يقع طلاق اليمين؟(58/135)
ويلتحق بموضوع طلاق الثلاث فتوى لشيخ الإسلام بأن الحلف باطلاق يمين فيه كفارة اليمين، وهي أيضاً محل خلاف بين أهل العلم. فإن من أهل العلم من لا يوقع الطلاق بالحلف بالطلاق كطاووس وسفيان ابن عيينة شيخ الشافعي وداود وابن حزم.
وقال الشعراني في ميزانه "قال أبو حنيفة" لو قال لزوجته أنت عليّ حرام؛ فإن نوى الطلاق بذلك كان طلاقاً، وإن نوى التحريم ولم ينوِ الطلاق أو لم يكن له نية: فهو يمين"(1).
وحجتهم أن الحالف بالطلاق إذا كان لا يقص به الطلاق وإنما قصد تعليقه بالحث أو المنع فإنه لا يقع، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وأن مثل هذا يسمى يميناً في اللغة وفي عُرف الفقهاء، ولذا دخل في أيْمان البيعة وفي عموم اليمين وفي عموم حديث "يمينك على ما يصدقك به صاحبك" وفي عموم حديث "إياكم والحلف في البيع".
وإذا كان يميناً: دخل في عموم قوله تعالى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وقوله {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} فتجب فيها الكفّارة.
وكذلك قياس الطلاق المعلق لقصد الحث أو المنع بدليل قصة ليلى بنت العجماء التي حلفت أيْماناً مغلظة لَتطلِّقنَّ أبا رافع من زوجته، فأتى الرجلُ ابن عمر وحفصة وغيرهما وسألهم عن ذلك، وكلهم أفتوها بأن تكفّر عن يمينها وتخلي بين الرجل وبين امرأته.
ـ فكيف يتلقف الحبشي(2) قول من زعم أنه لم يقل أحد قبل ابن تيمية بكفارة اليمين؟ أليس أبو حنيفة إماماً معتبراً عنده أم أنه يظن أن أحداً لن يفضح تمويهه على عامة الناس؟!
طلاق الحائض هل يقع؟
__________
(1) النووي على مسلم (1474) الفقه على المذاهب الأربعة 4/338 .
(2) المقالات السنية 74 – 75 .(58/136)
وأما قوله أن طلاق الحائض لا يقع وكذلك الطلاق في طهر جامعَ فيه فقد طلق ابن عمر زوجته وهي حائض، فسأل عمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال له "مُرْهُ فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعدُ وإن شاء طلّق قبل أن يمس"(1).
ـ وقد بنى من قال بعدم اعتبار هذا الطلاق أنه بدعة وأن كل بدعة مردودة على صاحبها، ولذلك صح في الرواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرها شيئاً. وفي الروايات اضطراب كثير وبسببه حدث الإشكال مع أن الألباني وبعد متابعة طويلة لمجموع تلك الروايات انتهى إلى ترجيح اعتداد النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلقة واحدة لابن عمر(2).
وهذه طريقة أهل السنة في الميل دائماً مع القول الصحيح المبني على الأدلة الصحيحة. لأن الانتصار دائماً ولله الحمد لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فابن تيمية حبيبنا وابن القيم حبيبنا لكن الحق أحب إلينا منهما. فقد تلقينا عنهما العلم بمنهج أهل السنة: ومما علّمانا إياه: أننا ندور مع الكتاب والسنة حيثما دارا، ولا نديرهما حيث دار بنا علم الكلام وقوانين أرسطو.
ـ وقوله أن الحائض يجوز لها الطواف بالبيت ولا كفارة عليها، فإن هذا قول أبي حنيفة لو كانوا يعلمون. كما قال المرشدي الحنفي في فتاويه: وعند أبي حنيفة رحمه الله أن الطواف لا يُشترط فيه طهارة. وقال الشعراني في الميزان "ـ وقال أبو حنيفة: إن الطواف لا يشترط فيه طهارة، فتطوف وتدخل مع الحاج وقد أفتى البازري والشيخ أحمد الطيبي الشافعي بذلك في منظومته.
__________
(1) متفق عليه .
(2) إرواء الغليل 7/124 – 138 .(58/137)
وأما الرواية الأخرى عن ابن عباس فقد قال شمس الحق العظيم أبادي "ففتوى ابن عباس هذه تناقض فتواه الأولى. فلم يبق إلا الاعتماد على روايته"(1). قال الحافظ "وأجيب بأن الاعتبار برواية الراوي لا برأيه لما يطرق رأيه من احتمال النسيان"(2).
هل يغار الحبشي على الدين؟!
(( ما حكم هؤلاء عندكم أيها المقلدون ))
تبدأ منشورات الأحباش ضد ابن تيمية بما يلي "فإنه عملاً بمبدأ النصيحة فإننا نتوجه إلى المسلمين ببيان المفسدين في الدين … وعملاً بقوله تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}" وإذا كان الأمر كذلك فنسأل: لماذا لم يلتزموا هذا المبدأ في حق من حذر العلماء منه ومن كتبه كأبي حامد الغزالي الذي طعن فيه تلميذه أبو بكر ابن العربي وابن المنير وابن الصلاح وغيرهم؟!
لماذا يوجه الحبشي سهام القدح إلى ابن تيمية دون غيره؟ ألغيرة منه على الدين؟ إن كانت الغيرة على الدين هي الدافع فلماذا يسكت عن مخالفات الآخرين لصريح الدين مثلما نراه في إحياء علوم الدين وغيره من كتب أهل الشطح؟ أم أن الخطة تقتضي تشويه الرموز السنية التي تهتدي بهديها الصحوة الإسلامية كابن تيمية وابن القيم؟! إنه التحيز والجور الذي يقول فيه الشاعر:
فرصاصُ مَن أحبَبتَه ذهبٌ كما ذهبُ الذي لم ترضَ عنه رصاصُ
ما حكم هؤلاء عند الغيارى على الشريعة؟!
فقد ذهب الجلال الدواني إلى القول بإيمان فرعون. مستنّاً في ذلك بسنة سلفه ابن عربي(3).
__________
(1) عون المعبود 6/270 .
(2) فتح الباري 9/362 .
(3) وسبب ذلك اعتقادهم أنه لا فاعل على الحقيقة إلا الله حسب الكسب الأشعري، ولأن فرعون صرح عند الصوفية بوحدة الوجود التي يسمونها (وحدة الشهود) و(الفناء عن السوي) فإن قول الصوفي أنا الله انا الكبعة ما في الجبة إلا الله شبيه بقول فرعون أنا ربكم الأعلى وما علمت لكم من إله غيري.(58/138)
وكان الهيتمي يقول بأزلية نور النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكى عنه الحبشي هذا الاعتقاد(1) غير أنه لم يزد على أن قال "وهذا التأويل مخالف للحديث الصحيح". ولم يلزمه بالقول بقدم شيء مع الله.
مع أن الأحباش صرحوا بأنه "من الكفر قول من يقول: إن محمداً خُلق من نور لأن ذلك تكذيب للقرآن لأن الله قال {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}(2). فهل يحكم الأحباش بكفر الهيتمي؟
وكان أبو بكر ابن فورك يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولاً في حياته فقط، وأن روحه قد بطل وتلاشى وليس هو في الجنة عند الله تعالى مما دفع محمود ابن سبكتكين إلى قتله بالسم(3). ذكره أبو الوليد الباجي وابن حزم(4).
ونقل ابن حزم عن الأشعرية أنهم قالوا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس هو اليوم رسول الله ولكنه كان رسول الله" وأوضح أن هذا القول منهم هو كفر صريح وتقليد لقول أبي الهذيل العلاف وقال في كتابه الدرة "وما قال بهذا القول أحد ممن ينتمي إلى الإسلام إلا أبو الهذيل العلاف المعتزلي وهي إحدى شُنَعِهِ المُخرِجة له عن الإسلام ثم اتبعه على ذلك الطائفة المنتمية إلى الأشعري"(5).
__________
(1) الدليل القويم 179 صريح البيان 54 ط: مجلدة 132 .
(2) منار الهدى 34/25 و34/25 .
(3) النجوم الزاهرة 4/240 وفيات الأعيان 1/482 سير أعلام النبلاء 6/83 الفصل في المِلَل والنِحَل لابن حزم 1/88 طبقات السبكي 4/132 محققة. وقد دعا ابن حزم للسلطان بخير لقتله ابن فورك.
(4) سير أعلام النبلاء وأقره 17/216 .
(5) الفصل في المِلَل والنِحَل لابن حزم 1/88 و76 والدرة فيما يجب .(58/139)
وسبب هذه المقولة من ابن فورك الأصل الفاسد عند المذهب الأشعري أن العرض لا يبقى زمانين، وأن النبوة والرسالة صفة للحي وصفات الحي أعراض، وهذه الأعراض تبقى مشروطة بالحياة قائمة بها تزول بزوالها، فكيف يكون رسولاً نبياً بعد موته؟ فالتزموا بعد انتفاء حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - انتفاء رسالته وزوالها، ثم رقعا بدعتهم هذه ببدعة أخرى وهي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره حياة "دنيوية" وبهذا لا زالت رسالته. قال ابن حزم "وإنما وقع فيه – أي هذا القول – من ضل لقول فاسد وهو أن الروح عرض لا يبقى وقتين"(1).
وهاهو الخميني يقول في كتابه(2) بأن للأئمة "مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل". وقد نقل ابن حجر الهيتمي تكفير علماء الأمة لمن يقول "الأئمة أفضل من الأنبياء"(3).
السكوت عن انحرافات القشيري
وهذا هو القشيري (عبد الكريم بن هوازن) صاحب الرسالة القشيرية(4) يروي مقولة خبيثة عن الدقاق وفيها: أن الله يكنس المزابل بأرواح الصوفية"(5) فهل يكنس الله المزابل يا أشاعرة!!
وهو من أهل الغلو فقد أفرط في الثناء على الجويني حتى قال "لو ادعى إمام الحرمين اليوم النبوة لاستغنى بكلامه عن إظهار المعجزة"(6). ولا تنس أخي أن المذهب الأشعري يشترط على النبي المعجزة وحدها كشرط لصحة نبوته. لكن الجويني غني – من بين الأنبياء – عن هذا الشرط!
ويروي القشيري أن حقيقة مقام الرضا بالله: أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذ به من النار(7).
__________
(1) الدرة فيما يجب اعتقاده 204 .
(2) الحكومة الإسلامية 52 .
(3) الأعلام بقواطع الإسلام 75 .
(4) وقد نقد ابن الجوزي رسالة القشيري ووصفها بأنها تخليط ليس بشيء (تلبيس إبليس ص165).
(5) الرسالة القشيرية 128 .
(6) طبقات السبكي 5/174 محققة .
(7) الرسالة القشيرية 90 .(58/140)
ـ وينقل عن الشبلي أنه سئل: ألا تعلم أن الله رحمن؟ قال: بلى ولكن منذ عرفتُ أنه رحمن ما سألتُه أن يرحمني(1) وعن أبي يعقوب السوسي أن حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله وينسى حوائجه إليه(2). وعرّف الصوفي بأنه: الذي لا يكون له إلى الله حاجة"(3).
ونقل عن ممشاد الدينوري قوله "منذ ثلاثين سنة تُعرَض عليّ الجنةُ فما أعرتُها طرفي(4). وعن أبي حفص قوله "منذ عرفت الله تعالى ما دخل قلبي حق ولا باطل(5).
وسئل الجنيد عن المحبة(6) فقال "دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المُحِبّ"(7).
وذكر القشيري أن حقيقة المحبة توجب انتفاء المباينة فإن المحب أبداً مع محبوبه(8) وذكر قصة خبيثة استدل بها الغزالي على تفضيل التواشيح والأغاني الصوفية على تلاوة القرآن(9) وعن الحلاج "من عرف حقيقة التوحيد سقط عنه لِمَ وكيف(10). قلت: ومن مثل هذا النص أخذ الصوفية القول بسقوط التكاليف عن الأولياء.
فهاهو القشيري يحتج بحِكَم الحلاج وهو من أعظم زنادقة هذه الأمة الذي يدعي أنه لم يعرف الله حقيقة إلا اثنان: إبليس وفرعون.
__________
(1) الرسالة القشيرية 100 .
(2) الرسالة القشيرية 145 .
(3) الرسالة القشيرية 125 .
(4) الرسالة القشيرية 139 .
(5) الرسالة القشيرية 141 .
(6) قال ابن الجوزي وكم من مرة أُخِذ الجنيد مع علمه وشهدوا عليه بالكفر والزندقة هو وطائفة كأبي سعيد الخراز وأحمد بن عطاء … وكان الجنيد يتستر بالفقه على مذهب أبي ثور (تلبيس إبليس 170 و 173).
(7) الرسالة القشيرية 145 .
(8) الرسالة القشيرية 148 .
(9) الرسالة القشيرية 156 .
(10) الرسالة القشيرية 6 .(58/141)
والقشيري أحد الصوفية الذين يحتج الحبشي بكلامه ويعظمه، فلماذا لا يحذّر من انحرافاته؟ ألأنه أشعري مثله مبالغ في التعصب للأشاعرة حتى تسبب في فتنة عظيمة كما حكاه الذهبي في السير (19/425) وتسبب تعصبه في فتنة عظيمة أدت إلى إخراجه من بلده إلى بغداد(1).
السكوت عن انحرافات الهيتمي
وهاهو ابن حجر المكي يزعم في شرح الأربعين النووية أن أولية النور المحمدي أولية مطلقة، وأن أولية ما سواه من الماء والعقل والقلم: أولية نسبية، اعترف الحبشي بذلك، واعتذر عنه بتأويلات متعسفة قائلاً "وأما حديث كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث". ولو صح فكان معناه أن روحه - صلى الله عليه وسلم - أول أرواح البشر(2).
ومعلوم أن ابن حجر المكي قد استقى هذه اللوثة العقائدية من الصوفية الذين يسمونها (الحقيقة المحمدية). ولذلك نجد هذه اللوثة عند الصيادي في كتاب قلادة الجواهر، ذاك الكتاب الذي كان مرجعاً مهماً عند الحبشي لدى كتابة رسالته (المقالات السنية)(3).
السكوت عن انحرافات الصيادي
وقد ورد في كتابه (قلادة الجواهر80) كفر خطير فزعم أن إبراهيم الأعزب (خال أحمد الرفاعي) قال "ناداني العزيز سبحانه وقال لي: إني أريد أن أخسف الأرض وأرمي السماء على الأرض. فقلت له: إلهي: من يعارضك في ملكك وإرادتك؟ فقال الله: سيدي إبراهيم. فأخذت إبراهيم الرعدةُ ووقع على الأرض".
وزعم أن الرفاعي قال بأن الولي لا يعمل عملاً إلا عن إذن سماوي وأن كل شيخ لا يكتب الشقي سعيداً فليس برجل (قلادة 190-191).
وصرح الصيادي بأزلية نور النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال في قلادته:
__________
(1) سير الأعلام 18/231 و19/425 البداية والنهاية 12/107 طبقات السبكي 5/153 وطبقات الحنابلة 3/19 .
(2) الدليل القويم 179 – 180 .
(3) ص 83 .(58/142)
"اللهم صلّ على نورك الأسبق الذي أبرزته رحمة شاملة لوجودك: نقطة مركز الباء الدائرة الأولية الذي فتقت به رتق الوجود وخصصته بالمقام المحمود وأقسمت بحياته: فهو سرّك القديم السّاري وماء جوهر الجوهرية الجاري الذي أحييتَ به الموجودات من معدنٍ وحيوان ونبات"(1).
ويقول بأن الذكر: حفظ القلب من الوسواس… وإدراك الوحدة بالكثرة(2).
ويقول "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو العلة الغائية لخلق الخلق ومعرفة الحق" وإن مجرد تسمية الرجل ولده (محمداً) يكفي لدخول الجنة(3)، وأن الله ينادي يوم القيامة: كل من اسمه محمد فليدخل الجنة وزاد شيخه أحمد الرفاعي على ذلك فقال "كان هو مولوده في الجنة"(4).
ويزعم أن شيخه الرفاعي يحيي ويميت(5) ويحمي أتباعه إلى يوم القيامة ويُدخلهم الجنة أمامه(6) ويطّلع على المقدور والمكتوب فيغير الشقي سعيداً(7) ويشتري لأتباعه أراضي وقصوراً في الجنة على غرار صكوك الغفران عند النصارى(8) وأن السماوات والأرض صارتا في رجله كالخلخال(9).
فلماذا تتكتمون أيها المنحرفون عن هذه الشواذ التي هي أقرب إلى النصرانية والبوذية منها إلى الإسلام، كم أضحكت بالأمس صكوك النصارى على كنيستهم. وكم نأسى على ذيوع مثلها بين المسلمين. باسم الكرامة التي أساء هؤلاء فهمها وتفهيمها.
سكوته عن انحرافات السهروردي
__________
(1) قلادة الجواهر 249 .
(2) قلادة الجواهر 232 .
(3) عن كتابه ضوء الشمس 1: 104 .
(4) كتاب حالة أهل الحقيقة مع الله 140 .
(5) قلادة الجواهر 73 و145 وطبقات الأولياء لابن الملقن 99 .
(6) قلادة الجواهر 233 .
(7) قلادة الجواهر 103 و193 وطبقات الأولياء لابن الملقن 98 .
(8) قلادة الجواهر 70 روض الرياحين لليافعي 440 جامع كرامات الأولياء 1/296 والكواكب الدرية 214 لليافعي .
(9) طبقات العراني 1/142 الفجر المنير 19 .(58/143)
وهاهو السهروردي في عوارف المعارف يحتج بكلام الحلاج(1) ويدعو إلى التخلق بأخلاق الله(2) ويزعم أن الصوفي لا يزال يترقى حتى يطلب رؤية ربه فيقول "لا أعبد رباً لم أره"(3) أي ليكون كمن قالوا {أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً}. ولا يكون الصوفي صوفياً حقاً (فقيراً) حتى لا يكون له إلى الله حاجة(4) وأن من علامات الركون إلى الدنيا: الزواج وكتابة الحديث (حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وطلب المعاش(5) وأن خير حال المرء أن يبقى عزباً بلا زوجة وأن الزواج انحطاط وانغماس في الدنيا وخروج من الزهد. وأن من تعود أفخاذ النساء لا يفلح"(6).
ويقول عبد السلام بن مشيش الشاذلي "اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، واستحسنها الزبيدي، واستحسن قول أبي يزيد البسطامي "انسلخت نفسي عن نفسي كما تنسلخ الحية عن جلدها نفظرت فإذا أنا هو" أي فإذا أنا الله(7).
سكوته عن انحرافات الغزالي
كقوله "ليس في الإمكان أفضل مما كان"
واسألوا الحبشي عن موقفه من قول أبي حامد الغزالي "ليس في الإمكان أفضل مما كان" أي ليس في إمكان الله خلق العالم بأفضل مما هو عليه الآن، هذه الكلمة التي كانت أحد أسباب حملة العلماء عليه كالطرطوشي والمازري وأبي بكر ابن العربي، وابن الجوزي وابن الصلاح. حتى قال الطرطوشي فيه "ولقد كاد ينسلخ من الدين… فسقط على أم رأسه"(8). وقال ابن حزم "ومن قال إنه ليس عند الله أصلح مما عمل بنا … فهو كافر"(9).
__________
(1) عوارف المعارف 5/48 .
(2) عوارف المعارف ملحق بالإحياء 5/73 .
(3) عوارف 5/75 .
(4) عوارف المعارف 103 والرسالة القشيرية 125 .
(5) عوارف المعارف 5/104 .
(6) عوارف المعارف 5/104 105 .
(7) النفحة العلية في أوراد الشاذلية 16 إتحاف السادة المتقين 6/537 وانظر 3/145 .
(8) انظر طبقات السبكي 6/423 و253 محققة .
(9) الدرة فيما يجب اعتقاده 311 .(58/144)
وقد كتب الغزالي كتاب "الإملاء عن إشكالات الإحياء" أصرّ فيه على عدم بطلان هذه العبارة التي قالها في كتابه "إحياء علوم الدين" واتهم فيه المعترضين عليها بأنهم محجوبون عن الفهم والعلم(1). واعترف البيجوري بصحة نسبة هذه العبارة إلى الغزالي وأنه شنع عليه جماعة من العلماء بأن فيه نسبة العجز إلى الله(2). واستعرض الزبيدي أقوال المشنعين على الغزالي لهذا القول منهم تلميذه أبو بكر ابن العربي، وقال القرطبي "قال شيخنا أبو حامد قولاً عظيماً انتقده عليه أهل العراق وهو شهادة لله موضع انتقاد. ومنهم أبو عبد الله المازري وأبو الوليد الطرطوشي وابن المنير الذي كتب كتاباً بعنوان الضياء المتلالي في تعقب الإحياء للغزالي قال فيه "المسألة المذكورة لا تتمشى إلا على قواعد الفلاسفة والمعتزلة". وابن الصلاح ويوسف الدمشقي. وبدر الدين الزركشي الذي قال في تذكرته "هذه من الكلمات العقم التي لا ينبغي إطلاق مثلها في حق الصانع". ومنهم إبراهيم البقاعي تلميذ الحافظ ابن حجر الذي صنف ثلاث رسائل في الرد على الغزالي أولها: المقصد العالي. والثانية: تهديم الأركان من ليس في الإمكان أبدع مما كان. والثالثة: دلالة البرهان على أن في الإمكان أبدع مما كان. ثم ذكر أقوال المنتصرين لقوله المتعصبي له(3).
وقد صرح الغزالي بأن أولياء الصوفية لا يريدون الجنة ولا يأبهون لها وإنما يريدون مجالسة الله وإنما الجنة مأوى من لا شغل لهم إلا شهوة البطن والفرج. وهذا القول هو كفر، ونقل ابن حجر الهيتمي قول أهل العلم بتكفير من قال: إن أعطاني الله الجنة لا أريدها"(4).
علامات تحيز السبكي وتعصبه
__________
(1) الإملاء على هامس الإحياء 5/13 .
(2) تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد 40 .
(3) إتحاف السادة المتقين 9/442 – 460 .
(4) الإعلام بقواطع الإسلام 67 .(58/145)
وكتب السبكي كتاب "الإيضاح والبيان عن معنى ليس في الإمكان"(1) دافع فيه بعصبية عن هذه العبارة الطاعنة في قدرة الله عز وجل. وذلك على النحو المعهود عنه في عصبيته. يدافع عما ظاهره كفر، ملتمساً له أعجب المعاذير، بينما يلفق لخصومه شتى الاتهامات الكاذبة.
طعن الغزالي في النبوة
اختبار آخر لدعوة الغيرة على الدين
قال الحبشي "من ادعى أن النبوة مكتسبة أو أنه يبلغ بصفاء القلب إلى مرتبتها أو ادعى أنه يوحى إليه وإن لم يدّع النبوة: فهو كافرٌ بالإجماع(2) وقد نقل هذه العبارة عمن سبقه وهو يعلم موقف الغزالي من النبوة لكنه يسكت عليه.
وقد اقتدى الغزالي بالفلاسفة في تقسيم خصائص النبوة إلى ثلاث: قوة التخييل وقوة العقل وقوة النفس. وهذا نفسه هو كلام الفلاسفة الذين يقولون أن النبوة مكتسبة(3). وبالتحديد ابن سينا. ولهذا اشتد نكير العلماء عليه.
قال الغزالي: إن في الأولياء من يكاد يُشرق نوره حتى يكاد يستغني عن مدد الأنبياء"(4).
قال "ووراء العقل طورٌ آخر تنفتح فيه عين أخرى يُبصرٌ بها الغيبَ وما سيكون في المستقبل. وقد أبى بعض العقلاء مُدركات النبوة واستبعدها وهذا عين الجهل.. وقد أعطى الله خلقه أنموذجاً من خاصية النبوة.. فالنبوة عبارة عن طورْ يحصل فيه عين لها نور، يحصل لها نورٌ يظهر في نورها الغيب"(5).
__________
(1) مخطوط بمكتبة شيستربتي بإيرلندا .
(2) الدليل القيوم 148 الإعلام بقواطع الإسلام 74 .
(3) 135 – 137 ط: دار الإفاق الجديدة بيروت .
(4) مشكاة الأنوار (40) مجموعة القصور العوالي .
(5) المنقذ من الضلال 35-45.(58/146)
بل قد تتمثل للأنبياء والأولياء في اليقظة والصحة صورة جميلة محاكية لجوهر الملائكة وينتهي الوحي والإلهام فيتلقون من أمر الغيب في اليقظة ما يتلقاه غيرهم في النوم"(1). فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة والكتب بل بالزهد في الدنيا"(2) وهذه الرحمة ليست موقوفة على الأنبياء وحدهم وإنما هي ممنوحة لكل من يستعد لتزكية النفس وتطهيرها(3).
ـ ومن هنا أعلنها الغزالي دعوة عامة إلى الجميع لانتظار سماع الوحي الذي حصل لموسى بقوله "واطو الطريق: فإنك بالواد المقدس طُوى، واستمع بسر قلبك لما يوحى، فلعلك تجد على النار هدى، ولعلك من سُرادقات العرش تُنادى بما نودي به موسى {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}(4).
قال "وليس يتم ذلك إلا بالخلوة في بيت مظلم وإن لم يكن له مكان مظلم فليلُفّ رأسه في جيبه أو يتدثر بكساء أو إزار، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق، ويشاهد جلال الحضرة البروبية(5).
ويروي الغزالي (ضمن حكايات المحبين لله وأقوالهم وأحوالهم) عن أبي تراب النخشبي الصوفي قوله لتلميذه "ويلك! أتغتر بالله! والله لو رأيت أبا يزيد البسطامي مرة واحدة كان أنفع لك أن ترى الله سبعين مرة" ويروي عن البسطامي قوله "قولك: سبحان الله: شرك"(6) علق ابن الجوزي على هذا الكلام بقوله "وهذا فوق الجنون بدرجات" (تلبيس إبليس 354).
ويشبّه الغزالي أفعال المخلوقات بالدّمى التي يظن الناظر إليها أنها تتحرك من تلقاء نفسها(7) وإنما تحركها خيوط عنكبوتية ممتدة من السماء حُجب العوامُّ عن رؤيتها ورآها الخواص من أهل الكشف!.
__________
(1) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة 130 .
(2) الإحياء 3/18 .
(3) ميزان العمل 22 .
(4) الإحياء 4/251 .
(5) الإحياء 3/76 .
(6) الإحياء 4/356 و358 .
(7) الإحياء 4/97 .(58/147)
ولهذا تكرر قوله كثيراً بأنه (ليس في الوجود إلا الله وأفعاله)(1). وذكر الزبيدي أن من المصرحين بأنه ليس في الوجود إلا الله إنما هو ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية(2).
ولقد قال الأحباش "انظروا إلى تفسير سيد قطب لسورة الإخلاص بأن الوجود الحقيقي إنما هو لله فقط" ثم قالوا: أليس هذا قولاً بوحدة الوجود التي اتفق علماء المسلمين على كفر قائلها" غير أنها لتحيزهم لا يتحدثون عن هذه الكلمات التي كان الزبيدي يقرها ويشرحها ويقر بعقيدة وحدة الوجود وأنه ليس في الوجود على الحقيقة إلا الله وأفعاله" (10/219)؟!
سكوته عن انحرافات النابلسي
وهاهو عبد الغني النابلسي أحد أبرز المدافعين عن عقيدة وحدة الوجود وهو رجل تجتمع فيه متناقضات عجيبة. وكتب في عقيدة وحدة الوجود مؤلفات عديدة منها:
ـ إيضاح المقصود من وحدة الوجود.
ـ الظل الممدود في معنى وحدة الوجود.
ـ حلّ رموز الدائرة الكبرى.
ـ اللؤلؤ المكنون في الإخبار عما سيكون(3) وفيه يشرح الوسائل التي يتمكن بها كل واحد معرفة الأمور المستقبلية وأمور الغيب ذكر نمها الاطلاع على حركات الأفلاك. ويتحدث عن مزايا كتاب الجفر الشيعي.
ـ كشف السر الغامض في شرح ديوان ابن الفارض وابن الفارض صحب التائية الشعرية المشهورة التي يغازل فيها رب العالمين ويخاطبه بضمير الأنثى.
سكوته عن انحرافات السرهندي
__________
(1) الإحياء 1/330 و4: 86 و5: 30 جواهر القرآن 11 مشكاة الأنوار 18 .
(2) إتحاف السادة المتقين 9/560 .
(3) ألفه عام 1110 رقم 7504 تصوف بالظاهرية بدمشق .(58/148)
وهذا السرهندي النقشبندي يثبت لنفسه مقاماً فوق مقام أبي بكر الصديق ويدعي العروج إلى السموات العلا بل فوق العرش متى أراد(1). بل حكم على نفسه بأنه وصل إلى مقام عظيم فوق مقامات الخلفاء الثلاثة الآخرين وهناك وجد شيخه خواجة بهاء الدين نقشبند. ولما جاءته رسالة فيها اعتراض على كلامه هذا أجاب بأن هذا الكلام صحيح ولا غبار عليه وليس موهماً لتفضيل نفسه على أبي بكر(2).
وأخذ يبرر أقوال ابن عربي "إن الله ليس بعالم للغيب" وقول الحلاج "أنا الحق، سبحاني ما أعظم شأني هل في الدارين غيري" ويبرر قول أبي يزيد البسطامي "لؤائي أرفع من لواء محمد" والتمس له الأعذار واعتبر ذلك ن الأحوال التي يعذر فيها لغلبة سكره(3).
بل زعم أن أباه ذكر أن بعض سالكي طريق النقشبندية يجد نفسه في مقامات العروج في مقامات الأنبياء أنه عرج به إلى ما فوق مقاماتهم(4).
وذكر السرهندي قول الجيلاني "لا مجال لأحد في تبديل القضاء المبرم الآلي، فإني أتصرف فيه أيضاً إن أردت ذلك"(5). وأخذ يلتمس له التأويلات.
والسرهندي يعتبر روح الإنسان صورة شبيهة عن الله. محتجاً بحديث "إن الله خلق آدم على صورته" حتى نقل عنه الكوثري أن الكمال في التوحيد الوجودي ظهور أن العبد والرب رب"(6).
فهذا الكفر الصريح تتسع له الصدور وتلتمس له الأعذار، أما ما هو دون ذلك من الكلام فإن الأعذار تلتمس لتكفير قائله !!!
هل تحكمون بكفر الرفاعي
لقوله إن الصوفي يؤتى كلمة (كن) فيكون؟
__________
(1) المكتوبات 176 وانظر 17 و 200 .
(2) مكتوبات الإمام الرباني 17 وانظر حول الاعتراض 163 .
(3) مكتوبات السرهندي 33 و 101 و106 و 114 .
(4) مكتوبات الإمام الرباني 176 .
(5) مكتوبات الإمام الرباني 189 .
(6) المكتوبات 373 و326 وانظر إرغام المريد للكوثري 71 .(58/149)
ذكر الصيادي أن الشيخ أحمد الرفاعي قال "وإذا صرّف الله تعالى الوليَّ في الكون المطلق: صار أمره بأمر الله تعالى: إذا قال للشيء كن فيكون(1)، وأنه جاء في بعض الكتب الإلهية أن الله تعالى قال: يا بني آدم أطيعوني أطعكم، وراقبوني أراقبكم، وأجعلكم تقولون للشيء: كن فيكون(2). وقال علي بن محمد الدينوري "تركت قولي للشيء كن فيكون: تأدّباً مع الله"(3).
وقد نص القرافي أن هذا القول من الصوفية كفرٌ صريح، فنقل ابن حجر الهيتمي عن القرافي أنه قال "وقد وقع هذا لجماعة من الصوفية يقولون: فلان أعطي كلمة (كن). قال "وهذا كفر". فبماذا تحكمون على الرفاعي والصيادي الذي جعلها من مناقبه وكراماته!
وزعم النبهاني أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لعمر النبتيني "أعط طاقيتي هذه للشيخ عبد الوهاب الشعراني قل له يتصرف في الكون(4).
سكوته عن انحرافات ابن عربي
وهاهو يسكت عن محيي الدين بن عربي الذي يقول بوحدة الوجود وقدم العالم والذي قَلَب معنى العذاب في النار إلى معنى العذوبة والراحة حتى قال(5):
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم
على لذة فيها نعيم مباين
يُسمَّى عذاباً من عذوبة طعمه
وذاك له كالقشر والقشر صاين
فقال له شيخ الإسلام ابن تيمية "أذاقكم الله هذه العُذوبة".
مواقف الآخرين من ابن عربي
ـ قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الحلاج ما نصّه "ولا أرى أحداً يتعصب للحلاج إلا أهل الوحدة المطلقة، ولهذا ترى ابن عربي يعظّمه ويقع في الجنيد"(6).
__________
(1) قلادة الجواهر 73 و 145 المعارف المحمدية 47. وانظر البرهان المؤيد 94 تحقيق الحبشي نفسه وذكرها النبهاني عن ابن عربي 1/32.
(2) قلادة الجواهر 147 طبقات الشعراني 1/142 .
(3) جامع كرامات الأولياء 2/158 .
(4) جامع كرامات الأولياء 2/135 .
(5) فصوص الحِكَم 94 .
(6) لسان الميزان 2/384 ترجمة الحلاج رقم (647/ 2808).(58/150)
فماذا يقول الحبشي في قول الحافظ وقد أمرنا أن نقبل على وجه التسليم كل ما ينص عليه الحافظ، وهو أولى بالجرح والتعديل من الشعراني فهل يقبل جرحه لابن عربي؟!
ـ وقال أبو حيّان النحوي بإلحاده لأنه يقول بوحدة الوجود(1).
ـ وذكر الذهبي بأنه "قدوة العالمين في القول بوحدة الوجود(2).
ـ وقال شمس الدين ابن الجزري الشافعي بكفره. وأنشد يقول(3):
دعا ابن العُرَيبيِّ الأنامَ ليقتدوا
بأعورة الدجال في بعض كتبه
وفرعونَ أسماه لكل محقق
إماماً ألا تَبّاً له ولِحزبِهِ
ـ وحكم تقي الدين السبكي بفكره. حكاه الشيخ ملا علي قاري(4).
ـ وحكم القاضي زين الدين الكتاني بكفره(5).
ـ والشيخ نور الدين البكري بكفره(6).
ـ والشيخ ابن خلدون في مقدمته(7).
ـ وقد صنف الشيخ برهان الدين البقاعي كتاب "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي".
ـ ونص ابن الملقن في طبقاته أن العز بن عبد السلام (أحد معاصريه) كان يحط عليه، وسأله ابن دقيق العيد عنه فقال "هو شيخ سوءٍ كذّاب، يقول بقدم العالم ولا يحرّم فرجاً"(8).
ابن طولون حجة عليكم
__________
(1) تفسير البحر المحيط 3/449 .
(2) العبر في خبر من غبر 3/333 ميزان الاعتدال 3/108 .
(3) العقد الثمين للفاسي 173 –174 وذكر العلامة القاري في الرد على القائلين بوحدة الوجود 138 وانظر صفحة رقم 130.
(4) العقد الثمين 2/187 –188 الرد على القائلين بوحدة الوجود 135 .
(5) العقد الثمين للفاسي 2/174 –175 .
(6) العقد الثمين 2/175 .
(7) مقدمة ابن خلدون 323 و472 العقد الأمين 2/178 .
(8) سير الأعلام 23/48 –49 طبقات ابن الملقن (153) ص469 ميزان الاعتدال للذهبي 3/659 الرد على القائلين بوحدة الوجود 34.(58/151)
ـ وذكر ابن طولون الحنفي أن غالب فقهاء العرب وجميع المحدّثين بلغوا نحواً من خمسمائة إلى تكفيره. ذكر منهم: علامة زمانه تقي الدين ابن تيمية وكمال الدين الأدفوني وأبو زرعة والعيني وحافظ العصر شهاب الدين ابن حجر وابن الصلاح وابن دقيق العيد وبدر الدين بن جماعة وشيخ الإسلام تقي الدين السبكي(1).
ـ وشنّع عليه السعد التفتازاني في كتاب "فاضحة الملحدين"(2). ولعله بعنوان آخر "الرد والتشنيع على كتاب الفصوص" الذي قال عنه الذهبي "فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر"(3).
فهؤلاء يضرب صفحاً عن ذكرهم، ويدافع عنهم ويعلّم أتباعه بأنهم من خُلّص أولياء الله. أما الألباني وابن تيمية فهم من أكفر خلق الله عنده!!
سكوته عن انحرافات النبهاني
وقد ذكر النبهاني جملة من "أصحاب الكرامات" منهم:
ـ (إبراهيم الملقلب بـ (جيعانة): من كراماته أن امرأة أتته وسألته الدعاء وأمرّت يدها على أطماره الرثة ثم أمرّتها على وجهها، وهناك فقيهان روميان فقال أحدهما: يا حرمة تنجست يدك بما مرّت عليه. فنظر الشيخ إليه مغضباً ثم جلس وغاط ثم نهض فتقدم الفقيه المنكر وجعل يلعق غائطه ورفيقه متمسك بأثوابه ويضمه ويقول: ويلك هذا غائط الشيخ! إلى أن لعق الجميع ببعض التراب، فلما نهض جعل يعاتبه فقال: والله ما لعقت إلا عسلاً(4).
ـ (إبراهيم العريان) كان يخطب الجمعة بالناس وهو عريان … فيحصل للناس بسط عظيم(5).
__________
(1) القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية 2/538 – 539 .
(2) مخطوطة محفوظة بمكتبة برلين 2891 حسب بروكلمان 2/ 35 .
(3) سير أعلام النبلاء 23 / 48 .
(4) جامع كرامات الأولياء 1/240 .
(5) جامع كرامات الأولياء 1/ 246 .(58/152)
ـ (عبد الكريم الدمشقي) سألوه: هل تستطيع أن تشرب كل ما في هذه البركة؟ فقال: إملأوها. فأخذه حال عجيب ووضع فمه في البركة فصار يشرب والماء يخرج من إحليله (ذَكَرِهِ) ولم يزل كذلك يدخل الماء من فمه ويخرجه من إحليله إلى أن فَرَغت البركة. قال النبهاني: وهي من أعظم كرماته(1).
ـ (عبد الله الذي كان يطحن الحشيش) من كراماته أنه كان كل من أخذ من حشيشه (رضي الله عنه) وأكل منه يتوب لوقته ولا يعود لها أبداً(2).
ـ (عبد الوهاب الشعراني) من كراماته أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لعمر النبتيني "أعط طاقيتي هذه للشيخ عبد الوهاب الشعراني وقل له يتصرف في الكون(3).
ـ (علي بن محمد الدينوري) قال "تركت قولي للشيء كن فيكون: تأدّباً مع الله"(4).
ـ (علي العمري) من كراماته ما رواه الحاج إبراهيم، قال: دخلت الحمام مع شيخنا الشيخ علي العمري ومعنا خادمه محمد الدبوسي ولم يكن في الحمام غيرنا. قال: فرأيت من الشيخ كرامة من أعجب خوارق العادات وأغربها وهي أنه أظهر الغضب على خادمه وأراد أن يؤدبه فأخذ إحليله (أي ذكره) بيديه الاثنتين من تحت إزاره بحيث طال طولاً عجيباً بحيث أنه رفعه على كتفه وهو زائد عنه وصار يجلد به خادمه، والخادم يتلوى من شدة الألم فعل ذلك مرات ثم تركه وعاد إحليله إلى ما كان عليه. قال الحاج إبراهيم: ففهمت أن الخادم عمل عملاً يستحق التأديب فأدبه الشيخ بهذه الصورة العجيبة.
قال النبهاني: ولما حكى لي ذلك الحاج إبراهيم حكاه بحضور الشيخ الذي كان واقفاً فقال لي الشيخ لا تصدقه، وأخذ يدي بالجبر عني ووضعها على موضع إحليله فلم أحس بشيء مطلقاً حتى كأنه ليس برجل أبداً، فرحمه الله ورضي عنه ما أكثر عجائبه وكراماته"(5).
__________
(1) جامع كرامات الأولياء 2/102 .
(2) جامع كرامات الأولياء 2/125 .
(3) جامع كرامات الأولياء 2/135 .
(4) جامع كرامات الأولياء 2/158 .
(5) جامع كرامات الأولياء 2/208 .(58/153)
ـ ومن كراماته أنه كان في بلد الشيخ علي رجل قليل الحياء معجباً بإحليله فكان يمازح الشيخ إذا رآه ويضع يده على إحليل نفسه ويقول له هل عندك مثل هذا؟ فضربه الشيخ بيده وقال له إذهب فذهب كأنه امرأة لم يتحرك له شيء(1).ا.هـ. (يا لمصيبة هذه الأمة).
ـ (عيسى بن نجم البرلسي) مكث سبع عشرة سنة بوضوء واحد.
ـ (ولي الله الديوث) حكى الشيخ نور الدين الشوني أن شخصاً كان مكارياً يحمل النساء من بنات الخطأ وكان الناس يسبونه ويصفونه بالتعريص وكان من أولياء الله تعالى لا يركب امرأة من بنات الخطأ وتعود إلى الزنا أبداً(2).
كيف صدقت عقولكم التي قدمتموها على النقل: هذه الخرافات والمهزلة التي لا تزيد النصارى إذا قرأوها إلا ثباتاً على النصرانية ونفوراً من الإسلام؟
نماذج من كلام ابن تيمية
وهذه نبذة من كلام ابن تيمية ليعرف المنصف موقفه من أسماء الله وصفاته ومنهجه في الدين بإيجاز: يقول:
تمسكه بهدي السلف
"ما قاله الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والسابقون الأولون وما قاله أئمة الهدى هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب (باب الأسماء وغيره) فإن الله تعالى بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالحق ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وشهد له بأنه بعثه داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخبر الله تعالى بأنه أكمل له ولأمته في دينهم، أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميز ما يجب لله من الأسماء الحسنى، والصفات العُلا، وما يجوز عليه أو يمتنع.
__________
(1) جامع كرامات الأولياء 2/214 .
(2) جامع كرامات الأولياء 2/228 .(58/154)
فإن معرفة هذا أصلُ الدين وأساس الهداية، وأفضل ما اكتسبته القلوب وحصّلته النفوس وأدركتْه العقول، وقال فيما صحَّ عنه "ما بعث الله نبياً إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم"(1).
فكيف يتوهم مَن في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب (الأسماء والصفات) قد وقع من الرسول على غاية التمام؟ ومن المحال أن خير أمته وأفضل القرون قصَّرا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين منه.
ولم يقل أحد منهم إن الله ليس على العرش، ولا إنه في كل مكان ولا إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه ولا إنه لا تجوز الإشارة إليه.
فإنْ كان الحق فيما يقوله هؤلاء النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة، من هذه العبارات ونحوها دونما فهم من الكتاب والسنة إما نصّاً وإما ظاهراً فكيف يجوز على الله ورسوله، ثم على خير الأمة: أنهم يتكلمون دائماً بما هو نصٌّ أو ظاهرٌ في خلاف الحق! ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلّون عليه، حتى جاء المتوغلون في علوم الفلاسفة، فبيّنوا للأمة العقيدة الصحيحة، ودفعوا بمقتضى علومهم ما دلّ عليه الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً؟!
فإن كان الحق في قولهم: فلقد كان ترْكُ الناسِ بلا كتابٍ ولا سنةٍ أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير.
تأدب العقل
فإن حقيقة ما يقوله هؤلاء: أنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله وما يستحقه من الصفات، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم: فما وجدتموه مستحقاً له من الصفات في عقولكم فصِفوه به، سواءٌ كان موجوداً في الكتاب والسنة أو لم يكن.
__________
(1) رواه مسلم (1844) .(58/155)
وكأن الله قال لهم: ما نفاه قياس عقولكم مما اختلفتم فيه فانفوه، وإليه (أي العقل) فارجعوا عند التنازع، فإنه هو الحق الذي تعبَّدتُكُم به، وما كان مذكوراً في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا فاعلموا أني ممتحنكم بتنزيله لا لتأخذوا الهدى منه، ولكن لتجتهدوا في تحريفه على شواذّ اللغة، ووحشيّ الألفاظ وغرائب الكلام.
وما أشبه حال هؤلاء بقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا 60 وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا 61 فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء61].
فإن هؤلاء إذا دُعُوا إلى ما أنزل الله من كتاب وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية:
فيقال لهم: يا سبحان الله، كيف لم يقل الرسول يوماً من الدهر ولا أحد من سلف الأمة هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم فإنه الحق.
ثم الرسول قد أخبر بأن أمته ستفترق ثلاثاً وسبعين فرقة، ثم قال "إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله".
وقال في صفة الفرقة الناجية "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" فهل قال: من تمسك بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم؟!(58/156)
وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب "التأويلات" وذكرها الفخر الرازي في كتابه الذي سماه "تأسيس التقديس" ويوجد كثير منها في كلام كثير غير هؤلاء [كالمعتزلة] مثل أبي علي الجبائي، وعبد الجبار بن أحمد الهمداني وأبي الحسين البصري، التي ذكرها بشر المريسي في كتابه.
التأويل بين الخلف والسلف
ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيعطلون أسماءه الحسنى وصفاته العلا، ويحرّفون الكلم عن مواضعه، فإن من حرّفوا لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل، مثّلوا أولاً وعطلوا آخراً، فهذا تشبيه وتمثيلٌ منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاته، وتعطيلٌ لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة به.
ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين في أمر مريج، فإن من ينكر الرؤية زعم أن العقل يحيلها، وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يحيل أن لله علماً وقدرةً يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة: يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش: يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل.
ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوّز أو أوب ما يدّعي الآخر: أن العقل أحاله.(58/157)
يا ليت شعري! بأي عقل يُوزَن الكتاب والسنة، فرضي الله عن مالك بن أنس حيث قال "أوكلما جاءنا رجلٌ أجْدَلُ من رجلٍ تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - لِجَدَل هؤلاء، وكلٌ من هؤلاء مخصومٌ بمثل ما خُصِمَ به الآخر، فكلّ من ظنّ أن غير الرسول والسلف أعلم بهذا الباب، أو أكمل بياناً أو أحرص على هدى الخلق، فهو من الملحدين لا من المؤمنين"(1).
أصل الدين وقواعده
قال "ودين الإسلام مبني على أصلين، على أن يُعبد الله وحده لا يشرك به شيء، وعلى أن يُعبد الله بما شرعه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وهذا هما حقيقة قولنا "لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" فالإله هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيماً وخوفاً ورجاءً وإجلالاً وإكراماً.
والله عز وجل له حق لا يشركه فيه غيره فلا يُعبَد إلا الله، ولا يُدعى إلا الله، ولا يطاع إلا الله.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المبلغ عن الله تعالى أمره ونهيه وتحليله وتحريمه، وهو واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه.
وأما في إجابة الدعاء، وكشف البلاء . . . فالله تعالى هو الذي يسمع كلامهم ويرى مكانهم ويعلم سرهم ونجواهم، وهو سبحانه قادر على إنزال النعم، وإزالة الضرر والسقم من غير احتياج منه إلى أن يعرّفه أحد أحوال عباده، أو يعينه على قضاء حوائجهم . . . وهو سبحانه لا يشغله سمع كلام هذا سمع كلام هذا ولا يغلطه اختلاف أصواتهم ولغاتهم، بل يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، ولا يبرمه إلحاح الملحدينن بل يحب الإلحاح في الدعاء"(2).
ضوابط التكفير عند ابن تيمية
تبطل دعوة تكفيره للمخالفين في مسألة الطلاق
__________
(1) مجموع الفتاوى 5/15-31 .
(2) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 180 – 181 ط: مكتبة دار البيان – دمشق .(58/158)
وزعم الحبشي أن ابن تيمية يكفّر مخالفيه في مسألة الطلاق(1) فهذا كذب واضح يردّه قول ابن تيمية فقد كان يثني على المخالفين له في مسألة الطلاق ويقول بأن الذي قالوه باجتهادهم لهم سعيٌ مشكور وعملٌ مبرور، وهم مأجورون على ذلك مثابون عليه، وأن من أصاب منهم الكتاب والسنة فله أجران، ومن أخطأ فله أجر . . . وهم مطيعون لله ورسوله فيما أتوا به من الاجتهاد المأمورين به. ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها"(2).
وكلامه هذا يفضح افتراء الحبشي وإلا فليخبرنا: أي قال ابن تيمية بتكفير مخالفيه في مسألة الطلاق؟ وقد دل كلام ابن تيمية على نقيض ذلك:
بل قد قال ابن تيمية "لقد كنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: "إذا أنا مِتُّ فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليمّ، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبنّي عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، ففعلوا به ذلك، فقال الله له: ما حملك على ما فعلتَ؟ قال: خشْيَتُك. فغفر له. قال: فهذا رجلٌ شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذُرِيَ بل اعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كُفرٌ باتفاق المسلمين لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف أن يعاقبه الله فغفر له بذلك"(3).
قال: "والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمغفرة من مثل هذا"(4).
__________
(1) المقالات السنية 57 و 62 و 75 .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 33 / 149 – 150 .
(3) علق الحافظ ابن عبد البر على هذا الحديث بقوله "وأما جهل هذا الرجل في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدره فليس ذلك بمخرجه من الإيمان" (التمهيد 18/24) وفي هذا رد على من اشترط للإيمان حفظ ثلاث عشرة صفة كما يدعي الحبشي.
(4) مجموع الفتاوى 3/330 .(58/159)
وقال "ولا يجوز تكفير المسلم بخطأ أخطأه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة"(1). بل قد ذكر النزاع في كفر الخوارج والروافض وغيرهم من الفرق وقد خالفوا إجماع المسلمين في أمور العقائد فما بالك بالمخالف في الفروع(2).
نقده لأهل التكفير
قال ابن تيمية "وطريقة أهل البدع في التكفير الذين يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة ويكفّرون من خالفهم في بدعتهم.
فالرافضة ابتدعوا تفضيل عليّ على الثلاثة وتقديمه في الإمامة، وكفّروا من خالفهم.
وكذلك الجهمية ابتدعت نفي الصفات وجعلوا يكفّرون من لم يوافقهم على ذلك.
وأئمة السنة والجماعة وأهل الإيمان فيهم:
ـ العلم، والعل، والرحمة.
فيعلمون الحق الذي يكونون موافقين به للكتاب والسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم كما قال تعالى {كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
ويرحمون الخلق، فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، ولا يقصدون الشر لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم، وبيّنوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا.
فالمؤمنون أهل السنة أعمالهم خالصة لله تعالى، موافقة للسنة، وأعمال مخالفيهم لا خالصة ولا صواب، بل بدعة واتباع الهوى، ولهذا يُسَمَّوْن "أهل البدع والأهواء".
فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفّرون مَن خالفهم وإن كان ذلك المخالف يُكَفّرهم. لأن الكفر حكمٌ شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب عليه، كمن كذب عليك وزنى بأهلك: ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام.
وكذلك التّكفير حقٌ لله، فلا يُكَفَّرُ إلا مَن كفّره الله ورسوله.
__________
(1) الفتاوى 3/ 283 .
(2) الفتاوى 23 / 346 و 229 .(58/160)
وأيضاً فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يُكَفَّرُ من خالفها، وإلا؛ فليس كل من جهل شيئاً من الدين يُكَفَّر.
ولهذا كنتُ أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش، لمّا وقعّتْ محنتُهُم:
"أنا لو وافقتُكم كنتُ كافراً، لأني أعلم أن قولكم كُفرٌ. وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جُهَّال. وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم"(1).
فهكذا منهج هذا الرجل الفذ وطريقته الموزونة بميزان الكتاب والسنة لا تجد في كلامه ما تجده عند أهل الانحراف والظلم من العصبية والتجني والانحراف عن السنة، حتى قال فيه الذهبي كلمته المشهورة "كانالسنة نصب عينيه".
وقد انتقصه المتعصبون وشنعوا عليه ورموه بشتى التهم، وهذا من تسلط الشيطان عليهم حيث زيّن لهم سبّه وتكفيره بينما زيّن لهم الدفاع عن ابن الفارض وابن عربي بما أمكن من التأويل والتحيز والتّكتم.
فوضى التكفير المتهور
وإذا كان موقف ابن تيمية من قضية التكفير على الوجه الذي حكيناه عنه فما هي مواقف الناس من ذلك؟
إننا نعلم أن التكفير حق لله سبحانه وتعالى لا يجوز لأحد إخراج أحد من دين الله إلا بِبيِّنة ودليل يعذر بهما يوم القيامة عند الله. فإن المسلم قد يَخرجُ من الدين بإخراجه منه من ليس عند الله كذلك.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" وفي رواية "أيما امرئ قال لأخيه "كافر" فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال: وإلا رجعَتْ عليه"(2). فلا يجوز خروج هذه الكلمة (كَفَرَ) من فم امرئ يتقي الله ويحتاط لدينه إلا بعد حذرٍ شديد. إذ قد تكون سبباً في خروجه هو. وأي خسارة أعظم من ذلك.
__________
(1) الرد على البكري 256 – 260 لابن تيمية .
(2) البخاري (6103 و 6104 و 6105) ومسلم (80) .(58/161)
وليس خلق الله وصايا على دينه حتى يُخرجوا منه من يشاؤون ممن قد لا يستحقه، ثم يسكتون ويتغاضون عمن يشاؤون ممن يستحقه.
والتكفير لا يحكم عليه بلا أو نعم وإنما له ضوابط وشروط وفيه تفصيل بين ما يعذر فيه صاحبه بالجهل وبين ما لا يعذر فيه، وبين ما يكفر فيه صاحبه بالضرورة وبين ما لا يكفر فيه بالضرورة.
غفلة الناس عن معرفة ضوابط التكفير
ولا يبدون أن عند الحبشي وأتباعه مراعاة لضوابط التكفير ولا مسامحة ولين في التعامل مع المخالف، بل يلاحظ فيهم جانب الفظاظة والقسوة والشدة وهذا حاصل ثمرة علم الكلام وأهله كما وصفهم أبو حنيفة بأنهم قساة قلوب: ليس عندهم ورعٌ ولا تقوى. ومن شاء الوقوف على سلوكيات هذا الرجل فليستمع ولو إلى شريط واحد من أشرطته ليرى فيها الطعن واللعن بالعلماء المخالفين له في المذهب.
وقد حكم بانسلاخ أحد مخالفيه من الدين (خالد كنعان) فقال له "ولعلك منذ أربعين سنة انحرف قلبك أم منذ كم؟ فعارٌ عليك أن تدّعي الإسلام بعد هذا الكفر الذي كفرتَه، ثم لما جاءك المسخ القلبي انسلخت منه كما انسلخت عن حكم تكفير سابّ النبي؟ وهذا تسجيلٌ آخر على نفسك بأنك منسلخ عن السلف والخلف"(1).
__________
(1) صريح البيان 23 و 29 .(58/162)
وليس من خلاف بين الفريقين في حكم ساب النبي - صلى الله عليه وسلم - سباً صريحاً، ولم يكن الخلاف حول حكم شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنما حول قصة ذاك الرجل الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - "إعدل يا محمد" بالكفر؟ ومحل الخلاف في كون هذه الكلمة سباً صريحاً أم لا. وإذا كان كذلك فلماذا لم يقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - ردّة، علماً بأن هذا الرجل "ذا الخويصرة" كان له يد في بعض الفتوحات الإسلامية كالعراق والأهواز، وقد قيل إنه انضم بعد ذلك إلى صفوف الخوارج، لكن الخوارج أنفسهم لم يكفروا على الراجح من قول أهل العلم(1). فلا يبدو من ا لصحابة أنهم عاملوه معاملة الكافر المرتد. واستغل الحبشي هذه الحادثة وحكم على خالد كنعان بالكفر والانسلاخ من الدين.
وهو متناقض شديد التناقض فقد سأله خالد كنعان نفسه عن التلفظ بالأقوال الكفرية فقال "الحكم لي على هذه الألفاظ الكفرية وإنما يكون من خلال فهم الشخص لها فإن كان يفهم منها كفراً فلا نكفّره"(2). مع أنه دائم التكفير لمن يخالفه ولو كان في مسائل بسيطة.
الحافظ يشهد بأن أهل الكلام تكفيريون
__________
(1) فتح الباري 12/293 .
(2) شريط سؤالات عبد الله الحبشي بداية الوجه الأول.(58/163)
ولقد أبدى الحافظ ابن حجر استياءه من ذلك فقال" والعجب ممن اشترط ترك التقليد من أهل الكلام ينكرون التقليد وهم أول الداعين إليه . . فآل أمرهم إلى تكفير من قلد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معرفة الله تعالى. وكفى بهذا ضلالاً، ويلزم من ذلك إلى القول بعدم إيمان أكثر المسلمين"(1). ونقل عن البيهقي في كتاب الاعتقاد أن غالب من أسلم من الناس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعرفوا إثبات الصانع وحدوث العالم عن طريق استدلال المتكلمين وذكر أن هذا لا يكون تقليداً وإنما اتباعاً(2). وأثبت الحافظ أن هذا الاشتراط الذي عرفه المتكلمون إنما قلدوا به المعتزلة الذين سبقوهم إلى تكفير من لم يعرف الله عن طريق الاستدلال. قال "وذهب أبو هاشم من المعتزلة إلى أن من لم يعرف الله بالدليل فهو كافر"(3).
__________
(1) فتح الباري 13/354 .
(2) فتح الباري 13/353 .
(3) فتح الباري 13/350 .(58/164)
المنهج القرآني
الفاصل بين أصول الحق وأصول الباطل
مع دراسة منهجية تطبيقية لأهم أصول الشيعة الاثني عشرية
الدكتور
طه حامد الدليمي
... ... ... ...
بسم الله الرحمن الرحيم
روى الشيخان عن عائشة (رضي الله عنها) قالت:
تلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ } قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
(إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم) وفي رواية: (فأولئك الذين عنى الله فاحذروهم).
وروى الحافظ أبو يعلى عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن في أمتي قوماً يقرأون القرآن ينثرونه نثر الدقل يتأولونه على غير تأويله).
والدقل: أردأ التمر . ينثرونه نثر الدقل: أي يستعرضونه فيتخيرون منه ما يلائم أهواءهم من المتشابه يتأولونه على غير تأويله، ويتركون ما لا حظَّ لهم فيه من المحكم (يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ(.
الإهداء
إليكِ ...
يا من غذيتِني على معاني الإيمان
وربيتِني على الوفاء
وعلمتِني أن الرجولةَ موقف
وأن الدينَ غَيرة
أُهدي أعز ما خطته يداي
وعسى أن يكون نفحةً من نفحاتِ رحمتِه الواسعة
على روحِكِ الطاهرة
ولدُك
شكر وتقدير(59/1)
أتوجه بالشكر الجزيل إلى كل من أعانني في موضوع هذا الكتاب بأي وجه من الوجوه ، سائلاً الله تعالى أن يجزيهم خير الجزاء . أخص منهم بالذكر أخوين كريمين هما :
* الأخ الشيخ حسون سلمان السعيدي
* والأخ المهندس علاء حسن القزويني
اللذين طالما جلست معهما ، أو أحدهما ، نتناقش في موضوعات الكتاب فنحذف ونضيف ونتبادل الأفكار
... * كما أشكر الأخ الكريم معد صالح المعاضيدي
على صبره وجهوده التي لا تقدر بثمن في تنضيده وإخراجه إلى عالم الحياة والنور
المقدمة
إن الحمد لله ..
نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد .
-1-
فإن الحق يقين. والباطل ظن { وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } (النجم: 28). فهما – أبداً - ضدان لا يجتمعان.
وأهل الحق راسخون ليقينهم. أما أهل الباطل فتائهون زائغون لعدم استقرار الحق في ظنونهم.
والتمييز الواضح الذي لا شبهة فيه بين الفريقين ضرورة لا غنى عنها؛ لأنه الوسيلة الوحيدة التي بها يكون العبد حراً تمام الحرية في الاختيار عن بصيرة تامة بين طريق الحق وطريق الباطل. كما يتبين بها للجميع – دون أدنى لبس - من هم أصحاب الحق؟ ومن هم أصحاب الباطل؟ وبهذا تقوم حجة الله تعالى على خلقه، ويتحقق المقصد الإلهي في أن { ِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } (الأنفال:42).
فكيف يمكن أن نحقق لنا ذلك التمييز؟(59/2)
قبل كل شيء أقول: إذا كان الحق مطلوبنا، ورضاء الله غايتنا فالجواب في غاية السهولة واليسر. إذ المشكلة – كل المشكلة - في أهل الأهواء، الذين هم أصل الداء وأُس البلاء! وهؤلاء لا شأن لنا معهم، ولا نحن حريصون عليهم. إنما نوجه كلامنا إلى مريدي الحق: ممن إذا وجدوه لم يؤثروا عليه سواه. ولكن خفي عليهم لطروء شبهة، أو افتقاد بينة. فإلى هؤلاء وحدهم نوجه كلامنا فنقول:
إن كتاب الله تعالى هو مصدر الهداية، وأساس المعرفة كما قال تعالى: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } (البقرة:2). هذه حقيقة لا يختلف عليها مسلمان. لكن لهذا الكتاب العظيم مفتاحاً ربانياً لا بد من الإمساك به حتى يتمكن العبد من الاهتداء بيسر إلى مراده، ويميز بوضوح تام بين الحق وبين الباطل. وعندها سيعرف – بلا أدنى شبهة – من هم أصحاب الحق؟ ومن هم أصحاب الباطل؟ ليختار عن بينة أن يكون من هؤلاء أو هؤلاء.
هذا المفتاح الرباني نجده في قوله تعالى:
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُمُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَتأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألبَابِ } (آل عمران:7).
فأهل الحق يتبعون الآيات المحكمات أي النصوص القرآنية الصريحة الخالية من الإشكال والاحتمال، وذلك يقين لا شبهة فيه.
أما أهل الباطل فيتبعون المتشابهات التي تحتمل وجوهاً متعددة متناقضة، وذلك ظن لا يقين فيه.
هذا هو المفتاح. وهذه هي العلامة الفارقة، والحد الواضح الفاصل الذي به يتم التمييز التام - بلا أدنى شبهة أو لبس - بين فريق الحق وفريق الباطل.(59/3)
فمن وجدنا أصوله قائمة على الآيات المحكمات الواضحات حكمنا بصدقه ورسوخه وإيمانه. ومن وجدنا أصوله مبنية على المتشابهات المحتملات حكمنا بكذبه وزيغه وبطلانه.
بهذه الطريقة لن يبقى في ميدان الحق العريض إلا طائفة واحدة، هي الطائفة التي أقامت أصولها على النصوص القرآنية القطعية. وعندها يمكن أن يتوحد الصادقون المخلصون على أساس الأصول اليقينية الثابتة.
وحين نرجع مرة أخرى إلى الآيتين السابقتين نجد أن سورة (البقرة) قد قررت - ومن بدايتها - أن الهداية في هذا الكتاب. أما سورة (آل عمران) فقد بينت كيفية التعامل مع آيات الكتاب من أجل تحقيق هذه الهداية. أو – قل – بينت كيفية الاهتداء بها عملاً وواقعاً حين ذكرت – ومن بدايتها أيضاً – أن من هذه الآيات آيات متشابهات: من اتبعها ضل وأضل. وأن الهداية في اتباع الآيات المحكمات، و(ما تشابه منه) فمرجعه إليها.
فآية (البقرة) قد قررت القاعدة وثبتتها، بينما آية (آل عمران) قد بينت كيفية التعامل أو صيغة الاستفادة عملياً من هذه القاعدة. وبعبارة أخرى بينت آلية الاهتداء بآيات القرآن: نعم القرآن في العموم هو مصدر الهداية. ولكن لهذا العموم تفصيلاً لا بد من مراعاته عند التطبيق أو التوظيف العملي لآياته. فأما أهل الحق فيؤمنون بهذا وهذا. وأما أهل الباطل فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، كما هو ديدن المبطلين في كل زمان ومكان.
وهذا الكتاب الذي بين يديك يدور كله حول ذلك المفتاح الرباني العجيب الذي بينته آية (آل عمران) بياناً شافياً في غاية الوضوح والإيجاز.
-2-(59/4)
ولقد فكرت طويلاً في شأن هذا الاختلاف الواقع بين أهل السنة والجماعة، وبين الشيعة، خصوصاً ونحن نعيش في بلد تمثل الأقلية الشيعية فيه نسبة كبيرة؛ فالاحتكاك بيننا وبينهم حاصل، والنقاش والجدال قائم : نحن نعتقد أنهم على دين باطل، ولنا على ذلك أدلتنا وردودنا. وهم يعتقدون فينا الاعتقاد نفسه، ولهم علينا من الردود ما لهم. وقد يضيع الباحث عن الحقيقة في خضم هذه الردود؛ فلا يدري أي الفريقين على حق؟ وأيهما على باطل؟! فكنت أقول: أيعقل أن الحق مشتبه إلى هذا الحد؟! وأنك إذا أردت الوصول إليه احتجت إلى الخوض في مثل هذه المتاهات التي لا أول لها ولا آخر؟! وإلى علوم عديدة من اللغة والتفسير والحديث وغيرها؟! فكيف يتمكن عوام الناس من إدراك الحق من الباطل؟! وكيف تقوم عليهم حجة الله البالغة؟ وأين هي حجة الله في وسط هذا الركام؟
كانت هذه الأسئلة وما شابهها تشغلني وتلح عليّ كثيراً. ولكنني – مع ذلك - كنت أعتقد أن معرفة الحق من الباطل أقرب من ذلك بكثير. إنها في متناول كل واحد منا نحن المسلمين. ولا بد أن تكون حجة الله قائمة على الجميع ومن نص كلامه سبحانه. ولكن كيف؟ وفي كلامه ما يحتاج إلى توضيح وتفسير، والعلماء يختلفون في تفسيره إلى حد التناقض! لا سيما إذا كانوا من فرق مختلفة. بل إن البعض منهم يقول:
إن القرآن حمال أوجه، ويعمم هذا القول على جميع
آياته! حتى يصرح بأنه لا حجة فيه على الإطلاق ما لم يقرن بغيره!(59/5)
إلى أن هداني الله تعالى بفضله ونعمته إلى هذا المفتاح القرآني العظيم، فعرفت أن من القرآن متشابهاً لا يُعتمد حتى يفسر في ضوء المحكم منه. وأنه ما من آية في الأصول مشتبهة إلا ولها ما يبينها يقيناً من صريح المحكم. فليس القرآن كله حمال أوجه. وأن ما كان منه كذلك لا نتبعه حتى نرجع به إلى ما يزيل احتماله واشتباهه من القرآن نفسه. وأن أهل الباطل لا يمكن أن يكون لأصولهم من نصيب في محكمه. كما أن أهل الحق لا بد أن تكون أصولهم قائمة على محكم القرآن.
وهنا توضح لي الطريق تماماً: فإذا كنت أعتقد أني على حق فلا بد أن تكون الأصول التي أقمت عليها معتقدي وديني مبنية على محكم القرآن. كما أنه إذا كنت أعتقد أن الشيعة على باطل فهذا يستلزم أن أستقرئ أصولهم فلا أجد لهم عليها من المحكم شيئاً. وهكذا كان. وهذا الكتاب شاهد عدل على ما أقول.
هذا فيما يخص الأصول. أما الفروع فلها شأن آخر: إذ الاختلاف في الفروع في غالبه سائغ ومشروع، ما دامت أدلته ظنية خاضعة للاجتهاد. والمخطئ فيه مأجور أجراً واحداً، والمصيب أجرين: الأول على نيته واجتهاده في طلب الحق، والثاني عليه مع إصابته.
ومثل هذه الأمور لا تنقسم الأُمة بموجَبها طوائف، وإنما مذاهب فقهية معتبرة لأن الأصول واحدة، ما لم يقع تعصب وخصومة وافتراق.
فللمسلم أن يكون في الفروع على أي مذهب معتبر بشرط صحة النقل عن الإمام المقلَّد، وعدم مخالفته للكتاب والسنة، وبشرط عدم التعصب للرأي وإنكار الرأي المقابل أو المعاكس. وعلى هذا إجماع العلماء. ولهم في ذلك قاعدة أصولية تقول: لا إنكار في
المسائل الخلافية الفروعية.(59/6)
أما اختلاف الأصول فلا يسوغ شرعاً؛ لأن الرب جل وعلا قد نصب عليها من الأدلة الصريحة القطعية في دلالتها (المحكمة) ما لا يمكن لمن اطلع عليها أن يعذر في مخالفتها، كما قال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (البقرة:213).
وفي هذا الاختلاف نزل قوله تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } (هود:118،119). فهو اختلاف قد نزعت من أهله الرحمة؛ فليس له وجه اعتبار أو قبول. وليس هذا شأن الفروع.
وعليه توجب ضرورة أن تكون أدلة الأصول آيات قرآنية محكمة، أي صريحة في دلالتها صراحة لا تحتاج معها إلى غيرها من الأدلة أو النصوص الشارحة أو المفسرة.(59/7)
والناظر بموضوعية - بعيداً عن المجاملات والمزايدات - في شأن الاختلاف بين أهل السنة والشيعة لا يجد صعوبة في الحكم بأنه اختلاف في أصول الدين، قبل أن يكون اختلافاً في فروعه. فإن هناك بين الفريقين أصولاً عديدة ليست موضع اتفاق، بل هما فيها على طرفي نقيض وافتراق. منها: (الإمامة) و(العصمة) وحفظ القرآن، وعدالة الصحابة، و(التمسك بأهل البيت) ... إلخ. فهل يستطيع الشيعة إثبات ما يدعونه من أصول بالآيات القرآنية المحكمة. فإن فعلوا تبين – بلا ريب – أنهم على حق. وإن عجزوا ونكلوا تبين بياناً تاماً أنهم على باطل. وكذلك الأمر بالنسبة إلينا.
-3-
وفي هذا الكتاب منهاج نظري تأصيلي وتطبيقي لبيان أي من طوائف أهل القبلة هي الطائفة التي على الحق الواضح الصريح، وأي منها على الباطل السافر الذي لا شبهة فيه، بعيداً عن اللف والدوران والجدل العقيم، وصولاً إلى الحقيقة التي لا يمكن بعدها أن يختلف فيها اثنان.
وقد اتخذت من أصول أهل السنة والجماعة وأصول الشيعة - طبقاً لصريح الآيات القرآنية - ميداناً لتطبيق المنهج الذي ذكرته رغبةً في معرفة الحق وكشف الحقيقة بأسهل وسيلة وأقرب طريقة.
والحقيقة التي توصلت إليها - بعد الاستقراء التام - أن جميع الأصول التي انفرد بها الشيعة، ليس لأي واحد منها سند من محكم كتاب الله أو صريح آياته البتة! وكل آية يحتجون بها دليلاً على أي أصل من أصولهم لا يمكن أن تدل بنفسها على المطلوب ما لم يرجعوا بها إلى تفسير من عالم، أو توجيه من رواية. وليس هذا هو شأن المحكمات التي وصفها الله تعالى بأنها الأم التي يُرجع إليها، ولا يرجع بها إلى غيرها.(59/8)
جميع الآيات التي احتج بها الشيعة على أصولهم هي من جنس المتشابهات. هذه هي الحقيقة التي خرجت بها بعد الاستقراء التام! وهي حقيقة مروعة تحكم على أصحابها – إذا ثبتت - ومن أول وهلة بأنهم من أهل الباطل الذي لا مراء فيه! وعلى الشيعة بعدها أن يثبتوا العكس، وإلا فإنهم مبطلون زائغون يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله وحمله على ما يهوون ويشتهون. ولكنني – وبثقة مطلقة - أستطيع أن أسبق الزمن وأقرر فأقول: إنهم لم ولن يتمكنوا قط من العثور على آية محكمة واحدة من القرآن كله تؤيد ما يدعون! وإلا فليكذِّبونا ولو بآية! وبيننا وبينهم الزمان مفتوحاً على مصراعيه. فليأخذوا منه ما يشاءون: سنة.. أو ألف سنة أو أكثر مما يعدون!
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } .
المؤلف
23/1/2004
القسم الأول
النظرية المعرفية الأصولية
بين المنهج القرآني والاجتهاد البشري
الباب الأول
المنهج الاستدلالي الأصولي
وحاجته إلى التجديد
الفصل الأول
منهج الكتاب
يتبع هذا الكتاب منهجاً عظيماً – هو منهج القرآن وهذا هو سر عظمته - في مناقشة الحجج التي توردها أي طائفة للدلالة على أصولها. ميزة هذا المنهج العظيم أنه يجعل صاحبه قادراً على نقض الحجج الباطلة بسهولة منقطعة النظير ومن أقرب طريق، حتى لو كان المتكلم بها عالماً مختصاً، ولم يكن هو من أهل الإختصاص.(59/9)
ولن يحتاج - بعدُ - إلى كثرة الردود والتفريعات والمناقشات التي لا يحسنها إلا المختصون أو المتدربون، والتي ضيعت الحق على عامة الناس لأنهم يتصورون أن معرفته منوطة بالعلماء فقط ، فإذا رأى أحد العوام أنه قد انهزم في نقاش أو حصر في مسلك ضيق وبان له تهافت حججه قال: علماؤنا أعلم ولا بد أن لهم ردوداً لا أعرفها، وينهي نقاشه باقتراح مؤداه عرض الأمر على أحد أولئك العلماء من أجل حسمه ومعرفة القول الفصل فيه، وهو لا يدري أن مرجعية المسلم في أصول دينه وأساسياته قرآنية وليست بشرية.
وهكذا تضيع معالم الحق وتتشوش صورته في ذهنه ما دام هذا الهاجس في نفسه؛ لأنه يتصور أن الحق مع من غلب في النقاش، مع أن هذا ليس شرطاً مضطرداً؛ لأن الغلب قد يكون للأعلم بأساليب الجدل، لا للأعلم بالحق!
وإلى هذا أشار الإمام مالك رحمه الله تعالى حين جاءه رجل يقول له: هلم أجادلك. قال: فإن غلبتك؟ قال: أتبعك. قال: فإن غلبتني؟ قال: تتبعني. قال: فإن جاء رجل ثالث فغلبنا؟ قال: نتبعه! فقال الإمام: هذا أمر يطول، أفكلما جاءنا رجل أجدل من رجل اتبعناه! أنت رجل شاك فاذهب إلى رجل شاك مثلك.
إن كتاب الله تعالى يضع في يد كل طالب للحق - ولو كان من عوام الناس - مفتاحاً يتوصل به إلى معرفة الحق، وسلاحاً يتغلب على خصمه - ولو كان من أكابر العلماء - كل ذلك بسهولة ويسر، ومن دون تطويل!
إن هذا المفتاح وهذا السلاح يتلخص في مناقشة الدليل من حيث كونه صالحاً للإستدلال أم لا، قبل مناقشة دلالته على المراد.
ومعرفة صلاحية الدليل من عدمها سهلة جداً، وفي متناول مدارك الجميع: علماء وعامة. أما اتباع الأسلوب التقليدي الذي يعتمد على مناقشة دلالات الدليل قبل النظر في صلاحيته للاستدلال فأمره يطول، ولا يحسنه إلا القليل، ويحتاج إلى علم كثير. وقد لا يتبين من خلاله الحق من الباطل بياناً تاماً.(59/10)
لست بدعاً في اعتماد هذا المنهج الذي يناقش الدليل قبل الدلالة، إنما أشار إلى ذلك العلماء من قبل وحاموا - ولا زالوا يحومون – حول حماه: يظهر لهم تارة فيصرحون به، ويغيب أخرى فيبتعدون عنه يجرون وراء شُبَه الخصوم لا يخطر لهم على بال!
من ذلك: قولهم: (إن العقيدة لا تثبت إلا بالمتواتر) وهذا فيه مصادرة لكل الأدلة (الروايات) غير المتواترة وذلك قبل مناقشة دلالتها.
وقولهم: (الدليل إذا تطرق اليه الاحتمال بطل به الاستدلال) وهذا إسقاط لكل دليل ظني أي فيه أكثر من احتمال دونما حاجة الى البحث في دلالته.
الفَرْق أني ركزت على هذا المنهج وأبرزته، وهذبته وأغنيته، وأصلته وطبقته، ثم سهلته ويسرته بحيث أخرجته من احتكار العلماء وأبحته للعامة رحمة بهم من تضليل علماء السوء. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أهم وأولى: أظهرت جلياً أمراً في غاية الأهمية ألا وهو ضرورة قصر الدليل الأصولي القطعي الدلالة على نصوص القرآن فقط .
والنتيجة النهائية التي نصل إليها أن المفتاح المذكور يتلخص في العبارة الآتية:(59/11)
(إن أصول الدين(1)
__________
(1) لا أقصد بـ(الأصول) المعنى الاصطلاحي المتعارف عليه من أنها أصول الاعتقاد الثلاثة (التوحيد والنبوة والمعاد) أو الخمسة – عند البعض - فقط . وإنما أقصد به – إضافة الى هذا - جميع المسائل الأساسية التي يقوم عليها الدين، والتي ينبني على وجودها مصالح عظيمة لا غنى عنها، وينتج عن الاختلاف فيها مفاسد عظيمة لا بد منها كالصلاة والزكاة والجهاد وتحريم أمهات الحرام كالقتل والزنا السرقة والربا، بغض النظر عن كون المسألة أصولية في حقيقتها، أم أنها جُعلت كذلك، أي أعطاها أصحابها هذه المنزلة. = ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
= وإلى هذا أشار الإمام الشاطبي بقوله: (إن المراد بالأصول القواعد الكلية كانت في أصول الدين، أو في قواعد الفقه أو غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية، وعند ذلك لا نسلم أن التشابه وقع فيها البتة وإنما وقع في فروعها) [الموافقات 3/66]. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقوله: (إن الأصل – على كل تقدير - لا بد أن يكون مقطوعاً به لأنه إذا كان مظنوناً تطرق إليه احتمال الخلاف، ومثل هذا لا يجعل أصلاً في الدين، عملاً بالاستقراء) [الموافقات 1/11].
وهذا أقرب الى طريقة القرآن ومقاصده منه الى مناهج المتكلمين: فالله تعالى حين ذكر أصول الهداية في بداية كتابه جمع بين الإيمان بالغيب وإنزال الكتب، وبين إقامة الصلاة وأداء الزكاة وداخل بينها دون فصل فقال: { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (البقرة:1-5).
فكل هذه الأمور - اعتقادية كانت أم عملية – من أساسيات الهداية التي ينبني عليها مصالح عظيمة لا غنى عنها، وينتج عن الاختلاف فيها مفاسد عظيمة لا بد منها. ولذلك أعبر عنها أحياناً بلفظ (أساسيات) أو (ضروريات) بدلاً من لفظ (أصول).(59/12)
وأساسياته وضرورياته لا بد أن يكون دليلها نصاً قرآنياً صريحاً لا يحتمل غير معنى صريح لا تحتاج معرفته الى تفسير بآراء العلماء أو رواياتهم).
وهذا يغني غير الاختصاصيين عن البحث المطول في دلالات الأدلة، ويخرجهم من دهاليز الجدل المظلمة التي تاه فيها الكثيرون، وضل فيها الجاهلون؛ لأن الباطل قد يبدو في صورة الحق إذا زخرفته عقول ذكية، وأكثرت من إيراد الحجج المزخرفة عليه، لا سيما إذا أسندته بروايات صنعتها على عينها، فهي صريحة في الدلالة و(مفصلة) حسب القياس تفصيلاً! فمن أين - بعدُ - لعامة الناس أن يتبينوا صورة الحق في وسط هذه المتاهات الشديدة الظلام؟!!
مثال:
في الشريعة الإسلامية: لا يجوز أن ينكح غير المسلم امرأة مسلمة كأن يكون يهودياً أو مجوسياً مهما كان خلوقاً وتوفرت فيه الشروط الأخرى كالقدرة على الإنفاق وغيرها. إن النقاش في أخلاق الخاطب وإمكانيته المادية لا يصح دون توفر شرط الإسلام فإذا كان مجوسياً مثلاً بطلت صلاحيته للخطبة من أول الطريق دونما حاجة إلى النقاش في موضوع أخلاقه وإمكانيته..الخ. وإلا وقعنا في خطأ فادح وجوهري هو الغفلة عن الشرط الأساس ألا وهو الإسلام، فإذا توفر أصبح موضوع الخاطب صالحاً للنظر والنقاش.
هذا هو التسلسل العلمي الصحيح في النقاش. وعامة الناس من السهل جداً عليهم
معرفة عدم صلاحيته بمجرد العلم بكونه مجوسياً غير مسلم، وهذا لا يحتاج إلى اجتهاد عالم أو رجوع إلى علماء. ولو افترضنا أن عالماً ناقش في أمر عدالته متجاوزاً شرط إسلامه المفقود فإن كل مسلم يعرف بطلان كلامه وأنه لا معنى للنقاش في هذا الموضوع ولا جدوى من ورائه ويستطيع الرد على ذلك العالم وإسكاته ولو لم يكن هو عالماً.(59/13)
وهكذا ينبغي أن يكون الأمر بالنسبة لأدلة أصول الدين. إن شرط صلاحيتها أن تكون نصوصاً قرآنية صريحة واضحة لا تحتاج إلى آراء أو روايات، فيسقط كل أصل ليس عليه من دليل بهذه الشروط، ثم بعد ذلك يمكن أن ينظر في دلالة ذلك الدليل وبطلانها.
إن هذا التسلسل العلمي لا يتبع في أكثر بحوث العلماء مما أوقعنا – ويوقعنا - في خطأ جوهري يكلفنا الكثير من الجهد ويفقدنا الكثيرين من ذوي النوايا الحسنة لشعورهم بالضياع وسط خضم النقاشات المطولة عن دلالات الأدلة دون النظر أصلاً إلى صلاحية الدليل للاستدلال.
علينا إذن أن نشيع هذا الشرط حتى نجعله في متناول عامة الناس يعلمونه كعلمهم بشرط إسلام الخاطب أولاً قبل كل شيء.
إن الدليل الفاقد لشرط الصراحة والإحكام أخطر على المسلمين من الخاطب الفاقد لشرط الإسلام، وعلى المسلمين أن يرفضوا هذه الأدلة كما يرفضون المجوسي إذا تقدم للزواج.
وأرى أن إيصال عامة الناس إلى هذا المستوى من الإدراك من أعظم ما ينبغي على العلماء القيام به.
إن الالتهاء بمناقشة دلالة الدليل قبل - أو دون - النظر إلى صلاحيته للاستدلال خطأ جوهري في منهاج البحث والاستدلال ينبغي تداركه بأسرع وقت.
الفصل الثاني
جمود المنهج الاستدلالي القديم وقصوره والحاجة الى منهج جديد
إن الانشغال بمناقشة دلالة الدليل دون الابتداء بالنظر أولاً - وقبل كل شيء - في مدى صلاحيته للاستدلال هو أكبر خطأ أصاب منهجنا الاستدلالي الأصولي على مدار التأريخ.(59/14)
وهناك أخطاء جوهرية أخرى - لا تقل عن الخطأ السابق - في قواعد المنهج الاستدلالي الذي يسود أوساطنا العلمية سببها عدم ملاحظة الفرق في طبيعة القضايا المطروحة للنقاش- الأمر الذي أدى الى الجمود والتحجر في طريقة تناولها! إذ لا زلنا نناقش قضايانا على القواعد الأصولية القديمة نفسها رغم اختلاف القضايا المستجدة في طبيعتها عن القضايا القديمة، ورغم مرور أكثر من عشرة قرون دون أن يطرأ أي تجديد على تلك القواعد يجعلها تتناسب وطبيعةَ التغيير الذي طرأ عليها والاختلاف فيما بينها.
إن أغلب القضايا الفكرية التي اصطرع عليها أهل القبلة في القرون الأولى هي قضايا فروعية(1)
__________
(1) خذ مثلاً مسألة رؤية الله تعالى فقد انقسم المسلمون فيها قسمين:
1. فمنهم – كالمعتزلة - قال بعدم إمكانية الرؤية مطلقاً لا في الدنيا ولا في الآخرة.
واحتجوا بحجج عقلية ونقلية، كقوله تعالى: { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (الأنعام:103) قالوا: الإدراك هو الرؤية.
2. ومنهم من قال برؤيته وهم عموم (السلف)، وأولهم الصحابة- رضي الله عنهم -. وهؤلاء انقسموا فريقين:
أ- فريق قال بجواز رؤيته في الدنيا والآخرة كابن عباس- رضي الله عنه -.
ب- وفريق قال بجوازها في الآخرة فقط كأم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها).
وسبب الاختلاف من الأساس: أن النصوص الواردة في (الرؤية) يوجد في ظاهرها تعارض يحتاج إلى تدبر ونظر دقيق للوصول إلى المقصد النهائي منها.
فالذين أثبتوا (الرؤية) استدلوا بنصوص عديدة من القرآن والسنة كقوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (القيامة:22،23) والنظر إلى الشيء رؤيته قطعاً. لكن أشكل على =
= سواهم قوله تعالى: { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ اْلأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ } (الأنعام:103).
وقد احتجت السيدة عائشة (رضي الله عنها) بهذه الآية على نفي رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء كما جاء في صحيح الإمام مسلم عن مسروق قال: كنت متكئاً عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: وما هن؟ قالت: من زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنت متكئاً فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني. ألم يقل الله عز وجل: { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ } (التكوير:23) { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } (النجم:13)؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض). فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبيرُ } (الأنعام:103) ؟
وفي رواية أخرى في صحيح مسلم أيضاً: عن مسروق قال: سألت عائشة: هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه؟ فقالت: سبحان الله لقد قفَّ شعري لما قلت … وساق الحديث بقصته.
أما ابن عباس - رضي الله عنه - فالظاهر من كلامه أنه - صلى الله عليه وسلم - رآه بقلبه كما جاء في صحيح مسلم أيضاً.
فمن فسر (الإدراك) بـ(الرؤية) أشكل عنده الأمر لتعارض النصين: (الإدراك والنظر). فكلاهما يعني (الرؤية) لكن أحدهما مثبت والآخر منفي! فلا بد من الجنوح إلى التأويل درءاً للتعارض، وحلاً للإشكال.
وهنا تختلف أنظار الخلق تبعاً لاختلاف عقولهم وعلومهم: فمنهم من يجعل قوله تعالى: { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَار } ، وقوله لموسى - عليه السلام -: { لَنْ تَرَانِي } (الأعراف: 143) أصلاً يؤول إليه ما عداه مما يعارضه – ولو تأويلاً متعسفاً - ليتوافق معه ويرد لأجله جميع الأحاديث المعارضة. ولما كانت هذه الأحاديث صحيحة لا غبار عليها، لجأ إلى موضوع (الآحاد والمتواتر) فادعى أنها أحاديث آحاد أي ظنية، والظن لا يعتمد – كما يدعي - هنا.
ومنهم من عكس الأمر. فجعل من قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أصلاً معتمداً ترد إليه النصوص المعارضة فأثبت (الرؤية).
وهؤلاء منهم من قال: إن النصوص النافية مخصصة بالدنيا دون الآخرة، ومنهم من فرق بين (الرؤية) و (الإدراك) فقال: لا تلازم بين عدم الإدراك وعدم الرؤية وفسر الإدراك بالإحاطة. فالمدينة تراها ولا تدركها أي لا تحيط بها بصراً، وإن رأيت بعضها فالله سبحانه { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } أي لا تحيط به وإن رأته، ودعم هذا الصنف رأيه بالأحاديث الصحيحة وقال بتواترها، أو لم يشترط لها التواتر لأن أحاديث الآحاد عنده حجة بذاتها. وأما قول الله تعالى لموسى- عليه السلام - : { لَنْ تَرَانِي } فهذا في الدنيا على الحالة التي عليها موسى - عليه السلام - . أما في الآخرة فسينشئه الله نشأة أخرى يمكنه بها =
= من رؤيته سبحانه.
والكلمة الفصل في هذه المسألة – والله أعلم - أن الأصل والأساس العظيم في توحيد الأسماء والصفات هو: إثبات صفات الكمال لله تعالى كما جاءت في الكتاب والسنة، وتنزيهه عن صفات النقص كما قال سبحانه: { وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } (الروم: 27) وقال: { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } (الأعراف: 180) وقال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الشورى:1). وقال: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } (الصافات:180).
و(الرؤية) فرع عن هذا الأصل، والنصوص القرآنية التي وردت بإثباتها طرأ عليها إشكال وقام بوجهها معارض سبب هذا الاختلاف، ودليل فرعيتها أن نصوصها المثبتة –رغم وضوحها- لم تسلم من معارض لها يوجب تأويلها عند البعض فعادت هذه النصوص ظنية ولو بدرجة ضعيفة فلم تكتسب القطعية التي هي أساس الأصول. والفروع يصح بناؤها على الأحاديث النبوية الصحيحة (آحادها ومتواترها). وقد صرحت كثير من الأحاديث برؤية الله تعالى في الآخرة فهو يرى في الجنة ورؤيته فيها هو أعظم ما فيها من نعيم. ولكون المسألة فروعية، ولورود الإشكال في نصوصها بصورة من الصور؛ فلا يصح تكفير منكر (الرؤية) متأولاً كما يكفر منكر الصلاة أو الزكاة. كذلك لا يصح الإنكار على مثبتها. ولذلك كان عطاء ومجاهد -وهما من كبار علماء التابعين وسلف الأمة، ومن تلاميذ ابن عباس- لا يؤمنان برؤية الله مطلقاً لا في الدنيا ولا في الآخرة! ومع ذلك لم ينسبهما أحد من العلماء إلى بدعة أو كفر. بينما إنكار أصل من الأصول يستوجب الكفر، بل إنكار الفروع الثابتة بدليل قطعي يستوجب ذلك. ...(59/15)
قابلة للأخذ والرد لظنية أدلتها (ثبوتاً أو دلالةً) نسبياً (لهذا الفريق دون ذاك). أو مطلقاً للجميع.
ومن الطبيعي أن تخرج للناس قواعد من المفترض أن تناسب المرحلة وطبيعة الصراع مثل القاعدة التي تقول بثبوت العقيدة بأحاديث الآحاد، وفي مقابلها القاعدة التي تشترط التواتر لثبوت العقيدة.
إن كلا الفريقين غابت عن أذهانهم -في حومة الصراع- مسألة في غاية الأهمية ألا وهي: أن التفريق يجب أن يكون بين المسائل الأصولية والفروعية وليس بين المسائل الاعتقادية والعملية.
لقد انصب اهتمام الأقدمين على التفريق بين ما هو اعتقادي من المسائل، وما هو عبادي أو عملي منها. مع أنه فرق - لو دققوا النظر- غير دقيق ولا مؤثر.
إن ديننا لم يفرق كثيراً بين الأمرين.
صحيح أن العقيدة هي الأساس، ولكن العبادة وعموم الأعمال الكبيرة لها منزلة مقاربة، وإنكار أي من الأمرين كفر.
القرآن لم يفرق تفريقاً جوهرياً بين الاعتقاد والعمل
خذ مثلاً الصلاة فقد جعل الإسلام لها منزلة تكاد توازي التوحيد.
إن إنكار الصلاة كفر كما أن إنكار التوحيد كفر مع أن أحدهما عقيدة والآخر عبادة. يقول تعالى في منكرهما: { فلا صدَّق ولا صلَّى * ولكن كذَّب وتولَّى * ثم ذهب الى أهله يتمطى * أولى لك فأولى } (القيامة: 3-35). ولهذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))(1).
والقرآن واضح في عدم تفريقه كثيراً بين الأمرين بل قد يقدم في الذكر الصلاة أو العمل عموماً على العقيدة!
__________
(1) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب.(59/16)
يقول تعالى: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ*وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ*وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ*وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ*حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } (المدثر:42-48).
ويقول: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ... ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } (البلد: 12-17).
ويقول: { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } (الحاقة:32-34).
فمرة يقدم العمل على العقيدة، ومرة يقدم العقيدة على العمل.
ومثل هذا في القرآن كثير مما يدل على أن هذا التفريق غير مؤثر ولا أصيل، فالقرآن لا يفرق تفريقاً مؤثراً بين أصول الاعتقاد وأصول العمل بل يأتي الأمر بهما على قدم المساواة في جميع القرآن بغض النظر عن الاختلاف في المرتبة، الذي لم يلتفت اليه القرآن بحيث يجعل له وزناً مؤثراً يجعلنا نتسامح في قطعية دليل أحدهما، ونتشدد في قطعية دليل الآخر على اعتبار أن الأول عمل والثاني عقيدة.
تأمل قوله تعالى: { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (البقرة:1-5).
وهكذا ساوى القرآن بين أصول الدين وأساسياته دون النظر الى كونها اعتقادية أم عملية.(59/17)
وإلى ذلك أشار الإمام الشاطبي بوضوح حين قال: (قوله تعالى: { منه آيات محكمات هن أم الكتاب } فجعل المحكم - وهو الواضح المعنى الذي لا إشكال فيه ولا اشتباه - هو الأم والأصل المرجوع إليه، ثم قال: { وأخر متشابهات } يريد: وليست بأم ولا معظم فهي إذن قلائل، ثم أخبر أن اتباع المتشابه منها شأن أهل الزيغ والضلال عن الحق والميل عن الجادة، وأما الراسخون في العلم فليسوا كذلك وما ذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه. وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الاعتقادية أو العملية إذ لم يخص الكتاب ذلك ولا السنة… فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية)(1).
التفريق يجب أن يكون بين الأصول والفروع
إن الشرع يفرق بين ما هو أصل وأساس للهداية ينبغي أن يبنى على قواطع الأدلة، ولا يتسامح في الاختلاف فيه وبين ما هو فرعي وتابع لا يشترط له ذلك بل تكفي فيه الأدلة الظنية، والاختلاف فيه سائغ ومشروع، هذا هو مناط التفريق المؤثر والأصيل.
واشتراط الدليل القطعي في الأصول، وعدمه في الفروع أمر مفروغ منه.
إن من نافلة القول أن نذكر بأن القضايا التي دارت حولها مباحث الأصوليين هي من صلب الدين إذن لا ينبغي أن يكون التأصيل نظرياً بحتاً أو عقلياً مجرداً أو بعيداً عن المصدر الأساس للتأصيل.
إن التأصيل الشرعي الصحيح ينبغي أن يكون مقيداً بما جاء في التنزيل.
أما أن يبتعد التأصيل عن المصدر ويكون مقيداً بأجواء الصراع وعبارة عن ردود أفعال متقابلة أفرزها ذلك الصراع، وليس أفعالاً أصيلة نابعة من المصدر الأساس (الوحي)- فهذا هو السبب الحقيقي الذي أوقع الأقدمين في تلك الأخطاء الجوهرية وهو أحد الأسباب الكبرى للتخبط الفكري المزمن لأن قواعد الانطلاق غير صحيحة أو .. غير دقيقة.
__________
(1) الموافقات 4/115، 116.(59/18)
إن السبب الأساس الذي أوقعهم في ذلك الخطأ الفادح أنهم جعلوا مناط تأصيلهم كون المسألة عقدية أم عبادية، ولو جعلوا مناطه كون المسألة أصولية أم فروعية لكانوا قد أصابوا عين الحقيقة.
حقيقة الخلل المنهجي القديم
إن الفريق الذي قال بحجية أحاديث الآحاد في العقيدة أخطأ في التأصيل ، وإن أصاب – عرضاً - في التطبيق .
أما خطأه: فلأن القاعدة التي استند اليها تحتاج -لكي تصح أو تعتدل- إلى تقييد فكان ينبغي أن يقول: إن أحاديث الآحاد حجة في فروع العقيدة كما هي حجة في فروع الشريعة فلا حاجة لاشتراط التواتر.
فالخطأ في الاطلاق ولو قيدوا - فقالوا: إن فروع العقيدة تثبت بأحاديث الآحاد - لأصابوا تماماً.
وأما صواب هذا الفريق في التطبيق: فلأن القضايا التي طبق عليها هذه القاعدة - في غالبها - فروعية، والفروع يسوغ في إثباتها الظن ولا يشترط لها القطع.
أما الفريق الذي قال باشتراط التواتر في العقيدة فقد أخطأ في التطبيق وإن قارب الإصابة في التأصيل. ولقد وقع هذا الفريق في عدة أخطاء:
الأول : أنه طبق هذه القاعدة على فروع، والفروع لا تحتاج الى القطع فلا حاجة الى التواتر.
والثاني : أنه ساوى بين الدليل القرآني والدليل الروائي في تطبيقه لهذه القاعدة على أصول العقيدة فلم يهتد الى أن الأصول لا بد لها من النص القرآني لأنه لا وجود في شرعنا لأصلٍ لم يذكر ابتداءً في القرآن فيصير القول بإثبات أصول العقيدة بمتواتر الحديث لا حاجة فيه، ولا معنى له لاستغنائنا عنه بالقرآن.
إضافة الى أنهم - كالفريق الأول - فرقوا بين العقيدة والعمل. دون أن ينتبهوا إلى
أن الفرق ينبغي أن يكون بين أصول العقيدة وفروعها. وليس بين ما هو عقيدي وعملي.
وخلاصة القول: ان الفريقين فرقوا بين متشابهين وخلطوا بين مختلفين أي فرقوا بين ما لا يحتاج الى تفريق وخلطوا بين ما احتاج الى ذلك.(59/19)
ولو اهتدى الفريقان الى اشتراط ثبوت أصول الدين (اعتقادية أم عبادية) بالنص القرآني القطعي الدلالة وجواز إثبات الفروع بالدليل الظني (قرآنياً كان أم حديثياً) لانحل الإشكال والتقيا في نقطة واحدة وخرجت جميع القضايا الفروعية الظنية من دائرة الصراع التي اتسعت وطال أمدها.
مخاطر إثبات العقيدة أو الأصول بمتواتر الروايات
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى: فإن إثبات العقيدة بمتواتر الروايات يكتنفه أمران سلبيان يتبين من خلالهما أن هذه القاعدة ليست فارغة فحسب وإنما خطرة وضارة جداً ألحقت بالعقيدة -بل الدين عموماً- أضراراً عظيمة:
الأمر الأول: أننا لا نحتاج الى الروايات (آحادها ومتواترها) في إثبات أصول العقيدة لاستغنائها عنها بصريح القرآن فما من أصل من أصول الاعتقاد وأساسياته إلا وهو مذكور صراحة في القرآن فيصبح القول بإثبات الأصول بمتواتر الروايات فضولاً لا حاجة فيه.
والأمر الثاني: أن هذا الفضول -الذي لا نحتاجه- فتح على العقيدة (والشريعة كذلك) أبواباً من الشرور لا تحصى!!! لأن هذه القاعدة غير منضبطة إذ المتواتر الروائي أمر نسبي يختلف فيه المحدثون الى حد أن فريقاً يحكم بالضعف على أحاديث يحكم لها فريق آخر بالتواتر! خذ مثلاً أحاديث المهدي(1).
__________
(1) من العلماء من أنكر وجود أحاديث متواترة أصلاً، واعتبرها مسألة نظرية بحتة. يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور [تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة ص50-51]: (ليس بين أيدينا الآن من المتواتر غير القرآن وماهو معلوم من الدين بالضرورة. وأما الأحاديث المتواترة فقد قال علماؤنا: ليس في السنة متواتر لتعذر وجود العدد الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب في جميع اصول الرواة بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أكثر الأحاديث رواةً لا يعدو أن يكون من المستفيض كما تقرر في أصول الفقه. من أجل ذلك لا تجد علماء أصول الدين مشتغلين بهذه المسألة).(59/20)
ولا يسلم الحكم بالتواتر أو نفيه من الهوى بل إن أصحاب الأهواء أسسوا فرقهم على روايات ادعوا لها التواتر. حتى روايات تحريف القرآن حكم كثير من علماء الإمامية لها بالتواتر!! كالطبرسي صاحب كتاب (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب) وغيره فضلاً عن حكمهم بتواتر روايات (الإمامة) … الخ.
وما من عقيدة شاذة إلا ووضعت لها روايات كثيرة حكم لها أصحابها بالتواتر!
إن القول بثبوت العقيدة – دون التفريق بين أصولها وفروعها - بمتواتر الروايات - فضلاً عن آحادها - باب كان - ولا زال- من أكبر أبواب الفتنة التي فتحت على الأمة في دينها وعقيدتها مع أننا مستغنون تماماً عن هذا الباب بما أكرمنا الله تعالى به من محكمات الكتاب.
والخطأ المنهجي الذي وقعنا فيه: أننا استمررنا على القواعد نفسها رغم إضرارها وعدم حاجتنا اليها!! مع عدم ملاحظة قصورها من ناحية واختلاف القضايا المطروحة للنقاش في طبيعتها من ناحية أخرى.
لقد صارت أغلب قضايا الصراع الفكري وعامة محاورها أصولية ولم تعد فروعية.. الإمامة مثلاً.
وهذا يستلزم قواعد جديدة مناسبة غير القواعد القديمة فكيف إذا لاحظنا أن هذه القواعد قاصرة في ذاتها وغير صالحة للتطبيق من أساسها.
إن المنهج الاستدلالي الحالي غير صالح للاعتماد.
إنه منهج جامد مستورد من زمان غير زماننا لا يمتلك المرونة التي تجعله يتكيف ليستوعب ما استجد من القضايا فضلاً عن أنه لم يكن متكاملاً من الأساس.
إنه منهج مستمد من أجواء الصراع -وهي وقتية- دون الاستناد الحقيقي على مصدر الهداية والاستمداد الحقيقي (أي القرآن) وإلا.. لدام بدوامه.
أصالة المنهج الجديد وديمومته
أما المنهج الذي نعتمده فصالح لكل زمان.. ولكل إشكال.
إنه يحل الإشكالات الماضية والمستجدة لأنه منهج أصيل في استمداده ويمتاز بالتكيف والمرونة في تطبيقه.(59/21)
إن اتباع هذا المنهج هو السبيل الوحيد لإشاعة الوحدة الدينية بين الطوائف الإسلامية أو -على الأقل- التفريق بوضوح تام بين الجماعة التي تمثل الإسلام و .. الطوائف التي خرجت على الجماعة الأم وشذَّت عن الصراط المستقيم.
الفصل الثالث
القرآن يؤسس منهج النظر في الدليل قبل الدلالة
قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } . في هذه الآية يقسم الله جل وعلا آيات كتابه قسمين:
قسم منها محكم لا اشتباه أو احتمال فيه هو الأم والمرجع.
2. وقسم متشابه ذم الله اتباعه واعتماده كما قال إتماما على بداية الآية: { َفأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } (آل عمران:7).
وهذا معناه: إن الدليل إذا كان نصاً متشابها لم يصلح أن يكون دليلاً وأن الدليل الصالح للاعتماد هو النص المحكم الواضح في دلالته.
وهذا هو المفتاح الذي أريد الاعلان عنه و(الدعاية) له.
وقال عن أصحاب الكهف: { هَؤُلاَءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } (الكهف:15). والسلطان البيّن: هو الدليل الواضح الذي لا شبهة فيه، القوي الذي يتسلط على العقول فيقنعها فلا تستطيع رده أو التفلت منه، فما لم يكن كذلك - أي كان متشابها محتملاً - فليس بدليل إنما هو افتراء على الله! لأن الدين وتشريع العقائد من شأن الله وحده، والله تعالى لم ينزل في الشرك سلطاناً بيناً أو حجة قاطعة فهو باطل وإن زخرفته العقول واستحسنته الآراء أو استحبته النفوس بالأهواء.
وهذه الآية تعبر عن قِدَم هذا المنهج وعمقه في تاريخ الدين، وأن أهل الحق منذ القديم يعرفونه ويحتجون به!(59/22)
وقال سبحانه: { أَفَرَأَيْتُمْ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرَى * أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } (النجم: 19-22). فليس هناك من سلطان نازل من عند الله أي نص قاطع او حجة بينة محكمة إنما هي ظنون اتبعوها وأسماء هم اخترعوها بلا دليل معتبر، لذلك عقب الله تعالى عليها بقوله: { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَْنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى } (النجم:22) ثم قال: { إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُْنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } (النجم/28،27). والظن الذي ذم المشركين على اتباعه هنا هو المتشابه نفسه الذي ذمهم على اتباعه هناك.
وقال: { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } (الطور/38). والسلطان المبين هو الخبر الذي يسمع من الملأ الأعلى عن الله جل وعلا.
وقال عن اليهود الذين { قَالُوا لَنْ تَمَسنا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً } : { قُلْ أتخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا } فطالبهم بالدليل عن الله ، ثم عقب قائلاً: { أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } (البقرة/80).
وقال مبطلاً حجة النصارى في ألوهية عيسى - عليه السلام - : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } (المائدة/116).(59/23)
فإذا كان لهم على ما يدعون نص محكم قاله نبيهم فهم معذورون، أما أن عيسى إله أو ابن إله لأنه ولد من غير أب، فهذا اتباع للمتشابه وليس قولا أو نصاً صريحا نازلاً من عند الله، وقال وهو يرد عليهم اعتقادهم في صلب المسيح - عليه السلام - : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } (النساء: 157).
ورد على المشركين قولهم: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } قائلاً: { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } (الأنعام/148).
وقال: { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } ثم رد هذه الدعوة بقوله: { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } (الروم/35،33).
أي إن أساسيات الاعتقاد لا بد لها من دليل منزل من عند الله يتكلم بها صراحة
ويدل عليها بوضوح دون لبس أو اشتباه: (فهو يتكلم) لا يحتاج إلى من يُقوِّله أو يفسره.
وذكر الله تعالى أن أكثر الناس يتبعون في أصول دينهم أدلة ظنية. كما في قوله: { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَْرْضِ يُضلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } (الأنعام/116).
فأدلتهم ظنية متشابهة.. غير صالحة للاستدلال.
الباب الثاني
أصول الدين
بين محكمات الكتاب ومتشابهاته
الفصل الأول
بيان معنى المحكم والمتشابه
المبحث الأول(59/24)
المحكم والمتشابه في اللغة وعموم آيات القرآن
روى الشيخان عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ } قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم)) وفي رواية: ((فأولئك الذين عنى الله فاحذروهم)).
وروى الحافظ أبو يعلى عن حذيفة- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن في أمتي قوماً يقرؤون القرآن ينثرونه نثر الدقل يتأولونه على غير تأويله)) والدقل: أردأ التمر. ينثرونه نثر الدقل: أي يتخيرون منه ما يلائم أهواءهم من المتشابه يتأولونه على غير تأويله ويتركون ما لا حظَّ لهم فيه من المحكم. كما قال تعالى: { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } .
قال ابن منظور في (لسان العرب): الحكَم والحكيم وهما بمعنى الحاكم وهو القاضي فهو فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يُحكم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى مُفعِل… وفي الحديث في صفة القرآن: (وهو الذكر الحكيم): وهو الحاكم لكم أو عليكم، أو هو الذي لا اختلاف فيه ولا اضطراب فعيل بمعنى مُفعَل. أُحكِم فهو مُحكَم. وفي حديث ابن عباس: (قرأت المفصل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، يريد المفصل من القرآن لأنه لم ينسخ منه شيء.(59/25)
وقيل: هو ما لم يكن متشابهاً لأنه أحكم بيانه بنفسه، ولم يفتقر إلى غيره. والعرب تقول: حكَمت وأحكمت وحكَّمت بمعنى منعت ورددت… قال الأصمعي: أصل الحكومة: رد الرجل عن الظلم. قال: ومنه حَكَمَة اللجام لأنها ترد الدابة.
شبه: الشِّبه والشبَه والشبيه: المِثل. والجمع أشباه… واشتبه عليَّ وتشابه الشيئان واشتبها: أشبه كل منهما صاحبه. وفي التنزيل: {مشتبهاً وغير متشابه}… والمشتبهات من الأمور: المشكلات والمتشابهات: المتماثلات… وفي حديث حذيفة: وذكر فتنة فقال: (تشَبِّه مقبلة وتبين مدبرة): قال شمر: معناه أن الفتنة إذا أقبلت شبَّهت على القوم وأرتهم أنهم على الحق حتى يدخلوا فيها، ويركبوا منها ما لا يحل فإذا أدبرت وانقضت بان أمرها، فعلم من دخل فيها أنه كان على الخطأ.
والشبه الالتباس. وأمور مشتبهة ومشَبِّهة: مشكلة يشبه بعضها بعضا… وشبَّه عليه: خلَّط عليه الأمر حتى اشتبه بغيره…وفي الحديث في صفة القرآن: (آمنوا بمتشابهه واعملوا بمحكمه). المتشابه ما لم يُتلقَّ معناه من لفظه. وهو على ضربين: أحدهما إذا رد إلى المحكم عرف معناه والآخر ما لاسبيل إلى معرفة حقيقته، فالمتبع له مبتغ للفتنة لأنه لا يكاد ينتهي إلى شيء تسكن نفسه إليه.
وقال الراغب الأصفهاني في (مفردات ألفاظ القرآن): المحكم ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى. والمتشابه: ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره إما من حيث اللفظ أو من حيث المعنى، فقال الفقهاء: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده. ا.هـ.
يتبين من هذا أن (المحكم): يدور معناه حول المنع والإتقان، فالكلام أو اللفظ المحكم هو: المتقن الممتنع بحيث لا يقبل اختلافاً في تحديد معناه ولا يتطرق إليه شبهة أو اضطراب ولا يشكل، أو يلتبس معناه بغيره ولا يكون منسوخا. ومن هنا أطلق لفظ (المحكم) على ما كان واضحاً بنفسه غير مفتقر في بيان معناه إلى غيره.(59/26)
وذلك بخلاف المتشابه الذي يدور معناه حول الإشكال والالتباس والاختلاط الناتج عن التماثل أو التشابه بين جملة أمور مختلفة لا يتبين المراد منها من ظاهر اللفظ نفسه دون إرجاعه إلى غيره.
المحكم.. عام ومطلق ومقيد
ثم إن المحكم في القرآن عموماً، قد ورد على ثلاثة أنواع: عام ومطلق ومقيد.
أما العام فقد جاء في قوله تعالى: { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ
خَبِيرٍ } (هود:1) فآيات الكتاب - حسب هذه الآية - جميعها محكمة، بمعنى أن آيات الكتاب إذا رد بعضها إلى بعض واعتبر بعضها ببعض كانت محكمة بينة المعنى جميعا فكتاب الله كله محكم بهذا المعنى.
هذا من حيث العموم والإجمال، وأما من حيث التخصيص والتفصيل، فإن هذا المحكم العام منه ما هو محكم بإطلاق فهو لايحتاج إلى غيره من الآيات يوضحه ويبين المقصود به، ومنه ما هو محتاج إلى غيره من المحكم المطلق يرد إليه ويعتبر به ليُحكمه وهو المحكم بقيد.
أما المحكم بإطلاق فقد جاء في قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } (آل عمران:7). فالمحكم هنا جعل في مقابل المتشابه الذي هو الظني والمحتمل أو ما لا سبيل إلى إدراك معناه، وكلا القولين في المتشابه مردهما إلى أصل واحد وهو ما لا سبيل إلى إدراك معناه بنفسه دون رده إلى الله فإذا رددنا النوعين إليه تعالى تبين مراده بهما، والمقصود أن مقابل هذا هو المحكم، فالمحكم إذن هو ما كان معلوم المعنى قطعاً بلا ظن أو إمكانية احتمال وإلا دخل في المعنى المقابل فكان متشابها وذلك نقيض مراد الآية.(59/27)
وكذلك فإن الآية جعلت المحكم أصلاً ومرجعاً (أُماً) يرد إليه ما تشابه من الآيات فلو كان المحكم يحتاج إلى غيره يوضح معناه ويحدد المراد به لما صلح أن يكون أصلاً ومرجعاً بل يكون ذلك الغير هو الأصل وليس المحكم وهو نقيض مراد الآية أيضاً.
وأما المحكم بقيد فقد جاء في قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (الحج:52). فهذا الإحكام للآية هو بعد إمكانية تطرق الاشتباه إليها عن طريق ألفاظها العامة أو المجملة وما شابه مما يمكن أن يكون منفذاً لشياطين الإنس والجن كي يلقوا بشبهاتهم من خلالها، ونسخ الله للآية إنما هو نسخ إمكانية ورود المعنى الفاسد الذي يريد أن ينفذ به الشيطان إلى الآية، فالآية قبل النسخ معرضة لذلك، أما بعده فقد صارت محكمة لا ثغرة فيها للنفاذ بعد أن كانت مشتبهة.
وهذه الآيات - أي الآيات المشتبهة - إنما صارت محكمة بغيرها فهي من نوع
المحكم المقيد، وبهذا يكون كتاب الله كله محكماً: إما بإطلاق وإما بقيد ويكون الاشتباه في آياته نسبياً إضافياً لا حقيقياً فإنه إذا جمعت آياته إلى بعضها واعتبر بعضها ببعض
لم يبق فيها اشتباه. إلا بالنسبة إلى من اشتبه عليه الأمر بسبب تقصيره أو قصوره.(59/28)
فليس في الكتاب ما هو مشتبه بإطلاق، اللهم إلا إذا اعتبرنا الحروف المقطعة في أوائل بعض السور وهذه عندي لا تدخل في باب المحكم ولا المتشابه لأنها -والله أعلم- من حروف المباني وليست من حروف المعاني حتى نفتش لها عن معنى ثم نختلف فيه، فمن المعلوم أن الحرف المفرد كالباء (ب) والعين (ع) والسين (س) والشين (ش) لا معنى له بذاته ما لم يقترن بغيره ليكون كلمة مفهومة، أما أنها تدل على معنى بالتنبيه والإشارة فهذا أمر خارج عن ذاتها.
وهذا كله (المحكم بمعناه العام ومعناه المقيد) لا علاقة له بـ(المحكم) المذكور في آية (آل عمران) ولذلك تواطأ العلماء على تفسيره بالمعنى الخاص المطلق وهو القطعي الدلالة. كقوله تعالى: { مُحَمدٌ رَسُولُ اللَّهِ } (الفتح: من الآية29) في الدلالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وما نقل عنهم من تفسير المحكم بغير هذا المعنى فإنما عنَوا به المحكم بمعناه العام أو المقيد وهو ما ورد في عموم القرآن غير هذه الآية فيكون ما نقل لا علاقة له بآية (آل عمران)(1).
المبحث الثاني
المحكم والمتشابه في آية (آل عمران)
يقول أبو جعفر محمد بن جريرالطبري في تفسير الآية:
__________
(1) أي ان المحكم المقيد في عموم القرآن هو المتشابه في آية (آل عمران). ومحكم آية (آل عمران) هو المحكم المطلق في القرآن.(59/29)
أما المحكمات: فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعبر، وما أشبه. ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن هن أم الكتاب يعني بذلك أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم. وإنما سماهن أم الكتاب لأنهن معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه وكذلك تفعل العرب تسمي الجامع معظم الشيء أماً له فتسمى راية القوم التي تجمعهم في العساكر أماً لهم، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة أمها.
وأما قوله (متشابهات): فإن معناه: متشابهات في التلاوة مختلفات في المعنى. كما قال جل ثناؤه: { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً } يعني في المنظر، مختلفاً في المطعم. وكما قال مخبراً عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال: { إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } يعنون بذلك: تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه.
وقال ابن كثير في تفسير الآية:(59/30)
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد. ومنه آيات أخر فيها اشتباه(1)على كثير من الناس أو بعضهم.
فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكّم محكمه على متشابهه فقد اهتدى. ومن عكس انعكس. ولهذا قال تعالى: { هن أم الكتاب } أي أصله الذي يرجع اليه عند الاشتباه { وأخر متشابهات } أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وتحتمل شيئاً أخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد.
وقال القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) عند تفسير الآية:
المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه من قوله: { إن البقر تشابه علينا } أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعاً كثيرة من البقر.
والمراد بالمحكم في مقابلة هذا. وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل الا وجهاً واحداً. وقيل: إن المتشابه ما يحتمل وجوهاً ثم إذا رُدت الوجوه إلى وجه واحد وأُبطل الباقي صار متشابهه محكماً، فالمحكم أبداً أصل ترد اليه الفروع والمتشابه هو الفرع… قال محمد بن جرير بن الزبير: إن المحكمات هي التي فيها حجة الرب، وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس فيها تصريف ولا تحريف عما وضعت له.
__________
(1) جاء هذا المعنى باللفظ نفسه – على اختلاف في التصريف - في آيات عديدة من القرآن كقوله تعالى: { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } (البقرة:70). وقوله: { أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } (الرعد:16). وقوله عن المسيح - عليه السلام - : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } (النساء:157).(59/31)
والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد قاله مجاهد وابن إسحاق، قال ابن عطية: هذا أحسن الأقوال في الآية.
ونقل عن النحاس قوله: أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات: إن المحكمات ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره نحو { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ، { وإني لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ } . والمتشابهات نحو: { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } يرجع فيه إلى قوله جل وعلا: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ } ، وإلى قوله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } . قلت (أي القرطبي) : إن المحكم اسم مفعول من: أحكم. والإحكام: الاتقان. ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها. ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والاشكال.
وقال الزمخشري في (الكشاف):
(محكمات): أحكمت عبارتها بأن حفظن من الاحتمال والاشتباه.
(متشابهات): مشتبهات محتملات.
(هن أم الكتاب): أي أصل الكتاب تُحمل المتشابهات عليها وترد اليها.
ولم يزد النسفي في تفسيره على أن كرر عبارة الزمخشري نفسها ثم قال:
(فيتبعون ما تشابه) فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب اليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق.
وقال الإمام الشاطبي في (الموافقات في أصول الأحكام):
(3/56): المحكم يطلق باطلاقين عام وخاص.
فأما الخاص: فالذي يراد به خلاف المنسوخ وهي عبارة علماء الناسخ والمنسوخ.
وأما العام: فالذي يُعنى به البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره. فالمتشابه بالإطلاق الأول هو المنسوخ وبالإطلاق الثاني الذي لا يتبين المراد به من لفظه، كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أم لا.(59/32)
وعلى هذا الثاني مدار كلام المفسرين في بيان معنى قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ } ويدخل تحت المتشابه والمحكم بالمعنى الثاني ما نبه عليه الحديث من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات)) فالبيّن هو المحكم.
وقال (3/65): التشابه لا يقع في القواعد الكلية وإنما يقع في الفروع الجزئية والدليل على ذلك من وجهين:
أحدهما الاستقراء أن الأمر كذلك.
والثاني أن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة متشابهاً وهذا باطل.
وقال (3/66): إن المراد بالأصول القواعد الكلية كانت في أصول الدين أو في أصول الفقه أو غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية وعند ذلك لا نسلم أن التشابه وقع فيها البتة، وإنما وقع في فروعها.
وقال (1/11): إن الأصل - على كل تقدير - لا بد أن يكون مقطوعاً به لأنه إن كان مظنوناً تطرق اليه احتمال الخلاف ومثل هذا لا يجعل أصلاً في الدين عملاً بالاستقراء.
وقال الآلوسي في (روح المعاني):
(محكمات) صفة آيات أي واضحة المعنى ظاهرة الدلالة محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه (هن أم الكتاب) أي أصله والعمدة فيه، والعرب تسمي كل جامع يكون مرجعاً أُماً.
(متشابهات) وهي في الحقيقة صفة لمحذوف أي محتملات لمعانٍ متشابهات لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الارادة ولا يتضح الأمر إلا بالنظر الدقيق.
وقال عبد الرحمن بن ناصر السعدي في (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام
المنان):(59/33)
(منه آيات محكمات) أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال (هن أم الكتاب) أي أصله الذي يرجع إليه كل متشابه وهي معظمه وأكثره. (و) منه آيات (أخر متشابهات) أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي.
وقال سيد قطب في (في ظلال القرآن) عند الحديث عن الآية:
بعدئذ يكشف الذين في قلوبهم زيغ، الذين يتركون الحقائق الواضحة في آيات الله المحكمة ويتبعون النصوص التي تحتمل التأويل ليصوغوا حولها الشبهات.
وقال الدكتور عبد الكريم زيدان في (الوجيز في أصول الفقه):
المحكم في اللغة المتقن، وفي الاصطلاح الشرعي هو اللفظ الذي ظهرت دلالته
بنفسه على معناه ظهوراً قوياً على نحو أكثر مما عليه المفسر ولا يقبل التأويل ولا النسخ فهو لا يحتمل التأويل لأن وضوح دلالته بلغت حداً ينتفي معها احتمال التأويل وهو لا يقبل النسخ لأنه يدل على حكم أصلي لا يقبل بطبيعته التبديل والتغيير أو يقبله بطبيعته ولكن اقترن به ما ينفي احتمال نسخه.
وقال عن (حكم المحكم): وجوب العمل بما دل عليه قطعياً ولا يحتمل إرادة غير معناه ولا يحتمل نسخاً ولا إبطالا(1).
وقال الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (كيف نتعامل مع القرآن العظيم):
قسمت الآية الكريمة آيات الكتاب الى قسمين: محكمات هن أم الكتاب وأساسه ومعظمه وأخر متشابهات.
والمراد بالمحكم هنا: البيّن بنفسه، الدال على معناه بوضوح فلا يعرض له شبهة من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى. كما قال الراغب في (مفرداته).
__________
(1) ص 349.(59/34)
والمراد بالمتشابه هنا: ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره إما من حيث اللفظ وإما من حيث المعنى فلذا قيل: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده أو ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره(1).
وقال عبد الحميد محمود طهماز في تفسيره (التوراة والإنجيل والقرآن في سورة آل عمران):
{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ } : واضحة المعنى ظاهرة الدلالة محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه. (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ): أي هن الأصل والعمدة في القرآن، فغيرها يرد إليها في فهم آياته ويرجع إليها عند الاشتباه.
(وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ): أي وفي القرآن آيات أخرى تحتمل دلالتها موافقة الآيات المحكمة وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد… (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ): أي ميل عن الحق ومجانبة له. (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ): أي يتمسكون بالمتشابه من آيات القرآن وحده ويتعلقون به. ولا يردونه إلى ما ما يطابقه من الآيات المحكمة كي يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها ويعرضون عن المحكم لأنه دافع لباطلهم وزيفهم وحجة عليهم… فلا يستطيع أحد أن يقطع بالمعنى المراد للآيات المتشابهة بمعزل عن الآيات المحكمة ما دامت الآيات المتشابهة تحتمل عدة معان. ولهذا قال تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ): أي لا يعلم حقيقة المعنى المراد من المتشابه استقلالاً وابتداءاً إلا الله تعالى…فالراسخون في العلم يردون المتشابه إلى المحكم ولا يحاولون تأويل المتشابه بمعزل عن المحكم وإذا لم يجدوا في المحكم ما يبين المعنى المراد من المتشابه توقفوا عن الخوض في معناه وقالوا: الله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
وقال سعيد حوى في (الأساس في التفسير):
__________
(1) ص 267.(59/35)
{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ } أي هو الذي أنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - القرآن، من هذا القرآن آيات أحكمت عباراتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه فهن واضحات الدلالة على المراد لا التباس فيهن (هن أم الكتاب) أي أصله أي هذه الآيات هن أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد اليها ويرجع اليها عند الاشتباه.
(وأخر متشابهات) أي متشابهات محتملات تحتمل دلالاتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد (فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق - وهم أهل البدع والأهواء - (فيتبعون ما تشابه منه) أي فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب اليه المبتدع مما لا يطابق المحكم فهم يأخذونه لأنهم يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم… فما من فرقة ضالة من فرق الأمة الإسلامية الا وتمسكت بنصوص فهمتها فهماً خاطئاً وأولتها تأويلاً فاسداً، ومن ثم فإننا نستطيع أن نقول: إن ما تمسكت به هذه الفرق كله من هذا الباب باب الآيات المتشابهات.
وقال: نستطيع الآن من خلال الآيات التي بدأت بالكلام عن المتشابه أن نحدد صفات الفرقة الناجية والفرق الضالة.
أما الفرقة الناجية فهي تتبع المحكم وتعمل به وتؤمن بالمتشابه وتسلم لله فيه، مع حملها له على المحكم وفهمها له بما لا يتعارض مع المحكم مع وجود مواصفات الربانية فيها… أما الفرق الضالة فأول مواصفاتها هو إهمال المحكم واتباع المتشابه.(59/36)
قلت: وللمتشابه معنى ثان آخر يرجع إلى المعنى الأول فهو أحد أفراده هو: ما لا يعلم حقيقة معناه إلا الله لأن ما لا يعلم تأويله إلا الله يحتمل معنى أو معان لا يمكن البت بأحدها. نقل القرطبي عن جابر بن عبد الله قوله: المتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه من سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه. قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
وقال الشيخ حسنين محمد مخلوف في مقدمة تفسيره (صفوة البيان لمعاني القرآن):
جعل الخطابي المتشابه على ضربين: أحدهما ما إذا رد الى المحكم واعتبر به عرف معناه والآخر ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، فمن المتشابه ما يمكن الاطلاع على معناه ومنه ما لا يعلمه إلا الله.
قلت: وهذا القسم الثاني على ضربين:
أحدهما: ما يستاثر الله بعلمه إلى حين ثم يعلمه من شاء من خلقه مثل وقت خروج الدجال ونزول عيسى - عليه السلام - . ومثل مفردات الإعجاز العلمي في القرآن كقوله تعالى: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ } (الرحمن:19،20) فإن العلماء الماضين احتاروا في تفسير معنى البرزخ على أقوال ولم يصلوا إلى معرفة حقيقته فهو متشابه حتى جاءت الكشوفات العلمية في منتصف القرن العشرين فأظهرت وجود حاجز مادي غير منظور بين كل بحرين يجعل كل بحر يحتفظ بخصائصه دون أن يبغي أحدهما على الآخر. فـ(البرزخ) قبل ذلك كان متشابهاً يحتمل عدة معان، أما الآن فقد تساقطت تلك المعاني إلا معنى واحداً وهو الذي ذكرناه بدليل الكشوفات العلمية عند من علمها.
فمثل هذا المتشابه لا يجوز اتباعه والجزم بحقيقة معناه قبل أن يكشفه الله فضلاً عن اعتماده في تأصيل أساسيات الدين لأنه (لا يعلم تأويله إلا الله).(59/37)
والآخر: ما يستأثر الله بعلمه إلى يوم القيامة لأنه لا سبيل إلى علم حقيقته قبل مشاهدته مثل وقت قيام الساعة فإذا وقعت علم وقتها ومثل حقيقة معنى الصراط والميزان والحوض وأرض المحشر فنحن نعلم معناها اللغوي ولكن نجهل صفتها وكيفيتها حتى نشاهدها ونشهدها. على أن هنالك ما استأثر الله تعالى بعلمه مطلقاً مثل حقيقة أسمائه وصفاته فذلك ما لا سبيل إلى معرفته بحال، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((لا
أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)).
وقال أبو جعفر الطوسي في كتابه (التبيان في تفسير القرآن) عند تفسير الآية:
المحكم: ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن اليه ولا دلالة تدل على المراد به لوضوحه نحو قوله: { إن الله لا يظلم الناس شيئاً } لأنه لا يحتاج في معرفة المراد به الى دليل. { هن أم الكتاب } معناه: أصل الكتاب الذي يستدل به على المتشابه وغيره من أمور الدين.
والمتشابه: ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه.
ويقول محمد حسين الطباطبائي في كتاب (القرآن في الإسلام)(1):
المحكم ما كان ثابتاً في دلالته بحيث لا يشتبه مراده بمراد آخر، والمتشابه ما كان غير ذلك.
وقال أيضاً: المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود. فيجب الإيمان بمثل هذه الآيات، والعمل بها. والمتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها.
وقال: ليس في القرآن آية لا نتمكن من معرفة معناها. والآية إما محكمة بلا واسطة كالمحكمات بنفسها. أو محكمة مع الواسطة كالمتشابهات.
ويقول محمد جواد مغنية في (التفسير الكاشف):
تنقسم آيات القرآن بالنسبة إلى الوضوح والخفاء إلى نوعين: محكم . ومتشابه.
__________
(1) تعريب أحمد الحسيني ص 34، 35، 37 – دار الزهراء / بيروت - لبنان.(59/38)
والمحكم: هو الذي لا يحتاج إلى تفسير. ويدل على المعنى المقصود منه دلالة واضحة قطعية لا تحتمل تأويلاً، ولا تخصيصاً، ولا نسخاً. ولا تترك مجالاً للذين في قلوبهم مرض أن يضللوا ويفتنوا بالتأويل والتحريف…
والمتشابه ضد المحكم. وهو على أنواع:
منها: ما يعرف معناه على سبيل الإجمال دون التفصيل…
ومنها: أن يدل اللفظ على شيء يأباه العقل…
ومنها: أن يتردد اللفظ بين معنيين أو أكثر…
ومنها: الحكم المنسوخ.
وكلام المفسرين الذين رجعت إليهم لا يخرج عما ذكرت من تفسير الآية . وهو
كثير. وفيما أوردت كفاية في بيان المقصود. وهو أن آية (آل عمران) إنما تكلمت عن (المحكم) المطلق. أي الواضح بنفسه، الدال على معناه دلالة صريحة قطعية لا تحتمل تأويلاً ولا تخصيصاً ولا نسخا. وليس عن (المحكم) عموما.
خلاصة معنى الآية(59/39)
وخلاصة القول في معنى الآية الكريمة ما يلي: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ): بينات واضحات لا لبس فيها على أحد (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ): أصل الكتاب وعماد الدين، ومرجع ما اشتبه أو التبس فهمه من الآيات. (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ): منه آيات فيها اشتباه على كثير من الناس أو بعضهم. تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وتحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد. فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه، وحكَّم محكمه على متشابهه فقد اهتدى. (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ): ميل عن الحق (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ): يعكسون الأمر فيتركون المحكم، ويتبعون المتشابه بحمله على ما يشتهون مما يمكن أن يحتمل من المعاني بمعزل عن المحكم (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ): صد الناس وفتنتهم عن المعنى الحق تلبيساً بالباطل واحتجاجاً بالمتشابه على ما مالت إليه قلوبهم الزائغة من الباطل دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه، (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه): حمله على ما تشتهي قلوبهم مما يناسب زيغها من المعاني والتأويلات الباطلة المحتمَلة بمعزل عن المحكم. (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ): معناه المراد قطعاً إذا عزل عن المحكم (إِلاَّ اللَّهُ): فإذا رُدَّ إلى الله - أي إلى آياته المحكمات - علم تأويله ومعناه(1)
__________
(1) إنما قلنا بأن التأويل هنا (أي الذي لا يعلمه إلا الله) إنما هو إذا كان بمعزل عن المحكم. لا أنه غير المعلوم المعنى بإطلاق؛ لأن التأويل الذي يبتغيه الزائغون لا يكون إلا كذلك.
ولأن تأويل المتشابه إذا جمع مع المحكم كان معلوماً. أي إذا رُد إلى الله الذي لا يعلم تأويله إلا هو . فيرد إليه - أي إلى آياته المحكمات - ليعلم. كما قال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (الشورى: 10) وقال: { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } (الشورى: 24).
ولأنه لا يوجد في كتاب الله ما هو غير معلوم المعنى بإطلاق. وهذا معلوم قطعاً بالاستقراء. وبالعقل كذلك: فإنه لا حكمة أو فائدة من إنزال ما لا يدرك معناه. وهو ما يتناقض مع ما جاء في صريح الكتاب من الأمر بتدبر آيات القرآن كلها محكمها ومتشابهها دون استثناء. كقوله تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ } (ص:29)، وقوله: { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (هود:1). فآيات الكتاب كلها محكمة مفصلة، لا إبهام فيها. فأي آية من الآيات، أم أي مقطع أو عبارة منها لا يمكن إدراك معناه بحال؟! إلا ما يمكن أن يقال في الحروف المقطعة. وهي – كما أسلفت - من حروف المباني وليست من حروف المعاني. فلا داعي لإقحامها في الموضوع.
وهذا هو الذي يتوافق مع سبب نزول الآية : فإن النصارى الذين جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – وهم وفد نجران الذي بسببه نزلت الآية - لم يجادلوا الرسول في أمور غير معلومة المعنى مطلقاً، أي لا يعلمها إلا الله فقط . وإنما احتجوا عليه بآيات متشابهة معلومة المعنى. لكنها تحتمل معانيهم الباطلة إذا عزلت عن الآيات المحكمات. وفي هذه الحال لا يمكن لأحد معرفة معناها على المراد الحق قطعاً سوى الله. أما إذا ردت إلى محكمات الكتاب – وهو المعنى العملي للرد إلى الله - فقد تبين معناها.
لقد تمسك النصارى أولئك بما جاء في متشابه الكتاب من وصف المسيح - عليه السلام - بأنه (كلمة الله وروح منه). فقالوا: هو الله، أو ابن الله، أو جزء منه. وأعرضوا عن قوله تعالى وهو يتحدث عن خلق آدم - عليه السلام - : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَختُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } (الحجر:29). وقوله: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (آل عمران:59). واحتجوا لعقيدتهم في التثليث بما جاء في القرآن من متشابه قوله: ( إنا.. ونحن.. وأنزلنا) وأمثاله. وأعرضوا عن محكم قوله: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } (البقرة:163). وقوله: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه } (الأعراف: 59). وهذه كلها معلومة المعنى إذا ردت إلى الله ، أي إلى محكمات كتابه. وإلا فإنه لا يعلم معناها المراد من قبل الله على وجه اليقين أحد. وهو المقصود بقوله: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } .(59/40)
. (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا): آمنا بالمتشابه والمحكم أن جميع ذلك من عند الله. فلا يتبعون المتشابه قبل رده إلى الله في محكم آياته. وإذا أشكل عليهم شيء من آياته بعد ذلك لم يشكوا فيما أشكل عليهم، بل يؤمنون به كل من عند الله على مراد الله. فالتقصير منهم، والإشكال في فهمهم لا في ما أنزل الله (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ).
خلاصة الفصل
خلاصة هذا القول: أن الآية المحكمة هي النص القرآني القطعي الدلالة الذي لا يشوبه ظن أو احتمال، ولا يشتبه معناه بمعنى آخر غير المعنى الدال عليه. وهو (الأم) والمرجع في توضيح ما أشكل، لا يحتاج في معرفة معناه إلى الرجوع به إلى غيره من آيات أو روايات أو نظريات. لأنه واضح بنفسه، مفسر لغيره. فغيره يرجع إليه،(59/41)
وهو لا يرجع إلى غيره. وهو المصدر الوحيد في تأسيس أصول الدين(1).
والآية المتشابهة هي النص القرآني الظني الدلالة. الذي يحتمل أكثر من معنى. واعتمادها في تأسيس أصول الدين هو منهج الفرق المنحرفة جميعها. والأصل الجامع لها، وأكبر علامة فارقة دالة عليها. لافتقار أدلة أصولها إلى الآيات المحكمة .
مبحث تكميلي
إشكال و توضيح
__________
(1) مما يبرز هذا المعنى بوضوح أن الله تعالىجعل المحكم في الآية في مقابل المتشابه. وتأمل الآية من جديد: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } . فإذا علمنا أن مدار كلام المفسرين في بيان معنى المتشابه على أنه ما أشكل معناه. أو ما احتمل وجوهاً متعددة من المعاني. أو أنه ما لاسبيل إلى إدراك معناه. وما شابه ذلك. علمنا أن المحكم مالم يكن كذلك. أي ما كان معناه معلوماً علماً واضحاً بَيِّناً لا احتمال فيه. كذلك جعل الله مرد المتشابه إلى المحكم. فلو كان المحكم –كالمتشابه- محتمل المعنى لم يصلح أن يكون مرجعاً نرد إليه ما تشابه من الآيات. ولذلك استعمل الله –جل شأنه- لفظ المتشابه بمعنى الظني والمبهم. وجعله في مقابل اليقيني الواضح. كما في قوله تعالى عن المسيح - عليه السلام - : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } (النساء: 157). وقوله: { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } (البقرة:70).(59/42)
اشتبه الأمر على بعض الذين تناولوا هذا الموضوع فتوهموا أن بين العلماء اختلافاً في تفسير معنى المحكم والمتشابه المذكور في الآية.. حتى إن بعضهم أوصل وجوه الاختلاف إلى عشرين قولاً تقريباً! ثم راح يرجح بينها. بل أبطل بعضها!! كالقول بأن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ. وحجته أن الآيات الناسخة لا تتجاوز بضع آيات، والمنسوخة بقدرها. بينما آية (آل عمران) تقسم القرآن كله بين المحكم والمتشابه. واستبعد جداً أن يصح هذا عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما(1). مع أن هذا له أصل في القرآن في قوله سبحانه: { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (الحج: 52).
طريقة الأقدمين في التفسير
ولإزالة الوهم السابق أقول:
إن أساس هذا القول هو الذهول عن استحضار طريقة الأقدمين في التفسير. وهي تفسير اللفظ بأحد أفراده أو معانيه. أو يكون تفسيرهم للفظ على سبيل التمثيل له بأحد المعاني التي ينطبق عليها المعنى الكلي للفظ . كما فسروا قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (البقرة:201) فقالوا: إن حسنة الدنيا هي الزوجة الصالحة. وقال بعضهم: هي الرزق الحلال الواسع. وقال آخرون: هي الولد الصالح… إلخ. ولا شك أن كل قول على حدة هو بعض المعنى، أو أحد أفراده. فإذا لم يستحضر المتكلم هذا الأمر جعل من تعدد هذه الأقوال اختلافاً في تفسير المعنى! فيقول: قال بعضهم كذا، وقال الآخرون كذا… مع أن المعنى الكلي واحد، وهذه أمثلة له أو جزئيات.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية [مقدمة في التفسير/ 5-12]:
__________
(1) انظر مثلاً : نظرات في تفسير آيات من القرآن الكريم - الدكتور محسن عبد الحميد.(59/43)
(الخلاف بين السلف في التفسير قليل.. وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد. وذلك صنفان: أحدهما أن يعبر كل منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى)، وضرب شيخ الإسلام لذلك عدة أمثلة منها السؤال عن الذكر في قوله تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } (طه:124). وبعد كلام طويل قال: (والمقصود أن يعرف أن الذكر هو كلامه المنزل، أو هو ذكر العبد له. فسواء قيل ذكري كتابي أو كلامي أو هداي أو نحو ذلك كان المسمى واحداً) ثم قال: (الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل.. لا على سبيل الحد المطابق للمحدود.. مثال ذلك ما نقل في قوله: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } (فاطر:32) فمعلوم أن الظالم لنفسه المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات. والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات. والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات). ثم ذكر الشيخ أن كلاً من المفسرين يذكر هذا المعنى الكلي في نوع من أنواع -أو جزء من أجزاء- الطاعات. فيفسر بعضهم السابق بالذي يصلي في أول الوقت، والمقتصد بالذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. بينما يفسر البعض السابق بالمتصدق مع أداء الزكاة المفروضة، والمقتصد الذي يؤدي الزكاة، والظالم لنفسه آكل الربا. ثم قال: (وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر أنواع المسمى وأقسامه كالتمثيلات، هو الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف).
ويقول الشاطبي [الموافقات 4/ 140-144]:(59/44)
(من الخلاف ما لايعتد به في الخلاف. وهو ضربان:
أحدهما: ما كان من الأقوال خطأً مخالفاً لمقطوع به في الشريعة..
والثاني: ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك. وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة. فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالاً مختلفة في الظاهر، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد. والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه.. وهذا الموضع مما يجب تحقيقه. فإن نقل الخلاف في مسألة لاخلاف فيها
-في الحقيقة- خطأ. كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح).
ثم تكلم الشاطبي عن الأسباب التي توقع في هذا الخطأ ، وأرجعها إلى عشرة
أسباب منها: (أحدها: أن يذكر في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء أو عن أحد أصحابه أو غيرهم، ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ. ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ أيضاً، فينصهما المفسرون على نصهما، فيظن أنه خلاف. كما نقلوا في المن أنه خبز رُقاق، وقيل زنجبيل، وقيل الترنجين، وقيل شراب مزجوه بالماء. فهذا كله يشمله اللفظ، لأن الله منّ به عليهم. ولذلك جاء في الحديث ((الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل)). فيكون المن جملة نِعم ذكر الناس منها آحاداً.
والثاني: أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى بحيث ترجع إلى معنى واحد. فيكون التفسير فيها على قول واحد. ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خلاف محقق. كما قالوا في السلوى: إنه طير يشبه السمانى، وقيل: طير أحمر صفته كذا، وقيل طير بالهند أكبر من العصفور.. فمثل هذا يصح نقله على الموافقة، وهو الظاهر فيها.(59/45)
والثالث: أن يُذكر أحدُ الأقوال على تفسير اللغة، ويُذكر الآخر على التفسير المعنوي.. وهما معاً يرجعان إلى حكم واحد. لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع، والآخر راجع إلى تقرير المعنى في الاستعمال. كما قالوا في قوله تعالى: { وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِين } أي المسافرين. وقيل: النازلين بالأرض القواء وهي القفر. وكذلك قوله: { تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ } أي داهية تفجؤهم. وقيل: سرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأشباه ذلك…
والثامن: أن يقع الخلاف في تنزيل المعنى الواحد، فيحمله قوم على المجاز مثلاً، وقوم على الحقيقة. والمطلوب أمر واحد. كما يقع لأرباب التفسير كثيراً في نحو قوله: { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي } فمنهم من يحمل الحياة والموت على حقائقهما، ومنهم من يحملهما على المجاز. ولا فرق في تحصيل المعنى بينهما…
والعاشر: الخلاف في مجرد التعبير عن المعنى المقصود، وهو متحد).
اتفاق في المعنى واختلاف في التعبير
وهكذا الحال مع المحكم والمتشابه الوارد في القرآن، وما قيل من أن العلماء اختلفوا فيه على أقوال.
إن المعنى الكلي لـ(المحكم) هو اللفظ الصريح الدال بنفسه على معناه، دونما حاجة
إلى غيره. و(المتشابه) ما احتمل من الألفاظ معنيين مختلفين فصاعداً ، فاحتاج إلى ترجيح بين معانيه المحتملة.(59/46)
على هذا مدار أقوال المفسرين جميعاً، وإن اختلفوا في التعبير. وبعضهم يفسرهذا المعنى الكلي ببعض أفراده فيقول: المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ. أو المحكم هو المعمول به، والمتشابه هو المتروك. وهذا هو الناسخ والمنسوخ، مع اختلاف العبارة. أو يقول: المحكمات ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه. والمتشابه منها ما أشبه بعضه بعضاً في المعاني، وإن اختلفت ألفاظه. على اعتبار أن اختلاف الألفاظ قد يولد اختلافاً في المعنى. أو يقول: إن المحكم ما كانت معاني أحكامه معقولة، والمتشابه ما قابل ذلك. أو المحكم سورة الفاتحة أو سورة الإخلاص، لأنه ليس فيها إلا التوحيد. وهذا إنما على سبيل التمثيل.
وبقية الأقوال ترجع إلى ما ذكرنا. غير أن كل واحد منهم يعبر بلفظ أو عبارة غير عبارة صاحبه.
وكذلك القول بأن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ. فإن المنسوخ إذا لم يُعلم ناسخه عمل به، وتصور العامل أن معناه - أو العمل به – مراد . فهو من هذه الناحية متشابه. لأنه تردد بين اعتباره مطلوباً واعتباره متروكاً، فصار محتملاً للمعنيين. وفي مقابله الناسخ الذي هو المحكم لأنه لاشبهة فيه. بل هو يزيل شبهة بقاء حكم المنسوخ على أصله فيكون هو الأم والأصل والمرجع لما تشابه من المنسوخ ويكون النسخ إحكاماً والناسخ محكِماً ومحكَماً في وقت واحد، إذن الناسخ أحد أفراد المحكم، وقسم من أقسامه، وليس قسيماً له. والمنسوخ أحد أفراد المتشابه، وقسماً من أقسامه. فتفسير المحكم والمتشابه بهذا المعنى لا يعتبر اختلافاً في التفسير، ولا قولاً آخر فيه.(59/47)
تأمل قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (الحج:52). فقد جعل الله - جل وعلا - إزالة ما يلقي الشيطان من شبه باطلة واحتمالات فاسدة، نسخاً لتلك الإلقاءات، وإحكاماً لتلك الآيات التي حاول الشيطان أن ينفذ من خلالها. وهذا كقول المشركين عند سماعهم قوله سبحانه: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } (الأنبياء:98): إن عيسى والملئكة قد عبدوا من دون الله، فهم حصب جهنم. وإذا كان هؤلاء في جهنم فنحن راضون أن نكون فيها معهم. فأنزل الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } (الأنبياء:101). فنسخ الله بهذه الآية ما ألقاه الشيطان من خلال الآية السابقة، بعد أن أحكمها بالآية التي بعدها.
بين آية (الحج) وآية (آل عمران)
والآية التي سبق ذكرها من سورة (الحج) تشبه الآية التي في سورة (آل عمران)، وتفسرها. فبعد آية (الحج) المذكورة يأتي قوله تعالى: { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } (الحج:53). وهذا كقوله في سورة (آل عمران): { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } :(59/48)
فقوله: { مَا يُلْقِي الشَّيْطَان } يقابل قوله: { مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } . وقوله: { اِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } ، يقابل قوله: { الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغ } . و(الفتنة) في الآيتين واحدة. ثم يقول الله في الآية الثالثة من سورة (الحج): { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (الحج:54). وهذا كقوله في آية (آل عمران): { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُو الأَلْبَابِ } (آل عمران:7).
اختلاف تنوع
وبهذا يتبين أن قول بعض المفسرين: اختلف أهل التأويل في معنى الآية، ليس المقصود به الاختلاف الذي يرجع إلى التضاد أو التناقض –كما فهم البعض- وإنما هو الاختلاف اللفظي، أو اختلاف التنوع – كما سبق بيانه - علماً أن بعض الأقوال المحسوبة لا علاقة له بالآية أصلاً! كالقول بأن المحكم ما لم تتكرر ألفاظه، والمتشابه ما تكررت. فكيف يجعل هذا من معاني الآية، والآية قد جعلت اتباع المتشابه زيغاً وضلالاً؟! فهل اتباع كل ما تكررت ألفاظه زيغ وضلال؟!
ومن تصور أن المقصود بلفظ الاختلاف غير هذا فقد وهِم. وسبب هذا الوهم ما
ذكرنا من الذهول عن معرفة طريقة السلف أو الأقدمين في التعبير. وعدم النظر الدقيق في أقوالهم. والمرور بها دون تدبرها التدبر المطلوب.
المحكم.. مطلق ومقيد(59/49)
هذا وقد ذكرنا سابقاً أن المحكم قد ورد في كتاب الله تعالى على نوعين: مطلق ومقيد. وقلنا: إن المطلق من المحكم: هو ما لا اشتباه فيه بأي وجه من الوجوه. والمقيد: ما احتاج في بيان معناه إلى غيره. يحكمه ويزيل اشتباهه. فكتاب الله كله محكم بهذا المعنى كما قال تعالى: { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (هود:1).
ومن هذا الباب (المحكم بإطلاق والمحكم بقيد) يدخل تقسيم الرازي للألفاظ، حين قسمها إلى ما كان موضوعاً لمعنى واحد لا يحتمل غيره وهو النص. وما كان محتملاً لغيره: إما احتمالاً راجحاً وهو الظاهر ، ألحقه بالنص وجعل كليهما هو المحكم. وإما احتمالاً مرجوحاً أو متساوياً وهو المتشابه.
فالنص عند الرازي هو المحكم المطلق. والظاهر عنده هو المحكم بقيد. فكلاهما محكم. ولكن كل باعتبار . ويشبه قولَ الرازي قولُ الشوكاني حين قال: (إن المحكم هو الواضح المعنى الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره. والمتشابه ما لا يتضح معناه أو لا تظهر دلالته لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره). فالشوكاني هنا يتكلم عن عموم معنى (المحكم). وليس عن (المحكم) الوارد في آية (آل عمران) بخصوصه. وإلا فإن المحكم (باعتبار غيره) لا يصلح أن يكون (أُماً). وإنما (الأُم) هو ذلك الغير الذي اعتبر به فصار واضحاً محكماً بهذا الاعتبار. فهذا المحكم ليس من مقصود الآية. لأنه ليس بأم. ومقصود الآية هو (الأُم) من المحكمات.(59/50)
والناظر في قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } يجد أن المحكم المذكور فيها ليس هو المحكم بالمعنى العام، أي بمعنييه المطلق والمقيد كليهما. وإنما خصت الآية معنى واحداً منهما هو المحكم المطلق. بدليل أنه استُعمل في مقابل المتشابه. فالمحكم الوارد في الآية هو المحكم بالمعنى الخاص، وليس هو عموم المحكم. فلا يصح إذن أن نعزل اللفظ عن سياقه الذي ورد فيه بالمعنى الخاص، ونضعه خارج الآية. ثم نأتي بأقوال العلماء التي بحثت في عموم معنى اللفظ -بصرف النظر عن مختلف سياقاته و مناسباته التي ورد فيها- لنطبق هذه الأقوال العامة على اللفظ وقد ورد بسياق خاص، ثم نعيده محملاً بتلك المعاني الغريبة ونجعلها من معاني الآية ونقول: إن هذا هو المقصود باللفظ في هذه الآية!
آيات الأصول محكمة بإطلاق
والاستقراء الكامل لكتاب الله تعالى يظهر لنا أن الآيات المؤسسة لأصول الدين محكمة بإطلاق. أي قطعية الدلالة. وماكان من الآيات له تعلق بالأصول، وهو من نوع المحكم بقيد، فإن له جميعاً أصلاً من المحكم المطلق يرجع إليه. بحيث لا توجد آية واحدة في القرآن كله تتعلق بأصل من أصول الدين. ليس لها فيه ما ترجع إليه من المحكم المطلق. والحقيقة أن كل أصل من الأصول يقوم على آيات كثيرة محكمة بإطلاق. يمكن بسهولة إرجاع الآيات المتشابهة أو المحكمة بقيد إليها.
أما الآيات المتعلقة بالفروع، فكذلك منها ما هو محكم بإطلاق. ومنها ما هو محكم بقيد. لكن محكمها المقيد على أقسام:
الأول: له في القرآن ما يرجع إليه من المحكم المطلق.
الثاني: له في السنة مايحكمه.
الثالث: يُرجع به إلى الاجتهاد.(59/51)
ومنها ما يبقى محتملاً مشتبهاً، تتفاوت فيه أنظار العلماء. بل إن من الفروع مالم يرد له ذكر بعينه في القرآن أصلا. وذلك لأن الاختلاف في الفروع سائغ ومشروع. لأنه في عمومه لا يجر إلى الفساد. عكس الاختلاف في الأصول. ولذلك أحكمت جميع الآيات التي تبنى عليها الأصول إحكاماً مطلقاً كاملاً من جميع الوجوه.
الفصل الثاني
القواعد والمقدمات التأصيلية
1. الإسلام دين أساسه اليقين
اليقين هو الاعتقاد الجازم الذي لا يتطرق اليه الشك بحال.
جاء في (مختار الصحاح) للرازي: اليقين: العلم وزوال الشك. وفي (مفردات ألفاظ القرآن) للراغب الصفهاني: هو سكون الفهم مع ثبات الحكم. وفي صفوة البيان لمفتي الديار المصرية الشيخ حسنين محمد مخلوف في تفسير قوله تعالى: { وبالآخرة هم يوقنون } : وبالنشأة الآخرة هم يعلمون علماً قطعياً لا أثر فيه للادعاءات الكاذبة والأوهام. من الإيقان وهو التحقق. يقال: يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته ا.هـ.
والإسلام دين انبنت أصوله وقواعده وأساسياته على اليقين. فالمسلم الحقيقي إنسان آمن بهذه الأصول والأساسيات إيماناً جازماً لا شك فيه. لأن الاسلام يمنح معتنقيه الثقة المطلقة بصحته. وما ذاك الا لقوة أدلته، وسطوتها التي تستولي على النفوس، وتتمكن منها تمكناً يمنحها الثبات والاستقرار. ويهبها الطمأنينة والسكون.
ولقد استوعب كتاب الله تعالى -الموصوف بأنه { لا ريب فيه } (البقرة/2)- هذه الأدلة. وقد أثبت الله انتفاء الريب عن كتابه بالدليل القطعي فقال: { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } (البقرة/23). وهذا دليل ثبوته وكونه من عند الله.
فنحتاج مع هذا إلى أمر واحد فقط - كي يتم انتفاء الريب عن أصل الدين، ويتحقق اليقين - هو قطعية دلالة نصوصه على المراد. لأن النص قد يكون قطعياً في الدلالة. وقد يكون ظنياً.(59/52)
والأصول لا تنبني على ظنيات الأدلة. لأن ما انبنى على الظني ظن. ذم الله متبعيه، وكفر معتنقيه فقال: { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } (النجم/28).
ولذلك قال علماء الأصول: الدليل إذا تطرق اليه الاحتمال بطل به الاستدلال.
2. أصول الدين وأساسياته قطعية يقينية
إن هذا ينقلنا إلى القول بأن أصول الدين وأساسياته قطعية يقينية. وذلك لقطعية أدلتها ثبوتاً ودلالة. ولو لم تكن هذه الأصول أدلتها كذلك لكان الدين من أساسه ظنياً خاضعاً لتعدد الأراء ووجهات النظر. وهذا يؤدي إلى تعدد الأديان وتفرقها دون معرفة الحق فيها من الباطل، على وجه الجزم واليقين(1).
3. الأدلة الظنية تصلح في الفرعيات لا الأساسيات
الإسلام عقيدة وعمل.
ولكل منهما أصول وأساسيات، وفروع وملحقات.
مثال الأصول والأساسيات: الإيمان بوحدانية الله تعالى ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - والصلاة والزكاة وحرمة القتل والزنا. وهذه لا تقبل الاختلاف وتعدد وجهات النظر ما بين مثبت وناف. بل جاء الشرع بقول واحد فيها مجمع عليه بين الأمة على اختلاف مذاهبها. فلا تجد مسلماً عالماً أم جاهلاً لا يؤمن بوحدانية الله، أو ينكر نبوة محمد رسول الله، أو لا يقر بالصلاة والزكاة، أو يُحل القتل ويستحل الزنا.
والسبب في هذا الإجماع على القول الواحد قطعية النصوص الدالة على هذه الأمور الأساسية، وعدم قبولها للاحتمال وتعدد الآراء. ولولا ذلك لحصل الخلل والفساد في الدين والدنيا. وعلى هذا الأساس يكون من أنكر واحداً منها كافراً خارجاً من الملة.
__________
(1) مر بنا سابقاً قول الشاطبي في كتابه (الموافقات)-3/65 : (التشابه لا يقع في القواعد الكلية. وإنما يقع في الفروع الجزئية. والدليل على ذلك من وجهين: أحدهما الاستقراء أن الأمر كذلك. والثاني أن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة متشابها. وهذا باطل).(59/53)
ومثال الفروع والملحقات: أغلب القضايا الفقهية العملية. وهذه تجد الأدلة عليها في الغالب ظنية، محتملة لأكثر من وجه. ولذلك تعددت بشأنها آراء الفقهاء. كمسافة السفر الذي تقصر فيه الصلاة ويفطر الصائم. والمسح على الجورب. والوضوء من لمس المرأة. ومئات -بل آلاف- المسائل الفقهية.
وإذا أخذنا فروعيات العقيدة كمثال، نذكر مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر. وخلق العرش والقلم، وأيهما أقدم. وأشراط الساعة. إن هذه الأمور يسوغ فيها الإختلاف وتعدد وجهات النظر. لعدم لزومه الفساد والخلل في الدين أو الدنيا. إلا ما جاء النص فيه قطعياً في ثبوته ودلالته –كصريح الآيات- إذ يصبح تكذيبه تكذيباً للنص نفسه. وهو كفر.
ولقد منع العلماء من التقليد في الأصول. وأجازوه في الفروع. لأن عامة أدلة الفروع ظنية، محتملة لوجوه من المعاني يصعب على العوام عادة تحديد المطلوب منها شرعا، أو فهمها على وجه الدقة دون الرجوع إلى العلماء. فمنعُ العوام من التقليد في الأصول يستلزم أن لا تكون أدلتها كذلك، وإلا لزم فيها التقليد. فلا بد إذن أن تكون أدلة الأصول خالية من الظن أي قطعية، حتى لا يضطر فيها العوام إلى تقليد العلماء. و يكون المنع من التقليد فيها صحيحاً مقبولا.
4. أصول الحق قطعية وأصول الباطل ظنية
إن دين الإسلام اعتمد في أصوله على الأدلة القطعية التي لا تحتمل نصوصها إلا وجهاً واحداً من وجوه التفسير. وهي التي يسميها الله تعالى (بالآيات المحكمات) التي جعلها أُماً للكتاب ومرجعاً عند الاختلاف، لكونها لا يُختلف في تفسيرها. كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } (آل عمران/7). ولذلك صار الدين يقيناً لا ريب فيه.
تأمل هذه الآيات:
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ- إلى قوله- وَبِالأْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } (البقرة/2-4).(59/54)
{ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } (البقرة/23).
{ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } (الأنعام/57).
{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } (الحجرات/15).
{ أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } (إبراهيم/10).
{ وَمَا كَانَ هَذَا القرآن أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (يونس/37).
أما الاديان الباطلة فعلى العكس من ذلك. إذ قامت على الظن والاشتباه. لأنها استندت في أصولها على الأدلة الظنية. التي تحتمل نصوصها وجوهاً متعددة من التفسير أو التأويل. وهي التي يسميها الله تعالى بـ(المتشابهات). والمتشابهات لا يصح أن تستقل في تأسيس الأحكام الأصولية. لأنها ليست (أماً) أو مرجعاً. فلا يصح اتباعها. وإلا كان فاعل ذلك من الزائغين. كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } (آل عمران/7)
ولذلك صارت تلك الأديان ظناً لا يقين فيه.
تأمل كيف يذكر الله أن عقيدة النصارى في صلب المسيح - عليه السلام - قامت على الظن والاشتباه دون اليقين: { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } (النساء/157).(59/55)
وقال عنهم وعن أمثالهم: { وما يتبع أكثرهم الا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً } (يونس/36). أي ان عقيدتهم ومنهاج حياتهم مستند على الظن لا على اليقين { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } (النجم/28)
والحق مبناه على اليقين. أما الباطل فمبناه على الظن الذي هو أساس اعتقاد المبطلين ومنهاج حياتهم.
وإذن كل دين يقوم على قواعد تستند على أدلة ظنية مشتبهة فهو دين باطل لا يورث أتباعه اليقين. وكذلك كل فرقة أو طائفة.
إن الأديان والطوائف أو الفرق الضالة تشترك في أصل جامع هو: أن أصولها وأساسياتها المميزة لها تقوم على أدلة ظنية تحتمل وجوهاً متعددة من التفسير ليس واحد منها قطعياً في دلالته.
5. وظيفة القرآن تأسيس الأصول دون الفروع
يقول تعالى: { ما فرطنا في الكتاب من شيء } (الانعام/38).
ويقول: { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } (النحل/89).
ما هذه الأشياء التي بينها في كتابه، ولم يفرط في ذكر واحد منها فيه؟ أهي الأصول والأساسيات؟ أم الفروع والملحقات؟
لا شك أن أكثر الفروع غير مذكورة في الكتاب. فلو كان الله يعنيها بقوله السابق
لحصل الخُلف أو التناقض. فلم يبق إلا أصول الأشياء، كي يتم التطابق بين القول والحقيقة. إذن الأصول هي المعنية بالقول.
والاستقراء يثبت ذلك أيضا. فإن الله تعالى ما ترك في الكتاب شيئاً أساسياً إلا وذكره. كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والصلاة والزكاة وبر الوالدين والزواج والطلاق وحرمة الكذب والفواحش. أما تفاصيلها فلا يشترط ذكرها دائماً. فالصلاة مثلاً ذكر أصل وجوبها. لكنه ترك كثيراً من تفاصيلها. كعدد ركعاتها وهيئاتها وحركاتها وأذكارها. والزكاة ذكر أصلها وترك تفصيلاتها إلى السنة المطهرة.
فالكلية في قوله تعالى: { نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } للأصول وليست للفروع.(59/56)
وقوله تعالى: { وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } (التوبة/115). أي من أصول التقوى. أما فروعها فقد تجيء في السنة أو تحصل بالاجتهاد. وكذلك قوله تعالى: { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } (البقرة/2) أي هدى في الأصول والأساسيات. ولذلك لم يذكر بعد هذه الآية إلا أصول الهداية من الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالكتب والرسالات السابقة واليوم الآخر. فقال: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } (البقرة/3-4).
أما الفروع فقد تذكر في القرآن، وقد تحال إلى بقية أدلة الأحكام.
6. القرآن استوعب كل الأصول
يتبين مما سبق أن القرآن العظيم قد استوعب ذكر جميع أصول الدين وأساسياته الضرورية لتحقيق الهداية. ولم يفرط في ذكر واحد منها. وإلا لم يكن مصدراً لهذه الهداية، وصالحاً لأن يوصف بأنه { هدى للمتقين } (البقرة/2).
فمن جاء بأصل من الأصول، فلا بد أن يكون دليله عليه من القرآن. و بالنص الصريح الذي لا شبهة فيه. وإلا فأصله باطل مردود عليه.
ومصداق ذلك العقل الصريح: إذ لا يعقل أن أمراً من الأمور يتوقف عليه الدين ولا يصح الإيمان إلا به، ثم يغفل القرآن ذكره وهو يتنزل على مدى ربع قرن من الزمان! مع أنه ذكر كثيراً من الأمور الفرعية كالتحية والتفسح في المجالس والأكل والشرب والصيد والتيمم والتطهر من الحيض والجنابة والاستنجاء من قضاء الحاجة بالنصوص الصريحة التي لا شبهة فيها. فلا يعقل أن المصدر الأساس والمرجع الأم يذكر هذه الفروع، بل فروع الفروع، ثم يفرط في ذكر أصل من الأصول!
7. القرآن هو المرجع الوحيد في تأصيل أساسيات الدين
هذه مجموعة من آيات الذكر الحكيم التي تثبت هذه القاعدة بوضوح:(59/57)
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } (البقرة/2).
{ فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآْخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } (طه/123-127).
{ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } (الزمر/41).
{ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأْرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (الانعام/71).
{ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } (سبأ/50).
{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (النحل/89).
{ مَا فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (الانعام/38).
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر/9).
{ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } (الكهف/27).
{ وَمَا كَانَ هَذَا القرآن أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ } (يونس/37).(59/58)
{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حمِيدٍ } (فصلت/41-42).
{ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ } (الانعام/106)
{ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } (الأعراف/2-3).
{ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } (البقرة/213).
{ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ } (الشورى/10).
{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (المائدة/50).
{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً } (الانعام/114).
{ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (النحل/64).
{ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } (يونس/82).
{ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } (الانفال/7).
{ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } (الشورى/24).
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } (العنكبوت/51).
{ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } (المرسلات/50).(59/59)
{ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } (الجاثية/6-9).
{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا } (الزمر/23).
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ } (التوبة/6).
{ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ } (النمل/91-92).
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا } (البقرة/170).
{ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } (الكهف/28).
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } (الكهف/57).
{ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } (ص/67،68).
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آية لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } (الأعراف/146).(59/60)
8. النص القرآني القطعي الدلالة مرجعنا في أصول الدين
آيات القرآن تنقسم إلى قسمين:
الأول قطعي الدلالة. واضح المعنى. بيِّن المراد. محكم لا اشتباه فيه.
والآخر ظني الدلالة. يحتمل أكثر من معنى. وهذا القسم حرم الله اتباعه والاحتجاج به دون إرجاعه إلى الأصل، وهو القطعي الدلالة أو المحكم. كما سبق الحديث عنه في مبحث المحكم والمتشابه.
ومن الحقائق الملاحظة في تاريخ الفرق أنه لم توجد فرقة انتسبت إلى الإسلام إلا واحتجت لأصولها بآيات من القرآن!
فما الفرقان الذي يميز بين المحق منها والمبطل والكل يحتج بالقرآن؟!
والجواب هو إذا كان الاحتجاج بالآيات المتشابهات التي تحتمل عدة وجوه، وتحتاج لتعيين المعنى المطلوب إلى تفسير أو تأويل أو استشهاد بروايات، وإلا فإن الآية لا تفصح عن المراد، فهذا دليل بطلان ذلك الاحتجاج لأنه اتباع للمتشابه. وهو القاسم المشترك بين جميع الفرق الضالة. واذا كان الاحتجاج بالآيات المحكمة الصريحة الدلالة على المعنى المقصود، فهذا دليل الحق وعلامة النجاة.
إن هذا الشرط أو المنهج لا يسمح بالمرور الا لفرقة واحدة فقط . أما المنهج الأول فلم تبق فرقة ضالة إلا وسلكته! فهو يستوعب كل الفرق، بل الأديان الباطلة. وهذا دليل فساده وبطلانه لأن الحق واحد والباطل متعدد.
9. لا تقليد في الأصول ولا اجتهاد
أجمع الأصوليون على أن الأصول لا يجوز فيها تقليد العلماء؛ لأن التقليد ظن نهى
الله تعالى عن اتباعه وحصروا التقليد في الفروع الفقهية فقط .وإذا كان التقليد ممتنعاً في الأصول لأنه ظن، فكذلك هو الإجتهاد ظن يجب أن لا يعتبر في الأصول لاشتراكه مع التقليد في العلة نفسها التي منعت التقليد من اعتباره دليلاً صالحاً للاعتماد في الأصول. ألا وهي الظن.
والدليل على ظنية الاجتهاد ما يلي:(59/61)
* الاجتهاد لا يخلو أن يكون عقلياً أو نقلياً.أما الاجتهاد (أو النظر) العقلي فيحتمل الخطأ والصواب، فهو ظن إذن. والدليل على ذلك اختلاف العقلاء فيما يعقلون. وإنكار اختلاف العقلاء فيما يعقلون مكابرة يكذبها الواقع.
* إن الاجتهاد لو كان يقينياً لا ظنياً لما ساغ المنع من تقليده من قبل العوام. فإن علة المنع التي صرح بها العلماء هي الخشية من تطرق الظن إلى التقليد. وهذه العلة تكون منتفية عن الاجتهاد لو كان يقينياً لا ظنيا، فلا داعي للمنع منه في هذه الحالة لانتفاء العلة التي بسببها حصل المنع. ولا شك أن الاعتماد على اجتهاد العالم أسلم من اجتهاد العامي أو الجاهل لنفسه. فإن احتمال الخطأ في اجتهاد العامي أكثر من احتماله في اجتهاد العالم. فكيف يمنع الثاني، ويتبع الأول بدلاً منه؟!(59/62)
* وأما الاجتهاد النقلي فلا يخلو أن يكون النقل – أو النص الشرعي الذي تجري عليه عملية الاجتهاد - ظنياً أو قطعياً. فإن كان النص ظنياً فلا يصح اعتماده في الأصول، فخرجت النصوص الظنية من الموضوع. وإن كان قطعياً فلا اجتهاد فيه. لأنه واضح محدد المعنى. وما كان كذلك فلا حاجة فيه إلى الاجتهاد. ولذلك أجمع الأصوليون على أنه (لا اجتهاد مع النص). ولا شك أن النص الذي لا اجتهاد معه هوالنص الصريح القطعي الدلالة. لأن كثيراً من الاجتهادات تجري في ميدان النصوص. وكثيراً من النصوص يختلف العلماء في تفسيرها حسب اجتهاداتهم. تلك هي النصوص الظنية الدلالة. ولذلك جاء في بعض تعاريف الاجتهاد أنه (تحصيل حكم شرعي من دليل ظني). وعبَّر عن ذلك بعض الأصوليون بقولهم: (المجتهَد فيه هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي). وفسروا ذلك بقولهم: (ان الأحكام الشرعية التي فيها أدلة قطعية، لا تحتمل الاجتهاد والاختلاف. مثل وجوب الصلاة والصيام وحرمة الزنا ونحو ذلك مما وردت فيه أدلة قطعية. أما الأحكام التي لم ترد فيها نصوص قطعية، وإنما وردت فيها نصوص ظنية الثبوت أو الدلالة فهي التي يجري فيها الاجتهاد)(1). وقالوا كذلك: (أما القطعي فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو الإثبات. وليس محلاً للاجتهاد. وهو قسم الواضحات؛ لأنه واضح الحكم حقيقة والخارج
عنه مخطئ قطعا)(2).
وبما أن الأصول قائمة على النصوص القطعية الواضحة الدلالة، إذن امتنع الاجتهاد في الأصول كما امتنع التقليد. لعدم الحاجة إليهما بعد وضوح النص وضوحاً يجعل عامة الناس متمكنين من فهمه دونما حاجة إلى اجتهاد العلماء أو تقليدهم.
__________
(1) الوجيز في أصول الفقه ص 410 – الدكتور عبد الكريم زيدان.
(2) الموافقات في أصول الأحكام 4/410 – أبو إسحاق الشاطبي.(59/63)
وكذلك يمكن القول: بما أنه لا تقليد في الأصول، إذن وجب أن تكون النصوص الدالة عليها واضحة لعوام الناس بحيث لا يحتاجون معها إلى اجتهاد ولاتقليد. فيقتصر التقليد على الفروع لأن غالبها قائم علىالأدلة الظنية فساغ فيها التقليد.
فكل أصل يفتقر إلى النص القطعي الدلالة فليس بأصل. فإلحاق أصل كهذا بالأصول باطل. أي أن الأصل يشترط له أن يكون دليله نصاً قرآنياً قطعي الدلالة.
وهذا يعني أن كل نص يصعب على العوام فهمه. أو مشكل يحتمل وجوهاً تحتاج إلى اجتهاد لمعرفة الراجح منها. لا يصح اعتماده دليلاً في الأصول.
10. الأصول تثبت بالنصوص لا بالشروح
من الحقائق الواضحة: أن كل القضايا الأصولية -سواء في الاعتقاد أم التشريع- لا يحتاج عامة المسلمين -للعلم بها- سوى تلاوة نصوصها القرآنية. فهي لا تحتاج الى شرح أو توضيح. فضلاً عن أن تكون قضايا فلسفية يطول فيها الكلام، وتكثر المقدمات.
ومن الحقائق الملاحظة أن الأصول التي انفردت بها الفرق الخارجة عن الجماعة، لا يمكن إثباتها بالنصوص القرآنية وحدها. دون شرح او تفصيل أو تأويل. بل نجد أصحابها يخوضون في الفلسفة والكلام خوضاً يصعب على العوام فهمه. ولولا التقليد الأعمى لما آمن بها هؤلاء العوام. لأن الكلام في إثباتها فوق مستوى مداركهم.
وهذا يثبت أن هذه الأصول التي شذت بها هذه الفرق ليست أصولاً معتبرة شرعاً. وإلا لما احتاجت إلى هذه الشروح والتفصيلات والفلسفة والتأويلات. كما هو شأن الأصول.
11. القرآن محفوظ معنى كما هو محفوظ لفظاً
من المعلوم من الدين بالاضطرار أن القرآن الكريم محفوظ من الزيادة والنقصان بحفظ الله له بنفسه. كما قال سبحانه:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر/9).
{ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } (الكهف/27).(59/64)
{ مَا كَانَ هَذَا القرآن أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ } (يونس/37).
{ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } (فصلت/41-42).
وذلك ان الله تعالى ختم النبوة. فلا بد -ليحفظ الدين- أن يحفظ مصدره. وإلا احتجنا إلى نبي جديد يدل الناس على موضع التحريف. كما كان عليه الامر من قبل.
ولا شك أن الغاية من حفظ الالفاظ والمباني هو حفظ المقاصد والمعاني.إذ الألفاظ وسيلة لتأدية غاية هي المعنى. فلا بد أن يحفظ اللفظ بحيث يؤدي المعنى المطلوب دون إمكانية تسلط علماء السوء عليه ليحرفوا معناه. والا انتفت الغاية ولم تتحقق الحكمة من حفظ اللفظ . فيكون الله -سبحانه عن ذلك- قد حفظ شيئاً لا غاية ترجى من حفظه. وإلا ما معنى أن يتعهد الله بحفظ اللفظ دون المعنى الذي هو الغاية؟!
كيف يمكن لعلماء السوء أن يتسلطوا على المعنى؟
هنالك وسيلتان أو نافذتا اختراق يتسلل من خلالهما علماء السوء دائماً لتحريف المعنى هما: تفسير اللفظ بالرأي أو بالرواية.
ولا شك أن الرأي والاجتهاد، وكذلك الرواية هما نتيجة جهد بشري لم يتعهد الله بحفظه وعصمته. فالخطأ يتطرق إليهما -ولا بد- بل الهوى كذلك. فيفسر اللفظ وتصنع الرواية نصرة للمذهب، وتأييداً للرغبة والمقصد. وبما أن أساسيات الدين لا تقبل الخطأ وإلا صار الدين عرضة للخطأ مشكوكاً فيه من أساسه- فلا بد أن تحفظ نصوصها من أي وسيلة يمكن من خلالها أن يتطرق الخطأ أو الشك إلى معانيها. إذن لا بد أن تحفظ نصوص الأصول من آراء العلماء ورواياتهم، حتى تكون معصومة ومحفوظة لفظاً ومعنى. وإلا أمسى الدين من أساسه عرضة لطروء الخطأ عليه.
وهذا يعني أن أي اصل احتاجت نصوصه القرآنية إلى تفسير بالرأي او الرواية فليس بأصل.
12.وظيفة الروايات (السنة) تأكيد الأصول وتفريعها لا تأصيلها(59/65)
أما وظيفة الروايات فهي تأكيد ما جاء في القرآن من أصول وتأييدها. وكذلك تفصيلها وتفريعها. فالصلاة مثلاً لم تستقل الروايات بتأصيلها. إنما ثبت أصلها بالآيات القرآنية أولاً. ثم جاءت الروايات تؤكد الأصل من ناحية، وتفصل فرعياته من ناحية أخرى. وهكذا أصل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. كذلك أساسيات الدين الأخرى كالزكاة والصيام والحج والجهاد.
أما أن يثبت أصل مهم من أصول الدين لم يرد في القرآن بالنص القطعي، فهذا ليس له وجود في ديننا -إذ جميع أصوله ثبتت بالقرآن ابتداءاً- ولا يصح للأسباب التي ذكرناها سابقاً.
ومن المعلوم أن السنة شرح للقرآن وثمرة من ثماره. والشرح تفريع وتفصيل لما هو موجود أصلاً. والثمرة لا تنشئ أصلاً بل هي محتاجة الى أصل تنشأ منه، وتقوم عليه. والسنة بالنسبة للقرآن كالقوانين التي تشتق من الدستور الذي يمثل القضايا الكلية أو الأصول. والقوانين لا تنشئ قضايا كلية بمعزل عن الدستور. إنما تتفرع عنه، وتبنى عليه. وهذا من معنى قوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (النحل: 44).
ولقد تأملت في الروايات التي في مصادر أهل السنة المعتمدة. كالكتب الستة، فلم أجدها -ولله الحمد- تضيف أصلاً جديداً على أصول القرآن. ولا تحذف منها أصلاً. لا روايات الآحاد. ولا الروايات المتواترة.
ثم إن تصحيح الروايات وتضعيفها من شأن علماء الحديث. ولا بد لعامة الناس من تقليدهم في ذلك. فاعتماد الروايات في إثبات الأصول دون صريح القرآن نوع من التقليد. وهو في الأصول باطل.(59/66)
كذلك فإن الروايات يمكن أن تختلق وتنسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه. أو إلى غيره. على عكس آيات القرآن التي تعهد الله بحفظها إلى حد استحالة اختلاقها، أو اشتباهها بغيرها. فإن أحداً من الناس -مهما أوتي من علم- لا يمكن أن يختلق عبارة وينسبها إلى كتاب الله. وإلا افتضح أمره للعام والخاص. ولذلك التجأ المبطلون إلى الروايات يصنعونها ويزخرفونها فيصعب تمييز الصحيح منها من الضعيف إلا على ذوي الاختصاص. وهذه ثغرة نفذوا من خلالها لا يمكن إغلاقها إلا بإعلام الناس بأن المصدر الوحيد المعصوم من ورود الخطأ أو الهوى هو الآيات القرآنية المحكمة. فلا يعتمد على سواها في الأصول. وأما شرط التواتر فإنه يمكن ان يُدَّعى. وقد أضيف إلى روايات أثبتوا بها أصولاً للزندقة! وألله تعالى أرحم بعباده من أن يكل أصل دينهم إلى
مثل هذا المرجع الذي لا اتفاق عليه. وتوجد فيه ثغرات يمكن للباطل أن ينفذ من خلالها.
فجعل الروايات مرجعاً في أصول الدين مع هذه المزالق المهلكة، واستغنائنا عنها بنصوص القرآن لايسوغ شرعاً، ولا يقبل عقلاً.
13. مرجعيتنا في الأصول قرآنية لا بشرية
بما أن أصول ديننا لا تخضع نصوصها إلى آراء العلماء ولا إلى رواياتهم. وبما أن الأصول لا يصح فيها تقليد العلماء. فإن العلماء ليسوا مرجعاً لنا في الأصول لعدم حاجة الناس فيها إليهم. وهذا يعني أن مرجعيتنا في أصول ديننا وأساسياته قرآنية ربانية لا علمائية بشرية.
فما هو دور العلماء إذن؟
إن دور العلماء ينحصر في دائرة الفروع. والاجتهاد في الأدلة الظنية. وهذا هو معنى تعريف الاجتهاد بأنه (تحصيل حكم شرعي من دليل ظني). إن الدليل الصريح القطعي واضح بنفسه فلا يحتاج إلى مجتهد.
وإذن مرجعية العلماء تدور في باب الفروع والظنيات. أما الأصول والقطعيات فليست واقعة في دائرة اختصاصهم.(59/67)
وينبغي أن يلحظ في هذا المقام أن الفروع المستندة إلى الأدلة القطعية خارجة أيضاً عن دائرة الاجتهاد. لأن الدليل القطعي-كما قلنا- لا يحتاج إلى مجتهد. كقوله تعالى في عدة المتوفى عنها زوجها: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } (البقرة/234).
حتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق وأفضلهم طراً لم يكن خارج هذه المرجعية القرآنية. كما قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَتبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي } (الأعراف/203). وقال: { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } (سبأ/50). وقال: { ووجدك ضالاً فهدى } (الضحى/7). أي بالوحي. كما قال تعالى: { نحن نقص عليك أحسن القصص بما
أوحينا اليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } (يوسف/3).
وفي قوله تعالى: { منه آيات محكمات هن أم الكتاب } (آل عمران/7): أن المتشابهات يرجع في معرفة معناها إلى الآيات المحكمات. لا إلى الآراء، أوالروايات. وهذا في الأصول. وكذلك في الفروع الثابتة بالنص القطعي الدلالة في القرآن.
14. التفسير أو التأويل لا يُثبِت أصلاً دون النص الصريح
ينقسم الاحتجاج بالقرآن إلى قسمين:
1. احتجاج بالنص نفسه. لوضوحه وصراحته ... .
2. احتجاج بتفسيره. لحاجة النص إليه.
ولكن الله تعالى لم يجعل أدلة الأصول إلا نصوصاً واضحة صريحة لا تحتاج الى شرح أو تفسير.
والسر في ذلك أن التفسير عمل بشري. وكل إنسان مهما بلغ من العلم ليس معصوماً من الزلل. فإذا أوكلت أصول الدين الى التفسير صارت عرضة للخطأ. فلا يصح اعتماد التفسير في تأصيل الدين لعدم عصمته من الخطأ والهوى. فوجب اعتماد النص القرآني وحده في الأصول. لأنه معصوم منهما لفظاً ودلالة.(59/68)
فيرفض كل أصل أثبت بالتفسير أو التأويل دون النص نفسه؛ لأن التفسير في حقيقته قول المفسر، وليس قول الله جل شأنه.
15. العقل لا يستقل بتأسيس الأصول دون النص القرآني المحكم
وللسبب نفسه لا يمكن اعتماد ما يسمونه بـ(العقل) – وهو في حقيقته (الرأي) لا أكثر-في تأسيس الأصول. إن العقل لا يمكن أن يكون حجة في ذلك. لأن الحجة يجب أن يكون معصوماً من تطرق الخطأ والهوى. والعقل البشري ليس كذلك.
ولا شك أن اعتماد العقل البشري –والحالة هذه- في تأسيس الأصول يفتح باب الدين واسعاً أمام أعدائه ليندسوا فيه ويقولوا ما شاؤوا بحجة أن العقل يقول به. بل الواقع التاريخي للعقائد والأديان والمذاهب الفكرية يشهد بأن أدعياء العقل قد انحدروا الى القول بما تأباه العقول، وتأنف منه الأذواق، وترفضه الفطرة السليمة.
ولو كان العقل حجة في الأصول لما كان هناك داع لبعثة الأنبياء عليهم السلام.
لعدم حاجة الناس إليهم حاجة ضرورية بعد أن حصرت وظيفة الرسول في بيان الفرعيات. وأما الأصول فتترك لعقول الناس وآرائهم!
وهذا منطق غير معقول فلقد كان للروم والفرس فلسفة وآراء مستندة إلى العقل؟! فهل دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقاتلهم المسلمون من أجل أن يستبدلوا فلسفة بفلسفة ورأياً برأي؟!
ما معنى قوله تعالى إذن: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } (البقرة/2)؟ أهو
هدى في الفروع دون الأصول؟
وما معنى قوله تعالى: { وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } (البقرة/213)؟ اختلفوا فيه من الفروع أم الأصول؟(59/69)
وما معنى قوله تعالى: { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَْنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى } (النجم/23)؟ إن لم يكن الظن وما تهواه الانفس هو ما اعتمده الناس بعقولهم وآرائهم بمعزل عن الهدى الذي جاء من الرب؟! وإلا كان البشر - وليس الله - مصدر الهدى والتشريع في أخطر قضايا الدين. ألا وهي الأصول. وذلك من أبواب الكفر.
وما معنى قوله تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (النحل/89). إن لم تكن الأصول أول شيء نزل الكتاب بتبيينه؟!
وما معنى قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } (التوبة/115). إن لم تكن الأصول مما بينه الله مما يتقون؟
نعم! لو كان (العقل) شيئاً معيناً له كيان مستقل محدد بحيث لا يُسأل عن مسألة أصولية إلا وأجاب فيها بجواب واحد واضح لا لبس فيه، لساغ أن يكون مرجعا في الدين. وهنا لا بد أن نلغي دور الرسالة والرسول لأنه لا حاجة لنا بهما بعد! و يكون الاعتراض على بعثة الله الرسل وجيهاً ومنطقيا!
أما والعقل في حقيقته وواقعه هو الموجود في رأس هذا الإنسان وذاك، وهؤلاء من طبعهم الاختلاف، فإن القول بحجية العقل ومرجعيته في الأصول لا معنى له.
لقد كفَّر الإمام الغزالي الفلاسفة. ورد على ابن سينا والفارابي وكتب في ذلك كتابه (تهافت الفلاسفة). وجاء الفيلسوف ابن رشد ليرد عليه. ويكتب كتابه (تهافت التهافت)! ولا شك أن لكل واحد من هؤلاء عقلاً جباراً وفكراً نافذاً. فمن منهم على الحق؟ وعقل من منهم هو الحجة والمرجع؟!
أما القرآن فشيء واحد. مجموع في كتاب. له كيان مستقل محدد. أمر الله بالرجوع إليه. وله عن كل مسألة أصولية جواب واحد واضح لا لبس فيه؛ فصحَّ أن يكون هو المرجع، والمرجع الوحيد في أصول الدين؛ لإنه المصدر الوحيد الذي يمتلك هذه المواصفات.(59/70)
ولا يستطيع عقل الانسان أن يأتي بمثل القرآن. كما قال سبحانه: { قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ
الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } (الاسراء/88).
ولقد صرح العلماء بأنه لا إلزام في الأمور الخلافية المستندة إلى الأدلة الظنية ولا إنكار. ولأن العلماء يختلفون في العقول فهم مختلفون في المعقول. فلا يصح أن يلزم الناس بالإيمان بما اختلفت فيه العقول، ويجعل من الأصول.
هذا كله من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن العقل لايمكن أن يثبت إلا قضايا عامة كالنبوة مثلاً. ولا يمكن له أن يثبت المطلوب الخاص لتلك القضايا العامة. وهو في المثال المضروب نبوة شخص بعينه.
إن إثبات القضايا العامة غير معتبر شرعاً دون إثبات المطلوب الخاص من تلك القضايا. فلو قال إنسان: أنا أؤمن بأن لله تعالى أنبياء. لكنه لم يثبت أو يؤمن بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. فإيمانه هذا غير معتبر شرعاً. ويظل هذا الإنسان خارج نطاق الإسلام (أي كافراً) ما لم يثبت المعنى الخاص (نبوة محمد) لذلك المعنى العام (النبوة).
وهذا المعنى الخاص يعجز الإنسان أن يتوصل إليه جزماً بالنظر العقلي وحده. دون النص الشرعي. إذن النظر العقلي لا يمكن له أن يثبت الأصول الشرعية. لأن غاية أمره أن يثبت قضايا عامة غير معتبرة شرعاً دون القضايا الخاصة. التي لاتثبت الا بالنص الشرعي.
هذا على فرض أن العقلاء جميعاً يقرون بالنبوة. وإلا فإن كثيراً من العقلاء والفلاسفة والعلماء ينكرونها اعتماداً على عقولهم.(59/71)
والعقل يمكن أن يثبت كبريات الأصول الاعتقادية كالألوهية والنبوة والمعاد. لكنه لا يمكن أن يثبت أصولاً أخرى ضرورية في اعتبار الإيمان، كالاعتقاد بالملائكة مثلاً. وكذلك لا يتمكن العقل من إثبات عامة الأصول العملية. كالصلاة والزكاة والحج والصيام. وهذه الأصول من دونها لا يعتبر الإيمان. ولا يدخل إنسان في الإسلام.
فالاجتهاد أو النظر العقلي لا يمكن به لوحده -دون النص الشرعي- أن نتوصل إلى مطلوب الشرع من الأصول.
16. وظيفة القرآن والسنة والاجتهاد
وهنا يمكن تحديد الوظيفة الخاصة بكل من القرآن والسنة والاجتهاد.
إن وظيفة القرآن الخاصة هي تأصيل أساسيات الدين وأصوله.
ووظيفة السنة تأكيد هذه الأصول وتفريعها.
أما وظيفة الاجتهاد فتحصيل الأحكام الشرعية في الأحوال الآتية:
فقدان النص القرآني أو النبوي.
إذا كان النص ظنياً في دلالته أو ثبوته مع الانتباه الى أن ظنية الثبوت تخص السنة وحدها لأن الكتاب قطعي الثبوت.
تنزيل الأحكام على مواردها. وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان والأعيان.
17. القرآن جمع الأدلة العقلية والنقلية
من الحقائق العظيمة التي يذهل الكثيرون عن إدراكها أو تطبيقها رغم وضوحها وتكرر ورودها في القرآن: أن القرآن العظيم يقيم أقوى الأدلة العقلية على صحة دعاواه الإيمانية.
إنه خطاب موجه إلى الكفار أولاً قبل أن يكون للمؤمنين. لذلك خاض صراعاً طويلاً مع المكذبين. حتى أقنعهم بصحة ما يدعوهم إليه بقوة حججه وبراهينه العقلية. وجاءت عشرات الآيات تخاطب العقل وترشد إلى استعماله وعدم تعطيله. وتذم تجميده والاستعاضة عنه بالتقليد.
قد يأتي التعبير عن العقل أحياناً باللب، وأحياناً بالقلب أو الفؤاد، وأحياناً بالفكر أو البصر والنظر ….الخ. ناهيك عن الفاظ العلم والبرهان، وما شابه. وكلها من متعلقاته. إضافة الى اشتقاقات لفظ العقل نفسه. وقد تكرر ورودها في القرآن ما يقرب من خمسين مرة!(59/72)
وأنا أعجب أشد العجب من مسلم - لاسيما اذا كان عالماً - يقول: كيف نحتج بالقرآن على من لا يؤمن به؟!
ويشتد العجب حين يوظف هذه الحجة المغلوطة مع المؤمنين ليترك آيات القرآن ويدور النقاش بعيداً عنه وكلا الطرفين مؤمن بصحته!!
وهذه مغالطة كبيرة جداً من وجهين:
1. إن النقاش عادة ما يدور بين المسلمين أنفسهم. فيفترض فيهم عدم حاجتهم في إنشاء الإيمان، وتثبيت الأصول الى الأدلة العقلية المجردة. ما داموا يؤمنون مسبقاً بصحة القرآن وأنه مصدر الهداية الذي أنزله الله { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } (البقرة/213).
إن دور الأدلة العقلية بالنسبة للمسلم ينحصر في زيادة الاطمئنان لا إنشاء الايمان. كما أخبر الله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام - أنه قال: { رب أرني كيف تحيي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } (البقرة/260). إلا إذا افترض أو اعتبر أحد الطرفين نفسه أنه خارج دائرة الإيمان.
2. إذا افترضنا أن النقاش مع طرف كافر، فالقرآن غير قاصر في إيراد الحجج العقلية أو المنطقية. ولا نحتاج الى غيره في ذلك، إلا على سبيل التوسع والاستطراد. لأن القرآن جمع أمهات الحجج العقلية وأصولها.
انظر إليه كيف يستعمل دليل الخلق لإثبات الربوبية. ودليل الربوبية لإثبات أصل الألوهية بأوجز عبارة: { اعبدوا ربكم الذي خلقكم } (البقرة/21). فالله هو الخالق. إذن هو الرب. وبما أنه هو الرب لا غيره، فهو الاله المعبود الذي لا اله الا هو.
ثم فصل أكثر في براهين الربوبية فقال: { الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء… } (البقرة/22). وهكذا تأتي الآيات لتصب في الهدف نفسه: { هل من خالق غير الله } (فاطر/3). { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } (الطور/35). { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } (آل عمران/190).(59/73)
ثم انظر إليه مرة أخرى لترى كيف استعمل دليل العقل لإثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدق رسالته فقال: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } (البقرة/23). وفيه أمران: (مانزلنا) وهو القرآن. و(عبدنا) وهو الرسول. وكلاهما متلازمان. فإذا زال الريب عن (المنزَّل) زال الريب عن (المرسَل). فصحة أحدهما دليل على صحة الآخر.
فما هو الدليل العقلي الذي يزيل الريب عنهما معاً؟ قال: { فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله… } فإذا عجزتم عن محاكاة سورة واحدة من مثله ثبت الإعجاز فزال الريب. وذلك بدليل عقلي في غاية الإيجاز والإعجاز!
فتحصل لنا من مجموع هذه الآيات الثلاث من سورة البقرة لحد الآن ثلاث قضايا اعتقادية كبرى إخبارا وإثباتا: صحة التوحيد، والنبوة، والقرآن. وبقيت قضية رابعة كبرى ألا وهي الايمان باليوم الآخر. فاكتفى بالإخبار عنها دون إقامة البرهان العقلي عليها لعدم الحاجة الى دليل على صحة المخبَر به (اليوم الآخر) بعد قيامه على صحة الخبر (القرآن) والمخبِر (الرسول) فقال: { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار } (البقرة/24).
وهذا مع الكافرين فكيف يجب أن يكون الحال مع المؤمنين؟! وكيف يقال: إن حجة الله في القرآن لا تقوم على غير المؤمنين؟! ثم يستعمل هذا القول لعزل القرآن عن دائرة اهتداء المسلمين. وتؤسس أصول الدين بعيداً عن كتاب رب العالمين. فما عاد القرآن حجة لا على الكافرين ولا على المسلمين؟!
فحجةً على مَن؟ أنزله الله إذن!
وأين نجد حجة الله التي نص عليها بقوله: { قل فلله الحجة البالغة } (الأنعام/149). إذا لم نجدها في كتابه؟!
ورسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلى من يوجه خطابه الذي أمره الله به بقوله: { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } (الكهف/29). أللمسلمين وحدهم؟!(59/74)
والحق المذكور في الآية ما مصدره؟ أغير الله وآياته؟! { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } (الجاثية/6).
أمَا قال الله تعالى عن رسوله: { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ } (النمل/91،92).
بلى إن الحق الصادر من الرب هو القرآن. وهو الحجة البالغة. ونحن مأمورون
باتباعه وتبليغه والاحتجاج به. { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } (الكهف/29).
وليس هذا الغاءاً للحجج العقلية، حاشا وكلا. بل القرآن نفسه يأمر بها. وإنما هو اعتراض على إلغاء دور القرآن في مقابل ما أسموه بالعقل. فكأن القرآن في ناحية والعقل في ناحية. وأنت إما أن تختار هذا أو هذا!! وكأن القرآن ليس فيه حجة عقلية! وهو أضعف من أن يأتي بالبراهين والأدلة المنطقية. التي تلزم الكافرين والملحدين بصحة ما يقول ويدعي؟! فيحتاج الى من يتفضل عليه بالحجج التي تثبت دعاواه وينطق بما عجز هو عن الإفصاح عنه!!
هذا من أكبر البهتان ! وقد يكون من لوازم الكفران !! وإن كان صاحبه معذوراً
لقصده الحسن وعدم تصور لوازمه الفاسدة.
يقول تعالى: { إِنَّ هَذَا القرآن يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } (الإسراء/ 9). وهذا في كل شيء. و الحجج العقلية داخلة في هذه الكلية. إذ لهذا القرآن منها النصيب الأوفر والأقوم.
ويقول: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } (العنكبوت/51،52).
وهذا مع الكافرين. فكيف مع المؤمنين؟!(59/75)
فمن أين جاءت الأسطورة القائلة بأن القرآن ليس حجة على غير المؤمنين. وأنه لا بد من الدلائل العقلية بمعزل عن القرآن. وأن الحجة في العقل وحده دون القرآن. ثم توظف هذه الأسطورة مع المسلمين ليكون نقاشهم واهتداؤهم خارج دائرة نور القرآن؟!
وصدق الله تعالى إذ يقول: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ -إلى قوله- فالذينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } (الأعراف/157،156).
18. أصول الباطل استنباطية لا نصية
إن الديانات الباطلة كاليهودية والنصرانية لم ترد أصولها ومبادئها منصوصا عليها في كتبها المنزلة. إنما هي أمور استنتجوها، ومعان استنبطوها من خلال النصوص، أو الأدلة المتشابهة، أو الأخبار والدعاوى الكاذبة. في مقابل النصوص المحكمة المعارضة!
وأول من ترك النص المحكم، واعتمد على الاستنباط من المتشابه إبليس. إذ استنبط خيريته على آدم- عليه السلام - بقوله: { أنا خير منه } (الأعراف/12). من دليل متشابه بقوله: { خلقتني من نار وخلقته من طين } (الأعراف/12). وترك السجود لآدم مع أن النص الآمر به محكم: { اسجدوا لآدم } (الأعراف/11).(59/76)
ثم جرب ابليس استعمال الرواية الموضوعة لاستزلال آدم - عليه السلام - وزوجته حواء. ودلس في نسبتها الى الله تعالى.فقال لهما : { مانَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ } (الأعراف/20). ووثَّق هذه الرواية المكذوبة على الله بالقسم: { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ } (الأعراف/21). وما كان لآدم- عليه السلام - أن يصدق بهذه الرواية، وهي معارضة لنص محكم واضح بالنهي عن الأكل من الشجرة، صادر من الله. ألا وهو: { وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ } (الأعراف/19). وفي سندها شخص مجروح من قبل الله وهو إبليس. الذي أخرجه الله من الجنة لرفضه السجود لآدم قائلاً له: { اخْرُجْ إنك مِن الصاغرين } (لأعراف:13).
وهذا مصير كل من ترك النص المحكم واتبع المتشابه، والرواية المعارضة للنصوص المحكمة من علماء السوء وأتباعهم.كما قال تعالى يحكي عنهم قولهم يوم القيامة: { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيراً } (الاحزاب/67،68).
وصدقت بنو اسرائيل برواية السامري. وعبدت العجل بالمتشابه. وتركت النصوص المحكمة الواضحة بعبادة الله وحده لا شريك له. وادعت أن عزيراً ابن الله. وحجتهم أنه بعث بعد مائة عام من موته. كما ادعت النصارى أن المسيح ابن الله وعبدوه من دون الله. واحتجوا لذلك بكونه قد وُلد من غير أب، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. وتركوا محكم التنزيل في كونه عبداً لله. كما أخبر تعالى عنه في أول كلمة نطق بها وهو في المهد: { قَالَ إِنِّي عَبدُ اللَّهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيا } (مريم/30).(59/77)
ولا شك في أن هذه العقائد ما هي إلا استنباطات من متشابه الأدلة في مقابل النصوص
المحكمة. ليس عليها نص واحد أو قول صريح في دلالته. ولذلك يقول تعالى يوم القيامة لعيسى بن مريم- عليه السلام - : { يَاعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَن اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } (المائدة/166-117). فالله تعالى يسأل عيسى: { أَأَنتَ قُلْتَ } أي أأنت نصصت وقلت بنص ما ادعوه؟ أم هم ادعوا ذلك؟
فما دام النص الصريح مفقوداً لديهم فالاستنباط لا تقوم لهم به حجة في مثل هذه الأمور العظيمة.
وهكذا كان شرك العرب بالاستنباط لا بالنص كما قال تعالى: { أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } (الزمر/2).
وقال: { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ - إلى قوله - أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } (الروم/33-35).(59/78)
والسلطان هو الحجة. وقد جعل الله لها شرطين: أن تكون نازلة من عند الله. وأن تكون هي التي تتكلم. والسلطان النازل المتكلم بنفسه (هو يتكلم) إنما هو آيات الله المحكمة الصريحة التي لا تحتاج الى أمر من خارجها يقوّلها، أو يعبر هو عن مقصدها.
وقال: { أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى -إلى قوله- إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } (النجم/19-23). والظن هو الرأي الذي لا سند له إلا الحجج المشتبهة. والسلطان النازل هو الآية الصريحة المحكمة.
إذن أصول الدين لا تنبني على الاستنباط . وإنما على النص الصريح. ولذلك لم يعذر الله اليهود والنصارى والمشركين في ما اعتقدوه رغم قيامه على مقدمات ونصوص محتملة.
إذن فكل (أصل) أُثبت بالاستنباط فهو باطل. وبمثل هذا ضلت الفرق والطوائف
والأديان المختلفة.
19. استنباط الأصول أسلوب الفرق الضالة كلها
لا توجد فرقة انتسبت الى الاسلام - مهما كانت - إلا واحتجت لأصولها بنصوص من القرآن ! ولكن على طريقة الاستنباط دون النص.
إن بعض النصوص المنزلة حمالة أوجه أو مشتبهة كما قال تعالى: { وَأُخَرُ متَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } (آل عمران/7).
والمشكلة أن أكثر الناس لا يكتشف الفرق -أوالمسافة الفاصلة- بين النص نفسه والمعنى المستنبط منه. مع أنهما قد يختلفان الى الضد تماماً! وتكفي المسافة الفاصلة بينهما لأن يتسلل الخطأ من خلالها سهواً أو عمداً!(59/79)
ولا خلاف بين الأصوليين في صحة استعمال الاستنباط في الفروع لأن عامة أدلتها ظنية. وهو أساس الاجتهاد الذي انقسم الناس بموجبه الى مجتهدين ومقلدين كما قال تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً } (النساء:83).
وبما أن أصول الدين نصوصها جميعها قطعية لا ظنية، فلا اجتهاد فيها ولا استنباط.
فكل فرقة استعملت الاستنباط في تأسيس أصولها فهي فرقة ضالة منحرفة.
أمثلة على الفرق وكيف تركت النص واعتمدت على الاستنباط :
القدرية: احتجوا على نفي القدر بقوله تعالى: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } الدهر/3 وهذا استنباط وليس نصاً في نفي القدر.
الجبرية: عكسوا الامر فنفوا اختيار العبد وارادته وجعلوه مجبوراً محتجين بقوله تعالى: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } الدهر/30 وهذا استنباط كذلك.
والآيتان في سورة واحدة !
الجهمية المعطلة لصفات الله: احتجوا بقوله تعالى: { ليس كمثله شيء } الشورى/11 فقالوا: لا يوصف الله بشيء من الصفات وإلا كان له مثيل. وهذا استنباط معارض للنصوص الكثيرة جداً في وصف الله تعالى. والآية نفسها تنتهي بقوله تعالى: { وهو السميع البصير } !! فاتبعوا المتشابه وتركوا النص المحكم.
والمشبهة المجسمة: عكسوا الامر فاحتجوا بقوله تعالى: { يد الله فوق أيديهم } الفتح/10 على أن لله يداً كيد المخلوق ووجها كوجهه وجسماً كجسمه { سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيرا } الاسراء/43.(59/80)
والحلولية: الذين قالوا إن الله في كل مكان بذاته احتجوا بقوله: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَْرْضِ إِلَهٌ } الزخرف/84
والثنوية: قالوا بوجود إلهين. واحد في السماء وواحد في الأرض محتجين بالآية نفسها! كما نطق باسمهم أبو شاكر الديصاني.
والمنصورية (اتباع أبي منصور العجلي): أحلوا الخمر وسائر المحرمات محتجين بقوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا } المائدة/93 وقد جاءت هذه الآية بعد آية تحريم الخمر مباشرة! قالوا: إن المهم هو الإيمان والتقوى. فمن كان مؤمناً تقياً فلا إثم عليه فيما يأكل ويشرب!
والخطابية: (اتباع أبي الخطاب الأسدي): أحلوا جميع المحرمات وتحللوا من الفرائض محتجين بقوله: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } النساء/28 مع مجاورته لقوله تعالى: { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً } النساء/27
والخوارج: كفروا علياً وعثمان ومعاوية وبقية الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وحجتهم قول الله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } المائدة/44 ولا شك أن هذا ليس نصاً في كفرهم وحلية دمهم. فما قالوه استنباط من متشابه.
والسبئية: ألهوا علياً وقالوا برجعته بعد مماته محتجين بقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } القصص/85 وبقوله: { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأْرْضِ تُكَلِّمُهُمْ } النمل/82 قالوا: أن علياً هو الدابة .(59/81)
والكيسانية: قالوا بإمامة محمد بن الحنفية وغيبته ثم رجعته. وهم أول من قال (بالبداء) من الفرق محتجين بقوله تعالى: { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } الرعد/39
والتناسخية والحلولية: احتجوا بقوله تعالى: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } الحجر/29 قالوا: إن روح الله حلت في آدم وحلت في عيسى ثم قاسوا الأمر فقالوا بحلولها في محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم (الأئمة).
والمغيرية: طعنوا في أبي بكر وعمر محتجين بقوله تعالى: { وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } الأحزاب/72 قالوا: هو أبو بكر وان المقصود بقوله تعالى: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإْنسَانِ اكْفُرْ } الحشر/16 قالوا: هو عمر.
وقد استعمل الخوارج الاسلوب نفسه للطعن في علي فقالوا: هو المقصود بقوله تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } البقرة/204 وقالوا: إن ابن ملجم هو المقصود بقوله بعدها: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } البقرة/207.
وكذلك الرافضة: اتبعوا الاسلوب نفسه في ذم الصحابة وتكفيرهم في مقابل الغلو في علي وذريته! فقالوا: إن مقصود الله تعالى بقوله: { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى } أبو بكر وعمر وعثمان - الكافي للكليني1/426
وإن معنى قوله: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإْيمَانَ } الحجرات/7 علي والأئمة.
{ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } أبو بكر وعمر وعثمان. -الكافي 1/426 .
و { عم يتساءلون عن النبأ العظيم } النبأ/1-2 ولاية علي - الكافي1/418(59/82)
و { الْيَوْمَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } المائدة/3 كمال الدين بولاية علي -الكافي1/290.
وهو أسلوب الخوارج نفسه في مدح ابن ملجم وذم علي - رضي الله عنه -.
إن هذه التأويلات متحررة من كل ضابط أو قيد لغوي. بحيث يستطيع أي إنسان أن يحتج بأي نص، على أية فكرة أو عقيدة، بعد إذ لم يعد لدلالة الألفاظ من قيمة.
ولكنها على كل حال تعتمد على الآيات استنباطاً لا نصاً. فمن أراد النجاة فعليه باتباع النصوص والنصوص وحدها دون الاستنباط وإلا ضل وأضل وكان { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } الروم/32.
20. أصولنا نصية لا استنباطية
هذه أهم أساسيات ديننا وأصوله. وعلى كل أصل نصوص كثيرة صريحة لا تحتاج إلى تفسير أو رواية أو استنباط :
وحدانية الله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } محمد/19، { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }
آل عمران/2 ، { إنما الله اله واحد } النساء/171…..الخ.
نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم - : { وما محمد إلا رسول } آل عمران/144 { محمد رسول الله } الفتح/29…الخ.
الإيمان باليوم الآخر: { وبالآخرة هم يوقنون } البقرة/4 { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ
يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ } الحج/7. { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأْجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } يس/51 .
الايمان بالرسل: { لِئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } النساء/165 { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } البقرة/253 { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } البقرة/285 { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } آل عمران/179.(59/83)
الملائكة: { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } النبأ/38 { تعرج الملائكة والروح اليه } المعارج/4 { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ } آل عمران/18.
الكتب: { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأْولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } الاعلى/18-19 { وأنزل التوراة والإنجيل } آل عمران/3 { وآتينا داود زبورا } الاسراء/55 { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } البقرة/285.
القدر: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } القمر/49 { وكان أمر الله قدرا مقدورا } الأحزاب/38 { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } الفرقان/2 { والذي قدر فهدى } الأعلى/3 { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } فصلت/10.
حفظ القرآن: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافظُونَ } الحجر/9 { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } الكهف/27.
القرآن مصدر الهداية والتشريع: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } البقرة/2 { وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } البقرة/213 { وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } سبأ/50.
السنة النبوية هي المصدر الآخر للتشريع: { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } الحشر/7 { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } النساء/80 { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } النجم/3-4.(59/84)
اتباع المهاجرين والأنصار ووجوب التمسك بهم ومحبتهم وعدالتهم: { وَالسَّابِقُونَ الأْوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } التوبة/100 { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } آل عمران/110 { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } الأنفال/74 { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } الفتح/18.
تلك أهم أصول اعتقادنا وهذه أهم أصول أعمالنا وعباداتنا:
الصلاة: { ويقيمون الصلاة } البقرة/3 { أقم الصلاة } الإسراء/78…الخ
الزكاة: { وآتوا الزكاة } البقرة/110 { الذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأْرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ } الحج/41
الصيام: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } البقرة/183 { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } البقرة/187 { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأْبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأْسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } البقرة/187 { وأن تصوموا خير لكم } البقرة/184
الحج: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ }
آل عمران/97 { وأتموا الحج والعمرة لله } البقرة/196 { وأذن في الناس بالحج } الحج/27 { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } البقرة/158.(59/85)
الجهاد: { وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } التوبة/41 { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } التوبة/111 { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ) التوبة/13 { قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ } التوبة/123.
تحكيم الشريعة: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } الجاثية/18 { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } النساء/105 { وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } المائدة/49.
تحريم القتل: { وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } الاسراء/33 { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } المائدة/32.
تحريم الزنا: { ولا تقربوا الزنا } الاسراء/32 { وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الفرقان/68-69.
تحريم الربا: { وأحل الله البيع وحرم الربا } البقرة/275 { اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } البقرة/278،279.(59/86)
تحريم السرقة: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } المائدة/38 { إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } يوسف/77 { يَا أَيهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ } الممتحنة/12.
تحريم الخمر والميسر: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأْنصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } المائدة/90.
هذه أهم أصولنا الإعتقادية والعملية. وقد جاءت النصوص عليها واضحة جلية لا مجال فيها للاختلاف او الاجتهاد. ولم تثبت بالرواية أو الاستنباط .
فكل من أثبت أصلاً اعتقادياً او عملياً، فعليه بالنص القرآني القطعي الدلالة. وإلا فإن الاستنباط والاستنتاج من متشابهات الآيات، أو طبقاً الى ضعيف الروايات لا يعجز عنه أحد. كما مر بنا مع الفرق المنحرفة. بل اليهود والنصارى والمجوس احتجوا بمثل ذلك!! كما سيأتي بيانه.
21. أصول الدين جميعاً آياتها صريحة محكمة
إذا استقرأت أصول الدين وأساسياته، تجدها جميعاً تشترك في أمر لا يتخلف. ألا هو استنادها الى صريح نصوص الآيات القرآنية المحكمة الواضحة القطعية الدلالة التي لا لبس فيها ولا اشتباه أو احتمال لغير معنى واحد محدد. وذلك حتى لا يكون الدين في أساسه مشتبهاً مشكوكاً فيه، لا يمنح أهله الاستقرار واليقين.
فمن أضاف إلى الدين (أصلاً) وألزم الناس بالإيمان به، فعليه أن يثبته بالنص القرآني القطعي الدلالة. وإلا كان من الزائغين { الذين يتبعون ما تشابه منه } (آل عمران/7).
22. الأصول ضرورية لحفظ الدين والدنيا(59/87)
إن هذه الأصول -سواء كانت اعتقادية أم عملية- إنما شرعها الله تعالى وأوجب الإيمان بها، لأنها ذات أثر فعال في حياة الإنسان الدينية والدنيوية. وتترتب على وجودها مصالح ضرورية. ويتسبب فقدانها في اختلال الدين واضطراب الحياة.
فالإيمان بألوهية الله ووحدانيته هو أصل الدين الأول الذي لا معنى للدين ولا وجود له إلا به.
ووجود الرسول لا بد منه لمعرفة الشرع والعمل به. إذ هو الواسطة الضرورية لنقل الدين بين الحق والخلق. وهو القدوة المعصوم اللازم للتأسي والاقتداء.
وأما اليوم الآخر فلولا الإيمان به لم يكن من عمل صالح -إلا القليل- فما نراه من خير فيها فإنما –في غالبه- بسب الخوف من الحساب والطمع في الثواب.
ولك أن تتصور ديناً لا وجود فيه لإله أو نبي أو حساب، لتتجلى لك عظمة هذه الأصول ومدى الحاجة اليها !!
وكذلك أركان الإسلام العملية كالصلاة والزكاة وكذلك الجهاد. فيها مصالح لا يمكن الاستغناء عنها. ولذلك أمر الله بها. وجعل منكرها كافراً خارجاً من الملة.
وكذلك أصول المنكرات والموبقات كالقتل والزنا والسرقة والخمر والربا. لو لم يحرمها الله لترتب على تحليلها خراب الدين والدنيا.
ولو لم تأت هذه الأمور بالنص القرآني الجلي السالم من الاحتمال، لاختلف الناس فيها إثباتاً ونفياً. فيقع الفساد وتضطرب الحياة ديناً ودنيا.
وكذلك كل أمر يتولد من الاختلاف فيه الاختلال والفساد، يأتي ذكره في القرآن ويبين فيه بياناً شافياً يمنع من الاختلاف. حتى لو كان دنيوياً بحتاً. ولهذا جاءت مسائل الإرث فيه مفصلة واضحة. لأن الاختلاف في مثل هذه المسألة التي تعم بها البلوى يؤدي إلى خراب البيوت، وتقطيع الأواصر، وتفرق المجتمع.
وهذا يعني أن أساسيات الدين لا تفرض لمجرد الابتلاء. وإنما لا بد من انتفاع الناس بها انتفاعاً ينبني على عدمه انعدام كثير من المصالح ووجود كثير من المفاسد.(59/88)
وهذا يستلزم قطعية الدليل المثبت له من جهة. وبطلان كل أصل لا تلزم من وجوده مصلحة من جهة أخرى.
23. جميع الفرق والأديان يحتجون بالقرآن
يقول تعالى: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } (البقرة/26).ويقول: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتَّقِينَ } (البقرة/2).
فهذا القرآن مصدر ضلال للفاسقين حين يتركون محكمه. ويهلكون عند متشابهه. ومصدر هداية للمتقين يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه.
قال تعالى: { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قرآنا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } (فصلت/44).
ولذلك فإن الفرق كلها تحتج بآيات القرآن. فمجرد الاحتجاج بالآية ليس دليلاً على الحق والهداية. ما لم يكن الاحتجاج بمحكم الآيات دون المتشابهات.
حتى اليهود والنصارى يحتجون لصحة دينهم بآيات القرآن! كما احتج وفد نصارى نجران على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصحة التثليث بقوله تعالى: (قضينا) و(أمرنا) و(إنا) و(نحن). قالوا: إن المتكلم جماعة وليس واحداً. فاتبعوا متشابه الألفاظ . لأن التعبير بضمير الجمع يحتمل أن يكون المتكلم جماعة، ويحتمل أن يكون فرداً ويأتي التعبير للتفخيم. وتركوا المحكم كقوله تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } (البقرة/163). فأنزل الله تعالى فيهم قوله: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } (آل عمران/7).(59/89)
من الآيات التي يحتج بها اليهود والنصارى:
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } (آل عمران/55). قالوا: إن النصارى- أتباع المسيح فوق الذين كفروا وليسوا منهم.
{ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } (آل عمران/113-115) قالوا: فنحن -اليهود والنصارى- من الصالحين لا من الكافرين.
وظاهر الآيات فيه اعتراف بدينهم، ومدح لهم وأن أعمالهم مقبولة عند الله دون اشتراط الدخول في دين الاسلام. ولا شك أن هذا المعنى تحتمله الآيات السابقة. لكنه يعارض محكم الآيات التي تشترط الايمان بنبوة محمد- صلى الله عليه وسلم - . فهو باطل إذن. فلا يصح اتباعه وترك المحكم.
24. حجج أهل الكتاب أقوى في دلالتها من حجج الفرق المنحرفة
من عجائب الأمور أنك إذا تأملت الحجج القرآنية التي استدل بها اليهود والنصارى -وجدتها أقوى في دلالتها مقارنة بما يقابلها من حجج جميع الفرق التي جانبت الصواب وخرجت عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - !
وبهذا يظهر بطلان أصول هذه الفرق. وذلك من وجهين:
تشابه أسلوب الفريقين في الاحتجاج. إذ كلاهما يتبع المتشابه ويترك المحكم.
تفوق أدلة الفريق الأول (اليهود والنصارى) على أدلة هذه الفرق!(59/90)
فكيف يؤسس دين (المؤمنين) على أدلة بمثلها يصح دين الكافرين؟!! وسيأتي التدليل على هذه القاعدة في موضعه إن شاء الله تعالى(1).
خلاصة القواعد التأصيلية
1- الإسلام دين أساسه اليقين.
2- أصول الدين وأساسياته يقينية قطعية.
3- الدليل الأصولي إذا تطرق إليه الظن، أو الاحتمال، بطل به الاستدلال.
4- الأدلة الظنية الاحتمالية مجالها الفروع، وليس الأصول.
5- أصول الحق يقينية قطعية.
6- أصول الباطل ظنية احتمالية.
7- كل أصل دليله ظني ليس بأصل.
8- وظيفة القرآن تأسيس الأصول دون الفروع.
9- كل آية متشابهة متعلقة بالأصول، لا بد أن يكون لها أمّ من المحكم، وإلا بطل تعلقها بها.
10- كل أصل قام على آية متشابهة لا أم لها من المحكم ليس بأصل.
11- جميع الأصول منصوص عليها صراحة في القرآن، بالنص القطعي المحكم.
12- القرآن احتوى أصول الدين جميعا، بالنصوص القطعية المحكمة.
13- القرآن هو المرجع الوحيد في تأسيس الأصول.
14- النص القرآني القطعي الدلالة، المستغني عن الشرح والتفصيل، والتفسير والتأويل، والرواية والحديث، وأي تدخل بشري آخر- مرجعنا في الأصول.
15- مرجعيتنا في الأصول قرآنية إلهية، لا علمائية بشرية.
16- القرآن محفوظ لفظاً ومعنى. وليس لفظاً فقط.
17- لا تقليد في الأصول ولا اجتهاد.
18- كل أصل أثبت بالشرح، وليس بالنص القرآني القطعي المحكم ليس بأصل.
19- وظيفة (السنة) تأكيد الأصول القرآنية وتفريعها، لا تأسيسها.
20- كل أصل أثبت بـ(السنة) أو الرواية، دون النص القرآني القطعي المحكم،ليس بأصل.
21- كل أصل أثبت بالتفسير أو التأويل، دون النص القرآني القطعي المحكم، ليس بأصل.
22- العقل لا يستقل بتأسيس الأصول، دون النص القرآني القطعي المحكم.
23- كل أصل أثبت بـ(العقل)، دون النص القرآني القطعي المحكم، ليس بأصل.
__________
(1) انظر لاحقاً في فصل (الإمامة) موضوع (الإمامية أضعف حجة من اليهود والنصارى).(59/91)
24- القرآن جمع أمهات الأدلة العقلية والنقلية.
25- وظيفة المجتهد ميدانها الفروع. وليس لها علاقة بدائرة الأصول.
26- أصول الحق نصية لا استنباطية.
27- أصول الباطل استنباطية لا نصية.
28- كل أصل أثبت بالاستنباط ليس بأصل.
29- الاستنباط هو الوسيلة الوحيدة، والقاسم المشترك لجميع الفرق الزائغة في إثبات الأصول.
30- كل فرقة تثبت أصولها بالاستنباط، دون النص القرآني القطعي المحكم فرقة ضالة زائغة.
31- إثبات الأصول بالاستنباط، دون النص الصريح علامة الضلال الواضحة، ودليله
الأكيد بلا شك.
32- أصولنا نصية لا استنباطية.
33- الأصول ضرورية لحفظ الدين، وتحقيق مصالح الدنيا.
34- كل أصل لا تتوقف عليه مصلحة دينية أو دنيوية معتبرة ليس بأصل.
35- الطائفة الناجية:هي الطائفة التي أقامت أصولها على النصوص القرآنية القطعية المحكمة. ولم تنفرد بأصل زائد عن أصول الدين التي ثبتت بالنصوص القرآنية الصريحة.
36- الأصل الجامع للطوائف الضالة: أن أصولها -التي انفردت بها عن الطائفة الناجية- لم تقم على النصوص القرآنية القطعية المحكمة.
37- في القرآن ما يمكن الاحتجاج به لجميع الطوائف والأديان.
38- الاحتجاج بمطلق آيات القرآن، ليس دليلاً على صحة حجة المحتج، أو مذهبه.
39- الاحتجاج بالنص القرآني القطعي المحكم، هو الدليل على صحة حجة المحتج ومذهبه.
40- حجج أهل الكتاب القرآنية أقوى بمراتب من حجج الطوائف الضالة على أصولها.
خلاصة المنهج القرآني في تأسيس أصول الدين
الأصل الشرعي المعتبر: هو ما ثبت بالنص القرآني القطعي المحكم، المستغني عن الشرح والتفصيل، والاستنباط والتفسير والتأويل، والرواية والحديث، وكل تدخل بشري آخر. وما لم يكن كذلك فباطل وضلال.
الباب الثالث
الأصول
بين المنهج القرآني و المنهج الإمامي
الفصل الأول
منهج القرآن
في عرض أصول الدين وإثباتها(59/92)
يتبين من خلال استقراء القرآن أن الله تعالى أثبت هذه الأصول في كتابه بالنصوص الصريحة القطعية الدلالة التي لا تحتاج إلى تفسير يوضحها، أو رواية تعضدها، أو رأي يقوي دلالتها ويسندها.
ولم يغفل القرآن ذكر أي مسالة من المسائل الضرورية والأساسية. وهي المسائل التي لا يصح التسامح فيها أو الاختلاف عليها. للزومه الفساد في الدين والدنيا. بل جاء مستوعباً لها بلا استثناء. كما أخبر تعالى فقال: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (النحل/89). ولا شك أن هذه الكلية أو التعميم، إنما يقصد به الأساسيات والأصول. وإلا فإن عامة الفروع غير مبينة فيه -كما أسلفنا-
إن هذه المسائل الأساسية تنقسم إلى قسمين: قسم يدخل في باب الإيمان والعقيدة. وقسم آخر يدخل في باب الأعمال والشريعة. وهذا يقتضي أن أتناول بالبحث منهج القرآن فيهما كلاً على حدة.
المبحث الأول
منهج القرآن في إثبات أصول العقيدة
أركان الإيمان التي يدور حولها الإسلام ستة. ونستطيع أن نجمعها في ثلاثة أركان. هي أصولها ولبابها: وحدانية الله تعالى. ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - . واليوم الآخر. إذ القدر يدخل في باب الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة والكتب يدخلان في باب النبوة.
وهذه الثلاثة هي محور الصراع الفكري بين الإسلام وخصومه. وعليها دارت دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - . وآيات القرآن الكريم في مكة خصوصاً . فكيف أقام القرآن الأدلة
القطعية على صحتها؟
يتبين من خلال الاستقراء التام لمعرفة المنهج القرآني في إثبات العقيدة أن القرآن
الكريم يتبع المنهج الأتي:
الإخبار
إذ يذكر القرآن الكريم هذه الأصول ويخبر عنها بالنصوص القطعية التي تصرح بأنه لا اله إلا الله. وأن محمداً رسول الله. وأن الساعة آتية لا ريب فيها. وهكذا بقية الأصول.
وينقسم الإخبار إلى قسمين: أ. أمر بالإيمان ... ب. نهي عن الكفران.(59/93)
بغض النظر عن صيغة الأمر والنهي.
الإثبات
إذ لا يكتفي القرآن بتقرير الحقيقة والخبر المجرد عنها. حتى يضيف إلى ذلك إقامة البرهان العقلي على صحة الخبر. فالنصوص في هذا الباب ليست أخباراً مجردة. وإنما هي أخبار برهن الله تعالى على صدقها بالدليل العقلي.
التكرار
وبين الإخبار والإثبات تتكرر الآيات. وتكثر حتى تبلغ المئات. إذ لا يكتفي القرآن في تقرير الأصول بآية أو آيتين. أو نصف آية من هنا وربعها من هناك - كما هو الملاحظ على أدلة الفرق المنحرفة- وإنما يستطرد بمئات الآيات التي تتضافر جميعاً لتؤدي غاية واحدة هي تقرير الأصل الاعتقادي وإثباته صراحة.
القطع والوضوح
وآيات الأصول قطعية الدلالة على الأصل المقصود. بحيث لا يمكن تأويلها أو صرفها إلى معنى آخر. وذلك لوضوح ألفاظها وصراحتها أولاً. ولكثرة الآيات وتضافرها في تأدية المعنى - أو الأصل المقصود - ثانياً.
الأدلة التفصيلية على هذه الحقائق الأربع
1. وحدانية الله تعالى
جاء الإخبار عنها في آيات يعسر حصرها لكثرتها. منها:
{ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } البقرة/255، آل عمران/2
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } الأنبياء/25
{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } محمد/19
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } آل عمران/18
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } الإخلاص/1
وجاء النهي عن الكفر بها في آيات كثيرة. منها:
{ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } النحل/106(59/94)
{ فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأْعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآْخِرَةِ وَالأْولَى } النازعات 23-24
{ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } الكهف/37
{ أَلاَ إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } هود/60
{ أُوْلئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ } الرعد/5
وجاء الإثبات بالأدلة العقلية في آيات كثيرة جداً. منها:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ } البقرة/21
{ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } الطور/35
{ هَلْ مِنْ خَالقٍ غَيْرُ اللَّهِ } فاطر/3
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } الأنبياء/22
وهذه الآيات قطعية الدلالة على وحدانية الله فتحقق الشرطان الآخران: التكرار والقطع.
2. نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -?
جاء الإخبار عنها في آيات لا تحصى. منها:
{ محمد رسول الله } الفتح/29
{ وما محمد إلا رسول } آل عمران/144
{ إنك لمن المرسلين } يس/3
وجاء الإنكار والتحذير من عدم الإيمان بها في آيات كثيرة. منها:
{ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأْرْضُ } النساء/42
{ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } القلم/51
{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً } الفرقان/41
{ يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } محمد/33
وجاء الإثبات بالأدلة العقلية في آيات كثيرة. منها:(59/95)
{ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
البقرة/23-24
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأْقَاوِيلِ لأََخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } الحاقة/44-46
{ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ } الأحقاف/9
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } النحل/103
وهكذا تتوالى الآيات بلا حصر فتكثر،وهي قطعية الدلالة على نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم -. فتحقق الشرطان الآخران التكرار والقطع بوجود رسول اسمه محمد يجب على العالمين الإيمان به من دون أدنى شبهة أو لبس.
3- الإيمان باليوم الآخر
جاء الإخبار عنه في آيات كثيرة جداً. منها:
{ مالك يوم الدين } الفاتحة/3
{ وبالآخرة هم يوقنون } البقرة/4
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا?يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا } النبأ/17-18
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } البقرة/28
وجاء النهي والتحذير من الكفر به في آيات كثيرة منها:
{ وَيلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } المطففين/10-12
{ وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } السجدة/20(59/96)
{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآْخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } الروم/16
وجاء إثباته بالأدلة العقلية في آيات كثيرة كذلك منها:
{ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأْخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } يس/78-82
{ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ-الى قوله تعالى-أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُْنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } سورة القيامة
{ وَيُحْيِ الأَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } الروم/19
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ -الى قوله تعالى- ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ } الحج/5-8
وهكذا عشرات ومئات الآيات الصريحة الواضحة فتحقق الشرطان الآخران التكرار والقطع بوقوع يوم القيامة.(59/97)
المبحث الثاني
منهج القرآن في إثبات أصول الشريعة
يتبين من خلال استقراء القرآن: أن أصول الأعمال وأساسياتها في الشريعة تثبت بأمرين لا بد منهما - إضافة إلى التكرار - هما:
1. الإخبار
2. القطع في الدلالة
أي تثبت بالخبر القرآني القطعي الدلالة. والإخبار ينقسم إلى أمر ونهي.
أما البرهان العقلي فلا حاجة إليه هنا. لأن الأعمال إنما يخاطب بها المسلم الذي آمن ابتداءاً بصحة ما نزل من القرآن. فهو لا يحتاج للعمل بها إلى أكثر من علمه بأن الله كلفه بها.
ولا بد أن يكون الخبر المنشئ لأصل العمل قطعياً في دلالته. لأنها أمور أساسية
ضرورية، لا تقبل الاختلاف. وإلا لزم الفساد.
وأهم الأعمال أركان الإسلام الأربعة: الصلاة والزكاة والصيام والحج تأمل كيف ثبتت أصولها(1) في شريعتنا من خلال القرآن!
الصلاة
الأمر بها : { أقم الصلاة } . وردت خمس مرات في القرآن.
{ أقيموا الصلاة } . وردت تسع مرات في القرآن.
أما بقية تصريفات (أقام) فتبلغ العشرات.
النهي عن تركها : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } الماعون/5-4
{ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ -إلى قوله تعالى- فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } القيامة/24-35
{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى } التوبة/54
{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } مريم/59
__________
(1) أما تفريعاتها فبعضها في القرآن. وبعضها في السنة.(59/98)
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ } الروم/31
{ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } التوبة/5
الزكاة
الأمر بها : { وآتُواْ الزَّكَاةَ } في اثني عشر موضعاً إضافة الى عشرات المواضع بصيغ أخرى كقوله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } المؤمنون/4
النهي عن تركها : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } التوبة/5
{ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } فصلت/6-7
وهكذا ثبت أصل الصيام والحج والجهاد. وغيره من أساسيات دين الإسلام.
وأما أصول المحرمات كالقتل والزنا فالأدلة عليها بالآيات القطعية الدلالة أشهر من أن تذكر. وإن كان ولا بد فلنستشهد بالزنا كمثال:
قال تعالى: { وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } الإسراء/32
{ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } الفرقان/68،69
وغير ذلك من الآيات القطعية الدلالة في تحريم الزنا(1).
الفصل الثاني
النظرية المعرفية الإمامية في إثبات الأصول
المبحث الأول
خلاصة النظرية
تقوم النظرية المعرفية الإمامية في إثبات الأصول على الاجتهاد، أو النظر العقلي المستقل عن النصوص الدينية (الكتاب والسنة) التي يقتصر دورها على تأييد ما ثبت بـ(العقل) أولاً.
يقول الشريف المرتضى:
__________
(1) انظر في تفصيل هذا الموضوع الذي لا غنى عنه لمؤمن يريد معرفة أصول دينه يقيناً وجزماً رسالة [القواعد السديدة في حماية العقيدة] للمؤلف.(59/99)
(إن المعلوم منهم اعتقاد وجوب الإمامة وأوصاف الإمام من طريق العقول والاعتماد عليها في جميع ذلك، وإن كانوا ربما استدلوا بالسمع استظهاراً وتصرفاً في الأدلة)(1).
(إن التواتر عندنا ليس بطريق إلى إثبات أعيان الأئمة في الجملة ووجوب وجودهم في الأعصار، بل طريق ذلك هو العقل وحجته)(2).
(أما وجود الإمام وصفاته المخصوصة فليس يحتاج في العلم بها إلى خبر، بل العقل يدلنا على ذلك على ما بيناه)(3).
(وكل ذلك يبين أنه لا بد من نص قاطع منه عليه السلام في الإمام وصفته وما يقوم به في الجملة. فعندنا أن بيان ذلك غير محتاج إليه، لأن العقول تدل على وجوب الإمامة وعلى صفات الإمام وما يحتاج فيه إليه. وما تدل العقول عليه ليس يجب بيانه من طريق السمع)(4).
ويقول محمد رضا المظفر في كتابه (عقائد الشيعة)(5):
(ذم الله المقلدين لآبائهم بقوله تعالى: { قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(6) شَيئاً } . كما ذم من يتبع ظنونه ورجمه بالغيب فقال: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ)…فلا يصح والحال هذه أن يهمل الإنسان نفسه في الأمور الاعتقادية، أو يتكل على تقليد الآباء أو المربين بل يجب عليه بحسب الفطرة العقلية المؤيدة بالنصوص القرآنية أن يفحص ويتأمل وينظر ويتدبر في أصول اعتقاداته المسماة بأصول الدين التي أهمها التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد.
ومن قلد آباءه أو نحوهم في هذه الأصول فقد ارتكب شططاً وزاغ عن الصراط المستقيم ولا يكون معذوراً حتى لو كان مصيباً في اعتقاده للواقع…).
__________
(1) الشافي في الإمامة 1/98.
(2) أيضاً 1/195.
(3) أيضاً 1/195.
(4) أيضاً 1/127-128.
(5) وهو الكتاب المقرر والمعتمد في تدريس العقائد الإمامية في مدارس الحوزة النجفية. والكتاب نفسه مطبوع باسم آخر هو (عقائد الإمامية).
(6) في الأصل: (لا يعلمون) !!(59/100)
ثم يردف كلامه هذا مباشرة بما يبين اعتقاده في دور النصوص الدينية في معرفة الأصول الاعتقادية وأنه لا يعدو عنده التأييد والتبعية لما ثبت بالعقل ابتداءاً وأن هذا الثبوت العقلي هو الواجب المفروض في حق العباد، علمائهم وعامتهم أي مجتهدين ومقلدين، فيقول: (وعليه فهنا ادعاءان [الأول] وجوب النظر والمعرفة في أصول العقائد ولا يجوز تقليد الغير فيها [الثاني] أن هذا وجوب عقلي قبل أن يكون وجوباً شرعياً أي لا يستقى علمه من النصوص الدينية وإن كان يصح أن يكون مؤيداً بها بعد دلالة العقل).(1)
وقال شارح الكتاب الأستاذ محسن الخرازي معلقاً على النص:
(حاصله هو التفصيل بين أصول الاعتقادات بمعنى أساسها وبين غيرها بكفاية الأدلة السمعية في الطائفة الثانية دون الأولى من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد)(2)
__________
(1) عقائد الشيعة ص 6،7 - المطبعة الحيدرية في النجف – 1373 هجـ، 1954م .
(2) بداية المعارف الإلهية في شرح العقائد الإمامية ص 15 . والكتاب من مقررات التدريس في حوزة قم كما جاء التعريف عنه في مقدمة الكتاب. والكاتب مضطرب في تقريراته: فبينما هو يدخل الإمامة والمعاد - كما في النص السابق - في الأصول التي لا تكفي الأدلة السمعية فيها دون =
= العقلية يعود ليقرر - في الصفحة نفسها - الاكتفاء فيهما بالأدلة السمعية! ثم يعود في الصفحة الثانية ليقرر أن الأصول الاعتقادية خمسة هي (التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد والعدل) وليست أربعة - دون إضافة العدل إليها - كما هو ظاهر كلام شيخه السابق. وهذا يلزم منه - حسب القاعدة – وجوب النظر العقلي فيها جميعاً. ولا عجب ! فإني رأيت المذهب الإمامي الاثني عشري أشد المذاهب اضطراباً واختلافاً على الإطلاق، ليس في الفروع فحسب وإنما في الأصول والفروع! ويمكن مراجعة كتابنا (أسطورة المذهب الجعفري) للاطلاع على صورة مصغرة لهذا الاضطراب والاختلاف ، رغم ما هو شائع من الادعاء بخلافه!.(59/101)
.
ويقول الشيخ جعفر السبحاني: (يجب عل كل مسلم أن يحصل اليقين في المسائل التي يجب أن يعتقدها، ولا يجوز له اتباع الآخرين في هذه المسائل من دون أن يحصل له اليقين.
وحيث أن أمهات الأصول وكليات المسائل الاعتقادية محدودة ومعدودة ولكل منها أدلة عقلية واضحة، فإن تحصيل اليقين للأشخاص في أصول الدين وأساسيات العقيدة قضية سهلة)(1).
المبحث الثاني
نقض النظرية
إن أصول الدين يجب أن تكون يقينية قطعية. وحتى تكون كذلك لا بد أن تكون الأسس التي تقوم عليها يقينية قطعية كذلك وإلا انهارت من الأساس.
إن هذا التنظير أو التأصيل - الذي يذكره محمد المظفر، والمتفق عليه بين الإمامية لا سيما الأصوليون منهم - ليس له أساس معتبر يقوم عليه. فإذا ثبت أن هذا الأساس ضعيف لا تقوم على مثله الأصول انهارت أصول الإمامية لانهيار الأساس الذي قامت عليه تلك الأصول.
إن الدليل على ضعف هذا الأساس هو قيامه على مغالطة فكرية. حقيقتها التمويه وخلط الأمور، من أجل إبعاد أو إخفاء مصدر الخطر القاتل من بين الأمور المخلوطة، ذلك المصدر الذي يضرب النظرية ويهدمها من الأساس.
موضع المغالطة في النظرية المعرفية الإمامية
لقد حصرت النظرية المصادر المحتملة للمعرفة الأصولية في أمرين اثنين لا ثالث لهما:
(الأول) هو التقليد. وقد اعتبرته النظرية باطلاً لأنه اتباع للظن.
(والثاني) هو الاجتهاد العقلي المجرد عن النصوص الدينية. وقد اعتبرته النظرية
البديل الوحيد عن التقليد دون التعرض إلى كونه داخلاً في دائرة الظن أو اليقين. وكأن الخيار الوحيد البديل عن التقليد هو الاجتهاد أو النظر العقلي.
__________
(1) العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت -جعفر السبحاني ص329. الطبعة الأولى، قم 1419هـ – 1998م. نقله إلى العربية جعفر الهادي.(59/102)
وهذا نوع من الاحتيال الفكري يعتمد على كون الذهن البشري معتاداً بداهة على القفز من النقيض إلى النقيض المقابل كبديل عن نقيضه الذي تبين له بطلانه أو ضرره. بينما قد يُظهر التدبر والتفكر أن الحق أو النفع لا في هذا ولا ذاك، وإنما في نقطة الوسط .
إن الذي تقوله النظرية الإمامية هو الآتي: بما أن التقليد ثبت بطلانه، إذن الحق في نقيضه الذي هو النظر العقلي. وهذا بالضبط هو العملية التي يقوم بها العقل دون تريث، وهو ينتقل من التقليد إلى الاجتهاد أو النظر العقلي كبديل مقابل للنقيض الذي تبين له بطلانه.
إن حصر المصدر المعرفي الأصولي في هذين الأمرين مع إثبات أحدهما بإسقاط الآخر، أو بإثبات بطلان الآخر هو المغالطة الفكرية الكبرى التي تقوم عليها النظرية الإمامية اعتماداً على نقطة ضعف خفية في الذهن البشري، ألا وهي القفز من النقيض إلى النقيض دون التوقف عادة عند النقطة الوسط التي قد تكون هي البديل الصحيح.
ونقطة الوسط التي تهملها النظرية الإمامية كخيار ثالث معتبر هي النصوص الدينية القطعية. وهي النصوص القرآنية الصريحة.
فالمغالطة تتكون من جزأين أو ركنين تقوم عليهما النظرية هما:
* حصر بديل التقليد -أو تفسير عدم التقليد- بأمر واحد فقط هو الاجتهاد أو النظر العقلي. مع أن عدم التقليد يستلزم أمرين اثنين لا واحداً فقط : أولهما اتباع النصوص القرآنية القطعية (ثبوتاً ودلالة). والثاني الاجتهاد أوالنظر العقلي.
إن النص القرآني الصريح مفهوم المعنى بذاته فلا يحتاج إلى نظر أحد أو اجتهاده، سواء كان عامياً أم عالماً يقلده العامي في ذلك النظر. وبعبارة أخرى: ان فهم العامي للنص الصريح غير مقيد بفهم العالم. وهو يقيني قطعي لا ظن فيه، ولا يحتمل الخطأ لصراحة النص ووضوحه. فلا علة فيه تقتضي إبعاده عن دائرة الاستدلال. فالاجتهاد إذن ليس هو الخيار الوحيد حتى يصح اعتماده بديلاً وحيداً عن التقليد الذي ثبت بطلانه.(59/103)
* والركن الآخر الذي قامت عليه المغالطة هو: إثبات النظر العقلي اعتماداً على ثبوت بطلان التقليد. أي: بما أن التقليد باطل إذن النظر العقلي صحيح. بل هو البديل الصحيح الوحيد الذي لا يصح غيره!
وهذا لا يكون إلا إذا تردد الأمر بين التقليد والنظر العقلي فقط . أمَا وأن هناك بديلاً آخر في المسألة هو اتباع النصوص الدينية الصريحة القطعية فإن الاقتصار على النظر العقلي وحده اعتماداً على ثبوت بطلان التقليد مغالطة مرفوضة.
إن هذا يشبه أن يقول أحد رجلين لآخر: بما أن هذا المال ليس لك، أو ثبت أنه ليس لك، إذن أنا صاحب المال! إن هذه مغالطة لا تُقبل إلا في حالة واحدة هي انحصار الملكية بواحد من هذين الرجلين دون وجود رجل آخر. فإذا تبين أن المدعين ثلاثة وليسوا اثنين فقط، صار قول ذلك الرجل وادعاؤه نوعاً من الاحتيال والمغالطة في ميزان الحق. إن المنطق يفرض عليه أن يثبت بطلان ملكية الرجل الآخر كذلك قبل أن يدعي هذه الملكية لنفسه دون سواه، وإلا كان مغالطاً محتالا.
هذا النوع من المغالطة أو الاحتيال هو بالضبط ما يجري في النظرية الإمامية في إثبات الأصول.
إن الأمر – في حقيقته – متردد بين ثلاثة مصادر محتملة لمعرفة الأصول هي: التقليد، والنظر العقلي، والنصوص الدينية. تقول النظرية: بما أن التقليد ثبت بطلانه لأنه ظن، إذن النظر العقلي هو المصدر الوحيد لإثبات الأصول. دون أن تُدخل الاختيار الثالث - الذي هو كلمة الله - في ميزان المعادلة، أو عملية الاختيار!!!
النظر العقلي - كالتقليد - غير منزه عن الظن
إن العلة في عدم صلاحية التقليد لإثبات الأصول: كونه ظناً لا يمنح صاحبه اليقين. وهو أمر متفق عليه. فهل النظر العقلي منزه عن هذه العلة؟ أم إنه – كالتقليد – يعتريه الظن فلا يصح اعتماده في إثبات الأصول؟
إن النظر العقلي هو إعمال العقل وتحريكه للتفكر في الأدلة العقلية من أجل تحصيل المعاني المطلوبة، وهي هنا الأصول.(59/104)
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا الموضع هو: هل هذا الفعل – إذا صدر عن غير معصوم – منزه عن الخطأ قطعاً؟ والجواب القطعي: كلا وإلا لما اختلف العقلاء فيما بينهم في إثبات ونفي المعاني المتحصلة بالأدلة العقلية البحتة والفلاسفة خير مثال.
إذن النظر العقلي قابل للخطأ، فهو غير منزه عن الظن. فكيف يصلح أساساً لبناء الأصول القائمة على القطع واليقين؟!
والنظر العقلي قد يصدر من العالم أو من العامي.
فأما نظر العالم فلو كان قطعياً يقينياً لكان صالحاً لأن يعتمد أو يقلد من قبل العامي فيكون التقليد مقبولاً في الأصول لخلوه من العلة المانعة وهي الظن. وهذا مخالف لما جرى الاتفاق عليه. إذن النظر العقلي ليس يقينياً. وما دام هو ليس يقينياً فهو ظني. والظني لا يصلح دليلاً في الأصول.
إذن النظر العقلي ليس هو البديل عن التقليد في إثبات الأصول لاشتراكهما في علة واحدة مانعة هي الظن.
هذا بالنسبة لنظر العالم، فكيف بنظر غيره من العوام؟!
إن تطرق الظن إلى نظر العامي أولى منه إلى نظر العالم. فهو أولى بالمنع، وعدم الاعتبار.
وهكذا يتبين لنا أن النظر العقلي لا يمتلك شرط الدليل الأصولي ألا وهو القطع أو اليقين. فهو غير صالح للاعتماد في إثبات الأصول.
قبول المعقول مشروط بموافقة المنقول وليس العكس
يقول تعالى: { إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ } (الجاثية:3). فلو نظر إنسان بعقله في السموات والأرض، وتوصل -كما هو شأن الكثيرين- إلى ما يناقض النصوص الدينية، هل يكون ما توصل إليه معتبراً شرعاً؟ ويكون هو معذوراً أمام الله في اعتقاده بغير مراد الله، ونقيض ما أنزله على رسوله؟
لا أظن عاقلاً يقول بهذا. فالنظر العقلي إذن غير مقبول شرعاً- بل ولا عقلاً- ما لم يكن موافقاً ومنضبطاً بالنص الديني.(59/105)
إذن النصوص الدينية هي الأصل. وما يستنتجه الإنسان بعقله تبع، وظيفته تأييد ما ثبت أولاً بالنصوص الدينية. وليس العكس، كما تقول به النظرية الإمامية.
النصوص الدينية القطعية هي المصدر الوحيد لإثبات أصول الدين
يتبين مما سبق أن التقليد والاجتهاد أو النظر العقلي، كليهما لا يصلح أساساً لإثبات أو معرفة الأصول لأن مبناهما على الظن، وما كان كذلك لا يصلح لذلك.
فما هو البديل القطعي اليقيني الذي هو ليس بتقليد ولا اجتهاد؟
ليس من بديل بهذه الشروط سوى نصوص القرآن الصريحة. أما من حيث الثبوت فإن هذا المصدر قطعي الصدور عن الله تعالى. وأما من حيث الدلالة فإن الآيات الصريحة قطعية كذلك، فلا ظن يتطرق إليها لا من هذه الناحية، ولا من هذه الناحية.
وهي مفهومة بذاتها لكل قارئ أو سامع ،حتى لو لم يكن عالماً مجتهداً، فلا يحتاج فهمها من قبل العامي إلى تقليد. وهذا الفهم لا يحتاج إلى نظر عقلي من خارج الآيات، أو اجتهاد معرض للخطأ.
إذن النصوص الدينية القطعية (أي الآيات الصريحة)، صالحة لأن تكون مصدراً معتبراً لمعرفة وإثبات أصول الدين. لامتلاكها للشروط المطلوبة. وبما أنها المصدر الوحيد الحائز على هذه الشروط، إذن هي المصدر الوحيد البديل عن الاجتهاد والتقليد. اللذين لا يصلحان لذلك لوجود العلة المانعة. ألا وهي الظن.
إن اتباع النصوص القرآنية الصريحة لا يمكن اعتباره (تقليداً)، فلا يمكن تسمية المسلم الذي يأخذ أصوله عن هذا الطريق (مقلداً) للآباء أو المربين والعلماء. فما يقال عن المقلد (من ارتكابه الشطط والزيغ عن الصراط المستقيم. وعدم قبول عذره أمام الله تعالى وإن كان مصيباً في اعتقاده…) إلى آخر ما جاء في كتاب (عقائد الشيعة) المذكور -لا علاقة له بمن يتبع آيات القرآن الصريحة في التعرف على أصول دينه.
أصل الأصول في الإسلام ثبوت القرآن عن الله(59/106)
صدور القرآن الكريم عن الله جل وعلا هو أصل الأصول في الإسلام. فإذا ثبت هذا الأصل ثبتت جميع الأصول التي جاءت فيه بالنصوص الصريحة، وصارت ملزمة للمسلم والكافر على حد سواء. لأن نصوص القرآن عندما يثبت صدورها عن الله. ويقر العقل بهذه الحقيقة، تصير حجة قائمة على الجميع.
وبما أن الأصول جاءت في القرآن بالنصوص الصريحة، فلا حاجة بعدها -لكي تثبت، ويكون ثبوتها بالحجة العقلية الملزمة للمسلم وغيره- إلى النظر العقلي المجرد. إلا على سبيل التأييد لا أكثر.
إن الحجة العقلية على ثبوت هذا الأصل – أي صدور القرآن عن الله- ليست عقلية مجردة، أي منفصلة عن نصوص القرآن بحيث تكون الحجج خارجية مستقلة أو قائمة بنفسها، وتكون النصوص القرآنية مجرد مؤيدات تابعة لما ثبت أولاً بتلك الحجج العقلية المجردة. أو يجري الإثبات أولاً خارج دائرة القرآن الذي هو حجة الله البالغة. ثم بعد ذلك نأتي إلى القرآن لنجعل منه تابعاً يؤيد ويوقع على ما نرى بعقولنا، وكأنه عاجز – وهو كلمة الله وعلمه- عن الإتيان بما تأتي به عقولنا القاصرة العاجزة ! أو أننا نتفضل عليه لنمنحه صك التوثيق الذي يفتقر إليه!!
إنما جعل الله تعالى دليله العظيم وحجته البالغة على صدور هذا القرآن من عنده هي القرآن نفسه. فالقرآن -وليس شيئاً آخر خارجاً عنه- هو الذي يشهد بنفسه لنفسه أنه من عند الله.
يقول تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ } (البقرة:23،24).(59/107)
إن هذه الآية تجعل الدليل على أصل الأصول في دين الإسلام هو القرآن نفسه عن طريق أي سورة من سوره. فكل سورة من سور القرآن –بل كل آية من آياته- دليل قائم بذاته يشهد لهذا القرآن بصحة الصدور عن الله. يقول تعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } (النساء:82). أي أن هناك -على الأقل- مائة وأربعة عشر دليلاً على صحة هذا الأصل، الذي تثبت بثبوته جميع أصول الدين، ثبوتاً عقلياً ملزماً لكل إنسان عاقل، مسلماً كان أم كافراً!
فهل نحتاج بعد هذا العدد الهائل من الأدلة إلى دليل آخر؟!! اللهم إلا على سبيل التوسع والتزيد. وهو أمر غير ممنوع، بل مطلوب شرعا.
وهنا صار النظر العقلي تابعاً ومؤيداً لما ثبت أولاً بالنظر أو النص القرآني، وليس العكس كما تنص عليه النظرية الإمامية. أي ان النظرية الإمامية في الأصول، قد انهارت، وانقلبت رأساً على عقب.
وكذلك انهار القول (بأن الكافر يحتاج إلى حجج عقلية من خارج القرآن، على أساس عدم ثبوت صحة القرآن لديه). لأن الدليل الإلهي (وهو نص ديني) على ثبوت صحة القرآن قاطع بالنسبة للكافر والمسلم. اللهم إلا من كان من المجادلين الذين لا يبغون الحق. وهؤلاء لا ينتفعون بحجة، ولا ينفع معهم زيادة تعريف أو بيان!
وهؤلاء هم الذين قال الله عنهم بعد أن ظهرت الحجة واضحة بالقرآن نفسه:
{ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
(البقرة:24). وهم المقصودون بقوله سبحانه في الآيات التالية وأمثالها:
{ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ } (غافر:4).
{ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } (غافر: من الآية5).(59/108)
{ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (غافر:56).
{ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً } (الكهف:56).
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ } (الحج:3).
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ } (الحج:8).
{ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحج:68).
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ } (غافر:69).
هل هذا الجدل إلا بالنظر العقلي مقابل (آيات الله) ؟
فإن كان النظر العقلي حجة، فقد أوصلهم هذا النظر إلى عدم صحة نبوة نبيهم. فعلام يعجب الله سبحانه من صنيعهم؟ ويقول عنهم في الآية التي بعدها: { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } (غافر:70).
{ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } (الجاثية:9،10) وهذا اعتراض من الله على الكافر الذي يسمع آيات الله (النصوص الدينية) ثم لا يتبعها. ولو لم تكن النصوص الدينية حجة على الكافر - كما هي حجة على المسلم - لما صح هذا الاعتراض.
انقلاب الدليل الخبري إلى دليل عقلي(59/109)
إن ثبوت صدور القرآن قطعاً عن الله تعالى يجعل من أدلته الخبرية القطعية أدلة عقلية لا يحتاج إثبات مضامينها إلى دليل ونظر عقلي من خارجه لأن العقل يقضي بداهة، ويجزم جزماً قاطعاً بأن الخبر الصادر عن الله حق لا ريب فيه. فإذا أردنا أن نقيم عليه أدلة عقلية فعلى سبيل التأييد لا أكثر.
وعلى هذا الأساس نحن نثبت جميع الأصول التي جاءت في القرآن الكريم بالآيات الصريحة القطعية الدلالة. لأنه إذا صح ثبوت المصدر، صح ثبوت جميع ما فيه من المضامين الصريحة.
وأخيراً نقول: كيف تجعل الحجج العقلية في مقابل الحجج الإلهية وتكون قسيماً لها؟! هل يمكن أن يكون لقول من قوة الحجة ما لقول الله تعالى منها والله جل شأنه يقول: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام:149)؟!!
عجز العقل
يتصف العقل البشري بثلاث صفات ملازمة له لا تنفك عنه بحال هي: القصور والمحدودية والتناقض.
أما قصوره : فلأنه عاجز عن إدراك الحقائق من جميع وجوهها. وهو في الوقت نفسه يعلم شيئاً وتغيب عنه أشياء. وهذا هو السبب في أن مجالات علمه تتوسع باستمرار، وما يجهل منها أكثر مما يعلم. فمجالات علمه قليلة محددة بحدود اذا تجاوزها ضل وتخبط ، وفي هذا يقول سبحانه:(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً)(الإسراء:85). وهذه هي المحدودية الناشئة عن القصور. وأما تناقضه فيعني أن البشر يختلفون فيما يعقلون ويستحيل أن تتفق عقولهم على كل شيء.
والدين يمتاز بثلاث ميزات معاكسة هي: الإطلاق والشمولية والثبات.
* فالدين أوله معرفة الله تعالى الذي لا تحده حدود. والعقل بقصوره عاجز عن معرفة كل شئ عن الرب جل وعلا كما قال سبحانه:(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)(طه:110). وفي هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((لا أحصي ثناء عليك انت كما أثنيت على نفسك)).(59/110)
* والدين شامل لكل زمان ومكان ومجال كما قال سبحانه: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف:54)، وقال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل:89) . والعقل بقصوره ومحدوديته عاجز عن ملاحقة كل هذا كما قال سبحانه: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً)(الإسراء:85).
* والدين يقوم على ثوابت وأسس يقينية لا تحتمل الاختلاف. وفي هذا يقول سبحانه:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103) ويقول:(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات)(آل عمران:105). والعقل بتناقضه لا يمَكِّن أصحابه من أن يتفقوا على كل شئ من هذه الثوابت والأسس. إذن لا علاقة للعقل بوضع معالم الدين وتأسيس أصوله. وإنما لا بد أن تكون الجهة الواضعة له ذات علم مطلق شمولي لا تحده حدود ولا ينتابه قصور ويستحيل في حقه التناقض والاختلاف. ولا جهة بهذه الصفات أو الشروط إلا جهة الوحي. وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: 82). وهذا هو السر في اختلاف جميع الطوائف التي لم تبْنِ أصولها على صريح كلام الله تعالى، وتناقضها فيما بينها لأن ما جاءت به إنما جاءت به من عند غير الله جل وعلا.
وخلاصة القول أن يعرف الإنسان أنه من المستحيل أن يحيط القاصر علماً بالمطلق، والمحدد بالشامل، والمتناقض بالثابت.
الرجوع إلى العقل في الأصول إهانة له(59/111)
افترض انك كنت جالسا مع جماعة من العقلاء فسمعتم صرخة انطلقت ثم خفتت، فراح الجالسون يتناقشون فيما بينهم: هل هذا الذي صرخ طويل أم قصير؟ أبيض أم اسمر؟ أعمى أم مبصر؟ أعرج أم مقعد؟ غني أم فقير؟..الخ. هل تظن هؤلاء جادين أم يمزحون؟ وإذا كانوا جادين هل يمكن أن يكونوا عقلاء؟!
إن العقل يمكن ان يدرك هل المستغيث قريب أم بعيد؟ وهل هو صغير أم كبير؟ رجل أو امرأة؟ أما أن يذهب إلى أكثر من هذا فإن هذا إقحام للعقل في غير مجاله، ولا يأتي بطائل. وهو إهانة للعقل ونزول به عن مكانته، لأن العقل محدود ومحدد المجال.
كذلك الذين أقحموا العقل في تأسيس الأصول إنما أهانوه واستخفوا به من ناحية، وأساءوا إلى الدين ولعبوا به بأن حرفوه وجعلوه عرضة للتناقض والاختلاف من ناحية اخرى، فهؤلاء لهم أوفى نصيب من قوله تعالى:(اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)(الأنعام: 70).
عجز العقل عن وضع دين متكامل
ولهذا لم يحدث في التأريخ أن أحداً من العقلاء والعباقرة والفلاسفة والحكماء تمكن(59/112)
بعقله المجرد من وضع دين متكامل صالح لأن يتعبد به الناس ويسيروا على منهاجه. إن كل دين محترم وجد على الأرض فهو من وضع الإله لأن العقل عاجز بذاته عن أداء هذه المهمة. وما وضعه الإنسان من أديان كالبوذية والمجوسية والكونفوشيوسية فهي أديان ناقصة متناقضة مضحكة تهين العقل الإنساني وتحط منه، على عكس الأديان السماوية. وما تجده من تناقض ونقص وخلل في هذه الأديان كاليهودية والنصرانية والطوائف الدينية الإسلامية المنحرفة فبسبب تدخل العقل في ما لا يحل له من هذه الأديان لأنه تدخل في غير مجاله مما عاد بالسلب على الدين والعقل: فالعنصرية اليهودية مثلا، والتثليث النصراني والعصمة اللاهوتية الإمامية هي إفرازات عقلية وليست مبادئ سماوية. هذه الإفرازات هي التي دمرت الدين الواحد وفرقت أهله شيعاً وأحزابا. ولولا تدخل الإنسان بعقله في الدين لظل الدين واحدا ثابتا، ولكفى الناس والأجيال جميعا نبي واحد ولم يحتاجوا إلى تعدد الأنبياء.
ولذلك كانت مهمة كل نبي هي إعادة الناس إلى أصل الدين عن طريق الوحي وإزالة اثار تدخلات البشر بعقولهم المحدودة، وسر ختم النبوة هو حفظ الوحي (القرآن): فحين حكم الرب بحفظ الوحي ختم النبوة.
فتدخل العقل يتناقض مع سر ختم النبوة بل مع أصل بعثة الأنبياء. إن مهمة كل مجدد (الذي يمثل دور الأنبياء قبل الإسلام) إعادة الناس إلى الوحي وإخراجهم من حمأة التدخل البشري في أصول الدين عن طريق عقولهم القاصرة المحددة المتناقضة.
النظرية الإمامية في الأصول باب من أبواب الكفر
إن القول بأن النظر العقلي هو الأساس في إثبات الأصول، وأما النصوص الدينية فدورها يقتصر على التأييد والتبعية -هذا القول ما هو إلا باب من أبواب الكفر. بل هو الكفر بعينه! لأنه إلغاء لدور النبوة، وتعطيل لأثرها في الدين والحياة: فإذا كانت أصول الدين تؤخذ عن طريق النظر العقلي، وليس عن طريق النصوص الدينية أولاً،(59/113)
فلا حاجة إلى بعثة الأنبياء!
وكذلك فإنه إلغاء لدور القرآن العظيم الذي أنزله الله تعالى هدى للناس أجمعين وحكماً بينهم إلى يوم الدين، وحصره في زاوية ضيقة يتساوى فيها - وهو كلمة الله العليا! - مع كلام البشر. هذه الزاوية هي الفرعيات. أما الأصول فتقوم على نظر الإنسان وعقله. وما النصوص الدينية – كلمة الله ! - سوى تابع لا يقدر على الاستقلال بنفسه،
يؤيد ما جاء عن غيره. وإلا فلا اعتبار لقوله!
فما قيمة القرآن إذا كان تابعاً لنظر الإنسان؟!! وعلام هذا الاهتمام العظيم الذي أولاه الرب جل وعلا لكتابه. من التعهد بحفظه، واعتناء نبيه - صلى الله عليه وسلم - –ومن أول يوم نزل فيه- بكتابته دون غيره؟! أمن أجل أن يكون مرجعاً في الفرعيات! وأما الأصول فلا شأن له بها؟!
أليس هذا قلباً للدين، ونقضاً لما جاء من حقائق في الكتاب المبين؟!!
اقرأ مثلاً قوله تعالى:
{ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تذَكَّرُونَ } (الأعراف:3).
{ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } (الأنعام:106).
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } (البقرة:213).
{ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } (النجم: من الآية:23).
{ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } (الجاثية:9- 10).(59/114)
لكن المجادلين بغير الحق مصروفون عن الإيمان. كما قال سبحانه: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } (الأعراف:146)
من الإفرازات الكفرية للنظر العقلي.. عقيدة الإمامية في المجتهد
يقول محمد المظفر: (عقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط أنه نائب للإمام عليه السلام في حال غيبته. وهو الحاكم والرئيس المطلق. له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس. والراد عليه راد على الإمام. والراد على الإمام راد على الله تعالى. وهو على حد الشرك بالله تعالى. كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت عليهم السلام.)(1).
أي عقل هذا الذي يقبل هذا الكلام المتهافت ليجعل من إنسان يخطئ ويصيب حجة على الخلق، بحيث يكون الرد عليه رداً على الله تعالى نفسه، وشركاً به ؟!!!
ولذلك لما احتج صاحب هذه العقيدة لعقيدته هذه لم يأت لها بحجة عقلية، وإنما أحالنا إلى رواية لم يذكرها نسبها إلى (صادق أهل البيت)!! والرواية (نص ديني) وليس نظراً عقليا. والنص الديني – حتى لو صح - ليس حجة بنفسه عند الإمامية.
هذا على افتراض صحة النسبة! فكيف وهو لم يكلف نفسه محاولة إثباتها على أي وجه من الوجوه!! فكيف وإثبات صحة هذه النسبة إلى جعفر بن محمد (صادق أهل البيت) مستحيل. لأنه لم يكن زنديقاً ولا مجوسيا.
__________
(1) عقائد الشيعة ص9،10.(59/115)
إن جعفر (الصادق) يعلم بالضرورة من دين الله أن إنزال كلام المخلوق منزلة كلام الخالق إشراك بالله، ورفع لمنزلة المخلوق إلى درجة الربوبية. إنه افتراء
على الله، وعلى رسوله، وعلى المؤمنين. وكذب على أئمة الدين. وهو مردود على لسان جعفر بن محمد (ر) ، الذي روت له مصادر الأمامية أنفسهم أنه قال: (وقد اشتكى إليه الناس حيرتهم إزاء كثرة ما ينقل عنه من أقوال متضاربة عمن يوثق به وعمن لا يوثق به):
(إذا ورد عليكم حديث له شاهد من كتاب الله أو من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلا فالذي جاءكم أولى به)(1).
وقال: (ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه)(2).
وقال أيضاً: (كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)(3).
وعقيدة الإمامية هذه تخالف كتاب الله صراحة ولا توافقه. فهي زخرف باطل مردود على من جاءنا به. وهي عين كفر اليهود والنصارى والمشركين والكفار جميعاً الذي رده الله تعالى في آيات كثيرة. وحذر منه رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أشد التحذير.
__________
(1) أصول الكافي للكليني 1/69.
(2) أيضاً.
(3) أيضاً.(59/116)
يقول تعالى: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ*إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ*وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ } (الشعراء 97-99). وهذه التسوية بالطاعة. بأن جعلوا أمر هؤلاء المجرمين (وهم العلماء) ونهيهم كأمر الله ونهيه. وطاعتهم كطاعته. كما قال سبحانه في موضع آخر: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا*وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا*رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } (الأحزاب:66-68) وقال: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } (التوبة:31). وما ذلك إلا بطاعتهم كما يطاع الرب. بحيث يكون الراد عليهم كالراد على الله. وإلا فإن اليهود والنصارى وأمثالهم، لم يعتقدوا في علمائهم أنهم خلقوهم من دون الله. فالربوبية هنا ربوبية الطاعة، وليست ربوبية الخلق(1)
__________
(1) وقد جاء هذا المعنى مصرحاً به في تفاسير الأمامية أنفسهم. يقول محمد مغنية في تفسير الآية [الكاشف 4/33]: (هذا دليل آخر بأنهم لا يؤمنون بالله. بل بما يقول رجال دينهم وعقيدتهم. قال الإمام جعفر الصادق (ع): (إنهم ما صاموا ولا صلوا لهم. ولكنهم أحلوا لهم حراماً، وحرموا عليهم حلالاً فاتبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون).
ويقول محمد الطباطبائي [الميزان 9/245]: (واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله هو إصغاؤهم لهم، وإطاعتهم من غير قيد وشرط. ولا يطاع كذلك إلا الله سبحانه… فالطاعة إذا كانت بالاستقلال كانت عبادة).(59/117)
. وهو عين (عقيدة الإمامية في المجتهد). وعين ما نراه في الواقع من عامتهم في علاقتهم بعلمائهم. لأنه في غيبة (النصوص الدينية) -وهي حارس العقيدة الأمين ورقيبها العتيد- صار علماء الإمامية يصولون ويجولون يقولون بعقولهم ما يشاؤون، ويحكمون بآرائهم ما يشتهون، بلا رقيب ولا حسيب. وصار عوامهم يتقبلون ما يلقي به علماؤهم إليهم من أفكار، دون اعتراض أو نقاش مهما كانت مخالفة للنقل الصحيح، أو العقل الصريح!!
إشكالات لا جواب لها(1)
لقد جعل الإمامية الدليل المعتبر في إثبات الأصول النظر العقلي المستقل عن النصوص الدينية. وجعلوا (الإمامة) أصلاً من أصول الاعتقاد. فلو أن إنساناً نظر بعقله واجتهد طاقته فلم يتوصل إلى هذه العقيدة، فما حجة الإمامية على هذا الإنسان
- وهو يمثل الغالبية الساحقة لأهل القبلة - كي يلزموه بالإيمان بها؟
أهي اتباع نظرهم العقلي؟ وهذا لا يصح عندهم. لأن اتباع نظر الغير تقليد. والتقليد ليس بحجة في الأصول.
أم الحجة في الروايات؟ وهي خارجة عن دائرة النظر العقلي، الذي هو السبيل الوحيد لإثبات الأصول عندهم. والقول في الآيات كالقول في الروايات.
ما بقي لدينا إلا عقل الناظر نفسه. وعقله لا يسلِّم بهذه العقيدة.
__________
(1) لا أقصد بعدم الجواب عدم القدرة على الإتيان بالردود الجدلية. كيف وهي بضاعة الكذابين وتجارة المبطلين، التي يغص بها سوق المفلسين!! انظر إلى سيدهم إبليس اللعين! كيف جادل رب العالمين بأنه مخلوق من نار، وآدم من طين! وانظر إلى السامري! وكيف جادل موسى - عليه السلام - قائلاً: { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } (طه: 96). وأنا أعرف سلفاً أن لإبليس والسامري أتباعاً يحافظون على منهجهم، ويسيرون عليه حذو القذة بالقذة!(59/118)
هل عندكم من حجة أخرى تلزموننا بها أيها الإمامية؟! إذن كيف تكفرون ملياراً ونصف المليار، أي ألف مليون وخمسمائة ألف مليون أخرى معها من المسلمين الذين يخالفونكم فيما تعتقدون. لا تلزمهم عقولهم بما تلتزمون؟؟!!
على أي أساس، ولا أساس؟! فالأساس عندكم هو النظر العقلي. وقد نظرنا بعقولنا فلم نجدها تسلم بهذه العقيدة. وأساس اعتقادنا نحن النص القرآني القطعي. وهو مفقود!
ثم إذا كانت عقول مليار ونصف مليار من المسلمين -وخمسة مليارات من سواهم لم توصلهم عقولهم إلى شيء اسمه (الإمامة)- غير معتبرة في الميزان، فعلام جعلتم (العقل) هو الحجة المعتبرة الوحيدة في التوصل إلى معرفة أساس الدين، وحقائقه العظمى التي لا قيام للدين إلا بها؟!
عقل من إذن هو المعتبر عندكم ؟ وبأي حجة عقلية اعتبرتموه؟!!
إشكالية (التمسك بالعترة)
أوجب الإمامية على الناس (التمسك بالعترة)، وحكموا بكفر من خالفهم في ما ذهبوا إليه.
والسؤال المشكل الذي يطرح نفسه هنا هو: هل (التمسك بالعترة) -أي الأخذ بأقوالهم- يدخل في دائرة النظر العقلي، أم دائرة النص الديني؟
لا شك أن أقوال (العترة) نصوص دينية. وقواعد الإمامية تبطل اعتماد النصوص الدينية في إثبات الأصول. إن هذا يستلزم عدم جواز الاعتماد على أقوال العترة في إثبات أي أصل من الأصول. أي عدم جواز (التمسك بالعترة) في أصول الدين! ويجعل دورهم قاصراً على فرعياته. وهي منزلة يتساوون فيها مع غيرهم من الفقهاء غير المعصومين!
فهل هذا هو معنى (التمسك بالعترة) عندهم؟ أم شيء آخر؟
ولا شيء! لأن الدين أصول وفروع. فإذا انتفى اعتبار (العترة) في الأصول لم يبق إلا الفروع. وها قد تساووا فيها مع الفقهاء العاديين! وهو ما لا يتوافق مع الأهمية العظمى التي جعلوها لهم. إذن حصل تناقض في الاعتقاد، والتناقض دليل البطلان.(59/119)
وإن كابروا فقالوا: إن (التمسك بالعترة) واجب أصولاً وفروعاً، قلنا لهم: فأين تضعون النظر العقلي من المعادلة؟
ونقول أيضاً: فكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، هل يجب التمسك –أي الاحتجاج- بهما في الأصول كما في الفروع؟ فإن قالوا: لا. جعلوا أقوال (العترة) فوق أقوال الله، وأقوال رسوله! وهو كفر بواح!! وإن قالوا: نعم. انهارت نظريتهم في الأصول!!!
الرواية المخترعة : (كتاب الله وعترتي)
إن الرواية التي يتعلق بها الإمامية: (تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي لن تضلوا ما تمسكتم بهما). تقضي بضلال من تمسك بغير كتاب الله والعترة.
وهذا هو أساس دين الإمامية الذي كفروا على أساسه المسلمين. في الوقت الذي تصرح فيه كتب أصولهم بأن النصوص الدينية (والتمسك بالعترة تمسك بنص ديني) غير معتبر في الأصول دون النظر العقلي. ومن المعلوم أن النظر العقلي ليس كتاباً ولا (عترة) . فإما أن الرجوع إلى الكتاب و(العترة) في أصول الدين ضلال . وإما أن
النظرية الإمامية في الأصول هي الضلال!!
ويمكن صياغة المعنى السابق بعبارة أخرى:
إن الاحتجاج برواية (كتاب الله وعترتي) يستلزم ما يلي:
بطلان القول بأن الأصول مبناها على النظر العقلي دون النص الديني.
بطلان الاحتجاج بجميع الحجج العقلية التي احتجوا بها في أصولهم.
بطلان الأصول التي أضافوها إلى الدين بمقتضى النظر العقلي.
وإن الاحتجاج أو الاعتماد على النظر العقلي في الأصول يستلزم ما يلي:
بطلان رواية (كتاب الله وعترتي) (1).
بطلان الاحتجاج بجميع النصوص الدينية التي بنوا عليها أصولهم.
بطلان الأصول التي أضافوها بمقتضى النصوص الدينية التي احتجوا بها.
ولا مهرب من سلوك أحد السبيلين.
__________
(1) يدعي البعض -أو يتوهم- أن هذه الرواية وردت في (صحيح مسلم). وهذا غير صحيح. والموجود فيه هو: (أوصيكم الله في أهل بيتي). أما الأمر بـ(التمسك) فجاء مقترناً بالكتاب فقط.(59/120)
الأصل بين المعنى العام والمعنى الخاص
إن العقل الإنساني مهما نظر واجتهد في التعرف على الأصول، فإنه لا يستطيع إثبات أكثر من معان عامة. بينما الشرع يلزمنا بمعان خاصة محددة.
مثلاً: العقل يثبت النبوة. ولكن النبوة التي يثبتها العقل نبوة عامة غير محددة بشخص معين بينما الشرع يلزمنا بالإيمان بنبوة شخص معين محدد هو محمد- صلى الله عليه وسلم - ، فلو قال إنسان: أنا أؤمن بأن لله أنبياء لكنه لم يثبت نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإيمانه هذا غير معتبر أي باطل شرعاً وصاحبه كافر ما لم ينتقل من المعنى العام للنبوة إلى المعنى الخاص لها.
وإثبات المعنى الخاص لا يمكن تحقيقه بالنظر العقلي المجرد عن النص الديني. إذ لولا نصوص القرآن لما استطعنا بعقولنا أن نثبت أن محمداً نبي. ولا غيره من الأنبياء. وقد عاش النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة بين قوم عقلاء حكماء، لكن أحداً منهم لم يخطر بباله أن هذا الرجل نبي. رغم أنهم كانوا ينتظرون النبي الخاتم، ويترقبون بعثته! وبعضهم خرج إلى الشام كزيد بن نفيل –وهو أحد الأحناف- عله يعثر له على خبر. والنبي الموعود بينهم يرونه صباح مساء! لكن عقولهم لم تدلهم عليه. غاية ما توصلوا إليه أن أسموه بـ(الصادق الأمين). ولما بعث نبياً أنكروه! ولا شك أن بعضاً من هؤلاء المنكرين إنما أنكره لعدم اقتناعه العقلي بما يقول. وليس لأسباب أخرى، كما هو شأن البعض الآخر. حتى محمد نفسه –وهو أكمل الخلق عقلاً- حين جاءه الوحي في (حراء)، لم يعرف أنه الوحي، وأنه صار به نبياً. حتى ذهب إلى ورقة بن نوفل وقص عليه الخبر!!(59/121)
والإمامية يلزمون الناس بـ(إمامة) أشخاص معينين دون سواهم. فالإثنى عشرية – مثلاً - يؤمنون بـ(إمامة) اثني عشر (إماماً) أولهم علي. وآخرهم (المهدي) المنسوب إلى الحسن العسكري. والإسماعيلية يؤمنون بـ(أئمة) آخرين هم غير (أئمة) الإثنىعشرية. ويكفرون الإثنىعشرية. كما أن هؤلاء يكفرونهم، لا لعدم الإيمان بـ(الإمامة) من حيث الأصل والعموم، ولكن لعدم التوافق في تحديد (الأئمة) على الخصوص.
فإثبات (إمامة) عامة غير معتبر عند الإمامية. ما لم تكن (إمامة) محددة بأشخاص معينين. وهذه لا مجال للنظر العقلي فيها دون النص الديني. وإلا كيف يمكن للعقل البشري أن يثبت (إمامة) شخص كالحسن العسكري، دون أن يستند إلى نص ديني؟!
إذن اعتبار النص الديني في شرعنا أساسي وليس إضافياً، أو أنه مجرد تابع يؤيد ما ثبت بالنظر العقلي أولاً.
والنتيجة الحتمية التي نصل إليها هي:
إما أن نعتمد النظرية الإمامية في الأصول، أي النظر العقلي. وهو لا يُثبت سوى معان عامة -فتبطل جميع المذاهب الإمامية. فلا إثنىعشرية. ولا إسماعيلية. ولا غيرهما من المذاهب التي التزمت وألزمت غيرها بـ(أئمة) محددين.
وإما أن نقول بضرورة الالتزام بمذهب معين كالإثنىعشري بناءاً على ما جاء بالنصوص الدينية -فتبطل النظرية الإمامية في الأصول.
ولا بد لهم من اختيار أحد الأمرين، والخروج من أحد السبيلين.
أصول الطائفة الإمامية
والآن نتناول بالحديث فرقة من الفرق التي جانبت المنهج القرآني في إثبات أصولها. وذلك تطبيقاً لما أسلفت بيانه من قواعد وأصول، وليطمئن قلب القارئ من صحتها، ويزداد الذين آمنوا إيماناً. وتبييناً لميزة المنهج الذي اتبعتُه في رد الحجج الباطلة إلا وهي سهولة إبطالها والإجهاز عليها بأيسر جهد وأقرب طريق، مع وضوح الحق دون الوقوع في متاهات الجدل والبحث في دهاليز الدلالات إلا بعد ظهور الحق وبيانه بالحجة البالغة القاطعة التي تميزه عن الباطل بلا لبس أو اشتباه.(59/122)
هذه الفرقة هي (الإمامية الاثنا عشرية) التي ألزمت المسلمين بأصول اعتقادية وعملية وخيرتهم بين الإيمان بها شرطاً للنجاة، أو الكفر إن هم جحدوها ولم يلتزموا بها.
أهم أصول الإمامية الاثنى عشرية
الأصول الاعتقادية
الإمامة ... ... ... ...
2. عصمة الأئمة
3. المهدي المنتظر
4. التمسك بأهل البيت
5. تحريف القرآن
6. تجريح الصحابة
الأصول العملية
1. زيارة المراقد
2. خمس المكاسب
3. نكاح المتعة
فهل استطاع الإمامية أن يثبتوا هذه الأمور (العظيمة)، والأصول الخطيرة بنصوص الآيات المحكمات؟ أم استنبطوها بعقولهم، وأسندوها بما استطاعوا من آراء وشبهات استخرجوها استخراجاً من الآيات المتشابهات؟
فإن ثبتت بالنصوص المحكمة القطعية فهي حق. وإن كانت فهوماً لنصوص مشتبهة ظنية فهي باطل لا يجوز الإيمان به –إن كان اعتقادياً- أو العمل به –إن كان عبادياً.
ونحن - في الوقت نفسه - لا نلزم الناس بأصولنا إلا لأنها قائمة على الآيات المحكمات الصريحات. ولو كانت أدلتها ظنية مشتبهة، لما جاز لنا ذلك عقلاً ولا شرعاً لأن الاجتهاد في الظنيات لا إلزام فيه.(59/123)
القسم الثاني
أصول الإمامية
الباب الأول
أهم الأصول الاعتقادية
الأصل الأول
الإمامة
الفصل الأول
الإمامة في المنظور الشيعي
منزلتها
يروي الكليني عن أبي عبد الله (جعفر بن محمد) الروايات الآتية:
- (الأئمة بمنزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أنهم ليسوا بأنبياء ولا يحل لهم من النساء ما يحل للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأما ما خلا ذلك فهم بمنزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )(1).
- (لا يسع الناس إلا معرفتنا ولا يعذر الناس بجهالتنا، من عرفنا كان مؤمنا ومن أنكرنا كان كافرا)(2).
- (كان أمير المؤمنين(ع) إماماً…ومن أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى ومعرفة رسول - صلى الله عليه وسلم - )(3).
- (إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً وإن الله اتخذه نبيا قبل ان يتخذه رسولا وان الله اتخذه رسولاً قبل ان يتخذه خليلا وان الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما فلما جمع له الأشياء قال: (إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين)(4).
وصرح ابن المطهر الحلي بما يلزم منه تفضيل (الإمامة) على النبوة فقال: (الإمامة
لطف عام والنبوة لطف خاص وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص)(5).
بل جاء تفضيلها مصرحاً به على ألسنة الكثيرين من علماء الإمامية!! مثل (آية الله العظمى) كاظم الحائري الذي يقول: (إن الذي يبدو من الروايات أن مقام الإمامة فوق المقامات الأخرى -ما عدا مقام الربوبية قطعاً- التي يمكن أن يصل اليها الإنسان)(6).
__________
(1) أصول الكافي1/27.
(2) 1/187.
(3) 1/181.
(4) 1/175.
(5) الألفين ص3.
(6) الإمامة وقيادة المجتمع ص 26.(60/1)
ويقول إبراهيم الزنجاني: تعتقد الشيعة الإمامية الاثنى عشرية أن الإمامة رئاسة في الدين والدنيا. ومنصب إلهي يختاره الله بسابق علمه وبأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يدل عليه ويأمرهم باتباعه. والإمامة هي الأصل الرابع من معتقدات الشيعة الإمامية الاثنى عشرية. وهي اصل الخلاف بين الشيعة وسائر الطوائف الإسلامية(1).
ويقول: إن مرتبة الإمامة كالنبوة(2).
تكفير الأمة على أساس (الإمامة)
ولو اعتبر الإمامية مسألة (الإمامة) من الأمور الفرعية الخاصة بهم لهان الخطب! ولكنهم اعتبروها من القضايا الأصولية العظمى التي تفوق في مرتبتها مرتبة النبوة!! ولم يكتفوا بهذا بل تجاوزوه إلى التصريح بكفر منكرها!!! كما هو مصرح به في بعض الروايات التي سبق ذكرها. ليس هذا فحسب، وإنما هناك فتاوى صريحة للعلماء بهذا الشأن! أكتفي بذكر واحدة منها على لسان أكبر مرجع للإمامية في العصر الحديث -أبي القاسم الخوئي.
يقول الخوئي: [حرمة الغيبة مشروطة بالإيمان. قوله: (ثم إن ظاهر الأخبار اختصاص حرمة الغيبة بالمؤمن). أقول: المراد من المؤمن هنا من آمن بالله وبرسوله وبالمعاد وبالأئمة الاثني عشر (ع) أولهم علي بن أبي طالب (ع) وآخرهم القائم الحجة المنتظر. ومن أنكر واحداً منهم جازت غيبته لوجوه:
الوجه الأول: أنَّهُ ثبت في الروايات والأدعية والزيارات جواز لعن المخالفين، ووجوب البراءة منهم، وإكثار السب عليهم، واتهامهم، والوقيعة فيهم أي غيبتهم لأنهم من أهل البدع والريب ، بل لا شبهة في كفرهم . لأن إنكار الولاية والأئمة حتى الواحد منهم
والاعتقاد بخلافة غيرهم يوجب الكفر والزندقة ، وتدل عليه الأخبار المتواترة الظاهرة
في كفر منكر الولاية، وكفر المعتقد بالعقائد المذكورة، وما يشبهها من الضلالات.
__________
(1) عقائد الإمامية الاثنى عشرية ص72.
(2) المصدر السابق ص75.(60/2)
ويدل عليه أيضاً قوله (ع) في الزيارة الجامعة: (ومن جحدكم كافرٌ)، وقوله (ع) فيها أيضاً: (ومن وحَّده قَبِلَ عنكم) فإنه ينتج بعكس النقيض أن من لم يقبل عنكم لم يوحده بل هو مشرك بالله العظيم.
وفي بعض الأحاديث الواردة في عدم وجوب قضاء الصلاة على المستبصر(1): (إن الحال التي كنت عليها أعظم من ترك ما تركت من الصلاة).
وفي جملة من الروايات: الناصب لنا أهل البيت شر من اليهود والنصارى، وأهون من الكلب، وأنه تعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وأن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه. ومن البديهي أن جواز غيبتهم أهون من الأمور المذكورة…
الوجه الثاني: أن المخالفين بأجمعهم متجاهرون بالفسق لبطلان عملهم رأساً كما في الروايات المتضافرة. بل التزموا بما هو أعظم من الفسق كما عرفت وسيجيء أن المتجاهر بالفسق تجوز غيبته.
الوجه الثالث: أن المستفاد من الآية والروايات هو تحريم غيبة الأخ المؤمن. ومن البديهي أنَّهُ لا أخوَّة ولا عصمة بيننا وبين المخالفين…
الوجه الرابع: قيام السيرة المستمرة بين عوام الشيعة وعلمائهم على غيبة المخالفين، بل سبهم ولعنهم في جميع الأعصار والأمصار، بل في (الجواهر)(2) أن جواز ذلك من الضروريات].(3)
والخوئي يجيز الاستيلاء على مال السني بأي وسيلة! فيقول: يجوز أخذ مال الناصب أينما وجد والأحوط وجوباً وجوب الخمس فيه من باب الغنيمة(4).
__________
(1) أي الذي تحول من مذهب أهل السنة والجماعة إلى طائفة الرفض.
(2) المقصود بـ (الجواهر) هو كتاب (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) تأليف الشيخ محمد حسن النجفي، المتوفى سنة 1242هـ ، الذي يلقبونه بـ (شيخ الفقهاء وإمام المحققين). ويسمون كتابه هذا بـ (مفخرة الشيعة). وقوله (من الضروريات) أي أن لعن أهل السنة وسبهم من ضروريات مذهبهم!
(3) مصباح الفقاهة، 1/323-324، ط3 - 1371، مطبعة الغدير.
(4) منهاج الصالحين 1/ص 325.(60/3)
والناصب كلمة مخففة للتعبير عن السني. أي الذي يحب أبا بكر وعمر رضي الله
عنهما وإن احب علياً - رضي الله عنه - معهما. كما صرحت به أمهات كتبهم(1).
وأما استحلال الدم فتفيض بها المصادر المعتمدة. يقول الشيخ يوسف البحراني تحت عنوان: حل دم الناصب وماله: أعلم أنه قد استفاضت الأخبار عنهم -سلام الله عليهم- بحل دماء أولئك المخالفين وحل أموالهم.. فروى الشيخ (أي الطوسي) في الصحيح عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس/تهذيب الأحكام4: 122.. وروى الصدوق في كتاب العلل الصحيح عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله (ع): ما تقول في قتل الناصب؟ قال: حلال الدم(2).
وقد ألَّفوا في تكفير منكر الولاية عموماً أو ولاية واحد من الاثني عشر. بل في تكفير من أحب الخلفاء الراشدين الثلاثة (أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم) مجرد حب. واعتبار هذا الحب نافياً لحب علي - رضي الله عنه -. وأن اجتماع الحبين في قلب واحد محال وغير معتبر عندهم. فمن أحب الثلاثة فهو مبغض للرابع حتماً مهما ادعى من حبه! مع جواز قتله وحلية ماله. من ذلك ما ألفه (الفقيه المحدث) الشيخ يوسف بن الشيخ أحمد بن إبراهيم البحراني (1107هـ –1186هـ) في هذا الموضوع حصراً. وهو كتاب (الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب) المار الذكر.
وقد طبع الكتاب في إيران بتحقيق السيد مهدي الرجائي في عام 1419هـ. أي قبل أربع سنوات فقط! يثبت فيه البحراني هذا –وهو أحد علماء الطائفة الاثنى عشرية الكبار يوصف عندهم بالفقيه المحدث…الخ- أن من قدم أبا بكر وعمر على علي أو أحبهما مع حبه لعلي فهو ناصبي كافر حلال الدم والمال.
__________
(1) الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب ص99 الشيخ يوسف البحراني. طبعة قم - 1419هـ.
(2) المصدر نفسه ص 257.(60/4)
وكون الناصبي عندهم على الوصف المذكور مما اتفق عليه جمهور علماء هذه الطائفة، ويدل عليه بوضوح كلام الخوئي السابق. فإنه حين قال: (وفي جملة من الروايات: الناصب لنا أهل البيت شر من اليهود والنصارى...) جاء قوله هذا في سياق حديثه عن المخالف وهو من أنكر واحداً من الأئمة، أو من اعتقد بخلافة غير خلافة علي،
كأبي بكر وعمر...الخ.
ومما جاء في كتاب البحراني أبيات من الشعر منها:
يا أيها المدعي حب الوصي ولم
تسمح بسب أبي بكر ولا عمرا
كذبت والله في دعوى محبته
تبت يداك ستصلى في غد سقرا
وكيف تهوى أمير المؤمنين وقد
أراك في سب من عاداه مفتكرا
فإن تكن صادقاً فيما نطقت به
فابرأ إلى الله ممن خان أو غدرا
يعلق عليه البحراني بقوله: (ولقد أجاد في هذا المجال من قال: لعمرك ما ودك من والى ضدك، ولا أحبك من صوب غاضبك)(1).
أما إذا رجعنا إلى المصادر القديمة المعتمدة لدى هذه الطائفة، فإننا نجدها مشحونة بهذا الاعتقاد. خذ مثلاً كتاب (الكافي) للكليني. مما جاء فيه ما يرويه الكليني بسنده عن أحدهما (ع) قال: لا يكون العبد مؤمناً حتى يعرف الله ورسوله والأئمة كلهم. وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم)(2).
ويروي بسنده عن ابن مسكان قال: سألت الشيخ(3) عن الأئمة (ع) قال: من أنكر واحداً من الأحياء فقد أنكر الأموات)(4). وبسنده عن أبي عبد الله (ع) قال: كان أمير المؤمنين (ع) إماماً ثم كان الحسن (ع) إماماً ثم كان الحسين (ع) إماماً ثم كان علي بن الحسين إماماً ثم كان محمد بن علي إماماً. من أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى ومعرفة رسوله(5).
__________
(1) أيضاً ص 146.
(2) الكافي في الأصول للكليني 1/180 باب معرفة الإمام والرد إليه.
(3) في حاشية الكتاب: يعني به الكاظم (ع).
(4) 1/373.
(5) 1/181.(60/5)
وإذا كانت (الإمامة) بهذه المنزلة من الدين فلا بد أن تكون الآيات القرآنية عليها صريحة صراحة تامة تقطع كل عذر كصراحة الآيات التي تكلمت عن النبوة والأنبياء
عموما، ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - خصوصا.
فهل يوجد في القرآن آيات صريحة في (الإمامة) عموما، وفي التنصيص على (إمامة) علي وأحد عشر إماما أخر خصوصا؟
أدلة الإمامية القرآنية على أصل (الإمامة)
هذه أهم الآيات القرآنية التي احتج بها الإمامية إثباتاً لأصل (الإمامة)(1).
1. { وإذ ابتلى إبرهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } البقرة/124
2. { إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } المائدة/55
3. { يَا أَيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ } المائدة/67
4. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } النساء/59
5. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } التوبة/119
6. { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } آل عمران/61
__________
(1) عقائد الإمامية الاثنى عشرية –الزنجاني /75-77.(60/6)
7. { قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } الشورى/23
8. { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } الإنسان/8
9. { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } فاطر/32
10. { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } النساء/115
11. { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ } الزمر/33
12. { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } المعارج/1-2
13. { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } المائدة/3
14. { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ } القصص/68
15. { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } الأنعام/38
16. { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } النحل/89
17. { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } يس/12
18. { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } الإسراء/71
19. { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } الفرقان/74
20. { وَجَعَلْنَا مِنهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } السجدة/24
الفصل الثاني
نقض الإمامة
المبحث الأول
نقض عقيدة الإمامة طبقاً للمنهج القرآني
جميع (الأدلة) غير صالحة للاستدلال على المطلوب(60/7)
إن هذه الآيات جميعا – بالنسبة لـ(الإمامة) - فاقدة لشروط الدليل. وأولها القطع والصراحة في الدلالة على المراد (الإمامة). وليس فيها نص واحد محكم سالم من الاحتمال، أو الاشتباه البتة. وغالبها لا يصلح لأن يكون متشابها فالاحتجاج به قول بلا علم. وهو لو كان متشابها (يفيد صاحبه الظن) لكان الاحتجاج به منكراً! فكيف وهو دون المتشابه ؟!!
إن هذه النصوص القرآنية بعيدة كل البعد عن معنى (الإمامة) التي اصطلحوا عليها. إن أي قارئ للقرآن لا يمكن أن يخطر بباله هذا المعنى وهو يتلو هذه الآيات ما لم يكن تلقاه بالتلقين أولاً قبل تلاوتها. بخلاف نصوص الألوهية والنبوة أو الصلاة والزكاة بل الوضوء والتطهر من الحيض أو النجاسة..
المقارنة مع شروط الأدلة الأصولية
إن شروط الأدلة الأصولية التي ذكرناها في أول الكتاب يمكن تلخيصها فيما يلي:
الإخبار بالآيات القطعية المحكمة، لا الظنية المتشابهة.
تتكرر كثيراً في القرآن.
الآيات المتشابهة المتعلقة بها لها (أمّ) من المحكمات يرجع بها إليها.
الأصل هو النص نفسه، وليس استنباطاً منه.
التفسير والشرح، أو الاجتهاد العقلي، أو الروايات لا تصلح أدلة في الأصول.
الإثبات بالأدلة العقلية القرآنية.
نصوصها بين آمر بها، وناهٍ عن جحودها أو تركها.
كل أصل من الأصول يحقق فائدة لا يمكن تحقيقها بغيره.
وهذه كلها غير متوفرة في (الإمامة) وأدلتها القرآنية.
فقدانها لشروط الأدلة الأصولية
إن الآيات القرآنية التي احتج بها الإمامية لإثبات (الإمامة) لا تتمتع -ولو- بشرط واحد من شروط الأدلة الأصولية! وسنتابع هذه الشروط واحداً واحداً، وكما يلي:
إن هذه الآيات الكريمة متشابهة الدلالة وليست صريحة محكمة بالنسبة لموضوع (الإمامة). بل غالبها لا يصلح أن يسمى متشابهاً. فالاحتجاج به ضرب من المجازفة، والقول بالباطل كالاحتجاج بقوله تعالى:(60/8)
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَة } .
{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } .
{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } .
{ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } .
{ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } .
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }
{ وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } وأمثالها.
ما علاقة هذه الآيات بـ(الإمامة) أولاً ؟! ثم ما علاقتها بـ(إمامة) علي أو اثني عشر شخصاً – أو أقل أو أكثر - ثانياً ؟! لا.. علاقة البتة!!!
إن المتشابه هو اللفظ الذي يحتمل معنيين أو أكثر بصيغته وتركيبه. وهذه الآيات
ليس في لفظها ما يحتمل معنى (الإمامة) عموماً، أو يدل على (إمام) من الـ(الأئمة) خصوصاً. فكيف يحتج بها وهي دون المتشابه؟! إنها لو كانت متشابهات لما صح الاحتجاج بها. فكيف وهي لا تصلح أن تكون كذلك؟!!
لا توجد – من بينها - آية واحدة صريحة يمكن اعتبارها دليلاً في الموضوع. فضلاً عن تعدد الآيات، وتكرارها. وأصول العقيدة عليها من الآيات القرآنية الصريحة
ما يصعب عده لكثرته وتكراره!
ليس لهذه الآيات في القرآن كله آية واحدة محكمة يمكن اعتبارها (أماً) نرجع بها
إليها كما هو الحال مع الآيات المتشابهة التي تتعلق بأمهات الأصول الثابتة.
04 لا توجد -من بين هذه الآيات كلها- آية واحدة تنص على (الإمامة). والأمر كله قائم على الاستنباط دون التنصيص. بينما الأصول تقوم على التنصيص وليس الاستنباط .(60/9)
05 بما أن هذه الآيات لا تدل على (الإمامة) بنفسها لعدم صراحتها فإن إسنادها بالروايات ضرورة لا بد منها. لذلك لجأ الإمامية إلى تفسيرها وإسنادها بالروايات. كرواية الغدير والتصدق بالخاتم وقصة حارث بن نعمان الفهري … الخ. وكلا الأمرين- التفسير والرواية- لا يصلح دليلاً في أصول العقيدة.
06 ليس في هذه الآيات -ولا في القرآن كله- أدلة إثبات عقلية على مسألة (الإمامة). كما هو الشأن في أصول العقيدة كالألوهية والنبوة والمعاد.
07 ليس في هذه الآيات ما ينص على الأمر بالإيمان بـ(الإمامة)، ولا التحذير أو النهي عن جحودها. وليس في القرآن آية واحدة تنذر بالنار أو العقوبة من كفر (بالإمامة) ولم يؤمن بها. كما هو الشأن في أصول العقيدة كالإيمان بالله تعالى، أو نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - !
08 لا مصلحة يمكن تحقيقها من وراء الإيمان بـ(الإمامة) يمكن أن تضاف إلى ما يحققه الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر من مصالح. وذلك أن الدين أصول وفروع.
فأما الأصول فمبينة بوضوح في القرآن لا نحتاج معه لمعرفتها إلى (إمام) ولا غيره. بل القاعدة الأصولية الإمامية تقضي بثبوت الأصول بالعقل وحده.
وأما الفروع فقد تكفلت بها السنة النبوية. ومنها ما هو مذكور في القرآن نفسه. ويمكن الاستدلال على أحكامها بالإجماع أو الاجتهاد. وهذا كله لا حاجة فيه (للإمام). وليس الاختلاف في الفروع مضراً إلى درجة الاحتياج إلى شخص كالنبي هو (الإمام). بل العلماء الربانيون يقومون بذلك خير قيام. فإن أجمعوا وجب اتباعهم. وإن اختلفوا فالأخذ بأي من الأقوال المختلفة جائز ومجزٍ ومبرئ للذمة(1). فما وجه الحاجة إلى (الإمام)؟! لاسيما وأن الدين قد اكتمل. والنعمة قد تمت؟!
__________
(1) وهذا ما يكتبه كل مرجع من مراجع الإمامية مختوماً بتوقيعه في الصفحة الأولى من (رسالته العملية) مع أنه ليس (بإمام) معصوم!(60/10)
فالمسلم في أصوله يرجع إلى القرآن نفسه بنفسه. وفي الفروع إذا أشكل عليه أمر
رجع إلى العلماء. وهذا هو الواقع الحتمي للجميع. حتى الإمامية فإنهم إنما يقلدون العلماء وليس (الأئمة). وهؤلاء العلماء مختلفون فيما بينهم. كما اختلفوا أخيراً في وجوب صلاة الجمعة، و(ولاية الفقيه).
فلم يبق للعمل بالدين إلا الخوف من الله تعالى وهذا يكفي فيه الإيمان باليوم الآخر. فقولهم بضرورة وجود (إمام) محض خيال لم يستفيدوا منه شيئاً لا في دين ولا دنيا.
وهكذا سقط الاحتجاج وبطل الاستدلال على وجود أصل (الإمامة). وبطلت (الإمامة) من الأساس. وتبين أنه لا شيء من الدين اسمه (الإمامة): لعدم وروده في القرآن بالنصوص القطعية المحكمة. ولا أساس له فيه إلا المتشابهات والظنون والاحتمالات. وأنه ليس { لهم به من علم إلا الظن وان الظن لا يغني من الحق شيئا } .
وكل ما سنذكره لاحقاً إن هو إلا استطراد لزيادة الفائدة. لا لأن الرد على الاستدلال بهذه (الأدلة) وإبطال حجيتها على (الإمامة) يحتاج إليه.
المبحث الثاني
حقائق مهمة عن أصول الإمامية
1- أصول الإمامية تلقينية لا قرآنية
لو أعطينا القرآن لرجل لم يسمع بالإسلام ولم يعرف عنه من قبل شيئاً. غير أنه على معرفة جيدة باللغة العربية. ثم قلنا له: اقرأ واكتب لنا إحصاءاً بأهم ما يدعو إليه هذا الكتاب لجاءت النتيجة كالآتي:
أ. إن الأصول التي سجلتها سابقاً - بناءاً على الأدلة القرآنية الصريحة المحكمة - ستأتي على رأس القائمة - ولا شك - إذ لا بد أن يجد في القرآن ذكراً مكرراً صريحاً عن الإيمان بإله واحد، ونبي اسمه محمد، ويوم القيامة، والجنة والنار، والملائكة، ومدح المهاجرين والأنصار. ووجوب الصلاة والزكاة …الخ.(60/11)
ب. وإذا سألناه وقلنا له: أين إمامة علي والحسن والحسين وجعفر الصادق والحسن العسكري؟ وأين عصمتهم؟ لماذا لم تكتب لنا أنهم حجة الله على خلقه. وأن (ولايتهم) هي الأمانة التي عرضها على السماوات والأرض والجبال(1) ؟
بل أين خمس المكاسب وأن على المسلمين أن يؤدوا خمس أموالهم وأرباحهم إلى الفقهاء؟ ولماذا لم تذكر نكاح المتعة؟
إن هذه الأسئلة وأمثالها ستشكل بالنسبة إلى هذا الرجل ألغازاً يصعب عليه حلها، ولو رجع إلى القرآن ألف مرة !!
إن هذه الأمور لا يمكن العثور عليها في القرآن ابتداءاً. فكيف يوجب الله تعالى على عباده الإيمان بها؟ وتكون معرفتها كمعرفة الله ورسوله؟ ولا يعذر أحد بجهالتها؟ من عرفها كان مؤمناً ومن أنكرها كان كافراً؟ وهي غير واضحة في كتابه، ولا يمكن أن ينتبه إليها أحد دون سابق تعريف أو تلقين ؟!
إنها أمور تلقينية يعتاد الإنسان على سماعها لكثرة ترديدها منذ الصغر. فتترسب في ذاكرته، وتصبح عقيدة يؤمن بها ويدعو اليها. مَثَلُها كمثل أي عقيدة باطلة كالمجوسية والهندوسية تترسخ في الأذهان بمرور الزمن وتقادم العمر. فمصدرها التقليد والتلقين، وليس الدليل القائم على القطع واليقين.
قارن ذلك بأدلة التوحيد والنبوة والمعاد والصلاة والزكاة والجهاد، والنهي عن القتل
والزنا وأصول الفساد!
ولنأخذ مثالاً واحداً للمقارنة هو الإنفاق، سواء كان زكاة أم صدقة. وفي سورة واحدة هي (سورة البقرة) التي جمعت شرائع الإسلام جميعاً، فهي أم الكتاب بعد (أم الكتاب) – الفاتحة.
الإنفاق في سورة (البقرة)
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } /3
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } /43
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } /83
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } /110
__________
(1) الكافي1/413.(60/12)
{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } /177.
{ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } /195
{ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ } /196
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَْقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } /215
{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } /219
{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } /245
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ } /254(60/13)
12-25. { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ(60/14)
بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُوا الأَلْبَابِ * وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ./261-274(60/15)
26-27. { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ./276،277
28. { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } /280
هذه ثمان وعشرون آية في سورة واحدة! ذكرت الإنفاق تشريعاً وترغيباً وأحكاماً وآداباً بعبارات صريحة قاطعة لا تدع مجالاً للريب أو الشك في هذا الأصل العظيم من أصول الدين، الذي يعتبر من ناحية أخرى أساساً من أساسيات الحياة وضرورياتها. ولذلك جاء التأكيد عليه في القرآن الكريم كثيراً.
و(الإمامة) عند الإمامية أحد أصول الدين كالتوحيد والنبوة سواء بسواء. والإنفاق
بالنسبة إليها فرع صغير جداً، فكيف يذكر الفرع بهذه الطريقة الواضحة المفصلة بينما يترك الأصل مبهماً مشتبهاً لو فتشوا عنه القرآن كله لما وجدوا عليه إلا آيات متشابهة لا تساوي نصف عدد آيات الإنفاق والزكاة في سورة واحدة من القرآن؟!!
2- آيات (الإمامة) ليس لها (أُمٌ) من المحكمات في القرآن(60/16)
توجد في القرآن آيات متشابهات لها علاقة بأصول الاعتقاد يمكن الاحتجاج بها على معان فاسدة مخالفة للأصول الصريحة الورود في القرآن. لكن بإرجاعها إلى (أُمها) من المحكمات تنسخ تلك المعاني ولا يبقى لها مجال في الاعتقاد. من ذلك قوله تعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (الحجر/9). احتج به النصارى على
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن المتكلم جماعة وليس فرداً لتأييد عقيدتهم في التثليث. لكن هذه الآية وأمثالها وجميع الآيات المتشابهة التي لها نوع تعلق بأي أصل من أصول الدين وأساسياته لم ترد في القرآن بلا (أُم) من المحكمات تحدد معناها وتقضي على إشكالها. ولذلك امتلأ القرآن الكريم من الآيات التي تصرح بأن الله واحد لا شريك له كقوله تعالى: { والهكم اله واحد لا اله إلا هو الرحمن الرحيم } (البقرة/163) وأمثاله.
لكن آيات الإمامة -وهي جميعاً متشابهة- ليس لها في القرآن (أُمّ) من المحكمات ترجع إليها. مع أن الله تعالى ذكر في آية (آل عمران) أن الآيات المحكمات هن أم الكتاب ومرجعه عند الاختلاف والاشتباه. وأن الآيات المتشابهات ليست مرجعاً أو (أُمّاً). وذلك في قوله تعالى: { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } .
والآيات التي يحتج بها الإمامية على الإمامة – جميعاً - لا هي محكمات يصح أن تعتمد كمرجع في الأصول، ولا هي متشابهات لها (أم) من المحكمات تحدد معناها وترجع إليها. ما يدل جزماً وقطعاً على بطلان اعتمادها أساساً ومرجعاً ودليلاً على (الإمامة).
3- لا آداب ولا أحكام في القرآن تتعلق بـ(الإمام)
ذكر القرآن الكريم الرسول - صلى الله عليه وسلم - باسمه صراحة. وذكر معه أحكاماً كثيرة تتعلق به كنبي، وآداباً للتعامل معه ملزمة لأصحابه وأمته من بعدهم. نذكر منها – على سبيل
المثال لا الحصر ؛ لأنه غير ممكن - ما يلي :(60/17)
{ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً } (الأحزاب:52).
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ
عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } (الأحزاب:50) .
{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ*قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً } (المزمل:1،2 ) .
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (الأحزاب:56)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } (الحجرات:2).
{ وَالنجْمِ إِذَا هَوَى*مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى*وما ينطق عن الهوى } (لنجم:1-3) .
{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ(60/18)
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً } (الأحزاب:6) .
وهكذا مئات الأحكام والآداب.
لكننا لا نجد آية واحدة تصرح باسم (الإمام)، أو تتحدث عن آداب التعامل معه، أو تذكر حكماً واحداً من الأحكام المتعلقة به مع أن (الإمام) عند الإمامية أعلى من النبي: فالنبي يترقى حتى يصير (إماماً)، و(الإمامة) مرتبة فوق النبوة!!
وهذا يدل على بطلان مفهوم (الإمام) الذي تدور حوله الإمامية.
بينما تعج رواياتهم وكتب اعتقاداتهم وهي تفصل لـ(الإمام) أوصافاً وأحكاماً وآداباً لو صحت فإنه يستحيل أن يغفل القرآن ذكرها لعظمتها، وعظم الحاجة الدينية الفاصلة بين الكفر والإيمان إلى معرفتها. علماً أن القرآن ذكر أحكاماً وتفاصيل وآداباً لمسائل أدنى بكثير من (الإمامة) عند الإمامية كالصلاة والوضوء والجنابة وقضاء الحاجة. فكيف لا يذكر لـ(الإمام) حكماً واحداً من أحكامه، وآدابه وهو بهذه المنزلة العالية الخطيرة ؟!!
يقول محمد رضا المظفر: (نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها … كما نعتقد أنها كالنبوة لطف من الله. فلا بد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين. وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شؤونهم ومصالحهم، وإقامة العدل بينهم،ورفع الظلم والعدوان من بينهم.(60/19)
وعلى هذا فالإمامة استمرار للنبوة… ونعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن. من سن الطفولة إلى الموت. عمداً وسهواً. كما يجب أن يكون معصوماُ من السهو والخطأ والنسيان. لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامون عليه. حالهم في ذلك حال النبي. والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة بلا فرق… ونعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون أفضل الناس… ونعتقد أن الأئمة هم أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم وأنهم الشهداء على الناس. وأنهم أبواب الله، والسبل إليه والأدلاء عليه... بل نعتقد أن أمرهم أمر الله تعالى ، ونهيهم نهيه، وطاعتهم طاعته، ومعصيتهم معصيته، ووليهم وليه، وعدوهم عدوه. ولا يجوز الرد عليهم. والراد عليهم كالراد على الرسول. والراد على الرسول كالراد على الله تعالى. فيجب التسليم لهم والانقياد لأمرهم والأخذ بقولهم.
ولذا نعتقد أن الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلا من نمير مائهم. ولا يصح أخذها إلا منهم. ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى غيرهم. ولا يطمئن بينه وبين الله إلى أنه قد أدى ما عليه من التكاليف المفروضة إلا من طريقهم. إنهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق في هذا البحر المائج الزاخر بأمواج الشبه والضلالات)(1).
هذا أخف ما جاء عن (الإمام) في كتب الإمامية. وكتبهم المعتمدة طافحة بما لا مزيد عليه من التعظيم إلى حد الغلو الخارج عن الشرع والعقل. بل الذوق.(2)
فلماذا لم ترد هذه الأحكام – أو بعض منها - في القرآن ؟!
4- الإمامية أضعف حجة من اليهود والنصارى
__________
(1) عقائد الشيعة ص 43،44،45،47،48.
(2) انظر بعض ذلك فيما أوردناه – لاحقاً - من روايات عن الكليني في موضوع (التمسك بأهل البيت). بعنوان (روايات كفرية …).(60/20)
وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل في ظاهرها على صحة دين أهل الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم كالصابئة. وقد احتجوا بها على عدم وجوب إسلامهم وشرط متابعتهم لنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم - . وهي أقوى في دلالتها بمراتب كثيرة من الآيات التي احتج بها الإمامية على إثبات أصل (الامامة)، وغيرها من أصولهم. ومع ذلك فلا نرى لهم - أي اليهود والنصارى - فيها حجة على ما يقولون!
من هذه الآيات:
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (البقرة/62) .
ولا شك في أن ظاهر هذه الآية يدل على صحة دين اليهود والنصارى؛ إذ لم يشترط للنجاة يوم القيامة إلا الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح دون الإيمان بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وغير ذلك من شروط الإسلام. فهل لأي دليل من أدلة (الامامة) التي احتجوا بها مثل هذه القوة والوضوح في الدلالة على المراد ؟!
أما موضع الخلل في الاستدلال بهذه الآية، فيكمن في عزلها عن الآيات المحكمة التي تشترط الإسلام ومتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - . مما يجعل الآية خاصة بمن مات ولم يبلغه الإسلام. مع أن هذا القيد غير موجود فيها. وإنما يتبين من إرجاعها إلى الأصل. وهو الآيات المحكمة (أم الكتاب).
ولنا أن نسأل فنقول: هل يوجد في القرآن كله نص واحد يدل بظاهره دلالة واضحة على (إمامة) علي - رضي الله عنه -. أو اثني عشر(إماما). كدلالة نص هذه الآية في ظاهره على صحة دين اليهود والنصارى والصابئين. التي لولا وجود آيات أخرى محكمة تقيدها، لكانت نصاً صريحاً في نجاتهم وصحة دينهم؟!(60/21)
إن جميع الآيات التي ساقوها أدلة على إثبات (الإمامة)، وغيرها من أصولهم لا تدل بذاتها أو صيغتها اللفظية على ذلك إلا على سبيل الاشتباه والاحتمال البعيد جداً. بل عامتها لا احتمال فيها بمجرد صيغتها وتركيبها. فيحتاجون – لتقويتها - إلى الروايات. وإلا فإن مجرد النص لا علاقة له بها. كقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } ما علاقته (بامإمة) علي ؟! إن هذا المعنى غير موجود بتاتاً في نص الآية! أو قوله: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } إذ ليس في تركيبها اللفظي ما يدل أو يشير إلى علي أو غيره. فلا بد من شيء آخر من خارج النص، يوجه النص ويكمله ويقوّله بما يراد له أن يقال. فيأتي دور الرواية - ولا بد - مصرحاً بالاسم. ثم لا بد معه من تفسير النص بما يتلاءم مع الدعوى. وهذه اللوازم جميعاً لا تحتاجها الآية التي يحتج بها اليهود والنصارى الآنف ذكرها!
فأي الفريقين أقوى. وأحق بصحة الدعوى؟!
2. { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } (يونس/94) .
يقولون: نحن المرجع فإذا لم يكن المرجع سليماً مؤمناً ضاع من حاول الرجوع إليه.
3. { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } (الأنبياء/7) . قال اليهود والنصارى: نحن أهل الذكر فنحن المرجع والأصل فكيف نكون كفاراً؟!(60/22)
ولا شك أن سياق الآية يدل على أن المقصود بـ (أهل الذكر) أهل الكتاب؛ لأن قريشاً استدلت على بطلان نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ببشريته، وأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. فقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } (الأنبياء/7،8) أي تستطيعون - إن لم تكونوا تعلمون - أن تسألوا أهل الكتاب (الذكر) فيخبروكم هل الأنبياء بشر أم لا ؟
فقوله: { فاسألوا أهل الذكر } يساوي قوله: { فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك } . وقوله: { إن كنتم لا تعلمون } يساوي قوله: { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } وقد جاء قبلها مباشرة قوله تعالى: { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ } (يونس/93). وهذا مدح. بل قال الله: { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } (الشعراء/197). إن هذه الآية أقوى دلالة. وأليق بما قال اليهود والنصارى منها بما قاله الإمامية من أن مقصود الله فيها بـ(أهل الذكر) هم (الأئمة). إذ لا علاقة بين منطوق الآية وذكر (الأئمة) البتة. ولا قرينة تدل عليهم فيها لا من قريب ولا بعيد!
ولو اختلف اليهود والشيعة في هذه الآية: أيهما أحق بها وأولى؟ لكان الرجحان واضحا في جانب اليهود. وهنا يحق لنا أن نقول للشيعة : أثبتوا دعواكم عند اليهود ثم احتجوا بها على من تريدون!!(60/23)
{ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } (آل عمران/113- 115).
وهذا تكرار وتفصيل لما جاء في آية البقرة السالفة الذكر(1) من شروط الإيمان والنجاة. وليس فيها شرط الدخول في الإسلام!
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } . (البقرة/112،47) مرتين في القرآن. وفيها تنصيص على أفضليتهم واختيارهم على العالمين.
{ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًاً مِنْ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } (الدخان/30-32).
وهذا تنصيص أيضاً على اختيارهم وتفضيلهم على العالمين. أليس فيه حجة لهم على أنهم شعب الله المختار؟! فلماذا لا نقر لهم بذلك؟ سؤال نوجهه إلى (الإمامية) الذين فضلوا أنفسهم على الأمة. وعلى العالمين. وليس عندهم من نص قرآني بذلك، متشابه ولا غير متشابه. وأي رد يصلح أن يكون رداً على اليهود، يكون رداً عليهم من باب أولى!
__________
(1) رقم 62.(60/24)
تصور لو أن الله قال: ("ياشيعة علي" اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) أو قال: (ولقد نجينا "الإمامية" من العذاب المهين ولقد اخترناهم على علم على العالمين) ماذا سيقولون؟! إن المنطق العلمي الاستدلالي يقضي بأنه حتى لو قال –سبحانه- ذلك لما كان لهم به من حجة. لأن القول نفسه لم يصلح حجة اليهود. الذين نزل فيهم. فكذلك لو نزل في غيرهم. فكيف والله تعالى لم يقل مثله في حق الإمامية ولم يشر إلى ذلك أدنى إشارة ؟!
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ } (الجاثية/ 16) . ضع بدل "بني اسرائيل" لفظ "الإمامية" أو "بني علي" وتصور ماذا ستكون النتيجة ؟!
{ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ } (غافر/53). تخيل أن الله تعالى قال: (وأورثنا شيعة علي الكتاب) ؟!
{ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } (الأعراف/137).
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } (السجدة/23،24). ولو جاء ذكر الإمامية بدل بني إسرائيل لقالوا: هذا نص في (الإمامة) و(الأئمة)(1)
__________
(1) إن هذا الذي نقوله ليس افتراضات ذهنية مجردة. بل هو عين ما فعله علماء الإمامية منذ زمن بعيد! من ذلك ما رواه الكليني في كتاب (الكافي) منسوباً لـ(الأئمة). وهذا بعضه:
عن أبي جعفر (ع) قال: نزل جبريل (ع) بهذه الآية هكذا: ((إن الذين ظلموا (آل محمد) لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا)) 1/424
عن أبي جعفر (ع) قال: نزل جبريل (ع) بهذه الآية هكذا: ((فأبى أكثر الناس (بولاية علي) إلا كفورا)). ونزل جبريل (ع) بهذه الآية هكذا: ((وقل الحق من ربكم (في علي) فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنّا أعتدنا للظالمين (آل محمد) ناراً)) 1/425
عن أبي جعفر (ع) قال: نزل جبريل (ع) بهذه الآية على محمد r هكذا: ((بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما انزل الله (في علي) بغياً)) 1/417
عن جابر قال: نزل جبريل (ع) بهذه الآية على محمد هكذا: ((وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا (في علي) فاتوا بسورة من مثله)) 1/417
ومثل هذا الكفر الصريح في كتاب (الكافي) وأمثاله كثير!(60/25)
. والحقيقة أن الإمامية احتجوا بهذا النص دليلاً على (الإمامة) مع أنه في حق بني إسرائيل !!
{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا } . (المائدة/12).
تصور لو أن الله قال: (ولقد أخذنا ميثاق "آل محمد" وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً). ماذا سيقولون؟! سيقولون : هذه الآية نص في الأئمة الاثني عشر. وإن الأئمة منصوص عليهم في الكتاب ! ولكن الآية نص في بني إسرائيل. وليس لبني إسرائيل فيها حجة. فهل عند الإمامية نص قرآني ولو بقوة هذه الآية ووضوحها ودلالتها؟!
ولقد ذكر الله تعالى أنه اختار امرأة منهم وفضلها على نساء العالمين، هي مريم(60/26)
ابنة عمران. ورزقها بولد من دون زوج. وجعله نبيا كما قال سبحانه: { وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } (آل عمران/42) وأنزل في حقها الكثير من الآيات مصرحة باسمها كقوله سبحانه: { وَمَرْيَمَ ابنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ } (التحريم/12). كل هذا لا يشفع لليهود ، وليس فيه حجة لهم لأنهم مقطوعو الصلة بذلك السلف الصالح كما قال تعالى: { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (البقرة/133،134). وقال: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإْنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } (المائدة/68) وأوله الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ومتابعته.(60/27)
إن الألقاب والانتساب لا ينفع صاحبه دون عمل ومتابعة لمن انتسب إليه كما قال الرب جل وعلا: { إن أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه } (آل عمران/68) وليس الذين أحبوه، أو انتسبوا إليه. فحب اليهود ليعقوب وانتسابهم إليه، وحبهم لداود وموسى وسليمان وغيرهم. وحب النصارى للمسيح وانتسابهم إليه ليس بنافعهم لانقطاعهم عن المنهج والتعاليم التي جاء بها هؤلاء الأنبياء الكرام عليهم السلام: قال تعالى: { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } . هذا هو الانتساب الأجوف الذي لا قيمة له. لذلك عقب الله عليه بقوله: { قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } (البقرة/135). إن الله يريد الملة والدين الصحيح. أما الاسم والنسب فلا قيمة له عنده.
ومع هذا كله انتقل إلينا هذا المرض الخطير فصار فينا من يتعصب للأسماء والطوائف، ويفخر بالانتساب إلى مشاهير الملة دون العمل بما دعوا إليه، وجاهدوا من أجله. وهذا ليس بنافعهم بل هو ضار بهم: في الدنيا تفرقة وتمزقاً وفتناً. وفي الآخرة خسراناً مبيناً.
إن الانتساب إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - نفسه لا قيمة له دون عمل واتباع كما قال سبحانه:
{ قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني } (آل عمران/31) فحب الله تعالى نفسُه لا وزن له عنده من دون اتباع صحيح لما أنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - . فما بالك بالانتساب إلى من هو دون
محمد - صلى الله عليه وسلم - كعلي - رضي الله عنه - وادعاء حبه والتعصب له والانتساب الفارغ إليه؟!
ولو افترضنا أن الله تعالى أمر بذلك صراحة فلا شك أنه لم يقصد الانتساب المجرد عن المتابعة. فكيف إذا كان المنتسب مخالفاً لصريح القرآن منهجاً وتطبيقاً. وأول ذلك اتباع المتشابهات وترك المحكمات؟!
المبحث الثالث
معنى الإمام في لغة العرب أو القرآن
(الإمام) – لغةً - لفظ مشترك بين ثلاثة معان هي:
القدوة
الكتاب
3. الطريق(60/28)
جاء في (مختار الصحاح) للرازي:
(الإمام): الصقع من الأرض، والطريق. قال الله تعالى: { وإنهما لبإمام مبين } .
و(الإمام): الذي يقتدى به. وجمعه (أئمة) … وقوله تعالى: { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } قال الحسن: في كتاب مبين.
وفي (مفردات ألفاظ القرآن) للراغب الأصفهاني:
(الإمام): المؤتم به، إنساناً- كأن يقتدى بقوله أو فعله- أو كتاباً، أو غير ذلك. محقاً كان أو مبطلاً. وجمعه (أئمة).
وقوله تعالى: { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } أي بالذي يقتدون به، وقيل بكتابهم…
وقوله: { وكل شيء أحصيناه في أمام مبين } فقد قيل إشارة إلى اللوح المحفوظ أ.هـ.
فأصل معنى اللفظ ما يؤتم به ويتَّبع.
وبما أن (القدوة والكتاب والطريق) تشترك في هذا المعنى لذا أطلق عليها هذا اللفظ . فالقدوة من يؤتم به ويتبع محقاً كان أم مبطلاً. والطريق يتبعه السالك ليصل الى غايته. وكذلك الكتاب تتبع ألفاظه، وسطوره، ومقاصده للوصول إلى المراد.
قاعدة في معرفة المعنى المراد من اللفظ المشترك بين عدة معان
اللفظ إذا كان مشتركاً - أي يحمل أكثر من معنى في أصله اللغوي - لا بد أن يكون مراد المتكلم حين استعماله أو وضعه في جملة ما معنى واحداً محدداً من معانيه. وهذا المعنى المراد لا بد أن يكون في كلام المتكلم به ما يدل عليه ويخصصه دون غيره من المعاني المشتركة، وهو ما يسمى بالقرائن وإلا لم يكن الكلام فصيحاً مبيناً بل
مبهماً مشكلاً.
مثال: لو أخذنا لفظ (العين) كمثال، نجده في أصله اللغوي مشتركاً بين عدة معان منها: العين الباصرة والجاسوس وعين الماء.
تقول: ذهبت إلى طبيب العيون.
... وأمسكنا بعين للعدو.
... وشربنا من عين صافية.(60/29)
لا يصح حمل (العين) في اللفظ الأول على الجاسوس، ولا في الثاني على عين الماء، ولا عين الإنسان في اللفظ الثالث للقرائن اللفظية المانعة من ذلك والحاملة على تفسير (العين) الأولى بعين الإنسان، والثانية بالجاسوس، والثالثة بعين الماء. اللهم إلا عند مجنون أو غبي تناهى غباؤه -وما أكثرهم!- فإذا وضع هذا (المجنون) على رأسه عمامة ألا يصير مسخرة للعقلاء ؟ فإذا كثرت هذه العمائم كونت فرقة مجانين لا أكثر! فلا بد من الالتفات إلى سياق الكلام الذي ورد فيه اللفظ ، وقرائنه لتحديد معناه. وإلا صار التفسير لعباً -لا يليق- بكتاب الله جل وعلا.
أرأيت ما قصد يوسف - عليه السلام - بكلمة (الرب) في قوله الذي حكاه الله عنه: { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } (يوسف/42) وقوله: { أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمرًا } (يوسف/41) هل يحتمل السياق وقرائنه أن نفسر لفظ (الرب) هنا بغير الملك؟!
الإمام بمعنى القدوة
وكذلك لفظ (الإمام): يأتي مرة بمعنى القدوة كما في قوله تعالى:
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } (الفرقان/74).
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } (السجدة/24).
{ وَإِذْ ابتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } (البقرة/124).
{ فقاتلوا أئمة الكفر } (التوبة/12).
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } (القصص/41).
فالإمام هنا معناه واحد هو القدوة في الخير أو الشر.
الإمام بمعنى الكتاب
ويأتي مرة بمعنى الكتاب كما في قوله:(60/30)
{ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً } (هود/17) ، (الأحقاف/12).
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } (الإسراء/71). والقرينة الصارفة لمعنى اللفظ هنا إلى الكتاب هي تتمة الآية نفسها التي تقول: { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } (الإسراء/71). وقد جاء في أول السورة قوله سبحانه: { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُيَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا* اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى كِتَابَهُمْ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } (الإسراء/ 13،14). فمعنى الآية: فأما من أوتي كتاب عمله بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ويستبشرون به، كما قال تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِية } (الحاقة/19).
وهذا بالضبط كقوله تعالى: { وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون* هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون* فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين* وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين } (الجاثية/28-31).
وليس المقصود أن لكل طائفة من الناس إماماً أو كتاباً يشتركون فيه، وإنما لكل فرد كتاب -أو إمام- خاص به. وهذا المعنى واضح لمن قرأ في الآية نفسها قوله سبحانه: { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآْخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } (الإسراء/71،72).(60/31)
وهو كقوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا } (الانشقاق/7-12).
أما تفسير (الامام) بـ(القدوة) هنا فشبهة واحتمال يفتقر إلى قرينة. وهو بعيد. وأبعد منه تفسيره بـ(الامام) بمعناه الذي اصطلحت عليه الإمامية: وهو الرجل المنصوص على (إمامته) من الله ؛ لأنه مبني على تفسير اللفظ وجعله بمعنى القدوة، وهو – كما قلت – شبهة، فالقول المبني عليه شبهة بنيت على شبهة. وأصول الدين مبناها على القطع واليقين، لا على الشبهات والظنون.
ويحتاج الإمامية – بعدُ - إلى القول بأن المقصود بـ(الإمام) هنا أشخاص معينون دون سواهم. وذلك محال لعدم وجود أي قرينة أو إشارة إلى ذلك، فضلاً عن التصريح به. وهو الذي نحتاجه هنا. فالقول به تعسف وتمحل لا أكثر. فصار الاستدلال بالآية محالاً مبنياً على شبهة بنيت على شبهة!!!
وما هكذا أقام الله سبحانه بناء دينه، وثبّت أركانه، وأرسى دعائمه ؟
إن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - كلها من أولها إلى آخرها ستدعى خلف راية محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده. وهو الشهيد عليها دون غيره كما قال تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً }
(النساء/41-42)، وقال: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَء } (النحل/89).(60/32)
بل هو الشهيد على الأمم جميعا كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقرة/143).
وقال: { هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } (الحج/78).
ولن تقسم أمته أوزاعاً فطائفة تأتي خلف علي.. وطائفة خلف الحسن.. وأخرى خلف الحسين.. ورابعة وخامسة… الخ.
وأما الطائفة الثالثة عشرة فستكون أكثر الطوائف عدداً! لأن (الإمام) الثاني عشر مر عليه مع (أمته) لحد الآن قرابة اثني عشر قرنا. فإذا استمر (غيابه) إلى يوم القيامة فكم سيقف تحت رايته، ويفيء إلى غايته؟!!
ورسول الله في ذلك الموقف يكاد يضيع، ولا يُرى لقلة عدد أمته التي ستحشر معه بعد تقسيم الباقين منهم على (شركائه)، لا سيما أن غالبية معاصريه سيكونون من
حصة (خليفته) الذي حل من بعده!!
إن هذا مقتضى تفسير الآية بـ(الإمام المعصوم الحجة على أهل زمانه): أي إن كل مجموعة تدعى بـ(إمام) زمانها، فتقسم الأمة على عدد (الأئمة)!
إن معنى الآية: يوم ندعو كل إنسان بكتابه، فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يكون إمامه وقائده إلى الجنة، ومن أوتي كتابه بشماله فسوف يكون إمامه وقائده إلى النار.
وضحكت مرة وأنا أسمع بأذني وأرى بعيني رجلا عاقلا محترما معمما كبير العمامة.. عظيم الهامة.. طويل القامة.. واسع العينين.. عريض ما بين المنكبين.. لا تدري أصله من أين؟ سألته عن دليل (الإمامة)؟ فقال: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)! وكيف لا أضحك وقد تخيلت ظهر (الإمام) كالسبورة يدور به وقد امتلأ بالكتابات والأرقام والإحصاءات!(60/33)
إن هذه العبارة جاءت ضمن قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نُحْييِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } (يس/12). إنها كتابة وإحصاء أيها … (الـ..عقلاء)!
الإمام بمعنى الطريق
وأما الإمام بمعنى الطريق فكما في قوله تعالى: { وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأْيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ } (الحجر/78-79). أي إن آثار قرى قوم شعيب وقرى قوم لوط المذكورتين قبلهم لبطريق واضح. يأتمون به في سفرهم. ويهتدون به إلى غايتهم. فهذه ثلاثة معان للإمام في القرآن لا رابع لها فيه.
المعنى الرابع للإمام اصطلاح حادث
أما (الإمام) بمعنى الشخص المعصوم المعين من قبل الله تعالى المفترض الطاعة على الخلق- فهو اصطلاح حادث مخترع لا عهد به للعرب أو لغتهم التي نزل بها القرآن! إنما هو معنى ابتدعته الإمامية على اختلاف فرقها: من إسماعيلية واثني عشرية وفطحية وواقفية وناووسية وكيسانية…الخ. وذلك بعد فترة طويلة من اكتمال نزول القرآن وإكمال الدين وإتمام النعمة.
لا وجود لمعنى (الإمام المعصوم) في لغة العرب ولا اصطلاح القرآن
لا تعرف العرب من لغتها هذا المعنى الحادث للفظ [الإمام] . كل ما في الأمر أنهم يطلقون هذا اللفظ – إذا عنَوا به شخصاً - على القدوة. ولم يكن من شرطه عندهم أن يكون معصوماً، أو منصَّبا من عند الله. ولا يعرف أنهم اتخذوا إماماً يقتدون به يمتلك هذه المواصفات، أو اشترطوها له على مدار تاريخهم.
فكيف يستعملون لفظا في معنى غير معروف أو موجود لديهم ؟! بمعنى كيف يضع قوم لفظا لمعنى غير معروف، أو اسماً لمسمى غير موجود ؟! أوَ ليس من المتعارف عليه أن وجود المسمى يسبق وجود الاسم؟ وأن الاسم حاجة تتولد بعد وجود المسمى؟(60/34)
ولم تكن في حياة العرب يوما حاجة لوجود قدوة معصوم. ولا يعرفون هذا المعنى. وهم أبعد الناس عن تقديس الأشخاص، والخضوع أو التقليد الأعمى لهم. ومات الصحابة والتابعون ولم يعرفوا هذا المعنى. وكانوا –كأسلافهم في بيئة العرب- أبعد الناس عن تقديس الأشخاص، بل كانوا يناقشون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه في الأمور الخارجة عن دائرة الوحي. وكان - صلى الله عليه وسلم - يقبل نصائحهم ومشورتهم، ويشجعهم على ذلك. وفي ذلك نزل قوله تعالى: { وشاورهم في الأمر } (آل عمران/159).
ثم لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعاملوا خلفاءهم وأئمتهم كأشخاص مقدسين معصومين. بل كانوا يناقشونهم ويردون عليهم، إلا ما جاء به الوحي صريحاً بشروطه الأصولية المعروفة. هكذا تعاملوا مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فمن دونهم.
وهذا ما روته كتب الإمامية أنفسهم، فقد جاء في كتاب (نهج البلاغة) مروياً عن علي - رضي الله عنه - ما يلي:
* (لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره)(1).
* (ما أهمني ذنب أمهلت بعده حتى أصلي ركعتين)(2).
__________
(1) 2/201 . يحاول البعض أن يتشبث بعبارة: [إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني] دليلاً على (العصمة) مع أن هذا يتساوى فيه علي - الذي تدعى له (العصمة) - مع غيره؛ فإن كل إنسان يصح أن يقول: (أنا لست في نفسي بفوق أن أخطئ ... إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو = = أملك به مني). فالإنسان - أي إنسان - ما لم يتداركه الله تعالى بعنايته فيكفيه ويكفه عن الوقوع في الخطأ والخطيئة فهو واقع فيهما لا محالة. وإلى ذلك الإشارة في نهاية القول بعبارة: (فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره).
(2) 4/72.(60/35)
* من وصيته لابنه الحسن - رضي الله عنه - : (إن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك به فإنك أول ما خلقت جاهلاً ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك ويضل فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك)(1).
* (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا)(2).
فالإمام إذن تعيين بشري يتم بإجماع الأمة (المهاجرين والأنصار). وكذلك الإمامة أو الخلافة ليست منصبا إلهياً لا يتم إلا بتعيين من الله!
نعم كان العجم يقدسون ملوكهم ويعتبرونهم أشبه بالآلهة. ولكن القرآن لم ينزل بلغة العجم ولا في بيئتهم.
ولقد وردت في القرآن مصطلحات جديدة على لغة العرب: كالإسلام والشرك والنفاق والصلاة والزكاة. ووردت فيه مصطلحات معروفة ومتداولة من قبل كالنبي والرسول.
أما الإمام بالمعنى الاصطلاحي الإمامي فلم يرد – ولا - في موضع واحد منه. وليس فيه من إشارة إلى وجود (أئمة) بهذا المعنى قبل الإسلام، كما تطرق إلى ذكر الأنبياء وأسمائهم وسيرهم. وليس فيه ذكر لقضية عظيمة اسمها (الإمامة) انشغل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الأنبياء عليهم السلام من قبل، وشغلوا بها أقوامهم، وخاصموهم عليها، وقاموا بإثباتها بالأدلة والمعجزات، ونفي الشبه عنها. ولم يكن أي نبي يدعو مع نبوته إلى (إمامة) أحد معه أو الوصية به من بعده. ولم تكن مشكلة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - مع قومه غير التوحيد والنبوة والمعاد. وهذه الأمور الثلاثة واضح ذكرها في القرآن المكي، بل عامته فيها.
أما (الإمامة) التي يقال عنها: (إنها الأصل الرابع) فلم تذكر ولو في موضع واحد من المواضع!
__________
(1) 3/37.
(2) 3/7.(60/36)
ولو كانت الإمامة منصبا إلهياً كالنبوة لما أرشد الله عباده جميعا إلى أن يطلبوها منه ويسألوه إياها كما قال: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأْرْضِ هَوْنًا وَإذا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا - إلى قوله - وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إماما } (الفرقان63-74). وإذن كل مسلم مأمور أن يقول في دعائه: (اللهم اجعلني للمتقين إماما). فهي إذن عامة لكل المسلمين، وليست محصورة في أشخاص معينين.
فلا يجوز أن ننسب إلى كلام الله معان أو مصطلحات محدثة لم تكن على عهده، ولم يستعملها في لغته. إنما الواجب أن نفهم القرآن بلغة القرآن نفسه ومقاصده. وإلا فقد افترينا على الله الكذب، وصرنا من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون. وهو أعظم الذنوب على الإطلاق حتى الإشراك بالله! كما قال سبحانه: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } (الأعراف/33).
فما جاء في القرآن بالمعنى اللغوي لا يصح أن نحمله على المعاني الاصطلاحية المتأخرة، كما لا يصح أن نحمل ما جاء فيه بالمعنى الاصطلاحي على المعنى اللغوي - كالصلاة مثلاً فنقول هي مطلق الدعاء، ثم ندعو بما نشاء ونقول: صلينا.
لقد قال الله تعالى: { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ } (يوسف/19). فهل يصح أن نحمل لفظ (السيارة) هنا على ما صار متعارفاً عليه اليوم بين الناس من أنها واسطة النقل المعروفة؟!(60/37)
إن القرآن لا يتحمل مسؤولية المصطلحات المحدثة المتأخرة عنه وإن تشابهت ألفاظها مع ما جاء فيه. إنما علينا أن نعظم هذا الكتاب ونتأدب أمامه بالتدبر، ونفهم ما
يعنيه ويقصده. وأن لا نتخذه هزوا وخادماً مطيعاً لأهوائنا ومقاصدنا!
وهكذا الحال مع لفظ (الإمامة) إذ لم يكن معنياً به في لغة القرآن ما صار يُعنى به اصطلاحاً عند الإمامية بعد قرون.
إلا الأنبياء عليهم السلام فإن الله تعالى ينص على إمامتهم بأسمائهم وأعيانهم. فالإمامة المنصوص عليها لشخص بعينه هي النبوة لا غير. ولكون النبي يقتدى به فهو إمام بهذا المعنى: فهو - من حيث يوحى إليه - نبي، و - من حيث يقتدى به - إمام. والفرق بين النبي وبين غيره هو النص عليه بالتحديد والتعيين الصريح من الله، مع تأييده بالمعجزات. ومن ذلك قوله تعالى: { وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماما } (البقرة/124). وهذا نص على إبراهيم - عليه السلام - باسمه خصوصاً. فأين النص القرآني بالإمامة على علي أو غيره؟
(أأنت قلت للناس)؟!
إن القرآن لا يتحمل مسؤولية ما أحدث بعده من هذه العقائد والأفكار، وإنما يتحملها الإمامية وحدهم. وسيسألهم الله تعالى عنها يوم القيامة. بل سيسأل علياً - رضي الله عنه - نفسه: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأحفادي أئمة من دون الناس) ؟ ويسأل أحفاده واحداً واحداً هذا السؤال. بل سيسأل محمداً - صلى الله عليه وسلم - نفسه: (أأنت قلت للناس اتخذوا علياً وأحفاده أئمة من دون الناس)؟ لأن الله تعالى لم يقل ذلك في كتابه، ولم ينزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - . فالقرآن بريء من هذه الدعوى. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وعلي - رضي الله عنه - وكل أحفاده الصالحين سيتبرأون منها لأنهم لم يدَّعوها.(60/38)
فاللهَ اللهَ في أنفسكم أن تقفوا بين يدي الله يوم القيامة موقف النصارى من
المسيح - عليه السلام - يوم يدعوه ويسأله: { أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ؟! فيتبرأ قائلاً: { سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَن اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } (المائدة/116،117).
نعم! لقد ادعى النصارى ذلك وصنعوا له الروايات، والقصص والأحلام والمنامات،
وادعوا الكرامات والمعجزات. وبنوا الكنائس، وصنعوا الصلبان. وصوروا الصور، ونصبوا التماثيل التي تصور صلب المسيح -الإله! وصرفوا الأموال، وبذلوا الجهود والأوقات. وسفكوا الدماء... كل ذلك من أجل وهم لا وجود له، ولا دليل عليه. اللهم إلا المتشابهات! وفيهم -وفي أمثالهم- نزل قوله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } (آل عمران/7).
فلا عجب أن يكون في أمة الإسلام من يفعل فعلهم، ويحذو حذوهم.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } (ق/37).(60/39)
الفصل الثالث
مناقشة النصوص الدينية المتعلقة بـ (الإمامة)
مدخل
النظرية الإمامية تبطل حجية جميع النصوص الدينية لديهم
إن الأخذ بالنظرية الإمامية - التي تنص على إثبات الأصول بالنظر العقلي، وعدم اعتماد النص الديني - يستلزم بطلان حجية أي نص ديني - سواء كان قرآنياً أو نبوياً أو روائياً - واحتجاجهم به على أي أصل من أصول مذهبهم.
إذن احتجاجهم بالنصوص الدينية من أجل إثبات أصولهم التي انفردوا بها لا معنى له طبقاً لما تنص عليه قواعدهم الأصولية، أو نظريتهم في الأصول. فما يفعلونه من حشد الآيات والروايات للتدليل على صحة دينهم أو مذهبهم الديني لا مسوغ له سوى المناورة محاولةً منهم للظهور أمام العوام وغير المطلعين أنهم يستندون في أصولهم إلى أساس شرعي هو الكتاب والسنة: إذ لا زال عوام الناس يدركون بفطرتهم الدينية أن الكتاب والسنة هما الأساس الشرعي المعتمد في معرفة أمور الدين، سواء كانت أصولية أم فروعية. فعقولهم لا تحتمل رد آيات الله وسنة رسوله - وروايات الأئمة بالنسبة لعوام الإمامية – أو التصريح الواضح - وعلى طول الخط - بأنها لا حجة فيها، وإنما الحجة الحقيقية والمعتمدة في العقل وحده.
وفعلهم هذا نوع من (التقية) التي يطبقونها حتى مع عوامهم خشية منهم!
والذي اضطرهم إلى هذه النظرية المحرجة هو وجود العلماء من غيرهم. لأن الإمامية يعلمون -قبل غيرهم- أن الاحتجاج على العلماء بالنصوص الدينية لا يثبت أمامهم: لأنها إما آيات وروايات صحيحة، لكنها غير صريحة، وهذه لا تقوم بها حجة في الأصول. وإما روايات صريحة فالعلماء يعرفون ضعفها، والضعيف لا تقوم به حجة في هذا الميدان. فضلاً عن أن الروايات من الأساس ليست بحجة في تأسيس الأصول دون صريح الآيات.
إذن بضاعتهم هذه لا تنفق في سوق العلماء!(61/1)
ما بقي إلا النظر العقلي الذي ينبغي أن يطلقوه من أسر النصوص الدينية. فبذلك وحده يتسنى لهم المناورة وإبراز عضلات الجدل الذي يتقنون أساليبه.
وقد فعلوا. وكان فعلهم هذا إيذاناً بميلاد نظريتهم هذه في الأصول!!
أما العوام فلأجل أن يقنعوهم بما يتناسب وعقولهم - التي يمكن ببساطة خداعها ومغالطتها بأي حجة - لجأوا إلى التلويح لهم بالنصوص الدينية، جرياً على عادتهم في (التقية)!!
وهكذا ترى اضطراب الإمامية، وتذبذبهم بين هذا القول وذاك.
ونحن في ضوء هذا التوضيح أو البيان سنناقش النصوص الدينية التي يحتج بها الإمامية. أي سنناقش هذه النصوص مع معرفتنا بأنها غير معتبرة في مجال الاحتجاج عند الإمامية أنفسهم قبل غيرهم!!
المبحث الأول
النصوص القرآنية الكريمة
الآية الأولى
{ وَإِذْ ابْتَلَى إبراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } (البقرة/124)
يدعي الإمامية أن (الإمامة) هبة إلهية – كالنبوة - مقدرة (بجعل) من الرب لا بسعي من العبد.
وعلى هذا فإن اختيار الإمام (أو الخليفة) ليس من حق الأمة. إنما هو من شأن الله وحده فهو الذي يعين الإمام ويسميه و(يجعله). هذا بالنسبة لمبدأ (الإمامة) عموماً.
وأما الاستدلال بالآية على (إمامة) علي وبقية (الأئمة) فقائم على أن العهد الذي هو (الإمامة) لا ينال ولا يجعل للظالمين.
والظالم كل من كان مشركاً، أو اقترف ذنباً برهة من حياته وإن تاب وأصلح !
أي أن غير (المعصوم) لا يكون (إماماً). وبما أن علياً هو هذا المعصوم دون غيره من الصحابة، إذن هو (الإمام) . فبطلت (إمامة) غيره من الخلفاء الذين سبقوه أو لحقوه.
ومما قالته الإمامية في الآية أن (الإمامة) أعظم من النبوة ! وهي آخر منزلة نالها إبراهيم - عليه السلام -.(61/2)
يروي الكليني عن جعفر بن محمد أنه قال: إن الله - عز وجل - اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وأن الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإن الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وان الله اتخذه خيلاً قبل ان يتخذه إماماً، فلما جمع له الأشياء قال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً } قال (ع): فمن عظمها في عين إبراهيم قال: ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون السفيه إمام التقي(1).
يقول (آية الله العظمى) كاظم الحائري: إن الذي يبدو من الروايات أن مقام الإمامة فوق المقامات الأخرى - ما عدا مقام الربوبية قطعاً - التي يمكن أن يصل إليها الإنسان!
ويقول: فمقام الإمامة فوق مقام النبوة(2) .
ويقول (آية الله العظمى) ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره (الأمثل): يتبين من الآية أن منزلة الإمامة الممنوحة لإبراهيم بعد كل هذه الاختبارات تفوق منزلة النبوة والرسالة …. فمنزلة الإمامة أسمى مما ذكر بل أسمى من النبوة والرسالة!
هذا ملخص ما قيل في الاستدلال بالآية الكريمة على (الإمامة).
الآية متشابهة وليست محكمة في موضوع (الإمامة)
وجوابنا على كل ما قيل – ويقال - كلمة واحدة فقط هي:
إن الآية ليست نصاً فيما ذهبوا إليه وإنما غايتها أن تكون متشابهة تحتمل هذا وتحتمل غيره. وما كان كذلك فليس بدليل معتبر في الأصول التي شرطها أن يكون دليلها نصاً قرآنياً محكماً صريحاً.
بل يمكن القول ببساطة: إن هذه الأقوال ما هي إلا أوهام وافتراضات وخواطر لولا الاضطرار الذي يفرضه العلم اليقيني بعدم وجود آية قرآنية صريحة لما لجأ إليها عاقل!
__________
(1) أصول الكافي/ 1/175. ويقول محمد حسين الطباطبائي في (الميزان): وروي هذا المعنى أيضاً عنه بطريق آخر. وعن الباقر (ع) بطريق آخر. ورواه المفيد عن الصادق (ع).
(2) الإمامة وقيادة المجتمع /ص 26،29.(61/3)
والآية في أحسن أحوالها لا تدل على ما قيل إلا على سبيل الاحتمال البعيد، أي الظن المرجوح جداً!
فلو كانت (الإمامة) فرعاً من الفروع الفقهية لما صح الاستدلال بمثل هذه الآية عليها، فكيف وقد جعلت أصلاً من الأصول الاعتقادية لا يضاهيه إلا مقام الربوبية !!
ومجمل القول أن الآية الكريمة ليست نصاً صريحاً في (إمامة) علي، ولا أحد غيره. إنما هي حديث عن إمامة إبراهيم - عليه السلام - . وموضوعنا (إمامة) علي لا إمامة إبراهيم. وهو لا ذكر له، ولا أثر في الآية !
وبما أن الآية ليست نصاً صريحاً في (إمامة) علي فهي ليست دليلاً أو نصاً في (إمامته).
إن ما قالوه ضرب من الاستنباط البعيد المبني على سلسلة من الافتراضات والمقدمات، كل واحدة منها بحاجة إلى برهان قطعي. وهو مفقود.
وبما أن أصول الدين مبناها على النص القرآني الصريح وليس الاستنباط ، وبما أن الآية ليست نصاً صريحاً في ذلك فهي ليست دليلاً صالحاً للاحتجاج على المطلوب. وهو المطلوب.
زيادة واستطراد
أما إذا أردنا الاستطراد من أجل أن لا نحرم القارئ من فوائد وأسرار وحكم والتفاتات قيمة(1) من باب: { ولكن ليطمئن قلبي } . فنقول:
إن الاحتجاج بالآية على (الإمامة) عموماً، و(إمامة) علي خصوصاً مبني على ثلاث مقدمات تحتاج إلى إثبات:
الأولى: أن الإمامة المذكورة جاءت بالمعنى الاصطلاحي عند الإمامية، وليس اللغوي. أي أنها منصب آخر غير منصب النبوة، وليست وصفاً لازماً لها.
والثانية: أن (الجعل) في قوله تعالى: { إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً } قدري تكويني، لا شرعي سببي حتى تكون (الإمامة) –كالنبوة- هبة من الله لا سعياً من العبد.
__________
(1) الحقيقة أن كثرة الثغرات المتوافرة في احتجاج الإمامية بهذه الآية الكريمة، والتهافت البيِّن فيما خاضوا فيه بشأنها هو الذي أغراني – وأغراني جداً إلى حد المتعة - بإطالة الحديث معهم عنها.(61/4)
والثالثة: أن الآية تتحدث عن شرط (العصمة) بالنسبة لـ(الإمام). وهذا مبني على تفسير الظالم بأنه مطلق من ارتكب ذنباً وإن تاب منه وأصلح.
وهذا كله لا ينفع إلا بعد إثبات أن علياً (معصوم) مع أحد عشر آخرين.
إن هذه المقدمات ما هي إلا قضايا ظنية وشبهات افتراضية، فهي لا تصلح دليلاً على أي مسألة اعتقادية . وإليك الدليل على ظنيتها وبعدها الشاسع عن اليقين:
المقدمة الأولى
هل إمامة إبراهيم عليه السلام اصطلاحية أم لغوية ؟
أي هل هي منصب آخر غير النبوة ؟ أم هي وصف لازم لها ؟
على شرط أن تثبت كمنصب بالدليل القطعي الذي لا يتطرق إليه الاحتمال وإلا بطل الاستدلال. وهذا ينتقض بأمور كثيرة منها:
لفظ (الإمام) مشترك
إن لفظ (الإمام) في الآية لا يمكن العدول به عن معناه اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي إلا على سبيل الاحتمال.
فاللفظ في أحسن أحواله مشترك بين المعنيين : اللغوي. الذي هو القدوة الذي يؤتم به ويتبع. وبين الاصطلاحي الذي هو منصب آخر غير النبوة. واللفظ المشترك ليس نصاً صريحاً محكماً إنما هو مشتبه محتمل لا يصح الاحتجاج به في الأصول.
فالقول بـ(الإمامة) بدلالة الآية قول مبني على الظن. والظن لا يقبل في الأصول التي مبناها على اليقين. فالاستدلال بالآية على هذا الأساس باطل. لأنه لا أساس له.
ترجيح كون الإمامة لغوية وليست اصطلاحية(61/5)
وهذه جملة أمور ترجح كون الإمامة في الآية لغوية وليست اصطلاحية. مع الانتباه إلى أن الترجيح لا يعمل كحجة إثبات إلا في المسائل الفرعية لصحة ابتنائها على الظن الراجح. أما الأصول فالترجيح لا يصلح حجة إثبات معتمدة فيها دون القطع الخالي تماماً من الاحتمال. وهذا يعني أنه حتى لو كانت الأدلة أو القرائن ترجح كون الإمامة هنا اصطلاحية، فلا يرقى ذلك لأن يكون حجة في موضوعنا لأنه أصولي وليس فروعياً. فكيف والأدلة المرجحة في جانب المعنى اللغوي! فتكون (الإمامة) مبنية على ظن مرجوح، وهو غير مقبول في الفروع، فيرفض قطعاً في الأصول.
من هذه الأمور:
قوله تعالى: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً } يمكن حمله على أنه جملة مفسرة للجملة السابقة.
وهي قوله تعالى: { وَإِذْ ابْتَلَى إبراهيم رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ… } فتكون وما بعدها تفسيراً للكلمات
التي ابتلى الله بهن إبراهيم - عليه السلام - ، وتكون الإمامة أول الابتلاءات أو الكلمات التي ابتلي بها، ثم تتابعت بقية الابتلاءات والأوامر كبناء البيت وإعداده ثم الأمر بذبح ولده….الخ.
فأول ما ابتلي به إبراهيم أن أخبره الله تعالى بأنه جاعله للناس إماماً أي نبياً ورسولاً يقتدي به الناس، لأن كل رسول قدوة يؤتم به. ومن هنا يكون الابتلاء ، لأن كل من تصدى للناس يدعوهم ويأمرهم وينهاهم يبتلى ويؤذى.
والنبي أول ما يوحى إليه بالنبوة، ثم يؤمر بدعوة الناس ،وهي الرسالة، فيكون رسولاً. فقوله: { إني جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً } أي رسولاً يقتدى به: فعليك أن تبلغ وتدعو وتأمر وتنهى وتصبر على البلاء. فتكون الرسالة أول الابتلاء.
وكل رسول إمام ولا بد - وإلا كيف كان رسولاً ؟ – وليس كل إمام رسولاً.(61/6)
فالإمامة وصف لازم للرسالة وليست شيئاً خارجاً عنها حتى يصح القول بأن الرسول يمكن أن يتدرج به الحال فيكون رسولاً أول الأمر ثم يكون من بعد إماماً، أو لا يكون. إذ بمجرد أن يكون العبد رسولاً يكون إماماً لأن الإمامة من الأوصاف اللازمة للرسالة.
وذلك كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } (الأحزاب /45،46).
فإن الشاهد والمبشر والنذير والداعي والسراج المنير ليست مناصب مستقلة عن النبوة، وإنما هي أوصاف لازمة لكل رسول. فإذا كان النبي كذلك كان رسولاً ولا بد. فكذلك قوله تعالى: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً } : فيكون الرسول إماماً وشاهداً ومبشراً ونذيراً…الخ وكلها أوصاف وليست مصطلحات خاصة لمناصب مستقلة عن النبوة.
ومنها أن الله تعالى لم يجعل إبراهيم - عليه السلام - خليفة أو حاكماً متصرفاً في أمور الناس، وإنما جعله قدوة ونموذجاً للتأسي والاتباع. و(الإمام) من معانيه في مصطلح الإمامية الخليفة أو الحاكم المتصرف في أمور الناس بتعيين من الله، وليس القدوة المجرد عن ذلك. فلو كان مقصود الله تعالى بالإمامة ذلك، لما تخلف وعد الله لإبراهيم بها على هذا المعنى، ولصار إبراهيم خليفة وحاكماً مطاعاً.
والحاصل: أن الإمامة والخلافة شيئان مختلفان بحيث يمكن أن يفترقا واقعاً وشرعاً
كما حصل لإبراهيم - عليه السلام - إذ كان إماماً ولم يكن خليفة.
ولذلك فرق الله تعالى بين داود وإبراهيم في اللفظ. فقال لداود- عليه السلام - : { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } (ص:26). بينما قال لإبراهيم: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً } لأن داود كان خليفة وحاكماً متصرفاً. وإبراهيم لم يكن كذلك.(61/7)
وعلي لم يأت نص قرآني في خلافته كداود . ولا (إمامته) كإبراهيم !
ومنها أن الذرية الذين طلب إبراهيم لهم الإمامة بقوله: (ومن ذريتي) صرح بمقصوده منهم بقوله: { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } فهم مطلق المؤمنين، والإيمان وصف عام ليس خاصاً بـ(المعصومين).
وقد كرر إبراهيم اللفظ الدال على التبعيض -وهو الحرف (من)- في الموضعين، لأنه يعلم أن ذريته لا بد أن يكون بعضها - وليس جميعها - فاسقاً، فإنه حين طلب الإمامة لبعض ذريته طلب الرزق معها لهذا البعض، فقال: { وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } (البقرة/126)، فبين الله له أن الرزق ليس خاصاً بالمؤمنين -كالإمامة- بل يعم المؤمن والكافر والظالم أو الفاسق، فقال: { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } .
ومنها أن العهد المذكور في قوله تعالى: { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } مبهم، فتفسيره بخصوص (الإمامة) المصطلح عليها يحتاج إلى دليل. فقد يكون هو مطلق ما يصح أن يكون به المؤمن إماماً وقدوة، كالقيام على شؤون بيت الله، وما شابه من الأمور الدينية.
وهذا هو الذي تكرر مجيئه في القرآن، كقوله تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } (يس /60،61) .
فعهد الله هنا - وهو أعظم عهد - الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك.
وقوله: { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ } (التوبة/75). وهو الزكاة والصدقة.(61/8)
وقوله: { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } (الأحزاب/23). وهو عهد الجهاد. كما في قوله: { الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } (الفتح/10).
وهذا اقرب إلى معنى اللفظ . بقرينة أن الله تعالى قال بعده مباشرة: { وَعَهِدْنَا إِلَى إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } (البقرة/125). فتطهير البيت والقيام على شؤونه إذن من العهد الذي لا ينال الظالمين حقاً في شرع الله.
ولهذا يتسابق الملوك على التشرف بخدمة بيت الله تعالى من أجل إضفاء الشرعية على ملكهم وإمامتهم . لكن هذه الإمامة غير معتبرة شرعاً ما لم تكن بحق. ومن هذا الباب سمي إمام المسجد إماماً. وكل من صلى بالناس فهو إمام لهم في تلك الصلاة.
الإمامة تتجزأ
وهذا يعني أن الإمامة تتجزأ، فتتسع وتضيق.
فقد يكون الإنسان إماماً في مسجد، أو إماماً لمصر من الأمصار. أو يكون إماماً للأمة، أو إماماً للناس كإبراهيم - عليه السلام -. وهذا هو الذي حصل له: فإن أتباع الديانات السماوية الثلاث يتشرفون بالانتساب إليه، والاقتداء به. وهو أبو الأنبياء. حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوحى الله إليه قائلاً: { أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا } (النحل/123).
وهذه الإمامة لم تتهيأ لأحد من الأنبياء سواه.(61/9)
إن بعض الأنبياء قد لا يكون إماماً لغير أهله أو قومه. وبعضهم إمامته ليست كاملة من جميع الوجوه المطلوبة للنبي كيونس - عليه السلام - الذي قصر في الصبر المطلوب من أمثاله فنهى الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذه قدوة فيه كما جاء في قوله: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } (القلم/48). أما إبراهيم - عليه السلام - فهو من أولي العزم الذين أمر الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم فقال: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } (الأحقاف/35). فالإمامة التي سألها إبراهيم لبعض ذريته من هذا الجنس.
وهي قد تحصل لكل مؤمن بدليل أن الله أرشد عباده جميعاً أن يسألوه إياها وذلك في قوله: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إماماً } (الفرقان/74).
وعلاقة الإمامة هنا بالأزواج والذرية من وجهين:
أحدهما: هي أن من تصدى لإمامة الناس، إذا كان له زوجة سيئة وذرية عاقة مشاكسة، انشغل بهم وبمشاكلهم عن مطالب الإمامة فلم ينجح في أدائها، ما يدل على أن الإمامة ليست منحة قدرية كائنة لا محالة دون سبب أو سعي من صاحبها.
والآخر: أن من لم يكن إماماً وقدوة لأهل بيته لم يصلح إماماً لغيرهم.
وقد جاء هذا الدعاء مبدوءاً بقوله تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً } (الفرقان/63) و(عباد الرحمن) لفظ عام يندرج تحته كل مؤمن، وليس خاصاً بـ(المعصومين).
واستمرت الآيات بذكر الأعمال الصالحة لنيل الإمامة، والأعمال التي تناقضها حتى ختمت بهذا الدعاء الذي ختم بطلب الإمامة .(61/10)
وهي تفسير وتفصيل لقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئمة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتنَا يُوقِنُونَ } (السجدة/24). أي لما صبروا على أداء تكاليف الإمامة من الإتيان بالأعمال الصالحة وترك الأعمال السيئة.
الإمامة قد تكون هي النبوة
ومن القرائن التي تناقض الإمامة الاصطلاحية: أن الإمامة التي سألها إبراهيم ربه تحتمل أن تكون النبوة لا غيرها: من حيث أن النبي إمام. وكيف يكون نبياً وهو لا يصلح أن يكون قدوة وإماماً ؟! فسماه إماماً بالنظر إلى هذه الحيثية. لأن النبوة إنما تكون ابتلاءاً من جهة أنها معنى يسلتزم التقدم بالناس وقيادتهم في الخير ودعوتهم إليه. وهذا هو معنى الإمامة، فيكون الخطاب الإلهي بذلك في أول الوحي لإبراهيم بالنبوة.
صحيح أنه لم يكن له آنذاك ذرية، لكن لا مانع من توقع وجودهم في المستقبل.
ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى عن إبراهيم: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } (العنكبوت/27). ولم يقل: الإمامة. ولا مانع من أن نجعل ذلك تفسيراً لقول إبراهيم في الآية: (ومن ذريتي)، واستجابةً لدعائه. فالله حين أخبره أنه جاعله للناس إماماً طلب أن يجعل هذه الإمامة في ذريته. والله قد استجاب دعاءه، وأخبرنا عن ذلك بقوله: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ } .. أيّ شيء جعل في ذريته ؟ قال: { النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } ولم يقل: (الإمامة والكتاب).
وهذه قرينة قوية تشهد لما نقول.
لفظ (الإمامة) لم يرد في القرآن عكس (النبوة)
ومما ينبغي أن يلاحظ أن لفظ (الإمامة) لم يرد في القرآن إنما ورد لفظ (النبوة).(61/11)
ومما يشهد لها من القرائن أن النبوة بعد إبراهيم حصرت في ذريته. وهي لا تكون لمن أسرف في المعاصي فكان من الظالمين، بينما كانت لمن ظلم نفسه من ذريته لكنه تاب وأصلح كموسى- عليه السلام - الذي قتل إنساناً لا يحل له قتله كما أخبر تعالى فقال: { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } (القصص/15،16).
الإمامة والابتلاء
وأما القول بأن الابتلاء متقدم على (الإمامة) على اعتبار أنها حصلت كجزاء على النجاح في الابتلاء، كما قال به الطوسي في (التبيان)، والطبرسي في (مجمع البيان. ومن المتأخرين (آية الله العظمى) جعفر سبحاني(1) فهو قول مرجوح من الناحية اللغوية: لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الأولى أن يقال: (وَإِذْ ابْتَلَى إبراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ فقَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماما). فيؤتى بـ(الفاء) كرابطة ليكون ما قبلها (وهو الابتلاء) سبباً لما بعدها (وهو الإمامة). وبعدم وجود (الفاء) يترجح كون العبارة تفسيراً – وليس جزاءاً- لما قبلها.
ومما يؤيد ذلك أن الجملة إذا جاءت جزاءاً لجملة تقدمت عليها، ولم تتأخر عنها.
أما إذا تأخرت فهي سبب أو تفسير لما قبلها.
فالجملة المتأخرة التفسيرية كقوله تعالى: { وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } النازعات/31،30. فجملة (أخرج….) تفسير لجملة (دحاها).
__________
(1) مفاهيم القرآن 5/210.(61/12)
وأما السببية فكقوله تعالى: { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ } لماذا ؟ { إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ… } الحاقة /30-34.
فجملة { إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ… } سبب لما قبلها من قوله: { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ… } . فالجملة الجزائية تتقدم على الجملة السببية.
فتأخير قوله: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً } مع انعدام حرف (الفاء) يضعف كونها جزاءاً لما قبلها، وأن ما قبلها سبب لها.
صحيح أن الإمامة في الدين تنال بالصبر والابتلاء القائم على اليقين. ولكن هذه هي الإمامة اللغوية التي هي القدوة. أما الاصطلاحية فهي- على حد قول الإمامية – هبة كالنبوة لا داعي لأن يتقدمها الابتلاء. بل الابتلاء يحصل بعدها: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ناله الأذى والابتلاء بعد النبوة لا قبلها. فالنبوة أول الابتلاءات.
والخلاصة أن القول بأن (الإمامة) حصلت كجزاء على الابتلاء – ليسلم الادعاء بأنها منصب متأخر عن النبوة- ظن مرجوح لغة. وأصول العقيدة لا تبنى على الظن الراجح فكيف بالمرجوح!
نتائج بناء (الإمامة) على الابتلاء
ولو سلمنا جدلاً بهذا القول. وهو أن (الإمامة) تحصل بالابتلاء فإنه يوقع أصحابه في مطبات وإحراجات تنسف (الإمامة) من الأساس! منها:
أن الإمامية يقولون بأن (الإمامة) كائنة مع (الإمام) منذ وجوده. بل (الأئمة) كانوا (أئمة) قبل خلق آدم - عليه السلام - ! فالقول بحصولها بعد الابتلاء يتناقض مع أصل قولهم بـ(الإمامة).
وسبب وقوعهم في هذا التناقض هو أن القول بأن (الإمامة) منصب غير منصب النبوة يحتاج – لإثباته بوضوح من خلال الآية - إلى القول بتأخره عن الابتلاء ليحصل التمييز بين المنصبين: على اعتبار أن منصب النبوة حصل أولاً ثم حصل منصب (الإمامة) آخراً. إذن هما منصبان متميزان.(61/13)
ولهذا - وحتى يتبين الأمر ويثبت أكثر - وضعوا له تلك الرواية التي تقول بأن الله اتخذ إبراهيم إماماً بعد أن اتخذه خليلاً ورسولاً… الخ.
وأغمضوا الطرف عن التناقض بين هذا وبين قولهم بأن (الإمامة) هبة كائنة مع (الإمام) منذ وجوده.
وهذا يدل على أن قواعد الإمامية تصنع حسب الطلب. فإن احتاجوا لقاعدة وضعوها وإن تناقضت مع قاعدة أخرى وضعوها مسبقاً.
وأيضا فإن (الإمامة) إذا كانت إنما حصلت بعد اجتياز الابتلاءات، والنجاح في الامتحانات فقد حصلت بأسباب وسعي من العبد. والإمامية يقولون بأن (الإمامة) –كالنبوة- لا يدَ للعبد في تحصيلها. إنما هي هبة ممنوحة من الرب.
ومن هذه المفاسد والتناقضات: أن بعض (الأئمة) لم يحصل لهم ابتلاء، وقد نالتهم (الإمامة) – حسب العقيدة الإمامية - بلا سابق امتحان: مثل محمد الجواد وابنه علي. وكذلك (المهدي)، إذ حصلت لهم (الإمامة) منذ الطفولة. كما اعترف بذلك جعفر سبحاني بقوله: قد بلغ بعض الأئمة المعصومين لدى الشيعة إلى القمة من الكمال والصلاح من دون أن يتعرضوا للابتلاء(1).
وقد حاول التملص من الإحراج الذي يسببه له هذا القول بأن الابتلاء ليس الطريق الوحيد للإمامة.
ونحن نقول: فلم لا تكون (العصمة) ليست الطريق الوحيد (للإمامة) كذلك؟!
وهذا أولى بالقبول وأقرب للمعقول: لأن القرآن يقرر أن الإمامة حصلت للبعض بالصبر واليقين. وذلك في قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئمة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } (السجدة/24). والصبر لا يكون إلا على الابتلاء. فالابتلاء مذكور ومنصوص عليه كشرط للإمامة، لكن (العصمة) غير مذكورة في الآية، ولا منصوص عليها في القرآن كله كشرط لها.
فالتمسك بغير المذكور، والتفريط بالشرط المنصوص عليه قلب للأمور لا تقبله إلا القلوب المنكوسة، والعقول المعكوسة.
__________
(1) مفاهيم القرآن 5/239.(61/14)
والسبب الكامن وراء الوقوع في هذا التناقض هو أنه لا بد من التملص من شرط الابتلاء بأي صورة وإلا انتقضت (الإمامة). لأن بعض (الأئمة) لم يبتلوا قبل (الإمامة). ولا بد - من جهة أخرى - من التمسك وعدم التفريط بـ(العصمة) شرطاً لـ(الإمامة). لأنه يفيدهم في إسقاط إمامة (الصديق) وبقية الخلفاء على اعتبار حصول الاتفاق على عدم عصمتهم!
وهذا يدل على عدم الجدية في الاعتقاد، وعدم خلوص النوايا وإلا لما كان الوقوع في مثل هذه الازدواجية، والانتقائية في تطبيق القواعد والشروط . بل اختراعها !
لا علاقة للعصمة من الظلم بالإمامة
إن (العصمة) - التي حصل التشدد في اشتراطها لـ(الإمامة) بحيث لو وقع ذنب من إنسان ولو لبرهة من حياته وإن تاب وأصلح كان مانعا من الإمامة – لا يوجد دليل معتبر عليها. بل الأدلة إلى غير جانبها.
ويكفينا في هذا الموضع دليل واحد: هو أن آدم - عليه السلام - وقع في الخطيئة وارتكب الظلم بنص القرآن كما قال تعالى: { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ } (البقرة/35).
فالأكل من الشجرة يجعل الآكل من الظالمين، وقد أكل آدم منها ولذلك اعترف هو وحواء قائلَين: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (الأعراف/23).
فكيف - على قواعد الإمامية - يستقيم هذا مع إمامته، والنص على خلافته بقوله تعالى: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً } (البقرة/30) ؟! وكل خليفة منصوص عليه شرعاً هو إمام شرعي ولا بد.(61/15)
إن هذا ينقض (العصمة)، ويجعل التائبين – كآدم - عليه السلام - - غير مشمولين بوصف الظلم المذكور في قوله سبحانه: { لا ينال عهدي الظالمين } أي أن العصمة - والتي من شروطها عدم حصول ذنب سابق - ليست مقصودة في الآية التي هي موضع الاحتجاج.
وسيأتي - إن شاء الله - مزيد بيان عند الكلام على المقدمة الثالثة.
إمامة الأشرار
ومما يبين بطلان منصب (الإمامة) بوضوح: أن الله تعالى تحدث لنا عن إمامة أخرى هي إمامة الأشرار. وذكر أنها (بجعل) منه. فاستعمل اللفظ نفسه في الإمامتين كما قال تعالى عن فرعون وملئه: { وَجَعَلْنَاهُمْ أئمة يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ } (القصص/41). وقال عن الكفار: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } (التوبة:12). فقد جعل الله تعالى للكفر والشر أئمة يقتدى بهم، وسماهم (أئمة)، كما جعل للإيمان والخير أئمة يقتدى بهم، وسماهم (أئمة).
ولا شك أن إمامة الأشرار ليست منصباً يتم بالتعيين الإلهي مع كونها بـ(جعل) من الله فكذلك إمامة الأخيار؛ لأن اللفظ المخبر عن الإمامتين واحد. فلو كان اللفظ (جعلناهم أئمة) يعني أن الإمامة منصب لكانت كذلك إمامة الأشرار لأن اللفظ واحد في الإمامتين: فهنا قال: { وَجَعَلْنَاهُمْ أئمة يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } ، وهناك قال: { وَجَعلْنَاهُمْ أئمة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } (الأنبياء
/73). وقال: { وَجَعَلْنَا منْهُمْ أئمة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } (السجدة/24).(61/16)
وهو كقوله تعالى عن بني إسرائيل: { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئمة وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } (القصص/5،6) وليست (الوراثة) منصباً مع وقوع لفظ (الجعل) عليها. فكذلك (الإمامة). و(الذين استضعفوا من بني إسرائيل) وقعت منهم أعظم الذنوب كالإشراك بالله بعبادة العجل وغيرها!
ومن هنا صح أن يدعو كل مؤمن قائلاً: اجعلني للمتقين إماماً كما يدعو ويقول: اجعلني ناجحاً، اجعلني خاشعاً.. وهكذا.
وبالجملة فقد صار القول بأن الإمامة منصب غير النبوة غايته أن يكون مجرد ظن وشبهة، بينه وبين القطع واليقين مفاوز ومسافات تنقطع دونها الآمال. وأصول العقيدة مبناها على اليقين ، لا على الظن فبطل الاستدلال .
المقدمة الثانية
هل (الجَعل) في الآية قدري أم سببي؟
وهذا جنحوا إليه من أجل إبطال إمامة الصديق وصحة خلافته - بل الخلافة الإسلامية على مر التاريخ! - على اعتبار أنها تمت باختيار من الناس لا بنص و تعيين أو (جعل) من الله. فهو من جنس (قواعد تحت الطلب).
وأقل ما في هذا أنه ظن لا يقين فيه: لأن اللفظ - من حيث الأصل اللغوي - محتمل لهذا وهذا دون إمكانية القطع بقدريته ونفي سببيته. والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال. وكفى الله المؤمنين القتال.
أرجو من القارئ أن يحسِب - قبل الاسترسال في القراءة - كم احتمالاً تطرق إلى الاستدلال بهذه الآية على (الإمامة) ؟ ونحن لمّا نزل في أول الطريق!!
وأن لا ينسى أننا لسنا بحاجة إلى كل هذا بعد أن أسقطنا الموضوع برمته بضربة واحدة!! ألا وهي عدم صراحة النص.
والآن لنا أن نسأل: ما الدليل القطعي على أن (الجعل) في الآية قدري تكويني لا شرعي سببي؟ واللفظ – في أصله - يحتمل الأمرين.(61/17)
إن كل حركة في الكون إنما هي بقدر من الرب. لكن بعضها قدري محض لا دخل للأسباب البشرية في حدوثها: كلون البشرة وصورة الوجه ودوران الأرض وإشراقة الشمس. وبعضها يتوقف على هذه الأسباب.
الذرية – مثلاً - تكون بقدر من الله، لكن لا بد من الزواج كسبب لولادتهم ووجودهم. وكذلك الزرع والرزق والذهاب والمجيء: كلها بقدر و(جعل) من الله، لكنها - من الناحية الأخرى - لها أسباب تتوقف عليها حتى الصلاة والصيام وبقية الأعمال فهي – وإن كانت بسبب أو سعي من العبد لكنها - متوقفة على تقدير الرب. والعكس صحيح. ومن هذا قول نبي الله إبراهيم - عليه السلام -: { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } (إبراهيم/40) فـ(الجعل) هنا ليس مستقلاً عن الأسباب. وهو كقوله أيضاً: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } (البقرة/128) .
هذا هو الجعل الشرعي السببي. فحينما نقول: إن (الجعل) سببي لا نقصد استقلاله عن القدر، وإنما نقصد اشتراكهما فيه معاً لإيجاد ما بني عليه.
أما إذا قلنا: إن (الجعل) قدري فنقصد به استقلاله عن السبب البشري، وهذا واقع لا محالة بخلاف (الجعل) السببي الذي قد يقع وقد لا يقع.
والملاحظ أن إبراهيم - عليه السلام - سأل عدة أشياء له ولذريته، واللفظ واحد في جميع هذه الأسئلة وهي:
{ قَالَ إِنِّي جَاعلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } (البقرة/124) .
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } (البقرة/128) .
{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } (إبراهيم/40) .(61/18)
وقد اشتركت الأسئلة الثلاثة (الإمامة والإسلام والصلاة) بلفظ (جعل)، ولفظ (ومن ذريتي) ما يشير إلى أن (الجعل) فيها واحد، وأن الإمامة هي من جنس بقية الأسئلة ولا علاقة لها بعصمة أحد أو تعيينه من الله.
والآن اقرأ هذه الآيات:
{ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } (النحل/72) .
{ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنعَامِ بُيُوتًا } (النحل/80) .
فلولا سعي العبد في الزواج وبقية الأسباب لما جعل الله له بنين أو حفدة.
وكذلك لولا عمل العبد من ذبح الأنعام وسلخ جلودها ودباغتها وخياطتها وتهيئتها لما جعل الله له من جلود الأنعام بيوتاً.
{ وَجَعَلَ لَكمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } (النحل/81) وهي الثياب التي ينسجها الإنسان والدروع التي يصنعها.
{ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } (الفتح/72) .
ولولا إعداد العدة وتجهيز الجيش لما حصل الفتح الذي (جعله) الله.
{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } (المائدة/13) .
فنقض الميثاق كان السبب في (جعل) قلوبهم قاسية.
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا }
(الكهف/32) وكل ذلك بأسباب.
{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } (الطلاق/2،3) فالتقوى هي السبب في (جعل) المخرج من كل ضيق.
{ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } (الشعراء/85) والجنة لا تنال إلا بعمل العبد.(61/19)
فكل (جعل) هنا متوقف على سبب. وكذلك (الجعل) في قوله تعالى: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً } . والدليل – كذلك - قولهم : إنه حصل بعد الابتلاءات واجتياز الامتحانات. إذن هو متوقف على هذه الأسباب، ولولاها لما حصل أثره وهو الإمامة. وهو يشبه تماماً دعاء المؤمنين في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } (الفرقان:74).
ما علاقة ذلك بالتعيين الإلهي ؟!
ومما يبطل الاحتجاج بالآية تماماً : أن (الإمامة) التي أثبتها الإمامية لـ(الأئمة) قدرية كائنة مع الإمام منذ وجوده. وإمامة إبراهيم - عليه السلام - - والقول لا زال للإمامية –حادثة بعد أن لم تكن. فهي ليست قدرية تكوينية. فإما أن تكون (الإمامة) حادثة كإمامة إبراهيم فهي ليست (الإمامة) التي أثبتوها لـ(الأئمة)، وأما أن تكون غيرها فلا وجه للاحتجاج لها بإمامة إبراهيم.
والنتيجة أن أعلى ما يطمع فيه المحتج بالآية أن اللفظ يحتمل الأمرين. فعاد الأمر إلى الظن والاحتمال. فبطل الاستدلال.
المقدمة الثالثة
هل نفي صفة الظلم يستلزم (العصمة) المطلقة من الذنب؟
إن دعوى ملازمة نفي وصف الظلم للعصمة من الذنب استنتاج وليس نصاً صريحاً. والأصول مبناها على النصوص الصريحة وليس على الاستنتاج أو الاستنباط .
إن هذا المعنى بعيد جداً عن النص ولا يخطر على البال مهما تفكر فيه القارئ إلا إذا كان في ذهنه من البداية وهو يلف ويدور يبحث له عما يؤيده من النصوص المشتبهة والمحتملة ولو بتكلف شديد.
إن الأمر مبني على أن لفظ (الظالمين) يشمل كل من كان قد سبق منه ظلم
- شركاً كان أم معصية - وإن تاب وأصلح.(61/20)
يقول محمد حسين الطباطبائي في تفسيره (الميزان): إن المراد بالظالمين في قوله تعالى: { ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } مطلق من صدر عنه ظلم ما من شرك أو معصية. وإن كان منه في برهة من عمره ثم تاب وصلح. ا.هـ.
إن أول ما يبطل هذا القول أن تعرف أنه دعوى بلا دليل. فإن لفظ (الظالمين) جمع (ظالم) والظالم اسم للمتلبس بالظلم المقيم عليه أما من تاب وانخلع منه فلا يسمى ظالما وإلا لم يدخل أحد من التائبين الجنة لأنهم (ظالمون)، والله تعالى يقول: { ألا لعنة الله على الظالمين } (هود/18) وتوعدهم بالعذاب فقال: { إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها } (الكهف/29) ومثله في القرآن كثير.
فكيف يصح أن يقال: (إن المراد بالظالمين في هذه الآية مطلق من صدر عنه ظلم ما من شرك أو معصية وإن كان منه في برهة من عمره ثم تاب وصلح) ؟! إذن كل المسلمين في النار!
ولا شك أن قولاً هذه نتيجته هو من أفسد الأقوال وأبطلها. فبطل ما بني عليه من (العصمة) و(الإمامة) عموماً. و(عصمة) و(إمامة) أحد من الناس بعينه خصوصاً.
إن هذا لا نعرفه من شرعنا ولا لغتنا ولا العقل يقر به:
إن التائب من الذنب -في شرعنا- كمن لا ذنب له، والله تعالى يقول: { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيماً } (الفرقان/70) .
فهل يصح أن يطلق على هؤلاء اسم (الظالمين) حتى يصح أن نسمي بذلك (مطلق من صدر عنه ظلم ما من شرك أو معصية وان كان منه في برهة من عمره ثم تاب وصلح) ؟!
إنه ليس أكثر من محاولة يائسة لإخراج أبي بكر الصديق وغيره من الخلفاء من شرف الإمامة واستحقاق الخلافة بدعوى أنه كان مشركاً فهو من (الظالمين) وإن تاب، (لأن المراد بالظالمين في الآية مطلق من صدر عنه ظلم ما …الخ).(61/21)
إن (الظالم) اسم مشترك بين المشرك أو الكافر الخارج عن الملة، وبين الفاسق أو العاصي المسرف على نفسه من أهل الملة ما دام مقيماً على فسقه وعصيانه.
وهو اسم يشمل من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وغلبت سيئاته على حسناته وهؤلاء لا يكونون أئمة يقتدى بهم ما داموا مقيمين على ما هم عليه.
وذلك كقوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } : وهو الذي اجترح من السيئات، وترك من الواجبات ما صار به مقصراً عن درجة النجاح. { ومنهم مقتصد } : وهو من ترك ما استطاع من السيئات، وعمل بما استطاع من الواجبات. { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } (فاطر/32) وهو الذي عمل على قدر استطاعته فأتى بالواجبات والمستحبات وترك المحرمات والشبهات والمكروهات.
فالإمامة مقصورة على الصنفين الأخيرين دون الصنف الأول. ومثله قوله تعالى وهو يذكر إبراهيم - عليه السلام - : { وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } (الصافات/113) .
هذا هو مقصود آية إبراهيم. فما علاقة (العصمة) بها؟!
إن الله تعالى لم يقل: )لا ينال عهدي من ظلم) حتى يمكن أن يحمل –ولو بتكلف- على من ظلم ولو مرة واحدة على اعتبار أن الفعل الماضي يفيد الحدوث مرة واحدة، بينما الفعل المضارع يفيد تكرار الحدوث.
إنما قال: { لا ينال عهدي الظالمين } والاسم في اللغة يفيد الثبوت والدوام فلا يشمل إلا من ثبت وداوم على ظلمه دون من تاب وأصلح. فأبو بكر وعمر وعثمان حينما تولوا أمر الأمة لم يتولوه وهم ظالمون، وإنما تولوه وهم مؤمنون صالحون، سماهم الله تعالى بالسابقين الأولين والصادقين والمفلحين والفائزين …الخ.
الخطيئة السابقة لا تناقض الإمامة(61/22)
ويؤيد ذلك أن آدم - عليه السلام - نصص الله على (جعله) خليفة بقوله تعالى: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } (البقرة/30) وهو يشمل آدم قطعاً، فآدم أول خليفة وأول إمام، وقد أسجد الله تعالى له ملائكته، فالملائكة - فما دون - تبع لآدم. وهذه الإمامة هي السبب في حسد إبليس وعداوته له، كما حسد الفرس العرب على إمامتهم ورئاستهم التي ابتدأت بالصديق.
وقد اصطفاه الله تعالى فقال: { إن اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبراهيم وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } (آل عمران/33). والاصطفاء مما يحتج بها الإمامية على (الإمامة) ومع هذا صرح الله تعالى بذكر ظلمه ومعصيته، وأنه كان وزوجه من (الظالمين) في عدة مواضع من القرآن: منها ما جاء في سياق ذكر خلافته وهو قوله تعالى: { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ } (البقرة/35).
وقد أكلا من الشجرة فكانا من الظالمين واعترفا صراحة بتحقق وصف الظلم فيهما، وذلك في قوله تعالى عنهما: { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (الأعراف/23).
وقال أيضاً: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } (طه/121) .
وقال: { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما } (طه/115) .
وفيه ذكر العهد. فالعهد نال آدم رغم ظلمه السابق لأنه تاب واستغفر وأناب كما قال سبحانه: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (البقرة/37). فهو ليس من (الظالمين) الذين لا ينالهم عهد الله.(61/23)
وكذلك داود - عليه السلام - الذي صرح الله تعالى بـ(جعله) خليفة في قوله : { يَا دَاُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق } (ص/26). ولقد جاء هذا القول مباشرة بعد ذكر ارتكاب داود- عليه السلام - للخطيئة المذكورة في سورة (ص). والتي تبتدئ بقصة الخصمين اللذين تسورا عليه المحراب، وتنتهي بقوله تعالى: { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } (ص/24-25) .
وكذلك سليمان - عليه السلام - وقد قال الله عنه: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي } (ص/34،35) .(61/24)
وقبلها ذكر قصة انشغاله بالخيل حتى فاتته صلاة العصر. وجاء ذلك مصرحاً في رواية لابن بابويه القمي عن جعفر الصادق أنه قال : إن سليمان بن داود - عليه السلام - عرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل فاشتغل بالنظر إليها حتى توارت الشمس بالحجاب فقال للملائكة ردوا الشمس علي حتى اصلي صلاتي في وقتها(1). ما يدل على أن التوبة بعد الخطيئة لا تحرم العبد من الفضل أو الفضيلة. بل ترتفع به فيكون أقرب إلى الرب الذي { يحب التوابين ويحب المتطهرين } . ولولا الذنب لما حصلت التوبة والتطهر الذي به ينال العبد حب الرب. (ومن المعلوم أنه قد يكون التائب من الظلم أفضل ممن لم يقع منه. ومن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره واهتدى بعد ضلاله وتاب بعد ذنوبه، فهو مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام. فمن المعلوم أن السابقين أفضل من أولاده ، وهل يشبِّه أبناء المهاجرين والأنصار بآبائهم عاقل؟) (2) وهذا كله يتناقض مع تفسير علماء الإمامية للفظ (الظالمين) الذي بنوا عليه القول باشتراط العصمة من الآية.
مخالفة (العصمة) الشيعية لظاهر القرآن
ثم إن عصمة الأنبياء المطلقة من الأخطاء والذنوب مخالفة لظاهر القرآن، ولا يمكن القول بها إلا على سبيل الظن بعد التكلف الشديد والتعسف الواضح في تأويل النصوص القرآنية لإخضاعها وجعلها ذيلاً تابعاً للآراء محكوماً بها لا حاكما عليها.
__________
(1) فقيه من لا يحضره الفقيه 1/129.
(2) منهاج السنة النبوية – شيخ الإسلام ابن تيمية 1/302- 303 – انظر : أصول مذهب الشيعة 2/786 – د. ناصر عبد الله علي القفاري.(61/25)
إنها قضية قالوها أولاً بعقولهم دون سند من صريح القرآن، ثم بحثوا لها فيه عما عساه يؤيدها. فجعلوا القرآن - كمتأخري خلفاء بني العباس - ليس له من الحكم والخلافة إلا الاسم والتاج والتواقيع التي تخرج باسمه. أما الحكم الحقيقي فهو للوزير والسلطان الأعجمي. فالخليفة تابع في صورة متبوع، وأما القرار فيتخذ من دونه، وهو لا أمر له ولا
نهي سوى أنه - آخر الأمر - يضع عليه التوقيع ليخدعوا بتوقيعه الجمهور.
والشيء نفسه فعلوه مع القرآن: عقائدهم وقراراتهم تتخذ من دونه، وليس للقرآن أمر ولا نهي سوى أنهم يضعون لها - في آخر المراحل - توقيعاً باسمه ورسمه ليخدعوا بتوقيعه الجمهور. فالقرآن تابع في سورة متبوع، والله تعالى يقول: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ } (الأعراف/3).
اقرأ قوله تعالى عن موسى- عليه السلام - حين قتل نفساً لا يحل قتلها: { قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (القصص/15-16). والآيات تصرح بارتكاب موسى - عليه السلام - لظلم قتل النفس وتوبته منه فكيف اختاره الله رسولاً إماما ؟! وهل هناك أعظم ذنبا بعد الشرك من القتل ؟!
فأين: العصمة المطلقة ؟
وأين: من ارتكب ظلما في برهة من عمره فهو من (الظالمين) وإن تاب وصلح ؟!
فموسى إذن لا ينبغي أن يناله عهد الله لأنه من (الظالمين)!(61/26)
والقرآن فيه الكثير من الآيات التي تذكر للأنبياء أحوالا وأخطاء عاتبهم الله أو عاقبهم عليها ليس أقلها ذنب ذي النون - عليه السلام - الذي عاقبه الله عليه { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } (الصافات/142) أي مرتكب ما يلام عليه. وقد صرح الله بأنه صار بذلك من الظالمين فقال: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } (الأنبياء /87) . لكنه لما تاب رفعه وجعله إماماً لمائة ألف أو يزيدون. وبهذا يتبين بوضوح تام بطلان قولهم بأن الظالم من صدر عنه مطلق الذنب برهة من عمره وإن تاب وصلح.
بل إن كبار علماء ومفسري الإمامية أجازوا صدور الكفر والشرك من الأنبياء أول حياتهم معتمدين على ظاهر معنى بعض الآيات. من ذلك قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِين فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } (الأنعام/75-78) .
ذكر الطوسي في تفسيره (التبيان) أربعة أوجه لمعنى الآية:
ملخص الوجه الأول والثاني بالنص: (إن هذا القول كان من إبراهيم في زمن مهلة(61/27)
النظر …فلما أكمل الله عقله وخطر بباله ما يوجب عليه النظر وحركته الدواعي على الفكر والتأمل له قال ما حكاه الله لأن إبراهيم - عليه السلام - لم يخلق عارفاً بالله وإنما اكتسب المعرفة لما أكمل الله عقله) أو (إن ما حكى الله عن إبراهيم في هذه الآية كان قبل بلوغ وكمال عقله ولزوم التكليف له غير أنه لمقاربته كمال العقل خطرت له الخواطر وحركته الشبهات والدواعي على الفكر فيما يشاهده من هذه الحوادث).
وملخص الوجه الثالث والرابع بالنص: (إنما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه) أو (على وجه المحاجة لقومه بالنظر). ولم يرجح واحداً من هذه الوجوه . بل أبقى الأمر معلقاً محتملاً.
وممن يرى أن إبراهيم - عليه السلام - إنما قال ذلك تفكراً وبحثاً في سبيل الوصول إلى الإله الحق- الشريف المرتضى الذي يقول:(إن إبراهيم (ع) لم يخلَق عارفاً بالله تعالى، وإنما اكتسب المعرفة لما أكمل الله تعالى عقله(1) .
وكذلك الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان)(2) .
وأما الفيض الكاشاني فيحتمل الاتجاهين معاً: اتجاه النظر والاستدلال ، واتجاه المناظرة والمحاججة مع قومه(3) .
ويصرح مكارم الشيرازي صاحب تفسير (الأمثل): أن كلاً من الاتجاهين قد اختاره عدد من المفسرين. كما إنهما مؤيدان بشواهد من المصادر الحديثة. ثم يستعرض اتجاه (النظر) ولا يرى مانعاً منه. بل يؤيده بشاهد قرآني وآخر روائي(4).
ومن الروايات التي أسندوا بها هذا الاتجاه ما رواه العياشي في تفسيره [1/364] عن محمد بن مسلم عن أحدهما (ع) قال: في إبراهيم إذ رأى كوكباً قال: إنما كان طالباً لربه ولم يبلغ كفراً.
__________
(1) تنزيه الأنبياء/47 مراجعات في عصمة الأنبياء من منظور قرآني – عبد السلام زين العابدين ص 118.
(2) المصدر نفسه ص 120
(3) أيضا ص 121.
(4) أيضا ص 121 ، 122.(61/28)
وما رواه القمي في تفسيره [1/207] قال: وسئل أبو عبد الله (ع) عن قول إبراهيم (ع):" هذا ربي" ، هل أشرك في قوله: هذا ربي؟ فقال: من قال هذا اليوم فهو مشرك. ولم
يكن من إبراهيم شرك، وإنما كان في طلب ربه وهو من غيره شرك.
وإذن اشتراط (العصمة) التكوينية المطلقة ، والقول بأنها ذكرت في الآية لا مستند له سوى الظن : { وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً } .
ومن الآيات التي يمكن أن يحتج بها أصحاب هذا الاتجاه قوله تعالى عن نبيه إبراهيم - عليه السلام - : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (العنكبوت/26). وكذلك قوله تعالى: { قَالَ الْملأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا } (الأعراف/88-89) على اعتبار أن ظاهر النص يمكن أن يفهم منه أن شعيباً - عليه السلام - كان متبعاً لملة قومه ثم نجاه الله منها.
وعلى كل حال فإن القطع باتصاف الأنبياء - عليه السلام - بالعصمة المطلقة غير ممكن.
أما استنتاج هذه العصمة من الآية فتكلف سمج . وأسمج منه إطلاق صفة (الظالمين) على من صدر منه الظلم ولو برهة من الزمن وإن تاب وصلح . بل هو لغو ينبغي أن ينزه عنه العقلاء . بل سوءة يجب أن تطوى ولا تحكى .
انهيار الحجة
وبانهيار هذه المقدمات تنهار النتيجة المبنية عليها كما ينهار البناء إذا انهار أساسه.(61/29)
إن الاحتجاج بالآية على (الإمامة) عموماً يحتاج إلى الإثبات القطعي لهذه المقدمات. وذلك مستحيل لأن الأمر في أحسن أحواله راجع إلى الظن والاحتمال . وأصول الاعتقاد مبناها على أساس القطع واليقين. وحيث لم يثبت الأساس فلا بناء . فبطل الاحتجاج بالآية على (الإمامة).
لا ذكر لعلي ولا أحد من (الأئمة) الاثني عشر في الآية !
وعلى افتراض صحة هذه المقدمات جدلاً، فإنه لا يتحصل منها إلا إثبات (إمامة) عامة ليست متعلقة قطعاً بأحد من (الأئمة) الاثني عشر، فالاحتجاج بها على إمامة علي بخصوصه أو غيره ممن ادعيت لهم (الإمامة) دعوى فارغة. وهذا يتوضح أكثر بالنقاط الآتية:
1- إن هؤلاء غير مذكورين صراحة في نص الآية، بل ولا إشارة! فالآية تتكلم عن إمامة إبراهيم وليس عن إمامة علي أو أحد غيره فإقحامهم فيها محض تخرص وافتراض لا سند له إلا شبهات لا يمكن بحال أن ترقى إلى اليقين الذي هو أساس ابتناء الأصول.
ولقد نص الله تعالى في كتابه على خلافة داود - عليه السلام -، بينما الأمة بحاجة إلى النص على إمامة علي وخلافته أكثر من النص على إمامة إبراهيم وخلافة آدم وداود . فلا يعقل أن ينص الله على أمر كمالي ويترك النص على أمر أساسي أصولي!
ومن الملاحظ أن كل الأمور العظيمة المشتركة بين الشرائع القديمة وشريعة الإسلام - كالتوحيد والنبوة والمعاد والصلاة والزكاة والصيام وحرمة القتل والزنا والسرقة - يصرح الله بذكرها في تلك الشرائع. ثم يعود ليؤكد ذكرها صراحة مرة أخرى في شريعة الإسلام بالنصوص القرآنية الواضحة. فلو افترضنا جدلاً أن (الإمامة) موجودة في الشرائع القديمة فلماذا لم يؤكد الله تعالى ذكرها في شرعنا بالنصوص القرآنية التي تصرح بذكر (الإمامة) عموماً، و(إمامة) علي و(الأئمة) من بعده خصوصاً؟!
فعاد القول (بإمامة) علي احتجاجاً بالآية إلى المتشابه لا إلى المحكم. وذلك دليل بطلانه.(61/30)
2- إن استنباط (إمامة) علي من الآية - بناءاً على أن علياً لم يقع منه شرك أو ذنب - لا يمكن القطع به وإنما هو دعوى - ودعوى عظيمة - تحتاج إلى دليل قطعي من خارج الآية، وإلا فإن الآية لا تنص على علي ولا على عصمته، فضلاً عن غيره، فاحتاجت الآية إلى حجة من خارجها فبطل الاستدلال بها.
3- إن القول بـ(عصمة) علي دعوى تحتاج - كما قلت - إلى نص قرآني صريح، وذلك مفقود - وسيأتي لاحقاً مناقشة هذه القضية مفصلاً في مبحث (العصمة) - والأمر مبناه على الافتراض الظني ، وذلك لا ينفع في الأصول .
بل يمكن الطعن حتى في دعوى أن علياً لم يقع منه شرك في بداية حياته. وذلك بأن نقول : ما الدليل القطعي على هذه الدعوى؟
قد يقال: إنه أسلم وهو صبي صغير ولكن هذا القول لا يكفي فقد يكون وقع منه الشرك قبل أن يسلم، ولا يبعد أن أباه - وهو مشرك - كان يأخذه إلى الكعبة ويلقنه عبادة الأصنام، بل يقال: إنه ولد في الكعبة، والكعبة حين ولادته كانت مليئة بالأصنام. فهو قد ولد بين الأصنام! ولقد ولد غير واحد من قريش في الكعبة كحكيم بن حزام. ويظهر أن المرأة إذا أعسرت أدخلوها الكعبة مستغيثين بالآلهة لكي ييسروا أمر ولادتها.
وليس في هذا ذم ولا مدح، لأن الذم والمدح يبنى على الفعل الاختياري، والطفل لا
اختيار ولا قصد له في الخير والشر.
وعبارة (أسلم علي وعمره كذا) تستلزم أنه لم يكن قبل ذلك مسلماً.
ودعوى انفراد علي بأنه لم يسجد لصنم غير مسلَّم بها: فإن أبا بكر لم يسجد كذلك لصنم. وهذا أدعى للفضل لأنه ترك اختياري عن تفكر وتدبر. فليس هو كترك طفل لم يوضع بعد على المحك. فلا ندري لو عاش حتى بلغ مبلغ الرجال ما ستؤول إليه الحال ؟
وقد حكى لنا التاريخ عن مجموعة ممن كانوا يسمون بالأحناف لم يشركوا بصنم كأبي بكر الصديق ، وأبي ذر الغفاري ، وزيد بن نفيل ، وورقة بن نوفل. ولا شك أن الفضل لهؤلاء أولى وأكمل.(61/31)
والنتيجة أن إثبات أن علياً لم يسبق منه شرك أمر ظني. وثبوت هذا لمن ولد في الإسلام ، ونال الخلافة كعبد الله بن الزبير مقطوع به .
وأخيراً..
وأخيراً نقول: هل يعقل أن تكون هذه الآية المحتملة لهذه الوجوه التي لا تحصى من الاختلافات- حجة على العباد في أصل من أصول الدين يتوقف على ثبوته الإيمان، ويلزم من إنكاره الكفر ؟!
أعط الآية لرجل دخل في الإسلام لأول وهلة لم يسمع بموضوع (الإمامة) و(العصمة) وعلي والحسن والحسين………الخ، غير أنه يحسن العربية، ثم انظر هل يمكن أن يفهم منها (إمامة) شخص هو علي؟ أو (إمامة) اثني عشر معصوماً أوجب الله الإيمان بإمامتهم؟!
يستحيل ذلك ولو قرأ الآية ألف مرة !
لكن أعطه هذه الآية مثلاً : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } (الأنفال/74) .
إنه سيقول لك بداهة : إن الآية تتحدث عن إيمان حقيقي مصرح به لصنفين من الناس: صنف آمن وهاجر وجاهد، وصنف آوى ونصر -أي المهاجرين والأنصار- وستكون النهاية المغفرة لهم ، والجزاء بالرزق الكريم.
بل أعطه هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ } (المجادلة/11) هل يمكن أن لا يفهم منها الإرشاد إلى التفسح في المجالس ؟! أو هذه الآية : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا } (النساء/86) ألا يفهم منها بوضوح الأمر برد التحية وآدابها ؟!(61/32)
أفيأتي التفسح في المجالس والتحية بالنصوص الواضحة الجلية وهما أمران فرعيان –بل من فروع الفروع- ولا تأتي كذلك (إمامة) علي؟! وهي أعلى شأناً من النبوة { ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إن لكم فيه لما تخيرون } (القلم/36-38).
ولو كانت هذه الآية - وغيرها من الآيات التي يحتج بها الإمامية - دالة على (إمامة) علي لكان هو أول المحتجين بها. وتلك الآثار الواردة عنه في جميع الكتب تصمت صمتاً كاملاً عن ذلك، ما يوضح بجلاء أن هذه العقيدة استنبطوها بعيداً عن نصوص القرآن، ثم جاءوا إلى القرآن ليجعلوا منه تابعاً ومحكوماً يوقّع على ما يقولون وبه يحكمون.
الآية الثانية
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (المائدة/55)
الدليل على بطلان دلالة هذه الآية على (أصل الإمامة) هو عدم امتلاكها لشرط الدليل الأصولي ألا وهو الإحكام والقطع، أو الوضوح والصراحة في الدلالة على المراد.
فالآية متشابهة - هذا في أحسن أحوالها - وليست نصاً في (الإمامة) عموماً، ولا في (إمامة) علي - أو غيره - خصوصاً.
والاستدلال بها على هذه المسألة ظن واحتمال، وتخرص واستنتاج أو استنباط . وهذا كله لا يصلح في باب الأصول. والقول به اتباع للمتشابه، وقد نهينا عنه بنص قوله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } (آل عمران/7) .
والإمامية يقولون: إن إمامة علي كنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ! بل كألوهية الله !! من أنكرها كان كمن أنكر معرفة الله ومعرفة رسوله.(61/33)
إن هذا يحتاج إلى نص قراني صريح كصراحة قوله تعالى: { محمد رسول الله } (الفتح/29) في النص على نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم - وإلا بطل الادعاء، وذلك غير موجود. وهذه الآية: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا… } ليست كذلك. فالاستدلال بها باطل.
هذا هو الرد الشافي والجواب الكافي على الاستدلال بهذه الآية على (أصل الإمامة). ولكن من باب الاستطراد، وزيادةً في الفائدة نقول:
سياق الآية
وردت هذه الآية ضمن حشد من الآيات موضوعها الأساس هو النهي عن موالاة الكافرين والأمر بموالاة المؤمنين.(61/34)
تبدأ هذا الآيات بالنهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، وتتوسط بحصر الموالاة بالفئة المؤمنة، وتنتهي- كما بدأت- بالنهي عن موالاة اليهود والنصارى والكفار: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } (المائدة/51-57) .(61/35)
تذكر هذه الآيات نوعين من الموالاة : إحداهما منهي عنها والأخرى مأمور بها، والمعنى اللغوي في كلتيهما واحد (أي لا توالوا الكفار ووالوا المؤمنين).
والمعنى في الفعل (والوا) المنهي عنه، هو المعنى نفسه في الفعل (والوا) المأمور به، لكن لما كان الأول للكفار نُهي عنه، والثاني للمؤمنين أُمر به.
فالأمر والنهي ليس لتغاير المعنى، وإنما لتغاير الجهة، وإلا فإن الموالاة واحدة: فإن كانت في جهة الكفار نهي عنها، وإن كانت في جهة المؤمنين أمر بها.
ولو كان للولاية معنى آخر أخص من معنى التناصر والتحالف - كأن يكون (الإمامة) أو الخلافة - لما اختص النهي باليهود والنصارى فقط ، لأن (الإمامة) - حسب العقيدة الامامية - منفية أيضاً عن المؤمنين سوى علي، فيتعدى نفيها إلى عموم المؤمنين أيضا. ولجاء التعبير محصورا بشخص واحد هو علي - رضي الله عنه - حتى يكون الكلام واضحا مبينا لا لبس فيه.
وبتعبير آخر لو كان الولي معناه الإمام لقال الله : (لا تتخذوا اليهود والنصارى ولا تتخذوا المؤمنين سوى علي أولياء)
أو يقال: (لا تتخذوا المؤمنين سوى علي أولياء) دون ذكر اليهود والنصارى لأن ذلك مرفوض من باب أولى.
(إن سياق الآيات يفند ما زعموه تفنيدا قاطعا : لأن هذه الآية وردت ضمن آيات
سابقة وتالية تتحدث عن قضية كبيرة وهي قضية الحكم بما انزل الله تعالى ونبذ حكم الجاهلية ولا يتم ذلك إلا بتكوين الأمة المؤمنة لا توالي أعداء الله ولا تتحالف معهم ولا تنصرهم على إخوانهم.(61/36)
ولا تتكون هذه الأمة إلا إذا نصرت الله تعالى ورسوله والمؤمنين الذين لا يكتفون بالإقرار اللساني، وإنما يلتزمون بشرع الله تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والخضوع لله تعالى. وإذا تم كل ذلك على الوجه الأكمل فحينئذ ينصرهم الله تعالى على أعدائهم لأنهم عباده المؤمنون وحزبه المخلصون. ثم يستمر في تحديد طريق الصراع ومواجهة الأعداء في الآيات التالية، لتكوين جبهة إيمانية واحدة تتميز عن جبهة الكفر والنفاق)(1).
إن العاقل إذا تكلم كان كلامه مسوقا لتحقيق غرض وموضوع واحد . فإذا تخلل كلامه موضوع أو معنى لا علاقة له به . فهذا لا يكون إلا عند المجانين الذين يتكلمون بلا رابط.
ويستطيع أي قارئ للآيات السابقة في موضعها من القرآن أن يدرك أنه لا علاقة لمعنى (الإمامة) بالغرض الذي سيقت من أجله تلك الآيات بتاتاً . ولا يمكن أن نفسر الآية بـ(الإمامة) إلا إذا أقررنا أنه لا علاقة لها بسياق الآيات . وأنه يمكن فصلها عنها وإخراجها من مكانها الذي هي فيه . وجعلها في موضع آخر بلا فرق . وهو أمر واضح البطلان .
فإما أن تكون الآية متناسبة في معناها مع بقية الآيات فهي إذن في ولاية النصرة والتحالف والمحبة. وإما أن لا يكون هذا موضعها ولا علاقة لها به. وهذا باطل، بل كفر. لكنه لا يستقيم تفسير الآية بـ (الإمامة) إلا به ! ولك الخيار بعد !
سبب النزول
ومما يوضح ذلك أكثر معرفة سبب النزول .
__________
(1) نظرات في تفسير آيات من القرآن الكريم ص105 / د. محسن عبد الحميد.(61/37)
روى ابن جرير الطبري، والبيهقي . وكذلك ابن إسحاق في السيرة عن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشبث بأمرهم عبد الله بن أُبَي وقام دونهم. ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان أحد بني عوف بن الخزرج، له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي. فجعلهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله إني أبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم . وأتولى الله ورسوله والمؤمنين .
وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم.
ففيه وفي عبد الله بن أُبي نزلت الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ - إلى قوله - وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ } . فالآيات نزلت فيمن تولى الله ورسوله والمؤمنين وتبرأ من حلف الكافرين، وهو عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - . فهي تأمرنا بأن نتخذ الله ورسوله والمؤمنين أولياء كما فعل عبادة بن الصامت ، وتنهانا عن اتخاذ اليهود وإضرابهم أولياء كما فعل ابن سلول .
ولا شك أن الولاية هنا لا علاقة لها بـ(الإمامة) أو الخلافة لأنها لم تكن موضع اختلاف فعبادة لم يكن متخذاً اليهود (أئمة) أو خلفاء، وإنما كان حليفاً لهم ونصيرا. فهذا الحلف هو الولاية التي نهى الله أن تتخذ من دون المؤمنين –كما هو شأن المنافق
عبد الله بن أُبَي بن سلول الذي تولى اليهود دون المؤمنين- أي حالفهم وناصرهم.
وهذا كقوله تعالى:
{ لاَ تَجدُ قَوْمًاً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } (المجادلة/22) .(61/38)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإْيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } (التوبة/23) . وليس معنى ذلك: لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم (أئمة) .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } (الممتحنة/1) .
{ المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } (التوبة/17) . وليس معناه : المؤمنون والمؤمنات بعضهم (أئمة) وخلفاء بعض، وإلا صار عددهم بلا حصر ، سيما وأن المؤمنات لا يصلحن لـ(الإمامة).
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآْخِرَةِ } (فصلت/30-31) .
{ لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ }
(آل عمران/28) .
وهذا هو معنى قوله تعالى : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } بالضبط . فالآية
الأولى تنهى عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين . والثانية تأمر باتخاذ المؤمنين أولياء دون الكافرين . والمعنى واحد تماما . وليس معنى (المؤمنين) هنا أشخاصاً معينين بأسمائهم . ولا معنى (أولياء) هو (أئمة) أو خلفاء .
ولو كان معنى (وليكم) هو (إمامكم) لصح أن يوصف الله تعالى بـ(الإمامة)؛ لأن الآية تقول : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } . فهل يصح أن يقال : الإمام الله؟! أو الله الـ(إمام) ؟!
عشرات الآيات(61/39)
ولقد جاء لفظ (الولي) في عشرات من الآيات لا علاقة له فيها بـ(الإمامة) أو الخلافة، منها : قوله تعالى عن زكريا - عليه السلام - : { فهب لي من لدنك وليا } مريم/5
{ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } البقرة/282
{ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } الإسراء/33
وقوله عن الرهط الذين بيتوا قتل النبي صالح - عليه السلام -: { لَنُبَيتَنهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } النمل/49 وليس معنى (وليه) (إمامه) قطعاً؛ لأن صالح - عليه السلام - نبي؛ فهو الإمام بكل الاعتبارات.
{ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً } النساء/45
{ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً } الكهف/17
{ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبيناً } النساء/119
{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ } الإسراء/111
{ اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } البقرة/257
فما الذي جعل (وليكم) في الآية (إمامكم) دون بقية الآيات . وهي بالعشرات؟!
المستحيلات العشرة
إن القول بأن معنى (وليكم) في الآية هو (إمامكم المعصوم)، لا يصح ولا يتم إلا بعد اجتياز جملة من العوائق الصعبة بل المستحيلة الاجتياز، ما يجعل الاحتجاج بالآية خارجاً – حتى - عن دائرة الاحتجاج بالمتشابه فضلاً عن المحكم!
من هذه العوائق أو الموانع :
الإثبات القاطع بأن لفظ (وليكم) ليس له إلا معنى واحد هو (إمامكم) المصطلح عليه عند الإمامية وأنه لم يرد بالمعنى اللغوي الذي هو الناصر والمحب والحليف وما شابه. ودون ذلك - كما يقال - خرط القتاد .(61/40)
إن أقل ما في هذه الدعوى أنها احتجاج بالمتشابه لأن اللفظ صار مشتركاً بين معنيين: أحدهما اصطلاحي والآخر لغوي. والاحتجاج بالمتشابه في الأصول - التي هي أساس الدين - غير مقبول.
إن تفسير هذه الآية بـ(الإمامة) له شرطان لا بد منهما :
الأول: أن يأتي النص بلفظ (إمامكم) وليس (وليكم). لأن العدول عن اللفظ إلى شبيهه يؤدي إلى إشكال واشتباه لا داعي له . وهو مرفوض في الأصول.
الثاني: أن يأتي اللفظ (إمامكم) بحيث لا يمكن تفسيره بغير معناه الذي اصطلحت عليه الإمامية . وإلا صار مشتبها والأدلة المشتبهة لا تعمل من الأساس، فبطل الاحتجاج بالآية على (الإمامة) لأنه بلا أساس.
الإثبات القاطع بأن صيغة الجمع (الذين آمنوا) لا يمكن حملها على ظاهرها وأن المقصود بها الإفراد وليس الجمع.
وهذا أقل ما فيه أنه خلاف الأصل وظاهر اللفظ . ومخالفة الأصل وظاهر الكلام من دون قرينة تحكُّم باطل ، وليس عليه من دليل سوى الظن والاحتمال وذلك غير مقبول في الأصول.
إثبات أن المفرد المقصود بالآية هو علي لا غير ، قطعاً لا ظناً. وهذا غير ممكن. وأقل ما فيه أن علياً - رضي الله عنه - غير مذكور في الآية. وذكره لا بد منه شرطاً للاعتقاد وإلا حصل الإشكال والاشتباه وهو غير مقبول في الأصول.
لقد ذكر الله تعالى في الآية نفسه بصراحة، وصرح بذكر رسوله - صلى الله عليه وسلم - . ثم عمَّ المؤمنين.
فلو أراد واحداً منهم بعينه لصرح بذكره، وإلا اشتبه بغيره وكان النص عليه مشتبهاً غير
مبين. وذلك مخالف لكلام رب العالمين.
إثبات دلالة الآية على أحد عشر (إماماً) آخرين بأعيانهم .
فإن إثبات عموم (الإمامة) شيء، وتخصيصها بأشخاص معينين شيء آخر يحتاج إلى دليل منفصل. والإمامية فرق شتى لم تتفق جميعاً على أئمة معينين : (فأئمة) الإسماعيلية غير أئمة الكيسانية . وهؤلاء غير (أئمة) الفطحية أو الواقفية أو النصيرية أو الاثني عشرية … الخ .(61/41)
وهذه الفرق كلها تحتج بالآية نفسها على صحة مذهبها ! وذلك باطل لأن الدليل الواحد لا يكون على الشيء ونقيضه. علماً أن الإمامية الاثنى عشرية يكفّرون هذه الفرق مع اعتقادها جميعاً بإمامة علي !!
إثبات أن (الواو) في قوله تعالى: { وهم راكعون } حالية وليست عاطفة . وهو ظن واشتباه لاحتمالها الأمرين . فعاد الأمر إلى الظن والاحتمال. و(الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال).
إثبات أن المقصود بالركوع هنا الهيئة الواردة في الصلاة ، وليس الخشوع والخضوع . وهو ظن واحتمال.
إثبات أن علياً - رضي الله عنه - كان غنياً مالكاً للنصاب الذي هو شرط وجوب الزكاة حتى يدخل ضمن الذين (يؤتون الزكاة) في الآية.
وذلك مستحيل؛ لأن الأخبار مجمعة على أن علياً - لا سيما عند نزول الآية - كان فقيراً.
إن التنصيص على شخص وتعيينه بصفة ليست فيه.. كذبٌ ، وتعيينه أو تشخيصه بصفة خفية - بل فعل منقطع خفي - لا يفعله عاقل. وذلك كله لا يليق بشأنه سبحانه.
إن علياً لم يؤد الزكاة لأنه فقير. وأداء الزكاة حال الصلاة أمر خفي وفعل منقطع، فكيف يرتب الله عليه أمراً عظيماً هو أصل من أصول الدين ؟!
إثبات أن علياً تصدق بخاتم حال الركوع.
وهذا - حتى لو ثبت - لا ينفع لسببين مهمين أساسيين:
الأول: إن هذا احتجاج بالرواية وليس بالآية وذلك لا يصح في الأصول .
الثاني: إن هذا غايته أن يكون سبباً للنزول، وقد تقرر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وإلا فلو حصرنا كل آية بسببها لتعطلت أحكام القرآن.
وقد ورد -كما أسلفت- أن الآية نزلت في عبادة بن الصامت . ولكنها لا تخصه وحده بل قد يكون غيره أولى منه بها -كما سيأتي- لتحقق الوصف فيه أكثر من تحققه فيمن نزلت فيه .(61/42)
وهذا كقوله تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَات اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ } (البقرة/207) الذي نزل في صهيب الرومي - رضي الله عنه - لما فدى نفسه بجميع ماله وهاجر ابتغاء مرضاة الله. والذين يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله كثيرون ، ومنهم من هو أفضل منه كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي. فالآية لا تدل على أكثر من الفضيلة. فهي في فضل من نزلت فيه قطعاً ، لكنها ليست خاصة به حكماً.
فحكاية التصدق بالخاتم - لو ثبتت - فهي في فضل علي لا أكثر . فكيف وهي لم تثبت! إذ الرواية المحتج بها لم تصح لانقطاع سندها في بعض الطرق ، وجهالة رجاله في بعضها ، واتهامهم بالكذب أو اتصافهم بالضعف في البعض الآخر.
والأمر مبحوث ومفروغ منه ولا حاجة لإيراده لأسباب منها : إن كون الرواية صحيحة أم ضعيفة ليس له قيمة في موضوعنا لأن أصول الدين لا تثبت بالروايات. فلا داعي لتفريغ الجهد في غير موضعه ومن أراد التأكد فليرجع إلى تحقيق الرواية في مظانه(1). ودلائل الوضع على الرواية ظاهرة. وأولها القطع بان علياً لم تجب عليه زكاة قط لفقره.
ومنها تعارضها مع ما هو مثلها أو أقوى منها في مصادر الإمامية أنفسهم!
أما الأول : فتعارضها مع ما رواه الكليني من أن سبب نزول الآية كان التصدق بحلة ثمنها ألف دينار! والحلة غير الخاتم.
فقد روى بإسناده عن أبي عبد الله (ع) في قوله تعالى: { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } قال: كان أمير المؤمنين في صلاة الظهر وقد صلى ركعتين وهو راكع وعليه حلة قيمتها ألف دينار فجاء سائل فقال: السلام عليك يا ولي الله وأولى بالمؤمنين من أنفسهم تصدق على مسكين فطرح الحلة إليه وأومأ بيديه أن احملها
__________
(1) يمكن أن يرجع إلى كتاب (الحجج الدامغات لنقض كتاب المراجعات) لأبي مريم الأعظمي 1/124 وما بعدها.(61/43)
فانزل الله عز وجل هذه الآية وصير نعمة أولاده بنعمته(1).
وأما معارضتها لما هو أقوى منها: فلتناقضها مع ما قرره الكليني من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك الإمام لا تجب عليهما زكاة. وروى في ذلك بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قلت له: أمَا على الإمام زكاة ؟ فقال: أحلت يا أبا محمد! (أي سألت عن أمر مستحيل في حق الإمام) أمَا علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء جائز له ذلك من الله . إن الإمام يا أبا محمد لا يبيت ليلة ولله في عنقه حق
يسأله(2).
ويعلق الكليني على ذلك فيقول: ولذلك لم يكن على مال النبي- صلى الله عليه وسلم - والولي زكاة!! فإذا لم يكن على الولي زكاة ، فكيف أدى علي الزكاة وهو راكع ؟!
وبالجملة فقد صارت الرواية في أحسن أحوالها ظنية الثبوت . والظن لا تثبت به عقيدة هي أصل من أصول الدين . وقد ذم الله متبعيه بنص قوله سبحانه: { وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } النجم/28 فضلاً عن أن أصول العقائد لا تثبت بالروايات.
إثبات أن كل (إمام) من (الأئمة) أدى زكاة ماله حال الركوع وهو أمر مناف للعقل والذوق والشرع . فما معنى أن يمدح إنسان ويكرم حتى يجعل (إماماً) لأنه أدى زكاة ماله وهو راكع! أليس في الصلاة شغل عن غيرها ؟!
أوَ ليس في سؤال المتسولين في مساجد المسلمين تشويش على المصلين ؟!
وإذا كان التصدق على السائلين مستحباً حال الصلاة كان التسول مستحباً كذلك لأنه من لوازمه. والقول به سفه فلازمه كذلك.
__________
(1) أصول الكافي1/288.
(2) أصول الكافي1/409.(61/44)
ثم هل كان مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - - وفي أثناء الصلاة ! – مسرحاً للمتسولين ؟! أليس هذا المتسول قد وجبت عليه الصلاة في ذلك الوقت ؟ فكيف يستقيم هذا مع هذا ؟! ولا شك أن علياً - رضي الله عنه - يصلي في أول الصفوف . فكيف تمكن المتسول من اختراق عشرات الصفوف ليصل إليه؟ أوَليس التسول في المساجد منهياً عنه؟ فكيف يسوغ في حال الصلاة؟! أم ان المتسول كان كافراً . فهل تحل الزكاة للكافرين؟!
وإن قيل : إن الزكاة هنا معناها الصدقة غير المفروضة نقول : هل هذا القول مقطوع به ؟ أم قيل على سبيل الظن ؟ أما القطع فلا سبيل إليه لأن الزكاة إذا اقترنت بالصلاة –خصوصاً إذا عبر عن أدائها بلفظ (الإيتاء)- فلا يعنى بها في جميع القرآن إلا الزكاة المفروضة ، كما أن الصلاة هنا هي الصلاة المفروضة لا غير. وأما الظن فلا يغني في الأصول عن القطع شيئا.
اذهب إلى أي مسجد في زماننا، هل تجد المتسولين داخل حرم المسجد أم خارجه؟! ثم إن السائل يهمه أن يحصل على مسألته من المال الذي يحتاجه ، فكيف يختار سائل أن يسأل فقيراً معلوم الفقر ؟ أليس المعقول أن يسأل غنياً! فلماذا اختار علياً؟!
ألِماله ؟ وهو ليس بذي مال! أم لعلمه ؟ والمسألة متعلقة بالمال وليس بالعلم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجود !
10. إن هذه العوائق كل واحد منها شرط لا بد من توفره مع الشروط الأخرى . ولا يغني واحد منها عن سواه ، ولا بعضها عن البعض الآخر. فإذا تخلف واحد منها بطلت بقية الشروط لأن المشروط بعدة شروط يبطل إذا تخلف أحدها .
وهذه الشروط جميعاً لا بد أن تثبت بصورة قطعية وإلا فإن { الظن لا يغني من الحق شيئاً } . وهو لا يعمل هنا لأن الأمر متعلق بأصل من أصول الدين. وهي لا تبنى إلا على القطع واليقين، لا على الظن والتخمين.(61/45)
فلا بد أولاً من إثبات أن لفظة (وليكم) معناها (إمامكم) وبالمعنى الاصطلاحي لا اللغوي. وذلك على سبيل القطع لا الظن. وهو غير حاصل!
ولا بد معه من إثبات أن صيغة الجمع في الآية المقصود بها الإفراد لا الجمع. وذلك على سبيل القطع لا الظن. وهو غير حاصل !!
ولا بد معهما من إثبات أن هذا المفرد هو علي وحده دون سواه قطعاً لا ظناً. وهو غير حاصل!!!
ولا بد مع هذه الثلاثة من دلالة الآية على أحد عشر معه بالتشخيص على سبيل القطع لا الظن. وهو مستحيل!!!!
ولا بد من شرط خامس هو الإثبات القاطع بأن الواو حالية لا عاطفة. وهو غير حاصل!!!!!
ولا بد أيضاً من إثبات أن المقصود بالركوع هو الهيئة، وليس الخشوع والخضوع. وذلك على سبيل القطع لا الظن. وهو غير حاصل!!!!!!
ولا بد أيضاً من إثبات أن علياً كان غنياً مالكاً لنصاب الزكاة حين نزول الآية. وهو مستحيل!!!!!!!
والشرط الثامن هو الإثبات القاطع أن علياً تصدق بالخاتم وهو راكع وذلك غير حاصل!!!!!!!!
وتاسع الشروط إثبات ذلك لبقية (الأئمة) وهو غير وارد!!!!!!!!!
وآخرها تلازمها . وهو عاشر المستحيلات!!!!!!!!!!
وهكذا ترى أيها العاقل المنصف تهافت الاحتجاج بالآية على مسألة (الإمامة) . لأنه لا يقوم إلا على سلسلة طويلة من الافتراضات والاحتمالات المبنية { بعضها فوق بعض } بحيث إذا انهدم واحد منها انهدم البناء كله!
وهذا لا يسوغ حتى في الفروع الفقهية . فكيف بالأصول الاعتقادية التي يكفر الناس وتستباح حرماتهم وحقوقهم على أساسها!!
أأنتم قلتم أم الله!
بعد كل هذا نتوجه بالسؤال الأخير فنقول :
هل الله سبحانه هو الذي قال - ودونكم القرآن كله - : آمنوا بـ(إمامة) اثني عشر (إماماً معصوماً) ؟ أم أنتم الذين قلتم ؟!(61/46)
ولو قال الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو علي - رضي الله عنه - يوم القيامة (1):
أأنت قلت للناس اتخذوا علياً وأحد عشر من ذريته أئمة من دون الناس ؟ فماذا تتوقعون الجواب ؟!
أيجرؤ أحد أن يقول في ذلك اليوم : يا رب أنت قلت : (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا..) . وهم علي وأولاده الأحد عشر ؟! ولو افترضنا أن ذلك حصل فقال الله : أنا الذي قلت ؟! أم أنت الذي تقولت ؟ فماذا سيكون الجواب ؟!
الآية الثالثة
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } (المائدة/67)
الدليل على عدم دلالة هذه الآية الكريمة على (الإمامة) هو: فقدانها لشرط الدليل الأصولي إلا وهو الإحكام والصراحة في الدلالة على المراد.
فالآية - في أحسن أحوالها - متشابهة تحتمل أكثر من معنى، فهي ليست نصاً صريحا في (الإمامة) عموما، ولا (إمامة) أحد بعينه خصوصاً.
__________
(1) سيوجه الله تعالى سؤالا مشابها لنبيه عيسى بن مريم - عليه السلام - كما أخبر فقال: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } المائدة/116-117(61/47)
والاستدلال بها على هذه المسألة استدلال بالظن والاحتمال، والمعنى المراد (الإمامة) غير منصوص عليه في الآية نصاً وإنما يستنتج منها استنتاجا ويستنبط استنباطا.
وهذا لا يصلح في الأصول، والقول به اتباع للمتشابه نهينا عنه.
والإمامية يقولون: إن هذه الآية من آخر ما نزل. وهي أمر من الله تعالى جازم إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ (إمامة) علي.
وهذا يستلزم عدم تبليغ (الإمامة) من قبل، ما يبطل احتجاجهم بجميع الآيات التي نزلت قبلها مثل آية : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (المائدة:55) لأنه إذا كان معناها إمامة علي فهذا يعني أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ (الإمامة) من قبل. فما معنى أن يأمره الله بعدها بتبليغها بحيث يكون عدمه عدماً لتبليغ الرسالة؟
إن الادعاء بأن التبليغ الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو(إمامة) علي يمكن رده بادعاء مثله فيقال: بل هو (إمامة) أبي بكر ، وأن (الإمام) بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق والدليل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } وهو (إمامة) أبي بكر . ومما يؤيده استخلاف النبي إياه في الصلاة في أيام مرضه الأخيرة . وإذن هو (الإمام) بعده. وهناك كثير من الروايات -بل الآيات- التي تعضد ذلك.
إن لفظة (ما أنزل) عامة ومجملة يمكن لأي شخص أن يدرج تحتها من شاء من (الأئمة) ما دام الأمر بالدعوى.
ولو كانت الأصول تثبت بمثل هذا لاحتج مسيلمة بهذه الآية على (نبوته) ، وادّعى
أنها مما أُنزل وأُمر النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بتبليغه! وهكذا…
وزيادة في الفائدة نقول:
اللفظ عام لا مخصص له من القرآن(61/48)
جاء في (الأصول) أن الاسم الموصول من ألفاظ العموم كما قال تعالى: { له ما في السموات وما في الأرض } . وتقول: أعطني ما في جيبك ، اجتنب ما يضرك.
فقوله تعالى: { بلغ ما أنزل إليك } عام يشمل تبليغ جميع (ما أنزل) إليه . فتخصيص التبليغ بأمر معين مناف لعمومية النص ، ولا بد له من دليل يخصصه.
وشرط الدليل المخصِّص أن يكون من داخل النص ، وليس من خارجه وإلا عاد النص غير دال بنفسه ، فتعين القول بعدم دلالة الآية بنفسها على المسألة . وللسبب نفسه لا يصح تخصيص الآية بالرواية . وتخصيص الآية بالرواية دليل واضح على أن الآية لا تدل بنفسها . فبطل الاحتجاج بها .
والاحتجاج بالرواية مردود من وجه آخر : هو أن الاستدلال بالروايات لا يصح في أصول الدين ما لم تثبت هذه الأصول بالآيات أولاً.
إن نص الآية لا يمكن اعتباره دليلاً -ولو متشابهاً- على المسألة :
إن ألفاظه لا تحتمل معنى (الإمامة) قط ، ولا يخطر هذا المعنى على بال قارئه أبدا إلا إذا سبق الإيحاء به أو التلقين . فليس في النص إلا أمر الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ (ما أنزل) إليه . وهو عام في جميع (ما أنزل) وليس محصورا بأمر معين . فإذا كانت (الإمامة) من (ما أنزل) إليه وجب تبليغها عليه . فننظر في (ما أنزل) من قبل من آيات: هل فيها ذكر (الإمامة)؟ وإلا لم تكن مما أمر - صلى الله عليه وسلم - بتبليغه لأنها ليست من (ما أنزل).
سياق الآية
جاءت هذه الآية مسبوقة بآية ومتبوعة بآية ، ورد في كليهما اللفظ : (ما أنزل) خطابا لأهل الكتاب . ولا شك أن (الإمامة) أو (إمامة علي ) ليست من (ما أنزل) إليهم من ربهم ، فاللفظ (ما أنزل) لا يحتمل هذا المعنى .
فما الفرق بين لفظ (ما أنزل) عند أهل الكتاب وبينه عندنا -وهو واحد- حتى تكون (الإمامة) ، بل (إمامة) علي من (ما أنزل) إلينا من ربنا !(61/49)
يقول تعالى في هذا السياق: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإْنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِْنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (المائدة/66-68) .
إن (ما أنزل) إلى أهل الكتاب وأمروا بإقامته، هو نفسه (ما أنزل) إلى
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمر بتبليغه. ومنه نبوته - صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأْمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإْنجِيلِ - إلى قوله - فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ (الَّذِي أُنزِلَ) مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } (الأعراف/157) . وهو الذي زادهم طغيانا وكفرا ، وليس (إمامة) علي أو غيره لأن الله تعالى لم يذكر ذلك قط . وليس هو مكتوبا عندهم . ولم يطالبهم به . ولم تكن (الإمامة) موضوعا للبحث والنظر بينه - صلى الله عليه وسلم - وبينهم ، حتى تزيدهم أو تنقصهم.
إن { ما أنزل إليك من ربك } في الآية (68) هو نفسه { ما أنزل إليك من ربك } في الآية (66) والآية (67) ، فما وجه علاقته بـ(الإمامة) ؟ وما علاقة (الإمامة) به ؟!
معنى الآية(61/50)
هي أمر من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ (ما أنزل) إليه جميعاً دون استثناء ، وإن كره الكافرون والمنافقون والذين في قلوبهم مرض فتآمروا عليه ، وأرادوا إيذاءه أو قتله . فليفعلوا ما يشاءون ، فإن الله عاصمه وحافظه من تسلطهم عليه . فلم يبق له من عذر في كتم شيء من (ما أنزل) إليه خوفا وتقية . وإلا فما قام بواجب تبليغ الرسالة.
إن التبليغ يجب أن يكون كاملاً شاملاً . وهذا يحتاج إلى حماية كاملة شاملة . وهذه لا يقدر عليها إلا الله وحده . لذلك تكفل الله بها لنبيه فقال : { والله يعصمك من الناس } . وهذا خاص برسوله - صلى الله عليه وسلم - .
أما المسلم العادي فغير مكلف بتبليغ جميع (ما أنزل) من الله ، إلا ما كان في وسعه وقدرته . فإن خاف على نفسه القتل أو الأذى الشديد سقط عنه التبليغ لأن الله يقول : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } (البقرة/286) ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) .
أما النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي وسعه أن يبلغ جميع (ما أنزل) إليه؛ لأن الله تعالى تكفل بحفظه
بنفسه . لذلك صرف النبي - صلى الله عليه وسلم - حرسه حال نزول الآية : فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحرس حتى نزل عليه { والله يعصمك من الناس } فأخرج رأسه من القبة فقال: يا أيها الناس انصرفوا عني فقد عصمني الله) رواه الترمذي والحاكم والبيهقي .
إن المحتج بالآية على (الإمامة) يحتاج إلى نفي هذا المعنى قطعا وجزما . ويحتاج كذلك إلى القطع والجزم في إثبات ما يقول من المعنى الآخر . وكلاهما مستحيل . فبطل احتجاجه بالآية.
أيهما أعظم: (إمامة) علي؟ أم طلاق امرأة وزواجها؟(61/51)
يدعي الإمامية أن الله تعالى حين أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ (إمامة) علي ، تردد ولم يبلغ ما أمر بتبليغه من ذلك ، خشية أن يتهمه الناس بمحاباة ابن عمه . حتى أنزل الله عليه هذه الآية ، فلم يجد بداً عند ذاك من تنفيذ الأمر. فقام وجمع الناس في غدير يقال له خم وبلغهم (إمامة) علي ، فأنزل الله تعالى قوله: { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } (المائدة:3) .(61/52)
ولا شك أن هذه التحشية من عندياتهم ، ليتم لهم حمل الآية على ما يريدون. وإلا فهل (إمامة) علي - لو كانت حقاً - أقل شأناً من طلاق امرأة وزواجها ؟ فلا تذكر في القرآن بالنص الصريح الواضح الغني عن التحشية ، كما ذكرت فيه تلك الحادثة في قصة مشابهة حصلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمره الله بتطليق زينب بنت جحش من زيد بن حارثة ابنه بالتبني ، ثم الزواج منها بعد ذلك . فتردد في تنفيذ الأمر خشية الناس حتى أنزل الله عليه يعاتبه عتاباً شديداً وهو يقول : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً * مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } (الأحزاب: 37-40) . ومن الواضح جداً أن الآيات صريحة في ذكر الحادثة إلى حد التصريح باسم (زيد) متبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وزوج (زينب) الأول. وكذلك صرحت بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تردد وتلكأ في تنفيذ الأمر. فلماذا لا تذكر دعوى الإمامية وقصتهم تلك كما ذكرت هذه القصة ؟! مع أن قصتهم – لو(61/53)
كانت حقاً - أولى بالذكر ، وأحوج إلى التصريح ! وكذلك اسم (علي) !!
الآية الرابعة
{ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأْمْرِ مِنْكُمْ } (النساء/59)
الاحتجاج بهذه الآية الكريمة قائم على اعتبار أن المقصود الإلهي بلفظ (أولي الأمر) الوارد فيها هو (الأئمة المعصومون) لا غير .
وهذا غايته أن يكون متشابها. والاستدلال بالمتشابه لا يصلح في الأصول. وإنما لا بد لها من دليل محكم صريح . وهذه الآية ليست كذلك لأن لفظ (أولي الأمر) مشترك بين الأمراء والعلماء . بل الأب ولي أمر ولده ، والزوج ولي أمر زوجته . وكل تابع مأمور تجب عليه طاعة ولي أمره دون اشتراط عصمته .
حتى الشيعة يسمون فقهاءهم بـ(أولي الأمر) ! ويسمون الواحد منهم (ولي أمر المسلمين). ولا شك أن الفقهاء غير معصومين وهم ممن تجب طاعتهم. وإذن لا يشترط بـ(أولي الأمر) أن يكونوا (أئمة معصومين). فبطل الاستدلال بالآية على ذلك.
ومما يبطله أيضاً أن للآية تتمة هي: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } فدخل ولي الأمر ضمن المتنازعين فبطلت عصمته وجازت منازعته الى الله ورسوله ؛ لأن الله تعالى عند التنازع أمر بالرد إلى اثنين لا ثالث لهما (الله والرسول) ، وولي الأمر شيء آخر سواهما.(61/54)
وقد تفطن الكليني إلى هذا فلم يجد مهرباً إلا التجرؤ على اللعب بالآية وتحريفها ! فروى بإسناده عن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأْمْرِ مِنْكُمْ } قال: إيانا عنى خاصة أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا (فإن خفتم تنازعاً في أمر فردوه الى الله والى الرسول والى أولي الأمر منكم) كذا نزلت. فكيف يأمر الله عز وجل بطاعة ولاة الأمر ويرخص في منازعتهم؟! إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأْمْرِ مِنْكُمْ } (1).
فالكليني يقر بأن الآية تجيز منازعة (أولي الأمر) ، وهذا يتناقض مع (عصمتهم)
الذي هو شرط (إمامتهم) ولذلك قال بتحريفها! ولو كان نص الآية يدل على (الإمامة) لما
اضطر إلى ذلك!(2)
__________
(1) أصول الكافي1/276.
(2) مشكلة الإمامية أنهم يطرحون نظرياتهم من أجل الجدل لا أكثر. دون النظر إلى إمكانية تطبيقها من عدمه ! انظر إلى تفسيرهم لكلمة (أولي الأمر)! ثم انظر إلى تفسير أهل السنة! لترى الفرق في إمكانية التطبيق على الواقع للاستفادة الشرعية من معنى الآية.
أما على رأي الإمامية فالآية لم يكن لها أثر على أرض الواقع: لا عند نزولها، ولا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -... وإلى يومنا هذا !
1. ففي عهد النبي: لم يكن من حاجة إلى طاعة علي أو الحسن والحسين (الأئمة). فالآية لم تطبق. مع الانتباه إلى أن الحسن والحسين حينذاك كانا صغاراً.
2. بعد وفاة النبي: يكون معناها طاعة الأئمة الاثني عشر وأولهم علي. وذلك لم يقع.
3. بعد انتهاء عصر (الأئمة) الاثني عشر: ما عاد هناك أي واقع لتطبيقها لعدم وجود (الأئمة). فإن قالوا: إن آخرهم موجود قلنا: بل مفقود ، والواقع يكذب دعواهم.
فالآية -طبقاً لرأي الإمامية- معطلة على منذ نزولها وإلى اليوم.
وعندما تسنح الفرصة للإمامية لممارسة العمل السياسي لا نجد للآية -على تفسيرهم- أي معنى قابل للتطبيق. فأمراؤهم وحكامهم يأتون إلى الحكم بالقوة. ثم يتوارثونه فيما بينهم: كما حصل للفاطميين والبويهيين والصفويين وأمثالهم. والخميني عيَّن منتظري خلفاً له ثم عزله. والآن تعالت أصوات في إيران بتعيين المرشد الروحي بالشورى وليس بالنص من سابقه! وهلم جرا. فأين تطبيق الآية من واقعهم السياسي؟!.
وأغرب ما في الأمر أنهم بعد انتهاء عصر الأئمة فسروا الآية بطاعة العلماء. على اعتبار أن (الفقيه نائب عن الإمام في حال غيبته.. له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس. والراد عليه راد على الإمام…) [عقائد الشيعة – محمد المظفر ص9].
والذي اضطرهم إلى ذلك خيالية نظريتهم. فألجأهم الواقع المنظور إلى عكس ماكانوا ينظرون، وخلاف ما يعتقدون . فعادوا إلى تفسير أهل السنة والجماعة مضطرين وقالوا به مرغمين. ولكن عودةً متطرفة غالية. سببها التطرف الغالي في الفكر فخرجوا إلى الطرف المضاد في الواقع.
وأما على قول أهل السنة فالآية عاملة منذ نزولها وإلى يوم القيامة. فإنهم فسروا (أولي الأمر) بأنهم أمراء السرايا والعلماء. وهذا المعنى قابل للتطبيق حتى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإن الأمير والعالم المرسل من قبله تجب طاعته وتجوز مناقشته في ضوء كتاب الله وسنة رسوله = = ولا تشترط عصمته، وإلا لما أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمراء والعلماء إلى البلدان كخالد وعمرو ومعاذ ومصعب وأبي سفيان. فالطاعة غير مشروطة بالعصمة. يقول تعالى :(..فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً) . والإمامية أوجبوا طاعة العلماء وجعلوها بمنزلة المعصومين، مع عدم توفر العصمة فيهم!
وما أتفه القول – الذي يسوقونه للجدل لا أكثر - بأن الله لا يأمر بطاعة من يجوز عليه الخطأ وإلا كان مأموراً أن يطاع في حال خطئه ومعصيته! فهل كان أمراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - والدعاة الذين كان يرسلهم لا تجب طاعتهم مع أنهم غير معصومين بالاتفاق؟ أم أن المسلمين في زمانهم فهموا من هذه الطاعة الإطلاق في الصحة والخطأ والحسنة والسيئة وقد قال تعالى :" فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول "؟ فأي عقل يفهم من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطاعة أميره وجوب طاعته في المعصية إلا على سبيل الجدل؟!(61/55)
.
الآية الخامسة
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } المائدة/3
ونحن نسأل ما علاقة الآية بموضوع (الإمامة) عموماً ؟ فضلاً عن (إمامة) علي أو غيره خصوصاً ؟!
والجواب يجب أن يكون من منطوق الآية نفسها ، نصاً لا استنباطاً كما هو الشأن في جميع أصول الدين .
فإن لم تكن الآية في دلالتها على (الإمامة) كذلك : بطل الاستدلال بها وكان -في أحسن أحواله- اتباعاً للمتشابه . وهو فعل الزائغين كما حكم رب العالمين وأحكم الحاكمين .
يقول إبراهيم الزنجاني وهو يستدل بالآية على (الإمامة) : (لا ريب أن نصب الإمام من أعظم الدين وأهم مصالح المسلمين فيجب أن يكون واقعاً قبل نزول الآية)(1).
ونحن لن نفعل - لإبطال استدلاله - أكثر من إعادة قوله هذا فنقول :
إذا كان (نصب الإمام من أعظم الدين وأهم مصالح المسلمين فيجب أن يكون واقعاً قبل نزول الآية) وإلا فلا حجة فيها .
إن حجية الآية مبنية على أمر خارج عنها . وهذا يستلزم أن لا يكون نصها حجة بنفسه . وما ليس حجة بنفسه لا يصلح أن يتخذ حجة ويعتبر دليلاً. فسقط الاحتجاج بالآية من قول المحتج بها نفسه .
بل هي حجة ودليل على بطلان (الإمامة) ! لأن (الإمامة) ليست من الدين الذي
سبق الإخبار عنه بأنه كامل . وهذه الآية من آخر ما نزل من القرآن الكريم . والدين كمل بها، والنعمة قد تمت كذلك، ولم نجد فيما سبقها من الآيات المنزلة ما يصرح بـ(الإمامة).
__________
(1) عقائد الشيعة الامامية الاثني عشرية/57.(61/56)
ولو كانت العقائد تثبت بمثل هذا الأسلوب لادعى أي إنسان ما يشاء واعتقد به قائلاً: (لا ريب أن ذلك من أعظم الدين وأهم مصالح المسلمين فلا بد أن يكون واقعاً قبل نزول الآية) . حتى (نبوة) مسيلمة الكذاب ! فيقال : إن الدليل على نبوة مسيلمة قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } (ولا ريب أن نصب مسيلمة نبياً من أعظم الدين وأهم مصالح المسلمين فيجب أن يكون واقعاً قبل نزول الآية) ! ولكن مسيلمة كان يملك ذوقاً عربياً فلم يحتج بذلك .
ولو قلنا: إن دليلنا على إمامة الصديق قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } لأنها (من أعظم الدين وأهم مصالح المسلمين…الخ) لصح قولنا على هذا الأساس!
إن إثبات (الإمامة) بدليل الآية يحتاج قبله إلى إثبات أن (الإمامة) (من أعظم الدين وأهم مصالح المسلمين) . وهذا معناه أن الدليل في حاجة إلى دليل ! أي أننا نثبت أن (الإمامة) من أعظم الدين بدليل هو أن (الإمامة) من أعظم الدين ! وهذا هو (الدور) الممتنع في لغة (المنطق) .
إن الاستدلال على ثبوت أمر بدليل يحتاج أولاً إلى ثبوت ذلك الأمر يجعل أحدهما محتاجا إلى الآخر : فندخل في حلقة (الدور) ، وحكاية البيضة والدجاجة وأيهما كان قبل أولاً ؟ وهو باطل . ولكنه منطق الزنجاني ، وجميع الذين يستدلون بالآية على (الإمامة).
سياق النص(61/57)
إن نظرة سريعة إلى الآية كاملة يظهر أن موضوع الآية شيء آخر لا علاقة له بما أقحم فيها من القول بـ(الإمامة) . يقول تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتةُ وَالدَّمُ وَلَحمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأْزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (المائدة/3) .
فما علاقة (الإمامة) بالميتة والدم ولحم الخنزير والمنخنقة والموقوذة … الخ ؟! كيف يستسيغ ذوق لغوي أن تحشر (الإمامة) مع هذه الأمور؟ مع أنها غير مذكورة أصلاً!
إلا إذا كان غير المذكور من جنس المذكور !
هذا .. وقد روى الإمامية في كتبهم عن علي أنه قال : إن أمركم هذا لهو أهون عندي من شسع نعلي .
إن هذا لا يمكن قبوله إلا إذا قيل إن هذه الآية محرفة - كما ادعى الكليني ذلك في الآية السابقة - وأن النص قد حشر فيها حشراً دون مناسبة. وهذا القول باطل وكفر.
الآية السادسة
{ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } (الشورى/23)
ونحن نسأل: أين الدليل ؟ في أي مقطع أو كلمة من النص ! إن هذا النص غايته أن يكون متشابها . والاستدلال بالمتشابه لا يصلح في الأصول .دون النص المحكم الصريح الذي ينص على المراد. وما احتجوا به ليس صريحاً في الدلالة على (الإمامة) . فبطل الاحتجاج به عليها. ومن باب الزيادة والاستطراد نقول:(61/58)
إن هذه الآية لا يصلح الاحتجاج بها على موضوع (الإمامة) إلا بعد اجتياز أربعة عوائق مستحيلة الاجتياز ألا وهي:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل على دعوته أجراً.
وهذا الأجر هو المودة . أي (الإمامة).
والمودة في القربى . أي الأقارب.
والأقارب هم علي وحده . أو هو وفاطمة والحسن والحسين.
وهذا كله غير ممكن للأسباب الآتية:
أن الآية من الأساس لا علاقة لها بالأشخاص
لأن (القربى) لغةً معنى ذهني هو القرب في النسب وليس ذاتاً أو شخصاً . مثله كمثل الشجاعة والعلم . فإذا أريد التعبير بهذه الألفاظ عن الذوات ، فإما أن يضاف إليها كلمة (ذي أو ذوي) فيقال : ذو قربى وذو شجاعة وذو علم . وإما أن يتغير بناؤها الصرفي ، فيقال: قريب أو أقارب ، وشجاع وعالم . وإلا بقيت معان ذهنية لا علاقة لها بالتعبير عن الأشخاص أو الذوات.
جاء (في مختار الصحاح) للرازي:
(القرابة) و(القربى) : القرب في الرحم وهو في الأصل مصدر تقول: بينهما (قرابة) و(قرب) و(قربى) و(مقربة).. وهو قريبي وذو (قرابتي) وهم (أقربائي) و(أقاربي). والعامة تقول: هو قرابتي وهم قراباتي أ.هـ.
إذن لو أراد الله أحداً بهذه اللفظة لقال: (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي ذوي الْقُرْبَى) كما جاء ذلك في مواضع عديدة من القرآن كقوله تعالى:
{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسانًا وَذِي الْقُرْبَى } (البقرة/83) . ولم يقل: (والقربى) .
{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى } (البقرة/177) . ولم يقل: القربى .
{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } (الإسراء/26) . ولم يقل: (القربى) .
وقد تضاف هذه الكلمة (القربى) إلى (أولوا) ، بدل (ذوي) و(ذي) . كما في قوله تعالى: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } (النساء/8). ولم يقل: (القربى).(61/59)
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى } (التوبة/ 113) . ولم يقل: (قربى) .
فلو أراد الله تعالى أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - لقال : (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في ذوي القربى) . لكنه لم يقل ذلك ، وإنما قال: (إلا المودة في القربى) . فبطل الاحتجاج بالآية لبطلان أساسها وسندها اللغوي ، ولا بناء بلا أساس.
لو افترضنا جدلاً أن (القربى) تعني الأقارب فما الذي يجعلنا نقطع بحمل المعنى على علي وحده وأقارب النبي- صلى الله عليه وسلم - كثيرون!
إن (المودة) لا تعني (الإمامة) في أي حال من الأحوال لا لغة ولا اصطلاحاً .
يقول تعالى: { وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } (النساء/73) .
{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } (المائدة/82) .
{ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (العنكبوت/25) .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } (الروم/21) .
ولا علاقة بين (المودة) في هذه الآيات وغيرها وبين (الإمامة) . فلا معنى للاحتجاج بالآية عليها!
إن آي القرآن كلام. والكلام له قواعد لا يصح إلا بها، وأولها أن يكون المعنى المقصود مما يصح تفسير الكلام أو اللفظ به لغة.
والاحتجاج بهذه الآية على المطلوب الذي هو (الإمامة) مبني على قاعدتين هما:
أ. إن (القربى) تعني الأقارب لغة . وهذه القاعدة تبين انهيارها .
ب. أن (المودة) تعني (الإمامة) . وهذه منهارة من الأساس .(61/60)
وكل بناء منهار القواعد، فهو منهار لا يمكن أن يقوم. كما قال تعالى: { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ } (النحل/26) .
هذا كله فيما إذا كانت المسألة فروعية!
أما إذا كانت أصولية كـ(الإمامة) فالأمر أشد ؛ لأن القاعدة توجب (أن يكون المعنى المقصود لا يصح تفسير اللفظ إلا به) وليس هو أحد تفاسير اللفظ المحتملة .
وهذه يعني أن النقاش في المسالة لا يصلح من البداية.
4. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسأل على دعوته أجراً
وذلك أمر مقطوع به بنص الكتاب. يقول تعالى :
{ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } (يوسف/104) .
{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ } (سبأ/47) .
{ قُلْ مَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا منْ الْمُتَكَلِّفِينَ } (ص/86) .
وإذا لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل أحداً على دعوته أجراً إلا الله بطل الموضوع من الأساس لأنه مبني على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسألهم أجرا هو (إمامة) علي، وهذا مخالف لما ثبت قطعاً في القرآن من أنه لم يكن يسأل على دعوته أجراً. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإن المطالبة بالأجر ثمناً لشيء لا يكون إلا بعد قبول المشتري شراء ذلك الشيء . وإلا لم يطالب بثمنه.
إن الآية خطاب موجه للكفار الرافضين لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أساساً . فما هو وجه المطالبة بأجر مقابل ثمناً لها ؟ وهذا الأجر هو (إمامة) علي ؟ وعلي يومئذ صبي صغير! فهل قبلوا النبوة أولاً ؟ حتى يطالبوا بـ(الإمامة) ثانياً ؟!
معنى الآية(61/61)
ولعل سائلاً يسأل عن معنى الآية ؟ فنقول: إن معنى الآية هو: قل لا أسألكم على دعوتي أجراً أو مالاً . وإنما غاية ما أسألكم هو أن تودوني لقرابتي منكم . وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم ، فتحفظوني وتحسنوا معاملتي ولا تؤذوني . فإن هذا لا ينبغي بين الأقارب وذوي الأرحام .
وهذا ليس أجراً على الدعوة ، وإنما هو حق مشروع للقربى لا قدح أو عيب في
سؤاله ، أو المطالبة به ؛ لأن سؤال الحق حق .
إن مودة القربى وصلة الرحم واجبة على الأقارب وذوي الأرحام. وذلك ما لم تكن قريش ترعاه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والاستثناء هنا منقطع غير متصل . وهو الذي لا يكون المستثنى داخلا ضمن المستثنى منه كقوله تعالى: { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَماً } (مريم/62) . والسلام (وهو المستثنى) لا يدخل ضمن اللغو (وهو المستثنى منه) . ومعنى الآية: لا يسمعون فيها لغواً. لكن يسمعون سلاما.
وكذلك (المودة) لا تدخل ضمن الأجر . ومعنى الآية: لا أسألكم عليه أجرا ، لكن أسألكم المودة في القربى. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسأل على دعوة أجراً .
وللآية معنى آخر دقيق مروي عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو : لا أسألكم أجراً إلا أن تودوا الله تعالى، وأن تتقربوا إليه بطاعته .
فالمودة هنا هي مودة الله جل وعلا. والقربى التقرب إليه بطاعته . ويؤيد هذا المعنى الدقيق قوله تعالى: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } (الفرقان/57) . فإن مودة الله والتقرب إليه هو معنى اتخاذ السبيل إليه تماما.
كذبة صلعاء(61/62)
يقول إبراهيم الزنجاني: (روى الجمهور في الصحيحين وأحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : (علي وفاطمة وابناهما)(1). وهذا كذب شنيع !! وادعاء باطل. إذ لا وجود لهذه الرواية في الصحيحين. ولا مسند الإمام أحمد !!!
بل الموجود في صحيح البخاري ومسند أحمد خلاف هذا تماماً ! وأما مسلم فلم يتطرق الى الموضوع البتة. فقد روى البخاري أن ابن عباس أنكر على سعيد بن جبير تفسيره الآية بقربى آل محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال له: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بطن من قريش إلا وله فيه قرابة فنزلت عليه إلا أن تصلوا قرابة بيني وبينكم).
وروى أحمد في مسنده: (سئل ابن عباس عن هذه الآية: { قُلْ لا أَسأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } قال فقال سعيد بن جبير قربى آل محمد قال فقال ابن عباس عجلتَ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بطن من بطون قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة).
ولم يكن البخاري ولا مسلم ولا أحمد بهذا المستوى من الجهل ! بحيث يروون شيئاً مرفوضاً عقلا ولغة ! فالآية مكية. والحسن والحسين رضي الله عنهما لم يولدا إلا في المدينة بعد الهجرة!
واستعمال لفظ (القربى) و(القرابة) في الأقارب من استعمال العامة . أي هو استعمال عامي غير فصيح. وذلك لا يكون في لغة القرآن ، أو لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو عموم الصحابة لأنهم عرب أقحاح . ويظهر أن سعيد بن جبير (رحمه الله) قد أتي من قبل أعجميته. فواضع هذه الرواية كذاب جاهل لا يعرف كيف يكذب !
__________
(1) عقائد الإمامية الاثنى عشرية /86.(61/63)
ونسبتها إلى مصادر خالية منها من قبل عالم يوصف بأنه (ركن الإسلام وعماد العلماء الأعلام)(1) افتراء عظيم لا يليق بعامة الناس . فكيف بعالم ؟! إن (عالماً) له مثل هذه الجرأة على الكذب لحري بأن يسمى بـ(ركن الكذب وعماد الدجل) لا (ركن الإسلام وعماد العلماء الأعلام).
وحجة عمياء
ويقول أيضاً: (وجوب المودة يستلزم وجوب الإطاعة لأن المودة إنما تجب مع العصمة)(2). وهذا ادعاء محض لا أثر للعلم عليه! فما علاقة المودة بالعصمة (وجوبا) أو استحبابا!
يقول تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } (الروم/21). فالزوج يود زوجته وكذلك الزوجة تود زوجها ولا علاقة لهذه (المودة) بالعصمة أو الطاعة المطلقة. والصديق يود صديقه. ولا علاقة لذلك بكل ذلك!
ويقول: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً } (الممتحنة/7).
ويقول كذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } (الممتحنة/1).
ويقول: { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } (المائدة/82).
الآية السابعة
{ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعدِ مَا جَاءكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنا وَنِسَاءكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } (آل عمران/61)
__________
(1) الخوئي / في أول الكتاب.
(2) المصدر نفسه.(61/64)
أول ما يبطل الاحتجاج بهذه الآية على (الإمامة) أنها غير صريحة الدلالة عليها وغايتها أن تكون متشابهة. والاستدلال بالمتشابه لا يصح في الأصول دون النص المحكم الصريح الذي ينص على المراد.
إن الاحتجاج قائم على أساس أن لفظ (وأنفسنا) يقتضي المساواة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين علي- رضي الله عنه - في الولاية العامة إلا النبوة . لأن علياً هنا صار نفس النبي .
وهذا الاستنباط -مع أن الاستنباط لا يُعتمد في باب الأصول- لا يصح . والدليل على عدم صحته أن الله تعالى استعمل اللفظ نفسه في غير المتساوين . كما في قوله تعالى: { لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً } النور/12 وليس المؤمنون متساوين في كل شيء.
وقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } البقرة/84
وهؤلاء ليسوا متساوين . وليس أحدهم هو نفس الآخر.
وقوله: { ولا تلمزوا أنفسكم } الحجرات/11 أي لا يلمز بعضكم بعضا . وهذا لا يستلزم مساواة اللامز لمن لمزه .
وقوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } النساء/1 والناس غير متساوين وقد خلقوا من نفس واحدة!
وحواء لا تساوي آدم- عليه السلام - وقد خلقت من نفسه! فلو كان علي- رضي الله عنه - خلق من نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - لما استلزم ذلك مساواته به!
وقوله: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ } آل عمران/164
وقوله: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ } التوبة/128
وقوله: { وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } الروم/21(61/65)
وهذه عامة في النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره. ولو جردنا اللفظ من فحواه وفسرناه تفسيراً لفظيا يابساً لقلنا : إن الزوجة مخلوقة من نفس الزوج . فهي جزء منه . والجزء أدل على التجانس والمساواة بجزئه.
فقول الله تعالى: { وأنفسنا وأنفسكم } يحمل على فحواه لا على لفظه المجرد. واللفظ لغة لا يعني المساواة بأي حال من الأحوال. ولو قال مجموعة من الأشخاص لأحدهم: (أنفسنا فداك) لما خطر ببال أحد أنهم متساوون في كل شيء.
علي - رضي الله عنه - لم يحتج بهذه الآيات
إن (الإمامية) لا يقبلون حجة إلا قول (المعصوم) . وهذا الاستنباط لم يقل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتفق على عصمته ، ولا علي - رضي الله عنه - الذي يعتقدون عصمته . وإلا لكان هو أول المحتجين به ولنازع القائمين بالأمر واحتج عليهم بهذه الآية وأمثالها . ولما انتظر ربع قرن حتى تؤول الخلافة إليه بالبيعة وهو مكره يقول: (دعوني والتمسوا غيري ….وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميرا)(1).
أما لماذا اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الأربعة (علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم) للمباهلة دون غيرهم ؟ فلأسباب خارجة عن موضوع (الإمامة) . وإلا فلو كان الاختيار دليلاً على (الإمامة) لاستلزم (إمامة) فاطمة رضي الله عنها . والإمامية لا يعتقدون بـ(إمامة) النساء . إذن لا علاقة للآية بـ (الإمامة).
الآية الثامنة
{ وَالذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمتَّقُونَ } الزمر/33
ولا حجة فيها على (إمامة) علي - رضي الله عنه - بخصوصه ، ولا غيره من ذريته : إذ اللفظ عام في كل من صدق برسول الله- صلى الله عليه وسلم - فهو من المتقين. ولا يخص أحدا بعينه. وليس فيها اشتراط العصمة فيمن صدق برسول الله . ولا ذلك مقبول ولا معقول!
والذي نحتاجه لسلامة الاحتجاج أمران:
__________
(1) نهج البلاغة 1/181-182.(61/66)
1. النص على (الإمامة) عموماً ... 2. النص على الإمام بعينه خصوصاً.
وكلاهما لا أثر له في الآية .
ومما ينقض الاحتجاج بها من أساسه ما نقله الذهبي في [المنتقى/470] قال: سئل أبو بكر بن عبد العزيز غلام الخلال عن هذه الآية فقال:
نزلت في أبي بكر. فقال السائل: بل في علي . فقال أبو بكر: اقرأ ما بعدها فقرأ إلى قوله: { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذي عَمِلُوا } فقال: علي عندكم معصوم لا سيئة له فما الذي يكفر عنه ؟! فبهت السائل.
فالقول بأن الآية نزلت في علي- رضي الله عنه - ينقض عصمته و(إمامته) لأن الآية جاءت في سياق قوله تعالى: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } (الزمر/32-35) .
فإما أن يكون علي - رضي الله عنه - مقصوداً بالآية فهو غير معصوم فلا يصلح أن يكون (إماماً) . وإما أن لا يكون مقصوداً بها فبطل الاحتجاج بها.
والآية على كل حال دليل على عدم عصمته لأنه - لا شك - داخل في حكمها. فإنه ممن صدق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وهؤلاء يخبر الله أن لهم سيئات سيكفرها الله عنهم. فهم جميعاً غير معصومين من الذنوب وهو المطلوب. وهذا كله مما يخرج الدليل من الإحكام إلى التشابه . وذلك لا يصلح في الأصول.
إرادة الخاص باستعمال اللفظ العام خلاف الأصل والبيان
الملاحظ على جميع الآيات التي يحتج بها الشيعة على إمامة علي أن ألفاظها عامة غير منحصرة بشخص معين . لكنهم يحملونها على علي وحده ، مع أن اللفظ عام ! وهذا خلاف قواعد اللغة ، لا سيما وأن الأمر أمرُ أصلٍ اعتقادي لا بد من تحديده وتعيين المقصود به بعينه :(61/67)
إن الله يقول: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } ولفظ (الذين آمنوا) عام ليس خاصاً بعلي . فتخصيصه به وحده خلاف المألوف في اللغة . وهو مناقض للبلاغة، ومناف للبيان . فلو قال أحدهم : (اشتر لي قلما) ، فجئته بقلم رصاص . فقال : (أنا اقصد قلم حبر) . كان بيانه قاصراً . ولو قال: (ادع لي رجلاً عربياً) ، فجئته بسوري فقال : (أنا أقصد عراقياً) كان قوله قاصراً عن البيان كذلك . وذلك لا يليق بالله تعالى. فلو أراد الله بهذه الآية علياً وحده لخصه باسمه ، كما خص محمداً- صلى الله عليه وسلم - باسمه لما أراده نبياً بعينه.
وكذلك الحال مع بقية الآيات كقوله: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ }
وقوله: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا }
وقوله: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ }
وقوله: { بلغ ما أنزل إليك من ربك }
وقوله: { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ }
وقوله: { ما فرطنا في الكتاب من شيء }
وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }
وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأْمْرِ مِنْكُمْ } …الخ
فكل هذه الآيات جاءت عامة ولو أراد الله بها شخصا بعينه لكان كلامه –سبحانه- قاصراً عن البيان! وهو مستحيل.
الآية التاسعة
{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيراً } (الدهر/8)
قالوا: إن الآية نزلت في علي وفاطمة وخادمتها فضة لئن شفى الله الحسن والحسين ليصومن ثلاثة أيام…..الخ(1).
__________
(1) عقائد الإمامية الاثنىعشرية للزنجاني/87.(61/68)
والرواية تنقض الاستدلال بالآية ! وإلا لكانت فاطمة رضي الله عنها بل خادمتها فضة (إماماً)! ولا أحد يقول بذلك . والآية -كما ترى- عامة لم تخصص أحداً . ولو كانت خاصة لما دلت إلا على فضل من خصته. ومجرد الفضل لا يدل على (الإمامة). وإلا كان كل فاضل (إماماً) .
والقاعدة الأصولية تقول : (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) . فحتى لو كانت نازلة في السبب الذي ذكروه ، فهي عامة فيهم وفي غيرهم . فكيف والرواية موضوعة؟! كما بينها ابن الجوزي في كتابه (الموضوعات). والآية – على كل حال – ليست نصاً صريحاً ولا متشابهاً في (الإمامة) . فلا تصلح للاستدلال.
الآية العاشرة
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبادِنَا } (فاطر/32)
وليس في الآية إلا أن الله تعالى أورث الكتاب هذه الأمة التي اختارها كما قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (آل عمران/110) وقال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } (البقرة/143) .
ولفظ (الذين) عام . وما نحتاج إليه هنا لفظ خاص يناسب المطلوب الخاص الذي هو (إمامة) علي وولده . وهو مفقود . وإطلاق العام مع إرادة الخاص يناقض البيان . فلا حجة في النص. ثم أن للآية تكملة هي: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } أي من هذه الأمة قسم ظالم لنفسه. وقسم مقتصد عمل الواجبات وترك المحرمات. وقسم ثالث سابق بالخيرات أدى الواجبات والمستحبات . وترك المحرمات والشبهات والمكروهات.
فلو كانت الآية في (الأئمة) لكان منهم من هو ظالم لنفسه . وهو مناقض لشرط (عصمتهم) فبطل الاحتجاج بها.(61/69)
فان قالوا: إن الضمير في (منهم) يعود إلى (عبادنا) . قلنا : هذه شبهة واحتمال. وما نحتاجه هنا القطع واليقين . لأن أصول الاعتقاد لا يقبل فيها الظن . واليقين غير متحصل ، فبطل الاستدلال لتطرق الاحتمال . ثم لابد لهم معه من القطع بأمر آخر ألا وهو أن الاصطفاء لا يعني إلا (الإمامة) . وهذا ويبطله ورود اللفظ في غير (الأئمة) بالاتفاق كما في قوله تعالى: { يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ }
(آل عمران/42) . ومريم امرأة . و(إمامة) النساء ممتنعة عند الإمامية .
وقال تعالى عن طالوت : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ } (البقرة/247) . ولم يكن (إماماً معصوماً) . وإنما الإمام كان نبي الله يوشع الذي أخبر الله عنه بقوله: { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله - إلى قوله - وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا } (البقرة/246،247) .
فالاصطفاء مطلق الاختيار.
قال تعالى: { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ إِنَاثًا } الإسراء/40
وقال: { أصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } الصافات/153-154.
ثم لا بد من القطع بأن مقصود الآية هم (الأئمة) الاثنى عشر. وذلك لا وجود له.
الآية الحادية عشرة
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة/119)
وليس في هذه الآية إلا الأمر بأن يكون المؤمن مع الصادقين في صدقهم ومحبتهم
وموالاتهم والسير على نهجهم . كما نهى - في المقابل - عن الكذب ومصاحبة الكذابين. فهي عامة في الصادقين. ولا دليل على إرادة الخصوص فصار الاستدلال بنص متشابه. وهو لا يصح في الأصول.(61/70)
وسبب نزول الآية -كما هو واضح من السياق ، وقد رواه البخاري- هو تخلف ثلاثة من الصحابة عن غزوة تبوك : هم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع . وقد صدقوا في قولهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما رجع فلم يعتذروا. بل اعترفوا بتقصيرهم، وأنه لم يكن لهم من عذر. فوكل أمرهم إلى الله . حتى نزلت توبتهم منه بقوله تعالى: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأْرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } (التوبة/117-119) أي كونوا صادقين كهؤلاء الذين أنجاهم صدقهم .
فما علاقة (الإمامة) بالموضوع ؟!
وإذا أردت التحقيق فإن لقب (الصادقين) في القرآن عَلَم على المهاجرين :
يقول تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } (الحشر/8) فالمهاجرون هم الصادقون وقد أمرنا الله بأن نكون معهم محبة ونصرة واتباعا. والإمامية مخالفون لكل ذلك وأول مخالفتهم إياهم بغضهم وسبهم.
قواعد تحت الطلب
يقول الزنجاني (ركن الإسلام وعماد العلماء الأعلام) معلقاً على الآية ومتحججاً بها : وليس المراد بالصادق صادقا ما وإلا لزم وجوب متابعة كل من صدق مرة وهو باطل إجماعاً !!!(61/71)
إن هذه القاعدة التي استند إليها وهي لزوم متابعة كل من صدق ولو مرة واحدة
على اعتبار أن ذلك يمنحه صفة الصدق ، تصلح أن تسمى - هي وقواعده الزنجانية الأخرى - بـ(قواعد تحت الطلب) ؛ فإنه عندما تُعييه الحيلة ويصل إلى طريق مسدود لا خروج له منه اخترع كلاما من عند نفسه ثم صيره قاعدة وانطلق منها إلى ما يريد ! وإلا من أين أتى بهذه القاعدة ؟ من أي لغة ! ومن قال بها ؟ وفي أي كتاب ؟ بل أي عقل يستسيغها ؟!
إن هذه القاعدة هي من أبطل الباطل لأن من صدق مرة لا يسمى صادقاً ، وإنما هو أكذب الكاذبين فإن إبليس اللعين ومسيلمة الكذاب و(علماء السوء) صدقوا مرات. كما قال إبليس: { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } (الحشر/16). ويقول يوم القيامة: { وما كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } (إبراهيم/22) .
إن الصادق لا يسمى صادقاً إلا إذا غلب الصدق عليه فلم يعرف عنه الكذب. وإلا فمن كثر كذبه سمي كذابا وإن كان يصدق كثيراً .
الآية الثانية عشرة
{ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
(الأنبياء/7، النحل/43)
أول ما ينقض الاستدلال بالآية على (الإمامة) – بعد كونه فاقداً لشروط الاستدلال الأصولي- هو أنه لو كانت هذه الآية في (الإمامة) لكان أئمتنا هم أحبار اليهود والنصارى ورهبانهم! وهذا يتبين من قراءة الآية من أولها : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا… } . أي اسألوا أهل الذكر الذي هو الكتاب : هل أرسلنا إليهم ملائكة أو جنساً آخر غير الرجال ؟ ثم يقول: { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جسَدًا لاَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } (الأنبياء/8).
وهذا كقوله تعالى: { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَؤونَ الْكِتَابَ مِنْ(61/72)
قَبْلِكَ } (يونس/94) الذي يأمر بالرجوع إلى أهل العلم بالكتاب (وهم الأحبار والرهبان)
لسؤالهم - على افتراض وجود الإشكال - وهم الفقهاء عموما كما هو الواقع .
ثم إن حصر السؤال بـ(الأئمة) المعصومين فقط يلزم منه عدم جواز سؤال فقهاء الإمامية؛ لأنهم ليسوا (أئمة معصومين) . فإما أن يسكتوا حتى يخرج (المعصوم) لنسأله. وإما جاز سؤال غير المعصوم فبطل الاستدلال بالآية على (الإمامة).
والآية ترشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سؤال علماء أهل الكتاب، وهم غير معصومين ولا (أئمة) . فلا وجه لحشر (الإمامة) هنا.
بل فيها فائدة عظيمة وهي إرشاد الأعلم إلى سؤال من هو أقل علماً إذا حمله على ذلك سبب.
وبمثل الذي قلناه في معنى الآية قال عدد من مفسري الإمامية مثل محمد مغنية والطباطبائي . يقول الأول : (المراد بأهل الذكر أهل العلم المنصفون. سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم. والمعنى: إن كنتم أيها المشركون في ريب من قولنا فاسألوا العارفين يخبروكم أن جميع الأنبياء بشر)(1).
وقال الآخر بعد أن استعرض عدة أقوال: (وكيف كان فالآية إرشاد إلى أصل عام عقلاني وهو وجوب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة).(2)
والنتيجة أن الآية صارت - في أحسن أحوالها بالنسبة للإمامية – متشابهة ظنية الدلالة تحتمل هذا وهذا فلم تعد صالحة للاحتجاج على المراد. لأن الدليل إذا تطرق له الاحتمال بطل به الاستدلال.
آيات أخرى استدلوا بها
كقوله تعالى: { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيسَ لَهُ دَافِعٌ } (المعارج /1-2).
إن النزول إلى هذا المستوى من الاستدلال سوءة ينبغي أن تطوى ولا تحكى ! إذ ليس في الآية إلا إخبار من الله تعالى أن داعٍ دعا بأن ينزل الله عليه العذاب تعنتاً
وتجبراً. فما علاقة ذلك (بالإمامة) ؟ دع عنك (إمامة) أحد بعينه.
__________
(1) التفسير الكاشف 4/517.
(2) الميزان في تفسير القرآن 12/259.(61/73)
وحتى يتوجه الاستدلال وضعوا رواية مفادها أن رجلاً اسمه الحارث بن النعمان الفهري اعترض على تولية النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً أمارة المؤمنين في غدير خم. فدعا قائلاً: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم). فرماه الله بحجر فقتله. وأنزل بسببه: { سأل سائل بعذاب واقع } .
وهي رواية مكذوبة. وأول دلائل كذبها أن (رواية الغدير) مدنية من آخر ما كان في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - . وسورة المعارج مكية من أول ما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - . فكيف يمكن التوفيق بينهما ؟!
وقوله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } (النساء/115).
وليس في النص -كما ترى-تصريح ولا إشارة إلى مسألة (الإمامة) عموماً، ولا (إمامة) أحد خصوصاً.
إنما هو ذم ووعيد لمن خالف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن علم وسلك غير سبيل المؤمنين. ولفظ (المؤمنين) عام، و(الإمامة) معنى خاص وإرادة الخاص بلفظ العام قصور عن البيان لا يليق بكلام الرحمن. فخرج النص من الصراحة والأحكام. فلا حجة فيه على المطلوب.(61/74)
والمؤمنون - عند نزول الآية - هم المهاجرون والأنصار. فالاتباع المأمور به فيها متعلق بهم كما قال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأْوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأْنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (التوبة/ 100). والطريف أن الإمامية أول المخالفين لهم، بل اتخذوا سبهم ومخالفتهم دينا! ولقد جاء هذا كله مشروحا في نهج البلاغة عن سيدنا علي - رضي الله عنه - بقوله: (إنما الشورى للمهاجرين والأنصار فان اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضا. فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج عنه. فان أبى قاتلوه على (اتباعه غير سبيل المؤمنين) وولاه الله ما تولى)(1).
وهذا يخالف ما قالوه - ويوافق ما قلت - جملة وتفصيلاً.
كما أنهم استدلوا بآيات أخرى لولا أني قرأتها بنفسي ضمن الأدلة القرآنية على (الإمامة) لما صدقت أن أحداً يهبط إلى هذا المستوى من الاستدلال!
منها قوله تعالى : { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } (الأحزاب/23). وأقل ما فيها أن آخر الآية يرد على الاستدلال بأولها. فإن كان الرجال الذين صدقوا (أئمة معصومين) فإن الله يقول: (فمنهم قضى نحبه) أي مات. فمن هؤلاء (الأئمة) الذين ماتوا قبل نزول الآية ؟!
ومنها قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } (الأعراف/172). وليس في الآية إلا الشهادة لله بالربوبية والتوحيد .
__________
(1) نهج البلاغة 3/7.(61/75)
فأين (الإمامة) ؟! اللهم إلا إذا قيل: إن الآية محرفة! كما يروي الكليني عن جابر عن أبي جعفر(ع) قلت له: لم سمي أمير المؤمنين؟ قال سماه الله. وهكذا أنزل في كتابه (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (وان محمدا رسولي وان علياً امير المؤمنين)(1).
وذلك كفر والعياذ بالله!
ومنها قوله تعالى: { وَقِفُوهُمْ إِنَّهمْ مَسؤولونَ } (الصافات/24). وأمثالها من الآيات وهي لا تدل على أكثر من إفلاس المستدل من الأدلة وإلا لما اضطر إلى ذلك!
وهكذا تبين -والحمد لله- أنه لا دليل معتبراً من القرآن على (الإمامة) سوى المتشابهات. وهي بضاعة الزائغين كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } (آل عمران/7).
المبحث الثاني
وقفة مع الروايات
بقيت لنا كلمة أخيرة عن الروايات لأُبين كيف يتم الاستدلال بها حتى يتبين للقارئ مدى القيمة الاستدلالية للروايات التي يحتج بها الإمامية، متخذاً من رواية (الغدير) نموذجاً يقاس عليه بقية الروايات، لشهرة هذه الرواية وكثرة الاحتجاج بها.
المطلب الأول
حقائق وأمثلة عن روايات الشيعة
هذه جملة من الحقائق والملاحظات المهمة عن روايات الشعة أذكرها قبل مناقشة الرواية:
أ. الاضطرار إلى صنع الروايات لعدم دلالة الآيات
__________
(1) أصول الكافي1/421.(61/76)
حين لم يجد الإمامية – ولو - آية واحدة تذكر الإمام وتعينه بصراحة تقطع الشك، وتسكت المعارض كقوله تعالى عن الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه } أو الصلاة: { أَقِمِ الصَّلاة } أو النهي عن أكل الربا: { وَحَرَّمَ الرِّبا } أو النهي عن جماع الحائض: { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } - لجأوا إلى صنع الروايات المصرحة بما يشتهون. ومنها روايات تفسر الآيات على هواهم. ومنها ما تجعل الأئمة بمنزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومنها ما تجعله بمنزلة الإله!. ولو كان الأمر كما يقولون لجاء ذكر (الإمام) صريحاً في القرآن.
ألا يستحق (الإمام) ،وهو بهذه المنزلة والخطورة، أن ينوه الله عنه – ولو – بآية واحدة صريحة تشفي الصدر.. وتذهب غيظ القلب.. وتقطع الشك.. وتريح النفس؟! آية واحدة !!. إن هذا يدلل بوضوح على كذب تلك الروايات(1).
ب. بين الصحيح غير الصريح والصريح غير الصحيح
من الملاحظات المطردة : أن جميع الآيات القرآنية التي يحتج بها الإمامية غير صريحة في الدلالة على (الإمامة) . على عكس الروايات التي يوردونها . فإنها غالباً ما تكون صريحة في ذلك ؟!
فما السر في هذا التباين؟!
في مقابل ذلك نجد جميع الآيات الواردة في أصول الدين وأساسياته الثابتة صريحة الدلالة واضحة ناطقة نصا بالأصل ومصرحة به بما لا مزيد عليه ولا يحتاج إلى شرح أو تبيين. وإذا كان ثمة رواية فإنها لا تضيف شيئاً يتعلق بإثبات الأصل أو توضيحه. وإنما تؤيد أو تفصل في فرعياته لا أكثر. الأمر الذي لا نجده في أصول الإمامية التي انفردوا بها!
__________
(1) اقرأ مثالاً على ذلك بعض ما ذكرته لاحقاً من روايات عن الكليني في موضوع (التمسك بأهل البيت). تحت عنوان (روايات كفرية تستلزم كفر من رواها).(61/77)
إن روايات الإمامية لا تنحصر وظيفتها في تأييد ما صرحت به الآيات من الأصول وتفصيلها. وإنما تقوم على توجيه الآيات وتقويلها! فكأنَّ الرواية تقول للآية: قولي كذا، انطقي بكذا، إنك تقصدين كذا وتعبرين عن كذا … وهكذا.
وذلك كمثل رجل ادعى دعوى كبيرة فلما طولب بمن يشهد له من الشهود العدول وجاء به ليشهد له على ما يقول، إذا بالشاهد يتكلم عن أمور لا صلة لها بالدعوى. لكن الرجل المدعي صار يلقن الشاهد ويطلب منه: أن قل كذا انطق بكذا فإذا تكلم بغير ما يريد التفت إلى الحضور قائلاً: إنه يعني كذا ويقصد بكلامه كذا. وأن لكلامه معنى باطنا لا تدركونه، ولا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم. وأنتم غير راسخين. فأنا اشرح لكم ما يقول!
وهذا مما يوجب على كل عاقل متدبر أن يرتاب في أمر هذه الروايات، ليتأكد أنها قد صنعت خصيصاً ووضعت من أجل توجيه الآيات وإنطاقها بما تأباه من المعاني وإلا لما نطقت الرواية بما سكتت عنه الآية!
وقد يحتجون بروايات صحيحة في أصلها ولكنها -كالآيات- غير صريحة. لذلك وضعت لها زيادات وقد ينقص منها وتهذب ليأتي (الفصال) حسب الطلب كرواية الغدير.
والحقيقة أن الإمامية - حسب ما تقضي أصولهم - لا يعتمدون على الآيات ولا
على الروايات في تأسيس الأصول . وإنما يجعلون (العقل) -أي الرأي والاجتهاد في الواقع- هو الأساس الذي يبنون عليه أصولهم. وما ذلك إلا لأن العلماء - الذين يعرفون حقائق الأمور وبواطنها - يدركون جيداً أن القرآن لا يمكن الاعتماد عليه لعدم صراحة آياته. وأن الروايات الدالة مكذوبة لا يوثق بها، ولا تمر إلا على العوام وغير
المختصين فلجأوا الى (العقل)؛ لأنه ميدان فسيح لا ضابط له.
ولعل سائلاً يسأل - أو يعترض - قائلاً: ما أدراك بأن العلماء يعلمون بكذب هذه الروايات والأصل أن العلماء منزهون عن ذلك وهذه تهمة كبيرة لا تليق بهم؟(61/78)
والجواب أنهم يعلمون ذلك حقاً لأنهم علماء أولاً –والمفترض في العالم أنه يعرف الصحيح من الضعيف. وثانياً أن منهم –وهؤلاء كثر- من وجدناه ينسب روايات إلى مصادر خالية من تلك الروايات. ويمارس هذا الفعل كثيراً. مما يدل جزما على أنه يتعمده. وليس هو من الخطأ غير المقصود. وسيجيئ –إن شاء الله- ما يشهد لما أقول.
ج. استنباط الصخر
الاستنباط لغةً : هو استخراج ما يحتمله النص ، أو ما يمكن أن يكون في النص من معاني كما يستخرج الماء من الأرض بحفرها .
أما الإمامية فإنهم عادة ما يأتون بالمعاني من خارج دائرة احتمالات النص ويحشرونه فيه ثم يقولون : إن دليلنا على هذا المعنى كذا ، ويأتون بالنص الذي حشروا هم فيه ذلك المعنى حشراً !
فاستنباطهم حشر وليس استنباطاً. أو هو استنباط حشري. أو سمه - إن شئت - استحشاراً أو .. استعباطاً لا فرق !
إن مثل الإمامية في تعاملهم مع الآيات وإلصاق المعاني بها وإسنادها بالروايات كمثل رجل ادعى فقال: أنا قادر على أن استنبت الزرع واستنبط الماء من هذا الصخر! فقيل له: فدونك هذا الصخر!
فذهب وجاء بأحمال التراب ففرشه بها، وبصهاريج الماء فسقى به التراب وغرس الأشجار. ثم صار يقول: أما قلت لكم: إني قادر على أن استنبت الزرع واستنبط الماء
من هذا الصخر ؟!
نعم قد ينخدع بما يقول الكثيرون! ولكن الحقيقة هي أن الزرع والشجر نبت على التراب. والماء هو الذي جاء به! فلا الزرع خرج من الصخر، ولا الماء تفجر منه. والصخر لا علاقة له بما جرى فوقه وباسمه!
إن الصخر هو مثل الآية في دلالتها على ما يقولون! والتراب مثل الرواية التي جاءوا بها وألصقوها بالآية.
والماء والزرع هو المعنى الدخيل الذي أضافوه، وادعوا أنهم استنبطوه من الآية. وما نبت من الزرع (الأصول الإضافية) إنما نبت وخرج من التراب (الرواية) وليس من الصخر (الآية).
فالآية لا علاقة لها بما جرى باسمها، وألصق بها!
د. الروايات أكبر ميدان للكذب(61/79)
حينما ضاع على الناس ضوابط الاهتداء، وغاب عنهم أن أصول الهداية محصورة في محكمات الكتاب لا غير، لأنها المصدر الوحيد المضمون للاهتداء في الأصول. دخلت إليهم الضلالات عن طريق الروايات التي يتلقونها ثقة منهم بمن يرويها، ممن لبس لهم لبوس العلماء. غير واضعين في حسبانهم أن من العلماء من يخطئ أو يزوّر عليهم الحقائق ويرتكب جريمة الكذب المتعمد! الأمر الذي يستحيل أن يكون مع الآيات المحكمات. لأنها واضحة المعاني لا تحتمل أكثر مما ينطق به نصها.
وهذه بعض الأمثلة اضطررت إلى سوقها. وهي لا تمثل إلا قطرات من مستنقع كبير!
عبد الحسين شرف الدين الموسوي صاحب كتاب (المراجعات) واحد من هؤلاء الذين يتعمدون الكذب! ومنه: أنه ينسب توثيق روايات إلى مصادر أو علماء أوردوها ليردوا عليها ويبينوا ضعفها. فكيف يجعل من ذلك مصدراً معتمداً لها!
وفي (مراجعاته) من ذلك الكثير! منه: أن علياً بلغه قول أبي هريرة: (قال خليلي وحدثني خليلي) فقال: متى كان النبي خليلك؟
ونسب ذلك إلى ابن قتيبة في كتاب (تأويل مختلف الحديث) كمصدر معتمد للرواية. بينما الحقيقة – التي لا يعرفها أغلب القراء الذين وضعوا ثقتهم بالكاتب – أن ابن قتيبة إنما أورد الرواية ليرد عليها ويبطلها مبيناً أنها مروية بلا سند. وراويها النظام المعتزلي(1). وهذا كذب متعمد وإثم عظيم به يضل ملايين الناس!
__________
(1) ص27، ص59.(61/80)
ومثله التيجاني السماوي وله من ذلك الكثير والعجيب! منه ما نسبه كذباً إلى ابن كثير في كتاب [البداية والنهاية 5/214] أنه روى عن أبي هريرة أن يوم الغدير اتخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد بعد تنصيب علي أميراً للمؤمنين. وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي. وأنه عقد له موكباً للتهنئة وكان أبو بكر وعمر من جملة المهنئين…الخ. وأن قوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } نزل فيه.(1) وهو كذب على ابن كثير! وكتابه (البداية والنهاية) موجود، ليس فيه شيء من ذلك!
ومثله إبراهيم الزنجاني. وكتابه (عقائد الإمامية الاثنىعشرية) مليء تماماً بهذا الكذب المتعمد! من ذلك قوله: (اتفق المفسرون والمحدثون من العامة والخاصة أن آية { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } نزلت في علي (ع) لما تصدق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصحابة وهو مذكور في الصحاح الستة) ! ثم ذيّله بطائفة من أسماء المؤلفين والمؤلَّفات وأرقام الصفحات. من هؤلاء على -سبيل المثال- الرازي في تفسيره. وقد كذب عليه ذلك الزنجاني حين قال: (وممن روى نزول الآية في علي من المخالفين…الفخر الرازي في تفسيره بسندين ج3ص611)(2).
ولا يؤسفني أن أقول: إن هذا كله من الكذب الصريح! والذي يدلل على مدى الجرأة التي يتمتع بها هذا الرجل وأمثاله في تعمد ارتكاب رجس الكذب، معتمدين على ثقة الناس العمياء الصماء، والمطلقة بهم.
إن على إخواننا الصادقين من عامة الإمامية أن يعيدوا النظر، ويراجعوا الحساب في تقييمهم، وثقتهم بهؤلاء العلماء، قبل فوات الأوان!
__________
(1) لأكون مع الصادقين /60.
(2) عقائد الإمامية الاثنى عشرية /81-82.(61/81)
أما ادعاؤه اتفاق المفسرين والمحدثين على ما يقول، فباطل ومحال. بل اتفقوا على أن الآية عامة لم تنزل في علي بخصوصه. واتفقوا أن الخبر كاذب. وأما قوله أن الخبر (مذكور في الصحاح الستة) فمن أكذب الكذب! إذ لا وجود له في البخاري ومسلم ولا
في كتب السنن الأربعة!
ولقد رجعت إلى تفسير الفخر الرازي فوجدت الزنجاني - للأمانة - قد أورد الخبر في [ج3 ص618] كما قال ، لكنه أورده من أجل أن يرد عليه، ويثبت عدم صحته. فكيف يتخذ مصدراً ومرجعا معتمداً للرواية!!!
ولك - بعد - أن تحكم وتختار و…. تنجو بجلدك!
إن اعتماد الكذب دليلاً على الدعوى، ليس له إلا تفسير واحد هو: أن المدعي يعلم في قرارة نفسه أن دعواه مفلسة من الأدلة الصحيحة الصادقة!
والكذب أنواع وفنون!
فمنه الصريح: كأن ينسب إلى المصادر ما ليس فيها. فيقال: (روى البخاري ومسلم وأحمد..الخ) مطمئناً إلى أن أحداً لن يفتش وراءه. وهذا كثير جداً!
أو ترد رواية في مصدر معين أوردها المؤلف ليرد عليها مبيناً عدم صحتها. فيجعل من ذلك المصدر مرجعاً لتوثيق الرواية!
أو ترد الرواية في المصدر المعين، لكن يضاف إليها ما ليس في الأصل! أو يحذف منها، ثم تنسب - بعد الإضافة أو الحذف - إلى ذلك المصدر. ثم يقال: اتفق الطرفان! بينما الاتفاق إنما هو على أصل الرواية - إن صحت - دون المضاف أو المحذوف.
أو رواية هي عبارة عن تجميع حاصل من عدة روايات، في عدة كتب.
أو ينسب النقل إلى مصادر ليست روائية أساساً. ترد فيها روايات غير محققة. مثل كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي. وأسباب النزول للواحدي. وعامة كتب أسباب النزول. وتفسير الثعلبي. وتاريخ الخلفاء للسيوطي. والدر المنثور له أيضاً. موهمين القارئ أن ما يروى في هذه الكتب معتمد وحجة! مع أن الطريقة العلمية توجب أن لا يكون الاحتجاج إلا بما صح فيها من روايات. لا بمجرد وجودها فيها.(61/82)
بل وصل الإسفاف إلى حد الاحتجاج بما يروى في كتب الأدب والطرائف! مثل
العقد الفريد لابن عبد ربه. أو الحيوان للدميري. والأغاني للأصفهاني! أفلهذه الدرجة هانت عقيدة المسلمين!
ومنه النسبة دون تحقيق إلى كتب الحديث التي تروي الصحيح والضعيف كالسنن الأربعة (أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة) ومسند أحمد. فهذه الكتب وإن كان الغالب عليها الصحة، إلا أن فيها الكثير من الضعيف - بل الموضوع المكذوب - مما لا يصح الاحتجاج به إلا بعد التحقيق. فكيف إذا كان الراوي قد نبه في كتابه على ضعف الرواية. ومع ذلك يأتي من يحتج بها منسوبة إليه!!
ومن الكتب التي كثرت فيها الروايات الضعيفة مستدرك الحاكم. فإن نسبة الضعيف فيه يساوي ربعه كما قال المحققون واعتذروا له بأن الحاكم كتب مسودته ومات قبل أن يراجعه. ومما زاد الطين بلة، ترديد عبارة (صححه الحاكم، ووافقه الذهبي). وهي من الأوهام والأخطاء الشائعة. والحقيقة أن الإمام الذهبي حين لخص كتاب الحاكم لم يقصد تحقيق الكتاب، وبيان صحيحه من ضعيفه. وإنما قصد التلخيص فحسب. فتكريره لعبارات الحاكم لا تعني الموافقة. لكن جاء من المتأخرين من توهم ذلك وردده ، فصار شائعاً(1).
__________
(1) قام بتحقيق هذا الموضوع واستخلاص هذه النتيجة الشيخ عزيز رشيد محمد الدايني في رسالته (منهج الحافظ الذهبي في تلخيص مستدرك الحاكم) التي نال بها شهادة الماجستير بدرجة (امتياز) بإشراف الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف من جامعة صدام للعلوم الإسلامية 1419–1998.(61/83)
ومن الكذب أن تروى رواية ضعيفة في مصدر متقدم، ثم يأتي مِن بعده مَن ينقل عن ذلك المصدر ما روي فيه. وقد يبلغ الناقلون العشرات. فيأتي الزنجاني وعبد الحسين الموسوي وأضرابهم ليجعلوا من هذه الكتب المتأخرة مصادر للرواية! فيقولون – مثلاً - : وردت في أربعين مصدراً من مصادر الجمهور أو ستين أو أكثر أو أقل. موهمين القارئ أن الرواية صحيحة أو معتمدة. إذ لا يعقل أن تروى في جميع هذه المصادر وهي ليست كذلك. فتتخذ حجة! مع أن المصدر واحد فقط . والبقية كتب نقلت عن ذلك المصدر!
إن شاهداً واحداً على واقعة معينة، يبقى واحداً مهما كثر الناقلون عنه. ولا يصح أن يعتبر هؤلاء شهوداً ولو بلغوا المئات ما دام الاعتماد على ذلك الشاهد الوحيد.
إن القاضي الذي يعتبر هؤلاء جميعاً شهوداً على الواقعة مستغلاً ثقة الناس به لا
شك في أنه مزور كبير. وكذاب أشر خطير!
إن هذا التزوير المبطن يمارس – وبكثرة – مع الروايات التي يحتج بها الإمامية
في موضوع (الإمامة)، وغيره. ومن قبل (علماء) وضع الناس فيهم ثقتهم، فاتبعوهم دون نقاش!
التهريج (العلمي)
إذا أخذت الحقائق السابقة بعين الاعتبار، يتبين لك أن كثيراً من الأقوال التي يرددها علماء الإمامية، أشبه بالتهريج (العلمي)، والغوغائية الفكرية منها بالكلام العلمي الدقيق الرصين. مثلاً :
يقول إبراهيم الزنجاني: (حديث الغدير الذي رواه جمهور العامة منهم الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي في الشبهة الحادية عشرة ص25، وكنز العمال ج 6ص390…ومسند أحمد والدر المنثور للسيوطي والعقد الفريد ج6 ص194…الخ…الخ! [إلى أن يقول]: حديث الغدير المشهور الذي رواه 120 صحابياً و84 تابعياً!!!). وهذا كله كذب وتهريج! وأول ما يكشف كذبه أن يقال: من هؤلاء الصحابة؟ أين نجد رواياتهم؟ وفي أي كتاب؟ إن العلم يقاس ويوزن بالمثاقيل. ولا يكال كيلاً بالمكاييل!(61/84)
ولأن العلم قد هان حتى صار بالمكاييل وجدنا من يسف هذا الإسفاف ليقول الكلام السابق! وفيه أن رواة (الغدير) من الصحابة مائة وعشرون.. ومن التابعين أربعة وثمانون! مع أن التلسلسل المنطقي يقضي بأن يكثر عدد الرواة كلما نزلنا أكثر! فإذا كان الرواة من الصحابة (120)، فينبغي أن يبلغوا من التابعين المئات -على الأقل- فعلام نقص رواة (الغدير) عند طبقة التابعين عن عدد رواته من الصحابة! أم أن الأمور دائماً بالمقلوب!
ولم يكتف الزنجاني بهذا حتى حكم بتواتر الحديث قائلاً: بل أن هذا الحديث متواتر بين علماء العامة فضلاً عن الخاصة (!!!) ولم لا وقد صار العلم بالمكاييل؟!
والآن نأتي إلى تفصيل القول في حديث الغدير الذي صار على عهد الزنجاني (متواتراً عند العامة فضلاً عن الخاصة) لنرى مدى القيمة الاستدلالية عند الإمامية على أمر هو (أعظم الدين وأهم عقائد المسلمين).
المطلب الثاني
رواية الغدير
روى البخاري مختصراً وأحمد والبيهقي وابن هشام في السيرة :(61/85)
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - على رأس جيش إلى اليمن (قبل بضعة أشهر من حجة الوداع) فانتصر وغنم. فكتب إلى رسول الله: ابعث إلينا من يخمسه. يقول بريدة: فبعث إلينا علياً - رضي الله عنه - . وفي السبي وصيفة من أفضل السبي. قال فخمَّس وقسَّم فخرج ورأسه يقطر قلنا: يا أبا الحسن ما هذا؟! فقال: ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي فإني قسمت وخمست فصارت في الخمس ثم صارت في أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صارت في آل علي. قال فكتب الرجل (أي خالد) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ابعثني مصدقاً …وأقبل علي من اليمن ليلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فتعجل إليه واستخلف على جنده الذين كانوا معه رجلاً من أصحابه فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع علي فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل قال: ويلك ما هذا ؟! قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس. قال: انزع قبل أن تنتهي به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز. قال: وأظهر الجيش شكواه فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا خطيباً فسمعته يقول: (أيها الناس لا تشكوا علياً فوالله إنه لأخشى في ذات الله أو في سبيل الله من أن يشكى).
يقول بريدة: لما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت علياً فتنقصته فرأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتغير فقال: (ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟) قلت: بلى يا رسول الله قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه).(61/86)
وروى مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: (أما بعد أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به) فحث على كتاب الله ورغب فيه. وفي رواية: (كتاب الله فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل) وفي رواية ثالثة: (أحدهما كتاب الله عز وجل وهو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة) ثم قال: (وأهل بيتي أذكركم
الله في أهل بيتي- ثلاثاً -).
مناقشة الرواية
1. إن خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الموضع (غدير خم) لم يقلها النبي - صلى الله عليه وسلم - من تلقاء نفسه ابتداءاً. وإنما اقتضى ذلك سبب.
إن معرفة سبب القول له علاقة ماسة بمعرفة مقاصد القائل. ولولا ذلك لما اهتم العلماء بمعرفة (أسباب النزول).
وحتى يمكن الاحتجاج بالرواية لا بد من بتر الأسباب والمسببات، التي حدثت. والتي من أجلها قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال. وإلا تبين أنه لا علاقة بينها، وبين موضوع (الإمامة) أو الوصية بالخلافة.
إن أول الرواية يوضح أن علياً- رضي الله عنه - قد حصلت بينه وبين ذلك الجيش مشاحنات واختلاف بسبب الوصيفة التي نكحها، ومنعهم من ركوب الإبل، وانتزاع الحلل حتى إذا لحقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلطوا بمن معه من الحجيج كثرت القالة في علي وفشت في الناس وأكثروا من الشكوى والعنت الذي لاقوه منه مما اضطر النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى أن ينزل في ذلك الموضع وذلك الجو الحار كي يقطع القالة ويبرئ ساحة علي - رضي الله عنه - .(61/87)
إن علياً مؤمَّر من قبل النبي، وطاعة الأمير الأصغر من طاعة الأمير الأكبر فطاعته طاعة لمن أمَّره، وعصيانه عصيان له .إن طاعة علي –وقد أمّره رسول الله – طاعة لرسول الله، وعصيانه والشغب عليه أو منازعته في الحقيقة عصيان لرسول الله. هذا ما رمى إليه بقوله: (من كنت مولاه فعلي مولاه). ولو كان الأمير في تلك الواقعة غيره وحصل معه ما حصل لعلي كعثمان -مثلاً- لقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (من كنت مولاه فعثمان مولاه) وليس في ذلك إشارة إلى الإمامة المطلقة ولا معناه تنصيب خليفة من بعده.
02 إن لفظ (المولى) من الألفاظ المشتركة التي تحمل عدة معان. وحمله على أحد هذه المعاني من دون قرينة -لا سيما بعد تغطية السبب وبتره- قول بلا علم وتعسف في التفسير– وهو في أحسن أحواله متشابه لا يصلح في باب الأصول التي تقوم على القطع واليقين. فكيف والاستدلال برواية! والرواية لا تصلح في تأصيل الأصول ! إن النص لو كان آية قرآنية لم يصلح دليلاً على (الإمامة). لأنه متشابه. فما بالك إذا كان رواية.. ومتشابهة ؟!
وهذه بعض الآيات في (المولى) تبين أنه لا علاقة للَّفظ بـ(الإمامة):
{ ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ }
الأحزاب/5. (والموالي) جمع مولى وليس معناه (الأئمة).
{ فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئسَ الْمَصِيرُ } الحديد/15. وليس معناه: النار إمامكم.
{ يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا } الدخان/41. وليس معناه يوم لا يغني إمام عن إمام شيئاً.
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاًً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } النحل/76(61/88)
{ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَْقْرَبُونَ } النساء/33. والموالى هنا جمع مولى وهو الوريث.
{ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } التحريم/4. وليس معنى الآية أن الله (إمام) النبي وجبريل والملائكة وصالح المؤمنين. فيكون كل مؤمن صالح إماماً للنبي!
والحاصل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد بقوله ذاك أنه من كان يعتقد أن لي عليه حق الطاعة فعليه بطاعة من وليته عليه. فكيف جاز لكم- والحال هذه- منازعته والاختلاف عليه. ومنازعة الأمير منازعة ومعصية لمن أمَّره!
ولو كان الأمير في تلك الواقعة والملابسات شخصاً آخر غير علي كعثمان مثلاً لقال - صلى الله عليه وسلم - : (من كنت مولاه فعثمان مولاه). وليس في ذلك من خصوصية سوى الفضيلة التي تقبل الشركة، لأن (المولى) لفظ مشترك –كما تبين لنا قطعاً- وليس خاصاً كـ(النبي) فتأمل!
3. إن غدير خم يبعد عن مكة المكرمة (160) كم، أي لم يكن في ساعتها في ذلك المكان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحجيج غير أصحابه من أهل المدينة المنورة . فليس معه من أهل اليمن أو الطائف أو نجد وأطراف العراق أحد!
فلو كان الأمر متعلقاً ببيعة على خلافة لكان المعقول أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن يكون التبليغ بها على صعيد عرفة حين خطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - (خطبة الوداع)، وحيث
مجتمع الحجيج جميعاً ليكون البلاغ عاماً.
وإما أن ينتظر حتى يصل إلى المدينة المنورة وهناك يأخذ البيعة لمن شاء.
أما أن ينزل في ذلك المكان وذلك الحر الشديد! فلا بد أن يكون لسبب آخر طارئ لا يحتمل التأجيل وهو الذي ذكرناه وهو أول الرواية الذي يبتره من يريد الاحتجاج بها.(61/89)
4. إن (الإمامة) عند القائلين بها أصل لا يصح الإيمان إلا به. فلو كان نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - عند غدير خم من أجل أخذ البيعة بالخلافة لعلي وتنصيبه (إماما) لبادر القرآن إلى تسجيله وتخليده صراحة. كما هو شأنه في الأمور العظيمة.
وقد سجل القرآن صراحة ذكر بيعات أقل شاناً ومنزلة!! كبيعة الرضوان تحت الشجرة. وكانت من أجل إنقاذ عثمان بن عفان - رضي الله عنه - من قريش. حين حبسوه. وقد بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - له بيده الأخرى. فصفق بإحدى يديه على الثانية قائلاً: (هذه عن عثمان). وقد خلد القرآن هذه البيعة في أكثر من موضع من سورة (الفتح). كقوله سبحانه وتعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } (الفتح/18). ولو كنا نتبع المتشابه لقلنا هذا دليل على (إمامة) عثمان- رضي الله عنه - .
ولو افترضنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل علياً بدل عثمان. وحدث له ما حدث من بيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - له ونزول القرآن، لجعل الإمامية من ذلك أكبر دليل على (إمامته)!!
بل ذكر القرآن بيعة النساء فقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (الممتحنة/12). فلماذا سكت القرآن عن بيعة يقال عنها: (إنها أصل الدين) وينطق بما هو دونها ويُبين!(61/90)
5. ليس في الرواية الصحيحة التمسك بغير الكتاب. وهذا مصرح به في القرآن. كما في قوله تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } (الأعراف/13).
وقوله: { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } الأعراف/170
وقوله: { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } الزخرف/21-22
أما (أهل البيت) فلم يرد في محفوظ الحديث إلا الوصية بالإحسان إليهم بقوله: (أذكركم الله في أهل بيتي) ولها سبب: هو القالة التي فشت في علي - رضي الله عنه -(1).
والوصية بشخص تناقض الوصية له بالخلافة . لأنه إنما يوصى بالأضعف كما أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنصار والنساء ! وبذلك احتج علي على أن الخلافة ليست في الأنصار فقال: (لو كانت الخلافة فيهم لما كانت الوصية بهم)(2).
__________
(1) يكثر علماء الشيعة من نسبة القول بالتمسك بالعترة إلى صحيح مسلم. وهذه النسبة كاذبة إذ لم يرد ذلك في صحيح مسلم، وإنما ورد فيه الأمر بالتمسك بالكتاب دون شيء آخر سواه!
(2) نهج البلاغة 1/116.(61/91)
ولو كان التمسك بأهل البيت دون سواهم من أساسيات الدين وأصوله لذكر صراحة في القرآن . وقد نص القرآن على اتباع الكتاب والسنة مصرحاً دونما حاجة إلى تأويل أو تفسير. وهو ما جاء مصرحاً به على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع يوم عرفة بقوله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وسنتي)(1). واتباع الكتاب والسنة، أو التمسك بهما منصوص عليه صراحة في القرآن – كما أسلفت – فلا داع للقول: إن اصل الرواية (كتاب الله وعترتي). ولا يصح ذلك إلا بثلاثة شروط مجتمعة هي:
أن السنة نقيض العترة فلا يجتمعان.
أن لا تكون السنة أصلاً منصوصاً عليه في القرآن.
أن يكون التمسك بالعترة وحدهم مما ثبت صراحة في القرآن.
وكلها مفقودة، فبطل القول المشروط بها.
إنما جاء التمسك بالمهاجرين والأنصار. وذلك نص قوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ
الأَْوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (التوبة/100).
والعجب ممن يترك صريح نصوص الآيات المحكمات، ويتمسك بضعيف متشابه
الروايات! ويجعل ذلك أصلا يقيم عليه دينه. ويوالي ويعادي. ويلقى الله عليه!!!
وهكذا يتبين أن اعتماد الروايات في تأصيل الدين بمعزل عن محكم التنزيل مزلق خطير. إن الرواية غير معصومة من الاختلاق أو الزيادة والنقصان.
وما من فرقة انتسبت إلى الإسلام إلا واستعانت على باطلها بروايات تصنعها، ثم تنسبها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - . أو تأتي إلى رواية صحيحة الأصل- كرواية الغدير - فتزيد عليها وتنقص منها حتى تأتي متطابقة مع ما تريد.
__________
(1) رواه الإمام مالك في (الموطأ).(61/92)
أما محكمات الكتاب فلا يمكن أن يتطرق إليها الخلل بحال. لأنها من حيث الثبوت قطعية لا يشك في نزولها من لدن الله. وهي معصومة من الزيادة والنقصان. وأما من حيث الدلالة فكذلك هي قطعية لأنها لا تحتمل إلا معنى واحداً محدداً. فلا يمكن لأحد أن يجد فيها ثغرة ينفذ بباطله منها.
هذا هو السبيل الوحيد لضمان اليقين بصحة ما أنت عليه من دين .
إن رواية الغدير مثال اخترته لشهرته، ولأن له أصلاً صحيحاً فهو صالح لأن تقاس عليه بقية الروايات. فلا داعي لمتابعتها رواية رواية. وليس ذلك من شأن هذا الكتاب.
الفصل الثالث
إمامة معاوية رضي الله عنه
لو كانت (الإمامة) تثبت بغير صريح القرآن لاستطعنا أن نثبت (أئمة) لا حصر لهم!.
هذه حقيقة ! وحقيقة خطيرة !.
وقد أثبتّ ذلك بأن أخذت مثالاً خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر - رضي الله عنه - ، وبرهنت للقارئ خطوة خطوة كيف أننا لو اتبعنا طريق الإمامية - الذي يسلكونه في (التدليل) على (إمامة) علي وغيره من (الأئمة) - للتدليل على إمامة أبي بكر لتوصلنا حتماً إلى أنه لا بد من القول بـ(إمامة) أبي بكر من باب أولى. وهو ما يؤكد بطلان تلك الطريق، وأنها ليست أكثر من متاهة لا آخر لها ولا شكل.. أو نفق لا يبدو في نهايته بصيص من نور.
لقد كتبت فصلاً في (إمامة الصديق) استغرق في هذا الكتاب أكثر من مائة صفحة. ثم - من أجل أن تتجلى هذه الحقيقة تماماً وحتى أقطع من نفس القارئ كل شك في بطلان هذه الطريقة التي أضلت جبلاً كثيراً من العالمين! - ضربت مثالاً آخر قد يبدو بعيداً للناظرين، وغريباً على المتأملين ألا وهو الحديث عن (إمامة معاوية)، وإثباتها بالطريقة نفسها. فأفردتها بفصل خاص، ولم أشأ أن أطيل في هذا لعدم الحاجة إلى الإطالة فيه، فاكتفيت بذكر بعض الشواهد الدالة.(61/93)
ولكن لطول الفصل المتعلق بـ(إمامة الصديق)، رأيت أن أحذفه من هذا الكتاب، وأُفرده بكتاب مستقل. وأكتفي هنا بالإشارة إلى هذه الحقيقة المهمة –وهي أن المنهج الإمامي في الاستدلال على (الإمامة) يفتح الباب على مصراعيه أمام إثبات (أئمة) لا حصر لهم! وهذا دليل بطلانه وبطلان ما ينبني عليه- وأستشهد لها بالحديث عن (إمامة معاوية) فقط ، وهي تشهد لما أقول من باب أولى. ومن أراد التوسع فيمكنه الرجوع إلى كتاب (إمامة الصديق).
إننا نستطيع إثبات (إمامة معاوية)(1) بسلوك تلك الطريق التي سلكها الإمامية دون أدنى صعوبة، ما دمنا غير ملزمين بالإتيان بالنصوص القرآنية الصريحة دليلاً على ما نؤصل من أصول!
وهنا تصبح (إمامة) الصديق كالبدر الطالع، أو القمر المنير بين النجوم.
وإليكم هذه التجربة :
يقول تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً } (الإسراء:33).
__________
(1) أقصد بها الإمامة بالمفهوم الإمامي. أما الإمامة الشرعية، فهي ثابتة له - رضي الله عنه - طبقاً للقواعد الأصولية عند السنة والشيعة: فقد حصل الإجماع على بيعته، وسمي ذلك العام بعام الجماعة. وهذا الإجماع معتبر حتى لدى الإمامية فإنهم يشترطون له وجود المعصوم، وهو حاصل في بيعة معاوية فقد بايعه الحسن بن علي – وهو معصوم عندهم - فإمامة معاوية شرعية على جميع المذاهب. ولست بصدد بحثها.(61/94)
إن الذي (قتل مظلوماً) هو عثمان بن عفان. وأما (وليه) فابن عمه معاوية بن أبي سفيان. وقد لجأ إليه أولاد القتيل وأهله يستنصرونه للأخذ بثأره. و(الولي) هو الإمام. وقد وعد الله هذا (الولي) بالنصرة وجعل له (سلطاناً) وهو النص على (إمامته) وخلافته. وجزم بأنه منصور -(إنه كان منصوراً)- على من ناوأه وقاتله، وأنه سيمكن له في الأرض فلا يسرف في القتل وعقوبة المعتدين. وهذا نص في (إمامة) معاوية.
وقد وفى الله تعالى بوعده فجعل له الإمامة ومنحه السلطة ونصره نصراً مؤزراً. فكان خليفة للمسلمين وأميراً للمؤمنين عشرين سنة لم يستطع أحد أن يعارضه أو يخرج عليه، فضلاً عن عشرين سنة قبلها كان فيها أميراً على بلاد الشام ، وكان
سلطانه عليها مبسوطاً، وطاعته تامة.
وهذا (الولي) هو المذكور في آية الولاية بقوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } . والدليل الآية التي بعدها؛ فإن الله يقول فيها: { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } .
ولقد تحقق الغلب لمعاوية على خصومه أكثر من علي. بل تغلب معاوية على علي نفسه، وورث سلطانه. فحزب الله هو معاوية وشيعته بدليل غلبه على علي وشيعته.(61/95)
وظل هذا الحزب منصوراً متغلباً. فحينما خرج الحسين على يزيد كان الغلب ليزيد عليه. وظل الأمويون منصورين متغلبين ففتحوا الأندلس وأسسوا دولة هناك دامت ثمانية قرون فكان مثلهم { كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها } فالشجرة هي شجرة الأمويين. والدليل على طيبها وعلى أنهم هم المقصودون بهذه الشجرة الطيبة ثبوتها ودوامها. بحيث لم يكتب لدولة قط مثل هذا الثبوت والدوام. حتى دولة العباسين لم تدم أكثر من خمسة قرون إلا قليلاً! أما العلويون فلم تقم لهم إلا دول قصيرة العمر، صغيرة المساحة، قليلة النفع. لا تساوي عشر معشار الثمن الذي قدم لها من دماء الأمة ووحدتها، والانشغال بها عن تبليغ الرسالة إلى من ينبغي أن تصل إليهم.
وإلى (إمامة) البيت الأموي عموماً، ومعاوية خصوصاً أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة بقوله: (من دخل الكعبة فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فجعل لدار أبي سفيان ما للكعبة من المنزلة. وما ذلك إلا إشارة لـ(الإمامة) التي أرادها لهذا البيت.
ولا أريد الاستمرار بمثل هذه الحجج التي لا أؤمن بها، ولكنها منطقية ومستساغة حسب قواعد الإمامية! ولو تبادل معاوية وعلي الأدوار لقال الشيعة فيه هذا الذي قلته وزيادة. كما لو قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من دخل دار علي فهو آمن) لكان قالوا: هذا دليل واضح ونص قاطع في (إمامة) علي: فمن دخل داره أي دخل في (إمامته) وآمنَ بها فهو آمن من عذاب الدنيا والآخرة، ولجعلوا لهذا الحديث اسماً رنان، وأضافوا له ما بهر من عنوان كأن يسموه (حديث الدار)! ولأُلِّفت فيه الكتب والأسفار، وسارت بذكره الركبان و .. البعران !(61/96)
إن أصول الدين ودعائمه لا تثبت بمثل هذه الأدلة الظنية. وإنما قصدت أن أُلفِت أنظار عقلاء الإمامية ليعلموا أن ما عندهم مما يتصورونها أدلة إنما هي شبهات وأوهام، وأضغاث أحلام، عند غيرهم - لو اعتبروها - منها الكثير.
أيها الباحثون عن الحقيقة !!..
الدين أمر عظيم، قائم على اليقين. أرسى الله - جل وعلا - دعائمه وأصوله على أساس مكين من الأدلة اليقينية القطعية التي لا تقبل الشك أو اختلاف الأنظار لا في ثبوتها ولا دلالاتها، أودعها كتابه العظيم آيات محكمة ونصوصاً صريحة مفصلة: { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } البقرة/2
وليست دعائم الدين وأصوله عرضة لأن توضع وتثبت بسوانح الأفكار وشوارد الخواطر والأنظار. أو الاستنتاجات العقلية والترتيبات أو (الفذلكات) الفكرية، أو استنطاق النصوص وتحميل الألفاظ فوق ما تحتمل، أو اقتناص الشبهات والظنون، أو تركيب العبارات وتلصيقها -وإن اقتضى الأمر- فتفكيكها وتمزيقها للخروج بمعاني جديدة ومقاصد محدثة لم توضع تلك العبارات لها أساساً!
إن هذه الوسائل المعوجة، والطرق المتعرجة هي (السبل) التي سلكها الإمامية لإثبات (الإمامة) كأصل دون استناد إلى نصوص صريحة قطعية الدلالة من القرآن.
ولو كانت أصول الدين ودعائمه بهذا المستوى من الهوان عند الله لخضنا مع الخائضين، وقلنا بـ(إمامة) من نهوى ونتشهي من الأئمة، وبصورة قد تكون أكثر قبولاً وإقناعاً، وأقوى حجة وأقرب دلالة.
إن أصول الدين لها طريقها الرباني اللاحب.. وصراطها الواضح المستقيم. إنها – باختصار جامع مانع - آيات قرآنية.. صريحة جلية. ليس غير.(61/97)
وإلا فإن كل من أراد استطاع أن يثبت ما شاء من (الأئمة) لانعدام هذا الضابط الجامع المانع. وهو الواقع؛ فتاريخ الشيعة خير شاهد وأوضح مثال؛ لقد أحصيت في كتابي (العصمة) أكثر من خمسين (إماماً) للشيعة! وأكثر من عشرين (مهدياً) لهم خلال القرون الثلاثة الأولى فقط !! احتج لهم أصحابهم بمثل ما احتجت به الشيعة الاثنى عشرية من حجج، ليست واحدة منها آيةً من الكتاب صريحةً قط !. وهذا من أوضح الأدلة على بطلان (الإمامة)، بل بطلان المنهج الإمامي برمته في إثبات الأصول.
الأصل الثاني
عصمة الأئمة
الفصل الأول
العصمة عند الشيعة
منزلتها
هذا الأصل أو الأساس من ضروريات العقيدة الإمامية: إنه الشرط الذي لا تصح (الإمامة) إلا به. والركن الذي لا تقوم إلا عليه؛ إذ لا إمامية بلا (إمامة)، ولا (إمامة) بلا (عصمة). فالعصمة هي الأساس الذي يقوم عليه الأصل الأعظم لدى الإمامية وبه سموا، ألا وهو (الإمامة).
يروي الكليني بسنده عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: (ما جاء به علي آخذ به وما نهى عنه انتهي عنه.. المتعقب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله.. وكذلك يجري لأئمة الهدى واحداً بعد واحد)(1).
وقال ابن بابويه القمي: (…ومن نفى عنهم (الأئمة) العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم ومن جهلهم فهو كافر)(2).
وإذا كانت (العصمة) بهذه المنزلة من الدين، فلا بد أن تكون قد وردت في القرآن الكريم. وثبتت بالآيات القرآنية الصريحة القاطعة، كصراحة الآيات التي ثبتت
بها النبوة والأنبياء عموما ، ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - خصوصاً، وغيرها من أصول الدين
وأساسياته الاعتقادية، أو العملية كالصلاة مثلاً.
وهنا نحتاج إلى نوعين من الآيات:
آيات صريحة في إثبات (العصمة) عموماً.
وآيات أخرى صريحة في (عصمة) علي. وأحد عشر آخرين خصوصاً.
__________
(1) أصول الكافي: 1/196.
(2) اعتقادات الصدوق /108.(61/98)
والدليل العام لا يغني عن الدليل الخاص ؛ لأن إثبات (العصمة) عموماً لا يمنح
الحجة للاثنى عشرية دون غيرهم من الإمامية كالإسماعيلية مثلاً الذين يعتقدون (بعصمة) آخرين غير (أئمة) الإثنى عشرية.
إن الدليل العام تتساوى فيه جميع الفرق الإمامية، فلا بد لكل فرقة من دليل قرآني خاص على عصمة (أئمتها) حصراً. وهذا الدليل القرآني الصريح معدوم فما بقى إلا المتشابهات وهي مرفوضة وغير صالحة للاعتماد.
أدلة الإمامية القرآنية على هذه العقيدة
لم نجد من بين الأدلة القرآنية التي احتجوا بها على (العصمة) نصاً واحداً جديراً بالاعتبار. أي يمتلك شروط الدليل!
إن أشهر النصوص القرآنية وأكثرها تردداً على الألسنة هو: ما سمي بآية التطهير. وهو آخر قوله تعالى خطاباً لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } (الأحزاب/33).
إن هذا النص -الذي هو أقوى النصوص وأشهرها- لا يرقى في دلالته إلى مستوى نص واحد من النصوص القرآنية الواردة –مثلاً- في الصلاة. مع أن الصلاة بالنسبة للعصمة كالفرع بالنسبة للأصل! خذ مثلاً قوله تعالى: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } (الماعون/4،5). تجد فيه الأمر الصريح بالصلاة ووجوبها. مع ذكر العقوبة الشديدة لمن تهاون بها. والنص قطعي الدلالة في أمره ونهيه. وهو واحد من نصوص صريحة تعد بالعشرات!
و(آية التطهير) لا هي صريحة في إثبات (العصمة) عموماً أو خصوصاً، ولا في التحذير من جحودها، ولا يوجد نص آخر صريح لا في الإثبات ولا في النفي!
الفصل الثاني
نقض الاستدلال بـ(آية التطهير) على العصمة(61/99)
إن الاستدلال بـ(آية التطهير) على (عصمة الأئمة) منقوض من الناحيتين: ناحية الدليل ، وناحية الدلالة.
المبحث الأول
نقض الاستدلال طبقاً للمنهج القرآني
لا حاجة بي هنا إلى أن أوضح كيف أن القرآن الكريم يعمد أولاً إلى الدليل نفسه - قبل أن يخوض في دلالته - فيبطله من حيث كونه فاقداً لشروط الدليل التي تؤهله أن يكون دليلاً بحق، حين يبين أنه قائم على الظن والشبهة، وليس على اليقين والصراحة. هذا هو المنهج القرآني في إثبات الأصول وإبطالها.
وحين نأتي إلى أقوى وأشهر أدلة الشيعة على (عصمة الأئمة) نجده فاقداً لشروط الأدلة الأصولية تماماً ! وإليك البيان :
1. إن النص غير صريح في دلالته على (العصمة). وإن هذا المعنى المستنبط غير واضح وإنما هو شبهة وظن لا أكثر.
2. لا يوجد نص غيره صريح في دلالته على المراد. فليس في (العصمة) آية واحدة صريحة. فضلاً عن تكرر الآيات وكثرتها. وأساسيات الاعتقاد – طبقاً لأدلة القرآن والاستقراء الكامل لآياته - تبنى على النصوص الصريحة المتكررة.
3. إن القول بـ(العصمة) من خلال الآية استنباط وليس نصاً. والأصول أو الأساسيات مبناها على النص الحرفي. لا على الاستنباط.
4. ليس لهذا النص – ولا لغيره من النصوص المحتج بها - (أُم) من الآيات المحكمات المفصلات التي يرجع إليها، من أجل تحديد المعنى المحتمل، وفصله عن غيره.
5. إن هذا النص لا يدل بنفسه على (العصمة) فيحتاجون إلى إسناده بالروايات
كرواية الكساء. أو تفسيره بالرأي. وكلا الأمرين (الرأي [التفسير] والرواية) لا يصلح كدليل في تأصيل أساسيات الاعتقاد.
6. ليس في الآية ولا في القرآن كله أدلة إثبات عقلية على مسألة (العصمة) كما هو الشأن في أصل الألوهية والنبوة والمعاد.
7. ليست الآية - وليس في القرآن كله آية واحدة - تنذر بالعقاب من جحد (عصمة الأئمة). كما هو الشأن في بقية أساسيات الدين عموماً والاعتقاد خصوصاً.(61/100)
8. ليست هناك من فائدة تترتب على الإيمان بـ (عصمة الأئمة) تضاف إلى الفوائد التي نجنيها من الإيمان ببقية الأصول لسبب بسيط جداً – قد مر ذكره في موضوع (الإمامة) - أختصره فيما يلي:
إن الدين أصول وفروع . فالأصول لا يحتاج بيانها إلى غير القرآن . فالحاجة
فيها إلى (المعصوم) منتفية. ولو كان وجود (الإمام المعصوم) ضرورياً لمعرفة الأصول وحفظ الدين لدام وجوده بيننا. إن النبي - صلى الله عليه وسلم - المتفق على عصمته قد مات وختمت به النبوة، فما معنى (الإمامة المعصومة) وقد ختمت النبوة ؟! ثم إن القائلين من الاثنى عشرية بـ(الإمام المعصوم) يقولون: إنه قد اختفى منذ اثني عشر قرناً وغاب والغائب غير موجود، ولو كان وجوده ضرورة لما غاب!
ثم إن الأصول – عند الإمامية - تثبت بالعقول، فما وجه الحاجة فيها إلى (المعصوم)؟! فما بقي إلا الفروع، وهذه يكفي في بيانها العلماء – وهو الواقع - فلا حاجة فيها إلى المعصوم.
وهكذا خرج النص من دائرة الآيات المحكمات إلى دائرة المتشابهات ففقد صلاحيته الدلالية كنص في (العصمة) وسقط الاحتجاج به عليها، فمناقشته من حيث دلالته زيادة واستطراد لا أكثر.
المبحث الثاني
بطلان دلالة (آية التطهير) على (العصمة)
وأما دلالة النص على (عصمة الأئمة) فغير متحققة لعلل كثيرة منها:
1. فقدان النص للدلالة اللغوية على (العصمة)
ليس العصمة من الذنب أو الخطأ من معاني هذين اللفظين: (التطهير) و(إذهاب الرجس). وذلك لعدم تضمن هذين اللفظين لهذا المعنى في لغة العرب. فإذا علم هذا بطل الاستدلال بالآية على (العصمة) من الأساس.
أما القول بدلالة اللفظ على (العصمة) فيكفي في رده أنه مجرد دعوى، لا دليل عليها.
ورود اللفظ في غير المعصومين
وأول ما ينقض هذه الدعوى - العارية أساساً عن الدليل المعتبر - العلم بورود هذا اللفظ في حق أشخاص مجمع على عدم عصمتهم كما في الأمثلة القرآنية الآتية:(61/101)
* قال تعالى عن أهل بدر وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً: { إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ
بِهِ الأْقْدَامَ } (الأنفال/11).
والاتفاق حاصل على عدم عصمة أهل بدر مع أنهم موصوفون بالتطهير و(إذهاب الرجس). فاللفظ إذن لا علاقة له بالعصمة.
(والرجز) و(الرجس) متقارب في لغة العرب. جاء في (مختار الصحاح)
للرازي: (الرجز) القذر مثل الرجس. ولعلهما لغتان أبدلت السين زاياً كما قيل للأسد الأزد.
وفي هذه الآية مزايا لأهل بدر زيادة على ما في (آية التطهير)، فإن الله تعالى زادهم الربط على القلوب وتثبيت الأقدام، إضافة إلى أمور بلاغية أخرى لا حاجة لها في مقامنا هذا.
* بل عم جميع المسلمين فقال: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } (المائدة:6) . واللفظ (يريد ليطهركم) واحد في الآيتين . ولو كانت إرادة التطهير تعني
(العصمة) لكان كل مسلم معصوماً.
* وقال عن جماعة صرح بارتكابهم الذنوب: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (التوبة/102-103).
فلو كان لفظ (التطهير) معناه (العصمة) لما وصف الله به هؤلاء المذنبين!(61/102)
بل في الآية ما هو أبلغ من التطهير! ألا وهو (التزكية). فإن التطهير غايته الوصول إلى عدم وهو إزالة الشيء المتطهَّر منه، بينما التزكية أمر وجودي وهو الاتصاف بالبركة والزيادة والنماء لملازمتها له. والعكس ليس شرطاً: فقد تطهر مكاناً ما من القذارة دون أن تجمله بالزينة. أما التزكية وهي التجميل والزينة فلا تكون إلا بعد التطهير وإلا كانت عبثاً. فهؤلاء ليسوا قابلين للتطهر فقط ، وإنما للتزكية زيادة ودرجة ومع ذلك فقد كانوا مذنبين، فأين (العصمة) منهم! فإن كان التطهير يعني (العصمة) إذن هؤلاء معصومون وزيادة.
وفي الأمر نكتة لطيفة أخرى ألا وهي أن الإمامية يقولون بأن (عصمة الأئمة)
منذ الولادة، وليست (العصمة) عندهم حادثة أو كائنة بعد إذ لم تكن. (فالمعصوم) عندهم يولد معصوماً ودليلهم قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } مع أن لفظ (التطهير) يصح إطلاقه - كما في الآية التي نحن بصددها - على قوم اقترفوا ذنوبا، فمن أين استنتجوا من (آية التطهير) أن المقصودين بها ليس لهم ذنوب قبل نزولها؟ واللفظ لا يمنع من ذلك.
* وقال سبحانه – عن أهل مسجد قباء من الصحابة - : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } (التوبة/108) وهؤلاء ليسوا معصومين مع شهادة الله لهم بأنهم (يحبون أن يتطهروا)، وأقل ما في هذا الوصف أنهم قابلون للاتصاف به.
* وقال في معرض نهيه عن إتيان الحائض: { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } (البقرة/222) ولا علاقة لهؤلاء المتطهرين بالعصمة.
* وقال: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } (النمل/56) وفي آل لوط ابنتاه وهما ليستا معصومتين.(61/103)
* وقال عن النساء: { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ } (البقرة/222) وليس معنى اللفظ : ولا تجامعهون حتى يُعصمن. فإذا عُصمن فجامعوهن! ولو كان لفظ (التطهير) معناه العصمة، لكان هذا هو تفسير الآية، ولكان في الإسلام لا يجوز غير جماع المعصومات!
* وقال عن اليهود والمنافقين: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } (المائدة/41) وذلك في مقابل قوله في السورة نفسها عن المؤمنين: { ولكن يريد ليطهركم } (المائدة/6).
ولا شك أن الآية ليس معناها: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يعصمَ قُلُوبَهُمْ من إرادة الذنب أو الميل إلى المعاصي، ولا أن معنى الآية الأخرى عن المؤمنين: ولكن يريد الله ليعصمكم من الذنوب.
ولا يمكن تفسير (التطهير) بالعصمة إلا إذا كان الأمر كذلك، وهو ممتنع فبطل هذا التفسير.
لا علاقة لغوية بين اللفظ وبين الامتناع من الوقوع في الخطأ
ولا علاقة لغوية كذلك بين الآية وبين الامتناع من الوقوع في الخطأ في الاجتهاد أو الرأي عموماً: فالرجس لغةً هو القذر والنتن، ولهذا يطلق على الذنوب والمعاصي كالكفر والفسوق. لكنه لا يطلق في لغة العرب على الخطأ حتى يمكن أن نقول: إن (إذهاب الرجس) يحتمل معنى عدم الوقوع فيه. فالآية لا علاقة لها بالخطأ البتة فكيف يمكن الاستدلال بها على (العصمة) منه!!
لقد جاء في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النصوص ما هو أعلى في المدح ولم يستلزم ذلك عصمتهم. هذا نص واحد من تلك النصوص:(61/104)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأْمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أولَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (الحجرات/6-8).
ولو كنا ممن يحتاج إلى الاحتجاج بالمتشابه لقلنا بعصمة هؤلاء الصحابة، وحجتنا في هذا ظاهرة قياساً بحجج الإمامية: فإن الآية تنص على أن الله كرّه إليهم جميع أنواع المعاصي والذنوب من الكفر إلى العصيان، مروراً بالفسوق. ليس هذا فحسب وإنما حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم. فإذا لم يكن هذا عصمة فكيف هي العصمة إذن؟! وقد توج الله ذلك كله بالشهادة لهم بأنهم هم الراشدون. فإذا أضفنا إليه النص القرآني على وجوب اتباعهم(1) كمل الدليل على عصمتهم!
ولو كان هذا النص نازلاً في علي - رضي الله عنه - خاصة لكان في مقدمة الآيات التي يحتج الإمامية بها دليلاً على عصمته!
وهكذا ظهر بجلاء أنه لا علاقة لنص الآية بـ(العصمة)، وأن القول بها بدلالة
النص إنما هو استنباط مسند إلى شبهة، وليس نصاً صريحاً. والاستنباط لا يجوز دليلاً في أساسيات الدين، واتباع المتشابه ممنوع بنص القرآن الحكيم.
2- لا دليل على تخصيص لفظ (أهل البيت)
__________
(1) هو قوله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه … الآية } (التوبة/100). والنصوص القرآنية الكثيرة في مدحهم.(61/105)
يحتاج الإمامية ضرورة إلى الدليل القطعي الذي يقصر (أهل البيت) على علي وفاطمة والحسن والحسين أولاً. ثم تعديته إلى تسعة من أحفادهم فقط ثانياً. ويمنع كونه
عاماً في جميع أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثالثاً.
وذلك كله ممتنع لأن لفظ (أهل البيت) في لغة العرب -التي خاطبهم الله تعالى بها في كتابه- أوسع من ذلك: فهو يتضمن الزوجة أولاً، ثم من يشتمل عليه البيت من الأبناء والبنين والأب والأم وغيرهم ثانياً. ثم يتسع -من بعد- ليعم الأقارب ثالثاً.
أما الزوجة فدلالة اللفظ عليها حقيقية، وكذلك الأولاد ومن في البيت. وأما الأقارب فمجازية. قال الراغب الاصفهاني في مفرداته:
أهل الرجل في الأصل من يجمعه وإياهم مسكن واحد. ثم تجوز به فقيل: أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإياهم نسب.
وقال: وعبر بـ(أهل الرجل) عن امرأته… و(تأهل) إذا تزوج ومنه قيل:
(أهّلك) الله في الجنة: أي زوجك فيها وجعل لك فيها أهلاً ا.هـ
وقال الرازي في مختار الصحاح: (أهَل) الرجل: تزوج. وبابه دخل وجلس. و(تأهل) مثله.
(أهل البيت) في القرآن هم الأزواج لا غير
فأصل معنى اللفظ وحقيقته الزوجة. وليس الأقارب. والقرآن جاء بذلك كما في قوله تعالى: { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأْجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ } (القصص/29). ولم يكن معه غير زوجه.
وقول امرأة العزيز لزوجها: { مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً } (يوسف/25) أي بزوجتك. وقال عن لوط - عليه السلام - : { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرَأَتَهُ } (الأعراف/83).
وقال يحكي كلام الملائكة خطاباً لزوجة إبراهيم - عليه السلام - سارة: { قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } (هود/73).
وفي العموم فإن لفظ أهل البيت يعني سكنة البيت المجتمعين فيه كما أخبر الله(61/106)
تعالى عن يوسف - عليه السلام -. فإنه لما قال لإخوته: { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } (يوسف/93) بيّن الله تعالى أنهم كانوا أباه وزوجة أبيه وأخوته، وذلك بقوله: { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ* وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } (يوسف/99،
100).
أما لفظ (أهل البيت) - بهذا التركيب: (( (أهل) مضافاً إلى (البيت) )) - فلم يرد في القرآن قط إلا في الزوجة فقط. وهو المعنى الحقيقي لـ(أهل البيت): فقد ورد في موضعين من القرآن لا غير أحدهما في زوجة إبراهيم - عليه السلام - وهو: { قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } (هود:73) والآخر في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } (الأحزاب:33).
وحمل اللفظ على معناه الحقيقي هو الأصل. أما حمله على معناه المجازي دون الحقيقي فلا بدّ له من شرطين:
مانع يمنع حمله على معناه الحقيقي.
وقرينة أو دليل يصرفه إلى معناه المجازي. وكلا الأمرين مفقود في الآية: إذ لا مانع ولا قرينة إلا الهوى والتحكم المحض!
القرائن المرجحة لمعنى (الزوجة) في الآية
بل القرائن تؤكد المعنى الحقيقي تأكيداً جازماً. ونحن ،وإن كنا لا نحتاج لذكر هذه القرائن إذ يكفي أن نحتج بالأصل وهو حمل اللفظ على حقيقته وعدم وجود مانع منه، إلا أننا سنذكر بعض هذه القرائن زيادة في الفائدة لا أكثر:
أ) سياق النص(61/107)
إن قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ليُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }
(الأحزاب/33) هو جزء من آية لا يمكن بحال تجريدها منه وعزلها عنه وإلا اختل الكلام لفظاً ومعنى. فالآية جاءت في سياق كله حديث عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ورود الآية وبعدها.
يبدأ السياق بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآْخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } . ويستمر الكلام في خطابه لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } (الأحزاب/28-34). فقوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ(61/108)
لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } جزء من آية ورد فيها مورد العلة والسبب الذي من أجله سيقت جميع الأوامر والنواهي المتقدمة. أي افعلن كذا ولا تفعلن كذا.
لماذا كل هذا؟ ولماذا التشديد في العقوبة مع المخالفة ومضاعفة الأجر مع الموافقة؟ والجواب: لأن الله تعالى يريد لأهل هذا البيت وسكنته أن يكونوا طاهرين من كل ما يسيء إلى سمعته ومكانته بين الناس. لأن هذا البيت هو بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكل من انتمى إليه وكان من أهله وجب عليه أن يكون عمله وخلقه يليق وشرف هذا الانتماء، وإلا توجب عليه أن يخرج منه ويقطع علاقته به ثم ليفعل بعدها ما يشاء فإنه لن يحسب عليه، وعندها سيكون ثواب إحسانه وإساءته كغيره من المسلمين. أما إذا أصر على البقاء والانتماء فإن العقوبة - كالأجر- ستكون مضاعفة.
وما ذلك إلا لشرف المكان ورفعة البيت، كما أن الصلاة في (البيت) الحرام أو
أي (بيت) من بيوت الله مضاعفة، والمعصية كذلك: فإن الذي يسرق في بيت الله ليس
كمن يسرق في الشارع.
وبما أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - هن أهله وأهل بيته ، فقد جعل الله تعالى الثواب
والعقاب المتعلق بهن مضاعفاً، ولولا كونهن كذلك لما كان للمضاعفة مناسبة.
أيصح أن يصلي رجل في بيته ثم يريد أن يكون أجره كأجر المصلي في بيت الله ؟! أم يصح أن تضاعف عقوبة سارق من محل عام قياساً على عقوبة آخر سرق من بيت الله؟!
بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - هي بيوت أزواجه بلا فرق
تكرر ذكر (البيت) في الخطاب السابق ثلاث مرات:(61/109)
الأولى في قوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } . والثانية: في قوله تعالى: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ } . وجاءت المرة الثالثة في قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } . ثم بعد عدة آيات يتكرر ذكر (البيت)، ولكن هذه المرة مضافاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } (53) وفي أخر هذه الآية قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } .
والبيوت المذكورة في الآية الأخيرة ليست بيوتاً أخرى غير البيوت التي ذكرت في الآيات الأولى، وإنما هي بيوت واحدة محددة تضاف مرة إلى أزواجه: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } ، { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ } ، ومرة تضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : { لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } . ولا شك أن هذه البيوت واحدة. فبيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - هي بيوت أزواجه. وبيوت أزواجه بيوته هو بلا فرق. إذ لا يعقل أن تكون لأزواجه بيوت خاصة بهن وللنبي بيوت أخرى غيرها. إذن البيت واحد وهو مشترك بين الجميع الذين هم أهله. فيضاف مرة إليهن، ومرة إليه حسب مقتضى الكلام. فإذا أطلق لفظ (البيت) من دون إضافة فليس هو غير البيت الواحد المشترك بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه. والكرامة والتطهير والبركة نزلت على أهل هذا البيت- بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو بيت أزواجه بلا فرق. فإخراجهن من حكم الآية إسفاف وخروج عن العقل والعرف والذوق، ولا مسوغ له إلا التحكم بالكلام بغير ضابط، ولَيُّ أعناق النصوص بالهوى.(61/110)
ثم إن كل من يملك ذوقاً لغوياً عربياً يدرك بالفطرة أن دخول كلام أجنبي بين ثنايا كلام مسوق لقصد معين ممتنع في كلام العقلاء. فكيف بكلام الله ؟!!
وإذن ما علاقة الكلام عن عصمة أشخاص معينين بكلام مسوق لبيان أمور تختص بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحكام تختص ببيته وأهله؟!
أين موضع النص المناسب من القرآن؟
لو افترضنا أن النص (آية التطهير) معناه عصمة (الأئمة). فإن هذا يستلزم أن لا تكون للنص علاقة بما قبله، وما بعده من الكلام. ولا بد أن يكون موضعه في مكان آخر من القرآن! فأين يمكن أن نضعه ؟!
إن هذا النص هو روح الكلام ذلك كله، وعلته التي ابتني عليها، ومحوره الذي
يدور عليه. والعلاقة بينهما لفظية ومعنوية:
فمن حيث اللفظ فإن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - هن أهله. ولو أننا جردنا الآية من هذا الجزء لنقص الكلام واختل نظمه.
وأما من حيث المعنى فإن المقصود: يا نساء النبي إن الله يريد لأهل هذا البيت أن يكونوا بعيدين عن كل ما يسيء إليه. فلا بد من فعل كذا، والابتعاد عن كذا. حتى يتحقق مراد الله، فيكون الثواب مضاعفاً. وإلا فإما أن تخرجن من هذا البيت بالطلاق. وإما أن يكون العقاب مضاعفاً بسبب انتمائكن لهذا البيت. إذن هذا الجزء المتمم للآية هو علة الكلام وروحه ومحوره. فكيف يجرد منه ؟!
محور سورة (الأحزاب) هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه رضي الله عنهن
إن المتدبر لسورة(الأحزاب) يجدها من البداية وإلى النهاية، موضوعها ومحورها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه. ففي أول السورة جاء قوله تعالى: { النَّبيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } (الأحزاب/6). وما قبله تمهيد لا أكثر.(61/111)
ثم ذكر الله غزوة الأحزاب، وبني قريضة الذين فتح المسلمون أرضهم، وغنموا أموالهم وديارهم. وبسبب تلك الأموال حصل الخلاف في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - . لأن أزواجه صرن يطالبنه بالنفقة والتوسعة. فكان ذكر الغزوتين تمهيداً لذكر ما حصل في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - . وبيان التوجيهات الربانية في شأن ذلك. وفيها جاء ذكر التطهير. ثم ذكر زواجه - صلى الله عليه وسلم - بزينب رضي الله عنها زوجة متبناه زيد - رضي الله عنه - وما يتعلق به. وهو شأن خاص ببيت النبي. وفيه توجيه المؤمنين إلى الانشغال بذكر الله عوضاً عن الخوض بما يثيره الكفار والمنافقون من شبهات حول هذا الزواج. وهذا المعنى يشبه ما بدأت به السورة خطاباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله جل وعلا: { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين
... } (1-3) وتفسير له.
ثم قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ… } واستمرت الآيات تذكر أحكاما تتعلق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في علاقاته الزوجية البيتية. وفيها مكافأة الله تعالى لأزواجه بعد أن اخترنه على الحياة الدنيا وزينتها بقوله: { لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } . ثم ذكر أدب الدخول إلى بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - . وحرمة أزواجه بحيث لا تكون مخاطبتهن إلا من وراء حجاب. وذكر تحريم الزواج بهن من بعده. وهو عطف على قوله في أول السورة { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } . ثم ذكر جواز تكليمهن مباشرة من قبل محارمهن كالآباء والأبناء…الخ.(61/112)
ثم عظم من شأن أذى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أزواجه. وتوجيهه لهن مع بناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن حتى لا يتعرضن للأذى والأقاويل. ثم تهديد المنافقين والذين في قلوبهم مرض الذين لا ينتهون عن ذلك. ثم توجيه المؤمنين أن لا يؤذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وأهله، كما آذى بنو إسرائيل موسى - عليه السلام - في أهله واتهموه بما يسيء إليهم. وأمرٌ لهم بأن يتقوا الله، ويقولوا قولاً سديداً. ويتذكروا عظم الأمانة التي حملهم الله إياها.
واختتمت السورة بما بدأت به نفسه من ذم المنافقين والكافرين أو المشركين الذين نهى الله تعالى رسوله أن يسمع لهم أو يطيعهم في أهل بيته وما يشيعونه عنهم - وهو شأن الرافضة على مدار التاريخ - وأن يكون سمعه وطاعته لجهة واحدة هي جهة الوحي. فالبداية: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } (1،2). والنهاية: { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيما } (73). فالسورة كلها - بداية ونهاية - في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه أهل بيته. والأحكام والآداب المتعلقة بذلك البيت. فما علاقة عصمة علي وأهله، أو غيره بهذا الموضوع ؟!
ب) سبب نزول الآية(61/113)
إن سبب نزول الآيات التي تضمنت هذا المقطع المسمى بـ(آية التطهير) أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. حينما طالبنه بالنفقة بعد غنائم بني قريضة من اليهود الذين قضى عليهم النبي بعد غزوة الأحزاب (الخندق) مباشرةً. ذلك أن يهود بني قريضة هم الذين ألبوا الأحزاب وتحالفوا معهم، فلما باءوا بالفشل وانصرف الأحزاب خائبين التفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حلفائهم من اليهود فأبادهم وغنم أرضهم وديارهم وأموالهم. فتنفس فقراء المسلمين لا سيما المهاجرون فصاروا يوسعون على بيوتهم ونسائهم. فطالبت نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنفقة أسوة ببقية النساء. فنزلت الآيات بهذا الشأن. وقد بدأها الله تعالى بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } (الأحزاب/9). واستمرت الآيات تذكر أحداث غزوة الأحزاب. ثم عرجت على بني قريضة، وكيف سلط الله عليهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - : { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً } (الأحزاب/26-28).
وكان هذا التخيير، سببه مطالبة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه بالنفقة بسبب الأموال التي غنمها النبي - صلى الله عليه وسلم - من يهود قريضة.(61/114)
واستمرت الآيات تعالج هذا الموضوع الذي أثير في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - . إلى أن قال تعالى: { وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيراً } (الأحزاب/33-43).
ومن المعلوم في الأصول أن سبب النزول داخل في حكم الآيات النازلة من باب أولى. وإن كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
شمول النص القرآني لأقارب النبي احتمال ضعيف
لكن في الأمر نكتة لطيفة هي: أن العموم هنا مجازي، والسبب حقيقي. فحمل النص على العموم ضعيف. مما يجعله محتملاً لا مقطوعاً به. ومما يزيد هذا الاحتمال ضعفاً أن مجيء اللفظ بصيغة العموم والمقصود به الخصوص يرد كثيراً في لغة العرب. لا سيما مع وجود القرائن المرجحة كما في (آية التطهير). فيصبح شمول النص لعموم أهل البيت ضعيف الاحتمال جداً. وإن لم يكن مرفوضاً تماماً. وهذا غايته أن يكون النص يعم الأقارب مع الأزواج. ولكن على سبيل الاحتمال.
أي أن شمول النص للأقارب غير قطعي كقطعية شموله للأزواج. أما أن نقصره على الأقارب فقط . ونخرج الأزواج منه فهو الباطل بعينه. وهو قول على الله
بلا علم. ولا دليل عليه سوى التحكم اتباعاً للهوى.
فلو كان النص معناه العصمة، لاستلزم ذلك عصمة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب أولى. وهو باطل. فبطلت دلالته على (العصمة).
مجيء اللفظ بصيغة العموم والمراد به خصوص معناه
وحتى لا أحرم القارئ غير المتخصص من هضم هذه القاعدة وتقريبها إلى فهمه، أذكر له ما يوضح معناها:
يقول تعالى عن الريح التي أهلكت عاداً: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } (الأحقاف/25).(61/115)
إن لفظ (كل شيء) عام. لكن عمومه غير مراد بدليل أن الله تعالى قال بعدها: { فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } . ... فمساكنهم إذن لم تدمر. وهذا يعني أن التدمير خاص بالبشر وما شابه. وليس عاماً، رغم أن اللفظ الوارد عام.
ويقول تعالى: { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (البقرة/274). إن لفظ (الذين) عام يشمل كل منفق. سواء كان مسلماً أم كافراً. مخلصاً أم مرائياً. لكن هذا العموم غير مقصود قطعاً. وإن كانت صيغة اللفظ عامة. فالآية خاصة بالمسلمين المخلصين.
والأمثلة على هذا لا تحصى.
إن سياق النص، وسبب النزول، مع حقيقة المعنى في الأزواج. ترجح إرادة
الخصوص، وأن المقصود بالآية أزواج النبي لا غير. وهذا هو الذي يفسر لماذا دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - -حسب ما جاء في الرواية- لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم؟ وذلك من أجل أن يشملهم الله تعالى مع أزواجه ببركة الآية. ولو كان النبي يقطع بشمول الآية لهم، لما كان لدعائه معنى. وهذه هي القرينة الثالثة التي تؤكد المعنى الحقيقي لأهل البيت. وهو الأزواج. دون المجازي. وهو الأقارب.
ج) حديث الكساء
جاء في الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لعلي وفاطمة والحسن والحسين. وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا).
ودلالة الرواية واضحة في أن الآية لم تنزل في هؤلاء الأربعة، ولا غيرهم من(61/116)
أقاربه. وإلا لما دعا لهم بما جاءت به الآية! إذ ما معنى الدعاء لقوم بأمر محسوم ومتحقق قبل الدعاء؟ إنما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاءه ذلك رجاء أن يشمل الله بكرامته من دعا لهم. وهذا يفسر لنا ما جاء في بعض ألفاظ الرواية من أن أم سلمة رضي الله عنها أرادت الدخول معهم، فردها قائلا: (إنك إلى خير). وفي لفظ آخر: (أنت على مكانك وأنت على خير) أي لا داعي للدعاء لك. والآية قد نزلت فيك أصلا.
(اللهم هؤلاء أهل بيتي)
أما التحجج بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : (اللهم هؤلاء أهل بيتي) يعني أنه ليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل سوى هؤلاء الأربعة. وأن لفظ (أهل البيت) مقصور عليهم فقط . فهذا باطل. ولا أظن القائلين به - اللهم إلا إذا كانوا جهلة. أو من عامة الناس، ممن لا علم لديهم بكلام العرب، وصيغ التعبير به- يخفى عليهم أن هذه الصيغة لا تعني قصر اللفظ على المذكور فيه. وإنما تعني أن المذكور من ضمن المقصود. كما تقول مشيراً إلى مجموعة من أصدقائك: (هؤلاء أصدقائي). أو (هؤلاء هم أصدقائي). ليس معناه أنه ليس لك من أصدقاء سواهم. وتقول: (هؤلاء أخوتي). ولا يعني ذلك أنه ليس لك من إخوة سواهم. وتشير إلى مجموعة من الشجعان وتقول: (هؤلاء هم الرجال)…الخ
وقد جاء هذا في القرآن كثيرا كما في قوله تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخرِجُوا(61/117)
مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِْيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } (الحشر/8،9). ويستحيل أن يكون قصد الله قصر وصف (الصادقين) على المهاجرين، وإلا كان الأنصار كاذبين. ولا قصر وصف (المفلحين) على الأنصار، وإلا كان المهاجرون خاسرين.
وقوله تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم } (التوبة/36). أي من الدين القيم. وإلا فإن الدين لا
يقتصر على هذه المسألة.
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : (اللهم هؤلاء أهل بيتي). أي من أهل بيتي وليس معناه أن هؤلاء هم أهل بيتي. لا أهل لي غيرهم.
الكساء فيه خمسة وليس أربعة عشر(61/118)
ويقال أيضاً: إذا كانت هذه الصيغة تمنع دخول غير المدعو لهم في مسمى أهل البيت. فكيف تسلل تسعة آخرون إليه؟! مع أنهم لم يكونوا موجودين أو مخلوقين أصلاً يوم دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاءه ذلك – طبقاً إلى ما جاء في الرواية - ! فإن قيل: لوجود أدلة أخرى. يقال: الأدلة كلها تدل على أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - هن خصوص أهل بيته. وأولهم وأولاهم طبقاً إلى لغة العرب، ولغة القرآن، وعرف الناس الذي لم يتغير منذ خلق الله الخلق وإلى اليوم. تقول: (جاءت معي أهلي). وتقصد زوجتك. وبذلك عبرت زوجة عزيز مصر قائلة: { مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً } (يوسف/25). أي زوجتك. وبدلالة السياق. وسبب النزول. فكيف ساغ أن لا تنفع هذه الأدلة كلها. ولا تشفع لزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخلن في بيته، ويكنَّ من أهله؟! بل يطردن منه. ولا يسمح لهن بدخوله، إلا بشرط أن يعترفن بأن البيت ليس بيتهن. وإنما يُقِمن فيه، أو ينزلنه كالمستأجرات. حتى إذا انتهت مدة الاستئجار، ومات الزوج خرجن منه مرغمات، مأزورات غير مأجورات؟!
حديث الكساء ينقض (العصمة)
وإضافة إلى ذلك فإن حديث الكساء ينقض دلالة الآية على (العصمة). لأن المدعو لهم (علياً وفاطمة والحسن والحسين - رضي الله عنهم -) إما أن يكونوا معصومين قبل دعائه ذلك. وإما أن لا يكونوا كذلك. أي صاروا معصومين بدعائه.
فإن كانوا معصومين من الأساس فلا داعي للدعاء لهم بالعصمة ؛ لأنه تحصيل
حاصل. وطلب ما هو حاصل أصلا، لغو لا فائدة منه. يتنزه عنه العقلاء. فضلاً عن الأنبياء. وإن كانوا إنما عصموا بعد دعائه. ولم يكونوا من قبل كذلك. انتقضت (العصمة). لأن غير المعصوم -حسب قواعد الإمامية- لا يكون معصوماً، بعد إذ لم يكن. لأن (العصمة) التي أثبتوها كونية تلازم (المعصوم) منذ خلقته وولادته.(61/119)
فإن اختاروا هذا القول انتقضت (العصمة). وإن اختاروا الأول فلا بد أن يكون لهذا اللفظ: (فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً) معنى آخر غير (العصمة). وإلا كان الدعاء لغواً. وهو ما لا يليق به - صلى الله عليه وسلم -. وهو المطلوب.
حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - في صحيح مسلم
روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في (صحيحه) قال: (حدثنا محمد بن بكار بن الريان حدثنا حسان (يعني ابن إبراهيم) عن سعيد (وهو ابن مسروق) عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم...) وفيه (فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا. وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله، وعصبته الذين حرموا الصدقة.
وروى بالإسناد نفسه: (فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من
أهل بيته. قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس. قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم).
والقولان متناقضان! فحين يُسأل زيد بن أرقم - رضي الله عنه - : هل نساؤه من أهل بيته؟ يجيب مرة بالنفي. ومرة بالإثبات!
واجتماع النقيضين محال. فإما أن زيداً قال: (لا) وإما قال: (نعم). لا سيما والحديثان بإسناد واحد! فلا بد من الترجيح. أما التعلق بأحدهما دون الآخر - كما يفعله
الإمامية - فليس من فعل طالب الحق.
وقد يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه. وهو ما سنفعله ونرجحه – بعون الله - لكننا سنناقش جميع الاحتمالات.
الاحتمال الأول: أن تكون رواية النفي هي الصحيحة دون الأخرى. وهو قول الإمامية. فهذا يمنع منه أكثر من مانع:
الأول: مانع اللغة، فالزوجة - في لغة العرب التي بها نزل القرآن. وكذلك العرف – من أهل الرجل. فلا يمكن بحال أن لا تكون نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته.(61/120)
الثاني: أن رواية الإثبات رويت بإسنادين آخرين. وهذا يرجح رواية الإثبات التي تتفق مع اللغة دون الأخرى. فتكون رواية النفي مما روي بإسناد صحيح خالف ما هو أصح منه، وهو الشاذ الذي هو أحد أقسام الضعيف. وهذا هو الاحتمال الثاني. وكلامنا هذا يتعلق بالسند.
أما المتن – إذا حملناه على ظاهره - فلا يمكن بحال أن تكون رواية النفي صحيحة. لمخالفتها جميع الأدلة المعتبرة. فإن (الزوجة) في جميع الأحوال تدخل في مسمى (الأهل) دخولاً تضمنياً حقيقياً مطلقاً. فكيف يصح أن ينفى ما هو ثابت ثبوتاً قطعياً؟!
لكن الجمع بين الروايتين ممكن لغةً – وهو الاحتمال الثالث- إذا عرفنا أن اللفظ في لغة العرب يمكن أن يثبت باعتبار، وينفى باعتبار.
خذ مثلاً لفظ (الشفاعة): فإن القرآن نفاها في موضع وأثبتها في آخر. قال تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } . لكنه قال أيضاً : { وَلا تَنْفعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } . فلفظ الشفاعة ينفى مرة ويثبت أخرى، وذلك باعتبارين مختلفين. فإذا اعتبرنا الشفاعة الشرعية فهي مثبتة. وإذا اعتبرنا الشفاعة الشركية فهي منفية. فكذلك النفي والإثبات في الروايتين السابقتين. إنما هما باعتبارين مختلفين.
فإذا اعتبرنا الأهل المحرم عليهم الصدقة جاز النفي؛ فإن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - - على رأي - لم تحرم عليهن الصدقة. وإذا اعتبرنا الأهل عموماً وجب الإثبات.
فكأن زيداً قال: إن نساءه من أهله. ولكنهن لسن من أهله الذين حرمت عليهم الصدقة. وهناك اعتبار آخر. فإن الأهلية أصلية ومكتسبة. فالأصلية أهلية الأقارب أو العصبة. والمكتسبة أهلية الزوجة. فإنها تصبح أهلاً للرجل بعد إذ لم تكن. فأهليتها بالاكتساب، وليست بالأصل. فإذا اعتبرنا الأهلية الأصلية جاز النفي. وإذا اعتبرنا الأهلية عموماً وجب الإثبات.(61/121)
وهذان الاعتباران جاءا مصرحاً بهما في الروايتين: ففي رواية الإثبات قال زيد: (نساؤه من أهل بيته) أي في العموم. وفي رواية النفي قال زيد: (إن المرأة تكون
مع الرجل ...). وفي الرواية الأولى جاء ذكر تحريم الصدقة وأنه خاص بالأقارب.
إذن في كل الأحوال لا يمكن نفي أن تكون أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته:
فرواية النفي إما أن تكون شاذة. لمخالفتها ما هو أصح. لأنه روي بثلاثة أسانيد. بينما رويت هي بإسناد واحد. هذا الإسناد نفسه رويت من طريقه إحدى روايات الإثبات!. وكذلك لمخالفتها للغة، وبقية الأدلة.
وإما أن تكون صحيحة مع رواية الإثبات. فيكون زيد قالها بالاعتبارين المذكورين (عدم حرمة الصدقة. وكون الأهلية مكتسبة بالزواج. وقابلة للفقد بالطلاق. وليست أصلية كأهلية الأقارب).
أما أن تصح لوحدها، فهذا غير ممكن للأسباب التي سبق ذكرها.
وعلى الافتراض جدلاً أن زيداً نفى أن تكون نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته نفياً مطلقاً. فقوله هذا رأي مخالف للكتاب والسنة واللغة. ومعلوم في الأصول أن رأي الصحابي يرد إذا خالف الكتاب أو السنة. فكيف وهو مخالف للغة العرب مخالفة صريحة. فلا يمكن قبوله إلا على الاعتبار المذكور.
ثم إن قوله في رواية النفي – وهو حجته التي استند إليها في نفي أهلية المرأة - : (وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها). يعني أن المرأة ليست من أهل بيت الرجل، في حال طلاقها. ونساء النبي لم تطلق واحدة منهن. بل الرسول منهي عن طلاق نسائه بنص قوله تعالى: { لا يَحلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } (الأحزاب:52). فموضوع النفي على كل حال مثير للريبة!
الخطاب بصيغة التذكير(61/122)
أما قول القائل: لماذا جاء الخطاب في قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } بالتذكير دون التأنيث فقال: (عنكم) ولم يقل: (عنكن)؟ فهذا أدل على الجهل والهوى. لأنه من المعروف جداً في لغة العرب أن الخطاب إذا اشترك فيه الذكور والإناث جاء بصيغة التذكير، وإلا كان خاصاً بالإناث. فلو قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُن الرِّجْسَ) لكان الحكم مقصوراً على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - دونه. وهذا لا يصح؛ إذ الكرامة بسببه هو. فهو المقصود بها أولاً. وأما أزواجه فلكونهن أهله أكرمن بها.
أما الخطاب بالتذكير فيشمل الذكور والإناث. وهو عامة لغة القرآن كقوله تعالى: { قد أفلح المؤمنون } (المؤمنون/1). وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ } (لقمان/8). وهكذا…
ثم إننا نقول: إن التعبير بلفظ (عنكم) أبلغ في مدح أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. إذ أن الله تعالى جمعهن مع نبيه - صلى الله عليه وسلم - في ضمير واحد. فكأن الله يقول: لا فرق بين أي فرد من أفراد هذا البيت. لذلك اجتمعوا في الضمير نفسه. والتعبير بذلك أفخم وأدعى للتعظيم. وهو اللائق بأمهات المؤمنين. وذلك لا يخفى على عربي سليم الذوق.
ولقد تأملت في هذا الاعتراض فوجدته لا يخرج عن كونه موضوعاً للاستهلاك ومحاولة التملص من قبضة النصوص بأي وسيلة أو طريق ولو ملتوٍ أو مسدود. وإلا فإن المعترض في الوقت الذي يُخرج أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من حكم النص - بحجة أنهن إناث والخطاب للذكور- يُدخل فاطمة رضي الله عنها فيه، مع إنها أنثى!!
إن الكيل بمكيالين دليل الهوى - شهد الله - لا أكثر.(61/123)
إن أصحاب هذه الاعتراضات علماء فهم لا يعذرون لأنهم يعلمون. بل أن هذه الأمور لا تحتاج إلى دراسة أو علم! إنها مفردات يومية يتعامل بها حتى الأميون. فكلنا نقول: (السلام عليكم) وإن كان في الجمع إناث. بل حتى لو كان الجمع كله إناثاً. وكلنا نقول لأولادنا ذكوراً أو إناثاً: اقرؤوا، اكتبوا كلوا اشربوا…الخ. فإذا كان العالم لا يعرف مثل هذا، فيعلم ماذا؟! وإذا كان يعلم، فاللف والدوران لماذا؟!!
قلة أدب
إن القول بأن معنى الآية منصرف إلى علي وأهله فقط . يجعل البيت المذكور فيها بيت علي، لا بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - . لقد كان لعلي - رضي الله عنه - حين نزول الآية بيت مستقل عن بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - . وهؤلاء الأربعة (علي وفاطمة والحسن والحسين) هم أهل بيت علي. إذن لم يبق لبيت النبي مزية دون بيت علي! فلو جردناه منه كان بيت النبي لوحده مجرداً من هذا الفضل، وكان بيته تابعاً لا متبوعاً، وفرعاً لا أصلاً. فيكون قصر معنى النص على علي وأهله، ليس اتباعاً للمتشابه فحسب. وإنما هو قلة أدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بتجريد بيته من هذا الفضل. فلا يكون فاضلاً بنفسه وإنما بالتبع لغيره. أما الحقيقة فإن بيت علي إنما كرم تبعاً لبيت النبي تبعية الفرع للأصل. وليس العكس.
د) عموم لفظ (أهل البيت) أوسع من اثني عشر شخصاً
إن لفظ (أهل البيت) في عمومه اللغوي يشمل أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعاً. وهؤلاء عند نزول الآية الكريمة - بالإضافة إلى أزواجه رضي الله عنهن - أولهم القاسم
وعبد الله وإبراهيم وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. أليس هؤلاء من أهل بيته؟! هل يستطيع أحد أن يخرج واحداً منهم من ذلك البيت الطاهر؟! وهل يمكن القول بأن الله لا
يريد تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم ؟! أفهؤلاء جميعاً معصومون!(61/124)
ثم أعمامه حمزة سيد الشهداء وعباس بن عبد المطلب. ثم أبناء عمومته جعفر وعلي وعقيل. وأبناء العباس ومنهم ابنه عبد الله بن عباس. هؤلاء كلهم مشمولون
بلفظ (أهل البيت). وبهذا فسر الإمامية كلمة (ذي القربى) الواردة في آية الخمس فقالوا: هم بنو عبد المطلب جميعاً الرجال منهم والنساء(1) . أفهؤلاء معصومون!
ثم إن أولاد علي- رضي الله عنه - كثيرون. منهم محمد بن الحنفية وعباس وعمر وزينب وأم كلثوم. فلم الاقتصار على اثنين منهم فقط ، هما الحسن والحسين؟ والآية عامة، وحديث الكساء لا يصلح للتخصيص كما تبين لنا . إن الله تعالى قادر – لو أراد الحسن والحسين فقط - أن يستعمل لفظاً آخر يدل عليهما صراحة وتخصيصاً.
ثم إن الحسن أفضل من الحسين بالاتفاق. وهو أكبر منه. بل هو أكبر أولاد أبيه.
والنص يشمله. وله أولاد وأحفاد وذرية. فلماذا لم تكن (العصمة) في واحد منهم؟ وما الذي نقلها من ذرية الحسن إلى ذرية الحسين! وما الذي جعل أولاد الحسين (معصومين) بدلالة الآية. ولم يجعل أولاد الحسن كذلك، وهم جميعاً داخلون في حكم الآية بلا فرق؟! بل إن أولاد الحسن ينبغي أن يكونوا أولى بها من أولاد الحسين لأفضلية الحسن!
ثم إن للحسين أولاداً وأحفاداً وذرية. فلم اقتصرت (العصمة) على واحد منهم،
ليس هو الأكبر ولا الأوحد. وهم كثر ذكوراً وإناثاً. ثم تسلسلت في الواحد بعد الواحد ثم… انقطعت السلسلة مع أن الكل ينتسبون إلى (أهل البيت)؟!
ما هذا؟! بأي لغة يتحدث القوم؟! ومع أي صنف من الناس؟!
إن هذه الانتقائية التي لا مسوغ لها لغة ولا عرفاً ولا شرعاً بل ولا ذوقاً! إن هي ألا تحكم لا مستند له. وتعسف في التعامل مع النصوص لا ضابط له، ولا قانون!
لمحة تاريخية
__________
(1) انظر مثلا أصول الكافي للكليني 1/540 .(61/125)
هذه لمحة تاريخية سريعة، عن فترة زمنية قصيرة جداً. محصورة بين (إمامة) جعفر بن محمد، و(إمامة) ابنه موسى بن جعفر. تعبر عن هذا التحكم والتعسف، بل التخبط في الاستدلال، والحيرة في تطبيق النصوص وتطويعها للرغبات. وتفسيرها حسب المشتهى:
كان الإمامية يقولون بـ(إمامة) إسماعيل بن جعفر. فلما مات إسماعيل في حياة أبيه انقسموا فرقاً :
منهم من استمر على القول (بإمامة) إسماعيل وجعلوا (الإمامة) تتسلسل في عقبه. وهؤلاء هم الإمامية الإسماعيلية. ولا زال (أئمتهم) إلى اليوم يخلف بعضهم بعضاً! وقد نجح الإسماعيلية في إقامة دولة سميت بدولة (الفاطميين) في المغرب ومصر دامت
قروناً وكانوا أكثر الإمامية إلى عهد قريب.
ومنهم من قال بغيبة إسماعيل وعدم موته وأنه المهدي المنتظر!
ومنهم من اتجه بعد موت إسماعيل إلى أخيه الثاني عبد الله الملقب بالأفطح. لكن هذا مات بعد سبعين يوماً من وفاة أبيه جعفر دون أن يعقب ولداً يخلفه.
فمنهم من ادعى أن له ولداً واسمه (محمد) ! ثم جعلوه غائباً! وصاروا ينتظرونه.
ومنهم من قال (بإمامة) أخيه الثالث (محمد)، الذي خرج عام 200 هـ
في مكة معلناً نفسه أميراً للمؤمنين وخليفة للمسلمين. ونجح في إقامة دولة، لم تستمر طويلاً بعد أن بايعه كثير من الشيعة في زمانه!
إلا أن منهم فريقاً اتجه اتجاهاً آخر ونقل (الإمامة) إلى الابن الأصغر موسى بن جعفر بطريق (البداء) فقالوا (بدا لله في إسماعيل). بعد أن كانوا يقولون بأن جعفر قد أخبر بـ(إمامته)!
ومنهم من نقلها بطريق سلمي قياساً على انتقال (الإمامة) من الحسن إلى الحسين. رغم وجود قاعدة تقول: (لا تكون الإمامة في أخوين بعد الحسين والحسين)!! ورغم أن القياس في العقائد باطل!(61/126)
نكتفي بهذه اللمحة التي تمثل فترة زمنية قصيرة جداً. لكنها ممتلئة بالاختلافات! لتعرف من خلالها عمق الصراع والاختلاف الحاصل بين فرق الإمامية على مدى مئات السنين!! رغم أن كل واحدة من هذه الفرق -على اختلافها وتضادها- تحتج لنفسها بقوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراًً } دليلاً على (عصمة) و(إمامة) من تقول بـ(إمامتهم) من (الأئمة)!!
بين أهل بدر وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم
ورد لفظ: (التطهير وإذهاب الرجس ) في القرآن مرتين:
مرة في أهل بدر. وذلك في قوله تعالى: { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأْقْدَامَ } (الأنفال/11).
ومرة في (أهل بيت) النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذلك في قوله: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } (الأحزاب/33).
وكلاهما نزل بسبب مشكلة مادية عقب معركة عسكرية تكون فيها غنائم وأموال.(61/127)
أما أهل بدر فاختلفوا فيما بينهم، وتنازعوا على قسمة غنائم المعركة. فأنزل الله تعالى قوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأْنْفَالِ قُلْ الأْنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } (الأنفال/1). ينهاهم عن التفرق. ويأمرهم بإصلاح ذات بينهم. مذكراً إياهم بأنه تعالى قد أعدهم لأمر أعظم، ومهمة أسمى. تتطلب منهم أن يحتقروا الدنيا، ويكونوا هم المنفقين لا الآخذين: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ…الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا…إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ } (الأنفال/2-11).
وأما أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد طالبنه بالنفقة. وذلك بعد غزوة بني قريضة التي وقعت
بعد غزوة الأحزاب مباشرة. وقد غنم المسلمون فيها أموال يهود وأرضهم وديارهم. كما قال سبحانه: { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } (الأحزاب/27).(61/128)
فصارت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يطالبنه بحقهن من النفقة. فأنزل تعالى قوله بعد الآية السابقة مباشرة: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاًً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآْخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا… يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ…وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } (الأحزاب/28-33). فمن كانت هذا شأنها ومنزلتها عند الله لا ينبغي لها أن تنشغل بما تنشغل به النساء العاديات من الاهتمامات الدنيوية الزائلة. إنما عليها أن تذكر وتتلو ما أنزل الله في بيتها من الآيات والحكمة: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيراً } (الأحزاب/34).
فأي منزلة أسمى؟ وأي درجة أعلى من منزلة ودرجة امرأة تتنزل الآيات في بيتها، وتتفجر الحكمة من جنباته وأركانه؟!! انه بيت يريد الله ليذهب عنه الرجس ويطهره تطهيرا. فكنَّ – يا نساء النبي- أهلاً لهذه المنزلة. والرقي إلى تلك الدرجة.
وهذا لا بد فيه من التعالي على الدنيا وزخارفها ومتعها الزائلة.
وانتم يا أهل بدر! إن الله يعدكم لأمر عظيم، ودور في الحياة والتاريخ كبير.
ويريد أن يطهركم من كل ما يتعارض وهذه الغاية السامية.. ولا ينبغي لمن كان في عين الله بهذه المنزلة، أن تكون خصومته على الدنيا ومتاعها وزخارفها الزائلة. فعليكم أن ترتفعوا وتسموا عليها جميعا.(61/129)
وتكاد أن تكون ألفاظ الآيات النازلة في كلا الفريقين واحدة. ففي كل منهما أمر بالتقوى وطاعة الله ورسوله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. ثم ذكر إرادة الله إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم!
وهذا مما يبين أن لا علاقة بين (العصمة)، وموضوع الآية وأسبابها ومقاصدها.(61/130)
خامساً
قال عبد الحسين :
وقال العلامة الزرقاني عند بلوغه إلى هذا الحديث من شرح الموطأ
ما هذا لفظه :( هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق
وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر)
قال : واخرج عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن
عمر عن عمر انه قال لمؤذنه : ( إذا بلغت حي على الفلاح في
الفجر فقل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم )
قلت : أخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة .
ورواه جماعة آخرون يطول المقام بذكرهم .
خامساً :
لقد حاول ( الموسوي ) ان يحشد لاثبات ما يراه عدداً كبيراً من الكتب والمراجع ظناً منه إنها تبرر كذبه وتدليسه واليك نص قوله واضعاً يدك على مواطن ذلك الكذب وهذا التدليس :
وقال العلامة الزرقاني عند بلوغه إلى هذا الحديث من شرح الموطأ ما هذا لفظه :
( هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر) .
قال :
واخرج عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن عمر انه قال لمؤذنه : إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل : (الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم ) .
قلت* أخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة .
ورواه جماعة آخرون يطول المقام بذكرهم .
... الكذب والاقتطاع سمة المذهب
نقل عبد الحسين هذه العبارة فقط من كلام الزرقاني ( هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر).
قال : واخرج عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن عمر انه قال لمؤذنه : ( إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم )(62/1)
وبتر بقية النص مدلساً على القارئ ، ومحاولاً بكل جهده إلصاق هذه التهمة الباطلة بعمر( ، فقد اقتطع معظم كلامه الذي أورده في كتابه والذي يبين فيه رأيه ورأي علماء أهل السنة في اثر الموطأ اخذاً منه الجزء الذي يفيده ويقوي فريته فقط ، واليك أيها القارئ الكريم نص الزرقاني لترى الاختلاف عما نقله عبد الحسين ولتعرف جلياً حقيقة هذا الرجل وحقيقة دعواه :
نص العلامة الزرقاني
قال العلامة محمد الزرقاني في كتابه شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، شارحاً بلاغ عمر في الموطأ ما نصه :
هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر ، وأخرجه أيضاً عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن عمر انه قال لمؤذنه : إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم . - انتهى ما نقله عبد الحسين – واليك تكملة النص :
فقصر ابن عبد البر في قوله :
لا اعلم هذا روي عن عمر من وجه يحتج به وتعلم صحته وانما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا اعرفه .
قال : والتثويب محفوظ في أذان بلال وأبي محذورة في صلاة الصبح للنبي صلى الله عليه وسلم.
والمعنى هنا أن نداء الصبح موضع قوله لا ها هنا ، كأنه كره أن يكون منه نداء أخر عند باب الأمير كما أحدثه الأمراء ، وإلا فالتثويب اشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر انه جهل ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به مؤذنيه بلالاً بالمدينة وأبا محذورة بمكة . انتهى .
ونحو تأويله قول الباجي يحتمل أن عمر قال ذلك إنكاراً لاستعماله لفظة من ألفاظ الأذان في غيره وقال له اجعلها فيه يعني لا تقلها في غيره. انتهى .(62/2)
وهو حسن متعين ، فقد روي ابن ماجة من طريق ابن المسيب عن بلال انه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه لصلاة الفجر فقيل هو نائم فقال الصلاة خير من النوم مرتين فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك .
وروى بقي بن مخلد عن أبي محذورة ، قال :
كنت صبياَ فأذنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين فلما انتهيت إلى حي على الفلاح قال ألحق فيها الصلاة خير من النوم .
وقال مالك في مختصر ابن شعبان ، لا يترك المؤذن قوله في نداء الصبح الصلاة خير من النوم في سفر ولا حضر ، ومن أذن في ضيعته متنحياً عن الناس فتركه فلا باس واحب إلينا أن يأتي به .
مالك عن عمه أبى سهيل ، ابن مالك عن أبيه مالك بن عامر الاصبحي : انه قال :
ما اعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس يعني الصحابة إلا النداء بالصلاة فأنه باق على ما كان عليه لم يدخله تغيير ولا تبديل ، بخلاف الصلاة فقد أخرت عن أوقاتها وسائر الأفعال قد دخلها التغيير فأنكر اكثر أفعال أهل عصره، والتغيير يمكن أن يلحق صفة الفعل كتأخير الصلاة ، وان يلحق الفعل جملة كترك الأمر بكثير من المعروف والنهي عن كثير من المنكر مع علم الناس بذلك كله قاله الباجي .
وقال ابن عبد البر :
إن الأذان لم يتغير عما كان عليه .
وكذا قال عطاء :
ما اعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى وفيه تغير الأحوال عما كانت عليه زمن الخلفاء الأربعة في اكثر الأشياء .
واحتج بهذا بعض من لم ير عمل أهل المدينة حجة وقال لا حجة إلا فيما نقل بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الخلفاء الأربعة ومن سلك سبيلهم(1) . [انتهى نص الزرقاني] .
ظهور الحق
أقول :
وقفت كثيراً متعجباً متلدداً امام صنيع عبد الحسين لا احير جواباً !
هذا قول الزرقاني ورأيه ببلاغ مالك مؤيداً بأقوال علماء أهل السنة واضحاً أمام عينك منقولاً بنصه يمكنك الرجوع إليه بسهولة وياحبذا لو تفعل تحقيقاً للأمر.(62/3)
ولقد اتضح من كل ما تقدم نقله من كلمات الاعلام ان عبد الحسين لم يكن اميناً في نقله ، ولا مصيباً في زعمه ، ولهذا بتر كلمات الاعلام فلم ينقلها كاملة على وجهها الصحيح ، ودفعاً للشك لتتجلى لك الحقيقة وهي :
كيف قام عبد الحسين هذا باقتطاع كل هذه الكلام الوارد في المسألة ، واخذ منه فقط جزءاً يسيراً وهو ما ينفعه منه خدمةً لغرضه المريض وتحقيقاً لاهداف جميعنا يعرفها ، فأين الأمانة العلمية ؟! ولكن لا غرابة في هذا الصنيع اذ ان العصبية المذهبية غالباً ما تطغى على الحجة والدليل* .
وهذا الكذب والاقتطاع تجده في كتاب الفصول المهمة لتاليف الأمة الذي ألف لاجل التقريب مع أهل السنة فكيف الحال مع غيره من الكتب :
ويستمر مسلسل الكذب
قال محمد مهدي الاصفي :
كتب السيد عبد الحسين شرف الدين ( رض )** كتاباً في تحديد عنوان الإسلام وحرمات المسلمين التي لا يجوز انتهاكها بحال واسم الكتاب ( الفصول المهمة في تأليف الأمة ) وهو كتاب قيم يحسن بكل دعاة التقريب قراءة هذا الكتاب الذي استسقى المؤلف مفاهيمه من الكتاب الكريم وما صح من السنة الشريفة عند الشيعة وأهل السنة(1).
أي تقريب
أقول :
يقول الأصفي كتاب قيم يحسن بكل دعاة التقريب قراءته فأي تقريب في هذا الكتاب وهو يطعن بصحابة النبي ( ويكيل لهم الاتهامات المكذوبة وما تهمة (الصلاة خير من النوم) إلا خير دليل على ذلك وستجد اكثر من ذلك في كتابنا (حي على خير العمل حقيقة أم وهم) ان شاء الله .
فهو بكتابه هذا يريد أن يحول أهل السنة إلى شيعة فهذه فكرته عن التقريب، فلو نظرت في الكتاب وجدته ينتهي إلى أن التقريب إنما يكون بإعتناق عقيدة التشيع وترك ما عليه أهل السنة .(62/4)
هذا بالإضافة إلى ما يحتويه الكتاب من الكذب والتدليس والابتعاد عن الحقائق، والاصفي بعد كل ذلك يقول استسقى المؤلف مفاهيمه من الكتاب الكريم وما صح من السنة الشريفة عند الشيعة وأهل السنة ، فأي سنة شريفة استسقى منها تهمته لعمر .
فهم بهذا الصنيع يحاولون أن يضحكوا على ذقون أهل السنة عن طريق الادعاء بأنهم من دعاة التقريب وكما تفعل جمهورية إيران الإسلامية اليوم .
قلة بضاعة عبد الحسين
قال عبد الحسين :
ورواه جماعة آخرون يطول المقام بذكرهم . ووضع المحقق هامشاً تحت كلمة ( آخرون ) .
[راجع الوسائل ج4 ص/642 كتاب الصلاة–أبواب الأذان والإقامة– باب 19]
أقول :
بعد أن أحس عبد الحسين بقلة بضاعته من الأدلة ، وبضعف استدلالاته، ويأسه من ايجاد مصدر يعتمد عليه ، وفشلت كل مساعيه مع انه رمى كل سهم في كنانته وقذف كل حجر في جعبته ، فصار يخبط خبط عشواء ويتخبط في الظلمات على غير هدى ، عمد الى التلاعب بالعبارات فقال :
(ورواه جماعة آخرون يطول المقام بذكرهم ) محاولاً لذلك التدليس على القارئ وايهامه له بصدق دعواه ، وإبرازه لقضيته التي يدعو إليها بصورة مفخمة منزلاً إياها منزلة المشهور المتداول الذي بذكره يطول المقام ويتعب ذهن القارئ دون حاجة ولكنه وقع في الكذب محققاً من وراء ذلك والله اعلم أغراضه الدنيئة بالطعن بصحابة رسول الله ( ومحاولاً إلصاق أي تهمة بهم حتى وان كان ذلك الالصاق عن طريق الكذب الصريح .
واكبر دليل على ما ذكرت من كذب هذا الرجل وضعف حجته انك لو تتبعت كتابه في بقية فصوله ، وما ذكر من طعون بحق أهل السنة عموماً وبالصحابة خصوصاً ، بل انك لو تتبعت كتبه الأخرى لوجدته يحشد عدداً كبيراً من المصادر ، ويسطر كل ما صادفه من أقوال ، حتى لو كانت الإشارة فيها بعيدة أو فيها نوع ضعف ، فالرجل - والله يشهد - لا يألو جهداً إن وجد ما ينفعه أن يذكره حتى لو كان من باب تسويد الصفحات .(62/5)
ولكنه في هذه القضية بالذات لم يجد هذه المصادر والأقوال ، فياترى ما هو المخرج ؟ وكيف ترضى النفس المريضة ؟ وما هو السبيل الى ايهام الناس ؟
( فقال آخرون ) الله …. هذا هو الحل هذا هو المخرج ، حتى لو كان كذباً فربما تمر على القارئ وتزرع الشك في قلبه وفكره ، ومن من الناس ذلك الذي يذهب ويتتبع ويبحث ؟
وأراد زيادة في الإشعال والتشويق فجاء بالمين الصريح الكذب الوضيع بقوله (يطول المقام بذكرهم ) تحقيقاً لدعواه وتفخيماً لأباطيله .
ارادو حفظ ماء وجهه
وبعد أن هلك هذا الرجل أراد بعض الناس أن يحفظوا ماء وجهه ليدرؤوا السب عنه ، فقاموا بتحقيق كتابه المذكور ، فتصدى الدكتور عبد الجبار شرارة لهذا العمل العظيم ليبيض وجه مرجعه وليعطي أقواله بعض المصداقية ، فوقف حائراً أعانه الله، وسدت في وجهه الأبواب وانقطعت به السبل فلا وجود في كتب السنة لا لجماعة ولا لاخرين بل وليس هنالك شيء منها يذكر ناهيك عن المقام أصلاً فماذا يفعل المسكين وحال المرجع عندهم انه لا يجوز أن يخطئ وهالة القدسية تحيط به من كل جوانبه فصار بين نارين .(62/6)
وها هو الدكتور يحيص في هامشه هذا حيصة الحمر فلم يجد واحداً من السنن يعزوه إليه ، فاختار أخفهما ألماً وكيا فلجأ إلى كتب الشيعة ليثبت قول مرجعه بتهمته لعمر( ، فأشار في الهامش تحت كلمة ( آخرون ) إلى وسائل الشيعة للحر العاملي، وكما هو معلوم ان هذا الكتاب من مصادر الشيعة المعتمدة، وهو كتاب جامع للروايات التي وردت عن الأئمة جمعها الحر العاملي من الكتب الأربعة ومجموعة أخرى من الكتب ، فهو ليس من كتب أهل السنة أصلاً وليس معتمداً عندهم - اعني الشيعة - لا من قريب ولا من بعيد ، فلا حجة عليهم به ومع الأسف انه اثبت الكذب سافراً على مرجعه بهذا الهامش الهزيل فاستحق لقب الفاضح بدل المحقق ، فبرأ عمر وبيض وجهه من حيث لا يشعر وألصق التهمة بمرجعه وسود وجهه هو ومن تبعه على هذا الطريق فالحمد لله الذي كفى أولياءه بلسان أعدائهم .
لا اشارة في المصادر المعتمدة الى عمر(
اصل التهمة التي كتبها وأصّل لها عبد الحسين في كتابه هو ان عمر رضي الله عنه قد تلاعب في الأذان ، فكان عنوانه في كتابه الفصول المهمة في تأليف الأمة (تأويلات أخر للصحابة) حاول أن يثبت تحت هذا العنوان تلاعب عمر ( بالأذان ، بإضافته الصلاة خير من النوم ، وحذفه حي على خير العمل.
والطامة انه عند الرجوع إلى وسائل الشيعة الذي اسندنا إليه المحقق الدكتور شرارة لا نجد ما ذكره عبد الحسين ، فلا هناك إشارة إلى عمر رضي الله عنه كشخص اسمه عمر لعدم تعلق الفصل به ، ولا إشارة إلى انه أضاف (الصلاة خير من النوم) .
ففي الباب الذي أشار أليه المحقق الدكتور شرارة في وسائل الشيعة ( كتاب الصلاة – أبواب الأذان والإقامة ) جمع الحر العاملي ( 25 ) رواية تذكر صيغة الأذان الواردة عن الأئمة ، والتي ذكرناها في كتابنا (الشهادة الثالثة في الأذان حقيقة أم افتراء) ، عندما أثبتنا عدم وجود عبارة (الشهادة الثالثة) في ألفاظ الأذان الواردة عن الأئمة .(62/7)
فلا ذكر فيها لعمر ، وما فعله رضي الله عنه ، ولا ذكر فيها لإضافة فصل للأذان، ولا حذف لفصل أخر ، فمن أين للمحقق ما ذهب اليه ؟!
قد يدرك المرء بعض حاجته ** وقد يكون مع المستعجل الزلل
استعجلت يادكتور ! في النقل وفي النتيجة ، فكان الزلل !
هل هذا تخبط ؟ أم تعمد كذب ؟ وراءه دافع خبيث ألا يعلم انه بفعله هذا طعن بالكتاب وبصاحبه بل طعن بنفسه أيضاً ، وعلى كل حال من أراد التأكد مما ذكرت فما عليه سوى الرجوع إلى الكتاب وتحقيقه ومصادر التحقيق ليتبين له الأمر ولا يبقى في صدره شك مما ذكرنا .
روايات عبد الحسين تنص على الصلاة خير من النوم
والأعجب من كل هذا انك حين ترجع إلى الروايات في وسائل الشيعة تجد أربعاً منها أوردت أذان الأئمة ناصةً على عبارة (الصلاة خير من النوم) كفصل من فصول اذانهم ، وان الشيعة أنفسهم قد تعرضوا لهذه الروايات محاولين أيجاد تخريج لها ، وتأويل يوافق ما ذهبوا ودعوا إليه فيما يتعلق بهذه المسألة، وستجدها أيها القارئ الكريم في الصفحات اللاحقة في ( بحث روايات أهل البيت تذكر عبارة الصلاة خير من النوم )، فهل يحتاج الأمر بعد ذلك في إثبات تخبط القوم ، وعنصريتهم المقيتة ، وتقليدهم الأعوج ، وصدورهم المليئة بالغيض، وعداوتهم السافرة - بحق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه - إلى دليل أقوى من هذا وأوضح لمن أراد الحق واتبع الدليل .
أقول :
اذا كان رب البيت بالدف ناقراً ** فلا تلم الصبيان فيه على الرقص
اذا كان هذا هو حال الامام المرجع وهو بهذا المستوى من التدليس والكذب بل ومن الجهل بابسط المسائل الشرعية العلمية فماذا نقول على من هو دونه .
فقد اتسع الخرق على الراقع فضلاً عن إن المأموم لن يكون افضل حالاً من الإمام إذا كان الإمام جاهلاً بأبسط المسائل العلمية .(62/8)
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ( (الحجرات:6)
(مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه ( (النساء: من الآية46)
الكذب والاقتطاع في كتاب الميلاني
في هذه العجالة انقل للقارىء بعض الصور التي توضح لنا طريقة اهل التشيع في التدليس والكذب واقتطاع النصوص واكتفي في سبيل توضيح ذلك بما ذكره السيد علي الميلاني في كتابه (الشهادة الثالثة) وكتابه الاخر (محاضرات في الاعتقادات) ، لكي نرى مدى الكذب والاقتطاع التي تميزت بهما هذه الطائفة الجائرة ، ولكي نستطيع بعد ذلك ان نعطي حكماً كلياً على الطائفة نفسها بانها طائفة الكذابين .
قال الميلاني :
واما أهل السنة فعندهم تصرفان في الأذان :
التصرف الأول : حذف ( حي على خير العمل )
التصرف الثاني : إضافة ( الصلاة خير من النوم ) ولم يقم دليل عليهما .
هذا في شرح التجريد للقوشجي(1) وأرسله إرسال المسلم ، وجعل يدافع عنه، كما يدافع عن المتعتين ، فمن هذا يظهر ان حي على خير العمل كان من صلب الأذان في زمن رسول الله ، وعمر منع عنه كالمتعتين .
ويدل على وجود حي على خير العمل في الأذان في زمن رسول الله وبعد زمنه: الحديث في كنز العمال كتاب الصلاة(2) عن الطبراني :
كان بلال يؤذن في الصبح فيقول : حي على خير العمل ، وكذا في السيرة الحلبية(3) ، وذكر ان عبد الله بن عمر والإمام السجاد كانا يقولان في اذانهما حي على خير العمل ، واما الصلاة خير من النوم فعندهم روايات كثيرة على انها بدعة، فراجعوا(4).
(انتهى كلام حجة الإسلام ومعجزة الأنام السيد علي الميلاني)(1) .
عرض الكذب
اقول :
وان ارتك الدنيا عجباً فاعجب الى مراوغة وتدليس وكذب الميلاني ، وفي مثله قال الشاعر :
كريشة في مهب الريح طائرة ** لا تستقر على حال من القلق(62/9)
واني لا أريد أن أناقش قول الميلاني كله في كتابي هذا اذ قد ناقشته في كتابي الثالث (حي على خير العمل حقيقة أم وهم) ولكني أريد هنا أن أبين كذبه على صحابة النبي ( .
قال الميلاني :
واما الصلاة خير من النوم فعندهم روايات كثيرة على انها بدعة ، فراجعوا، فأشار إلى كتاب كنز العمال [ ج8 ص 356 – 357 ] .
أقول :
قال الميلاني روايات كثيرة تقول إنها بدعة فليدلنا الميلاني أين هذه الروايات الكثيرة التي في كنز العمال والتي تقول إن الصلاة خير من النوم بدعة ، هي رواية واحدة ذكرها صاحب كنز العمال مقابل (26) رواية تثبت ان هذه العبارة موجودة في الأذان تركها جميعاً وتمسك بهذه الرواية واليك الرواية بنصها :
الرواية تبرأ عمر
عن ابن جريج قال : أخبرني عمر بن حفص أن سعدا أول من قال : الصلاة خير من النوم في خلافة عمر فقال عمر : بدعة ، ثم تركه وأن بلالا لم يؤذن لعمر(2) .
فهذا الحديث يقول إن سعداً أول من قال بالصلاة خير من النوم وليس عمر بن الخطاب ، وان عمر بن الخطاب هو من قال إنها بدعة فالرواية حسب هذا الفهم فيها تبرئة لعمر وليس فيها مطعن.
قال الميلاني :
ويدل على وجود حي على خير العمل في الأذان في زمن رسول الله وبعد زمنه: الحديث في كنز العمال كتاب الصلاة ، عن الطبراني:
كان بلال يؤذن في الصبح فيقول : حي على خير العمل.
أقول :
سيتبين لك أيها القارئ مدى كذب هذا الرجل وتدليسه على قرائه وعلى شيعته وعلى صحابة النبي ( وسيقف هذا السيد مع السيد الأخر عبد الحسين يوم القيامة طويلاً أمام الله يدافعون عن أنفسهم بما افتروا كذباً وزوراً بحق سيدنا عمر وبحق إخوانه من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين.(62/10)
وسأنقل الروايات من المصادر الثلاثة التي اعتمد عليها في الطعن بعمر رضي الله عنه وهي الطبراني ، وكنز العمال ، والسيرة الحلبية ، وفي الحقيقة هما مصدران وليس ثلاثة ، لان صاحب كنز العمال قد نقل عن الطبراني ، وصرح الميلاني بذلك فقال : كنز العمال كتاب الصلاة ، عن الطبراني .
فصاحب كنز العمال ( المتوفى 975 هـ ) ، قد نقل عن الطبراني ( المتوفى 360 هـ ).
رواية الطبراني
حدثنا محمد بن علي الصائغ المكي ، ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب ، ثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد ، عن عبد الله بن محمد ، وعمر وعمار، ابني حفص عن ، آبائهم ، عن أجدادهم ، عن بلال أنه كان يؤذن بالصبح فيقول حي على خير العمل فأمر رسول الله ( أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم وترك حي على خير العمل(1).
بتر بقية النص
أقول :
عند الرجوع إلى النص الأصلي نلاحظ أن الكاتب لم ينقل النص الأصلي كاملاً بل قطعه ، فانظر ما اقتطعه هذا السيد من عبارة الطبراني ، حيث قال :
عن الطبراني : كان بلال يؤذن في الصبح فيقول : حي على خير العمل. (انتهى قوله )
ولكنه بتر بقية النص وهو :
فأمر رسول الله ( أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم وترك حي على خير العمل .
فماذا نطلق أيها القارئ على مثل هذا السيد ؟ اترك الجواب لك ؟؟
رواية كنز العمال
كان بلال ينادي بالصبح فيقول :
حي على خير العمل فأمره النبي ( أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم، وترك حي على خير العمل(2) .
أقول :
وهذا المصدر الثاني الذي اعتمده الميلاني والنص فيه لا يختلف عن نص الطبراني لانه قد نقله منه ، فلو سهى أو اخطأ عن النص الأول فمن المفروض أن لا يسهو ويخطئ عن النص الثاني* .(62/11)
وهكذا وقفت عزيزي القارئ على كذب السيد وتدليسه في النقل كما نقل من قبله شيوخه وأساتذته ، وان ما سطره الميلاني من الكذب كان على شكل محاضرات ألقاها على جمع كبير من الشيعة في إيران مسجلة ومنشورة على الانترنيت ، ومن ثم طبعت على شكل كتاب ، فان كان قد اخطأ في المحاضرة لعجلته في الكلام ، فلقد كان من الأولى عند طباعة الكتاب أن يراجع ما ذكره، هذا السيد الذي أطلق عليه في كتابه ( المحقق الكبير حجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد علي الحسني الميلاني ) .
ولو لم يكن في كتاب هذا الحجة إلا ما في هذه الجمل من التدليس والتمويه، والقول المزور ، والفرية الشائنة ، والكذب الصريح ، لكفى به عاراً وشناراً .
اذ خان الميلاني في نقل الحديث ( ومن لا أمانة له لا دين له ) .
ولقد حذر الإمام جعفر الصادق الشيعة من الرواة الكذابين في عصره عندما قال كثرت علينا الكذبة* ولو كان ـ رحمه الله ـ يعلم الغيب لنبه على الكذابين من العلماء المتأخرين من أمثال الميلاني وعبد الحسين والأميني، فقد فاقوهم كذباً .
ولو تتبعنا ما كتبه عبد الحسين في بقية كتبه**، والأميني***، وغيرهم****، فأننا سوف نجد فيها ما يشيب له الرأس من الكذب والتدليس والافتراء.
تبين لك عزيزي القارىء كم هي كمية الكذب التي افتراها علماء الشيعة على اهل السنة عندما كتبوا عنهم ، وهذا الكذب الذي هو طبيعة وسليقة وعقيدة لم تقتصر على اهل السنة فقط ، وانما هذه الطبيعة تظهر كذلك واضحة وجلية عندما تحصل خلافات بين علماء المذهب انفسهم ، فسانقل لك مثال واحد يبين لك هذه الحقيقة .
الكذب بين علماء المذهب
وهذا المثال حصل بين علمين من علماء الشيعة وهم السيد اية الله محمد حسين فضل الله الممثل باحد تلاميذه وهو الشيخ جعفر الشاخوري ، والثاني اية الله السيد مرتضى العاملي .(62/12)
فكما هو معروف للمتتبعين كيف شنت على محمد حسين فضل الله المرجع الشيعي المعاصر في لبنان حمله قاسية من الطعن والشتائم ، والذي كان على رأس هذه الحملة اية الله السيد مرتضى العاملي وتلاميذه ، ذكر لنا الشاخوري اسباب هذه الحملة ، فقال :
ان من أسباب هذه الحملة تعود إلى دعوته إلى محاكاة التاريخ والتحقق من حوادثه بشكل علمي ، وانه دعا كبار العلماء على مستوى العالم الإسلامي لدراسة الحوادث التاريخية وأسباب الخلاف ومعالجتها بشكل موضوعي وعلمي من خلال القران الكريم – ومن الأمور التي أنكرها والتي زادت من حدة الهجوم عليه هي مناقشته ورده لكثير من الروايات التاريخية التي تتكلم عن الهجوم على بيت فاطمة رضي الله عنها وحادثة كسر ضلعها -
فتركزت الحملات ضد مرجعيته ، على صورة مناشير ، وكتب ، وكتيبات مجهولة الكاتب تارة ومعلومة الكاتب أخرى ، ويجمعها أسلوب التشهير، والشتائم ، والسباب وان اختلفت في درجته .
وقد وصل البعض فيها إلى حد الجنون الهستيري إذ طالت شتائمه حتى من يمر قرب منزل سماحته ! بينما اتخذ البعض الآخر أسلوب تحريف كلام سماحته ، ونسبت الآراء الغريبة التي لا يصدقها حتى المجانين ، كجواز الدخول في نوادي العراة ، وجواز العمل بالقياس محققين المثل العامي القائل:
من أين عرفت الكذب ؟ قال : من كبرها !(1)
كتب اؤلفت تطعن بالطرفين
فحصل بين الاثنين سجال وصراع شديد تمثل بكتب اؤلفت تطعن بفضل الله منها:
( كتاب مأساة الزهراء ، كتاب خلفيات كتاب مأساة الزهراء ، الانبياء فوق الشبهات تعرية كتاب مراجعات في عصمة الانبياء ، حوار مع فضل الله حول الزهراء ) .
وغيرها الكثير من الكتب التي تتحدث ضمناً عن هذه القضية كـ ( عصمة المعصوم ، وابهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد ).
وفي المقابل كتب تلاميذ فضل الله ، وعلماء من المذهب الشيعي عدداً من الكتب للدفاع عنه والطعن بالعاملي منها :(62/13)
( مرجعية المرحلة وغبار التغيير ، ومراجعات في عصمة الأنبياء ، وخلفيات ضلت السبيل ، وحركية العقل الاجتهادي لدى فقهاء الشيعة الإمامية ، وكتاب مأساة كتاب المأساة ، خلفيات كتاب مأساة الزهراء ، هوامش نقدية دراسة في كتاب مأساة الزهراء ) وغيرها الكثير والقادم اكثر لان الحملة بين الطرفين مستعرة لحد الان .
حجم الكذب بين الطرفين
وما حوته هذه الكتب من الردود غير التفسيق والتكفير والطعن والاخراج من الملة وظاهرة الكذب من الطرفين ، حيث بلغت من الكثرة بمكان ما لا يعقل ولا يصدق ان قام الطرفان باخراجها على شكل جداول حيث قال الشيخ جعفر الشاخوري في كتابه مرجعية المرحلة وغبار التغير:
عدد السيد مرتضى العاملي لي (94) تحريفاً معنوياً او لفظياً و(39) كذبة في جداول طويلة اما انا فلا استطيع عد الكذبات لانها تحتاج الى تضييع وقت كثير في اشياء لا اظن انها تمر على من يحسن القراءة والكتابة .
ثم وجه الشاخوري انتقاداً لاذعاً للعاملي فقال :
انني كنت سابقاً اعيش خلف كتب سماحة السيد ولكنني الان اعيش خلف ركام من اكاذيبكم التي لا نهاية لها وسوف نقف جميعاً امام الله الذي لا ينفع معه بضاعة الكذب .
وقال الشاخوري :
عرض السيد مرتضى العاملي في كتابه جدولاً طويلاً من (190) مفردة تكفل هو بصياغتها خلافاً لنصوصها الاصلية من اقوال السيد محمد حسين فضل الله، وقد درست هذه الـ (190 ) مفردة فوجدت ان (8) مفردات فقط هي التي يلتزم بها سماحة السيد ، وثلاثة مفردات نقلها بدقة ، اما بقية المفردات وهي (179) فهي بين عبارات مقطعة الاوصال ، وبين عبارات محرفة وعليه فتكون نسبة الدقة في النقل (3 / 190) أي ما يعادل (1,6 %) .
ونسبة الصدق النسبي (11/190) أي ما يعادل (6%)(1).(62/14)
وصرح فضل الله بلغة واضحة وبالفم الملان : ان ما نسب اليه 90% كذب و10% منه تحريف للكلام عن مواضعه ، بل صرح في مكان اخر انه يمكنه القول بان 99،99% مما يقال وينشر ضده هو كذب وافتراء وبهتان(2).
كيف الحال عندما ينقلون من كتب اهل السنة
اقول :
لا تكشفن مغطاً فلربـ ـما كشفت جيفة
ولو احببنا المزيد لزدنا لكنا اثرنا هنا الايجاز وما سلف فيه الكفاية لمن كان له دراية ، ولك ان تتصور عزيزي القارىء ما هو مستوى الدقة في النقل ونسبة الصدق عندما ينقل الشيعة من كتب اهل السنة اذا كان هذا حاله عندما ينقل احدهم من الاخر معتمدين على مصادرهم وكتبهم انفسهم ، فهذا الكذب قد حصل بين ايتين من ايات الله وليس بين عوام الشيعة ؟ هذا الكذب حصل بين ركاب سفينة اهل البيت وهم اتباع مذهب واحد ؟! فكيف سيكون الحال عندما ينقلون عن الاعداء – اهل السنة – وهم يتربصون بهم الدوائر؟!!
كلمة الى دعاة التقريب
ومن نافلة القول ، اوجه كلامي الى دعاة التقريب ، فاقول :
انظروا ماذا فعل الشيعة باحد كبار مراجعهم ( اية الله محمد حسين فضل الله)، (سب ، لعن ، تكفير ، اخراج من الملة ) بل قد وصل الحال بينهم - في دمشق عند مرقد السيدة زينب - حد الاقتتال لولا تدخل قوات الامن السورية، بل قد قتل احد انصار فضل الله ، وصاروا يهتفون بحق السيد فضل الله الاهازيج المهينة، ومنها :
اية الله شلون اية ** يروح فدوة للمطايا
كل هذه الاشياء حصلت لانه قد انكر قضية تاريخية - كسر ضلع الزهراء رضي الله عنها (مع العلم انه لم ينكر حادثة الهجوم على البيت) - والتي لم تثبت عنده بطريق صحيح ، واحس ان ترويج مثل هذه الافكار ما هو الا طعن بشخص الامام علي رضي الله عنه لانه لم يستطع ان يدافع عن زوجته ويحمي بيته .(62/15)
فهل تبتغون من مثل هؤلاء ان يرضوا عنكم ، وعن صحابة رسول الله- وعلى راسهم عمر الذي قام بالهجوم - ؟!! وانتم تنكرون اصل دينهم (الامامة) وهي فوق تلك القضية التاريخية بمئات المراحل ؟!!
سادساً
قال عبد الحسين :
وانما أمر به الخليفة الثاني فيما دلت عليه
الأحاديث المتواترة من طريق العترة الطاهرة
سادساً :
إن هناك أحاديث متواترة من العترة تخالف ذلك حيث قال :
وانما أمر به الخليفة الثاني فيما دلت عليه الأحاديث المتواترة من طريق العترة الطاهرة .
أقول :
إذا أردت أن تثبت أمراً على المخالفين فينبغي عليك إلزامهم بما هو عندهم وإلا فالتواتر سواء كان ثابتاً عن العترة أم غير ثابت فلن يقدم شيئاً ولن يؤخر في الحكم على المخالفين لعدم ثبوت الحجية فيما نقل عندهم ، هذا على التنزل والتسليم بثبوت هذا التواتر وإلا ما هو الأساس في اثباته وترسيخه ، وهل هو حقاً ثابت ام الحق خلافه ؟
روايات أهل البيت تذكر عبارة الصلاة خير من النوم
وردت أحاديث في كتب الشيعة عن أئمة أهل البيت تذكر عبارة الصلاة خير من النوم في الأذان .
بل ان بعض علماء الشيعة يذهب إلى قول أهل السنة في جواز قول الصلاة خير من النوم في الأذان .
واليك بعض هذه الروايات وأقوال العلماء :
الرواية الأولى:
جعفر بن الحسن المحقق في المعتبر نقلاً من كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله ( قال :
إذا كنت في أذان الفجر فقل الصلاة خير من النوم بعد حي على خير العمل، ولا تقل في الإقامة الصلاة خير من النوم إنما هذا في الأذان(1) .
الرواية الثانية:
فأما ما رواه محمد بن علي بن محبوب ، عن أحمد بن الحسن ، عن الحسين، عن حماد بن عيسى ، عن شعيب بن يعقوب ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ( قال النداء والتثويب في الأذان من السنة(1).
الرواية الثالثة:(62/16)
عن أبي الحسن ( قال : سألته عن الأذان قبل طلوع الفجر فقال ( لا إنما الأذان عند طلوع الفجر أول ما يطلع ) ، قلت : فإن كان يريد أن يؤذن للناس بالصلاة وينبههم ، قال :
فلا يؤذن ، ولكن فليقل وينادي بالصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم يقولها مراراً فاذا طلع الفجر اذن.(2)
الرواية الرابعة :
عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة عن العلا ، عن محمد بن مسلم ،عن أبي جعفر( قال : كان أبي ( زين العابدين ) ينادي في بيته بالصلاة خير من النوم ولو رددت ذلك لم يكن به بأس.
قال الطوسي : وما أشبه هذين الخبرين مما يتضمن ذكر هذه الألفاظ فإنها محمولة على التقية لإجماع الطائفة على ترك العمل بها (3)*.
ورواه ابن إدريس في أخر السرائر نقلاً من كتاب محمد بن علي بن محبوب.
الرواية الخامسة :
عن أحمد ، عن الحسين ، عن فضالة ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي جميعاً ، عن أبي عبد الله ( أنه حكى لهما الأذان فقال :
الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر، الله أكبر ، أشهد أن لا اله إلا الله ، أشهد أن لا اله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، حي على خير العمل ، حي على خير العمل ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا اله إلا الله ، لا اله إلا الله والإقامة كذلك .
ورواه الصدوق بإسناده عن أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي مثله وزاد : ولا بأس أن يقال في صلاة الغداة على أثر حي على خير العمل :
الصلاة خير من النوم مرتين للتقية (1).
الرواية السادسة :(62/17)
قال صاحب المعتبر في كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي من أصحابنا قال : حدثني عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: الأذان الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله، وقال: في آخره : لا إله إلا الله مرة ، ثم قال : إذا كنت في أذان الفجر فقل (الصلاة خير من النوم) بعد حي على خير العمل ، وقل بعد الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، ولا تقل في الإقامة الصلاة خير من النوم ، إنما هو في الأذان(1) *.
وختاماً اقول :
حكم (الصلاة خير من النوم) واثباتها عند الشيعة بهذه الروايات اقوى من اثبات (الشهادة الثالثة) - اشهد ان علياً ولي الله – والتي لم تثبت حتى برواية موضوعة او مكذوبة.
فمن اخذ بالقول من العلماء بالصلاة خير من النوم – كما سيتبين لاحقاً - فله وجه من الصحة لا ينكر عليه .
وان قالوا ان هناك روايات تنهي عن ذلك قلنا هناك الكثير من الروايات المتعارضة في المذهب ولكن ياخذ بها العلماء وهذه ليست بدعاً عن غيرها.
فوالله لو عثر علماء الشيعة على رواية واحدة من مثل هذه الروايات الصحيحة والصريحة تثبت (الشهادة الثالثة) لطاروا بها فرحاً ولرقصوا لها طرباً ! ولكن انى لهم هذا !
تبريرهم عدم الآخذ بهذه الروايات من باب التقية
لقد كان للتقية دورها في تحريف الأذان ، إذ وردت روايات كثيرة في كتبهم بصيغ مشابهة لأذان أهل السنة ، ولكنهم كعادتهم استخدموا التقية كاداة ووسيلة للتخلص من هذه الروايات التي تشبه الى حد قريب مذهب أهل السنة - مذهب العامة- فالفلاح والرشاد في خلافهم كما نسب إلى الصادق :
في الحديث المروي في الكافي ( ما خالف العامة ففيه الرشاد(1) )*(62/18)
فالتقية عند الشيعة الإمامية ركن مهم من أركان الدين كالصلاة بل هي أعظم حسب ادعائهم ، وكما بينا ذلك في كتابنا (الشهادة الثالثة في الأذان حقيقة أم افتراء) كيف ان التقية لعبت دوراً كبيراً في تحريف الروايات الصحيحة في الأذان من باب التقية ، واليك بعض الروايات عن الأئمة تبين فضل التقية، ولكن قبل ذلك اذكر لك تعريفها وكما عرفها المفيد فقال :
( التقية كتمان الحق وستر الإعتقاد فيه وكتمان المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراًَ في الدين أو الدنيا …… )
* قال الصادق( :
لو قلت أن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً (1) .
* وقال الباقر( :
إن تسعة أعشار الدين التقية ، ولا دين لمن لا تقية له (2) .
وعدّو ترك التقية ذنباً لا يغتفر على حد الشرك بالله .
* يغفر الله للمؤمن كل ذنب يظهر منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين:
ترك التقية ، وتضييع حقوق الإخوان(3) .
والتقية عند الشيعة حالة مستمرة وسلوك جماعي دائم .
* قال ابن بابويه في كتاب ( الاعتقادات ) :
والتقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم ، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله تعالى وعن دين الإمامية وخالف الله ورسوله والأئمة(4).
* عن الباقر ( قال :
لا تبثُوا سرنا ولا تذيعوا أمرنا ….
* عن الصادق( قال :
إنكم على دين من كتمه أعزه الله ومن أذاعه أذله الله(5).
ويؤكدون على أن عشرة الشيعة مع أهل السنة بالتقية وقد ترجم لذلك الحر العاملي فقال :
باب وجوب عشرة العامة - أهل السنة - بالتقية(1).
التقية أصبحت شماعة
نفهم من ذلك أن التقية قد أصبحت شماعة لكل حديث لا يعجب علماء الشيعة ولا يوافق أهواءهم ، لذا فهم يتركون العمل به وإن كان صحيح السند، بل إن صحة هذه الروايات سنداً هي التي ألجأتهم للقول بالتقية .(62/19)
فكيف نصدق بأن الإمام السجاد كان يخاف الناس كل هذا الخوف فينادي بالصلاة خير من النوم سراً في بيته علماً بان هذا القول يخالف عقيدته ؟
وهل هناك من يقف على باب داره عند الفجر ليستمع إليه ؟
ومن يكون ذلك ؟ هل من السلطة الحاكمة ؟ أَم هو من شيعة الإمام ؟
فاذا كان من السلطة الحاكمة فهل كانت عقيدة السجاد خافية عليهم فيرسلون من يتجسس عليه ليسمع آذانه لصلاة الفجر؟
وإن كان من شيعته فهل كان الرجل يتقي شيعته ؟
وهل كان الإمام يصلي في بيته ويترك فضل صلاة الجماعة في المسجد ؟
أسئلة كثيرة تثير نفسها ولكن ما من إجابة مقنعة ، لافعال قام بها إمام من أئمة الهدى لا يخشى إلا الله بقوله وفعله .
أحاديث الشيعة مختلفة متضادة
المتتبع للمرويات المسطرة في كتب الإمامية ، يجد إن تلك الروايات في مجملها روايات متناقضة ومتضادة بشكل لا نستطيع معه الجمع بينهما فهذا الطوسي يصرح في كتابه تهذيب الأحكام فيقول :
لما آلت إليه أحاديثهم - أي أحاديث الأئمة - من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه 000
* وقد اعترف أيضاً فقال :
بأن هذا الاختلاف قد فاق ما عند أصحاب المذاهب الأخرى ، وإن هذا كان من أعظم الطعون على مذهبهم وأنه جعل بعض الشيعة يترك هذا المذهب لما اكتشف له أمر هذا الاختلاف والتناقض(1).
وكان من آثار عقيدة التقية ، ضياع مذهب الأئمة عند الشيعة حتى ان كثيراً من شيوخهم لا يعلمون الكثير من أقوالهم أيها تقية وأيها حقيقة .
* وقد اعترف صاحب الحدائق يوسف البحراني بأنه لم يعلم من أحكام دينهم إلا القليل بسبب التقية حيث قال :
فلم يعلم من أحكام الدين على اليقين إلا القليل لامتزاج أخباره بأخبار التقية(2).(62/20)
بعد هذا كله أي الأقوال أحق بالتصديق أهو قول الأمام المعصوم الذي ينادي في آذانه بالصلاة خير من النوم - الذي سبق الإشارة اليه - أم قول البحراني ؟
اختلاف علماء الشيعة في تحديد أي الروايات صدر تقية
* قال الشيخ جعفر الشاخوري في كتابه حركية العقل الاجتهادي :
إننا نجد إن كبار علماء الشيعة يختلفون في تحديد الروايات الصادرة تقية والروايات الصادرة لبيان الحكم الواقعي .
وخذ مثالاً على ذلك مسالة نجاسة الخمر ، فيما يفتي الكثيرون بالنجاسة ومنهم الشيخ الطوسي ، لانهم حملوا روايات الطهارة على التقية ، نجد أن هناك من الفقهاء من يفتي بالطهارة كالمقدس الاردبيلي وغيره لانهم حملوا روايات النجاسة على التقية ، وهذا يكشف عن التخبط في استخدام التقية لدى القدماء .
* وقال أيضاً :
لو أردنا استعراض غيره من عشرات الأمثلة لألفنا كتاباً خاصاً يؤكد فوضى تحديد موارد التقية ، التي تشبه فوضى ادعاءات الإجماع في مسائل الفقه مما أدى إلى اختلاف كثير من فتاوى العلماء تبعاً لتحديد ما هي الروايات الصادرة عن التقية وغيرها(1) .
* وكذلك اشتكى من هذا الاختلاف الشيخ الفيض الكاشاني صاحب كتاب الوافي أحد الكتب الثمانية المعتمدة عند الشيعة وصاحب تفسير الصافي ، فقال عن اختلاف طائفته :
تراهم يختلفون في المسألة الواحدة إلى عشرين قولاً أو ثلاثين قولاً أو أزيد بل لو شئت أقول لم تبق مسألة فرعية لم يختلفوا فيها أو في بعض متعلقاتها(2).
* واختار صاحب الحدائق كما في الدرر النجفية إمكانية أن يفتي الإمام تقية برأي ليس موجوداً حتى عند العامة وذلك لمحض المخالفة بين أصحابه .
حيث يقول :
بأن الأئمة يخالفون بين الأحكام وإن لم يحضرهم أحد من أولئك الأنام فتراهم يجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة متعددة وإن لم يكن بها قائل من المخالفين(3).
الرسول( يتقي عائشة(62/21)
ذكر العلامة الشيخ محمد جميل حمود في كتابه الفوائد البهية في شرح عقائد الإمامية إشكالاً يرد على الشيعة من قبل المخالفين حيث قال :
كيف تقولون بكفر المخالف مع ان النبي ( لا يجتنب أسار المخالفين وكان يشرب من المواضع التي تشرب منها عائشة المعروفة بعدائها لأمير المؤمنين( .
فأجاب :
إن مساورة النبي( لعائشة وأمثالها كانت تقية ومصلحة (1) *.
الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم
هناك شواهد كثيرة تفيد ان التقية عندهم ليست هي التقية الشرعية المنوطة بالضرورة بل هي الكذب ، والخداع ، وتحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، وتغيير شرع الله ، فمن ذلك انهم نسبوا إلى رسول الله ( العمل بالتقية بلا ضرورة حيث رووا عن أبي عبد الله ( انه قال :
لما مات عبد الله بن أبي سلول حضر النبي( جنازته فقال عمر لرسول الله ( ألم ينهك الله أن تقوم على قبره فقال له :
ويلك ما يدريك ما قلت إني قلت اللهم احش جوفه ناراً ، واملا قبره ناراً، واصله ناراً .
قال أبو عبد الله ( : فبدا من رسول الله ما يكره(1) .
اباء النبي واجداده يستخدمون التقية
تصور حتى اباء النبي( واجداده يستخدمون التقية وهذا ما اتفقت عليه الامامية، وحالهم هذا يدل على انهم يعرفوها قبل ان تشرع في القران .
يقول محمد اصف محسني في كتابه مشرعة بحار الانوار ناقلاً كلام المجلسي في بحار الانوار:
اتفقت الامامية على ان والدي الرسول وكل اجداده الى ادم كانوا مسلمين بل كانوا من الصديقين ، اما انبياء مرسلين ، او اوصياء معصومين ولعل بعضهم لم يظهر الاسلام تقية(2).
يصلون وراء ائمة اهل السنة ويلعنونهم
يفرح البعض وهم يشاهدون الشيعة يقتدون بائمة اهل السنة في الصلاة ولكن لا يعلمون حقيقة هذه الصلاة وما يظمره الشيعي في قلبه على هذا الامام ، واليك هذه الرواية لتعرف هذه الحقيقة :(62/22)
نظر الباقر الى بعض شيعته وقد دخل خلف بعض المخالفين الى الصلاة واحس الشيعي بان الباقر قد عرف ذلك منه فقصده وقال :
اعتذر اليك يابن رسول الله من صلاتي خلف فلان فاني اتقيه ولولا ذلك لصليت وحدي .
قال له الباقر :
ياأخي انما كنت تحتاج ان تعتذر لو تركت ، ياعبد الله المؤمن ما زالت ملائكة السموات السبع والارضين السبع تصلي عليك وتلعن امامك ذاك وان الله تعالى امر ان تحسب لك صلاتك خلفه للتقية بسبعمائة صلاة لو صليتها وحدك فعليك بالتقية ، واعلم ان الله تعالى يمقت تاركها كما يمقت المتقي منه، فلا ترض لنفسك ان تكون منزلتك عند الله كمنزلة اعدائه(1) .
وجد الأمام لحفظ الدين
لقد أدعى الأمامية أن الله قد وضع لنا إماماً معصوماً ، ليحفظ لنا الدين من الاختلاف ، والتفرق ، والضياع ، فما الذي حصل بعد هذا كله ؟
الذي حصل هو أن الإمام باستخدامه التقية قد حفظ نفسه وضيع علينا الدين، فأصبح التحاكم في فهم أقوال المعصوم إلى العلماء والمجتهدين لكي يبينوا لنا القول الذي قاله الإمام أتقية هو أم حقيقة ، ومن دون أن يذكر هؤلاء العلماء ميزاناً واحداً يزِنون به قول المعصوم ، إلا جعلهم مخالفة أهل السنة العلامة الفارقة بين كون كلام الإمام قد صدر منه تقية أم لا .
وما دام الأمر لا يوزن إلا بالهوى فما المانع من أن يكون القول الآخر اعني القول المخالف لأهل ألسنة هو التقية والقول الموافق هو رأي الأئمة ؟
اعتقد إن القوم سيسكتون ويتواصون بهذا السكوت لسبب سهل يسير وهو عدم معرفتهم بالجواب … ونصف العلم لا ادري .
وأخيراً وقبل أن اختم القول بهذا القدر من الكلام أحب التنبيه على أمر أخير وهو :
إن أهم ثمرة جناها – في رأينا - الشيعة من قولهم بالتقية هي أنها أصبحت مخرجاً من كثير من الأقوال والأفعال المتناقضة المتضادة التي حوتها كتب مذهبهم ، فلم يكن من عجب أن تشبث القوم بها على مر الدهور والسنين .(62/23)
علماء الشيعة يفتون بجواز قول (الصلاة
خير من النوم) في الأذان
لقد أفتى مجموعة من علماء الشيعة بجواز قول (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر ومنهم .
أبو علي محمد بن أحمد بن الجنيد الكاتب المشهور ( بالإسكافي ) ووافقه في ذلك العلامة ( الجعفي ).
وقد ذكر تصريحهم بجواز قول (الصلاة خير من النوم) الشيخ جعفر الشاخوري البحراني في كتابه حركية العقل الاجتهادي لدى فقهاء الشيعة الإمامية في باب مخالفات الشيخ الإسكافي للمشهور حيث ذكر منها :
جواز الإتيان بعبارة (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر ، ووافقه في ذلك الجعفي، وأشار إلى المصدر وهو مفاتيح الشرائع لمحسن فيض الكاشاني(1).
واثبت أقوال ( الجعفي ، والاسكافي ) في كتبه كل من هؤلاء العلماء :
[ الشهيد الأول / الدروس ج1 ص 162 – السيد محمد العاملي / مدارك الأحكام ج3 ص 290 – محمد حسن النجفي / جواهر الكلام ج9 ص 112]
ترجمة ابن الجنيد
وقد ترجم كثير من علماء الشيعة لأبن الجنيد الإسكافي بكتبهم لعلمه وعظمة منزلته.
قال النجاشي :
بعد ذكره (… وجه في أصحابنا ، ثقة ، جليل القدر ، صنف فأكثر )(2)
وقال العلامة في الخلاصة :
(… كان شيخ الإمامية ، جيد التصنيف حسنه ، وجه في أصحابنا ، ثقة ، جليل القدر صنف فأكثر.
قيل انه كان عنده مال للصاحب ( وسيف أيضاً وانه أوصى به إلى جاريته فهلك ذلك…)(1).
وفي الإيضاح :
(… وجه في أصحابنا ، ثقة جليل القدر ، صنف فأكثر كان عنده مال للصاحب ( وسيف فأوصى به إلى جاريته فهلك…)(2)
قال اليافعي وغيره :
( يقتضي أن يكون ابن الجنيد من رجال الغيبة الصغرى معاصراً للسفراء بل ما ذكره النجاشي والعلامة من أمر السيف والمال قد يشعر بكونه وكيلاً )(3) .
في رجال بحر العلوم المعروف بالفوائد الرجالية قال :(62/24)
( محمد بن أحمد بن الجنيد أبو علي الكاتب الإسكافي ، من أعيان الطائفة، وأعاظم الفرقة وأفاضل قدماء الإمامية ، وأكثرهم علماً ، وفقهاً ، وأدباً، وأكثرهم تصنيفاً وأحسنهم تحريراً ، وأدقهم نظراً ، متكلم فقيه ، محدث أديب، واسع العلم صنف في الفقه والكلام والأصول والأدب والكتابة وغيرها ، تبلغ مصنفاته غير أجوبة مسائله نحو من خمسين كتاباً منها كتاب تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة كتاب كبير نحو من عشرين مجلداً يشتمل على جميع كتب الفقه وعده كتبه تزيد على مائة وثلاثين كتاباً…).(4)
وقال عنه السيد الحسن الصدر الكاظمي في كتابه تأسيس الشيعة :
( ابن الجنيد شيخنا الأقدم ، وفقيهنا الأعظم…) .
ثم قال :
( كان في عصر الشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني إمام المحدثين من أهل القرن الثالث ، ومعاصر أيضاً للشيخ علي ابن بابويه القمي الشيخ الصدوق، وللمولى أبي القاسم حسين ابن روح السفير الثالث…).(1)
هذه ترجمة ( الإسكافي ) و ( الجعفي ) غني عن التعريف ، فقد ذكر محسن فيض الكاشاني في كتابه مفاتيح الشرائع بأنه كان يقول أيضاً في الأذان الصلاة خير من النوم .
ترجمة الجعفي
محمد بن احمد بن إبراهيم بن سليم الجعفي الكوفي المعروف بابي الفضل الصابوني والمشهور بين الفقهاء بصاحب الفاخر ، والجعفي على الإطلاق .
قال السيد بحر العلوم :
من قدماء أصحابنا ، وأعلام فقهائنا من أصحاب كتب الفتوى ، ومن كبار الطبقة السابعة ممن أدرك الغيبتين الصغرى والكبرى ، عالم ، فاضل ، فقيه، عارف بالسير والأخبار والنجوم ، له كتب منها كتاب الفاخر وهو كتاب كبير يشتمل على الأصول ، والفروع ، والخطب ، وغيرها ، وكتاب تفسير معاني القران ، وكتاب المحبر ، وكتاب التحبير .
ذكره الشيخ ، والسروري في باب الكنى , والنجاشي في الأسماء ، والعلامة، وابن داود في القسم الأول من كتابيهما , وترجم له كذلك الميرزا عبد الله أفندي في رياض العلماء(2) .(62/25)
قال جعفر السبحاني :
عده الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام الهادي (المتوفى عام 254 هـ) وعلى ذلك فيكون متقدماً على الكليني بقليل ، فلو افترضنا انه من مواليد (240 هـ ) يكفي في عده من أصحاب الإمام الهادي لقاؤه غير مرة ، وتوفي ( عام 320 هـ ) فيكون له من العمر ( 80 عاماً )(1).
الحق الذي أنطقهم
فأقول :
هل ( الإسكافي ) و( الجعفي ) وهما من كبار علماء الشيعة الإمامية ، وقد قالا بجواز الإتيان بعبارة (الصلاة خير من النوم) ، كما قررها علماء أهل السنة اقول هل هم من اتباع عمر بن الخطاب ( ؟
أم أن عمر ( قد أمرهم بذلك فاتبعوه خوفاً منه ؟
ولكنه الحق الذي أنطقهم فلله الحمد والمنة*.
الفرق بين (الشهادة الثالثة) و (التثويب)
مما تقدم نرى أن عبارة ( الصلاة خير من النوم ) عبارة قد وردت عن النبي( وآل بيته بروايات صحيحة ، واقرها بعض علماء الشيعة .
ورفعت في أذان أهل السنة على زمن النبي محمد ( ومن بعده الخلفاء الراشدين ( أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ) ، وبقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ومن تبعهم بإحسان ، إلى يومنا هذا .
والفرق بينها وبين عبارة ( أشهد أن علياً ولي الله )* :
* أن الأخيرة لم ترد عن النبي ( ولا عن أهل بيته.
* وينكرها كثير من علماء الشيعة .
* ولا تجدها عند أي مذهب من مذاهب المسلمين .
* ولم ترفع من مآذن المسلمين لا على زمن النبي ( ولا على زمن من جاء من بعده من الخلفاء الراشدين وصحبه المؤمنين رضي الله عنهم وأرضاهم، وإنما هي من وضع المفوضة الملعونين على لسان الأئمة ، وقام بنشرها بالسيف إسماعيل الصفوي** .(62/26)
الأصل الخامس
تحريف القرآن
الفصل الأول
الإثبات القاطع لتهمة التحريف عند الشيعة
ليس من قصدي في طرق هذا الموضوع استقصاء الأدلة القطعية على ثبوت هذه العقيدة الكفرية في حق الإمامية الاثني عشرية. فليس الأمر في حاجة إلى كبير جهد لأن يكتشف! ولا أنا أول من (سُجلت) له (براءة) اكتشاف لأفوز بوسام هذا السبق فأحتاج - من أجل بيان هذا (الاكتشاف) العجيب! - إلى بسط الأدلة. وليس الموضوع برمته من الخفاء بحيث يحتاج إلى رحلة استكشافية! بل هو مصرح به في أمهات كتبهم وعلى ألسنة كبار مراجعهم وعلمائهم بلا غموض ولا مواربة!
ويكفي أن ترجع إلى ما سطره علي بن إبراهيم القمي - شيخ الكليني - في (تفسيره)، والكليني في (كافيه)، والنوري الطبرسي في كتابه (فصل الخطاب..)، وأبو الحسن العاملي في مقدمته ( مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار) على تفسير (البرهان) لهاشم البحراني، والطبرسي في (احتجاجه)، ونعمة الله الجزائري في (أنواره)… وقائمة طويلة لا تنتهي من المصادر والمراجع لمن أراد أن ينظر أو يراجع.
والأمر – بعد ذلك - ثابت لديهم ثبوت (الإمامة). هكذا يصرح محققوهم، يقولون: إن روايات التحريف متواترة كتواتر روايات (الإمامة) وطرقها واحدة. انظر - مثالاً لذلك - ماذا يقول محمد باقر المجلسي عن أخبار أو روايات التحريف: (وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة وطرحها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأساً. بل اعتقادي أن الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن أخبار الإمامة)(1). وكذا قال
النوري الطبرسي.
فإنكار التحريف يستلزم إنكار (الإمامة) ضرورة ولا بد. هذا نص قولهم! فما يفعله بعضهم من الإنكار عندما يحرج على رؤوس الملأ، أو في الكتب الدعائية المؤلفة خصيصاً لترويج المذهب مثل كتاب (المراجعات)- مكابرة يستجيزونها تقيةً خوف الفضيحة، لعظم الجريمة!
أقسام المنكرين للتحريف من الإمامية
__________
(1) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول 2/525 .(63/1)
والمنكرون لوجود هذه العقيدة لديهم من الإمامية: إما أنهم لم يطلعوا على حقيقة مذهبهم فنحيلهم إلى مصادرهم ليطلعوا عليها بأنفسهم، أو إلى بعض من كتب تفصيلاً في هذا الشأن. ولا بأس أن أقيد بعض الدلائل التي تكفي طالب الحق. وإما أنهم يعلمون علم اليقين لكنهم يكابرون! وهؤلاء لا نحيلهم إلى شيء لأنهم ليسوا بحاجة إلى شيء! ولا ينفع معهم الإكثار من إيراد الأدلة لأنهم يعلمون ولكن.. (يتقون) فهم لا يهتدون(1)!
علماء الإمامية متواطئون على القول بالتحريف
القائلون بالتحريف من الإمامية صنفان:
الأول: علماء (لع) مقصودهم هدم الدين: يعلمون أن الدين كله قائم على أساس حفظ القرآن من الزيادة والنقصان: فبثبوته تثبت أصول الدين جميعا، وبانهياره تنهار هذه الأصول جميعا.
هل أدركت الآن السر الذي من أجله ابتدأت حجة الله تعالى على خلقه بتحرير
__________
(1) أجرت القناة الفضائية (المستقلة) في لندن مناظرات عديدة في رمضان الماضي (1423هـ) بين أهل السنة والشيعة. في إحدى هذه المناظرات استشهد أحد المتناظرين الدكتور أبو المنتصر البلوشي بكتاب (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب) للمخذول الميرزا حسين تقي النوري الطبرسي على ثبوت القول بالتحريف لدى الإمامية الاثنى عشرية، فما كان من مناظره الاثني عشري الدكتور عبد الحميد النجدي –وهو أستاذ في جامعة العلوم الإسلامية في لندن- إلا أن ينبري مستنكراً بشدة قائلاً: إنكم تفترون على علمائنا. إن هذا الكتاب إنما ألفه الطبرسي ليرد على عقيدة التحريف ويبطلها لا ليثبتها. وقمت من فوري إلى مكتبتي وأخرجت منها نسخة الكتاب لأريه أفراد عائلتي الذين كانوا ساعتها يتحلقون حول الشاشة يشاهدون المناظرة. فعجبوا أشد العجب من جرأة المناظر الاثني عشري على الكذب وشدة مراسه فيه!!(63/2)
هذه القضية الكبرى قبل أي شيء آخر: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } (البقرة:2). ثم ثنّت بإثباتها: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (البقرة:23)
ولأن أولئك العلماء يشعرون أن أكبر غصة في حلوقهم هي حين يطالبون بالنص الصريح من القرآن على ما أضافوه من أصول إلى الدين – فلكي يستريحوا - قالوا بنقصه وتحريفه. ولذلك هم يؤكدون على نقصانه دون الزيادة فيه!
الثاني: عوام استزلهم أولئك العلماء (لع) بعد أن رسّخوا لديهم الاعتقاد بخيانة الأصحاب- نقلة الكتاب. فلما استجازوا الطعن في الناقل استسهلوا انتقال الطعن إلى المنقول. وهو المقصود.
فهل أدركت السر الذي من أجله أكد القرآن تأكيداً بليغاً على عدالة الصحابة ووجوب اتباعهم وأخذ الدين عنهم. وهذه هي الغصة الثانية بعد الأولى. ولا تزول إلا بعكس مراد القرآن، أي بتجريحهم. وهذا هو الذي أدى إلى سهولة الاعتقاد بتحريف القرآن ومعه السنة، أي الأحاديث النبوية. أما السنة فيصرحون جميعاً بحقيقة اعتقادهم بتحريفها، ومعه التصريح بالسبب الذي من أجله صاروا يعتقدون هذا الاعتقاد، يقولون: عدم موثوقية نقلتها وأولهم الصحابة. وأما القرآن فيجمجمون عند ذكر عقيدتهم فيه لشناعتها. مع أن الأمرين يشتركان بعلة واحدة هي خيانة النقلة. فمن كان منطقياً مع نفسه عدّى تحريف (السنة) إلى القرآن للسبب نفسه. ومن تناقض فلجهله.
فالذين لا يقولون بالتحريف من الإمامية هم الجهلة فقط – إلا من ندر - أو الذين لا ينتبهون إلى التناقض بين رفض (السنة) وخيانة نقلتها وقبول القرآن مع خيانة نقلته!
أما العلماء فمتواطئون على هذه العقيدة. لكن بين مصرح وملمح. ولنا على ذلك دليل الإجمال، ودليل التفصيل:(63/3)
أما دليل الإجمال: فإن المنكرين يتظاهرون بالقول بتكفير من اعتقد بالتحريف، وخروجه من الملة(1). فلو كانوا صادقين فيما يقولون لصرحوا بكفر من يقول بالتحريف من علمائهم، وهم كثر وكلامهم صريح. ومنهم من أفرده بمؤلف خاص. لكننا لا نجد أحداً من المنكرين من الأولين والآخرين كفّر واحداً من أولئك القائلين بالتحريف على مدار تأريخهم! بل – وفوق ذلك - يدافعون عنهم دفاعاً مستميتاً، ويوثقونهم أعلى ما يكون التوثيق. خذ الكليني والمفيد والمجلسي والطبرسي (لع) مثلاً!
وأما دليل التفصيل: فإن كتب القوم مشحونة شحناً بهذه العقيدة. وهذه شواهد قاطعة على ما أقول:
شواهد قاطعة من كتب الإمامية الاثنى عشرية على التحريف
كثير من علماء الإمامية يصرح تصريحاً بأن القرآن لحقه التحريف من قبل الصحابة الذين تآمروا على علي و(أهل بيته) فمحوا فضائلهم التي وردت بنص التنزيل. بل إن بعض هؤلاء العلماء تجرأوا فأفردوا لإثبات ذلك مصنفات كاملة في هذا الموضوع!! مثل المخذول الميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي (لع) في كتابه (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب). وهو من كبار علماء ومحدثي الطائفة، وموثق لديهم بالإجماع، فهو صاحب أحد الأصول والمراجع الروائية الثمانية المعتمدة لديهم والمسمى (مستدرك الوسائل) الذي قالوا عنه: (لا يمكن أن يصل العالم إلى درجة الاجتهاد حتى يقرأ كتاب المستدرك للنوري الطبرسي). ولمكانته العظيمة عندهم دفنوه بجوار مرقد علي (رض) في الإيوان الثالث من صحن المرقد. قال عنه عباس القمي (وهو تلميذه) في كتاب (الكنى والألقاب): (الشيخ الأجل ثقة الإسلام والمسلمين مروج علوم الأنبياء والمرسلين…إلخ).
__________
(1) من المعلوم لدى المحققين عدم وجود قول محرر لأي عالم معتبر من علماء الإمامية في أي مصدر من مصادرهم بتكفير أحد ممن يعتقد التحريف قطعاً من علمائهم !! سوى أنهم عند الإحراج يذهبون إلى تعميمات لا واقع لها عند التطبيق .(63/4)
عرض موجز لكتاب (فصل الخطاب)
يقول الطبرسي هذا في أول صفحة من كتابه المذكور:
(هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان وسميته فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب). ومخطوطة الكتاب في أربعمئة صفحة. توجد نسخة منها في مكتبة الأوقاف المركزية في بغداد المحروسة تحت رقم (23072). والنسخة الموجودة عندي صورة عنها.
والكتاب كله محاولة مخذولة بذل صاحبها فيها جهداً كبيراً من أجل أن يثبت أمرين اثنين فقط أولهما: تحريف القرآن، والثاني: أن هذا الاعتقاد هو مذهب علماء الطائفة الاثنى عشرية جميعاً. أما من صرح منهم بعدم التحريف فيقول عنهم أن ذلك خرج منهم مخرج التقية. وقد استدل على هذا الخروج باستدلالات قوية. وأوّل كلامهم بأنهم يقصدون القرآن المحفوظ عند (الإمام الغائب).
وملخص الكتاب: ثلاث مقدمات وبابان.
المقدمة الأولى (ص1-23): ذكر فيها جمع القرآن وسببه وأن كيفيته عرّضت القرآن للنقص.
والمقدمة الثانية (ص23-25): ذكر فيها أقسام التغيير الممكن حصوله والممتنع دخوله فيه. وذكر من الصور الحاصلة: نقصان السورة كسورة الحفد وسورة الخلع وسورة الولاية. ونقصان الآية ونقصان الكلمة وتبديلها كتبديل (آل محمد) في سورة آل عمران بـ(آل عمران). ونقصان الحرف كالياء في قوله تعالى: ( يا ليتني كنت ترابا) والأصل ترابيا. يريد النسبة إلى (أبي تراب) أي علي. والهمزة من قوله تعالى (كنتم خير أمة) يريد (أئمة). وترتيب السور وترتيب الآيات وترتيب الكلمات…إلخ.
والمقدمة الثالثة (ص25-35): ذكر فيها طائفة كبيرة من علمائهم الذين قالوا بالتحريف. ومنهم من أفرده بمصنف مستقل. حتى قال: إن هذا مما أجمعت عليه الطائفة إلا من شذ. وحمل قول هؤلاء الشاذين على(التقية).
وأما الباب الأول (ص35-360): فهو في التدليل على وقوع التحريف في القرآن.
والباب الثاني (ص360-398): فهو في الرد على أدلة المنكرين للتحريف.(63/5)
إجماع الطائفة الاثنى عشرية على التحريف
وممن صرح بإجماع علماء الطائفة على هذه العقيدة:
الشيخ المفيد بقوله: (واتفق علماء الإمامية أن أئمة الضلال خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل)(1)
وأبو الحسن العاملي بقوله: (إن تحريف القرآن من ضروريات مذهب الشيعة)(2).
ومنهم نعمة الله الجزائري بقوله:(إن الأخبار الدالة على وقوع التحريف في القرآن كلاماً ومادةً وإعراباً هي أخبار مستفيضة ومتواترة وصريحة . وإن علماء المذهب قد
أجمعوا وأطبقوا على صحتها والتصديق بها)(3).
وعدنان البحراني بقوله:(الأخبار في تحريف القرآن لا تحصى وكثيرة وقد تجاوزت حد التواتر وهو إجماع الفرقة المحقة وكونه من ضروريات مذهبهم)(4).
بل تجرأ بعضهم كالشيخ يحيى تلميذ الكركي فادعى إجماع أهل القبلة من الخاص والعام على هذه العقيدة(5).
لا تكفير بل توثيق على أعلى المستويات
__________
(1) أوائل المقالات ص48. وقال ص49 : (إن الأخبار جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد (ص) باختلاف القرآن وما أحدثه الظالمون فيه من الحذف والنقصان).
(2) مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار - المقدمة الثانية - الفصل الرابع.
(3) الأنوار النعمانية 2/357 .
(4) مشارق الشموس الدرية ص126.
(5) فصل الخطاب للنوري الطبرسي ص31. ونسب القول إلى كتاب (الإمامة) للمذكور.
وهناك العشرات من علماء الإمامية الذين صرحوا بهذه العقيدة الكفرية. ومن أجمع الكتب التي تناولت هذه العقيدة بالذكر كتاب (أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية) – المجلد الأول، وكتاب مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة) – القسم الثاني، كلاهما للدكتور ناصر بن عبد الله القفاري. وكتاب ( القرآن وعلماء أصول ومراجع الشيعة الإمامية الاثنى عشرية) للسيد محمد سكندر الياسري. فليرجع إليها من أراد التوسع.(63/6)
قلنا: إن المنكرين من الإمامية لهذه العقيدة يتظاهرون بتكفير من اعتقد بتحريف القرآن. ولكننا لم نر أحداً منهم كفّر عالماً واحداً من علمائهم الذين يصرحون بالاعتقاد بتحريف القرآن تصريحاً واضحاً لا شبهة فيه، حتى الذين ينسبون ذلك إلى المذهب ويقولون: إنه من ضرورياته، وإن إجماع الطائفة حاصل عليه(1).
وهذا يدل على أن الجميع يعتقدون هذه العقيدة أو - على الأقل - لا يستوحشون منها، ولا يرون كفر معتنقها، وأنهم غير جادين في القول بإنكارها. حتى النوري الطبرسي (لع) وأمثاله ممن أفردوا لإثباتها مصنفات مستقلة يوثقونه توثيقاً ما بعده توثيق! بل يكابرون مكابرة عجيبة في الدفاع عنه إلى حد أن بعضهم يدعي أن كتابه (فصل الخطاب) إنما ألفه في الرد على من قال بتحريف الكتاب!
أصول الدين عند الإمامية بين التعطيل والتبديل
أضاف الإمامية إلى الدين أصولاً كثيرة اعتقادية وعملية: كالإمامة والعصمة والتقية وخمس المكاسب. وأنكروا أصولاً أخرى ثابتة كأصل حفظ القرآن الذي هو أصل الأصول في الإسلام.
ويثبتون في الوقت نفسه أصول الدين الأخرى المتفق عليها كالتوحيد والنبوة والمعاد، والصلاة والحج والزكاة. لكن الملاحظ أنهم حين يثبتون هذه الأصول إنما يثبتونها قولاً وشكلاً، ثم يقومون بتفسيرها تفسيراً ينتج عنه تبديل هذه الأصول حقيقةً ومضموناً. فكأنهم عطلوا هذه الأصول ولكن بطريقة أخرى تختلف قليلاً عن طريقتهم في تعطيل الأصول التي صرحوا بتعطيلها مثل حفظ القرآن.
مبدأ (الإمام المعصوم) وكيف أدى إلى تعطيل الدين وتبديله
__________
(1) قارن ذلك مثلاً بالنكير الذي وصل إلى حد التفسيق بل التكفير! والضجة الهائلة التي أثاروها بوجه محمد حسين فضل الله على قضية في منتهى التفاهة هي إنكاره الإسطورة القائلة بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد كسر ضلع فاطمة رضي الله عنها ! وتأمل كم من كتاب ألفوه للرد عليه وإخراجه من الملة!!(63/7)
فالتوحيد الذي يقوم على قاعدة التفريق بين الخالق والمخلوق في الحقائق والحقوق، أثبتوه لفظاً ورسماً، وعطلوه -عن طريق الإتيان بفكرة (الإمام المعصوم)- حقيقة ومعنىً. ذلك أن العصمة اللاهوتية التي تجعل من الإنسان مخلوقاً منزهاً عن الخطأ والنسيان، وممتنعاً عن الذنب والعصيان، يعلم الغيب، ويتصرف بالكون: فهو الذي خلص نوحاً من الغرق وإبراهيم من الحرق…إلخ. هذه العصمة أزالت الفرق المذكور فانهدمت قاعدة التوحيد، ولم يعد هنالك من فارق ذي معنى بين الخالق والمخلوق. وهذا هو الذي جعل المخلوق عندهم يدعى كما يدعى الخالق: تنزل ببابه الحوائج، ويتقرب عنده بالذبائح. يضاهئون بقبره الكعبة: يتوجهون نحوه في صلاتهم، ويحجون إليه يطوفون به ويعرِّفون عنده ويلبّون هناك ويسعون كما يسعى بين الصفا والمروة! ويفتخرون بأن زوار الحسين أكثر عدداً من زوار بيت الله الحرام!! حتى الشكل المكعب للقبر مأخوذ من شكل الكعبة المشرفة!! فماذا بقي من التوحيد؟!
وأما النبوة القائمة على أساس التفريق بين النبي والولي فقد بدّلوها ثم عطّلوها بأن خلطوا بين المقامين بالفكرة نفسها (الإمام المعصوم). ذلك أن طاعة الإمام المعصوم تغني عن طاعة النبي وتُذهِب أي أثر للحاجة إليه. لقد أزاحت هذه الفكرة شخصية النبي وأحلت محلها شخصية الإمام أو الولي. لأن الإمام يؤدي وظائف النبي جميعاً. بل إن الإمام يتميز عن النبي بكونه حياً حاضراً، بينما النبي ميت غائب. حتى المهدي المزعوم يقولون عنه: هو حي موجود، وأنه فاعل مؤثر ولولاه لما بقي الدين، ولا قامت حجة الله على العالمين. ويضربون له مثلاً بالشمس إذا حجبتها الغيوم فإن أثرها باقٍ متصل ولو من وراء ستار.(63/8)
والواقع شاهد حي يثبت ما نقول: فإن مصادرهم الروائية ليس فيها ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا النزر القليل. وقد حل محله ما يروونه عن (الإمام). كل ذلك بسبب فكرة (الإمامة) و(العصمة) التي أزالت الفرق بين النبي والولي. بل يقولون: إن الولي فوق النبي، و(الأئمة) أفضل من الأنبياء عليهم السلام. لكنهم يستثنون -لشناعة القول– واحداً منهم هو محمد - صلى الله عليه وسلم - من أجل تخفيف وقعه على النفوس.
وأما ختم النبوة فلا معنى له بعد استمرار حقيقتها ومعناها وهو (الإمامة المعصومة)، التي يقولون عنها: إنها امتداد للنبوة وتكميل لها، فلم يختم سوى الاسم. وكأن دين الله مجرد أسماء ومصطلحات لا حقيقة لها!
فماذا بقي من النبوة؟!
حتى المعاد لم يبق له معنى ولا أثر على الواقع بعد أن سُلِّم أمره إلى (الإمام) يقسم الناس: هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار: فمن كان شيعياً اثنى عشرياً فهو إلى الجنة مهما حوى من ذنوب وارتكب من آثام! ومن كان غير ذلك فإلى النار ما هو، مهما جاء به من حسنات! ناهيك عن أثر عقيدة (الرجعة) في هذا المقام!
وأما الصلاة فقد عطلت باسم (الإمام المعصوم) كذلك ! عطلت الجمعة حتى
مجيء (الإمام)، وحل محلها الخميس الحقير الذي هو في حقيقته زيارة (الإمام). وعطلت الجماعة - إلا ما ندر - لعدم وجود (الإمام). وحلت الحسينيات (والحسينية نسبة إلى (الإمام) الحسين) ومراقد (الأئمة) محل الجوامع والمساجد. واختصرت أوقات الصلاة إلى ثلاثة، وغُيِّر الأذان واختصر كذلك. ورفع غسل الرجلين من الوضوء تماماً…إلخ.
فماذا بقي من الصلاة؟!
وهكذا عطلت بقية الأصول والأركان. فأصول الإمامية جميعاً بين معطل ومبدل. كل ذلك بسبب هذه الفكرة الخطيرة.. (الإمام المعصوم)!(63/9)
وكذلك الحال مع القرآن، فهو بين مبدل ومعطل. وأما (القرآن الصحيح) فعند (الإمام). وغالب علمائهم يصرحون بتحريفه وتبديله. وهم جميعاً يقومون بتعطيله بواسطة تأويله. وعوامهم - إلا من رحم - مشغولون عنه بكتب الأدعية والزيارات التي يطبع بعضها بخط المصحف ويغلف بمثل غلافه بحيث يصعب التفريق بينهما دون تدقيق.
بل القرآن صامت حتى ينطق (الإمام) بمراده ، ومبهم حتى يفصح (الإمام) بمقصوده! فماذا بقي من القرآن؟!!
المراوغة وراء إلصاق التهمة بأهل السنة
حين يواجه الاثنى عشرية بأدلة اتهامهم بعقيدة التحريف يحاولون التنصل منها بأساليب شتى. منها إرجاع التهمة إلى المقابل أملاً بإشغاله بالدفاع عن نفسه، وإيهاماً لعوامهم بأن هذا متفق عليه بين الجميع.
إن هذا نوع من الأساليب الجدلية غير العلمية، الغاية منها المراوغة وإطالة حبل النقاش، والهروب بعيداً عن موضع النزاع، وصرف الأنظار عنه إلى غيره.
إن البحث العلمي يلزمنا بأن نناقش أصل الموضوع وهو: هل إن الشيعة يقولون بالتحريف أم لا؟ ثم بعد أن ننتهي من هذا يمكن أن نبحث غيره من المسائل.
أما اتهام أهل السنة بعقيدة التحريف فباطل عار عن الدليل. وليس وراءه من دافع سوى التعصب واللجاج، ومحاولة إشغال الخصم لا غير. وكل ما في جعبتهم من حجج روايات يحملونها على التحريف، ثم يلصقونه بأهل السنة.
بينما يستلزم الأسلوب العلمي إثبات التهمة من نص كلام المتهم، وليس من خلال روايات تحمل على أسوأ المحامل، لطالما صرح علماء أهل السنة أنها من باب الناسخ والمنسوخ. فنحن نؤمن أن من القرآن ما نسخت تلاوته كما قال تعالى: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (البقرة:106). والنسخ من فعل الخالق، بينما التحريف من فعل المخلوق.(63/10)
أما أن أحداً من أهل السنة علماء أو عامة له قول ينصص به على التحريف فهذا لا أثر له البتة. ونحن حين نتهم الإمامية الاثنى عشرية بالتحريف لا نستند على رواياتهم فقط، بل نعتمد على نصوص أقوال علمائهم المصرحة بذلك تصريحاً تاماً، إضافة إلى رواياتهم التي لا تقبل التأويل.
لازم المذهب ليس بمذهب
تقول القاعدة الأصولية: لازم المذهب ليس بمذهب. ومن معاني هذه القاعدة أن لازم قول القائل ليس بقول له ما لم يصرح به. لأن القائل قد لا يستحضر لزوم ذلك لقوله. أو يعتقد أن هذا لا يلزمه، وقد يكون محقاً في هذا، فيكون الذي ألزمه مخطئاً.
فمثلاً.. الإمامية مذهبهم عدم رؤية الله وعدم سماع كلامه مطلقاً. وهذا يستلزم عدم وجود الله أساساً. لأن الذي لا يرى وجهه ولا يسمع كلامه ولا يدرك بأية حاسة لا فرق بينه وبين المعدوم. فإن هذه هي صفات المعدوم لا الموجود. لكننا لا ننسب هذا القول إليهم - وإن لزمهم - لأنهم لا يقولون به.
ونحن حين نتهم الإمامية بالقول بالتحريف لا نتهمهم طبقاً للازم قولهم، وإنما استناداً إلى نص كلامهم، مع الاستشهاد برواياتهم التي لا وجه لتأويلها بغير ما تنص عليه من التحريف.
والملاحظ أن الإمامية حين يلزمون أهل السنة بما يدعون أنه لازم لهم يفعلون الشيء نفسه مع أقوال الرب جل وعلا! فأصولهم ليست هي نص ما يقوله الله نفسه، وإنما هي لوازم ألصقوها بأقواله، لو كانت حقاً لصرح الله بها.
والعجيب أنهم يدفعون التهمة عن أنفسهم مع وجود النص القولي والنص الروائي الصريح المصحح عندهم، بينما يلقون بالتهمة على غيرهم مع عدم وجود نص بذلك يستندون إليه قط!
الفصل الثاني
نقض عقيدة التحريف طبقاً للمنهج القرآني
العقائد التي شذ بها الإمامية الاثنى عشرية عن المسلمين نوعان:
نوع لا وجود له – (كالإمامة) و(العصمة) - اخترعوه وأثبتوه. وهذا لا دليل لهم على وجوده من القرآن سوى المتشابهات.(63/11)
ونوع ثابت - كحفظ القرآن - نفوه وأنكروه. وهذا لا دليل لهم على نفيه سوى الشبهات. والثابت قطعاً لا ينقض بشبهة. بل لا ينقض أصلاً. بل كل ما عارض الثابت أصلاً فهو شبهة باطلة قطعاً.
وهذا دليلنا وحجتنا القطعية اليقينية على بطلان عقيدة التحريف طبقاً للمنهج القرآني.
ولو جازت الزيادة والنقصان في حرف من القرآن لجاز ذلك في كلمة. وهذا يستلزم جوازه في أكثر من ذلك. وهنا يمسي القرآن كمصدر موثوق للهداية غير ذي معنى. لأنه إذا سرى الشك إلى مصدر الهداية تعدى ذلك إلى الهداية نفسها. وعند ذاك يسري الشك إلى أي أصل من أصول الدين الذي تقوم عليه الهداية. ويتمكن أي إنسان من التملص منه بإثارة الشبهات حوله. وكذلك يتمكن من إضافة أي أصل إلى الدين بالطريقة نفسها، ولكن بصورة معكوسة: فينفي الموجود بحجة أنه زائد مضاف، ويثبت المفقود بحجة أنه ناقص محذوف، كما قالوا عن نصوص (الإمامة).
مجمل القول أن الاعتقاد بجواز طروء التحريف على القرآن يؤدي إلى تعطيل الدين وتخريبه. فنحتاج إلى نبي جديد يأتي بكتاب جديد يهيمن على هذا الكتاب ويشهد له أو عليه. وهذا مخالف لأصل ختم النبوة. فالله تعالى حفظ الكتاب لأنه ختم النبوة، وختم النبوة لأنه حفظ الكتاب، فلا حاجة لبعثة نبي جديد.
فلو جاز وقوع التحريف في الكتاب لكنا محتاجين دوماً لبعثة نبي جديد يثبت لنا، ويدلنا قطعاً على مواضع التحريف فيه. وإلا فمن يقوم بهذا الدور؟
هل الروايات؟ هذا مستحيل.. لأن التحريف إذا تطرق إلى الكتاب كان تطرقه إلى الروايات أولى. فكيف يعالج هذا بهذا؟
أم العقول؟ والعقول مختلفة فعقل من هو الحكم؟ اللهم إلا إذا كان صاحب العقل
نبياً يأتيه الوحي من السماء. وهذا مستحيل أيضاً لختم النبوة. لهذا وغيره أجمع المسلمون على حفظ القرآن، وبطلان القول بتحريفه، وتكفير من يقول بهذا القول.
الأدلة على حفظ القرآن أظهر من أن تذكر(63/12)
لا أرى حاجة للتدليل على أصل كل الأصول في دين الإسلام، ألا وهو حفظ القرآن، وتهافت القول بتحريفه. ويكفي في ذلك أن أصحاب دعوى التحريف أنفسهم لا يجرؤون على التصريح بها علناً بصورة لا يتمكنون بعدها من نفي هذه التهمة عنهم. فنراهم يصرحون بها في حال وينكرونها في حال. فمثلاً يذكرونها في كتاب، وينكرونها في آخر، أو في موضع آخر من الكتاب نفسه! ويصرحون بها في المجالس الخاصة، وينكرونها في وسائل الإعلام أو أمام الملأ. مع أنهم يجاهرون بإبراز غيرها من السوءات العقدية كتجريح الصحابة. وهذا يعني أنهم لو علموا أن لهم حجة -ولو بوجه بعيد- لما اختفوا بها هذا الاختفاء.
إن كل مسلم يقرأ في أول آية من كتاب الله بعد مقدمته (سورة الفاتحة) قوله تعالى: { ألم*ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } (البقرة:1،2).
ثم أقام الله تعالى الدليل القاطع على نفي الريب عن كتابه الهادي بقوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (البقرة:23). وأي ريب ينفى عنه إذا جاز عليه التحريف بالزيادة والنقصان؟!
ولذلك يقول تعالى:
{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (فصلت:41،42)
{ وَمَا كَانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (يونس:37)
{ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً } (الكهف:27) { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر:9).(63/13)
القرآن هو الشاهد والمشهود
لقد ثبت لنا نحن المسلمين أن القرآن محفوظ من التحريف بالنص القرآني الصريح المكرر المثبت بالحجج القرآنية العقلية الذاتية. أي من داخل القرآن نفسه. بمعنى أن القرآن يشهد لنفسه بنفسه ويدل على نفسه بنفسه فلا يحتاج إلى شاهد أو دليل من خارجه. وفي هذا يقول تعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } (النساء:82). ويقول: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ } (البقرة:23). فالله تعالى يحتج لصحة القرآن بحجة عقلية.. مصدرها القرآن نفسه!
فالقرآن هو الدليل وهو المدلول عليه، وهو الشاهد وهو المشهود عليه، وهو الحجة وهو المحتج له به! والدليل على حفظ القرآن نقلاً وعقلاً هو القرآن نفسه!
وهذا - في رأيي - أقوى من دليل التواتر. فإن التواتر إذا كان يورث الإيمان، فهذا يمنح الاطمئنان: { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } (البقرة:260). فلن تجد شيئاً يبعث اليقين ويورث الإيمان ويمنح الاطمئنان إلى صحة القرآن.. كالقرآن.
سر التلازم بين الشيعة وتحريف القرآن
يدرك الإمامية جيداً عجزهم عن إثبات أصولهم بواسطة القرآن! ولا يستطيعون تمرير هذه الأصول بسهولة في وجوده كاملاً!! فالقرآن صرح بجلاء تام بذكر مسائل دون (الإمامة) و (العصمة) بكثير، كالوضوء والطهارة من الحدث الأصغر والأكبر! فكان قولهم بطروء النقص على القرآن، لتكون هذه (الأصول) مما حذفت نصوصها!
والشيء نفسه دفعهم إلى القول بأن الأصول تثبت بالعقل لا بالنقل. كل ذلك لعلمهم يقيناً بعدم وجود ما يثبت أصولهم من النقل القطعي ثبوتاً ودلالة! إذن وجود القرآن كاملاً يحرجهم كثيراً حين يجدون أنفسهم مطالبين أمام الجميع بما يثبت أصولهم من النصوص القرآنية الصريحة.(63/14)
فأصول الإمامية لم تقم على صريح القرآن، ولا فروعهم على صحيح السنة. وهذا يتبين من تأمل المفارقة الأخرى الآتية:- لو افترضنا جدلاً أن الله تعالى رفع الكتاب والسنة من الأرض فإن النتيجة الحتمية أن ديننا سيختفي ويزول، بينما دين الإمامية سوف يبقى ويستمر!! لأنهم إنما أسسوه على أوهام سموها (عقليات) وأباطيل سموها (روايات) ألصقوها بمتشابه الآيات المعطلة عن الفعل من الأساس دون ردها إلى (الإمام) أي إلى هذه الروايات في حقيقة الأمر. لا سيما مع وجود المراقد. وهذا كله: (العقليات والروايات والمراقد) لا يزول بزوال الكتاب والسنة! بل ينتعش.. وينتفش!!
فسبحان من جعل أصول الحق قائمة على حفظ القرآن وبقائه، وجعل أصول الباطل لا تقوم إلا على تحريف القرآن وإبعاده!
الأصل السادس
تجريح الصحابة
الفصل الأول
ماذا قال الإمامية في حق الصحابة
بُغض الصحابة، وشتمهم، وتكفيرهم، والطعن في أخلاقهم وأعراضهم، وأعراض أمهات المؤمنين زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إلى حد يرتجف القلم من تسطيره موضوع شائع في أوساط الإمامية، يتعبدون الله به ويلهجون بترديده بكرة وأصيلا! لأنهم يعتبرونه عقيدة لازمة لا يصح إيمانهم إلا بها، فإن (ولاءهم) لـ(أهل البيت) لا يعتبر عندهم إلا بـ(البراءة) من أعدائهم الذين هم الصحابة – حسب ادعائهم - والقاعدة التي يستندون إليها تقول: (لا ولاء إلا ببراء).
ومصادرهم المعتبرة عندهم -وكتبهم بعامة- تعج بالطعن بهم وتكفيرهم، وادعاء ردتهم بعد وفاة رسول الله. أو أنهم كانوا منافقين من الأساس. والواقع يشهد بذلك بما لا مزيد عليه.(63/15)
ولولا أن البعض(1) منهم يماري أحياناً في هذا - لا سيما إذا أحرج في وسائل الإعلام العالمية أو السنية، أو في بعض الكتب الدعائية طبقاً لعقيدة (التقية) - لما كان هنالك من حاجة لذكر بعض أقوالهم في هذا الباب لاشتهاره لدى العام والخاص. اللهم
إلا البعض ممن لم يخالطهم، أو ليس عنده اطلاع على كتبهم وحقيقة اعتقادهم.
المصادر والكتب الإمامية التي تطعن بالصحابة (رضي الله تعالى عنهم) لا تعد ولا تحصى! والأمر مفروغ منه.. فأكتفي بمصدر واحد هو من أمهات المصادر الإمامية المعتمدة والمشتهرة، هو (بحار الأنوار) للمجلسي. والكتاب ومؤلفه غنيان عن التعريف.
هذه قطرات أو عينات من ذلك المستنقع الكبير-مستنقع الطعن بالصحابة، المترشح من تلك (البحار) المظلمة النتنة. ويكفي أن تعلم أن فيه أبواباً معنونة بـ(تكفير الصحابة) صراحة !! منها: (باب[18] في ذكر ما كان من حيرة الناس بعد وفاة رسول الله (ص) وغصب الخلافة وظهور جهل الغاصبين وكفرهم ورجوعهم إلى أمير المؤمنين)/ص53، (باب[20] كفر الثلاثة ونفاقهم وفضائح أعمالهم وقبائح آثارهم، وفضل التبري منهم ولعنهم)/ص145 من المجلد (30)(2)
__________
(1) في لقاء تلفزيوني بثته قناة (الجزيرة) الفضائية مع أحمد الوائلي. أنكر هذا أن الشيعة يسبون الصحابة! وتحدى – وهو يتقي بلا شك - أن يثبت له أحد ذلك من خلال المصادر المعتمدة، أو ينقل قولاً بذلك لأحد العلماء المعتبرين. وادعى أن هذا قد يكون له وجود في بعض الكتب التي لا يصح الاحتجاج بها عليهم لأنها لمؤلفين غير معروفين أو معتبرين !!! ... ... ...
(2) أما المكتوب على قرص الحاسوب (CD ) المنشور بعنوان (نور –2) فإن الباب المخصص لتكفير أبي بكر وعمر وعثمان (الثلاثة) رضي الله عنهم كتب هكذا: (باب…). مما يشهد لعدم أمانتهم العلمية. وخوفهم من هذه العقائد الكفرية أن تعرف عنهم على نطاق واسع غير محسوب.
ملاحظة/
ما مكتوب من استشهادات هنا من كتاب (البحار) هو صورة طبق الأصل لما موجود على القرص المذكور، استنسختها عن طريق الحاسوب. مع وجود الكتاب لدي، وهو بتحقيق الشيخ عبد الزهراء العلوي /دار الرضا / بيروت-لبنان. لهذا لم أجرِ عليها أي تصحيحات إملائية، أو تغييرات في شكل الخط وترتيبه بما يتوافق وبقية الكتاب.(63/16)
. والمجلد في (707) من الصفحات المخصصة لتكفير الصحابة (رضوان الله تعالى عليهم)، والطعن فيهم. هذا عدا ما ورد من ذلك في بقية مجلدات الكتاب البالغة أكثر من مائة مجلد!!!
إرشاد القلوب بحذف الإسناد مرفوعا إلى عبد الرحمن بن غنم الأزدي ختن معاذ بن جبل و حين مات كانت ابنته تحت معاذ بن جبل، و كان أفقه أهل الشام و أشدّهم اجتهادا، قال مات معاذ بن جبل بالطاعون، فشهدت يوم مات و الناس متشاغلون بالطاعون، قال و سمعته حين احتضر و ليس في البيت غيري و ذلك في خلافة عمر بن الخطاب، فسمعته يقول ويل لي ويل لي. فقلت في نفسي أصحاب الطاعون يهذون و يقولون الأعاجيب. فقلت له أ تهذي. قال لا، رحمك اللّه. قلت فلم تدعو بالويل و الثبور. قال لموالاتي عدوّ اللّه على وليّ اللّه. فقلت له من هم. قال موالاتي عتيقا و [رمع] على خليفة رسول اللّه و وصيّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام. فقلت إنّك لتهجر. فقال يا ابن غنم و اللّه ما أهجر، هذان، رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ بن أبي طالب عليه السلام يقولان لي يا معاذ أبشر بالنار.أنت و أصحابك. أفليس قلتم إن مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو قتل زوينا الخلافة عن عليّ بن أبي طالب (ع) فلن تصل إليه، فاجتمعت أنا و عتيق و [رمع] و أبو عبيدة و سالم، قال قلت متى يا معاذ. قال في حجّة الوداع، قلنا نتظاهر على عليّ (ع) فلا ينال الخلافة ما حيينا، فلمّا قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قلت لهم أنا أكفيكم قومي الأنصار فأكفوني قريشا، ثم دعوت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى هذا الذي تعاهدنا عليه بشر بن سعيد و أسيد بن حصين فبايعاني على ذلك، فقلت يا معاذ إنّك لتهجر، فألصق خدّه بالأرض فلمّا زال يدعو بالويل و الثبور حتى مات. فقال ابن غنم ما حدّثت بهذا الحديث يا ابن قيس بن هلال أحدا إلّا ابنتي امرأة معاذ و رجلا آخر، فإنّي فزعت ممّا رأيت و سمعت من معاذ. قال فحججت و(63/17)
لقيت الذي غمّض أبا عبيدة و سالما فأخبراني أنّه حصل لهما ذلك عند موتهما، لم يزد فيه حرفا و لم ينقص حرفا، كأنّهما قالا مثل ما قال معاذ بن جبل، فقلت أَوَلم يقتل سالم يوم التهامة. قال بلى، و لكنّا احتملناه و به رمق. قال سليم فحدّثت بحديث ابن غنم هذا كلّه محمد بن أبي بكر، فقال لي اكتم عليّ و اشهد أنّ أبي قد قال عند موته مثل مقالتهم، فقالت عائشة إنّ أبي يهجر. قال محمد فلقيت عبد اللّه بن عمر في خلافة عثمان و حدّثته بما سمعت من أبي عند موته فأخذت عليه العهد و الميثاق ألّا يكتم عليّ. فقال لي ابن عمر اكتم عليّ، فواللّه لقد قال أبي مثل ما قال أبوك و ما زاد و لا نقص، ثم تداركها ابن عمر بعد و تخوّف أن أخبر بذلك عليّ بن أبي طالب عليه السلام لما علم من حبّي له و انقطاعي إليه، فقال إنّما كان يهجر. فأتيت أمير المؤمنين عليه السلام فأخبرته بما سمعته من أبي و ما حدّثني به ابن عمر. فقال عليّ (ع) قد حدّثني بذلك عن أبيك و عن أبيه و عن أبي عبيدة و سالم و عن معاذ من هو أصدق منك و من ابن عمر. فقلت و من ذاك يا أمير المؤمنين. فقال بعض من حدّثني. فعرفت ما عنى، فقلت صدقت، إنّما ظننت إنسانا حدّثك، و ما شهد أبي و هو يقول ذلك غيري. قال سليم قلت لابن غنم مات معاذ بالطاعون فبما مات أبو عبيدة. قال مات بالدّبيلة، فلقيت محمد بن أبي بكر فقلت هل شهد موت أبيك غيرك و أخيك عبد الرحمن و عائشة و عمر. قال لا. قلت و هل سمعوا منه ما سمعت. قال سمعوا منه طرفا فبكوا. و قال هو يهجر، فأمّا كلّ ما سمعت أنا فلا، قلت فالذي سمعوا ما هو. قال دعا بالويل و الثبور، فقال له عمر يا خليفة رسول اللّه لم تدعو بالويل و الثبور. قال هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و معه عليّ بن أبي طالب يبشّراني بالنار، و معه الصحيفة التي تعاهدنا عليها في الكعبة، و هو يقول قد وفيت بها و ظاهرت على وليّ اللّه فأبشر أنت و صاحبك بالنار في أسفل السافلين،(63/18)
فلمّا سمعها عمر خرج و هو يقول إنّه ليهجر قال لا و اللّه لا أهجر أين تذهب. قال عمر كيف لا تهجر و أنت ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ قال الآن أيضا أو لم أحدّثك أنّ محمّدا و لم يقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لي وأنا معه في الغار إنّي أرى سفينة جعفر و أصحابه تعوم في البحر، فقلت أرنيها، فمسح يده على وجهه فنظرت إليها، و أضمرت عند ذلك أنّه ساحر، و ذكرت لك ذلك بالمدينة، فأجمع رأيي و رأيك أنّه ساحر، فقال عمر يا هؤلاء إنّ أباكم يهجر فاكتموا ما تسمعون عنه لئلا يشمت بكم أهل هذا البيت، ثم خرج و خرج أخي و خرجت عائشة ليتوضئوا للصلاة، فأسمعني من قوله ما لم يسمعوا، فقلت له لمّا خلوت به يا أبة قل لا إله إلااللّه، قال لا أقولها و لا أقدر عليها أبدا حتى أرد النار فأدخل التابوت، فلمّا ذكر التابوت ظننت أنّه يهجر، فقلت له أيّ تابوت. فقال تابوت من نار مقفل بقفل من نار فيه اثنا عشر رجلا، أنا و صاحبي هذا، قلت عمر. قال نعم، و عشرة في جبّ من جهنّم عليه صخرة إذا أراد اللّه أن يسعر جهنّم رفع الصخرة. قلت أ تهذي. قال لا و اللّه ما أهذي، و لعن اللّه ابن صهاك هو الذي أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي فَبِئْسَ الْقَرِينُ، ألصق خدّي بالأرض، فألصقت خدّه بالأرض(1)، فما زال يدعو بالويل و الثبور حتى غمّضته، ثم دخل عمر عليّ، فقال هل قال بعدنا شيئا فحدّثته. فقال يرحم اللّه خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، اكتم هذا كلّه هذيان، و أنتم أهل بيت يعرف لكم الهذيان في موتكم. قالت عائشة صدقت، ثم قال لي عمر إيّاك أن يخرج منك شي ء ممّا سمت به إلى عليّ بن أبي طالب (ع) و أهل بيته. قال قال سليم قلت لمحمد من
__________
(1) هل تعلم أن محمد بن أبي بكر الصديق كان عمره يوم وفاة أبيه أقل من سنتين! فكيف لقن أباه (لا إله إلا الله)؟! وكيف استطاع تغميض عينيه وإلصاق خده بالأرض؟! فضلاً عن مخاطبته والفهم عنه!!!(63/19)
تراه حدّث أمير المؤمنين عليه السلام عن هؤلاء الخمسة بما قالوا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إنّه يراه في كلّ ليلة في المنام و حديثه إيّاه في المنام مثل حديثه إيّاه في اليقظة و الحياة، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من رآني في المنام فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي في نوم و لا يقظة و لا بأحد من أوصيائي إلى يوم القيامة. قال سليم فقلت لمحمد فمن حدّثك بهذا. قال عليّ. فقلت قد سمعت أنا أيضا منه كما سمعت أنت، قلت لمحمد فلعلّ ملكا من الملائكة حدّثه. قال أ و ذاك قلت فهل تحدّث الملائكة إلّا الأنبياء. قال أ ما تقرأ كتاب اللّه و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبيّ و لا محدّث. قلت أنا أمير المؤمنين محدّث. قال نعم، و فاطمة محدّثة، و لم تكن نبيّة، و مريم محدّثة و لم تكن نبيّة، و أمّ موسى محدّثة و لم تكن نبيّة، و سارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة و لم تكن نبيّة، فبشّروها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ. قال سليم فلمّا قتل محمد بن أبي بكر بمصر و عزّينا أمير المؤمنين، جئت إلى أمير المؤمنين عليه السلام و خلوت به فحدّثته بما أخبرني به محمد بن أبي بكر و بما حدّثني به ابن غنم. قال صدق محمد رحمه اللّه، أما انّه شهيد حيّ مرزوق، يا سليم إنّي و أوصيائي أحد عشر رجلا من ولدي أئمّة هدى مهديّون محدّثون. قلت يا أمير المؤمنين و من هم. قال ابني الحسن و الحسين، ثم ابني هذا و أخذ بيد عليّ بن الحسين عليهم السلام و هو رضيع ثم ثمانية من ولده واحدا بعد واحد، و هم الذين أقسم اللّه بهم فقال وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ، فالوالد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنا، و ما ولد يعني هؤلاء الأحد عشر وصيّا صلوات اللّه عليهم. قلت يا أمير المؤمنين يجتمع إمامان. قال لا، إلّا و أحدهما صامت لا ينطق حتى يهلك الأول.(63/20)
أقول وجدت الخبر في كتاب سليم عن أبان عن سليم عن عبد الرحمن بن غنم.. و ذكر الحديث مثله سواء.
بيان هذا الخبر أحد الأمور التي صارت سببا للقدح في كتاب سليم، لأنّ محمدا ولد في حجّة الوداع كما ورد في أخبار الخاصّة و العامّة فكان له عند موت أبيه سنتان و أشهر، فكيف كان يمكنه التكلّم بتلك الكلمات، و تذكر تلك الحكايات. و لعلّه ممّا صحّف فيه النساخ أو الرواة، أو يقال إنّ ذلك كان من معجزات أمير المؤمنين عليه السلام ظهر فيه. و قال بعض الأفاضل رأيت فيما وصل إليّ من نسخة هذا الكتاب أنّ عبد اللّه بن عمر وعظ أباه عند موته. والحقّ أنّ بمثل هذا لا يمكن القدح في كتاب معروف بين المحدّثين اعتمد عليه الكليني و الصدوق و غيرهما من القدماء، و أكثر أخباره مطابقة لما روي بالأسانيد الصحيحة في الأصول المعتبرة، و قلّ كتاب من الأصول المتداولة يخلو عن مثل ذلك. قال النعماني في كتاب الغيبة بعد ما أورد من كتاب سليم أخبارا كثيرة ما هذا لفظه.. كتابه أصل من الأصول التي رواها أهل العلم و حملة حديث أهل البيت عليهم السلام و أقدمها، لأنّ جميع ما اشتمل عليه هذا الكتاب إنّما هو عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السلام و المقداد و سلمان الفارسي و أبي ذرّ و من جرى مجراهم ممّن شهد رسول اللّه و أمير المؤمنين عليهما السلام و سمع منهما، و هو من الأصول التي ترجع الشيعة إليها و تعول عليها(1).
عن الثمالي، عن عليّ بن الحسين عليهما السلام، قال قلت له أسألك عن فلان وفلان. قال فعليهما لعنة اللّه بلعناته كلّها، ماتا و اللّه كافرين مشركين باللّه العظيم(2).
__________
(1) بحار الأنوار 30/ 127-134
(2) 30/ 145(63/21)
عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السلام إنّ صفيّة بنت عبد المطلب مات ابن لها فأقبلت، فقال لها عمر غطّي قرطك، فإنّ قرابتك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا تنفعك شيئا، فقالت له هل رأيت لي قرطا يا ابن اللخناء. ثم دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته بذلك فبكت، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنادى الصلاة جامعة، فاجتمع الناس. فقال ما بال أقوام يزعمون أنّ قرابتي لا تنفع لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في علوجكم، لا يسألني اليوم أحد من أبواه.. إلّا أخبرته، فقام إليه رجل فقال من أبي يا رسول اللّه. فقال أبوك غير الذي تدعى له، أبوك فلان بن فلان، فقام آخر فقال من أبي يا رسول اللّه. قال أبوك الذي تدعى له. ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما بال الذي يزعم أن قرابتي لا تنفع، لا يسألني عن أبيه. فقام إليه عمر فقال أعوذ باللّه يا رسول اللّه من غضب اللّه و غضب رسوله، اعف عنّي عفا اللّه عنك، فأنزل اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ... إلى قوله ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (1).
قال علي بن إبراهيم في قوله لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال يعني يحملون آثامهم يعني الذين غصبوا أمير المؤمنين عليه السلام و آثام كلّ من اقتدى بهم، و هو قول الصادق صلوات اللّه عليه و اللّه ما أهريقت محجمة من دم، و لا قرعت عصا بعصا، و لا غصب فرج حرام، و لا أخذ مال من غير حلّه، إلّا و وزر ذلك في أعناقهما من غير أن ينقص من أوزار العالمين شي ء(2).
__________
(1) 30/ 146
(2) 30/ 149(63/22)
وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ.. قال الأوّل يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا. قال أبو جعفر عليه السلام يقول يا ليتني اتّخذت مع الرسول عليّا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا يعني الثاني لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي يعني الولاية وَ كانَ الشَّيْطانُ وهو الثاني لِلْإِنْسانِ خَذُولًا(1).
1- سليم بن قيس الهلالي، عن سلمان الفارسي، قال قال أمير المؤمنين عليه السلام في يوم بيعة أبي بكر لست بقائل غير شي ء واحد أذكّركم باللّه أيّها الأربعة يعنيني و الزبير و أبا ذرّ و المقداد أسمعتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول إنّ تابوتا من نار فيهاثنا عشر رجلا، ستة من الأوّلين و ستة من الآخرين في جبّ في قعر جهنّم في تابوت مقفل، على ذلك الجبّ صخرة إذا أراد اللّه أن يسعّر جهنّم كشف تلك الصخرة عن ذلك الجبّ فاستعاذت جهنّم من وهج ذلك الجبّ، فسألناه عنهم و أنتم شهود، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمّا الأوّلون فابن آدم الذي قتل أخاه، و فرعون الفراعنة، و الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ، و رجلان من بني إسرائيل بدّلا كتابهما و غيّرا سنّتهما، أمّا أحدهما فهوّد اليهود، و الآخر نصّر النصارى، و إبليس سادسهم، و الدّجال في الآخرين، و هؤلاء الخمسة أصحاب الصحيفة الذين تعاهدوا و تعاقدوا على عداوتك يا أخي، و التظاهر عليك بعدي هذا.. و هذا حتى عدّدهم و سمّاهم. فقال سلمان فقلنا صدقت نشهد إنّا سمعنا ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(2).
__________
(1) أيضاً
(2) 30/ 405-406(63/23)
- قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، قال الفلق جبّ في جهنّم يتعوّذ أهل النار من شدّة حرّه، سأل اللّه أن يأذن له أن يتنفّس فأذن له، فتنفّس فأحرق جهنّم. قال و في ذلك الجبّ صندوق من نار يتعوّذ أهل تلك الجبّ من حرّ ذلك الصندوق، و هو التابوت، و في ذلك التابوت ستة من الأوّلين و ستة من الآخرين، فأمّا الستة من الأوّلين فابن آدم الذي قتل أخاه، و فرعون إبراهيم الذي ألقى إبراهيم في النار، و فرعون موسى، و السامريّ الذي اتّخذ العجل، و الذي هوّد اليهود، و الذي نصّر النصارى، و أمّا الستّة من الآخرين فهو الأوّل و الثاني و الثالث و الرابع و صاحب الخوارج و ابن ملجم. وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ، قال الذي يلقى في الجبّ يقبّ فيه(1).
__________
(1) 30/ 406-407(63/24)
عن إسحاق بن عمّار، عن موسى بن جعفر عليهما السلام، قال قلت جعلت فداك، حدّثني فيهما بحديث، فقد سمعت من أبيك فيهما بأحاديث عدّة. قال فقال لي يا إسحاق الأول بمنزلة العجل، و الثاني بمنزلة السامريّ. قال قلت جعلت فداك، زدني فيهما. قال هما و اللّه نصّرا و هوّدا و مجّسا، فلا غفر اللّه ذلك لهما. قال قلت جعلت فداك، زدني فيهما. قال ثلاثة لا ينظر اللّه إليهم وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. قال قلت جعلت فداك، فمن هم. قال رجل ادّعى إماما من غير اللّه، و آخر طعن في إمام من اللّه، و آخر زعم أنّ لهما في الإسلام نصيبا. قال قلت جعلت فداك، زدني فيهما. قال ما أبالي يا إسحاق محوت المحكم من كتاب اللّه أو جحدت محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النبوّة أو زعمت أن ليس في السماء إله، أو تقدّمت على عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال قلت جعلت فداك، زدني. قال فقال لي يا إسحاق إنّ في النار لواديا يقال له سقر لم يتنفس منذ خلقه اللّه، لو أذن اللّه عزّ و جلّ له في التنفس بقدر مخيط لأحرق ما على وجه الأرض، و إنّ أهل النار ليتعوّذون من حرّ ذلك الوادي و نتنه و قذره، و ما أعدّ اللّه فيه لأهله، و إنّ في ذلك الوادي لجبلا يتعوّذ جميع أهل ذلك الوادي من حرّ ذلك الجبل و نتنه و قذره و ما أعدّ اللّه فيه لأهله من العذاب، و إنّ في ذلك الجبل لشعبا يتعوّذ جميع أهل ذلك الجبل من حرّ ذلك الشعب و نتنه و قذره و ما أعدّ اللّه فيه لأهله، و إنّ في ذلك الشعب لقليب يتعوّذ جميع أهل ذلك الشعب من حرّ ذلك القليب و نتنه و قذره و ما أعدّ اللّه فيه لأهله، و إنّ في ذلك القليب لحيّة يتعوّذ أهل ذلك القليب من خبث تلك الحيّة و نتنها و قذرها و ما أعدّ اللّه في أنيابها من السمّ لأهلها، و إنّ في جوف تلك الحيّة لسبعة صناديق فيها خمسة من الأمم السالفة، و اثنان من هذه الأمّة. قال قلت جعلت فداك، و من الخمسة و من الاثنان. قال فأمّا الخمسة(63/25)
فقابيل الذي قتل هابيل، و نمرود الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ، فقال أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ، و فرعون الذي قال أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى و يهود الذي هوّد اليهود، و بولس الذي نصّر النصارى، و من هذه الأمّة أعرابيان.
بيان الأعرابيان الأول و الثاني اللّذان لم يؤمنا باللّه طرفة عين(1).
- عن جعيد همدان، قال قال أمير المؤمنين عليه السلام إنّ في التابوت الأسفل من النار ستة من الأوّلين و ستة من الآخرين، فأمّا الستّة من الأوّلين فابن آدم الذي قاتل أخيه، و فرعون الفراعنة، و السامريّ، و الدجّال، كتابه في الأوّلين، و يخرج في الآخرين و هامان، و قارون، و الستة من الآخرين فنعثل، و معاوية، و عمرو بن العاص، و أبو موسى الأشعري.. و نسي المحدّث اثنين.
بيان المنسيان الأعرابيان الأوّلان بشهادة ما تقدّم و ما سيأتي(2).
- [تفسير العياشي] عن أبي بصير، قال يؤتى بجهنم لها سبعة أبواب، بابها الأول للظالم و هو زريق، و بابها الثاني لحبتر، و الباب الثالث للثالث، و الرابع لمعاوية، و الباب الخامس لعبد الملك، و الباب السادس لعسكر بن هوسر، و الباب السابع لأبي سلامة، فهم أبواب لمن اتّبعهم.
بيان سيأتي أنّ عسكر اسم جمل عائشة، و يحتمل أن يكون كناية عن بعض ولاة بني أميّة كأبي سلامة، و يحتمل أن يكون أبو سلامة كناية عن أبي مسلم إشارة إلى من سلّطهم من بني العبّاس.
- [تفسير العياشي] عن حريز، عمّن ذكره، عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللّه وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ، قال هو الثاني، و ليس في القرآن شي ء (وقال الشيطان) إلّا و هو الثاني.
__________
(1) 30/ 407-409
(2) 30/ 409(63/26)
- [تفسير العياشي] عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، أنّه إذا كان يوم القيامة يؤتى بإبليس في سبعين غلّا و سبعين كبلا، فينظر الأول إلى زفر في عشرين و مائة كبل و عشرين و مائة غلّ، فينظر إبليس فيقول من هذا الذي أضعفه اللّه العذاب و أنا أغويت هذا الخلق جميعا. فيقال هذا زفر. فيقول بما جدر له هذا العذاب. فيقال ببغيه على عليّ عليه السلام. فيقول له إبليس ويل لك أو ثبور لك، أ ما علمت أنّ اللّه أمرني بالسجود لآدم فعصيته و سألته أن يجعل لي سلطانا على محمّد و أهل بيته و شيعته فلم يجبني إلى ذلك، و قال إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ و ما عرفتهم حين استثناهم إذ قلت وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فمنيت به نفسك غرورا، فيوقف بين يدي الخلائق فيقال له ما الذي كان منك إلى عليّ و إلى الخلق الذين اتّبعوك على الخلاف. فيقول الشيطان و هو زفر لإبليس أنت أمرتني بذلك. فيقول له إبليس فلم عصيت ربّك و أطعتني. فيردّ زفر عليه ما قال اللّه إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ... إلى آخر الآية.
بيان قوله عليه السلام فيردّ زفر عليه.. ظاهر السياق أن يكون قوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ كلام إبليس، فيكون كلام زفر ما ذكر قبل تلك الآية من قوله إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً و ترك اختصارا، و يحتمل أن يكون إشارة إلى ما يجري بين [فلان] و بين أتباعه، فيكون المراد بالردّ عليه الردّ على أتباعه، أو يكون (عليهم) فصحّف، و لعلّه سقط من الكلام شي ء، و في بعض النسخ لم تكن كلمة (ما) في (ما) قال اللّه، و لعلّه أقرب، و على تقديره يمكن أن يقرأ فيردّ على بناء المجهول و الظرف بدل من زفر، فتكون الملة
بيان للجملة السابقة.(63/27)
- [تفسير العياشي] عن محمد بن مروان، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً. قال إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال اللّهمّ أعزّ الدين بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام، فأنزل اللّه وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً يعنيهما.
- [تفسير العياشي] عن محمد بن مروان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال قلت له جعلت فداك، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعزّ الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب. فقال يا محمّد قد و اللّه قال ذلك، و كان عليّ أشدّ من ضرب العنق، ثم أقبل عليّ فقال هل تدري ما أنزل اللّه يا محمّد. قلت أنت أعلم جعلت فداك. قال إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان في دار الأرقم فقال اللّهمّ أعزّ الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فأنزل اللّه ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً يعنيهما(1).
- عن ابن فرقد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قوله تعالى وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ... الآية. فقال هذا مثل ضربه اللّه لرقيّة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله التي تزوّجها عثمان بن عفّان. قال و قوله وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ. يعني من الثالث و عمله. و قوله وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. يعني بني أميّة.
__________
(1) 30/ 232-235، وهذا يشمل كل ما صدِّر بعبارة [تفسير العياشي] بعد الهامش السابق.(63/28)
- عن الحسين بن مختار، عنهم عليهم السلام في قوله تعالى وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، الثاني. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ، قال العتل الكافر العظيم الكفر، و الزنيم ولد الزنا(1).
- البرسي، في مشارق الأنوار عن محمد بن سنان، قال قال أمير المؤمنين عليه السلام لعمر يا مغرور إنّي أراك في الدنيا قتيلا بجراحة من عبد أمّ معمر تحكم عليه جورا فيقتلك توفيقا، يدخل بذلك الجنّة على رغم منك، و إنّ لك و لصاحبك الذي قمت مقامه صلبا و هتكا تخرجان عن جوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتصلبان على أغصان جذعة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من والاك. فقال عمر و من يفعل ذلك يا أبا الحسن (ع). فقال قوم قد فرّقوا بين السيوف و أغمادها، فيؤتى بالنار التي أضرمت لإبراهيم عليه السلام و يأتي جرجيس و دانيال و كلّ نبيّ و صدّيق، ثم يأتي ريح فينسفكما في اليمّ نسفا.
و قال عليه السلام يوما للحسن يا أبا محمد أ ما ترى عندي تابوت من نار يقول يا عليّ استغفر لي، لا غفر اللّه له.
و روي في تفسير قوله تعالى إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ قال سأل رجل أمير المؤمنين عليه السلام ما معنى هذه الحمير. فقال أمير المؤمنين عليه السلام اللّه أكرم من أن يخلق شيئا ثم ينكره، إنّما هو زريق و صاحبه في تابوت من نار في صورة حمارين، إذا شهقا في النار انزعج أهل النار من شدّة صراخهما(2).
__________
(1) 30/257-258
(2) 30/ 276-277(63/29)
- عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال ما حرّم اللّه شيئا إلّا و قد عصي فيه، لأنّهم تزوّجوا أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بعده فخيرهنّ أبو بكر بين الحجاب و لا يتزوّجن أو يتزوّجن، فاخترن التزويج فتزوّجن. قال زرارة و لو سألت بعضهم أ رأيت لو أنّ أباك تزوّج امرأة و لم يدخل بها حتى مات، أتحلّ لك إذن. لقال لا، و هم قد استحلّوا أن يتزوّجوا أمّهاتهم إن كانوا مؤمنين، فإنّ أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مثل أمّهاتهم(1).
- [تفسير العياشي] المفضّل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن جعفر بن محمد و أبي جعفر عليهما السلام في قول اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى.. إلى آخر الآية، قال نزلت في عثمان، و جرت في معاوية و أتباعهما. - [تفسير العياشي] عن سلام بن المستنير، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى.. لمحمّد و آل محمّد عليهم الصلاة و السلام، هذا تأويل، قال أنزلت في عثمان.
-[تفسير العياشي] عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى... إلى قوله لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا قال صفوان أي حجر وَ الَّذِينَ ُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ. قال فلان و فلان و فلان و معاوية و أشياعهم.
__________
(1) 30/ 213-214(63/30)
-[تفسير العياشي] عن سعدان، عن رجل، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قوله وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ قالحقيق على اللّه أن لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من حبّهما(1).
الفصل الثاني
ماذا قال الله تعالى في حق الصحابة
ذلك نموذج لما قاله الإمامية في حق الصحابة! فلننظر: ماذا قال الله تعالى فيهم؟
جاء في صريح آيات القرآن ما لا يمكن رده أو تأويله من ثناء على الصحابة - رضي الله عنهم - والشهادة لهم بصدق الإيمان. سواء منهم من آمن من قبل الفتح أو بعده. هذا بعضها:
النص على وجوب اتباعهم والتمسك بهم شرطاً لرضوان الله عزّ وجل
يقول تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأْوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأْنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (التوبة/100).
__________
(1) 30/ 214-215 . والكتاب يفيض بمثل هذا القذر ! وهو مثال لما يكتبه الإمامية الاثنىعشرية ويعتقدونه في الصحابة الكرام. رضي الله تعالى عنهم. ولعن من أبغضهم وطعن فيهم إلى يوم الدين. علماً أن ما مكتوب يتفاوت في شدته. وليس كتاب (البحار) أشدها في قذارته وكفره !! بل هناك ما هو أقذر وأكفر !!! انظر مثلاً ما سطره اللعين عالم سبيط النيلي في كتابه (الشهاب الثاقب المحتج بكتاب الله على الناصب). المنشور باسم مستعار هو أبو علي السودائي. والكتاب متداول في أوساط الشيعة. وصاحبه موثق. و(الناصب) المحتج عليه هو… أحمد الكاتب صاحب كتاب (تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه) الذي خرج على طائفته أخيراً بإنكار أسطورة (المهدي) فقط . فأنا استشهدت بكتاب من درجة الوسط ، حتى أكون منصفاً ومتوازناً !!!!(63/31)
وفي المقابل حذر من مخالفتهم، وتوعد بالنار من أخذ بغير سبيلهم فقال: { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (النساء/115). ولم يكن المؤمنون الذين حذر الله من مخالفتهم في هذه الآية عند نزولها سوى المهاجرين والأنصار الذين صرح الله تعالى بوجوب اتباعهم في الآية الأولى شرطا لرضاه.
وليس هؤلاء السابقين الأولين المؤمنين من المهاجرين والأنصار قلة. كما يحاول أن يصوره الإمامية. بل هم كثيرون جداً. كما أخبر الله تعالى فقال: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنْ الأْوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الآْخِرِينَ } (الواقعة/10-14). كما أن أصحاب اليمين في المهاجرين والأنصار كثيرون. وذلك ما أخبر الله به فقال: { ثُلَّةٌ مِنْ الأْوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ الآْخِرِينَ } (الواقعة/39-40).
سابقو الأمم السالفة
ولا يمكن حمل هذه الآيات على سابقي الأمم السالفة كاليهود والنصارى لأنهم في
كل أمة قلة، وليسوا (ثلة) كما وصفهم القرآن الكريم. وذلك ثابت فيه وواضح لمن تدبر
ما قصه الله علينا من أعمالهم وأخلاقهم ومعاملتهم لأنبيائهم عليهم السلام. فـ(السابقون) في أول كل أمة ليسوا كثيرين. إلا في أمة الإسلام فإنهم (ثلة من الأولين).
فهذا نبي الله نوح - عليه السلام - يخبر الله تعالى عنه فيقول: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ } (هود:40). وكذلك أتباع إبراهيم - عليه السلام -.(63/32)
وتأمل ما أخبرنا الله تعالى عن أوائل أمة موسى - عليه السلام - فقال تعالى: { فلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } الشعراء/61 (أصحاب موسى) هكذا جاء اللفظ عاما دون استثناء، ولذلك أفرد موسى - عليه السلام - نفسه بالمعية حين رد عليهم قولهم، فقال: { كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ } الشعراء/62، ولم يقل: (ان معنا ربنا سيهدينا) كما قال نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - { لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } . فشركه معه في المعية.
ولما عبروا البحر وقد أنجاهم الله تعالى من فرعون لتوهم و { أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } الأعراف/138.
بل عبدوا العجل في غيابه! ولم ينكر عليهم سوى هارون - عليه السلام -. لكنهم لم يطيعوه. فلما دعا بالمغفرة والرحمة { قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَِخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } الأعراف/151، فخص نفسه وأخاه هارون فقط !(63/33)
ولما سار إلى الأرض المقدسة وأمرهم بدخولها: { قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } ولم يستجب له إلا رجلان، رجلان فقط !! كما أخبر الله تعالى بقوله: { قَالَ رَجُلاَنِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } لكنهم قالوا جازمين: { يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } فقال موسى وهو يعتذر إلى الله ويشكو من (قلة) الأعوان: { رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } وهذا يعني أنه لم يكن في قوم موسى - عليه السلام - إلا اثنان يمكن أن يوصفا بـ(السابقين). وأن البقية فاسقون. فلا يصح أن يكونوا معنيين بقوله تعالى: { ثُلَّةٌ مِنْ الأْوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ الآْخِرِينَ } . ولذلك عمهم الله تعالى جميعاً بالعقاب فقال: { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } (المائدة:20-26).(63/34)
أين هؤلاء من أهل بدر؟! الذين قال قائلهم: (يا رسول الله امض لما أمرك الله فوالله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون). وقال آخر: (امض لما أمرك الله فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك). فنصرهم الله تعالى نصراً مؤزراً حتى سمى يوم بدر بيوم الفرقان الذي فرق بين الحق والباطل. وأورثهم ديار الكافرين وأموالهم. وأنزل فيهم قوله الشريف في أول سورة الأنفال: { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأْقْدَامَ } الأنفال/11. وأنزل الملائكة تقاتل معهم تأييداً لهم: { إذ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } . وكلهم آمنوا وثبتوا فلم ينهزم منهم أحد. وأنزل فيهم في أواخرها قوله: { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } . وقوله: { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } . وقوله: { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فاؤلئك منكم } .
وأما أمة عيسى - عليه السلام - فلم يكن فيهم من الأتباع الخلَّص إلا اثنا عشر رجلاً! ارتد واحد منهم هو يهوذا الإسخريوطي!! فما بقي منهم إلا أحد عشر. وهذا العدد لا يمكن وصفه بـ(الثلة). فليسوا هم المعنيين بقوله تعالى: { ثلة من الأولين وقليل من الآخرين } .
ولقد صدر من هؤلاء الحواريين أمور تدل على أنهم لم يتخلصوا تماماً من طبيعتهم
المادية اليهودية. مثل طلبهم من نبيهم - عليه السلام - مائدة تنزل من السماء، دليلاً على صدقه.(63/35)
كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله: { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ } المائدة/112،113. وتأمل قولهم: { هل يستطيع ربك } ! وقولهم: { وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا } . أما أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا نعرف أحداً منهم أسلم بسبب خارقة سماوية سوى هذا القرآن. لقد كان عمر - رضي الله عنه - من أشد الناس عداوة للرسول - صلى الله عليه وسلم - لكنه ما أن سمع مطلع سورة (طه) حتى خشع لها ودمع وآمن. وقال: (دلوني على محمد حتى أسلم على يديه). دون أن يطلب مائدة ولا غيرها!
إن أولئك السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، هم الذين ندعو الله في كل قراءة لسورة الفاتحة أن يلحقنا بهم. ويهدينا صراطهم: { إهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } . وذلك مصداقاً لقوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } التوبة/100. وقوله: { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراًً } النساء/115.
المهاجرون والأنصار خيرة الأمة التي هي خيرة الأمم(63/36)
إن قوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأْوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } (التوبة/100). يستلزم أفضلية هؤلاء السابقين من المهاجرين والأنصار على بقية أجيال الأمة. لأنهم المأمور باتباعهم والاقتداء بهم. إذ لا يستقيم في العقول اقتداء الفاضل بالمفضول. ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) (1) . وقال تعالى يخاطبهم جميعاً - رضي الله عنهم - : { كُنْتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (آل عمران/110). ولم تكن الأمة حين نزول هذه الآية غيرهم.
وقال كذلك وهو يخاطبهم: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً – إلى قوله تعالى - وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } (البقرة/143).
ولقد كان الله تعالى يَعِد اليهود والنصارى وجميع الأمم الماضية بمجيء هذه الأمة،
وأولها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . وذلك ثابت في قوله تعالى: { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِْنْجِيلِ } (الفتح/29). فهم القدوة والمثل الأعلى الذي كان الله يضربه لتلك الملل.
المهاجرون والأنصار هم المؤمنون حقاً
قال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } (الأنفال/74).
وقال: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباً } (الفتح/18).
__________
(1) رواه البخاري.(63/37)
وقال عنهم: { فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } (الفتح/26). فهم أهل التقوى وأحق الناس بها.
إيمان الصحابة مراد من الله إرادة قدرية لا ترد
قال تعالى يخاطبهم: { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (الحجرات/7،8).
تأمل كيف ختم الله كلامه السابق بوصف نفسه بأنه (عليم حكيم). أي عليم بمن يستحق فضله. ولأنه حكيم فهو لا يضعه إلا في المحل الذي يستحقه. فهذا التحبيب والتزيين للإيمان في قلوبهم. وتكريه ما يضاده من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن موضوعاً في تلك القلوب عبثاً بل قد علم أنهم أهل له. وأحق الناس به
المهاجرون والأنصار أحق الناس بوصف (الصادقون) و(المفلحون)
قال تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } . ثم أكمل عن الأنصار فقال: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإْيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } (الحشر/8،9).(63/38)
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة/119). وهذه نزلت
بسبب الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. لكنهم صدقوا -فلم يعتذروا- وأقروا بتقصيرهم. فأنجاهم الله بصدقهم. و زاد فشرفهم بأمر المؤمنين باتباعهم. فكيف بسواهم ممن وصفهم الله بأنهم: { أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } ؟!
وجوب الاستغفار لهم وحرمة تتبع أخطائهم
قال تعالى بعد الآيتين السابقتين من سورة الحشر. اللتين مدح فيهما المهاجرين والأنصار: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (الحشر/10).
إن الاستغفار لهم يتناقض مع التنقير عن أخطائهم، وتتبع زلاتهم. فكيف بالكذب عليهم. واختلاق التهم وإلصاقها بهم ؟! إن ذلك حرام مع غيرهم. فكيف به معهم وقد أوصى الله بالاستغفار لهم ؟!! بل أمر بذلك رسوله فقال: { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأْمْرِ } (آل عمران/159).
وتحريم حمل الغل في القلوب يتناقض مع الحقد عليهم. بل جعل الله ذلك من دلائل الكفر وعلامات الكافرين ! فقال: { ليغيظ بهم الكفار } (الفتح/29).
الصحابة كلهم في الجنة(63/39)
قال الله تعالى يخاطب جمعهم: { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (الحديد/10). { واللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } (آل عمران/9). كما أخبر هو عن نفسه. ولقد قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } (الأنبياء/101). أي عن النار. والصحابة قسمان قسم أسلم قبل الفتح، وقسم أسلم بعده. وكلا القسمين موعود بدخول الجنة، والنجاة من النار بنص القرآن.
أمهات المؤمنين
قال تعالى: { النَّبيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } (الأحزاب/6).
فالمؤمن: أمهاته زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأبوه رسول الله. وإخوانه المهاجرون والأنصار، المعنيين بدعائه: { رَبنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ } (الحشر/10). وهذا هو بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -. فمن طعن بزوجة من زوجات النبي، فهو مطرود من نسب الإيمان. فإنه لو كان مؤمناً لما طعن بـ(أمهات المؤمنين). لأن الولد لا يطعن بأمه.
وهذه الأمومة أمومة حقيقية. تترتب عليها حقوق الاحترام والإجلال والفخر بالانتساب. فهل هناك أمهات اشرف من نساء اختارهن رسول الله ؟ بل اختارهن الله تعالى. فقال لنبيه : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً } (الأحزاب:52). وقال عن زينب بنت جحش رضي الله عنها: { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } (الأحزاب: من الآية37).(63/40)
وقال في أفضلينهن على نساء العالمين: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنّ } (الأحزاب/32). حتى إنه تعالى حرم على المؤمنين الزواج منهن. كما يحرم على الولد الزواج بأمه. مع أن ذلك حلال مع غيرهن. فقال: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً } (الأحزاب/53).
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤذيه كل ما يمكن أن يسيء إلى أزواجه، من قول أو عمل. إلى الحد الذي أمر الله به المؤمنين أن لا يخاطبوهن إلا من وراء حجاب فقال: { إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } (الأحزاب/53).
فكيف بالطعن بهن أو سبهن أو وصفهن بما لا يليق! والله تعالى يقول بعد تلك الآية بقليل: { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } (الأحزاب/57).
ثم يوصي نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يبتعد عما يمكن أن يعرضه لألسنة الناس، حتى يتجنب ما يؤذيه. فقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } (الأحزاب/59).(63/41)
ثم قال تعالى بعدها مباشرة: { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ } (الأحزاب/60). إشارة إلى ما كان يشيعه أولئك عن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بزينب. وقد كانت زوجة لمتبناه زيد. وقد مر ذكر ذلك في السورة نفسها في الآية (37). فجعل الكلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أزواجه من شيمة المنافقين وأمثالهم. وأوصى المؤمنين أن لا يكونوا أمثالهم. أو أولئك { الَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا } (الأحزاب/69). أي لا يكونن محمد - صلى الله عليه وسلم - في أهله بينكم، كما كان موسى - عليه السلام - في أهله بين بني إسرائيل. الذين اتهموه في رجولته. وما يتبع ذلك من التعرض لأهله.
وبيَّن الله في السورة نفسها أنه لن يقبل عذر من طعن في أزواج نبيه - صلى الله عليه وسلم -، تاركاً القرآن والسنة. ومتبعاً قول السادة والكبراء -إذا لم يتب ومات على ذلك- كما قال: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا } (الأحزاب/66،70). وهل الطعن في أزواج النبي والقول فيهن بما لا يليق من القول السديد ؟ أم من المنكر الشديد ؟!
تخيل نفسك -وأنت تسب عائشة أو حفصة رضي الله عنهما- التفتَّ فإذا أنت
برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليك ويسمع كلامك.. ما هو موقفك في تلك اللحظة؟ أم ما هو موقفه منك ؟!!
سيدات نساء العالمين(63/42)
يقول تعالى: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ } (الأحزاب/32). أي ليس هناك من جماعة من النساء مطلقاً أفضل منكن. بشرط التقوى. فإذا ثبتت التقوى في حقهن، ثبتت أفضليتهن على نساء العالمين عبر العصور والدهور. دون استثناء. وليس ذلك بكثير على نساء أفضل الأنبياء والمرسلين، والخلق أجمعين. على نساء اختارهن الله ورسوله. واخترن الله ورسوله !!
أما التقوى ثابتة لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بنص الكتاب العظيم. ذلك أنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، على الحياة الدنيا وزينتها. بعد نزول آيات التخيير وهي: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآْخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } (الأحزاب/ 28،29). فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وتركن الحياة الدنيا وزينتها ومتاعها. و كان هذا الاختيار صادقاً. بدليل أنه لم يكن ثمة ما يرغبهن بالبقاء مع النبي، ويصبرهن على معاناة شظف العيش معه، سوى صدق الإيمان، وحقيقة التقوى. ولأن هذا الاختيار قائم على التقوى. استحق قبول الله تعالى له. فكرمهن بسببه. وذلك بقوله: { لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } (الأحزاب/52).
وهذا التكريم من جهتين:
1- منعه - صلى الله عليه وسلم - من الزواج عليهن.(63/43)
2- ومنعه من تطليق واحدة منهن، ليتزوج أخرى بدلها. وذلك من أجل أن يبقين له زوجات دائميات. ليس في الدنيا فحسب. وإنما في الآخرة أيضاً. ولذلك منع المؤمنين من التزوج بهن من بعده فقال: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } (الأحزاب/53). وجعلهن بمقام الأمهات لكل مؤمن بقوله: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } (الأحزاب/6).
هذا بعض ما ورد في فضل أمهات المؤمنين من آيات تركنا أكثرها طلباً للاختصار.
صورة المجتمع الإسلامي على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
لو تتبعنا آيات سورة (التوبة) - الآية 98 وما بعدها - لوجدنا ما يمكن أن يرسم لنا صورة للمجتمع الإسلامي على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - :
* فهناك قبائل الأعراب المتناثرة في الصحراء حول المدينة. وهؤلاء قسمان: قسم منافق وقسم مؤمن: { وَمِنَ اْلأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (98،99).
* وفي داخل المدينة المهاجرون والأنصار. وهؤلاء قسمان: السابقون الأولون. والذين لحقوا بهم من بعد واتبعوهم بإحسان من عموم المهاجرين والأنصار.(63/44)
وهؤلاء ليس من شرط فضلهم أن لا يقترفوا ذنباً أو يرتكبوا تقصيراً. بل الصحابة بشر يجري عليهم ما يجري على بني آدم من لوازم الضعف والنقص المركب فيهم. فقد تجد منهم من يغلبه ضعفه أحياناً فيتخلف عن الغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأبي لبابة بن عبد المنذر، وبعض الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بلا عذر. وهم حوالي عشرة نفر. لما بلغهم ما نزل في المخلفين أوثقوا أنفسهم في سواري المسجد. وأقسموا أن لا يحل وثاقهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فتركهم حتى نزلت الآية بقبول توبتهم: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (التوبة:102). (خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً) وهو جهادهم في سبيل الله قبل هذه الغزوة. (وَآخَرَ سَيِّئاً) وهو تخلفهم عن هذه الغزوة، وإيثارهم الراحة والدعة. (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) وهو قبول توبتهم. فأطلقهم النبي - صلى الله عليه وسلم - . فطلبوا منه أن يأخذ أموالهم صدقة. طهرة لهم وكفارة عن ذنوبهم. فنزل: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) تنمي بها حسناتهم وأموالهم. (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) ادع لهم واستغفر لهم. (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) طمأنينة ورحمة لهم.
ومن هؤلاء المتخلفين من قال عنهم: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ). وهم الثلاثة الذين(63/45)
خلِّفوا. وهم: مرارة بن الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية. تخلفوا تكاسلاً، ورغبة في الراحة. وهؤلاء لم يعتذروا عند رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - كأبي لبابة وجماعته. بل قالوا: لا عذر لنا. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باجتنابهم إلى أن نزلت التوبة عليهم: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (117-119).
إذن المجتمع النبوي فيه أعراب حول المدينة. وفيه مهاجرين وأنصار (سابقون ولاحقون) داخل المدينة.
* وبينهم منافقون.
وهم قلة قليلة. لا تمثل المجتمع المدني. بل المجتمع المدني يمثله المهاجرون والأنصار الذين قال الله عنهم: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة:100).(63/46)
وقال: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (التوبة:117). وكانوا أكثر من ثلاثين ألفاً على رأسهم وأفضلهم من نزلت في حقه آية الغار تشخصه وتخصه وحده بالفضل مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
فماذا فعل الإمامية ؟
جاءوا إلى آيات المنافقين فأسقطوها على المهاجرين والأنصار ظلماً وتعسفاً. مع أن الآيات وصفت كل فريق بما يناسبه. ويَفصِله عن غيره!
لقد وصفت الآيات المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك. ووصفتهم بالكسل عن
الصلاة والإنفاق وغيرها من الأوصاف. خذ مثلاً قوله تعالى فيهم: { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (التوبة:67). كيف تسقط هذه الآية على مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة. وهم الذين جهزوا الجيش. الذي سمي بجيش العسرة، لشدة الحال والضيق والعسرة وقلة المال ؟! فبادر هؤلاء وأمثالهم ينفقون إنفاق من لا يخشى الفقر. ليجهزوا ذلك الجيش العرمرم المتوجه لغزو إحدى الدولتين العظميين في ذلك الزمان: دولة الرومان في الشام.
لقد جاء أبو بكر بماله جميعاً. فلما سأله رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ماذا أبقيت لأهلك ؟ أجابه: أبقيت لهم الله ورسوله! وكذلك فعل ابن عوف! وجاء عمر بنصف أمواله.
أما عثمان - رضي الله عنه - فتبرع بألف بعير وفرس سوى الذهب الذي ملأ به حجر
رسول الله- صلى الله عليه وسلم -. فجعل الرسول يقلبه بكفيه ويقول: (ما ضر عثمان ما فعل بعدها).(63/47)
أفهؤلاء يوضعون في صف المنافقين الذين { يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } والذين { لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ" } ؟!
أم يوضعون في صف من قال الله فيهم: { لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة:88-89).وقال: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة:100). وقال: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (التوبة:117). { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } (القلم:36-38).
مئات الآيات في فضل الصحابة
هذا وقد جاء في الكتاب مئات من الآيات المحكمات في فضل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تركناها تجنباً للإطالة. و في ما أوردناه لغنية وبلاغ لكل طالب حق.
أما الزائغون فلن ينتفعوا بشيء. ولو جئتهم بألف دليل ودليل! لأن الأمر كما قال سبحانه: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } (فصلت/44).(63/48)
الفصل الثالث
لمحة عن كيفية اتباع الشيعة المتشابهات في تجريح الصحابة
يترك الإمامية هذه الآيات المحكمات والتي تعد بالمئات ليلهثوا جاهدين وراء المتشابهات أو ما اختلقوا من روايات وزوروا من تواريخ وحكايات وأقاصيص مخترعات. فإذا عرضت لهم تلك النصوص، صاروا يلوون أعناقها، ويطوعونها قسراً كي تتلاءم مع ما يريدون. وإليه يرمون.
وحتى لا أطيل في هذا الموضوع أضرب مثالاً واحداً. ليقاس عليه بقية الأمثلة. إلا وهو سورة (الفتح).
سورة الفتح
نزلت هذه السورة العظيمة تعليقاً على ما تم في الحديبية من صلح وما سبقه من أحداث أهمها بيعة الرضوان تحت الشجرة. وكان ذلك حين بايعه ألف وخمسمائة من أصحابه على القتال أو الموت في سبيل الله بعد ما أشيع أن عثمان - رضي الله عنه - قتلته قريش وقد ذهب يبلغها رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وسبب ذلك كله مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصحبه الكرام - رضي الله عنهم - قاصدين أداء العمرة. وقد تخلف عنهم المنافقون، وضعاف الإيمان من الأعراب وأشباههم خوفاً من قريش التي ظنوا أنها ستبيد المسلمين. كما أخبر تعالى عنهم بقوله: { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُوراً } (الفتح/12).
أما المؤمنون - الذين آمنوا بربهم ووثقوا بوعده فتوكلوا عليه - فقد لبوا نداء نبيهم، دون أن يستجيبوا إلى ما يعتمل في النفس من مخاوف أو يخطر من ظنون. فكان ما كان من أحداث جسام. حتى إذا تم الصلح ورجعوا إلى المدينة نزلت هذه السورة أثناء الطريق. وفيها ما فيها من عظيم الثناء عليهم.
انقسمت السورة في فضلها قسمين اثنين: قسم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقسم لصحابته:(63/49)
فقوله تعالى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك
ويهديك صراطاً مستقيماً وينصرك الله نصراً عزيزا } (الفتح/1-3) هذا لرسول الله.
فما لصحابته معه ؟ قال تعالى بعدها مباشرة: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا } (الفتح/4،5).
ثم تذكر السورة فريقاً ثالثاً تخلف فلم يكن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأزمة. خوفاً وظنَّ السوء. فقال تعالى بعدها مباشرة: { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } (الفتح/6).(63/50)
هؤلاء الذين جاءوا - بعد أن رجع المؤمنون سالمين - يعتذرون قائلين: { شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً } (11-12). وتعود السورة إلى الحديث عن رسول الله وصحابته. والثناء عليهم بعكس أوصاف المنافقين وأفعالهم. حتى تنتهي النهاية نفسها. فتكون الخاتمة كالفاتحة: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإْنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (الفتح/28-29).
فهل هناك أعظم وأجمل وأروع من هذا الثناء والتوثيق والتعديل؟!!
فانظر كيف اتبع المخلفون والذين في قلوبهم مرض والناكثون المارقون سبيل
المتشابه، ليبطلوا – بظنهم - ذلك كله. ويطعنوا في خير جيل وعد الله به البشرية في التاريخ كله ؟!
الحرف الذي نسف سورة بكاملها !(63/51)
ترك هؤلاء السورة كلها. ثم جاءوا إلى حرف واحد منها متشابه ليبنوا عليه أوهامهم وأفكارهم. قالوا: إن الحرف (من) في آخر آية من السورة للتبعيض. فيكون الثناء والوعد للبعض. لا للكل!
وهؤلاء البعض كم عددهم؟ ألف، ألفان؟ أم أكثر؟ أم أقل؟ ثم من هؤلاء؟
ثلاثة نفر: سلمان والمقداد وأبو ذر. وفي رواية: خمسة.
فقط ؟!
فقط .
وماذا نقول لليهود والنصارى وهم ينتظرون ميلاد ذلك الجيل الموعود على مر الحقب والتواريخ ؟!!
قولوا ما تقولون. فليس ذلك من شأننا.
وهكذا غلفت هذه السورة بالكامل. وكفنت ووضعت على الرف .
ولو قال تعالى: (محمد رسول الله وأهل بيته معه أشداء على الكفار..وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً). لقالوا: هذا دليل صريح على إمامة علي وعصمته وأحد عشر من ذريته!
وللعقلاء الأزكياء نقول:
إن الآية ذكرت للأصحاب مجتمعين، هذا الصفات مجتمعة:
- أشداء على الكفار
- رحماء بينهم
- تراهم ركعاً سجداً
- يبتغون فضلاً من الله ورضوانا
- سيماههم في وجوههم من أثر السجود
وباقي الصفات نتركها تبرعاً.
فنقول: هل يمكن لجمع اتصف بهذه الصفات كلها مجتمعة أن يكون بعضهم في النار، وبعضهم في الجنة!!
إضافة إلى أن السورة امتلأت بالثناء عليهم. كما في قوله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } (الفتح/18). والفتح القريب هو فتح خيبر. فالإثابة بالفتح كانت على خمسة فقط ؟! أم أن خمسة فقط هم الذين فتحوا خيبر ؟! وهذا الجمع الذي يعد بالمئات منافقون!
كيف ينصر الله جيشاً أغلبه منافقون؟! إذن لماذا لم ينصر الله موسى - عليه السلام - ويدخله الأرض المقدسة ومعه أخوه هارون واثنان مخلصان ؟! ولا بد أن يكون معه آخرون مؤمنون، وإن كانوا ضعاف الإيمان.(63/52)
ولماذا سجن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أبا محجن الثقفي وقد تغنى بالخمر – وقيل شربها - في القادسية ؟!!
ومن هؤلاء (المؤمنون) الذين عيَّر الله بهم المنافقين فقال: { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا } (الفتح /12). ومدحهم أعظم المدح فقال: { فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } (الفتح/26)؟ ثلاثة فقط ؟!
لقد رجع المؤمنون من الحديبية – وقد فازوا بجائزة هذه السورة - فرحين أشد الفرح. ولم يكن يخطر ببالهم أن هذه الجائزة ليست لهم. وأنهم لا يستحقون إلا الغضب
واللعن. وأنهم والمخلفين سواء! إذن علام خرجوا معه. وتحملوا هذه المخاطر؟!
ولم يخطر ببال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء من ذلك. حتى خلف من بعد ذلك خلوف فازوا بفهم هذه الآيات.. فهماً لم يدركه رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه المقربون!
لقد وصف الله صحابة نبيه - وهم (الأمة) حين نزول الآية - فقال: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } (آل عمران/110). وإن أمة تعد بعشرات الآلاف ليس فيها من
الخيِّرين إلا بضعة نفر، لا يمكن وصفها بأنها خير أمة، بل هي شر أمة.
إن أقل ما تستحق به أمة هذا الوصف، أن يغلب خيارها على شرارها. فكيف إذا كان الأخيار - على قول الإمامية - لا يكادون يوجدون!
وبشَّر تعالى اليهود والنصارى والأمم كلها، بمجيء هذا الجيل الموعود. وضرب لهم الأمثال في التوراة والإنجيل. لكن وعد الله وبشارته - على رأي الإمامية - لم تتحقق. لأن جيلاً ليس فيه إلا خمسة نفر صالحون. يستحيي من الفخر به أحد من الخلق. فكيف بالخالق القادر العظيم! أهكذا تكون بشارة العظيم؟! { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } (القلم/36).(63/53)
لو عاملنا الأنبياء كما عامل الإمامية الصحابة
لو اتبعنا أسلوب الإمامية في طعنهم بالأصحاب عن طريق تصيد شبهات الألفاظ وتضخيم الأخطاء. وطبقنا ذلك على الأنبياء - عليه السلام - لما بقي لنا إيمان، ولا سلم لنا رسول! واليك البرهان على ما أقول:
إبراهيم الخليل عليه السلام
قال تعالى: { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآْفِلِين * فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } الأنعام/75-78.
لو أن هذه الآيات نزلت في حق أبي بكر الصديق لقالوا:
كيف يصلح أبو بكر للإمامة وقد كان مشركاً متحيراً! فمرة يقول عن الكوكب هذا ربي. ومرة يتخذ القمر إلها. وأخرى يتخذ الشمس كذلك. حتى قال: { لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } . فهو يشهد على نفسه أنه من الضالين المشركين غير المهتدين فهو إذن من الظالمين. والإمامة لا تصلح للظالمين. لأن الله يقول: { وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } (البقرة/124)!!
موسى عليه السلام
تأمل ما حكاه الله عن موسى - عليه السلام - :
1. قتل نفساً بغير نفس(63/54)
{ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الذي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِين قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (القصص/14-16). ثم لم يف بما وعد وأخذ على نفسه من عهد، بل نسي وكاد أن يكرر الفعل نفسه في اليوم الثاني! كما قال تعالى: { فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأْمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأْرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ } القصص/19. حتى إن فرعون عيَّره بفعلته، وأنكر لذلك أمر نبوته فقال: { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ } الشعراء/19-20 وهذا إقرار من موسى على نفسه بأنه فعل ما فعل وهو من الضالين.
ولو كانت الآية في حق أبي بكر- رضي الله عنه - لتوسعوا في معنى الضلال، وقالوا هو الكفر الأكبر والشرك المطلق. ولقالوا: إنه قاتل ومتهور وظالم. وكل ذلك جاء في النص. فكيف يكون إماما للمسلمين وخليفة على المؤمنين والله يقول: { لا ينال عهدي الظالمين } !!
2. الخوف والهرب وأمور أخرى(63/55)
قال تعالى مخاطباً موسى - عليه السلام - وقد هرب من بين يديه خوفاً من الحية التي كانت عصا: { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ } النمل/10-11 ولو كان ذلك في حق أبي بكر لقالوا: إنه جبان وعديم الإيمان. وهل يمكن لإنسان أن يخاف من شيء في حضرة الرحمن؟ وما ذلك إلا لظلمه. تأملوا قول الله: (إلا من ظلم)! فلولا ظلمه لما خاف أما قال تعالى: { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } آل عمران/151…الخ. والله تعالى يقول: { لاينال عهدي الظالمين } أي (الإمامة).
ليس هذا فقط . وإنما جاء في حقه قوله تعالى: { رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ – إلى قوله - وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ – إلى قوله - ففَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } (الشعراء/12-21) وصاحب الذنب غير معصوم. و(الإمامة) لا تكون إلا للمعصومين. ولو أسقطنا هذه الآيات الكريمة على أبي بكر - رضي الله عنه -، ولم تكن نازلة في حق نبي الله موسى - عليه السلام - لأشبعوه شتماً وطعناً وتجريحاً وقالوا: انظروا إلى خوفه وجبنه وفراره خوفاً من القتل! كيف يكون مثل هذا (إماما)؟!
وهذا الذي أقوله يقين وليس ظناً: فإن قوماً جاءوا إلى قوله تعالى حكاية عن قول نبيه - صلى الله عليه وسلم - لصاحبه أبي بكر - رضي الله عنه - : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } التوبة/40 فحرفوا (الحزن) إلى (الخوف). وقالوا: أبو بكر جبان خاف على نفسه وكان يرتعد من الخوف والنبي يهدئه ويطمئنه. وبنوا على ذلك حكايات وأساطير. مع أن الحزن شيء والخوف شيء آخر. كيف إذن لو نزل مثل هذا الكلام في حق أبي بكر؟!(63/56)
لقد صرح الله تعالى بنسبة الخوف إلى موسى - عليه السلام - . وجاءت آيات أخرى تنهى بعض الأنبياء عن الخوف مثل خطاب الملائكة للوط - عليه السلام - : { لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ } العنكبوت/33 وبعضها ينهى عن الحزن مثل خطاب الله تعالى لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم -: { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } النحل/127. فلماذا يُذم أبو بكر على أشياء ثبتت في حق الأنبياء؟ مع أن آية الغار ليس فيها ذكر للخوف! أليس هذا هو عين الكيل بمكيالين؟!! أيذم أبو بكر لأنه حزن. ولا يذم من هو أفضل منه للسبب نفسه ؟! أليس الفاضل أولى بالقدح من المفضول؟ وأن حسنات الأبرار سيئات المقربين؟!
هل هذا سوء فهم أم سوء قصد ؟!(63/57)
لكن لأن الأنبياء عليهم السلام متفق على صلاحهم، فالكلام عليهم واضح البطلان. لذلك سكتوا عنهم. بيد أن سنة الله واحدة، وقانونه واحد. فالأمر الذي يكون في حق أبي بكر سيئة لا بد أن يكون في حق سواه كذلك. لا سيما إذا كان نبياً يستحق الوصف بالأولى. كما قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } الإسراء/73-75. ثم تأمل ما قال الله في حق موسى- عليه السلام -: { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأْلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } الأعراف/150. وماذا في الألواح غير كلام الله؟! فكيف يلقيها موسى وهو كليم الله؟! إن الواجب الشرعي يحتم علينا أن نتأول له هذا الفعل بما لا يخدش نبوته. والسؤال ماذا كانوا سيقولون لو أن أبا بكر هو المعني بهذا الكلام؟ أي كانت في يده ألواح القرآن فألقاها وأخذ برأس علي أو عمر يجره إليه؟!(63/58)
وماذا تتوقع أن يقولوا لو كان في هذه الآية اسم أبي بكر بدل موسى: { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } الأعراف/155 وظاهر الكلام يمكن أن يحمل على أنه اعتراض، ونسبة للفتنة إلى جناب الرب، وأن العبد مسير لا مخير. وهو احتجاج بالقدر!! فإذا أضاف إلى ذلك طلب الرؤية تم فساد اعتقاد أبي بكر وظهر بطلان (إمامته) أليس هو الذي قال: { رب أرني أنظر إليك } !
ولو رحنا نستقصي جميع المواقف التي جاءت في القرآن عن موسى - عليه السلام - لوجدنا فيها منافذ شتى للتسلل! خذ مثلاً رحلته مع الخضر - عليه السلام - . وقس عليها. ماذا لو كان أبو بكر فيها بدل موسى؟!
يونس عليه السلام(63/59)
من المعلوم في القرآن أن نبي الله يونس - عليه السلام - عاقبه الله تعالى حين ترك قومه فابتلعه الحوت. وكان ما كان مما قصه الله في كتابه، حتى إن الله تعالى نهى نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - من التأسي به فقال: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } القلم/48. ولو كان أبو بكر صاحب الحوت لقيل: كيف يكون مثل هذا (إماماً) والله ينهى عن التشبه أو الإقتداء به؟! والإمام يجب أن يكون معصوماً، وهذا قد ارتكب ذنباً عاقبه الله عليه أشد العقوبة. أليس هو القائل: { سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } الأنبياء/87؟! وهذا نص من الله في كونه من الظالمين. والله تعالى يقول: { لا ينال عهدي الظالمين } . إذن لا يصلح صاحب الحوت (للإمامة) ! ليس هذا ببعيد على من تمسك بأول هذه الآية: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } آل عمران/155 وقطعوا أخرها: { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } ، وعن مثيله قوله تعالى: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (آل عمران:152) كل ذلك من أجل أن يتوصلوا إلى ذم أناس من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - صرح الله بنفسه أنه عفا عنهم. فكيف لو عاقبهم على ذنبهم كما عاقب نبيه الكريم يونس - عليه السلام -؟!(63/60)
ولجاءوا إلى قوله تعالى عن يونس - عليه السلام -: { فظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } الأنبياء/87 وقالوا: إن أبا بكر فاسد العقيدة. ما بالكم بإنسان يشك في قدرة الله؟ والشك في القدرة الإلهية كفر. كيف يكون (إماماً) على الأمة؟! ولو جئتهم بألف دليل ودليل على أن اللفظ هنا ليس المقصود به القدرة، وإنما التضييق والعقوبة. أي ظن أن لن نضيق عليه بالعقوبة- لما كفوا عما يقولون لأن السبب كامن في سوء القصد، وليس في سوء الفهم.
لوط عليه السلام
حكى الله تعالى عن لوط - عليه السلام - أنه قال لقومه حينما جاءوا يريدون ضيفه: { هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } هود/78 . ولو كانت القصة في أبي بكر - رضي الله عنه - لوضعت لها روايات وشققت لها قصص وحكايات للطعن في أخلاقه وعرضه وشرف بناته وأهل بيته. كل ذلك من أجل سلبه الأهلية في تولي أمر المسلمين وإمامة المتقين.
آدم وبقية الأنبياء (عليهم السلام)
وقِس على ذلك بقية الأنبياء كأبينا آدم - عليه السلام - الذي صرح الله تعالى بخطيئته في عدة مواضع من القرآن حتى قال: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } طه/121
ولو كان هذا في حق أبي بكر لهللوا له وكبروا وحكموا له بدخول جهنم قطعاً بلا
شك. أليس الله يقول: { فَكُبكبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } الشعراء:94/95. ويقول: { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبعُهُمْ الْغَاوُونَ } الشعراء/224. ولحكموا أنه من أتباع إبليس. أليس الله يقول: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } الحجر/42. والآية الأولى سمته غاويا وعاصيا. فماذا تريدون بعد من دليل على كونه من أتباع إبليس؟ فكيف تتخذون مثل هذا إماما؟!
خير البشر أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -(63/61)
الأصل في الاستدلال أن يستند أولاً إلى المحكم الذي لا شك فيه. ليكون هو القاعدة والأساس الذي يرد إليه ما تشابه مما خالف أو ظُن أنه كذلك. وهذا في الأحكام الاعتقادية والفقهية وغيرها. ومنها الحكم على الأشخاص.
أما الحكم على شخص ما من خلال الشبهات وترك المحكمات فهذا منهج فاسد لا يوصل إلى الحقيقة.
إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - مثال واضح على ما أقول:
إن مئات من الأدلة القطعية المحكمة تشهد على سمو أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - وصدق دعوته ونبوته. لكن هذا كله لم ينفع مع من اتبع ذلك المنهج الفاسد في النظر إلى صورة خير البشر أبي القاسم محمد عليه افضل الصلاة والسلام! لقد بدت صورته الزاهية المشرقة مشوهة في نظر أولئك التائهين حتى قالوا: إن محمدا رجل لا هم له إلا النساء وسفك الدماء! أليس هو الذي تزوج ذلك العدد الهائل من النساء مع انه حرمه على أصحابه؟! إن هذا يدل على شهوانيته وانشغاله الزائد بالحب والمرأة والجنس. واحتجوا برواية ساقطة ترويها بعض الكتب (المائعة) شبيهة برواية داود- عليه السلام - والقائد أوريا التي وردت في التوراة المزورة. ملخصها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى زينب فبهت لجمالها فتعلق قلبه بها وهام بحبها هياما حمله على تطليقها من زوجها زيد الذي هو ابنه بالتبني. ثم تزوجها من بعده! وركبوا هذا الإسفاف على الآية التي تحدثت عن اصل موضوع زواجه - صلى الله عليه وسلم - بزينب رضي الله عنها. والتي تقول: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } الأحزاب/37 قالوا: أخفى حبها وافتتانه بها ونيته المبيتة في السعي في تطليقها والزواج منها خشية كلام الناس. وهذا معنى قوله في الآية نفسها: { وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } الأحزاب/37 إن هذا السخف(63/62)
الذي وقع فيه بعض المستشرقين ومن لف لفهم مستندين إلى ما روته بعض الكتب التي تجمع بين الغث والسمين أقرب إلى التصديق عند من لا يؤمن بنبوة محمد- صلى الله عليه وسلم - من قول بعض السفهاء: إن أبا بكر كان يخرج رجله من الغار عسى أن يراه المشركون الذين تجمعوا هناك كي يدخلوا ويقتلوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - ! وإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - إنما أخذ أبا بكر معه كي يأمن شره حتى لا يشي به !
ولا شك في أن هذه الآية لو كانت في أبي بكر لكان لهم معه شأن آخر! إن أول طعن يوجهونه إليه في أخلاقه حتى يوصلوه إلى أسفل الدركات، ولن تسلم عقيدته وأصل إيمانه. إنه لا يخشى الله بل يخشى الناس أنه من الذين { يخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } النساء/77. وهذا هو النفاق والشرك فكيف يتخذ صاحبه (إماماً)؟!
ولو نزل في أبي بكر قوله تعالى: { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } التحريم/1 لقالوا: أبقي شك بعد هذا القول الصريح في أن هذا الرجل لا يقيم لشرع الله وزناً! إنه يحلل ويحرم بهواه! تصوروا رجلاً يحرم ما أحل الله إرضاءً لزوجته! كيف تتخذونه (إماماً)؟!
ويؤيد هذا قوله تعالى: { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآْخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } الأنفال/67-68. وهذا صريح –طبقا لطريقة الإمامية في التفكير- في إرادة أبي بكر الدنيا على الآخرة. لكن لما كانت الآيات نازلة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخذ الفداء من أسرى بدر بدلاً من قتلهم لم يتعرضوا لها بذكر. يقول تعالى: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأْرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآْخِرَةَ… } الأنفال/67-69.(63/63)
إن هذا الأسلوب المقلوب الذي لو طبقناه في حق الأنبياء عليهم السلام لما سلمت لواحد منهم نبوته! لهو الأسلوب الذي طبقه الرافضة في حق الأصحاب رضي
الله عنهم توصلاً إلى إسقاطهم وعزلهم عن الدور الذي أراده الله لهم.
ولا أظن منصفاً يقارن بين الفريقين إلا ويراجع نفسه وحساباته من جديد في
موقفه من خيرة البشر بعد الأنبياء عليهم السلام أولئك { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } الأنفال/74
لو عاملنا علياً معاملة القرآن للأنبياء
والعكس صحيح. فلو نسبنا بعض ما جاء عن الأنبياء عليهم السلام في القرآن إلى علي ووضعنا ذلك على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - . دون أن نشير أن هذا جاء في القرآن مضافاً للأنبياء لقال الإمامية: ألم نقل أنكم تبغضون علياً وأهل البيت؟! ولأنكروا إلى حد الاستحالة أن يصدر ذلك عن علي.
فلو قلنا مثلاً: إن علياً نظر مرة إلى الكوكب فقال: هذا ربي. ومرة إلى القمر. وثالثة إلى الشمس. وفي كل مرة يتوهم أن هذا هو ربه حتى اهتدى إلى الرب الحقيقي، لقال الإمامية: إنكم تسبون علياً.
ولو قلنا: أن علياً قال: { مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } .
ولو قلنا: إن علياً قتل رجلاً ظلماً فقال: { هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } .
ولو قلنا: جاء في الحديث: أن علياً عصى ربه فغوى (إشارة إلى آدم عليه السلام). ولو قلنا: إن علياً ضرب ابنه الحسن أو الحسين. وصار يجره من لحيته ورأسه. ويعنفه ويلومه (إشارة إلى موسى وهارون).(63/64)
ولو قلنا: إن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - أمر علياً - رضي الله عنه - بأمر فلم ينفذه خشية الناس. حتى قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أتخشى الناس والله أحق أن تخشاه). (إشارة إلى زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب المذكور في سورة (الأحزاب).
وأن علياً - رضي الله عنه - حرم على نفسه بعض ما أحل الله من أجل أن يرضي زوجته. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة زوجتك؟
ولو قلنا: إن علياً أرسله رسول الله في غزوة فانتصر على عدوه وأخذ بعضهم أسرى. لكنه أطلقهم وأخذ مقابلهم مالاً. فقال له رسول الله معنفاً: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ولولا أنك اجتهدت والمجتهد معذور لعاقبتك عقاباً عظيماً). (إشارة إلى ما نزل في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سورة الأنفال من أخذه الفداء عن الأسرى).
ولو قلنا: إن علياً أركض الخيل يوماً عصراً. وشغله حبها، والنظر إليها وهي
تتسابق فيما بينها. حتى فاتته صلاة العصر.
ولو قلنا: إن علياً غضب يوماً فألقى المصحف أو القرآن من يده.
لو قلنا هذا أو بعضه، لقال لنا الإمامية: أيها الكفرة الحاقدون المفترون! لماذا تطعنون في علي وتبغضونه إلى هذا الحد؟!
مع أن هذا كله ذكره القرآن عن الأنبياء عليهم السلام.
لقد رفع الإمامية علياً فوق منازل الأنبياء. ونزلوا بالصحابة تحت مستوى البشر الأسوياء!!
فصل تكميلي
جميع العقائد الإمامية متشابهة الأدلة
عقائد أساسها المتشابه لا المحكم(63/65)
لم نجد للإمامية عقيدة انفردوا بها تقوم على آية قرآنية محكمة صريحة المعنى قطعية الدلالة قط . وإنما اتبعوا في وضع عقائدهم متشابهات الأدلة . وقد ناقشنا هذا الأمر وتبين لنا واضحاً فيما سبق من عرضنا لتلك العقائد ، أهمها وأعظمها (الإمامة والعصمة) ، فما دونها يقاس عليها . والعقائد التي انفردوا بها كثيرة ، ولا أرى حاجة لمتابعتها واحدة واحدة . ولكن لا بأس في أن نتناول –على وجه الاختصار- مثالين آخرين فقط نختم بهما هما : عقيدة (البداء) وعقيدة (الرجعة) لنرى كيف أنهم ساروا فيهما على النسق نفسه من اتباع الظن أو المتشابه دون القطعي أو المحكم . وقس على ذلك بقية الاعتقادات .
أ- البداء
دليل البداء
أقوى ما احتجوا به قوله تعالى : (يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ( (الرعد/39).
نقض هذه العقيدة
والآية في نسخ الأحكام الشرعية ، لا في تغيير الأخبار الاعتقادية .
والأحكام الشرعية يجوز عليها المحو والتغيير. كما قال تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا( (البقرة/106).
ومن ذلك نسخ إباحة الخمر بقوله تعالى: ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأْنصَابُ وَالأْزْلاَمُ رِجْسٌ
مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( (المائدة/9). بعد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ( (النساء/43).
ومنه نسخ التوجه إلى بيت المقدس في الصلاة بالأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام. فهذه هي الأحكام المعرضة للنسخ. وعنده (أم الكتاب) وهو المحكم الذي لم ينسخ. وإليه نرجع ما نسخ. لأن المنسوخ أحد أفراد المتشابه كما قال تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ( (آل عمران/7).(63/66)
فالقول بالبداء - أي جواز أن يطرأ المحو والتغيير على ما أخبر الله به فيقع على غير ما أخبر أو وعد. فيمحو ما يشاء من الأخبار والوعود ويثبت ما يشاء - باطل، بل كفر لأنه لا يليق بصادقي المخلوقين. فكيف بالله اصدق القائلين؟! وإخلاف الوعد من صفة المنافقين. فكيف يوصم به رب العالمين؟ أليس هو القائل:
(إن الله لا يخلف الميعاد( (آل عمران/9).
والقائل: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( (الأنعام/115).
والقائل: (ما يبدل القول لدي( (ق/29).
والقائل: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ( (البقرة/255).
والقائل: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ( (الحشر/22).
فكيف يخبر فيكذب؟! ويعد فيخلف؟! (سبحانه وتعالى عما يقولون علواً عظيماً(.
إن القول بأن هذه الآية تدل على البداء. لا فرق بينه وبين قول المجوس: إن قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( (الزخرف:84). يدل على وجود إلهين اثنين. لأن كليهما استدلال على شيء معلوم فساده من الدين والقرآن علماً ضرورياً لا يجهله أحد من المسلمين عالماً كان أم جاهلاً.
والاستدلال بهذه الكيفية ليس أكثر من لعب بكتاب الله، واستهزاء بآياته. يجب أن
يتنزه عنه كل من عنده ذرة من إيمان بهذا الكتاب.
ولعل سائلاً يسأل: ما الذي يدفع الإنسان إلى النزول إلى هذا المستوى الهابط من الأقوال والاستدلال؟! والجواب هو الاضطرار أمام الإحراجات الاعتقادية التي واجهت الإمامية أكثر من مرة في تاريخهم.
فقد كانوا في البدء يقولون: إن الإمام يجب أن يكون أكبر أخوته : فقالوا بـ(إمامة) إسماعيل بن جعفر لأنه كبير أخوته . فإذا به يموت في حياة أبيه!(63/67)
فماذا يفعلون؟! انقسموا إلى عدة فرق –كما مر بنا- وقد كان الكيسانية الذين يؤمنون بـ(إمامة) محمد بن الحنفية يقولون بمبدأ (البداء) الذي اخترعه لهم المختار بن أبي عبيد الثقفي تخلصاً من إحراجات كانت تواجهه حين يقع الأمر على غير ما يخبرهم به. فما كان من الإمامية إلا أن استلفوا هذا المبدأ من الكيسانية خروجاً من المأزق الذي أوقعهم فيه القدر، لينتقلوا بـ(الإمامة) إلى عبد الله الأفطح أخي إسماعيل الثاني. لكن عبد الله وقبل أن يفيقوا من هذه الصدمة يموت بعد سبعين يوماً من وفاة أبيه دونما ولد! فكان مأزقاً آخر لا يقل عن الأول! فاستعملوا الوسيلة نفسها (البداء) لينتقلوا بـ(الإمامة) وللمرة الثالثة: إلى أخيه الأصغر موسى بن جعفر!
وتكرر المأزق مع الحسن العسكري وأخيه محمد. وأعيدت المسرحية بكل تفاصيلها! كان محمد بن علي الهادي أكبر أخوته. فقال الإمامية بـ(إمامته) لكنه-مع الأسف- مات في حياة أبيه. فانتقلوا بـ(الإمامة) بواسطة (البداء) إلى أخيه الثاني الحسن العسكري. ويموت الحسن دون ولد فينقل بعضهم (الإمامة) إلى أخيه الأصغر جعفر. ومنهم من فعل كما فعل الفطحية من قبل مع عبد الله الأفطح. إذ ادعوا له ولداً سموه (محمداً). وقالوا بغيبته و(إمامته). فقالوا: إن للحسن ولداً واسمه محمد وقد غاب!
يروي الكليني بسنده عن أبي الحسن (أي علي الهادي) أنه قال: (بدا لله في أبي محمد (أي الحسن العسكري) بعد أبي جعفر (أي أخيه الأكبر محمد) ما لم يكن يعرف له كما بدا لله في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله وإن كره المبطلون) (1).
ثم عظموا هذا المعتقد ونسبوه (للأئمة) حتى يقبل دون نكير أو نقاش. روى الكليني بإسناده عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: (ما عظم الله بمثل البداء) (2).
وعن أبي جعفر (ع) أنه قال : (إذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم به
__________
(1) أصول الكافي1/327.
(2) أيضاً 1/146.(63/68)
فقولوا صدق الله. وإذا حدثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا: صدق الله تؤجروا مرتين) (1).
تأمل قوله: (فجاء على خلاف ما حدثناكم به) أي كذب الله-سبحانه- في إخباره وحديثه! تعالى الله عما يقولون علوا عظيماً! أبمثل هذا يعظم الله! وتعظيماً لا مثيل له!!
أبالكفر به ونسبة الكذب إليه يعظم الرب جل وعلا!!
ثم ما هي الفائدة المترتبة على هذا المعتقد الخطير غير محاولة التخلص من الإحراجات ! ولكن بما هو أشد منها؟! أي من أجل أن لا يتبين كذب الكذاب في خبره ينسب الخبر والكذب إلى الله! وعلى كل حال قولوا: (صدق الله! تؤجروا مرتين). والأجر مرتين ما هو إلا رشوة مقدمة للعقل كي لا يعترض أو يفكر بل يقر …ويجمد. ويقال بعد هذا: إن أصول الدين تثبت بالعقل! فأي عقل هذا الذي يثبت مثل هذا؟! (نعوذ بالله من سبات العقول).
إن العقيدة ليست مخارج وأنفاقاً للتخلص من الإحراجات والمآزق! وبأي ثمن!
ب- الرجعة
الرجعة: معناها رجوع (الأئمة) وأولهم علي إلى الحياة الدنيا بعد أن ماتوا ، مع رجوع (أعدائهم) وأولهم الخلفاء الراشدون لينالوا العقاب الأليم على أيدي (الأئمة) جزاء ما فعلوه بحقهم .
ولها مفاهيم أخرى تطرق إليها محمد صادق الصدر في رسالة بعنوان (بحث حول الرجعة) منها: (تناسخ الأرواح) الذي يعرفه قائلاً: (الرجوع إلى الدنيا بما يسمى بالولادة الثانية بأن تدخل روحه إلى جنين جديد التكوين فيولد إلى الدنيا من جديد) ويترك هذا المعنى دون أن ينفيه بل يعقب عليه بما يؤيده قائلاً: (وهذا هو الذي يفسر الأقوال الكثيرة التي صدرت من العديد من الناس الذين يقولون: إننا كنا في الدنيا قبل هذا وبعضهم - كما قيل - يعرف أسماء الموجودين ويعرف الطريق مما يدل دلالة قطعية على صحة كلامه)!!
__________
(1) أيضاً1/369(63/69)
لكنه يكر عليه قائلاً: (إلا أن هذا الفرع من المعرفة فيه إشكال ما يسمى بالتناسخ. فهل هو صحيح أم لا أم أنه صحيح أحياناً وباطل على بعض التقارير، فهذا مما لا نريد الخوض به لأنه يطول بنا الكلام الذي نريد له الاختصار).
هل يحتاج مسلم مهما كان مستواه فضلاً عن عالم في مثل هذه العقائد الفاسدة والأفكار الغالية ذات المرامي البعيدة إلى كلام يطول! إن المسلم من الأساس فارغ القلب منها فيكفي إهمالها أو يقال: إن هذا باطل وحسب، ولا داعي لتعظيم المسألة بمثل هذه العبارات التي - أقل ما فيها إنها - تغرس الشبهة في قلب القارئ لا سيما بعد قوله: (مما يدل دلالة قطعية على صحة كلامه) ولا ينفع من بعد قوله: (ألا إن المشهور بين العلماء هو بطلان التناسخ على كل أشكاله)(1). لأن الشهرة ليست دليل نفي ولا إثبات.
ثم ما معنى الإشكال بعد التسليم بصحة الموضوع بالدليل القطعي الدلالة؟!!
أدلة الإمامية على الرجعة
احتجوا بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ( (آل عمران/199). يقول محمد الصدر: (ومن الواضح أن سرعة الحساب لا تناسب تأجيله إلى يوم القيامة)(2). ثم يقول: (إنجاز هذه المحاسبة في مستقبل الدهر بالنسبة إلى أيامنا المعاصرة وذلك بظهور دابة الأرض المفسرة بالروايات عن المعصومين (ع) برجوع الإمام أمير المؤمنين (ع) إلى الدنيا للقيام بهذه المهمة …وإن دابة الأرض ليست دابة بالمفهوم اللغوي. بل هي إنسان. بل هي خصوص الإمام أمير المؤمنين (ع). وتسمية الإنسان بالدابة ليس بالغريب فإن الإنسان (حيوان ناطق) كما ذكر المناطقة والفلاسفة. وهو يدب على رجليه فهو من هذه الناحية من قسم (الدواب) والحيوانات من بين المخلوقات)(3).
__________
(1) انظر (بحث حول الرجعة) محمد صادق الصدر ص8.
(2) المصدر نفسه ص19.
(3) أيضاً /19،20،21،22.(63/70)