.
ونقل الأثرم في "سننه" عن أحمد أن العباس سأله عن حسين الأشقر، وأنه حدّث بحديثين:
أحدهما: قوله لعليّ: إنك ستعرض على البراءة مني فلا تبرأ.
والآخر: اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه، فأنكره أبو عبيد الله جداً، لم يشك أن هذين كذب.
وكذلك قوله: أنت أولى بكل مؤمن ومؤمنة، كذب أيضاً.
وأما قوله: "من كنت مولاه فعليّ مولاه" فليس هو في الصحاح، لكن هو مما رواه العلماء، وتنازع الناس في صحته، فنُقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وضعَّفوه، ونُقل عن أحمد بن حنبل أنه حسَّنه كما حسَّنه الترمذي. وقد صنَّف أبو العباس بن عُقْدَة مصنَّفاً في جميع طرقه(1).
وقال ابن حزم(2): "الذي صح من فضائل عليّ فهو قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ”أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي“ وقوله(3): ”لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله“ وهذه صفة واجبة لكل مسلم ومؤمن وفاضل(4)، وعهده صلَّى الله عليه وسلَّم(5): أن عليّاً ”لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق“. وقد صح مثل هذا في الأنصار أنهم(6) ”لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر“.
__________
(1) أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عُقْدَة الكوفي، ولد سنة 249 وتوفي سنة 333، كان يميل إلى رأي الشيعة وكان يملي في "مثالب الصحابة" ولم يذكر سزكين كتابه الذي صنّفه عن هذا الحديث. انظر: لسان الميزان (1/263-266)؛ معجم المؤلفين (2/106)؛ الأعلام (1/198)، سزكين (م1 ج1، ص361).
(2) في "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (4/224).
(3) الفصل: وقوله عليه السلام.
(4) الفصل: لكل مؤمن وفاضل.
(5) الفصل: وعهده عليه السلام.
(6) الفصل: مثل هذه في الأنصار رضي الله عنهم أنه ... .(17/20)
قال(1): "وأما "من كنت مولاه فعليّ مولاه" فلا يصح من طريق الثقات أصلاً. وأما سائر الأحاديث التي يتعلق بها الروافض(2) فموضوعه، يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلها"(3).
فإن قيل: لم يذكر ابن حزم ما في الصحيحين من قوله: "أنت مني وأنا منك" وحديث المباهلة والكساء.
قيل: مقصود ابن حزم: الذي في الصحيح من الحديث الذي لا يُذكر فيه إلا عليّ. وأما تلك ففيها ذكر غيره، فإنه قال لجعفر: ”أشبهت خَلقي وخُلقي“ وقال لزيد: ”أنت أخونا ومولانا“. وحديث المباهلة والكساء فيهما ذكر عليّ وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم، فلا يرد هذا على ابن حزم.
ونحن نجيب بالجواب المركّب فنقول: إن لم يكن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قاله فلا كلام، وإن كان قاله فلم يرد به قطعاً الخلافة بعده، إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه. ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلَّغ بلاغاً مبيناً.
وليس في الكلام ما يدل دلالة بيّنة على أن المراد به الخلافة، وذلك أن المولى كالولي. والله تعالى قال: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ } [المائدة: 55]، وقال: { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [التحريم: 4]، فبيَّن أن الرسول وليُّ المؤمنين، وأنهم مواليه أيضاً، كما بيَّن أن الله وليّ المؤمنين، وأنهم أولياؤه، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض.
فالموالاة ضد المعاداة، وهي تثبت من الطرفين، وإن كان أحد المتواليين أعظم قدراً، وولايته إحسان وتفضل، وولاية الآخر طاعة وعبادة، كما أن الله يحب المؤمنين، والمؤمنون يحبونه. فإن الموالاة ضد المعاداة والمحاربة والمخادعة، والكفّار لا يحبون الله ورسوله، ويحادّون الله ورسوله ويعادونه.
__________
(1) بعد الكلام السابق مباشرة.
(2) الفصل: الرافضة.
(3) الفصل: ونقلتها.(17/21)
وقد قال تعالى: { لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } [الممتحنة: 1]. وهو يجازيهم على ذلك، كما قال تعالى: { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [البقرة: 279].
وهو وليّ المؤمنين وهو مولاهم يخرجهم من الظلمات إلى النور. وإذا كان كذلك فمعنى كون الله وليّ المؤمنين ومولاهم، وكون الرسول وليهم ومولاهم، وكون عليّ مولاهم، هي الموالاة التي هي ضد المعاداة.
والمؤمنين يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة لملعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن، فعليُّ رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه.
وفي هذا الحديث إثبات إيمان عليّ في الباطن، والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطناً وظاهراً، وذلك يرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب، لكن ليس فيه أنه ليس للمؤمنين مولى غيره فكيف ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم له موالي، وهم صالحوا المؤمنين، فعليّ أيضاً له مولى بطريق الأولى والأحرى، وهم المؤمنون الذين يتولونه.
وقد قال الني صلَّى الله عليه وسلَّم: إن أسلم وغفاراً ومزينة وجهينة وقريشاً والأنصار ليس لهم مولى دون الله ورسوله(1)، وجعلهم موالي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كما جعل صالح المؤمنين مواليه والله ورسوله مولاهم.
__________
(1) الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن أبي هريرة وأبي أيوب رضي الله عنهما في: البخاري 4/179-180، 181 (كتاب المناقب، باب مناقب قريش، باب ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع)، مسلم 4/1954-1955 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل غفار وأسلم...)، سنن الترمذي 5/385 (كتاب المناقب، باب في غفار وأسلم وجهينة ومزينة)، (ط. المعارف) 15/28، (ط. الحلبي) 2/388، 467-468، 481، 5/194 (عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه).(17/22)
وفي الجملة فرق بين الوليّ والمولى ونحو ذلك وبين الوالي. فباب الولاية – التي هي ضدّ العداوة – شيء، وباب الولاية – التي هي الإمارة – شيء.
والحديث إنما هو في الأولى دون الثانية. والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يقل: من كنت واليه فعليّ واليه. وإنما اللفظ "من كنت مولاه فعليّ مولاه".
وأما كون المولى بمعنى الوالي، فهذا باطل. فإن الولاية تثبت من الطرفين، فإن المؤمنين أولياء الله، وهو مولاهم.
وأما كونه أولى بهم من أنفسهم، فلا يثبت إلا من طرفه صلَّى الله عليه وسلَّم. وكونه أولى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوته، ولو قُدِّر أنه نصَّ على خليفة من بعده، لم يكن ذلك موجباً أن يكون أولى بكل مؤمن من نفسه، كما أنه لا يكون أزواجه أمهاتهم. ولو أريد هذا المعنى لقال: من كنت أولى به من نفسه. وهذا لم يقله، ولم ينقله أحد، ومعناه باطل قطعاً؛ لأن كون النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أولى بكل مؤمن من نفسه أمر ثابت في حياته ومماته، وخلافة عليّ – لو قدر وجودها – لم تكن إلا بعد موته، لم تكن في حياته، فلا يجوز أن يكون عليٌّ خليفة في زمنه، فلا يكون حينئذ أولى بكل مؤمن من نفسه، بل ولا يكون مولى أحد من المؤمنين، إذا أريد به الخلافة.
وهذا مما يدل على أنه لم يُرِد الخلافة؛ فإن كونه وليّ كل مؤمن، وصف ثابت له في حياة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، لم يتأخر حكمه إلى الموت. وأما الخلافة فلا يصير خليفة إلا بعد الموت. فعُلم أن هذا ليس هذا.
وإذا كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة، وإذا استخلف أحداً على بعض الأمور في حياته، أو قُدِّر أنه استخلف أحداً على بعض الأمور في حياته، أو قُدِّر أنه استخلف أحداً بعد موته، وصار له خليفة بنص أو إجماع، فهو أولى بتلك الخلافة وبكل المؤمنين من أنفسهم، فلا يكون قط غيره أولى بكل مؤمن من نفسه، لا سيما في حياته.(17/23)
وأما كون عليّ وغيره مولى كل مؤمن، فهو وصف ثابت لعليّ في حياة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وبعد مماته، وبعد ممات عليّ، فعليّ اليوم مولى كل مؤمن، وليس اليوم متولياً على الناس. وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياءً وأمواتاً.
الفصل الثالث
نقض احتجاج الرافضة بحديث "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"
قال الرافضي: الثالث: قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي. أثبت له "عليه السلام" جميع منازل هارون من موسى عليه السلام للاستثناء. ومن جملة منازل هارون أنه كان خليفة لموسى، ولو عاش بعده لكان خليفة أيضاً، وإلا لزم تطرّق النقض إليه، ولأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة، فبعد موته وطول مدة الغيبة، أولى بأن يكون خليفته".(17/24)
والجواب: أن هذا الحديث ثبت في الصحيحين بلا ريب وغيرها، وكان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال له ذلك في غزوة تبوك. وكان صلَّى الله عليه وسلَّم كلما سافر في غزوة أو عُمرة أو حج يستخلف على المدينة بعض الصحابة، كما استخلف على المدينة في غزوة ذي أمر عثمان(1)، وفي غزوة بني قَيْنُقَاع بشير بن عبد المنذر(2)، ولما غزا قريشاً ووصل إلى الفُرع استعمل ابن أم مكتوم(3)، وذكر ذلك محمد بن سعد(4) وغيره.
__________
(1) قال ابن هشام: السيرة (3/49): "فلما رجع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من غزوة السويق، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة، ثم غز نجداً، يريد غطفان، وهي غزوة ذي أمر، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، فيما قال ابن هشام". وانظر خبر هذه الغزوة في: طبقات ابن سعد (2/34-35)؛ زاد المعاد (3/190)، السيرة النبوية لابن كثير (3/3).
(2) هو أبو لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه. قال ابن حجر في الإصابة (4/167): مختلف في اسمه، قال موسى بن عقبة: اسمه بشير.... وقيل بالمهملة أوله التحتانية ثانية. وقال ابن إسحاق اسمه رفاعة... وكذا قال: "الكشاف" وغيره في تفسير الأنفال أن اسمه مروان، وانظر ترجمته في: أسد الغابة (1/232)، (6/265-267)؛ الاستيعاب 4/167. وانظر خبر الغزوة واستعماله له في: سيرة ابن هشام (3/52)؛ طبقات ابن سعد (2/29)، إمتاع الأسماع (1/105).
(3) انظر هذا الخبر في: طبقات ابن سعد (2/35-36)، إمتاع الأسماع (1/107)، زاد المعاد (3/190)، جوامع السيرة (ص152)، سيرة ابن هشام (3/46) وقال: "واستعمل على المدينة سباع بن عُرْفُطة الغفاري أو ابن أم مكتوم".
(4) هو أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الزهري صاحب الطبقات، صحب الواقدي المؤرخ زماناً وعرف بمؤرخ الواقدي، ولد سنة 168 وتوفي سنة 230. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (9/182-183)، تاريخ بغداد (5/321-322)، وفيات الأعيان (3/473)، الأعلام (7/6).(17/25)
وبالجملة فمن المعلوم أنه كان لا يخرج من المدينة حتى يستخلف. وقد ذكر المسلمون من كان يتسخلفه، فقد سافر من المدينة في عُمرتين: عُمرة الحديبية وعمرة القضاء. وفي حجة الوداع، وفي مغازيه – أكثر من عشرين غزاة – وفيها كلها استخلف، وكان يكون بالمدينة رجال كثيرون يستخلف عليهم من يستخلفه، فلما كان في غزوة تبوك لم يأذن لأحد في التخلف عنها، وهي آخر مغازيه صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يجتمع معه أحد كما اجتمع معه فيها، فلم يتخلف عنه إلا النساء والصبيان، أو من هو معذور لعجزه عن الخروج، أو من هو منافق، وتخلّف الثلاثة الذين تِيب عليهم، ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم، كما كان يستخلف عليهم في كل مرة بل كان هذا الاستخلاف أضعف من الاستخلافات المعتادة منه، لأنه لم يبق في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحداً، كما كان يبقي في جميع مغازيه، فإنه كان يكون بالمدينة رجال كثيرون من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم مَن يستخلف، فكل استخلاف استخلفه في مغازيه، مثل استخلافه في غزوة بدر الكبرى والصغرى، وغزوة بني المصطلق، والغابة، وخيبر، وفتح مكة، وسائر مغازيه التي لم يكن فيها قتال، ومغازيه بضع عشرة غزوة، وقد استخلف فيها كلها إلا القليل، وقد استخلف في حجة الوداع وعمرتين قبل غزوة تبوك.
وفي كل مرة يكون بالمدينة أفضل ممن بقى في غزوة تبوك، فكان كل استخلاف قبل هذه يكون عليٌّ أفضل ممن استخلف عليه عليّاً، فلهذا خرج إليه عليٌّ رضي الله عنه يبكي، وقال: أتخلّفني مع النساء والصبيان؟(17/26)
وقيل: إن بعض المنافقين طعن فيه، وقال: إنما خلّفه لأنه يبغضه. فبيّن له النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: إني إنما استخلفتك لأمانتك عندي، وإن الاستخلاف ليس بنقص ولا غضٍّ، فإن موسى استخلف هارون على قومه، فكيف يكون نقصاً وموسى يَفْعَله بهارون؟ فطيَّب بذلك قلب عليّ، وبيّن أن جنس الاستخلاف يقتضي كرامة المستخلَف وأمانته، لا يقتضي إهانته ولا تخوينه، وذلك لأن المستخلَف يغيب عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد خرج معه جميع الصحابة.
والملوك – وغيرهم – إذا خرجوا في مغازيهم أخذوا معهم من يعظم انتفاعهم به، ومعاونته لهم، ويحتاجون إلى مشاورته والانتفاع برأيه ولسانه، ويده وسيفه.
والمتخلف إذا لم يكن له في المدينة سياسة كثيرة لا يحتاج إلى هذا كله، فظن من ظن أن هذا غضاضة من عليّ، ونقص منه، وخفض من منزلته، حيث لم يأخذه معه في المواضع المهمة، التي تحتاج إلى سعي واجتهاد، بل تركه في المواضع التي لا تحتاج إلى كثير سعي واجتهاد.
فكان قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مبيّناً أن جنس الاستخلاف ليس نقصاً ولا غضّاً، إذ لو كان نقصاً أو غضاً لما فعله موسى بهارون، ولم يكن هذا الاستخلاف كاستخلاف هارون، لأن العسكر كان مع هارون، وإنما ذهب موسى وحده.
وأما استخلاف النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فجميع العسكر كان معه، ولم يُخَلَّف بالمدينة – غير النساء والصبيان – إلا معذورٌ أو عاصٍ.
وقول القائل: "هذا بمنزلة هذا، وهذا مثل هذا" هو كتشبيه الشيء بالشيء. وتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دلّ عليه السياق، لا يقتضي المساواة في كل شيء.(17/27)
ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في حديث الأسارى لَمّا استشار أبا بكر، وأشار بالفداء، واستشار عمر، فأشار بالقتل. قال: "سأخبركم عن صاحبيكم. مثلك يا أبا بكر كمثل إبارهيم إذ قال: { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [إبراهيم: 36]، ومثل عيسى إذ قال: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة: 118]. ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: { رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [نوح: 26]، ومثل موسى إذ قال: { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } [يونس: 88]".
فقوله لهذا: مثلك كمثل إبراهيم وعيسى، ولهذا: مثل نوح وموسى، أعظم من قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى؛ فإن نوحاً وإبراهيم وعيسى أعظم من هارون، وقد جعل هذين مثلهم، ولم يرد أنهما مثلهم في كل شيء، لكن فيما دلّ عليه السياق من الشدة في الله واللين في الله.
وكذلك هنا إنما هو بمنزلة هارون فيما دلّ عليه السياق، وهو استخلافه في مغيبه، كما استخلف موسى هارون. وهذا الاستخلاف ليس من خصائص عليّ، بلا ولا هو مثل استخلافاته، فضلاً عن أن يكون أفضل منها.
وقد استخلف مَنْ عليّ أفضل منه في كثير من الغزوات، ولم تكن تلك الاستخلافات توجب تقديم المستخلف على عليّ إذا قعد معه، فكيف يكون موجباً لتفضيله على عليّ؟
بل قد استخلف على المدينة غير واحد، وأولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى من جنس استخلاف عليّ، بل كان ذلك الاستخلاف يكون على أكثر وأفضل ممن استخلف عليه عام تبوك، وكانت الحاجة إلى الاستخلاف أكثر، فإنه كان يخاف من الأعداء على المدينة.(17/28)
فأما عام تبوك فإنه كان قد أسلمت العرب بالحجاز، وفُتحت مكة وظهر الإسلام وعزّ. ولهذا أمر الله نبيّه أن يغزو أهل الكتاب بالشام، ولم تكن المدينة تحتاج إلى من يقاتل بها العدو.
ولهذا لم يَدَع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عند عليّ أحداً من المقاتلة، كما كان يَدَع بها في سائر الغزوات، بل أخذ المقاتلة كلهم معه.
وتخصيصه لعليّ بالذكر هنا هو مفهوم اللقب، وهو نوعان: لقب هو جنس، ولقب يجري مجرى العلم، مثل زيد، وأنت. وهذا المفهوم أضعف المفاهيم، ولهذا كان جماهير أهل الأصول والفقه على أنه لا يُحتج به. فإذا قال: محمد رسول الله. لم يكن هذا نفياً للرسالة عن غيره، لكن إذا كان في سياق الكلام ما يقتضي التخصيص، فإنه يحتج به على الصحيح.
كقوله: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } [الأنبياء: 79]، وقوله: { كَلاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين: 15].
وأما إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه، فلا يُحتج به باتفاق الناس. فهذا من ذلك؛ فإنه إنما خصَّ عليّاً بالذكر لأنه خرج إليه يبكي ويشتكي تخليفه مع النساء والصبيان.
ومن استخلفه سوى عليّ، لما لم يتوهموا أن في الاستخلاف نقصاً، لم يحتج أن يخبرهم بمثل هذا الكلام، والتخصيص بالذكر إذا كان لسبب يقتضي ذاك لم يقتضِ الاختصاص بالحكم، فليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى، كما أنه لما قال للمضروب الذي نَهَى عن لعنه: ”دعه فإنه يحب الله ورسوله“(1) لم يكن هذا دليلاً على أن غيره لا يحب الله ورسوله، بل ذكر ذلك لأجل الحاجة إليه لينهى بذلك عن لعنه.
__________
(1) الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في: البخاري 8/158 (كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج عن الملة).(17/29)
ولما استأذنه عمر رضي الله عنه في قتل حاطب بن أبي بلتعة، قال: ”دعه فإنه قد شهد بدراً“(1) ولم يدل هذا على أن غيره لم يشهد بدراً، بل ذكر المقتضى لمغفرة ذنبه.
وكذلك لما شهد للعشرة بالجنة، لم يقتض أن غيرهم لا يدخل الجنة، لكن ذكر ذلك لسبب اقتضاه.
وكذلك لما قال للحسن وأسامة: ”اللهم إني أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما“(2) لا يقتضي أنه لا يحب غيرهما، بل كان يحب غيرهما أعظم من محبتهما.
وكذلك لما قال: ”لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة“ لم يقتض أن من سواهم يدخلها.
وكذلك لَمّا شبّه أبا بكر بإبراهيم وعيسى، لم يمنع ذلك أن يكون في أمته وأصحابه من يشبه إبراهيم وعيسى.
وكذلك لَمّا شبّه عمر بنوح وموسى، لم يمتنع أن يكون في أمته من يشبه نوحاً موسى.
فإن قيل: إن هذين أفضل من يشبههم من أمته.
قيل: الاختصاص بالكمال لا يمنع المشاركة في أصل التشبيه.
__________
(1) الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في: البخاري 4/59 (كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس)، مسلم 4/1941-1942 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب بن أبي بلتعة)، سنن الترمذي 5/82-84 (كتاب التفسير، سورة الممتحنة).
(2) في المسند (ط. الحلبي) 5/205 عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كان نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم يأخذني فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن بن عليّ على فخذه الأخرى ثم يضمنا ثم يقول: "اللهم ارحمهما فإني أرحمهما". وفي المسند (ط. الحلبي) 5/210 عن أسامة بن زيد قال: كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يأخذني والحسن فيقول: ”اللهم إني أحبهما فأحبهما“.
وجاء الحديث في كتاب "فضائل الصحابة" 2/768 (حديث رقم 1352) وقال المحقق: إسناده صحيح.(17/30)
وكذلك لما قال عن عروة بن مسعود: ”إنه مثل صاحب ياسين“(1). وكذلك لما قال للأشعريين: ”هم مني وأنا منهم“(2) لم يختص ذلك بهم، بل قال لعلي: ”أنت مني وأنا منك“ وقال لزيد: ”أنت أخونا ومولانا“(3) وذلك لا يختص بزيد، بل أسامة أخوهم ومولاهم.
وبالجملة الأمثال والتشبيهات كثيرة جداً، وهي لا توجب التماثل من كل وجه، بل فيما سبق الكلام له، ولا تقتضي اختصاص المشبَّه بالتشبيه، بل يمكن أن يشاركه غيره له في ذلك.
قال الله تعالى: { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } [البقرة: 261].
__________
(1) هو عروة بن مسعود بن متعب بن مالك الثقفي. قال ابن حجر في "الإصابة" 2/470: "وثبت ذكر عروة بن مسعود في الحديث الصحيح في قصة الحديبية وكانت له اليد البيضاء في تقدير الصلح" ثم قال: "وفي رواية إسحاق أنه اتبع أثر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لما انصرف من الطائف فأسلم واستأذنه أن يرجع إلى قومه، فقال: "إني أخاف أن يقتلوك". قال: لو وجدوني نائماً ما أيقظوني. فأذن له، فدعاهم إلى الإسلام ونصح لهم، فعصوه وأسمعوه من الأذى، فلما كان من السحر قام على غرفة له فأذّن، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله، فلما بلغ ذلك النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "مثل عروة مثل صاحب ياسين، دعا قومه إلى الله فقتلوه". والخبر في: سيرة ابن هشام (4/182)، زاد المعاد (3/498)، إمتاع الأسماع (ص489-490).
(2) الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في: البخاري 3/138 (كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام والنهر...)، مسلم 4/1944-1945 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم).
(3) الحديث في البخاري 3/184-185 (كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان...) وهو حديث صلح الحديبية.(17/31)
وقال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ } [يس: 13].
وقال: { مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } [آل عمران: 117].
وقد قيل: إن في القرآن اثنين وأربعين مثلاً.
وقول القائل: إنه جعله بمنزلة هارون في كل الأشياء إلا في النبوة باطل، فإن قوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"؟ دليل على أنه يسترضيه بذلك ويطيِّب قلبه لِمَا توهم من وهن الاستخلاف ونقص درجته، فقال هذا على سبيل الجبر له.
وقوله: "بمنزلة هارون من موسى" أي مثل منزلة هارون، فإن نفس منزلته من موسى بعينها لا تكون لغيره، وإنما يكون له ما يشابهها، فصار هذا كقوله: هذا مثل هذا، وقوله عن أبي بكر: مثله مثل إبراهيم وعيسى، وعمر: مثله مثل نوح وموسى.
ومما يبين ذلك أن هذا كان عام تبوك، ثم بعد رجوع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بعث أبا بكر أميراً على الموسم، وأردفه بعليّ، فقال لعليّ: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمورن فكان أبو بكر أميراً عليه، وعليّ معه كالمأمور مع أمره: يصلّي خلفه، ويطيع أمره وينادي خلفه مع الناس بالموسم: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان(1)
__________
(1) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 1/78-79 (كتاب الصلاة، باب ما يُستر من العورة) ونصه: أن أبا هريرة قال: "بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر نؤذن بمنى ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان. قال حميد بن عبد الرحمن (بن عوف): ثم أردف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عليّاً فأمره أن يؤذن ببراءة. قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ في أهل منى يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان".
وجاء الحديث في مواضع أخرى في البخاري 2/153 (كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عُريان ولا يحج مشرك)، 5/167 (كتاب المغازي، باب حج أبي بكر بالناس سنة تسع)، 6/64 (كتاب التفسير، سورة تفسير التوبة)، 4/102 (كتاب الجزية، باب كيف ينبذ إلى أهل العهد). والحديث أيضاً في: سنن أبي داود 2/264-265 (كتاب المناسك، باب يوم الحج الأكبر)؛ سنن النسائي 5/186 (كتاب المناسك، باب قوله تعالى: خذوا مناسككم عند كل مسجد)، سنن الدارمي 2/237 (كتاب السير، باب في الوفاء للمشركين بالعهد)، المسند (ط. المعارف) 15/133-134 .
وجاءت أحاديث أخرى في نفس الموضوع عن أبي بكر وعليّ وغيرهما من الصحابة رضوان الله عليهم أشار إلى بعضها ابن كثير في تفسيره (ط. الشعب) 4/44-53، وإلى بعضها الطبري. انظر تفسيره (ط. المعارف) 14/98 وما بعدها. وانظر المسند (ط. المعارف) 1/156، 2/32 .(17/32)
.
وإنما أردفه به لينبذ العهد إلى العرب، فإنه كان من عادتهم أن لا يعقد العقود وينبذها إلا السيد المطاع، أو رجل من أهل بيته. فلم يكونوا يقبلون نقض العهود إلا من رجل من أهل بيت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
ومما يبيّن ذلك أنه لو أراد أن يكون خليفة على أمته بعده، لم يكن هذا خطاباً بينهما يناجيه به، ولا كان أخَّرَهُ حتى يخرج إليه عليّ ويشتكي، بل كان هذا من الحكم الذي يجب بيانه وتبليغه للناس كلهم، بلفظ يبين المقصود.
ثم من جهل الرافضة أنهم يتناقضون، فإن هذا الحديث يدل على أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يخاطب عليّاً بهذا الخطاب إلا ذلك اليوم في غزوة تبوك، فلو كان عليّ قد عرف أنه المستخلف من بعده – كما رووا ذلك فيما تقدم – لكان عليّ مطمئن القلب أنه مثل هارون بعده وفي حياته، ولم يخرج إليه يبكي، ولم يقل له: أتخلفني مع النساء والصبيان؟
ولو كان عليّ بمنزلة هارون مطلقاً لم يستخلف عليه أحداً. وقد كان يستخلف على المدينة غيره وهو فيها، كما استخلف على المدينة عام خيبر غير عيّ، وكان عليّ بها أرمد، حتى لحق بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فأعطاه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم الراية حين قدم، وكان قد أعطى الراية رجلاً فقال: ”لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله“.
وأما قوله: "لأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة، فبعد موته وطول مدة الغيبة أولى بأن يكون خليفته".(17/33)
فالجواب: أنه مع وجوده وغيبته قد استخلف غير عليّ استخلافاً أعظم من استخلاف عليّ، واستخلف أولئك على أفضل من الذين استخلف عليهم عليّاً، وقد استخلف بعد تبوك على المدينة غير عليّ في حجة الوداع، فليس جعل عليّ هو الخليفة بعده لكونه استخلفه على المدينة بأولى من هؤلاء الذين استخلفهم على المدينة كما استخلفه، وأعظم مما استخلفه، وآخر الاستخلاف كان على المدينة كان عام حجة الوداع، وكان عليّ باليمن، وشهد معه الموسم، لكن استخلف عليها في حجة الوداع غير عليّ.
فإن كان الأصل بقاء الاستخلاف، فبقاء من استخلفه في حجة الوداع أولى من بقاء استخلاف من استخلفه قبل ذلك.
وبالجملة فالاستخلافات على المدينة ليست من خصائصه، ولا تدل على الأفضلية، ولا مع الإمامة، بل قد استخلف عدداً غيره. ولكن هؤلاء جهّال يجعلون الفضائل العامة المشتركة بين عليّ وغيره خاصة بعليّ، وإن كان غيره أكمل منه فيها، كما فعلوا في النصوص والوقائع.
وهكذا فعلت النصارى: جعلوا ما أتى به المسيح من الآيات دالاًّ على شيء يختص به من الحلول والاتحاد، وقد شاركه غيره من الأنبياء فيما أتى به، وكان ما أتى به موسى من الآيات أعظم مما جاء به المسيح، فليس هناك سبب يوجب اختصاص المسيح دون إبراهيم وعيسى، لا بحلول ولا اتحاد، بل إن كان ذلك كله ممتنعاً، فلا ريب أنه كله ممتنع في الجميع، وإن فُسِّرَ ذلك بأمر ممكن، كحصول معرفة الله والإيمان به، والأنوار الحاصلة بالإيمان به ونحو ذلك، فهذا قدر مشترك وأمر ممكن.
وهكذا الأمر مع الشيعة: يجعلون الأمور المشتركة بين عليّ وغيره، التي تعمّه وغيره، مختصةً به، حتى رَبَّبوا عليه ما يختص به من العصمة والإمامة والأفضلية. وهذا كله منتفٍ.(17/34)
فمن عرف سيرة الرسول، وأحوال الصحابة، ومعاني القرآن والحديث: علم أنه ليس هناك اختصاص بما يوجب أفضليته ولا إمامته، بل فضائله مشتركة، وفيها من الفائدة إثبات إيمان عليّ وولايته، والرد على النواصب الذين يسبّونه أو يفسقونه أو يكفرونه ويقولون فيه من جنس ما تقوله الرافضة في الثلاثة.
ففي فضائل عليّ الثابتة ردٌّ على النواصب، كما أن في فضائل الثلاثة ردّاً على الروافض.
وعثمان رضي الله عنه تقدح فيه الروافض والخوارج، ولكن شيعته يعتقدون إمامته، ويقدحون في إمامة عليّ. وهم في بدعتهم خير من شيعة عليّ الذين يقدحون في غيره. والزيديدة الذين يتولون أبا بكر وعرم مضطربون فيه.
وأيضاً فالاستخلاف في الحياة نوع نيابة، لابد منه لكل ولي أمر، وليس كل مَنْ يصلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمة يصلح أن يُستخلف بعد الموت؛ فإن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم استخلف في حياته غير واحد، ومنهم من لا يصلح للخلافة بعد موته، وذلك كبشير ابن عبد المنذر وغيره.
وأيضاً فإنه مطالب في حياته بما يجب عليه من القيام بحقوق الناس، كما يُطالب بذلك ولاة الأمور. وأما بعد موته فلا يطالب بشيء، لأنه قد بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربّه. ففي حياته يجب عليه جهاد الأعداء، وتقسيم الفيء، وإقامة الحدود، واستعمال العمّال، وغير ذلك مما يجب على ولاة الأمور بعده، وبعد موته لا يجب عليه شيء من ذلك.
فليس الاستخلاف في الحياة كالاستخلاف بعد الموت. والإنسان إذا استخلف أحداً في حياته على أولاده وما يأمر به من البرّ، كان المستخلف وكيلاً محضاً يفعل ما أمر به الموكِّل، وإن استخلف أحداً على أولاده بعد موته، كان وليّاً مستقلاًّ يعمل بحسب المصلحة، كما أمر الله ورسوله، ولم يكن وكيلاً للميّت.(17/35)
وهكذا أولو الأمر إذا استخلف أحدهم شخصاً في حياته، فإنه يفعل ما يأمره به في القضايا المعيّنة. وأما إذا استخلفه بعد موته فإنه يتصرف بولايته كما أمر الله ورسوله، فإن هذا التصرف مضاف إليه لا إلى الميت، بخلاف ما فعله في الحياة بأمر مستخلفه، فإنه يُضاف إلى من استخلفه لا إليه. فأين هذا من هذا؟!.
ولم يقل أحد من العقلاء: إن من استخلف شخصاً على بعض الأمور. وانقضى ذلك الاستخلاف: إنه يكون خليفة بعد موته على شيء، ولكن الرافضة من أجهل الناس بالمعقول والمنقول.
الفصل الرابع
نقض قياس الرافضة الاستخلاف في الممات على الاستخلاف في المغيب
قال الرافضي: الرابع: "أنه صلَّى الله عليه وسلَّم استخلفه على المدينة مع قصر مدة الغيبة، فيجب أن يكون خليفة له بعد موته. وليس غير عليّ إجماعاً، ولأنه لم يعزله عن المدينة، فيكون خليفة له بعد موته فيها، وإذا كان خليفة فيها كان خليفة في غيرها إجماعاً".
والجواب: أن هذه الحجة وأمثالها من الحجج الداحضة، التي هي من جنس بيت العنكبوت. والجواب عنها من وجوه:
أحدها: أن نقول على أحد القولين: إنه استخلف أبا بكر بعد موته كما تقدم. وإذا قالت الرافضة: بل استخلف عليّاً. قيل: الراوندية من جنسكم قالوا: استخلف العبّاس، وكل من كان له علم بالمنقولات الثابتة يعلم أن الأحاديث الدالة على استخلاف أحدٍ بعد موته إنما تدل على استخلاف أبي بكر، ليس فيها شيء يدل على استخلاف عليّ ولا العباس، بل كلها تدل على أنه لم يستخلف واحداً منهما. فيقال حينئذ: إن كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم استخلف أحداً فلم يستخلف إلا أبا بكر، وإن لم يستخلف أحداً فلا هذا ولا هذا.(17/36)
فعلى تقدير كون الاستخلاف واجباً على الرسول، لم يستخلف إلا أبا بكر، فإن جميع أهل العلم بالحديث والسيرة متفقون على أن الأحاديث الثابتة لا تدل على استخلاف غير أبي بكر، وإنما يدل ما يدل منها على استخلاف أبي بكر. وهذا معلوم بالاضطرار عند العالم بالأحاديث الثابتة.
الوجه الثاني: أن نقول: أنتم لا تقولون بالقياس، وهذا احتجاج بالقياس، حيث قستم الاستخلاف في الممات على الاستخلاف في المغيب. وأما نحن إذا فرضنا على أحد القولين فنقول: الفرق بينهما ما نبّهنا عليه في استخلاف عمر في حياته، وتوقفه في الاستخلاف بعد موته، لأن الرسول في حياته شاهد على الأمة، مأمور بسياستها بنفسه أو نائبه، وبعد موته انقطع عنه التكليف.
كما قال المسيح: { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [المائدة: 117] الآية، لم يقل: كان خليفتي الشهيد عليهم. وهذا دليل على أن المسيح لم يستخلف، فدل على أن الأنبياء لا يجب عليهم الاستخلاف بعد الموت.
وكذلك ثبت عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: "فأقول كما قال العبد الصالح: { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [المائدة: 117]"(1).
__________
(1) الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما في: البخاري 4/168 (كتاب الأنبياء، باب واذكر في الكتاب مريم) وأوله: "تحشرون حُفاة عُراة غرلاً... ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال، فأقول أصحابي، فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح عيسى بن مريم.." الحديث، وهو في: البخاري 6/55 (كتاب التفسير، سورة المائدة)، 6/97 (كتاب التفسير، سورة الأنبياء)، سنن الترمذي 5/4-5 (كتاب التفسير، سورة الأنبياء).(17/37)
وقد قال تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } [آل عمران: 144].
فالرسول بموته انقطع عنه التكليف، وهو لو استخلف خليفة في حياته لم يجب أن يكون معصوماً، بل كان يولّي الرجل ولايةً، ثم يتبيّن كذبه فيعزله، كما ولّى الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو لو استخلف رجلاً لم يجب أن يكون معصوماً، وليس هو بعد موته شهيداً عليه، ولا مكلَّفاً بردّه عما يفعله، بخلاف الاستخلاف في الحياة.
الوجه الثالث: أن يُقال الاستخلاف في الحياة واجبٌ على كل وليّ أمر؛ فإن كل وليّ أمر – رسولاً كان أو إماماً – عليه أن يستخلف فيما غاب عنه من الأمور، فلابد له من إقامة الأمر: إما: بنفسه، وإما بنائبه. فما شهده من الأمر أمكنه أن يقيمه بنفسه، وأما ما غاب عنه فلا يمكنه إقامته إلا بخليفة يستخلفه عليه، فيولّي على مَنْ غاب عنه مِن رعيته مَنْ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويأخذ منهم الحقوق، ويقيم فيهم الحدود، ويعدل بينهم في الأحكام، كما كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يستخلف في حياته على كل ما غاب عنه، فيولِّي الأمراء على السرايا: يصلّون بهم، ويجاهدون بهم، ويسوسونهم، ويؤمِّر أمراء على الأمصار، كما أمَّر عتاب بن أسيد على مكة، وأمَّر خالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص وأبا سفيان بن حرب ومعاذاً وأبا موسى على قرى عُرينة وعلى نجران وعلى اليمن، وكما كان يستعمل عمالاً على الصدقةن فيقبضونها ممن تجب عليه، ويعطونها لمن تحلّ له، كما استعمل غير واحد.(17/38)
وكان يستخلف في إقامة الحدود، كما قال لأنيس: ”يا أنيس اغد على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها“(1) فغدا عليها فاعترفت فرجمها.
وكان يستخلف على الحج، كما استخلف أبا بكر على إقامة الحج عام تسع بعد غزوة تبوك، وكان عليّ من جملة رعية أبي بكر: يصلّي خلفه، ويأتمر بأمره، وذلك بعد غزوة تبوك.
وكما استخلف على المدينة مراتٍ كثيرة، فإنه كان كلما خرج في غزاة استخلف. ولما حج واعتمر استخلف، فاستخلف في غزوة بدر، وبني المصطلق، وغزوة الفتح، واستخلف في غزوة الحديبية، وفي غزوة القضاء، وحجة الوداع، وغير ذلك.
وإذا كان الاستخلاف في الحياة واجباً على متولي الأمر وإن لم يكن نبيّاً، مع أنه لا يجب عليه الاستخلاف بعد موته، لكون الاستخلاف في الحياة أمراً ضرورياً لا يؤدى الواجب إلا به، بخلاف الاستخلاف بعد الموت، فإنه قد بلَّغ الأمة، وهو الذي يجب عليهم طاعته بعد موته، فيمكنهم أن يعينوا مَنْ يؤمّرونه عليهم، كما يمكن ذلك في كل فروض الكفاية التي تحتاج إلى واحد معيّن – عُلم أنه لا يلزم من وجوب الاستخلاف في الحياة وجوبه بعد الموت.
رابع: أن الاستخلاف في الحياة واجبٌ في أصناف الولايات، كما كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يستخلف على من غاب عنهم مَنْ يقيم فيهم الواجب، ويستخلف في الحج، وفي قبض الصدقات، وحفظ مال الفيء، وفي إقامة الحدود، وفي الغزو وغير ذلك.
__________
(1) الحديث عن زيد بن خالد وأبي هريرة رضي الله عنهما في البخاري 3/102 (كتاب الوكالة، باب الوكالة في الحدود)، 8/167-168 (كتاب الحدود، باب الاعتراف بالزنا)، 8/172-173 (كتاب الحدود، باب إذا رمى امرأته وامرأة غيره بالزنا..)، 8/176 (كتاب الحدود، باب هل يأمر الإمام رجلاً..)، سنن الترمذي 2/441، 443 (كتاب الحدود، باب ما جاء في التلقين في الحد، باب ما جاء في الرجم على الثيب).(17/39)
ومعلوم أن هذا الاستخلاف لا يجب بعد الموت باتفاق العقلاء، بل ولا يمكن، فإنه لا يمكن أن يعيّن للأمة بعد موته مَنْ يتولّى كل أرم جزئي، فإنهم يحتاجون إلى واحدٍ بعد واحد، وتعيين ذلك متعذر، ولأنه لو عيَّن واحداً. فقد يختلف حاله ويجب عزله، فقد كان يولّى في حياته من يُشكى إليه فيعزله، كما عزل الوليد بن عقبة، وعزل سعد بن عبادة عام الفتح وولى ابنه قيساً، وعزل إماماً كان يصلّي بقوم لما بصق في القبلة، وولَّى مرة رجلاً فلم يقم بالواجب، فقال: ”أعجزتم إلا ولّيت من لا يقوم بأمر أن تولّوا رجلاً يقوم بأمري“(1) فقد فوّض إليهم عزل مَنْ لا يقوم بالواجب من ولاته، فكيف لا يفوض إليهم ابتداء تولية من يقوم بالواجب؟!
وإذا كان في حياته مَنْ يولّيه ولا يقوم بالواجب فيعزله، أو يأمر بعزله، كان لو ولّى واحداً بعد موته يمكن فيه أن لا يقوم بالواجب، وحينئذ فيحتاج إلى عزله، فإذا ولّته الأمة وعزلته، كان خيراً لهم مِنْ أن يعزلوا مَنْ ولاّه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم. وهذا مما يتبين به حكمة ترك الاستخلاف، وعلى هذا فنقول في:
__________
(1) لم أجد الحديث بهذا اللفظ، ولكني وجدت حديثاً بمعناه في: سنن أبي داود 3/56 (كتاب الجهاد، باب في الطاعة) ونصه عن عقبة بن مالك رضي الله عنه... قال: بعث النبي صلَّى الله عليه وسلَّم سرية فسلحت رجلاً منهم سيفاً، فلما رجع قال: لو رأيت ما لامنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. قال: "أعجزتم إذ بعثت رجلاً منكم فلم يمض لأمري، أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري"؟. والحديث في: المسند (ط. الحلبي) 4/160 .(17/40)
الوجه الخامس: أن ترك الاستخلاف بعد مماته كان أولى من الاستخلاف، كما اختاره الله لنبيه، فإنه لا يختار له إلا أفضل الأمور. وذلك لأنه: إما أن يُقال: يجب أن لا يستخلف في حياته من ليس بمعصوم، وكان يصدر من بعض نوّابه أمور منكرة فينكرها عليهم، ويعزل من يعزل منهم. كما استعمل خالد بن الوليد على قتال بني جذيمة فقتلهم، فوَدَاهم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بنصف دياتهم، وأرسل عليّ بن أبي طالب فضمن لهم حتى مبلغة الكلب، ورفع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يديه إلى السماء وقال: ”اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد“.
واختصم خالد وعبد الرحمن بن عوف حتى قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ”لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه“ ولكن مع هذا لم يعزل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم خالداً.
واستعمل الوليد بن عقبة على صدقات قومٍ، فرجع فأخبره أن القوم امتنعوا وحاربوا، فأراد غزوهم، فأنزل الله تعالى: { إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } [الحجرات: 6].
وولّى سعد بن عبادة يوم الفتح، فلما بلغه أن سعداً قال:
اليوم يوم الملحمة اليوم تستباح الحرمة
عزله، وولّى ابنه قيساً، وأرسل بعمامته علامةً على عزله، ليعلم سعد أن ذلك أمرٌ من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.(17/41)
وكان يُشْتَكى إليه بعض نوابه فيأمره بما أمر الله به، كما اشتكى أهل قباء معاذاً لتطويله الصلاة بهم، لما قرأ البقرة في صلاة العشاء فقال: ”أفتَّان أنت يا معاذ؟ اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى، ونحوها“(1).
وفي الصحيح أن رجلاً قال له: إني أتخلّف عن صلاة الفجر مما يطوِّل بنا فلان، فقال: ”يا أيها الناس إذا أمَّ أحدكم فليخفف، فإن من ورائه الضعيف والكبير وذا الحاجة، وإذا صلّى لنفسه فليطوّل ما شاء“(2).
__________
(1) الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في: البخاري 8/26-27 (كتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً) وأوله: أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة فقرأ البقرة، قال: فتجوّز رجل فصلّى صلاةً خفيفة... الحديث. وهو في: مسلم 1/339-340 (كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء)، سنن أبي داود 1/292 (كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة)، سنن النسائي 2/76-77 (كتاب الإمامة، باب خروج الرجل من صلاة الإمام)، المسند (ط. الحلبي) 3/124، 299، 300، 308، 369 .
(2) الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 1/138 (كتاب الأذان، باب إذا صلى لنفسه فليطوّل ما شاء) وأوله فيه: "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف... الحديث.
وهو في: مسلم 1/341 (كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام)، سنن الترمذي 1/150-151 (كتاب الصلاة، باب ما جاء إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف)، سنن ابن ماجه 1/315 (كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب من أمّ قوماً فليخفف). المسند(ط. المعارف) 13/201، (ط. الحلبي) 2/502، 537. وقال الترمذي في تعليقه على الحديث: "وفي الباب عن عدي بن حاتم وأنس وجابر بن سمرة ومالك بن عبد الله وأبي واقد وعثمان بن العاص وأبي مسعود وجابر بن عبد الله وابن عباس".(17/42)
ورأى إماماً قد بصق في قبلة المسجد، فعزله عن الإمامة، وقال: ”إنك آذيت الله ورسوله“(1).
وكان الواحد من خلفائه إذا أشكل عليه الشيء أرسل إليه يسأله عنه.
فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حياته يعلّم خلفاءه ما جهلوا، ويقوِّمهم إذا زاغوا، ويعزلهم إذا لم يستقيموا، ولم يكونوا مع ذلك معصومين، فعلم أنه لم يكن يجب عليه أن يولّي المعصوم.
وأيضاً فإن هذا تكليف ما لا يمكن، فإن الله لم يخلق أحداً معصوماً غير الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم. فلو كُلِّف أن يستخلف معصوماً لكُلِّف ما لا يقدر عليه، وفات مقصود الولايات، وفسدت أحوال الناس في الدين والدنيا.
وإذا عُلم أنه يجوز – بل يجب – أن يستخلف في حياته من ليس بمعصوم، فلو استخلف بعد موته كما استخلف في حياته، لاستخلف أيضاً غير معصوم، وكان لا يمكنه أن يعلّمه ويقوِّمه كما كان يفعل في حياته، فكان أن لا يستخلف خيراً من أن يستخلف.
__________
(1) الحديث عن أبي سهلة السائب بن خلاّد رضي الله عنه في: سنن أبي داود 1/189 (كتاب الصلاة، باب في كراهية البُزاق في المسجد) ونصه: أن رجلاً أمَّ قوماً فبصق في القبلة، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ينظر، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين فرغ: "لا يصلي لكم" فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم، فمنعوه وأخبروه يقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فذكر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: "نعم" وحسبت أنه قال: "إنك آذيت الله ورسوله". والحديث في المسند (ط. الحلبي) 4/56 .(17/43)
والأمة قد بلغها أمر الله ونهيه، وعلموا ما أمر الله به ونهى عنه، فهم يستخلفون من يقوم بأمر الله ورسوله، ويعاونونه على إتمامهم القيام بذلك، إذا كان الواحد لا يمكنه القيام بذلك، فما فاته مِنَ العلم بيّنه له مَنْ يعلمه، وما احتاج إليه من القدرة عاونه عليه من يمكنه الإعانة، وما خرج فيه عن الصواب أعادوه إليه بحسب الإمكان بقولهم وعملهم، وليس على الرسول ما حُمِّلوه، كما أنهم ليس عليهم ما حُمِّل.
فعُلم أن ترك الاستخلاف من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بعد الموت أكمل في حق الرسول من الاستخلاف، وأن مَنْ قاس وجوب الاستخلاف بعد الممات على وجوبه في الحياة كان من أجهل الناس.
وإذا علم الرسول أن الواحد من الأمة هو أحق بالخلافة، كما كان يعلم أن أبا بكر هو أحق بالخلافة من غيره، كان في دلالته للأمة على أنه أحق، مع علمه بأنهم يولُّونه، ما يغنيه عن استخلافه، لتكون الأمة هي القائمة بالواجب، ويكون ثوابها على ذلك أعظم من حصول مقصود الرسول.
وأما أبو بكر فلما علم أنه ليس في الأمة مثل عمر، وخاف أن لا يولُّوه إذا لم يستخلفه لشدته، فولاه هو، كان ذلك هو المصلحة للأمة.
فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم عَلِمَ أن الأمة يولُّون أبا بكر، فاستغنى بذلك عن توليته، مع دلالته لهم على أنه أحق الأمة بالتولية، وأبو بكر لم يكن يعلم أن الأمة يولُّون عمر إذا لم يستخلفه أبو بكر. فكان ما فعله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم هو اللائق به لفضل علمه، وما فعله صدِّيق الأمة هو اللائق به إذ لم يعلم ما علمه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
الوجه السادس: أن يقال: هب أن الاستخلاف واجب، فقد استخلف النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أبا بكر، على قول من يقول: إنه استخلفه، ودلَّ على استخلافه على القول الآخر.
وقوله: "لأنه لم يعزله عن المدينة".(17/44)
قلنا: هذا باطل، فإنه لَمّا رجع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم انعزل عليّ بنفس رجوعه، كما كان غيره ينعزل إذا رجع. وقد أرسله بعد هذا إلى اليمن، حتى وافاه بالموسم في حجة الوداع، واستخلف على المدينة في حجة الوداع غيره.
أفترى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فيها مقيماً وعليّ باليمن، وهو خليفة بالمدينة؟!
ولا ريب أن كلام هؤلاء كلام جاهل بأحوال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، كأنهم ظنّوا أن عليّاً مازال خليفة على المدينة حتى مات النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يعلموا أن عليّاً بعد ذلك أرسله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم سنة تسع مع أبي بكر لنبذ العهود، وأمَّر عليه أبا بكر، ثم بعد رجوعه مع أبي بكر أرسله إلى اليمن، كما أرسل معاذاً وأبا موسى.
ثم لما حج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حجة الوداع استخلف على المدينة غير عليّ، ووافاه عليّ بمكة، ونحر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مائة بدنة، نحر بيده ثُلُثَيها، ونحر عليّ ثُلُثَها.
وهذا كله معلوم عند أهل العلم، متفق عليه بينهم، وتواترت به الأخبار، كأنك تراه بعينك.
ومن لم يكن له عناية بأحوال الرسول لم يكن له أن يتكلم في هذه المسائل الأصولية.
والخليفة لا يكون خليفة إلا مع مغيب المستخلف أو موته، فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم إذا كان بالمدينة امتنع أن يكون له خليفة فيها، كما أن سائر من استخلفه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لما رجع انقضت خلافته.
وكذلك سائر ولاة الأمور: إذا استخلف أحدهم على مصره في مغيبه بطل استخلافه ذلك إذا حضر المستخلف.
ولهذا لا يصلح أن يُقال: إن الله يستخلف أحداً عنه، فإنه حيّ قيوم شهيد مدبِّر لعباده، مُنزّه عن الموت والنوم والغَيبة.
ولهذا لما قالوا لأبي بكر: يا خليفة الله. قال: لستُ خليفة الله، بل خليفة رسول الله، وحسبي ذلك.(17/45)
والله تعالى يوصف بأنه يخلف العبد، كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ”اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل“(1)، وقال في حديث الدّجَّال: ”والله خليفتي على كل مسلم“(2).
__________
(1) الحديث بهذا اللفظ هو الجزء الأول من حديث عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه في: سنن الترمذي 5/161 (كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا خرج مسافراً) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وهو جزء من حديث آخر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في: سنن الترمذي 5/165 (كتاب الدعوات، باب ما جاء فيما يقول إذا ركب دابة) وأول الحديث: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون" ثم يقول: اللهم إني أسألك في سفري هذا.... الحديث.
وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وهذا الحديث الآخر في المسند (ط. المعارف) 9/138-139، وجاء الجزء الأول من هذه العبارات وهو قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل" في أحاديث كثيرة، منها حديث عن ابن عمر في: مسلم 2/978 (كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره)، المسند (ط. المعارف) 9/185. ومنها حديث عن أبي هريرة في: سنن الترمذي 5/160 (كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا خرج مسافراً)، المسند (ط. المعارف) 18/21-22، (ط. الحلبي) 2/433. ومنها حديث عن ابن عباس في: مسند أحمد (ط. المعارف) 4/87، 255 .
(2) هذه العبارة جاءت ضمن حديث الدجال الذي رواه النواس بن سمعان رضي الله عنه في: مسلم 4/2250-2251 (كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه) الحديث رقم 110 وجاءت هذه العبارة في 2251، وفي: سنن أبي داود 4/166 (كتاب الملاحم، باب خروج الدجال)، سنن الترمذي 3/346-349 (كتاب الفتن، باب ما جاء في فتنة الدجال)، سنن ابن ماجه 2/1356-1359 (كتاب الفتن، باب فتنة الدجال...)، المسند (ط. الحلبي) 4/181-182.(17/46)
وكل من وصفه الله بالخلافة في القرآن فهو خليفة عن مخلوق كان قبله.
كقوله: { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم } [يونس: 14]، { وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } [الأعراف: 69]، { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [النور: 55].
وكذلك قوله: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30]، أي: عن خلقٍ كان في الأرض قبل ذلك، كما ذكر المفسرون وغيرهم(1).
وأما ما يظنه طائفة من الاتحادية وغيرهم أن الإنسان خليفة الله، فهذا جهل وضلال.
الفصل الخامس
إثبات أن حديث "عليّ أخي ووصيي وخليفتي وقاضي ديني" كذب وموضوع
قال الرافضي: "الخامس: ما رواه الجمهور عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال لأمير المؤمنين: أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي دَيْني، وهو نصٌّ في الباب".
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا الحديث، فإن هذا الحديث ليس في شيء من الكتب التي تقوم الحجة بمجرد إسناده إليها، ولا صححه إمام من أئمة الحديث.
وقوله: "رواه الجمهور": إن أراد بذلك أن علماء الحديث رووه في الكتب التي يُحتج بما فيها، مثل كتاب البخاري ومسلم ونحوهما، وقالوا: إنه صحيح، فهذا كذب عليهم، وإن أراد بذلك أن هذا يرويه مثل أبي نُعيم في "الفضائل" والمغازلي وخطيب خوارزم ونحوهم، أو يُروى في كتب الفضائل، فمجرد هذا ليس بحجة باتفاق أهل العلم في مسألة فروع، فكيف في مسألة الإمامة، التي قد أقمتم عليها القيامة؟!
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/99-103)، زاد المسير (1/58-60).(17/47)
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث(1). وقد تقدّم كلام ابن حزم أن سائر هذه الأحاديث موضوعة، يعلم ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها.
وقد صدق في ذلك، فإن من له أدنى معرفة بصحيح الحديث وضعيفه، ليعلم أن هذا الحديث ومثله ضعيف، بل كذب موضوع، ولهذا لم يُخَرِّجْه أحد من أهل الحديث في الكتب التي يُحتج بما فيها، وإنما يرويه مَنْ يرويه في الكتب التي يُجمع فيها بين الغثّ والسمين، التي يعلم كل عالم أن فيها ما هو كذب، مثل كثير من كتب التفسير: تفسير الثعلبي والواحدي ونحوهما، والكتب التي صنّفها في الفضائل مَنْ يجمع الغثّ والسمين، لا سيما خطيب خوارزم، فإنه مِن أَرْوَى الناس للمكذوبات، وليس هو من أهل العلم بالحديث، ولا المغازلي.
قال أبو الفرج بن الجوزي في كتابه "الموضوعات" لما رَوى هذا الحديث(2) من طريق أبي حاتم البستي، حدثنا محمد بن سهل بن أيوب، حدثنا عمّار بن رجاء، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا مطر بن ميمون الإسكاف، عن أنس(3) أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "إن أخي ووزيري وخليفتي من أهلي، وخير من أترك بعدي، يقضي دَيْني، وينجز موعدي: عليّ بن أبي طالب"(4) قال: هذا حديث موضوع. قال ابن حبان: مطر بن ميمون يروي الموضوعات عن الأثبات، لا تحل الرواية عنه".
__________
(1) انظر في ذلك: الفوائد المجموعة للشوكاني ص346، تنزيه الشريعة 1/353 .
(2) في 1/347 .
(3) الموضوعات: عن أنس بن مالك.
(4) الموضوعات: وعودي عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والحديث في "اللآلئ المصنوعة" 1/326 .(17/48)
رواه أيضاً من طريق أحمد بن عدي بنحو هذا اللفظ، ومداره على عبيد الله بن موسى، عن مطر بن ميمون، وكان عبيد الله بن موسى في نفسه صدوقاً روى عنه البخاري، لكنه معروف بالتشيع، فكان لتشيعه يروي عن غير الثقات ما يوافق هواه، كما روى عن مطر بن ميمون هذا، وهو كذب. وقد يكون علم أنه كَذَب ذلك، وقد يكون لهواه لم يبحث عن كذبه، ولو بحث عنه لتبين له أنه كذب هذا، مع أنه ليس في اللفظ الذي رواه هؤلاء المحدِّثون: "وخليفتي من بعدي" وإنما في تلك الطريق: "وخليفتي في أهلي" وهذا استخلاف خاص.
وأما اللفظ الآخر الذي رواه ابن عدي فإنه قال(1): "حدثنا ابن أبي سفيان(2)، حدثنا عدي(3) بن سهل، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا مطر(4)، عن أنس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "عليّ أخي وصاحبي وابن عمي وخير من أترك من بعدي(5)، يقضي دَيْني وينجز موعدي"(6).
ولا ريب أن مطراً هذا كذَّاب، لم يرو عنه أحد من علماء الكوفة، مع روايته عن أنس، فلم يرو عنه يحيى بن سعيد القطّان، ولا وكيع، ولا أبو معاوية، ولا أبو نُعيم، ولا يحيى بن آدم ولا أمثالهم، مع كثرة مَنْ بالكوفة من الشيعة، ومع أن كثيراً من عوامّها يفضّل عليّاً على عثمان، ويروي حديثه أهل الكتب الستة، حتى الترمذي وابن ماجه قد يرويان عن ضعفاء، ولم يرووا عنه، وإنما روى عنه عبيد الله بن موسى، لأنه كان صاحبَ هوى متشيعاً، فكان لأجل هواه يروي عن هذا ونحوه، وإن كانوا كذَّابين.
__________
(1) في "الموضوعات" لابن الجوزي 1/378 .
(2) الموضوعات: أنبأنا إسماعيل بن أحمد قال أنبأنا ابن أبي سفيان قال...
(3) الموضوعات: عليّ...
(4) الموضوعات: مطر الإسكاف.
(5) الموضوعات: من أترك بعدي.
(6) قال ابن الجوزي بعد ذلك: "هذا حديث لا يصح، والمتهم به مطر بن ميمون، قال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات، لا تحل الرواية عنه".(17/49)
ولهذا لم يكتب أحمد عن عبيد الله بن موسى، بخلاف عبد الرزاق، وذكر أحمد أن عبيد الله(1) كان يظهر ما عنده بخلاف عبد الرزاق.
ومما افتراه مطر هذا ما رواه أبو بكر الخطيب في "تاريخه" من حديث عبيد الله بن موسى، عن مطر، عن أنس، قال: كنت عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فرأى عليّاً مقبلاً، فقال: "أنا وهذا حجة الله على أمتي يوم القيامة" قال ابن الجوزي(2): "هذا حديث موضوع، والمتهم بوضعه مطر. قال أبو حاتم: يروي الموضوعات عن الأثبات لا تحل الرواية عنه".
الوجه الثالث: أن دَيْن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يقضه عليّ بل في الصحيح أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مات ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقاً من شعير ابتاعها لأهله(3)، فهذا الدين الذي كان عليه يُقضى من الرهن الذي رهنه، ولم يُعرف عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم دَيْن آخر.
__________
(1) هو عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي. قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" 3/16: "شيخ البخاري، ثقة في نفسه، لكنه شيعي متحرق.. مات سنة ثلاث عشرة ومائتين.
(2) في الموضوعات 1/383 .
(3) الحديث عن عائشة رضي الله عنها في: البخاري 4/141 كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبي..) ونصه: "توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير". والحديث – مع اختلاف الألفاظ – في: البخاري 6/15 (كتاب المغازي، باب حدثنا قبيصة). وجاء الحديث بمعناه ومع اختلاف في الألفاظ عن ابن عباس وأنس وأسماء بنت يزيد رضي الله عنهم ي: سنن الترمذي 2/344 (كتاب البيوع، باب ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل). سنن النسائي 7/267 (كتاب البيوع، باب مبايعة أهل الكتبا)، سنن ابن ماجه 2/815 (كتاب الرهون، باب حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة )، المسند (ط. المعارف) الأرقام 2109، 2724، 2743، 3409، (ط. الحلبي) 3/102، 6/453، 457 .(17/50)
وفي الصحيح عنه أنه قال: "لا يقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعدَ نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة"(1)، فلو كان عليه دَيْن قُضِيَ مما تركه، وكان ذلك مقدَّماً على الصدقة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح.
الفصل السادس
إثبات أن أحاديث المؤاخاة بين عليّ والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم كلها موضوعة
__________
(1) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 4/12 (كتاب الوصايا، باب نفقة القيم للوقف)، مسلم 3/1382 (كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: لا نورث...)، سنن أبي داود 3/198 (كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في صفايا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من الأموال)، الموطأ 2/993 (كتاب الكلام، باب ما جاء في تركة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم)، المسند (ط. المعارف) 13/25-26، 17/53 (ط. الحلبي) 2/464 .(17/51)
قال الرافضي: "السادس: حديث المؤاخاة. روى أنس أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لما كان يوم المباهلة، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وعليٌّ واقف يراه ويعرفه، ولم يؤاخ بينه وبين أحد، فانصرف باكياً، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ما فعل أبو الحسن؟ قالوا: انصرف باكي العين، قال: يا بلال اذهب فائتني به، فمضى إليه. ودخل منزله باكي العين فقالت له فاطمة ما يبكيك؟ قال: آخى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بين المهاجرين والأنصار، ولم يؤاخ بيني وبين أحد. قالت: لا يخزيك الله، لعله إنما ادخرك لنفسه. فقال بلال: يا عليّ أجب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأتى فقال: ما يبكيك يا أبا الحسن؟ فأخبره، فقال: إنما أدّخرك لنفسي، ألا يسرك أن تكون أخا نبيك؟ قال: بلى، فأخذه بيده، فأتى المنبر، فقال: اللهم هذا مني وأنا منه، ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى، ألا مَنْ كنت مولاه فعليّ مولاه، فانصرف فاتبعه عمر، فقال: بخٍ بخٍ يا أبا الحسن، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم. فالمؤاخاة تدل على الأفضلية، فيكون هو الإمام".
والجواب أولاً: المطالبة بتصحيح النقل، فإنه لم يعزُ هذا الحديث إلى كتاب أصلاً، كما عادته يعزو، وإن كان عادته يعزو إلى كتبٍ لا تقوم بها الحجة، وهنا أرسله إرسالاً على عادة أسلافه شيوخ الرافضة، يكذبون يروون الكذب بلا إسناد، وقد قال ابن المبارك: الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال مَنْ شاء ما شاء، فإذا سُئل: وقف وتحيّر.(17/52)
الثاني: أن هذا الحديث موضوع عند أهل الحديث، لا يرتاب أحد من أهل المعرفة بالحديث أنه موضوع(1)، وواضعه جاهل، كذب كذباً ظاهراً مكشوفاً، يعرف أنه كذب من له أدنى معرفة بالحديث، كما سيأتي بيانه.
الثالث: أن أحاديث المؤاخاة لعليّ كلها موضوعة(2)، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يؤاخ أحدأً، ولا آخى بين مهاجري ومهاجري، ولا بين أبي بكر وعمر ولا بين أنصاري وأنصاري، ولكن آخى بين المهاجرين والأنصار في أول قدومه المدينة(3).
وأما المباهلة فكانت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر من الهجرة.
__________
(1) لم أجد هذا الحديث الموضوع بهذه الألفاظ في كتب الأحاديث الصحيحة أو الموضوعة، وجاءت في كتب الأحاديث الموضوعة عدة أحاديث ذكر فيها أن عليّاً أخ للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم منها ما ذكره ابن تيمية قبل قليل ولكنها بألفاظ مختلفة.
(2) ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/111-112 حديثاً عن ابن عباس رضي الله عنه في المؤاخاة بين النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وعليّ رضي الله عنه ثم قال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه حامد بن آدم المروزي، وهو كذّاب" ثم ذكر حديثاً آخر عن جابر رضي الله عنه ثم قال: "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أشعث بن عم الحسن بن صالح وهو ضعيف ولم أعرفه، ويأتي حديث في المؤاخاة بين الصحابة في مناقب جماعة من الصحابة رضي الله عنهم". ثم ذكر حديثاً ثالثاً عن أبي أمامة رضي الله عنه، وقال: "رواه الطبراني من طريق بشر بن عون وهو ضعيف".
(3) في حديث البخاري 5/69 (كتاب مناقب الأنصار، باب كيف آخى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بين أصحاب): وقال عبد الرحمن بن عوف: آخى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بيني وبين سعد بن الربيع لما قدمنا المدينة". وانظر ذلك: سيرة ابن هشام (2/150-153)، زاد المعاد (3/63-65).(17/53)
الرابع: أن دلائل الكذب على هذا الحديث بيّنة، منها: أنه قال: "لما كان يوم المباهلة وآخى بين المهاجرين والأنصار". والمباهلة كانت لما قدم وفد نجران النصارى، وأنزل الله سورة آل عمران، وكان ذلك في آخر الأمر سنة عشر أو سنة تسع، لم يتقدم على ذلك باتفاق الناس والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يباهل النصارى، لكن دعاهم إلى المباهلة، فاستنظروه حتى يشتوروا، فلما اشتوروا قالوا: هو نبيٌّ، وما باهل قومٌ نبيّاً إلا استؤصلوا، فأقرُّوا له بالجزية، ولم يباهلوا، وهم أول من أقرّ بالجزية من أهل الكتاب، وقد اتفق الناس على أنه لم يكن في ذلك اليوم مؤاخاة.
الخامس: أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كانت في السنة الأولى من الهجرة في دار بني النجار، وبين المباهلة وذلك عدة سنين.
السادس: أنه كان قد آخى بين المهاجرين والأنصار، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم وعليّ كلاهما من المهاجرين، فلم يكن بينهما مؤاخاة، بل آخى بين عليّ وسهل بن حنيف، فعُلم أنه لم يؤاخ عليّاً، وهذا مما يوافق ما في الصحيحين من أن المؤاخاة إنما كانت بين المهاجرين والأنصار، لم تكن بين مهاجري ومهاجري.
السابع: أن قوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى" إنما قاله في غزوة تبوك مرة واحدة، لم يقل ذلك في غير ذلك المجلس أصلاً باتفاق أهل العلم بالحديث.
وأما حديث الموالاة فالذين رووه ذكروا أنه قاله بغدير خم مرة واحدة، لم يتكرر في غير ذلك المجلس أصلاً.
الثامن: أنه تقدم الكلام على المؤاخاة، وأن فيها عموماً وإطلاقاً لا يقتضي الأفضلية والإمامة، وأن ما ثبت للصّدّيق من الفضيلة لا يشركه فيه غيره، كقوله: "لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلاً"، وإخباره: أن أحب الرجال إليه أبو بكر، وشهادة الصحابة له أنه أحبهم إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وغير ذلك مما يبين أن الاستدلال بما روي عن المؤاخاة باطل نقلاً ودلالة.(17/54)
التاسع: أن مِنَ الناس مَنْ يظن أن المؤاخاة وقعت بين المهاجرين بعضهم مع بعض، لأنه روي فيها أحاديث، لكن الصواب المقطوع به أن هذا لم يكن، وكل ما روي في ذلك فإنه باطل: إما أن يكون من رواية مَنْ يتعمد الكذب، وإما أن يكون أخطأ فيه، ولهذا لم يخرج أهل الصحيح شيئاً من ذلك.
والذي في الصحيح إنما هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ومعلوم أنه لو آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض وبين الأنصار بعضهم مع بعض، لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، ولكان يذكر في أحاديث المؤاخاة، ويذكر كثيراً، فكيف وليس في هذا حديث صحيح، ولا خرَّج أهل الصحيح من ذلك شيئاً.
وهذه الأمور يعرفها مَنْ كان له خبرة بالأحاديث الصحيحة والسيرة المتواترة، وأحوال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وسبب المؤاخاة وفائدتها ومقصودها، وأنهم كانوا يتوارثون بذلك، فآخى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بين المهاجرين والأنصار، كما آخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، ليعقد الصلة بين المهاجرين والأنصار، حتى أنزل الله تعالى: { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [الأنفال: 75] وهي المحالفة التي أنزل الله فيها: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } [النساء: 33](1).
وقد تنازع الفقهاء: هل هي محكمة يورث بها عند عدم النسب أو لا يورث بها؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، الأول: مذهب أبي حنيفة، والثاني: مذهب مالك والشافعي.
الفصل السابع
الرد على من يثبت الإمامة لعليّ بقوله إنه اختص بحب الله ورسوله دون غيره
__________
(1) انظر تفسير الطبري (ط. المعارف) 8/272 .(17/55)
قال الرافضي: السابع: ما رواه الجمهور كافة أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لما حاصر خيبر تسعاً وعشرين ليلة، وكانت الراية لأمير المؤمنين عليّ، فلحقه رمد أعجزه عن الحرب، وخرج مرحب يتعرض للحرب، فدعا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبا بكر، فقال له: خذ الراية، فأخذها في جمع من المهاجرين، فاجتهد ولم يغن شيئاً، ورجع منهزماً، فلما كان من الغد تعرَّض لها عمر، فسار غير بعيد، ثم رجع يخبر أصحابه، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: جيئوني بعليّ، فقيل: إنه أرمد، فقال: أرونيه أروني رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ليس بفرَّار، فجاءوا بعليّ، فتفل في يده ومسحها على عينيه ورأسه فبرئ، فأعطاه الراية، ففتح الله على يديه، وقتل مرحباً، ووَصْفُهُ عليه السلام بهذا الوصف يدل على انتفائه عن غيره، وهو يدل على أفضليته، فيكون هو الإمام".
والجواب من وجوه:
أحدها: المطالبة بتصحيح النقل. وأما قوله: "رواه الجمهور" فإن الثقات الذين رووه لم يرووه هكذا، بل الذي في الصحيح أن عليّاً كان غائباً عن خيبر، لم يكن حاضراً فيها، تخلّف عن الغزاة لأنه كان أرمد، ثم إنه شقَّ عليه التخلف عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فلحقه، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قبل قدومه: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه". ولم تكن الراية قبل ذلك لأبي بكر ولا لعمر، ولا قربها واحد منهما، بل هذا من الأكاذيب، ولهذا قال عمر: "فما أحببت الإمارة إلا يومئذ، وبات الناس كلهم يرجون أن يُعطاها، فلما أصبح دعا عليّاً، فقيل له: إنه أرمد، فجاءه فتفل في عينيه حتى برأ، فأعطاه الراية".
وكان هذا التخصيص جزاء مجيء عليّ مع الرمد، وكان إخبار النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك وعليّ ليس بحاضر لا يرجونه من كراماته صلَّى الله عليه وسلَّم، فليس في الحديث تنقيص بأبي بكر وعمر أصلاً.(17/56)
الثاني: أن إخباره أن عليّاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله حق، وفيه رد على النواصب، لكن الرافضة الذين يقولون: إن الصحابة ارتدوا بعد موته لا يمكنهم الاستدلال بهذا، لأن الخوارج تقول لهم: هو ممن ارتد أيضاً، كما قالوا لَمّا حكم الحكمين: إنك قد ارتددت عن الإسلام فعد إليه.
قال الأشعري في كتاب "المقالات"(1): "أجمعت الخوارج على كفر عليّ"(2).
وأما أهل السنة فيمكنهم الاستدلال على بطلان قول الخوارج بأدلة كثيرة، لكنها مشتركة تدل على إيمان الثلاثة، والرافضة تقدح فيها، فلا يمكنهم إقامة دليل على الخوارج على أن عليّاً مات مؤمناً، بل أي دليل ذكروه قدح فيه ما يبطله على أصلهم، لأن أصلهم فاسد.
وليس هذا الوصف نم خصائص عليّ، بل غيره يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لكن فيه الشهادة لعينه بذلك، كما شهد لأعيان العشرة بالجنة، وكما شهد لثابت بن قيس بالجنة، وشهد لعبد الله حمار بأنه يحب الله ورسوله، وقد كان ضربه في الحد مرات.
وقول القائل: "إن هذا يدل على انتفاء هذا الوصف عن غيره".
فيه جوابان:
أحدهما: أنه إن سلَّم ذلك، فإنه قال: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه"، فهذا المجموع اختصّ به، وهو أن ذلك الفتح كان على يديه، ولا يلزم إذا كان ذلك الفتح المعين على يديه أن يكون أفضل من غيره، فضلاً عن أن يكون مختصاً بالإمامة.
الثاني: أن يقال: لا نسلِّم أن هذا يوجب التخصيص. كما لو قيل: لأعطين هذا المال رجلاً فقيراً، أو رجلاً صالحاً، ولأدعون اليوم رجلاً مريضاً صالحاً، أو لأعطين هذه الراية رجلاً شجاعاً، ونحو ذلك، لم يكن في هذه الألفاظ ما يوجب أن تلك الصفة لا توجد إلا في واحد، بل هذا يدل على أن ذلك الواحد موصوف بذلك.
__________
(1) في "مقالات الإسلاميين" 1/156 .
(2) مقالات الإسلاميين: على إكفار عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه أن حكم...(17/57)
ولهذا لو نذر أن يتصدق بألف درهم على رجل صالح أو فقير، فأعطى هذا المنذر لواحدٍ، لم يلزم أن يكون غيره ليس كذلك، ولو قال: أعطوا هذا المال لرجل قد حجَّ عني، فأعطوه رجلاً، لم يلزم أن غيره لم يحج عنه.
الثالث: أنه لو قُدِّر ثبوت أفضليته في ذلك الوقت، فلا يدل ذلك على أن غيره لم يكن أفضل منه بعد ذلك.
الرابع: أنه لو قدَّرنا أفضليته، لم يدل ذلك على أنه إمام معصوم منصوص عليه، بل كثير من الشيعة الزيدية ومتأخري المعتزلة وغيرهم يعتقدون أفضليته، وأن الإمام هو أبو بكر، وتجوز عندهم ولاية المفضول. وهذا مما يجوزه كثير من غيرهم، ممن يتوقف في تفضيله بعض الأربعة على بعض، أو ممن يرى أن هذه المسألة ظنية لا يقوم فيها دليل قاطع على فضيلة واحدٍ معين، فإن من لم يكن له خبرة بالسنة الصحيحة قد يشك في ذلك.
وأما أئمة المسلمين المشهورين فكلهم متفقون على أن أبا بكر وعمر أفضل من عثمان وعليّ، ونقل هذا الإجماع غيرُ واحد، كما روى البيهقي في كتاب "مناقب الشافعي" – مسنده عن الشافعي – قال: "ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصحابة"(1).
__________
(1) وردت هذه العبارة في كتاب "مناقب الشافعي" لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق الأستاذ السيد أحمد صقر (ط. دار التراث، القاهرة، 1391/ 1971) 1/434 وجاء بعدها: "وإنما اختلف من اختلف منهم في عليّ وعثمان: منهم من قدم عليّاً على عثمان، ومنهم من قدم عثمان على عليّ، ونحن لا نخطئ أحداً من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما فعلوا".(17/58)
وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: "كنا نفاضل على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فنقول: خير الناس بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أبو بكر ثم عمر"(1).
وقد تقدم نقل البخاري عن عليّ هذا الكلام.
والشيعة الذين صحبوا عليّاً كانوا يقولون ذلك، وتواتر ذلك عن عليّ من نحو ثمانين وجهاً. وهذا مما يقطع به أهل العلم، ليس هذا مما يخفى على مَنْ كان عارفاً بأحوال الرسول والخلفاء.
الفصل الثامن
إثبات أن حديث الطير من المكذوبات الموضوعات
__________
(1) الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما – مع اختلاف في الألفاظ – في: البخاري 5/4 (كتاب فضائل أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، باب فضل أبي بكر) ولفظه: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم"، 5/14-15 (كتاب فضائل أصحاب النبي، باب مناقب عثمان)، سنن أبي داود 4/287 (كتاب السنة، باب في التفضيل) عن طريقين في أولهما زيادة: "ثم نترك أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لا نفاضل بينهم"، كتاب فضائل الصحابة، الأرقام 53-58، 61-63، 401، مجمع الزوائد 9/58، المسند (ط. المعارف) الأرقام 4626، 4797 .(17/59)
قال الرافضي: "الثامن: خبر الطائر. روى الجمهور كافة أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أُتِيَ بطائر، فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإليّ يأكل معي من هذا الطائر، فجاء عليّ، فدق الباب، فقال انس: إن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم على حاجة، فرجع. ثم قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كما قال أولاً، فدق الباب، فقال أنس: ألم أقل لك إنه على حاجة؟ فانصرف، فعاد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فعاد عليّ فدق الباب أشد من الأولين، فسمعه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فأذن له بالدخول، وقال: ما أبطأك عني؟ قال: جئت فردني أنس، ثم جئت فردني أنس، ثم جئت فردني الثالثة، فقال: يا أنس ما حملك على هذا؟ فقال: رجوت أن يكون الدعاء لرجل من الأنصار، فقال: يا أنس أوَ في الأنصار خير من عليّ؟ أوَ في الأنصار أفضل من عليّ؟ فإذا كان أحب الخلق إلى الله، وجب أن يكون هو الإمام".
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بتصحيح النقل. وقوله: "روى الجمهور كافة" كذب عليهم؛ فإن حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح، ولا صححه أئمة الحديث، ولكن هو مما رواه بعض الناس، كما رووا أمثاله في فضل غير عليّ، بل قد رُوي في فضائل معاوية أحاديث كثيرة، وصُنِّف في ذلك مصنفات. وأهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا ولا هذا.
الثاني: أن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: خرّج الشيخ أحمد ميرين البلوشي حديث الطائر وتتبع طرقه في تحقيقه لكتاب "خصائص أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه" للإمام النسائي ص29 وما بعدها فأجاد وأفاد، ولنفاسة ذلك التخريج أذكره لإخواني طلبة العلم لينتفعوا به.
قال الشيخ البلوشي وللحديث عن أنس ثلاثون طريقاً:-
* الأولى: طريق السدي عن أنس.
أخرجه الترمذي: المناقب (5: 300) وأبو يعلى كما في المقصد العلي (ق 2/123) وابن عدي في الكامل (2/3/69) وابن المغازلي في مناقب علي (171) وابن عساكر (12: 124، 125) وابن الجوزي في العلل المتناهية (1: 226) والخوارزمي في "المناقب" (59) ونقل ابنُ عساكر عن الدارقطني قوله في المسند: تفرد به عيسى بن عمر عن السدي. قلتُ: بل تابعه فيه الحارث بن نبهان عن السدي عند ابن عساكر، والحارث متروك كما في "التقريب".
* الثانية: طريق حماد بن المختار، عن عبد الملك بن عمير عنه.
أخرجه الطبراني في "الكبير" (1/226) وابن المغازلي (171) وابن عساكر (12: 125) وابن الجوزي في العلل (1: 228) وابن المؤيد الجويني في "فرائد السمطين" (1: 209)، وحماد بن المختار هذا نقل ابن الجوزي عن ابن عدي قوله فيه: "شيعي مجهول". وقال الذهبي في المغني. (1: 83) "لا أعرفه".
* الثالثة: عن جعفر بن سليمان عن عبد الله بن المثنى عن عبد الله بن أنس عنه. أخرجه أبو يعلى في "المسند" كما في "المطالب العالية" (ق 556) وابن عدي (ق 2/32) وابن المغازلي (172) وابن عساكر (12: 122) وجعفر بن سلميان وإن وثق فهو من غلاة الروافض كما في "الميزان" (1: 408) والغالي لا تُقبل روايته فيما يقوي به بدعته كما تقدم. وعبد الله بن المثنى قال عنه في التقريب: "صدوق كثير الغلط".
* الرابعة: أبو الهندي عن أنس.
أخرجه ابن شاذان في جزء من مشيخته (ق102) والخطيب في "تاريخ بغداد" (3: 171) وابن المغازلي (166) وابن عساكر (12: 124) وابن الجوزي في العلل (1: 227). وأبو الهندي قال عنه الخطيب: "مجهول، واسمه لا يعرف" وكذا قال عنه الذهبي في "الميزان" (4: 583).
* الخامسة: عن إسماعيل بن سَلْمان – بسكون اللام – الأزرق عنه.
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1: 358) والبزار كما في "مختصر زوائد مسنده" (ق363) وابن المغازلي (161) والخوارزمي (65) وإسماعيل الأزرق قال عنه ابن نمير والنسائي: متروك، وقال أبو حاتم. والدارقطني: ضعيف، وعن ابن معين: ليس بشيء. انظر: الميزان (1: 232).
* السادسة: عن عثمان الطويل عنه.
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (2: 3) وابن المغازلي (162) وابن عساكر (12: 123) وعثمان الطويل مجهول الحال لم يوثقه إلا ابن حبان كما في "اللسان" (4:159) وقال: "ربما أخطأ" ولا يعتمد توثيقه لتساهله. ولا يُعرف لعثمان سماع من أنس كما قال البخاري.
* السابعة: عن محمد بن عياض عن يحيى بن حسان عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد عنه.
أخرجه الطبراني في "الأوسط" (ق 2/109) وابن يونس في "تاريخ مصر" كما في اللسان (5: 58) والحاكم (3: 130) وقال: "صحيح على شرط الشيخين" وتعقبه الذهبي بقوله: "ابن عياض لا أعرفه" وقال عنه الحافظ في "اللسان" (5: 58) "مجهول".
* الثامنة: عن إسماعيل بن سليمان الرازي عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه.
أخرجه الطبراني في الأوسط كما في "مجمع البحرين" (3: 340) والخطيب في تاريخه (9: 36) وابن عساكر (12: 125) وابن الجوزي في "العلل" (1: 227) وإسماعيل بن سليمان هو أخو إسحاق بن سليمان. قال الذهبي في المغني: (1: 82) "ضعَّفه غير واحد، قال العقيلي: الغالب على حديثه الوهم".
* التاسعة: عن مسلم بن كيسان عنه.
أخرجه الخطيب في الموضح (2: 398) وابن المغازلي (168) وابن الجوزي في "العلل" (1: 232) وابن عساكر (12: 123، 125). ومسلم هذا قال عنه الفلاس: متروك الحديث، وعن ابن معين: ليس بثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه. انظر الميزان (4: 106).
* العاشرة عن إبراهيم بن باب عن ثابت البناني عنه.
أخرجه العقيلي (1:46) والحاكم (3: 131) وإبراهيم بن باب هو البصري، قال عنه الذهبي في "المغني" (1: 10): "ضعيف واهٍ".
* الحادية عشرة: عن بشر بن الحسين، عن الزبير بن عدي عنه.
أخرجه أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1: 232) وابن المغازلي في "مناقب علي" (163) وابن عساكر (12: 124) وابن المؤيد الجويني في "فرائد السمطين" (1: 212). وبشر بن الحسين قال عنه البخاري: "فيه نظر" وقال أبو حاتم: يكذب على الزبير. التاريخ الكبير (2: 17) والجرح والتعديل (2: 355).
* الثاني عشرة: عن عبد الله بن محمد بن عمارة عن مالك عن إسحاق بن عبد الله عنه.
أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6: 339) وابن الجوزي في العلل (1: 225). وابن عمارة هذا قال عنه الذهبي في "الميزان" (2: 489) "مستور ما وثق ولا ضعف" وقال الحافظ في ترجمته من "اللسان" (3: 336): "أورد له الدارقطني في "الغرائب" عن مالك عن إسحاق بن عبد الله عن أنس حديث الطير وهو منكر، وقال: تفرد به ابن عمارة عن مالك وعيرهُ أثبت منه".
* الثالثة عشرة: عن أبي مكيس دينار عنه.
أخرجه السهمي في "تاريخ جرجان" (ص169) والخطيب (8: 382) وابن الجوزي في "العلل" (1: 229) وأبو مكيس قال عنه الذهبي في "المغني" (1: 224): ساقط. قال ابن حبان: "يروي عن أنس أشياء موضوعة".
* الرابعة عشرة: عن يغنم بن سالم عنه.
أخرجه ابن المغازلي (164: 171) ويغنم هذا قال عنه ابن حبان في "المجروحين" (3: 145): "شيخ يضع الحديث على أنس بن مالك" وقال الذهبي في "المغني" (2: 760): "هالك".
* الخامسة عشرة: عن علي بن الحسن حدثنا خليد بن دعلج، عن قتادة عنه.
أخرجه ابن المغازلي (169) وابن عساكر (12: 123) وعلي بن الحسن هو السامي قال عنه الذهبي في "الميزان" (3: 120): "هو في عداد المتروكين". وخليد بن دعلج ضعفه ابن معين وأحمد، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: ليس بالمتين في الحديث، حدث عن قتادة أحاديث منكرة. انظر التهذيب (3: 158).
* السادسة عشرة: عن خالد بن عبيد عنه.
أخرجه ابن المغازلي (173) وابن الجوزي في "العلل" (1: 229). وخالد هذا قال البخاري: في حديثه نظر وقال الحاكم: حدث عن أنس بموضوعات. الميزان (1: 634).
* السابعة عشرة: عن عبد الله بن زياد أبي العلاء عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عنه.
أخرجه ابن عساكر (12: 123) وعبد الله بن زياد قال عنه البخاري في "التاريخ" (5:95): "منكر الحديث" وعليّ بن زيد هو ابن جدعان قال عنه الحافظ: "ضعيف".
* الثامنة عشرة: عن ميمون أبي خلف عنه.
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1: 358) والعقيلي (4: 189) وابن عساكر (12: 123، 124). وميمون أبو خلف هو ابن جابر، قال أبو زرعة: متروك، وقال العقيلي: لا يصح حديثه. لسان الميزان (6: 140).
* التاسعة عشرة: عن عبد الله بن ميمون عن جعفر بن محمد – الصادق – عن أبيه عنه.
أخرجه أبو الشيخ في "طبقات المحدثين" (ق223) وابن الجوزي في العلل (1: 232)، وعبد الله بن ميمون هو القداح، قال عنه الحافظ: "منكر الحديث متروك".
* العشرون: عن محمد بن زكريا بن دُويد عن حميد الطويل عنه.
أخرجه ابن المغازلي (156)، ومحمد بن زكريا قال عنه الذهبي في الميزان (3: 549): "روى عن حميد الطويل خبراً باطلاً. والراوي عنه هو علي بن صدقة الجوهري لا أعرفه" قلت: هو الراوي عنه حديث الطير.
* الحادية والعشرون: عنالحسن بن عبد الله الثقفي عن نافع عنه.
أخرجه ابن المغازلي (167). والحسن الثقفي هذا قال عنه الذهبي في الميزان (1: 501): "منكر الحديث" ونافع هو ابن هرمز واه.
* الثانية والعشرون: عن محمد بن سليم عنه.
أخرجه ابن عساكر (12: 124)، ومحمد بن سليم مجهول. قال الحافظ في "اللسان" (5: 192) "لا يعرف".
* الثالثة والعشرون: عن عبد الله بن المثنى عن ثمامة عنه.
أخرجه ابن عساكر (12: 122) وابن الجوزي في "العلل" (1: 231). وفي سند ابن عساكر "عبد السلام بن راشد" قال عنه الذهبي في "المغني" (1: 394) "لا يُدرى مَنْ ذا" وفي سند ابن الجوزي العباس بن بكار قال الذهبي في "المغني" (1: 328): "كذبه الدارقطني".
* الرابعة والعشرون: عن أبي النضر سالم مولى عمر بن عبيد الله عنه.
أخرجه ابن الجوزي في العلل (1: 230) وفي إسناده أحمد بن سعيد بن فرقد قال الذهبي في "الميزان" (1: 100) "روى حديث الطير بإسناد الصحيحين فهو متهم بوضعه".
* الخامسة والعشرون: عن مفضل بن صالح عن الحسن بن الحكم عنه.
أخرجه ابن الجوزي (1: 231)، ومفضل هذا قال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال ابن حبان: يروي المقلوبات عن الثقات فوجب ترك الاحتجاج به. التهذيب (10: 271).
* السادسة والعشرون: حماد عن إبراهيم النخعي عنه.
أخرجه ابن الأثير في "أسد الغابة" (4: 30) وفي سنده محمد بن إسحاق بن إبراهيم الأهوازي متهم بالوضع كما في "الميزان" (3: 478).
* السابعة والعشرون: عن عبد الملك بن أبي سليمان عنه.
أخرجه البخاري في التاريخ (2: 3) وأبو الحسين النرسي في "جزء من حديث أبي محمد (ق136) وابن المغازلي (157) وإسناده منطقع، قال البخاري: عبد الملك بن أبي سليمان عن أنس مرسل. وكذا قال أبو حاتم. انظر المراسيل (ص132).
* الثامنة والعشرون: عن يحيى بن أبي كثير عنه.
أخرجه الطبراني في الأوسط كما في "مجمع البحرين" (3: 340) ويحيى مدلس ولم يسمع من أنس. انظر الميزان (4: 402).
* التاسعة والعشرون: عن خالد بن عبيد أبي عصام عنه.
أخرجه ابن عدي (3: 896) وخالد هذا قال عنه الحافظ: "متروك".
* الثلاثون: عن عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة عن أبيه، عن جده وعن أنس.
أخرجه الخطيب (11: 376) وابن الجوزي في العلل (1:230). وعمر بن عبد الله ضعفه أحمد والنسائي، وقال البخاري: يتكلمون فيه، وقال الدارقطني: متروك. الميزان (3: 211). وعبد الله بن يعلى قال الذهبي في "الميزان" (2: 528): "ضعفه غير واحد" قال البخاري: فيه نظر".
هذا ما تيسر لي جمعه من طرق هذا الحديث عن أنس، وإن كان أقل من ثلث طرقه عنه على ما ذكره ابن كثير في "البداية والنهايةط (7: 353) عن الذهبي أنه ألف جزءاً من طرق هذا الحديث قال: "فبلغ عدد من رواه عن أنس بضعة وتسعين نفساً، أقرب هذه الطرق غرائب ضعيفة، وأردؤها طرق مختلفة مفتعلة، وغالبها طرق واهية" ثم سرد أسماء الذين رووه عن أنس.
ورُوِي أيضاً من حديث سفينة، وابن عباس وعلي، ويعلى بن مرة.
وحديث سفينة له عنه ثلاث طرق:
* الأولى: عن مطير أبي خالد عن ثابت البجلي عنه.
أخرجه أبو يعلى في المسند كما في "المطالب العالية" (ق556) وابن عساكر (12: 126) وابن المؤيد في "فرائد السمطين" (1: 214) ومطير هذا قال عنه أبو حاتم: متروك، وقال أبو زرعة: ضعيف. الجرح والتعديل (8: 394).
* الثانية: عن بريدة بن سفيان عنه.
أخرجه البزار كما في "مختصر زوائد مسنده" (ق263) وابن المغازلي (175) وابن عساكر (12: 126). وبريدة بن سفيان قال عنه الدارقطني: متروك. المغني (1: 102).
* الثالثة: عن سليمان بن قَرْم، عن فطر بن خليفة عن عبد الرحمن بن أبي نُعم عنه. في "المجروحين" (1: 332): "رافضي غالي يقلب الأخبار" وقال ابن حجر: "سيئ الحفظ" وفطر بن خليفة قال عنه الذهبي في "المغني" (2: 516): "شيعي جلد صدوق".
ومن حديث ابن عباس.
أخرجه العقيلي (4: 82-83) والطبراني في الكبير (10: 343) وابن عدي (3: 859) وابن المغازلي (164) وابن عساكر (12: 122) والخوارزمي في "المناقب" (50) من طريق محمد بن شعيب عن داود بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده. ومحمد بن شعيب قال عنه الحافظ في "اللسان" (5: 199): "مجهول" {وفيها كذلك سليمان بن قرم وتقدم ما فيه وأورده الهيثمي في المجمع (9: 126) وعزاه إلى الطبراني وقال: "وفيه محمد بن شعيب (في المجمع والمعجم: سعيد وهو خطأ) شيخٌ يروي عنه سليمان بن قرم ولم أعرفه، وبقية رجاله وثقوا، وفيه ضعف. أ.هـ.}.
* ومن حديث عليّ بن أبي طالب.
أخرجه ابن عساكر (12: 122) من طريق عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب حدثني أبي، عن أبيه عن جده، عن علي. وعيسى بن عبد الله قال عنه الدارقطني: "متروك" كما في المغني (2: 498).
وحديث يعلى بن مرة تقدم في الطريق الثلاثين عن أنس وعنه.
قال الحافظ بن كثير في "البداية والنهاية" (7: 354): "وقد رُوي من حديث يعلى ابن مرة والإسناد إليه مظلم، ورُوِي من حديث حبشي بن جنادة ولا يصح أيضاً، ومن حديث أبي رافع نحوه وليس بصحيح".
وحديث الطير مع ضعف أسانيده رُوِي بألفاظ متعارضةٍ متضاربةٍ، فيه اضطراب من ثلاثة أوجه:
الأول: الاختلاف في نوع الطير، فعند أبي يعلى، وابن عدي عن أنس أنه كان "حجلاً" وعند الخطيب عنه – أعني أنساً – وعند ابن عساكر عن علي أنه "حُباري" وعند ابن المغازلي عن أنس أنه "يعاقيب" وعنده عنه "نحامة" وعند عساكر في رواية "دجاجة".
الثاني: الاختلاف في عدد الطيور، في بعض الروايات أنه كان طيراً أو دجاجة، أو نحامة، وجاء في بعض الروايات "أطيار" و"طوائر" و"نحامات".
الثالث: الاختلاف فيمن أهدى الطير، ففي رواية العقيلي والطبراني هي"أم أيمن" وعند ابن عساكر وابن المغازلي "امرأة من الأنصار"، وأم أيمن، ليست أنصارية.
والاضطراب في المتن علة قادحة بصحة الحديث أو حسنه. وقد ضعف هذا الحديث جمهور أئمة الحديث وحسنه البعض وإليكم بيان ذلك:
قال العقيلي في "الضعفاء" (1: 46) "وهذا الباب الرواية فيها لين، وضعف، ولا نعلم فيه شيئاً ثابتاً، وهكذا قال محمد بن إسماعيل البخاري".
وقال البزار: "رُوي عن أنس من وجوه، وكل من رواه عنه فليس بالقوي".
وقد بالغ أبو بكر بن أبي داود (ت316) في رد هذا الحديث وإنكاره كما في "سير الأعلام" (13: 232).
وقال أبو يعلى الخليلي (ت446) في "الإرشاد" (ق82): "ما روي في حديث الطير ثقة. رواه الضعفاء مثل إسماعيل بن سليمان الأزرق وأشباههم، ويرده جميع أئمة الحديث".
ونقل ابن الجوزي في العلل (1: 233) عن محمد بن طاهر المقدسي (ت507) قوله: "كل طرقه – أي حديث الطير – باطلة معلولة".
وعن الحافظ محمد بن ناصر السلامي (ت550) "حديث موضوع، إنما جاء من سقاط أهل الكوفة عن المشاهير والمجاهيل عن أنس وغيره". المنتظم (7: 275).
أورده ابن الجوزي (ت597) في "العلل" (1: 233) من ست عشرة طريقاً مبيناً علة كل واحدة منها وقال: "قد ذكره ابن مردويه من نحو عشرين طريقاً كلها مظلم وفيها مطعن".
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728): "إن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل". منهاج السنة (4: 99).
ويقول الحافظ الذهبي (ت748) في "سير أعلام النبلاء" (13: 233): "وحديث الطير على ضعفه، فله طرق جمة، وقد أفردتها في جزء ولم يثبت، ولا أنا بالمعتقد بطلانه".
وممن ضعفه وكتب في رده وتضعيفه سنداً ومتناً مجلداً كبيراً أبو بكر الباقلاني (ت403) كما في "البداية والنهاية" (7: 354).
ويقول الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (7: 351، 354) "وهذا الحديث قد صنف الناس فيه وله طرق متعددة، وفي كل منها نظر". ثم ذكر بعض طرقه وقال: "وفي الجملة ففي القلب من صحة هذا الحديث نظر، وإن كثرت طرقه".
ويقول كمال الدين الدميري (ت808) في "حياة الحيوان" (2: 240) حديث الطير رواه الطبراني، وأبو يعلى، والبزار من عدة طرق كلها ضعيفة، وقد صححه الحاكم، وهو من الأحاديث المستدركة على المستدرك".
ونقل الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص382) عن المجد محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت817) في المختصر عن هذا الحديث قوله: "له طرق كثيرة كلها ضعيفة".
وكذا ضعفه الشيخ الألباني في تعليقه على "مشكاة المصابيح" (3: 245) تعليقاً على قول الترمذي: "هذا حديث غريب" قال: "أي ضعيف، وهو كما قال".
وممن قوى حديث الطير.
ابن شاهين (ت385) فيما نقله عنه ابن عساكر في تاريخ دمشق (12: 123) أنه أخرج الحديث من طريق صالح بن عبد الكبير، عن عبد الله بن زياد أبي العلاء، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن أنس، وقال: "تفرد بهذا الحديث عبد القدوس بن محمد عن عمه صالح بن عبد الكبير، لا أعلم حدث به غيره، وهو حديث حسن".
قلت: في هذا التحسين نظر، لأن صالح بن عبد الكبير بن شعيب مجهول، لم يرد عنه غير ابن أخته عبد القدوس بن محمد كما في الميزان (2: 298). وعبد الله بن زياد أبو العلاء قال البخاري عنه في التاريخ الكبير (5: 95): "منكر الحديث". وعلي بن زيد هو ابن جدعان قال أحمد: ضعيف، وعن ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري وأبو حاتم: لا يحتج به. الميزان (3: 128).
وصححه الحاكم في المستدرك على شرط الشيخين كما تقدم في الطريق السابق عن أنس، وقال: "قد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زيادة على ثلاثين نفساً، ثم صحت الرواية عن علي، وأبي سعيد الخدري، وسفينة". ونِعْمَ ما علق الحافظ الذهبي على قول الحاكم: "قد رواه عن أنس" بقوله: "فصلهم بثقة يصح الإسناد إليه" وعلى قوله: "ثم صحت الرواية عن عليّ" بقوله: "لا والله ما صح شيء من ذلك" انظر: البداية والنهاية (7: 35).
ونقل الحافظ الذهبي في السير (17: 168) وتذكرة الحفاظ (3: 1042) عن أبي نعيم الحداد سمعت الحسن بن أحمد السمرقندي الحافظ، سمعت أبا عبد الرحمن الشاذياخي الحاكم يقول: "كنا في مجلس السيد أبي الحسن، فسئل أبو عبد الله الحاكم عن حديث الطير فقال: "لا يصح، ولو صح لما كان أحد أفضل من علي بعد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم" ثم قال الذهبي: "فهذه حكاية قوية، فما باله أخرج حديث الطير في المستدرك؟!! فكأنه اختلف اجتهاده".
وكذا اختلف فيه قول الحافظ ابن حجر. فقال في "لسان الميزان" (3: 336): "هو خبر منكر" وحسّنه في "الأجوبة عن أحاديث وقعت في مصابيح السنة ووصفت بالوضع" ملحقة بآخر مشكاة المصابيح (3: 313) قال: "السدي إسماعيل بن عبد الرحمن أخرج له مسلم، ووثقه جماعة منهم شعبة وسفيان ويحيى القطان". قلت: يشير إلى رواية الترمذي والنسائي في الخصائص والتي تقدمت برقم (10) وبينت هناك أن السدي وصف بالغلو في التشيع، والغالي لا تُقبل روايته فيما يقوي به بدعته ولو كان ثقة كما قرره الحافظ نفسه. فارجع إليه.(17/60)
. قال أبو موسى المديني: "قد جمع غير واحد من الحفَّاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار والمعرفة، كالحاكم النيسابوري، وأبي نُعيم، وابن مردويه. وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال: لا يصح".
هذا مع أن الحاكم منسوب إلى التشيع، وقد طُلب منه أن يروي حديثاً في فضل معاوية فقال: ما يجيء من قلبي، ما يجيء من قلبي، وقد ضربوه على ذلك فلم يفعل. وهو يروي في "الأربعين" أحاديث ضعيفة بل موضوعة عند أئمة الحديث، كقوله بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، لكن تشيعه وتشيع أمثاله من أهل العلم بالحديث، كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما، لا يبلغ إلى تفضيله على أبي بكر وعمر، فلا يُعرف في علماء الحديث من يفضِّله عليهما، بل غاية المتشيع منهم أن يفضّله على عثمان، أو يحصل منه كلام أو إعراض عن ذكر محاسن من قاتله ونحو ذلك، لأن علماء الحديث قد عصمهم وقيدهم ما يعرفون من الأحاديث الصحيحة الدالة على أفضلية الشيخين، ومن ترفّض ممن له نوع اشتغال بالحديث، كابن عُقدة وأمثاله، فهذا غايته أن يجمع ما يُروي في فضائله من المكذوبات والموضوعات، لا يقدر أن يدفع ما تواتر من فضائل الشيخين، فإنها باتفاق أهل العلم بالحديث أكثر مما صح في فضائل عليّ وأصح وأصرح في الدلالة.
وأحمد بن حنبل لم يقل: إنه صحّ لعليّ من الفضائل ما لم يصح لغيره، بل أحمد أجلّ من أن يقول مثل هذا الكذب، بل نُقل عنه أنه قال: "رُوي له ما لم يُرو لغيره" مع أن في نقل هذا عن أحمد كلاماً ليس هذا موضعه.
الثالث: أن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيء أحب الخلق إلى الله ليأكل منه، فإن إطعام الطعام مشروع للبرّ والفاجر، وليس في ذلك زيادة وقربة عند الله لهذا الآكل، ولا معونة على مصلحة دين ولا دنيا، فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله؟!(17/61)
الرابع: أن هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة؛ فإنهم يقولون: إن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يعلم أن عليّاً أحب الخلق إلى الله، وأنه جعله خليفة من بعده. وهذا الحديث يدل على أنه ما كان يعرف أحب الخلق إلى الله.
الخامس: أن يقال: إما أن يكون النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يعرف أن عليّاً أحب الخلق إلى الله، أو ما كان يعرف. فإن كان يعرف ذلك، كان يمكنه أن يرسل يطلبه، كما كان يطلب الواحد من الصحابة، أو يقول: اللهم ائتني بعليّ فإنه أحب الخلق إليك، فأي حاجة إلى الدعاء والإبهام في ذلك؟! ولو سَمَّى عليّاً لاستراح أنس من الرجاء الباطل، ولم يغلق الباب في وجه عليّ.
وإن كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يعرف ذلك، بطل ما يدّعونه من كونه كان يعرف ذلك. ثم إن في لفظه: "أحب الخلق إليك وإليّ" فكيف لا يعرف أحب الخلق إليه؟!
السادس: أن الأحاديث الثابتة في الصحاح، التي أجمع أهل الحديث على صحتها وتلقّيها بالقبول، تناقض هذا، فكيف تعارض بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لمي صححوه؟!
يبيّن هذا لكل متأملٍ ما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من فضائل القوم، كما في الصحيحين أنه قال: ”لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً“. وهذا الحديث مستفيض، بل متواتر عند أهل العلم بالحديث؛ فإنه قد أخرج في الصحاح من وجوه متعددة، من حديث ابن مسعود وأبي سعيد وابن عباس وابن الزبير، وهو صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الأرض أحد أحب إليه من أبي بكر؛ فإن الخلة هي كمال الحب، وهذا لا يصلح إلا لله، فإذا كانت ممكنة، ولم يصلح لها إلا أبو بكر، عُلم أنه أحب الناس إليه.
وقوله في الحديث الصحيح لما سئل: "أيُّ الناس أحب إليك؟ قال: ”عائشة“ قيل: من الرجال؟ قال: ”أبوها“.
وقول الصحابة: "أنت خيرنا وسيدنا وأحب إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم" يقوله عمر بين المهاجرين والأنصار، ولا ينكر ذلك منكر.(17/62)
وأيضاً فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم محبته تابعة لمحبة الله، وأبو بكر أحبهم إلى الله تعالى، فهو أحبهم إلى رسوله.
وإنما كان كذلك لأنه أتقاهم وأكرمهم، وأكرم الخلق على الله تعالى أتقاهم بالكتاب والسنة.
وإنما كان أتقاهم لأن الله تعالى قال: { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى، إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [الليل: 17-21].
وأئمة التفسير يقولون: إنه أبو بكر(1).
ونحن نبيّن صحة قولهم بالدليل فنقول: الأتقى قد يكون نوعاً وقد يكون شخصاً. وإذا كان نوعاً فهو يجمع أشخاصاً. فإن قيل: إنهم ليس فيهم شخص هو أتقى، كان هذا باطلاً، لأنه لا شك أن بعض الناس أتقى من بعض، مع أن هذا خلاف قول أهل السنة والشيعة، فإن هؤلاء يقولون: إن أتقى الخلق بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من هذه الأمة هو أبو بكر، وهؤلاء يقولون: هو عليّ. وقد قال بعض الناس: هو عمر. ويُحكى عن بعض الناس غير ذلك. ومن توقف أو شَكَّ لم يقل: إنهم مستوون في التقوى. فإذا قال: إنهم متساوون في الفضل، فقد خالف إجماع الطوائف. فتعين أن يكون هذا أتقى.
وإن كان الأتقى شخصاً، فإما أن يكون أبا بكر أو عليّاً. فإنه إذا كان اسم جنس يتناول من دخل فيه، وهو النوع، وهو القسم الأول، أو معيناً غيرهما. وهذا القسم منتف باتفاق أهل السنة والشيعة، وكونه عليّاً باطل أيضاً لأنه قال: { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى، إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [الليل: 17-21].
وهذا الوصف منتف في عليّ لوجوه:
__________
(1) قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: "وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى أن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك".(17/63)
أحدها: أن هذه السورة مكية بالاتفاق، وكان عليٌّ فقيراً بمكة في عيال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يكن له مالٌ ينفق عنه، بل كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قد ضمّه إلى عياله لما أصابت أهل مكة سنة.
الثاني: أنه قال: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى } [الليل: 19].
وعليّ كان للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم عنده نعمة تجزى، وهو إحسانه إليه لما ضمه إلى عياله. بخلاف أبي بكر؛ فإنه لم يكن له عنده نعمة دنيوية، لكن كان له عنده نعمة الدين، وتلك لا تُجزى؛ فإن أجر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فيها على الله، لا يقدر أحد يجزيه. فنعمة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عند أبي بكر دينية لا تجزى، ونعمته عند عليّ دنيوية تجزى، ودينية.
وهذا الأتقى ليس لأحد عنده نعمة تُجزى، وهذا الوصف لأبي بكر ثابت دون عليّ.
فإن قيل: المراد به أنه أنفق ماله لوجه الله، لا جزاء لمن أنعم عليه. وإذا قُدِّر أن شخصاً أعطى من أحسن إليه أجراً، وأعطى شيئاً آخر لوجه الله، كان هذا مما ليس لأحد عنده من نعمة تجزى.
قيل: هب أن الأمر كذلك، لكن عليّ لو أنفق لم ينفق إلا فيما يأمره به النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، والنبي له عنده نعمة تجزى، فلا يخلص إنفاقه عن المجازاة، كما يخلص إنفاق أبي بكر.(17/64)
وعليّ أتقى من غيره، لكن أبا بكر أكمل في وصف التقوى، مع أن لفظ الآية أنه ليس عنده قط لمخلوق نعمة تُجزى. وهذا وصف من يجازي الناس على إحسانهم إليه، فلا يبقى لمخلوق عليه منّة. وهذا الوصف منطبق على أبي بكر انطباقاً لا يساويه فيه أحد من المهاجرين؛ فإنه لم يكن في المهاجرين: - عمر وعثمان وعليّ وغيرهم – رجل أكثر إحساناً إلى الناس، قبل الإسلام وبعده، بنفسه وماله من أبي بكر. كان مؤلّفاً محبباً يعاون الناس على مصالحهم، كما قال فيه ابن الدُّغُنَّة سيد القارة لما أراد أن يخرج من مكة: "مثلك يا أبا بكر لا يَخْرُج ولا يُخْرَج؛ فإنك تحمل الكل، وتُقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق"(1).
__________
(1) الحديث عن عائشة رضي الله عنها في: البخاري 5/58-61 (هذه العبارات في ص58) (كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه إلى المدينة). وانظر الخبر في: سيرة ابن هشام 2/11-13. وفي تعليق المحققين: "واسم ابن الدغنة: مالك. وقد ضبطه القسطلاني بفتح الدال وكسر الغين وفتح النون مخففة، ويضم الدال وفتح النون مشددة".(17/65)
وفي صلح الحديبية لما قال لعروة بن مسعود: "امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ قال لأبي بكر: لولا يَدٌ لك عندي لم أجزك بها لأجبتك"(1).
وما عُرف قط أن أحداً كانت له يدٌ على أبي بكر في الدنيا، لا قبل الإسلام ولا بعده، فهو أحق الصحابة: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى } فكان أحق الناس بالدخول في الآية.
__________
(1) الحديث عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما صاحبه في: البخاري: 3/193-198 (كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط) وهذه العبارات في ص194، المسند (ط. الحلبي) 4/323-326، 328-331. وقال ابن حجر في "فتح الباري" 5/340: "قوله: امصص بظر اللات. زاد ابن عائذ من وجه آخر عن الزهري – وهي – أي اللات – طاغيته التي يعبد أي طاغية عروة. وقوله: امصص، بألف وصل ومهملتين، الأولى مفتوحة، بصيغة الأمر. وحكى ابن التين عن رواية القابسي: بضم الصادر الأولى، وخطّاها، والبظر: بفتح الموحّدة وسكون المعجمة: قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة. واللات: اسم أحد الأصنام التي كانت قريش وثقيف يعيدونها، وكانت عادة العرب الشتم بذلك، لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سبّ عروة بإقامة من كان يُعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار، وفيه جواز النطق بما يُستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدامنه ما يستحق به ذلك".(17/66)
وأما عليّ رضي الله عنه فكان للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم عليه نعمة دنيوية. وفي المسند لأحمد أن أبا بكر رضي الله عنه كان يَسْقُط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه. ويقول: إن خليلي أمرين أن لا أسال الناس شيئاً(1).
وفي المسند والترمذي وأبي داود حديث عمر، قال عمر: "أمرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن نتصدّق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ”ما أبقيت لأهلك“؟ فقلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال: ”ما أبقيت لأهلك“؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. فقلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً".
فأبو بكر رضي الله عنه جاء بماله كله، ومع هذا فلم يكن يأكل من أحد: لا صدقةً ولا صلةً ولا نذراً، بل كان يتجر ويأكل من كسبه، ولما وَلِيَ الناس واشتغل عن التجارة بعمل المسلمين أكل من مال الله ورسوله الذي جعله الله له، لم يأكل من مال مخلوق.
__________
(1) الحديث بمعناه في المسند (ط. المعارف) 1/180-181 (رقم 65) عن ابن أبي مليكة قال: كان ربما سقط الخطام من يد أبي بكر الصديق، قال: فيضرب بذراع ناقته فينيخها، قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا نناولكه؟ فقال: إن حبيبي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً. قال المحقق رحمه الله: "إسناده ضعيف لانقطاعه". وجاءت أحاديث كثيرة عن عدد من الصحابة فيها أمر من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك، انظر: مسلم 2/721 (كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس)، المسند (ط. الحلبي) 5/181 .(17/67)
وأبو بكر لم يكن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يعطيه شيئاً من الدنيا يخصه به، بل كان في المغازي كواحد من الناس، بل يأخذ من ماله ما ينفقه على المسلمين. وقد استعمله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وما عُرف أنه أعطاه عمالة، وقد أعطى عمر عمالة وأعطى عليّاً من الفيء، وكان يعطي المؤلّفة قلوبهم من الطلقاء وأهل نجد، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لا يعطيهم، كما فعل في غنائم حُنين وغيرها، ويقول: "إني لأعطي رجالاً وأدع رجالاً، والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي. أعطي رجالاً لما في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل رجالاً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير"(1).
ولما بلغه عن الأنصار كلام سألهم عنه، فقالوا: يا رسول الله أما ذوو الرأي منّا فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ”فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به“ قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا. قال: ”فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض" قالوا: سنصبر“(2).
__________
(1) الحديث مع اختلاف يسير في الألفاظ – عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه في: البخاري 2/10-11 (كتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد)، 9/156 (كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: إن الإنسان خلق هلوعاً...)، المسند (ط. الحلبي) 5/69 .
(2) الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه في: البخاري 4/94 (كتاب فرض الخمس باب ما كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يعطي المؤلفة قلوبهم...)، مسلم 2/733-734 (كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام...)، المسند (ط. الحلبي) 3/165-166، 275 .(17/68)
وقوله تعالى: { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى، إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [الليل: 17-21] استثناء منقطع. والمعنى: لا يقتصر في العطاء على من له عنده يد يكافئه بذلك؛ فإن هذا من العدل الواجب للناس بعضهم على بعض، بمنزلة المعاوضة في المبايعة والمؤاجرة.
وهذا واجب لكل أحد على كل أحد، فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى لم يحتج إلى هذه المعادلة، فيكون عطاؤه خالصاً لوجه ربه الأعلى، بخلاف من كان عنده لغيره نعمة يحتاج أن يجزيه لها، فإنه يحتاج أن يعطيه مجازاة له على ذلك. وهذا الذي ما لأحد عنده من نعمة تجزى إذا أعطى ماله يتزكّى، فإنه في معاملته للناس يكافئهم دائماً ويعاونهم ويجازيهم، فحين أعطاه الله ماله يتزكى لم يكن لأحد عنده من نعمة تجزى.
وفيه أيضاً ما يبين أن التفضيل بالصدقة لا يكون إلا بعد أداء الواجبات من المعاوضات. كما قال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } [البقرة: 219]، ومن تكون عليه ديون وفروض وغير ذلك أدّاها، ولا يقدّم الصدقة على قضاء هذه الواجبات، ولو فعل ذلك: فهل ترد صدقته؟ على قولين معروفين للفقهاء.(17/69)
وهذه الآية يحتج بها من تُرد صدقته، لأن الله إنما أثنى على من آتى ماله يتزكّى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى، فإذا كان عنده نعمة تجزى فعليه أن يجزيها قبل أن يؤتي ماله يتزكّى، فأما إذا آتى ماله يتزكّى قبل أن يجزيها لم يكن ممدوحاً، فيكون عمله مردوداً، لقوله عليه الصلاة والسلام: ”من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد“(1).
الثالث: أنه قد صح عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: ”ما نفعني مال كمال أبي بكر“، وقال: ”إنّ أمَنّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر“، بخلاف عليّ رضي الله عنه فإنه لم يذكر عنه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم شيئاً من إنفاق المال، وقد عُرف أن أبا بكر اشترى سبعة من المعذّبين في الله في أول الإسلام، وفعل ذلك ابتغاءً لوجه ربّه الأعلى، لم يفعل ذلك كما فعله أبو طالب، الذي أعان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لأجل نسبه وقرابته، لا لأجل الله تعالى ولا تقرباً إليه.
وإن كان "الأتقى" اسم جنس، فلا ريب أنه يجب أن يدخل فيه أتقى الأمة، والصحابة خير القرون، فأتقاها أتقى الأمة، وأتقى الأمة إما أبو بكر وإما عليّ وإما غيرهما. والثالث منتفٍ بالإجماع، وعليّ إن قيل: إنه يدخل في هذا النوع، لكونه بعد أن صار له مال آتى ماله يتزكّى، فيقال: أبو بكر فعل ذلك في أول الإسلام وقت الحاجة إليه، فيكون أكمل في الوصف، الذي يكون صاحبه هو الأتقى.
__________
(1) جاء الحديث عن عائشة بهذا اللفظ أو بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ". انظر: البخاري 3/69 (كتاب البيوع، باب النجش)، 3/184 (كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فهو مردود)، 9/107 (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ...)، مسلم 3/1343-1344 (كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور) سنن أبي داود 4/280 (كتاب السنة، باب في لزوم السنة). والحديث في سنن ابن ماجه ومسند أحمد.(17/70)
وأيضاً فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم إنما كان يقدّم الصديق في المواضع التي لا تحتمل المشاركة، كاستخلافه في الصلاة والحج، ومصاحبته وحده في سفر الهجرة، ومخاطبته وتمكينه من الخطاب، والحكم والإفتاء بحضرته ورضاه بذلك، إلى غير ذلك من الخصائص التي يطول وصفها.
ومن كان أكمل في هذا الوصف، كان أكرم عند الله، فيكون أحب إليه. فقد ثبت بالدلائل الكثيرة أن أبا بكر هو أكرم الصحابة في الصديقيّة. وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصدِّيقون، ومن كان أكمل في ذلك كان أفضل.
وأيضاً فقد ثبت في النقل الصحيح عن عليّ أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر" واستفاض ذلك وتواتر عنه، وتوعّد بجلد المفتري من يفضّله عليه، وروي عنه أنه سمع ذلك من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا ريب أن عليّاً لا يقطع بذلك إلا عن علم.
وأيضاً فإن الصحابة أجمعوا على تقديم عثمان الذي عمر أفضل منه وأبو بكر أفضل منهما. وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع، وتقدّم بعض ذلك، ولكن ذُكر هذا لنبين أن حديث الطير من الموضوعات.
الفصل التاسع
سيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين هو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم باتفاق المسلمين
قال الرافضي: "التاسع: ما رواه الجمهور أنه أمر الصحابة أن يسلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين، وقال: إنه سيد المسلمين، وإمام المتّقين، وقائد الغرّ المحجّلين. وقال: هذا وليّ كل مؤمن بعدي. وقال في حقّه: إن عليّاً مني وأنا منه، أولى بكل مؤمن ومؤمنة، فيكون عليّ وحده هو الإمام لذلك. وهذه نصوص في الباب".
والجواب من وجوه:
أحدهما: المطالبة بإسناده وبيان صحته، وهو لم يعزه إلى كتاب على عادته. فأما قوله: "رواه الجمهور" فكذب، فليس هذا في كتب الأحاديث المعروفة: لا الصحاح، ولا المساند، ولا السنن وغير ذلك. فإن كان رواه بعض حاطبي الليل كما يُروى أمثاله، فعُلِم أن مثل هذا ليس بحجة يجب اتباعها باتفاق المسلمين.(17/71)
والله تعالى قد حرَّم علينا الكذب، وأن نقول عليه ما لا نعلم. وقد تواتر عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: ”مَن كَذَب عليَّ مُتعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار“(1).
الوجه الثاني: أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وكل من له أدنى معرفة بالحديث(2) يعلم أن هذا كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتاب يعتمد عليه: لا الصحاح، ولا السنن، ولا المساند المقبولة.
الثالث: أن هذا مما لا يجوز نسبته إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فإن قائل هذا كاذب، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم منزّه عن الكذب. وذلك أن سيد المسلمين وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين هو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم باتفاق المسلمين.
فإن قيل: عليّ هو سيدهم بعده.
__________
(1) الحديث عن عدد من الصحابة منهم الزبير بن العوام وأنس بن مالك وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنه في عدة مواضع من البخاري منها: 1/33 (كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم)، مسلم 4/2298-2299 (كتاب الزهد، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم). والحديث في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه والدارمي، وهو في المسند في مواضع كثيرة منها (ط. المعارف) الأرقام 6486، 6888، 7006 وذكر ابن الجوزي في مقدمة كتابه "الموضوعات" عن هذا الحديث إنه: "قد رواه من الصحابة عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحد وستون نفساً وأنا أذكره عنهم. قال الشيخ: شاهدته فذكره في غيره هذه النسخة عن ثمانية وتسعين منهم عبد الرحمن بن عوف ومنهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه".
(2) لم أجد هذا الحديث.(17/72)
قيل: ليس في لفظ الحديث ما يدل على هذا التأويل، بل هو مناقض لهذا؛ لأن أفضل المسلمين المتّقين المحجّلين هم القرون الأول ولم يكن لهم على عهد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم سيد ولا إمام ولا قائد غيره، فكيف يخبر عن شيء بعد أن لم يحضر، ويترك الخبر عمّا هم أحوج إليه، وهو حكمهم في الحال ؟
ثم القائد يوم القيامة هو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فمن يقود عليّ ؟
وأيضاً فعند الشيعة جمهور المسلمين المحجّلين كفّار أو فسّاق، فلمن يقود ؟
وفي الصحيح عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: ”وددت أني قد رأيت إخواني“. قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال: ”أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد“. قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله ؟ قال: ”أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غرٌّ محجّلة بين ظهري خيل دُهم بُهم، ألا يعرف خيله“؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ”فإنهم يأتون يوم القيامة غرّاً محجّلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض“ الحديث.
فهذا يبيّن أنّ كلّ من توضّأ وغسل وجهه ويديه ورجليه فإنه من الغرّ المحجّلين، وهؤلاء جماهيرهم إنما يقدّمون أبا بكر وعمر. والرافضة لا تغسل بطون أقدامها ولا أعقابها، فلا يكونون من المحجّلين في الأرجل، وحينئذ فلا يبقى أحد من الغرّ المحجلين يقودهم، ولا يُقادون مع الغرّ المحجلين؛ فإن الحجلة لا تكون إلا في ظهر القدم، وإنما الحجلة في الرجل كالحجلة في اليد(1).
__________
(1) في "اللسان": "وفي الحديث في صفة الخيل: الأقرح المحجّل. قال ابن الأثير: هو الذي يرتفع البياض في قوائمه في مواضع القيد، ويجاوز الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين لأنها مواضع الأحجال، وهي الخلاخيل والقيود. ومنه الحديث: أمتي الغرّ المحجّلون، أي بيض مواضع الوضوء من الأيدي والوجه والأقدام، استعار أثر الوضوء في الوجه واليدين والرجلين للإنسان من البياض الذي يكون في وجه الفرس ويديه ورجليه".(17/73)
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: ”ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار“. ومعلوم أن الفرس لو لم يكن البياض إلا لمعة في يده أو رجله لم يكن محجّلاً، وإنما الحجلة بياض اليد أو الرجل، فمن لم يغسل الرجلين إلى الكعبين لم يكن من المحجّلين، فيكون قائد الغر المحجلين بريئاً منه كائناً من كان.
ثم كون عليّ سيدهم وإمامهم وقائدهم بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مما يُعلم بالاضطرار أنه كذب، وأن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يقل شيئاً من ذلك بل كان يفضّل عليه أبا بكر وعمر تفضيلاً بيّناً ظاهراً عرفه الخاصة والعامة، حتى أن المشركين كانوا يعرفون منه ذلك.
ولما كان يوم أحد قال أبو سفيان، وكان حينئذ أمير المشركين: أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ ثلاثاً. فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ”لا تجيبوه“. فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاثاً. فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ”لا تجيبوه“. فقال: أفي القوم ابن الخطاب ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ ثلاثاً. فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ”لا تجيبوه“ فقال أبو سفيان لأصحابه: أمّا هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء، وقد بقي لك ما يسوءك. وقد ذكر باقي الحديث، رواه البخاري وغيره.
فهذا مقدّم الكفار إذ ذاك لم يسأل إلا عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأبي بكر وعمر، لعله وعلم الخاص والعام أن هؤلاء الثلاثة هم رؤوس هذا الأمر، وأن قيامه بهم، ودلّ ذلك على أنه كان ظاهراً عند الكفار أن هذين وزيراه وبهما تمام أمره، وأنهما أخص الناس به، وأن لهما من السعي في إظهار الإسلام ما ليس لغيرهما.(17/74)
وهذا أمر كان معلوم للكفّار، فضلاً عن المسلمين. والأحاديث الكثيرة متواترة بمثل هذا. وكما في الصحيحين عن ابن عباس قال: وُضع عمر على سريره فتكنّفه الناس يدعون له ويُثنون عليه ويصلُّون عليه قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي، فالتفت، فإذا هو عليّ فترحّم على عمر، وقال: ما خلّفت أحداً أحب إليّ أن ألقى الله بمثل عمله منك. وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وذلك أني كثيراً ما كنت أسمع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ”جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما“(1).
فلم يكن تفضيلهما عليه وعلى أمثاله مما يخفى على أحد. ولهذا كانت الشيعة القدماء الذين أدركوا عليّاً يقدّمون أبا بكر وعمر عليه، إلا من ألحد منهم. وإنما كان نزاع من نازع منهم في عثمان.
وكذلك قوله: "هو وليّ كل مؤمن بعدي" كذب على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، بل هو في حياته وبعد مماته وليّ كل مؤمن، وكل مؤمن وليّه في المحيا والممات. فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان. وأما الولاية التي هي الإمارة فيقال فيها: والي كل مؤمن بعدي، كما يقول في صلاة الجنازة: إذا اجتمع الوليّ والوالي قُدِّم الوالي في قول الأكثر. وقيل: يقدّم الولي.
فقول القائل: "عليّ ولي كل مؤمن بعدي" كلام يمتنع نسبته إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنه إن أراد الموالاة لم يحتج أن يقول: بعدي. وإن أراد الإمارة كان ينبغي أن يقول: والٍ على كل مؤمن.
وأما قوله لعليّ: "أنت مني وأنا منك" فصحيح في غير هذا الحديث.
__________
(1) الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما في: البخاري 5/9-10، 11 (كتاب فضائل أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، باب حدثنا الحميدي..، باب مناقب عمر بن الخطاب..)، مسلم 4/1858-1859 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر).(17/75)
ثبت أنه قال له ذلك عام القضية، لما تنازع هو وجعفر وزيد بن حارثة في حضانة بنت حمزة، فقضى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بها لخالتها، وكانت تحت جعفر. وقال: "الخالة أم". وقال لجعفر: "أشبهت خَلْقي وخُلُقي". وقال لعليّ: "أنت مني وأنا منك". وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا".
وفي الصحيحين عنه أنه قال: "إن الأشعريين إذا أرملوا في السفر، أو نقصت نفقة عيالاتهم بالمدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد فقسموه بينهم بالسوية، هم مني وأنا منهم" فقال للأشعريين: "هم مني وأنا منهم" كما قال لعليّ: "أنت مني وأنا منك" وقال لجليبيب: "هذا مني وأنا منه" فعُلم أن هذه اللفظة لا تدل على الإمامة، ولا على أن من قيلت له كان هو أفضل الصحابة.
الفصل العاشر
سيد العترة هو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وليس عليّ رضي الله عنه
قال الرافضي: "العاشر: ما رواه الجمهور من قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض. وقال: أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح: من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، وهذا يدل على وجوب التمسك بقول أهل بيته، وعليُّ سيدهم، فيكون واجب الطاعة على الكل، فيكون هو الإمام".
والجواب من وجوه:
أحدها: أن لفظ الحديث الذي في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم: "قام فينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خطيباً بماءٍ يدعى خُمّاً بين مكة والمدينة، فقال: ”أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ربي، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به“ فحثّ على كتاب الله، ورغّب فيه. ثم قال: ”وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي“(1).
__________
(1) الحديث في مسلم 4/1873-1874 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عليّ بن أبي طالب).(17/76)
وهذا اللفظ يدل على أن الذي أمرنا بالتمسك به وجُعل المتمسك به لا يضل هو كتاب الله.
وهكذا جاء في غير هذا الحديث، كما في صحيح مسلم عن جابر في حجّة الوداع لما خطب يوم عرفة وقال: ”قد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون“؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت. فقال بإصبعه السبّابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: ”اللهم اشهد“ ثلاث مرات(1).
وأما قوله: "وعترتي أهل بيتي. وأنها لن يفترقا حتى يردا على الحوض" فهذا رواه الترمذي(2). وقد سئل عنه أحمد بن حنبل فضعّفه، وضعّفه غير واحد من أهل العلم، وقالوا: لا يصح. وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة. قالوا: ونحن نقول بذلك، كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى وغيره.
لكن أهل البيت لم يتفقدوا – ولله الحمد – على شيء من خصائص مذهب الرافضة، بل هم المبرّؤون المنزّهون عن التدنس بشيء منه.
وأما قوله: "مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح" فهذا لا يعرف له إسناد لا صحيح، ولا هو في شيء من كتب الحديث التي يُعتمد عليها، فإن كان قد رواه مثل من يروي أمثاله من حطّاب الليل اللذين يروون الموضوعات فهذا مما يزيده وَهْناً.
__________
(1) سبق هذا الحديث مختصراً فيما مضى ص23 .
(2) سبق أن علقت على هذا الحديث فيما مضى. وهذه الرواية ألفاظها قريبة من رواية الترمذي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وذكر الترمذي حديثاً آخر 5/327-328 عن جابر بن سعيد ألفاظه مقاربة. وقال: "وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد. هذا حديث غريب حسن من هذا الوجه. وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن سليمان وغير واحد من أهل العلم".(17/77)
الوجه الثاني: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال عن عثرته: إنها والكتاب لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وهو الصادق المصدوق، فيدل على أن إجماع العترة حجة. وهذا قول طائفة من أصحابنا، وذكره القاضي في "المعتمد". لكن العترة هم بنو هاشم كلهم: ولد العباس، وولد عليّ، وولد الحارث بن عبد المطلب، وسائر بني أبي طالب وغيرهم. وعليُّ وحده ليس هو العترة، وسيد العترة هو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
يبيّن ذلك أن علماء العترة – كابن عباس وغيره – لم يكونوا يوجبون اتّباع عليّ في كل ما يقوله، ولا كان عليّ يوجب على الناس طاعته في كل ما يُفتي به، ولا عُرف أن أحداً من أئمة السلف – لا من بني هاشم ولا غيرهم – قال: إنه يجب اتّباع عليّ في كل ما يقوله.
الوجه الثالث: أن العترة لم تجتمع على إمامته ولا أفضليته، بل أئمة العترة كابن عباس وغيره يقدّمون أبا بكر وعمر في الإمامة والأفضلية، وكذلك سائر بني هاشم من العباسيين والجعفريين وأكثر العلويين وهم مقرّون بإمامة أبي بكر وعمر، وفيهم من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم أضعاف من فيهم من الإمامية.
والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت، من بني هاشم، من التابعين وتابعيهم، من ولد الحسين بن عليّ، وولد الحسن، وغيرهما: أنهم كانوا يتولّون أبا بكر وعمر، وكانوا يفضلونهما على عليّ. والنقول عنهم ثابتة متواترة.(17/78)
وقد صنّف الحافظ أبو الحسن الدارقطني كتاب "ثناء الصحابة على القرابة وثناء القرابة على الصحابة"(1) وذكر فيه من ذلك قطعة، وكذلك كل من صنّف من أهل الحديث في السنة، مثل كتاب "السنة" لعبد الله بن أحمد و"السنة" للخلال، و"السنة" لابن بطّة، و"السنة" للآجري واللالكائي والبيهقي وأبي ذرّ الهروي والطلمنكي وأبي حفص بن شاهين، وأضعاف هؤلاء الكتب التي يحتج هذا بالعزو إليها، مثل كتاب "فضائل الصحابة" للإمام أ؛مد ولأبي نُعيم وتفسير الثعلبي، وفيها من ذكر فضائل الثلاثة ما هو من أعظم الحجج عليه. فإن كان هذا القدر حجة فهو حجة له وعليه، وإلا فلا يحتج به.
الوجه الرابع: أن هذا معارض بما هو أقوى منه، وهو أن إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع. والعترة بعض الأمة، فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة. وأفضل الأمة أبو بكر كما تقدم ذكره ويأتي. وإن كانت الطائفة التي إجماعها حجة يجب اتّباع قول أفضلها مطلقاً. وإن لم يكن هو الإمام ثبت أن أبا بكر هو الإمام، وإن لم يجب أن يكون الأمر كذلك بطل ما ذكروه في إمامة عليّ. فنسبة أبي بكر إلى جميع الأمة بعد نبيها كنسبة عليّ إلى العترة بعد نبيها على قول هذا.
الفصل الحادي عشر
الرد على من ادعى الإمامة لعلي سنداً لحديث المحبة
__________
(1) لم أجد هذا الكتاب في سزكين ولكنه ذكر (م1 ج1 ص424) كتاب "فضائل الصحابة".(17/79)
قال الرافضي: "الحادي عشر: ما رواه الجمهور من وجوب محبته وموالاته. روى أحمد بن حنبل في مسنده أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أخذ بيد حسن وحسين، فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة(1).
__________
(1) الحديث عن علي بن حسين عن أبيه عن جده في كتاب "فضائل الصحابة" 2/693-694 (رقم 1185) بألفاظ مقاربة وقال المحقق في تعليقه: "في إسناده عليّ بن جعفر بن محمد الصادق، لم يُذكر بجرح ولا تعديل، والباقون ثقات. قال الذهبي في الميزان (3: 117) في ترجمة عليّ: "ما هو شرط كتابي، لأني ما رأيت أحداً ليّنه، نعم ولا من وثّقه، ولكن حديثه منكر جداً، ما صححه الترمذي ولا حسّنه، ثم ذكر هذا الحديث". وقال في سير النبلاء (4: ل108): إسناده ضعيف والمتن منكر، وأخرجه الترمذي (5: 641) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن محمد إلا من هذا الوجه. وقد رأينا أن الذهبي أنكر أن يكون الترمذي حسّنه. قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (2: 25): والتحسين ثابت في بعض نسخ الترمذي دون بعض. وذكر في التهذيب (10: 43) أنه لما حدّث نصر بن عليّ هذا الحديث أمر المتوكل بضربه ألف سوط".(17/80)
وروى ابن خالويه عن حذيفة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: من أحب أن يتمسك بقصبة الياقوت التي خلقها الله بيده ثم قال لها: كوني فكانت، فليتولّ عليّ بن أبي طالب من بعدي. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لعليّ: حبك إيمان وبغضك نفاق، وأول من يدخل الجنة محبّك، وأول من يدخل النار مبغضك، وقد جعلك الله أهلا لذلك، فأنت مني وأنا منك، ولا نبي بعدي. وعن شقيق بن سلمة عن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو آخذ بيد عليّ وهو يقول: هذا وليي وأنا وليّه، عاديت من عادى، وسالمت من سالم. وروى أخطب خوارزم عن جابر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: جاءني جبريل من عند الله بورقة خضراء مكتوب فيها ببياض: إني قد افترضت محبة عليّ على خلقي فبلّغهم ذلك عني. والأحاديث في ذلك لا تحصى كثرة من طرق المخالفين، وهي تدل على أفضليته واستحقاقه للإمامة".
والجواب من وجوه:
أحدها: المطالبة بتصحيح النقل، وهيهات له بذلك. وأما قوله: "رواه أحمد" فيقال: أولاً: أحمد له المسند المشهور، وله كتاب مشهور في "فضائل الصحابة" روى فيه أحاديث، لا يرويها في المسند لما فيها من الضعف، لكونها لا تصلح أن تُروى في المسند، لكونها مراسيل أو ضعافاً بغير الإرسال. ثم إن هذا الكتاب زاد فيه ابنه عبد الله زيادات، ثم إن القطيعي – الذي رواه عن ابنه عبد الله – زاد عن شيوخه زيادات وفيها أحاديث موضوعة باتفاق أهل المعرفة.(17/81)
وهذا الرافضي وأمثاله من شيوخ الرافضة جهّال، فهم ينقلون من هذا المصنّف، فيظنون أن كل ما رواه القطيعي أو عبد الله قد رواه أحمد نفسه، ولا يميّزون بين شيوخ أحمد وشيوخ القطيعي. ثم يظنون أن أحمد إذا رواه فقد رواه في المسند، فقد رأيتهم في كتبهم يعزون إلى مسند أحمد أحاديث ما سمعها أحمد قط، كما فعل ابن البطريق، وصاحب "الطرائف" منهم، وغيرهما بسبب هذا الجهل منهم. وهذا غير ما يفترونه من الكذب، فإن الكذب كثير منهم.
وبتقدير أن يكون أحمد روى الحديث، فمجرد رواية أحمد لا توجب أن يكون صحيحاً يجب العمل به، بل الإمام أحمد روى أحاديث كثيرة ليعرف ويبين للناس ضعفها. وهذا في كلامه وأجوبته أظهر وأكبر من أن يحتاج إلى بسط، لا سيما في مثل هذا الأصل العظيم.
مع أن هذا الحديث الأول من زيادات القطيعي(1)، رواه عن نصر بن عليّ الجهضمي عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(2). والحديث الثاني ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" وبيّن أنه موضوع(3). وأما رواية ابن خالويه فلا تدل على أن هذا الحديث صحيح باتفاق أهل العلم. وكذلك رواية خطيب خوارزم؛ فإن في روايته من الأكاذيب المختلقة ما هو من أقبح الموضوعات باتفاق أهل العلم.
__________
(1) الحديث في كتاب "فضائل الصحابة" 2/693-694 (رقم 1185) وفيه: "حدثنا عبد الله قال حدثني نصر..
(2) فضائل الصحابة: قال أخبرني عليّ بن جعفر بن محمد بن عليّ بن حسين بن عليّ قال: أخبرني أخي موسى بن جعفر.. إلخ. ونقلت قبل صفحات قليلة ما ذكره محقق "فضائل الصحابة" في تعليقه على هذا الحديث.
(3) ذكر ابن الجوزي هذا الحديث الموضوع على البراء وزيد بن أرقم رضي الله عنهما مع اختلاف في الألفاظ، وقال عن الرواية الأولى: "قال الأزدي: كان إسحاق بن إبراهيم يضع الحديث". وقال عن الثانية: "وهو العدوي الكذاب الوضّاع ولعله سرقه من النحوي". وذكر الحديث ابن عراق الكناني في "تنزيه الشريعة" 1/361 وانظر ما ذكره عنه.(17/82)
الوجه الثاني: أن هذه الأحاديث التي رواها ابن خالويه كذب موضوعة عند أهل الحديث وأهل المعرفة، يعلمون علماً ضرورياً يجزمون به أن هذا كذب على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وهذه ليست في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها علماء الحديث: لا الصحاح، ولا المساند، ولا السنن، ولا المعجمات، ولا نحو ذلك من الكتب.
الثالث: أن من تدبّر ألفاظها تبين له أنها مفتراة على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، مثل قوله: من أحب أن يتمسّك بقصبة الياقوت التي خلقها الله بيده، ثم قال لها: كوني فكانت. فهذه من خرافات الحديث. وكأنهم لما سمعوا أن الله خلق آدم بيده من تراب ثم قال له كن فكان، قاسوا هذه الياقوتة على خلق آدم، وآدم خلق من تراب، ثم قال له: كن فكان، فصار حيّاً بنفخ الروح فيه.
فأما هذا القصب فبنفس خلقه كمل، ثم لم يكن له بعد هذا حال يُقال له فيها: كن، ولم يقل أحد من أهل العلم إن الله خلق بيده ياقوتة، بل قد رُوي في عدة آثار: أن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثة أشياء: آدم، والقلم، وجنة عدن، ثم قال لسائر خلقه كن فكان. فلم يُذكر فيها هذه الياقوتة.
ثم أيّ عظيم في إمساك هذه الياقوتة حتى يَجْعَل على هذا وعداً عظيماً.
وكذلك قوله: أول من يدخل النار مبغضك. فهل يقول مسلم: إن الخوارج يدخلون النار قبل أبي جهل بن هشام وفرعون وأبي لهب وأمثالهم من المشركين ؟!
وكذلك قوله: أول من يدخل الجنة محبّك. فهل يقول عاقل: إن الأنبياء والمرسلين دخولهم الجنة أولاً هو حب عليّ دون حب الله ورسوله وسائر الأنبياء ورسله، وحب الله ورسله هو السبب في ذلك. وهل تعلّق السعادة والشقاوة بمجرد حب عليّ دون حب الله ورسوله، إلا كتعلقها بحبّ أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية رضي الله عنهم؟ فلو قال قائل: من أحب عثمان ومعاوية دخل الجنة، ومن أبغضهما دخل النار، كان هذا من جنس قول الشيعة.
الفصل الثاني عشر(17/83)
إثبات كذب بعض الأحاديث المفتراة على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
في حب عليّ
قال الرافضي: "الثاني عشر: روى أخطب خوارزم بإسناده عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: من ناصب عليّاً الخلافة فهو كافر، وقد حارب الله ورسوله، ومن شكّ في عليّ فهو كافر. وعن أنس قال: كنت عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فرأى عليّاً مقبلاً فقال: أنا وهذا حجة الله على أمتي يوم القيامة. وعن معاوية بن حَيْدة القشيري قال: سمعت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول لعليّ: من مات وهو يبغضك مات يهودياً أو نصرانياً".
والجواب من وجوه:
أحدها: المطالبة بتصحيح النقل. وهذا على سبيل التنزل، فإن مجرد رواية الموفق خطيب خوارزم لا تدل على أن الحديث ثابت قاله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا لو لم يُعلم ما في جمعه من الأحاديث من الكذب والفِرية، فأما من تأمّل ما في جمع هذا الخطيب فإنه يقول: سبحانك هذا بهتان عظيم !
الثاني: أن كل من له معرفة بالحديث يشهد أن هذه الأحاديث كذب مفتراة على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم(1).
__________
(1) روى ابن الجوزي الحديث الأخير في كتابه "الموضوعات" 1/385 بسند آخر ونصه فيه: "من مات وفي قلبه بغض لعليّ بن أبي طالب فليمت يهودياً أو نصرانياً" قال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع، والمتهم به عليّ بن قرين. قال العقيلي: هو وضع هذا الحديث، وقال يحيى بن معين: هو كذاب خبيث. وقال البغوي: كان يكذب".
وأما الحديث الأول فلم أجده ولكن ذكر السيوطي حديثاً موضوعاً منسوباً إلى جابر رضي الله عنه في كتاب "اللآلئ المصنوعة" 1/328 ونصه: "عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر" وانظر كلام السيوطي عليه.(17/84)
الثالث: أن هذه الأحاديث إن كانت مما رواها الصحابة والتابعون فأين ذكرها بينهم ؟ ومن الذي نقلها عنهم ؟ وفي أي كتاب وُجد أنهم رووها ؟ ومن كان خبيراً بما جرى بينهم علم بالاضطرار أن هذه الأحاديث مما ولّدها الكذّابون بعدهم، وأنها مما عملت أيديهم.
الوجه الرابع: أن يُقال: علمنا بأن المهاجرين والأنصار كانوا مسلمين يحبون الله ورسوله، وأن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يحبّهم ويتولاهم، أعظم من علمنا بصحة شيء من هذه الأحاديث، وأن أبا بكر الإمام بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. فكيف يجوز أن يُرد ما علمناه بالتواتر المتيقن بأخبار هي أقل وأحقر من أن يُقال لها: أخبار آحاد لا يُعلم لها ناقل صادق، بل أهل العلم بالحديث متفقون على أنها من أعظم المكذوبات، ولهذا لا يوجد منها شيء في كتب الأحاديث المعتمدة، بل أئمة الحديث كلهم يجزمون بكذبها.
الوجه الخامس: أن القرآن يشهد في غير موضع برضا الله عنهم وثنائه عليهم، كقوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [التوبة: 100].
وقوله: { لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [الحديد: 10].
وقوله: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً } [الفتح: 29].
وقوله: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [الفتح: 18].(17/85)
وقوله: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً } [الحشر: 8]، وأمثال ذلك. فكيف يجوز أن يرد ما علمنا دلالة القرآن عليه يقيناً بمثل هذه الأخبار المفتراة، التي رواها من لا يخاف مقام ربّه ولا يرجو لله وقاراً ؟!
الوجه السادس: أن هذه الأحاديث تقدح في عليّ، وتوجب أنه كان مكذّباً بالله ورسوله، فيلزم من صحتها كفر الصحابة كلهم: هو وغيره. أما الذين ناصبوه الخلافة فإنهم في هذا الحديث المفترى كفّار. وأما عليّ فإنه لم يعمل بموجب هذه النصوص، بل كان يجعلهم مؤمنين مسلمين. وشر من قاتلهم عليّ هم الخوارج، ومع هذا فلم يحكم فيهم بحكم الكفّار بل حرّم أموالهم وسبيهم، وكان يقول لهم قبل قتالهم: إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ولا حقكم من فيئنا. ولما قتله ابن ملجم قال: إن عشت فأنا وليّ دمي، ولم يجعله مرتداً بقتله.
وأما أهل الجمل فقد تواتر عنه أنه نهى عن أن يتّبع مدبرهم، وأن يجهز على جريحهم، وأن يقتل أسيرهم، وأن تغنم أموالهم، وأن تسبى ذراريهم. فإن كان هؤلاء كفّاراً بهذه النصوص، فعليّ أول من كذّب بها، فيلزمهم أن يكون عليّ كافراً.
وكذلك أهل صفّين كان يصلّي على قتلاهم، ويقول: إخواننا بَغَوا علينا طهّرهم السيف. ولو كانوا عنده كفّاراً لما صلّى عليهم، ولا جعلهم إخوانه، ولا جعل السيف طهراً لهم.(17/86)
وبالجملة نحن نعلم بالاضطرار من سيرة عليّ رضي الله عنه أنه لم يكن يكفّر الذين قاتلوه، بل ولا جمهور المسلمين، ولا الخلفاء الثلاثة، ولا الحسن والحسين كفّروا أحداً من هؤلاء، ولا عليّ بن الحسين ولا أبو جعفر. فإن كان هؤلاء كفّاراً فأول من خالف النصوص عليّ وأهل بيته، وكان يمكنهم أن يفعلوا ما فعلت الخوارج، فيعتزلوا بدراً غير دار الإسلام، وإن عجزوا عن القتال، ويحكموا على أهل دار الإسلام بالكفر والردة، كما يفعل مثل ذلك كثير من شيوخ الرافضة، وكان الواجب على عليّ إذا رأى أن الكفّار لا يؤمنون، أن يتخذ له ولشيعته داراً غير دار أهل الرّدّة والكفر، ويباينهم كما باين المسلمون لمسيلمة الكذّاب وأصحابه.
وهذا نبيّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان بمكة هو وأصحابه في غاية الضعف، ومع هذا فكانوا يباينون الكفّار، ويظهرون مباينتهم بحيث يُعرف المؤمن من الكافر. وكذلك هاجر من هاجر منهم إلى أرض الحبشة، مع ضعفهم، وكانوا يباينون النصارى، ويتكلمون بدينهم قدّام النصارى.
وهذه بلاد الإسلام مملوءة من اليهود والنصارى، وهم مظهرون لدينهم، متحيّزون عن المسلمين.
فإن كان كل من يشكّ في خلافة عليّ كافراً عنده وعند أهل بيته، وليس بمؤمن عندهم إلا من اعتقد أنه الإمام المعصوم بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن لم يعتقد ذلك فهو مرتدٌّ عند عليّ وأهل بيته، فعليّ أول من بدّل الدين، ولم يميّز المؤمنين من الكافرين، ولا المرتدين من المسلمين.
وهب أنه كان عاجزاً عن قتالهم وإدخالهم في طاعته، فلم يكن عاجزاً عن مباينتهم، ولم يكن أعجز من الخوارج الذين هم شرذمة قليلة من عسكره، والخوارج اتخذوا لهم داراً غير دار الجماعة، وباينوهم كما كفّروهم، وجعلوا أصحابهم هم المؤمنين.(17/87)
وكيف كان يحلّ للحسن أن يسلّم أمر المسلمين إلى من هو عنده من المرتدّين، شرّ من اليهود والنصارى كما يدّعون في معاوية، وهل يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر؟ وقد كان الحسن يمكنه أن يقيم بالكوفة، ومعاوية لم يكن بدأه بالقتال، وكان قد طلب منه ما أراد، فلو قام مقام أبيه لم يقاتله معاوية. وأين قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الثابت عنه في فضل الحسن: ”إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين“(1) فإن كان عليّ وأهل بيته – والحسن منهم – يقولون: لم يصلح الله إلا بين المؤمنين والمرتدّين، فهذا قدح في الحسن وفي جدّه الذي أثنى على الحسن، إن كان الأمر كما يقوله الرافضة.
فتبين أن الرافضة من أعظم الناس قدحاً وطعناً في أهل البيت، وأنهم الذين عادوا أهل البيت في نفس الأمر، ونسبوهم إلى أعظم المنكرات، التي من فعلها كان من الكفّار. وليس هذا ببدع من جهل الرافضة وحماقاتهم.
__________
(1) الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه في: البخاري 3/186 (كتاب الصلح باب قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم للحسن بن علي رضي الله عنهما إن بني هذا سيد...)، 4/204-205 (كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام)، 5/26 (كتاب فضائل أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما)، 9/56-57 (كتاب الفتن، باب قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم للحسن بن علي إن ابني هذا لسيد...). ولفظ البخاري: ... ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين. وفي لفظ: بين فئتين من المسلمين.
والحديث أيضاً في: سنن أبي داود 4/299-300 (كتاب السنة، باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة)، سنن الترمذي 5/323 (كتاب المناقب، باب حدثنا محمد بن بشار...)، سنن النسائي 3/87-88 (كتاب الجمعة، باب مخاطبة الإمام رعيته وهو على المنبر).(17/88)
ثم إن الرافضة تدّعي أن الإمام المعصوم لطف من الله بعباده، ليكون ذلك أدعى إلى أن يطيعوه فيرحموا. وعلى ما قالوه فلم يكن على أهل الأرض نقمة أعظم من عليّ؛ فإن الذين خالفوه وصاروا مرتدّين كفّاراً، والذين وافقوه، أذلاّء مقهورين تحت النقمة، لا يدٌّ ولا لسان، وهم مع ذلك يقولون: إن خلقه مصلحة ولطف، وإن الله يجب عليه أن يخلقه، وإنه لا تتم مصلحة العالم في دينهم ودنياهم إلا به. وأي صلاح في ذلك على قول الرافضة ؟
ثم إنهم يقولون: إن الله يجب عليه أن يفعل أصلح ما يقدر عليه للعباد في دينهم ودنياهم، وهو يمكّن الخوارج الذين يكفرون به بدارٍ لهم فيها شوكة ومن قتال أعدائهم، ويجعلهم هم والأئمة المعصومين في ذل أعظم من ذل اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الذمة؛ فإن أهل الذمة يمكنهم إظهار دينهم، وهؤلاء الذين يدّعي انهم حجج الله على عباده ولطفه في بلاده، وأنه لا هدى إلا بهم، ولا نجاة إلا بطاعتهم، ولا سعادة إلا بمتابعتهم – قد غاب خاتمتهم من أكثر من أربعمائة وخمسين سنة، فلم ينتفع به أحد في دينه ولا دنياه، وهم لا يمكنهم إظهار دينهم كما تظهر اليهود والنصارى دينهم.
ولهذا مازال أهل العلم يقولون: إن الرفض من إحداث الزنادقة الملاحدة الذين قصدوا إفساد الدين: دين الإسلام، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. فإن منتهى أمرهم تكفير عليّ وأهل بيته، بعد أن كفّروا الصحابة والجمهور.
ولهذا كان صاحب دعوى الباطنية الملاحدة رتّب دعوته مراتب: أول ما يدعو المستجيب إلى التشيع، ثم إذا طمع فيه قال له: عليّ مثل الناس، ودعاه إلى القدح في الرسول، ثم إذا طمع فيه دعاه إلى إنكار الصانع. هكذا ترتيب كتابهم الذي يسمونه "البلاغ الأكبر" و"الناموس الأعظم"، وواضعه الذي أرسل به إلى القرمطي الخارج بالبحرين، لما استولى على مكة، وقتلوا الحجّاج، وأخذوا الحجر الأسود، واستحلّوا المحارم، وأسقطوا الفرائض، وسيرتهم مشهورة عند أهل العلم.(17/89)
وكيف يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: من مات وهو يبغض عليّاً مات يهودياً أو نصرانياً، والخوارج كلهم تكفّره وتبغضه ؟! وهو نفسه لم يكن يجعلهم مثل اليهود والنصارى، بل يجعلهم من المسلمين أهل القبلة، ويحكم فيهم بغير ما يحكم به بين اليهود والنصارى.
وكذلك من كان يسبّه ويبغضه من بني أمية وأتباعهم. فكيف يكون من يصلّي الصلوات ويصوم شهر رمضان ويحج البيت ويؤدي الزكاة مثل اليهود والنصارى ؟! وغايته أن يكون قد خفي عليه كون هذا إماماً، أو عصاه بعد معرفته.
وكل أحد يعلم أن أهل الدين والجمهور ليس لهم غرض مع عليّ، ولا لأحد منهم غرض في تكذيب الرسول، وأنهم لو علموا أن الرسول جعله إماماً كانوا أسبق الناس إلى التصديق بذلك.
وغاية ما يُقدِّر أنهم خفي عليهم هذا الحكم. فكيف يكون من خفي عليه جزء من الدين مثل اليهود والنصارى ؟!
وليس المقصود هنا الكلام في التفكير، بل التنبيه على أن هذه الأحاديث مما يُعلم بالاضطرار أنها كذب على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنها مناقضة لدين الإسلام، وأنها تستلزم تكفير عليّ وتكفير من خالفه، وأنه لم يقلها من يؤمن بالله واليوم الآخر، فضلاً عن أن تكون من كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، بل إضافتها – والعياذ بالله – إلى رسول الله من أعظم القدح والطعن فيه. ولا شك أن هذا فعل زنديق ملحد لقصد إفساد دين الإسلام، فلعن الله من افتراها، وحسبه ما وعده به الرسول حيث قال: ”من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار“.
الفصل الثالث عشر
الرد على بعض النقول المعتمدة عند الرافضة لتكون حجة عليهم يوم القيامة(17/90)
قال الرافضي: "إن الإمامية لما رأوا فضائل أمير المؤمنين وكمالاته لا تحصى قد رواها المخالف والموافق، ورأوا الجمهور قد نقلوا عن غيره من الصحابة مطاعن كثيرة، ولم ينقلوا في عليّ طعناً ألبتة، اتّبعوا قوله وجعلوه إماماً لهم حيث نزَّهه المخالف والموافق، وتركوا غيره، حيث روى فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته. ونحن نذكر هنا شيئاً يسيراً مما هو صحيح عندهم ونقوله في المعتمد من قولهم وكتبهم، ليكون حجة عليهم يوم القيامة.
فمن ذلك ما رواه أبو الحسن الأندلسي في "الجمع بين الصحاح الستة" موطأ مالك وصحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وصحيح الترمذي وصحيح النسائي عن أم سلمة زوج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب: 33]. أنزلت في بيتها وأنا جالسة عند الباب، فقلت: يا رسول الله ألست من أهل البيت ؟ فقال: إنك على خير، إنك من أزواج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم. قالت: وفي البيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين فجللهم بكساء، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراًِ".(17/91)
والجواب أن يقال: إن الفضائل الثابتة في الأحاديث الصحيحة لأبي بكر عمر أكثر وأعظم من الفضائل الثابتة لعليّ، والأحاديث التي ذكرها هذا وذكر أنها في الصحيح عند الجمهور، وأنهم نقلوها في المعتمد من قولهم وكتبهم، هو من أبْيَن الكذب على علماء الجمهور؛ فإن هذه الأحاديث التي ذكرها أكثرها كذب أو ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث، والصحيح الذي فيها ليس فيه ما يدل على إمامة عليّ ولا على فضيلته على أبي بكر وعمر، بل وليست من خصائصه، بل هي فضائل شاركه فيها غيره، بخلاف ما ثبت من فضائل أبي بكر وعمر؛ فإن كثيراً منها خصائص لهما، لا سيما فضائل أبي بكر، فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره.
وأما ذكره من المطاعن، فلا يمكن أن يوجّه على الخلفاء الثلاثة من مطعن إلا وُجه على عليّ ما هو مثله أو أعظم منه.
فتبين أن ما ذكره في هذا الوجه من أعظم الباطل، ونحن نبيّن ذلك تفصيلاً.
وأما قوله: إنهم جعلوه إماماً لهم حيث نزّهه المخالف والموافق وتركوا غيره حيث روى فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته".
فيقال: هذا كذب بيّن؛ فإن عليّاً رضي الله عنه لم ينزهّه المخالفون، بل القادحون في عليّ طوائف متعددة، وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر عثمان، والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه، فإن الخوارج متفقون على كفره، وهم عند المسلمين كلهم خير من الغلاة الذين يعتقدون إلاهيته أو نبوته، بل هم – والذين قاتلوه من الصحابة والتابعين – خير عند جماهير المسلمين من الرافضة الإثني عشرية، الذين اعتقدوه إماماً معصوماً.
وأبو بكر وعمر وعثمان ليس في الأمة من يقدح فيهم إلا الرافضة، والخوارج المكفِّرون لعليّ يوالون أبا بكر وعمر ويترضُّون عنهما، والمروانية الذين ينسبون عليّاً إلى الظلم، ويقولون: إنه لم يكن خليفة يوالون أبا بكر وعمر مع أنهما ليسا من أقاربهم، فكيف يُقال مع هذا: إن عليّاً نزَّهه المؤالف والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة ؟(17/92)
ومن المعلوم أن المنزِّهين لهؤلاء أعظم وأكثر وأفضل، وأن القادحين في عليّ – حتى بالكفر والفسوق والعصيان – طوائف معروفة، وهم أعلم من الرافضة وأدين، والرافضة عاجزون معهم علماً ويداً، فلا يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها، ولا كانوا معهم في القتال منصورين عليهم.
والذين قدحوا في عليّ رضي الله عنه وجعلوه كافراً وظالماً ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن الإسلام، بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة، كالغالية الذين يدّعون إلاهيته من النصيرية وغيرهم، وكالإسماعيلية الملاحدة الذين هم شر من النصيرية، وكالغالية الذين يدّعون نبوَّته؛ فإن هؤلاء كفار مرتدُّون، كفرهم بالله ورسوله ظاهر لا يخفى على عالم يدين الإسلام، فمن اعتقد في بشر الإلهية، أو اعتقد بعد محمد صلَّى الله عليه وسلَّم نبياً، أو أنه لم يكن نبياً بل كان عليّ هو النبي دونه وإنما غلط جبريل، فهذه المقالات ونحوها مما يظهر كفر أهلها لمن يعرف الإسلام أدنى معرفة.
بخلاف من يكفِّر عليّاً ويلعنه من الخوارج، وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبني مروان وغيرهم؛ فإن هؤلاء كانوا مقرّين بالإسلام وشرائعه: يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجون البيت العتيق، ويحرّمون ما حرم الله ورسوله، وليس فيهم كفر ظاهر، بل شعائر الإسلام وشرائعه ظاهرة فيهم معظمة عندهم، وهذا أمر يعرفه كل من عرف أحوال الإسلام، فكيف يُدَّعى مع هذا أن جميع المخالفين نزَّهوه دون الثلاثة ؟
بل إذا اعتُبر الذين كانوا يبغضونه ويوالون عثمان، والذين كانوا يبغضون عثمان ويحبون عليّاً، وُجِدَ هؤلاء خيراً من أولئك من وجوه متعددة، فالمنزِّهون لعثمان القادحون في عليّ أعظم وأدْيَن وأفضل من المنزِّهين لعليّ القادحين في عثمان، كالزيدية مثلاً.(17/93)
فمعلوم أن الذين قاتلوه ولعنوه وذمُّوه من الصحابة والتابعين وغيرهم هم أعلم وأدين من الذين يتولونه ويلعنون عثمان، ولو تخلّى أهل السنة عن موالاة عليّ رضي الله عنه وتحقيق إيمانه ووجوب موالاته، لم يكن في المتولّين له من يقدر أن يقاوم المبغضين له من الخوارج والأموية والمروانية؛ فإن هؤلاء طوائف كثيرة.
ومعلوم أن شر الذين يبغضونه هم الخوارج الذين كفَّروه، واعتقدوا أنه مرتد عن الإسلام، واستحلُّوا قتله تقرباً إلى الله تعالى، حتى قال شاعرهم عمران بن حطَّان:
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبه
أوفى البرية عند الله ميزانا
فعارضه شاعر أهل السنة فقال:
يا ضربة من شقي ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا
إني لأذكره حيناً فألعنه
لعناً وألعن عمران بن حطّانا(17/94)
وهؤلاء الخوارج كانوا ثمان عشرة فرقة، كالأزارقة أتباع نافع بن الأزرق(1) والنجدات أتباع نجدة الحروري(2)
__________
(1) الأزارقة أتباع أبي راشد نافع بن الأزرق بن قيس الحنفي البكري الوائلي، من أهل البصرة، صحب في أول أمره عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم كان من أنصار الثورة على عثمان وممن والى علياً إلى أن خرج عليه في حروراء، وكان جباراً فتاكاً، ومن أشد الخوارج تطرفاً، قتل سنة 65. والأزارقة يكفرون عثمان وعلياً والزبير وطلحة، كما يكفرون القعدة عن القتال معهم، وقالوا بكفر أصحاب الكبائر وخلودهم في النار، وأن دار مخالفيهم دار كفر. انظر عن نافع بن الأزرق والأزارقة: لسان الميزان (6/144-145)، تاريخ الطبري (5/528-565، 566-568، 613؛ 614)، الأعلام (8/315-316)، مقالات الإسلاميين (1/157-162)، الملل والنحل 1/109-110؛ الفرق بين الفرق، ص(50-52)، التبصير في الدين، (ص29-30)، الفصل في الملل والنحل (5/25-53)، الخطط للمقريزي (2/354).
(2) النجدات أو النجدية أتباع نجدة بن عامر الحنفي، ولد سنة 36 وتوفى سنة 69 وكان في بادئ أمره من أتباع نافع بن الأزرق ثم خالفه واستقل بمذهبه، استقر أيام عبد الله بن الزبير بالبحرين وتسمى أمير المؤمنين وأقام بها خمس سنين إلى أن قتل. والنجدات – كما يقول الأشعري – لا يقولون مثل سائر الخوارج إن كل كبيرة كفر، ولا يقولون إن الله يعذب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً، وزعموا أن من فعل صغيرة وأصر عليها فهو مشرك، ومن فعل كبيرة ولم يصرّ عليها فهو مسلم، وقال النجدات: ليس على الناس أن يتخذوا إماماً، إنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم. انظر عن نجدة والنجدات: لسان الميزان (6/148)، شذرات الذهب (1/76)، الكامل لابن الأثير (4/78-80)، الأعلام (8/324-325)، مقالات الإسلاميين (1/156، 262-264)، الفرق بين الفرق (ص52-54)، الملل والنحل (1/110-112)، التبصير في الدين (ص30-31)، الفصل في الملل والنحل (5/53)، الخطط للمقريزي (2/354).(17/95)
، والإباضية أتباع عبد الله بن إباض(1)، ومقالاتهم وسيرهم مشهورة في كتب المقالات والحديث والسير، وكانوا موجودين في زمن الصحابة والتابعين يناظرونهم ويقاتلونهم، والصحابة اتفقوا على وجوب قتالهم، ومع هذا فلم يكفّروهم ولا كفَّرهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأما الغالية في عليّ رضي الله عنه فقد اتفق الصحابة وسائر المسلمين على كفرهم، وكفَّرهم عليّ بن أبي طالب نفسه، وحرَّقهم بالنار. وهؤلاء الغالية يُقتل الواحد منهم المقدور عليه، وأما الخوارج فلم يقاتلهم عليّ حتى قتلوا واحداً من المسلمين، وأغاروا على أموال الناس فأخذوها، فأولئك حكم فيهم عليّ وسائر الصحابة بحكم المرتدين، وهؤلاء لم يحكموا فيهم بحكم المرتدين.
__________
(1) الإباضية أتباع عبد الله بن إباض المقاعسي المري التميمي من بني مرة بن عبيد بن مقاعس، اختلف المؤرخون في سيرته وتاريخ وفاته، كان معاصراً لمعاوية وعاش إلى أواخر عصر عبد الملك بن مروان وتوفي على الأرجح سنة 86ه. قال الإباضية إن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين، ودار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد، إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي، وأجمعوا على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر النعمة لا كفر الملة، وانقسموا إلى حفصية وحارثية ويزيدية. انظر عن عبد الله بن إباض والإباضية: لسان الميزان (3/248)، الأعلام (4/184-186) مقالات الإسلاميين (1/170-176)، الملل والنحل (1/121-122)، الفرق بين الفرق (ص61-65)، التبصير في الدين (ص34-35)، الفصل في الملل والنحل (5/51) الخطط للمقريزي (2/355)، الإباضية في موكب التاريخ لعلي يحيى معمر (ط. مكتبة وهبة 1384/ 1964)، الإباضية في دائرة المعارفة الإسلامية لموتيلنسكي.(17/96)
وهذا مما يبين أن الذين زعموا أنهم والوه دون أبي بكر وعمر عثمان يوجد فيهم من الشر والكفر باتفاق عليّ وجميع الصحابة ما لا يوجد في الذين عادوه وكفَّروه، ويبين أن جنس المبغضين لأبي بكر وعمر شر عند عليّ وجميع الصحابة من جنس المبغضين لعلي.
وأما حديث الكساء فهو صحيح رواه أحمد والترمذي من حديث أم سلمة(1)، ورواه مسلم في صحيحه(2) من حديث عائشة. قالت: خرج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ذات غَداة وعليه مِرْطٌ مُرَحَّل(3) من شعر أسود، فجاء الحسن بن عليّ فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليّ فأدخله، ثم قال: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب: 33].
وهذا الحديث قد شركه فيه فاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم فليس هو من خصائصه. ومعلوم أن المرأة لا تصلح للإمامة، فعُلم أن هذه الفضيلة لا تختص بالأئمة، بل يشاركهم فيها غيرهم. ثم إن مضمون هذا الحديث أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم دعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهّرهم تطهيراً.
وغاية ذلك أن يكون دعا لهم بأن يكونوا من المتّقين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم، واجتناب الرجس واجب على المؤمنين، والطهارة مأمور بها كل مؤمن.
قال الله تعالى: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } [المائدة: 6]. وقال: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم } [التوبة: 103].
__________
(1) سبق الحديث ص
(2) 4/1883 (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أهل بيت صلَّى الله عليه وسلَّم).
(3) قال شارح صحيح مسلم: (مرط مرحّل): المرط كساء، جمعه مروط. المرحّل هو الموشى المنقوش عليه صور رحال الإبل.(17/97)
وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة: 222].
فغاية هذا أن يكون هذا دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور.
والصديق رضي الله عنه قد أخبر الله عنه بأنه: { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى، إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [الليل: 17-21].
وأيضاً فإن السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه: { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 100] لابد أن يكونوا قد فعلوا المأمور وتركوا المحظور، فإن هذا الرضوان وهذا الجزاء إنما يُنال بذلك. وحينئذ فيكون ذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من الذنوب بعض صفاتهم. فما دعا به النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لأهل الكساء هو بعض ما وصف الله به السابقين الأوَّلين. والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم دعا لغير أهل الكساء بأن يصلّي الله عليهم، ودعا لأقوام كثيرين بالجنة والمغفرة وغير ذلك، مما هو أعظم من الدعاء بذلك، ولم يلزم أن يكون من دعا له بذلك أفضل من السابقين الأوَّلين.
ولكن أهل الكساء لما كان قد أوجب عليهم اجتناب الرجس وفعل التطهير، دعا لهم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يعينهم على فعل ما أمرهم به، لئلا يكونوا مستحقين للذم والعقاب، ولينالوا المدح والثواب.
الفصل الرابع عشر
الرد على من ادعى الإمام لعلي محتجاً بتقديمه الصدقة عند النجوى دون غيره(17/98)
قال الرافضي: "في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } [المجادلة: 12] قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لم يعمل بهذه الآية غيري، وبي خفف الله عن هذه الأمة أمر هذه الآية"(1).
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: ذكر الإمام النسائي رحمه الله تعالى في "خصائص أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.. ص161 حديثاً قريباً من هذا: عن عليّ بن علقمة عن علي قال: لما أنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لعلي: "مرهم أن يتصدقوا"، قال: بكم يا رسول الله ؟ قال: "بدينار"، قال: لا يطيقون. قال: "فنصف دينار". قال: لا يطيقون. قال: "فبكم"؟ قال: بشعيرة. فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إنك لزهيد" فأنزل الله تعالى: { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ } إلى آخر الآية. وكان علي يقول: بي خُفّف عن هذه الأمة.
وقال المحقق الشيخ البلوشي: إسناده ضعيف. علي بن علقمة الأنماري قال البخاري: في حديثه نظر، وذكره العقيلي وابن الجارود في الضعفاء. وقال عنه ابن حبان في الضعفاء: منكر الحديث، ينفرد عن عليّ بما لا يشبه حديثه. وذكره أيضاً في ثقاته. وذكره الذهبي في الضعفاء، وقال ابن حجر: مقبول الثقات (5:163)، المجروحين (7:365)، التقريب (ص247).
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (12: 81) وعبد بن حميد (90) والترمذي (4: 80) والبزار (ق 60/1) وابن جرير في تفسيره (28: 21) وابن حبان (544-الموارد) والعقيلي (3: 243) وأبو يعلى (1: 322) من طريق الثوري.
وأخرجه ابن عدي (5: 1847) من طريق شريك كلاهما عن عثمان بن المغيرة به.(17/99)
والجواب أن يقال: الأمر بالصدقة لم يكن واجباً على المسلمين حتى يكونوا عصاة بتركه، وإنما أمر به من أراد النجوى، واتفق أنه لم يُرد النجوى إذ ذاك إلا عليّ رضي الله عنه، فتصدق لأجل المناجاة(1).
__________
(1) انظر تأويل هذه الآية في تفسير ابن كثير وفيه: "قال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: نهوا عن مناجاة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حتى يتصدقوا، فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب، قدّم ديناراً صدقة تصدّق بها، ثم ناجى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فسأله عن عشر خصال، ثم أنزلت الرخصة... وقال معمر عن قتادة: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} إنها منسوخة، ما كانت إلا ساعة من نهار. هكذا روى عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن مجاهد، قال علي: ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وأحسبه قال: وما كانت إلا ساعة".(17/100)
وهذا كأمره بالهَدْي لمن تمتع بالعمرة إلى الحج، وأمره بالهدي لمن أحصر، وأمره لمن به أذى من رأسه بفدية من صيام أو صدقة أو نسك. وهذه الآية نزلت في كعب بن عجرة لما مرّ به النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ينفخ تحت قدر وهوامّ رأسه تؤذيه(1). وكأمره لمن كان مريضاً أو على سفر بعدّةٍ من أيام أخر، وكأمره لمن حنث في يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، وكأمره إذا قاموا إلى الصلاة أن يغسلوا وجوههم وأيديهم إلى المرافق، وكأمره إذا قرأوا القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، ونظائر هذا متعددة.
__________
(1) وهذا كله في آية 196 من سورة البقرة: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.. الآية. وانظر تفسيرها في تفسير ابن كثير وغيره، وانظر ما رواه ابن كثير عن البخاري وأحمد في شسان كعب بن عجرة رضي الله عنه.(17/101)
فالأمر المعلّق بشرط إذا لم يوجد ذلك الشرط إلا في حق واحد لم يؤمر به غيره. وهكذا آية النجوى؛ فإنه لم يناج الرسول قبل نسخها إلا عليّ، ولم يكن على من ترك النجوى حرج. فمثل هذا العمل ليس من خصائص الأئمة، ولا من خصائص عليّ رضي الله عنه، ولا يُقال: إن غير عليّ ترك النجوى بخلا بالصدقة، لأن هذا غير معلوم، فإن المدة لم تطل، وفي تلك المدة القصيرة قد لا يحتاج الواحد إلى النجوى، وإن قُدِّر أن هذا كان يخص بعض الناس لم يلزم أن يكون أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من هؤلاء. كيف وأبو بكر رضي الله عنه قد أنفق ماله كله يوم رغَّب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الصدقة، وعمر رضي الله عنه جاء بنصف ماله بلا حاجة إلى النجوى. فكيف يبخل أحدهما بدرهمين أو ثلاثة يقدمها بين يدى نجواه ؟
وقد روى زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر يقول: أمرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ”ما أبقيت لأهلك يا عمر“؟ فقلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر بكل مال عنده. فقال: ”يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك“؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. فقلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً.
الفصل الخامس عشر
الرد على من يدّعي الإمامة لعليّ بقوله: أنا صاحب الجهاد(17/102)
قال الرافضي: "وعن محمد بن كعب القرظي قال: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب. فقال طلحة بن شيبة: معي مفاتيح البيت، ولو أشاء بتٌّ فيه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، ولو أشاء بتُّ في المسجد. وقال عليّ: ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد. فأنزل الله تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [التوبة: 19].
والجواب أن يقال: هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة بل دلالات الكذب عليه ظاهرة. منها: أن طلحة بن شيبة لا وجود له، وإنما خادم الكعبة هو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة(1). وهذا مما يبين لك أن الحديث لم يصح. ثم فيه قول العباس: "لو أشاء بِتُّ في المسجد" فأيّ كبير أمر في مبيته في المسجد حتى يتبجح به ؟
ثم فيه قول عليّ: "صليت ستة أشهر قبل الناس" فهذا مما يُعلم بطلانه بالضرورة، فإن بين إسلامه وإسلام زيد وأبي بكر وخديجة يوماً أو نحوه، فكيف يصلّي قبل الناس بستة أشهر ؟!
__________
(1) في "الإصابة" لابن حجر 2/157: "روى ابن سعد عن هوذة عن عوف عن رجل من أهل المدينة قال: دعا النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم شيبة بن عثمان فأعطاه مفتاح الكعبة فقال: "دونك هذا فأنت أمين الله على بيته". وقال مصعب الزبيري: دفع إليه وإلى عثمان بن أبي طلحة وقال: "خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا يأخذهامنكم إلا ظالم". وذكر الواقدي أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أعطاها يوم الفتح لعثمان، وأن عثمان ولي الحجابة إلى أن مات، فوليها شيبة، فاستمرت في ولده". وانظر "الاستيعاب" بهامش "الإصابة" 2/155-157 .(17/103)
وأيضاً فلا يقول: أنا صاحب الجهاد، وقد شاركه فيه عدد كثير جداً.
وأما الحديث فيقال: الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه(1)، ولفظ عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وهو يوم الجمع. ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عزَّ وجلَّ: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة: 19] الآية إلى آخرها".
وهذا الحديث ليس من خصائص الأئمة، ولا من خصائص عليّ فإن الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله كثيرون، والمهاجرون والأنصار يشتركون في هذا الوصف.
وأبو بكر وعمر أعظمهم إيماناً وجهاداً، لا سيما وقد قال: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ } [الأنفال: 72]. ولا ريب أن جهاد أبي بكر بماله ونفسه أعظم من جهاد عليّ وغيره.
كما قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الصحيح: ”إن أمنّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر“(2).
__________
(1) 3/1499 (كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى).
(2) هذا جزء من حديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وسبق فيما مضى، والحديث أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما في المسند (ط. المعارف) 4/134، (ط. الحلبي) 3/477-478، 4/211-212 (عن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه).(17/104)
وقال: ”ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر“(1). وأبو بكر كان مجاهداً بلسانه ويده، وهو أول من دعا إلى الله، وأوّل من أوذِيَ في الله بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأوّل من دافع عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان مشاركاً لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في هجرته وجهاده حتى كان هو وحده معه في العريش يوم بدر، وحتى أن أبا سفيان يوم أحد لم يسأل إلا عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأبي بكر وعمر، لما قال: أفيكم محمد ؟ فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ”لا تجيبوه“. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ”لا تجيبوه“ فقال أفيكم ابن الخطاب ؟ فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ”لا تجيبوه“. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت عدوّ الله، إن الذين عددت لأحياء، وقد أبقى الله لك ما يخزيك" ذكره البخاري وغيره(2).
الفصل السادس عشر
التنبيه على أن كل ما روي في مسند أحمد ليس بالضروري أن يكون صحيحاً
__________
(1) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: سنن ابن ماجه 1/36 (المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، باب فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه) ونصه: "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر. قال: فبكى أبو بكر وقال: يا رسول الله: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله"؟. والحديث في: المسند (ط. المعارف) 13/183 وصحيح الشيخ أحمد شاكر رحمه الله الحديث وخالف تضعيف البوصيري له في زوائده، وصححه الألباني أيضاً في طصحيح الجامع الصغير" 5/190. والحديث أيضاً في المسند (ط. المعارف) 16/320-321 مطولاً.
(2) سبق الحديث فيما مضى 1/216 .(17/105)
قال الرافضي: "ومنها ما رواه أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك، قال: قلنا لسلمان: سل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من وصيه، فقال له سلمان: يا رسول الله من وصيك؟ فقال: يا سلمان من كان وصيّ موسى ؟ فقال: يوشع بن نون. قال: فإن وصِييّ ووارثي يقضي دَيْني وينجز موعدي عليّ بن أبي طالب".
والجواب: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث(1)، ليس هو في مسند الإمام أحمد بن حنبل.
وأحمد قد صنَّف كتاباً في "فضائل الصحابة" ذكر فيه فضل أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وجماعة من الصحابة، وذكر فيه ما رُوي في ذلك من صحيح وضعيف للتعريف بذلك(2)، وليس كل ما رواه يكون صحيحاً.
ثم إن في هذا الكتاب زيادات من روايات ابنه عبد الله، وزيادات من رواية القطيعي عن شيوخه.
وهذه الزيادات التي زادها القطيعي غالبها كذب، كما سيأتي ذكر بعضها إن شاء الله، وشيوخ القطيعي يروون عمن في طبقة أحمد.
وهؤلاء الرافضة جهَّال إذا رأوا فيه حديثاً ظنوا أن القائل لذلك أحمد بن حنبل، ويكون القائل لذلك هو القطيعي، وذاك الرجل من شيوخ القطيعي الذين يروون عمن في طبقة أحمد.
__________
(1) ذكر الحديث ابن الجوزي في "الموضوعات" 1/374-375 من أربعة طرق كلها غير صحيحة أو موضوعة، وتابعه السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" 1/358-359 .
(2) وهو الكتاب الذي حققه الأستاذ وصي الله بن محمد عباس، وأصدرته جامعة أم القرى: 1403/ 1983 .(17/106)
وكذلك في المسند زيادات ابنه عبد الله، لا سيما في مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه زاد زيادات كثيرة(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: بلغت زيادات عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله تعالى في مسند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قرابة 240 زيادة وهي تمثل 28% من مجموع الروايات التي في مسند عليّ رضي الله عنه والبالغة 853 رواية. ولزيادة النفع نذكر أرقام تلك الزيادات من ذلك المسند، وأرقام تلك الزيادات منقولة من مسند الإمام أحمد (ط. المعارف) الجزء الثاني.
564، 571، 575، 576، 581، 582، 588، 589، 598، 601، 602، 605، 606، 607، 613، 614، 695، 696، 697، 698، 703، 706، 777، 790، 793، 797، 808، 809، 810، 811، 812، 823، 829، 830، 831، 832، 833، 834، 836، 837، 855، 858، 866، 867، 871، 875، 878، 889، 890، 891، 893، 894، 897، 903، 904، 908، 910، 917، 918، 919، 922، 926، 928، 934، 938، 939، 942، 944، 945، 946، 947، 950، 951، 952، 958، 961، 964، 965، 972، 973، 982، 983، 988، 990، 991، 996، 997، 998، 1013، 1014، 1015، 1016، 1027، 1030، 1031، 1032، 1041، 1044، 1046، 1047، 1051، 1052، 1054، 1055، 1059، 1060، 1069، 1070، 1071، 1074، 1075، 1080، 1081، 1082، 1083، 1087، 1089، 1092، 1095، 1102، 1103، 1104، 1105، 1106، 1111، 1113، 1114، 1115، 1116، 1118، 1121، 1125، 1128، 1129، 1130، 1131، 1136، 1137، 1138، 1140، 1142، 1143، 1148، 1155، 1164، 1165، 1166، 1170، 1176، 1179، 1187، 1188، 1189، 1196، 1197، 1198، 1201، 1202، 1207، 1212، 1213، 1214، 1216، 1217، 1224، 1225، 1226، 1227، 1231، 1232، 1233، 1239، 1240، 1241، 1246، 1247، 1248، 1251، 1252، 1253، 1259، 1260، 1261، 1264، 1265، 1266، 1267، 1268، 1269، 1270، 1277، 1278، 1279، 1280، 1281، 1283، 1284، 1285، 1286، 1292، 1293، 1294، 1295، 1296، 1299، 1300، 1301، 1302، 1303، 1310، 1312، 1317، 1318، 1319، 1321، 1322، 1328، 1329، 1331، 1332، 1334، 1336، 1337، 1338، 1342، 1343، 1344، 1349، 1350، 1351، 1352، 1353، 1359، 1366، 1372، 1376، 1377، 1378، 1379، 1380.(17/107)
.
الفصل السابع عشر
فضيلة حمل عليّ للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم
قال الرافضي: "وعن يزيد بن أبي مريم عن عليّ رضي الله عنه: قال: انطلقت أنا ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: اجلس، فصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به، فرأى مني ضعفاً، فنزل وجلس لي نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقال: اصعد على منكبي، فصعدت على منكبه. قال: فنهض بي. قال: فإنه تخيل لي أني لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: اقذف به، فقذفت به فتكسر كما تنكسر القوارير، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نستبق حتى توارينا في البيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس".(17/108)
والجواب: أن هذا الحديث إن صح فليس فيه شيء من خصائص الأئمة ولا خصائص عليّ؛ فإن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع على منكبه، إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها. وكان إذا سجد جاء الحسن فارتحله، ويقول: "إن ابني ارتحلني"(1) وكان يقبل زبيبة الحسن. فإذا كان يحمل الطفلة والطفل لم يكن في حمله لعليّ ما يوجب أن يكون ذلك من خصائصه، بل قد أشركه فيه غيره، وإنما حمله لعجز عليّ عن حمله، فهذا يدخل في مناقب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وفضيلة من يحمل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أعظم من فضيلة من يحمله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، كما حمله يوم أحد من حمله من الصحابة، مثل طلحة بن عبيد الله(2)
__________
(1) الحديث عن عبد الله بن شديد عن أبيه شداد بن الهاد رضي الله عنه في: سنن النسائي 2/182 (كتاب التطبيق، باب هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة) ونصه فيه: خرج علينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسناً أو حسيناً، فتقدم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فوضعه ثم كبّر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها. قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ساجد فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الصلاة، قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك. قال: "كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته". والحديث في المسند (ط. الحلبي) 3/493-494 .
(2) عن الزبير بن العوام رضي الله عنه في: سنن الترمذي 5/307 (كتاب المناقب، باب مناقب أبي محمد طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه) قال: كان على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم أحد درعان، فنهض إلى الصخرة، فلم يستطع، فأقعد تحته طلحة فصعد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حتى استوى على الصخرة. قال: فسمعت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: "أوجب طلحة" قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب" والحديث في: المسند (ط. المعارف) 3/12 (وصححه أحمد شاكر رحمه الله)؛ سيرة ابن هشام 3/91-92 .(17/109)
، فإن هذا نفع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وذاك نفعه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ومعلوم أن نفعه بالنفس والمال أعظم من انتفاع الإنسان بنفس النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وماله.
الفصل الثامن عشر
حديث أنت مني وأنا منك
قال الرافضي: "وعن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال لعليّ: "أنت مني وأنا منك".
والجواب: أن هذا حديث صحيح أخرجاه في الصحيحين من حديث البراء بن عازب، لَمّا تنازع علي وجعفر وزيد في ابنة حمزة فقضي بها لخالتها، وكانت تحت جعفر، وقال لعليّ: ”أنت مني وأنا منك“(1)
__________
(1) هذه العبارة جزء من حديث طويل عن البراء بن عازب رضي الله عنه جاء في ثلاثة مواضع في: البخاري 3/184-185 (كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح عليه فلان بن فلان...) وهو حديث صلح الحديبية وأوله: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: لما صالح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أهل الحديبية كتب عليّ بينهم كتاباً..... وفيه: قال: "أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله" وآخر الحديث: "فخرج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فتبعتهم ابنة حمزة فقالت: يا عم يا عم، فتناولها علي فأخذها بيدها، وقال لفاطمة عليها السلام: دونك ابنة عمك احمليها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال عليّ: أنا أحق بها، وهي ابنة عمي وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي. وقال زيد: ابنة أخي. فقضى بها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لخالتها، وقال: ”الخالة بمنزلة الأم“. وقال لعلي: ”أنت مني وأنا منك“. وقال لجعفر: ”أشبهت خلقي وخُلُقي“. وقال لزيد: ”أنت أخونا ومولانا“.
وجاء الحديث أيضاً في البخاري 4/103-104 (كتاب الجزية والموادعة، باب المصالحة على ثلاثة أيام...) ولكن لم ترد فيه هذه العبارة، 5/141-142 (كتاب المغازي، باب عمرة القضاء).
وذكر البخاري هذه العبارة في أول باب مناقب علي بن أبي طالب من كتاب فضائل الصحابة 5/18 ولكنه لم يذكر الحديث كاملاً.
وجاءت هذه العبارة في أحاديث أخرى منها حديث عن حُبشيّ بن جُنَادة رضي الله عنه في: سنن الترمذي 5/299-300 (كتاب المناقب، باب 85) ونصه: "علي مني وأنا من علي، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي". وهذا الحديث في: سنن ابن ماجه 1/44 (المقدمة، باب فضل علي بن أبي طالب)، المسند (ط. الحلبي) 4/164-165.
وجاءت هذه العبارة في حديث آخر عن أسامة بن زيد في المسند (ط. الحلبي) 5/204. وانظر: الرياض النضرة للمحب الطبري 2/225-226 .(17/110)
. وقال لجعفر: ”أشبهت خَلْقِي وخُلُقي“. وقال لزيد: ”أنت أخونا ومولانا“.
لكن هذا اللفظ قد قاله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لطائفة من أصحابه، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ”إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلت نفقة عيالهم في المدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد، ثم قسموه بينهم بالسوية. هم مني وأنا منهم“(1).
وكذلك قال عن جليبيب: ”هو مني وأنا منه“ فروى مسلم في صحيحه(2) عن أبي برزة قال: كنا مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في مغزة له. فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: ”هل تفقدون من أحد“؟ قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً. ثم قال: ”هل تفقدون من أحد“؟ قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: ”هل تفقدون من أحد“؟ قالوا: لا. قال: ”لكني أفقد جُلَيْبيباً، فاطلبوه“ فطلبوه في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه. فأتى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فوقف عليه فقال: ”قتل سبعة ثم قتلوه. هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه“ قال: فوضعه عليّ على ساعديه، ليس له إلا ساعداً النبي صلَّى الله عليه وسلَّم. قال: فحفر له فوضع في قبره، ولم يذكر غسلاً.
فتبين أن قوله لعليّ: ”أنت مني وأنا منك“ ليس من خصائصه، بل قال ذلك للأشعريين، وقاله لجليبيب. وإذا لم يكن من خصائصه، بل قد شاركه في ذلك غيره من هو دون الخلفاء الثلاثة في الفضيلة، لم يكن دالاًّ على الأفضلية ولا على الإمامة.
الفصل التاسع عشر
فضائل عليّ العشر
__________
(1) الحديث بألفاظ مقاربة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في البخاري 3/138 (كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام والنهر..)، مسلم 4/1944-1945 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم). ومعنى "أرملوا في الغزو": أي فني طعامهم.
(2) 4/1918-1919 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل جليبيب رضي الله عنه.
والحديث في: المسند (ط. الحلبي) 4/421، 422، 425 .(17/111)
قال الرافضي: "وعن عمرو بن ميمون قال: لعلي بن أبي طالب عشر فضائل ليست لغيره. قال له النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: لأبعثن رجلاً لا يخزيه الله أبداً، يحب الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، فاستشرف إليها من استشرف. قال: أين عليّ بن أبي طالب؟ قالوا: هو أرمد في الرحي يطحن. قال: وما كان أحدهم يطحن قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد أن يبصر. قال: فنفث في عينيه ثم هز الراية ثلاثاً وأعطاها إياه. فجاء بصفية بنت حيي. قال: ثم بعث أبا بكر بسورة التوبة، فبعث عليّاً خلفه فأخذها منه وقال: لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه.
وقال لبني عمه: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ قال: وعليّ معهم جالس فأبَوا، فقال عليّ: أنا أواليك في الدنيا والآخرة. قال: فتركه، ثم أقبل على رجلٍ رجل منهم، فقال: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ فأبَوا، فقال عليٌّ: أنا أواليك في الدنيا والآخرة، فقال: أنت وليي في الدنيا والآخرة.
قال: وكان عليّ أول من أسلم من الناس بعد خديجة. قال: وأخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثوبه فوضعه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب: 33].
قال: وشرى عليّ نفسه ولبس ثوب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم نام مكانه وكان المشركون يرمونه بالحجارة.
وخرج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالناس في غزاة تبوك، فقال له عليّ: أخرج معك ؟ قال: لا. فبكى عليٌّ، فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنك لست بنبي، لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي.
وقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أنت وليي في كل مؤمن بعدي.
قال: وسدّ أبواب المسجد إلا باب عليّ. قال: وكان يدخل المسجد جُنُباً، وهو طريقه ليس له طريق غيره.
وقال له: من كنت مولاه فعليّ مولاه.(17/112)
وعن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مرفوعاً أنه بعث أبا بكر في براءة إلى مكة، فسار بها ثلاثاً ثم قال لعليّ: "الحق فردّه وبلغها أنت، ففعل. فلما قدم أبو بكر على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بكى وقال: يا رسول الله حدث فيّ شيء ؟ قال: لا. ولكن أمرت أن لا يبلغها إلا أنا أو رجل مني".
والجواب: أن هذا ليس مسنداً بل هو مرسل لو ثبت عن عمرو بن ميمون، وفيه ألفاظ هي كذب على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كقوله: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنك لست بنبي لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي. فإن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ذهب غير مرة وخليفته على المدينة غير عليّ، كما اعتمر عمرة الحديبية وعليّ معه وخليفته غيره، وغزا بعد ذلك خيبر ومعه عليّ وخليفته بالمدينة غيره، وغزا غزرة الفتح وعليّ معه وخليفته في المدينة غيره، وغزا حُنَيْناً والطائف وعليّ معه وخليفته بالمدينة غيره، وحج حجة الوداع وعليّ معه وخليفته بالمدينة غيره، وغزا غزوة بدر ومعه عليّ وخليفته بالمدينة غيره.
وكل هذا معلوم بالأسانيد الصحيحة وباتفاق أهل العلم بالحديث وكان عليّ معه في غالب الغزوات وإن لم يكن فيها قتال.
فإن قيل: استخلافه يدل على أنه لا يستخلف إلا الأفضل، لزم أن يكون عليٌّ مفضولاً في عامة الغزوات، وفي عمرته وحجته، لا سيما وكل مرة كان يكون الاستخلاف في رجال مؤمنين، وعام تبوك ما كان الاستخلاف إلا على النساء والصبيان ومن عَذَرَ الله، وعلى الثلاثة { الَّذِينَ خُلِّفُواْ } أو مُتّهم بالنفاق، وكانت المدينة آمنة لا يُخاف على أهلها، ولا يحتاج المستخلِف إلى جهاد، كما يحتاج في أكثر الاسخلافات.(17/113)
وكذلك قوله: "وسد الأبواب كلها إلا باب علي" فإن هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة(1)، فإن الذي في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال في مرضه الذي مات فيه "إن أمنّ الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربّي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودّته، لا يبقين في المسجد خَوْخة إلا سُدَّت إلا خوخة أبي بكر" ورواه ابن عباس أيضاً في الصحيحين(2). ومثل قوله: "أنت وليي في كل مؤمن بعدي" فإن هذا موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث(3)
__________
(1) أورد ابن الجوزي هذا الجزء من حديث عمرو بن ميمون الموضوع في "الموضوعات" 1/364 وحكم عليه بالوضع 1/366 وذكر أن هذا الحديث من هذا الطريق وغيره حديث موضوع ثم قال: "فهذه الأحاديث كلها من وضع الرافضة قابلوا بها الحديث المتفق على صحته في: "سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر".
(2) الحديث عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في: البخاري 1/96-97 (كتاب الصلاة، باب الخوخة والممر في المسجد)، 5/4 (كتاب فضائل أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، باب قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: لو كنت متخذاً خليلاً). والحديث في مسلم عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم 4/1855-1856 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر..) ونص الشيخ أحمد شاكر على أن الحديث من رواية ابن عباس في مسلم وذلك عند ورود الحديث في المسند (ط. المعارف) 5/202 (حديث رقم 3580) كما جاء الحديث قبل ذلك عن ابن عباس في المسند (ط. المعارف) 4/143 (حديث رقم 2432) وجاءت قطعة منه 5/254 (حديث رقم 3689).
(3) جاء هذا الحديث في كتاب "فضائل الصحابة" 1/503 (رقم 521)، 1/524 (رقم 868) وقال المحقق 1/503: "موضوع وفيه متروكان متهمان بالوضع: طلحة وعبيدة".. وجاء الحديث في حق عثمان بن عفان رضي الله عنه في "الموضوعات" 1/334، "البداية والنهاية" 7/213 وغيرها من المراجع، وذكر المحقق أن هذا الحديث أيضاً موضوع.(17/114)
والذي فيه من الصحيح ليس هو من خصائص الأئمة، بل ولا من خصائص عليّ، بل قد شاركه فيه غيره، مثل كونه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ومثل استخلافه وكونه منه بمنزلة هارون من موسى، ومثل كون عليّ مولى من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مولاه فإن كل مؤمن موالٍ لله ورسوله، ومثل كون "براءة" لا يبلِّغها إلا رجلٌ من بني هاشم؛ فإن هذا يشترك فيه جميع الهاشميين، لما رُوى أن العادة كانت جارية بأن لا ينقض العهود ويحلها إلا رجل من قبيلة المطاع.
الفصل العشرون
فضل حب عليّ
قال الرافضي: "ومنها ما رواه أخطب خوارزم عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: يا عليّ لو أن عبداً عبد الله عزَّ وجلَّ مثل ما قام نوح في قومه، وكان له مثل أُحُد ذهباً فأنفقه في سبيل الله، ومدّ في عمره حتى حج ألف عام على قدميه، ثم قُتل بين الصفا والمروة مظلوماً، ثم لم يوالك يا عليّ، لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها.
وقال رجل لسلمان: ما أشدّ حبك لعليّ. قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: من أحب عليّاً فقد أحبني، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني. وعن أنس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: خلق الله من نور وجه عليّ سبعين ألف مَلَك يستغفرون له ولمحبيه إلى يوم القيامة.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: من أحب عليّاً قبل الله عنه صلاته وصيامه وقيامه، واستجاب دعاءه. ألا ومن أحب عليّاً أعطاه الله بكل عرق من بدنه مدينة في الجنة. ألا ومن أحب آل محمد أمن من الحساب والميزان والصراط. ألا ومن مات على حب آل محمد فأنا كفيله في الجنة مع الأنبياء، ألا ومن أبغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: "آيس من رحمة الله".
وعن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: من زعم أنه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض عليّاً فهو كاذب ليس بمؤمن.(17/115)
وعن أبي برزة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ونحن جلوس ذات يوم: والذي نفسي بيده لا يزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأله الله تبارك وتعالى عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله مم اكتسبه وفيم أنفقه، وعن حُبنا أهل البيت. فقال له عمر: فما آية حبكم من بعدكم ؟ فوضع يده على رأس عليّ بن أبي طالب وهو إلى جانبه فقال: إن حبي من بعدي حب هذا.
وعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد سئل: بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج ؟ فقال: خاطبني بلغة عليّ، فألهمني أن قلت: يا رب خاطبتني أم عليّ ؟ فقال: يا محمد أنا شيء لست كالأشياء، لا أقاس بالناس ولا أوصف بالأشياء، خلقتك من نوري وخلقت عليّاً من نورك فاطلعت على سرائر قلبك، فلم أجد إلى قلبك أحبُّ من عليّ، فخاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: لو أن الرياض أقلام والبحر مداد، والجنّ حسّاب، والإنس كتّاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب.
وبالإسناد قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إن الله تعالى جعل الأجر على فضائل علي لا يُحصى كثره، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرّاً بها غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم، ومن استمع فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع، ومن نظر إلى كتاب من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر، ثم قال: النظر إلى وجه أمير المؤمنين عليّ عبادة، وذكره عبادة، لا يقبل الله إيمان عبدٍ إلا بولايته والبراءة من أعدائه.
وعن حكيم بن حزام عن أبيه عن جده عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: لَمُبارزة عليّ لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة.(17/116)
وعن سعد بن أبي وقاص قال: أمر معاوية بن أبي سُفيان سعداً بالسبّ فأبى، فقال: ما منعك أن تسب علي بن أبي طالب ؟ قال: ثلاث قالهن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلن أسبه، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول لعليّ وقد خلّفه في بعض مغازيه، فقال له عليٌّ: تخلّفني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أما ترضى أن تكون معنى بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنه لا نبي بعدي. وسمعته يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال: فتطاولنا، فقال: ادعوا لي عليّاً، فأتاه وبه رمد، فبصق في عينيه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه. وأنزلت هذه الآية: { فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ } [آل عمران: 61] دعا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عليّاً وفاطمة والحسن والحسين فقال: "هؤلاء أهلي".(17/117)
والجواب: أن أخطب خوارزم هذا له مصنّف في هذا الباب فيه من الأحاديث المكذوبة ما لا يخفى كذبه على من له أدنى معرفة بالحديث، فضلاً عن علماء الحديث، وليس هو من علماء الحديث ولا ممن يُرجع إليه في هذا الشأن ألبتة(1). وهذه الأحاديث مما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنها من المكذوبات. وهذا الرجل قد ذكر أنه يذكر ما هو صحيح عندهم، ونقوله في المعتمد من قولهم وكتبهم، فكيف يذكر ما أجمعوا على أنه كذب موضوع، ولم يُروَ في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا صححه أحد من أئمة الحديث.
__________
(1) يقول الأستاذ محب الدين الخطيب في تعليقه على "منهاج الاعتدال" ص312: "أخطب خوارزم أديب متشبع من تلاميذ الزمخشري، اسمه الموفق بن أحمد بن إسحاق (484-568ه) له ترجمة في "بغية الوعاة" 401 و"روضات الجنات" (الطبعة الثانية) 722 وغيرهما، وكتابه الذي كَذَب فيه هذا الخبر على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اسمه "مناقب أهل البيت".. وانظر ترجمة أبي المؤيد الموفق بن أحمد المكي الخوارزمي في: الأعلام 8/289 وذكر الزركلي أن كتابه "مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب" مطبوع.(17/118)
فالعشرة الأول كلها كذب إلى آخر حديث: قتله لعمرو بن عبد ودّ. وأما حديث سعد لما أمره معاوية بالسب فأبى، فقال: ما منعك أن تسبّ عليَّ بن أبي طالب ؟ فقال: ثلاث قالهن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلن أسبه، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليَّ من حمر النعم.. الحديث. فهذا حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه(1) وفيه ثلاث فضائل لعليٍّ لكن ليست من خصائص الأئمة ولا من خصائص عليّ، فإن قوله وقد خلّفه في بعض مغازيه فقال له عليّ: يا رسول الله تخلّفني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي، ليس من خصائصه؛ فإنه استخلف على المدينة غير واحد ولم يكن هذا الاستخلاف أكمل من غيره. ولهذا قال له عليّ: أتخلفني مع النسائي والصبيان ؟ لأن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان في كل غزاة يترك بالمدينة رجالاً من المهاجرين والأنصار، إلا في غزوة تبوك فإنه أمر المسلمين جميعهم بالنفير، فلم يتخلف بالمدينة إلا عاصٍ أو معذور غير النساء والصبيان. ولهذا كره عليّ الاستخلاف، وقال: أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ يقول تتركني مخلفاً لا تستصحبني معك ؟ فبيّن له النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن الاستخلاف ليس نقصاً ولا غضاضه؛ فإن موسى استخلف هارون على قومه لأمانته عنده وكذلك أنت استخلفتك لأمانتك عندي، لكن موسى استخلف نبيّاً وأنا لا نبي بعدي. وهذا تشبيه في أصل الاستخلاف، فإن موسى استخلف هارون على جميع بني إسرائيل، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم استخلف عليّاً على قليل من المسلمين، وجمهورهم استصحبهم في الغزاة. وتشبيهه بهارون ليس بأعظم من تشبيه أبي بكر وعمر: هذا بإبراهيم وعيسى، وهذا بنوح وموسى؛ فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون، وكل من أبي بكر وعمر شبه باثنين لا بواحد، فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه عليّ، مع أن استخلاف عليّ له فيه أشباه
__________
(1) مسلم 4/1871 .(17/119)
وأمثال من الصحابة.
وهذا التشبيه ليس لهذين فيه شبيه، فلم يكن الاستخلاف من الخصائص، ولا التشبيه بنبي في بعض أحواله من الخصائص.
وكذلك قوله: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال: فتطاولنا، فقال: ادعوا لي عليّاً، فأتاه وبه رمد، فبصق في عينيه ودفع الراية إليه، ففتح الله على يديه. وهذا الحديث أصح ما رُوي لعليّ من الفضائل، أخرجاه في الصحيحين من غير وجه. وليس هذا الوصف مختصّاً بالأئمة ولا بعليّ؛ فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي، وكل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يُحتج به على النواصب الذين يتبرؤون منه ولا يتولونه ولا يحبونه، بل قد يكفِّرونه أو يفسقونه كالخوارج؛ فإن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم شهد له بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم؛ فإن الخوارج تقول في عليّ مثل ذلك، لكن هذا باطل، فإن الله – ورسوله – لا يطلق هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافراً، وبعض أهل الأهواء من المعتزلة وغيرهم، وبعض المروانية ومن كان على هواهم، الذين كانوا يبغضونه ويسبونه.
وكذلك حديث المباهلة شركه فيه فاطمة وحسن وحسين، كما شركوه في حديث الكساء، فعُلم أن ذلك لا يختص بالرجال ولا بالذكور ولا بالأئمة، بل يشركه فيه المرأة والصبي، فإن الحسن والحسين كانا صغيرين عند المباهلة، فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران بعد فتح مكة سنة تسع أو عشر، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم مات ولم يكمل الحسين سبع سنين، والحسن أكبر منه بنحو سنة، وإنما دعا هؤلاء لأنه أمر أن يدعو كل واحد من الأقربين: الأبناء والنساء والأنفس، فيدعو الواحد من أولئك: أبناءه ونساءه، وأخص الرجال به نسباً.(17/120)
وهؤلاء أقرب الناس إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم نسباً، وإن كان غيرهم أفضل منهم عنده، فلم يؤمر أن يدعو أفضل أتباعه، لأن المقصود أن يدعو كل واحد منهم أخصّ الناس به، لما في جبلة الإنسان من الخوف عليه وعلى ذوي رحمه الأقربين إليه، ولهذا خصهم في حديث الكساء.
والدعاء لهم والمباهلة مبناها على العدل، فأولئك أيضاً يحتاجون أن يدعوا أقرب الناس إليهم نسباً، وهم يخافون عليهم ما لا يخافون على الأجانب، ولهذا امتنعوا عن المباهلة، لعلمهم بأنه على الحق، وأنهم إذا باهلوه حقت عليهم بهلة الله وعلى الأقربين إليهم، بل قد يحذر الإنسان على ولده ما لا يحذره على نفسه.
فإن قيل: فإذا كان ما صح من فضائل عليّ رضي الله عنه، كقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ”لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله“، وقوله: ”أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى“، وقوله: ”اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً“ ليس من خصائصه، بل له فيه شركاء، فلماذا تمنّى بعض الصحابة أن يكون له ذلك، كما روى عن سعد وعن عمر ؟(17/121)
فالجواب: أن في ذلك شهادة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لعليّ بإيمانه باطناً وظاهراً، وإثباتاً لموالاته لله ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له. وفي ذلك رد على النواصب الذين يعتقدون كفره أو فسقه، كالخوارج المارقين الذين كانوا من أعبد الناس، كما قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فيهم: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم"(1) وهؤلاء يكفّرونه ويستحلّون قتله، ولهذا قتله واحد منهم، وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي، مع كونه كان من أعبد الناس.
وأهل العلم والسُّنَّة يحتاجون إلى إثبات إيمان عليّ وعدله ودينه للرد على هؤلاء، أعظم مما يحتاجون إلى مناظرة الشيعة؛ فإن هؤلاء أصدق وأَدْيَن، والشبه التي يحتجون بها أعظم من الشبه التي تحتج بها الشيعة، كما أن المسلمين يحتاجون في أمر المسيح صلوات الله وسلامه عليه إلى مناظرة اليهود والنصارى، فيحتاجون أن ينفوا عنه ما يرميه به اليهود من أنه كاذب ولد زنا وإلى نفي ما تدّعيه النصارى من الإلهية، وجدل اليهود أشد من جدل النصارى، ولهم شبه لا يقدر النصارى أن يجيبوهم عنها، وإنما يجيبهم عنها المسلمون. كما أن للنواصب شبهاً لا يمكن الشيعة أن يجيبوا عنها، وإنما يجيبهم عنها أهل السُّنَّة.
__________
(1) ما ذكره ابن تيمية هنا جزء من حديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن عليّ وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم في: البخاري 4/200-201 (كتاب المناقب، باب علامات النبوة)؛ مسلم 2/740-747 (كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، باب التحريض على قتل الخوارج). وانظر: جامع الأصول لابن الأثير 1-/436-440؛ سنن أبي داود 4/336 (كتاب السنة، باب في قتال الخوارج)؛ سنن ابن ماجه 1/60-61 (المقدمة، باب في ذكر الخوارج)؛ المسند (ط. الحلبي) 3/65، 68، 73، 353، 354-355 .(17/122)
فهذه الأحاديث الصحيحة المثبتة لإيمان عليّ باطناً وظاهراً ردّ على هؤلاء، وإن لم يكن ذلك من خصائصه، كالنصوص الدالة على إيمان أهل بدر وبيعة الرضوان باطناً وظاهراً؛ فإن فيها ردّاً على من ينازع في ذلك من الروافض والخوارج، وإن لم يكن ما يستدل به من خصائص واحد منهم. وإذا شهد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لمعيَّن بشهادة، أو دعا له بدعاء، أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو به لخلق كثير، وكان تعينه لذلك المعيّن من أعظم فضائله ومناقبه، وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس بن شماس(1) وعبد الله بن سلام(2)
__________
(1) الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه في: مسلم 1/110 (كتاب الإيمان، باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله) أن ثابت بن قيس رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } [الحجرات: 2] حزن واحتبس عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وقال كلاماً آخره.. فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد (بن معاذ) للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ”بل هو من أهل الجنة“. والحديث في المسند (ط. الحلبي) 3/137، 145-146، 287 .
(2) روي البخاري 5/37-38 (كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه) ومسلم 4/1930-1932 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن سلام رضي الله عنه) حديثاً عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول فيه – وهذه رواية البخاري -: ما سمعت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام.. الحديث كما رويا حديثاً آخر عن قيس بن عُبَاد ذكر فيه أنه كان في حلقة فيها قوم (عند مسلم: فيها سعد بن مالك وابن عمر رضي الله عنهم). فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة. فسأله قيس عن ذلك فذكر له عبد الله بن سلام أنه رأى رؤيا قصها على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فأولها له وقال في آخر كلامه صلَّى الله عليه وسلَّم: ”.. وأما العروة فهي عروة الإسلام، ولن تزال مستمسكاً بها حتى الموت“.(17/123)
وغيرهما، وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين. والشهادة بمحبة الله ورسوله لعبد الله حمار الذي ضرب في الخمر(1)، وإن شهد بذلك لمن هو أفضل منه، وكشهادته لعمرو بن تغلب بأنه ممن لا يعطيه لما في قلبه من الغنى والخير لما قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الصحيح: "إني لأعطي رجالاً وأدع رجالاً، والذي أدع أحبُّ إليَّ من الذي أعطى. أعطى رجالاً لما في قلوبهم من الهلع والجزع، وأكِلُ رجالاً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب"(2).
وفي الحديث الصحيح لما صلّى على ميت قال: ”اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم منزله، ووسّع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبَرَدَ، ونقِّه من الذنوب والخطايا كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وقه فتنة القبر وعذاب النار، وأفسح له في قبره، ونوِّر له فيه“. قال عوف بن مالك: فتمنيت أن أكون أنا ذلك الميت(3). وهذا الدعاء ليس مختصاً بذلك الميت.
الفصل الحادي والعشرون
حديث يوم الشورى
__________
(1) الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في: البخاري 8/158 (كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج عن الملة).
(2) الحديث مع اختلاف يسير في الألفاظ – عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه في: البخاري 2/10-11 (كتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء: (كتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد)، 9/156 (كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا..}، المسند (ط. الحلبي) 5/69 .
(3) الحديث مع اختلاف في الألفاظ – عن عوف بن مالك رضي الله عنه في: مسلم 2/662-663 (كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت في الصلاة)؛ سنن النسائي 1/46 (كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البرد)، 4/59-60 (كتاب الجنائز، باب الدعاء)؛ المسند (ط. الحلبي) 6/23 .(17/124)
قال الرافضي: "وعن عامر بن واثلة قال: كنت مع عليّ عليه السلام يوم الشورى يقول لهم: لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا عجميكم تغيير ذلك، ثم قال: أنشدكم بالله أيها النفر جميعاً، أفيكم أحد وحَّد الله تعالى قبلي ؟ قالوا: اللهم لا قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له أخ مثل أخي جعفر الطيّار في الجنة مع الملائكة غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله: هل فيكم أحد له عمّ مثل عمي حمزة أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت محمد سيدة نساء أهل الجنة غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له سبطان مثل سبطيّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد ناجى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عشر مرات قدّم بين يدي نجواه صدقة غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ليبلغ الشاهد الغائب غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإليّ يأكل معي من هذا الطير، فأتاه فأكل معه غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه إذ رجع غيري منهزماً غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لبني وكيعة: لتنتهنّ أو لبعثنّ إليكم رجلاً نفسه كنفسي، وطاعته كطاعتين ومعصيته كمعصيتي يفصلكم بالسيف غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: كذب من(17/125)
زعم أنه يحبني ويبغض هذا غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد سلَّم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملاشكة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل حيث جئت بالماء إلى رسول الله من القليب غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد نودي به من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليّ غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له جبريل هذه هي المواساة، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إنه مني وأنا منه. فقال جبريل: وأنا منكم غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله: تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، على لسان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إني قاتلت على تنزيل القرآن وأنت تقاتل على تأويله غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد رُدّت عليه الشمس حتى صلى العصر في وقت غيري ؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد أمره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يأخذ "براءة" من أبي بكر فقال له أبو بكر: يا رسول الله أنزل فيّ شيء ؟ فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إنه لا يؤدّي عني إلا عليّ غيري ؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق كافر غيري ؟ قالوا: اللهم لا .
قال: فأنشدكم بالله هل تعلمون أنه أمر بسدّ أبوابكم وفتح بابي فقلتم في ذلك، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ما أنا سددت أبوابكم ولا فتحت بابه، بل الله سد أبوابكم وفتح بابه غيري ؟ قالوا: اللهم لا.(17/126)
قال: فأنشدكم بالله أتعلمون أنه ناجاني يوم الطائف دون الناس فأطال ذلك، فقلتم: ناجاه دوننا، فقال: ما أنا انتجيته بل الله انتجاه غيري ؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم بالله أتلعمون أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: الحق مع عليّ وعليّ مع الحق يزول الحق مع عليّ كيفما زال ؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن تضلوا ما استمسكتم بهما، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد وقى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بنفسه من المشركين واضطجع في مضجعه غيري ؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد بارز عمرو بن عبد ودّ العامري حيث دعاكم إلى البراز غيري ؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه آية التطهير حيث يقول: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب: 33] غيري ؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أنت سيد المؤمنين غيري ؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ما سألت الله شيئاً إلا وسألت لك مثله غيري ؟ قالوا: اللهم لا.
ومنها ما رواه أبو عمرو الزاهد عن ابن عباس قال: لعليّ أربع خصال ليست لأحد من الناس غيره، هو أوّل عربي وعجمي صلّى مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف، وهو الذي صبر معه يوم حنين، وهو الذي غسَّله وأدخله قبره.(17/127)
وعن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال مررت ليلة المعراج بقوم تُشرشر أشداقهم، فقلت: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: قوم يقطعون الناس بالغيبة. قال: ومررت بقوم وقد ضوضؤا، فقلت: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الكفار. قال: ثم عدلنا عن الطريق، فلما انتهينا إلى السماء الرابعة رأيت عليّاً يصلّي، فقلت: يا جبريل هذا عليّ قد سبقنا. قال: لا ليس هذا عليّاً. قلت: فمن هو ؟ قال: إن الملائكة المقرَّبين والملائكة الكروبيين لما سمعت فضائل عليّ وخاصته وسمعت قولك فيه: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي، اشتاقت إلى عليّ، فخلق الله تعالى لها مَلَكاً على صورة عليّ، فإذا اشتاقت إلى عليّ جاءت إلى ذلك المكان، فكأنها قد رأت عليّاً.
وعن ابن عباس قال: إن المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ذات يوم وهو نشيط: أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتي. قال: فقوله أنا الفتى يعني هو فتى العرب، وقوله ابن الفتى، يعني إبراهيم من قوله تعالى: { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } [الأنبياء: 60] وقوله: أخو الفتى، يعني عليّاً، وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ. وعن ابن عباس قال: رأيت أبا ذر وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر، لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار، وصليتم حتى تكونوا كالحنايا، ما نفعكم ذلك حتى تحبوا عليّاً.(17/128)
والجواب: أما قوله عن عامر بن واثلة ما ذكره يوم الشورى، فهذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث(1)، ولم يقل عليّ رضي الله عنه يوم الشورى شيئاً من هذا ولا ما يشابهه، بل قال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: لئن أمرتك لتعدلنّ؟ قال: نعم قال: وإن بايعت عثمان لتسمعن وتطيعن ؟ قال: نعم. وكذلك قال لعثمان. ومكث عبد الرحمن ثلاثة أيام يشاور المسلمين.
ففي الصحيحين(2)- وهذا لفظ البخاري(3)- عن عمرو بن ميمون في مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فلما فُرِعَ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم. قال(4) الزبير: قد جعلت أمري إلى عليّ. وقال(5) طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان. وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن(6). فقال عبد الرحمن: أيكم تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه؟
__________
(1) ذكر ابن الجوزي قسماً من هذا الحديث في "الموضوعات" 1/378-380 وقال: "هذا حديث موضوع لا أصل له" وانظر باقي كلامه. وقد ذكر كلاماً مماثلاً السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" 1/361 .
(2) لم أجد الحديث في مسلم مع طول بحثي عنه..
(3) 5/15-18 (كتاب فضائل أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، باب قصه البيعة) والكلام التالي ص17-18.
(4) البخاري 5/17 : فقال .
(5) البخاري : فقال .
(6) البخاري : إلى عبد الرحمن بن عوف .(17/129)
فأُسْكِت الشيخان. فقال عبد الرحمن: أتجعلونه إليَّ والله عليَّ أن لا آلو عن أفضلكم. قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليكم لئن أمَّرتك لتعدلن ولئن أمَّرت عليك لتسمعن ولتطيعن. ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان"(1).
__________
(1) جاء جزء من هذا الحديث في: البخاري 2/103 (كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم).. والحديث في: البخاري 9/78 (كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس).(17/130)
وفي حديث المسور بن مخرمة قال المسور: "إن الرهط الذين ولاّهم عمر اجتمعوا فتشاوروا. قال لهم عبد الرحمن: لست بالذي أتكلم في هذا الأمر(1) ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلما ولَّوا عبد الرحمن أمرهم مال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع ذلك الرهط ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن(2) يشاورونه تلك الليالي، التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان. قال المسور: طرقني عبد الرحمن بعد هَجْعٍ من الليل، فضرب الباب حتى استيقظت، فقال: أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم، انطلق فادع الزبير وسعداً، فدعوتهما له، فشاورهما ثم دعاني، فقال: ادع لي عليّاً، فدعوته، فناجاه حتى إبهار الليل، ثم قام عليّ من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى زحف، فإن هذا من الكذب المعلوم، إذ لواء النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يوم أحد مع مصعب بن عمير باتفاق الناس، ولواؤه يوم الفتح كان مع الزبير بن العوام، وأمره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يركّز رايته بالحجون، فقال العباس للزبير بن العوام: أهاهنا أمرك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن تركز الراية؟ أخرجه البخاري في صحيحه(3).
وكذلك قوله: "وهو الذي صبر معه يوم حُنين".
__________
(1) البخاري: لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر.
(2) البخاري: أولئك الرهط.
(3) الحديث عن نافع بن جبير (وهو تابعي) في: البخاري 4/53 (كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في لواء النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ونصه: قال سمعت العباس يقول للزبير رضي الله عنه: أهاهنا أمرك النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن تركز الراية؟.(17/131)
وقد عُلم أنه لم يكن أقرب إليه من العباس بن عبد المطلب، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، والعباس آخذ بلجام بغلته وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه، وقال له النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "ناد أصحاب السمرة" قال: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ فوالله كأن عطفتهم عليَّ حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك. والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" ونزل عن بغلته وأخذ كفّاً من حصى فرمى بها القوم وقال: "انهزموا ورب الكعبة" قال العباس: "فوالله ما هو إلا أن رماهم فما زلت أرى حدّهم كليلاً وأمرهم مدبراً، حتى هزمهم الله" أخرجاه في الصحيحين(1). وفي لفظ للبخاري قال: "وأبو سفيان آخذ بلجام بلغته"(2)
__________
(1) الحديث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في: مسلم 3/1398-1400 (كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين)؛ المسند (ط. المعارف) 3/208-210. وذكر الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه: "والحديث رواه مسلم 2/10-61 من طريق يونس عن الزهري، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 3: 327 وزعم أن الشيخين لم يخرجاه، واستدرك عليه الذهبي بإخراج مسلم إياه". وهكذا لا نجد ما يدل على أن حديث العباس رواه البخاري ولعل ابن تيمية يقصد أن الحديث بمعناه من رواية البراء بن عازب في البخاري. وأما قوله: "فما زلت أرى حدهم كليلا" أي: ما زلت أرى قوتهم ضعيفة.
(2) الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه في: البخاري 4/30-31 (كتاب الجهاد والسير، باب من قاد دابة غيره) ونصه.. قال رجل للبراء بن عازب رضي الله عنهما: أفررتم عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم حُنين؟ قال: لكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يفز، إن هوازن كانوا قوماً رماة، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا، فأقبل المسلمون على الغنائم، واستقبلونا بالسهام، فأما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يفر، فلقد رأيته على بلغته البيضاء وإن أبا سفيان آخذ بلجامها، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: "أنا النبي لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب". والحديث في: مسلم 3/1400-1401 (الموضع السابق). وجاء الحديث عن البراء رضي الله عنه في مواضع أخرى في البخاري: 4/32 (كتاب الجهاد والسير، باب بغلة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم البيضاء)، 4/43 (كتاب الجهاد والسير، باب من صف أصحابه عند الهزيمة..)، 4/67 (كتاب الجهاد والسير، باب من قال خذها وأنا ابن فلان)؛ 5/153 (كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ..}. وانظر فتح الباري 8/28-32 .(17/132)
وفيه: "قال العباس: لزمت أنا وأبو سفيان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم حُنين فلم نفارقه"(1).
وأما غُسله صلَّى الله عليه وسلَّم وإدخاله قبره، فاشترك فيه أهل بيته، كالعباس وأولاده، ومولاه شقران، وبعض الأنصار، لكن عليٌّ كان يباشر الغسل، والعباس حاضر لجلالة العباس، وأن عليّاً أولادهم بمباشرة ذلك.
وكذلك قوله: "هو أوّل عربي وعجمي صلَّى" يناقض ما هو المعروف عن ابن عباس.
وأما حديث المعراج وقوله فيه: إن الملائكة المقرَّبين والملائكة الكروبيين لما سمعت فضائل عليّ وخاصته وقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"؟ "اشتاقت إلى عليّ فخلق الله لها مَلَكاً على صورة عليّ".
فالجواب: أن هذا من كذب الجُهّال الذين لا يحسنون أن يكذبوا فإن المعراج كان بمكة قبل الهجرة بإجماع الناس، كما قال تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير } [الإسراء: 1].
وكان الإسراء من المسجد الحرام. وقال: { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } [النجم: 1-4] إلى قوله: { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى } [النجم: 12-14] إلى قوله: { أَفَرَأيْتُمُ الَّلاَتَ وَالعُزَّى } [النجم: 19] وهذا كله نزل بمكة بإجماع الناس.
__________
(1) هذه العبارة في حديث العباس رضي الله عنه: مسلم 3/1398؛ المسند (ط. المعارف) 3/208 .(17/133)
وقوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"؟ قاله في غزوة تبوك، وهي آخر الغزوات عام تسعٍ من الهجرة. فكيف يُقال: إن الملائكة ليلة المعراج سمعوا قوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"؟.
ثم قد علم أن الاستخلاف على المدينة مشترك، فكل الاستخلافات التي قبل غزوة تبوك وبعد تبوك كان يكون بالمدينة رجال من المؤمنين المطيعين يستخلف عليهم. وغزوة تبوك لم يكن فيها رجل مؤمن مطيع إلا من عذره الله ممن هو عاجز عن الجهاد، فكان المستخلف عليهم في غزوة تبوك أقل وأضعف من المستخلف عليهم في جميع أسفاره ومغازيه وعمره وحجه، وقد سافر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من المدينة قريباً من ثلاثين سفرة، وهو يستخلف فيها من يستخلفه، كما استخلف في غزوة الأبواء سعد بنُ عبادة، واستخلف في غزوة بُوَاط سعد بن معاذ(1)، ثم لما رجع وخرج في طلب كُرْز بن جابر الفِهري استخلف زيد بن حارثة(2)، واستخلف في غزوة العُشَيْرَة أبا سلمة بن عبد الأشهل(3)، وفي غزوة بدر استخلف ابن أم مكتوم(4)، واستخلفه في غزوة قَرْقَرَة
__________
(1) الذي في "سيرة ابن هشام" 2/248 وفي "جوامع السيرة، ص102 أن الذي استعمله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم على المدينة في غزوة بُوَاط هو السائب بن عثمان بن مظعون. ولكن يذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" 3/246: "وقال الواقدي: استخلف عليها سعد بن معاذ". وقال المقريزي في "إمتاع الأسماع" ص54: "واستخلف على المدينة سعد بن معاذ، وقيل: السائب بن عثمان بن مظعون".
(2) انظر في ذلك (وهذه غزوة بدر الأولى): البداية والنهاية 3/247؛ إمتاع الأسماع، ص54، ابن هشام 2/251.
(3) في: البداية والنهاية 3/346؛ إمتاع الأسماع ص55: ابن هشام 2/248؛ جوامع السيرة، ص102: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم استخلف في غزوة العشيرة على المدينة أبا سَلَمة بن عبد الأسد المخزومي.
(4) انظر في ذلك: جوامع السيرة، ص107؛ ابن هشام 2/263-264 .(17/134)
الكُدر(1)، ولما ذهب إلى بني سُليم، وفي غزوة حمراء الأسد، وغزوة بني النضير، وغزوة بني قريظة، واستخلفه لما خرج في طلب اللقاح التي استاقها عيينة بن حصن، ونودي ذلك اليوم: يا خيل الله اركبي وفي غزوة الحديبية، واستخلفه في غزوة الفتح، واستخلف أبا لبابة في غزوة بني قينقاع وغزوة السويق، واستخلف عثمان بن عفان في غزوة غطفان التي يقال لها غزوة أنمار، واستخلفه في غزوة ذات الرقاع، واستخلف ابن رواحة في غزوة بدر الموعد، واستخلف سباع بن عرفطة الغفاري في غزوة دومة الجندل وفي غزوة خَيْبر، واستخلف زيد بن حارثة في غزوة المريسيع، واستخلف أبا رهم في عمرة القضية، وكانت تلك الاستخلافات أكمل من استخلاف عليّ رضي الله عنه عام تبوك، وكلهم كانوا منه بمنزلة هارون من موسى، إذ المراد التشبيه في أصل الاستخلاف.
وإذا قيل: في تبوك كان السفر بعيداً.
قيل: ولكن كانت المدينة وما حولها أمناً، لم يكن هناك عدوّ يُخاف، لأنهم كلهم أسلموا، ومن لم يسلم ذهب. وفي غير تبوك كان العدو موجوداً حول المدينة، وكان يُخاف على من بها، فكان خليفته يحتاج إلى مزيد اجتهاد ولا يحتاج إليه في الاستخلاف في تبوك.
__________
(1) وتعرف بغزوة بني سُليم. قال ابن هشام 3/46 وابن حزم "جامع السيرة" ص152: واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم. وقال المقريزي في "إمتاع الأسماع"، ص107: واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم.(17/135)
وكذلك الحديث المذكور عن ابن عباس: أن المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم قال ذات يوم وهو نشيط: أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى" قال: فقوله أنا الفتى: يعني فتى العرب، وقوله: ابن الفتى، يعني إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، من قوله { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } [الأنبياء: 60] وقوله: أخو الفتى: يعني عليّاً، وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليّ".
فإن هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة الموضوعة باتفاق أهل المعرفة بالحديث(1)، وكذبه معروف من غير جهة الإسناد من وجوه.
منها: أن لفظ "الفتى" في الكتاب والسُّنَّة ولغة العرب ليس هو من أسماء المدح، كما ليس هو من أسماء الذم، ولكنه بمنزلة اسم الشاب والكهل والشيخ ونحو ذلك، والذين قالوا عن إبراهيم: سمعنا فتى يذكرهم يُقال له: إبراهيم، هم الكفار، ولم يقصدوا مدحه بذلك، وإنما الفتى كالشاب الحدَث.
ومنها: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أجلُّ من أن يفتخر بجده وابن عمه.
ومنها: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يؤاخ عليّاً ولا غيره، وحديث المؤاخاة لعليّ، ومؤاخاة أبي بكر لعمر من الأكاذيب. وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار، ولم يؤاخ بين مهاجريّ ومهاجريّ.
ومنها: أن هذه المناداة يوم بدر كذب.
__________
(1) لم أجد الجزء الأول من هذا الحديث الموضوع، وأما الجزء الأخير منه وهو: "لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ" فوصفه بالوضع وتكلم على الكذّابين من رواته كل من ابن الجوزي في "الموضوعات" 1/381-382؛ والسيوطي في "اللآلئ المصنوعة" 1/364-365؛ وعلي القارئ في "الأسرار المرفوعة" ص384-385؛ وابن عراق الكناني في "تنزيه الشريعة" 1/385؛ وابن العجلوني في "كشف الخفاء" 2/363-364.(17/136)
ومنها: أن ذا الفقار لم يكن لعليّ، وإنما كان سيفاً من سيوف أبي جهل غنمة المسلمون منه يوم بدر، فلم يكن يوم بدر ذو الفقار من سيوف المسلمين، بل من سيوف الكفّار، كما روى ذلك أهل السنن. فروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم تنفل سيفه ذا الفَقَار يوم بدر(1).
ومنها: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان بعد النبوة كهلاً قد تعدّى سن الفتيان.
وأما حديث أبي ذر الذي رواه الرافضي فهو موقوف عليه ليس مرفوعاً، فلا يحتج به، مع أن نقله عن أبي ذر فيه نظر، ومع هذا فحب عليّ واجب، وليس ذلك من خصائصه، بل علينا أن نحبه، كما علينا أن نحب عثمان وعمر وأبا بكر، وأن نحب الأنصار.
__________
(1) الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما في: سنن الترمذي 3/60-61 (كتاب السير، باب في النفل) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وهو في: سنن ابن ماجه 2/939 (كتاب الجهاد، باب السلاح). وجاء الحديث مطولاً في: المسند (ط. المعارف) 4/146-147. وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "إسناده صحيح.. والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ 4/11-12 من رواية البيهقي من طريق ابن وهب عن ابن أبي الزناد بأطول مما هنا.... ذو الفقار: بفتح الفاء، سمى بذلك لأنه كانت فيه حفر صغار حسان، والسيف المفقر: الذي فيه حزوز مطمئنة عن متنه".(17/137)
ففي الصحيح عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: ”آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار“(1) وفي صحيح مسلم عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: "إنه لعهد النبي الأميّ إليّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق"(2).
الفصل الثاني والعشرون
الرد على القول بأن حب عليّ حسنة لا تضر معها سيئة
قال الرافضي: "ومنها ما نقله صاحب "الفردوس" في كتابه عن معاذ بن جبل عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: "حب علي حسنة لا تضر معها سيئة وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة".
والجواب: أن كتاب "الفردوس" فيه من الأحاديث الموضوعات ما شاء الله، ومصنفه شيرويه بن شهردار الديلمي(3) وإن كان من طلبة الحديث ورواته، فإن هذه الأحاديث التي جمعها وحذف أسانيدها، نقلها من غير اعتبار لصحيحها وضعيفها وموضوعها؛ فلهذا كان فيه من الموضوعات أحاديث كثيرة جداً.
__________
(1) الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه في البخاري 5/32 (كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار)، مسلم 1/85 (كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار...)، المسند (ط. الحلبي) 3/130، 134، 249.
(2) الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في: مسلم 1/86 (كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان..)، سنن الترمذي 5/306 (كتاب المناقب، باب مناقب عليّ)، سنن ابن ماجه 1/42 (المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم..، فضل عليّ...)، المسند (ط. المعارف) 2/57. وهو في مواضع أخرى في المسند.
(3) هو شيرويه بن شهردار بن شيرويه بن فناخسرو، ولد سنة 445 وتوفي سنة 509، مؤرخ ومحدث، له "تاريخ همذان" و"فردوس الأخيار" وهو كتاب كبير في الحديث اختصره ابنه شهردار، واختصر المختصر ابن حجر العسقلاني. انظر ترجمة شيرويه في: شذرات الذهب 4/23-24؛ الأعلام 3/268 .(17/138)
وهذا الحديث مما يشهد المسلم بأن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لا يقوله(1)؛ فإن حب الله ورسوله أعظم من حب علي، والسيئات تضر مع ذلك. وقد كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يضرب عبد الله بن حمار في الخمر، وقال: "إنه يحب الله ورسوله"(2) وكل مؤمن فلابد أن يحب الله ورسوله والسيئات تضره. وقد أجمع المسلمون وعُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الشرك يضر صاحبه ولا يغفره الله لصاحبه، ولو أحب عليّ بن أبي طالب؛ فإن أباه أبا طالب كان يحبه وقد ضره الشرك حتى دخل النار، والغالية يقولون إنهم يحبونه وهم كفّار من أهل النار.
__________
(1) لم أجد هذا الحديث الموضوع ولكني وجدت حديثاً موضوعاً مقارباً ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" 1-37 وهو: "حب عليّ بن أبي طالب يأكل السيئات كما تأكل النار الحطب". وذكره أيضاً السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" 1/355 .
(2) سبق الحديث فيما مضى.(17/139)
وقد قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الصحيح: ”لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها“(1). وقد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو سرق لقُطعت يده وإن كان يحب عليّاً، ولو زنى أقيم عليه الحد ولو كان يحب عليّاً، ولو قتل لأقيد بالمقتول وإن كان يحب عليّاً. وحب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أعظم من حب عليّ، ولو ترك رجل الصلاة والزكاة وفعل الكبائر لضرّه ذلك مع حب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فكيف لا يضره ذلك مع حب علي؟.
ثم من المعلوم أن المحبّين له الذين رأوه وقاتلوا معه أعظم من غيرهم، وكان هو دائماً يذمّهم ويعيبهم ويطعن عليهم ويتبرأ من فعلهم به، ودعا الله عليهم أن يبدله بهم خيراً منهم، ويبدلهم به شرّاً منه، ولو لم تكن إلا ذنوبهم بتخاذلهم في القتال معه ومعصيتهم لأمره – فإذا كان أولئك خيار الشيعة وعليّ يبين أن تلك الذنوب تضرهم – فكيف بما هو أعظم منها لمن هو شر من أولئك ؟!
وبالجملة فهذا القول كفر ظاهر يُستتاب صاحبه، ولا يجوز أن يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر.
__________
(1) الحديث عن عائشة رضي الله عنها، وجاء في البخاري في ثلاثة مواضع: 5/23 (كتاب فضائل أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، باب ذكر أسامة بن زيد)، 4/175 (كتاب الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان..) ونصه فيه:... أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت... وفيه:... فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ”أتشفع في حد من حدود الله“؟ ثم قام فاختطب ثم قال: ”إنما أهلك الذين قبلكم...“، الحديث وهو في: البخاري 8/160 (كتاب الحدود، باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع)؛ مسلم 3/1315-1316 (كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره...)؛ سنن أبي داود 4/188 (كتاب الحدود، باب في الحد يشفع فيه) وجاء الحديث في: سنن الترمذي وابن ماجه والنسائي والدارمي ومسند أحمد.(17/140)
وكذلك قوله: "وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة" فإن من أبغضه إن كان كافراً فكفره هو الذي أشقاه، وإن كان مؤمناً نفعه إيمانه وإن أبغضه.
وكذلك الحديث الذي ذكره عن ابن مسعود أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: حب آل محمد يوماً خير من عبادة سنة، ومن مات عليه دخل الجنة وقوله عن عليّ: أنا وهذا حجة الله على خلقه – هما حديثان موضوعان عند أهل العلم بالحديث(1). وعبادة سنة فيها الإيمان والصلوات الخمس كل يوم وصوم شهر رمضان، وقد أجمع المسلمين على أن هذا لا يقوم مقامه حب آل محمد شهراً، فضلاً عن حبهم يوماً.
وكذلك حجة الله على عباده قامت بالرسل فقط. كما قال تعالى: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء: 165]. ولم يقل: بعد الرسل والأئمة أو الأوصياء أو غير ذلك.
وكذلك قوله: "لو اجتمع الناس على حب عليّ لم يخلق الله النار" من أبين الكذب باتفاق أهل العلم والإيمان، ولو اجتمعوا على حب عليّ لم ينفعهم ذلك حتى يؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويعملوا صالحاً، وإذا فعلوا ذلك دخلوا الجنة وإن لم يعرفوا عليّاً بالكلية، ولم يخطر بقلوبهم لا حبه ولا بغضه.
قال الله تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 112].
__________
(1) لم أجد الحديث الأول. أما الحديث الثاني فقد وصفه بالوضع وتكلم على رواته الوضاعين كل من: ابن الجوزي في "الموضوعات" 1/382-383؛ والسيوطي في "اللآلئ المصنوعة" 1/365-366؛ والشوكاني في "الفوائد المجموعة" ص373. ولم ينقل ابن تيمية كعادته كلام ابن المطهر بنصه ثم يرد عليه ولكنه ذكر كلامه هنا مباشرة مع الرد عليه في نفس الوقت.(17/141)
وقال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [النساء: 69].
وقال تعالى: { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133-136] فهؤلاء في الجنة، ولم يشترط عليهم ما ذكروه من حب علي.
وكذلك قوله تعالى: { إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلاّ الْمُصَلِّينَ } [المعارج: 19-22] إلى قوله: { أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } [المعارج: 35] وأمثال ذلك، ولم يشترط حب علي.
وقد قَدِم على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عدة وفود، وآمنوا به، وآمن به طوائف ممن لم يره، وهم لم يسمعوا بذكر عليّ ولا عرفوه، وهم من المؤمنين المتقين المستحقين للجنة. وقد اجتمع على دعوى حبه الشيعة الرافضة والنصيرية والإسماعيلية، وجمهور هم من أهل النار بل مخلّدون في النار.
الفصل الثالث والعشرون
الرد على القول برد الشمس على عليّ(17/142)
قال الرافضي: "رجوع الشمس له مرتين: إحداهما: في زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم. والثانية: بعده. أما الأولى فروي جابر وأبو سعيد الخدري أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نزل عليه جبريل يوماً يناجيه من عند الله فلما تغشّاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين، فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس، فصلّى عليّ العصر بالإيماء، فلما استيقظ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال له: سل الله تعالى يرد عليك الشمس لتصلي العصر قائماً، فدعا، فرُدّت الشمس، فصلّى العصر قائماً.
وأما الثانية: فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابهم، وصلَّى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر، وفات كثير منهم، فتكلّموا في ذلك، فسأل الله رد الشمس فردت. ونظمه الحميري فقال:
رُدّت عليه الشمسُ لما فاتَهُ
وقتُ الصلاةِ وقد دنت للمَغْرِبِ
حتى تبلّجَ نورُها في وقتِها
للعصرِ ثم هَوَتْ هُوِيَّ الكوكبِ
وعليه قد رُدَّت ببابلَ مرةً
أخرى وما رُدت لخَلْقٍ مُعْرِبِ(17/143)
والجواب: أن يقال: فضل عليّ وولايته لله وعلو منزلته عند الله معلوم، ولله الحمد، من طرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني، لا يُحتاج معها إلى كذب ولا إلى ما لا يُعلم صدقه. وحديث الشمس له قد ذكره طائفة، كالطحاوي والقاضي عياض وغيرهما، وعدُّوا ذلك من معجزات النبي صلَّى الله عليه وسلَّم. لكن المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع، كما ذكره ابن الجوزي في كتاب "الموضوعات"(1) فرواه من كتاب أبي جعفر العقيلي في الضعفاء، من طريق عبيد الله بن موسى، عن فضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، عن فاطمة بنت الحُسين، عن أسماء بنت عُميس، قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يُوحى إليه ورأسه في حجر عليّ فلم يصل العصر حتى غربت الشمس(2)، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: صليت يا عليّ؟ قال: لا(2)، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس. فقالت أسماء: فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت". قال أبو الفرج(3): "هذا حديث موضوع بلا شك، وقد اضطرب الرواة فيه، فرواه سعيد بن مسعود، عن عبيد الله بن موسى، عن فضيل بن مرزوق، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن عليّ بن الحسين(4)، عن فاطمة بنت علي(5)، عن أسماء". قال(6): "وفضيل بن مرزوق ضعّفه يحيى، وقال أبو حاتم بن حبّان: يروي الموضوعات ويخطئ على الثقات(7). قال أبو الفرج: "وهذا الحديث مداره على عبيد الله بن موسى عنه"(8)
__________
(1) الموضوعات 1/355-357 .
(2) ما بين النجمتين ساقط من "الموضوعات" وموجود في "تنزيه الشريعة"، "اللآلئ المصنوعة"، "الفوائد المجموعة".
(3) ص 356 .
(4) الموضوعات: عن علي بن الحسن.
(5) ترجمة فاطمة بنت علي بن أبي طالب في تهذيب التهذيب 12/443، الأعلام 5/328 .
(6) أي ابن الجوزي بعد ثلاثة أسطر.
(7) هذه العبارات ساقطة من "الموضوعات".
(8) هذه العبارات ساقطة من "الموضوعات".(17/144)
.
قلت: والمعروف أن سعيد بن مسعود رواه عن عبيد الله بن موسى، عن فضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسن، عن فاطمة بنت الحسين، عن أسماء. ورواه محمد بن مرزوق، عن حسين الأشقر، عن عليّ بن عاصم، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار(1)، عن عليّ بن الحسين، عن فاطمة بنت عليّ، عن أسماء، كما سيأتي ذكره. قال أبو الفرج(2): "وقد روى هذا الحديث ابن شاهين، حدثنا(3) أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي، حدثنا(4) عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي، عن عروة بن عبد الله بن قشير قال: دخلت على فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب فحدثتني أن أسماء بنت عميس حدثتها أن علي بن أبي طالب. وذكر حديث رجوع الشمس. قال أبو الفرج(5): "وهذا حديث باطل. أما عبد الرحمن بن شريك، فقال أبو حاتم(6): هو واهي الحديث. قال: وأنا لا أتهم بهذا الحديث إلا ابن عقدة(7)، فإنه كان رافضياً يحدّث بمثالب الصحابة" "قال أبو أحمد بن عدي الحافظ سمعت أبا بكر بن أبي طالب(8) يقول: ابن عقدة لا يتدين بالحديث، كان يحمل شيوخاً(9) بالكوفة على الكذب، يسوّي لهم نسخاً، ويأمرهم أن يرووها، وقد بيّنّا ذلك منه في غير نسخة(10)، *وسئل عنه الدارقطني فقال: رجل سوء. قال أبو الفرج: وقد رواه ابن مردويه من حديث داود بن فراهيج عن أبي هريرة، قال: وداود ضعيف ضعّفه
__________
(1) ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار في: تهذيب التهذيب 6/206-207 .
(2) الموضوعات 1/356 .
(3) الموضوعات: قال: حدثنا.
(4) الموضوعات: قال: حدثنا.
(5) بعد كلامه السابق مباشرة.
(6) الموضوعات: أبو حاتم الرازي.
(7) الموضوعات: قال المصنف قلت وأما أنا فلا أتهم بهذا إلا ابن عقدة.
(8) هذه العبارات في "الموضوعات" 1/357 بعد كلامه السابق بسبعة أسطر فيه: وقال ابن عدي سمعت أبا بكر بن أبي غالب.
(9) الموضوعات: لأنه كان يحمل شيوخنا...
(10) الموضوعات: وقد تيقّنّا ذلك منه في غير شيخ بالكوفة.(17/145)
شعبة"*(1).
قلت: فليس في هؤلاء من يُحتج به فيما دون هذا.
وأما الثاني ببابل فلا ريب أن هذا كذب. وإنشاد الحميري لا حجة فيه، لأنه لم يشهد ذلك، والكذب قديم، فقد سمعه فنظمه وأهل الغلو في المدح والذم ينظمون ما لا تتحقق صحته، لا سيما والحميري معروف بالغلو(2).
__________
(1) الكلام بين النجمتين في "الموضوعات" ولكن اختلف ترتيبه واختلفت بعض ألفاظه. وهذا الحديث الموضوع في: تنزيه الشريعة 1/378-382؛ اللآلئ المصنوعة 1/336-338؛ الفوائد المجموعة، ص350 .
(2) أبو هاشم – أو أبو عامر – إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري، شاعر رافضي ولد سنة 105 واختلف في وفاته، قيل: إنه توفي سنة 173 وقيل سنة 178 وقيل سنة 179. قال عنه ابن حجر: "كان رافضياً خبيثاً. قال الدارقطني: كان يسب السلف في شعره ويمدح عليّاً رضي الله عنه". وعده الشهرستاني من المختارية الكيسانية أصحاب المختار بن أبي عبيد الثقفي القائلين بإمامة محمد بن الحنفية بعد علي رضي الله عنه. انظر ترجمته ومذهبه في: لسان الميزان 1/436-438؛ فوات الوفيات 1/32-36؛ البداية والنهاية 1-/173-174؛ روضات الجنات، ص29-31؛ الأعلام 1/320-321، الملل والنحل 1/133-134 .(17/146)
وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي هريرة قال: "غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد مَلَك بُضع امرأة يريد أن يبني بها ولما يبن، ولا رجل قد بنى بيتاً ولم يرفع سقفه، ولا رجل اشترى غنماً – أو خلفات – وهو ينتظر ولادها، قال: فغزوا، فدنا من القرية، حتى صلى العصر قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها عليّ شيئاً، فحُبست عليه حتى فتح الله عليه" الحديث(1).
فإن قيل: فهذه الأمة أفضل من بني إسرائيل، فإذا كانت قد رُدّت ليوشع، فما المانع أن ترد لفضلاء هذه الأمة ؟
فيقال: يوشع لم تُرد له الشمس، ولكن تأخر غروبها: طُوّل له النهار، وهذا قد لا يظهر للناس، فإن طول النهار وقصره لا يدرك ونحن إنما علمنا وقوفها ليوشع بخبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأيضاً لا مانع من طول ذلك، لو شاء الله لفعل ذلك. لكن يوشع كان محتاجاً إلى ذلك، لأن القتال كان محرماً عليه بعد غروب الشمس، لأجل ما حرّم الله عليهم من العمل ليلة السبت ويوم السبت. وأما أمة محمد فلا حاجة لهم إلى ذلك، ولا منفعة لهم فيه، فإن الذي فاتته العصر إن كان مفرّطاً لم يسقط ذنبه إلا بالتوبة، ومع التوبة لا يحتاج إلى رد، وإن لم يكن مفرّطاً، كالنائم والناسي فلا ملام عليه في الصلاة بعد الغروب.
وأيضاً فبنفس غروب الشمس خرج الوقت المضروب للصلاة، فالمصلّى بعد ذلك لا يكون مصلّياً في الوقت الشرعي ولو عادت الشمس.
__________
(1) الحديث – مع اختلاف الألفاظ – عن أبي هريرة رضي الله عنه في موضعين في: البخاري 4/86 (كتاب فرض الخمس، باب حدثنا أبو اليمان..)، 7/12 (كتاب النكاح، باب من أحب البناء قبل الغزو). وجاء في هذا الموضع مختصراً. والحديث أيضاً في: مسلم 3/1366-1367 (كتاب الجهاد والسير، باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة)؛ المسند (ط. المعارف) 16/102-103 .(17/147)
وقول الله تعالى: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [طه: 130] يتناول الغروب المعروف، فعلى العبد أن يصلّي قبل هذا الغروب، وإن طلعت ثم غربت. والأحكام المتعلقة بغروب الشمس حصلت بذلك الغروب، فالصائم يفطر، ولو عادت بعد ذلك لم يبطل صومه، مع أن هذه الصورة لا تقع لأحد، ولا وقعت لأحد، فتقريرها تقدير ما لا وجود له. ولهذا لا يوجد الكلام على حكمٍ مثل هذا في كلام العلماء المفرِّعين.
وأيضاً فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم فاتته العصر يوم الخندق، فصلاّها قضاءً، هو وكثير من أصحابه، ولم يسأل الله ردّ الشمس.
وفي الصحيح أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال لأصحابه بعد ذلك، لما أرسلهم إلى بني قريظة: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فلما أدركتهم الصلاة في الطريق قال بعضهم: لم يرد منا تفويت الصلاة فصلّوا في الطريق، فقالت طائفة: لا نصلّي إلا في بني قريظة، فلم يعنف واحدةً من الطائفتين(1).
فهؤلاء الذين كانوا مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلّوا العصر بعد غروب الشمس، وليس عليّ بأفضل من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فإذا صلاّها هو وأصحابه معه بعد الغروب، فعليّ وأصحابه أولى بذلك.
فإن كانت الصلاة بعد الغروب لا تجزئ أو ناقصة تحتاج إلى رد الشمس، كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أولى برد الشمس، وإن كانت كاملةً مُجزئة فلا حاجة إلى ردها.
وأيضاً فمثل هذه القضية من الأمور العظام الخارجة عن العادة التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها، فإذا لم ينقلها إلا الواحد والاثنان عُلم بيان كذبهم في ذلك.
__________
(1) الحديث مع اختلاف يسير في الألفاظ – عن ابن عمر رضي الله عنهما في: البخاري 5/112 (كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من الأحزاب....) 2/15 مسلم 3/1391 (كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو...) وفيه: أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة.(17/148)
وانشقاق القمر كان بالليل وقت نوم الناس، ومع هذا فقد رواه الصحابة من غير وجه، وأخرجوه في الصحاح والسنن والمساند من غير وجه(1)، ونزل به القرآن، فكيف برد الشمس التي تكون بالنهار، ولا يشتهر ذلك، ولا ينقله أهل العلم نقله مثله ؟!
ولا يعرف قط أن الشمس رجعت بعد غروبها، وإن كان كثير من الفلاسفة والطبيعيين وبعض أهل الكلام ينكر انشقاق القمر، وما يشبه ذلك، فليس الكلام في هذا المقام. لكن الغرض أن هذا من أعظم خوارق العادات في الفَلَك، وكثير من الناس ينكر إمكانه، فلو وقع لكان ظهوره ونقله أعظم من ظهور ما دونه ونقله، فكيف يُقبل وحديثه ليس له إسناد مشهور، فإن هذا يوجب العلم اليقيني بأنه كذب لم يقع.
__________
(1) جاءت أحاديث عديدة ذكرت انشقاق القمر عن عدد من الصحابة منها في: البخاري 4/206-207 (كتاب المناقب، باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم آية فأراهم انشقاق القمر) وفي هذا الباب عن عبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وابن عباس رضي الله عنهم. وتكررت هذه الأحاديث في: البخاري 5/49 (كتاب مناقب الأنصار، باب انشقاق القمر) ونص حديث أنس هو: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يريهم آية فأراهم القمر شِقّين حتى رأوا حراء بينهما. وأما حديث عبد الله بن مسعود فهو: انشق القمر ونحن مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بمنى فقال: "اشهدوا" وذهبت فرقة نحو الجبل. وأما حديث ابن عباس فهو: أن القمر انشق على زمان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وجاءت أحاديث انشقاق القمر أيضاً في: البخاري 6/142-143 (كتاب التفسير، سورة اقتربت الساعة)؛ مسلم 4/2158-2159 (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب انشقاق القمر)؛ سنن الترمذي 5/71-73 (كتاب التفسير، سورة القمر) وفي هذا الباب أيضاً عن ابن عمر وجبير بن مطعم وأبي هريرة رضي الله عنهم؛ المسند (ط. المعارف) 5/304، 6/12، 135، (ط. الحلبي) 3/165، 220، 275، 4/81-82 .(17/149)
وإن كانت الشمس احتجبت بغيم، ثم ارتفع سحابها، فهذا من الأمور المعتادة، ولعلهم ظنوا أنها غربت، ثم كشف الغمام عنها.
وهذا وإن كان قد وقع، ففيه أن الله بيّن له بقاء الوقت حتى يصلّي فيه. ومثل هذا يجري لكثير من الناس.
وهذا الحديث قد صنّف فيه مصنّف جمعت فيه طرقه، صنّفه أبو القاسم عبد الله بن عبد الله بن أحمد الحكاني سماه "مسألة في تصحيح رد الشمس وترغيب النواصب الشمس"(1) وقال: هذا حديث رُوي عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من طريق أسماء بنت عُميس الخثعمية، ومن طريق أمير المؤمنين عليّ بين أبي طالب، ومن طريق أبي هريرة وأبي سعيد. وذكر حديث أسماء من طريق محمد بن أبي فديك. قال: أخبرني محمد بن موسى – وهو القطري – عن عون بن محمد، عن أمه – أم جعفر – عن جدتها أسماء بنت عميس أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلّى الظهر، ثم أرسل عليّاً في حاجة، فرجع وقد صلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، يعني العصر، فوضع رأسه في حِجر عليّ ولم يحركه حتى غابت الشمس، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: اللهم إن عبدك عليّاً في طاعتك وطاعة رسولك احتبس نفسه على نبيّه، فرد عليه شرقها. قالت أسماء: فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال، فقام عليّ فتوضأ وصلى العصر، ثم غابت الشمس".
__________
(1) لم أجد فيما بين يدي من مراجع شيئاً عن المؤلف أو عن الكتاب.(17/150)
قال أبو القاسم المصنّف: "أم جعفر هذه هي أم محمد بن جعفر بن أبي طالب، والراوي عنها هو ابنها عون بن محمد بن عليّ، المعروف: أبوه محمد بن الحنفية، والراوي عنه هو محمد بن موسى المديني، المعروف بالقطري: محمود في روايته ثقة. والراوي عنه محمد بن إسماعيل بن أبي فديك المدني: ثقة. وقد رواه عنه جماعة: منهم هذا الذي ذكرت روايته، وهو أحمد بن الوليد الأنطاكي، وقد رواه عنه نفر منهم أحمد بن عمير بن حوصاء، وذكره بإسناده من طريقه، وفيه أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلّى الظهر بالصهباء، ثم أرسل عليّاً في حاجة، فرجع وقد صلّى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم العصر، فوضع رأسه في حِجر عليّ، فلم يحركه حتى غربت الشمس، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: اللهم إن عبدك عليّاً احتبس نفسه على نبيه، فرد عليه شرقها. قالت أسماء: فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض، فقام عليّ وتوضأ وصلّى العصر وذلك في الصهباء في غزوة خيبر.
قال: ومنهم أحمد بن صالح المصري، عن ابن أبي فديك، رواه أبو جعفر الطحاوي في كتاب "تفسير متشابه الأخبار" من تأليفه من طريقه.
ومنهم الحسن بن داود عن ابن أبي فديك، وذكره بإسناده، ولفظه: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلّى الظهر بالصهباء من أرض خيبر، ثم أرسل عليّاً في حاجة، فرجع وقد صلّى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم العصر، فوضع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأسه في حِجر عليّ، فلم يحركه حتى غربت الشمس، فاستيقظ. وقال: يا علي صليت العصر؟ قال: لا. وذكره. قال: ويرويه عن أسماء فاطمة بنت الحسين الشهيد.(17/151)
ورواه من طريق أبي جعفر الحضرمي، حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا حسين الأشقر، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسن، عن فاطمة، عن أسماء بنت عميس، قالت: نزل جبريل على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بعدما صلّى العصر، فوضع رأسه – أو خده: لا أدري أيهما قال - في حِجر عليّ، ولم يصل العصر حتى غابت الشمس" وذكره.
قال المصنف: "ورواه عن فضيل بن مرزوق جماعة، منهم عبيد الله بن موسى العبسي. ورواه الطحاوي من طريقه، ولفظه: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يُوحى إليه ورأسه في حِجر عليّ، فلم يصل العصر حتى غابت الشمس.
ورواه أيضاً من حديث عمّار بن مطر، عن فضيل بن مرزوق، من طريق أبي جعفر العقيلي صاحب كتاب "الضعفاء".
قلت: وهذا اللفظ يناقض الأول، ففيه أنه نام في حِجره من صلاة العصر إلى غروب الشمس، وأن ذلك في غزوة خيبر بالصهباء. وفي الثاني أنه كان مستيقظاً يُوحِي إليه جبريل، ورأسه في حِجر عليّ حتى غربت الشمس. وهذا التناقض يدل على أنه غير محفوظ، لأن هذا صرح بأنه كان نائماً هذا الوقت، وهذا قال: كان يقظان يُوحى إليه، وكلاهما باطل؛ فإن النوم بعد العصر مكروه منهي عنه، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم تنام عيناه ولا ينام قلبه، فكيف تفوت عليّاً صلاة العصر ؟
ثم تفويت الصلاة بمثل هذا، إما أن يكون جائزاً، وإما أنه لا يجوز. فإن كان جائزاً لم يكن على عليّ إثم إذا صلّى العصر بعد الغروب، وليس عليّ أفضل من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم فاتته العصر يوم الخندق حتى غربت الشمس، ثم صلاّها، ولم ترد عليه الشمس، وكذلك لم ترد لسليمان لما توارت بالحجاب.
وقد نام النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ومعه عليّ وسائر الصحابة عن الفجر حتى طلعت الشمس، ولم ترجع لهم إلى الشرق.(17/152)
وإن كان التفويت محرّماً، فتفويت العصر من الكبائر. وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ”من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِر أهله وماله“(1).
وعليّ كان يعلم أنها الوسطى، وهي صلاة العصر. وهو قد روي عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الصحيحين لما قال: ”شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، حتى غربت الشمس، ملأ الله أجوافهم وبيوتهم ناراً“(2) وهذا كان في الخندق، وخيبر بعد الخندق.
فعليّ أجلّ قدراً من أن يفعل مثل هذه الكبيرة، ويقرّه عليها جبريل ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. ومن فعل هذا كان من مثالبه لا من مناقبه، وقد نزّه الله عليّاً عن ذلك. ثم إذا فاتت لم يسقط الإثم عنه بعود الشمس.
وأيضاً فإذا كانت هذه القصة في خيبر في البرّيّة قدّام العسكر والمسلمون أكثر من ألف وأربعمائة، كان هذا مما يراه العسكر ويشاهدونه. ومثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فيمتنع أن ينفرد بنقله الواحد والاثنان، فلو نقله الصحابة لنقله منهم أهل العلم، كما نقلوا أمثاله، لم ينقله المجهولون الذين لا يُعرف ضبطهم وعدالتهم.
__________
(1) الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: الذي تفوته صلاة العصر.. إلخ في: البخاري 1/111 (كتاب المواقيت، باب إثم من فاتته العصر)، مسلم 1/435 (كتاب المساجد...، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر)، 1/436 (بلفظ: من فاتته...) والحديث في مواضع أخرى في البخاري ومسلم وفي كتب السنن وفي الموطأ والمسند.
(2) الحديث عن عليّ رضي الله عنه في: البخاري 4/43-44 (كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة...)؛ مسلم 1/436-437 (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر، باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر) الأحاديث 202-206؛ سنن الترمذي 4/286 (كتاب التفسير، سورة البقرة حديث 4068)؛ المسند (ط. المعارف) 2/31، 46، 177، 213 .(17/153)
وليس في جميع أسانيد هذا الحديث إسناد واحد يثبت، تُعلم عدالة ناقليه وضبطهم ولا يعلم اتصال إسناده.
وقد قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عام خيبر: ”لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله“(1) فنقل ذلك غير واحد من الصحابة وأحاديثهم في الصحاح والسنن والمساند.
وهذا الحديث ليس في شيء من كتب الحديث المعتمدة: لا رواه أهل الصحيح ولا أهل السنن ولا المساند أصلاً، بل اتفقوا على تركه والإعراض عنه، فكيف يكون مثل هذه الواقعة العظيمة، التي هي لو كانت حقّاً من أعظم المعجزات المشهورة الظاهرة، ولم يروها أهل الصحاح والمساند، ولا نقلها أحد من علماء المسلمين وحفاظ الحديث، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة !!
والإسناد الأول رواه القطري، عن عون، عن أمه، عن أسماء بنت عميس. وعون وأمه ليسا ممن يُعرف حفظهم وعدالتهم، ولا من المعروفين بنقل العلم، ولا يُحتج بحديثهم في أهون الأشياء، فكيف في مثل هذا؟ ولا فيه سماع المرأة من أسماء بنت عميس، فلعلها سمعت من يحكيه عن أسماء فذكرته.
وهذا المصنف ذكر عن ابن أبي فديك أنه ثقة، وعن القطري أنه ثقة، ولم يمكنه أن يذكر عمن بعدهما أنه ثقة، وإنما ذكر أنسابهم ومجرد المعرفة بنسب الرجل لا تُوجب أن يكون حافظاً ثقة.
__________
(1) جاء الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن جماعة من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأبو بريدة وسلم رضي الله عنهم في: البخاري 5/18 (كتاب فضائل أصحاب النبي، باب مناقب علي بن أبي طالب)، مسلم 4/1871-1872 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب)، الترمذي 5/301-302 (كتاب المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب)، سنن ابن ماجه 1/43-44 (المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله...، فضل علي ...)، المسند (ط. المعارف) 3/97-98، (ط. الحلبي) 5/353-354، 358-359 .(17/154)
وأما الإسناد الثاني فمداره على فُضيل بن مرزوق، وهو معروف بالخطأ على الثقات، وإن كان لا يتعمّد الكذب(1). قال فيه ابن حبان: يخطئ على الثقات ويروي عن عطية الموضوعات(2) وقال فيه أبو حاتم الرازي(3): لا يحتج به. وقال فيه يحيى بن معين مرة: هو ضعيف. وهذا لا يناقضه قول أحمد بن حنبل فيه: لا أعلم إلا خيراً، وقول سفيان: هو ثقة، وقول يحيى مرة: هو ثقة فإنه ليس ممن يتعمد الكذب، ولكنه يخطئ، وإذا روى له مسلمُ ما تابعه غيره عليه، لم يلزم أن يُروى ما انفرد به، مع أنه لم يُعرف سماعه عن إبراهيم، ولا سماع إبراهيم من فاطمة، ولا سماع فاطمة من أسماء.
ولابد في ثبوت هذا الحديث من أن يعلم أن كلاًّ من هؤلاء عدل ضابط، وأنه سمع من الآخر. وليس هذا معلوماً، وإبراهيم هذا لم يرو له أهل الكتب المعتمدة – كالصحاح والسنن – ولا له ذكر في هذه الكتب، بخلاف فاطمة بنت الحسين، فإن لها حديثاً معروفاً، فكيف يُحتج بحديث مثل هذا؟ ولهذا لم يروه أحد من علماء الحديث المعروفين في الكتب المعتمدة.
__________
(1) فضيل بن مرزوق الأغر الراقشي الكوفي. ترجمته في: تهذيب التهذيب 7/298-300؛ ميزان الاعتدال 3/362-363. وقال الذهبي عنه: "وثّقه سفيان بن عيينه وابن معين، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس، وقال النسائي: ضعيف وكذا ضعفه عثمان بن سعيد. قلت: وكان معروفاً بالتشيع من غير سبّ".
(2) ذكر هذه العبارات نقلاً عن ابن حبّان ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 7/299 .
(3) في كتابه "الجرح والتعديل" ق2 م3 ص75 (ط. حيدر آباد 1361/ 1942).(17/155)
وكون الرجل أبوه كبير القدر لا يوجب أن يكون هو من العلماء المأمونين على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يرويه عنه. وأسماء بنت عُميس كانت عند جعفر، ثم خلف عليها أبو بكر، ثم خلف عليها عليّ، ولها من كل من هؤلاء ولد، وهم يحبون عليّاً، ولم يرو هذا أحد منهم عن أسماء. ومحمد بن أبي بكر الذي في حِجر عليّ هو ابنها ومحبته لعليّ مشهورة، ولم يرو هذا عنها.
وأيضاً فاسماء كانت زوجة جعفر بن أبي طالب، وكانت معه في الحبشة، وإنما قدمت معه بعد فتح خيبر. وهذه القصة قد ذُكر أنها كانت بخيبر. فإن كانت صحيحة كان ذلك بعد فتح خيبر، وقد كان مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ممن شهد خيبر أهل الحديبية: ألف وأربعمائة، وازداد العسكر بجعفر وازداد العسكر ومن قَدِم معه من الحبشة، كأبي موسى الأشعري وأصحابه، والحبشة الذين قدموا مع جعفر في السفينة، وازدادوا أيضاً بمن كان معهم من أهل خيبر، فلم يرو هذا أحد من هؤلاء، وهذا مما يوجب القطع بأن هذا من الكذب المختلق.
والطعن في فضيل ومن بعده إذا تيقّن بأنهم رووه، وإلا ففي إيصاله إليهم نظر، فإن الراوي الأول من فُضيل: الحسين بن الحسن الأشقر الكوفي(1). قال البخاري: عنده مناكير. وقال النسائي وقال الدارقطني: ليس بالقوي. وقال الأزدي: ضعيف. وقال السعدي: حسين الأشقر غالٍ من الشاتمين للخِيرة. وقال ابن عدي: روى حديثاً منكراً، والبلاء عندي منه، وكان جماعة من ضعفاء الكوفة يحيلون ما يروون عنه من الحديث فيه(2).
__________
(1) ترجمته في: ميزان الاعتدال 1/531-532، تهذيب التهذيب 2/335-337. واسمه الكامل الحسين بن الحسن الأشقر الفزاري الكوفي. قال ابن حجر: "قال البخاري: فيه نظر، وقال مرة: عنده مناكير".
(2) في ميزان الاعتداء 1/531: "وقال ابن عدي: جماعة من الضعفاء يحيلون بالروايات على حسين الأشقر، على أن في حديثه بعض ما فيه. وذكر له مناكير، قال في أحدهما: البلاء عندي من الأشقر".(17/156)
وأما الطريق الثالث ففيه عمّار بن مطر، عن فضيل بن مرزوق. قال العُقيلي: يحدّث عن الثقات بالمناكير، وقال الرازي: كان يكذب، أحاديثه بواطل. وقال ابن عدي: متروك الحديث(1).
__________
(1) انظر ترجمة عمّار بن مطر ويكنى أبا عثمان الرهاوي في: ميزان الاعتدال 3/169-170، لسان الميزان 4/275-276. وقال ابن حجر بعد أن أورد حديث رد الشمس عن طريقه: "وقد روى ابن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "لن ترد الشمس إلا على يوشع بن نون". وقال الذهبي – ونقل عنه ابن حجر – عن عمّار بن مطر: "هالك وثقه بعضهم، ومنهم من وصفه بالحفظ". وقال الذهبي: "قال ابن حبان: كان يسرق الحديث، وقال العقيلي: يحدث عن الثقات بمناكير".
وذكر أبو حاتم الرازي في "الجرح والتعديل" م3 ق1 ص394 – ونقل كلامه الذهبي وابن حجر -: "كان يكذب".(17/157)
والطريق الأول من حديث عبيد الله بن موسى العبسي(1)، وفي بعض طرقه عن فُضيل، وفي بعضها: "حدثنا" فإذا لم يثبت أنه قال: "حدثنا" أمكن أن لا يكون سمعه، فإنه من الدعاة إلى التشيّع، الحراص على جمع أحاديث التشيع، وكان يروي الأحاديث في ذلك عن الكذابين، وهو من المعروفين بذلك. وإن كانوا قد قالوا فيه: ثقة، وإنه لا يكذب، فالله أعلم أنه هل كان يتعمد الكذب أم لا؟ لكنه كان يروي عن الكذابين المعروفين بالكذب بلا ريب. والبخاري لا يروي عنه إلا ما عُرف أنه من غير طريقه، وأحمد بن حنبل لم يرو عنه شيئاً. قال المصنف: وله روايات عن فاطمة سوى ما قدمنا(2).
ثم رواه بطريق مظلمة، يظهر أنها كذب لمن له معرفة منوطة بالحديث، فرواه من حديث أبي حفص الكتاني(3)، حدثنا محمد بن عمر القاضي – هو الجعاني – حدثنا محمد بن إبراهيم بن جعفر العسكري من أصل كتابه، حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم، حدثنا خلف بن سالم، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا سفيان الثوري، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أمه، عن فاطمة، عن أسماء أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم دعا لعلي حتى ردت عليه الشمس.
__________
(1) هو عبد الله بن موسى بن أبي المختار، واسمه باذام العبسي. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 7/50-53 وفيه: "وقال ابن سعد: مات في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة ومائتين... وقال الحاكم: سمعت قاسم بن قاسم السياري سمعت أبا مسلم البغدادي الحافظ يقول: عبيد الله بن موسى من المتروكين، تركه أحمد لتشيعه... وقال ابن قانع: كوفي صالح يتشيع، وقال الساجي: كان يفرط في التشيع". وقال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال 3/16: "... وقال أبو داود: كان شيعياً متحرقاً".
(2) انظر ما ذكرته عن عبيد الله بن موسى العبسي قبل قليل.
(3) لم أجد الرجل فيما بين يديّ من مراجع.(17/158)
وهذا مما لا يقبل نقله إلا ممن عُرف عدالته وضبطه، لا من مجهول الحال، فكيف إذا كان مما يعلم أهل الحديث أن الثوري لم يحدّث به، ولا حدّث به عبد الرزاق. وأحاديث الثوري وعبد الرزاق يعرفها أهل العلم بالحديث، ولهم أصحاب يعرفونها. ورواه خلف بن سالم. ولو قُدِّر أنهم رووه فأم أشعث مجهولة لا يقوم بروايتها شيء.
وذكر طريقاً ثانياً من طريق محمد بن مرزوق، حدثنا حسين الأشقر، عن عليّ بن هاشم، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن علي بن الحسين، عن فاطمة بنت عليّ، عن أسماء بنت عُميس .... الحديث.
قلت: وقد تقدّم كلام العلماء في حسين الأشقر، فلو كان الإسناد كلهم ثقات، والإسناد متصل، لم يثبت بروايته شيء، فكيف إذا لم يثبت ذلك؟ وعليّ بن هاشم بن البريد. قال البخاري: هو وأبوه غاليان في مذهبهما. وقال ابن حبان: كان غالياً في التشيع، يروي المناكير عن المشاهير(1). وإخراج أهل الحديث لما عرفوه من غير طريقه لا يوجب أن يثبت ما انفرد به.
ومن العجب أن هذا المصنف جعل هذا والذي بعده من طريق رواية فاطمة بنت الحسين. وهذه فاطمة بنت عليّ لا بنت الحسين.
وكذلك ذكر الطريق الثالث عنها: من رواية عبد الرحمن بن شريك، حدثنا أبي، عن عروة بن عبد الله، عن فاطمة بنت عليّ، عن أسماء، عن علي بن أبي طالب، رُفع إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد أوحي إليه فجلله بثوبه، فلم يزل كذلك حتى أدبرت الشمس. يقول: غابت أو كادت تغيب، وأن نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم سُرِّي عنه، فقال: أصليت يا علي؟ قال: لا. قال: اللهم ردّ على عليّ الشمس فرجعت الشمس حتى بلغت نصف المسجد.
__________
(1) انظر هذا الأقوال وغيرها من علي بن هاشم بن البريد في: ميزان الاعتدال 3/160، تهذيب التهذيب: 7/392-293 .(17/159)
فيقتضي أنها رجعت إلى قريب وقت العصر، وأن هذا كان بالمدينة. وفي ذاك الطريق أنه كان بخيبر، وأنها إنما ظهرت على رؤوس الجبال. وعبد الرحمن بن شريك. قال أبو حاتم الرازي: هو واهي الحديث، وكذلك قد ضعّفه غيره.
ورواه من طريق رابع من حديث محمد بن عمر القاضي – وهو الجعاني – عن العباس بن الوليد عن عباد وهو الرواجني حدثنا عليّ بن هاشم، عن صباح بن عبد الله بن الحسين أبي جعفر عن حسين المقتول، عن فاطمة، عن أسماء بنت عُميس قال: كان يوم خيبر شَغَل عليّاً ما كان من قَسْم المغانم، حتى غابت الشمس أو كادت. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أما صليت؟ قال: لا. فدعا الله فارتفعت حتى توسطت السماء، فصلّى عليّ، فلما غابت الشمس سمعت لها صريراً كصرير المنشار في الحديد.
وهذا اللفظ الرابع بناقض الألفاظ الثلاثة المتناقضة، وتبين أن الحديث لم يروه صادق ضابط، بل هو في نفس الأمر مما اختلقه واحد وعملته يداه، فتشبه به آخر، فاختلق ما يشبه حديث ذلك. والقصة واحدة. وفي هذا أن عليّاً إنما اشتغل بقسم المغانم لا برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وعليّ لم يقسم مغانم خيبر، ولا يجوز الاشتغال بقسمتها عن الصلاة، فإن خيبر بعد الخندق، سنة سبع، وبعد الحديبية، سنة ست. وهذا من المتواتر عن أهل العلم.
والخندق كانت قبل ذلك، إما سنة خمس أو أربع، وفيها أنزل الله تعالى: { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } [البقرة: 238]، ونُسخ التأخير بها يوم الخندق، مع أنه كان للقتال عند أكثر أهل العلم. ومن قال: إنه لم ينسخ، بل يجوز التأخير للقتال، كأبي حنيفة وأحمد – في إحدى الروايتين – فلم يتنازع العلماء أنه لم يجز تفويت الصلاة لأجل قسم الغنائم، فإن هذا لا يفوت، والصلاة تفوت.(17/160)
وفي هذا أنها توسطت المسجد، وهذا من الكذب الظاهر، فإن مثل هذا من أعظم غرائب العالم، التي لو جرت لنقلها الجم الغفير. وفيه أنها لما غابت سُمع لها صرير كصرير المنشار، وهذا أيضاً من الكذب الظاهر، فإن هذا لا موجب له أيضاً، والشمس عند غروبها لا تلاقي من الأجسام ما يوجب هذا الصوت، الذي يصل من الفلك الرابع إلى الأرض. ثم لو كان هذا حقّاً لكان من أعظم عجائب العالم التي تنقلها الصحابة، الذين نقلوا ما هو دون هذا مما كان في خيبر وغير خيبر.
وهذا الإسناد لو رُوي به ما يمكن صدقه لم يثبت به شيء، فإن عليّ بن هاشم بن البريد كان غالياً في التشيع، يروي عن كل أحدٍ يحرضه على ما يقوي به هواه، ويروى عن مثل صباح هذا، وصباح هذا لا يُعرف من هو. ولهم في هذه الطبقة صباح بن سهل الكوفي، يروي عن حصين بن عبد الرحمن. قال البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم: منكر الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: يروي المناكير عن أقوام مشاهير، لا يجوز الاحتجاج بخبره.
ولهم آخر يُقال له: صباع بن محمد بن أبي حازم البجلي الأحمسي الكوفي يروي عن مرّة الهمداني. قال ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات.
ولهم شخص يقال له صباح العبدي قال الرازي: هو مجهول. وآخر يُقال له: ابن مجالد، مجهول يروي عنه بقية. قال ابن عدي: ليس بالمعروف، هو من شيوخ بقية المجهولين.
وحسين المقتول: إن أريد به الحسين بن عليّ، فذلك أجلّ قدراً من أن يروي عن واحد عن أسماء بنت عميس، سواء كانت فاطمة أخته أو ابنته، فإن هذه القصة لو كانت حقّاً لكان هو أخبر بها من هؤلاء، وكان قد سمعها من أبيه ومن غيره، ومن أسماء امرأة أبيه، وغيرها، لم يروها عن بنته أو أخته، عن أسماء امرأة أبيه.
ولكن ليس هو الحسين بن عليّ، بل هو غيره، أو هو عبد الله بن الحسن أبو جعفر، ولهما أسوة أمثالهما.(17/161)
والحديث لا يثبت إلا برواية مَنْ عُلِم أنه عَدْلٌ ضَابِطٌ ثقة يعرفه أهل الحديث بذلك. ومجرد العلم بنسبته لا يفيد ذلك، ولو كان من كان. وفي أبناء الصحابة والتابعين من لا يحتج بحديثه، وإن كان أبوه من خيار المسلمين.
هذا إن كان عليّ بن هاشم رواه، وإلا فالراوي عنه عبّاد بن يعقوب الراواجني. قال: ابن حبان كان رافضياً داعية يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك، وقال ابن عدي: روى أحاديث أنكرت عليه في فضائل أهل البيت ومثالب غيرهم. والبخاري وغيره روى عنه من الأحاديث ما يعرف صحته، وإلا فحكاية قاسم المطرز عنه أنه قال: إن عليّاً حفر البحر، وإن الحسن أجرى فيه الماء، مما يقدح فيه قدحاً بيّناً(1).
__________
(1) ترجمة عبّاد بن يعقوب الرواجني الأسدي، أبو سعيد الكوفي في: ميزان الاعتدال 2/379-380، تهذيب التهذيب 5/109-110، وفيها هذه الأقوال مفصلة.(17/162)
قال المصنف: قد رواه عن أسماء سوى هؤلاء، ورُوي من طريق أبي العباس بن عقدة، وكان مع حفظه جمّاعاً لأكاذيب الشيعة. قال أبو أحمد بن عدي: رأيت مشايخ بغداد يسيئون الثناء عليه، يقولون: لا يتدين بالحديث، ويحمل شيوخاً بالكوفة على الكذب، ويسوي لهم نسخاً، ويأمرهم بروايتها. وقال الدارقطني: كان ابن عقدة رجل سوء(1). قال ابن عقدة: حدثنا يحيى بن زكريا، أخبرنا يعقوب بن معبد، حدثنا عمرو بن ثابت، قال سألت عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ عن حديث رد الشمس على عليّ: هل ثبت عندكم؟ فقال لي: ما أنزل الله في عليّ في كتابه أعظم من رد الشمس. قلت: صدقت جعلني الله فداك، ولكني أحب أن أسمعه منك. قال: حدثني عبد الله حدثني أبي الحسن، عن أسماء بنت عميس أنها قالت: أقبل عليٌّ ذات يوم وهو يريد أن يصلي العصر مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فوافق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد انصرف ونزل عليه الوحي، فأسنده إلى صدره، فلم يزل مسنده إلى صدره حتى أفاق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: أصليت العصر يا عليّ؟ قال: جئت والوحي ينزل عليك، فلم أزل مسندك إلى صدري حتى الساعة. فاستقبل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم القبلة وقد غربت الشمس، فقال: اللهم إن عليّاً كان في طاعتك فارددها عليه. قالت أسماء: فأقبلت الشمس ولها صرير كصرير الوحي حتى ركدت في موضعها وقت العصر، فقام عليّ متمكناً فصلّى العصر، فلما فرغ رجعت الشمس ولها صرير كصرير الرحى فلما غابت الشمس اخلط الظلام، وبدت النجوم.
__________
(1) ابن عقدة هو أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة أبو العباس. قال الذهبي: شيعي متوسط، ضعفه غير واحد وقواه آخرون... وقال أبو عمر بن حيوة: كان ابن عقدة يملي مثالب الصحابة، أو قال: مثالب الشيخين، فتركت حديثه.. مات سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة عن أربع وثمانية سنة، انظر ترجمته في ميزان الاعتدال 1/136-138، لسان الميزان 1/263-266 .(17/163)
قلت: فهذا اللفظ الخامس يناقض تلك الألفاظ المتناقضة، ويزيد الناظر بياناً في أنها مكذوبة مختلقة، فإنه ذكر فيها أنها رُدّت إلى موضعها وقت العصر، وفي الذي قبله: إلى نصف النهار، وفي الآخر: حتى ظهرت على رؤوس الجبال، وفي هذا أنه كان مسنده إلى صدره، وفي ذاك أنه كان رأسه في حجره.
وعبد الله بن الحسن لم يحدث بهذا قط، وهو كان أجلّ قدراً من أن يروي مثل هذا الكذب، ولا أبوه الحسن روى هذا عن أسماء. وفيه: ما أنزل الله في عليّ في كتابه أعظم من رد الشمس شيئاً. ومعلوم أن الله لم ينزل في عليّ ولا غيره في كتابه في ردّ الشمس شيئاً.
وهذا الحديث، إن كان ثابتاً عن عمرو بن ثابت، الذي رواه عن عبد الله(1)، فهو الذي اختلقه، فإنه كان معروفاً بالكذب. قال أبو حاتم بن حِبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال مَرَّةً: ليس بثقة ولا مأمون. وقال النسائي: متروك الحديث(2).
قال المصنف: وأما رواية أبي هريرة فأنبأنا عقيل بن الحسن العسكري، حدثنا أبو محمد صالح بن أبي الفتح الشناسي، حدثنا أحمد بن عمرو بن حوصاء، حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي، عن أبيه، قال: حدثنا داود بن فراهيج، عن عمارة بن فرو، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره.. قال المصنف: اختصرته من حديث طويل.
__________
(1) كلام ابن تيمية يدل على أن السند الأخير للحديث يبدأ هكذا: حدثني عمرو بن ثابت حدثني عبد الله حدثني أبي الحسن ... إلخ .
(2) هذه القوال ذكرها الذهبي في ترجمة أبي المقدام عمرو بن ثابت بن هرمز الكوفي، يكنى أبا ثابت، وذكر الذهبي أيضاً: "وقال أبو داود: رافضي". وقال أبن أبي حاتم: "سألت أبي عن عمرو بن ثابت بن أبي المقدام فقال: ضعيف الحديث يكتب حديثه، كان رديء الرأي شديد التشيع". انظر الجرح والتعديل ق1 م3 ص223، ميزان الاعتدال 3/249/250، تهذيب التهذيب 8/9-10.(17/164)
قلت: هذا إسناد مظلم لا يثبت به شيء عند أهل العلم، بل يُعرف كذبه من وجوه، فإنه وإن كان داود بن فراهيج مضعفاً، كان شعبة يضعفه، وقال النسائي: ضعيف الحديث لا يثبت الإسناد إليه، فإن فيه يزيد بن عبد الملك النوفلي، وهو الذي رواه عنه وعن عمارة. قال البخاري: أحاديثه شبه لا شيء وضعفه جداً وقال النسائي: متروك ضعيف الحديث. وقال الدارقطني: منكر الحديث جداً. وقال أحمد: عنده مناكير. وقال الدارقطني: ضعيف.
وإن كان حدث به إبراهيم بن سعيد الجوهري، فالآفة من هذا. وإن كان يُقال: إنه لم يثبته لا إلى إبراهيم بن سعيد الجوهري ولا إلى ابن حوصاء، فإن هذين معروفان، وأحاديثهما معروفة قد رواها عنهما الناس. ولهذا لما روى ابن حوصاء الطريق الأول كان الإسناد إليه معروفاً عنه، رواه بالأسانيد المعروفة، لكن الآفة فيه ممن بعده. وأما هذا فمن قبل ابن حوصاء لا يعرفون. وإن قدر أنه ثابت عنه، فالآفة بعده.
وذكر أبو الفرج بن الجوزي أن ابن مردويه رواه من طريق داود ابن فراهيج، وذكر ضعف ابن فراهيج، ومع هذا فالإسناد إليه فيه الكلام أيضاً.(17/165)
قال المصنف: وأما رواية ابي سعيد الخدري، فأخبرنا محمد بن إسماعيل الجرجاني كتابة، أن أبا طاهر محمد بن عليّ الواعظ أخبرهم، أنبأنا محمد بن أحمد بن منعم، أنبأنا القاسم بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر، حدثني أبي، عن أبيه محمد، عن أبيه عبد الله، عن أبيه محمد، عن أبيه عمر قال: قال الحسين بن علي: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: دخلت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فإذا رأسه في حجر عليّ، وقد غابت الشمس، فانتبه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وقال: يا عليّ صليت العصر؟ قال: لا يا رسول الله ما صليت، كرهت أن أضع رأسك من حجري وأنت وجع. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ادع يا علي أن تُرد عليك الشمس. فقال عليّ: يا رسول الله ادع أنت أُؤَمّن. قال: يا رب إن عليّاً في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس. قال أبو سعيد: فوالله لقد سمعت للشمس صريراً كصرير البكرة، حتى رجعت بيضاء نقية.
قلت هذا الإسناد لا يثبت بمثله شيء، وكثير من رجاله لا يعرفون بعدالة ولا ضبط، ولا حمل للعلم، ولا لهم ذكر في كتب العلم، وكثير من رجاله لو لم يكن فيهم إلا واحد بهذه المنزلة لم يكن ثابتاً فكيف إذا كان كثير منهم – أو أكثرهم – كذلك، ومن هو معروف بالكذب، مثل عمرو بن ثابت ؟!
وفيه: أنه كان وجعاً، وأنه سمع صوتها حين طلعت كصرير البكرة، وهذا باطل عقلاً، ولم يذكره أولئك. ولو كان مثل هذا الحديث عن أبي سعيد – عن محبته لعلي وروايته لفضائله – لرواه عنه أصحابه المعروفون، كما رووا غير ذلك من فضائل عليّ، مثل رواية أبي سعيد عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لما ذكر الخوارج، قال: "تقتلهم أولى الطائفتين بالحق" ومثل روايته أنه قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية". فمثل هذا الحديث الصحيح عن أبي سعيد بيّن فيه أن عليّاً وأصحابه أولى بالحق من معاوية وأصحابه، فكيف لا يروي عنه مثل هذا لو كان صحيحاً ؟!(17/166)
ولم يحدث بمثل هذا الحسين ولا أخوه عمر ولا عليّ، ولو كان مثل هذا عندهما لحدث به عنهما المعروفون بالحديث عنهما، فإن هذا أمر عظيم.
قال المصنف: وأما رواية أمير المؤمنين، فأخبرنا أبو العباس الفرغاني، أخبرنا أبو الفضل الشيباني، حدثنا رجاء بن يحيى الساماني، حدثنا هارون بن مسلم بن سعيد بسامراً سنة أربعين ومائتين، حدثنا عبد الله بن عمرو الأشعث، عن داود بن الكميت، عن عمه المستهل بن زيد، عن أبي زيد بن سهلب، عن جويرية بنت مسهر، قالت: خرجت مع عليّ فقال: يا جويرية إن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يوحى إليه ورأسه في حجري، وذكره..
قلت: وهذا الإسناد أضعف مما تقدم، وفيه من الرجال المجاهيل الذين لا يُعرف أحدهم بعدالة ولا ضبط. وانفرادهم بمثل هذا الذي لو كان عليّ قاله لرواه عنه المعروفون من أصحابه، وبمثل هذا الإسناد عن هذه المرأة – ولا يُعرف حال هذه المرأة، ولا حال هؤلاء الذين رووا عنها، بل ولا تُعرف أعيانهم، فضلاً عن صفاتهم – لا يثبت فيه شيء، وفيه ما يناقض الرواية التي هي أرجح منه، مع أن الجميع كذب، فإن المسلمين رووا من فضائل عليّ ومعجزات النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ما هو دون هذا، وهذا لم يروه أحدٌ من أهل العلم بالحديث.
وقد صنف جماعة من علماء الحديث في فضائل عليّ، كما صنف الإمام أحمد فضائله، وصنف أبو نُعيم في فضائله، وذكر فيها أحاديث كثيرة ضعيفة، ولم يذكر هذا، لأن الكذب ظاهر عليه، بخلاف غيره. وكذلك لم يذكره الترمذي، مع أنه جمع في فضائل عليّ أحاديث، كثير منها ضعيف. وكذلك النسائي وأبو عمر بن عبد البر. وجمع النسائي مصنفاً في خصائص عليّ.(17/167)
قال المصنف: وقد حكى أبو جعفر الطحاوي(1) عن عليّ بن عبد الرحمن، عن أحمد بن صالح المصري، أنه كان يقول(2): لا ينبغي لمن كان سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء في رد الشمس، لأنه من علامات النبوة(3).
قلت: أحمد بن صالح رواه من الطريق الأول، ولم يجمع طرقه وألفاظه التي تدل من وجوه كثيرة على أنه كذب. وتلك الطريق راويها مجهول عنده، ليس معلوم الكذب عنده، فلم يظهر له كذبه.
__________
(1) في كتابه "مشكل الآثار" 2/11، ط. حيدر آباد الدكن، 1333 .
(2) مشكل الآثار: وقد حكى عليّ بن عبد الرحمن بن المغيرة، عن أحمد بن صالح أنه كان يقول...
(3) مشكل الآثار: عن حفظ حديث أسماء الذي روى لنا عنه لأنه من أجل علامات النبوة.(17/168)
والطحاوي ليست عادته نقد الحديث كنقد أهل العلم. ولهذا روى في "شرح معاني الآثار" الأحاديث المختلفة، وإنما يرجح ما يرجحه منها في الغالب من جهة القياس الذي رآه حجة. ويكون أكثرها مجروحاً من جهة الإسناد لا يثبت، ولا يتعرض لذلك، فإنه لم تكن معرفته بالإسناد كمعرفة أهل العلم به، وإن كان كثير الحديث فقيهاً عالماً(1).
قال المصنف: وقال أبو عبد الله البصري: عود الشمس بعد مغيبها آكد حالاً فيما يقتضي نقله، لأنه وإن كان فضيلة لأمير المؤمنين، فإنه من أعلام النبوة، وهو مفارق لغيره من فضائله في كثير من أعلام النبوة.
قلت: وهذا من أظهر الأدلة على أنه كذب، فإن أهل العلم بالحديث رووا فضائل عليّ التي ليست من أعلام النبوة، وذكروها في الصحاح والسنن والمساند، رووها عن العلماء الأعلام الثقات المعروفين. فلو كان هذا مما رواه الثقات، لكانوا أرغب في روايته وأحرص الناس على بيان صحته، لكنهم لم يجدوا أحداً رواه بإسناد يعرف أهله بحمل العلم، ولا يعرفون بالعدالة والضبط، مع ما فيه من الأدلة الكثيرة على تكذيبه.
__________
(1) هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الحجري المصري الطحاوي، الفقيه الإمام الحافظ، انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، ولد ونشأ في طحا من صعيد مصر. ولد سنة 239 وتوفي بالقاهرة سنة 321. من مصنفاته "شرح معاني الآثار"، "المختصر في الفقه" و"مناقب أبي حنيفة" و"مشكل الآثار" انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ 3/808-810، الجواهر المضية 1/102-105، وفيات الأعيان 1/53-55، لسان الميزان 1/274-282، الأعلام 1/197. وانظر ما نقله ابن حجر عن البيهقي في "لسان الميزان" 1/277: "وقال البيهقي في المعرفة بعد أن ذكر كلاماً للطحاوي في حديث مس الذكر فتعقبه قال: أردت أن أبين خطأه في هذا، وسكت عن كثير من أمثال ذلك، فإن في كلامه أن علم الحديث لم يكن من صناعته، وإنما أخذ الكلمة بعد الكلمة من أهله ثم لم يحكمها".(17/169)
قال: وقال أبو العباس بن عقدة، حدثنا جعفر بن محمد بن عمرو، أنبأنا سليمان بن عباد، سمعت بشّار بن دراع، قال: لقي أبو حنيفة(1) محمد بن النعمان(2) فقال: عمّن رويت حديث ردّ الشمس ؟ فقال: عن غير الذي رويت عنه يا سارية الجبل. قال المصنف: وكل هذه أمارات ثبوت الحديث.
قلت: هذا يدل على أن أئمة أهل العلم لم يكونوا يصدقون بهذا الحديث، فإنه لم يروه إمام من أئمة المسلمين. وهذا أبو حنيفة، أحد الأئمة المشاهير، وهو لا يُتهم على عليّ، فإنه من أهل الكوفة دار الشيعة، وقد لقي من الشيعة، وسمع من فضائل عليّ ما شاء الله، وهو يحبه ويتولاه، ومع هذا أنكر هذا الحديث على محمد بن النعمان. وأبو حنيفة أعلم وأفقه من الطحاوي وأمثاله، ولم يجبه ابن النعمان بجواب صحيح، بل قال: عن غير من رويت عنه حديث: يا سارية الجبل.
فيقال له: هب أن ذلك كذب، فأي شيء في كذبه مما يدل على صدق هذا. فإن كان كذلك، فأبو حنيفة لا يُنكر أن يكون لعمر وعليّ وغيرهما كرامات، بل أنكر هذا الحديث للدلائل الكثيرة على كذبه ومخالفته للشرع والعقل، وأنه لم يروه أحدٌ من العلماء المعروفين بالحديث، من التابعين وتابعيهم، وهم الذين يروون عن الصحابة، بل لم يروه إلا كذّاب أو مجهول لا يُعلم عدله وضبطه، فكيف يُقبل هذا من مثل هؤلاء ؟!
__________
(1) أبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام الحنيفة، أحد الأئمة الأربعة، أصله من أبناء فارس، ولد بالكوفة سنة 80 وتوفي سنة 150. انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 13/323-423، الجواهر المضية 1/26-32، وفيات الأعيان 5/39-47، الأعلام 9/4-5 .
(2) عرف باسم محمد بن نعمان أكثر من واحد، ولعل المقصود هو: محمد بن النعمان بن بشير الأنصاري. ترجمته في: تهذيب التهذيب 9/492 .(17/170)
وسائر علماء المسلمين يودون أن يكون مثل هذا صحيحاً، لما فيه من معجزات النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وفضيلة عليّ، على الذين يحبونه ويتولونه، ولكنهم لا يستجيزون التصديق بالكذب، فردوه ديانة.
فهارس القسمين: الأول والثاني
من كتاب
"الإمامة في ضوء الكتاب والسنة"
فهرس الآيات القرآنية الكريمة.
فهرس الأحاديث النبوية الشريفة.
فهرس الآثار.
فهرس الأعلام.
فهرس الكتب الواردة بالمتن.
فهرس الأماكن والبلدان.
فهرس المراجع والمصادر.
أولاً: فهرس الآيات القرآنية الكريمة
الآية
رقمها
الجزء / الصفحة
في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا
10
1/165
وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..
30
1/50
فتلقى آدم من ربه كلمات ...
37
1/139
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ...
43
1/20
واركعوا مع الراكعين ...
43
1/296، 300
فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ...
54
1/132
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ...
85
1/132
أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى ...
87
1/229
وقالوا لن يدخل الجنة ...
111
1/8
لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ...
111-112
1/291
بلى من أسلم وجهه لله ...
112
2/202
وآتى المال على حبه ...
117
1/200
إني جاعلك للناس إماماً ...
124
1/142
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ...
125
1/173
وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ...
143
1/277
ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً ...
165
1/162
وآتى المال على حبه ذوي القربى ...
177
1/185
يريد الله بكم اليسر ...
185
1/78
ومن الناس من يشري نفسه ...
207
1/119، 120
ويسألونك ماذا ينفقون ...
219
2/113
إن الله يحب التوابين ...
222
2/150
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ...
238
2/225
الله ولي الذين آمنوا ...
257
1/32
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ...
261
2/53(17/171)
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ...
274
1/149، 251
فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله سورة آل عمران
279
2/41
إن الله اصطفى آدم ونوحاً
33
1/265
يا مريم اقنتي لربك واسجدي ...
43
1/21، 202
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ...
61
1/120، 131، 133
فقل تعالوا ندع أبناءنا وأنباءكم ...
61
2/175
ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ...
66
1/68
وغذ أخذ الله ميثاق النبيين ...
81
1/185
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ...
92
1/201
ضربت عليهم الذلة ...
112
1/228
مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا ...
117
2/53
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ...
133-136
2/202، 203
وما محمد إلا رسول ...
144
2/62
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ...
151
1/228
وما أصابكم يوم التقى الجمعان ...
166، 167
1/165
الذين قال لهم الناس ...
173
1/221
سورة النساء
يريد الله ليبين لكم ويهديكم ...
26، 27
1/35
ولا تقتلوا أنفسكم ...
29
1/132
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ...
31
1/90
والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ...
33
2/85
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى..
43
1/260
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات ...
58
1/297
ومن يطع الله والرسول ...
69
1/296، 2/202
يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ...
94
1/255
فأولئك مع المؤمنين ...
146
1/296
لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ...
165
2/202
سورة المائدة
اليوم أكملت لكم دينكم ...
3
1/75، 59، 2/20
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ...
6
1/78، 2/150
فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ...
42
2/21
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ...
44
1/286(17/172)
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود ...
51
1/22
ومن يتولهم منكم فإنه منهم ...
51
1/286
فترى الذين في قلوبهم مرض ...
52-53
1/22
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم ...
54
1/22، 231، 239
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ...
54
1/231، 237
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ...
55
1/5، 7، 13، 22، 305- 2/40
ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا ...
56
1/23، 35
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك ...
67
1/36، 51، 2/20، 21، 22، 23
إنما الخمر والميسر والأنصاب ...
90
1/8
وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ...
117
2/61
إن تعذبهم فإنهم عبادك ...
118
2/48
سورة الأنعام
ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ...
21
1/209
وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ...
96
1/221
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره ...
125
1/79
قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً ...
145
1/88
سورة الأعراف
ربنا ظلمنا أنفسنا ...
23
1/140
قل إنما حرم ربي الفواحش ...
33
1/67
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ...
69
2/73
إنهم أناس يتطهرون ...
82
1/87
قد افترينا على الله كذباً ...
89
1/144
وإذ أخذ ربك من بني آدم ...
172
1/319
أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل ...
173
1/320
سورة الأنفال
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك ...
30
1/124
وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق ...
32
1/50
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ...
33
1/50
واعلموا أنما غنمتم من شيء ...
41
1/109
هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ...
62
1/28، 212، 213، 223
وألف بين قلوبهم ...
63
1/124، 223
يا أيها النبي حسبك الله ...
64
1/219
الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا ...
72
2/157
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا ...
72-75
1/32(17/173)
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ...
75
2/84
سورة التوبة
فقاتلوا أئمة الكفر ...
12
1/329
أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ...
19
1/173، 2/155، 156
الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا ...
20
1/172
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ...
31
1/228
إلا تنصروه فقد نصره الله ...
40
1/28، 129
ومنهم من يقول ائذن لي ...
49
1/163
ومنهم من يلمزك في الصدقات ...
58
1/163
ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله ...
59
1/22
ومنهم الذين يؤذون النبي ...
61
1/163
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ...
71
1/32
يحلفون بالله ما قالوا ...
74
1/165
ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله ...
75-76
1/163
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ...
100
1/169، 2/135، 136، 151
خذ من أموالهم صدقة ...
103
1/87، 90-2/150
لمسجد أسس على التقوى من أول يوم ...
108
1/81
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ...
119
1/294
سورة يونس
ثم جعلناكم خلائف في الأرض ...
14
2/73
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ...
62-63
1/32
ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ...
88
2/48
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ...
94
1/278
سورة هود
ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ...
34
1/79
رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ...
73
1/264
فاعبده وتوكل عليه ...
123
1/31
سورة يوسف
أيها الصديق ..
46
1/247
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً ...
109
1/278
سورة الرعد
إنما أنت منذر ولكم قوم هاد ...
7
1/149
قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب
43
1/276
سورة إبراهيم
وقال الذين كفروا لنخرجنكم من أرضنا ...
13
1/145
فمن تبعني فإنه مني ...
36
2/48
سورة الحجر(17/174)
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ...
9
1/235
إخوانا على سرر متقابلين ...
47
1/307
سورة النحل
فاسألوا أهل الذكر ...
43
1/278
سورة الإسراء
سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ...
1
2/192
وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى ...
2
1/143
ولا تقف ما ليس لك به علم ...
36
1/67
والشجرة الملعونة في القرآن ...
60
1/270
يوم ندعو كل أناس بإمامهم ...
71
1/153
وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ...
111
1/35
سورة مريم
فهب لي من لدنك ولياً ، يرثني ...
5-6
1/310
واذكر في الكتاب إبراهيم ...
41
1/247
واذكر في الكتاب إدريس ...
56
1/247
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً ...
96
1/114، 146، 147
سورة طه
واجعل لي وزيراً من أهلي
29
1/304
رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري ...
25-32
1/7
وأشركه في أمري ...
32
1/306
وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس ...
130
2/209
سورة الأنبياء
سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ...
60
2/187، 195
ففهمناها سليمان ...
79
2/50
ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ...
72-73
1/143
سورة الحج
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ...
3
1/8
فاجتنبوا الرجس من الأوثان ...
30
1/88
ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء ...
31
1/228
سورة النور
لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون ...
12
1/131، 132، 133
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ...
21
1/90
الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات ...
26
1/89
والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ...
26
1/89
في بيوت أذن الله أن ترفع ...
36-37
1/97، 98، 100
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ...
55
2/73
سورة الفرقان
وجاهدهم به جهاداً كبيراً ...
52
1/171(17/175)
وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات ...
53
1/273
وهو الذي خلق من الماء بشراً ...
54
1/292
قل ما أسألكم عليه من أجر ...
57
1/110
سورة الشعراء
وأنذر عشيرتك الأقربين ...
214
2/5، 11، 14
سورة النمل
وورث سليمان داود ...
16
1/310
أحطت بما لم تحط به ...
22
1/174
أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ...
64
1/8
سورة القصص
ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا
5-6
1/143
سنشد عضدك بأخيك ...
35
1/7
سورة العنكبوت
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء
41
1/228
ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً
68
1/209، 217
سورة الروم
أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم ...
35
1/68
فآت ذا القربى حقه والمسكين ...
38
1/109
سورة لقمان
ألم تر أن الفلك تجري في البحر ...
31
1/189
سورة السجدة
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا ...
24
1/143
سورة الأحزاب
من يأت منكن بفاحشة مبينة ...
30
1/87
يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة ...
30-32
1/80
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ...
33
1/76، 78، 79، 80، 186، 2/143، 150، 167
واذكرن ما يتلى في بيوتكن ...
34
1/115
لا تدخلوا بيوت النبي ...
53
1/99
وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ...
53
1/260
إن الله وملائكته يصلون على النبي ...
56
1/262
سورة سبأ
قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ...
47
1/110
سورة فاطر
من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً ...
10
1/35
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ...
24
1/151، 152
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا ...
32
1/169
سورة يس
وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ...
12
1/270
واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية ...
13
2/53
وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم ...
41-42
1/189
سورة الصافات(17/176)
بل عجبت ويسخرون، وإذا ذكروا لا يذكرون ...
12-37
1/156، 157
وقفوهم إنهم مسؤولون ...
24
1/155
سلام على آل ياسين ...
130
1/265
أم لكم سلطان مبين، فأتوا بكتابكم ...
156-157
1/68
سورة ص
قل ما أسألكم عليه من أجر ...
86
1/109
سورة الزمر
فمن أظلم ممن كذب على الله ...
32-33
1/207-210
والذي جاء بالصدق وصدّق به ...
33
1/205، 207، 209
ليكفر الله عنهم أسوأ ما عملوا ...
35
1/207
أليس الله بكاف عبده ...
36
سورة غافر
1/222
الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان ...
35
1/68
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا ...
51
1/24
سورة فصلت
قل أرأيتم إن كان من عند الله ...
52
1/278
سورة الشورى
قل لا أسألكم عليه أجراً ...
23
1/103، 107
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله ...
52-53
1/151
سورة الزخرف
وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم
4
1/270
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا
45
1/184، 186
سورة الأحقاف
وشهد شاهد من بني إسرائيل ...
10
1/278
سورة محمد
ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا ...
11
1/32
ولتعرفنهم في لحن القول ...
30
1/159
سورة الفتح
لقد رضي الله عن المؤمنين ...
18
1/113 - 2/136
محمد رسول الله والذين معه أشداء ...
29
1/114 – 2/136
سورة الحجرات
يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم ...
1/260
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق ...
1/58 – 2/66
إنما المؤمنون إخوة
10
1/311
ولا تلمزوا أنفسكم
11
1/132، 133
سورة الطور
أم يقولون شاعر نتربص به ...
30
1/124
أم تسألهم أجراً فهم من مغرم ...
40
1/109
سورة النجم
والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى
1 – 2
1/67، 71، 73(17/177)
والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم ...
1 – 4
2/193
افتمارونه على ما يرى، ولقد رآه ...
12 – 14
2/193
أفرأيتم اللات والعزى .
19
2/193
إن هي إلا أسماء سميتموها ...
23
1/68
إن يتبعون إلا الظن وما تهوى ...
23
1/287
هذا نذير من النذر الأولى ...
56
1/152
سورة القمر
إلا آل لوط نجيناهم ...
34
1/264
سورة الرحمن
مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ ...
19 – 22
1/269، 270، 1/274
سورة الواقعة
والسابقون السابقون، أولئك المقربون ...
10-11
1/168
سورة الحديد
لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح
10
1/27، 170، 2/136
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم
12
1/283
والذين آمنوا بالله ورسله ...
19
1/242، 248
سورة المجادلة
يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول
12
1/176 – 2/152
سورة الحشر
فاعتبروا يا أولي الأبصار ...
2
1/89
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
7
1/222
للفقراء المهاجرين الذين أخرجا من ديارهم
8
2/136
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
9
1/182، 183، 200
سورة الممتحنة
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم
1
1/62، 255
لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ...
1
2/41
فإن علمتموهن مؤمنات ...
10
1/298
سورة الصف
يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون
2 – 3
1/255
سورة الجمعة
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها
5
1/321
سورة الطلاق
وأشهدوا ذَوَيْ عدل منكم ...
2
1/297
سورة التحريم
وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه ...
4
1/31، 84، 323
2/40
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا ...
8
1/280، 283
سورة الحاقة
لما طغى الماء حملناكم في الجارية ...
11 – 12
1/189
وتعيها أذن واعية ...
12
1/188(17/178)
سورة المعارج
سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ...
1 – 3
1/38، 49
إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر ...
19 – 22
2/203
أولئك في جنات مكرمون ...
35
2/203
سورة نوح
رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً
26
2/48
سورة المدثر
قم فأنذر، وربك فكبر، والرجز ...
2 – 7
1/31
وثيابك فطهر
4
1/87
سورة الإنسان
هل أتى على الإنسان حين ...
1
1/193
ويطعمون الطعام على حبه ...
8
1/200
إنما نطعمكم لوجه الله ...
9
1/203
سورة المطففين
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ...
15
2/50
سورة الأعلى
قد أفلح من تزكى
14
1/90
سورة الشمس
قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها
9 – 10
1/89
سورة الليل
وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله ...
17-21
1/27-2/106، 107، 108، 113، 151
وما لأحد عنده من نعمة تجزى ...
19
2/108، 110
سورة الشرح
فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب
7 – 8
1/222
سورة التين
والتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين
1 – 3
1/251
سورة البينة
إن الذين كفروا من أهل الكتاب ...
6
1/290
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ...
7
1/285، 288، 290
سورة المسد
تبت يدا أبي لهب وتب ..
1
2/16
ثانياً: فهرس أطراف الحديث النبوية
الجزء / الصفحة
طرف الحديث
1/82
آل محمد كل مؤمن تقي ...
1/160 – 2/198
آية الإيمان حب الأنصار ...
1/161
آية المنافق ثلاث ...
1/89
ائذنوا له مرحباً بالطيب المطيب ...
1/246
اثبت أحد فما عليك إلا نبي ...
1/76
ادعي زوجك وابنيك ...
1/110
أذكركم الله في أهل بيتي ...
2/16
أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج ...
2/17
أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم ...
1/165
أربع من كن فيه كان منافقاً(17/179)
1/203 – 2/164
أشبهت خَلقي وخُلُقي ...
1/153
أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم ...
2/65
أعجزتم إذا وليت من لا يقوم بأمري ...
2/67
أفتان أنت يا معاذ ؟
2/168
الحقه فرده وبلغها أنت ...
1/53
الإمامة في قريش ...
1/180
أما أنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة ...
1/264
أما علمت أنّا أهل البيت لا نأكل الصدقة ...
2/124
أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر ...
1/181
أما صاحبكم فقد غامر فسلم ...
1/311
أنا أخوك، وبنتك حلال لي ...
1/282
أنا سيد ولد آدم ولا فخر ...
2/187، 195
أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى ...
1/149
أنا المنذر وعليّ الهادي ...
2/78، 134
أنا وهذا حجة الله على أمتي ...
1/208
أن تصدق وأنت صحيح شحيح ...
1/28
إن تك أحسنت فقد أحسن فلان ...
1/311-2/52، 164
أنت أخونا ومولانا
2/74
أنت أخي ووصيي وخليفتي ...
2/38
أنت مني بمنزلة هارون من موسى ...
2/164
أنت مني وأنا منك ...
1/142
انتهت الدعوة إليّ وإلى عليّ ...
1/73
انظروا إلى هذا الكوكب ...
1/324
إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء ...
1/83
إنّ آل بني فلان ليسوا لي بأولياء ...
2/162
إنّ ابني ارتحلني ...
2/139
إنّ ابني هذا سيد، وسيصلح الله به ...
2/76
إنّ أخي ووزيري وخليفتي من أهلي ...
2/122، 165
إنّ الأشعريين إذا أرملوا في السفر ...
2/157، 170
إنّ أمنّ الناس علينا في صحبته ...
1/25، 171، 179
إنّ أمنّ الناس عليّ في صحبته ...
1/84
إنّ أوليائي المتقون حيث كانوا
1/325
إنّ عبد الله رجل صالح لو كان يصلي من الليل
1/137
إنّ له مرضعاً في الجنة ...
2/173
إنّ الله تعالى جعل الأجر على فضائل عليّ ...
1/266
إنّ الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل ...
1/268
إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ...
1/220(17/180)
إنّ الله الله حرم بيع الخمر والميتة ...
1/281
إنّ الناس يصعقون يوم القيامة ...
1/197
إنّ النذر يرد ابن آدم إلى القدر ...
2/68
إنك آذيت الله ورسوله ...
1/297
إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن
2/52
إنه مثل صاحب ياسين ...
1/326
إنه من صالحيكم، فاستوصوا به ...
2/25
إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله ...
2/112، 181
إني لأعطي رجالاً وأدع رجالاً ...
1/281
أول من يُكسى يوم القيامة ...
2/23
ألا هل بلغت ؟
1/257
أيها الناس اعرفوا لأبي بكر حقه
1/30
أيها الناس إني جئت إليكم فقلت ...
1/179
بينما راعٍ في غنمه ...
1/178
بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها ...
1/97
بيوت الأنبياء ...
1/285
تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة ...
1/56
تقتل عماراً الفئة الباغية ...
1/54
تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ...
1/63
تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين ...
1/227
ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ...
2/130
جاءني جبريل من عند الله بورقة خضراء ...
2/199
حب علي حسنة لا تضر معها سيئة ...
2/129
حبك إيمان وبغضك نفاق ...
2/122
الخالة أم ...
2/172
خلق الله من نور وجه عليّ سبعين ألف ملك ...
1/263
خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ...
2/50
دعه فإنه قد شهد بدراً ...
2/50
دعه فإنه يحب الله ورسوله ...
1/126
ربح البيع أبا يحيى ...
2/48
سأخبركم عن صاحبيكم ...
2/216
شغلونا عن الصلاة الوسطى ...
1/242
الصديقون ثلاثة : ...
1/246، 296
عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر
1/5
عليّ قائد البررة ...
1/103
عليّ وفاطمة وابناهما ...
2/208
غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه : ...
2/112
فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر ...
1/71
في دار من وقوع هذا النجم ...
2/166(17/181)
قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني ...
2/125
قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده ...
1/262
قولوا: اللهم صلّ على محمد ...
1/62
كذبت، إنه شهد بدراً ...
2/87، 88، 177، 179، 217
لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ...
1/265
لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود ...
1/57
الله أكبر على إكمال الدين ...
2/92
اللهم ائتني بأحب خلقك ...
2/182
اللهم اغفر له وارحمه وعافه ...
2/72
اللهم أنت الصاحب في السفر ...
1/77
اللهم إنّ هؤلاء أهل بيتي ...
1/76
اللهم إنّ هؤلاء أهلي حقاً ...
2/66
اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ...
2/51
اللهم إني أحبهما فأحبهما
1/87
اللهم باعد بيني وبين خطاياي ...
1/265
اللهم صلّ على آل أبي أوفى ...
1/83
اللهم صلّ على محمد وأزواجه ...
1/263
اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه ...
2/144، 179
اللهم هلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس ...
1/131
اللهم هؤلاء أهلي ...
2/174
لمبارزة عليّ لعمرو بن عبد ود يوم الخندق ..
2/200
لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ...
2/293
لو كانت عندنا ثالثة لزوجناها عثمان ...
1/30، 115، 313، 2/106
لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً ...
1/319
لو يعلم الناس متى سمي عليّ أمير المؤمنين ...
2/23
ليبلغ الشاهد الغائب ...
1/286
ليزادن رجالاً عن حوضي ...
1/180 – 2/154
ما أبقيت لأهلك ...
1/25
ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم ...
1/24، 175، 179
ما نفعني مال كمال أبي بكر ...
2/157
ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر ...
1/112
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم ...
2/187
مررت ليلة المعراج بقوم تشرشر أشداقهم ...
1/305
مروهم بالصلاة لسبع ...
1/312
المسلم أخو المسلم ...
2/129
من أحب أن يتمسك بقصبة الياقوت ...
2/129
من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما ...(17/182)
1/177
من أصبح منكم اليوم صائماً ؟
1/178
من أنفق زوجين في سبيل الله ...
1/67
من انقض هذا النجم في منزله ...
1/254
من بدل دينه فاقتلوه ...
2/172
من زعم أنه آمن بي وبما جئت به ...
2/114
من عمل عملاً ليس عليه أمرنا ...
2/216
من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله ...
2/117، 142، 1/37، 48، 61، 2/26، 39، 42
من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده ...
2/134
من مات وهو يبغضك مات يهوداً ...
2/134
من ناصب علياً الخلافة فهو كافر ...
1/44
من وسع على عياله يوم عاشوراء ...
1/183
من يضيفه هذه الليلة رحمه الله ؟...
2/190
ناد أصحاب السمرة ...
1/122
نم على فراشي واتشع ببردي هذا ...
1/5
هذا أمير البررة ...
1/200
هذا خير لك من خادم ...
1/314
هذان سيدا كهول أهل الجنة ...
2/165
هل تفقدون من أحد ...
1/81
هو مسجدي هذا ...
2/165
هو مني وأنا منه ...
1/84
وددت أني رأيت إخواني ...
1/311 – 2/119
وددت أني قد رأيت إخواني ...
2/25
وعترتي أهل بيتي ...
1/261
وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ...
1/311
ولكن أخوة الإسلام ...
1/307
والذي بعثني بالحق نبياً ...
1/312
والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى ...
1/110
والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى ...
2/173
والذي نفسي بيده لا يزول قدم عبد ...
2/72
والله خليفتي على كل مسلم ...
2/11
وهل ترك لنا عقيل من دار ؟...
1/134
وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟
2/120
ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار ...
1/215
لا تجيبوه
1/287
لا ترجعوا بعدي كفاراً ...
1/64
لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ...
1/26، 204، 2/66
لا تسبوا أصحابي ...
1/312
لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ...
1/160
لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله ...
1/61، 62، 2/51(17/183)
لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ...
1/64
لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى ...
2/210
لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ...
2/79
لا يقتسم ورثتي ديناراً ...
1/182
لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره .
2/63
يا أنيس اغد على امرأة هذا ...
2/67
يا أيها الناس إذا أمَّ أحدكم فليخفف ...
2/5
يا بني عبد المطلب إن الله بعثني بالحق ...
2/14
يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم ..
2/16
يا صباحاه ...
1/88
يا عائشة إن كنت بريئة فسيبرئك الله ...
1/199، 124
يا عليّ اتشح ببردي الحضرمي ...
1/188
يا عليّ إن الله أمرني أن أدنيك ...
1/146
يا عليّ قل: اللهم اجعل لي عندك عهداً ...
2/15
يا معشر قريش اشتروا أنفسكم ...
1/290 – 2/179
يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ...
ثالثاً: فهرس الآثار
الجزء / الصفحة
القائل
الأثر
1/204
عمر بن الخطاب
أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا
2/87
الأشعري
أجمعت الخوارج على كفر عليّ
2/81
ابن المبارك
الإسناد من الدين، لولا الإسناد ...
2/110
أبو بكر الصديق
امصص بظر اللات
1/115
سعيد بن جبير
أن لا تؤذوا محمداً في قرابته
1/313
عمر بن الخطاب
أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
2/110
أبو بكر الصديق
إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً
1/140
عبد الله بن عباس
إنما نزلت في علي لما هرب
1/160-2/198
علي بن أبي طالب
إنه لعهد النبي الأميّ إليّ
1/21
عبادة بن الصامت
إني يا رسول الله أتولى الله ورسوله
1/42
عبد الرحمن بن مهدي
أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم
1/280
عبد الله بن عباس
أول من يكسى من حلل الجنة
1/164
عبد الله بن مسعود
أيها الناس حافظوا على هؤلاء الصلوات
1/115
عمر بن الخطاب
بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا
2/115
علي بن أبي طالب(17/184)
خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر
1/314
علي بن أبي طالب
خيرة هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر
1/295
كعب بن مالك
فقام إليّ طلحة يهرول فعانقني
2/87
عمر بن الخطاب
فما أحببت الإمارة إلا يومئذ
1/222
عبد الله بن عباس
قالها إبراهيم حين ألقي في النار
1/309
أنس بن مالك
قد حالف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بين قريش والأنصار ...
1/17
عبد الله بن عباس
كل من آمن فقد تولى الله
2/90
عبد الله بن عمر
كنا نفاضل على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
1/315
الشافعي
لم يختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر
1/283
عبد الله بن عباس
ليس أحد من المسلمين إلا يُعطى نوراً
2/90
الشافعي
ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر
2/121
علي بن أبي طالب
ما خلفت أحداً أحب إليّ أن ألقى الله ...
1/162
جابر
ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلا...
2/109
ابن الدغنة
مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج
1/212
أبو هريرة
مكتوب على العرش لا إله إلا الله
1/52
عائشة
من زعم أن محمداً كتم شيئاً ...
2/67
أبو ذر
من عرفني فقد عرفني ...
1/17
عبد الله بن عباس
نزلت في أبي بكر ...
1/11
السدي
هؤلاء جميع المؤمنين
1/17
أبو جعفر محمد بن علي
هم الذين آمنوا
2/66
سعد بن عبادة
اليوم يوم الملحمة
رابعاً: فهرس الأعلام الواردة
الجزء / الصفحة
العلم
1/139، 140، 141، 196، 321، 2/132
آدم
1/14، 17، 40، 196، 2/6
ابن أبي حاتم
1/317
ابن أبي ذئب
1/317
ابن أبي ليلى
2/45
ابن أم مكتوم
1/196، 232، 317
ابن جريج
1/316 – 2/6، 7 ،9
ابن جرير
2/18
ابن حبان
1/15، 196
ابن حميد
1/276
ابن الحنفية
1/233
ابن الخطيب
1/54
ابن الزبير
1/238(17/185)
ابن سبأ
1/292
ابن سيرين
1/319
ابن شيرويه الديلمي الهمذاني
1/67، 256، 274، 228، 299، 300، 305
ابن عباس
1/321
ابن عربي الطائي
1/199
ابن عقب
2/207، 228
ابن عقدة
1/299، 325
ابن عمر
1/317
ابن عيينة
1/39، 317
ابن المبارك
1/136، 142، 267
ابن مسعود
1/7، 10، 18، 67، 70، 139، 142، 168، 242، 2/17
ابن المغازلي الواسطي الشافعي
2/137
ابن ملجم
1/14
ابن المنذر
1/317
ابن وهب
2/73
أبان بن سعيد بن العاص
1/137، 143، 144، 222
إبراهيم بن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
1/317
إبراهيم الحربي
1/39
أبو أحمد بن عدي
1/40
أبو بكر البزار البصري
1/207
أبو بكر الخلال
1/23، 24، 25، 28، 29، 30، 31، 34، 37، 42، 46، 54، 94، 95، 97، 100، 104، 113، 155، 117، 120، 121، 228، 129، 136، 147، 148، 157، 158، 170، 171، 175، 177، 178، 179، 180، 181، 182، 185، 187، 189، 191، 204، 206، 207، 213، 215، 216، 231، 232، 233، 235، 236، 237، 239، 246، 250، 254، 257، 258، 259، 269، 270، 277، 279، 283، 284، 293، 294، 298، 303، 309، 313، 314، 315، 316، 317، 318، 323، 324، 326، 2/48، 51، 53، 57، 60، 61، 63، 69، 70، 87، 89، 90، 104، 107، 108، 109، 111، 116، 119، 120، 127، 144، 145، 149، 154، 157، 158، 177
أبو بكر الصديق
1/74
أبو بكر العطار
1/104، 105، 106، 243
أبو بكر القطيعي
1/196
أبو بكر بن المنذر
1/207
أبو بكر عبد العزيز بن جعفر
1/316
أبو ثور
1/82، 104
أبو جعفر محمد بن علي
1/122
أبو جهل بن هشام
1/39، 308، 2/17
أبو حاتم
1/39، 317، 2/17
أبو داود
1/309 – 2/84
أبو الدرداء
1/127، 190، 263
أبو ذر جندب
1/39 – 2/17، 18
أبو زرعة
2/12
أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب
1/215، 2/63، 120، 191(17/186)
أبو سفيان بن حرب
1/317
أبو سليمان الداراني
1/71
أبو صالح
1/152
أبو الضحى
1/162، 2/5، 10، 11
أبو طالب بن عبد المطلب
2/18
أبو عبد الله بن منده
1/39، 317
أبو عبيد
1/61
أبو الغادية
2/18
أبو الفتح الأزدي
2/19
أبو القاسم بن عساكر
1/74
أبو قضاعة
1/167
أبو لؤلؤة
2/10، 11، 12، 14، 16
أبو لهب
1/98
أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي
1/56، 232، 237، 2/63
أبو موسى
1/10، 38، 42، 51، 57، 58، 70، 189، 285
أبو نعيم
1/40
أبو يعلى الموصلي
1/141
أبو يوسف
1/47، 136
أبيّ بن كعب
1/15، 39، 40، 44، 54، 58، 63، 64، 82، 104، 106، 196، 242، 243، 267، 315، 2/18
أحمد بن حنبل
1/40
أحمد بن منيع
1/70 – 2/175
أخطب خوارزم
2/14
الأرقم بن أبي الأرقم
1/258، 326، 2/51، 52
أسامة بن زيد
1/15، 39، 58، 186، 267، 316، 2/17
إسحاق بن راهويه
2/218، 219، 220، 227
أسماء بنت عميس
1/48
أسماء بنت يزيد بن السكن
1/266
إسماعلي
1/29
أسيد بن حضير
1/118، 264
الأشتر النخعي
1/47، 48، 259، 2/143
أم سلمة
1/137، 262، 293
أم كلثوم بنت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
2/162
أمامة بنت أبي العاص بن الربيع
2/92
أنس بن مالك
1/316، 317، 1/37
الأوزاعي
1/39، 233، 234، 235، 317، 2/17، 18
البخاري
1/258
بريرة
2/44، 58
بشير بن عبد المنذر
1/13، 2/6، 7، 9، 17، 18
البغوي
1/14، 196
بقي بن مخلد
1/204، 2/80
بلال
1/257
بنت أبي جهل
2/88، 181، 1/5، 10، 16، 36، 39، 42، 47، 70، 97، 106، 119، 189، 194، 231، 2/17، 18
ثابت بن قيس
1/74
ثوبان
1/287
الجاحظ
1/119، 124، 125، 126، 193، 2/130، 146، 184
جبريل
1/85، 134، 203، 263، 267، 279، 2/11، 14، 164، 183
جعفر بن أبي طالب
2/165، 166(17/187)
جليبيب
1/317
الجنيد
1/262، 2/10، 12
الحارث بن عبد المطلب
1/37، 48، 49، 1/62، 255، 2/50
الحارث بن النعمان الفهري
1/242
حبيب بن موسى النجار
1/264
الحجاج بن يوسف
1/44، 267
حرب الكرماني
1/242
حزقيل
1/137
حسان بن ثابت
1/231، 232
الحسن البصري
1/316
الحسن بن صالح بن حيّ
1/18، 76، 81، 85، 111، 116، 130، 131، 134، 135، 137، 139، 141، 143، 165، 190، 192، 193، 196، 197، 199، 264، 269، 270، 272، 327، 2/40، 51، 138، 139، 143، 150
الحسن بن عليّ
162، 183
الحسين بن الحسن الأشقر الكوفي
2/220، 1/18، 76، 77، 81، 85، 111، 116، 130، 131، 134، 135، 137، 139، 141، 143، 147، 165، 190، 192، 193، 196، 197، 199، 269، 270، 272، 2/40، 138، 39، 143، 150، 183
الحسين بن عليّ
1/293
حفصة بنت عمر
1/47، 267، 2/10، 14
حمزة بن عبد المطلب
1/317
حماد بن زيد
1/317
حماد بن سلمة
1/267
الحميدي
1/48
خارجة
2/63
خالد بن سعيد بن العاص
1/31، 2/167
خديجة
1/174
الخضر
1/44
خيثمة بن سليمان الأطرابلسي
1/39، 140، 253، 2/18
الدارقطني
1/315
داود
1/5
الذهبي
1/74
ذو النون المصري
1/239
ذو رعين
1/239
ذوعمرو
1/239
ذو كلاع
2/12
ربيعة بن الحارث
1/137، 262، 293
رقية بنت محمد صلَّى الله عليه وسلَّم
1/254
الزبير بن بكار
1/29، 62، 136، 157، 171، 216، 217، 255، 2/188، 189، 190
الزبير بن العوام
1/253
زكريا بن يحيى الكسائي
1/99 – 2/18
الزمخشري
1/309
زيد بن أبي أوفى
1/83
زيد بن أرقم
1/31، 311، 2/52، 164
زيد بن حارثة
1/137
زينب بنت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
1/236
سجاح
1/317
السري السقطي
1/29، 130، 157، 217، 2/174، 188، 189
سعد بن أبي وقاص
1/309 – 2/84(17/188)
سعد بن الربيع
1/317
سعد بن سالم
2/65
سعد بن عباده
1/29 – 2/194
سعد بن معاذ
1/196، 317
سعيد بن أبي عروبة
1/317
سعيد بن عبد العزيز
1/267
سعيد بن منصور
1/39، 271، 299، 315، 317
سفيان
1/190، 278، 209، 2/84
سلمان الفارسي
1/74
سليمان بن أحمد
2/9
سماك بن حرب
1/63، 190، 309، 2/83
سهل بن حنيف
1/317
سهل بن عبد الله التستري
1/137
سيرين
1/39، 63، 82، 299، 315
الشافعي ( الإمام )
1/317
الشافعي بن حنبل
1/317
شريك بن عبد الله
1/39، 58، 299، 2/17
شعبة
2/192
شقران
2/155
شيبة بن عثمان بن أبي طلحة
2/15
صفية عمة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
1/199
صلاح الدين
1/126، 127، 128
صهيب أبو يحيى
1/17، 232، 274
الضحاك
2/11
طالب بن أبي طالب
1/29، 62، 121، 136، 157، 216، 217، 295، 2/162، 188، 189
طلحة ( بن عبد الله )
2/155
طلحة بن شيبة
1/236
طليحة الأسدي
1/258، 293
عائشة بنت أبي بكر
1/327
عباد بن يعقوب
1/21
عبادة بن الصامت
1/134، 262، 2/10، 12، 60
العباس بن عبد المطلب
1/15
عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم
1/152
عبد الرحمن بن زيد
1/29، 209، 2/84، 188، 189
عبد الرحمن بن عوف
1/39، 58، 317، 2/17
عبد الرحمن بن مهدي
1/16، 196
عبد الرزاق
2/14
عبد شمس
1/317
عبد العزيز بن الماجشون
2/9
عبد الغفار بن القاسم بن فهد أبو مريم الكوفي
2/148
عبد الله بن إباض
1/21
عبد الله بن أبي
1/34
عبد الله بن جحش
2/88، 181
عبد الله بن حمار
2/88، 181
عبد الله بن الزبير
1/276، 278، 2/181
عبد الله بن سلام
1/309
عبد الله بن شرحبيل
2/10
عبد الله بن عبد القدوس
1/308
عبد المؤمن بن عباد
2/14
عبد مناف
2/11، 12
عبيد الله بن العباس
1/267(17/189)
عبيدة بن الحارث
2/63
عتاب بن اسيد
2/12
عتبة بن أبي لهب
1/23، 24، 25، 29، 42، 46، 54، 93، 94، 95، 100، 104، 113، 116، 117، 129، 136، 157، 171، 182، 185، 189، 207، 213، 225، 226، 237، 239، 246، 250، 254، 269، 270، 279، 283، 286، 293، 294، 298، 315، 316، 2/44، 48، 90، 104، 109، 116، 145، 146، 149، 188، 189
عثمان بن عفان
1/39
العجلي
2/52
عروة بن مسعود
1/263 – 2/11
عقيل بن أبي طالب
1/152
عكرمة
1/61، 62، 63، 89، 190، 263
عمار بن ياسر
1م23، 34، 37، 42، 46، 54، 58، 94، 95، 97، 100، 104، 113، 115، 117، 128، 129، 147، 148، 157، 158، 160، 167، 171، 173، 179، 180، 181، 185، 187، 189، 191، 204، 207، 213، 215، 216، 217، 232، 233، 237، 239، 246، 250، 254، 258، 259، 269، 270، 277، 279، 283، 284، 293، 294، 298، 309، 314، 315، 318، 323، 324، 326، 2/20، 48، 50، 51، 53، 57، 61، 69، 70، 86، 87، 90، 104، 107، 109، 111، 116، 119، 120، 127، 144، 145، 149، 154، 177.
عمر بن الخطاب
1/267
عمران بن حصين الخزاعي
2/147
عمران بن حطان
2/182
عمرو بن تغلب
1/140
عمرو بن ثابت
1/244، 245
عمرو بن جميع
1/317
عمرو بن الحارث
1/48
عمرو بن العاص
2/174، 186
عمرو بن عبد ود
2/194
عيينة بن حصن
1/28، 76، 77، 81، 95، 97، 103، 111، 116، 130، 131، 134، 135، 137، 139، 141، 192، 193، 196، 197، 198، 199، 200، 201، 202، 203، 260، 261، 263، 269، 272، 273، 2/14، 15، 40، 80، 143، 150، 183
فاطمة بنت محمد صلَّى الله عليه وسلَّم
1/274
الفراء
1/192، 199، 200
فضة (ادعي أنها جارية فاطمة )
2/11، 12
الفضل بن العباس
1/317
الفضيل بن عياض
2/218، 220
فضيل بن مرزوق
1/327
قاسم بن زكريا المطرز
1/152، 231، 232، 274
قتادة
2/11(17/190)
قثم بن العباس
1/127
قنفذ بن عمير بن جدعان
2/194
كرز بن جابر الفهري
1/278
كعب الأحبار
2/14
كعب بن لؤي
1/295
كعب بن مالك
1/71، 72
الكلبي
1/316، 317
الليث
1/144
لوط
1/137
مارية القبطية
1/39، 58، 63، 140، 299، 299، 315، 316
مالك بن أنس
1/74
مالك النهشلي
1/205، 206، 231، 274
مجاهد
1/196
محمد بن أسلم الطوسي
1/14، 196
محمد بن جرير الطبري
1/317
محمد بن الحسن
2/45
محمد بن سعد
1/122
محمد بن كعب القرظي
1/71
محمد بن مروان السدي
1/63
محمد بن مسلمة
2/17
محمد بن يحيى الذهلي
1/264
المختار بن أبي عبيد
2/86
مرحب
2/14
مرة بن كعب
1/247،
مريم
1/39، 233، 234، 235، 2/17، 18
مسلم
1/317
مسلم بن خالد
1/213، 236، 2/138
مسيلمة الكذاب
1/29 – 2/190
مصعب
1/13، 76، 77، 78
مطر بن ميمون
1/136، 2/63، 67
معاذ بن جبل
1/45، 48، 54، 56، 63، 65، 224، 328، 2/19، 93، 139، 146، 174
معاوية بن أبي سفيان
1/317
معروف الكرخي
2/12
مغيث بن أبي لهب
1/190، 263، 267
المقداد بن الأسود الكندي
1/137، 187
المقوقس
1/119، 124، 125، 126
ميكائيل
1/140
المنصور ( الخليفة )
2/147
نافع بن الأزرق
2/148
نجدة الحروري
1/39، 2/17، 18، 19
النسائي
1/10، 16، 38، 39، 42
النقاش
1/199
نور الدين
1/216
هبل
1/12، 13، 16، 39، 98، 194، 2/6، 18
الواحدي
1/39، 317
وكيع بن الجراح
2/62، 65
الوليد بن عقبة بن أبي معيط
1/39، 40، 58، 299، 2/17
يحيى بن سعيد القطان
1/39، 40، 140، 253، 2/17، 18
يحيى بن معين
1/308
يزيد بن معن
1/40
يعقوب بن سفيان
1/145
يوسف عليه السلام
1/168
يوشع بن نون
ثالثاً: فهرس الكتب الواردة في المتن
الجزء / الصفحة
المؤلف(17/191)
اسم الكتاب
2/104
الحاكم
الأربعين
1/51
ابن عبد البر
الاستيعاب
1/40
البخاري
تاريخ البخاري
1/44
ابن عساكر
تاريخ دمشق
1/196
ابن جريج
تفسير ابن جريج
2/6، 7
ابن جرير
تفسير ابن جرير
2/6، 7
البغوي
تفسير البغوي
1/196
بقي بن مخلد
تفسير بقي بن مخلد
1/146، 188، 192، 269، 270، 276، 292، 2/6، 7، 18، 75، 127
الثعلبي
تفسري الثعلبي
2/214
أبو جعفر الطحاوي
تفسير متشابه الأخبار
2/7
الواحدي
تفسير الواحدي
1/51
البكري
تنقلات الأنوار
1/127
أبو الحسن الدارقطني
ثناء الصحابة على القرابة وثناء القرابة على الصحابة
1/195
الترمذي
جامع الترمذي
1/172، 176، 2/143
أبو الحسن رزين بن معاوية الأندلسي
الجمع بين الصحاح الستة
1/42، 213
أبو نعيم
الحلية
1/195
أبو نعيم
الخصائص
1/243
أبو داود
سنن أبي داود
2/38
الأثرم
سنن الأثرم
1/121
ابن إسحاق
السيرة
1/98
أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي
شرح السنة
2/234
الطحاوي
شرح معاني الآثار
1/140
القاضي عياض
الشفا
2/215
أبو جعفر العقيلي
الضعفاء
1/40
ابن سعد
الطبقات
1/104، 106، 2/131
ابن سعد
الطرائف في الرد على الطوائف
2/18
يحيى القطان
العلل وأسماء الرجال
104، 106
ابن البطريق
العمدة
1/149، 155، 1/242، 319، 2/199
شيرويه بن شهردار الديلمي
الفردوس "فردوس الأخبار"
1/213 – 2/74
أبو نعيم
فضائل الصحابة
1/253، 2/127، 130، 159
أحمد بن حنبل
فضائل الصحابة
2/212
أبو القاسم عبد الله بن عبد اله بن أحمد الحكاني
مسألة في تصحيح رد الشمس وترغيب النواصب الشمس
1/104، 105، 243، 307، 308، 320
أحمد بن حنبل
مسند أحمد
1/98
أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي
المصابيح
1/267
القاضي أبو يعلى
المعتمد
2/87
الأشعري
مقالات الإسلاميين(17/192)
2/90
البيهقي
مناقب الشافعي
1/70، 139، 2/75، 132
أبو الفرج بن الجوزي
الموضوعات
1/320
الإمام مالك
الموطأ
1/93
الإمام مالك
نهج البلاغة
سادساً: فهرس الأماكن والبلدان
الجزء / الصفحة
المكان أو البلد
1/37، 48
الأبطح
1/47، 215، 217، 246
أحد
1/122
الأردن
1/47، 62، 126، 196، 203، 217، 2/46، 50
بدر
1/254، 317
البصرة
1/65
البيرة
1/295، 2/44، 45، 46، 49، 195
تبوك
2/11، 138، 220
الحبشة
1/225، 2/49
الحجاز
1/62، 170، 2/21، 45
الحديبية
1/65
حران
1/218، 2/12
حنين
1/225
خراسان
1/218، 2/11، 21، 46، 86، 215، 216، 217
خيبر
1/65
الرَّقَّة
2/12
الزرقاء من الشام
1/65
سميساط
1/217، 225، 317، 2/49
الشام
2/15، 16
الصفا
2/137
صفين
2/12، 24
الطائف
1/251
طور سينا – طورسينين
1/127
الظهران
1/225
العراق
1/59، 2/20، 21
عرفة
1/37، 48، 50، 57، 75، 110، 2/20، 21، 22، 25، 26
غدير خم
1/251
فاران
1/217
القادسية
1/81
قباء
1/134
مؤتة
1/73، 74، 119، 120، 125، 126، 213، 2/23، 54، 45، 46، 49، 55، 56، 70، 195
المدينة
1/199، 217، 225، 317
مصر
1/225
المغرب
1/47
مقابر دمشق
1/49، 50، 65، 71، 73، 74، 75، 125، 126، 215، 218، 251، 255، 304، 305، 317، 2/10، 11، 23، 24، 36، 49، 63، 108، 138، 192
مكة
1/236
نجد
2/63
نجران
1/48
النجف
1/236
اليمامة
1/215، 218، 225، 231، 232، 237، 239، 2/24، 56، 63، 70
اليمن
فهرس المراجع
( أ )
الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، ط. المنيرية، بدون تاريخ.
طبعة أخرى: تحقيق الدكتورة فوقية حسين محمود، ط. دار الأنصار، القاهرة، 1397/ 1977 .(17/193)
إبراهيم بن سيار النظَّام، تأليف الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، 1365/ 1946.
ابن الجوزي وآراؤه الكلامية والأخلاقية، ( رسالة ماجستير )، للدكتورة آمنة محمد نصير.
ابن عربي، لآسين بلاثيوس، ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي، ط. الأنجلو، القاهرة، 1965 .
ابن الفارض والحب الإلهي، تأليف الدكتر محمد مصطفى حلمي، القاهرة، 1364/ 1945.
أبو بكر الصديق، تأليف الأستاذ علي الطنطاوي، الطبعة الثانية، ط. المطبعة السلفية، القاهرة، 1372.
أبو الهذيل العلاف، تأليف الأستاذ علي مصطفى الغرابي، القاهرة، 1949.
الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية، للشيخ محمد المدني، ط. حيدر آباد، 1158 .
الآثار الباقية عن القرون الخالية، للبيروني، ط. ألمانيا 1878 .
الأحكام السلطانية، لأبي الحسن الماوردي، القاهرة، 1298.
الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، ط. دار الكتب المصرية، 1332/ 1914 .
إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، نشر الثقافة الإسلامية، القاهرة، 1356- 1357 .
أخبار الرجال، لمحمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، بمبئ محلة جبور كلى، إيران، 1317.
الأخبار الطوال، الدينوري، تحقيق الأستاذ عبد المنعم عام، مراجعة الدكتور جمال الدين الشيال، ط. وزارة الثقافة، القاهرة، 1960 .
إخبار العلماء بأخبار الحكماء، لعلي بن يوسف القفطي.
أخبار عمر، للأستاذين: علي وناجي الطنطاوي، ط. دمشق، 1379/ 1959 .
إخوان الصفا، للدكتور جبور عبد النور، في سلسلة نوابغ الفكر العربي، ط. المعارف، القاهرة، 1954.
إخوان الصفا، للأستاذ عمر الدسوقي، ط. عيسى الحلبي، القاهرة 1366/ 1947.
الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، تحقيق الدكتور محمد يوسف موسى، والأستاذ علي عبد المنعم عبد الحميد، ط. الخانجي، القاهرة، 1369/ 1950 .(17/194)
الاستقامة، لابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشال سالم، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1404/ 1983.
الاستيعاب في أسماء الأصحاب، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي، على هامش الإصابة لابن حجر، ط. المكتبة التجارية، القاهرة، 1358/ 1939.
أسد الغابة في معرفة الصحابة، لعز الدين علي بن محمد بن الأثير الجزري، ط. دار الشعب، القاهرة، 1390/ 1970.
الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، لعلي القاري، تحقيق الدكتور محمد الصباغ، ط. بيروت، 1391/ 1971.
الأسماء والصفات، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق الشيخ محمد زاهد الكوثري، ط. السعادة، القاهرة، 1358.
الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، ط. المكتبة التجارية، القاهرة، 1358/1939.
اصطلاحات الصوفية، لابن عربي، (رسالة مطبوعة مع كتاب "التعريفات" للجرجاني)، ط. مصطفى الحلبي، 1357/ 1938.
اصطلاحات الصوفية، للقاشاني، تحقيق الدكتور محمد كمال جعفر، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1981.
أصول الدين، لعبد القاهر بن طاهر البغدادي، استانبول، 1346/ 1928.
أصول الفلسفة الإشراقية، تأليف الدكتور محمد علي أبو ريان، ط. مكتبة الأنجلو، القاهرة، 1959.
الأصول من الكافي، لأبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني، ط. طهران، 1381.
اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، لفخر الدين محمد بن عمر الرازي تحقيق الدكتور علي سامي النشار، نشر مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1356/ 1938.
الأعلام، تأليف خير الدين الزركلي، الطبعة الثانية، القاهرة، 1373-1378.
أعيان الشيعة، للعاملي ( محسن الأمين الحسيني )، ط. مطبعة ابن زيدون، دمشق، 1356/ 1937.
اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، تحقيق الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، ط. الرياض، 1404.
الإكمال، لابن ماكولا، ط. حيدر آباد، 1381/ 1962.(17/195)
الأم، للشافعي، تصحيح الشيخ محمد زهري النجار، ط. القاهرة، 1381/ 1961.
أمالي المرتضى ( غرر الفوائد ودرر القلائد )، تأليف علي بن الحسين الموسوي العلوي، تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1954.
إمتاع الأسماع، لتقي الدين أحمد بن علي المقريزي، تحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، ط. لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1941.
الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيان الوحيدي، ط. لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1942.
الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق الشيخ محمد خليل هراس، ط. مكتبة الكليات الأزهرية، 1389/ 1969.
إنباه الرواة على أنباه النحاة، لأبي الحسن علي بن يوسف القفطي، تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. دار الكتب المصرية، القاهرة، 1369/ 1950.
الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، لأبي الحسن عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط، تحقيق نيبرج، ط. دار الكتب المصرية، القاهرة، 1925.
الأنساب، لتاج الإسلام عبد الكريم بن محمد بن أبي المظفر التميمي السمعانين ط. مرجليوث، وحيدر آباد.
الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني، تحقيق الشيخ محمد زاهد الكوثري، نشر عزت العطار، القاهرة، 1369/ 1950.
( ب )
بحث عن حياة ابن التومرت ومذهبه، للأستاذ عبد الله كنون، ضمن كتاب "نصوص فلسفية مهداة إلى الدكتور إبراهيم مدكور"، ط. القاهرة، 1976.
البدء والتاريخ، لمطهر بن طاهر القدسي، ط. باريس 1899-1919.
البداية والنهاية في التاريخ = تاريخ ابن كثير، لإسماعيل بن عمر بن كثير، تحقيق الدكتور مصطفى عبد الواحد، ط. عيسى الحلبي، القاهرة، 1384/ 1964.
بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، لجلال الدين عب الرحمن السيوطي، . الخانجي، القاهرة، 1326.
( ت )
تاج التراجم في طبقات الحنفية، لأبي العدل زين الدين قاسم بن قطلوبغا، ط. المثني، بغداد، 1962.(17/196)
تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمد مرتضى الحسيني الزبيدي، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306-1307.
تاج اللغة وصحاح العربية، للجوهري، ط. القاهرة 1282.
تاريخ الأدب العربي، لكارل بروكلمان، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار، ط. المعارف، القاهرة، 1962.
التاريخ الإسلامي، للأستاذ محمود شاكر، ط. المكتب الإسلامي، 1403/ 1983 .
تاريخ بغداد، للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، القاهرة، 1349/ 1931.
تاريخ التراث العربي، لفؤاد سزكين، ط. الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971-1978.
وطبعة جامعة الإمام محمد بن مسعود الإسلامية بالرياض.
تاريخ الجهمية والمعتزلة، لجمال الدين القاسمي، القاهرة، 1321ه.
تاريخ الحكماء، لعلي بن يوسف القفطي، ط. ليبزج، ألمانيا، 1903.
تاريخ حكماء الإسلام، لظهير الدين علي بن زيد البيهقي، ط. الترقي، دمشق، 1365/1946.
تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. المعارف، 1386/ 1963.
تاريخ عمر بن الخطاب، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، القاهرة، مطبعة صبيح، 1929.
التاريخ الكبير، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ط. حيدر آباد، 1361.
تاريخ مختصر الدول، لابن العبري، ط. بيروت، 1890.
تاريخ مدينة دمشق، لعلي بن الحسن هبة الله بن عساكر، ط. المجمع العلمي العربي، دمشق، 1373/ 1954.
تاريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب بن واضح الكاتب المعروف باليعقوبي، ط. بيروت، 1379/ 1960.
التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، لأبي المظفر الإسفراييني، تحقيق الشيخ محمد زاهد الكوثري، القاهرة، 1359/ 1940.
تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، لابن حجر، تحقيق الأستاذ علي محمد البجاوي، مراجعة الأستاذ محمد علي النجار، ط. الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1954-1966.(17/197)
تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، لعلي ابن الحسن بن عساكر، ط. القدسي، دمشق، 1347.
تثبيت دلائل النبوة، للقاضي عبد الجبار، تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان، ط. دار العروبة، بيروت، 1386/ 1966.
تذكرة الحفاظ، لبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الطبعة الثالثة، ط. حيدر آباد، 1375/ 1955.
تذكرة الموضوعات، لمحمد بن طاهر بن علي الفتني، ط. المنيرية، القاهرة، 1343.
ترتيب مسند الطيالسي = منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود، تحقيق الأستاذ أحمد عبد الرحمن البنا، ط. المطبعة المنيرية بالأزهر القاهرة، 1372.
الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري، تحقيق الأستاذ مصطفى محمد عمارة، ط. مصطفى الحلبي، القاهرة 1352/ 1933.
التعرف لمذهب أهل التصوف، لأبي بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي، نشر الأستاذ آرثر جون آربري، القاهرة، 1352/ 1933.
طبعة أخرى: بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود، والأستاذ طه سرور، ط. عيسى الحلبي، 1380/ 1960.
التعريفات، لعلي بن محمد بن علي الجرجاني، ط. مصطفى الحلبي، القاهرة، 1357-1938.
تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن عطية الغرناطي، تحقيق المجلس العلمي، فاس، المغرب، 1397/ 1977.
تفسير سورة الإخلاص، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ط. القاهرة والرياض (في مجموع فتاوى شيخ الإسلام 17/214-503)، 1381-1389.
تفسير الطبري = جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، مراجعة الشيخ أحمد محمد شاكر، ط. المعارف، القاهرة.
تفسير الطبري، ط. بولاق، القاهرة، 1323.
تفسير غريب القرآن، لابن قتيبة، تحقيق الأستاذ السيد أحمد صقر، ط. عيسى الحلبي، القاهرة، 1378/ 1958.
تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير، ط. دار الشعب، القاهرة، 1390/ 1971.(17/198)
تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ط. دار الكتب، القاهرة، 1372/ 1952. 1380/ 1960.
التفسير الكبير، للرازي، ط. عبد الرحمن محمد، القاهرة، 1357/ 1938.
تلبيس إبليس، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، الطبعة الثانية، ط. المنيرية، القاهرة، 1368.
تلخيص كتاب الاستغاثة في الرد على البكري، لابن تيمية، ط. السلفية، مكة المكرمة، 1346.
تلخيص المستدرك (المستدرك على الصحيحين في الحديث)، لشمس الدين الذهبي، ط. حيدر آباد، الدكن، 1334.
التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة، للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني.
الطبعة الأولى: بتحقيق د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، والأستاذ محمود محمد الخضيري، ط. لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1366/ 1947.
الطبعة الثانية: بتحقيق رتشرد يوسف مكارثي، ط. بيروت، 1957.
تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث، لابن الديبع الشيباني، ط. محمد علي صبيح، القاهرة، 1347.
التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، لأبي الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي، تحقيق الشيخ محمد زاهد الكوثري، ط. عزت العطار، القاهرة، 1368/ 1949.
تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي، للبقاعي = مصرع التصوف، تحقيق الأستاذ عبد الرحمن الوكيل، ط. السنة المحمدية، القاهرة، 1373/ 1953.
تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لأبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني، تحقيق الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة القاهرة، 1378.
تهافت الفلاسفة، للغزالي، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، الطبعة الثالثة، دار المعارف، القاهرة، 1958.
تهذيب الأسماء واللغات، لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي، ط. المنيرية، بدون تاريخ.
تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، ط. حيدر آباد، 1325-1327ه.(17/199)
التوحيد وإثبات صفات الرب، لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، تحقيق الدكتور الشيخ محمد خليل هراس، ط. مكتبة الكليات الأزهرية، 1387/ 1968.
طبعة أخرى: المطبعة المنيرية، القاهرة، 1353.
( ج )
جامع الأصول من أحاديث الرسول، لأبي السعادات مبارك بن محمد بن الأثير الجزري، تصحيح الشيخ محمد حامد الفقي، ط. السنة المحمدية، القاهرة، 1368/ 1949.
جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر، ط. المطبعة المنيرية، القاهرة.
جامع التواريخ، لرشيد الدين الهمذاني، ط. الحلبي، القاهرة، 1960.
جامع الرسائل، لابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، ط. المدني، القاهرة، 1389/ 1969.
الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، لجلال الدين السيوطي، ط. مصطفى الحلبي، القاهرة، 1358/ 1939.
الجامع الكبير = جمع الجوامع، لجلال الدين السيوطي، نسخة مصورة عن مخطوطة دار الكتب المصرية، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة.
الجرح والتعديل، لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي، الطبعة الأولى، حيدر آباد، 1361/ 1942.
جواب أهل العلم والإيمان في تفسير أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، لابن تيمية، ط. المطبعة الخيرية، القاهرة، 1325، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (17/5/213)، الرياض، 1381-1389.
الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، لابن تيمية، ط. المدني، القاهرة، 1379/ 1959.
جوامع السيرة النبوية، لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، تحقيق الدكتور إحسان عباس، والدكتور ناصر الدين الأسد، مراجعة الأستاذ أحمد محمد شاكر، ط. دار المعارف، القاهرة، 1956.
( ح )
حركات الشيعة المتطرفين، تأليف الدكتور محمد جابر عبد العال، ط. مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1373/ 1954.
حصول المأمول من علم الأصول، للأستاذ صديق حسن خان، ط. استانبول 1926.(17/200)
الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، لآدم متز، نقله إلى العربية الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريده، ط. لجنة التأليف والترجمة، الطبعة الثانية، القاهرة، 1367/ 1948.
الحلة السيراء، لابن الأبار، ط. ليدن، 1847-1851.
حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصبهاني، ط. الخانجي، القاهرة، 1351/ 1932.
( خ )
الخطط ( المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار )، لتقي الدين أحمد بن علي المقريزي، ط. الأميرية ببولاق، القاهرة، 1270.
خلاصة تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لأحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري، ط. الخيرية، القاهرة، 1322.
خلع النعلين، لأبي القاسم بن قَسِيّ، ط. بيروت.
الخطوط العريضة، تأليف محب الدين الخطيب، تحقيق وتعليق محمد مال الله، ط. القاهرة، 1409ه.
( د )
دائرة المعارف الإسلامية، ط. كتاب الشعب، القاهرة.
دائرة المعارف الإسلامية، ترجمة إبراهيم زكي خورشيد وآخرين، ط. القاهرة.
الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين السيوطي، ط. طهران، 1377.
درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى، الرياض، 1403/ 1983.
الدرر المنتشرة في الأحاديث المشتهرة، لجلال الدين السيوطي، تحقيق الدكتور محمد لطفي الصباغ، ط. الرياض، 1403/ 1983.
دلائل النبوة، لأحمد بن الحسين بن علي البيهقي، تقديم وتحقيق الأستاذ عبد الرحمن محمد عثمان، ط. دار النصر للطباعة، القاهرة، 1969.
الدليل الشافي على المنهل الصافي، لابن تغري بردي، تحقيق الأستاذ فهيم شلتوت، نشر جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1399/ 1979.
الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لإبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون المالكي، ط. مطبعة المعاهد، القاهرة، 1351.
ديوان الأعشى، ط. جابر.
ديوان العجاج، ط. د. عزة حسن.
ديوان عمرو بن معد يكرب الزبيدي، صنعه هاشم الطعان، ط. بغداد، 1390/ 1970.(17/201)
ديوان الفرزدق، ط. مطبعة الصاوي، القاهرة، 1354/ 1936.
ديوان كُثير عزّة، جمع وشرح الدكتور إحسان عباس، نشر دار الثقافة، بيروت لبنان 1391/ 1971.
( ذ )
ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث، لعبد الغني النابلسي، ط. جمعية النشر والتأليف الأزهرية، القاهرة 1352/ 1934.
الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب الحنبلي، تحقيق الشيخ محمد حامد الفقي، ط. السنة المحمدية، القاهرة، 1372/ 1952.
ذيل اللآلئ المصنوعة، للسيوطي، ط. حجر، الهند، 1303.
( ر )
ربيع الفكر اليوناني، للدكتور عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1958.
الرجال، لأبي عمر محمد بن عبد العزيز الكشي، تعليق أحمد الحسيني، ط. مؤسسة الأعلمي، مطبعة الآداب، النجف، بدون تاريخ.
رجال الطوسي، لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق الأستاذ محمد صادق آل بحر العلوم، ط. الحيدرية، النجف، 1381/ 1961.
رجال العلامة الحلي، لابن المطهر الحلي، تصحيح الأستاذ محمد صادق آل بحر العلوم، الطبعة الثانية، ط. الحيدرية، النجف، 1381/ 1961.
رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد علي بشر المريسي العنيد، تحقيق الشيخ محمد حامد الفقي، ط. السنة المحمدية، 1358.
الرد على الجهمية والزنادقة، للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق الدكتور علي سامي النشار، ط. دار العارف، القاهرة، 1971.
طبعة أخرى: تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة، ط. دار اللواء، الرياض، 1977.
الرد على المنطقيين، لابن تيمية، تحقيق عبد الصمد شرف الدين الكتبي، بمباى، الهند، 1358/ 1949.
رسائل ابن سبعين، تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي، القاهرة، 1965.
رسائل إخوان الصفات وخلان الوفا، عنى بتصحيحه خير الدين الزركلي، المطبعة العربية بمصر، 1347/ 1928.
رسائل الجاحظ، جمع ونشر الأستاذ حسن السندوبي، القاهرة، 1352/ 1933.
رسائل فلسفية، للرازي، جمع وتصحيح بول كراوس، نشر كلية الآداب، جامعة فؤاد الأول، القاهرة، 1939.(17/202)
الرسالة "السبعينية" = بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية، لابن تيمية، ضمن الجزء الخامس من مجموع الفتاوى الكبرى، نشر فرج الله زكي الكردي، مطبعة كردستان العلمية، القاهرة، 1329.
الرسالة القشيرية في علم التصوف، لأبي القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري النيسابوري، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود، ومحمود بن الشريف، نشر دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1385/ 1966.
روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، لميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري، الطبعة الثانية، ( طبع حجر )، طهرا، 1367.
الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية، لزين الدين الجبعي العاملي، ط. بيروت، 1379/1960.
الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية، لأبي عذبة، ط. حيدر آباد، 1322.
الرياض النضرة في مناقب العشرة، لأبي جعفر أحمد المحب الطبري الطبعة الثانية، نشر الخانجي، القاهرة، 1372/ 1953.
( ز )
زاد المسير في علم التفسير، لعبد الرحمن بن علي بن الجوزي، ط. المكتب الإسلامي، دمشق، 1387/ 1967.
زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية، تحقيق شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، ط. بيروت، 1399/ 1979.
الزهر النضر في نبأ الخضر، رسالة لابن حجر، نشرت ضمن "مجموعة الرسائل المنبرية" لابن تيمية، ط. المنيرية، القاهرة، 1343/ 1946.
( س )
سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون، لجمال الدين محمد بن محمد بن نباته، تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم.
سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط. المكتب الإسلامي، القاهرة، 1980.
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط. دار الفكر، دمشق، 1379/ 1959.
السلوك لمعرفة دول الملوك، للمقريزي، ط. دار الكتب المصرية، القاهرة، 1934-1936.
السنة، لأحمد بن حنبل، ط. المطبعة السلفية، مكة، 1349.(17/203)
سنن ابن ماجه ( أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني )، تحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، ط. عيسى الحلبي، القاهرة، 1372/ 1952.
سنن أبي داود، لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية، المكتبة التجارية، القاهرة، 1369-1370/ 1950-1951.
سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (بشرح ابن العربي) ط. المطبعة المصرية بالأزهر، القاهرة، 1350/ 1931.
طبعة أخرى: بتحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة (ط. المدني بالقاهرة)، 1384/ 1964.
سنن الدارمي، لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي، ط. دمشق، 1349.
السنن الكبرى، للبيهقي، ط. حيدر آباد، 1354.
سنن النسائي ( المجتبى )، للحافظ أبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي، ومعه شرحه: زهر الربى على المجتبى، للحافظ الجلال السيوطي، ط. مصطفى الحلبي، القاهرة، 1383/ 1964.
سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي، ط. المؤيد، القاهرة، 1331/ 1921.
السيرة النبوية، لابن كثير، تحقيق الدكتور مصطفى عبد الواحد، ط. عيسى الحلبي، القاهرة، 1384/ 1964.
السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق الأستاذ مصطفى السقا وآخرين، ط. مصطفى الحلبي، القاهرة، 1355/ 1936.
( ش )
شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، ط. القدسي، 1350.
الشرح والإبانة على أصول الديانة، لابن بطة العكبري، تحقيق الأستاذ هنري لاوست، ط. المعهد الفرنسي، دمشق، 1958.
شرح الدرة النجفية، للدنبلي، ط. إيران، 1292.
شرح ديوان لبيد، تحقيق د. إحسان عباس، الكويت، 1962.
شرح ديوان المتنبي، وضع الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي، ط. طار الكتاب العربي، بيروت، 1980.(17/204)
شرح الطحاوية، لعلي بن محمد بن أبي العز الحنفي، تحقيق الأستاذ أحمد محمد شاكر، الرياض، 1396.
شرح العقيدة الطحاوية، تحقيق شعيب الأرنؤوط، 1401/1981.
شرح العيون، لأبي السعد الجشمي، (ضمن كتاب "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" تحقيق الأستاذ فؤاد السيد) ط. دار التونسية للنشر، تونس، 1393/1974.
شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. عيسى الحلبي، القاهرة، 1958.
طبعة أخرى، لابن ميشم البحراني، ط. طهران.
شرح النووي على صحيح مسلم، ليحيى بن شرف النووي، ط. المطبعة المصرية بالأزهر، القاهرة، 1347/1929.
الشريعة، للآجري، تحقيق الشيخ محمد حامد الفقي، ط. السنة المحمدية، القاهرة، 1369/1950.
الشيعة وأهل البيت، تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير، ط. إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان، الطبعة الثالثة، 1403/1983.
الشيعة والتشيع، تأليف الأستاذ إحسان إلهي ظهير، ط. لاهور، باكستان، 1404/1984.
الشيعة وتحريف القرآن، تأليف محمد مال الله، ط. القاهرة، 1409ه.
( ص )
الصارم المسلول على شاتم الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ط. حيدر آباد، الدكن، 1322.
طبعة أخرى: بتحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، 1379/1960.
صحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل البخاري، ط. المطبعة الأميرية، القاهرة، 1314.
صحيح الجامع الصغير، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، منشورات المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1388/1969.
صحيح مسلم، لأبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، ط. عيسى الحلبي، القاهرة، 1374/1955.
طبعة أخرى = الجامع المسلول، استنابول، 1329-1333.
صفة الصفوة، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، ط. حيدر آباد، 1355.
صفة صلاة النبي، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط. الفكر العربي، 1403/1983.
الصفدية، لابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، ط. الرياض، 1396/1976.
( ض )(17/205)
ضحى الإسلام، للأستاذ أحمد أمين، القاهرة، 1949.
الضعفاء، للإمام النَّسائي، ط. حيدر أباد، الدكن، 1323.
( ط )
طبقات الأطباء = عيون الأنبياء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة، ط. دار الفكر، بيروت، 1376/1956.
طبقات الأطباء والحكماء، لابن جلجل، تحقيق الأستاذ فؤاد السيد، ط. المعهد الفرنسي، القاهرة، 1955.
طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، تحقيق الشيخ محمد حامد الفقي، ط. مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، بدون تاريخ.
طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، تحقيق الأستاذين عبد الفتاح الحلو، ومحمود الطناحي، ط. عيسى الحلبي، القاهرة، 1383/1964.
طبقات الصوفية، لأبي عبد الرحمن السلمي، تحقيق الأستاذ نور الدين شريبة، القاهرة، مطبعة المنياوي، 1372/1953.
طبقات الفقهاء، لطاش كبرى زاده، ط. الموصل، 1380/1961.
طبقات القراء = غاية النهاية في طبقات القراء، لشمس الدين بن الجرزي، ط. الخانجي، القاهرة، 1351/1932.
الطبقات الكبرى، لابن سعد، ط. بيروت، 1376/1957.
طبقات النحويين واللغويين، لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي، تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. سامي الخانجي، القاهرة، 1373/1954.
( ع )
عائشة والسياسة، للأستاذ سعيد الأفغاني، ط. القاهرة، 1957.
العبر في خبر من غبر، للحافظ شمس الذهبي، ط. الكويت، 1960.
العثمانية، للجاحظ، تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون، ط. الخانجي، القاهرة، 1955.
العقد الفريد، لأحمد بن محمد بن عبد ربه، ط. لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1940.
العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، لابن عبد الهادي، تحقيق الشيخ محمد حامد الفقي، ط. محمود توفيق، القاهرة، 1356/ 1938.
العلل = علل الحديث، لابن أبي حاتم، ط. المطبعة السلفية، القاهرة، 1930.
العواصم من القواصم، لأبي بكر بن العربي، تعليق الأستاذ محب الدين الخطيب، ط. المطبعة السلفية، القاهرة، 1371.(17/206)
عيون الأنباء في طبقات الأطباء: انظر: طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة.
( غ )
غاية المرام في علم الكلام، للآمدي، تحقيق الدكتور حسن محمود عبد اللطيف، ط. لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1391/ 1971.
( ف )
الفائق في غريب الحديث، للزمخشري، ط. عيسى الحلبي، القاهرة، 1366/ 1947.
فتاوى الرياض = مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد، طبعت في 37 جزءاً، ط. الرياض، 1381-1389.
فتح الباري بشرح البخاري، لابن حجر العسقلاني، تحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز، ط. المطبعة السلفية، القاهرة، 1380.
فتوح البلدان، للبلاذري، تحقيق الأستاذ صلاح الدين المنجد، ط. النهضة المصرية، القاهرة، 1956.
الفتوحات المكية، لمحيي الدين محمد بن علي بن عربي، ط. دار الكتب العربية الكبرى، القاهرة، 1329.
الفرق بين الفرق، لابن طاهر البغدادي، تحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. صبيح، القاهرة، بدون تاريخ.
فرق الشيعة، للنوبختي، تعليق محمد صادق آل بحر العلوم، ط. المطبعة الحيدرية، النجف، 1379/ 1959.
طبعة أخرى: استانبول، 1931.
الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم، ط. المطبعة الأدبية القاهرة، 1317-1321.
طبعة أخرى: بتحقيق الدكتور محمد إبراهيم نصر، والدكتور عبد الرحمن عميرة، ط. عكاظ، الرياض، 1402/ 1982.
فصوص الحكم، لابن عربي، تحقيق الدكتور أبو العلا عفيفي، ط. عيسى الحلبي، القاهرة، 1946.
الفصول في اختصار سيرة الرسول، لابن كثير، تحقيق الأستاذين محمد العيد الخطراوي، ومحيي الدين مستو، ط. بيروت، 1399-1400.
فضائح الباطنية، للغزالي، تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي، ط. الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1383/ 1964.
فضائل الصحابة، للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق وصي الدين بن محمد بن عباس، إصدار جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1403/ 1983.(17/207)
فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، للقاضي عبد الجبار، تحقيق الأستاذ فؤاد سيد، ط. الدار التونسية للنشر، تونس، 1393/ 1974.
الفهرست، لابن النديم، ط. التجارية، القاهرة، 1348.
طبعة أخرى: تحقيق جوستاف فلوجل (مصورة عن طبعة ليبزج، ألمانيا، 1871)، ط. بيروت، 1964.
فهرست الطوسي، لمحمد بن الحسن الطوسي، المكتبة المرتضية بالنجف، العراق، 1356/ 1937.
الفوائل المجموعة في الأحاديث الموضوعة، لمحمد بن علي الشوكاني، تحقيق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، ط. السنة المحمدية، القاهرة، 1380/ 1960.
فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي، تحقيق الشيخ محمد بن يحيى الدين عبد الحميد، ط. النهضة المصرية، القاهرة، 1951.
في الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيق، للدكتور إبراهيم مدكور، ط. عيسى الحلبي، القاهرة 1367/ 1947.
( ق )
قاضي القضاية عبد الجبار بن أحمد الهمذاني، تأليف الدكتور عبد الكريم عثمان، ط. دار العربية، بيروت، 1386/ 1967.
القاموس الإسلامي، للأستاذ أحمد عطية الله.
القاموس المحيط، للفيروزآبادي، ط. المطبعة المصرية، الطبعة الثالثة، القاهرة 1353/ 1935.
قواعد عقائد آل محمد الباطنية، لمحمد بن الحسن الديلمي، ط. القاهرة، 1950.
( ك )
الكامل، للمبرد، ط. التجارية، 1365 .
الكامل في التاريخ، لابن الأثير الجزري، ط. الحلبي، القاهرة، 1303.
الكتاب التذكاري لابن عربي، إشراف وتقديم الدكتور إبراهيم مدكور، ط. دار الكتاب العربي للطباعة، القاهرة، 1389/ 1969.
الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق الأستاذ عبد الخالق الأفغاني، الطبعة الثانية، ط. الدار السلفية، بمبي، الهند، 1399/ 1979.
الكشاف = تفسير الكشاف، للزمخشري، ط. مصطفى الحلبي، القاهرة، 1385/ 1966.
كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوين ط. بيروت.
كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل بن محمد العجلوني، ط. القدسي، القاهرة، 1351.(17/208)
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لمصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة، ط. استانبول، 1360/ 1941.
كشف المحجوب، للهجويري، ترجمة نيكلسون، ط. شوكوفسكي.
الكلم الطيب، لابن تيمية، تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط. المكتب الإسلامي، 1397.
( ل )
اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطي، ظ. المكتبة الحسينية بالأزهر، القاهرة، 1352.
اللباب في تهذيب الأنساب، لابن الأثير، ط. القدسي، القاهرة، 1357/ 1369.
لسان العرب = اللسان، لابن منظور، ط. بيروت.
لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، ط. حيدر آباد، 1329.
لطائف الأسرار، لابن عربي، تحقيق الأستاذين أحمد زكي عطية، وطه عبد الباقي سرور، ط. دار الفكر العربي، القاهرة، 1380/ 1961.
اللمع في التصوف، لأبي نصر السراج الطوسي، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود، وطه عبد الباقي سرور، ط. القاهرة. 1960.
( م )
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لعلي بن أبي بكر الهيثمي، ط. القدسي، القاهرة، 1352-1353.
مجموعة تفسير ابن تيمية، ط. بمباي، 1374/ 1954.
مجموعة رسائل ابن تيمية، ط. المطبعة الحسينية، القاهرة، 1323.
مجموعة الرسائل المنيرية، ط. المنيرية، القاهرة 1343/ 1946.
مجموعة الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، نشر فرج الله الكردي، ط. مطبعة كردستان العلمية، القاهرة، 1329، وانظر: الرسالة السبعينية والتسعينية.
المحصّل = محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء لفخر الدين الرازي، ط. المطبعة الحسينية، الطبعة الأولى، القاهرة، 1350.
المحلَّى، لابن حزم، ط. المنيرية، القاهرة، 1350.
المختار الثقفي، تأليف الدكتور علي الخربوطلي، سلسلة أعلام العرب، القاهرة، 1963.
مختصر العلو للعلي الغفار، للذهبي، تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، المكتب الإسلامي، بيروت، 1401/ 1981.
المخصص، لابن سيده.(17/209)
مدخل إلى التصوف الإسلامي، تأليف د. أبو الوفا التفتازاني، ط. دار الثقافة، القاهرة، 1979.
مرآة الزمان، لسبط بن الجوزي، ط. حيدر آباد، 1370/ 1951.
مروج الذهب ومعادن الجوهر، للمسعودي، تحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثالثة، ط. التجارية، القاهرة، 1377/ 1958.
المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، ط. حيدر آباد 1334.
المسند، لأحمد بن حنبل، تحقيق الأستاذ الشيخ أحمد شاكر، ط. المعارف، القاهرة، 1365-1374/ 1946-1955.
المسند، لأحمد بن حنبل، ط. الحلبي، القاهرة، 1313.
المشتبه في أسماء الرجال، للذهبي، ط. عيسى الحلبي، القاهرة، 1381/ 1962.
مشكاة المصابيح، للخطيب التبريزي، تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط. دمشق، 1380/ 1961.
مشكل الآثار، لأبي جعفر الطحاوي، ط. حيدر آباد، الدكن، 1333.
مشكل الحديث وبيانه، لابن فورك تحقيق الأستاذ موسى محمد علي، مطبعة حسان، القاهرة.
المصنف في الحديث = مصنف ابن أبي شيبة، لأبي بكر بن أبي شيبة، ط. الهند، 1935.
المعارف، لابن قتيبة، ط. المعارف، القاهرة، 1969.
معالم العلماء، لابن شهراشوب، ط. النجف، 1380/ 1961.
المعتزلة، تأليف الأستاذ زهدي جاد الله، القاهرة، 1947.
المعتمد في أصول الدين، للقاضي أبي يعلى، تحقيق الدكتور وديع زيدان حداد، ط. بيروت، 1974.
معجم الأدباء، لياقوت الحموي، تحقيق الأستاذ أحمد فريد رفاعي، القاهرة، دار المأمون، 1936.
معجم البلدان، لياقوت الحموي، ط. مطبعة السعادة، الطبعة الأولى، 1323/ 1906.
معجم الشعراء للمرزباني، تحقيق عبد الستار فراج، ط. دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1960.
معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، نشر المثني، ودار إحياء التراث العربي، بيروت، 1376/ 1957.
المغني، لابن قدامة، تصحيح الشيخ محمد خليل هراس، مطبعة الإمام، القاهرة، 1965.(17/210)
المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي، تحقيق عبد الله محمد الصديق، نشر الخانجي القاهرة، 1375/ 1956.
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلِّين، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق هـ. ريتر، استانبول، 1929.
مقدمة ابن خلدون، ط. د. علي عبد الواحد وافي، القاهرة، 1378/ 1958.
ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل (رسالة لابن حزم). نشر الأستاذ سعيد الأفغاني، دمشق، 1379/ 1960.
الملل والنحل، للشهرستاني، تحقيق الشيخ محمد بن فتح الله بدران الطبعة الثانية، نشر الأنجلو المصرية، القاهرة، 1375/ 1956.
مناقب الإمام أحمد بن حنبل، لابن الجوزي، ط. الخانجي، القاهرة، 1349.
مناقب الشافعي، للبيهقي، تحقيق الأستاذ السيد أحمد صقر، ط. دار التراث، القاهرة، 1391/ 1971.
مناقب عمر بن الخطاب، لابن الجوزي، ط. السعادة، القاهرة، 1941.
المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، لابن الجوزي، ط. حيدر آباد، 1357.
المنتقى من منهاج الاعتدال، لشمس الدين الذهبي، تحقيق الأستاذ محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، القاهرة، 1374.
منهاج الشريعة في الرد على ابن تيمية، لمحمد المهدي الكاظمي القزويني، ط. المطبعة العلوية، النجف، 1347.
منهاج الكرامة في إثبات الإمامة، لابن المطهر الحلي.
المنهج الأحمد في تراجم الإمام أحمد، لعبد الرحمن بن محمد العليمي، تحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. المدني، القاهرة 1383/ 1963.
المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، لابن المرتضى، تحقيق توماس أرنولد، ط. حيدر آباد، 1316.
المواقف، للإيجي، ط. القاهرة، 1956.
مورد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، ط. السلفية.
الموضوعات، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، ط. المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، 1386/ 1966.
الموضوعات، لعلي القارئ، استانبول، بدون تاريخ.(17/211)
الموطأ، لمالك بن أنس، تحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، ط. عيسى الحلبي، القاهرة، 1370/ 1951.
ميزان الاعتدال، للحافظ شمس الدين الذهبي، ط. مطبعة السعادة، القاهرة.
( ن )
نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط. المكتب الإسلامي، دمشق، 1372/ 1952.
نظرية الإمامة لدى الشيعة الإثني عشرية، تأليف الدكتور أحمد صبحي، ط. المعارف، القاهرة، 1969.
نكت الهميان في نكت العميان، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، تحقيق الأستاذ أحمد زكين مطبعة الجمالية، القاهرة، 1329/ 1911.
النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير الجزري، ط. المطبعة العثمانية، 1311.
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، للشوكاني، الطبعة الثانية، ط. المنيرية، 1344.
وغير ذلك من المراجع المذكورة في هذه السلسلة.
فهرس محتوى الجزء الثاني
الموضوع ... ... ... ... ... ... ... ... ... الصفحة
الفصل الأول:
بيان كذب ووضع الرافضي لحديث جمعه - صلى الله عليه وسلم - أربعين رجلاً من بني عبد المطلب.
الفصل الثاني:
بيان أن إمامة عليّ لم تكن من الدين الذي أمر بتبليغه - صلى الله عليه وسلم - .
الفصل الثالث:
نقض احتجاج الرافضة بحديث ”أنت مني بمنزلة هارون من موسى“.
الفصل الرابع:
نقض قياس الرافضة الاستخلاف في الممات على الاستخلاف في المغيب.
الفصل الخامس:
إثبات أن حديث ”عليّ أخي ووصيي وخليفتي وقاضي ديني“ كذب وموضوع.
الفصل السادس:
إثبات أن أحاديث المؤاخاة بين عليّ والنبي - صلى الله عليه وسلم - كلها موضوعة.
الفصل السابع:
الرد على من يثبت الإمامة لعليّ بقوله إنه اختص بحب الله ورسوله دون غيره.
الفصل الثامن:
إثبات أن حديث الطير من المكذوبات والموضوعات.
الفصل التاسع:
سيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتفاق المسلمين.
الفصل العاشر:(17/212)
سيد العترة هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس عليّ رضي الله عنه.
الفصل الحادي عشر:
الرد على من ادعى الإمامة لعليّ سنداً لحديث المحبة.
الفصل الثاني عشر:
إثبات كذب بعض الأحاديث المفتراة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حب عليّ.
الفصل الثالث عشر:
الرد على بعض النقول المعتمدة عند الرافضة لتكون حجة عليهم يوم القيامة.
الفصل الرابع عشر:
الرد على من ادعى الإمامة لعليّ محتجاً بتقديمه الصدقة عند النجوى دون غيره.
الفصل الخامس عشر:
الرد على من يدعي الإمامة لعلي بقوله: أنا صاحب الجهاد.
الفصل السادس عشر:
التنبيه على أن كل ما روي في مسند أحمد ليس بالضروري أن يكون صحيحاً.
الفصل السابع عشر:
فضيلة حمل عليّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
الفصل الثامن عشر:
حديث ”أنت مني وأنا منك“.
الفصل التاسع عشر:
فضائل عليّ العشر.
الفصل العشرون:
فضل حبّ عليّ.
الفصل الحادي والعشرون:
حديث يوم الشورى.
الفصل الثاني والعشرون:
الرد على القول بأن حب عليّ حسنة لا تضر معها سيئة.
الفصل الثالث والعشرون:
الرد على القول برد الشمس على عليّ.
فهارس الكتاب
فهرس الآيات القرآنية الكريمة .
فهرس الأحاديث النبوية الشريفة .
فهرس الآثار .
فهرس الأعلام .
فهرس الكتب .
فهرس الأماكن والبلدان .
فهرس المراجع والمصادر .
فهرس محتوى القسم الثاني .
تم الكتاب ولله الحمد.(17/213)
فهرس الموضوعات
الإهداء
تقريظ بقلم الشيخ/ سعد الحميِّد حفظه الله
تقريظ بقلم الشيخ/ عثمان الخميس حفظه الله
المقدمة
الباب الأول
متى كان النّص؟
نماذج من روايات الشيعة في النص على أئمتهم الاثني عشر
منزلة الإمامة والأئمة عند الشيعة
الكلام في النص وإمكانية خفائه ومتى كان النص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟
روايات من طرق الشيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم تتعارض مع مسألة النص
روايات من طرق الشيعة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تتعارض مع مسألة النص
روايات من طرق الشيعة عن الحسن رضي الله عنه تنفي وجود النص على افتراضه
مبايعة الحسن لمعاوية وإنكار الكثير من أصحابه عليه ذلك ورجوع جماعة من الشيعة عن القول بالإمامة ودخولهم في مقالة جمهور الناس
روايات من طرق الشيعة تدل على عدم علم الحسين رضي الله عنه بالنص على افتراضه وأخرى على جهله بكون النبي صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء
الزهراء رضي الله عنها والنص
الصحابة رضي الله عنهم والنص
الإمام زين العابدين وأصحابه والنص
خلاف أهل البيت مع زين العابدين رحمه الله
ادعاء محمد بن علي بن أبي طالب [ابن الحنفية] رحمه الله للإمامة
أهمية عامل السن في متولي الخلافة
موقف الإمام محمد الباقر رحمه الله وأصحابه من النص
خلاف أهل بيت الباقر معه
افتراق الشيعة بعد وفاة الباقر
موقف الإمام جعفر الصادق رحمه الله وأصحابه من النص
اضطراب الشيعة في علة جعل الإمامة في نسل الحسين دون الحسن رضي الله عنهما
النزاع بين بني الحسن وبني الحسين رضي الله عنهما
خلاف بعض بني هاشم مع الصادق رحمهم الله أجمعين
قصة خروج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله وذكر منزلته ورواية تفيد معرفة بدء القول بالنص على الأئمة
ذم الباقر والصادق لمدعي الإمامة من أهل البيت
اعتقاد بعض الشيعة بإمامة عبدالله بن جعفر الصادق(18/1)
الصادق يسأل الله عز وجل أن يجعل الإمامة في ابنه إسماعيل وذكر اختلاف الشيعة فيه
افتراق الشيعة بعد وفاة الصادق
موقف موسى الكاظم رحمه الله وأصحابه وأهل بيته من النص
خلاف أهل البيت مع الكاظم وذكر من ادعى الإمامة من أهل بيته
افتراق الشيعة بعد وفاة الكاظم
وقوف الكثير من الشيعة على الكاظم واعتقادهم بأنه المهدي
أسباب وقوف هؤلاء على الكاظم رحمه الله
رسالة تعزية من الكاظم إلى الخيزران يسمي فيها هارون الرشيد بأمير المؤمنين
روايات شيعية في النهي عن التسمية بأمير المؤمنين لغير علي رضي الله عنه واختلافهم في هذا وفيه الكاظم يبشر المأمون بالخلافة
موقف علي الرضا رحمه الله وأهل بيته وأصحابه من النص
ذكر من نازعه من إخوته وأهل بيته
افتراق الشيعة بعد وفاة الرضا
موقف محمد الجواد رحمه الله وأهل بيته وأصحابه من النص
افتراق الشيعة بعد وفاة الجواد
موقف علي الهادي رحمه الله وأصحابه من النص
روايات شيعية تدل على خفاء النص المزعوم على بني العباس وبني هاشم والهادي نفسه
افتراق الشيعة بعد الهادي رحمه الله
موقف الحسن العسكري رحمه الله وأهل بيته وأصحابه من النص
افتراق الشيعة بعد وفاة العسكري
المهدي المنتظر واختلاف الشيعة في: مولده، تاريخ ميلاده، اسم أمه، جواز تسميته
اضطراب الشيعة في تأويل حديث: (اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي)
النهي عن كتابة اسمه
طريقة نشأته، مدة غيبته الصغرى، علة غيبته، تاريخ خروجه، مكان خروجه، عمره عند خروجه، مدة ملكه بعد خروجه
تكذيبه لمن سيدعي مشاهدته في غيبته الكبرى
الكلام في اللطف
سيرته عند خروجه
يكون بعد المهدي اثنا عشر مهدياً
خلاصة الباب
الباب الثاني
الإمامة والقرآن
بيان عقيدة الشيعة في تفضيل الأئمة على الأنبياء عليهم السلام
بيان أنه لم يرد في القرآن الكريم ذكر للإمامة وموقف الشيعة من هذه الحقيقة
أصحاب الاتجاه الأول وتأويل مُعظَم آيات القرآن الكريم لإثبات نزولها في الأئمة والإمامة(18/2)
أصحاب الاتجاه الثاني والقول بتحريف القرآن وذكر بعض روايات التحريف عند الشيعة
ذكر نماذج لأقوال بعض علماء الشيعة القائلين بالتحريف
نماذج لأقوال بعض المعاصرين القائلين بالتحري
نماذج من الآيات التي ادعوا حذف كلمة بني هاشم وآل محمد منها
نماذج من الآيات التي ادعوا حذف ما يختص بالإمامة منها
الكلام في حقيقة نسبة الشيعة فرية التحريف إلى أهل السنة
الحديث عن اتهاماتهم لأهل السنة والجماعة بالتحريف
أصحاب الاتجاه الأخير واستدلالهم بالسنة في إثبات نزول بعض الآيات في الإمامة
خلاصة الباب
الباب الثالث
الإمامة والسنة
نبذة عن الوضع والوضاعين في الحديث
الدليل الأول: الاستدلال بحديث بدء العشيرة ذكر الروايات ودراسة الأسانيد والرد على هذا الاستدلال
الدليل الثاني: الاستدلال بروايات: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) ذكر الروايات ودراسة الأسانيد والرد على هذا الاستدلال
الدليل الثالث: حديث تصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخاتم ونزول قوله عز وجل
الكلام في متون روايات تصدق علي رضي الله عنه بخاتمه وهو راكع
الدليل الرابع: الاستدلال بآية التطهير والرد على هذا الاستدلال وبيان من هم أهل البيت عليهم السلام
عقيدة الشيعة في العصمة
بيان معنى الرجس
روايات من طرق الشيعة تنافي عصمة الأنبياء عليهم السلام
روايات من طرق الشيعة تنافي عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
روايات من طرق الشيعة تنافي عصمة الأئمة
روايات من طرق الشيعة تنافي عصمة الملائكة عليهم السلام
الاستدلال بخبر الطائر وذكر الروايات ودراسة أسانيدها والرد على هذا الاستدلال
الاستدلال بحديث الثقلين
موقف الشيعة من الثقلين
الكلام في أول من درس أسانيد الروايات عند الشيعة
انقسام الشيعة بعدها إلى أصوليين وإخباريين
الاستدلال بحديث غدير خم وغلو الشيعة فيه وبيان أنه لم يصح في يوم الغدير نزول شيء من القرآن الكريم وذكر الروايات ودراسة أسانيدها(18/3)
الرد على الاستدلال بما صح من الروايات
مدح الأمير للشيخين رضي الله عنهم أجمعين
خلاصة الباب
الباب الرابع
الإمامة والصحابة
فضائل أمة محمد صلى الله عليه وسلم
فضائل الصحابة من القرآن والسنة وأقوال أئمة الشيعة
فضائل الصديق وعائشة رضي الله عنهما وروايتهما فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
روايات عمر في فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنهما
أهل البيت رحمهم الله وفضائل الصحابة رضوان الله عليهم
عقيدة الشيعة في الصحابة
رد الشيعة لجميع فضائل الصحابة وصرفها وتأويلها
فضائل الصديق رضي الله عنه في آية الغار وموقف الشيعة منها والرد عليها
تعظيم الشيعة لليهود والنصارى
ذكر من أنكر ولاية علي بن أبي طالب من الأنبياء والملائكة والجمادات والحيوانات والنباتات وسائر المخلوقات
خلاصة الباب
خاتمة الكتاب
أهم مصادر الكتاب
موقع فيصل نور(18/4)
البراهين
على ألا بدعة حسنة في الدين
والرد على شبه المخالفين
جمع وإعداد/أبي معاذ السلفي
sasb@ayna.com
المقدمة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد(، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
فإنه لا يخفى على متمسك بالسنة أن من أهم ما دعا إليه الرسول ( بعد التوحيد التمسك بالسنة ومحاربة البدعة، ومن الأدلة على ذلك تحذير الرسول ( من البدع في خطبة الحاجة التي كان يبدأ بها خطبه عليه الصلاة والسلام، وهي التي بدأت بها مقدمتي لهذه الرسالة والحمد لله.
ورغم ذلك كله فإن الناظر في أحوال الأمة الإسلامية يجد أن البدع قد انتشرت فيها وللأسف في مجال العقيدة والعبادات والمعاملات المختلفة، ومن أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار تلك البدع اعتقاد الكثير أن البدع تنقسم إلى قسمين!! بدع سيئة وبدع حسنة!!
وقد واجه كثير من أهل العلم جزاهم الله خيرا تلك البدع فحذروا منها في خطبهم وكتبهم بل ألفوا كتب خاصة في التحذير من البدع عموماً، ومن بعض البدع خصوصا.
وقد وفقني الله وله الحمد والمنة بجمع بعض الفوائد من بعض تلك الكتب في هذه الرسالة والتي رأيت من المفيد أن أجمعها حتى يسهل مراجعتها، وحرصت قدر الإمكان أن تكون سهلة العبارة، وسميت هذه الرسالة بـ "البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين والرد على شبه المخالفين".
وفي ختام هذه المقدمة أسأل الله أن ينفعني بهذه الرسالة؛ ومن يطلع عليها، كما أسأله أن يجعل جميع أعمالي خالصة لوجهه الكريم؛ موافقة لهدي نبينا محمد(.(19/1)
وصلى الله على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ملاحظة: قد عزوت بعض الأحاديث والآثار إلى مصادرها الأساسية بواسطة بعض المراجع، وذلك بسبب عدم توفر تلك المراجع الأصلية عندي أثناء جمع مادة هذه الرسالة، ورأيت أنه من الأمانة العلمية أن أبقيها كما هي.
مدخل:
معنى البدعة
(قال الإمام الطرطوشي- رحمه الله - في "الحوادث والبدع" (ص40):
"اصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غيرِ أصلٍ سبق، ولا مثال احتذي، ولا ألف مثله.
ومنه قوله تعالى: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض } ]البقرة: 117[، وقوله: { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ } ]الأحقاف:9[؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض".
أما تعريف البدعة شرعا فهي:
"طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية".
كذا اختاره الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (1/51)، وهو من أجمع تعاريف "البدعة" وأشملها)(1).
وبهذا التعريف خرجت البدع الدنيوية كالسيارات، والطائرات، وأشباه ذلك، وهي التي تقبل التقسيم إلى الأحكام الخمسة "الوجوب - التحريم - الاستحباب - الكراهة- الإباحة" لا البدعة الدينية، وسيأتي زيادة بيان لذلك فيما بعد إن شاء الله.
الفصل الأول:
البراهين على أن كل بدعة ضلالة وليس فيها شيء حسن
__________
(1) علم أصول البدع" للشيخ علي الحلبي - حفظه الله - (23 –24) بتصرف.(19/2)
إن تقسيم البدع إلى حسنة وقبيحة، تقسيم لا مستند له في الشرع، وكيف يكون له أصل وهو ينافي صريح القرآن وصحيح الأحاديث؟!
وهاك البيان على وجه التفصيل:
(أولاً: إن من أصول الدين الواجب اعتقادها، ولا يصح إيمان المرء دونها، أن الإِسلام دين أتقن الله بناءه وأكمله، فمجال الناس التطبيق والتنفيذ "السمع والطاعة" وهذا أمر أدلته ظاهرة)(1).
(يقول الله تعالى ممتناً على عباده: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } ]المائدة:3[.
فهذه الآية الكريمة تدل على تمامِ الشريعة وكمالها، وكفايتها لكل ما يحتاجه الخلق الذين أنزل الله قوله فيهم: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } ]الذاريات:56[.
يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" (2/19):
"هذه أ كبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أ كمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليِه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلاَ ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه".
__________
(1) البدعة أثرها السيئ في الأمة" للشيخ سليم الهلالي - حفظه الله - (ص7) بتصرف.(19/3)
فأي إحداث أو ابتداع إنما هو استدراك على الشريعة، وجرأة قبيحة ينادي بها صاحبها أنَّ الشريعة لم تكف، ولم تكتمل!، فاحتاجت إلى إحداثه وابتداعه!!
وهذا ما فهمه تماما أصحاب النبي (والأئمة من بعدهم؛ فقد صح عن ابن مسعود (أنه قال:"اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة" (1).
وروى البخاري عن حذيفة بن اليمان (انه قال:"يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا".
وخلاصة القول:"إن المستحسِن للبدعِ يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد،
فلا يكون لقوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } معنى يعتبر به عندهم" (2).
"فإذا كان كذلك؛ فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وإنه بقي منها أشياء يجب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه؛ لم يبتدع، ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال الإمام الشوكاني في "القول المفيد" (ص38) مناقشاً بعض المبتدعين في شيء من آرائهم:"فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه ( فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟!
إن كان من الدين في اعتقادهم؛ فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم (!) وهذا فيه رد للقرآن!
وإن لم يكن من الدين؛ فأي فائدة في الاشتغال بما ليس من الدين ؟!
__________
(1) واه اللالكائي في "السنة"(1/96) والمروزي في "السنة"(ص28) وابن وضاح (ص43) وغيرهم وانظر "البدعة وأثرها السيء" لسليم الهلالي فقد توسع في تخريجه وبيان صحته (ص23- 24).
(2) الاعتصام" (1/147).(19/4)
وهذه حجة قاهرة، ودليل عظيم، لا يمكن لصاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبدا، فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي،وترغم به آنافهم،وتدحض به حججهم".
إذ " كل ما أحدث بعد نزول هذه الآية؛ فهو فضلة، وزيادة، وبدعة" (1) (2).
ثانياً:(إنَّ النبي (كان لزاما عليه أن يقوم بحق الرسالة، فيبلغ الإسلام غير منقوص قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ]النحل:44[ ولقد فعل ( وإلا فما بلغ رسالته - وحاشاه - فما أنتقل إلى جوار ربه راضيا مرضيا إلا والدين كامل لا يحتاج إلى زيادة) (3).
وقد أشار إلى ذلك رسول الله (بقوله: { إنه لم يكن نبي قبلي إلاَ كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم } رواه مسلم.
وأخرج الطبراني في "معجمه الكبير"(1647)بسند صحيح عن أبي ذر الغفاري ( قال: قال رسول الله (: { ما بقي شيء يقّرب من الجنة ويباعد من النار؛ إلا وقد بين لكم } .
وقال أيضاً (: { قد تركتكم على البيضاء،ليلها كنهارها،لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك } رواه ابن ماجة (4).
وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"من حدثك أن النبي (كتم شيئاً من الوحي فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه } ]المائدة:67[" رواه البخاري مسلم.
ولهذا لما قال بعض المشركين لسلمان الفارسي (:"إني أرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة؟
قال: أجل، أمرنا أن لا نستقبل القبلة، وأن لا نستنجي بأيماننا، ولا نكتفي
__________
(1) سير أعلام النبلاء"(18/509) .
(2) علم أصول البدع" للشيخ علي الحلبي (ص17-21) بتصرف.
(3) البدعة أثرها السيئ" للشيخ سليم الهلالي (ص13-14) بتصرف.
(4) صححه الإمام الألباني - رحمه الله - في "صحيح سنن ابن ماجة" (1/32).(19/5)
بدون ثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع ولا عظم" رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة.
وقال ابن الماجِشون: سمعت مالكا يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمدا (خان الرسالة؛ لأن الله يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فما لم يكن يومئذ دينا؛ فلا يكون اليوم دينا"(1).
ثالثاً: إنَّ التشريع حق لرب العالمين، وليس من حق البشر، (لأن الله الذي وضع الشرائع، ألزم الخلق الجري على سنتها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون.
ولو كان التشريع من مدركات الخلق لم تتنزل الشرائع، ولم تبعث الرسل، وهذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه ندا لله، حيث شرع مع الله، وفتح للاختلاف باباً ورد قصد الله في الانفراد بالتشريع)(2)قال الله عز وجل: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } ]الأعراف:3[.
وقال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } ]الشورى:21[.
وقال عز وجل: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ]الأنعام:153[.
قال الإمام مجاهد- رحمه الله - وهو من كبار التابعين في تفسير قول الله تعالى: { وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } :"البدع والشبهات"(3).
وقال: { من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد } متفق عليه.
__________
(1) الاعتصام" للشاطبي (1/64-65).
(2) البدعة وأثرها السيء في الأمة" لسليم الهلالي (ص16) بتصرف يسير.
(3) :أخرجه البيهقي في "المدخل" والدارمي وغيرهما كما في "علم أصول البدع" للحلبي (ص40).(19/6)
وقال رسول الله (: { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } رواه مسلم.
(والرسول (وهو من هو معرفة وحكمة وعلما لم يكن يحكم باستحسانه ويشرع بنفسه؛ قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه } ]النساء:105[،
وقال الله عز وجل: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ]النحل:44[؛ وقال:
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } ]النجم:3- 4[)(1).
وقال الله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي... } ]الأعراف:203[.
__________
(1) :"شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" لعبد الله القصيمي (ص24).(19/7)
وقال تعالى: { اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } ]الأنعام: 106[.
وقد ذم رسول الله (قوما يفعلون أموراً لم يأمرهم بها الله ولم يحثهم عليها رسول الله (ففي "صحيح مسلم" عن عبدالله بن مسعود (قال: قال رسول الله (: { ما من نبي بعثه الله في أمة قبل، إِلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره.ثم إِنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن،ومن جاهدهم بِقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل } .
(فمن ابتدع عبادة من عنده - كائنا من كان -؛ فهي ضلالة ترد عليه؛ لأن الله وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يتقرب بها إليه.
لذا؛ فإن صحة الاستدلال بالقواعد العلمية تقتضي أن نقول كما قال العلامة ابن القيم في كتابه العجاب "إعلام الموقعين" (1/344):
"ومعلوم أ نه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمرِ، والأصل في العقود والمعاملات الصحة (1)حتى يقوم دليل على النهي".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "مجموع الفتاوى " (31/35):
"باب العبادات والديانات و التقربات متلقاة عن الله ورسوله، فليس لأحد أن يجعل شيئاً عبادة أو قربة؛ إلا بدليل شرعي".
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" (4/401) مناقشاً مسألة إهداء ثواب
القراءة للموتى، حيث جزم بعدم وصولها،معللاً سبب المنع:"إنه ليس من عملهم، ولا كسبهم،
__________
(1) هو ما يعبر عنه بعض الفقهاء: "الأصل في الأشياء الإباحة ".(19/8)
ولهذا لم يندب إليه رسول الله (أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء،
ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً؛ لسبقونا إليه.
وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء" وعلى هذا جرى السلَف الصالح رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين)(1):
(فعن علي بن أبي طالب (قال:"لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخفأولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله (يمسح على ظاهر خفيه"رواه أبو داود(2) .
وقال عمر بن الخطاب (لما قبل الحجر الأسود:"إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله (يقبلك؛ ما قبلتك" رواه البخاري ومسلم.
وقالت امرأة لعائشة رضي الله عنها: أتقضي إحدانا صلاتها إذا طهرت؟
فقالت رضي الله عنها:"أحرورية أنت؟ كنا نحيض في عهد النبي (فلا يأمرنا به،
أو قالت: فلا نفعله" رواه البخاري ومسلم.
وروى الترمذي ( 2738)، والحاكم (4/265-266) وغيرهما بسند حسن عن نافع أن رجلا عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله، والسلام على رسوله! قال ابن عمر:"وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله ( علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال" .
فهذه أحاديث نبوية وآثار سلفية من صحابة كرام، تبين المنهج الصحيح في تلَقي الشرع،
وأنه لا مجال لتحسين العقل فيه، أو لتزيين الرأي به، وأن مورد ذلك كله النصوص الشرعية.
ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله في كلمته المشهورة التي نقلها عنه أئمة مذهبه وعلماؤه كالغزالي في "المنخول" (ص374)، والمحلي في "جمع الجوامع-2/395 بحاشيته": "من استحسن فقد شرع ") (3).
__________
(1) :"علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص70-73) بتصرف.
(2) :وصححه ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/160) والألباني في "صحيح أبي داود" (1/53).
(3) علم أصول البدع" للحلبي (ص119-121) بتصرف.(19/9)
رابعاً: إنَّ الابتداع (اتباع للهوى لأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة؛ وأنت تعلم ما في أتباع الهوى وأنه ضلال مبين.
ألا ترى قول الله تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } ص:26[.
فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده، وهو الحق والهوى، وعزل العقل مجرداً إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك.
وقال: { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } ]الكهف:28[ فجعل الأمر محصوراً بين أمرين، اتباع الذكر؛ واتباع الهوى، وقال: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّه }
]القصص:50[)(1).
وقال الله عز وجل: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ
لا يَعْلَمُونَ } ]الجاثية:18[.
وعن عبد الله بن مسعود ٍ (قال:"خطَّ رسول الله (لنا خطا، ثم قال: { هذا
سبيل الله } ، ثم خطَّ خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال: { هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إِليه } وقرأ: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } " رواه احمد والحاكم(2).
__________
(1) :"مختصر كتاب الإعتصام" للشاطبي؛ اختصره علوي السقاف (18- 19).
(2) :وحسن إسناده الألباني في "ظلال الجنة " (1/13) وذكر ان الحاكم قال عنه: "صحيح الإسناد "ووافقه الذهبي.(19/10)
وقال عبدالله بن مسعود (:"إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأمر" أخرجه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1/96).
خامساً: إنَّ الإخلاص لا يكفي في العمل حتى يكون متقبلاً لأن (دين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل)(1).
فشروط العمل الصالح المتقبل هي: أولاً: الإخلاص.
وثانياً: متابعة الرسول (.
قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -:"إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً؛ لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل والخالص إذا كان لله عز وجل والصواب إذا كان على السنة"(2).
وقال الإمام ابن كثير- رحمه الله - في "تفسيره"(1/572) عند تفسير قوله تعالى: { وَمَنْ
أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } ]النساء:125[:( { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } أي أخلص العمل لربه عز وجل فعمل إيماناً واحتساباً { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي اتبع في عمله ما شرعه الله له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي يكون خالصاً صواباً والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متابعاً للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد... الخ).
والأدلة على هذين الشرطين كثيرة: فمن أدلة وجوب إخلاص العبادة لله قوله تعالى:
{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } ]البينة:5[.
وجاء رجل إلى النبي (فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر؛ ما له؟.
__________
(1) :"مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/189).
(2) :رواه ابونعيم في "الحلية "(8/95) نقلاً من "علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص61).(19/11)
فقال رسول الله (: { لا شيء له } فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله (:
{ لا شيء له } ثم قال: { إن الله لا يقبل من العمل؛ إلا ما كان له خالصاً،وابتغي به وجهه } رواه النسائي (1).
ومن أدلة وجوب متابعة الرسول (:قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ]آل عمران:31[.
وقال تعالى: { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ]الأعراف:158[.
وروى البخاري ومسلم عن انس (انه قال:جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ( يسألون عن عبادة النبي (فلما أخبروا بها، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي (؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا؛ فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله (فقال: { أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله؛ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني } .
وقد صح عن معاوية (أنه كان يستلم أركان الكعبة الأربعة، فقال له ابن عباس ("إنه لا يستلم هذان الركنان"، فقال معاوية: "ليس شيءٌ من البيت مهجوراً" رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
وزاد أحمد:فقال ابن عباس رضي الله عنهما: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
__________
(1) صححه الألباني في "صحيح سنن النسائي" (2/384).(19/12)
حَسَنَةٌ } فقال معاوية (:"صدقت".
(ولا أدل على ذلك من قصة عبدالله بن مسعود (لما جاء إلى أولئك القوم المتحلقين في المسجد، ومعهم حصى، يعدون بها التكبير والتهليل والتسبيح، فقال لهم (:"فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامنٌ أن لا يضيع من حسناتكم شيءٌ، ويحكم يا أمة محمدٍ! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم (متوافرونَ، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملةٍ أهدى مِن ملةٍ محمدٍ أو مفتتحو باب ضلالةٍ".
قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن؛ ما أردنا إلا الخير.
قال:" وكم من مريدٍ للخيرِ لن يصيبه" رواه الدارمي في "سننه" (1/68-69) وأبو نعيم
وغيرهما، وسنده صحيح.
قلت: فهذه قصة جليلة، ترى فيها بجلاء كيف كان علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم(19/13)
يتعاملون مع العبادات بوسائلها ومقاصدها ونيات أصحابها، وبيان ذلك فيما يلي:
أ - قوم يذكرون الله تعالى، تكبيراً، وتهليلاً، وتسبيحاً.
ب - استعملوا في ذكرهم حصى كـ (وسيلة) لعد هذا التكبير والتسبيح.
ج - نياتهم في عملهم هذا حسنة، يريدون به، عبادة الله، وذكره، وتعظيمه.
د - ومع ذلك؛ أنكر عليهم ابن مسعود هذا العمل ضمن هذه الوسيلة؛ لأنه لم يعهد عن رسول الله (؛ رغم وجود المقتضي له في عصره.
هـ - رتب على عملهم المحدث هذا الإثم لمخالفتهم السنة، ومواقعتهم البدعة.
و - لم يجعل - (- حسن نياتهم سبيلاً للتغاضي عن عملهم، أو دليلاً على صحة فعلهم، إذ النية الحسنة لا تجعل البدعة سنة، ولا القبيح حسناً، بل لا بد أن يكون مع النية الحسنة والإخلاص: موافقة للسنة، ومتابعة للسلف) (1).
وعن سعيد ابن المسيب - رحمه الله -: أنه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثرَ من ركعتين، يكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه! فقال: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟
قال:"لا ولكن يعذبك على خلاف السنة" (2).
__________
(1) علم أصول البدع" للحلبي (ص244-245) وانظر "إحكام المباني" له، و"البدعة وأثرها السيئ" للهلالي (ص15) فقد بينوا صحة القصة، وقد استدل بها أبو شامة في "الباعث" (ص63).
(2) واه البيهقي في "السنن الكبرى"(2/466)، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (147) وعبدالرزاق في "المصنف" (3/52) والدارمي (1/116) بسند جيد كما في "علم اصول البدع".(19/14)
قال الألباني- رحمه الله- في"الإرواء"(2/236):"وهذا من بدائع أجوبة سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وهو سلاح قوي على المبتدعة الذين يستحسنون كثيراً من البدعِ باسم أنها ذكر وصلاة، ثم ينكرون على أهل السنة إنكار ذلك عليهم، ويتهمونهم بأنهم ينكرون الذكر والصلاة!! وهم في الحقيقة إنما ينكرون خلافهم للسنة في الذكر والصلاة ونحو ذلك" اهـ.
وقال (1) رجل للإمام مالك:يا أبا عبدالله من أين أحرم؟
قال: من ذي الحلَيفة، من حيث أحرم رسول الله (.
فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر.
قال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة.
فقال: وأي فتنة في هذه ؟! إنما هي أميال أزيدها!!
قال: وأي فتنةٍ أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلةٍ قصر عنها رسول الله (؟
قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ]النور:63[.
فهذه الأدلة تدل على أن إخلاص أولئك في نيتهم لم يمنع الرسول (ولا الصحابة
ولا التابعين ومن تبعهم من الإنكار عليهم بسبب عدم متابعتهم في أعمالهم تلك للرسول (.
سادساً: إن الأدلة الصحيحة جاءت بذم البدع مطلقاً، ولم تقسم البدع إلى بدع حسنة مستحبة و إلى بدع سيئة مكروهة:
قال رسول الله (: { أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ، وشر الأمور محدَثاتها، وكل محدَثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة؛ "وكل ضلالةٍ في النار" } أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي والزيادة له.
وقال (: { فإن من يعش منكم؛ فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء
__________
(1) واه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/148)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/326)، والبيهقي في "المدخل"(236)،وابن بطه في "الابانة" (98) كما في "علم اصول البدع" للشيخ علي الحلبي (ص72).(19/15)
الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ،وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة } أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم (1).
وقال (: { من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد } متفق عليه.
وقال (: { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } رواه مسلم.
(فهذه الأحاديث لم تفرق في الحكم بين بدعةٍ وبين بدعةٍ أخرى، فالنكرة إذا أضيفت؛ أفادت العموم، والعموم لا يخص إلا باستثناء، و أين الاستثناء هنا؟! - وما قد يظنه البعض دليل على الاستثناء سيأتي الجواب عنه فيما بعد إن شاء الله - وهذا ما فهمه السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:" كل بدعةٍ ضلالة وإن رآها الناس حسنة "(2).
وقال عبد الله بن مسعود (:"أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة؛ فعليكم بالأمرِ الأول"(3).
فكلاهما أخذ معنى (البدعة) على عمومه، دون تفريق بين ما يسمى بدعة حسنة
__________
(1) قال الترمذي "حديث حسن صحيح" وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه كذلك البغوي وابن عبدالبر كما في تحقيق مشهور حسن لـ"الأمر بالاتباع" للسيوطي (ص34)،وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(3/119).
(2) واه اللالكائي (رقم126)،وابن بطة (205)،والبيهقي في "المدخل إلى السنن"(191)،وابن نصر في "السنة" (رقم70) بسند صحيح كما في "علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص92).
(3) : أخرجه الدارمي في "سننه"(1/61)،واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(1/77)، وصححه ابن حجر في "الفتح" (13/253) كما في "علم أصول البدع"(ص226).(19/16)
أو بدعة سيئة! وهو الذي لا ينبغي سواه)(1).
(وقد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي؛ إذا تكررت في مواضع كثيرة وأوقات متفرقة وأحوال مختلفة، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها العام المطلق.
وأحاديث ذم البدع والتحذير منها من هذا القبيل، فقد كان النبي ( يردد من فوق المنبر على ملأ من المسلمين في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة أن { كل بدعةٍ ضلالة } ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية من العموم فيها، فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها.
وقد اجمع السلف الصالح على ذمها وتقبيحها والهروب عنها وعمن اتسم بشيء منها،
ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا استثناء، فهو - بحسب الاستقراء - إجماع ثابت يدل دلالة واضحة على أن البدع كلها سيئة ليس فيها شيء حسن)(2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في"مجموع الفتاوى" (10/370):(إن المحافظة على عموم قول النبي (: { كل بدعةٍ ضلالة } متعين وأنه يجب العمل بعمومه).
سابعاً:(إن معرفة البدعة المدعى حسنها متعذرة، لأن الأمر قد يكون ظاهره طاعة وهو
__________
(1) : "علم أصول البدع" (ص91-92) بتصرف.
(2) : "اللمع في الرد على محسني البدع " لعبدالقيوم السحيباني (49-51) بتصرف يسير وأصل الكلام للإمام الشاطبي في "الاعتصام " (1/187-188).(19/17)
معصية وقد يكون الأمر بالعكس وقد يحسن كثير من العقول بمجر دها أن تصلي الظهر خمساً عند النشاط والرغبة في مناجاة الله ويحسن أن تصلي ركعة عند التعب والإعياء وتراكم الأشغال وهكذا يقال في سائر الفروض.
فيقال لمحسني البدع أنتم في حاجة شديدة أن تميزوا البدعة الحسنة من القبيحة، ونحن على اتفاق أنه ليس كل ما ظاهره طاعة يكون في الواقع طاعة، ولا كل ما ظاهره معصية يكون في الواقع معصية، وغاية الأمر أن يكون هذا المحدث المبتدع دائراً بين أن يكون حسنا مثابا عليه، وأن يكون قبيحاً معاقباً عليه، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن تدعوا أنه من القسم الأول إلا بدليل خارج، والدليل إذا كان من الكتاب؛ أو السنة الصحيحة؛ أو الإجماع؛ فما هو من البدعة، فظهر أن القول بالبدعة الحسنة باطل لتعذر معرفتها.
وسر البرهان أننا نقول لمن أشار إلى عمل محدث وقال هذه بدعة حسنة: من أين عرفت أنها حسنة ولعلها قبيحة؟
وكم نشاهد من الأعمال ما نظنه حسناً وهو قبيح، فمثلاً ما يدريك لولا ما جاء في "صحيح مسلم"عن عقبة بن عامر (أنه قال: { ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله ( ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا؛ حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب } أن الصلاة بعد صلاة الفجر وقبل غروب الشمس وفي وقت الظهيرة غير جائزة؟
وما يدريك لولا ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"أول
ما فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر و أتمت صلاة الحضر" أن إتمام الصلاة في السفر غير جائز، وأن الفاعل لذلك معذب؟
وقد قال بتعذيبه كثير من العلماء.
وما يدريك لولا قول الرسول (بعد أن توضأ ثلاثاً ثلاثاً: { هكذا الوضوء، فمن زاد علَى(19/18)
هذا فقد أساء وظلم } (1) أن الزيادة في الوضوء كأن يغسل المتوضئ خمساً لا تجوز،
وما يدريك لولا ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (قال: { ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا } أن قراءة القرآن في الركوع والسجود غير جائزة بل مكروهة؛ والإمام أبو حنيفة قائل بذلك؟ وكثير في الشريعة ما نظنه طاعة يثاب عليه وهو معصية يعاقب عليه وكذلك العكس)(2).
قال عبدالله القصيمي في كتابه "شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" (20- 21):
(خاطبت يوما شيخاً من شيوخ الأزهر الذين يقولون: إن في الدين بدعة حسنة؛ قلت له:
ما الفاصل بين البدعة الحسنة والبدعة القبيحة الذي يعتمد عليه المسلم فيأخذ الحسن ويترك القبيح؟
فامتقع لونه وقال (وليته ما قال): البدعة الحسنة هي الجائزة ديناً، والقبيحة هي الممنوعة ديناً!
قلت له: ما صنعت شيئاً، بأي شيء نعرف الجائزة والممنوعة؟ وهو سؤالي.
فامتقع أكثر وقال: الجائزة هي الحسنة، والممنوعة هي السيئة!!
قلت له: هذا هو الدور الممنوع لدى المعممين كافة، إذ لا نعرف الحسن إلا بكونه حلالاً، ولا الحلال إلا بكونه حسناً، ولا القبيح إلا بكونه حراماً، ولا الحرام إلا بكونه قبيحاً.
ثم نشط عقله من عقاله وقال: البدعة الحسنة التي لا ضرر فيها، والقبيحة هي ذات الضرر.
قلت له: ما تقصد بالضرر؟
__________
(1) واه أبو داود وفيه زيادة "أو نقص" وقال الألباني في "صحيح سنن أبي داود": (1/46): (حسن صحيح دون قوله:"أو نقص" فإنه شاذ).
(2) شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" لعبدالله القصيمي (ص13-14) بتصرف.(19/19)
أتقصد ضرر الدنيا أم ضرر الدنيا والأخرى، أم ضرر الأخرى فحسب؟
إن قصدت الأول:فأي ضرر في أن نصلي الظهر خمساً والمغرب أربعاً والفجر ستاً وأن نجعل السجود في الصلاة قبل الركوع، والركوع قبل القيام، والقيام قبل الجلوس، والتشهد قبل الاستفتاح، وأن نصوم شعبان بدل رمضان إذا خفنا أن لا يدركنا رمضان أو يشغلنا شاغل، وأن نصوم في الليل؟
هل في واحدة من هؤلاء ضرر دنيوي تراه؟ لا ضرر سوى مخالفة الشرع.
وإن قصدت الثاني والثالث فما العلامة أن هذه الحادثة فيها ضرر علينا في الدار الآخرة وعقاب لفاعليها؟ هذا وأنت من الذين ينفون التقبيح والتحسين العقليين، فانتهى هنا.
والنهاية أن من لم يأخذ بظواهر هذه الأخبار تحير وقال أقوالاً باطلة) اهـ.
والدليل على هذا أن كثيراً من الذين قالوا بالبدع الحسنة قد أنكروا أعمالا في ظاهرها الحسن، بل إنك لتجد أحد العلماء يقول في بدعة ما أنها حسنة تجد عالماً آخر وهو ممن يقول
بالبدع الحسنة ينكرها أشد الإنكار وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
1- العز بن عبد السلام وهو من أشهر من قال بتقسيم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة يقول في كتابه "الفتاوى" (ص392):(ولا يستحب رفع اليد في القنوت كما لا ترفع في دعاء الفاتحة، ولا في الدعاء بين السجدتين، ولم يصح في ذلك حديث، وكذلك لا ترفع اليدان في دعاء التشهد؛ ولا يستحب رفع اليدين في الدعاء إلا في المواطن التي رفع فيها رسول الله (يديه، ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل، ولم تصح الصلاة على رسول الله (في القنوت، ولا ينبغي أن يزاد على صلاة رسول الله في القنوت بشيء ولا ينقص) اهـ.
وقال في"الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة"(ص7- 8):(فإن الشريعة لم ترِد بالتقرب إلى الله تعالى بسجدةٍ منفردةٍ لا سبب لها، فإن القرب لها أسباب، وشرائط، وأوقات، وأركان، لا تصح بدونها.(19/20)
فكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة من غير نسكٍ واقعٍ في وقته بأسبابه وشرائطه؛فكذلك لا يتقرب إليه بسجدةٍ منفردةٍ، وإن كانت قربةً، إذا لم يكن لها سبب صحيح.
وكذلك لا يتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة والصيام في كل وقتٍ وأوانٍ، وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعد عنه، من حيث لا يشعرون) اهـ.
وهذا الكلام صدر من العز بن عبد السلام - رحمه الله - أثناء إنكاره لصلاة الرغائب المبتدعة؛ وقد أنكر هذه الصلاة بالإضافة إلى العز بن عبد السلام كثير من العلماء القائلين بالبدعة الحسنة مثل الإمام النووي في "فتاوى الإمام النووي" (ص57) وعبد الله الغماري في "حسن البيان في ليلة النصف من شعبان"؛ مع العلم أن بعض العلماء قال باستحبابها مثل ابن الصلاح وأبو حامد الغزالي في "الإحياء" وأبو طالب المكي في "قوت القلوب" وعدوها من البدع الحسنة.
وقال أيضاً العز بن عبد السلام كما في "فتاوى العز بن عبد السلام" (ص289):(ومن فعل طاعة لله تعالى، ثم أهدى ثوابها إلى حي؛ أو ميت لم ينتقل ثوابها إليه إذ { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } ]النجم:39[ فإن شرع في الطاعة ناوياً أن يقع عن ميت لم يقع عنه إلا فيما استثناه الشرع كالصدقة:والصوم، والحج) انتهى كلامه، ومعروف أن كثيراً من العلماء قالوا بجواز إهداء كثير من الطاعات للأموات وإن لم يرد دليل على ذلك وإنما قياساً على(19/21)
ما ورد!.
وقال أيضاً في (ص197- 199):(أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله (عَلم بعض الناس الدعاء فقال في أوله: { قل اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد (نبي الرحمة } وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصوراً على رسول الله (، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خُص به تنبيهاً على علو درجته ومرتبته) انتهى كلامه رحمه الله وكثير ممن قلده في تقسيم البدع تجده يخالفه في هذه المسألة! فيقول بجواز الإقسام
على الله بغير النبي (مع العلم أن الراجح عدم جواز ذلك مطلقاً(1).
2- الإمام أبو شامة - رحمه الله - أنكر في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" كثيراً من بدع الجنائز مثل قول القائل أثناء حمل الجنازة: استغفروا له غفر الله لكم، كما أنكر أن يكون للجمعة سنة قبلية (ص258- 304)، وأنكر كذلك صلاة الرغائب (ص138- 196)، وأنكر كذلك صلاة ليلة النصف من شعبان (ص134- 138)، ومع كل ذلك قال (ص95) بأن الاحتفال بالمولد النبوي يعتبر بدعة حسنة!!.
3- وأما الإمام النووي - رحمه الله - وهو من القائلين بتقسيم البدع، فقد قال في"المجموع" (8/102):(قال الشيخ أبو محمد الجويني:رأيت الناس إذا فرغوا من السعي؛ صلوا ركعتين على المروة.
قال: وذلك حسن، وزيادة طاعة، ولكن لم يثبت ذلك عن رسول الله (.
هذا كلام أبي محمد!!
وقال أبو عمرو بن الصلاح : ينبغي أن يكره ذلك؛ لأنه ابتداء شعار، وقد قال الشافعي
__________
(1) نظر"قاعدة جليلة" لابن تيمية و"التوسل أنواعه وحكمه" للألباني و"كشف المتواري من تلبيسات الغماري" لعلي الحلبي لتعرف المعنى الصحيح لهذا الحديث وانه حجة على من يقولون بالتوسل بذات النبي (وغيره لا حجة لهم !!.(19/22)
- رحمه الله -: ليس في السعي صلاة.
- ثم قال النووي - وهذا الذي قاله أبو عمرو أظهر، والله أعلم) اهـ.
وقال أيضاً في "الأذكار" (ص136):(قال الشافعي وأصحابنا رحمهم الله يكرهون الجلوس للتعزية؛ قالوا: يعني بالجلوس لها: أن يجتمع أهل الميت في بيتٍ ليقصدهم من أراد التعزية،
بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم،ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها..الخ).
4 - وأما السيوطي- رحمه الله - فقد أنكر في كتابه "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" الصلاة في المساجد المبنية على القبور!وكذلك إيقاد السرج على القبور والمزارات (ص134) وأنكر صلاة الرغائب (ص166) وأنكر الاجتماع للعزاء (ص288) وأنكر التلفظ بالنية قبل الصلاة (ص295) وغير ذلك من البدع مع أنه قرر في كتابه هذا بأن البدع تنقسم إلى بدع حسنة وبدع سيئة!.
5 - محمد متولي الشعراوي المفسر المصري أنكر رفع الصوت بالصلاة على النبي (
بعد الأذان كما يفعله كثير من المؤذنين في كثير من البلاد الإسلامية فقد وجه إليه سؤال
كما في "الفتاوى"(ص487):(جرت العادة في معظم المساجد أن يؤذن المؤذن وعقب الانتهاء من الآذان يقول: الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله جهراً، فهل الصلاة على الرسول ( جهراً عقب الآذان هي من صلب الآذان أم أن هذه زيادة عما ورد نرجو الإفادة؟
ج: هذا حب لرسول الله (؛ لكن أنت تحبه بمشقة، هو قال: { إذا سمعتم المؤذن وانتهى من اذانه فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي } ، وللمؤذن وللذي سمع نصلي عليه في سرنا، لكن المؤذن ليس له أن يوجد شيئاً بصوت الأذان الأذان الأصيل وبلهجة الأذان الأصلية؛ حتى
لا يفهم الناس أن ذلك من صلب الأذان) انتهى كلامه، وفي المقابل نجده يقول بجواز الاحتفال بالمولد النبوي (ص544-545)!.
6 - أما حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقاً فيقول بمشروعية رفع الصوت(19/23)
بالصلاة على النبي (من قبل المؤذنين بعد الأذان في كتابه "فتاوى شرعية وبحوث إسلامية"
(ص265-267)؛ مع أنه قال في (ص290) جواباً على سؤال: هل في الشريعة الغراء صلاة تسمى صلاة الشكر؟:(لم يرد في الكتاب ولا في السنة نص يفيد مشروعية هذه الصلاة
لا فرادى ولا جماعة. وأمر العبادات يقتصر فيه على ما ورد عن الشارع، ولا سبيل فيه إلى القياس، ولا مجال فيه للرأي، وإنما الذي أثر عن النبي (السجود لله تعالى شكرا إذا أتاه
ما يسره أو بُشر به.. الخ).
فظهر بهذه النقول أنه لا يوجد ضابط معين يميز بين البدعة الحسنة - المزعومة - والبدعة السيئة؛ حتى عند القائلين بهذا التقسيم، ولا يسلم الشخص من الوقوع في هذا الاضطراب
إلا بمتابعة السنة وترك الابتداع في الدين.
ثامناً:(يستدل كثير من الناس بالنصوص العامة لتسويغ بدعهم، والتدليل على واقعهم!
وهذا خطأ كبير، يناقض قاعدة مهمةً في علم الأصول، سيأتي تقريرها - بعد -.
فمثلاً: لو أن عدداً من الناس قَدِموا مسجداً للصلاة فيه، فما أن دخلوا؛ حتى اقترح أحدهم عليهم أن يصلوا تحية المسجد جماعة!! فجابهه بعض أصحابه بالإنكار و الرد!! فاستدل عليهم المقترِح بحديث { صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل } (1)!! فافترقوا رأيين!! بعضهم وافق على هذا الاستدلال، والبعض الآخر خالف؛ لأن هذا الدليل إنما مورده في غير هذا المقام!
فما هو القول الفصل؟
__________
(1) واه أبو داود،والنسائي، وفيه ضعف يسير.لكن له شاهداً يقويه، فانظر "صحيح الترغيب"(رقم 409) والتعليق عليه.(19/24)
قال الإمام ابن تيمية في "مقدمة في أصول التفسير" (ص8-9):(يجب أن يعلم أن النبي (بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ]النحل:44[ يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن - كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي (عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن و العلم جميعاً.
ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيننا. وأقام ابن عمر على
حفظ البقرة عدة سنين - قيل ثمان سنين - ذكره مالك.
وذلك أن الله تعالى قال: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ }
]ص:29[.
وقال: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } ]النساء:82[ وقال: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل } ]المؤمنون: 68[.
وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.
وكذلك قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ]يوسف:2[، وعقل الكلام متضمن لفهمه ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك.
وأيضاً فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه
فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟) اهـ.
وقال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (3/72) رداً على من يستدل بالأدلة العامة على خلاف فهم السلف والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه في العمل به(19/25)
ما ملخصه: "لو كان دليلاً عليه؛ لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارِض له، ولو كان ترك العمل.
فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماعِ الأولين، وكل من خالف الإجماع؛ فهو مخطئ، وأمة محمد ( لا تجتمع على ضلالةٍ، فما كانوا عليه من فعلٍ أو تركٍ؛ فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلاَ صواب أو خطأ فكل من خالف السلف الأولين؛ فهو على خطأ، وهذا كافٍ …
ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة: أن النبي (نص على علي أنه الخليفة بعده؛ لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدمِ اعتباره؛ لأن الصحابة
لا تجتمع على خطأ.
وكثيراً ما تجد أهل البدعِ والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة؛ يحملونهما مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما على العامة، ويظَنون أنهم على شيء".
ثم قال (3/77):"فلهذا كله؛ يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل".
وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي - رحمه الله - في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" (ص318):(ولا يجوز إحداث تأويل في آيةٍ أو سنةٍ لم يكن على عهد السلف
ولا عرفوه ولا بينوه للأمة؛ فإن هذا يتضمن أنهم جهِلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر) اهـ.
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"(19/26)
(2/128 مختصره):"إن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أحد أمرين: إما أن يكون خطأ في نفسه، أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط والخطأ من قول السلَف ".
إلا عند ساقطٍ رقيعٍ يقول في مثل هذا المقام:"نحن رجال وهم رجال"!!
فمثل هذا المغرور قد سقطَ معه الخطاب، وسد في وجهه الباب!!
والله الهادي إلى نهج الصواب!
قلت: فإذا وضحت هذه القاعدة ظهر لك أي الفريقين أهدى في المثال الذي صدرنا لك الكلام به!
إذ ذاك الدليل العام لم يجرِ عليه عمل السلف رضي الله عنهم أو فهمهم؛ استدلالاً به على الجماعة في غيرِ الوارد؛ كالفرائض أو التراويح ونحوهما. فهو جرى- إذاً - على جزءٍ من أجزاء عمومه لا على جميع أجزائه.
ومثال آخر تطبيقي سلفي:
روى أبو داود في "سننه" ( رقم 538) بسند حسن عن مجاهد؛ قال:" كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهرِ أو العصر، فقال: اخرج بنا؛ فإن هذه بدعة" !
و" معنى التثويب: هؤلاء الَذين يقومون على أبواب المساجد، فينادون: الصلاة؛ الصلاة" .
كما قال الطرطوشي في "الحوادث والبدع" (ص149).
فلو جاء أحد قائلاً: هل من ضيرٍ على من ذكر بالصلاة والله يقول: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } ]الذريات:55[؟!(19/27)
لما قبل قوله، بل رد عليه فهمه، إذ لم يفهم السلف رضي الله عنهم من هذه الآية هذا الإطلاق وهذا العموم، ومعلوم عن ابن عمر رضي الله عنهما شدة اتباعه، ودقة التزامه.
ومثال آخر وقد مر معنا فيما سبق: وهو ما رواه الترمذي، والحاكم وغيرهما عن نافع أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله، والسلام على رسوله قال ابن عمر:"وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله (، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حالٍ " فقد أنكر ابن عمر رضي الله عنهما على هذا الرجل مع أن عموم قولِ الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ]الأحزاب:56[ تدخل فيه تلك الصلاة ولكن، ما هكذا فهمها الصحابة فمن بعدهم وما هكذا طبقها السلف الصالح رضي الله عنهم، وفهمهم أولى، ومرتبتهم أعلى.
ورحم الله الإمام الأوزاعي حيث قال:"اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك
ما وسعهم" (1).
وعليه نقول:"الحذر الحذر من مخالفة الأولين! فلو كان ثَمَّ فضل ما؛ لكان الأولون أحق به، والله المستعان")(2).
تاسعاً:(يستلزم من القول بالبدع الحسنة لوازم سيئة جدا:
أحدها: أن تكون هذه البدع المستحبة - حسب زعمهم - من الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم.
وهذا معلوم البطلان بالضرورة، لأن الله تعالى لم يأمر عباده بتلك البدع، ولم يأمر بها
__________
(1) خرجه اللالكائي في "شَرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (1 /174) والبيهقي في "المدخل" (233) والآجُرَّي في "الشريعة"(2 /673- 674) بسند صحيح.
(2) :"علم أصول البدع " لعلي الحلبي (ص137-145) بتصرف.(19/28)
رسول الله (، ولم يفعلها ولا فعلها أحد من الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وعلى هذا فمن زعم أنه توجد بدع حسنة في الدين فقد قال على الله وعلى كتابه وعلى رسوله (بغير علم.
الثاني: أن يكون النبي (وأصحابه رضي الله عنهم قد تركوا العمل بسنن حسنة مباركة محمودة، وهذا مما ينزه عنه رسول الله (، وأصحابه رضي الله عنهم.
الثالث: أن يكون القائمون بالبدع الحسنة المزعومة قد حصل لهم العمل بسنة حسنة مباركة محمودة لم تحصل للنبي (، ولا لأصحابه رضي الله عنهم، وهذا لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل و دين)(1).
الفصل الثاني:
ذكر الشبه التي يستدل بها من يقول بتقسيم البدع
الشبهة الأولى: فهمهم لقول الرسول (: { من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء } رواه مسلم.
والجواب عن هذه الشبه هو (ما قاله الإمام الشاطبي - رحمه الله - في "الاعتصام"
(1/233- 236) مختصراً مع بعض الإضافات:
"ليس المراد بالحديث: الاستنان بمعنى الاختراع، وإنما المراد به العمل بما ثبت بالسنة النبوية، وذلك لوجهين:
أحدهما: أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة؛ بدليل ما في "صحيح مسلم" من حديث جرير بنِ عبدالله (قال:" كنا عند رسول الله (في صدر النهار؛ قال: فجاءه قوم حفاةً عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف. عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر. فتمعر وجه رسول الله (لما رأَى بهم من الفاقة. فدخل ثم خرج. فأمر بلالا فأذن وأقام.
فصلى ثم خطب فقال: { { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ }
__________
(1) :"الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي"للشيخ حمود التويجري رحمه الله (16-17)بتصرف.(19/29)
]النساء:1[ إلى آخر الآية { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } والآية الَتي في الحشر: { اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ } ]الحشر:18[ تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره } حتى قال: { ولو بشق تمرةٍ } قال:"فجاء رجل من الأنصار بصرةٍ كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس.حتى رأيت كومين
من طعام وثياب.حتى رأيت وجه رسول الله (يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله (:
{ من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غيرِ أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنَة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده.من غير أن ينقص من أوزارهم شيء } .
فتأملوا أين قال رسول الله (: { من سن في الإسلام سنة حسنة } ؛ تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه، حتى بتلك الصرة فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ،فسر رسول الله( حتى قال: { من سن في الإسلام سنة حسنة..إلخ } . فدل على أن السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سنة.
فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعةٍ".
ووجه ذلك:(أن كل ما فعله الأنصاري إنما هو ابتداؤه بالصدقة في تلك الحادثة، والصدقة مشروعة من قبل بالنص أفترون هذا الصحابي أتى ببدعة حسنة؟!.
وحث عليها - أي على الصدقة - الرسول (في القصة نفسها.
وعليه فالسنة الحسنة هي إحياء أمر مشروع لم يعهد العمل به بين الناس لتركهم السنن)(1).
( ويدل على هذا حديث: { من أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناس؛ كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة فعمل بها، كان عليه أوزار من
__________
(1) البدعة وأثرها السيئ في الامة" لسليم الهلالي (ص42–44) بتصرف.(19/30)
عمل بها لا ينقص من أوزار من عمل بها شيئاً } رواه ابن ماجة)(1).
مع ملاحظة أن النبي (أضاف السنة إليه فقال: { من سنتي } بينما أطلق الكلام في
البدعة فقال: { ومن ابتدع بدعة } ولم يقل بدعة سيئة.
ثانياً: أن قوله: { من سن في الإسلام سنةً حسنةً ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً }
لا يمكن حمله على الاختراع من أصلٍ؛ لأن كونها حسنةً أو سيئةً لا يعرف إلا من جهة الشرع؛ لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة، وإنما يقول به المبتدعة - أعني: التحسين والتقبيح بالعقل -.
فلزم أن تكون "السنة" في الحديث: إما حسنةً في الشرع، وإما قبيحةً بالشرعِ، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة وما أشبهها من السنن المشروعة.
وتبقى السنة السيئة منزلةً على المعاصي التي ثبت بالشرعِ كونها معاصي؛ كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم، حيث قال (كما في صحيح البخاري ومسلم: { لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل } (2)وعلى البدع، لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع )(3).
ثالثاً: (لا يمكن أن يكون معنى: { من سن في الإسلام سنةً حسنة ً } أي من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة" لأن بهذا يكون معنى قول النبي (: { كل بدعة ٍضلالة } "كل سنة
ضلالة ".
__________
(1) اللمع في الرد على محسني البدع" (ص18) والحديث صححه الألباني في "صحيح ابن ماجة"(1/88-89).
(2) القتل كان معروف ومنهي عنه كما في قول الملائكة لله عز وجل عندما أراد أن يخلق ادم: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } ولكن ابن نبي الله أدم عليه السلام هو أول من مارس القتل عملياً في بني أدم عندما قام بقتل أخيه.
(3) علم أصول البدع" للحلبي (ص122-125) بتصرف.(19/31)
فمن جعل هذا هو معنى ذاك فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه)(1).
رابعاً: (لو كان هذا الذي يفهمه الناس الفهم الصحيح للحديث لصار في قول النبي (:
{ فمن رغب عن سنتي فليس مني } تناقضاً واضحاً وتحريضاً على الإعراض عن السنة.
وثناءً منه على من رغب عن سنته.
فبينما يقول: { فعليكم بسنتي } داعياً إلى التمسك بها والعض عليها بالنواجذ والقبض على الجمر يدعونا هنا إلى الأخذ بأي سنة يسنها من شاء من المسلمين لا بالتقيد بسنته (وحده!)(2).
الشبهة الثانية: فهمهم لأثر"ما رآه المسلمون حسناً؛ فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً؛ فهو عند الله سيئ " أخرجه أحمد وغيره.
الجواب:
أولاً:هذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي(، بل هو ثابت عن عبدالله بن مسعود(.
قال الزيلعي في"نصب الراية" (4/133) نقلاً من "اللمع" للسحيباني (ص28):
"غريب مرفوعا، ولم أجده إلا موقوفا على ابن مسعود".
(وقال ابن الجوزي في "الواهيات" (رقم452):"هذا الحديث إنما يعرف من كلام ابن مسعودٍ".
وقال ابن عبد الهادي كما في "كشف الخفاء" للعجلوني (2/188):
"(وروي) مرفوعاً عن أنس بإسنادٍ ساقطٍ، والأصح وقفه على ابن مسعودٍ".
وقال ابن القيم في "الفروسية" (ص61):"ليس من كلام رسول الله (، وإنما يضيفه إلى كلامه من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعودٍ")(3).
وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (2/17):"لا أصل له مرفوعاً، وإنما ورد موقوفاً على ابن مسعود" اهـ.
ثانياً:(قال الشيخ الألباني في "السلسة الضعيفة" ( 2/17):
(إن من عجائب الدنيا أن يحتج بعض الناس بهذا الحديث على أن في الدين بدعةً حسنةً،
وأن الدليل على حسنها اعتياد المسلمين لها!!
__________
(1) موسوعة أهل السنة" لعبدالرحمن دمشقية (1/340) بتصرف.
(2) لمصدر السابق (1/338).
(3) علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص129-130) باختصار.(19/32)
ولقد صار من الأمرِ المعهود أن يبادر هؤلاء إلى الاستدلال بهذا الحديث عندما تثار هذه المسألة، وخفي عليهم:
أ - أن هذا الحديث موقوف - أي على الصحابي - فلا يجوز أن يحتج به في معارضة النصوص المرفوعة - أي إلى النبي ( - القاطعة في أن { كل بدعةٍ ضلالة } كما صح عنه (.
ب - وعلى افتراض صلاحية الاحتجاجِ به، فإنه لا يعارِض تلك النصوص لأمور:
الأول: أن المراد به إجماع الصحابة واتفاقهم على أمر، كما يدل عليه السياق، ويؤيده استدلال ابنِ مسعودٍ (به على إجماع الصحابة على انتخاب أبي بكر خليفةً (حيث قال:"إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد (خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته،ثم نظر في قلوب العباد، بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوا سيئاً، فهو عند الله سيئ" أخرجه أحمد (1/379)، وروى الحاكم الجملة الأخيرة، وزاد: "وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر")(1).
وعليه؛ فاللام في "المسلمون" ليس للاستغراق كما يتوهمون، بل للعهد.
الثاني: سلمنا أنه للاستغراق، ولكن ليس المراد به قطعاً كل فردٍ من المسلمين، ولو كان جاهلاً لا يفقه من العلم شيئاً؛ فلا بد إذن من أن يحمل على أهل العلم منهم، وهذا مما لا مفر لهم منه فيما أظن).
قلت: ومما يزيد كلامه - حفظه الله - وضوحاً الأمور التالية:
1 - أنه قد بوب له جماعةٌ من أهل الحديث في "باب الإجماع"، كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار" (1/81)، و "مجمع الزوائد" (1/177)، وغيرهما.
__________
(1) البدعة وأثرها السيء في الأمة" للهلالي (38-39) باختصار.(19/33)
2 - استدل به كثير من العلماء على الإجماع:
قال ابن كثير:"وهذا الأثر فيه حكايةُ إجماعٍ عن الصحابة في تقديم الصديق، والأمر كما قاله ابن مسعودٍ".
وقال ابن القيم في "الفروسية"(ص60) بعد إيراده، رداً على المستدلين به:"في هذا الأثر دليل على أن ما أجمع عليه المسلمون ورأوه حسناً؛ فهو عند الله حسن، لا ما رآه بعضهم! فهو حجة عليكم".
وقال ابن قدامة في"روضة الناظر"(ص86):" الخبر دليل على أن الإجماع حجة، ولا خلف فيه".
وقال الشاطبي في "الاعتصام" (2/655):(إن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون بجملتهم حسناً؛ فهو حسنٌ، والأمة لا تجتمع على باطلٍ، فاجتماعهم على حسن شيءٍ يدل على حسنه شرعاً؛ لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعياً")(1).
وقال الإمام ابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (6/197):بعد ان ذكر اثر ابن مسعود رضي الله عنه:( فهذا هو الإجماع الذي لا يجوز خلافه لو تيقن، وليس ما رآه بعض المسلمين أولى بالاتباع مما رآه غيرهم من المسلمين، ولو كان ذلك لكنا مأمورين بالشيء وضده، وبفعل شيء وتركه معاً، وهذا محال لا سبيل إليه) اهـ.
وقال العز بن عبد السلام في "فتاوى العز بن عبد السلام"(ص379):"إن صح الحديث عن رسول الله (، فالمراد بالمسلمين أهل الإجماع" اهـ.
(وهنا نقول لمن استدل بهذا الأثر على أن هناك بدعة حسنة: هل تستطيع أن تأتي ببدعة واحدة أجمع المسلمون على حسنها؟
إن هذا من المستحيل ولا شك، فليس هناك بدعة أجمع المسلمون على حسنها ولله الحمد.
ثالثاً: كيف يستدل بكلام هذا الصحابي الجليل على تحسين شيء من البدع، مع أنه (كان من أشد الصحابة نهياً عن البدع وتحذيراً منها، وهو القائل كما مر معنا
"اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وكل بدعةٍ ضلالة" رواه الدارمي في سننه)(2).
__________
(1) علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص131-133) بتصرف.
(2) :"اللمع في الرد على محسني البدع" (ص30-31) بتصرف.(19/34)
الشبهة الثالثة:(يقولون: ليست (كل) في حديث: { كل بدعةٍ ضلالة } على عمومها، بدليل أن الله سبحانه يقول: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } ]الأحقاف:25[ والريح لم تدمر (كل) شيءٍ، فدل على أن (كل) ليست على عمومها!.
الجواب: إن (كل) على عمومها هنا أيضاً، إذ هي دمرت (كل) شيءٍ أمرها به ربها،
لا (كل) شيءٍ في الدنيا!!
وعلى هذا قول المفسرين:
قال ابن جريرٍ في "تفسيره" (13/26/27):(وإنما عنى بقوله: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ }
مما أرسلت بهلاكه؛ لأنها لم تدمر هوداً ومن كان آمن به) اهـ.
وقال القرطبي في "تفسيره" (16/206):"أي كل شيءٍ مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها".
وكذا قال آخرون، وانظر "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص274-275).
فلا حجة في هذا الاستدلال ألبتة)(1).
الشبهة الرابعة: فهمهم لقول عمر بن الخطاب (:"نعمت البدعة هذه" رواه البخاري.
الجواب:
أولاً:(لو سلمنا جدلاً بصحة دلالته على ما أرادوا من تحسين البدع - مع أن هذا
لا يسلم - فانه لا يجوز أن يعارض كلام رسول الله (القائل: { كل بدعةٍ ضلالة } بكلام أحد من الناس، كائنا من كان.
قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما:"يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله (، وتقولون: قال أبوبكر وعمر")(2).
ثانياً: أن عمر بن الخطاب (قال هذه الكلمة حين جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح و (صلاةَ التراويح ليست بدعةً في الشريعة، بل هي سنة بقول رسول الله (وفعله في الجماعة.. ولا صلاتها جماعةً بدعةً، بل هي سنة في الشريعة، بل قد صلاها رسول الله (في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثا.
__________
(1) ن بداية الشبهة إلى هنا نقلاً من "علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص93) .
(2) اللمع في الرد على محسني البدع" للسحيباني (ص20).(19/35)
وقال: { من قام مع الإمام حتى يَنصرف، فإنه يعدل قيام ليلةٍ } رواه الترمذي وابن ماجة.
كما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح. رواه أهل السنن.
وبهذا الحديث احتج احمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد.
وفي قوله هذا ترغيب لقيام رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة،
وكان الناس يصلونها جماعاتٍ في المسجد على عهده (وهو يقرهم، وإقراره سنة منه ()(1).
بل إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون التراويح في عهد عمر (قبل أن يقول كلمته هذه، فقد روى البخاري ومالك وغيرهما عن عبد الرحمن بن عبدالقارى (قال:(خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذَا الناس أوزاعاً متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصَلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحدٍ لَكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعبٍ. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارِئهم. قال عمر:"نعمت البدعة هذه").
ثالثاً:(إذا علمت - رحمك الله - ما تقدم، فمفهوم البدعة الشرعية لا ينطبق على فعل عمر، وإنما أراد - ( - بقوله المذكور البدعة اللغوية، فالبدعة في الشرع لا تستخدم إلا في موضع الذم، بخلاف اللغة فإن كل ما أحدث على غير مثال سابق بدعة، سواء أكان محموداً أو مذموماً)(2).
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم" (2/591-592) بتصرف.
(2) البدعة أثرها السيئ في الأمة" للشيخ سليم الهلالي (40-41).(19/36)
(وعلى هذا حمل العلماء قول عمر (فقد قال الإمام ابن كثير- رحمه الله- في "تفسيره" عند تفسير (سورة البقرة:117):"البدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية؛ كقوله (: { كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة } وتارة تكون بدعة لغوية؛ كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارِهم:"نعمت البدعة هذه" .
وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص233):"وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية…" ثم ذكر رحمه الله قول عمر (.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/592-593):
"وأما قول عمر (:"نعمت البدعة هذه" فأكثر المحتجين بهذا؛ لو أردنا أن نثبت حكماً بقول عمر الذي لم يخالف فيه؛ لقالوا:"قول الصاحب ليس بحجةٍ!"، فكيف يكون حجةً لهم في خلاف قول رسول الله (؟!
ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة؛ فلا يعتقده إذا خالف الحديث.
فعلى التقديرين: لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب.
ثم نقول: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعةً، مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداءً من غير مثالٍ سابقٍ، وأما البدعة الشرعية؛ فما لم يدل عليه دليل شرعي.
فإذا كان نص رسول الله (قد دل على استحباب فعلٍ، أو إيجابه بعد موته، أو دل عليه مطلقاً، ولم يعمل به ألا بعد موته، ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبوبكر (، فإذا عمل ذلك العمل بعد موته، صح أن يسمى بدعة في اللغة؛ لأنه عمل مبتدأ، كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي (يسمى محدثاً في اللغة؛ كما قالت رسل قريشٍ للنجاشي عن أصحاب النبي (المهاجرين إلى الحبشة:"إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك، وجاؤوا بدينٍ محدثٍ لا يعرف".(19/37)
ثم ذلك العمل الذي دل عليه الكتاب والسنة ليس بدعةً في الشريعة، وإن سمي بدعة في اللغة.
وقد علم أن قول النبي (: { كل بدعةٍ ضلالة } لم يرد به كل عمل مبتدأ؛ فإن دين الإسلام، بل كل دين جاءت به الرسل؛ فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد من الأعمال التي لم يشرعها هو ().
قلت: وقد سبق بيان أن رسول الله ( قد صلى بأصحابه في رمضان ثلاث ليالٍ، ثم خاف أن تفرض عليهم، فتركها.
"فلما كان في عهد عمر (؛ جمعهم على قارئ واحدٍ، وأسرج المسجد فصارت هذه الهيئة - وهي اجتماعهم في المسجد وعلى إمامٍ واحدٍ مع الإسراج - عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمي بدعةً؛ لأنه في اللغة يسمى بذلك، ولم يكن بدعةً شرعيةً، لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض زال بموته (، فانتفى المعارض"(1) (2).
__________
(1) الاقتضاء" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/594).
(2) علم أصول البدع" للشيخ علي الحلبي (126-129) بتصرف يسير.(19/38)
الشبهة الخامسة: فهمهم لقول الله تعالى: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ } ]الحديد: 27[.
الجواب:(ليس في هذه الآية دليل على استحسان البدع من كل الوجوه المحتملة، فإذا كان قوله تعالى: { إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } يرجع إلى قوله تعالى: { ابْتَدَعُوهَا } ؛ فمعناه أن الله لم يكتبها عليهم؛ إلا أنهم ابتدعوها بقصد زيادة التقرب إلى الله، وفي هذا ذم لها؛ لأن الله لم يفرضها عليهم، ويزداد التقبيح أنهم مع اختراعهم لها لم يرعوها حق رعايتها، وقصروا فيما ألزموا أنفسهم به، وهذا ضرب من التقبيح والتشنيع المضاعف.
وإذا كان راجعاً إلى قوله: { مَا كَتَبْنَاهَا } ؛ فمعناه أنهم ألزموا أنفسهم بابتداعها، فكتبها الله عليهم، أي أصبحت ديناً مشروعاً من لدن أحكم الحاكمين، وهذا ضرب من التقرير، وقد حدث مثله في ديننا، فكان الرسول (يقر أصحابه على أقوال وأفعال يأتون بها،
لم تكن مشروعة من قبل، وبتقريره لها تصبح شرعاً يعبد الله به، وأمثلة ذلك في السنة كثير.
أما بعد موت رسول الله (؛ فإن الشرع لم يعد بحاجة إلى زيادة؛ لأن الله أتمه وأكمله،
ولم يترك الرسول ( شيئاً مما يقربنا من الجنة إلا وقد أمرنا به، ولم يدع أمراً يقربنا من النار إلا وقد نهانا عنه (.
وجملة القول أن هذه الآية من شرع ما قبلنا، والراجح في علم الأصول أنه ليس شرعاً لنا؛ لأدلة كثيرة منها قوله (: { أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي... } فذكرها، وآخرها: { وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة } أخرجه البخاري ومسلم.
وعلى فرض صحة قول من قال:"شريعة من قبلنا شريعة لنا" فذلك مشروط بشرطين:(19/39)
الأول: أن يثبت أن ذلك شرع ارتضاه الله لهم بنقل موثوق.
الثاني:أن لا يكون في شرعنا ما يخالفه.
وعليه؛ فالآية لا حجة فيها لمحسني البدع، لأن الإسلام بين أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)(1).
الشبهة السادسة: جمع القران بعد وفاة الرسول (.
الجواب:
أولاً:(القرآن كان في عهد النبي (مكتوباً في الصحف؛ لقوله تعالى: { يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً } ]البينة:2[ وقول الرسول (: { لا تكتبوا عني.ومن كتب عني غير القرآن فليمحه } أخرجه مسلم، لكنها كانت مفرقة، كما يدل على ذلك قول زيد بن ثابت (في قصة جمع القرآن التي رواها البخاري:" فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال".
ثانياً: إن جمع القرآن لم يأت به الصحابة من تلقاء أنفسهم،بل هو تحقيق لوعد الله تعالى أيضاً بجمعه؛ كما وعد بحفظه: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } ]القيامة:17[.
فإذا جمعنا بين الآيتين؛ تبين لنا يقيناً أصل عظيم وهو أن الذي شرع الغاية لم ينس الوسيلة، فكما أن حفظ القرآن غاية شرعها الله، كذلك جمعه وسيلة بينها الله، فكان على عهد النبوة مكتوباً في الصحف التي هي العسب واللخاف وكذلك صدور الرجال، فلما رأى الصحابة أن القتل استحرَّ بالقراء يوم اليمامة؛ لجؤوا إلى الوسائل الأخرى التي كان القرآن مكتوباً فيها، فجمعوها، وكان ذلك إيذاناً من الله بتحقيق جمع القرآن وحفظه.
ثالثاً: إن اتفاق الصحابة وقع على جمع القرآن وذلك إجماع منهم وهو حجة بلا ريب كيف وهم القوم لا يجتمعون على ضلالة؟!
__________
(1) البدعة أثرها السيئ في الأمة"لسليم الهلالي (ص46-49) باختصار.(19/40)
وقد قال النبي (: { لا تجتمع أمتي على ضلالة } رواه الترمذي.
رابعاً: إن حاصل ما فعله الصحابة وسائل لحفظ أمر ضروري، أو دفع ضرر اختلاف المسلمين في القرآن، والأمر الأول من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، والأمر الثاني من باب "درء المفاسد، وسد الذرائع" وهي قواعد أصولية مستنبطة من الكتاب والسنة)(1).
(فإن قيل: فلماذا لم يفعله رسول الله (؟ قلت: لوجود المانع، وهو أن القرآن كان يتنزل عليه طيلة حياته، وقد ينسخ الله سبحانه منه ما يريد، فلما انتفى المانع؛ فعله الصحابة رضوان الله عليهم باتفاق)(2).
و"ما رأى المسلمونَ حسناً؛ فهو عند الله حسنٌ ".
الشبهة السابعة: يقول البعض أن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد } مخصص لحديث { كل بدعة ضلالة } ومبين للمراد منها؛ إذ لو كانت البدعة ضلالة بدون استثناء؛ لقال الحديث: من أحدث في أمرنا هذا شيئاً؛ فهو رد!! لكن لما قال: { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد } ؛ أفاد أن المحدث نوعان: ما ليس من الدين، بأن كان مخالفاً لقواعده ودلائله؛ فهو مردود، وهو البدعة الضلالة، وما هو من الدين، بأن شهد له أصل، وأيده دليل؛ فهو صحيح مقبول، وهو السنة الحسنة !!
الجواب:
(معلوم من قواعد العلم ومبادئه أن روايات الأحاديث النبوية يفسر بعضها بعضاً، ويشرح بعضها ما غمض من بعضها الآخر.
فهذه الرواية يوضحها ويزيل لبسها المتوهم فيها ما يلي:
أولاً:الرواية الأخرى للحديث نفسه، وهي: { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد } .
فهذا إيضاح جلي للرواية ذاتها، يكشف صورة العمل المحدث المردود، ويبين أنه كل عمل ليس عليه الدين؛ فهذا شامل للكيفية والصفة والهيئة إذا لم ترد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) البدعة وأثرها السيئ في الأمة" (ص55-60) بتصرف.
(2) علم أصول البدع" لعلي الحلبي (حاشية ص232) .(19/41)
إذ إعراب { ليس عليه أمرنا } أنها في محل نصبِ صفةٍ لـ { عملاً } ، فصفة المحدَثِ أنه ليس عليه أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً: أن تطبيق السلف وفهمهم - وهم القوم لا يشقى الآخذ بقولهم - لهذا الحديث
لم يكن على هذا الوجه المستنكر، وإنما كان على الجادة الموافقة لأصول اللغة، وقواعد الاستدلال.
ففي روايات كثيرة عنهم - رحمهم الله - تراهم يستنكرون أعمالاً مشروعة الأصل محدثة الكيفية والصفة، ويصفونها بالابتداع) (1).
الشبهة الثامنة: استدلالهم بما جاء عن غضيف بن الحارث (أنه قال:
"بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال: يا أبا أسماء إنا قد جمعنا الناس على أمرين، قلت: وما هما؟
قال:رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر.
فقال: أما انهما أمثل بدعكم عندي، ولست مجيبك إلى شيء منهما.
قال: لم؟
قال: لأن النبي (قال: { ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة } فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة" أخرجه احمد.
الجواب:
(أولاً: إن هذا الأثر لا يثبت، بل هو ضعيف، لأن في إسناده أبا بكر بن عبدالله بن أبي مريم الغساني وهو ضعيف، ضعفه احمد، وأبو داود، وأبو حاتم، وابن معين وأبو زرعة، وابن سعد، وابن عدي، والدارقطني، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (12/28-29)، و"تقريب التهذيب" (2/398)، و"ميزان الاعتدال" (4/498)، و"سير أعلام النبلاء"
(7/64))(2).
(ثانياً: على افتراض صحة هذا الأثر، فإنه قد سبق التنبيه على أنه لا يجوز أن يعارض كلام رسول الله (بكلام أحد من الناس كائناً من كان.
ثالثاً: ان غضيف بن الحارث (رفض الاستجابة لهذه البدع، وردها،
ولو كانت حسنة، لما امتنع من الأخذ بها.
__________
(1) :"علم أصول البدع" للشيخ علي الحلبي (ص34-36) باختصار.
(2) حقيقة البدعة وأحكامها" لسعيد الغامدي (1/421-422) باختصار.(19/42)
رابعاً: ان قوله:"أمثل بدعكم"، أمر نسبي، أي هي بالنسبة للبدع الأخرى أخف شراً، وأقل مخالفة.
خامساً: استدل غضيف ( - على فرض صحة الأثر والحديث- على ترك هذه البدع بحديث: { ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة } فلو كانت هذه البدعة حسنة، لم يرفع من السنة مثلها، لأن رفع السنة عقوبة، والحسن لا يعاقب عليه)(1).
الشبهة التاسعة: زيادة عثمان بن عفان (للأذان قبل الأذان الشرعي يوم الجمعة.
الجواب:
أولاً:(لقد فعل عثمان ذلك لمصلحة، وهو أن الناس عندما كثروا؛ وتباعدت منازلهم عن المسجد؛ رأى هذا الأذان نافعاً لاتساعها وكثرة أهلها، فيدعوهم ذلك إلى الاستعداد)(2)، يدل على ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن السائب بن يزيد أنه قال:"كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي (وأبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما. فلما كان عثمان ( وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء".
(وقد نقل القرطبي في "تفسيره" (18/100) عن الماوردي قوله:(فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان (ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها) انتهى كلامه - رحمه الله - فمن صرف النظر عن هذه العلة، وتمسك بأذان عثمان (مطلقاً لا يكون مقتديا به، بل هو مخالف له حيث لم ينظر بعين الاعتبار إلى تلك العلة التي لولاها لما كان لعثمان (ان يزيد على سنته عليه الصلاة والسلام وسنة الخليفتين من بعده.
ولهذا قال الإمام الشافعي في كتابه"الأم"(1/173):"وقد كان عطاء ينكر أن يكون عثمان أحدثه، ويقول: أحدثه معاوية، وأيهما كان فالأمر الذي كان على عهد رسول الله ( أحب إلي، فإن أذن جماعة من المؤذنين والإمام على المنبر، وأذن كما يؤذن اليوم أذان قبل أذان المؤذنين إذا جلس الإمام
__________
(1) اللمع في الرد على محسني البدع" للسحيباني (ص34-35) باختصار.
(2) إشراقة الشرعة في الحكم على تقسيم البدعة" لأسامة قصاص رحمه الله (ص40).(19/43)
على المنبر كرهت ذلك له، ولا يفسد شيء من صلاته" اهـ)(1).
ففعل عثمان (يعتبر من المصلحة المرسلة (و"المصلحة المرسَلة" في تعريف الأصوليين هي:"الأوصاف التي تلائم تصرفات الشارع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ عن الناس".
وسميت "مرسلة"؛ لعدم وجود ما يوافقها أو يخالفها في الشرع؛ أي: أرسلت إرسالاً وأطلقت إطلاقاً.
والضابط الذي تتميز به المصلحة المرسلة من البدع المحدثة هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/594):(والضابط في هذا- والله أعلم - أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا لأنهم يرونه مصلحةً، إذ لو اعتقدوه مفسدةً؛ لم يحدثوه؛ فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين.
فما رآه الناس مصلحةً؛ نظر في السبب المحوج إليه:
فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي لكن من غير تفريط منه؛ فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه.
وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله (، لكن تركه النبي (لمعارضٍ زال بموته وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث.
فكل أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله (موجوداً، لو كان مصلحةٍ ولم يُفْعَل: يُعْلم أنه ليس بمصلحةٍ.
وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق؛ فقد يكون مصلحةً..الخ).
وخلاصةُ القول: أن "حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمرٍ ضروري، أو رفع حرجٍ لازم في الدين".
__________
(1) الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة" للشيخ الألباني (9-12) باختصار.(19/44)
وليست البدع - عند من يدعيها- هكذا بيقين)(1) لأن المبتدع إنما يفعل البدع بقصد زيادة التقرب إلى الله وإن لم يكن هناك حاجة لإحداث ذلك الفعل.
ثانياً: أن عثمان ( من الخلفاء الراشدين وقد قال النبي(: { فإن من يعش منكم؛ فسيرى اختلافاً كثِيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدَثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة } رواه أحمد وأبو داود.
الشبهة العاشرة: قول الإمام الشافعي- رحمه الله -:"البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة، فهو محمود، وما خالف السنة، فهو مذموم" واحتج بقول عمر (في قيام رمضان: "نعمت البدعة هذه" رواه أبو نعيم في"حلية الأولياء" (9/113).
وقوله: المحدثات من الأمور ضربان: ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً، فهذه بدعة ضلالة.وما أحدث من الخير لا خلاف لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة.قد قال عمر في قيام رمضان: "نعمت البدعة هذه".
يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.أخرجه البيهقي في "مناقب الشافعي"(1/469).
الجواب:
قال الشيخ سليم الهلالي في "البدعة وأثرها السيئ في الأمة" راداً على من يستدل بقول الشافعي هذا (ص63- 66):
(أولاً: بالنسبة لما أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/113) ففي سنده عبدالله بن محمد العطشي، ذكره الخطيب البغدادي في "تاريخه" والسمعاني في"الأنساب" ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً.
وأما بالنسبة لما أخرجه البيهقي ففيه محمد بن موسى الفضل، لم أجد له ترجمة(2).
ثانياً: قول الشافعي إن صح لا يصح أن يكون معارضاً أو مخصصاً لعموم حديث رسول الله (.
__________
(1) علم أصول البدع" لعلي الحلبي (227-237) باختصار.
(2) قال الشيخ علي الحلبي في "علم أصول البدع" (ص121) عنهما: "أن في أسانيدها مجاهيل".(19/45)
والشافعي نفسه - رحمه الله - نقل عنه أصحابه أن قول الصحابي إذا انفرد ليس حجة، ولا يجب على من بعده تقليده، ومع كون ما نسب إلى الإمام الشافعي فيه نظر بدليل ما في "الرسالة " للشافعي ( ص597- 598)، فكيف يكون قول الشافعي حجة، وقول الصحابي ليس بحجة؟!
ثالثاً: كيف يقول الشافعي رحمه الله بالبدعة الحسنة وهو القائل: "من استحسن فقد شرع".
والقائل في "الرسالة" ( ص507):"إنما الاستحسان تلذذ".
وعقد فصلاً في كتابه "الأم" (7/293- 304) بعنوان:"إبطال الاستحسان".
لذلك؛ من أراد أن يفسر كلام الشافعي- رحمه الله - فليفعل ضمن قواعد وأصول الشافعي، وهذا يقتضي أن يفهم أصوله، وهذا الأمر مشهود في كل العلوم، فمن جهل اصطلاحات أربابها جهل معنى أقاويلهم، وأبعد النجعة في تفسيرها.
إن المتأمل في كلام الشافعي- رحمه الله - لا يشك أنه قصد بالبدعة المحمودة البدعة في اللغة، وهذا واضح في احتجاج الشافعي- رحمه الله - بقول عمر رضي الله عنه، وعلى هذا الأصل يفسر كلام الشافعي، وأنه أراد ما أراده عمر بن الخطاب (أي: البدعة اللغوية ( كما سبق بيانه) لا الشرعية؛ فإنها كلها ضلالة؛ لأنها تخالف الكتاب، والسنة، والإجماع، والأثر) انتهى كلامه بتصرف.(19/46)
الشبهة الحادية عشر: أن بعض العلماء قسم البدعة إلى خمسة أقسام، واجبة كالرد على أهل الزيغ؛ وتعلم العلوم الشرعية وتصنيف الكتب في ذلك، ومندوبة كإحداث الربط والمدارس والأذان على المنائر وصنع إحسان لم يعهد في الصدر الأول، ومكروهة زخرفة المساجد، ومباحة كالتوسع في المأكل والمشرب، ومحرمة وهي ما أحدث لمخالفة السنة ولم تشمله أدلة الشرع العامة ولم يحتو على مصلحة شرعية.
الجواب:
أولاً: بالنسبة إلى تقسيم البدع إلى خمسة أقسام فالجواب عنه: قول النبي (: { كل بدعةٍ ضلالة } وهذا الحديث عام لم يدخله التخصيص كما سبق بيان ذلك.
ثانياً: قال الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (1/246) عن هذا التقسيم:
(إن هذا التقسيم أمرٌ مخترع، لا يدل عليه دليلَ شرعي، بل هو في نفسه متدافع؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي؛ لا من نصوص الشرع ولا من قواعده، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوبٍ أو ندبٍ أو إباحةٍ؛ لما كان ثَمَّ بدعةٌ، ولَكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخير فيها.
فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعاً، وبين كون الأدلَة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمعٌ بين متنافيين.
أما المكروه منها والمحرم؛ فمسلم من جهة كونها بدعاً لا من جهةٍ أخرى، إذ لو دل دليل على منع أمر ما أو كراهته؛ لم يثبت ذلك كونه بدعة؛ لإمكان أن يكون معصية كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها، فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم البتة، إلا الكراهية والتحريم حسبما يذكر في بابه).
هذا بالنسبة إلى التقسيم المذكور، أما بالنسبة إلى الأمثلة التي ذكروها لهذا التقسيم فالجواب عنها ما يلي:
(أما الرد على أهل الزيغ فإنه من إنكار المنكر لأن البدع هي أعظم المنكرات بعد الشرك بالله، وهو أيضاً من الجهاد في سبيل الله ومن النصيحة للمسلمين.
قال رسول الله (: { ما من نبيً بعثه الله في أمةٍ قبلي، إِلا(19/47)
كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته و يقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل } رواه مسلم.
وقد أنكر النبي (على الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فقال رسول الله (:
{ أما والله؛ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني } .
وأنكر ابن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما على الذين اجتمعوا للذكر بطريقة غير مشروعة؛ كما سبق بيانه،ولما خرج الخوارج وأظهروا بدعتهم أنكر ذلك الصحابة وقاتلوهم، ولم يخالف أحد من الصحابة رضي الله عنهم في إنكار بدعتهم ووجوب قتالهم.وقد وردت الأحاديث الكثيرة في ذمهم والأمر بقتالهم إذا خرجوا)(1).
__________
(1) الرد القوي" للشيخ حمود التويجري رحمه الله (ص110-112) بتصرف.(19/48)
وأما بالنسبة للتصنيف في جميع العلوم النافعة فالأصل فيه قول النبي (: { بلغوا عني ولو آية } رواه البخاري، وقوله (: { نضر الله امرءا سمع مقالتي فبلَغها، فرب حامل فقهٍ غير فقيهٍ، ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه } (1)، ومن وسائل التبليغ تصنيف الكتب الشرعية.
( وقد كان بعض الصحابة يكتب الأحاديث في عهد الرسول (؛ فقد جاء في سنن الترمذي عن أبي هريرة (أنه قال: " ليس أحد من أصحاب رسول الله (أكثر حديثاً عن رسول الله ( مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب"، وذكر أهل السير أنه كان لرسول الله (كتاب يكتبون له الوحي وغيره)(2).
بل قد حث النبي (على كتابة العلم فقال: { قيدوا العلم بالكتابة } (3).
(أما بالنسبة لإحداث الربط فلا نقول بأنه ليس له عهد لدى سلفنا الصالح، فأين أنتم عن الصفة وأهل الصفة، فهي رباط على فقراء الصحابة، وهي أصل في مشروعية وقف الأربطة على الفقراء)(4).
(وأما المدارس؛ فلا يتعلق بها أمر تعبدي يقال في مثله: بدعة؛ إلا على فرض أن يكون
من السنة أن لا يقرأ العلم إلا بالمساجد، وهذا لا يوجد، بل العلم كان في الزمان الأول يبث
بكل مكان؛ من مسجد، أو منزل، أو سفر، أو حضر، أو غير ذلك، حتى في الأسواق فإذا أعد أحد من الناس مدرسة يعين بإعدادها الطلبة؛ فلا يزيد ذلك على إعداده له منزلا من منازله، أو حائطاً من حوائطه، أو غير ذلك فأين مدخل البدعة ها هنا؟!
__________
(1) واه ابن ماجة وصححه الألباني رحمه الله في "صحيح سنن ابن ماجة" (1/94).
(2) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل" للشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله (ص156).
(3) واه الخطيب في "التاريخ"(10/46) وابن عبدالبر في "جامع العلوم" (1/72) وانظر "السلسلة الصحيحة" (5/40) للألباني.
(4) حوار مع المالكي" لابن منيع (ص104) بتصرف.(19/49)
وإن قيل: إن البدعة في تخصيص ذلك الموضع دون غيره والتخصيص ها هنا ليس بتخصيص تعبدي وإنما هو تعيين بالحبس كما تتعيَّن سائر الأمور المحبسة، وتخصيصها ليس ببدعة،فكذلك ما نحن فيه)(1).
(وأما الأذان على المنارة فلا يدخل في مسمى البدعة لأن البدعة في الأذان هي الزيادة في ألفاظه مثل قول الرافضة أشهد أن علياً ولي الله وقول بعضهم أشهد أن علياً حجة الله، وقولهم حي على خير العمل وتكريرهم قول لا إله إلا الله مرتين في آخر الأذان ورفعهم الصوت بالصلاة على النبي (بعد الآذان، فهذا هو المبتدع في الأذان. وأما الأذان على المكان المرتفع فهو مروي عن بلال (فقد روى أبو داود والبيهقي عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت:"كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر"وقد ترجم له أبو داود بقوله:"الأذان فوق المنارة" وترجم له البيهقي بقوله: "الأذان في المنارة")(2).
( وأما صنع الإحسان فإنه من المعروف وليس من البدع سواء كان معهوداً في الصدر الأول أو لم يكن معهوداً فيه.
وقد قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ] } النحل:90[ وقال تعالى: { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين } ]البقرة:195[ والآيات والأحاديث الصحيحة في الحث على الإحسان كثيرة جداً، ولم يحدد صور معينة للإحسان بحيث لا يجوز فعل غيرها، وإنما يذم منه ما تجاوز الحد وكان من التبذير)(3).
__________
(1) الاعتصام "للشاطبي (1/263-264).
(2) الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي" للتويجري رحمه الله (ص115) باختصار.
(3) الرد القوي" (ص117) بتصرف يسير.(19/50)
(وأما زخرفة المساجد فكيف يقال أنها من البدع المكروهة، وقد نص رسول الله (على النهي عنها، وقد نهى عنها عمر أيضا، فهي منهي عنها نصاً.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (: { ما أمرت بتشييد المساجد } قال ابن عباس:"لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى" أخرجه أبو داود (1) وأمر عمر ببناء المسجد وقال:"أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس")(2).
( وأما بالنسبة للتوسع في المأكل والمشرب فهذه من الأمور المباحة ولا يقصد باستعمالها أمر تعبدي، فهي مشمولة بالنص النبوي الكريم: { أنتم أعلم بأمور دنياكم } رواه مسلم؛ وقوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } ]الأعراف:31[ فما استحدثه الناس في أمور حياتهم مما لا يتعارض مع النصوص العامة في مراعاة الاقتصاد والإباحة العامة،فلا يعتبر بدعا،فقد عرف العلماء البدعة بأنها طريقة محدثة في الدين)(3).
وأما البدع المحرمة وهي حسب تعريفهم: ما أحدث لمخالفة السنة، ولم تشمله الأدلة العامة؛ ولم يحتو على مصلحة شرعية.
فالجواب عن ذلك: أن هذه الشروط مخالفة للأحاديث النبوية والآثار السلفية التي جاءت في التحذير من البدع عموماً دون تخصيص أو تفصيل بين ما أحدث خلاف السنة أو غيره وإليك البيان:
1 - قال رسول الله (: { كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة } وهذا الحديث عام في إنكار جميع البدع كما سبق بيان ذلك.
__________
(1) صححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (1/133).
(2) الموقظة من السنة على ألا بدعة حسنة" لسيد الشنقيطي (ص64-65) .
(3) : "حوار مع المالكي" (ص105) بتصرف.(19/51)
2 - أن النبي (اخبر عن وقوع الاختلاف بعده فقال: { فإن من يعش منكم؛ فسيرى اختلاَفاً كثيراً } وارشد من يدرك هذا الاختلاف بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده فقال: { فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ } ولم يقل لهم: فعليكم بما يوافق سنتي وسنة الخلفاء الراشدين ولم يخالفها مثلاً، ثم حذرهم من المحدثات عموماً فقال: { واياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة } ولم يقل: وإياكم ومحدثات الأمور المخالفة لسنتي، فإن كل محدثة مخالفة لسنتي وسنة الخلفاء بدعة؛ وكل بدعة مخالفة لذلك فهي ضلالة.
3 - قال الصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما:"كل بدعةٍ ضلالة وإن رآها الناس حسنةً" ولم يخصص بدعة من أخرى.
4 - وقال عبد الله بن مسعود( :"أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدَثة؛ فعليكم بالأمرِ الأول".
5 - وقد مر معنا إنكار ابن عمر رضي الله عنهما زيادة الصلاة على النبي (بعد العطاس! بحجة أن النبي ( لم يعلمهم ذلك؛ وكذلك إنكار عائشة رضي الله عنها على المرأة التي سألتها عن سبب أن المرأة الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة بحجة أن الرسول (لم يأمرهم بقضاء الصلاة وإنما أمرهم بقضاء الصيام.
وكذلك مر معنا إنكار الإمام النووي- رحمه الله - صلاة الركعتين بعد السعي!.
فهذه الأدلة وغيرها تبين فساد تلك الشروط التي اشترطوها في البدعة المنكرة حسب زعمهم.
(والحاصل من جميعِ ما ذكر فيه قد وضح منه أن البدع لا تنقسم إلى ذلك الانقسام
بل هي من قبيل المنهي عنه إما كراهةً وإما تحريماً)(1).
الشبهة الثانية عشر: يقول البعض: إن ترك الرسول ( للفعل لا يدل على التحريم إلا إذا جاء في ذلك دليل صريح، فكيف يحتج على إنكار البدع الحسنة - حسب زعمهم - بحجة أن الرسول ( لم يفعل ذلك؟
الجواب:
__________
(1) علم أصول البدع" للشيخ علي الحلبي (ص98).(19/52)
(أولاً: أن الله تعالى قال فيما امتن به على عباده: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } ]المائدة:3[ وفي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز إحداث البدع لأنها ليست من الدين الذي أكمله الله تعالى لهذه الأمة في حياة نبيها ورضيه لهم.
ثانياً: أن رسول الله ( قال: { إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتتن وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدةً } قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: { ما أنا عليه وأصحابي } رواه الترمذي(1) وهذا الحديث يدل على أن إحداث البدع لا يجوز لأنها من الأعمال التي لم يكن عليها رسول الله (وأصحابه رضي الله عنهم)(2).
ثالثاً:("من المقرر عند ذوي التحقيق من أهل العلم أن كل عبادةٍ مزعومةٍ لم يشرعها لنا رسول الله ( بقوله، ولم يتقرب هو بها إلى الله بفعله، فهي مخالفة لسنته.
لأن السنة على قسمين: سنة فعلية، وسنة تركية.
فما تركه ( من تلك العبادات؛ فمن السنة تركها.
ألا ترى مَثلاً أن الأذان للعيدين ولدفن الميت مع كونه ذكراً وتعظيماً لله عز وجل لم يجز التقرب به إلى الله عز وجل، وما ذاك إلا لكونه سنة تركها رسول الله (.
وقد فهم هذا المعنى أصحابه (، فكثر عنهم التحذير من البدع تحذيراً عاماً؛ كما هو مذكور في موضعه" .
ولتقرير قاعدة السنة التركية أقول: أصل قاعدة (السنة التركية) مأخوذ من عدة أدلةٍ؛ منها:
حديث الثلاثة نفر الذين جاؤوا إلى أزواج رسول الله ( يسألون عن عبادة الرسول ( … الخ وقد ذكرته فيما سبق.
فقد أنكر الرسول ( عليهم، ورد فعلهم، مع أن أصل العبادات التي أرادوا القيام بها مشروعة، ولكن لما كانت الكيفية والصفة التي
__________
(1) انظر كتاب "درء الارتياب عن حديث ما أنا عليه والأصحاب" لسليم الهلالي.
(2) الرد القوي" للعلامة التويجري رحمه الله (ص126-127) بتصرف.(19/53)
قام بها هؤلاء الثلاثةُ في هذه العبادات ( متروكةً) في تطبيق رسول الله ( وغير واردةٍ فيه، أنكر ذلك عليهم.
فهذه ترجمة عملية منه ( لقوله (: { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا (ولم يقل من عمل عملاً عليه نهينا) فهو رد } .
فهذا عمل مشروع الأصل، لكن ليس عليه أمر النبي (وهديه، فهو مردودٌ على صاحبه، غير مقبول منه.
وخلاصة القول:"إن الترك - مع حرصه عليه السلام على إحراز فضيلة النفل - دليل الكراهة" كما قاله الإمام العيني كما في "إعلام أهل العصر" للعظيم آبادي (ص95) ومن أمثلة ذلك ما سبقت الإشارة إليه في أول هذا المبحث: الأذان لصلاة العيد:
فالأذان مشروع في أصله، لكن لم يفعله رسول الله ( ولا أصحابه، وتركوه، فتركهم له سنة يجب اتباعهم فيها.
وكذا الأذان للاستسقاء والجنازة ونحوهما.
فمن فعل من التعبديات والقربات ما تركوه؛ فقد واقع البدعة، وتلبس بها.
قال الحافظ ابن رجب في "فضل علم السلف" (ص31): "... فأما ما اتفق السلف على تركه؛ فلا يجوز العمل به؛ لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به".
وللشيخ العلامة الشنقيطي في "أضواء البيان" (6/317-320) مبحثاً ماتعاً في أن الترك فعل؛ فهذا يؤكد أن "الترك سنة" ، إذ تعريف السنة أنها: "ما وَرَدَ عن النبي ( من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ ".
فتمام اتباع السنة يكون بترك ما وَرَدَ تركه، وفعل ما وَرَدَ فعله، وإلا فباب البدعة يفتح؛ عياذاً بالله تعالى.
ولابن القيم - رحمه الله - تفصيل بديع ماتع فيما نقله الصحابة رضي الله عنهم لتركه (؛ قال رحمه الله :"أما نقلهم لتركه؛ فهو نوعان، وكلاهما سنة:
أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله؛ كقوله في شهداء أحد: "ولم يغسلهم،
ولم يصل عليهم"؛ وقوله في صلاة العيد: "لم يكن أذان، ولا إقامة، ولا نداء"، وقوله في(19/54)
جمعه ( بين الصلاتين: "ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدةٍ منهم" ... ونظائره.
والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله؛ لتوفرت هممهم ودواعيهم، أو أكثرهم أو واحد منهم، على
نقله، فحيث لم ينقله واحدٌ منهم ألبتة، ولا حدث به في مجمعٍ أبداً؛ عُلم أنه لم يكن…".
ثم ذكر رحمه الله عدة أمثلةٍ على ذلك منها: تركه ( التلفظ بالنية عند دخول الصلاة،
وترك الدعاء بعد الصلاة على هيئة الاجتماع … وغير ذلك، ثم قال:
"… ومن ها هنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة؛ فإن تركه ( سنة كما أن فعله سنة، فإذا استحببنا فعل ما تركه؛ كان نظير استحبابنا ترك ما فعله، ولا فرق ")(1).
تنبيه: قال الشيخ علي الحلبي - حفظه الله - في "علم أصول البدع" (ص114- 118):
(كتب الغماري المبتدع رسالةً موجزةً سماها "حُسْنَ التفهم والدَّرْك لمسألةِ الترْك" ، تكلم فيها بكلامٍ غير سديدٍ، خالطاً بين المسائل الأصولية خلطاً قبيحاً، يترفع عنه صغار الطلبة.
ومجال تعقبه وتحقيقِ القول في المسائل التي أوردها في رسالته كبير جدا، أفردت له رسالة خاصة، عنوانها "دفع الشك في تحقيق مسألة الترك" يسر الله إتمامها.
ولكي لا أخلي المقام هنا من إشارةٍ تكشف انحرافه وتناقضه أقول:
ذكر في مواضع من كتابه ( ص9) وغيرها تأصيل مسألة الترك؛ قائلاً:
"فمن زعم تحريم شيءٍ بدعوى أن النبي ( لم يفعله؛ فقد ادعى ما ليس عليه دليل، وكانت دعواه مردودةً".
وقال (ص124):"ترك الشيء لا يدل على منعه؛ لأنه ليس بنهي".
وقد ذكر (ص151) أمثلةً على الترك مستحسناً لها؛ منها:
1- الاحتفال بالمولد النبوي.
__________
(1) علم أصول البدع" للحلبي (ص107–112) بتصرف.(19/55)
2- تشييع الجنازة بالذكر.
3- إحياء ليلة النصف من شعبان. وغيرها!
لكنه - من قبل و من بعد - ناقض نفسه، فعد بعض المحدثات التي هي جارية على أصوله مساق الحسن والاستحسان: بدعاً قبيحةً، ومحدثاتٍ سخيفةٍ!!
فقد قال ( ص37):"وأما المغاربة؛ فزادوا بدعةً أخرى، وهي إقامة الجمعة في المساجد على التوالي والترتيب... وهذا اتساع في الابتداع، لا يؤيده دليل!!
ولا تشمله قاعدة!!".
كذا قال ناقضاً ما أصله قبل!
وماذا؟! اتساع في الابتداع!!
فأين أدلة استحساناتك وقواعد محدثاتك؟!
وقال ( ص38):"بعض الأئمة الجهلة يخطب الجمعة ويصليها في مسجدٍ، ثم يذهب إلى مسجدٍ آخر، فيخطب فيه الجمعة، ويصليها أيضاً، فيرتكب بدعةً قبيحةً، ويصلي جمعةً باطلةً، يأثم عليها ولا يثاب".
كذا!! وهو تناقض عجاب!!
وقال ( ص38- 39):"شاع في المغرب الأذان للظهر مرتين، بينهما نحو ساعةٍ، والأذان للعصر مرتين بينهما عشر دقائق، وفي تطوان يؤذن للعشاء مرتين أيضاً، وهذه بدعةٌ سخيفةٌ، لا توجد إلا في المغرب، ولم يشرعِ الأذان؛ إلا عند دخول الوقت للإعلام بالصلاة، والأذان بعده لاغٍ غير مشروعٍ".
وغير هذا وذاك من أمثلةٍ تجعل كتابه كله { عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ } ]التوبة: 109[.(19/56)
فما هو الذي جعل هذه المحدثات منكرةً عندك وهي مستحسنة عند أصحابها؟!
فلماذا رفضتها أنت منهم بلا ضابطٍ؟!
ولماذا هم لا يرفضون - أيضاً - مستحسناتك؟!
ثم ألا تدخل هذه المحدَثات كلها التي أنكرتها تحت العمومات القرآنية التي أشرت إليها فيصدر رسالتك الشوهاء ( ص11) جاعلاً إياها الأصل في استحسان البدع؛ كمثل قوله تعالى: { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ]الحج: 77[... وغيرها؟!
فلماذا تصف تلك الفعال - وهي خير - بالسخافة وتشنع على أصحابها بالإنكار؟!
وأنت القائل ( ص11):"فمن زعم في فعل خيرٍ مستحدثٍ أنه بدعةٌ مذمومةٌ؛ فقد أخطأ وتجرأ على الله ورسوله، حيث ذم ما ندبا إليه في عموميات الكتاب والسنة" !
فهذا حكم منه على نفسه أوقعه على أم رأسه! وإبطالٌ لكتابه من أسه وأساسه!
وأوضح من السابق كله ما قاله ( ص39) في حكم إرسال اليدين في الصلاة، حيث صرح بقوله:"لم يفعله النبي ( ولا الصحابة؛ فهو بدعة لا شك".
ووصفَها (ص40) بأنها:"زلةٌ قبيحةٌ، حيث جعلوا البدعة مندوبة، والسنة مكروهةً!!" .
قلت - القائل الشيخ علي الحلبي -: وبيان كبير زلَله في هذا الموضعِ أن ( عدم الفعل) هو عين (الترك)!!
فاستدل بمجرد ( الترك) على الحكم بالبدعية والوصف بقبح الزلة!!
وهل غير هذا نقول؟!
أم أنه الانحراف عن الجادة؟ والخلط في تخريج الفروع على الأصول!!
وما أحسن كلامه ( ص51) مقلوباً على نفسه:"وأغلب أخطاء هؤلاء المبتدعة
- وما أكثرها- تأتي من جهة جهلهم بالأصول، وعدم تمكنهم من قواعده، مع ضيقِ باعهم، وقلة اطلاعهم" !!
فلا قوة إلا بالله، ولا رب سواه.
وصفوة القول في هذه المسألة العظيمة ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى تقعيداً وتأصيلاً كما في "فتح الباري" (3/475):"ولكنا نتبع السنة فعلاً أو تركاً" ) انتهى كلام الشيخ علي الحلبي جزاه الله خيراً.(19/57)
الشبهة الثالثة عشر: أن بعض الصحابة قد فعلوا أمورا تعبدية ولم يكن فيها دليل خاص؛ ومع ذلك أقرهم الرسول (؛ ولم ينكر عليهم ذلك، كقصة خبيب بن عدي ( التي رواها البخاري وفيها ان المشركين لما أرادوا أن يقتلوه طلب منهم أن يتركوه لكي يصلى ركعتين قبل القتل فقال أبو هريرة راوي القصة:" فكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبراً"، وقصة بلال ( عندما كان يصلي ركعتين بعد كل وضوء.
فدل ذلك على جواز إحداث أمور تعبدية وإن لم يفعلها الرسول (.
الجواب:
(ان فعل الصحابة موقوفاً على إقرار النبي ( له، وكان فعلهم قبل نزول آية كمال الدين وتمام النعمة.
وأما بعدها مما ابتدعه الخلف فمن أين لهم أن يعلموا إن كان النبي ( يقره أو ينهى عنه؟
أبالكشف الصوفي؟!
ولئن اقر النبي ( فعل خبيب وبلال في الصلاة بعد كل وضوء فإنه لم يقر البراء بن عازب على خطئه في الدعاء الذي علمه إياه النبي ( وفيه: { آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت } فقال البراء:"فجعلت استذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت"،فقال النبي (: { لا، وبنبيك الذي أرسلت } رواه البخاري ومسلم.
ولم يقر النبي ( عثمان بن مظعون على التبتل وسماه رهبنة، ولم يقر الصحابة الذين سألوا عن عبادةِ النبي ( فلما أخبروا بها، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي (؟
قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا؛ فأنا أصلي الليل أبداً،(19/58)
وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله (فقال: { أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله؛ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني } رواه البخاري وقد مر معنا سابقاً.
فمن أين تضمنون إقرار النبي ( لبدعكم وقد مات؟ وقد بلغكم قبل موته أن كل بدعة في الدين مردودة؟)(1).
وكل هذا يدل على ان ما أحدثه بعض الصحابة من أمور تعبدية أصبح سنة بإقرار الرسول (لا بمجرد فعل الصحابة.
وقد قال عبد الفتاح أبو غده(2)؛ بعد ذكره لقصة خبيب بن عدي (:
( قال العلامة القسطلاني في "إرشاد الساري" (5/165):"وإنما صار فعل خبيب سنةً، لأنه فعل ذلك في حياة الشارع ( واستحسنه".
وقال أيضاً (5/261):"وإنما صار ذلك سنةً، لأنه فعل في حياته ( فاستحسنه و اقره".
__________
(1) "موسوعة أهل السنة" للشيخ عبد الرحمن دمشقية (1/329) بتصرف.
(2) هو رجل له مخالفات عديدة متعلقة بالعقيدة والفقه وقد بين شيء من حاله الشيخ الألباني رحمه الله في " كشف النقاب عما في كلمات أبي غدة من الأباطيل والإفتراءات" وفي مقدمته لـ "شرح العقيدة الطحاوية"، وممن بين حاله كذلك الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله في "براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة" وقد كتب الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله مقدمة قوية لكتاب الشيخ بكر أبو زيد، وقد نقلت عنه هنا إقامة للحجة على أتباعه الذين يقعون في كثير من البدع بحجة أن الصحابة أحدثوا أموراُ لما يفعلها الرسول (!!(19/59)
وقال أيضاً(6/314):"واستشكل قوله: "أول من سن"، إذ السنة إنما هي أقوال رسول الله ( وأفعاله وأحواله، وأجيب بأنه فعلهما في حياته ( واستحسنهما"انتهى كلام القسطلاني.
- ثم قال أبو غدة -: وواضح من حديث أبي هريرة وقصة قتل خبيب فيه:
"أن لفظ ( السنة) ولفظَ ( سن) معناه: الفعل المشروع المتبوع في الدين، وعلى هذا فلا يصح لمتفقهٍ أن يستدل على سنية صلاة الركعتين عند القتل، بأن الحديث جاء فيه لفظ "سن"، فتكون صلاتهما سنةً مستحبةً، لأن حكم السنية لصلاة ركعتين هنا استفيد من دليلٍ آخر خارج لفظ "سن" بلا ريب وهو إقرار الرسول ( لفعله)(1).
الخاتمة وتحتوي على طريق الخلاص من البدع
__________
(1) السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي" لعبدالفتاح أبو غدة (ص16-17) بتصرف يسير.(19/60)
(بعد أن ظهر جلياً أن { كل بدعة ضلالة } ، فما هو طريق الخلاص من البدع التي هي مفتاح الضلال؟
فالجواب هو ما قاله الرسول الأعظم (: { تركت فيكم أمرين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي } رواه مالك في "الموطأ" والحاكم.
وقال الموفق ابن قدامة في "ذم التأويل" (ص35) بعد أن ذكر أدلةً كثيرةً في لزوم اتباعِ السلف الصالح:"قد ثبت وجوب اتباع السلف رحمة الله عليهم بالكتاب والسنة والإجماع، والعبرة دلت عليه؛ فإن السلف لا يخلوا من أن يكونوا مصيبين أو مخطئين، فإن كانوا مصيبين؛ وجب اتباعهم؛ لأن اتباع الصواب واجبٌ وركوب الخطأ حرامٌ، ولأنهم إذا كانوا مصيبين كانوا على الصراطِ المستقيم ومخالفهم متبعٌ لسبيل الشيطان الهادي إلى صراط الجحيم،وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وصراطه، ونهى عن اتباع ما سواه، فقال: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ]الأنعام:153[.
وإن زعم زاعم أنهم مخطئون؛ كان قادحاً في حق الإسلام كله؛ لأنه إن جاز أن يخطئوا في هذا؛ جاز خطؤهم في غيره من الإِسلام كله، وينبغي أن لا تنقل الأخبار التي نقلوها، ولا تثبت معجزات النبي ( التي رووها، فتبطل الرسالة، وتزول الشريعةُ ولا يجوز لمسلم أن يقول هذا أو يعتقده".
إذن؛ "الطريق الوحيد للخلاص من البدع وآثارها السيئة هو الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقاداً وعِلماً وعملاً" محوطاً ذلك كله بالاهتداء بهدي السلف وفهمهم ونهجهم وتطبيقهم لهذين الوحيين الشريفين؛ فهم - رحمهم الله - أعظم الناس حباً وأشدهم اتباعاً، وأكثرهم حرصاً، وأعمقهم علماً، وأوسعهم درايةً.
بهذا الطريق - وحسب - يتمسك المسلم بدينه مبرءاً من كل شائبة، بعيداً عن كل محدثةٍ ونائبة.(19/61)
فـ { عضوا عليه بالنواجذ } ؛ تهتدوا وترشدوا.
وهذا الطريق يسيرً على من يسره الله له، وسهل على من سهله الله عليه، لكنه يحتاج إلى جهودٍ علميةٍ ودعويةٍ متكاتفةٍ متعاونةٍ، ساقها الصدق، وأساسها الحب والأخوة - بعيداً عن أي حزبيةٍ أو تكتلٍ أو تمحورٍ -، ومنطلقها العمل بأمرِه تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ]المائدة:2[.
والله الهادي - وحدَه - إلى سواءِ السبيل)(1) والحمد لله رب العالمين.
المراجع
1- "الاعتصام" للإمام الشاطبي تحقيق سليم الهلالي. دار ابن عفان بالخبر ط1
2- "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية.تحقيق ناصر بن عبد الكريم العقل. مكتبة الرشد بالرياض ط5.
3- "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية.
__________
(1) علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص313-315).(19/62)
4- "الباعث على إنكار البدع والحوادث" للإمام أبي شامة تحقيق مشهور حسن آل سلمان.دار الراية بالرياض ط.
5- "ما جاء في البدع" للإمام محمد بن وضاح القرطبي تحقيق بدر البدر. دار الصميعي بالرياض ط1.
6- "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" للسيوطي تحقيق مشهور حسن آل سلمان. دار ابن القيم بالدمام ط1.
7- "علم أصول البدع" للشيخ علي بن حسن الحلبي. طبعة دار الراية بالرياض ط2
8- "البدعة وأثرها السيئ في الأمة" للشيخ سليم الهلالي.دار الهجرة بالدمام ط3.
9- "اللمع في الرد على محسني البدع" لعبد القيوم السحيباني. مكتبة الخضيري ط1
10- "حقيقة البدعة وأحكامها" لسعيد الغامدي. مكتبة الرشد بالرياض ط2.
11- "شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" لعبد الله القصيمي. مطبعة المنار بمصر ط1
12- "الموقظة من السنة على ألا بدعة حسنة" لمحمد بن أحمد مود الشنقيطي. مكتبة الأقصى بالدوحة ط1.
13- "إشراقة الشرعة في الحكم على تقسيم البدعة" لأسامة القصاص.المكتب الإسلامي ببيروت(19/63)
14- "الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة" للعلامة الألباني.المكتب الإسلامي ببيروت ط2.
15- "مختصر كتاب الاعتصام" لعلوي بن عبد القادر السقاف.دار الهجرة بالرياض ط1.
16- "حوار مع المالكي في رد منكرته وضلالاته" للشيخ عبدالله بن منيع ط2.
17- "الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي" للعلامة حمود التويجري. دار اللواء بالرياض ط1.
18- "القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل" للعلامة إسماعيل الأنصاري طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والدعوة والإرشاد بالسعودية الأولى.
19- "مساجلة علمية بين الإمامين الجليلين العز بن عبد السلام وابن الصلاح حول صلاة الرغائب المبتدعة" بتحقيق الألباني والشاويش.المكتب الإسلامي ببيروت ط2.
20- " موسوعة أهل السنة" للشيخ عبد الرحمن دمشقية.دار المسلم بالرياض ط1
21- "مقدمة في أصول التفسير" لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق محب الدين الخطيب.المكتبة السلفية بالقاهرة ط5.
22- "الأذكار" للإمام النووي.طبعة المكتبة العلمية ببيروت ط2.
23- "تفسير القرآن العظيم" للإمام ابن كثير. دار المعرفة ببيروت ط9.
24- "المجموع شرح المهذب"للإمام النووي تحقيق محمد المطيعي دار إحياء التراث العربي.
25- "السنة" للإمام محمد بن نصر المروزي تحقيق سالم بن أحمد السلفي.مؤسسة الكتب الثقافية ببيروت ط1.
26- "السنة" للإمام ابن أبي عاصم تحقيق الشيخ الألباني.المكتب الإسلامي ببيروت ط3
27- "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للإمام اللالكائي تحقيق أحمد بن سعد الغامدي.دار طيبة بالرياض ط5.
28- "فتاوى الإمام النووي" تحقيق محمد الحجار دار البشائر الإسلامية ببيروت.
29-"فتاوى العز بن عبد السلام" للعز بن عبد السلام تحقيق محمد جمعة كردي.مؤسسة الرسالة ببيروت ط1.
30- "الإحكام في أصول الأحكام" للإمام ابن حزم. دار(19/64)
الكتب العلمية ببيروت.
31- "سلسلة الأحاديث الصحيحة" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض.
32- "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
33- "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" للعلامة الألباني. المكتب الإسلامي ببيروت ط2.
34- "صحيح سنن أبي داود" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
35- "صحيح سنن ابن ماجة" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
36- "صحيح سنن النسائي" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
37- "السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي والتعريف بحال سنن الدارقطني" لعبد الفتاح أبو غدة.مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب ط1.
38- "فتاوى شرعية وبحوث إسلامية" حسنين محمد مخلوف. دار وهدان ط4.
39- "الفتاوى" لمحمد متولي الشعراوي. دار الندوة الجديدة ببيروت.
فهرس المحتويات
المقدمة............................................
مدخل يحتوي على معنى البدعة لغة وشرعاً.......................
الفصل الأول: البراهين على أن كل بدعة ضلالة وليس فيها شيء حسن.......
البرهان الأول: أن الله قد أكمل الدين...........................
البرهان الثاني: أن النبي ( قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة................
البرهان الثالث: أن التشريع من حق الله وليس من حق البشر..............
البرهان الرابع: ان الابتداع اتباع للهوى وقد نهينا عن اتباع الهوى............
البرهان الخامس: أن الإخلاص لا يكفي حتى يكون العمل صالحا ولكن لابد كذلك
من اتباع الرسول (......................................
البرهان السادس: أن الأدلة الصحيحة جاءت بذم البدع مطلقاً.............
البرهان السابع: أنه لا يوجد ضابط معين لمعرفة حسن الفعل إلا من طريق الشرع ولهذا(19/65)
أختلف القائلون بالبدع الحسنة على حسن كثير من البدع!.................
البرهان الثامن: وجوب اتباع فهم السلف في تفسير الآيات والأحاديث.........
البرهان التاسع: يستلزم على القول بالبدع الحسنة لوازم باطلة..............
الفصل الثاني: الرد على شبهات القائلين بالبدع الحسنة.................
الشبهة الأولى: فهمهم لحديث: { من سن في الإسلام سنة حسنة } .........
الشبهة الثانية: فهمهم لأثر: "ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن"......
الشبهة الثالثة: زعمهما أن لفظة " كل " في حديث { كل بدعة ضلالة } ليست على عمومها ......................................
الشبهة الرابعة: فهمهم لقول عمر: "نعمت البدعة هذه"..................
الشبهة الخامسة: فهمهم لقوله تعالى: { ورهبانية ابتدعوها... } ...........
الشبهة السادسة: احتجاجهم بجمع الصحابة للمصحف................
الشبهة السابعة: تخصيص حديث { كل بدعة ضلالة } بحديث { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه } .................................
الشبهة الثامنة: قصة غضيف بن الحارث مع عبد الملك بن مروان...........
الشبهة التاسعة: احتجاجهم بزيادة عثمان بن عفان (للأذان قبل الأذان الشرعي يوم الجمعة..................................
الشبهة العاشرة: استدلالهم بقول الشافعي: البدعة بدعتان..............
الشبهة الحادية عشر: استدلالهم بتقسيم بعض العلماء البدع إلى خمسة أقسام....
الشبهة الثانية عشر: قولهم ان عدم فعل الرسول ( للشيء لا يدل على التحريم..
الشبهة الثالثة عشر: أن بعض الصحابة قد احدثوا بعض العبادات دون وجود دليل خاص بها.........................................
الخاتمة: طريق الخلاص من البدع..............................
المراجع...........................................(19/66)
فهرس المحتويات.......................................(19/67)
سلسلة الحقائق الغائبة - 2
التّقيّة .. الوجه الآخر
فيصل نور
الإهداء
شر الأزمنة أن يتبجح الجاهل، وأن يسكت العاقل، ولكن القبة الجوفاء لا ترجع غير الصدى ... فإلى القباب غير الجوفاء أهدي كتابي.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله0
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار0
قال تعالى: لَتَجِدَنّ أَشَدَّ اُلنَّاسِ عَدَاوةً لِّلَذينَ آمَنوا الَيهُودَ والذِينَ أَشرَكُوا – المائدة 82.
فمنذ ان قدّم الله اليهود على الذين أشركوا في عداوتهم للمسلمين، عرفنا أنه لا بد من ان يقف اليهود ومن ورائهم كل قوى الظلام المنضوية تحت راياتهم من مجوس وهندوس وغيرهم من ملل الشرك في صف أعداء الإسلام ليطفئوا نوره .
ولم يتوان هؤلاء في إظهار عداوتهم، فقد فعلها طلائعهم في مهد الإسلام فهذا حُيَيّ بن أخطب أحد زعماء اليهود نظر إلى رسول الله وهو يقدَّم للقتل، ضمن من قتل من يهود بني قريظة، يقول: أما والله ما لُمتُ نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يُخذل 0
عرفها ابن أخطب وعرفها أذنابه يوم أن إنتكست راياتهم تحت سيوف الرعيل الأول من المسلمين وعرفها بعد ذلك المنضوون تحت رايات الشرك يوم أن إنكسرت شوكتهم وتوالت هزائمهم في القادسية واليرموك وفتح مصر وشمال افريقيا وفارس، وغيرها .(20/1)
عرفوا أن هذا النور لن توقفه جحافلهم مهما بلغت ولن تصمد أمامه جيوشهم مهما قويت، فرأوا أن الكيد للإسلام بالحيلة أنجح، فبدءوا مخططاتهم في الخفاء، فكان إستشهاد الفاروق عمر، وعثمان ذي النورين، وعلي المرتضى ، تلك النجوم الزاهرة قادة الفتح الذين أذلوهم وأزالوهم وحضارتهم بأمجادها الزائلة أصلا بعد أن كانوا سادة الدنيا .
ثم عمدوا إلى النيل من هذا الدين لإطفاء نوره، وأنى لهم ذلك والله يقول: يريِدُونَ لِيُطفِئوا نُورَ اللهِ بَأفواهِهِم وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكافِرُونَ – الصف 7.
فشرعوا في تشكيك المسلمين وفتنتهم عن دينهم، فكان أيسر السبل الى ذلك هو النفاق، بضاعتهم التي إشتهروا بها، فأظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، قال تعالى: وَقَالَت طّاَِئفَة مِن أهلِ الكِتابِ آمِنوا بِالذِي اُنزِلَ عَلى الَّذِينَ آمنُوا وَجه النَّهارِ واكفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَهُم يَرجِعُونَ – آل عمران 72 .
فكان لهم إلى حد بعيد ما أرادوه، فمازال كيدهم في هذا الإتجاه يؤتي أكله ولكن إلى حين، وإنضوى تحتهم في نهجهم هذا كل الموتورين والحاقدين على هذا الدين فاستمرءوا اللعبة، قال تعالى: وَإذَا لَقُوا الذِينَ امَنُوا قاَلُوا آمنَّا وإِذَا خَلَوا إلى شَيَاطِينِهِم قَالُوا إناَّ مَعَكُم إِنمَّا نَحنُ مُستُهزِئُونُ – البقرة 14 .(20/2)
فإنطلت أحابيلهم في هذا المنوال على بعض ضعاف النفوس الذين لم تشرأب نفوسهم حقيقة هذا الدين فأخرجوا من أخرجوا عن دائرة الإسلام، واجتهدوا في إبقاء من عجزوا عن الكيد له بمنأى عن سائر المسلمين فأصّلوا لهم أصولا وقعّدوا لهم قواعد ووضعوا لهم عقائد ماأنزل الله بها من سلطان، فميزتهم عن سائر بني جلدتهم، وشذوا بها عنهم، كل ذلك من خلال إظهار الإيمان وإبطان خلافه تارة، وأخرى بتقنعهم بولاءات شتى بإسم الدين كالتشيع لآل بيت النبي ، حيث وجدت هذه الدعوات صدى عند الكثيرين من الذين صادفت أهواءهم وأغراضهم .
فلما وجد أعداء الإسلام أن الكثير من عقائد المسلمين قد تسربت إلى هؤلاء الذين راموا إخراجهم عن دائرة الإسلام، عمدوا الى صرف كل ما تعارض مع مخططاتهم مما صدر عن الأئمة الذين تشيعوا لهم بإسم الإسلام، بحجة أن ذلك كان منهم تقيتة مبعثها القهر والظلم والإستبداد الذي حاق بهم من الحكام الذين تولّوا إمرة المؤمنين عبر التاريخ .
فكان أن بقيت هذه الطوائف بسبب عقيدة التقية هذه، بعيدة عن إخوانهم في الدين فألتبس عليهم أمر دينهم وأختلط الحق بالباطل في أحكامهم فضاعت معالمها، وترسخ هذا الضياع بمرور الزمن في نفوسهم لتقاعس علمائها، فغدت ملاذاً آمناً لطلاب الدنيا الذين جعلوا هذه الرخصة هي جُل الدين لتيّسر لهم الأرضية التي تضمن بقائهم، ومعها مصالحهم من حطام الدنيا الزائلة0
ونحن ان شاء الله في هذا الكتاب سنتناول مسألة التقية عند المسلمين عامة وعند الشيعة خاصه بإعتبار أنها من ضروريات مذهبهم، ونبين حقيقتها، وذلك في بابين.
الاول تعريف التقية ومشروعيتها من الكتاب والسنة وأقوال علماء المسلمين من شيعة وسنة فيها، ثم بيان حقيقة التقية عند الشيعة ومنزلتها وجذورها التاريخية، ثم ذكر نماذج للتطبيقات العملية في ذلك.(20/3)
والباب الآخر دراسة الأسس الروائية لمبدأ التقية عند الشيعة وبيان تهافت أسانيدها، ومن ثم تهافت الأصول التي بنى عليها علماء مذهب التشيع هذا المبدأ .
وأخيرا بيان تعارض وخلاف تقية القوم مع الكتاب والسنة0
ونسأل الله أن يوفقنا لما فيه الخير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين0
فيصل نور
1419 هـ
الباب الأول
التعريف والمشروعية
في لسان العرب مادة وقى: إتَّقَيتُ الشيء وتَقَيُته أتقِيه تقَيً وتَقِيّةً وتِقاء: حَذِرته.
ويقول ابن الأثير: وأصل اتقى: إوتَقَى فقلبت الواو ياء لكسرة قبلها ثم أبدلت تاء وأُدغمت.
ومنه حديث على: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله ، أي جعلناه وقاية من العدو .
وقال الراغب الإصفهاني: الوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، يقال وقيت الشيء، أقِيه وقاية ووَقَاء .
وفي المعجم الوسيط: ووقى الشيء وقيا ووقاية: صأنه عن الأذى وحماه .
والتقية الخشية والخوف .
ويقول ابن حجر: ومعنى التقية الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير، واصله وقية بوزن حمزة فَعلَة من الوقاية .
مشروعية التقية من الكتاب والسنة
وأصل مشروعية التقية مأخوذ من كتاب الله وسنة نبيه :
يقول الله : لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ – آل عمران 28(20/4)
ويقول: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَأنه إِلاَمَن أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِاْلإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم – النحل - 106
و في الحديث عن النبي قال: إن الله وضع – وفي لفظ: تجاوز – عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
أقوال علماء أهل السنة في آيات التقية
يقول ابن كثير في تفسير الآيات: أي من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم –أي الكافرون- فله ان يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته .
وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا قال أبوالعالية وابوالشعثاء والضحاك والربيع بن أنس ويؤيد ما قالوه قولُ الله تعالى: من كَفَرَ بِالله مِن بَعدِ إيمأنه إلا مَن أكرِه وقلبه مطمئن بالإيمان، هو استثناء ممن كفر بلسأنه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله، والآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد فوافقهم على ذلك مكرها وجاء معتذرا إلى النبي ، فقال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان، فقال رسول الله : إن عادوا فعد، ولهذا اتفق العلماء على ان من أكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاءً لمهجته ويجوز ان يأبى كما كان بلال يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون فيه الأفاعيل ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم ويقول: أحد أحد، ويقول: والله لم أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: اتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا اسمع، فلم يزل يقطعه إرباً إربا وهو ثابت على ذلك0
ويقول الشوكاني: إلا أن تتقوا منهم تقاة، دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم ولكنها تكون ظاهراً لا باطنا وخالف في ذلك قوم من السلف فقالوا: لا تقية بعد أن أعز الله الإسلام0(20/5)
ويقول القرطبي: قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام ان يتقوا من عدوهم، وقال ابن عباس: هو ان يتكلم بلسأنه وقلبه مطمئن ولا يقتل ولا يأتي مأثما، وقال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل، وقيل: أن المؤمن إذا كان قائما بين الكفار فله ان يداريهم باللسان إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان 0
والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم ومن أكره على الكفر فالصحيح ان له ان يتصلب ولا يجيب الى التلفظ بكلمة الكفر0
وقال: اجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم بحكم الكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي، غير محمد بن الحسن فأنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتبين منه إمراته ولا يصلى عليه ان مات، ولا يرث أباه إن مات مسلما0 وهذا قول يرده الكتاب والسنة 0
وقال: ذهبت طائفة من العلماء الى ان الرخصة انما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، يروى هذا عن الحسن اليصري والأوزاعي وسحنون0 وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسرّ الإيمان0
وقال: أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فأختار القتل أنه أعظم أجراً عند الله ممن إختار الرخصة، وقد قال رسول الله : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون (1)0
__________
(1) - أنظر هذا الحديث ايضا في: عوالي اللئالي، 1/98(20/6)
ويقول الخازن: التقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع سلامة النية، قال تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ثم هذه التقية رخصة 0
ويقول الزمخشري: رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة مخالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع 0
ويقول الرازي: التقية انما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان 0 وظاهر الآية يدل على أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين، إلا أن مذهب الشافعي أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة عن النفس 0
ويقول الآلوسي: في الآية دليل على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء، والعدو قسمان: الأول من كانت عداوته على اختلاف الدين كالكافر والمسلم والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة 0 وقال في الأول إن الحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه ولا يجوز له أصلا أن يتقي ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف فإن أرض الله تعالى واسعة 0 والقسم الثاني: فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه 0(20/7)
ويقول محمد رشيد رضا: وقد استدل بعضهم بالآية على جواز التقية وهي مايقال أو يفعل مخالفا للحق لأجل توقي الضرر ولهم فيها تعريفات وشروط وأحكام، وقيل: إنها مشروعة للمحافظة على النفس والعرض والمال 0 وقيل لا تجوز التقية لأجل المحافظة على المال وقيل انها خاصة بحال الضعف0 وقيل بل عامة وينقل عن الخوارج أنهم منعوا التقية في الدين مطلقا وإن أكره المؤمن وخاف القتل لأن الدين لا يقدم عليه شيء0 ويرد عليهم قوله تعالى: من كفر بالله من بعد إيمأنه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان 0 وقصارى ما تدل عليه الآية ان للمسلم أن يتقي ما يتقى من مضرة الكافرين 0 وقصارى ماتدل عليه آية سورة النحل – إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان – ما تقدم آنفا وكل ذلك من باب الرخص لأجل الضرورات العارضة لا من أصول الدين المتبعة دائما ولذلك كان من مسائل الإجماع وجوب الهجرة على المسلم من المكان الذي يخاف فيه إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية 0
ويقول المراغي: ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يبقى ذلك الشيء، إذ القاعدة الشرعية: ان درء المفاسد مقدم على جلب المصالح 0 ويقول في قوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة 0
وعلى هذه الأقوال سار بقية المفسرين والعلماء من أهل السنة والجماعة 0
إذن فالتقية رخصة يلجأ إليها المسلم إذا وقع تحت ظروف عصيبة جدا تصل الي حد إلقتل والإيذاء العظيم تضطره الى إظهار خلاف ما يبطن 0(20/8)
وهي غالبا ما تكون مع الكفار، واتفقوا على هذا التصور العام، على خلاف يسير في بعض ما يتعلق بالمسألة كالقول بزوالها بعد عزة الإسلام، أو جوازها الي يوم القيامة، وافضلية اختيار العزيمة عليها في مواطن الإكراه، وكونها جائزة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بينهم الحالة بين المسلمين والكافرين، وغيرها مما مر بك، وهي لا تخرج في جميع احوالها عن كونها رخصة في حال الضرورة 0
أقوال علماء الشيعة في هذه الآيات
وننتقل الآن الى ذكر أقوال علماء الشيعة في تفسير الآيات السابقة ثم نشرع في بيان المقصود:
يقول القمي: هذه الآية رخصة ظاهرها خلاف باطنها يدان بظاهرها ولا يدان بباطنها إلا عند التقية، إن التقية رخصة للمؤمن(1)
ويقول الطوسي: التقية الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس إذا كان ما يبطنه هو الحق فإن كان ما يبطنه باطلا كان ذلك نفاقا، والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس وقد روي رخصة في جواز الإفصاح بالحق(2)
ويقول الطبرسي: التقية الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس، والمعنى أن يكون الكفار غالبين والمؤمنون مغلوبين فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم ولم يحسن العشرة معهم فعند ذلك يجوز له إظهار مودتهم بلسأنه ومداراتهم تقية منه ودفعا عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك وفي ذلك الآية دلالة أن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس (3).
وقال في جوامع الجامع: هذه رخصة في موالاتهم –الكفار- عند الخوف، والمراد بهذه الموالاة المخالفة الظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة (4)
ويقول الكاشاني: منع من موالاتهم ظاهرا وباطنا في الأوقات كلها إلا وقت المخافة فإن إظهار الموالاة حينئذ جائز بالمخالفة (5)
__________
(1) - تفسير القمي، 1/108
(2) - تفسير التبيان، 2/433
(3) - مجمع البيان، 1/730
(4) - جوامع الجامع، 1/167
(5) - تفسير الصافي، 1/302(20/9)
ويقول شبر: إلا أن تتقوا منهم تقاة، تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه ورخص لهم إظهار موالاتهم إذا خافوهم مع إبطان عداوتهم وهي التقية التي تدين بها الإمامية (1)
ويقول الجنابذي: ان خاف أحد من الكافرين على نفسه أو ماله أو عياله أو عرضه أو إخوأنه المؤمنين جاز له إظهار الموالاة مع الكافرين مخالفة لما في قلبه لا أنه يجوز موالاتهم حقيقة فإن التقية المشروعة المأمور بها ان تكون على خوف من معاشرك إن اطلع على ما في قلبك، فتظهر الموافقة له بما هو خلاف ما في قلبك (2)
ويقول الحائري: مثل أن يكون المؤمن بينهم – أي الكافرين- ويخاف منهم فإن الموالاة حينئذ مع اطمئنان النفس بالعداوة والبغضاء وإنتظار زوال المانع فحينئذ لا بأس، وهذه رخصة فلو صبر حتى قتل كان أجره عظيما (3)
ويقول الطباطبائي: التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولي ظاهرا من غير عقد القلب على الحب والولاية ليس من التولي في شيء، وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن ائمة أهل البيت عليهم السلام كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار وأبويه ياسر وسمية0 (4)
ويقول السبزواري: إن من خالط الكفار وعايشهم، لا بأس له بأن يظهر مودتهم بلسأنه ومداراتهم تقية منهم ودفعا لضررهم عن نفسه من غير عقيدة بهم وبطريقتهم ومسلكهم، وقيل: التقية رخصة والإفصاح بالحق فضيلة وان قتل القائل، يشهد على ذلك قصة عمار ووالديه0(5)
__________
(1) - تفسير شبر، 1/53
(2) - بيان السعادة في مقامات العبادة، 1/255
(3) - مقتنيات الدرر، 2/182
(4) - تفسير الميزان، 3/153
(5) - الجديد في تفسير القرآن، 2/39(20/10)
ويقول عبدالحميد المهاجر: الآية صريحة في أن الإسلام لا يسمح لك أن تتخذ الكافر وليا من دون المؤمنين00إلا إذا وجدت نفسك في مأزق لا تستطيع الخروج منه بغير إعلان التقية وهي أنك تقول شيئا أو تفعل شيئا بخلاف ماتعتقد من أجل الحفاظ على نفسك والإبقاء على حياتك (1)
ويقول ناصر مكارم: إلا أن تتقوا منهم تقاة، هذا استثناء من الحكم المذكور، وهو إذا اقتضت الظروف فللمسلمين أن يظهروا الصداقة لغير المؤمنين الذين يخشون منهم على حياتهم0
وقال: أما إذا كانت التقية سببا في ترويج الباطل وضلالة الناس وإسناد الظلم فهي هنا حرام (2) .
وعلى هذا المنوال سائر بقية المفسرين والعلماء من الشيعة في بيان المسألة، ويظهر مما سبق أنهم لا يختلفون مع أهل السنة والجماعة في مفهوم التقية كما مر ذكره .
وأضاف آخرون من القوم ان مجال التقية إنما هو حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس (3)
وزعم البعض: أن التقية لا تدخل في باب العقائد عندهم لأنها إذن ورخصة تباح في بعض الحالات الخاصة التي حددتها كتب الفقهاء، ويعدون التقية من الفروع ولا ينزلونها منزلة العقائد لأنها رخصة (4)
وأدعى آخرون منهم أنه لا مكان للتقية في زماننا هذا، ولا مسوغ لها ولا مبرر، وأنها اصبحت في خبر كان (5)0
حقيقة التقية عند الشيعة و منزلتها وبيان مشروعيتها عندهم في الأمن ودون توفر أسبابها
__________
(1) - اعلموا أني فاطمة، 7/208
(2) - الأمثل،2/333
(3) - مع الشيعة الإمامية في عقائدهم، 94
(4) - تاريخ الإمامية، 166 شبهات حول الشيعة، 25
(5) - التفسير الكاشف، 2/44 الجوامع والفوارق بين السنة والشيعة، 227 مع الشيعة الإمامية في عقائدهم،لجعفر السبحاني، 95 الشيعة في الميزان، 52(20/11)
وبعد، لنشرع الآن في بيان المقصود، فنقول: إن حقيقة التقية ومقاصدها وممن تجوز عند الشيعة تختلف تماما عما مر بك آنفا، فبيانهم للتقية بهذه الصورة هو في ذاته أول تطبيق عملي للتقية، فهي تقية مركبهً إن صح التعبير، وإليك بيان ذلك:
يعتقد الشيعة خلافا لما مر من أن التقية واجبة لا يجوز تركها إلى يوم القيامة، وأن تركها بمنزلة من ترك الصلاة، وأنها تسعة أعشار الدين، ومن ضروريات مذهب التشيع، ولا يتم الإيمان إلا بها، وليست رخصة في حال الضرورة كما مر، بل هي ضرورة في ذاتها وإنما تكون من مخالفيهم في المذهب0
يقول الصدوق: اعتقادنا في التقية أنها واجبة0 من تركها بمنزلة من ترك الصلاة، ولا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله وعن دين الإمامية وخالف الله ورسوله والأئمة (1)
ويقول صاحب الهداية: والتقية واجبة لا يجوز تركها إلى أن يخرج القائم فمن تركها فقد دخل في نهي الله ونهي رسول الله والأئمة صلوات الله عليهم (2)
ويقول العاملي: الأخبار متواترة صريحة في أن التقية باقية إلى أن يقوم القائم (3)
ويقول الخميني: وترك التقية من الموبقات التي تلقي صاحبها قعر جهنم وهي توازي جحد النبوة والكفر بالله العظيم (4)
وقد وضعوا على لسان النبي ، وأمير المؤمنين علي وبقية أئمة أهل البيت رحمهم الله ما يؤيد هذا الاعتقاد:
فرووا عن النبي أنه قال: تارك التقية كتارك الصلاة (5)
__________
(1) - الاعتقادات، 114
(2) - البحار، 75/421 المستدرك، 12/254
(3) - مرآة الأنوار، 337
(4) - المكاسب المحرمة، 2/162
(5) - جامع الأخبار، 95 البحار، 75/412(20/12)
ومثله عن الصادق رحمه الله أنه قال: لو قلت: إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا (1)
ورووا: تارك التقية كافر (2)
وعن رسول الله قال: التقية من دين الله ولا دين لمن لا تقية له والله لولا التقية ما عبد الله (3)
ورووا عن علي أنه قال: التقية ديني ودين أهل بيتي (4)
وعن الباقر رحمه الله أنه قال: التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان – وفي لفظ ولا دين -لمن لا تقية له (5)
وعن الصادق رحمه الله أنه قال: إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له(6)
وعنه ايضا أنه قال: إن التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقية له(7)
وقوله: لا خير فيمن لا تقية له، ولا إيمان لمن لا تقية له (8).
وقوله: أبى الله لنا ولكم في دينه إلا التقية (9).
__________
(1) - البحار، 50/181، 67/103، 75/414، 421 السرائر، 476 كشف الغمة، 3/252 الفقيه، 2/127 الوسائل، 10/131 المستدرك، 12/254،274 كشف الغمة، 2/389 تحف العقول، 483
(2) - البحار، 87/347 فقه الرضا، 338
(3) - المستدرك، 12/252
(4) - المستدرك، 12/252
(5) - البحار، 13/158، 66/495، 67/103، 75/77،422،431، 80/300 الكافي، 2/219،224 العياشي، 1/166 مشكاة الأنوار، 42 دعائم الإسلام، 1/110 الوسائل، 16/204،210،236 المستدرك، 12/255، 16/68 جامع الأخبار، 95
(6) - البحار، 66/486، 75/394،399،423، 79/172، 80/267 الخصال، 1/14 المحاسن، 259 الكافي، 1/217، 2/217 الوسائل، 16/204،215
(7) - البحار 75/394، 437 قرب الإسناد، 17 نور الثقلين، 3/89 الكافي، 2/221 الوسائل، 16/227
(8) - البحار، 75/397 المحاسن، 257 العلل، 51 المستدرك، 12/254
(9) - الكافي، 2/218 البحار، 75/428(20/13)
وقوله: التقية من دين الله ، قلت – أي الراوي-: من دين الله؟ قال: أي والله من دين الله (1).
وقوله: لا دين لمن لا تقية له، وإن التقية لأوسع مما بين السماء والأرض، وقال: من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يتكلم في دولة الباطل إلا بالتقية (2).
وقوله: يغفر الله للمؤمنين كل ذنب ويطهر منه الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقية وتضييع حقوق الإخوان (3)
ورووا عن الرضا رحمه الله أنه قال: لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له، إن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية (4)
ولم يقتصر الأمر على هذا بل وضعوا روايات ترغب في العمل بالتقية:
فرووا عن الرسول أنه قال: مثل مؤمن لا تقية له كمثل جسد لا راس له (5)
وعن علي أنه قال: التقية من أفضل أعمال المؤمنين (6)
وعن زين العابدين رحمه الله أنه سئل: من أكمل الناس في خصال الخير؟ قال: أعملهم بالتقية (7)
__________
(1) - العلل، 51 البحار، 75/425 الكافي، 2/217 الوسائل، 16/209،215 مشكاة الأنوار، 43
(2) - البحار، 75/412 جامع الأخبار، 95 المستدرك، 12/256 مشكاة الأنوار، 42
(3) - البحار، 68/163، 74/229، 75/409،415 تفسير العسكري، 128 وسائل الشيعة، 11/474، 16/223 جامع الأخبار، 95
(4) - البحار، 75/395 كمال الدين، 346 نور الثقلين، 4/47 منتخب الأثر، 220
(5) - تفسير العسكري، 320 الوسائل، 11/473 البحار، 74/229، 75/414 مستدرك الوسائل، 9/48 جامع الأخبار، 110
(6) - البحار، 75/414 تفسير العسكري، 127 الوسائل، 11/473، 16/222 جامع الأخبار، 94
(7) - البحار، 75/417 تفسير العسكري، 128(20/14)
وعن الباقر أنه قال للصادق رحمهما الله: ما خلق الله شيئا أقر لعين أبيك من التقية، والتقية جنة المؤمن (1).
وعنه أنه قال: أشرف أخلاق الأئمة والفاضلين من شيعتنا التقية (2)
وعن الصادق أنه قال: ما عُبِدَ الله بشيءٍ احب إليه من الخبء، قيل: وما الخبء؟ قال: التقية (3)
وعن سفيان بن سعيد، عن الصادق قال: يا سفيان عليك بالتقية فإنها سنة إبراهيم الخليل (4)
وعنه أيضا قال: إنكم علي دين من كتمه أعزة الله ومن أذاعه أذله الله (5)
وعن حبيب بن بشير عن الصادق قال: سمعت أبي بقول: لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب إليَّ من التقية، يا حبيب أنه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم يكن له تقية وضعه الله (6)
وعنه أيضا قال: استعمال التقية في دار التقية واجب، ولا حنث ولا كفارة على من حلف تقية (7)
__________
(1) - الخصال، 1/14 البحار، 75/394،398،412، 432، 78/287 المحاسن، 258 جامع الأخبار، 95 الكافي، 2/220 التحف، 307 الوسائل، 16/204،211 مشكاة الأنوار، 43 المستدرك، 12/257،289
(2) - البحار، 75/415 تفسير العسكري، 127
(3) - البحار، 75/396 معاني الأخبار، 162 الوسائل، 16/207،219
(4) - البحار، 13/135، 75/396 معاني الأخبار، 386 الوسائل، 16/208
(5) - البحار، 75/397، 412 المحاسن، 257 جامع الأخبار، 110 الكافي، 2/222 الرسائل، للخميني 2/185
(6) - البحار، 75/398، 426 المحاسن، 256 الكافي، 2/217 مشكاة الأنوار، 41
(7) - البحار، 75/394، 395، 104/218 الخصال، 2/153 عيون أخبار الرضا، 2/124 الوسائل، 15/49،50، 16/210، 23/226(20/15)
وعنه أيضا أنه قال: يؤتى بالواحد من مقصري شيعتنا في أعماله بعد أن صان الولاية والتقية وحقوق إخوأنه ويوقف بإزائه ما بين مائة وأكثر من ذلك الى مائة ألف من النصاب – أي أهل السنة – فيقال له: هؤلاء فداؤك من النار، فيدخل هؤلاء المؤمنون الجنة وأولئك النصاب النار (1) 0
ثم وضعوا روايات ترهب من ترك التقية قبل خروج المهدي المنتظر:
فعن الصادق أنه قال: ليس منا من لم يلزم التقية (2)
وقال: إذا قام قائمنا سقطت التقية (3)
وعن الرضا أنه قال: من ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا (4)
والطريف أن مهدي القوم نفسه في تقية كما يزعمون (5)
وبهذا نكون قد وقفنا على شيئ من حقيقة التقية ومنزلتها عند الشيعة .
ولاشك أنك لا تجد أحداً من القوم يذكر عند كلامه عن التقية هذه الحقائق، فغالبا ما تراهم يرددون أقوال أهل السنة في المسألة ويظهرونها بأنها من المسلمات عند الفريقين وأنهم – أي الشيعة - لا يختلفون عن سائر فرق المسلمين في تعريف التقية من أنها رخصة وقتيه يلجأ إليها المسلم في حال الضرورة لرفع ضرر كبير يقع عليه ويؤدي به إلى النطق بكلمة الكفر أو إظهار خلاف ما يبطن شريطة أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان0
__________
(1) - البحار، 8/44 تفسير العسكري، 242 البرهان، 2/325
(2) - البحار، 75/395 أمالي الطوسي، 287 الوسائل، 11/466
(3) - إثبات الهداة، 3/564 البحار، 24/47 كنزالفوائد، 282
(4) - البحار، 75/411،396 كمال الدين، 346 نور الثقلين، 4/47 إثبات الهداة، 3/477، 567 جامع الأخبار، 95 منتخب الأثر، 220 الوسائل، 16/212 كشف الغمة، 2/524 مشكاة الأنوار، 43 كفاية الأثر، 274
(5) - الفصول المختارة، 76(20/16)
فالقوم إذن لا يرون في التقية أنها مشروعة في حال الضرورة، لذا تراهم قد وضعوا روايات تحث عليها من دون ان تتوفر أسبابها أو تكون قائمة كالخوف أو الإكراه، حتى تكون بذلك مسلكا فطريا عند الشيعة في حياتهم تصاحبهم حيث ذهبوا .
فرووا مثلا عن الصادق أنه قال: عليكم بالتقية فأنه ليس منا من لم يجعله شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيته مع من يحذره (1)
ورووا: اتق حيث لا يُتَّقى (2)
ويذكر الخميني في معرض كلامه عن أقسام التقية أن منها التقية المداراتية وعرفها بقوله: وهو تحبيب المخالفين وجر مودتهم من غير خوف ضرر كما في التقية خوفا (3).
فهو يؤكد خلاصة عقيدة التقية عند القوم من أنها لا تعلق لها بالضرر أو الخوف الذي من أجله شرعت التقية، بل قالها صراحةً ان التقية واجبة من المخالفين ولو كان مأمونا وغير خائف على نفسه وغيره (4)
ويضيف آخر: وقد تكون التقية مداراةً من دون خوف وضرر فِعلِي لجلب مودة العامة والتحبيب بيننا وبينهم (5)
ويقول آخر: ومنها التقية المستحبة وتكون في الموارد التي لا يتوجه فيها للإنسان ضرر فِعِلي وآني ولكن من الممكن ان يلحقه الضرر في المستقبل، كترك مداراة العامة ومعاشرتهم (6)
وهكذا نجد ان شروط المشروعية كالخوف أو الضرر قد سقطت، وهي أصل جواز التقية، لنتبين شيئا فشيئا اختلاف تقية القوم عن مفهومها عند غيرهم من المسلمين0
الصفحة التالية
__________
(1) - البحار، 75/395 أمالي الطوسي، 299 الوسائل، 11/466
(2) - البحار، 78/347 فقه الرضا، 338
(3) - الرسائل، 2/174 ( حول اقسام التقية)
(4) - الرسائل، 2/201
(5) - بداية المعارف الإلهية، لمحسن الخرازي، 430
(6) - أجوبة الشبهات، لدستغيب، 159(20/17)
التكفير وضوابطه
من شرح العقيدة الطحاوية
للشيخ العلامة سفر بن عبد الرحمن الحوالي، حفظه الله
من موقع الشيخ (http://www.alhawali.com/index)
هذه الكلمات أتت في صفحات كثيرة في موقع الشيخ سفر - حفظه الله - جُمعت لما فيها من الفوائد، وجُعلت في ملف واحد، وقد جاء فيها من الفوائد التي قلما تجتمع في كتاب واحد في الموضوع
أسأل الله أن يحفظ ويرحم كاتبه، وجامعه، وكل من انتفع به من المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
لزوم جماعة المسلمين
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الأولى)
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي : [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله] قال الإمام ابن أبي العز رحمه الله:
[أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما دامو بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين" يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
واعلم -رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.
فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.(21/1)
وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل كافراً مرتداً] .
المقصود هو التنبيه على خطورة باب التكفير وعظم الشأن فيه واختلاف الأمة فيه، وأهميته وضرورة أن يُعلم وأن يُقرأ وأن يفهم على فهم السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، وأول فرقة خرجت في الإسلام، وأول صراع وخلاف في العقيدة هو مع الخوارج في تكفير أصحاب الذنوب، وخلافها في أول الأمر لم يكن في الصفات، ولم يكن في القدر، وإنما كان في موضوع الإيمان والحكم على مرتكبي الكبيرة -دون الشرك- هذا هو أول ما نشب الخلاف فيه بين الأمة، وتفرقت فيه بظهور هذه الفرقة.
ومعنى الخوارج : جمع (خارجة) وهي صفة لموصوف مقدر، والتقدير فرقة خارجة أو طائفة خارجة، فجُمعت الخارجة جمع تكسير؛ فأصبحت خوارج ، وهذا معروف في لغة العرب مثلما تقول: فاكهة جمعها: فواكه، وفاطمة جمعها: فواطم، وقاعدة جمعها: قواعد كما في القرآن: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ [النور:60] إلى آخره، وهذا كثير، وأصل الخوارج من خرجوا عن الإمام أو عن السنة والإجماع، وسنوضح إن شاء الله أن الخوارج الأولين خرجوا من السنة إلى البدعة، وخرجوا عن الجماعة إلى الفرقة.
معنى لفظ: (الجماعة) شرعاً
الجماعة في الإسلام -التي أمر الله تبارك وتعالى بها- لها معنيان مهما كثرت الأحاديث {عليكم بالجماعة }... أو {فالزم جماعة المسلمين وإمامهم }.
المعنى الأول:(21/2)
الاجتماع على الحق ولزوم السنة، فإذا خرج أي إنسان عن السنة فقد خرج عن الجماعة، وهذا الذي سوف نوضحه إن شاء الله بالتفصيل في مبحث الجماعة، ومن الأدلة عليه قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثّيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة }. المفارق للجماعة: فارق جماعة المسلمين، أي فارق الحق وفارق الإجماع وخرج من الدين.
وأوضح صورة من صور الخروج عن الجماعة هي الخروج من الدين والخروج من الملة، فتارك الدين المرتد فارق الجماعة من جميع الوجوه، وأهل البدع فارقوا الجماعة أي فارقوا السنة إلى البدعة وإن بقي بعضهم من أهل القبلة على الاختلاف بينهم كما سنذكر إن شاء الله.
والمعنى الآخر للجماعة:
هو اجتماع المسلمين على طاعة إمام حق، ونقيضها الخروج على الإمام الحق الذي اجتمعت عليه الأمة، فمن خرج عليه فيطلق عليه: أنه خارج، والفئة التي خرجت يطلق عليها أنها خارجة، وتجمع على خوارج، وفي الأصل الخوارج هم الذين خرجوا في زمن علي رضي الله تعالى عنه بعد حادثة التحكيم يوم صفين ، وقالوا: حكَّم علي الرجال في دين الله، وهؤلاء كانوا شباباً أحداث السن مشغوفون بالعبادة والزهد والتطلع إلى الآخرة، ولكن كان لديهم من ضيق الأفق والنظرة السطحية ومن الحنق والاندفاع والثورة العمياء ما لم يكن في الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، بل هي بعيدة عنهم وعن منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وعن منهج السنة وأهلها، ذلك المنهج الرحب الواسع الذي يقبل تعدد الرأي ووجهات النظر والشورى ولكن في حدود ما قرره الشرع، أما هؤلاء فلا يعرفون إلاَّ أمراً واحداً ورأياً واحداً، كما سنعرف ذلك من خلال أخبارهم وأحوالهم.(21/3)
كانوا في أول الأمر من أشد الناس وقوفاً مع علي رضي الله تعالى عنه، ويرون أنه على الحق مطلقاً، فلما قبل التحكيم قالوا: حكّم الرجال في دين الله، إذاً كفر؛ فكفروا علياً رضي الله تعالى عنه، وخرجوا عليه وفارقوا الجماعة، والنبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه الفرقة ودل عليها وذكر صفاتها، حتى كأن الإنسان يراها، ولهذا بعد معركة النهروان وبعد أن ناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، ورجع منهم من رجع وبقي منهم من بقي، وقاتلهم علي رضي الله تعالى عنه، وقال: [ابحثوا عن صاحب الثدية -تصغير ثدي- فبحثوا عنه فلم يجدوه، فقالوا: ما وجدناه، فقال لهم: والله ما كَذبت ولا كُذبت -يعني: والله! ما كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كُذبت أي لا يمكن أن يكذب عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- فابحثوا عنه -وقيل: إن اسمه حرقوص بن زهير ، فبحثوا عنه فوجدوه في ساقية تحت القتلى، فاستخرجوه وفي عضده مثل الثدي، فقالوا: هذا صاحب الثدية ] يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر علياً بأنه سيقاتلهم وأن هذا هو حالهم وشأنهم وأن منهم أو من قادتهم رجلٌ يسمى ذا الثدية …
معنى لفظ: (الجماعة) شرعاً
من درس: لزوم جماعة المسلمين
الجماعة في الإسلام -التي أمر الله تبارك وتعالى بها- لها معنيان مهما كثرت الأحاديث {عليكم بالجماعة }... أو {فالزم جماعة المسلمين وإمامهم }.
المعنى الأول:
الاجتماع على الحق ولزوم السنة، فإذا خرج أي إنسان عن السنة فقد خرج عن الجماعة، وهذا الذي سوف نوضحه إن شاء الله بالتفصيل في مبحث الجماعة، ومن الأدلة عليه قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثّيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة }. المفارق للجماعة: فارق جماعة المسلمين، أي فارق الحق وفارق الإجماع وخرج من الدين.(21/4)
وأوضح صورة من صور الخروج عن الجماعة هي الخروج من الدين والخروج من الملة، فتارك الدين المرتد فارق الجماعة من جميع الوجوه، وأهل البدع فارقوا الجماعة أي فارقوا السنة إلى البدعة وإن بقي بعضهم من أهل القبلة على الاختلاف بينهم كما سنذكر إن شاء الله.
والمعنى الآخر للجماعة:
هو اجتماع المسلمين على طاعة إمام حق، ونقيضها الخروج على الإمام الحق الذي اجتمعت عليه الأمة، فمن خرج عليه فيطلق عليه: أنه خارج، والفئة التي خرجت يطلق عليها أنها خارجة، وتجمع على خوارج، وفي الأصل الخوارج هم الذين خرجوا في زمن علي رضي الله تعالى عنه بعد حادثة التحكيم يوم صفين ، وقالوا: حكَّم علي الرجال في دين الله، وهؤلاء كانوا شباباً أحداث السن مشغوفون بالعبادة والزهد والتطلع إلى الآخرة، ولكن كان لديهم من ضيق الأفق والنظرة السطحية ومن الحنق والاندفاع والثورة العمياء ما لم يكن في الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، بل هي بعيدة عنهم وعن منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وعن منهج السنة وأهلها، ذلك المنهج الرحب الواسع الذي يقبل تعدد الرأي ووجهات النظر والشورى ولكن في حدود ما قرره الشرع، أما هؤلاء فلا يعرفون إلاَّ أمراً واحداً ورأياً واحداً، كما سنعرف ذلك من خلال أخبارهم وأحوالهم.(21/5)
كانوا في أول الأمر من أشد الناس وقوفاً مع علي رضي الله تعالى عنه، ويرون أنه على الحق مطلقاً، فلما قبل التحكيم قالوا: حكّم الرجال في دين الله، إذاً كفر؛ فكفروا علياً رضي الله تعالى عنه، وخرجوا عليه وفارقوا الجماعة، والنبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه الفرقة ودل عليها وذكر صفاتها، حتى كأن الإنسان يراها، ولهذا بعد معركة النهروان وبعد أن ناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، ورجع منهم من رجع وبقي منهم من بقي، وقاتلهم علي رضي الله تعالى عنه، وقال: [ابحثوا عن صاحب الثدية -تصغير ثدي- فبحثوا عنه فلم يجدوه، فقالوا: ما وجدناه، فقال لهم: والله ما كَذبت ولا كُذبت -يعني: والله! ما كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كُذبت أي لا يمكن أن يكذب عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- فابحثوا عنه -وقيل: إن اسمه حرقوص بن زهير ، فبحثوا عنه فوجدوه في ساقية تحت القتلى، فاستخرجوه وفي عضده مثل الثدي، فقالوا: هذا صاحب الثدية ] يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر علياً بأنه سيقاتلهم وأن هذا هو حالهم وشأنهم وأن منهم أو من قادتهم رجلٌ يسمى ذا الثدية …
الفرق بين الخوارج والبغاة
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الأولى)(21/6)
الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم وصفهم بأوصافهم، ومن جملة ما وصفهم به النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث: {يخرجون } وفي رواية: {يمرقون }، ولهذا سُمُّوا خوارج وهو اسم مشتق من لفظ الحديث، ويُسمون أيضاً المارقة اشتقاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم: {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية }، وكانوا يُسمون القُراء لكثرة اجتهادهم في القراءة، وهم سموا أنفسهم الشراة ولا يرضون أن يسموا خوارج ولا مارقة وإنما يسمون أنفسهم الشراة ، وهو جمع شارٍ والشاري هو المبتاع، قالوا: نحن الشراة الذين شروا أنفسهم لله؛ يعني باعوا أنفسهم في سبيل الله عز وجل، ففي الخوارج الأولين اجتمع الوصفان أنهم خرجوا على السنة؛ المنهج القويم والصراط المستقيم، وفي الوقت نفسه خرجوا عن الإمام الحق والولي العدل، ولما طال بهم الزمن أصبحوا فرقة من الفرق المشهورة التي لها منهج، وتطور هذا المنهج على امتداد تاريخ المسلمين، فأصبح يطلق اسم الخوارج على من يخرجون عن السنة وعن الدين، ويكفرون المسلمين بالذنب.
وعليه فلم يعد الخروج عن الإمام السمة البارزة لهم فقط إذ ليس كل من خرج على الإمام العدل يسمى خارجياً، وبعض الناس يقع في خطأ فيظن أنهم خوارج ؛ لأنهم خرجوا على الإمام الحق، وفي حالة علي رضي الله تعالى عنه اجتمع فيهم الوصفان، لكن بعد أن تحدد الاصطلاح وأصبح علماً على فرقة ذات أصول بدعية فلا يجوز أن يسمى خارجياً إلا من كان على هذا الوصف، وأما من خرج على الإمام العادل فقد اصطلح على تسميته بالباغي وجمعه: البغاة، والباغي قد يكون من أهل السنة . والإمام علي رضي الله تعالى عنه، كان أهل الشام خارجين عن طاعته، ومع ذلك لم يُسمِّهم خوارج ، وإنما كان يعتبرهم ويعدهم بغاة.(21/7)
إذاً: لو كان الخارجون هم كل من خرج على الإمام العدل، لكان كل من خرج على علي رضي الله تعالى عنه من أهل الجمل، وأهل الشام خوارج ، لكن الحقيقة أن أصل كلمة (الخوارج) إذا أطلقت فالمراد من يعتقد هذه البدعة أو هذه العقيدة، ولا يجوز أن تطلق على مجرد الخروج على الإمام، فالخارج على الإمام إن كان خرج عليه معتقداً اعتقاد الخوارج فهو خارجي؛ لأنه على عقيدة الخوارج ؛ أما إن خرج عن طاعة الإمام الحق على تأويل آخر أو طمعاً في الدنيا أو ما أشبه ذلك فيسمى باغياً.
فأوضح وصف لهؤلاء أنهم:
الذين يكفرون المسلمين بمجرد المعاصي والذنوب التي هي دون الكفر أو الشرك، ولم يكفر الله ورسوله من اقترفها، وإن كانوا قد تأولوا بعض النصوص.
فرق الخوارج
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الأولى)
وهؤلاء الخوارج طبقات ودرجات وفرق -وإن كان أصلها واحداً- ويجب أن ننبه دائماً على أن البدعة مدعاة للفرقة فما ابتدع قوم بدعة قط إلا وتفرقوا فيها، فأول ما بدأ الرفض والتشيع في رجل واحد اسمه عبد الله بن سبأ اليهودي، ثم أصبحوا -كما في كتبهم- أكثر من سبعين فرقة، وكذلك الخوارج ، ومثل ذلكالصوفية إذ أنها بدأت بأشخاص زهَّاد يتعبدون و... إلخ، والآن طرق الصوفية لا تحصى كثرةً، بل الطريقة الواحدة تنشق إلى طريقتين والطريقة التي انشقت تنشق إلى طريقتين أو ثلاث أو أربع أو عشر... إلخ.(21/8)
وبما أن البدعة دائماً مدعاة للفرقة فلا يوحد الناس ولا يجمعهم إلاَّ منهج أهل السنة والجماعة الذي هو المنهج الحق، فالخوارج أول ما خرجوا كانوا فرقة واحدة، وكانوا رأياً واحداً كل همهم وكل جهدهم هو تكفير علي رضي الله تعالى عنه، ثم كفروا أيضاً عثمان رضي الله تعالى عنه، وكفروا بطبيعة الحال معاوية وعمرو بن العاص ، بل لما كانت معركة الجمل -وكانوا مع علي رضي الله تعالى عنه- كفروا أصحاب الجمل، وهكذا أخذوا يكفرون حتى إنه لم يسلم من تكفيرهم من الأمراء المؤمنين أو الخلفاء إلا الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولهذا لما أرسل إليهم علي رضي الله عنه من يناظرهم قالوا: لا نبايعه ولا نرجع في طاعته، وقالوا: إن جئتمونا بمثل عمر دخلنا في طاعته، وعلي ليس كمثل عمر ، فمن أين نأتي بمثل عمر ؟! وليت الخوارج رضوا بعد الجهد أن يبايعوا علياً رضي الله تعالى عنه، لكنهم أبوا واستمروا بلا راية، حتى اجتمعوا في مكان يقال له حروراء ، ولهذا يقال لهم: حرورية -كما قالت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: [أحرورية أنتِ؟ ] عند أن سألتها امرأة: لماذا تقضي الحائض الصيام ولا تقضي الصلاة؟ تريد أن تكشف لنا منهج الخوارج ، وهكذا سؤال الخوارج دائماً: لماذا كذا؟ أما المؤمنون فهم يسلّمون ولا ينازعون ولا يجادلون، هذا هو الدين وهذا هو الشرع-.
بعد أن تجمع الخوارج في حروراء أمَّروا عليهم رجلاً من بني تميم يقال له عبد الله بن وهب الراسبي ، هذا في زمن علي رضي الله تعالى عنه حتى إن ابن حزم رحمه الله نقدهم في ذلك قال: "طالبوا بعمر أو بمثل عمر ، فلما لم يجدوا أمَّروا عليهم عبد الله بن وهب وهو أعرابي بوال على عقبيه ليس له سابقة ولا فضل ولا شهد الله له بخير" وليتهم أمروا أحد الصحابة.(21/9)
فالمقصود أنهم خرجوا وكانت المعركة التي أشرنا إليها ثم تطور حالهم فيما بعد، وبعد عام الجماعة بقي الأمر في مدة خلافة معاوية رضي الله تعالى عنه هادئاً، وكانت تلك العشرون سنة التي تولى فيها معاوية رضي الله تعالى عنه من أفضل وأصلح العصور، هدأت فيها الأحوال وسكنت فيها الفتن وانصرف الناس إلى العلم، وكثير من الأحاديث والآثار إنما رويت في هذه الفترة، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يأتي بعده يزيد ومع يزيد ظهرت الفتن واستشرت، ومنها انتشار الخوارج ، ثم بعد ذلك في أيام عبد الملك بن مروان والحجاج كان ظهورهم أشد، فالخوارج أشد ما ظهروا وقويت شوكتهم في زمن بني أمية، مع أنهم خرجوا في أيام علي رضي الله تعالى عنه، واستمرت فتنتهم حتى قتلوه رضي الله تعالى عنه، لكن ما تطوروا وتفرقوا وحكموا بعض الأقطار إلا في آخر زمن صغار الصحابة، كعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري وأمثالهم.
ونستطيع على سبيل الإجمال أن نصنف الخوارج بحسب غلوهم إلى ثلاثة أصناف رئيسية، وإلا فهم فرق كثيرة:
الأزارقة
الأزارقة هم أعظم الخوارج غلواً وأبعدهم عن السنة -وقد ظهر الأزارقة بعد المحكمة الأولى وهم أصحاب النهروان - وترأسهم نافع بن الأزرق الذي هو شيخهم وإمامهم وهو مشهور في كتب التفسير كما تجدون في الدر المنثور مثلاً أو في الطبري وحتى في البخاري لكن لم يسمه، وهو الذي عرف بسؤالاته لابن عباس عندما كان يسأل ابن عباس ويجيبه، ولا يقبل، ويجادل، وهذا شأن الخوارج وأساس ضلالهم أنهم يعتقدون أن العبد متعبد بعين الحق في كل مسألة، وهذا مخالف لما نحن مأمورون به من الاجتهاد لبلوغ الحق والتسديد والمقاربة في حدود الاستطاعة.(21/10)
فنافع بن الأزرق كان يعتقد هو ومن معه أن المسلمين جميعاً كفار، وأن الأمة بأجمعها كافرة إلا نافعاً ومن كان معه، حتى من كان على مذهب نافع ولكنه لم يهاجر إليه فهو عندهم كافر، فلو أن إنساناً محبوس، ولا يستطيع أن يتخلص من ظلم الحجاج أو من سيطرته -مثلاً- فلم يخرج ولم يهاجر إلى نافع ويلتحق بجيشه، فهذا عندهم كافر وإن كان على مذهبهم، وهؤلاء يسمونهم القعدة ، فكان نافع يكفر القعدة ، ويرى أن دارهم كلها دار كفر، فكل الأمة الإسلامية دار كفر إلا معسكره فقط.
النجدات
لما جاء نافع بهذا التشدد وهذا الغلو وهذا التكفير العام للأمة خالفه رجل من أتباعه يدعى نجدة بن عامر الحنفي ، فقال: نجدة هذا غلو، فخفف الغلو فقط وقال: من كان على مذهبنا ولم يستطع أن يهاجر إلينا لا يكفر، ومن أقمنا عليه الحد لا يكفر، وكلاهما متفقان على أن علياً رضي الله تعالى عنه وعثمان ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة ... إلخ كفار، لكن اختلفوا في مسائل تتعلق بالتكفير، فالطائفة الأشد غلواً في الخوارج الذين هم الأزارقة يرون التكفير العام المطلق، وأقل منهم غلواً أو الوسط في مذهب الخوارج الذين هم النجدات -أتباع نجدة بن عامر الحنفي ، الذي خفف قليلاً أو شيئاً من غلو الأزارقة وبقيت مصائب أخرى لم يخففها، وخرج من الأزارقة ومن النجدات أيضاً فرق وطوائف ومقالات، وقد اجتمعوا على تكفير عثمان رضي الله تعالى عنه؛ لأنه تأصل لديهم أن كل من ارتكب معصية فهو كافر، ولو كان مؤمناً لم يعصِ، فعندهم أن عثمان رضي الله تعالى عنه قد فعل أموراً خالف فيها سيرة الشيخين.(21/11)
وقد قلنا: إن أصل الضلال في مسألة الإيمان هو اعتقاد الفرق المخالفة من المرجئة أو الخوارج في القديم أو الحديث: أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتركب، ولو كانوا كأهل السنة والجماعة -استنباطاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- يؤمنون بأن الإيمان يزيد وينقص لقالوا: إن عثمان رضي الله تعالى عنه أقل من الشيخين، فليس هنالك مشكلة، ولن نعترض عليهم.
وفي مثل هذا الباب من يسرق أو يزني أو يشرب الخمر ضعيف الإيمان، ويبقى على إسلامه ولكنه ناقص الإيمان، وهذا وأشباهه قول يقبل ولا بأس به، لكنهم يرون أنه شيء واحد فقط، وليس عندهم تدرج بل نفي للإيمان بالكلية، بخلاف الإيمان عند أهل السنة والجماعة فإنه بضع وسبعون شعبة، أعلاها كذا وأدناها كذا، فقد يكون عند الإنسان ثلاثون شعبة، أو أربعون، أو خمسة وأربعون أو خمسون يتعبد بها وهكذا، ومن ذلك الناس يتفاوتون في إيمانهم وفي صلاتهم وفي صيامهم وفي زكاتهم وفي حجهم تفاوتاً واختلافاً كبيراً، فقد يصلي الرجلان في الصف الواحد وبين صلاتهما بون عظيم، وهذا شيء واضح ومعلوم، لكن هؤلاء قالوا: لا. إما يكون مؤمناً إذا كان موافقاً للحد الذي وضعناه، وإما أنه ليس بمؤمن إذا خالف ولو في شيء يسير، وعليه فعثمان رضي الله تعالى عنه عندهم كافر غير مؤمن لأنه ارتكب كبيرة -في نظرهم- إذ أنه نقص عما كان عليه الشيخان، فمثلاً حمى الحمى، واستأثر بشيء من بيت المال -بزعمهم- وولى أقرباءه، وأتم الصلاة في مكة .. إلى غير ذلك من أمور اجتهادية وهو رضي الله تعالى عنه له فيها رأي وله اجتهاد، وغاية ما في الأمر أنه أخطأ، لكنهم ليس عندهم شيء اسمه خطأ أو صواب، إما كافر أو مؤمن فقط، وليس هناك ناقص إيمان وضعيف إيمان، كذلك من جاء بعده كعلي رضي الله تعالى عنه قالوا: حكَّم الرجال، والله يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57]، فهذا كلام الله، وهو يقول بحكم(21/12)
فلان وفلان فقد كفر، سبحان الله! أهكذا يكون الاحتجاج؟!! أهكذا يكون الاستدلال؟!!
ولهذا حاجهم وألزمهم حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه من كتاب الله تعالى كما تقدم.
إذاً: ليس عندهم حجج ولا براهين، وليس عندهم إلا شبهات وآراء يجمعونها ويتصلبون عليها ولا يقبلون فيها نقاشاً، وهم بذلك يكفرون الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
فرقة الإباضية
ثم ظهر بعد ذلك عبد الله بن إباض زعيم الإباضية ، فخفف من غلو الطائفتين، فخالف نافعاً ونجدة وقال: إنما هو كفر دون كفر، أو كفر النعمة -كما يسميه البعض- وهم المؤمنون قطعاً وغيرهم مؤمنون لكنهم كفار كفر نعمة، إلا السلطان وعسكره فقط، أي: الذين يخرجون من الملة، فالقضية المهمة عند الخوارج في جميع فرقهم ومقالاتهم هي السلطة أو الحاكم أو الخليفة، وكأنه إذا صلح صلح كل شيء وإذا فسد فسد كل شيء، وليس عندهم إيمان يزيد وينقص، فإذاً ليس عندهم في الحاكم إلا أن يكون مثل أبي بكر وعمر أو يكون كافراً، ولهذا استحل الخوارج دماء المسلمين المخالفين لهم وقالوا: دارهم دار كفر، إما كفر مخرج من الملة، كما هو رأي الأزارقة والنجدات ، أو كفر دون كفر كما هو رأي الإباضية ، لكن في الآخرة كلهم مجمعون على أنه خالد مخلد في النار ... إلخ، وقضيتهم الأساسية مع الأمة هي بماذا تكفر -حتى لو كان كفراً أصغر-؟!، وبأي شيء يمتحن الناس؟! وعلى أي شيء يوالى ويعادى الناس؟! وكل ذلك مبني على موقفهم من السلطان وعسكره، فهذا هو عندهم أصل الإيمان والدين والولاء والبراء، فإن قال رجل: عبد الملك بن مروان خليفتنا وأمير المؤمنين كفروه؛ لأنه يواليه؛ وهكذا لو كان من جنده فهذا كافر، وإن تبرأ منه فهو مسلم مؤمن، هذا هو الإيمان عندهم، ولذلك استحلوا أن يغزوا وأن يهاجموا العوام من المسلمين، وانتشار هؤلاء الخوارج ملاحظ في أواسط نجد خاصة، ثم في بلاد فارس ثم في عمان ثم انتشروا في المغرب وأنشئوا دولاً في بلاد(21/13)
الفرس ... وكلهم يستحلون دماء المسلمين، ويقولون: هؤلاء كفار لأنهم لم يعينونا ولم يخرجوا معنا على حكام الجور وسلاطين الظلم.
الأزارقة
من درس: فرق الخوارج
الأزارقة هم أعظم الخوارج غلواً وأبعدهم عن السنة -وقد ظهر الأزارقة بعد المحكمة الأولى وهم أصحاب النهروان - وترأسهم نافع بن الأزرق الذي هو شيخهم وإمامهم وهو مشهور في كتب التفسير كما تجدون في الدر المنثور مثلاً أو في الطبري وحتى في البخاري لكن لم يسمه، وهو الذي عرف بسؤالاته لابن عباس عندما كان يسأل ابن عباس ويجيبه، ولا يقبل، ويجادل، وهذا شأن الخوارج وأساس ضلالهم أنهم يعتقدون أن العبد متعبد بعين الحق في كل مسألة، وهذا مخالف لما نحن مأمورون به من الاجتهاد لبلوغ الحق والتسديد والمقاربة في حدود الاستطاعة.
فنافع بن الأزرق كان يعتقد هو ومن معه أن المسلمين جميعاً كفار، وأن الأمة بأجمعها كافرة إلا نافعاً ومن كان معه، حتى من كان على مذهب نافع ولكنه لم يهاجر إليه فهو عندهم كافر، فلو أن إنساناً محبوس، ولا يستطيع أن يتخلص من ظلم الحجاج أو من سيطرته -مثلاً- فلم يخرج ولم يهاجر إلى نافع ويلتحق بجيشه، فهذا عندهم كافر وإن كان على مذهبهم، وهؤلاء يسمونهم القعدة ، فكان نافع يكفر القعدة ، ويرى أن دارهم كلها دار كفر، فكل الأمة الإسلامية دار كفر إلا معسكره فقط.
النجدات
من درس: فرق الخوارج(21/14)
لما جاء نافع بهذا التشدد وهذا الغلو وهذا التكفير العام للأمة خالفه رجل من أتباعه يدعى نجدة بن عامر الحنفي ، فقال: نجدة هذا غلو، فخفف الغلو فقط وقال: من كان على مذهبنا ولم يستطع أن يهاجر إلينا لا يكفر، ومن أقمنا عليه الحد لا يكفر، وكلاهما متفقان على أن علياً رضي الله تعالى عنه وعثمان ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة ... إلخ كفار، لكن اختلفوا في مسائل تتعلق بالتكفير، فالطائفة الأشد غلواً في الخوارج الذين هم الأزارقة يرون التكفير العام المطلق، وأقل منهم غلواً أو الوسط في مذهب الخوارج الذين هم النجدات -أتباع نجدة بن عامر الحنفي ، الذي خفف قليلاً أو شيئاً من غلو الأزارقة وبقيت مصائب أخرى لم يخففها، وخرج من الأزارقة ومن النجدات أيضاً فرق وطوائف ومقالات، وقد اجتمعوا على تكفير عثمان رضي الله تعالى عنه؛ لأنه تأصل لديهم أن كل من ارتكب معصية فهو كافر، ولو كان مؤمناً لم يعصِ، فعندهم أن عثمان رضي الله تعالى عنه قد فعل أموراً خالف فيها سيرة الشيخين.
وقد قلنا: إن أصل الضلال في مسألة الإيمان هو اعتقاد الفرق المخالفة من المرجئة أو الخوارج في القديم أو الحديث: أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتركب، ولو كانوا كأهل السنة والجماعة -استنباطاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- يؤمنون بأن الإيمان يزيد وينقص لقالوا: إن عثمان رضي الله تعالى عنه أقل من الشيخين، فليس هنالك مشكلة، ولن نعترض عليهم.(21/15)
وفي مثل هذا الباب من يسرق أو يزني أو يشرب الخمر ضعيف الإيمان، ويبقى على إسلامه ولكنه ناقص الإيمان، وهذا وأشباهه قول يقبل ولا بأس به، لكنهم يرون أنه شيء واحد فقط، وليس عندهم تدرج بل نفي للإيمان بالكلية، بخلاف الإيمان عند أهل السنة والجماعة فإنه بضع وسبعون شعبة، أعلاها كذا وأدناها كذا، فقد يكون عند الإنسان ثلاثون شعبة، أو أربعون، أو خمسة وأربعون أو خمسون يتعبد بها وهكذا، ومن ذلك الناس يتفاوتون في إيمانهم وفي صلاتهم وفي صيامهم وفي زكاتهم وفي حجهم تفاوتاً واختلافاً كبيراً، فقد يصلي الرجلان في الصف الواحد وبين صلاتهما بون عظيم، وهذا شيء واضح ومعلوم، لكن هؤلاء قالوا: لا. إما يكون مؤمناً إذا كان موافقاً للحد الذي وضعناه، وإما أنه ليس بمؤمن إذا خالف ولو في شيء يسير، وعليه فعثمان رضي الله تعالى عنه عندهم كافر غير مؤمن لأنه ارتكب كبيرة -في نظرهم- إذ أنه نقص عما كان عليه الشيخان، فمثلاً حمى الحمى، واستأثر بشيء من بيت المال -بزعمهم- وولى أقرباءه، وأتم الصلاة في مكة .. إلى غير ذلك من أمور اجتهادية وهو رضي الله تعالى عنه له فيها رأي وله اجتهاد، وغاية ما في الأمر أنه أخطأ، لكنهم ليس عندهم شيء اسمه خطأ أو صواب، إما كافر أو مؤمن فقط، وليس هناك ناقص إيمان وضعيف إيمان، كذلك من جاء بعده كعلي رضي الله تعالى عنه قالوا: حكَّم الرجال، والله يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57]، فهذا كلام الله، وهو يقول بحكم فلان وفلان فقد كفر، سبحان الله! أهكذا يكون الاحتجاج؟!! أهكذا يكون الاستدلال؟!!
ولهذا حاجهم وألزمهم حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه من كتاب الله تعالى كما تقدم.
إذاً: ليس عندهم حجج ولا براهين، وليس عندهم إلا شبهات وآراء يجمعونها ويتصلبون عليها ولا يقبلون فيها نقاشاً، وهم بذلك يكفرون الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
فرقة الإباضية
من درس: فرق الخوارج(21/16)
ثم ظهر بعد ذلك عبد الله بن إباض زعيم الإباضية ، فخفف من غلو الطائفتين، فخالف نافعاً ونجدة وقال: إنما هو كفر دون كفر، أو كفر النعمة -كما يسميه البعض- وهم المؤمنون قطعاً وغيرهم مؤمنون لكنهم كفار كفر نعمة، إلا السلطان وعسكره فقط، أي: الذين يخرجون من الملة، فالقضية المهمة عند الخوارج في جميع فرقهم ومقالاتهم هي السلطة أو الحاكم أو الخليفة، وكأنه إذا صلح صلح كل شيء وإذا فسد فسد كل شيء، وليس عندهم إيمان يزيد وينقص، فإذاً ليس عندهم في الحاكم إلا أن يكون مثل أبي بكر وعمر أو يكون كافراً، ولهذا استحل الخوارج دماء المسلمين المخالفين لهم وقالوا: دارهم دار كفر، إما كفر مخرج من الملة، كما هو رأي الأزارقة والنجدات ، أو كفر دون كفر كما هو رأي الإباضية ، لكن في الآخرة كلهم مجمعون على أنه خالد مخلد في النار ... إلخ، وقضيتهم الأساسية مع الأمة هي بماذا تكفر -حتى لو كان كفراً أصغر-؟!، وبأي شيء يمتحن الناس؟! وعلى أي شيء يوالى ويعادى الناس؟! وكل ذلك مبني على موقفهم من السلطان وعسكره، فهذا هو عندهم أصل الإيمان والدين والولاء والبراء، فإن قال رجل: عبد الملك بن مروان خليفتنا وأمير المؤمنين كفروه؛ لأنه يواليه؛ وهكذا لو كان من جنده فهذا كافر، وإن تبرأ منه فهو مسلم مؤمن، هذا هو الإيمان عندهم، ولذلك استحلوا أن يغزوا وأن يهاجموا العوام من المسلمين، وانتشار هؤلاء الخوارج ملاحظ في أواسط نجد خاصة، ثم في بلاد فارس ثم في عمان ثم انتشروا في المغرب وأنشئوا دولاً في بلاد الفرس ... وكلهم يستحلون دماء المسلمين، ويقولون: هؤلاء كفار لأنهم لم يعينونا ولم يخرجوا معنا على حكام الجور وسلاطين الظلم.
تطور البدع وعدم وقوفها عند حد
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الأولى)(21/17)
الإمام الشعبي رحمه الله يقول كما روى عنه ابن سعد أنه ضرب للخوارج مثلاً فقال: شأن هؤلاء كرجل مات وترك ثلاثة أبناء: كبير وأوسط وصغير، فجاء الكبير فاستأثر بالمال كله، ولم يترك للاثنين شيئاً فجاء الأوسط للأصغر، وقال له: أعني على قتال الكبير، فقال الأصغر: لا أستطيع أن أقاتله، ولكن أصبر وأحتسب، فعدا الأوسط على الصغير وقاتله؛ لأنه لم يخرج معه ولم يقاتل معه الأكبر، فهذا المثال المبسط يدلنا على حقيقة وضع الخوارج ، فعبد الملك بن مروان -أو الحجاج - أخذ بيت المال وظلم الناس وفعل وفعل.(21/18)
فإنهم قالوا للناس: اشتركوا معنا لنقاتل هؤلاء فأبى الناس فأخذوا يستحلون أموال الناس؛ لأنهم لم يخرجوا معهم ليقاتلوا عبد الملك والحجاج ومن بعده ويأخذوا حقهم ونصيبهم من بيت المال، وأكثر ما نقموا على بني أمية -كما تعلمون، ومخالفة بني أمية لم تكن في الاعتقاد- ما كان في المال، ولا شك أن بني أمية خاصة بعد معاوية رضي الله تعالى عنه خالفوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين في بيت المال؛ فبيت المال إنما هو للمسلمين، ولذلك أبو بكر رضي الله عنه بعد أن بويع بالخلافة أراد أن يسعى في طلب الرزق وأن يعمل، فقالوا: يا خليفة رسول الله إلى أين؟ قال: عيالي؛ فرتبوا له من بيت المال ما يكفيه، وعمر رضي الله تعالى عنه معلوم عدله حتى مع أهله وأبنائه، فكان لا يسمح أن يأخذ أحد من بيت المال درهماً واحداً، بل يذكر عنه رضي الله تعالى عنه أنه ذهب مرة إلى السوق فوجد إبلاً سماناً أسمن من غيرها من الإبل فقال: لمن هذه الإبل؟ قالوا: هذه لابنك عبد الله بن عمر ، فدعاه فقال: يا عبد الله ! هذه الإبل لك؟ قال: نعم. قال: مالي أراها أسمن من غيرها من الإبل؟ قال: والله! يا أمير المؤمنين: لا علم لي، هذه إبلي، واستأجرت لها الرعاة يرعونها، قال: لا. هذه الإبل إذا ذهبت عند الماء قيل: إبل ابن أمير المؤمنين فتشرب قبل إبل المسلمين، وإذا ذهبت في مرعى قالوا: دعوها ترتع؛ لأنها إبل ابن أمير المؤمنين، فلذلك كانت أسمن من غيرها، بيعوها، ولك يا عبد الله رأس مالك، والباقي في بيت مال المسلمين، هكذا ضرب الأمثلة في القسطاس والعدل، فلما كانت تلك سيرتهم أحبهم الناس ولا شك أنها سيرة عالية راقية، وهذا الذي يجب أن تتطلع الأمة إلى أن تُوجد مثله، وإن وجد من يخالف؛ فقولوا لهم: كونوا مثلهم، فلو نُصح عبد الملك بن مروان مثلاً أو من بعده: كن كعمر ، كن كأبي بكر -ويجب أن يقال له ذلك- حتى تبقى عند الأمة هذه الصورة العليا، لكن هناك تفاوت(21/19)
وهناك درجات، وليس الأمر كله كذلك، فكان أوضح ما يكون من انحراف في عهد بني أمية في بيت المال في عهد عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك ثم سليمان حتى جاء عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه الذي سار بسيرة جده عمر بن الخطاب ، فرد المظالم ورد الأموال حتى إن عقد زوجته فاطمة بنت عبد الملك -وهو عقد أعطاها إياه أبوها وأقرها عليه أخواها- رده إلى بيت المال.
وهكذا أرجع إلى الناس مظالمهم حتى شكرت له الأمة ذلك، يذكر التاريخ في سيرته -كما ذكر ابن الجوزي وابن عبد الحكم - أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه في أيامه أخذ المظالم فردها، ومن جملة ما رد من المظالم ضيعة كانت لرجل، فجاء هذا الرجل بعد وفاته بزمن إلى هشام بن عبد الملك وقال: يا أمير المؤمنين! إنه كانت لي ضيعة أو بستان وهبني إياها أبوك عبد الملك وأقرني عليها أخوك الوليد وأخوك سليمان ، ثم جاء عمر رحمه الله فنزعها مني وأرجو أن تعيدها لي، فقال: أعد ما تقول يا رجل! قال: إنه كانت لي ضيعة أعطاني إياها أبوك عبد الملك ثم أقرني عليها أخواك الوليد وسليمان حتى جاء عمر رحمه الله فنزعها مني، فتعجب هشام سبحان الله! يترحم على من أخذها ولا يترحم على من أعطاه.(21/20)
فالأمة بفطرتها تشهد له أنه على الحق وإن كان حَرَمَها، لكنه لم يظلمها، وإنما أخذ منها الظلم ورد الحق لأهله، والذين أعطوا بغير حق لا يشكرون ولا يذكرون، ولا يقال لأحدهم رحمه الله، هذا الجزاء في الدنيا وما عند الله أشد -ونعوذ بالله- المهم في الأمر أن بيت المال أمره عظيم، فكان الخلاف في مسألة بيت المال أوضح ما كان عند الخوارج ، فالخوارج كانوا يجادلون من يجادلون في هذا، ولهذا ضرب الشعبي رحمه الله هذا المثل للخوارج بما قاله الأخ الأوسط للأصغر: تعال معي نأخذ حقنا. فقال: لا. ولكن أصبر وأحتسب، وكثير من الأمة وكثير من الناس في البوادي وفي وسط الجزيرة وغيرها، قالوا: لا نقاتل الوليد لأنه لم يعطنا حقنا من الفيء ومن بيت المال، نتركه وأمره إلى الله، فقالت: الخوارج إذا لم تقاتلوه فأنتم تقرونه، وعليه فأنتم كفار، وقاتلوهم على ذلك، فهذه مشكلة الخوارج ولهذا لما قدموا على أبي مجلز السدوسي وهو من التابعين المشهورين جاء إليه نفر منهم يناظرونه وقالوا له: [فسر هذه الآية: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قالوا: أليس هؤلاء يحكمون بغير ما أنزل الله؟ قال: بلى، قالوا: إذاً هم كفار، ولكنك وأمثالك تداهنونهم، وهم يحكمون بغير ما أنزل الله، قال: لا. إن دينهم الذي يدينون به هو الحكم بما أنزل الله، ولكنهم يخالفون في العمل ]، والكفر كما سيأتينا إن شاء الله ليس هو مجرد المخالفة في العمل -لأن المخالفة في العمل تسمى معاصي وذنوباً، وهذا في الغالب- لكن منهجهم في الحكم ودينهم وشرعهم هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه القضية كانت تشغل بال الخوارج ، وكانوا يُثيرون الأمة بالذنوب والمعاصي التي تقع من الحكَّام وقد كان بعضهم كذلك، فهؤلاء يريدون أن يقولوا للناس: إن من ارتكب كبيرة فهو كافر، إذاً فالحجاج وعبد الملك والوليد كلهم كفار، وكل من أقر هؤلاء أو(21/21)
اعترف بأنهم ولاة أمر للمسلمين فهو كافر مثلهم.
ولم يقف مذهب الخوارج عند هذا الحد، فالبدع دائماً تتطور وتتفاقم وهذه من العبر التي يجب علينا نحن الشباب المسلم أن نأخذها دائماً بعين الاعتبار، فالخوارج كان أصل مذهبهم التعبد كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: {تحقرون -يعني الصحابة رضي الله عنهم- صلاتكم إلى صلاتهم }، فهؤلاء مع هذه العبادة ومع هذا الغلو والشدة في أخذ الحق وفي الوقوف عند حدود الله، لكن لأن المنهج قائم على البدعة، فالذي حصل أنه لم ينته القرن الأول أو الثاني حتى ظهر في الخوارج من ينكر بعض الحدود، وبعض القرآن والعياذ بالله، فلم ينفعهم الغلو ولا يظن أحد أن الغلو نافع لأهل البدع، فمن ابتدع بدعة وخالف بها الحق فلا يغرنك منه قيامه ولا صلاته وهو على هذه الضلالة -عياذاً بالله- حتى الصوفية أصل مقالتهم هي: السياحة في الأرض والطواف وذكر الله، وترك الدنيا وترك ملذاتها والزهد فيها، فلم ينفعهم ذلك المنهج المبتدع! بل آل بهم الأمر إلى حد استحلال الفروج، واستحلال المحرمات -والعياذ بالله- ويرون ذلك عين الحلال، فلا يمكن أن يثبت على الحق إلا أهل الحق أهل السنة والجماعة ، أما أولئك فلابد أن ينحرفوا عن المنهج القويم والصراط المستقيم، وإن كان أصل مذهبهم يقوم على الطاعات، كما كان حال الخوارج والصوفية ، فقد كان أصل مذهبهم هو الزهد والبعد عن المعاصي، فيتجنبونها تماماً، لكن هل يتجنبونها على منهج السلف ، أم على منهج بدعي؟
وقوع الخوارج فيما هو أعظم من المعاصي
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الأولى)(21/22)
إن مخالفة الخوارج لمنهج السلف جعلهم يقعون فيما هو أكبر من المعاصي، فهذا الخارجي الذي كان يقول إذا خالف الإنسان في آية أو في حديث يكفر أصبح هو يخالف في أمور كثيرة من ذلك، فقالوا: ليس الرجم في كتاب الله إنما ذكر الله الجلد: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2] فأين الرجم، وهكذا بدءوا ينكرون السنة، فإن جئت بالحديث عن علي ، عن عائشة ، عن طلحة ، عن الزبير ، عن ابن عباس فهؤلاء من الكفار عندهم أو من جنود السلطان وأتباع السلطان إذاً ليس عندهم دليل، وإن كان أصل الخروج التشدد والتنطع في العبادة إلا أنهم خرجوا عن الدين عياذاً بالله، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وقد أدرك مقالتهم قال: [من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن ]؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]. وقال: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15] والسبيل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الرجم، وأيضاً إن الرجم كانت له آية تقرأ: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة }، ثم نسخت تلاولها، وبقي حكمها.(21/23)
توجيه آخر لكلام ابن عباس يعني قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41] إلى أن قال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ [المائدة:43] ثم تستمر الآيات إلى أن قال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] ثم: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] في أي شيء هذا؟ وما هو الحكم الذي أراد اليهود أن يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيه؟ الجواب: هو حد الزنا، فقالوا: نحكمه فإن حكم بغير الرجم عملنا به، وقلنا: يا رب! هذا رسول أرسلته آمنا بشرعه، يعني إذا أعجبهم الشرع أخذوه وإذا لم يعجبهم تركوه، وهذا حال كثير من الناس إذا توافقت أهواؤهم وشهواتهم مع فتاوى بعض المشايخ قالوا: نحن ما أتينا بشيء من عندنا، هذا في القرآن، وهذا كلام العلماء، والحقيقة أن هذا المنهج هو منهج اليهود وأتباع اليهود وكثير من المنافقين -نعوذ بالله- ولهذا الله تعالى قرنهما أول ما افتتح الآيات: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا [المائدة:41] أي: المنافقون واليهود يسارعون في الكفر؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله في الرجم.(21/24)
قالوا: إن لم يحكم لنا بما نريد تركناه، فهم -أصلاً- كافرون بكل ما جاء به، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43] قال: ائتوا بالتوراة، فجاءوا بها وقرأ الحبر وعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه يراه ووضع يده على موضع الآية وقرأ ما قبلها وما بعدها، قال عبد الله : ارفع يدك، فرفعها فإذا آية الرجم تلوح وإذا الرجم في التوراة موجود ، وأكده الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات -وهذا ما سنشرحه إن شاء الله في موضوع الحكم بغير ما أنزل الله- إذاً! من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن.
فالمقصود أن بعض الخوارج كفر ببعض الحدود بعد أن كانوا يتشددون ويقولون: من زنى كفر، فكفروا هم بالرجم، وكفروا بالقرآن بعد أن كانوا يرون من خالف آية منه أو حرفاً منه كافراً، وظهرت من فرق الخوارج من تقول: إن سورة يوسف ليست من القرآن؛ قالوا: لأن هذه مجرد قصص وفيها ذكر العشق فليست من القرآن.
والقرآن لا يمكن أن يكون فيه هذا الهوى والعشق، وقالوا: ليست من القرآن فكفروا، وآل بهم الحال بعد التشدد والتنطع والغلو في الدين إلى أن خرجت منهم طوائف عن دين الله.
قواعد في التكفير
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الأولى)
قال رحمه الله: [أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين -ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين) يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب].
[بكل ذنب] تعبير المصنف بـ(كل) أصح من قول الماتن: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب] لأن من الذنوب ما يكفر، والحق أننا لا نكفر بكل ذنب، وبين التعبيرين بون واضح.(21/25)
قال: [واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء] وتجد أن الفرق جميعاً ضلت وتخبطت في موضوع التكفير، وإن شاء الله سنتعرف على نماذج من كلام الخوارج والمرجئة وغيرهم، وما فيه من غرائب وعجائب.
قال رحمه الله: [باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه- في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم -على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية].
والمقصود بالكبائر العملية: الكبائر الظاهرة الواضحة مثل: الزنا والسرقة وشرب الخمر والخيانة والقذف -والعياذ بالله- والخلاف فيها طويل وشديد وقائم.
والمقالات، أي: الاعتقادات، والمسألة هي: هل من يعتقد كذا يكفر أو لا يكفر!! تماماً مثل مسألة تكفير مرتكب الكبائر العملية.(21/26)
إذاً: الخلاف في التكفير يدخل في بابين هما: باب العمليات، وباب المقالات أو الاعتقادات المخالفة لما جاء به الشرع والدين في نفس الأمر أو في اعتقاد المخالف، أي: قد تكون مخالفة حقيقةً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تكون مخالفةً فقط في اعتقاد المخالف فيكفر من خالفه فهذا التكفير في الاعتقاديات، أما في العمليات فالأمر فيه واضح وهو أن هؤلاء الضُّلال الذين ضلوا -عياذاً بالله- كالخوارج يكفرون المسلمين بارتكاب الكبائر العملية، فمن زنى أو سرق أو شرب الخمر فهو عندهم كافر، وهذا خلاف ما نصت عليه نصوص الكتاب والسنة، وليس هناك كبيرة بعد الشرك أعظم من قتل النفس المعصومة، فالله تبارك وتعالى لم يحكم بالكفر على من قتل نفساً أو قتل مؤمناً، ولقد بين الله سبحانه وتعالى معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر } وأن ذلك ليس كفراً مخرجاً من الملة، وقد يقع من المؤمن فلا يكفر كفراً مخرجاً من الملة قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] إذاً: القتال قد يصدر من المؤمنين ويقع بينهم، وبهذا يتضح ضلال الخوارج في باب الكبائر.
اختلاف الناس في إطلاق التكفير وعدمه
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثانية)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير بابٌ عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.(21/27)
فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.
وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً.
والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: [إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء ]، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68] اهـ.
الشرح:
حتى تفهم العبارة فهماً صحيحاً لابد من وضع خط اعتراض بعد (فالناس فيه) إلى (في اعتقادهم) فتكون الجملة الاعتراضية: "في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم" فكأن العبارة: الناس فيه على طرفين ووسط، أي فيما بين علامتي الاعتراض.
وقال أطال المصنف رحمه الله تعالى في الكلام في التكفير وعدم التكفير، وحكم مرتكب الكبيرة، واختلاف الفرق فيه، وأنواع الكفر والنفاق، ولكنه فرق الكلام مع ما فيه من تكرار وتداخل تبعاً للأصل، فإن الإمام الطحاوي رحمه الله فرق الكلام في التكفير، فالكلام مفرق ومتداخل على وجه العموم، وسنجتهد بإذن الله أن لا يكون هناك تكرار، فنقول:(21/28)
ذكر المصنف رحمه الله أن أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق اختلفوا في تكفير غيرهم من الفرق، والمقصود بالمقالة هنا: الاعتقاد والعقيدة، فكلمة (القول) قد تطلق بمعنى الاعتقاد، فإذا قيل: هذا قول الجهمية أو قول الكرامية ، فالمراد هو اعتقادهم، لا مجرد لفظهم؛ لأن القول يشمل قول اللسان وقول القلب، أي: اعتقاده وإقراره.
يقول رحمه الله: [أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم]، ثم أجمل ذلك بأن جعلهم على طرفين ووسط، فقال: [فالناس فيه.. على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية].
فيلاحظ أنه قسم الخطأ الذي اختلف في تكفير أهله إلى نوعين: الأول: اعتقاديات أو علميات، والثاني: العمليات، فالاعتقاديات: مثل أن نعتقد أن عذاب القبر حق، فهذه عقيدة، والعمليات: مثل الصلاة، فهذا عمل نعمله، وبينهما تلازم؛ فإن الأمر وإن كان اعتقادياً فإنه يلزم منه العمل، فمن يؤمن بعذاب القبر ونعيمه يلزم من ذلك أن يعمل له، وأيضاً من يؤدي الصلاة يلزم من ذلك أن يكون مؤمناً بالله مؤمناً بالصلاة وبوجوبها، فالتلازم موجود، لكن التفريق فقط من باب الإيضاح ولمعرفة حكم كل منهما.(21/29)
وأول ما نشب الخلاف في هذه الأمة وحصل فيه النزاع بين الخوارج والمرجئة وأهل السنة ؛ كان في العمليات، أي: في حكم العاصي الذي ترك واجباً أو فعل محرماً، وهذا كان في الصدر الأول للأمة، ولكن تطور الأمر بعد أن ظهرت الفرق وأصبح لكل فرقة منهج مستقل وأدلة وبراهين وحجج وشبهات، فبدأ الكل يكتب ويتكلم في بيان خطأ المخالف له في هذا الاعتقاد، فبعد أن كان الاختلاف في التكفير أو عدم التكفير مقتصراً على الأمور العملية؛ أصبح اختلاف الناس في مسائل المقالات -أي: الأمور العلمية الاعتقادية- من جنس اختلافهم في أمور الكبائر العملية.
المرجئة لا تكفر أحداً من أهل القبلة
يقول ابن أبي العز رحمه الله: [فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين...] إلخ، يعني بأهل القبلة: كل من أظهر الإسلام بالشعائر الظاهرة، فهو عندهم لا يكفر أبداً، فأطلقوا القول، وقالوا: لا نكفر أحداً، وأوضح مثال على هؤلاء هم المرجئة ، وهم أصناف، وهذا هو مذهبهم، وممن ذكر ذلك صاحب المواقف عضد الدين الإيجي في المقصد الخامس في موضوع الإيمان عندما تكلم عن التكفير؛ فقال -في معنى كلامه-: (جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة) يعني: مهما اعتقد من اعتقادات فإنه لا يكفر، ثم قال: (وتحامقت المعتزلة بعد أبي الحسين البصري ، فكفروا أصحابنا) يعني كفروا الأشاعرة ، قال: (فرد عليهم بعض أصحابنا بالمثل)، أي أنه ظهر أيضاً من الأشاعرة من يكفر المعتزلة ، فالفتن في هذه الأمة فتن قديمة ومستمرة ما لم تعتصم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وكفرت المجسمة من خالفهم)، والمقصود بالمجسمة في الغالب عند أهل الكلام أو عند نفاة الصفات هم أهل السنة والجماعة ، ثم قال: (وقال الأستاذ: لا نكفر إلاَّ من كفَّرنا، أو قال: من كفَّرنا كفَّرْناه وإلاَّ فلا)، ويعنون بالأستاذ(21/30)
غالباً أبا منصور البغدادي ، وبعضهم يقول: الأستاذ؛ ويعني به أبا إسحاق الإسفرائيني ، وإن كان البغدادي عندهم أشهر وقد نسب الإيجي الكلام في هذا إلى جمهور المتكلمين والفقهاء، وهو بذلك يريد أن يقوي هذا القول، وهذه النسبة غير صحيحة، وبيان ذلك:
أولاً: بالنسبة للمتكلمين فإنالمعتزلة هم رأس علم الكلام وأصله وأساسه، وهم مع ذلك ضد هذا القول تماماً؛ حتى إنهم -كما ذكر- يكفرون الأشاعرة أنفسهم.
ثانياً: وأما الفقهاء؛ فنسبة هذا القول إليهم ليس بصحيح؛ إذ أن كل مذاهب الفقه الأربعة وغير المذاهب الأربعة كالظاهرية وما شابهها، تذكر في كل كتاب من كتبها: باب المرتد، أو باب الردة، أو باب أحكام أهل الردة -تختلف الأسماء، ولكن المسمى واحد- فكل الفقهاء مجمعون على أن هناك مرتداً.. لكن ما هي أحكامه؟ ومتى يكفر؟ هنا يفصلون الكلام، وبعضهم أكثر غلواً -إن صح التعبير- من بعض، مثل بعض كتب الفقه الحنفية، فإنها تستطرد وتذكر أموراً غريبة -على الأقل عند المخالف لهم- فمثلاً يقولون: من قال: مصيحف أو مسيجد كفر؛ لأنه صغر المسجد، وهذا يشعر بالاحتقار، وكذلك إذا أهدى إلى مجوسي بيضة في يوم النيروز كفر؛ لأنه عيد من أعياد المجوس ، وقد ذكر هذا علي القاري في الفقه الأكبر .(21/31)
إذاً: فغير صحيح أن الفقهاء لا يكفرون أحداً من أهل القبلة، وهذه القضية ليست قضية نظرية، ولم تكن كذلك عندما ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، حيث ثاروا وقاموا في وجهه في أكثر البلاد، وقالوا: إنه يكفر المسلمين، وهذه هي الشبهة التي يرددونها دائماً ولا ينفكون عنها في كل البلاد، منذ ثلاثة قرون وإلى الآن وهم يكررون ويقولون: إن الشيخ رحمه الله يكفر المسلمين، فإذا قيل: وأنتم كذلك! قالوا: نحن لا نكفر أحداً! وقد أرادوا الطعن في دعوته رحمه الله تعالى بهذا الشيء، وأنه خارج عن الإجماع وأنه يكفر المسلمين، ولكن في حقيقة الأمر أنهم هم الذين خرجوا عن إجماع الأمة، وخرجوا عن الكتاب والسنة بدعواهم أن أهل القبلة فلا يكفر منهم أحد، وأن كل من قال: (لا إله إلاَّ الله) لا يكفر، والغريب أن الأولين من المرجئة كانوا يقولون: إن الذي يقيم أحكام الإسلام الظاهرة لا يكفر، أي: يصلي ويصوم ويزكي -كما سبق بيانه- لكن وصل الحال عند أكثر المتأخرين إلى القول بأنه ما دام يقول: (لا إله إلاَّ الله) فإنه لا يكفر وانتشر هذا حتى أصبح كأنه قضيةٌ بدهية مسلّّم بها.(21/32)
الرد على المرجئة بأن في أهل القبلة منافقين
ويقال لهم: نريد ولو واحداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا إله إلاَّ الله)، ولم يصلِّ ولم يزكِ ولم يحج ولم يجاهد ولم يعمل أي عمل من أعمال الإسلام، وظل في عرف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والمؤمنين أنه من المسلمين والمؤمنين؟ لا يستطيع أحد أن يأتي بدليل على ذلك أبداً، فلذلك يقول المصنف رحمه الله: "فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين..."، فأوضح دليل في الرد عليهم: أن في أهل القبلة من يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، ويدعي الإيمان، ويصلي مع المؤمنين في المساجد، ويزكي معهم زكوا أو تصدقوا، ويجاهد معهم إذا جاهدوا العدو، ومع ذلك فهو منافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، كافر في الباطن، وهو في الدرك الأسفل من النار مع الكفار.
والأدلة كثيرة جداً في القرآن والسنة على أن المنافق كافر مع أنه يأتي بالشعائر أو الشرائع الظاهرة، ومع ذلك فهو كافر لنفاقه، فكيف يقال بأنه ليس في أهل القبلة من يُكفَّر؟ فهذا يكفر بناءً على ما في قلبه من المرض الذي أوصله إلى الخروج من الملة.
ومن الأدلة على أن المنافقين كفار مع أنهم يقولون: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله؛ قوله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]، فقد نطقوا بالشهادة، ومع ذلك قال تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107]، فمن كذب في دعوى الشهادة فليس بمؤمن، وقد كان عبد الله بن أبي يقوم ويخطب في القوم مبيناً فضل الله تعالى ونبيه عليهم، ويشهد أن محمداً رسول الله، لكن لم ينفعه شيء من ذلك.(21/33)
ومن أبلغ الأدلة على كفر المنافقين سورة التوبة -وهي من آخر ما نزل بعد غزوة تبوك - وقد سميت الفاضحة أو المخزية أو المشقشقة؛ لأنها فضحتهم وأخزتهم وشقشقت عما في قلوبهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى فيها كفرهم وردتهم بسبب النفاق، مع أنهم كانوا يظهرون الإسلام، بل إنه أثبت أنه كان لديهم دين وإسلام، قال الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، وآية أخرى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] فقد كانوا يصلون وينفقون، ثم قال بعد ذلك: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]، وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].
فهذا دليل على أنهم كفروا مع أنه أثبت أنه كان لهم إيمان من قبل.(21/34)
وقال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] وقال تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة:74]، وكذلك في سورة البقرة والنساء وفي كثير من السور إثبات أن المنافقين كفار.
إذاً: المنافقون هم في ظاهر الأحكام من أهل القبلة: يشهدون أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، باللسان، ويصلون، وينفقون مع من ينفق من المؤمنين، ويخرجون للجهاد، وقد خرج بعضهم كالذين استهزءوا بالقراء في غزوة تبوك -وقد يتخلف بعضهم- ومع ذلك فهم كفار وليسوا بمؤمنين، وهذا من أقوى الردود على من يزعم أنه ليس في أهل القبلة من كفار.
وقد يقول بعض الناس: أولئك هم المنافقون في صدر الإسلام. وكأن النفاق ما وجد إلاَّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فنقول: لا، بل إنه كلما ازداد بُعد الأمة -في جملتها- عن الإيمان الحق؛ اشرأب النفاق وأصبح أظهر وأشهر وأكثر انتشاراً، وكثير من الناس هذا حاله، حتى ذكر أن الحسن البصري رحمه الله سمع رجلاً يدعو ويقول: [اللهم أهلك المنافقين، فقال: لا تقل هذا -يا ابن أخي- فإنه لو فعل لخلت الطرقات ] لأن أكثر الناس فيهم شعبة من النفاق على الأقل، إن لم يكن نفاقاً خالصاً، نسأل الله العفو والعافية.(21/35)
إذاً: في أهل القبلة من هو من المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك الكفر إذا سنحت لهم الفرصة وأمكنهم ذلك، وهم يتظاهرون بالشهادتين! فإذا جاءت المحن ظهروا، فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل المحن والأحداث تمحيصاً لما في القلوب، وتمييزاً يبن المؤمن الحق والمنافق الزائغ، قال تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]، وقال جل ثناؤه: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:37]، فمثلاً: بعد معركة بدر دخل كثير من المنافقين في الإسلام، وخرست ألسنتهم وأذعنوا، لكن بعد هزيمة أحد ؛ رفع المنافقون رءوسهم، وأيضاً يوم الأحزاب أثناء الشدة عندما رأوا أن المؤمنين مقهورين، ولا حيلة لهم، وظنوا أنهم قد انتهوا، وما بقي إلاَّ أيام أو أسابيع وينتهي أمر هذا الدين؛ حينها ظهر النفاق، وأعلن المنافقون نفاقهم، وقالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يعدنا بملك كسرى وأحدنا لا يستطيع أن يذهب لكي يقضي حاجته!
وهذا هو حال المنافقين على مر التاريخ الإسلامي عموماً، إلا في عهد عمر رضي الله عنه، فقد كان النفاق خافتاً خافياً ذليلاً، فلما قبضه الله ظهرت الفتنة في زمن عثمان رضي الله عنه، وإذا بالنفاق يظهر، وإذا بعبد الله بن سبأ يشعل الفتنة في الكوفة ، وفي مصر ، وغيرها، إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه.. وهكذا إذا ضعف الإيمان، وإذا ضعف أهل الحق؛ ظهر المنافقون وكشروا عن أنيابهم، فهم كالأفاعي تتستر متحينة الفرصة المناسبة، والسم ناقعٌ في أنيابها.(21/36)
وكلما ظهر عدوٌ للأمة أعانوه، فعندما جاء الصليبيون ظهر المنافقون ظهوراً واضحاً في بعض دويلات الرافضة في مصر ، وفي بلاد الشام ، وكان من ملوكهم الصالح إسماعيل صاحب دمشق ، وغيره، ممن فتحوا الحصون لأعداء الأمة، وأعطوهم السلاح، وأعانوهم على المسلمين -نسأل الله العفو والعافية- فظهر نفاقهم، ولمَّا جاء التتار بقيادة هولاكو الذي دخل بغداد ، قام ابن العلقمي ومن يسمى نصير الدين الطوسي وأظهرا النفاق وراسلا هولاكو ، وظهر شيوخ الطرق يجاهرون بضلالهم، حتى إن بعضهم كان يقود فرس هولاكو ؛ لأن المؤمنين قد قضي عليهم، ولم يعد لهم قوة فلم تعد هناك حاجة في أن يتظاهر بالإيمان، فأظهر النفاق، وأصبح في ركب أعداء الله وأعداء الإسلام.
فالنفاق موجود في هذه الأمة منذ أن هاجر محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والنفاق: هو عدم الإيمان والإخلاص والإقرار لله سبحانه وتعالى بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة عن صدق واعتقاد بالقلب.
يقول رحمه الله: [وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم]، فإذا كانت الفرصة مواتية، والمصلحة موجودة؛ ظهر نفاقهم وكفرهم، وإلا فلا.
من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة فهو كافر بالإجماع
قال المصنف رحمه الله: [وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل كافراً مرتداً].
فلو أن إنساناً أنكر أن الزكاة واجبة، أو أنكر أن الصلاة واجبة، أو أنكر أي واجب من الواجبات -ونقصد بها ما كان ظاهراً متواتراً معلوماً من الدين بالضرورة، فجاء أحد فأنكره فقامت عليه الحجة- فإنه كما يقول المصنف: "يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل كافراً مرتداً"؛ لأنه أصر وعاند في إنكار أمر ظاهر معلوم من الدين بالضرورة.(21/37)
وأما استحلال المحرم فكأن يأتي من يقول: إن الزنا -والعياذ بالله- حلال، أو أن الخمر حلال، وجاهر بذلك، فإنه يكفر بذلك؛ لأنه قد استحل أمراً مجمعاً على تحريمه، معلوم لكل مسلم أنه محرم، ولا يدخل في ذلك من أسلم حديثاً، أو من جاء من بادية أو غيرها، ولم يعرف أحكام الإسلام فإن المقصود بالحكم هو حال أغلب الناس، أي: من كان مسلماً ويعرف شيئاً من دينه، فيعلم وجوب الصلاة، ويعلم حرمة الزنا، فمثل هذا إذا استحل شيئاً من ذلك، وقامت عليه الحجة، واستتيب فلم يتب وقتل؛ فإنه يقتل كافراً مرتداً، وسيأتي مزيد بسط لهذا قريباً إن شاء الله تعالى.(21/38)
ومن الأمثلة على ذلك: حديث قدامة بن عبد الله لما شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة متأولين قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:93]، فلما ذكر ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا. وثبت في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلاً تزوج امرأة أبيه، فأرسل إليه من قتله؛ لأن هذا استحلال لأمر قد علم من دين الإسلام بالضرورة أنه حرام.. وهكذا، فالحال في مثل هذا أن من شرب الخمر وأُتي به، فإن اعترف بالتحريم جلد؛ لأن غالب من يشرب الخمر فإنه يشربها عصياناً، لكن لو جاء أحد وقال: هي حلال؛ فإنه يقتل في هذه الحالة ردة وكفراً والعياذ بالله! وكذلك لو استحل شخص الزنا؛ كحال كثير من الناس في هذا العصر الذين يرون أن الزنا مباح، ويسمونه: حباً، ويقتدون في ذلك بالغربيين الذين لا يرون هذه الفاحشة إلاَّ مجرد علاقة شخصية، ولا يرون فيها جريمة إلاَّ إذا كانت اغتصاباً! أو كانت من الزوجة على فراش الزوجية! أما إذا كانت علاقة مع أحد خارج البيت -عياذاً بالله- أو مع امرأة غير متزوجة، فتعاشر هذا يوماً وهذا ساعة كما تفعل الكثيرات منهن، وهي راضية وهو راضٍ، فإن هذا الأمر لا يعد جريمة في عرف الغرب! والقوانين الغربية صريحة في إباحة ذلك.(21/39)
فجاء بعض من ينتسب إلى الإسلام وأخذوا يبثون هذه الأمور: الشعراء منهم في شعرهم، والكتاب في كتاباتهم، والصحفيون في صحافتهم.. ومما عرض علينا من ذلك ما كتبته تلك المرأة التي كانت عميدة كلية الشريعة والحقوق في جامعة الكويت، فقد كتبت تطالب بتعديل قانون الأحوال الشخصية -وهي تعني تعديل الشريعة- فتقول: لابد أن تعدل الأعراف، أو ما هو مألوف عندنا نحن في الشرق بأن المرأة أقل من الرجل، وأنها ترث نصف ميراث الرجل، وأن القوامة للرجل، وإباحة الحب للمرأة، وهي تطالب بتعديل ذلك بحجة مواكبة العصر!! وما أكثر ما كنا -وما نزال- نقرأ ونسمع عن ذلك! نسأل الله العفو والعافية.
المقصود: أن استحلال المحرمات الظاهرة المعلوم تحريمها كفر وردة، وإن كان صاحبها يدعي أو يزعم أنه مسلم، حتى مسألة الحجاب، فإن المرأة التي تخرج متبرجة متكشفة، وهي تعلم أن هذا معصية، ولكن دواعي الهوى والشهوة والغفلة دعتها إلى ذلك، فهي عاصية مذنبة فاجرة، ولكن لو أنها خرجت بناءً على أن الحجاب غير واجب عليها، وإن كان في القرآن، وإن كانت الصحابيات ملتزمات به، وإن رددت ما يزعمه البعض بقولهم: إن الحجاب كان في عصور الظلمات، ونحن الآن في عصور التحرر والانطلاق والحرية والتقدم والتطور! فهي إن نزعت الحجاب معتقدة أنه غير واجب عليها، فليس فعلها مجرد معصية، وإنما ردة وكفر والعياذ بالله!(21/40)
وقد كتب في مسألة عدم وجوب الحجاب الكثير من المفكرين والكتاب، وحاربوا الحجاب أشد المحاربة، ومن هؤلاء: درية شفيق ، وأمينة سعيد ، وقاسم أمين ، وأمثالهم ممن لا يزالون يكتبون ويدعون إلى مثل ذلك، وبعضهم قد أهلكه الله عز وجل. فمستحلة التبرج والسفور مرتدة كافرة وليست مجرد عاصية؛ إذ أن العاصية إذا خُوفت وذكرت فإنها تقر وتلتزم بالحجاب، أما هذه فإنها تعاند وتكتب وترد على من يستدل بالآيات والأحاديث، ولو قيل لبعضهن: إما أن تتوبي وإلاَّ قتلناك؛ لاختارت -عياذاً بالله- أن تموت على غير توبة؛ لأنها أصبحت عندها عقيدة ومنهجاً.(21/41)
وكذلك في الربا، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى مستدلاً على كفر التتار، أن أناساً من ثقيف امتنعوا عن تحريم الربا، مع أنه من آخر ما نزل من المحرمات -ومعنى قوله رحمه الله: مع أن الربا من آخر المحرمات: أنه أي قد يخفى تحريمه بالنسبة لمن كانوا حديثي عهدٍ بالإسلام- ومع ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، فدل ذلك على وجوب قتال الطائفة إذا اجتمعت على فعل محرم أوترك واجب، وهذا القتال ليس من جنس قتال البغاة، ولكن من جنس قتال أهل الردة، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، وذلك لأن الطائفة اجتمعت لتدافع عن هذه القضية بالسيف، فمعنى ذلك: أنها أصبحت لديها عقيدة ومبدأ، وليست مجرد معصية، ولو أن رجلاً واحداً في ذاته شرب الخمر فيحمل في الأصل على أنه عاصٍ، لكن إذا كانت قبيلة -أو مدينة أو دولة- أعلنت أن الخمر من روافد اقتصادها، وأنها تعصر الخمر وتبيعه وتصدره، فكتب إليها المسلمون وناصحوها، فقالت: لا نمتنع أبداً! ونحن مستعدون أن نقاتل دون هذا الشيء، وتجمعوا وحملوا السلاح، وجاءوا لقتال من يقاتلهم من أجل هذا الحرام، فهؤلاء يقاتلون قتال ردة وليس قتال بغاة؛ لأن الباغي أو قاطع الطريق يُقَاتل مع اعتقاد أنه مسلم، أما هؤلاء فقتالهم قتال ردة؛ لأنهم اجتمعوا على هذا الأمر.(21/42)
ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله في ضمن الفتوى أن بعض أهل العلم قال بقتال من عطل شيئاً من الشعائر، وحتى ما هو أقل من الشعائر مثل ركعتي الفجر أو صلاة الاستسقاء، أو ما أشبه ذلك، وإذا امتنعت أمة عن الجهاد في سبيل الله وقالت: لا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على أهل الكتاب، فإنها أيضاً تقاتل؛ لأنها تركت أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وهو الجهاد وفرض الجزية. وهذا من باب الامتناع عن أداء واجبات معلومة من الدين بالضرورة، ويشهد لهذا الحديث الصحيح الذي ذكرناه فيما سبق، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل السرية، فإن سمعوا الآذان وإلاَّ أغاروا؛ لأن سماع الأذان يعني أن هذه دار إسلام، فهم معصومون، وإن لم يسمعوا أذاناً أغاروا عليهم، فهم ليسوا بمعصومي الدم والمال؛ لأنهم لو كانوا مسلمين لأذنوا للصلاة، وهذا هو الفرق بين الدارين.
إذاً: المثال الأول على أن بعض أهل القبلة كفار: هم المنافقون، والمثال الثاني: هم الممتنعون عن الالتزام بالشريعة. ولا يستطيع المرجئة إنكار ذلك؛ فدل ذلك على خطأ دعواهم في عدم تكفير أحد من أهل القبلة.
الواجبات التي يكفر منكرها والمحرمات التي يكفر مستحلها
والواجبات التي يكفر منكرها هي الظاهرة المتواترة، وهناك واجبات ليست ظاهرة متواترة، وهناك فرق بين هذه الواجبات وشعب الإيمان عموماً، فمثلاً: إذا نكح رجل امرأة أبيه، أو تزوج من محارمه كأخته -عياذاً بالله- فإنه يكفر؛ لأن هذا ظاهر متواتر، لكن قد يغفل بعض الناس عن بعض أحكام الرضاعة، فيتزوج أخته من الرضاعة مثلاً، فهذا لا يكفر؛ لأن هذا الأمر غير ظاهر، فيمكن أن تخفى الأخوة من الرضاعة، لكن لا تخفى الأخوة من النسب.(21/43)
وكذلك الأمر في المحرمات، فمثلاً: تحريم الزنا لا يخفى على أحد، لكن بعض النساء في بلاد كثيرة لا ترى أن ترك الحجاب حرام، مع أنه ظاهر متواتر بالنسبة للدين، لكن نقول كما قال رحمه الله: (فإنه يستتاب) أي: يبين له أن هذا واجب وأن هذا حرام.
فالمقصود: أن بعض الواجبات أدق من بعض، وبعض المحرمات أظهر تحريماً من بعض، فمثلاً: الربا الصريح عند الجاهلية وظاهر مشهور متواتر، لكن -مثلاً- بيع العينة، وبعض أنواع البيوع كبيع الغرر؛ فإنه محرم، لكنه أقل وأخفى ظهوراً أو تواتراً من الربا، وكذلك في العبادات نجد أن بعض الأمور أظهر من بعض، فإن الناس -مثلاً- يعلمون أن الأذان واجب؛ لأنه معلوم وظاهر في بلاد الإسلام، وأن الصلاة أيضاً واجبة ظاهرة في بلاد الإسلام، لكن قد يخفى على بعضهم واجبات أخرى، كبعض الصلوات التي قد يرى بعض العلماء وجوبها، أو بعض الواجبات في الصلاة نفسها، والمقصود بكلام الشيخ رحمه الله هو الواجب الظاهر المتواتر.
تنزيل الحكم على المعين
أما عند تطبيق الحكم على المعين، فإنه يجب ملاحظة أن الناس يتفاوتون في الحكم عليهم بحسب أحوالهم، فلو أن عالماً درس الشريعة وأخذ عليها الشهادات، وهو يعد من العلماء، أفتى بأن الخمر حلال؛ فإنه يكفر، ولا يُتردد في تكفيره؛ لأنه عالم، لكن لو أن رجلاً جاء من البادية وقال: أنا مسلم، وهو يرى أن الخمر حلال، أو أن الزنا حلال؛ فإنه يعذر ويُعلَّم.(21/44)
فهناك فرق بين الناس بحسب البيئات وبحسب الأحوال عند التطبيق، كما سيأتي شرحه كاملاً، فلابد من تحقق الشروط وانتفاء الموانع حتى يكفر المعين بذاته، لكن من حيث الحكم العام فإنه يطلق على الفعل بأنه كفر، ومن بُين له الدليل وقامت عليه الحجة وأصر على الإنكار، فإنه يكفر، أي: أن من بين له الدليل على أمرٍ محرم فأصر، فإنه يكفر، وهذا من باب كفر العناد، لكن ينبغي ألاَّ نخلط بين من عاند ورد الدليل وعنده شبهة، وبين من رده دون شبهة، فمن لم يكن لديه شبهة ورد الآية أو رد الحديث، أو ردهما معاً، وأصر على رأيه ولم يقبل الإذعان لأمر الله ورسوله، فهذا هو الذي يكفر، وأما المتأول وهو الذي يرد الدليل، وعنده دليل آخر، ولكن لا دلالة فيه، وهو يرى أنه دليل بالنسبة له، كأن يستدل بكلام عالم من العلماء، وهذا العالم مخطئ ولا يجوز تقليده، أو قد يكون كافراً مرتداً ولا يؤخذ بكلامه، لكنه يرى أنه إمام معتبر؛ فهذا يسمى متأولاً.(21/45)
وكلامنا هنا إنما هو فيمن يرد الآية أو الحديث رداً بلا شبهة ولا تأويل، وهذا يدخل فيه أمور قد تساهل فيها بعض الناس، فمثلاً: هناك أشياء يرى بعض الناس أنها سهلة ولا محذور في إتيانها، فإن كان دافع المرء لإتيانها الإنكار والجحود ورد الأدلة؛ فإن الأمر خطير جداً - نسأل الله العفو والعافية-؛ لأنه ينافي أصل الإيمان؛ إذ أن أصل الإيمان هو الإذعان والانقياد والرضا، فإذا لم يوجد عنده أصل الإيمان أو الإذعان فإنه يكفر، وإن كان العمل في الأصل لا يكفر من فعله إن كان محرماً، أو من تركه إن كان واجباً، لكن إذا لم ينقد للأمر في ذاته وفي نفسه؛ فإنه في هذه الحالة يكفر، ولهذا قلنا: إن الطائفة الممتنعة عن أداء الواجبات المعلومة من الدين بالضرورة تقاتل قتال ردة؛ لأن اجتماعها وامتناعها ومقاومتها للحق ليس مجرد عصيان ومخالفة غير مكفرة، وإنما هو كفر ناتج عن اعتقاد؛ لأنها رد للحق، وهذا كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب فقال: وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ [التوبة:29]، فقوله: (لا يدينون دين الحق) لأنهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول -عياذاً بالله من هذا الزيغ والكفر- وهذا واضح، لكن زيادة على ذلك فإنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله؛ فإنهم يشربون الخمر، ويأكلون الخنزير، وهذا من أسباب كفرهم، مع أنهم كفار في العقيدة، لكن الكفر تجتمع له أسباب كثيرة، فالنصارى مثلاً يكفرون بقولهم: إن الله ثالث ثلاثة، وأيضاً يكفرون باستحلالهم أكل الخنزير، وشرب الخمر.
المرجئة لا تكفر أحداً من أهل القبلة
من درس: اختلاف الناس في إطلاق التكفير وعدمه(21/46)
يقول ابن أبي العز رحمه الله: [فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين...] إلخ، يعني بأهل القبلة: كل من أظهر الإسلام بالشعائر الظاهرة، فهو عندهم لا يكفر أبداً، فأطلقوا القول، وقالوا: لا نكفر أحداً، وأوضح مثال على هؤلاء هم المرجئة ، وهم أصناف، وهذا هو مذهبهم، وممن ذكر ذلك صاحب المواقف عضد الدين الإيجي في المقصد الخامس في موضوع الإيمان عندما تكلم عن التكفير؛ فقال -في معنى كلامه-: (جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة) يعني: مهما اعتقد من اعتقادات فإنه لا يكفر، ثم قال: (وتحامقت المعتزلة بعد أبي الحسين البصري ، فكفروا أصحابنا) يعني كفروا الأشاعرة ، قال: (فرد عليهم بعض أصحابنا بالمثل)، أي أنه ظهر أيضاً من الأشاعرة من يكفر المعتزلة ، فالفتن في هذه الأمة فتن قديمة ومستمرة ما لم تعتصم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وكفرت المجسمة من خالفهم)، والمقصود بالمجسمة في الغالب عند أهل الكلام أو عند نفاة الصفات هم أهل السنة والجماعة ، ثم قال: (وقال الأستاذ: لا نكفر إلاَّ من كفَّرنا، أو قال: من كفَّرنا كفَّرْناه وإلاَّ فلا)، ويعنون بالأستاذ غالباً أبا منصور البغدادي ، وبعضهم يقول: الأستاذ؛ ويعني به أبا إسحاق الإسفرائيني ، وإن كان البغدادي عندهم أشهر وقد نسب الإيجي الكلام في هذا إلى جمهور المتكلمين والفقهاء، وهو بذلك يريد أن يقوي هذا القول، وهذه النسبة غير صحيحة، وبيان ذلك:
أولاً: بالنسبة للمتكلمين فإنالمعتزلة هم رأس علم الكلام وأصله وأساسه، وهم مع ذلك ضد هذا القول تماماً؛ حتى إنهم -كما ذكر- يكفرون الأشاعرة أنفسهم.(21/47)
ثانياً: وأما الفقهاء؛ فنسبة هذا القول إليهم ليس بصحيح؛ إذ أن كل مذاهب الفقه الأربعة وغير المذاهب الأربعة كالظاهرية وما شابهها، تذكر في كل كتاب من كتبها: باب المرتد، أو باب الردة، أو باب أحكام أهل الردة -تختلف الأسماء، ولكن المسمى واحد- فكل الفقهاء مجمعون على أن هناك مرتداً.. لكن ما هي أحكامه؟ ومتى يكفر؟ هنا يفصلون الكلام، وبعضهم أكثر غلواً -إن صح التعبير- من بعض، مثل بعض كتب الفقه الحنفية، فإنها تستطرد وتذكر أموراً غريبة -على الأقل عند المخالف لهم- فمثلاً يقولون: من قال: مصيحف أو مسيجد كفر؛ لأنه صغر المسجد، وهذا يشعر بالاحتقار، وكذلك إذا أهدى إلى مجوسي بيضة في يوم النيروز كفر؛ لأنه عيد من أعياد المجوس ، وقد ذكر هذا علي القاري في الفقه الأكبر .
إذاً: فغير صحيح أن الفقهاء لا يكفرون أحداً من أهل القبلة، وهذه القضية ليست قضية نظرية، ولم تكن كذلك عندما ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، حيث ثاروا وقاموا في وجهه في أكثر البلاد، وقالوا: إنه يكفر المسلمين، وهذه هي الشبهة التي يرددونها دائماً ولا ينفكون عنها في كل البلاد، منذ ثلاثة قرون وإلى الآن وهم يكررون ويقولون: إن الشيخ رحمه الله يكفر المسلمين، فإذا قيل: وأنتم كذلك! قالوا: نحن لا نكفر أحداً! وقد أرادوا الطعن في دعوته رحمه الله تعالى بهذا الشيء، وأنه خارج عن الإجماع وأنه يكفر المسلمين، ولكن في حقيقة الأمر أنهم هم الذين خرجوا عن إجماع الأمة، وخرجوا عن الكتاب والسنة بدعواهم أن أهل القبلة فلا يكفر منهم أحد، وأن كل من قال: (لا إله إلاَّ الله) لا يكفر، والغريب أن الأولين من المرجئة كانوا يقولون: إن الذي يقيم أحكام الإسلام الظاهرة لا يكفر، أي: يصلي ويصوم ويزكي -كما سبق بيانه- لكن وصل الحال عند أكثر المتأخرين إلى القول بأنه ما دام يقول: (لا إله إلاَّ الله) فإنه لا يكفر وانتشر هذا حتى أصبح كأنه قضيةٌ بدهية مسلّّم بها.(21/48)
الرد على المرجئة بأن في أهل القبلة منافقين
من درس: اختلاف الناس في إطلاق التكفير وعدمه
ويقال لهم: نريد ولو واحداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا إله إلاَّ الله)، ولم يصلِّ ولم يزكِ ولم يحج ولم يجاهد ولم يعمل أي عمل من أعمال الإسلام، وظل في عرف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والمؤمنين أنه من المسلمين والمؤمنين؟ لا يستطيع أحد أن يأتي بدليل على ذلك أبداً، فلذلك يقول المصنف رحمه الله: "فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين..."، فأوضح دليل في الرد عليهم: أن في أهل القبلة من يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، ويدعي الإيمان، ويصلي مع المؤمنين في المساجد، ويزكي معهم زكوا أو تصدقوا، ويجاهد معهم إذا جاهدوا العدو، ومع ذلك فهو منافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، كافر في الباطن، وهو في الدرك الأسفل من النار مع الكفار.
والأدلة كثيرة جداً في القرآن والسنة على أن المنافق كافر مع أنه يأتي بالشعائر أو الشرائع الظاهرة، ومع ذلك فهو كافر لنفاقه، فكيف يقال بأنه ليس في أهل القبلة من يُكفَّر؟ فهذا يكفر بناءً على ما في قلبه من المرض الذي أوصله إلى الخروج من الملة.
ومن الأدلة على أن المنافقين كفار مع أنهم يقولون: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله؛ قوله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]، فقد نطقوا بالشهادة، ومع ذلك قال تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107]، فمن كذب في دعوى الشهادة فليس بمؤمن، وقد كان عبد الله بن أبي يقوم ويخطب في القوم مبيناً فضل الله تعالى ونبيه عليهم، ويشهد أن محمداً رسول الله، لكن لم ينفعه شيء من ذلك.(21/49)
ومن أبلغ الأدلة على كفر المنافقين سورة التوبة -وهي من آخر ما نزل بعد غزوة تبوك - وقد سميت الفاضحة أو المخزية أو المشقشقة؛ لأنها فضحتهم وأخزتهم وشقشقت عما في قلوبهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى فيها كفرهم وردتهم بسبب النفاق، مع أنهم كانوا يظهرون الإسلام، بل إنه أثبت أنه كان لديهم دين وإسلام، قال الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، وآية أخرى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] فقد كانوا يصلون وينفقون، ثم قال بعد ذلك: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]، وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].
فهذا دليل على أنهم كفروا مع أنه أثبت أنه كان لهم إيمان من قبل.(21/50)
وقال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] وقال تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة:74]، وكذلك في سورة البقرة والنساء وفي كثير من السور إثبات أن المنافقين كفار.
إذاً: المنافقون هم في ظاهر الأحكام من أهل القبلة: يشهدون أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، باللسان، ويصلون، وينفقون مع من ينفق من المؤمنين، ويخرجون للجهاد، وقد خرج بعضهم كالذين استهزءوا بالقراء في غزوة تبوك -وقد يتخلف بعضهم- ومع ذلك فهم كفار وليسوا بمؤمنين، وهذا من أقوى الردود على من يزعم أنه ليس في أهل القبلة من كفار.
وقد يقول بعض الناس: أولئك هم المنافقون في صدر الإسلام. وكأن النفاق ما وجد إلاَّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فنقول: لا، بل إنه كلما ازداد بُعد الأمة -في جملتها- عن الإيمان الحق؛ اشرأب النفاق وأصبح أظهر وأشهر وأكثر انتشاراً، وكثير من الناس هذا حاله، حتى ذكر أن الحسن البصري رحمه الله سمع رجلاً يدعو ويقول: [اللهم أهلك المنافقين، فقال: لا تقل هذا -يا ابن أخي- فإنه لو فعل لخلت الطرقات ] لأن أكثر الناس فيهم شعبة من النفاق على الأقل، إن لم يكن نفاقاً خالصاً، نسأل الله العفو والعافية.(21/51)
إذاً: في أهل القبلة من هو من المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك الكفر إذا سنحت لهم الفرصة وأمكنهم ذلك، وهم يتظاهرون بالشهادتين! فإذا جاءت المحن ظهروا، فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل المحن والأحداث تمحيصاً لما في القلوب، وتمييزاً يبن المؤمن الحق والمنافق الزائغ، قال تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]، وقال جل ثناؤه: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:37]، فمثلاً: بعد معركة بدر دخل كثير من المنافقين في الإسلام، وخرست ألسنتهم وأذعنوا، لكن بعد هزيمة أحد ؛ رفع المنافقون رءوسهم، وأيضاً يوم الأحزاب أثناء الشدة عندما رأوا أن المؤمنين مقهورين، ولا حيلة لهم، وظنوا أنهم قد انتهوا، وما بقي إلاَّ أيام أو أسابيع وينتهي أمر هذا الدين؛ حينها ظهر النفاق، وأعلن المنافقون نفاقهم، وقالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يعدنا بملك كسرى وأحدنا لا يستطيع أن يذهب لكي يقضي حاجته!
وهذا هو حال المنافقين على مر التاريخ الإسلامي عموماً، إلا في عهد عمر رضي الله عنه، فقد كان النفاق خافتاً خافياً ذليلاً، فلما قبضه الله ظهرت الفتنة في زمن عثمان رضي الله عنه، وإذا بالنفاق يظهر، وإذا بعبد الله بن سبأ يشعل الفتنة في الكوفة ، وفي مصر ، وغيرها، إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه.. وهكذا إذا ضعف الإيمان، وإذا ضعف أهل الحق؛ ظهر المنافقون وكشروا عن أنيابهم، فهم كالأفاعي تتستر متحينة الفرصة المناسبة، والسم ناقعٌ في أنيابها.(21/52)
وكلما ظهر عدوٌ للأمة أعانوه، فعندما جاء الصليبيون ظهر المنافقون ظهوراً واضحاً في بعض دويلات الرافضة في مصر ، وفي بلاد الشام ، وكان من ملوكهم الصالح إسماعيل صاحب دمشق ، وغيره، ممن فتحوا الحصون لأعداء الأمة، وأعطوهم السلاح، وأعانوهم على المسلمين -نسأل الله العفو والعافية- فظهر نفاقهم، ولمَّا جاء التتار بقيادة هولاكو الذي دخل بغداد ، قام ابن العلقمي ومن يسمى نصير الدين الطوسي وأظهرا النفاق وراسلا هولاكو ، وظهر شيوخ الطرق يجاهرون بضلالهم، حتى إن بعضهم كان يقود فرس هولاكو ؛ لأن المؤمنين قد قضي عليهم، ولم يعد لهم قوة فلم تعد هناك حاجة في أن يتظاهر بالإيمان، فأظهر النفاق، وأصبح في ركب أعداء الله وأعداء الإسلام.
فالنفاق موجود في هذه الأمة منذ أن هاجر محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والنفاق: هو عدم الإيمان والإخلاص والإقرار لله سبحانه وتعالى بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة عن صدق واعتقاد بالقلب.
يقول رحمه الله: [وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم]، فإذا كانت الفرصة مواتية، والمصلحة موجودة؛ ظهر نفاقهم وكفرهم، وإلا فلا.
من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة فهو كافر بالإجماع
من درس: اختلاف الناس في إطلاق التكفير وعدمه
قال المصنف رحمه الله: [وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل كافراً مرتداً].
فلو أن إنساناً أنكر أن الزكاة واجبة، أو أنكر أن الصلاة واجبة، أو أنكر أي واجب من الواجبات -ونقصد بها ما كان ظاهراً متواتراً معلوماً من الدين بالضرورة، فجاء أحد فأنكره فقامت عليه الحجة- فإنه كما يقول المصنف: "يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل كافراً مرتداً"؛ لأنه أصر وعاند في إنكار أمر ظاهر معلوم من الدين بالضرورة.(21/53)
وأما استحلال المحرم فكأن يأتي من يقول: إن الزنا -والعياذ بالله- حلال، أو أن الخمر حلال، وجاهر بذلك، فإنه يكفر بذلك؛ لأنه قد استحل أمراً مجمعاً على تحريمه، معلوم لكل مسلم أنه محرم، ولا يدخل في ذلك من أسلم حديثاً، أو من جاء من بادية أو غيرها، ولم يعرف أحكام الإسلام فإن المقصود بالحكم هو حال أغلب الناس، أي: من كان مسلماً ويعرف شيئاً من دينه، فيعلم وجوب الصلاة، ويعلم حرمة الزنا، فمثل هذا إذا استحل شيئاً من ذلك، وقامت عليه الحجة، واستتيب فلم يتب وقتل؛ فإنه يقتل كافراً مرتداً، وسيأتي مزيد بسط لهذا قريباً إن شاء الله تعالى.(21/54)
ومن الأمثلة على ذلك: حديث قدامة بن عبد الله لما شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة متأولين قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:93]، فلما ذكر ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا. وثبت في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلاً تزوج امرأة أبيه، فأرسل إليه من قتله؛ لأن هذا استحلال لأمر قد علم من دين الإسلام بالضرورة أنه حرام.. وهكذا، فالحال في مثل هذا أن من شرب الخمر وأُتي به، فإن اعترف بالتحريم جلد؛ لأن غالب من يشرب الخمر فإنه يشربها عصياناً، لكن لو جاء أحد وقال: هي حلال؛ فإنه يقتل في هذه الحالة ردة وكفراً والعياذ بالله! وكذلك لو استحل شخص الزنا؛ كحال كثير من الناس في هذا العصر الذين يرون أن الزنا مباح، ويسمونه: حباً، ويقتدون في ذلك بالغربيين الذين لا يرون هذه الفاحشة إلاَّ مجرد علاقة شخصية، ولا يرون فيها جريمة إلاَّ إذا كانت اغتصاباً! أو كانت من الزوجة على فراش الزوجية! أما إذا كانت علاقة مع أحد خارج البيت -عياذاً بالله- أو مع امرأة غير متزوجة، فتعاشر هذا يوماً وهذا ساعة كما تفعل الكثيرات منهن، وهي راضية وهو راضٍ، فإن هذا الأمر لا يعد جريمة في عرف الغرب! والقوانين الغربية صريحة في إباحة ذلك.(21/55)
فجاء بعض من ينتسب إلى الإسلام وأخذوا يبثون هذه الأمور: الشعراء منهم في شعرهم، والكتاب في كتاباتهم، والصحفيون في صحافتهم.. ومما عرض علينا من ذلك ما كتبته تلك المرأة التي كانت عميدة كلية الشريعة والحقوق في جامعة الكويت، فقد كتبت تطالب بتعديل قانون الأحوال الشخصية -وهي تعني تعديل الشريعة- فتقول: لابد أن تعدل الأعراف، أو ما هو مألوف عندنا نحن في الشرق بأن المرأة أقل من الرجل، وأنها ترث نصف ميراث الرجل، وأن القوامة للرجل، وإباحة الحب للمرأة، وهي تطالب بتعديل ذلك بحجة مواكبة العصر!! وما أكثر ما كنا -وما نزال- نقرأ ونسمع عن ذلك! نسأل الله العفو والعافية.
المقصود: أن استحلال المحرمات الظاهرة المعلوم تحريمها كفر وردة، وإن كان صاحبها يدعي أو يزعم أنه مسلم، حتى مسألة الحجاب، فإن المرأة التي تخرج متبرجة متكشفة، وهي تعلم أن هذا معصية، ولكن دواعي الهوى والشهوة والغفلة دعتها إلى ذلك، فهي عاصية مذنبة فاجرة، ولكن لو أنها خرجت بناءً على أن الحجاب غير واجب عليها، وإن كان في القرآن، وإن كانت الصحابيات ملتزمات به، وإن رددت ما يزعمه البعض بقولهم: إن الحجاب كان في عصور الظلمات، ونحن الآن في عصور التحرر والانطلاق والحرية والتقدم والتطور! فهي إن نزعت الحجاب معتقدة أنه غير واجب عليها، فليس فعلها مجرد معصية، وإنما ردة وكفر والعياذ بالله!(21/56)
وقد كتب في مسألة عدم وجوب الحجاب الكثير من المفكرين والكتاب، وحاربوا الحجاب أشد المحاربة، ومن هؤلاء: درية شفيق ، وأمينة سعيد ، وقاسم أمين ، وأمثالهم ممن لا يزالون يكتبون ويدعون إلى مثل ذلك، وبعضهم قد أهلكه الله عز وجل. فمستحلة التبرج والسفور مرتدة كافرة وليست مجرد عاصية؛ إذ أن العاصية إذا خُوفت وذكرت فإنها تقر وتلتزم بالحجاب، أما هذه فإنها تعاند وتكتب وترد على من يستدل بالآيات والأحاديث، ولو قيل لبعضهن: إما أن تتوبي وإلاَّ قتلناك؛ لاختارت -عياذاً بالله- أن تموت على غير توبة؛ لأنها أصبحت عندها عقيدة ومنهجاً.(21/57)
وكذلك في الربا، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى مستدلاً على كفر التتار، أن أناساً من ثقيف امتنعوا عن تحريم الربا، مع أنه من آخر ما نزل من المحرمات -ومعنى قوله رحمه الله: مع أن الربا من آخر المحرمات: أنه أي قد يخفى تحريمه بالنسبة لمن كانوا حديثي عهدٍ بالإسلام- ومع ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، فدل ذلك على وجوب قتال الطائفة إذا اجتمعت على فعل محرم أوترك واجب، وهذا القتال ليس من جنس قتال البغاة، ولكن من جنس قتال أهل الردة، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، وذلك لأن الطائفة اجتمعت لتدافع عن هذه القضية بالسيف، فمعنى ذلك: أنها أصبحت لديها عقيدة ومبدأ، وليست مجرد معصية، ولو أن رجلاً واحداً في ذاته شرب الخمر فيحمل في الأصل على أنه عاصٍ، لكن إذا كانت قبيلة -أو مدينة أو دولة- أعلنت أن الخمر من روافد اقتصادها، وأنها تعصر الخمر وتبيعه وتصدره، فكتب إليها المسلمون وناصحوها، فقالت: لا نمتنع أبداً! ونحن مستعدون أن نقاتل دون هذا الشيء، وتجمعوا وحملوا السلاح، وجاءوا لقتال من يقاتلهم من أجل هذا الحرام، فهؤلاء يقاتلون قتال ردة وليس قتال بغاة؛ لأن الباغي أو قاطع الطريق يُقَاتل مع اعتقاد أنه مسلم، أما هؤلاء فقتالهم قتال ردة؛ لأنهم اجتمعوا على هذا الأمر.(21/58)
ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله في ضمن الفتوى أن بعض أهل العلم قال بقتال من عطل شيئاً من الشعائر، وحتى ما هو أقل من الشعائر مثل ركعتي الفجر أو صلاة الاستسقاء، أو ما أشبه ذلك، وإذا امتنعت أمة عن الجهاد في سبيل الله وقالت: لا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على أهل الكتاب، فإنها أيضاً تقاتل؛ لأنها تركت أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وهو الجهاد وفرض الجزية. وهذا من باب الامتناع عن أداء واجبات معلومة من الدين بالضرورة، ويشهد لهذا الحديث الصحيح الذي ذكرناه فيما سبق، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل السرية، فإن سمعوا الآذان وإلاَّ أغاروا؛ لأن سماع الأذان يعني أن هذه دار إسلام، فهم معصومون، وإن لم يسمعوا أذاناً أغاروا عليهم، فهم ليسوا بمعصومي الدم والمال؛ لأنهم لو كانوا مسلمين لأذنوا للصلاة، وهذا هو الفرق بين الدارين.
إذاً: المثال الأول على أن بعض أهل القبلة كفار: هم المنافقون، والمثال الثاني: هم الممتنعون عن الالتزام بالشريعة. ولا يستطيع المرجئة إنكار ذلك؛ فدل ذلك على خطأ دعواهم في عدم تكفير أحد من أهل القبلة.
الواجبات التي يكفر منكرها والمحرمات التي يكفر مستحلها
من درس: اختلاف الناس في إطلاق التكفير وعدمه
والواجبات التي يكفر منكرها هي الظاهرة المتواترة، وهناك واجبات ليست ظاهرة متواترة، وهناك فرق بين هذه الواجبات وشعب الإيمان عموماً، فمثلاً: إذا نكح رجل امرأة أبيه، أو تزوج من محارمه كأخته -عياذاً بالله- فإنه يكفر؛ لأن هذا ظاهر متواتر، لكن قد يغفل بعض الناس عن بعض أحكام الرضاعة، فيتزوج أخته من الرضاعة مثلاً، فهذا لا يكفر؛ لأن هذا الأمر غير ظاهر، فيمكن أن تخفى الأخوة من الرضاعة، لكن لا تخفى الأخوة من النسب.(21/59)
وكذلك الأمر في المحرمات، فمثلاً: تحريم الزنا لا يخفى على أحد، لكن بعض النساء في بلاد كثيرة لا ترى أن ترك الحجاب حرام، مع أنه ظاهر متواتر بالنسبة للدين، لكن نقول كما قال رحمه الله: (فإنه يستتاب) أي: يبين له أن هذا واجب وأن هذا حرام.
فالمقصود: أن بعض الواجبات أدق من بعض، وبعض المحرمات أظهر تحريماً من بعض، فمثلاً: الربا الصريح عند الجاهلية وظاهر مشهور متواتر، لكن -مثلاً- بيع العينة، وبعض أنواع البيوع كبيع الغرر؛ فإنه محرم، لكنه أقل وأخفى ظهوراً أو تواتراً من الربا، وكذلك في العبادات نجد أن بعض الأمور أظهر من بعض، فإن الناس -مثلاً- يعلمون أن الأذان واجب؛ لأنه معلوم وظاهر في بلاد الإسلام، وأن الصلاة أيضاً واجبة ظاهرة في بلاد الإسلام، لكن قد يخفى على بعضهم واجبات أخرى، كبعض الصلوات التي قد يرى بعض العلماء وجوبها، أو بعض الواجبات في الصلاة نفسها، والمقصود بكلام الشيخ رحمه الله هو الواجب الظاهر المتواتر.
تنزيل الحكم على المعين
من درس: اختلاف الناس في إطلاق التكفير وعدمه
أما عند تطبيق الحكم على المعين، فإنه يجب ملاحظة أن الناس يتفاوتون في الحكم عليهم بحسب أحوالهم، فلو أن عالماً درس الشريعة وأخذ عليها الشهادات، وهو يعد من العلماء، أفتى بأن الخمر حلال؛ فإنه يكفر، ولا يُتردد في تكفيره؛ لأنه عالم، لكن لو أن رجلاً جاء من البادية وقال: أنا مسلم، وهو يرى أن الخمر حلال، أو أن الزنا حلال؛ فإنه يعذر ويُعلَّم.(21/60)
فهناك فرق بين الناس بحسب البيئات وبحسب الأحوال عند التطبيق، كما سيأتي شرحه كاملاً، فلابد من تحقق الشروط وانتفاء الموانع حتى يكفر المعين بذاته، لكن من حيث الحكم العام فإنه يطلق على الفعل بأنه كفر، ومن بُين له الدليل وقامت عليه الحجة وأصر على الإنكار، فإنه يكفر، أي: أن من بين له الدليل على أمرٍ محرم فأصر، فإنه يكفر، وهذا من باب كفر العناد، لكن ينبغي ألاَّ نخلط بين من عاند ورد الدليل وعنده شبهة، وبين من رده دون شبهة، فمن لم يكن لديه شبهة ورد الآية أو رد الحديث، أو ردهما معاً، وأصر على رأيه ولم يقبل الإذعان لأمر الله ورسوله، فهذا هو الذي يكفر، وأما المتأول وهو الذي يرد الدليل، وعنده دليل آخر، ولكن لا دلالة فيه، وهو يرى أنه دليل بالنسبة له، كأن يستدل بكلام عالم من العلماء، وهذا العالم مخطئ ولا يجوز تقليده، أو قد يكون كافراً مرتداً ولا يؤخذ بكلامه، لكنه يرى أنه إمام معتبر؛ فهذا يسمى متأولاً.(21/61)
وكلامنا هنا إنما هو فيمن يرد الآية أو الحديث رداً بلا شبهة ولا تأويل، وهذا يدخل فيه أمور قد تساهل فيها بعض الناس، فمثلاً: هناك أشياء يرى بعض الناس أنها سهلة ولا محذور في إتيانها، فإن كان دافع المرء لإتيانها الإنكار والجحود ورد الأدلة؛ فإن الأمر خطير جداً - نسأل الله العفو والعافية-؛ لأنه ينافي أصل الإيمان؛ إذ أن أصل الإيمان هو الإذعان والانقياد والرضا، فإذا لم يوجد عنده أصل الإيمان أو الإذعان فإنه يكفر، وإن كان العمل في الأصل لا يكفر من فعله إن كان محرماً، أو من تركه إن كان واجباً، لكن إذا لم ينقد للأمر في ذاته وفي نفسه؛ فإنه في هذه الحالة يكفر، ولهذا قلنا: إن الطائفة الممتنعة عن أداء الواجبات المعلومة من الدين بالضرورة تقاتل قتال ردة؛ لأن اجتماعها وامتناعها ومقاومتها للحق ليس مجرد عصيان ومخالفة غير مكفرة، وإنما هو كفر ناتج عن اعتقاد؛ لأنها رد للحق، وهذا كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب فقال: وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ [التوبة:29]، فقوله: (لا يدينون دين الحق) لأنهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول -عياذاً بالله من هذا الزيغ والكفر- وهذا واضح، لكن زيادة على ذلك فإنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله؛ فإنهم يشربون الخمر، ويأكلون الخنزير، وهذا من أسباب كفرهم، مع أنهم كفار في العقيدة، لكن الكفر تجتمع له أسباب كثيرة، فالنصارى مثلاً يكفرون بقولهم: إن الله ثالث ثلاثة، وأيضاً يكفرون باستحلالهم أكل الخنزير، وشرب الخمر.
أسباب الوقوع في الردة والنفاق
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثانية)(21/62)
يقول: [والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور]، فالإيمان له أبواب والكفر له أبواب، فمن أبواب الإيمان الطاعات جميعاً، فإن الإنسان إذا سلك باباً من أبواب الإيمان مثل: الصبر، والصيام، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فإنه يهتدي إلى أوضح السبل وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، ويصل بإذن الله إلى كمال الإيمان وتحقيقه وطمأنينته في قلبه.
وإذا سلك الإنسان طريق البدع والفجور، فإنه يصل إلى النفاق والرد عياذاً بالله! فإن المبتدع قبل أن يصبح زنديقاً منافقاً يبدأ بالشك في بعض الأحاديث، فيرد الأدلة بالشبهات، ويقول: هذه الأحاديث أخبار آحاد.. وهذه الأحاديث تخالف العقل؛ حتى يفضي به الأمر إلى أن ينكر أموراً معلومة من الدين بالضرورة، دلت عليها هذه الأحاديث، وربما أنكر السنة كلها، وربما طعن في الرواة بأجمعهم، وربما طعن في كتب الحديث بأكملها، وربما طعن في الصحابة الذين رووها، نسأل الله العفو والعافية.
البدع من أسباب الردة والكفر بالله
وهكذا تبدأ البدعة، كما قال بعض السلف : (واحذر صغار البدع، فإن البدع تبدو صغاراً، ثم تغدو كباراً)، وقال الآخر: (ائتني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضياً كبيراً)، فالبدع لا تقف عند حد، فيأتي أحدهم فيقول: أنا لا أفضل علياً على أبي بكر وعمر ، ثم بعد ذلك يقول: أبو بكر وعمر فيهما كذا وكذا، فيطعن فيهما، ثم يئول به الأمر إلى أن يخرجهما من الدين، وفي شأن عائشة رضي الله عنها يقول: لقد قاتلت علياً ، وأخطأت، ثم يتجرأ أكثر فيقول: فعلت .. وفعلت .. حتى يصبح -عياذاً بالله- كالرافضة الذين يفترون عليها الإفك الذي برأها الله تبارك وتعالى منه.. وهكذا.(21/63)
ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع كثيرة من كتبه أن أكثر الناس نفاقاً في هذه الأمة وردة هم الرافضة ؛ لأنهم يبتدعون بدعاً تجعلهم يصلون إلى النفاق بسرعة، وقد ذكر أبو الربيع الزهراني رحمه الله تعالى أنه لقي رجلاً كان له جار من أهل الزندقة وكان يظهر الرفض، ثم لما تاب سأله، فقال: إنا فكرنا فوجدنا أقرب أهل الأهواء إلينا الرافضة .
فمن أراد أن يصل إلى الكفر من طريق البدعة فليأتِ من طريق الرافضة ؛ لأنهم شر أهل البدع، فيبدأ الرافضي بالطعن في الإسلام من خلال عقيدة الرافضة ، فإذا كان في مجلس طعن في أبي بكر وعمر ، وطعن في بقية الصحابة، وتكلم في القرآن، وأن فيه كذا وكذا، فلو قيل: إن هذا كافر زنديق، لقيل: إن هذا شيعي، وهذه عقيدته، وهذا هو مذهب الشيعة .
ولذلك فإن الباطنية والقرامطة كما ذكر ابن الجوزي رحمه الله، وغيره ممن كتب عنهم، قالوا: أول ما يدخلون على المريد أو العامي أو الساذج من باب علي والتشيع له، ويظهرون له بعد ذلك مثالب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فيقولون: أبو بكر فعل.. وعمر فعل.. والصحابة فعلوا.. حتى يقتنع بأن هؤلاء الصحابة كلهم مرتدون إلاَّ الاثني عشر أو الأربعة.. وهو إلى هنا لا يزال يسمى رافضياً، ولا يزال يرى نفسه مسلماً، ثم بعد ذلك -كما قال:- إذا تمكن من ذلك أظهروا له مثالب علي والأربعة الباقين، أو الخمسة أو السبعة أو الاثني عشر، فيظهرون عيوبهم ويقولون له: إن علياً فعل أشد من عمر ، فلماذا لم ينكر علي على عمر عندما غير المصحف؟! وقد زوجعلي عمر ابنته! إذاً: علي كان موالياً ومداهناً لعمر وللكفار؛ لأنه قد تقرر عنده أنهم كفار، فيكفر هؤلاء البقية، ولم يبق إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ينتقلون إلى المرحلة الثالثة وهي قولهم: إن الأنبياء ما هم إلا ساسة عباقرة، فيدخلون على أتباعهم بمثل قول الشاعر:
ولا ترى الشرع إلاَّ سياسة مدنية(21/64)
فيقولون: إن الأنبياء أرادوا أن يصلحوا الناس بالشريعة التي هي سياسة مدنية، فلو جاءوا إلى العامة من باب العقل لما قبل كلامهم إلاَّ الحكماء -والحكماء دائماً قليل- لكن العامة لا ينزجرون إلاَّ بالتخويف، فاختلقوا ما يسمى: الجنة والنار والوعد والوعيد، وقالوا: إن هذا من عند الله، وفي النهاية يكفر بالرسل -نسأل الله العفو والعافية- وهكذا تكون مداخل أهل البدع قديماً وحديثا!!ً
المعاصي من أسباب الردة والكفر بالله
ثم يأتي بعد ذلك سبب آخر: وهو المعاصي والفجور -نسأل الله العفو والعافية- فإن الشاب إذا ذهب إلى بلاد الكفار كـ أمريكا أو غيرها للنزهة وللتمتع ونحوها، فلن يقال له من أول الأمر: اكفر، ولو طلب منه ذلك فإنه لن يقبل، لكنهم يتدرجون معه في بادئ الأمر، ويحثونه على ارتياد المسارح والمراقص؛ معللين ذلك بوجود كثير من الشباب ممن يصلون يفعلون ذلك، فيبدأ بالانحراف معهم، ويبدأ بالفاحشة -عياذاً بالله- فيقع في الزنا، ثم يقال له: إن الخمر يقوي الطاقة والنشاط، فيشرب الخمر حتى يدمن عليها، ثم بعد ذلك يقال له: إن التمتع والتحرر هو أصل الحياة، أما الدين والتقاليد والعادات فإنما هي قيود لا حقيقة لها.. فيكفر -عياذاً بالله- ويرتد.. والسبب في ذلك هو الفجور والمعصية.
قال المصنف رحمه الله: [كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين ، أنه قال: [إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء ] ] وصدق رحمه الله، وهذا أمر واقع في أهل الأهواء كالرافضة والخوارج والصوفية ؛ فإن الصوفي قد يبدأ بالذكر البدعي وينتهي بوحدة الوجود وبعبادة القبور، كما هو معلوم من حال كثير من الصوفية والشيعة .(21/65)
قال: "وكان يرى أن هذه الآية نزلت فيهم: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]"، كان محمد بن سيرين رحمه الله تعالى يرى أن هذه الآية نزلت في أهل البدع، والمقصود بالخوض في الآية: هو الخوض الكفري، فهو أصل الخوض المنهي عنه من أساسه، وهو أعظمه، وهو يعني: خوض الكفار في أمر يعد كفراً في ملتنا، لكنه يشمل ما دونه وهو خوض أهل البدع في آياتنا، فيضربون كتاب الله تعالى بعضه ببعض، ويضربون الأحاديث بعضها ببعض، ويقولون: هذا يخالف النص.. وهذا يخالف العقل.. وهذا يخالف الإجماع.. فهم يخوضون في الآيات، ويتكلمون في دين الله، ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون، ولا يبالون أن يقعوا في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في الصحابة؛ فضلاً عن الفقهاء أو العلماء، فإنهم يقعون فيهم ويستسهلون ذلك تماماً، ويطعنون فيهم بكل عيب ومنقصة، فهؤلاء قد نهينا عن مجالستهم تبعاً للنهي عن مجالسة من يخوضون في الكفر؛ لأن أهل البدع قد يصل خوضهم إلى الكفر -نسأل الله العفو والعافية- عندما يصلون إلى درجة النفاق الأكبر، وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].
البدع من أسباب الردة والكفر بالله
من درس: أسباب الوقوع في الردة والنفاق(21/66)
وهكذا تبدأ البدعة، كما قال بعض السلف : (واحذر صغار البدع، فإن البدع تبدو صغاراً، ثم تغدو كباراً)، وقال الآخر: (ائتني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضياً كبيراً)، فالبدع لا تقف عند حد، فيأتي أحدهم فيقول: أنا لا أفضل علياً على أبي بكر وعمر ، ثم بعد ذلك يقول: أبو بكر وعمر فيهما كذا وكذا، فيطعن فيهما، ثم يئول به الأمر إلى أن يخرجهما من الدين، وفي شأن عائشة رضي الله عنها يقول: لقد قاتلت علياً ، وأخطأت، ثم يتجرأ أكثر فيقول: فعلت .. وفعلت .. حتى يصبح -عياذاً بالله- كالرافضة الذين يفترون عليها الإفك الذي برأها الله تبارك وتعالى منه.. وهكذا.
ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع كثيرة من كتبه أن أكثر الناس نفاقاً في هذه الأمة وردة هم الرافضة ؛ لأنهم يبتدعون بدعاً تجعلهم يصلون إلى النفاق بسرعة، وقد ذكر أبو الربيع الزهراني رحمه الله تعالى أنه لقي رجلاً كان له جار من أهل الزندقة وكان يظهر الرفض، ثم لما تاب سأله، فقال: إنا فكرنا فوجدنا أقرب أهل الأهواء إلينا الرافضة .
فمن أراد أن يصل إلى الكفر من طريق البدعة فليأتِ من طريق الرافضة ؛ لأنهم شر أهل البدع، فيبدأ الرافضي بالطعن في الإسلام من خلال عقيدة الرافضة ، فإذا كان في مجلس طعن في أبي بكر وعمر ، وطعن في بقية الصحابة، وتكلم في القرآن، وأن فيه كذا وكذا، فلو قيل: إن هذا كافر زنديق، لقيل: إن هذا شيعي، وهذه عقيدته، وهذا هو مذهب الشيعة .(21/67)
ولذلك فإن الباطنية والقرامطة كما ذكر ابن الجوزي رحمه الله، وغيره ممن كتب عنهم، قالوا: أول ما يدخلون على المريد أو العامي أو الساذج من باب علي والتشيع له، ويظهرون له بعد ذلك مثالب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فيقولون: أبو بكر فعل.. وعمر فعل.. والصحابة فعلوا.. حتى يقتنع بأن هؤلاء الصحابة كلهم مرتدون إلاَّ الاثني عشر أو الأربعة.. وهو إلى هنا لا يزال يسمى رافضياً، ولا يزال يرى نفسه مسلماً، ثم بعد ذلك -كما قال:- إذا تمكن من ذلك أظهروا له مثالب علي والأربعة الباقين، أو الخمسة أو السبعة أو الاثني عشر، فيظهرون عيوبهم ويقولون له: إن علياً فعل أشد من عمر ، فلماذا لم ينكر علي على عمر عندما غير المصحف؟! وقد زوجعلي عمر ابنته! إذاً: علي كان موالياً ومداهناً لعمر وللكفار؛ لأنه قد تقرر عنده أنهم كفار، فيكفر هؤلاء البقية، ولم يبق إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ينتقلون إلى المرحلة الثالثة وهي قولهم: إن الأنبياء ما هم إلا ساسة عباقرة، فيدخلون على أتباعهم بمثل قول الشاعر:
ولا ترى الشرع إلاَّ سياسة مدنية
فيقولون: إن الأنبياء أرادوا أن يصلحوا الناس بالشريعة التي هي سياسة مدنية، فلو جاءوا إلى العامة من باب العقل لما قبل كلامهم إلاَّ الحكماء -والحكماء دائماً قليل- لكن العامة لا ينزجرون إلاَّ بالتخويف، فاختلقوا ما يسمى: الجنة والنار والوعد والوعيد، وقالوا: إن هذا من عند الله، وفي النهاية يكفر بالرسل -نسأل الله العفو والعافية- وهكذا تكون مداخل أهل البدع قديماً وحديثا!!
المعاصي من أسباب الردة والكفر بالله
من درس: أسباب الوقوع في الردة والنفاق(21/68)
ثم يأتي بعد ذلك سبب آخر: وهو المعاصي والفجور -نسأل الله العفو والعافية- فإن الشاب إذا ذهب إلى بلاد الكفار كـ أمريكا أو غيرها للنزهة وللتمتع ونحوها، فلن يقال له من أول الأمر: اكفر، ولو طلب منه ذلك فإنه لن يقبل، لكنهم يتدرجون معه في بادئ الأمر، ويحثونه على ارتياد المسارح والمراقص؛ معللين ذلك بوجود كثير من الشباب ممن يصلون يفعلون ذلك، فيبدأ بالانحراف معهم، ويبدأ بالفاحشة -عياذاً بالله- فيقع في الزنا، ثم يقال له: إن الخمر يقوي الطاقة والنشاط، فيشرب الخمر حتى يدمن عليها، ثم بعد ذلك يقال له: إن التمتع والتحرر هو أصل الحياة، أما الدين والتقاليد والعادات فإنما هي قيود لا حقيقة لها.. فيكفر -عياذاً بالله- ويرتد.. والسبب في ذلك هو الفجور والمعصية.
قال المصنف رحمه الله: [كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين ، أنه قال: [إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء ] ] وصدق رحمه الله، وهذا أمر واقع في أهل الأهواء كالرافضة والخوارج والصوفية ؛ فإن الصوفي قد يبدأ بالذكر البدعي وينتهي بوحدة الوجود وبعبادة القبور، كما هو معلوم من حال كثير من الصوفية والشيعة .(21/69)
قال: "وكان يرى أن هذه الآية نزلت فيهم: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]"، كان محمد بن سيرين رحمه الله تعالى يرى أن هذه الآية نزلت في أهل البدع، والمقصود بالخوض في الآية: هو الخوض الكفري، فهو أصل الخوض المنهي عنه من أساسه، وهو أعظمه، وهو يعني: خوض الكفار في أمر يعد كفراً في ملتنا، لكنه يشمل ما دونه وهو خوض أهل البدع في آياتنا، فيضربون كتاب الله تعالى بعضه ببعض، ويضربون الأحاديث بعضها ببعض، ويقولون: هذا يخالف النص.. وهذا يخالف العقل.. وهذا يخالف الإجماع.. فهم يخوضون في الآيات، ويتكلمون في دين الله، ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون، ولا يبالون أن يقعوا في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في الصحابة؛ فضلاً عن الفقهاء أو العلماء، فإنهم يقعون فيهم ويستسهلون ذلك تماماً، ويطعنون فيهم بكل عيب ومنقصة، فهؤلاء قد نهينا عن مجالستهم تبعاً للنهي عن مجالسة من يخوضون في الكفر؛ لأن أهل البدع قد يصل خوضهم إلى الكفر -نسأل الله العفو والعافية- عندما يصلون إلى درجة النفاق الأكبر، وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].
مراتب الكفر فيمن ينتسب إلى الإسلام
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثالثة)
قد ذكرنا في موضوع أركان الإيمان عند قوله: [وأعظم الناس لها إنكاراً الفلاسفة ] مراتب المنتسبين إلى أهل القبلة في الكفر.(21/70)
وهذا الترتيب يقبل الاجتهاد ولا حرج إن اختلفنا فيه، والمقصود إنما هو ضبط أصل المسألة، وهي معرفة أشد الفرق كفراً، والذين لا يجوز الخلاف في كفرهم، ثم من دونهم، ثم من دونهم؛ حتى نصل إلى أهل البدع والضلال الذين لا يكفرون، وإنما يبدعون ويضللون فقط.
فأول الطوائف كفراً، وهم أعدى أعداء الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأبعد الناس عن الإيمان بالله وبأصول الإسلام، وبأركان الإيمان؛ هم الفلاسفة ، ونعرف مذهبهم من خلال أشخاصهم؛ كابن سينا والرازي الطبيب والكندي والفارابي وأمثالهم، فهؤلاء أبعد الناس عن منهج الأنبياء، وهم مرتدون، لا شك في كفرهم وردتهم وخروجهم عن الإسلام.
ويليهم في الكفر الباطنية ، وهم فرق كثيرة، ولهم أسماء كثيرة مثل: الخرمية والبابكية والقرامطة والسبعية والمحمرة والمعلمية (التعليمية) ، هذه كلها أسماء للباطنية ، ولا شك أيضاً في كفرهم وخروجهم من الإسلام، وممن يعد من الفرق الباطنية في وقتنا الحاضر: الإسماعيلية والدروز والنصيرية ، وهم منهم معنىً ومبنىً.
وهناك فرق باطنية حديثة النشأة، وكفرهم من جنس كفر الباطنية ؛ كالبابية والبهائية -ويوجد منهم جماعات في أمريكا - والآغاخانية وهم في الأصل من الباطنية ، وأيضاً القاديانية يلحقون بها.
ويلي الباطنية في الكفر -ويلحق بهم ويشبههم فيه- غلاة الصوفية الذين لا شك في كفرهم وردتهم وخروجهم عن الملة، وهم ثلاث فرق: أهل الاتحاد ، وأهل الوحدة ، وأهل الحلول ، وهي كلها في الكفر سواء، وهذه الثلاث الطوائف هي أكفر من ينتسب إلى التصوف، وهم يضارعون ويوازنون الباطنية في الكفر إن لم يكونوا أكفر منهم.
فأهل الاتحاد يؤمنون بذاتين منفصلتين اتحدت هذه بتلك، فهؤلاء يسمون: الاتحادية .(21/71)
أما أهل الحلول ، فإنهم أيضاً يثبتون ذاتين، ولكنهم يقولون: هذه حلت في هذه، فأصبحت هي عينها بعد أن حلت فيها، فأصبحت الذاتان ذاتاً واحدة، ولكن يجوز أن تفارقها؛ كما يقول النصارى؛ فإن أصل قولهم: أن الله تعالى حل في عيسى.. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وأما أهل وحدة الوجود ، فإنهم يرون أن الذات واحدة وليس هناك ذاتان، بل ما ثَمَّ إلا هو، أي أن الموجود هو عين الموجِد، المخلوقات هي عين ذات الخالق.. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فهؤلاء كلهم كفار مرتدون وإن انتسبوا إلى الملة والإسلام.
وعلى رأس هؤلاء الذين قالوا بالحلول أو الاتحاد أو وحدة الوجود: ابن عربي ، والحلاج ، وابن الفارض ، وابن سبعين ، والفاجر الذي يسمي نفسه: العفيف التلمساني ، والصدر القونوي ، وشمس الدين التبريزي .. وآخرون، لكن هؤلاء هم أشهرهم، ومقصودنا هو التمثيل فحسب.
والطبقة التي تلي هذه الطبقة في الكفر -وإن انتسبت إلى الإسلام-: الجهمية ، واسم الجهمية يطلق على عموم من ينفي الصفات، لكننا نعني هنا الجهمية الغلاة الذين مذهبهم إنكار الأسماء والصفات جميعاً، ويقولون في الإيمان: إنه مجرد المعرفة، ويقولون في القدر: إن الفاعل هو الله، والإنسان لا إرادة له مطلقاً؛ فبهذه الأقوال وأمثالها تكون الجهمية -أيضاً- خارجة من الملة.(21/72)
ويليهم في الكفر الروافض ، ولا نعني بهم مجرد من يطلق عليه أنه شيعي أو فيه تشيع، وإنما المقصود الرافضة الغلاة الذين يرون تكفير الصحابة عموماً ومنهم الشيخان أبو بكر وعمر ، ويؤلهون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويعتقدون أن القرآن محرف، وأن الإمامة أعلى من النبوة، ويشركون في الألوهية بدعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، والالتجاء إلى غير الله، واعتقاد أن أئمتهم يعلمون الغيب، ويديرون الكون، وتخضع لهم ذرات الوجود، ويذهبون عند قبورهم يتضرعون ويدعون ويستغيثون بهم؛ فهؤلاء قد حرفوا التوحيد وصرفوا العبادة لغير الله؛ فهم -ومن كان على شاكلتهم- كفار مرتدون.
ثم بعد ذلك تأتي المعتزلة ، والذين يكفرون من المعتزلة هم زنادقتهم وغلاتهم الملاحدة الذين أسسوا هذا الإلحاد والضلال، وهم الذين كفرهم بعض السلف بأعيانهم.
وأما من جاء من بعدهم، ففي تكفيرهم نظر -وإن كانت مقالاتهم كفرية- لما طرأ عليهم من شبهات.
فمن أعلامهم المشهورين الذين كفرهم بعض السلف : واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد .
وأعظم منهما كفراً وأصرح في الاعتزال -وهما اللذان أصلا مذهب المعتزلة على علم الكلام، وليس على شبهات نقلية- أبو الهذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام ، وكل منهما كان على مذهب المعتزلة في تكفير مرتكب الكبيرة، وإن لم يقولوا: إنه كافر بالاسم، ولكنهم يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، وكل منهما ألف في تكفير الآخر، وهكذا أهل البدع نسأل الله العفو والعافية.
أما بقية المعتزلة ، فإننا نقول: هم من فرق الضلالة، وإن كانت مقالاتهم كفرية؛ فإن المعتزلة -في باب الأسماء والصفات- أثبتوا الأسماء جميعاً لكنهم نفوا الصفات جميعاً، فيقولون: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر... إلخ.(21/73)
بعد ذلك نأتي إلى الذين يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات، لكنهم ينفون بعض الصفات ولا يثبتون الصفات جميعاً، وهم الأشاعرة ، وهم لا يُكَفَّرون، لكنهم -كفرقة- يعدون من فرق الضلال، وأما الأفراد فأحكامهم تختلف وتتفاوت، حتى إن من أوائل الأشعرية من كان أقرب إلى السنة، ومن أواخرهم من أصبح قريباً من الفلاسفة ، كما بين ذلك شيخ الإسلام رحمه الله.
والخوارج في درجة المعتزلة ، لكن من غلا من الخوارج وأنكر بعض القرآن أصبح في درجة الروافض .
ولو قارنت بين الرافضة وبين الخوارج ، أيّ الطائفتين أخف وأقل شراً وضرراً، لعلمت أنها الخوارج بلا شك، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذكرهم، وأنهم على ضلالة، لكنهم إذا قورنوا مع الروافض يظلون أقل ضرراً من جهتين: أولاهما أن الخوارج لم يكفروا أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وإنما تكلموا في من بعدهم؛ فهم إذن أخف ممن يكفر الشيخين، ولا شك أن من يكفر عثمان أو علياً رضي الله تعالى عنهما هو على خطر عظيم، لكنه ليس كمن كفر الشيخين أو كفر جميع الصحابة.
ثانيهما: أن الخوارج أعلى رتبة من الرافضة في عبادتهم، فلو ألحقنا كل طائفة من الطائفتين بمن هو شبيه بها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نلحق الخوارج -جزئياً- بالثلاثة الذين تقالّوا العبادة، قال أولهم: أصوم ولا أفطر... إلخ، بينما الرافضة يلحقون بالمنافقين.
وإذا أردنا أن نمد المقارنة وأن نطبق صفات هذه الفرق على ما نقوله في صلاتنا في كل ركعة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] كيف نصنف هذه الفرق؟ ومن نجعله مع المغضوب عليهم؟ ومن نجعله مع الضالين؟(21/74)
الروافض مع المغضوب عليهم، والخوارج مع الضالين؛ لأن المغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يعملوا به؛ ولذلك قال سفيان بن عيينة رحمه الله -ونقل أيضاً عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه-: [من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن ضل من عبادنا ففيه شبه من النصارى ].
وأهل الكلام يلحقون بمنهج ومسلك المغضوب عليهم، والصوفية يلحقون بالضالين.
والمقصود أننا عرفنا أن في أهل القبلة من المنتسبين للإسلام من يكون في الحقيقة كافراً، وعرفنا تصنيفاً مجملاً لهم.
الفرق بين النفي العام ونفي العموم في التكفير
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثالثة)
نرجع إلى عبارة المصنف رحمه الله يقول:
[ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج ، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب.
ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله) وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال، فإن الشارع لم يكتفِ من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع.. إلا أن يُضمّن قوله: (يستحله) بمعنى: يعتقده أو نحو ذلك.
وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.. إلى آخر كلامه) رد على المرجئة ، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف، فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان.(21/75)
لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان، ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين!! وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار! ] .
قوله: (ولهذا) الإشارة إلى وجود مرتدين ممن ينتسبون إلى الإسلام؛ أي لكونه في أهل القبلة من هو منافق ومرتد [امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب؛ بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب] فهذا مما يستدرك على الإمام الطحاوي وهو يقول: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] فالمستدرك عليه هو هذه العبارة، لكن الاستدراك أيضاً محل نظر، وسنأخذ الآن وجهة نظر من يستدرك ومن لا يستدرك.
هناك فرق بين: (لا نكفر أحداً بذنب) و(لا نكفر أحداً بكل ذنب)؛ (لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) معناه لا أحد يكفر بذنب؛ هكذا فهم بعض العلماء، وكيف لا نكفر أحداً بذنب، وهناك ذنوب تكفر؟! لكن إذا قلنا: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب؛ فمعناه أنه يوجد ذنوب مكفرة، ويوجد ذنوب غير مكفرة.
[وفرق بين النفي العام ونفي العموم]، العبارة التي تكون على النفي العام هي: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) فهذا نفي عام، ونفي العموم هو: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب) فهنا نفينا العموم.
يقول المصنف رحمه الله: "والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب" فقوله رحمه الله: (مناقضة) مفعول لأجله أي: نقول ذلك مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل بذنب.
فعندنا ثلاث عبارات: (من لا يكفر بذنب) (من يكفر بكل ذنب) و(من لا يكفر بكل بذنب)؛ فالمرجئة لا يكفرون بذنب، والخوارج يكفرون بكل ذنب.(21/76)
أما أهل السنة فإنهم لا يكفرون بكل ذنب. قال: "ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله" أي: مراعاة لكونه ليس كل ذنب لا يكفر فاعله، بل مِن الذنوب مَن يكفر مقترفها ومنها من لا يكفر مقترفها "قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله)" كأن الإمام أبا جعفر الطحاوي رحمه الله تنبه لهذا، فقال: أنا لا أقصد أنني لا أكفر أحداً بذنب -كما تقول المرجئة - فإني أقول: (ما لم يستحله).
إذاً: عند الطحاوي من أهل الذنوب من يكفرون بالاستحلال.
يقول المصنف: "وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا: النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية" إذاً: فالاستدراك على الإمام الطحاوي خطأ؛ لأن الإمام الطحاوي تنبه لخطر العموم في النفي فقال: (ما لم يستحله) والاستحلال يكون في الأمور العملية من الزنا وشرب الخمر والسرقة.
وكأن الإمام الطحاوي رحمه الله يكتب هذه العبارة وأمام عينيه الرد على الخوارج ، فهو يقصد بما يكتبه الرد عليهم، ويقول: "لا نكفر أحداً بذنب ما لم يستحله"، أي: أنا أتكلم في الكبائر العملية من زنا وسرقة وشرب خمر، ولا أقول: إن فاعل هذه الأمور خارج عن الإسلام، لكنه من أهل الوعيد، ولا أخرجه من الملة إلا إذا استحل الذنب، فإذا استحل الكبيرة فهو مرتد.
ثم استدرك المصنف على نفسه فقال: "وفيه إشكال؛ فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع" ذكرنا تعريف الإيمان وأنه (قول وعمل) فيقول هنا: إن العلاقة بين العمل والعلم لا تنفك؛ بل هي متلازمة؛ فحين يصلي المصلي فصلاته من الأمور العملية، لكن المصنف رحمه الله: هذه ليست عملية فقط؛ لأنه لم يصلِّ إلا بنية الصلاة وبالإخلاص وبالإيمان بها وبالخشوع؛ وهذه أعمال قلبية.(21/77)
وحين حرم الله تعالى علينا الزنا أو الخمر أو السرقة، حرمها لكي نعتقد تحريمها، وليس لمجرد ألا نفعلها، فهي -أي العلاقة بين العلم والعمل- مرتبطة لا تنفك، فأعمال القلوب وأعمال الجوارح مرتبطة، والأصل هو أعمال القلوب، والشارع لم يكتفِ منا في العمليات بمجرد العمل؛ بل لابد أيضاً من العلم -أي الاعتقاد- فهناك ترابط قائم ولا شك في وجوده.
وقد ضربنا مثالاً لذلك، كما ذكره الله تعالى بقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً [إبراهيم:24] الآية، فالتلازم بين الظاهر والباطن قائم وحق.
يقول المصنف: "إلا أن يُضَمَّنَ قوله: (يستحله) بمعنى يعتقده، أو نحو ذلك" فتكون العبارة صحيحة؛ لأن الاعتقاد يتضمن فعل القلب.
فالمصنف يقول: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله]، أي: ما لم يعتقده حلالاً، فإن كان عملياً فالمقصود لم يعتقد حله، وإن كان علمياً فالمقصود أنه لم يعتقد صحته وصدقه.
مسألة الإيمان بين أهل السنة وبين المرجئة والخوارج
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثالثة)
يقول المصنف: [وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) إلى آخر كلامه: رد على المرجئة ، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف] أي: نحن أهل السنة والجماعة لا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
وهذه العبارة تنسب في الأصل إلى المرجئة ، ولهذا تجد من يتحدث عن المرجئة يذكر هذه العبارة، ومنهم -على سبيل المثال-: الأشعري في المقالات ، والبغدادي في الفرق بين الفرق ، وإن لم ينسبوه إلى قائل معين، لكنه أمر موجود في النفوس، فإنه يوجد من يقول في نفسه: نحن -والحمد لله- ما دمنا مسلمين فلا يضرنا شيء، وما علينا شيء، والله غفور رحيم؛ لكنه لا يعتقد هذه المقالة عقيدة يدافع عنها ويلتزم بها، فهناك فرق بين الأمرين.(21/78)
فكتاب المقالات والفرق من المرجئة قد أرادوا أن تبرأ ساحتهم من تهمة الإرجاء، فقرروا أن المرجئة هم الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، ولا ينفع مع الكفر طاعة.
ولكن ليس هذا ضابط المرجئة ؛ بل إن المرجئ هو: (كل من أخرج العمل عن الإيمان)، ثم هم درجات متفاوتة.
وهذا الخلاف في تعريف المرجئ هو خلاف منهجي بين أهل السنة والجماعة من جهة، وبين المرجئة -ولاسيما الأشعرية وغيرهم ممن كتب في المقالات- من جهة أخرى، فالمرجئ عندهم من يقول: لا يضر مع الإيمان معصية؛ كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ والمرجئ عند أهل السنة هو من يقول: العمل ليس داخلاً في الإيمان.
قال: [فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف؛ فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة؛ فلا يبقى معه شيء من الإيمان لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخله في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين].
بعض الخوارج استدرك على إخوانه قولهم: بكل ذنب، وقال: بكل ذنب كبير؛ أي: يكفر صاحب الكبائر، وأما صاحب الصغائر فإنه لا يكفر.
والمعتزلة والخوارج يتفقون في الحكم، ويختلفون في الاسم؛ فمرتكب الكبيرة مآله الخلود في النار عند الطائفتين، ولكن الطائفتين تختلفان في الاسم، فيسميه الخوارج كافراً؛ أما المعتزلة فقالوا: ليس بمؤمن ولا كافر؛ بل هو في منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر.
قال رحمه الله: [وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار!!] فوافقوا الخوارج .
التفريق بين خطأ المتأول وخطأ المعاند
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثالثة)(21/79)
قال: [وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال، لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول] أي: أن طوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون بالخروج من الإيمان بسبب الأعمال؛ كما يقوله هؤلاء الخوارج ، لكن يقولون ذلك عن الأمور الاعتقادية، ويقصدون بذلك الأعيان، فيقولون مثلاً: كل من قال بنفي القدر فهو كافر بعينه.
أما أهل السنة والجماعة فيقولون: نحن ننظر إلى المعين هل هو مجتهد مخطئ متأول أراد الحق أم لا؛ فلابد أن نتوقف.
يقول المصنف: [فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره].
إن الإنسان قد يرتكب ذنباً من الذنوب العملية وهو لا يقصده، مثلاً: إذا جاء إنسان وقال لأخيه المسلم: يا كافر! -والعياذ بالله- أو يا مشرك! هذه كبيرة من الكبائر العظيمة -نسأل الله العفو والعافية- فإذا كان بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد قال لأخيه: (أنت منافق تجادل عن المنافقين) فهل نقول: حكمه أنه مرتكب لكبيرة كما تقدم أم أنه مجتهد مخطئ؟! وقد قال ذلك أسيد بن حضير لسعد بن عبادة رضي الله عنهما، وقال عمر عن حاطب أنه منافق، وكان كل منهما متأولاً أراد الحق، وأراد نصرة الدين، وعمل بظاهر الأمر، وما قصد الطعن والتهمة.
أما ذاك الذي يؤذي المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقد أراد الطعن والتهمة، وافترى من عنده، وفرق بين هذا وهذا.
فالمقصود أنه لا يجوز أن نقول: هذا فاسق، وهذا فاجر؛ لأنه قد يكون عنده شبهة، فما دامت الشبهة ترد في العمليات وهي ظاهرة، فكيف لا ترد في العلميات التي هي مظنة الشبهة؟!(21/80)
فمسألة نصوص الوعد ونصوص الوعيد والتعارض بينهما هي من مواضع الشبهات؛ لأنه ليس كل أحد يفقه الأدلة؛ فلو كان كل من قرأ الآيات أو الأحاديث وكلام العلماء يفقهه على وجهه الصحيح لما وجد الخلاف، وهذا بعيد؛ بل يوجد من يقرأ الآية، فيفهمها على غير وجهها، أو يقرؤها فيضادها، ويعاند ما دلت عليه، وهذا وارد حتى في العمليات؛ فالتيمم -مثلاً- كيفيته معروفة، وكل واحد من الصحابة فهم هذه الكيفية؛ فعمار رضي الله عنه قال: فتمرغت كما تتمرغ الدابة، وكأنه ظن أن التراب ما دام ينوب عن الغسل، والغسل يكون للجسم كله، فعليه أن يتمرغ بكامل جسمه في التراب؛ فهذا اجتهاده.
يقول المصنف: [وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة]، المقصود بالإثبات العام هو أن يكفر كل مبتدع أو يكفر كل من قال بكذا.
فأراد المصنف رحمه الله أن يرد عليهم، وذكر الدليل الأول، فقال: [فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان] أي: لازم قولهم أن من فعل هذا، فقد كفر وأنه لن يدخل الجنة، وأنه ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ فهل يستطيع أحد أن يثبت ذلك في حق كل مبتدع، وفي حق كل قائل دون تفريق بين من يقول بالبدعة متأولاً مجتهداً مخطئاً وبين من يقول بها رداً وجحوداً وعناداً؟!
فما دام ذلك غير ممكن، فإنه يجب علينا أن نفرق بين هذا القائل وبين ذاك، وإن كان القول واحداً، وإلا لزم من ذلك أن نحكم على كل من وقع في أي بدعة بأنه ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فيرد على هذا القول أن أناساً يفعلون هذه الأفعال، ونحن لا نستطيع أن ننفي الإيمان من قلوبهم، ولا سيما من كان صادقاً ومخلصاً، وأراد الحق ولم يوفق إليه.(21/81)
ويحب أن نفرق بين من أخطأ من أهل السنة في بعض أمور العقيدة، وبين من ابتدع من المبتدعة في هذه الأمور، فلابد من التفريق بين النوعين، وهذه مسألة عظيمة ومهمة؛ إذ ليس كل أحد من أهل السنة معصوماً، بل يمكن أن يخطئ بعض أهل السنة حتى في أمور الاعتقاد، لكنه يظل من أهل السنة ما دام قد اجتهد فأخطأ.
وأما أهل البدعة الذين هم أهلها، فهم الذين فعلوها عن جحود للحق وإنكار وشبهة، ولم يستجيبوا لمن كشفها، واعتمدوا على أصل من الأصول غير الكتاب والسنة.
فقد يتفق السني والبدعي في الواقع والحال، لكنهما يختلفان في الحكم، ولهذا كانت عبارات السلف رحمهم الله دقيقة، فأحياناً يقولون: هذا قول المعتزلة ووافقهم عليه فلان من الرافضة مثلاً، وموافقته لهم لا تعني أنه منهم، لكنها تعني أنه وافقهم عليه وأقرهم، وقال بمثل قولهم، فبذلك نفرق بين المخطئ من أهل السنة وبين المبتدع، وإن كانت البدعة قد تكون أحياناً واحدة.
وهناك أمثلة تطبيقية على هذا، وعندنا في باب الإيمان مثال واضح لذلك، فإننا سنجد أن بعض أئمة السلف وقعوا في الإرجاء.
ومع أننا سنذكر الوعيد والإنكار الشديد من أهل السنة على المرجئة ، فلابد أن نفرق بين من وقع فيه عن خطأ وبين من وقع فيه عن تعمد وابتداع.
التكفير في الاعتقادات والعمليات عند أهل البدع
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الرابعة)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال، لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره، أو يقولون: بكفر كل مبتدع، وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك.(21/82)
والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ: "وأهل الكبائر في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون.
والمقصود هنا: أن البدع هي من هذا الجنس، فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأوَّل تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة ، ولا نقول: لا يكفر؛ بل العدل هو الوسط وهو: أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به؛ يقال فيها الحق، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال: من قالها فهو كافر ونحو ذلك، كما يُذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: "ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة، حتى اتفق رأيي ورأيه أن من قال بخلق القرآن فهو كافر"] اهـ.
الشرح:
يقول رحمه الله: [وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال] أي: هناك من فرق بين العمليات والعلميات، فلا يكفرون في العمليات كشرب الخمر أو الزنا أو السرقة مثلاً، فيوافقون في هذا مذهب أهل السنة ، لكنهم إذا جاءوا إلى باب العلميات أو الاعتقاديات تجرءوا في التكفير؛ لأن الأمر يتعلق بالعقيدة، وهم يظنون أن من اعتقد عقيدة مخالفة للحق إما في ذاته أو في نظرهم فإنه يكفر.
وهذه الطوائف لا يشترط أن تكون من الخوارج أو المعتزلة ، وإنما هي طوائف توافق كلام الخوارج أو المعتزلة ، إلا أن الذي يقوله هؤلاء في العمليات هم يقولونه في الاعتقاديات أو العلميات.(21/83)
يقول المصنف: [لكن في الاعتقادات البدعية وإن كان صاحبها متأولاً] أي: لا يفرقون بين قائل وقائل، وهذا يدخلنا في مسألة المعين، وقد أطال المصنف رحمه الله في مسألة التفريق بين إطلاق الوعيد على عمومه وبين وصف المعين به، فكل وعيد عام جاء في الآيات أو الأحاديث فإنه يقال ويقرر كما جاء في النصوص، لكن تنزيله على معين يحتاج إلى تثبت واستيفاء شروط وانتفاء موانع.
تكفير المتأول والمخطئ عند أهل البدع
قال المصنف: "وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره"، أو يقولون بكفر كل مبتدع، فمثلاً يقولون: من نفى صفة من صفات الله فقد كفر، فهذه العبارة من حيث الجملة صحيحة، وذلك لو قيلت على أساس أن النفي إذا أطلق فإنه يطلق على من ينفي نفي إنكار وجحود لما في القرآن مثلاً.
لكن هذه العبارة أحياناً تطلق على من نفى متأولاً، فتكون في هذه الحالة خاطئة؛ لأن من الناس من يخطئ فينفي بعض الصفات وإن كانت في القرآن، أو ينفي بعض ما ورد في القرآن ويكون متأولاً لا جاحداً ولا منكراً، فبعض العلماء قال في مثل قول الله تعالى في آية الكرسي: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] الكرسي هو العلم!! وهذا تأويل، فهل يكفر قائله وإن كان متأولاً؟! ونعني بالمتأول الذي لا يكفر: هو من كان له تأويل سائغ، أو كان القول ناشئاً عن اجتهاد له وجه من النظر.
والتأويل له ثلاث حالات: منه ما يكون كفراً، ومنه ما يكون بدعة ضلالة، ومنه ما يكون خطأ.(21/84)
فالتأويل الكفري مثل تأويلات الباطنية عموماً، وكقول الرافضة : يجب أن تقتل عائشة ؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فهذا التأويل غير سائغ وليس له أي وجه من النظر؛ لأن هذه الآية نزلت في موسى عليه السلام وبني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى أنهم ذبحوها، فقال: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] فهذا التأويل مردود من أصله.
والتأويل البدعي مثل تأويل قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ [البقرة:255] بأنه علمه، فهذا التأويل له شبهة وله وجه، وهو أن هذا ورد ونقل، وقد يكون النقل غير صحيح؛ ولكن بعض الناس قد يعتمد على دليل ضعيف وهو يرى أنه صحيح، أو أنه نقل عن السلف ، فمثل هذا لا نكفره؛ لأن له وجهاً، فالحل الصحيح في مثل هذا أن نكشف الشبهة، ونبين له عدم صحة الدليل إن كان غير صحيح، أو قد يكون الدليل صحيحاً؛ لكنه لا يدل دلالة صريحة على ما ذهب إليه، لكن وقعت شبهة في فهمه رأى أنها هي الدليل، فهذا نكشف له الشبهة ولا نكفره؛ لوجود أدلة وقرائن لديه وشبهات، وهذه الشبهات لا تصلح أن تكون قطعيات، وليست دلائل صريحة بلا شك، ولكن أيضاً لا نتناساها ونلغيها بالكلية؛ إذ هي موجودة عنده، فمثل هذا لا يبادر بتكفيره، وإنما يبين له الحق وتقام عليه الحجة، وذلك كمن ينكر الرؤية متأولاً، فإن أئمة من أهل السنة كفروا من أنكر الرؤية؛ لكن المتأول تقام عليه الحجة وتكشف له الشبهة ولا يبادر إلى تكفيره، ومثله من جهل بأحاديث عذاب القبر ونعيمه ولم تقم الحجة عنده بالآيات، فهذا أيضاً متأول تكشف له الشبهة.
والناس في ذلك مراتب ودرجات؛ فمن الناس من هو عالم جليل له بحار من الحسنات وأخطأ في قول، فالله يغفر له.
ومنهم من هو مبتدع ضال زائغ، ولكن لا يصل بنا الأمر إلى تكفيره، وبينهما درجات متفاوتة تتدرج في الحكم.(21/85)
فمن كفَّر كل من قال هذا القول ولم يفرق بين المجتهد المخطئ وبين المعاند المكابر فقد أخطأ، وكذلك من قال بكفر كل مبتدع فإنه مخطئ أيضاً.
الرد على أهل البدع في تكفيرهم المتأول والمخطئ
قال المصنف رحمه الله: [وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان] وهذا لا شك في صحته، فقد وردت فيه نصوص متواترة، منها: حديث أنس في الصحيحين وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان } وهؤلاء هم الجهنميون، ولا يمكن أن تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة قطعاً.
إذاً: هذا عنده إيمان ولو ذرة، وليس بكافر، وهنا الدلالة، فلو كفرتم كل من قال بدعة ولو مغلظة لكانت هذه الأحاديث ضدكم في هذا؛ لأنكم تجعلونه خارجاً من الملة، ومعنى ذلك: أنه خالد مخلد في النار.
قال المصنف: [ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك] فهما طائفتان متقابلتان في العمليات والعلميات؛ فطائفة أطلقت نصوص الوعيد فقط، وطائفة نظرت إلى نصوص الوعد فقط، وكلتاهما على خطأ؛ كما قال: "وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة ؛ تبين لك فساد القولين"، أي أنك إذا نظرت إلى كلام المرجئة تجد عندهم أدلة على أنه من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان فإنه يخرج من النار، وهذا حق، وأن الصدقة تطفئ الخطيئة، وأن من مات في سبيل الله غفر له عند أول قطرة من دمه، وأن الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرة لما بينها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم مثلَّ الصلوات الخمس بنهر جار غمر يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات، فهل يبقى فيه درن؟! وأن الإنسان إذا قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر.(21/86)
فينظرون إلى هذا الجانب، فيقولون: كيف تقولون بعد ورود هذه الفضائل: إن من اعتقد كذا فهو في النار! صحيح أن عنده بدعة، لكن عنده هذه الأعمال كلها، فينسون البدعة نهائياً وينظرون إلى هذه الأعمال التي ورد فضلها.
ولكن الوعيدية الذين يأخذون نصوص وألفاظ الوعيد، يقولون مثلاً: هذا يأكل أموال اليتامى وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] فهذا في النار وسيصلى سعيراً، وينظرون إلى حديث: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } يقولون: هذا زنى، وهكذا حديث: {ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن } وهذا شرب الخمر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكاسيات العاريات المائلات المميلات: {لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها }، إذاً: هذه لن تجد عرف الجنة الذي هو ريحها.
ولو نظرنا إلى كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله في جانب الترغيب فقط لقلنا: لن يدخل النار أحد، ولو نظرنا جانب الترهيب فقط لقلنا: لن يسلم منها أحد، ولكن الواجب هو أن تجمع هذه وهذه، فهذا هو المنهج الوسط والعدل والحق، إذ الإنسان الذي يأكل الربا ويأكل أموال اليتامى ولكن عنده حج وجهاد وصدقة وذكر وإنفاق وقراءة قرآن، ليس مثل الذي حياته كلها ربا وأكل مال يتيم أو زنا وليس عنده هذه الأمور.
تكفير المتأول والمخطئ عند أهل البدع
من درس: التكفير في الاعتقادات والعمليات عند أهل البدع
قال المصنف: "وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره"، أو يقولون بكفر كل مبتدع، فمثلاً يقولون: من نفى صفة من صفات الله فقد كفر، فهذه العبارة من حيث الجملة صحيحة، وذلك لو قيلت على أساس أن النفي إذا أطلق فإنه يطلق على من ينفي نفي إنكار وجحود لما في القرآن مثلاً.(21/87)
لكن هذه العبارة أحياناً تطلق على من نفى متأولاً، فتكون في هذه الحالة خاطئة؛ لأن من الناس من يخطئ فينفي بعض الصفات وإن كانت في القرآن، أو ينفي بعض ما ورد في القرآن ويكون متأولاً لا جاحداً ولا منكراً، فبعض العلماء قال في مثل قول الله تعالى في آية الكرسي: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] الكرسي هو العلم!! وهذا تأويل، فهل يكفر قائله وإن كان متأولاً؟! ونعني بالمتأول الذي لا يكفر: هو من كان له تأويل سائغ، أو كان القول ناشئاً عن اجتهاد له وجه من النظر.
والتأويل له ثلاث حالات: منه ما يكون كفراً، ومنه ما يكون بدعة ضلالة، ومنه ما يكون خطأ.
فالتأويل الكفري مثل تأويلات الباطنية عموماً، وكقول الرافضة : يجب أن تقتل عائشة ؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فهذا التأويل غير سائغ وليس له أي وجه من النظر؛ لأن هذه الآية نزلت في موسى عليه السلام وبني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى أنهم ذبحوها، فقال: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] فهذا التأويل مردود من أصله.(21/88)
والتأويل البدعي مثل تأويل قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ [البقرة:255] بأنه علمه، فهذا التأويل له شبهة وله وجه، وهو أن هذا ورد ونقل، وقد يكون النقل غير صحيح؛ ولكن بعض الناس قد يعتمد على دليل ضعيف وهو يرى أنه صحيح، أو أنه نقل عن السلف ، فمثل هذا لا نكفره؛ لأن له وجهاً، فالحل الصحيح في مثل هذا أن نكشف الشبهة، ونبين له عدم صحة الدليل إن كان غير صحيح، أو قد يكون الدليل صحيحاً؛ لكنه لا يدل دلالة صريحة على ما ذهب إليه، لكن وقعت شبهة في فهمه رأى أنها هي الدليل، فهذا نكشف له الشبهة ولا نكفره؛ لوجود أدلة وقرائن لديه وشبهات، وهذه الشبهات لا تصلح أن تكون قطعيات، وليست دلائل صريحة بلا شك، ولكن أيضاً لا نتناساها ونلغيها بالكلية؛ إذ هي موجودة عنده، فمثل هذا لا يبادر بتكفيره، وإنما يبين له الحق وتقام عليه الحجة، وذلك كمن ينكر الرؤية متأولاً، فإن أئمة من أهل السنة كفروا من أنكر الرؤية؛ لكن المتأول تقام عليه الحجة وتكشف له الشبهة ولا يبادر إلى تكفيره، ومثله من جهل بأحاديث عذاب القبر ونعيمه ولم تقم الحجة عنده بالآيات، فهذا أيضاً متأول تكشف له الشبهة.
والناس في ذلك مراتب ودرجات؛ فمن الناس من هو عالم جليل له بحار من الحسنات وأخطأ في قول، فالله يغفر له.
ومنهم من هو مبتدع ضال زائغ، ولكن لا يصل بنا الأمر إلى تكفيره، وبينهما درجات متفاوتة تتدرج في الحكم.
فمن كفَّر كل من قال هذا القول ولم يفرق بين المجتهد المخطئ وبين المعاند المكابر فقد أخطأ، وكذلك من قال بكفر كل مبتدع فإنه مخطئ أيضاً.
الرد على أهل البدع في تكفيرهم المتأول والمخطئ
من درس: التكفير في الاعتقادات والعمليات عند أهل البدع(21/89)
قال المصنف رحمه الله: [وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان] وهذا لا شك في صحته، فقد وردت فيه نصوص متواترة، منها: حديث أنس في الصحيحين وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان } وهؤلاء هم الجهنميون، ولا يمكن أن تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة قطعاً.
إذاً: هذا عنده إيمان ولو ذرة، وليس بكافر، وهنا الدلالة، فلو كفرتم كل من قال بدعة ولو مغلظة لكانت هذه الأحاديث ضدكم في هذا؛ لأنكم تجعلونه خارجاً من الملة، ومعنى ذلك: أنه خالد مخلد في النار.
قال المصنف: [ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك] فهما طائفتان متقابلتان في العمليات والعلميات؛ فطائفة أطلقت نصوص الوعيد فقط، وطائفة نظرت إلى نصوص الوعد فقط، وكلتاهما على خطأ؛ كما قال: "وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة ؛ تبين لك فساد القولين"، أي أنك إذا نظرت إلى كلام المرجئة تجد عندهم أدلة على أنه من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان فإنه يخرج من النار، وهذا حق، وأن الصدقة تطفئ الخطيئة، وأن من مات في سبيل الله غفر له عند أول قطرة من دمه، وأن الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرة لما بينها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم مثلَّ الصلوات الخمس بنهر جار غمر يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات، فهل يبقى فيه درن؟! وأن الإنسان إذا قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر.(21/90)
فينظرون إلى هذا الجانب، فيقولون: كيف تقولون بعد ورود هذه الفضائل: إن من اعتقد كذا فهو في النار! صحيح أن عنده بدعة، لكن عنده هذه الأعمال كلها، فينسون البدعة نهائياً وينظرون إلى هذه الأعمال التي ورد فضلها.
ولكن الوعيدية الذين يأخذون نصوص وألفاظ الوعيد، يقولون مثلاً: هذا يأكل أموال اليتامى وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] فهذا في النار وسيصلى سعيراً، وينظرون إلى حديث: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } يقولون: هذا زنى، وهكذا حديث: {ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن } وهذا شرب الخمر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكاسيات العاريات المائلات المميلات: {لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها }، إذاً: هذه لن تجد عرف الجنة الذي هو ريحها.
ولو نظرنا إلى كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله في جانب الترغيب فقط لقلنا: لن يدخل النار أحد، ولو نظرنا جانب الترهيب فقط لقلنا: لن يسلم منها أحد، ولكن الواجب هو أن تجمع هذه وهذه، فهذا هو المنهج الوسط والعدل والحق، إذ الإنسان الذي يأكل الربا ويأكل أموال اليتامى ولكن عنده حج وجهاد وصدقة وذكر وإنفاق وقراءة قرآن، ليس مثل الذي حياته كلها ربا وأكل مال يتيم أو زنا وليس عنده هذه الأمور.
منهج أهل السنة في الحكم على أهل البدع والكبائر
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الرابعة)(21/91)
إن المنهج الرباني هو أن يحكم على الإنسان بمجموع أعماله، فبالنسبة للآخرة يجب أن لا نختلف، فالموازين تنصب يوم القيامة عند الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] ومذهب أهل السنة والجماعة أنه ميزان حقيقي وله كفتان، ففي كفة توضع الحسنات وفي الأخرى توضع السيئات، فتوزن الأعمال كما في حديث صاحب البطاقة وغيره، وهذا في الآخرة.
وأما في الدنيا فإنه يجب علينا أيضاً أن نأخذ نفس الميزان، فلهذا أمرنا الله سبحانه وتعالى عندما وضع الميزان أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:8-9].
وليس معنى الميزان بالقسط هو في البيع والشراء فقط! بل هو ميزان عام في الحياة كلها كما قال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام:152] وقال: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء:35] أي في جميع أمور حياتكم، وقال: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:8-9]، فيجب عليك أيها المسلم أن تقيم الوزن في كل شيء حتى في عباراتك، ولا يصح أن يكون الحال أنك إذا كنت راضياً عن فلان قلت فيه أحسن ما تعلم ومدحته، وإذا غضبت عليه قلت فيه أسوأ ما تعلم! بل لابد أن يكون كل ذلك بميزان، فكما أن الميزان يوم القيامة عدل؛ فكذلك يجب علينا في الدنيا أن نزن بالعدل، فإذا ارتكب شخص جريمة فلا ننسى فضله إن كان له فضل، والعكس صحيح: فعندما نتكلم عن الفضائل، فليس معنى ذلك أننا ننكر ما يكون قد وقع فيه مما لا يليق، وقد بين ضوابط ذلك علماء الجرح والتعديل.(21/92)
فنجد عندهم الموازين العادلة، فهم يعطون الإنسان ما له وما عليه دون حيف أو جور، ولذا ائتمنهم الله على هذا العلم الشريف الذي اختصت به هذه الأمة، وهو علم الإسناد والجرح والتعديل، فيزنون الناس بالميزان الصحيح. فإذا تعرضوا -مثلاً- لأحد من الخوارج ، فلا يقولون: إنه خارجي وانتهى، أو شيعي وانتهى؛ بل إذا كان له فضل في علم أو جهاد، أو حتى في الشعر والتأليف فإنهم يقولون: وله كتاب في البلدان أبدع فيه، أو له شعر جيد، وله كذا وكذا.. لكن عقيدته كذا، حتى إنهم عندما تكلموا عن شعر أبي العلاء لم يقولوا: إنه ملحد ضال وشعره من أسفه الشعر! وكذا أبو نواس الشاعر الماجن، بل إن الإمام الذهبي والخطيب البغدادي أثنيا على شعره، فشعره جيد لكن موضوعاته باطلة وفيها خطأ، فلابد من الميزان العدل.
ثم من مزايا العدل أنك إذا كنت عادلاً منصفاً؛ فإن الخصم تؤنبه نفسه ويستسلم ويضطر أن يرجع إلى الحق، لكنه إذا رآك تظلمه ولا تذكر إلا معايبه وتنسى فضائله ولا تنصفه، فإن ذلك يدفعه إلى عدم قبول الحق وإلى المكابرة والمجادلة والمدافعة، وإن كان ذلك بالباطل، نسأل الله العفو والعافية.(21/93)
يقول المصنف: [والمقصود هنا أن البدع هي من هذا الجنس] قوله: (هذا) إشارة إلى الكبائر العملية، فالبدع حكمها حكم الكبائر العملية، قال: "فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً" واحترز بقوله: (باطناً) لكي يبين خطأ من كفره؛ لأننا إذا قلنا: إنه كافر؛ فمعناه أنه في الباطن غير مؤمن، وإذا قلنا: إنه مؤمن ظاهراً فقط فليس بغريب؛ لأن المنافقين مؤمنون في الظاهر، لكن المصنف يقول: "فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأوَّل تأويلاً أخطأ فيه؛ إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي"، فالمصنف رحمه الله يُعلِّم أهل السنة أن لا يغلوا ولا يتسرعوا في إطلاق التكفير أو التبديع أو التضليل حتى يتبين حل المعنى هل هو مخطئ معذور أو مجتهد أم لا؟
فهذه هي عقيدة أهل السنة ، لكننا نجد أهل البدعة يكفرون أهل السنة بما يعتقدونه من الحق، فمثلاً: تجد معظم كتب الأشاعرة ونفاة الصفات يقولون: ما حكم من يثبت الجهة لله؟ ويقصدون بالجهة العلو.
فهناك ثلاثة أقوال عند الأشاعرة في هذه المسألة: القول الأول: من أثبت أن الله فوق العالم فإنه يكفر، ومعنى هذا أن من أثبت ما جاء في القرآن وما جاء في السنة فإنه يكفر! وهذا من العدوان والبغي والظلم! قالوا: لأنه أثبت شيئاً في حق الله مستحيلاً، فأثبت لله المحال، وهو أن الله في حيز، وأنه تحيط به المخلوقات، وهذه كلها لوازم باطلة أوردوها وهي لا تلزم القائل، لكنهم جعلوها لوازم فكفروا بها، وهذا غاية البغي والظلم والعدوان.
القول الثاني: أن قائل هذا القول لا يكفر، بل هو فاسق.(21/94)
القول الثالث: هو التفصيل؛ فإن كان جاهلاً على معتقد العوام فلا يكفر؛ لأنه يعذر بجهله، مثل: الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم فأجابت بمعتقد العوام ومعتقد الناس في الجاهلية على حد زعمهم! فمن كان كذلك فلا يكفر، قالوا: أما العالم الذي تبين له الأدلة، مثل: الفخر الرازي أو الزمخشري ومن هو عارف بعلم الكلام وعالم بلوازم الحيز والجهة والجوهر والعرض، قالوا: فهذا إن قال ذلك فإنه يكفر -نسأل الله العفو والعافية-.
فانظر كيف يكون البغي! وقد تقدم قول الخوارج المعاصرين منهم والأقدمين، وقول المعتزلة في مسألة الرؤية حيث قالوا: من قال: إن الله يُرى في الآخرة فقد كفر، فهكذا تجد أهل البدع!
فالشيخ المصنف هنا يعلم أهل السنة الإنصاف، ولم يقابل المبتدعة بمثل منهجهم، وذلك أن من منهج أهل السنة أنهم لا يكفرون المبتدع حتى يعلموا: هل هو متأول أو غير متأول؟ أله شبهة أو ليس له شبهة؟
فليس في أهل الفرق من هو متحلٍ بالإنصاف والعدل مثل أهل السنة والجماعة أبداً!
فأهل السنة في معتقداتهم على الحق، ومع ذلك يعدلون مع من كان على الباطل، ولا يخرجون عما أمر الله به بقوله:: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، وأما الظلم فقد حرمه الله سبحانه وتعالى، فقال: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً }.
أما أهل البدع فإنهم يجورون على أهل السنة ويتهمونهم ويكفرونهم؛ بناءً على ما يعتقدونه من الحق، وكفى بهذا فارقاً بين الطائفتين.(21/95)
يقول المصنف رحمه الله: "لكن تأول تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك" أي أنه: قد يحبط إيمانه بأسباب أخرى مثلما قلنا في المعتزلة ، فإنَّ منهم من كُفِّر بعينه لأنه قال القول ولديه عقائد فاسدة باطلة غير ذلك القول، ولكن من المعتزلة من لم يكفر؛ لأنه أخذ القول المنسوب إلى ذلك الكافر أو الملحد ظاناً أنه هو الحق والهدى، حتى إن الذين كفَّروا ابن أبي دؤاد وبشر المريسي من العلماء لم يكفر كثير منهم المعتصم أو المأمون لما اتبعوا قول المعتزلة في مسألة خلق القرآن وجلدوا الإمام أحمد وغيره؛ لأنهم كانوا يعلمون أن هؤلاء الخلفاء لبس عليهم، فترى أن هؤلاء العلماء كفروا المشير بالجلد والتعذيب ولم يكفروا من قام بتنفيذ ذلك، وذلك لأن من أشار بذلك عالم يعرف الأدلة، وقد اقترن بقوله هذا اعتقادات فاسدة أوجبت تكفيره عند من كفره. ومقصدنا هو أننا لا نقول: يحبط عمل المبتدع بمجرد هذه البدعة التي هي غير مكفرة وربما تكون مكفرة، فيكون القول في ذاته كفراً ولكن صاحبه لا يكفر.
ثم قال المصنف: "إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة " أي: القول بأنه كفر وحبط عمله، هو من جنس قول الخوارج والمعتزلة في أصحاب الكبائر العملية.
ومن ورد الشرع بتكفيره فلا نقول: إنه لا يكفر، ولا نقول: إنه يكفر ويحبط عمله؛ وذلك حتى نفرق بين المقالة والقائل. فمثلاً: نفي رؤية الله في الآخرة ونفي الصفات ونفي القدر... كل هذه المقالات كفر، بل ونقول: (يكفر قائلها) إطلاقاً عاماً، لكن القائل المعين هو الذي فيه التفصيل، فمن كفر قائل هذه المقالات كائناً من كان وحكم بأن عمله يحبط رددنا عليه، ومن قال: إن قائل ذلك لا يكفر بأي حال نرد عليه أيضاً ولا نقره على قوله.
حكم فرق أهل القبلة المتوعدين بالنار والهلاك
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الرابعة)(21/96)
نأتي إلى مسألة الاثنتين والسبعين فرقة، فإن من المعلوم أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فما حال الثنتين وسبعين فرقة: أهم من أهل الوعيد أم هم خارجون عن الملة؟
الجواب: الفرق على نوعين:
النوع الأول: فرق خارجة عن الإسلام، وهي فرق كثيرة، وقد ذكرنا أمثلة لها؛ كفرق الباطنية القديمة والحديثة وغلاة الشيعة وغلاة الصوفية وأشباههم.
النوع الثاني: فرق خارجة عن السنة، والفرق الخارجة عن السنة هي الاثنتين والسبعين فرقة، ولهذا لما عرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية قال: {هي الجماعة } أو: {ما أنا عليه وأصحابي } !!
فمن خالفهم فهو خارج عن الجماعة، ومخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أما الفرق الخارجة عن الإسلام بالكلية فهذه قد انتقلت إلى ملة أخرى وإن انتسبت إليه، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان ولم يذكر غير هذا القول، وفي مجموع الفتاوى ذكر أن بعض السلف اختلفوا في ذلك، لكنه رجح أنها من أهل الوعيد، ولا يعني قولنا: إنها من أهل الوعيد أن كل فرد منها سيدخل النار، وإنما نقصد أنه متوعد؛ ففي الدنيا نحكم عليه بالميزان كما سبق، وفي الآخرة يكون الحكم عليه كذلك.
ولنضرب على ذلك مثلاً: لو أن إنساناً ابتدع بدعة من بدع الصوفية التي لا تخرج صاحبها من الملة، وليس عنده إلا هذه البدعة وهو مُصر عليها ومعاند ويرفض الحق، وليس عنده أي حسنة، فهذا يقال عنه: مبتدع، ويكون من أهل الوعيد، ويوم القيامة إذا وزنت أعماله وليس عنده حسنات وعنده هذه البدع، فهو مثل أهل الكبائر الداخلين تحت مشيئة الله، ولابد أن يعذب الله منهم أناساً، فلا ننفي ونقول: لن يعذب أحد منهم؛ بل لابد أن يعذب أناساً منهم ويغفر لأناس، كما قال تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [المائدة:40].(21/97)
وشخص آخر عنده هذه البدعة نفسها، لكن معه جهاد وصيام وزكاة وحج وصدقة، وأمور كثيرة من الحسنات، فهذه إذا وضعت مع تلك البدعة رجح ميزان الحسنات؛ سواء وفق ميزاننا نحن في الدنيا عندما نزن الرجال أو عند الله سبحانه وتعالى.
إذاً: القائل المعين شيء والفرقة شيء آخر.
التفريق بين الخطأ في أصل المنهج والخطأ في جزئية منه
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الرابعة)
بعد ما ذكر المصنف رحمه الله حديث الرجل الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد الله وكان يلقب حماراً ، قال: "وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين، وفيهم بعض مقالات الجهمية ، أو المرجئة ، أو القدرية ، أو الشيعة ، أو الخوارج ، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة بل بفرع منها" أي: أنه لا يمكن لإمام من الأئمة في العلم والدين أن يكون شيعياً أو قدرياً -مثلاً- من جميع الوجوه ويكون قائماً بجملة تلك البدعة، لكن قد يقوم بفرع وجزئية منها.
وأعبر بتعبير واضح عن هذا فأقول: هناك فرق بين المنهج العام للإنسان وبين الأخطاء في المسائل التفصيلية، فالإنسان إذا كان منهجه العام الأخذ من الكتاب والسنة، فهذا يعد من أهل السنة وإن أخطأ في التفاصيل، ومن كان منهجه الاعتزال، فيقال: إنه معتزلي وإن أصاب في بعض الأمور أو وافق أهل السنة أو أخذ بحديث أو بأكثر من أحاديث الصحيح، فالأئمة المشاهير ممن اتهم بارتكاب بعض العقائد البدعية أو الضلالات لم يأخذها جملة، ولو أخذها جملة لصار من أهلها، ولكنه أخذ فرعاً منها.
فلابد من التفريق بين المنهج والجزئية، وبهذا المنهج نتعامل مع الأحزاب والجماعات والفئات المعاصرة؛ فقد يكون فلان مثلاً زعيماً زنديقاً ملحداً، لكن قد يكون من أتباعه من فيه خير ودين وصلاح وإن وافقه في بعض ما يقول، وهذا الحكم من العدل الذي أمر الله سبحانه وتعالى به.(21/98)
لكن في الجملة نقول: إن كل معتزلي أو رافضي فهو ضال أو زائغ، ولا شك في ذلك، لكن عندما نأخذ الأمر على التفصيل فقد نجد بعض الناس أخذ من الرافضة شعبة فقط، وقد يكفرهم من غير هذه الشعبة، وبعض الناس أخذ من الاعتزال شعبة، وقد يضللهم في الباقي، ففرق بين المنهج المتكامل وبين أن يأخذ الإنسان بجزئية من المنهج، ولو كان هذا الميزان واضحاً عند المسلمين وعند كثير من أهل السنة في القديم والحديث لما احتاجوا أن يتخاصموا فيما بينهم ويختلفوا ويرد بعضهم على بعض، ولكانوا كما كان علماؤنا الأولون على القسطاس المستقيم والميزان العدل الذي لا طغيان فيه.
قال رحمه الله: "بل العدل هو الوسط، وهو أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم أو إثبات ما نفاه" أي: كما في مسائل الصفات أو مسائل القدر وغيرها.
مثال ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم: قوله للجارية: {أين الله؟ قالت: في السماء، فأقرها } فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله في السماء وكذلك في غيره من الأحاديث، فجاء أناس فنفوه. أو إثبات ما نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم كمن أثبت لله من الصفات أو نسب ما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم.
الرد على من زعم أن الورع هو عدم تكفير من ارتكب الكفر
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الرابعة)(21/99)
قال المصنف رحمه الله: [أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به، يقال فيها الحق] أي هذه الأقوال المبتدعة المحرمة، قال: [ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص ويبين أنها كفر] أي: لا تلغى النصوص، فإن كانت النصوص تنص على أعمال كفرية فيبين أنها كفر، فنقول مثلاً: الحكم بغير ما أنزل الله كفر، ونفي أسماء الله وصفاته كفر، وإنكار القدر كفر، فنقول هذا القول ونطلقه كما أطلقته الأدلة، قال: "كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال"، أي كما نقول: من اقتطع من مال آخيه شيئاً بغير حق فهو ظالم، من اغتاب أخاه فقد ظلمه، فمثلما يقال في الظلم يقال في الكفر والفسق والضلال، فتبقى نصوص الوعيد على إطلاقها وعلى بابها.
والمصنف رحمه الله يريد أن يرد على بعض الناس الذين يظنون أن من الورع ألا يكفِّروا أحداً، فيقولون عن عبادة القبور والطواف بها: هذه أمور منكرة ومحرمات، أو هذه أشياء لا تنبغي ولا تليق بالمسلمين! وهذا الظن منهم خاطئ، لأننا نكون بذلك قد سلبنا النصوص دلالتها ولم نعمل بها ولم نعلنها ونبينها.(21/100)
وقد استدل المصنف رحمه الله على ما قررناه بكلام الأئمة، مع أن القرآن والسنة مليئان بالتكفير؛ لكن لأن بعض الناس ينتسب إلى هؤلاء الأئمة، فقال المصنف رحمه الله: [وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها] فإذا كان كثير من الأئمة قد كفروا من قال: القرآن مخلوق، وكفروا أيضاً من قال: إن الله لا يرى في الآخرة، وهذا وارد ومنقول في كتب العقيدة، وكذلك من قال: إن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها -أي: من أنكر مرتبة العلم من مراتب القدر وهي المرتبة الأولى، وإنما نص على هذه المرتبة لأن القدرية ينكرونها، ولذا قال الإمام أحمد والإمام الشافعي رضي الله عنهما: "ناظروا القدرية بالعلم"، فمن أنكر علم الله بالأشياء قبل وقوعها فقد كفر، فهذا نص عليه السلف ، فهل هناك أحد يدعي أنه أكثر ورعاً أو تحرزاً من السلف ؟!
فأراد المصنف رحمه الله أن يبين لأتباع الأئمة الأربعة وغيرهم أن الأئمة كفروا من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن ذلك على العموم لا للأشخاص.(21/101)
يقول المصنف: [وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: (ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة حتى اتفق رأيي ورأيه أن من قال بخلق القرآن فهو كافر)] وقد نص المصنف رحمه الله على أبي حنيفة بالاسم؛ لأنه حنفي وهو يؤلف للحنفية، فحتى لا يقال: أنت خرجت عن مذهب إمامك؛ أراد أن يقول: إن مذهب الإمام أبي حنيفة -كما قال عنه تلميذه أبو يوسف -: إنه يكفر من قال: إن القرآن مخلوق، ولا شك أن أي حنفي مُسلِّم بأن الإمام أبا حنيفة أورع منه، وكل الحنفية مسلِّمون أنه متبوع ومجتهد وأن آراءه صحيحة، حتى إن بعضهم يغلو فيه غلواً عجيباً، فلشدة غلوهم وكون الشيخ المصنف منهم، ولأنه يريد أن يخاطبهم؛ نص على أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله نص -كما روى عنه تلميذه أبو يوسف -: "أن من قال: القرآن مخلوق فقد كفر"، ولا يعني ذلك أن الإمام أبا حنيفة كفَّر كل معين! وإنما أطلق القول، ولهذا قال المصنف رحمه الله: "وأما الشخص المعين إذا قيل... إلخ"، أي أنه سيأتي الكلام على المعين، وأما ما هنا فإنما هو في الحكم على القول على العموم، أي أنه لابد من التفريق بين الحكم على المقالة والحكم على قائلها، والتفريق بين إطلاق الوعيد العام وبين تنزيله على المعين، والتفريق بين العقوبة وبين تنفيذها في حق المعين.
منهج أهل السنة والجماعة في تكفير المعين
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الخامسة)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت.(21/102)
ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: (باب النهي عن البغي)، وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده يوماً على ذنب، فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده! لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته }، وهو حديث حسن. ] اهـ.
الفرق بين إطلاق الكفر على الفعل وإطلاقه على المعين
الشرح:
لقد أطال المصنف رحمه الله في هذا الموضوع، وكلامه واضح -والحمد لله- وسوف نستعرض كلامه ثم نعضده بكلام بعض العلماء الآخرين، مثل شيخ الإسلام وابن القيم ، وبعض علماء الدعوة، كالشيخ سليمان بن سحمان رحمهم الله وأمثالهم، ولكن لوضوحه ولتفصيله نستعرضه أولاً لنفهم مراده منه.
فقوله رحمه الله: "وأما الشخص المعين"، (أما) للتفصيل، وهذا دليل على أنه قد ذكر قبلها شيئاً آخر، وهو ما يتعلق بالفرقة، أي: (من قال كذا) أو (من اعتقد كذا)، على سبيل الإجمال، ولا يقصد بذلك إنساناً معيناً بذاته، كما قال المصنف سابقاً: "قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها"، ومثله ما ذكره أيضاً عن أبي حنيفة رحمه الله كغيره من علماء السلف أن: (من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر)، وكما يقال أيضاً: من أنكر أسماء الله وصفاته، أو أنكر الرؤية فهو كافر، وهكذا...(21/103)
فهذه العبارات كان السلف الصالح يطلقونها وهم أشد الناس تحرزاً، وأبعد الناس عن الوقوع في البغي أو الظلم أو الجور أو مجانبة العدل، ولا شك أن هذه الأقوال حق، لكن السلف الصالح رضي الله عنهم قالوها مطلقة لا معينة، ولذلك نجدهم في المعين قد يختلفون؛ فمثلاً: بشر المريسي منهم من كفره ومنهم من لم يكفره، وكذلك النظام ، لكن قد يتفقون على تكفير ضال خرج من الدين ومرق من الملة كالحلاج ؛ فإن كل من نقل سيرته من المؤرخين والعلماء والفقهاء قد اتفقوا على تكفيره، وكذلك الفلاسفة كفروا بأعيانهم؛ مثل الكندي ، والفارابي ، وابن سينا ، والرازي الطبيب ، وأمثالهم ممن نص على تكفيرهم بأعيانهم في كلام السلف وغيرهم، كما تمتلئ كتب الرجال بأنواع من هذا ممن اشتهر كفره وزندقته وإلحاده وخروجه من الدين.
ويوجد كثير مختلف فيه، فمنهم من يعذره ومنهم من يكفره، كما ذكرنا عن بشر المريسي وغيره؛ وذلك لأن تطبيق الحكم على المعين قابل لاختلاف وجهات النظر، فالحكم العام على الفعل شيء، وتطبيقه وتنزيله على المعين شيء آخر.(21/104)
ولنأخذ بعض الأحكام المعلومة غير مسألة التكفير في الأحكام التنفيذية؛ كالحدود مثلاً: فإن الله سبحانه وتعالى قد نص في القرآن على حد الزنا فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، فهذا حد ذكره الله سبحانه وتعالى صريحاً في كتابه، وهو أن من ارتكب جريمة الزنا فإنه يجلد مائة جلدة، وهذا الحد نعتقده وندين الله به، وهذا هو الواجب على كل مسلم، ولا يجوز اعتقاد غير ذلك؛ لأن الله تعالى نص على هذه العقوبة، كما نص الله سبحانه وتعالى في القرآن على حد السرقة في قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، فنحن أيضاً نعتقد وندين الله سبحانه وتعالى بأن عقوبة السارق هي القطع، وهذا أمر غير قابل للنقاش، ومن اعتقد غير ذلك فقد رد ما في كتاب الله، لكن تطبيق هذه الحدود على معين لا بد أن تستوفي فيها الشروط وأن تنتفي الموانع، وذلك يحتاج إلى نظر يسمى: تحقيق المناط.(21/105)
وكذلك مسألة التكفير أو التبديع، فإذا قلنا: إن من فعل كذا فهو كافر، أو من فعل كذا فهو مبتدع، ولنا من الأدلة أنه قد ذُكِر ذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أنه مما ذكره السلف الصالح الذين لا يأخذون أحكامهم إلا من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا خطأ في ذلك، بل نقول: يجب أن يقال: إن الكافر كافر، وإن المبتدع مبتدع، وإن الضال ضال، فكل ما أخبر به الله ورسوله ونقل عن السلف الصالح يجب أن يقال وأن يبلغ؛ حتى تكون الأمة على علم ومعرفة بهذه الأحكام، لكن المعين لا نطلق عليه الاسم وما يترتب على الاسم إلا ببينة؛ لأن مجرد الإطلاق ليس هو الهدف وإنما ما يترتب عليه، فلابد أن يكون لدينا بينة وعلم وبرهان من الله سبحانه وتعالى حتى نطلق ذلك.
يخطئ كثير من الناس في فهم هذه الأمور، فمثلاً: شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يكفر عباد القبور، ففهم بعض الناس من ذلك أن كل من يذهب إلى قبر ويصلي عنده فإنه كافر مرتد خارج من الملة، وللشيخ رحمه الله كلام ينفي به عن نفسه هذه التهمة، فقال بعض الناس: إن الشيخ متناقض، أو كان له رأي ثم رجع عنه، أو غير ذلك.. وليس الأمر كذلك، فإن عقيدة الشيخ ودعوته التي دعا إليها هي أن من عبد غير الله فهو مشرك مرتد... إلخ.
أما في المعينين -كما هو مذهب أهل السنة والجماعة - فينظر في المسألة: فهل جاء هذا المعين لعبادة القبر أم لمجرد الزيارة؟ وهل هو خارج من الملة أو مبتدع؟ فإن بعض الناس لا يقع في الشرك عند القبور، وإنما يقع في بدعة.
فالمقصود أن هذا الأمر لما لم يفهم على حقيقته؛ كان ولا يزال موضع بحث ونقاش وخلاف بين كثير من الناس.
وبعض الناس يظن أن من الورع ألاَّ يطلق على فعل أو على وصف اسم الكفر أو البدعة، بل يقال: هذه أخطاء ومحرمات وأمور خطيرة... إلخ، ويقول: لا نتكلم بالكفر ولا نطلقه؛ لأنه أمر ليس بالسهل، وتترتب عليه أمور كثيرة.(21/106)
فنقول له: إن كنت تقول هذا في حق إنسان لم يكفره الله ولا رسوله فهذا صحيح، وإن كنت تقوله على سبيل التحرج؛ لأنك لا تعرف المعينين ولا تستطيع أن تجزم به، فهذا أيضاً صحيح.
أما إن كنت تتحرج أو تتحرز عن إطلاق شيء أطلقه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يجوز، كما أن الذي يطلق الألفاظ بغير حق يعد ظالماً باغياً.
حكم الشهادة على المعين بأنه من أهل الوعيد
يقول المصنف رحمه الله: [وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟]، أي: ممن ينزل بهم الوعيد، كما ذكرنا لو أن إنساناً شهد بأن فلاناً من أهل الوعيد بناءً على أنه أكل مال اليتيم، أو زنى، أو شرب خمراً، أو سرق، أو نحو ذلك، "أو أنه كافر"، أي: إذا ارتكب مكفراً في نظر أحد، قال الشيخ: "فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة".
ولم يقل الشيخ: لا نشهد على أحدٍ أو لا نكفر أحداً بالكلية، فإن هذا ليس هو مذهب أهل السنة ، ومن الناس من يقول: لا نكفر أحداً بالكلية، ولا ننطق بكلمة الكفر بأفواهنا، ولا نطلقها في كتاباتنا، ومجرد أن يراها أو يسمعها يقشعر جلده وتشمئز نفسه، ويقول: هذه سبب الفتنة، وهي التي أدت إلى الخلاف منذ قديم الزمان، وهي التي منعتنا من توحيد الصفوف ومن جمع الكلمة.. ويأتي بعلل ما أنزل الله بها من سلطان!!
فنقول: ليس هذا هو المنهج الصحيح، فإن الشيخ يقول: "لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة"، والشهادة تجوز في الأمر المتيقن، فمن رأى إنساناً يسرق ويأخذ مالاً من حرز، أو يشرب خمراً، فإنه يشهد عليه.
فمن كان متيقناً من أمر فإنه يشهد به ولا حرج في ذلك، فيكون قد أدى ما عليه من الشهادة، بل قد يأثم إذا لم يشهد كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]، فلو كتم شيئاً من الشهادة يترتب عليها حقوق أو مصالح للعباد فإنه آثم.(21/107)
فالشهادة يدلى بها وتقال وتبين، فلا ننفي مطلقاً بأن لا نشهد على معين بالكفر، وأيضاً لا نطلق الحكم جزافاً، فنقول: هذا المعين كافر، وهذا هو التوسط.
أما الفرق الضالة فإنها خالفت أهل السنة في هذا الأمر، فالمرجئة وأشباههم ابتعدوا عن إطلاق الكفر بالكلية!
والخوارج يكفرون الرجل بعينه! وإن كان من أفضل الناس ومن خيارهم؛ لأنه فعل فعلاً قد لا يكون كفراً ولا كبيرة، ولكنه في نظرهم كذلك.
وأهل السنة والجماعة هداهم الله تعالى للطريق الوسط بين هذين، فهم لا يكفرون أو يبدعون أو يضللون أو يفسقون إلاَّ بأمر تجوز معه الشهادة، أي: في حق المعين.
يقول المصنف رحمه الله: [فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار].
فمن ادعى أن فلاناً من الناس كافر، وهو على غير يقين وعلى غير علم بحاله وبحقيقة أمره، فقد بغى عليه أعظم البغي؛ لأن من لوازم ذلك ومما يترتب عليه: أن هذا الرجل سيكون خالداً مخلداً في النار، وأن الله لن يغفر له ولن يرحمه.
وأنه في هذه الدنيا ليس من المسلمين، ولا يقبل منه أي عمل، ويموت كافراً، ولا تتوفاه إلا ملائكة العذاب التي تتوفى الكافرين، ويعذب في قبره عذاب الكافرين، ويحشر يوم القيامة مع الكفار، ويكون مصيره النار والخلود فيها … إلخ، وكل هذه الأحكام تابعة للقول بأن فلاناً من الناس كافر.(21/108)
إذاً: هذه أمور ليست هينة حتى تطلق جزافاً؛ بل تحتاج إلى تبصر مهما بلغت الذنوب، وليس هناك جرم بعد الشرك بالله كقتل النفس، وقد قتل رجل مائة نفس، وفي طريقه إلى القرية الصالحة مات، ولو أن أحداً من الناس رأى حاله وظاهره لقال: هو كافر، وهو في النار، لا سيما وأنه قد يستشهد بآية القتل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، ويقول: هذا إنسان فعل ما فعل فلا حرج أن أقول: هو خالد مخلد في النار! فنقول: هذا الاستدلال غير صحيح، فهذا الرجل قد تاب، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم توبته، وما ذهب إلى تلك القرية إلاَّ مهاجراً تائباً.
فسيقول الذي كفره: أنا لا أعلم ذلك.
فنقول: ما دمت لا تعلم فلا تكفر، فإنه مهما قتل أو زنى أو سرق أو ارتكب أي معصية أو كبيرة، لم يحكم الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على فاعلها بالكفر؛ فلا يجوز أن تقول: قد كفر، وأنت لم تتأكد هل يستحق الكفر أم لا؟
وأيضاً من علمت كفره يقيناً فإنك تشهد عليه بالكفر دون أن تجزم أنه سيموت على ذلك؛ فما يدريك لعله قد يتوب! وهذا أمر مهم، ولا يعني ذلك أن الإنسان لا يكفر أحداً وإن ظهر كفره، وذلك حتى لا نقع في الطرف الآخر وهو التفريط، فإن بعض الناس قد يرى الكافر ويقول: لا أستطيع أن أكفره؛ لأنه يمكن أن يتوب.
فنقول: إذا تاب ورجع إلى الإسلام فارجع أنت أيضاً بالحكم له بالإسلام، وما دام أنه على هذا الكفر فاشهد له بالكفر.. فالمسألة فيها طرفان ووسط.
فمن هلك ومضى وأنت تعلم يقيناً أنه مات على الكفر ولا تعلم له توبة، فاشهد أنه مات على الكفر.
فإن قيل: أنت لا تعلم حاله في الباطن؟(21/109)
قلنا: نحن لا نتكلم عن الباطن، لكن الله تعبدنا أن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، فلو لم نكفر من مات على الكفر لاختل الأمر وأصبح الناس في شك؛ لأنه يمكن أن يموت بعض الكفار على الإسلام، فإذا جوزنا الإمكان فإنه يرد على كل.
فنقول: إذا وجدت قرائن تصلح لأن تكون شبهات تحول دون الإطلاق فلا نطلق الحكم، وإن لم يكن إلا مجرد الاحتمال فلا يجوز البناء على الاحتمال ما دام أن الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم نص على خلافه، فما حكم الله سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم على قائله أو فاعله أو معتقده بالكفر، ونحن نعلم يقيناً أن رجلاً كان عليه إلى أن مات، فلا يرد احتمال أنه تاب قبل أن يموت، ونقول: من كان عنده بينة فليخبرنا، أما ما نعلمه يقيناً عنه فإنه لا يزول بمجرد الاحتمال أو الشك؛ فإن اليقين لا يزول بالشك.
يقول المصنف رحمه الله: [فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت]، أي: أن الشهادة بذلك هي حكم من يموت وهو يهودي أو نصراني أو من أهل الكفر والشرك الأصلي، أما المسلم أو من كان من أهل القبلة فإننا لا نطلق ذلك عليه إلا في مثل ما تجوز عليه الشهادة، بأن نشهد له على يقين؛ لأن هذه الأحكام لازمة ومترتبة على هذا القول.
ونوضح ذلك بمثال على الشهادة لمعين من أهل الكفر بأنه من أهل النار:
مثال ذلك: رجل يهودي نشأ مع اليهود ومات على دين اليهودية ، فهل نشهد له بالنار أم لا؟
الجواب: لا شك في هذا، ولا يأخذنا الورع فنقول: لا ندري! ولا يعني ذلك أنه (100%) لم يسلم منهم أحد؛ لكن مجرد الاحتمال لا يلغي الأصل.(21/110)
أما حكمه عند الله فهذا شيء آخر، فمن مات في بيئة لم يبلغه الدين ولا الحق، ولا سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن القرآن ولا عن الإيمان شيئاً، فهذا حكمه حكم أهل الفترة، والراجح في حكم أهل الفترة أنهم يمتحنون يوم القيامة، وبذلك يصدق عليهم أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً، ولن يدخلهم النار إلاَّ وهم مستحقون، فينتفي الظلم وتتحقق الرحمة والحكمة والعدل من الله سبحانه وتعالى بأن يمتحنهم، وهذا أصل كلي يدل على ذلك ويشهد له.
فمن الأدلة التفصيلية حديث الامتحان، وقد روي بأسانيد بعضها حسن وبعضها ضعيف، لكن يشد بعضها بعضاً، وقد فصل ابن كثير رحمه الله في طرقه تفصيلاً لا بأس به عند تفسير قول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
شرح حديث: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين)
قال المصنف رحمه الله: [ولهذا ذكر أبو داود ...]، هذا الحديث دليل على ما ذكره الشيخ رحمه الله من أنه لا يجزم ولا يقطع للمعين بغير علم، وأنه من البغي والظلم ومن القول على الله تعالى بغير علم. قال المصنف: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: {كان رجلان في بني إسرائيل... }].
(كان) هنا تامة بمعنى: وُجد، ويصح أن تكون ناقصة ويكون (متواخيين) خبرها، وقوله: (متواخيين)، أي: أصدقاء، ولا يشترط أن يكونا أخوين من النسب، وإنما كان بينهما تآخٍ ومحبة ومودة.
{فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة }.(21/111)
كان أحدهما على الصلاح والاستقامة، ولم يكتب للآخر أن يستقيم على الدين، وهذا في أول الأمر وظاهر الحال، فقد اختلفا في الطريق ولكن جمعت بينهما رابطة الأخوة والصداقة، {فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر }، وهذا عمل خير، فقد اجتمعت في هذا الرجل صفتان: الصفة الأولى: أنه مجتهد في العبادة. والصفة الثانية: أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولم تمنعه الصداقة والعلاقة والأخوة أن ينكر على صاحب المنكر.
وبعض الناس يظن مادام أنه داعية يدعو الناس إلى الحق ويأمرهم وينهاهم، فكأن لديه موثقاً من الله أنه آمن وناجٍ من عذاب الله، وأنه لن يضره شيء! وهذا خطأ، فإن الواجب هو الحذر؛ لأننا قد نقع في مدحضة أو مزلة ونحن لا نشعر، فلينتبه الدعاة إلى الله لهذه المسألة، فإن هذا رجل مجتهد في العبادة وداعية إلى الله، ولولا أنه داعية لما كان يدعو هذا المؤاخي له؛ لأن العادة أن بعض الناس يدعو الآخرين؛ لكنه لا يدعو صديقه وقريبه، ومحك الحقيقة هو دعوة الصديق أو القريب أو الزوجة أو الزوج أو الأبناء وما أشبه ذلك؛ لأن عادة الناس جرت أن يداهنوا من كان لهم معه علاقة أو صلة أو ما أشبه ذلك.
فهذا الرجل داعية ومجتهد في الخير، فكان لا يزال يرى الآخر على الذنب، فيقول: (أقصر) يعظه ويذكره وينصحه بأن يدع هذا الذنب، {فوجده يوماً على ذنب }، أي: مما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، إما ترك الواجبات، كأن يكون غافلاً عن الصلاة، أو عن غيرها من الواجبات، أو فعل المنهيات، كأن يفعل فاحشة أو موبقة أو ما أشبه ذلك، المهم أنه وجده على ذنب، {فقال له: أقصر }، فكرر عليه النصح وكرر له الدعوة.(21/112)
فقال: {خلني وربي! أبعثت علي رقيباً؟ }، وقد يُفهم من الحديث: أنه إذا قال لك أخذ هذه العبارة فمعنى ذلك ألا تدعوه ولا تكلمه، وليس هذا هو المقصود، فليس كل عبارة يقولها الإنسان -وإن كانت حقاً أو شبيهة بالحق- تجعلك تترك دعوته أو نصحه، والمشكلة في هذا الرجل ليست في أمره ونهيه، وإنما في بغيه وظلمه عندما قال: {والله لا يغفر الله لك }، لكنه لو لم يقل ذلك حتى وإن قال له المدعو أو صاحب المنكر: {أبعثت علي رقيباً؟! } وقال: لم أبعث عليك رقيباً، وإنما أمرت أن آمرك وأنهاك، لكان هذا هو الرد الذي ينبغي أن يقوله.
فقال: {خلني وربي! أبعثت علي رقيباً؟! }، وهذا دليل على أن الرجل فيه شيء من الخير، لكنه أظهر تضجره وتبرمه من صديقه الذي يدعوه دائماً، فيقول: كأنك واقف فوق رأسي مترصد لجميع أخطائي! {خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟! }، فهو مذنب، لكنه لم يقل ما يقوله المجاهرون والفساق في هذا الزمان: أنا على صواب، وهذا ذنب فيه اختلاف، وبعض العلماء يقول: لا بأس به! لا. بل فيه نزعة خير {خلني وربي }، أي: أنا إن أذنبت ففي حق الله، وأنت لم تبعث علي رقيباً.
إذاً: هو متضجر ومتذمر من هذا الإنكار.
ونستنتج من هذا: أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عليه ألا يتسرع فيظلم كما ظلم هذا الرجل، وأيضاً لا يدفع المدعو إلى الملل والضجر؛ لأنه إذا دفع المدعو أو المنكَر عليه إلى أن يمل ويتضجر منه؛ فإنه لن يقبل الحق الذي يدعوه إليه، وهذا أمر مشاهد، فإن بعض الناس يدعوه البعض أياماً وسنين ولا يقبل، ثم يأتيه آخر فيهتدي بإذن الله ويقبل منه الخير؛ لأن هذا الأسلوب كان ألطف وأرق وألين.(21/113)
وأيضاً فإن المتابعة الشديدة والمحاسبة والمراقبة ليست وسيلة نافعة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يشترط التوبيخ الدائم وراء كل ذنب، والتأنيب المستمر عقب كل خطيئة، فلابد أن يكون الداعية حكيماً، فإنه لم يبعث رقيباً، لكن يجب عليه أن ينكر المنكر، وقد وقع الدعاة في هذا الأمر فإن من الدعاة من ترك الدعوة بالكلية فلا يأمر ولا ينهي ولا يدعو، ومنهم من عنده هذه الرقابة التي تجعله دائماً وراء كل عمل ووراء كل خطأ يحاسب عليه.
{فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة }، لما رأى ملله وتضجره منه، رد عليه بهذا الرد والعياذ بالله! فأتاه الشيطان في هذه الحالة النفسية، فقال كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: {قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته }.
فقد شعر بأن هذا المدعو ميئوس منه، فتجاوز الأمر والنهي والموعظة والتذكير وأبى إلا أن يتدخل في أمر هو من اختصاص الله سبحانه وتعالى، فتألى على الله، وقال على الله بغير علم ولا حجة ولا برهان: {والله لا يغفر الله لك } وما أدراك يا مسكين؟! كيف تقول هذا؟! كيف تقسم وتجزم بذلك؟ أعندك من الله موثق أو عهد حتى تقول هذا الكلام؟!
لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته على قبائل وأحياء من العرب آذته، وحقاً كان صلى الله عليه وسلم على صواب ويقين من أذية من آذاه ومما فعلوا به وبأصحابه، وكانوا كفاراً حقاً، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، سبحان الله! ليس لك من الأمر شيء، فإن أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى، فقد يتوبون أو يعذبهم.(21/114)
فيؤخذ من ذلك: أن الداعية عليه ألاَّ يتجاوز أمر الله سبحانه وتعالى في دعوته، بل يقتصر على الدعوة كما أمر الله سبحانه وتعالى، ثم تجتمع الخصوم عند الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث: {حتى إنه يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء }، ولما مر النبي صلى الله عليه وسلم بعنزتين تنتطحان قال: {والله إن الله ليعلم فيم تنتطحان وسيقضي بينهما }، فلا يوجد خصمان إلاَّ والله تبارك وتعالى يعلم فيما اختصما وسيقضي بينهما يوم القيامة، حتى الدواب، فإن كانت الشاة القرناء طغت وبغت على الجلحاء التي لا قرون لها، فيوم القيامة يكون القصاص، وهذه سنة لا يدركها الظالمون والمتجبرون الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى قوة أو سلطة فيظلمون الضعفاء، وهناك عند الله سبحانه وتعالى تجتمع الخصوم.
فجاء الرجلان المتخاصمان فوقفا بين يدي رب العالمين، والمطالب هنا هو الموعود بأن الله لا يغفر له ولا يرحمه ولا يدخله الجنة، ولكن الذي تولى الخصومة هو رب العالمين؛ لأن الموضوع يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الرجل تألى على الله سبحانه وتعالى ولم يقتصر على ما أمره الله به.
فالخصم هنا هو رب العالمين، وإن كان المظلوم هو الذي تعرض لتلك التهمة وذلك التخويف بغير حق، وذلك أنه ربما يكون قد صدقه، فإن بعض المدعوين إذا جاء شخص وأيسه وقنطه صدقه؛ لأنه يظن أنه على علم وعلى خير، فإذا قال: هذه ردة، وهذا كفر، ولن يغفر لك، صدقه، وهنا فائدة دعوية: وهي أن المذنب إذا قيل له أنه غير مغفور له أو لا توبة له، فلن يتوب بل سيستمر ويتعمد المعصية، كما في قصة قاتل المائة، لما أفتاه العابد الجاهل بأنه لا توبة له؛ أكمل به المائة، فاعتقد أن من قتل تسعة وتسعين أو مائة أو ألفاً سواء من جهة أنه لا توبة له، فليكثر من القتل إذاً، عياذاً بالله!(21/115)
نقول: فكان الخصم هو رب العالمين سبحانه وتعالى، فقال لهذا المجتهد العابد الداعية المخطئ: {أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟! } (أكنت بي عالماً) أي: أعلمت أني لا أغفر لمن فعل الذنب؟ كيف علمت ذلك؟ بل المقطوع به أن الله سبحانه وتعالى يخبر على لسان رسله أنه يغفر لمن يشاء، وهذا عيسى عليه السلام يقول عندما سأله الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116] إلى أن يقول: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، وقد ورد أن الله سبحانه وتعالى قد يعذب الشخص وقد لا يعذبه: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [المائدة:40]، وعليه: فمن أين قلت: إن الله لا يغفر لفلان المعين؟
فالذي أنزله الله وأعلم به عباده على لسان أنبيائه هو أنه يغفر الذنوب لمن يشاء، وأن الذي يحرمه من الجنة ويحرمه من رحمته هو الكافر، فهل لديك علم بأن هذا المعين كافر، وأن الله لن يرحمه ولن يدخله الجنة؟
قال: {أو كنت على ما في يدي قادراً؟! }، أي: هل أعطاك الله تبارك وتعالى النار وأقدرك على أن تدخل من تشاء وتخرج من تشاء، فجزمت وقطعت أن هذا سيدخلها؟
فليس هو على علم من الله، وليس قادراً على ما في يدي الله سبحانه وتعالى، فالجنة والنار والعذاب والسعادة والشقاء والتوفيق والخذلان من الله سبحانه وتعالى وليس لأحد من الناس.
إذاً: هذا ظلم وبغي في حق الله وفي حق هذا العبد أيضاً.(21/116)
قال: {وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي }، ويؤخذ من هذا أنه كان مستحقاً للعقوبة؛ لأنه لو لم يكن مستحقاً للعقوبة لكان العتاب للمتألي بأن يقال له: عاتبت غير معاتب، وعاقبت غير معاقب، فكيف تتوعده وهو لم يذنب؟ لكنه قد أذنب، وإنما أدخله الله سبحانه وتعالى الجنة برحمته، وقد مات أيضاً وهو مُصِرٌّ على الذنب، ولو كان قد تاب لكان الجواب: كيف تقطع له بالنار وقد تاب؟ لكن قال له ربه تبارك وتعالى: {اذهب فادخل الجنة برحمتي }، فرحمة الله تبارك وتعالى وسعت كل شيء، ومن يشأ الله تعالى أن يرحمه رحمه وإن فعل ما فعل من الموبقات والذنوب، ولا يعني ذلك أن يطمئن أصحاب الوعيد ويأمنون! لكن نقول: ذلك راجع إلى مشيئة الله، وإلا فالاحتمال الآخر صعب جداً وهو النار، فلا أقل من أن يتوب العبد لينجو من عذاب الله سبحانه وتعالى ولو قبيل الموت.
قال: {وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار }، فبعد الدعوة والعبادة والاجتهاد في الخير كانت خاتمة السوء. قال أبو هريرة رضي الله عنه : {والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته }، أما دنياه فذهاب العمل والعبادة كلها هباء، وأما الآخرة فدخوله النار، نسأل الله العفو والعافية.(21/117)
وقد تعرضنا لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في سوء الخاتمة: {إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها }، وقلنا: إن هذا الحديث لا يعني أن الإنسان يعمل بعمل أهل الجنة في ظاهر الأمر كما هو في بعض الروايات، وحمله عليه بعض العلماء قديماً وحديثاً، فلا يشترط ذلك؛ لأننا إذا قلنا: إن العبد إنما يعمل الخير في الظاهر، فهو في الباطن منافق وغير صادق، وإذا قلنا هذا فإن الحكمة المقصودة من الحديث تنتفي، وكأنه لم يبق له معنى؛ لأن من كان يعمل بعمل أهل الجنة في الظاهر فقط وهو في الباطن يعمل بعمل أهل النار؛ فهو في الحقيقة يعمل بعمل أهل النار، فما ينفعه الظاهر ولا يثاب عليه.
فالحديث فيه التخويف من سوء الخاتمة، ويبقى التخويف على بابه، ويبقى للحديث معناه من الزجر والوعيد؛ ليحذر العابد الصادق، والداعية المحسن، والمنيب القانت من الوقوع فيما قد تسوء به خاتمته، فهذا الرجل ثبتت له الشهادة بأنه مجتهد في العبادة وخطؤه أو ذنبه كان في الدعوة إلى الله لا في الذنوب والموبقات، مع أن الدعوة إلى الله عمل الأنبياء، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف:108]، لكن من هذا الباب زلَّ ووقع، فكانت خاتمته ونهايته هي النار بهذه الكلمة، وهذا مما يؤكد ويؤيد المعنى الذي قلناه، فيظل هذا الحديث على ظاهره وعلى بابه؛ تخويفاً للصالح المنيب القانت، بأنه ربما حبط عمله بكلمة أو بزلة ولم يلق لها بالاً، كما جاء في الحديث الآخر: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً }، وقد يقول الكلمة من رضا الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها الدرجات.(21/118)
فالواجب في باب التربية والتزكية: هو الاحتراز والتنبه، وعدم الاغترار والإعجاب بالعمل أو الركون إليه، وإن كان عبادات أو صلاة أو قراءة قرآن أو عمل خير ودعوة، فهذا شأن عباد الله الخائفين المراقبين، وإنما الأعمال بالخواتيم.
والشاهد من الحديث: أن إطلاق الوعيد على مستحقه في الجملة وعلى العموم يظل على بابه، وأما المعين فلا يجوز أن يقال في حقه إلاَّ ما يجوز للإنسان أن يشهد به عليه، وهذا الرجل قال وحكم بأمر لا تجوز معه الشهادة.
وهنا مسألة: هل يجوز لأحد أن يشهد بأن فلاناً يدخل النار أو لن يرحمه الله؟
الجواب: لا يجوز ذلك، أما ما كان عن يقين أو أمر تجوز معه الشهادة، بأن يكون هذا الشخص المعين قد استوفى شروط العقوبة، وانتفت عنه موانعها؛ فهذا يشهد له بذلك، متى تيقن الإنسان من ذلك، سواءً كان في التسمية، أو كان في الحكم وفي تحقيق المناط وفي تطبيق الحكم على موضعه وعلى محله.
الخطأ من أسباب عدم الشهادة على المعين بأنه من أهل الوعيد
يقول المصنف رحمه الله: [ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له]، وهذا أيضاً من رحمة الله وعفوه، فلو أن الله تبارك وتعالى يؤاخذ الناس بخطئهم لما نجا من عقوبته إلا المعصومون، وهم الأنبياء، ولكن الاجتهاد الخطأ مهما بلغ -كما قال شيخ الإسلام رحمه الله- كائناً ما كان، فهو مغفور له وصاحبه معذور، وقد يكون له أجر واحد إذا كان الخطأ باجتهاد، كما أن المجتهد المصيب له أجران، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الفرق بين إطلاق الكفر على الفعل وإطلاقه على المعين
من درس: منهج أهل السنة والجماعة في تكفير المعين
الشرح:(21/119)
لقد أطال المصنف رحمه الله في هذا الموضوع، وكلامه واضح -والحمد لله- وسوف نستعرض كلامه ثم نعضده بكلام بعض العلماء الآخرين، مثل شيخ الإسلام وابن القيم ، وبعض علماء الدعوة، كالشيخ سليمان بن سحمان رحمهم الله وأمثالهم، ولكن لوضوحه ولتفصيله نستعرضه أولاً لنفهم مراده منه.
فقوله رحمه الله: "وأما الشخص المعين"، (أما) للتفصيل، وهذا دليل على أنه قد ذكر قبلها شيئاً آخر، وهو ما يتعلق بالفرقة، أي: (من قال كذا) أو (من اعتقد كذا)، على سبيل الإجمال، ولا يقصد بذلك إنساناً معيناً بذاته، كما قال المصنف سابقاً: "قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها"، ومثله ما ذكره أيضاً عن أبي حنيفة رحمه الله كغيره من علماء السلف أن: (من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر)، وكما يقال أيضاً: من أنكر أسماء الله وصفاته، أو أنكر الرؤية فهو كافر، وهكذا...
فهذه العبارات كان السلف الصالح يطلقونها وهم أشد الناس تحرزاً، وأبعد الناس عن الوقوع في البغي أو الظلم أو الجور أو مجانبة العدل، ولا شك أن هذه الأقوال حق، لكن السلف الصالح رضي الله عنهم قالوها مطلقة لا معينة، ولذلك نجدهم في المعين قد يختلفون؛ فمثلاً: بشر المريسي منهم من كفره ومنهم من لم يكفره، وكذلك النظام ، لكن قد يتفقون على تكفير ضال خرج من الدين ومرق من الملة كالحلاج ؛ فإن كل من نقل سيرته من المؤرخين والعلماء والفقهاء قد اتفقوا على تكفيره، وكذلك الفلاسفة كفروا بأعيانهم؛ مثل الكندي ، والفارابي ، وابن سينا ، والرازي الطبيب ، وأمثالهم ممن نص على تكفيرهم بأعيانهم في كلام السلف وغيرهم، كما تمتلئ كتب الرجال بأنواع من هذا ممن اشتهر كفره وزندقته وإلحاده وخروجه من الدين.(21/120)
ويوجد كثير مختلف فيه، فمنهم من يعذره ومنهم من يكفره، كما ذكرنا عن بشر المريسي وغيره؛ وذلك لأن تطبيق الحكم على المعين قابل لاختلاف وجهات النظر، فالحكم العام على الفعل شيء، وتطبيقه وتنزيله على المعين شيء آخر.
ولنأخذ بعض الأحكام المعلومة غير مسألة التكفير في الأحكام التنفيذية؛ كالحدود مثلاً: فإن الله سبحانه وتعالى قد نص في القرآن على حد الزنا فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، فهذا حد ذكره الله سبحانه وتعالى صريحاً في كتابه، وهو أن من ارتكب جريمة الزنا فإنه يجلد مائة جلدة، وهذا الحد نعتقده وندين الله به، وهذا هو الواجب على كل مسلم، ولا يجوز اعتقاد غير ذلك؛ لأن الله تعالى نص على هذه العقوبة، كما نص الله سبحانه وتعالى في القرآن على حد السرقة في قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، فنحن أيضاً نعتقد وندين الله سبحانه وتعالى بأن عقوبة السارق هي القطع، وهذا أمر غير قابل للنقاش، ومن اعتقد غير ذلك فقد رد ما في كتاب الله، لكن تطبيق هذه الحدود على معين لا بد أن تستوفي فيها الشروط وأن تنتفي الموانع، وذلك يحتاج إلى نظر يسمى: تحقيق المناط.(21/121)
وكذلك مسألة التكفير أو التبديع، فإذا قلنا: إن من فعل كذا فهو كافر، أو من فعل كذا فهو مبتدع، ولنا من الأدلة أنه قد ذُكِر ذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أنه مما ذكره السلف الصالح الذين لا يأخذون أحكامهم إلا من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا خطأ في ذلك، بل نقول: يجب أن يقال: إن الكافر كافر، وإن المبتدع مبتدع، وإن الضال ضال، فكل ما أخبر به الله ورسوله ونقل عن السلف الصالح يجب أن يقال وأن يبلغ؛ حتى تكون الأمة على علم ومعرفة بهذه الأحكام، لكن المعين لا نطلق عليه الاسم وما يترتب على الاسم إلا ببينة؛ لأن مجرد الإطلاق ليس هو الهدف وإنما ما يترتب عليه، فلابد أن يكون لدينا بينة وعلم وبرهان من الله سبحانه وتعالى حتى نطلق ذلك.
يخطئ كثير من الناس في فهم هذه الأمور، فمثلاً: شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يكفر عباد القبور، ففهم بعض الناس من ذلك أن كل من يذهب إلى قبر ويصلي عنده فإنه كافر مرتد خارج من الملة، وللشيخ رحمه الله كلام ينفي به عن نفسه هذه التهمة، فقال بعض الناس: إن الشيخ متناقض، أو كان له رأي ثم رجع عنه، أو غير ذلك.. وليس الأمر كذلك، فإن عقيدة الشيخ ودعوته التي دعا إليها هي أن من عبد غير الله فهو مشرك مرتد... إلخ.
أما في المعينين -كما هو مذهب أهل السنة والجماعة - فينظر في المسألة: فهل جاء هذا المعين لعبادة القبر أم لمجرد الزيارة؟ وهل هو خارج من الملة أو مبتدع؟ فإن بعض الناس لا يقع في الشرك عند القبور، وإنما يقع في بدعة.
فالمقصود أن هذا الأمر لما لم يفهم على حقيقته؛ كان ولا يزال موضع بحث ونقاش وخلاف بين كثير من الناس.
وبعض الناس يظن أن من الورع ألاَّ يطلق على فعل أو على وصف اسم الكفر أو البدعة، بل يقال: هذه أخطاء ومحرمات وأمور خطيرة... إلخ، ويقول: لا نتكلم بالكفر ولا نطلقه؛ لأنه أمر ليس بالسهل، وتترتب عليه أمور كثيرة.(21/122)
فنقول له: إن كنت تقول هذا في حق إنسان لم يكفره الله ولا رسوله فهذا صحيح، وإن كنت تقوله على سبيل التحرج؛ لأنك لا تعرف المعينين ولا تستطيع أن تجزم به، فهذا أيضاً صحيح.
أما إن كنت تتحرج أو تتحرز عن إطلاق شيء أطلقه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يجوز، كما أن الذي يطلق الألفاظ بغير حق يعد ظالماً باغياً.
حكم الشهادة على المعين بأنه من أهل الوعيد
من درس: منهج أهل السنة والجماعة في تكفير المعين
يقول المصنف رحمه الله: [وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟]، أي: ممن ينزل بهم الوعيد، كما ذكرنا لو أن إنساناً شهد بأن فلاناً من أهل الوعيد بناءً على أنه أكل مال اليتيم، أو زنى، أو شرب خمراً، أو سرق، أو نحو ذلك، "أو أنه كافر"، أي: إذا ارتكب مكفراً في نظر أحد، قال الشيخ: "فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة".
ولم يقل الشيخ: لا نشهد على أحدٍ أو لا نكفر أحداً بالكلية، فإن هذا ليس هو مذهب أهل السنة ، ومن الناس من يقول: لا نكفر أحداً بالكلية، ولا ننطق بكلمة الكفر بأفواهنا، ولا نطلقها في كتاباتنا، ومجرد أن يراها أو يسمعها يقشعر جلده وتشمئز نفسه، ويقول: هذه سبب الفتنة، وهي التي أدت إلى الخلاف منذ قديم الزمان، وهي التي منعتنا من توحيد الصفوف ومن جمع الكلمة.. ويأتي بعلل ما أنزل الله بها من سلطان!!
فنقول: ليس هذا هو المنهج الصحيح، فإن الشيخ يقول: "لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة"، والشهادة تجوز في الأمر المتيقن، فمن رأى إنساناً يسرق ويأخذ مالاً من حرز، أو يشرب خمراً، فإنه يشهد عليه.
فمن كان متيقناً من أمر فإنه يشهد به ولا حرج في ذلك، فيكون قد أدى ما عليه من الشهادة، بل قد يأثم إذا لم يشهد كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]، فلو كتم شيئاً من الشهادة يترتب عليها حقوق أو مصالح للعباد فإنه آثم.(21/123)
فالشهادة يدلى بها وتقال وتبين، فلا ننفي مطلقاً بأن لا نشهد على معين بالكفر، وأيضاً لا نطلق الحكم جزافاً، فنقول: هذا المعين كافر، وهذا هو التوسط.
أما الفرق الضالة فإنها خالفت أهل السنة في هذا الأمر، فالمرجئة وأشباههم ابتعدوا عن إطلاق الكفر بالكلية!
والخوارج يكفرون الرجل بعينه! وإن كان من أفضل الناس ومن خيارهم؛ لأنه فعل فعلاً قد لا يكون كفراً ولا كبيرة، ولكنه في نظرهم كذلك.
وأهل السنة والجماعة هداهم الله تعالى للطريق الوسط بين هذين، فهم لا يكفرون أو يبدعون أو يضللون أو يفسقون إلاَّ بأمر تجوز معه الشهادة، أي: في حق المعين.
يقول المصنف رحمه الله: [فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار].
فمن ادعى أن فلاناً من الناس كافر، وهو على غير يقين وعلى غير علم بحاله وبحقيقة أمره، فقد بغى عليه أعظم البغي؛ لأن من لوازم ذلك ومما يترتب عليه: أن هذا الرجل سيكون خالداً مخلداً في النار، وأن الله لن يغفر له ولن يرحمه.
وأنه في هذه الدنيا ليس من المسلمين، ولا يقبل منه أي عمل، ويموت كافراً، ولا تتوفاه إلا ملائكة العذاب التي تتوفى الكافرين، ويعذب في قبره عذاب الكافرين، ويحشر يوم القيامة مع الكفار، ويكون مصيره النار والخلود فيها … إلخ، وكل هذه الأحكام تابعة للقول بأن فلاناً من الناس كافر.(21/124)
إذاً: هذه أمور ليست هينة حتى تطلق جزافاً؛ بل تحتاج إلى تبصر مهما بلغت الذنوب، وليس هناك جرم بعد الشرك بالله كقتل النفس، وقد قتل رجل مائة نفس، وفي طريقه إلى القرية الصالحة مات، ولو أن أحداً من الناس رأى حاله وظاهره لقال: هو كافر، وهو في النار، لا سيما وأنه قد يستشهد بآية القتل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، ويقول: هذا إنسان فعل ما فعل فلا حرج أن أقول: هو خالد مخلد في النار! فنقول: هذا الاستدلال غير صحيح، فهذا الرجل قد تاب، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم توبته، وما ذهب إلى تلك القرية إلاَّ مهاجراً تائباً.
فسيقول الذي كفره: أنا لا أعلم ذلك.
فنقول: ما دمت لا تعلم فلا تكفر، فإنه مهما قتل أو زنى أو سرق أو ارتكب أي معصية أو كبيرة، لم يحكم الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على فاعلها بالكفر؛ فلا يجوز أن تقول: قد كفر، وأنت لم تتأكد هل يستحق الكفر أم لا؟
وأيضاً من علمت كفره يقيناً فإنك تشهد عليه بالكفر دون أن تجزم أنه سيموت على ذلك؛ فما يدريك لعله قد يتوب! وهذا أمر مهم، ولا يعني ذلك أن الإنسان لا يكفر أحداً وإن ظهر كفره، وذلك حتى لا نقع في الطرف الآخر وهو التفريط، فإن بعض الناس قد يرى الكافر ويقول: لا أستطيع أن أكفره؛ لأنه يمكن أن يتوب.
فنقول: إذا تاب ورجع إلى الإسلام فارجع أنت أيضاً بالحكم له بالإسلام، وما دام أنه على هذا الكفر فاشهد له بالكفر.. فالمسألة فيها طرفان ووسط.
فمن هلك ومضى وأنت تعلم يقيناً أنه مات على الكفر ولا تعلم له توبة، فاشهد أنه مات على الكفر.
فإن قيل: أنت لا تعلم حاله في الباطن؟(21/125)
قلنا: نحن لا نتكلم عن الباطن، لكن الله تعبدنا أن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، فلو لم نكفر من مات على الكفر لاختل الأمر وأصبح الناس في شك؛ لأنه يمكن أن يموت بعض الكفار على الإسلام، فإذا جوزنا الإمكان فإنه يرد على كل.
فنقول: إذا وجدت قرائن تصلح لأن تكون شبهات تحول دون الإطلاق فلا نطلق الحكم، وإن لم يكن إلا مجرد الاحتمال فلا يجوز البناء على الاحتمال ما دام أن الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم نص على خلافه، فما حكم الله سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم على قائله أو فاعله أو معتقده بالكفر، ونحن نعلم يقيناً أن رجلاً كان عليه إلى أن مات، فلا يرد احتمال أنه تاب قبل أن يموت، ونقول: من كان عنده بينة فليخبرنا، أما ما نعلمه يقيناً عنه فإنه لا يزول بمجرد الاحتمال أو الشك؛ فإن اليقين لا يزول بالشك.
يقول المصنف رحمه الله: [فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت]، أي: أن الشهادة بذلك هي حكم من يموت وهو يهودي أو نصراني أو من أهل الكفر والشرك الأصلي، أما المسلم أو من كان من أهل القبلة فإننا لا نطلق ذلك عليه إلا في مثل ما تجوز عليه الشهادة، بأن نشهد له على يقين؛ لأن هذه الأحكام لازمة ومترتبة على هذا القول.
ونوضح ذلك بمثال على الشهادة لمعين من أهل الكفر بأنه من أهل النار:
مثال ذلك: رجل يهودي نشأ مع اليهود ومات على دين اليهودية ، فهل نشهد له بالنار أم لا؟
الجواب: لا شك في هذا، ولا يأخذنا الورع فنقول: لا ندري! ولا يعني ذلك أنه (100%) لم يسلم منهم أحد؛ لكن مجرد الاحتمال لا يلغي الأصل.(21/126)
أما حكمه عند الله فهذا شيء آخر، فمن مات في بيئة لم يبلغه الدين ولا الحق، ولا سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن القرآن ولا عن الإيمان شيئاً، فهذا حكمه حكم أهل الفترة، والراجح في حكم أهل الفترة أنهم يمتحنون يوم القيامة، وبذلك يصدق عليهم أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً، ولن يدخلهم النار إلاَّ وهم مستحقون، فينتفي الظلم وتتحقق الرحمة والحكمة والعدل من الله سبحانه وتعالى بأن يمتحنهم، وهذا أصل كلي يدل على ذلك ويشهد له.
فمن الأدلة التفصيلية حديث الامتحان، وقد روي بأسانيد بعضها حسن وبعضها ضعيف، لكن يشد بعضها بعضاً، وقد فصل ابن كثير رحمه الله في طرقه تفصيلاً لا بأس به عند تفسير قول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
شرح حديث: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين)
من درس: منهج أهل السنة والجماعة في تكفير المعين
قال المصنف رحمه الله: [ولهذا ذكر أبو داود ...]، هذا الحديث دليل على ما ذكره الشيخ رحمه الله من أنه لا يجزم ولا يقطع للمعين بغير علم، وأنه من البغي والظلم ومن القول على الله تعالى بغير علم. قال المصنف: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: {كان رجلان في بني إسرائيل... }].
(كان) هنا تامة بمعنى: وُجد، ويصح أن تكون ناقصة ويكون (متواخيين) خبرها، وقوله: (متواخيين)، أي: أصدقاء، ولا يشترط أن يكونا أخوين من النسب، وإنما كان بينهما تآخٍ ومحبة ومودة.
{فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة }.(21/127)
كان أحدهما على الصلاح والاستقامة، ولم يكتب للآخر أن يستقيم على الدين، وهذا في أول الأمر وظاهر الحال، فقد اختلفا في الطريق ولكن جمعت بينهما رابطة الأخوة والصداقة، {فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر }، وهذا عمل خير، فقد اجتمعت في هذا الرجل صفتان: الصفة الأولى: أنه مجتهد في العبادة. والصفة الثانية: أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولم تمنعه الصداقة والعلاقة والأخوة أن ينكر على صاحب المنكر.
وبعض الناس يظن مادام أنه داعية يدعو الناس إلى الحق ويأمرهم وينهاهم، فكأن لديه موثقاً من الله أنه آمن وناجٍ من عذاب الله، وأنه لن يضره شيء! وهذا خطأ، فإن الواجب هو الحذر؛ لأننا قد نقع في مدحضة أو مزلة ونحن لا نشعر، فلينتبه الدعاة إلى الله لهذه المسألة، فإن هذا رجل مجتهد في العبادة وداعية إلى الله، ولولا أنه داعية لما كان يدعو هذا المؤاخي له؛ لأن العادة أن بعض الناس يدعو الآخرين؛ لكنه لا يدعو صديقه وقريبه، ومحك الحقيقة هو دعوة الصديق أو القريب أو الزوجة أو الزوج أو الأبناء وما أشبه ذلك؛ لأن عادة الناس جرت أن يداهنوا من كان لهم معه علاقة أو صلة أو ما أشبه ذلك.
فهذا الرجل داعية ومجتهد في الخير، فكان لا يزال يرى الآخر على الذنب، فيقول: (أقصر) يعظه ويذكره وينصحه بأن يدع هذا الذنب، {فوجده يوماً على ذنب }، أي: مما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، إما ترك الواجبات، كأن يكون غافلاً عن الصلاة، أو عن غيرها من الواجبات، أو فعل المنهيات، كأن يفعل فاحشة أو موبقة أو ما أشبه ذلك، المهم أنه وجده على ذنب، {فقال له: أقصر }، فكرر عليه النصح وكرر له الدعوة.(21/128)
فقال: {خلني وربي! أبعثت علي رقيباً؟ }، وقد يُفهم من الحديث: أنه إذا قال لك أخذ هذه العبارة فمعنى ذلك ألا تدعوه ولا تكلمه، وليس هذا هو المقصود، فليس كل عبارة يقولها الإنسان -وإن كانت حقاً أو شبيهة بالحق- تجعلك تترك دعوته أو نصحه، والمشكلة في هذا الرجل ليست في أمره ونهيه، وإنما في بغيه وظلمه عندما قال: {والله لا يغفر الله لك }، لكنه لو لم يقل ذلك حتى وإن قال له المدعو أو صاحب المنكر: {أبعثت علي رقيباً؟! } وقال: لم أبعث عليك رقيباً، وإنما أمرت أن آمرك وأنهاك، لكان هذا هو الرد الذي ينبغي أن يقوله.
فقال: {خلني وربي! أبعثت علي رقيباً؟! }، وهذا دليل على أن الرجل فيه شيء من الخير، لكنه أظهر تضجره وتبرمه من صديقه الذي يدعوه دائماً، فيقول: كأنك واقف فوق رأسي مترصد لجميع أخطائي! {خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟! }، فهو مذنب، لكنه لم يقل ما يقوله المجاهرون والفساق في هذا الزمان: أنا على صواب، وهذا ذنب فيه اختلاف، وبعض العلماء يقول: لا بأس به! لا. بل فيه نزعة خير {خلني وربي }، أي: أنا إن أذنبت ففي حق الله، وأنت لم تبعث علي رقيباً.
إذاً: هو متضجر ومتذمر من هذا الإنكار.
ونستنتج من هذا: أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عليه ألا يتسرع فيظلم كما ظلم هذا الرجل، وأيضاً لا يدفع المدعو إلى الملل والضجر؛ لأنه إذا دفع المدعو أو المنكَر عليه إلى أن يمل ويتضجر منه؛ فإنه لن يقبل الحق الذي يدعوه إليه، وهذا أمر مشاهد، فإن بعض الناس يدعوه البعض أياماً وسنين ولا يقبل، ثم يأتيه آخر فيهتدي بإذن الله ويقبل منه الخير؛ لأن هذا الأسلوب كان ألطف وأرق وألين.(21/129)
وأيضاً فإن المتابعة الشديدة والمحاسبة والمراقبة ليست وسيلة نافعة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يشترط التوبيخ الدائم وراء كل ذنب، والتأنيب المستمر عقب كل خطيئة، فلابد أن يكون الداعية حكيماً، فإنه لم يبعث رقيباً، لكن يجب عليه أن ينكر المنكر، وقد وقع الدعاة في هذا الأمر فإن من الدعاة من ترك الدعوة بالكلية فلا يأمر ولا ينهي ولا يدعو، ومنهم من عنده هذه الرقابة التي تجعله دائماً وراء كل عمل ووراء كل خطأ يحاسب عليه.
{فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة }، لما رأى ملله وتضجره منه، رد عليه بهذا الرد والعياذ بالله! فأتاه الشيطان في هذه الحالة النفسية، فقال كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: {قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته }.
فقد شعر بأن هذا المدعو ميئوس منه، فتجاوز الأمر والنهي والموعظة والتذكير وأبى إلا أن يتدخل في أمر هو من اختصاص الله سبحانه وتعالى، فتألى على الله، وقال على الله بغير علم ولا حجة ولا برهان: {والله لا يغفر الله لك } وما أدراك يا مسكين؟! كيف تقول هذا؟! كيف تقسم وتجزم بذلك؟ أعندك من الله موثق أو عهد حتى تقول هذا الكلام؟!
لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته على قبائل وأحياء من العرب آذته، وحقاً كان صلى الله عليه وسلم على صواب ويقين من أذية من آذاه ومما فعلوا به وبأصحابه، وكانوا كفاراً حقاً، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، سبحان الله! ليس لك من الأمر شيء، فإن أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى، فقد يتوبون أو يعذبهم.(21/130)
فيؤخذ من ذلك: أن الداعية عليه ألاَّ يتجاوز أمر الله سبحانه وتعالى في دعوته، بل يقتصر على الدعوة كما أمر الله سبحانه وتعالى، ثم تجتمع الخصوم عند الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث: {حتى إنه يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء }، ولما مر النبي صلى الله عليه وسلم بعنزتين تنتطحان قال: {والله إن الله ليعلم فيم تنتطحان وسيقضي بينهما }، فلا يوجد خصمان إلاَّ والله تبارك وتعالى يعلم فيما اختصما وسيقضي بينهما يوم القيامة، حتى الدواب، فإن كانت الشاة القرناء طغت وبغت على الجلحاء التي لا قرون لها، فيوم القيامة يكون القصاص، وهذه سنة لا يدركها الظالمون والمتجبرون الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى قوة أو سلطة فيظلمون الضعفاء، وهناك عند الله سبحانه وتعالى تجتمع الخصوم.
فجاء الرجلان المتخاصمان فوقفا بين يدي رب العالمين، والمطالب هنا هو الموعود بأن الله لا يغفر له ولا يرحمه ولا يدخله الجنة، ولكن الذي تولى الخصومة هو رب العالمين؛ لأن الموضوع يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الرجل تألى على الله سبحانه وتعالى ولم يقتصر على ما أمره الله به.
فالخصم هنا هو رب العالمين، وإن كان المظلوم هو الذي تعرض لتلك التهمة وذلك التخويف بغير حق، وذلك أنه ربما يكون قد صدقه، فإن بعض المدعوين إذا جاء شخص وأيسه وقنطه صدقه؛ لأنه يظن أنه على علم وعلى خير، فإذا قال: هذه ردة، وهذا كفر، ولن يغفر لك، صدقه، وهنا فائدة دعوية: وهي أن المذنب إذا قيل له أنه غير مغفور له أو لا توبة له، فلن يتوب بل سيستمر ويتعمد المعصية، كما في قصة قاتل المائة، لما أفتاه العابد الجاهل بأنه لا توبة له؛ أكمل به المائة، فاعتقد أن من قتل تسعة وتسعين أو مائة أو ألفاً سواء من جهة أنه لا توبة له، فليكثر من القتل إذاً، عياذاً بالله!(21/131)
نقول: فكان الخصم هو رب العالمين سبحانه وتعالى، فقال لهذا المجتهد العابد الداعية المخطئ: {أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟! } (أكنت بي عالماً) أي: أعلمت أني لا أغفر لمن فعل الذنب؟ كيف علمت ذلك؟ بل المقطوع به أن الله سبحانه وتعالى يخبر على لسان رسله أنه يغفر لمن يشاء، وهذا عيسى عليه السلام يقول عندما سأله الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116] إلى أن يقول: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، وقد ورد أن الله سبحانه وتعالى قد يعذب الشخص وقد لا يعذبه: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [المائدة:40]، وعليه: فمن أين قلت: إن الله لا يغفر لفلان المعين؟
فالذي أنزله الله وأعلم به عباده على لسان أنبيائه هو أنه يغفر الذنوب لمن يشاء، وأن الذي يحرمه من الجنة ويحرمه من رحمته هو الكافر، فهل لديك علم بأن هذا المعين كافر، وأن الله لن يرحمه ولن يدخله الجنة؟
قال: {أو كنت على ما في يدي قادراً؟! }، أي: هل أعطاك الله تبارك وتعالى النار وأقدرك على أن تدخل من تشاء وتخرج من تشاء، فجزمت وقطعت أن هذا سيدخلها؟
فليس هو على علم من الله، وليس قادراً على ما في يدي الله سبحانه وتعالى، فالجنة والنار والعذاب والسعادة والشقاء والتوفيق والخذلان من الله سبحانه وتعالى وليس لأحد من الناس.
إذاً: هذا ظلم وبغي في حق الله وفي حق هذا العبد أيضاً.(21/132)
قال: {وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي }، ويؤخذ من هذا أنه كان مستحقاً للعقوبة؛ لأنه لو لم يكن مستحقاً للعقوبة لكان العتاب للمتألي بأن يقال له: عاتبت غير معاتب، وعاقبت غير معاقب، فكيف تتوعده وهو لم يذنب؟ لكنه قد أذنب، وإنما أدخله الله سبحانه وتعالى الجنة برحمته، وقد مات أيضاً وهو مُصِرٌّ على الذنب، ولو كان قد تاب لكان الجواب: كيف تقطع له بالنار وقد تاب؟ لكن قال له ربه تبارك وتعالى: {اذهب فادخل الجنة برحمتي }، فرحمة الله تبارك وتعالى وسعت كل شيء، ومن يشأ الله تعالى أن يرحمه رحمه وإن فعل ما فعل من الموبقات والذنوب، ولا يعني ذلك أن يطمئن أصحاب الوعيد ويأمنون! لكن نقول: ذلك راجع إلى مشيئة الله، وإلا فالاحتمال الآخر صعب جداً وهو النار، فلا أقل من أن يتوب العبد لينجو من عذاب الله سبحانه وتعالى ولو قبيل الموت.
قال: {وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار }، فبعد الدعوة والعبادة والاجتهاد في الخير كانت خاتمة السوء. قال أبو هريرة رضي الله عنه : {والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته }، أما دنياه فذهاب العمل والعبادة كلها هباء، وأما الآخرة فدخوله النار، نسأل الله العفو والعافية.(21/133)
وقد تعرضنا لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في سوء الخاتمة: {إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها }، وقلنا: إن هذا الحديث لا يعني أن الإنسان يعمل بعمل أهل الجنة في ظاهر الأمر كما هو في بعض الروايات، وحمله عليه بعض العلماء قديماً وحديثاً، فلا يشترط ذلك؛ لأننا إذا قلنا: إن العبد إنما يعمل الخير في الظاهر، فهو في الباطن منافق وغير صادق، وإذا قلنا هذا فإن الحكمة المقصودة من الحديث تنتفي، وكأنه لم يبق له معنى؛ لأن من كان يعمل بعمل أهل الجنة في الظاهر فقط وهو في الباطن يعمل بعمل أهل النار؛ فهو في الحقيقة يعمل بعمل أهل النار، فما ينفعه الظاهر ولا يثاب عليه.
فالحديث فيه التخويف من سوء الخاتمة، ويبقى التخويف على بابه، ويبقى للحديث معناه من الزجر والوعيد؛ ليحذر العابد الصادق، والداعية المحسن، والمنيب القانت من الوقوع فيما قد تسوء به خاتمته، فهذا الرجل ثبتت له الشهادة بأنه مجتهد في العبادة وخطؤه أو ذنبه كان في الدعوة إلى الله لا في الذنوب والموبقات، مع أن الدعوة إلى الله عمل الأنبياء، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف:108]، لكن من هذا الباب زلَّ ووقع، فكانت خاتمته ونهايته هي النار بهذه الكلمة، وهذا مما يؤكد ويؤيد المعنى الذي قلناه، فيظل هذا الحديث على ظاهره وعلى بابه؛ تخويفاً للصالح المنيب القانت، بأنه ربما حبط عمله بكلمة أو بزلة ولم يلق لها بالاً، كما جاء في الحديث الآخر: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً }، وقد يقول الكلمة من رضا الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها الدرجات.(21/134)
فالواجب في باب التربية والتزكية: هو الاحتراز والتنبه، وعدم الاغترار والإعجاب بالعمل أو الركون إليه، وإن كان عبادات أو صلاة أو قراءة قرآن أو عمل خير ودعوة، فهذا شأن عباد الله الخائفين المراقبين، وإنما الأعمال بالخواتيم.
والشاهد من الحديث: أن إطلاق الوعيد على مستحقه في الجملة وعلى العموم يظل على بابه، وأما المعين فلا يجوز أن يقال في حقه إلاَّ ما يجوز للإنسان أن يشهد به عليه، وهذا الرجل قال وحكم بأمر لا تجوز معه الشهادة.
وهنا مسألة: هل يجوز لأحد أن يشهد بأن فلاناً يدخل النار أو لن يرحمه الله؟
الجواب: لا يجوز ذلك، أما ما كان عن يقين أو أمر تجوز معه الشهادة، بأن يكون هذا الشخص المعين قد استوفى شروط العقوبة، وانتفت عنه موانعها؛ فهذا يشهد له بذلك، متى تيقن الإنسان من ذلك، سواءً كان في التسمية، أو كان في الحكم وفي تحقيق المناط وفي تطبيق الحكم على موضعه وعلى محله.
الخطأ من أسباب عدم الشهادة على المعين بأنه من أهل الوعيد
من درس: منهج أهل السنة والجماعة في تكفير المعين
يقول المصنف رحمه الله: [ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له]، وهذا أيضاً من رحمة الله وعفوه، فلو أن الله تبارك وتعالى يؤاخذ الناس بخطئهم لما نجا من عقوبته إلا المعصومون، وهم الأنبياء، ولكن الاجتهاد الخطأ مهما بلغ -كما قال شيخ الإسلام رحمه الله- كائناً ما كان، فهو مغفور له وصاحبه معذور، وقد يكون له أجر واحد إذا كان الخطأ باجتهاد، كما أن المجتهد المصيب له أجران، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجهل مانع من موانع التكفير
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السادسة)
قال المصنف رحمه الله تعالى:(21/135)
[ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله، كما غفر للذي قال: إذا متُّ فاسحقوني ثم ذُرُّوني.. ثم غفر الله له لخشيته، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك.
لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه. ]
الشرح: هذا مثال آخر لكون المعين قد لا يندرج تحت الوعيد العام؛ فإن الإنسان قد يفعل الكفر أو يقوله، لكنه لا يندرج تحت الوعيد العام في التكفير أو التضليل أو التفسيق؛ لمانع من الموانع قام به، وقد ذكر المصنف من الموانع: أن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، فقد يكون مذنباً، وقد يكون جاهلاً، كما يظهر من هذا الحديث، أن الحامل لصاحبه على أن قال ما قال هو الجهل، وسوف نفصل الكلام في هذا الحديث بعد أن نذكر بعض ألفاظه.
حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السادسة)
صحة الحديث والرد على من أنكره
هذا الحديث متفق عليه، رواه الإمام البخاري والإمام مسلم ، ورواه غيرهما من الأئمة، فهو حديث صحيح ثابت، ومن رده فقد ردَّ حديثاً صحيحاً ثابتاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا دليل له على رده، ولم يرده أحد أولم يعمل به بناءً على دليل علمي أو شبهة، وإنما غاية ما عندهم أن يقولوا: إنه مخالف للقطعيات أو للكليات، أو مخالف للأصول، أو ما أشبه ذلك، وهذا كله من معارضة الحق بالباطل؛ لأن الأصول والقطعيات عندنا هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهناك فرق بين القواعد العقلية والقواعد الشرعية: فالقواعد العقلية لا تقبل التخصيص، فإذا وُجدت جزئية واحدة، أو مثال واحد لا تنطبق عليه القاعدة؛ بطلت القاعدة.(21/136)
أما القواعد الشرعية: فإنها وإن كانت قطعية فإنها تقبل التخصيص وتقبل التقييد.
فهذا الحديث وأمثاله هو أصل برأسه، إذْ قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وصحّ عنه، ولا يقال: إنه عارض الأصول.
ذكر روايات الحديث التي في الصحيح
وقد رواه الأئمة عن جمع من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري ، وحذيفة ، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم كما في بعض الروايات، لكن هذه الروايات هي التي في الصحيح، فقد رواه الإمام البخاري عن هؤلاء الثلاثة:
رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
الرواية الأولى: رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن رجلاً كان قبلكم رغسه الله مالاً، فقال لبنيه لما حُضر: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيراً قط، فإذا متُ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذرُّوني في يومٍ عاصف، ففعلوا، فجمعه الله عز وجل، فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته }.
هذا الرجل من بني إسرائيل ممن كان قبلنا {رغسه الله مالاً } أي: أعطاه الله مالاً ووسع عليه، وقيل: إن الرواية الصحيحة {رأسه}.(21/137)
{فقال لبنيه لما حُضر } أي: عندما جاءه الموت وحضره، {أي أبٍ كنتُ لكم؟ } يسأل أبناءه فيقول لهم: يا أبنائي! كيف كانت أبوتي ومعاملتي لكم؟ {قالوا: خير أب }، وأبوهم يريد بذلك أن يستوثق منهم، فكأنه يقول: مقابل إحساني إليكم وتربيتي لكم وأبوتي الحانية عليكم ... إلخ؛ أريد منكم أن تنقذوني من عذاب الله {قال: فإني لم أعمل خيراً قط }، ولا يلزم من كونه لم يعمل خيراً قط، أن يكون تاركاً لجميع الفرائض مرتكباً لجميع المحرمات، لكن قد يقال: إنه قالها هضماً للنفس، واعترافاً بالتقصير، فهذا الرجل لا ريب أنه من أهل التوحيد، وإلا لما استحق رحمة الله سبحانه وتعالى، فإن الكفار ملعونون مطرودون من رحمة الله، لكن هذا الرجل لم يعمل خيراً قط، ومعناه كما جاء في بعض الروايات: أنه أسرف على نفسه في المعاصي، وفرط في حق الله؛ تركاً للواجبات، وارتكاباً للمحظورات، فقال: {فإذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف } واليوم العاصف هو الذي تكون الريح فيه شديدة، فهو يريد منهم أن يذروه كما في قوله تعالى: تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف:45]، بمعنى: أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يطحنوه، ثم يذروه في يوم عاصف، فتذهب به الريح في كل مكان، {ففعلوا، فجمعه الله عز وجل، فقال: ما حملك؟ }، أي: ما الذي دفعك إلى ذلك؟ وما الذي حملك على ما صنعت؟ وما سبب الإقدام على هذا الفعل؟ {قال: مخافتك، فتلقاه برحمته }.(21/138)
رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
الرواية الثانية: رواية حذيفة رضي الله تعالى عنه أن عقبة قال له: ألا تحدثنا ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته يقول: {إن رجلاً حضره الموت، لما أيس من الحياة أوصى أهله }، وفي الرواية الأولى: (أبناءه)، قال: {إذا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً، ثم أوروا ناراً، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي، فخذوها فاطحنوها، فدرُّوني في اليم في يوم حارٍّ -أو راحٍّ- } (في اليم) أي: في البحر، (في يوم حارٍ -أو راحٍّ-)، قيل: من الحور، وقيل: في يوم حانٍ، فإن العرب تقول إذا اشتدت الريح: تحن كحنين الإبل، أو تحور كحور الإبل، (أو راحٍّ) أي: شديد الريح، {فجمعه الله، فقال: لِمَ فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر الله له، فقال عقبة : وأنا سمعته يقول }. فالحديث من رواية عقبة وحذيفة رضي الله عنهما.
رواية أبي هريرة رضي الله عنه
الرواية الثالثة: رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، إلا أنه قال في أولها: {كان رجل يسرف على نفسه في المعاصي، فلما حضره الموت قال لبنيه: ... } إلخ الحديث.
شرح الحديث
وقد ذكر الإمام البخاري رحمه الله هذا الحديث في كتاب الرقاق، وفي كتاب التوحيد، وفي كتاب أخبار الأنبياء، وبوب له في كتاب الرقاق: (باب الخوف من الله)، وهذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله، وكما قال العلماء: فقه البخاري في تراجمه.
ومن هنا نعلم ما يريده البخاري رحمه الله وما الذي يختاره في معنى هذا الحديث؛ لأن الحديث فيه خلاف كبير، فالبخاري رحمه الله عندما يضعه في باب معين ويختار له ترجمة معينة؛ فإنه يضعه في الباب الذي يرى أنه يدل عليه، فقد قال رحمه الله وغفر له: (باب الخوف من الله)، فلينتبه لهذه الترجمة!(21/139)
عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً: {كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله }، ولهذا قال في الرواية الأولى: {لم أعمل خيراً قط }، وفي رواية: (لم يبتئر خيراً قط) فقد كان يسيء الظن بعمله، وقد جاء في بعض الروايات: أنه (كان نباشاً)، ينبش القبور فيسرق الأكفان وما قد يجد فيها، وهذا الفعل من أقبح أنواع الجرائم، فإن الإنسان إذا سرق الأحياء فهي جريمة بشعة وشنيعة، فكيف إذا سرق الأموات؟! ومعنى ذلك: أن الخوف من الله والخوف من الموت وتذكر الآخرة غائب عن ذهنه تماماً، فإن بعض الناس -وإن كان مسرفاً في المعاصي- إذا رأى جنازة أو ميتاً أو مقبرة خاف وارتدع، أما الذي يقدم على سرقة القبور ويحفرها وينبشها ليأخذ ما فيها من الأكفان؛ فإن هذا دليل على قسوة القلب وغلظته وبعده عن الله، وأنه لا يفكر في اليوم الآخر، ولا يخاف الله، ولا يرجو لقاءه، وهذا العمل وأعمال أخرى -كما يبدو من ظاهر الروايات- تستحق أن يُساءَ الظن بها.
{فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف }، ولا تعارض بين الروايات، فقد ورد: {نصفه في البر ونصفه في البحر }، المهم أنه حدد لهم (في يوم صائف)، أي: يوم عاصف، شديد الرياح، فبعد أن تطحن عظامه يذر بعضها في البر وبعضها في البحر؛ ليكون -كما يظن- أصعب إعادة؛ فهو يظن أنه لو بقي على هيئته ووضع في القبر، فستكون إعادته سهلة، لكن إذا تفرق بهذا الشكل فسوف يغيب فكأنه يغيب ويتلاشى تماماً، ولن يبعث ولن يحاسب ولن يعاقب. قال: {ففعلوا به، فجمعه الله، ثم قال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ما حملني عليه إلا مخافتك، فغفر له }.(21/140)
وعن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً فيمن كان قبلكم آتاه الله مالاً وولداً }، أي: أعطاه الله مالاً وولداً، وفي الرواية السابقة: (رغسه أو رأسه)، وهي بمعنى واحد. {فلما حضر قال لبنيه: أي أبٍ كنت لكم؟ } (أيّ) اسم استفهام منصوب على أنه خبر كان مقدم، {قالوا: خير أب } كما في الرواية الأولى، فهو أراد أن يستوثق منهم بأنهم سوف يمتثلون ما يريد، قال: {فإنه لم يبتئر عند الله خيراً فسرها قتادة : لم يدخر }، وهذه الرواية فيها الثقات، فإن الرجل قال: فإني لم أبتئر، لكن الصحابي أو الراوي عدل عن قوله: (فإني) فقال: (فإنه)، كما جاء في حديث موت أبي طالب قال: {هو على ملة عبد المطلب }، فعدل الراوي عن أن يقول: (أنا)، وهذا من حسن الكلام، أن يعدل الإنسان عما لا يستساغ أن يقوله، وخاصةً في مثل هذا الأمر؛ لأن فيه كفراً والعياذ بالله! وهنا الأمر أخف من الكفر، لكن الراوي عدل عنه فقال: {قال: فإنه لم يبتئر عند الله خيراً }، أي: قال الرجل لأبنائه: أنا لم أدخر عند الله خيراً قط، فمعنى ذلك: أنا قادم على مصير خطير، فماذا أرجو وقد حضر الموت وحان اللقاء؟ فيقول لأبنائه: لابد من حيلة، فأعينوني على الخلاص من هذه المشكلة، وكان الحل الذي تخيله وظنه هو هذا. قال: {وإن يقدم على الله يعذبه }، وفي بعض الروايات: {لئن قدر الله علي ليعذبني }، وهذا سنذكره فيما بعد؛ لأن قوله: (قدر) جاء في بعض الروايات فقط، ولذلك فقد أخطأ من قال: إن إنكاره أو شكه في قدرة الله ناشئ من قوله: (لئن قدر علي)، فإن قوله هذا ليس شرطاً في إنكاره للقدرة، فإن الروايات التي ذكرناها وليس فيها ذكر القدرة، الظاهر منها أنه ليس موقناً بقدرة الله.(21/141)
فالرجل يريد أن يتخلص ويفر من عقاب الله، وظن أن هذه الوسيلة مؤدية إلى الخلاص، فقال: {وإن يقدم على الله يعذبه، فانظروا فإذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرتُ فحماً فاسحقوني -أو قال: فاسهكوني- ثم إذا كان ريحٌ عاصف فاذروني فيها }، وفي هذه الرواية زيادة بعض المعاني، فإن قوله: {إذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرت فحماً } أي: اجمعوا حطباً، وأحرقوا الجسد حتى لا يبقى منه شيء، ثم إذا احترقت -أو امتحشت- العظام فاسحقوها، وانتظروا حتى إذا كانت ريح عاصف فاذروه فيها، واجعلوا بعضه في البر وبعضه في البحر، وهذا غاية ما يمكن أن يُتَصور من التلاشي، وفقدان المادة التي يعاد أو يبعث منها الإنسان.
{فأخذ مواثيقهم على ذلك }، وعند مسلم : {فأخذ منهم يميناً }، فعاهدوه وحلفوا له بالأيمان أنه إذا مات أن يفعلوا به هكذا، فلما أخذ منهم الموثق على ذلك مات، والتقدير: فمات ففعلوا، {فقال الله: كن }، هذه قدرة الله تعالى كما قال سبحانه: قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79]، وقال عز وجل: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29] وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، فهو أهون عليه، سبحانه وتعالى، ولا فرق عند الله تعالى سواء بقي الإنسان على هيئته، أو سحق وطحن، أو أكله السبع، أو الحوت، أو رمي في أي مكان ... فلا يؤثر ذلك في شيء من قدرة الله سبحانه وتعالى.
فلهذا قال الله سبحانه وتعالى: {كن، فإذا رجلٌ قائم }، وهذا مصداق قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فإذا رجلٌ قائم، من البر ومن البحر.. العظام المطحونة.. اللحم الذي أكلته النار.. كل شيء سحق وطحن وذُري، أعاده الله سبحانه وتعالى كما كان، فإذا به رجل قائم بين يدي الله سبحانه وتعالى.(21/142)
هل وقعت المساءلة للرجل من الله تعالى أم لم تقع؟
يورد البعض سؤالاً حول قصة هذا الرجل فيقولون: هل وقعت المسائلة لهذا الرجل من الله على الحقيقة في قبره، أم أنه حكاية لما سيقع في يوم القيامة؟
فالظاهر أنه وقع قبل يوم القيامة، وإن كان بعض العلماء يقول: إن هذا ذكر لما سيكون يوم القيامة.
وعلى أية حال: إن كان ذلك قد وقع -وهو الظاهر الذي نراه- فهو ظاهر الحديث، وإذا لم يقع، فهو -كما ذكرنا- من باب أن الله سبحانه -وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم- قد يخبر عن أشياء مستقبلية لم تقع على أنها قد وقعت؛ لتيقن وتحقق وقوعها كما أخبر الله تعالى وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. {قال: كن، فإذا رجلٌ قائم، ثم قال: أي عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ فقال: مخافتك، أو قال: فرقٌ منك }، والفرق: هو الخوف، قال: يا رب! مخافتك والفرق منك.
صحة الحديث والرد على من أنكره
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
هذا الحديث متفق عليه، رواه الإمام البخاري والإمام مسلم ، ورواه غيرهما من الأئمة، فهو حديث صحيح ثابت، ومن رده فقد ردَّ حديثاً صحيحاً ثابتاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا دليل له على رده، ولم يرده أحد أولم يعمل به بناءً على دليل علمي أو شبهة، وإنما غاية ما عندهم أن يقولوا: إنه مخالف للقطعيات أو للكليات، أو مخالف للأصول، أو ما أشبه ذلك، وهذا كله من معارضة الحق بالباطل؛ لأن الأصول والقطعيات عندنا هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهناك فرق بين القواعد العقلية والقواعد الشرعية: فالقواعد العقلية لا تقبل التخصيص، فإذا وُجدت جزئية واحدة، أو مثال واحد لا تنطبق عليه القاعدة؛ بطلت القاعدة.
أما القواعد الشرعية: فإنها وإن كانت قطعية فإنها تقبل التخصيص وتقبل التقييد.
فهذا الحديث وأمثاله هو أصل برأسه، إذْ قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وصحّ عنه، ولا يقال: إنه عارض الأصول.(21/143)
ذكر روايات الحديث التي في الصحيح
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
وقد رواه الأئمة عن جمع من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري ، وحذيفة ، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم كما في بعض الروايات، لكن هذه الروايات هي التي في الصحيح، فقد رواه الإمام البخاري عن هؤلاء الثلاثة:
رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
الرواية الأولى: رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن رجلاً كان قبلكم رغسه الله مالاً، فقال لبنيه لما حُضر: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيراً قط، فإذا متُ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذرُّوني في يومٍ عاصف، ففعلوا، فجمعه الله عز وجل، فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته }.
هذا الرجل من بني إسرائيل ممن كان قبلنا {رغسه الله مالاً } أي: أعطاه الله مالاً ووسع عليه، وقيل: إن الرواية الصحيحة {رأسه}.(21/144)
{فقال لبنيه لما حُضر } أي: عندما جاءه الموت وحضره، {أي أبٍ كنتُ لكم؟ } يسأل أبناءه فيقول لهم: يا أبنائي! كيف كانت أبوتي ومعاملتي لكم؟ {قالوا: خير أب }، وأبوهم يريد بذلك أن يستوثق منهم، فكأنه يقول: مقابل إحساني إليكم وتربيتي لكم وأبوتي الحانية عليكم ... إلخ؛ أريد منكم أن تنقذوني من عذاب الله {قال: فإني لم أعمل خيراً قط }، ولا يلزم من كونه لم يعمل خيراً قط، أن يكون تاركاً لجميع الفرائض مرتكباً لجميع المحرمات، لكن قد يقال: إنه قالها هضماً للنفس، واعترافاً بالتقصير، فهذا الرجل لا ريب أنه من أهل التوحيد، وإلا لما استحق رحمة الله سبحانه وتعالى، فإن الكفار ملعونون مطرودون من رحمة الله، لكن هذا الرجل لم يعمل خيراً قط، ومعناه كما جاء في بعض الروايات: أنه أسرف على نفسه في المعاصي، وفرط في حق الله؛ تركاً للواجبات، وارتكاباً للمحظورات، فقال: {فإذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف } واليوم العاصف هو الذي تكون الريح فيه شديدة، فهو يريد منهم أن يذروه كما في قوله تعالى: تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف:45]، بمعنى: أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يطحنوه، ثم يذروه في يوم عاصف، فتذهب به الريح في كل مكان، {ففعلوا، فجمعه الله عز وجل، فقال: ما حملك؟ }، أي: ما الذي دفعك إلى ذلك؟ وما الذي حملك على ما صنعت؟ وما سبب الإقدام على هذا الفعل؟ {قال: مخافتك، فتلقاه برحمته }.
رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)(21/145)
الرواية الثانية: رواية حذيفة رضي الله تعالى عنه أن عقبة قال له: ألا تحدثنا ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته يقول: {إن رجلاً حضره الموت، لما أيس من الحياة أوصى أهله }، وفي الرواية الأولى: (أبناءه)، قال: {إذا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً، ثم أوروا ناراً، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي، فخذوها فاطحنوها، فدرُّوني في اليم في يوم حارٍّ -أو راحٍّ- } (في اليم) أي: في البحر، (في يوم حارٍ -أو راحٍّ-)، قيل: من الحور، وقيل: في يوم حانٍ، فإن العرب تقول إذا اشتدت الريح: تحن كحنين الإبل، أو تحور كحور الإبل، (أو راحٍّ) أي: شديد الريح، {فجمعه الله، فقال: لِمَ فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر الله له، فقال عقبة : وأنا سمعته يقول }. فالحديث من رواية عقبة وحذيفة رضي الله عنهما.
رواية أبي هريرة رضي الله عنه
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
الرواية الثالثة: رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، إلا أنه قال في أولها: {كان رجل يسرف على نفسه في المعاصي، فلما حضره الموت قال لبنيه: ... } إلخ الحديث.
شرح الحديث
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
وقد ذكر الإمام البخاري رحمه الله هذا الحديث في كتاب الرقاق، وفي كتاب التوحيد، وفي كتاب أخبار الأنبياء، وبوب له في كتاب الرقاق: (باب الخوف من الله)، وهذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله، وكما قال العلماء: فقه البخاري في تراجمه.
ومن هنا نعلم ما يريده البخاري رحمه الله وما الذي يختاره في معنى هذا الحديث؛ لأن الحديث فيه خلاف كبير، فالبخاري رحمه الله عندما يضعه في باب معين ويختار له ترجمة معينة؛ فإنه يضعه في الباب الذي يرى أنه يدل عليه، فقد قال رحمه الله وغفر له: (باب الخوف من الله)، فلينتبه لهذه الترجمة!(21/146)
عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً: {كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله }، ولهذا قال في الرواية الأولى: {لم أعمل خيراً قط }، وفي رواية: (لم يبتئر خيراً قط) فقد كان يسيء الظن بعمله، وقد جاء في بعض الروايات: أنه (كان نباشاً)، ينبش القبور فيسرق الأكفان وما قد يجد فيها، وهذا الفعل من أقبح أنواع الجرائم، فإن الإنسان إذا سرق الأحياء فهي جريمة بشعة وشنيعة، فكيف إذا سرق الأموات؟! ومعنى ذلك: أن الخوف من الله والخوف من الموت وتذكر الآخرة غائب عن ذهنه تماماً، فإن بعض الناس -وإن كان مسرفاً في المعاصي- إذا رأى جنازة أو ميتاً أو مقبرة خاف وارتدع، أما الذي يقدم على سرقة القبور ويحفرها وينبشها ليأخذ ما فيها من الأكفان؛ فإن هذا دليل على قسوة القلب وغلظته وبعده عن الله، وأنه لا يفكر في اليوم الآخر، ولا يخاف الله، ولا يرجو لقاءه، وهذا العمل وأعمال أخرى -كما يبدو من ظاهر الروايات- تستحق أن يُساءَ الظن بها.
{فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف }، ولا تعارض بين الروايات، فقد ورد: {نصفه في البر ونصفه في البحر }، المهم أنه حدد لهم (في يوم صائف)، أي: يوم عاصف، شديد الرياح، فبعد أن تطحن عظامه يذر بعضها في البر وبعضها في البحر؛ ليكون -كما يظن- أصعب إعادة؛ فهو يظن أنه لو بقي على هيئته ووضع في القبر، فستكون إعادته سهلة، لكن إذا تفرق بهذا الشكل فسوف يغيب فكأنه يغيب ويتلاشى تماماً، ولن يبعث ولن يحاسب ولن يعاقب. قال: {ففعلوا به، فجمعه الله، ثم قال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ما حملني عليه إلا مخافتك، فغفر له }.(21/147)
وعن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً فيمن كان قبلكم آتاه الله مالاً وولداً }، أي: أعطاه الله مالاً وولداً، وفي الرواية السابقة: (رغسه أو رأسه)، وهي بمعنى واحد. {فلما حضر قال لبنيه: أي أبٍ كنت لكم؟ } (أيّ) اسم استفهام منصوب على أنه خبر كان مقدم، {قالوا: خير أب } كما في الرواية الأولى، فهو أراد أن يستوثق منهم بأنهم سوف يمتثلون ما يريد، قال: {فإنه لم يبتئر عند الله خيراً فسرها قتادة : لم يدخر }، وهذه الرواية فيها الثقات، فإن الرجل قال: فإني لم أبتئر، لكن الصحابي أو الراوي عدل عن قوله: (فإني) فقال: (فإنه)، كما جاء في حديث موت أبي طالب قال: {هو على ملة عبد المطلب }، فعدل الراوي عن أن يقول: (أنا)، وهذا من حسن الكلام، أن يعدل الإنسان عما لا يستساغ أن يقوله، وخاصةً في مثل هذا الأمر؛ لأن فيه كفراً والعياذ بالله! وهنا الأمر أخف من الكفر، لكن الراوي عدل عنه فقال: {قال: فإنه لم يبتئر عند الله خيراً }، أي: قال الرجل لأبنائه: أنا لم أدخر عند الله خيراً قط، فمعنى ذلك: أنا قادم على مصير خطير، فماذا أرجو وقد حضر الموت وحان اللقاء؟ فيقول لأبنائه: لابد من حيلة، فأعينوني على الخلاص من هذه المشكلة، وكان الحل الذي تخيله وظنه هو هذا. قال: {وإن يقدم على الله يعذبه }، وفي بعض الروايات: {لئن قدر الله علي ليعذبني }، وهذا سنذكره فيما بعد؛ لأن قوله: (قدر) جاء في بعض الروايات فقط، ولذلك فقد أخطأ من قال: إن إنكاره أو شكه في قدرة الله ناشئ من قوله: (لئن قدر علي)، فإن قوله هذا ليس شرطاً في إنكاره للقدرة، فإن الروايات التي ذكرناها وليس فيها ذكر القدرة، الظاهر منها أنه ليس موقناً بقدرة الله.(21/148)
فالرجل يريد أن يتخلص ويفر من عقاب الله، وظن أن هذه الوسيلة مؤدية إلى الخلاص، فقال: {وإن يقدم على الله يعذبه، فانظروا فإذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرتُ فحماً فاسحقوني -أو قال: فاسهكوني- ثم إذا كان ريحٌ عاصف فاذروني فيها }، وفي هذه الرواية زيادة بعض المعاني، فإن قوله: {إذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرت فحماً } أي: اجمعوا حطباً، وأحرقوا الجسد حتى لا يبقى منه شيء، ثم إذا احترقت -أو امتحشت- العظام فاسحقوها، وانتظروا حتى إذا كانت ريح عاصف فاذروه فيها، واجعلوا بعضه في البر وبعضه في البحر، وهذا غاية ما يمكن أن يُتَصور من التلاشي، وفقدان المادة التي يعاد أو يبعث منها الإنسان.
{فأخذ مواثيقهم على ذلك }، وعند مسلم : {فأخذ منهم يميناً }، فعاهدوه وحلفوا له بالأيمان أنه إذا مات أن يفعلوا به هكذا، فلما أخذ منهم الموثق على ذلك مات، والتقدير: فمات ففعلوا، {فقال الله: كن }، هذه قدرة الله تعالى كما قال سبحانه: قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79]، وقال عز وجل: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29] وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، فهو أهون عليه، سبحانه وتعالى، ولا فرق عند الله تعالى سواء بقي الإنسان على هيئته، أو سحق وطحن، أو أكله السبع، أو الحوت، أو رمي في أي مكان ... فلا يؤثر ذلك في شيء من قدرة الله سبحانه وتعالى.
فلهذا قال الله سبحانه وتعالى: {كن، فإذا رجلٌ قائم }، وهذا مصداق قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فإذا رجلٌ قائم، من البر ومن البحر.. العظام المطحونة.. اللحم الذي أكلته النار.. كل شيء سحق وطحن وذُري، أعاده الله سبحانه وتعالى كما كان، فإذا به رجل قائم بين يدي الله سبحانه وتعالى.(21/149)
هل وقعت المساءلة للرجل من الله تعالى أم لم تقع؟
من درس: حديث الرجل الذي قال لبنيه (إذا مت فاسحقوني)
يورد البعض سؤالاً حول قصة هذا الرجل فيقولون: هل وقعت المسائلة لهذا الرجل من الله على الحقيقة في قبره، أم أنه حكاية لما سيقع في يوم القيامة؟
فالظاهر أنه وقع قبل يوم القيامة، وإن كان بعض العلماء يقول: إن هذا ذكر لما سيكون يوم القيامة.
وعلى أية حال: إن كان ذلك قد وقع -وهو الظاهر الذي نراه- فهو ظاهر الحديث، وإذا لم يقع، فهو -كما ذكرنا- من باب أن الله سبحانه -وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم- قد يخبر عن أشياء مستقبلية لم تقع على أنها قد وقعت؛ لتيقن وتحقق وقوعها كما أخبر الله تعالى وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. {قال: كن، فإذا رجلٌ قائم، ثم قال: أي عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ فقال: مخافتك، أو قال: فرقٌ منك }، والفرق: هو الخوف، قال: يا رب! مخافتك والفرق منك.
الخوف من الله عزوجل
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السادسة)(21/150)
إن الخوف من الله تعالى من أهم الأمور التي يجب أن نتعظ ونعتبر بها، فقد ترجم البخاري رحمه الله لهذا الباب: (باب الخوف من الله)، فلابد أن نكون خائفين من الله.. خائفين من ذنوبنا، فإن هذا الرجل قد بلغ به الخوف حداً بعيداً، أذهله وأنساه قدرة الله سبحانه وتعالى على الإعادة وعلى الخلق، ونحن لا نصل إلى هذا الحد، لكن لابد من الخوف من الله عز وجل، ولهذا يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح "هو من المقامات العلية، وهو من لوازم الإيمان، قال الله تعالى: وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44]، وقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وتقدم حديث: {أنا أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية }"، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أشد الناس خشية لله وتعظيماً له، قال: "وجمع بين العلم والخشية، وهما متلازمان في الحديث كما هما في الآية"، فأشد الناس خشية لله هم أعلمهم بالله وبصفاته، وقدرته وعذابه، كما قال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50] فإذا عرفوا ذلك فإنهم سوف يتقون ويخافون ويرجون.
خوف المقربين
يقول الحافظ رحمه الله: "وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه"، أي: كلما كان الإنسان أقرب إلى الله وأحرص على طاعة الله، فإنه يكون أشد خوفاً من غيره، ولذلك فإن المسرفين على أنفسهم بالمعاصي، والمجاهرين بما حرم الله، والمرتكبين للموبقات، نجد أن الخوف من الله في قلوبهم مفقوداً أو شبه مفقود، وبالعكس؛ فإن العباد الأتقياء الصالحين الورعين الزاهدين، هم أكثر الناس خوفاً من ربهم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، ولهذا(21/151)
لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أهؤلاء هم الذين يسرقون ويزنون ويسرفون على أنفسهم بالمعاصي؟ قال: لا يا ابنة الصديق . هؤلاء الذين يصومون ويصلون ويزكون، ولكنهم يخافون ألا يتقبل منهم }، فهم يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، والوجل: هو الخوف أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، فيأتون بالطاعات، ويفعلون الواجبات، ويتركون المحرمات، ويتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بما شرع من النوافل بعد الفرائض، ومع ذلك (قلوبهم وجلة) أي: خائفة؛ إذ لا يدرون هل يتقبل منهم أم لا؟
يقول الحافظ : "وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشيةً ممن دونه، وقد وصف الله تعالى الملائكة بقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، والأنبياء بقوله: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39]"، وكلما عظمت خشية الله سبحانه وتعالى في قلب عبدٍ من العباد هانت عليه خشية الناس حتى لا يكاد يخافهم، وقد ذُكر عن بعض السلف -قيل هو العز بن عبد السلام ، وقيل: غيره من العلماء- أنه دخل على أحد سلاطين المماليك وكان بطاشاً جباراً، فقالوا له: لِمَ لمْ تخف منه؟ قال: لما دخلتُ على السلطان ورأيت عظمته وهيبته تذكرت عظمة الله، فإذا هو عندي -أي: السلطان- مثل الهر. إن هؤلاء بالنسبة إلى الله عز وجل لا شيء، فلا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ومثل هذا لو شاء الله لأسكته وأماته وأهلكه في تلك اللحظة، ولو شاء الله لكان أول من يقتله جنده الذين يفتخر ويعتز بهم، ولكان أول ما يدمره ماله الذي يظن أنه هو الذي جمعه، كما قال قارون : إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] فقد تقتضي مشيئة الله أن يكون مالك أو جاهك أو غيره سبب هلاكك؛ إذ الكل بيد الله سبحانه وتعالى.(21/152)
فكلما كان الإنسان أخشى لله سبحانه وأخوف منه، فإنه يكون أقل خوفاً وخشيةً ممن دونه؛ لأنه يكون على يقين بأن الرازق والخالق والمدبر لكل شيء هو الله، وأن الناس لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وكذلك لو أرادوا أن ينفعوه، فالكل منه سبحانه وتعالى، فالفضل له وحده، والخوف يكون منه وحده سبحانه وتعالى.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وإنما كان خوف المقربين أشد؛ لأنهم يطالَبون بما لا يطالَب به غيرهم، فيراعون تلك المنزلة"، فالمقربون مع قربهم من الله وعلمهم به، ومعرفتهم لدين الله، إذا أخطئوا خطأً صغيراً فإنه يكون كالخطأ الكبير من غيرهم، فقد تكون النظرة من طالب العلم أو من العالم أشد أو مثل الزنية من الفاجر، ذلك لأن الفاجر ليس عنده علم بالله عز وجل، وكذلك لخلو قلبه وفراغه من خشية الله، فلهذا يخاف المقرب من الذنب وإن كان صغيراً بالنسبة إلى ما يرتكبه أصحاب الكبائر، وهذا -مع الأسف- عكس ما هو سائد في حياتنا الآن، فإن خطابنا وكلامنا دائماً إنما هو ( نحن أحسن من غيرنا) وهذه مصيبة، فقد أصبحنا عكس ما أمر الله به ونبيه صلى الله عليه وسلم، وعكس ما كان عليه السلف الصالح والمقربون، فشعارنا أمام كل فحشاء وكل منكر ومصيبة وداهية تحصل منا (أننا أحسن من غيرنا)، حتى تارك الصلاة إذا قيل له: اتق الله، أقم الصلاة، فإنه لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، قال: أنا أحسن من غيري! هناك أناس يشربون الخمر، ويذهبون إلى بانكوك ويفعلون.. ويفعلون.. وهل هناك شيء أشد من ترك الصلاة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أو تترك أمتي الصلاة؟! } لقد استغرب النبي صلى الله عليه وسلم أن تترك أمته الصلاة! ولكن مع الأسف هذا هو الحاصل من بعض من ينتسب إلى الإسلام، كما ذكر الله تعالى عن بني إسرائيل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59]، فإذا كان تارك(21/153)
الصلاة يرى أنه أحسن من غيره، فإن شارب الخمر يرى أنه أحسن من غيره، فيقول: هناك أناس يتعاطون المخدرات ويزنون! وآكل الربا يرى أنه أحسن من غيره ... وهكذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهل هذا شعار الصالحين المؤمنين، إن المؤمنين هم الذين يخافون إذا أطاعوا واستقاموا .. يجاهدون في سبيل الله ويخافون ألا يتقبل الله منهم الجهاد، ويصلون جماعة بإقامة الأركان والواجبات والسنن، ويخافون أن لا تقبل منهم، وينفقون في السر من طيب أموالهم وكسبهم، ويخافون أن لا يقبل منهم، فما أبعد حالنا عن حال السلف الصالح والله المستعان!
يقول: "لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم".
فالمجتمع الذي يعرف دين الله تعالى وأمره، ويعرف الحلال والحرام، مطالب بما لا يطالب به غيره، والإنسان وإن كان مقرباً أو صالحاً أو فيه خير، فهو مطالب بما لا يطالب به غيره.
إذاً: اعرف منزلتك، واعرف قدرك، واستقم على أمر الله.
يقول رحمه الله: "ولأن الواجب لله منه الشكر على المنزلة؛ فيضاعف بالنسبة لعلو تلك المنزلة، فالعبد إن كان مستقيماً فخوفه من سوء العاقبة؛ لقوله تعالى: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]"، إذاً: الواجب على الإنسان إذا كان من المقربين أن يشكر الله سبحانه وتعالى، ويضاعف الخوف منه سبحانه، فإن هذا من شكر النعمة، فإذا رزق العبد الخوف من الله فمن شكر النعمة أن يخاف الله أكثر، وإذا رزق التقوى فمن شكرها أن يتقي أكثر، وإذا رزق الاستقامة فمن شكرها أن يستقيم أكثر.. وهكذا، فكل عمل من أعمال الخير من شكر الله عز وجل عليه أن يزيد العبد منه، هذا هو معنى كلامه رحمه الله كما يبدو.
يقول رحمه الله: "فالعبد إن كان مستقيماً فخوفه من سوء العاقبة"، وما أكثر من تكون حياته كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها }.(21/154)
إذاً: الخوف من سوء العاقبة والخاتمة، هو ديدن الصالحين، وعباد الله المتقين، وما من أحد إلا وهو يخاف على نفسه من ذلك حتى الأنبياء، ولذلك كان دعاء يوسف عليه السلام: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101] فلابد أن يدعو العبد ربه أن يحييه مؤمناً ويتوفاه على الإيمان، فإنه لا يضمن ذلك مهما استقام في حياته، والكلام في هذا يطول.
يقول الحافظ : "أو نقصان الدرجة بالنسبة" فالعبد إما أن يحال بينه وبين قلبه فيحبط عمله بالكلية -عياذاً بالله- كما مر معنا في قصة الرجل الذي قال: (والله لا يغفر الله لفلان)، أو تنقص درجته؛ إذْ ربما يكون في شبابه على استقامة، ودعوة، وجهاد، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ثم يختم له في آخر عمره بضعف وفتور ونقص في ذلك، وإن لم ينقطع بالكلية.
يقول: "وإن كان مائلاً فخوفه من سوء فعله"، أي: إن كان مذنباً فخوفه من سوء فعله، ولذلك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن والمنافق مع ذنوبهما، فقال: "المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا" أي: أطاره بيده، فمهما افترى، أو كذب، أو زنى، أو سرق، أو أكل الحرام، أو ترك الصلاة، كلها عنده كذباب وقع على أنفه ثم طار وذهب، وكأن لم يكن شيء، لكن المؤمن الذي يخاف الله ويشعر بخطر الذنوب، لو فعل ذنباً واحداً لرآه كالجبل يخاف أن يقع عليه.
يقول الحافظ : "وينفعه ذلك مع الندم والإقلاع، فإن الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد عليها، وأن يحرم التوبة، أو لا يكون ممن شاء الله أن يغفر له، فهو مشفق من ذنبه، طالب من ربه أن يدخله فيمن يغفر له"، ثم ذكر رحمه الله أحاديث كثيرة في الدلالة على هذا الموضوع، والمقصود هنا هو دلالة الحديث، وما يتعلق بموضوع العقيدة، وهو الحكم على المعين، وأن المعين قد لا يندرج تحت الوعيد.
خوف المقربين(21/155)
من درس: الخوف من الله عزوجل
يقول الحافظ رحمه الله: "وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه"، أي: كلما كان الإنسان أقرب إلى الله وأحرص على طاعة الله، فإنه يكون أشد خوفاً من غيره، ولذلك فإن المسرفين على أنفسهم بالمعاصي، والمجاهرين بما حرم الله، والمرتكبين للموبقات، نجد أن الخوف من الله في قلوبهم مفقوداً أو شبه مفقود، وبالعكس؛ فإن العباد الأتقياء الصالحين الورعين الزاهدين، هم أكثر الناس خوفاً من ربهم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، ولهذا لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أهؤلاء هم الذين يسرقون ويزنون ويسرفون على أنفسهم بالمعاصي؟ قال: لا يا ابنة الصديق . هؤلاء الذين يصومون ويصلون ويزكون، ولكنهم يخافون ألا يتقبل منهم }، فهم يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، والوجل: هو الخوف أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، فيأتون بالطاعات، ويفعلون الواجبات، ويتركون المحرمات، ويتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بما شرع من النوافل بعد الفرائض، ومع ذلك (قلوبهم وجلة) أي: خائفة؛ إذ لا يدرون هل يتقبل منهم أم لا؟(21/156)
يقول الحافظ : "وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشيةً ممن دونه، وقد وصف الله تعالى الملائكة بقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، والأنبياء بقوله: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39]"، وكلما عظمت خشية الله سبحانه وتعالى في قلب عبدٍ من العباد هانت عليه خشية الناس حتى لا يكاد يخافهم، وقد ذُكر عن بعض السلف -قيل هو العز بن عبد السلام ، وقيل: غيره من العلماء- أنه دخل على أحد سلاطين المماليك وكان بطاشاً جباراً، فقالوا له: لِمَ لمْ تخف منه؟ قال: لما دخلتُ على السلطان ورأيت عظمته وهيبته تذكرت عظمة الله، فإذا هو عندي -أي: السلطان- مثل الهر. إن هؤلاء بالنسبة إلى الله عز وجل لا شيء، فلا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ومثل هذا لو شاء الله لأسكته وأماته وأهلكه في تلك اللحظة، ولو شاء الله لكان أول من يقتله جنده الذين يفتخر ويعتز بهم، ولكان أول ما يدمره ماله الذي يظن أنه هو الذي جمعه، كما قال قارون : إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] فقد تقتضي مشيئة الله أن يكون مالك أو جاهك أو غيره سبب هلاكك؛ إذ الكل بيد الله سبحانه وتعالى.
فكلما كان الإنسان أخشى لله سبحانه وأخوف منه، فإنه يكون أقل خوفاً وخشيةً ممن دونه؛ لأنه يكون على يقين بأن الرازق والخالق والمدبر لكل شيء هو الله، وأن الناس لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وكذلك لو أرادوا أن ينفعوه، فالكل منه سبحانه وتعالى، فالفضل له وحده، والخوف يكون منه وحده سبحانه وتعالى.(21/157)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وإنما كان خوف المقربين أشد؛ لأنهم يطالَبون بما لا يطالَب به غيرهم، فيراعون تلك المنزلة"، فالمقربون مع قربهم من الله وعلمهم به، ومعرفتهم لدين الله، إذا أخطئوا خطأً صغيراً فإنه يكون كالخطأ الكبير من غيرهم، فقد تكون النظرة من طالب العلم أو من العالم أشد أو مثل الزنية من الفاجر، ذلك لأن الفاجر ليس عنده علم بالله عز وجل، وكذلك لخلو قلبه وفراغه من خشية الله، فلهذا يخاف المقرب من الذنب وإن كان صغيراً بالنسبة إلى ما يرتكبه أصحاب الكبائر، وهذا -مع الأسف- عكس ما هو سائد في حياتنا الآن، فإن خطابنا وكلامنا دائماً إنما هو ( نحن أحسن من غيرنا) وهذه مصيبة، فقد أصبحنا عكس ما أمر الله به ونبيه صلى الله عليه وسلم، وعكس ما كان عليه السلف الصالح والمقربون، فشعارنا أمام كل فحشاء وكل منكر ومصيبة وداهية تحصل منا (أننا أحسن من غيرنا)، حتى تارك الصلاة إذا قيل له: اتق الله، أقم الصلاة، فإنه لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، قال: أنا أحسن من غيري! هناك أناس يشربون الخمر، ويذهبون إلى بانكوك ويفعلون.. ويفعلون.. وهل هناك شيء أشد من ترك الصلاة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أو تترك أمتي الصلاة؟! } لقد استغرب النبي صلى الله عليه وسلم أن تترك أمته الصلاة! ولكن مع الأسف هذا هو الحاصل من بعض من ينتسب إلى الإسلام، كما ذكر الله تعالى عن بني إسرائيل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59]، فإذا كان تارك الصلاة يرى أنه أحسن من غيره، فإن شارب الخمر يرى أنه أحسن من غيره، فيقول: هناك أناس يتعاطون المخدرات ويزنون! وآكل الربا يرى أنه أحسن من غيره ... وهكذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(21/158)
فهل هذا شعار الصالحين المؤمنين، إن المؤمنين هم الذين يخافون إذا أطاعوا واستقاموا .. يجاهدون في سبيل الله ويخافون ألا يتقبل الله منهم الجهاد، ويصلون جماعة بإقامة الأركان والواجبات والسنن، ويخافون أن لا تقبل منهم، وينفقون في السر من طيب أموالهم وكسبهم، ويخافون أن لا يقبل منهم، فما أبعد حالنا عن حال السلف الصالح والله المستعان!
يقول: "لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم".
فالمجتمع الذي يعرف دين الله تعالى وأمره، ويعرف الحلال والحرام، مطالب بما لا يطالب به غيره، والإنسان وإن كان مقرباً أو صالحاً أو فيه خير، فهو مطالب بما لا يطالب به غيره.
إذاً: اعرف منزلتك، واعرف قدرك، واستقم على أمر الله.
يقول رحمه الله: "ولأن الواجب لله منه الشكر على المنزلة؛ فيضاعف بالنسبة لعلو تلك المنزلة، فالعبد إن كان مستقيماً فخوفه من سوء العاقبة؛ لقوله تعالى: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]"، إذاً: الواجب على الإنسان إذا كان من المقربين أن يشكر الله سبحانه وتعالى، ويضاعف الخوف منه سبحانه، فإن هذا من شكر النعمة، فإذا رزق العبد الخوف من الله فمن شكر النعمة أن يخاف الله أكثر، وإذا رزق التقوى فمن شكرها أن يتقي أكثر، وإذا رزق الاستقامة فمن شكرها أن يستقيم أكثر.. وهكذا، فكل عمل من أعمال الخير من شكر الله عز وجل عليه أن يزيد العبد منه، هذا هو معنى كلامه رحمه الله كما يبدو.
يقول رحمه الله: "فالعبد إن كان مستقيماً فخوفه من سوء العاقبة"، وما أكثر من تكون حياته كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها }.(21/159)
إذاً: الخوف من سوء العاقبة والخاتمة، هو ديدن الصالحين، وعباد الله المتقين، وما من أحد إلا وهو يخاف على نفسه من ذلك حتى الأنبياء، ولذلك كان دعاء يوسف عليه السلام: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101] فلابد أن يدعو العبد ربه أن يحييه مؤمناً ويتوفاه على الإيمان، فإنه لا يضمن ذلك مهما استقام في حياته، والكلام في هذا يطول.
يقول الحافظ : "أو نقصان الدرجة بالنسبة" فالعبد إما أن يحال بينه وبين قلبه فيحبط عمله بالكلية -عياذاً بالله- كما مر معنا في قصة الرجل الذي قال: (والله لا يغفر الله لفلان)، أو تنقص درجته؛ إذْ ربما يكون في شبابه على استقامة، ودعوة، وجهاد، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ثم يختم له في آخر عمره بضعف وفتور ونقص في ذلك، وإن لم ينقطع بالكلية.
يقول: "وإن كان مائلاً فخوفه من سوء فعله"، أي: إن كان مذنباً فخوفه من سوء فعله، ولذلك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن والمنافق مع ذنوبهما، فقال: "المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا" أي: أطاره بيده، فمهما افترى، أو كذب، أو زنى، أو سرق، أو أكل الحرام، أو ترك الصلاة، كلها عنده كذباب وقع على أنفه ثم طار وذهب، وكأن لم يكن شيء، لكن المؤمن الذي يخاف الله ويشعر بخطر الذنوب، لو فعل ذنباً واحداً لرآه كالجبل يخاف أن يقع عليه.
يقول الحافظ : "وينفعه ذلك مع الندم والإقلاع، فإن الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد عليها، وأن يحرم التوبة، أو لا يكون ممن شاء الله أن يغفر له، فهو مشفق من ذنبه، طالب من ربه أن يدخله فيمن يغفر له"، ثم ذكر رحمه الله أحاديث كثيرة في الدلالة على هذا الموضوع، والمقصود هنا هو دلالة الحديث، وما يتعلق بموضوع العقيدة، وهو الحكم على المعين، وأن المعين قد لا يندرج تحت الوعيد.(21/160)
الجواب على استشكال: كيف غفر للرجل وهو منكر للبعث؟
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السادسة)
يقول الحافظ رحمه الله: عند رواية: {فو الله لئن قدر الله علي } "قال الخطابي : قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟" لأنه قال: (لئن قدر الله عليَّ)، حتى وإن لم يذكر لفظ القدرة فإنه قد أوصى أبناءه أن يحرقوه؛ ظناً منه أن هذا الشيء سيخلصه من البعث والحساب.
لقد كان يرى أنه وقع في مأزق عظيم.. فالموت أدركه وحضره، وصفحته كلها سوداء، وديوانه كله خطايا، وتذكر شدة عذاب الله سبحانه وتعالى، وتذكر أن أمامه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وملائكةً يكتبون ما يفعل ولن يظلموه شيئاً، وميزاناً ينصب يوم القيامة: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، وعرضاً على الله سبحانه وتعالى، ووقوفاً بين يديه.. تذكر هذه المعاني كلها، فظن أن لا مخرج له أبداً، وأمام هذا الضيق والكرب والشدة والبحث عن حلٍّ؛ أوصى بهذه الوصية.
إذاً: هو يظن أن هذه الوصية سوف تنجيه من عذاب الله، وأنهم إن فعلوا به ذلك فلن يقف بين يدي الله ولن يسأله الله؛ لأنه قد تفرق في البر والبحر وذهبت به الريح في كل مكان وانتهى أمره.
فهو -على حسب الاستشكال الذي أورده الخطابي رحمه الله- منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى، قال الخطابي : "والجواب: أنه لم ينكر البعث"؛ لأنه لو كان منكراً للبعث لما خاف من لقاء الله عز وجل، فهو معترف ومصدق بالبعث، لكن الخطأ والخلل جاء من ظنه أن هذه الحيلة سوف تنجيه من البعث.(21/161)
يقول الخطابي : "وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله"، فإيمانه واضح، إذ قد قال: (خشيتك يا رب). (مخافتك يا رب)، يقول الحافظ : "قال ابن قتيبة " وهو أديب أهل السنة كما أن الجاحظ أديب المعتزلة ". قال: "قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك"، وهذه العبارة انتصر لها وأيدها شيخ الإسلام رحمه الله، فقوله: (قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين)، فليس كل مسلم لابد أن يكون محيطاً بجميع صفات الله، فقد يغلط، وهذا شيء وارد، لكنه قال: (في بعض الصفات)، وقال: (قوم من المسلمين)، أي أن هناك أسباباً؛ إما لجهلهم، وإما لغير ذلك، فلتلك الأسباب يقع بعض المسلمين في الخطأ أو الغلط في بعض الصفات، فليس هذا من باب الإنكار والجحود، فلا يكفرون بذلك.
وهنا تقام عليهم الحجة، وتكشف لهم الشبهة، ويبين لهم. وإن كان الأصل أن جحد الصفات كفر بلا شك، لكن قد يغلط من يغلط في ذلك، فلهذا قلنا: إن المُعَيَّن لا يُسرع في الحكم عليه، فربما يكون جاهلاً، وربما يكون مخطئاً.. فليس كالجاحد إنكاراً، الذي يكفر بها رداً وتكذيباً.
ذكر من أول قوله: (لئن قدر الله علي)
قال الحافظ : "ورده ابن الجوزي -أي: رد كلام ابن قتيبة - وقال: جحده صفة القدرة كفر اتفاقاً"، أي: ما دام أنه جحد القدرة، وأن الله لا يقدر على جمعه وبعثه؛ لأنه ظن أن الله لن يقدر على بعثه بعد أن يطحنوه ويذروه؛ فإن هذا كفر اتفاقاً. قال: "وإنما قيل: إن معنى قول: (هلئن قدر الله عليَّ) أي: ضيّق"، وهذه هي التأويلات، فإذا أخرجنا اللفظ عن ظاهره فلابد من تأويله، وهناك عدة تأويلات:
التأويل الأول: قوله: (لئن قدر الله عليَّ) أي: ضيق، قال ابن الجوزي: "وهي كقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7] أي: ضيق".(21/162)
التأويل الثاني: قال: "ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه، كما غلط ذلك الآخر فقال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك }" والجواب عن التأويل الأول سنذكره عندما نذكر كلام شيخ الإسلام ، وأما التأويل الثاني: فإن هناك فرقاً بين الرجلين؛ إذ إن صاحب الدابة عندما قال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك } أخطأ في اللفظ فقط، أما في المعنى فهو يريد أن يقول: (اللهم أنت ربي وأنا عبدك)، لكنه من شدة الفرح أخطأ لسانه، أما هذا فإنه قال: (أحرقوني ثم اسحقوني..) إلخ، فهو معتقد من قلبه وجازم على الفعل، ومصمم عليه ومريد له، إذ قال: افعلوا بي هذا الفعل حتى لا يبعثني ربي ولا يجازيني.
إذاً: الفرق بينهما واضح، فليس حكمهما واحداً.
التأويل الثالث: قال: "أو يكون قوله: (لئن قدَّر عليَّ) -بتشديد الدال- أي: قدَّر علي أن يعذبني ليعذبني"، أي: إن كان مقدراً علي العذاب، وقد قضى الله بأني أعذب، فإني سوف أعذب عذاباً لا يعذبه أحد قبلي.
وهذا التأويل يخرج الحديث عن معناه؛ لأنه لا فائدة حينئذ من حرقه وطحنه وذره في الريح؛ لأنه إن كان كتب عليه العذاب فسيعذب؛ سواء طحنوه أو لم يطحنوه، أحرقوه أو لم يحرقوه، فهذا الكلام إذاً ليس له معنى، وقد رد عليه شيخ الإسلام رداً علمياً كما سنذكره.
التأويل الرابع: قال: "أو على أنه كان مثبتاً للصانع، وكان في زمن الفترة، فلم تبلغه شرائط الإيمان"، وهذا تأويل غير صحيح؛ لأنه كان من بني إسرائيل، وقد قال: أسرفتُ على نفسي بالمعاصي، وما ادخرتُ خيراً قط، فهذا دليل على أنه عارف بأمر الله، عالم بشرع الله، فكيف يقال بأنه من أهل الفترة؟!(21/163)
يقول الحافظ رحمه الله: "وأظهر الأقوال: أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه، حتى ذُهب بعقله لما يقول"، أي: لم يعد يعقل حقيقة ما يقول، قال: "ولم يقله قاصداً لحقيقة معناه؛ بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي، الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه"، فهذا الرجل عند الموت غلب عليه الخوف حتى نسي ما عدا ذلك، وقد يأتي على بعض الناس حالة يذكر فيها الرجاء المطلق وينسى الخوف، في حال الموت وفي غيره، لكن هذا لأنه في حال الموت ولإسرافه في الذنوب والمعاصي؛ كان ذلك أليق به أن يكون أكثر ذهولاً ونسياناً لقدرة الله سبحانه وتعالى، فهو لا ينكر أن الله على كل شيء قدير، ولا ينكر البعث بعد الموت، لكن لشدة خوفه من البعث أمر أبناءه أن يفعلوا به ذلك، فهو موقن أن البعث سيكون، لكنه ظن أن هذه حيلة يمكن أن ينجو بها من العذاب فيتلافى البعث.
يقول الحافظ : "وأبعد الأقوال قول من قال: إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر"، وهذا كلام بعيد؛ إذ كيف يجوز أن يغفر الله للكفار؟ وعلى هذا التأويل لن يكون للحديث معنى، لكن يظل معناه وموعظته وعبرته قائمة على الاحتمال الصحيح: أن الخوف من الله عز وجل هو الذي حمله على ذلك.
ذكر من أول قوله: (لئن قدر الله علي)
من درس: الجواب على استشكال: كيف غفر للرجل وهو منكر للبعث؟
قال الحافظ : "ورده ابن الجوزي -أي: رد كلام ابن قتيبة - وقال: جحده صفة القدرة كفر اتفاقاً"، أي: ما دام أنه جحد القدرة، وأن الله لا يقدر على جمعه وبعثه؛ لأنه ظن أن الله لن يقدر على بعثه بعد أن يطحنوه ويذروه؛ فإن هذا كفر اتفاقاً. قال: "وإنما قيل: إن معنى قول: (هلئن قدر الله عليَّ) أي: ضيّق"، وهذه هي التأويلات، فإذا أخرجنا اللفظ عن ظاهره فلابد من تأويله، وهناك عدة تأويلات:
التأويل الأول: قوله: (لئن قدر الله عليَّ) أي: ضيق، قال ابن الجوزي: "وهي كقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7] أي: ضيق".(21/164)
التأويل الثاني: قال: "ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه، كما غلط ذلك الآخر فقال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك }" والجواب عن التأويل الأول سنذكره عندما نذكر كلام شيخ الإسلام ، وأما التأويل الثاني: فإن هناك فرقاً بين الرجلين؛ إذ إن صاحب الدابة عندما قال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك } أخطأ في اللفظ فقط، أما في المعنى فهو يريد أن يقول: (اللهم أنت ربي وأنا عبدك)، لكنه من شدة الفرح أخطأ لسانه، أما هذا فإنه قال: (أحرقوني ثم اسحقوني..) إلخ، فهو معتقد من قلبه وجازم على الفعل، ومصمم عليه ومريد له، إذ قال: افعلوا بي هذا الفعل حتى لا يبعثني ربي ولا يجازيني.
إذاً: الفرق بينهما واضح، فليس حكمهما واحداً.
التأويل الثالث: قال: "أو يكون قوله: (لئن قدَّر عليَّ) -بتشديد الدال- أي: قدَّر علي أن يعذبني ليعذبني"، أي: إن كان مقدراً علي العذاب، وقد قضى الله بأني أعذب، فإني سوف أعذب عذاباً لا يعذبه أحد قبلي.
وهذا التأويل يخرج الحديث عن معناه؛ لأنه لا فائدة حينئذ من حرقه وطحنه وذره في الريح؛ لأنه إن كان كتب عليه العذاب فسيعذب؛ سواء طحنوه أو لم يطحنوه، أحرقوه أو لم يحرقوه، فهذا الكلام إذاً ليس له معنى، وقد رد عليه شيخ الإسلام رداً علمياً كما سنذكره.
التأويل الرابع: قال: "أو على أنه كان مثبتاً للصانع، وكان في زمن الفترة، فلم تبلغه شرائط الإيمان"، وهذا تأويل غير صحيح؛ لأنه كان من بني إسرائيل، وقد قال: أسرفتُ على نفسي بالمعاصي، وما ادخرتُ خيراً قط، فهذا دليل على أنه عارف بأمر الله، عالم بشرع الله، فكيف يقال بأنه من أهل الفترة؟!(21/165)
يقول الحافظ رحمه الله: "وأظهر الأقوال: أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه، حتى ذُهب بعقله لما يقول"، أي: لم يعد يعقل حقيقة ما يقول، قال: "ولم يقله قاصداً لحقيقة معناه؛ بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي، الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه"، فهذا الرجل عند الموت غلب عليه الخوف حتى نسي ما عدا ذلك، وقد يأتي على بعض الناس حالة يذكر فيها الرجاء المطلق وينسى الخوف، في حال الموت وفي غيره، لكن هذا لأنه في حال الموت ولإسرافه في الذنوب والمعاصي؛ كان ذلك أليق به أن يكون أكثر ذهولاً ونسياناً لقدرة الله سبحانه وتعالى، فهو لا ينكر أن الله على كل شيء قدير، ولا ينكر البعث بعد الموت، لكن لشدة خوفه من البعث أمر أبناءه أن يفعلوا به ذلك، فهو موقن أن البعث سيكون، لكنه ظن أن هذه حيلة يمكن أن ينجو بها من العذاب فيتلافى البعث.
يقول الحافظ : "وأبعد الأقوال قول من قال: إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر"، وهذا كلام بعيد؛ إذ كيف يجوز أن يغفر الله للكفار؟ وعلى هذا التأويل لن يكون للحديث معنى، لكن يظل معناه وموعظته وعبرته قائمة على الاحتمال الصحيح: أن الخوف من الله عز وجل هو الذي حمله على ذلك.
فتوى ابن تيمية في الاحتراز من تكفير المعين
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السادسة)(21/166)
سئل شيخ الإسلام رحمه الله: "عن قومٍ داوموا على الرياضة مرة -أي: الرياضة الروحانية وهي التعبد- فرأوا أنهم قد تجوهروا" أي: قد صُفِّيت نفوسهم حتى تحولوا إلى جواهر، ومعلوم أن أصل التصوف مأخوذ من الديانة الهندوسية ، وعندهم أن الإنسان يتجوهر أو يتروحن، أي: يعذب الجسد حتى يُصفى الجوهر فيبقى الروح فقط، وهذه طريقة عبادة الهنود، فإذا صُفِّيت الروح اتحدت ببراهما، ولهذا فإن أصل دين الاتحادية والحلولية والوجودية هو من ذلك الدين الباطل، فإنهم يقولون: نعبد الله حتى نتحد معه، ثم يقول أحدهم: أنا الله! أو سبحاني سبحاني! أو ما في الجبة إلا الله! تعالى الله عما يصفون!
يقول: "فرأوا أنهم قد تجوهروا فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا -أي: العوام- لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة"، أي: أن الغرض من النبوة ومن الدين ومن القرآن هو الحكمة والمصلحة، "والمراد منها ضبط العوام"، وهذا كما يقول الفلاسفة كابن سينا وغيره: أن هذه الأوامر والنواهي والخطابات التي في القرآن عن صفات الله وغيرها، المراد بها الجمهور والعوام فقط، قال: "ولسنا نحن من العوام فندخل في حجر التكليف؛ لأننا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة.
فهل هذا القول كفر من قائله؟ أم يبدع من غير تكفير؟ وهل يصير ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم؟".
لأنهم مع هذا الكفر يدعون محبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه.
فأجاب رحمه الله: "لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه، وهو شرٌ من قول اليهود والنصارى؛ فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض"، وكذلك عندهم التزام ببعض الأوامر، أما هؤلاء فقد قالوا بالتحلل من كل أمرٍ ونهيٍ.(21/167)
ثم ذكر أن هذا أيضاً شرٌ من شرك العرب؛ لأن العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كان لديهم التزام ببعض الشيء، فلم يقل بالتحلل بالكلية من الأمر والنهي إلا هؤلاء وشيوخ الصوفية الذين يقولون: يسقط عنا التكليف إذا بلغنا درجة اليقين، فإن الله يقول: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] فعندهم: إذا بلغ العبد منزلة في العبادة سقطت عنه التكاليف!
يقول: "فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمرٍ ونهي، بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض، وهم من جنس فرعون وذويه، وهم مع هذا لابد أن يلتزموا بشيء يعيشون به".
فحتى لو قالوا: لا نلتزم أمراً ولا نهياً، فإن هذا محال؛ لأنه لابد أن يلتزموا بشيء يعيشون به. قال: "إذ لا يمكن للنوع الإنساني أن يعيش إلا بنوع أمرٍ ونهي" بل حتى في بلاد الغرب التي يسمونها بلاد الحرية الشخصية والديمقراطية ...إلخ، لا يمكن أن يعيشوا من غير التزام أمرٍ ونهي، فالذي يقول: أنا لا أعبد شيئاً ولا ألتزم بأمر ولا بدين، فإن هذا محال، وإذا لم يكن عابداً لله فلابد أن يكون عابداً حتى للشيطان أو الطواغيت عموماً.
قال: "فيخرجون عن طاعة الرحمن وعبادته إلى طاعة الشيطان وعبادته"، ولهذا فالأوراد والأذكار والرياضات البدعية؛ كلها من عبادتهم للشيطان.
يقول: "ففرعون هو الذي قال لموسى: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]" على سبيل الإنكار، "ثم كانت له آلهة يعبدها كما قال له قومه: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف:127]، أو (وإلهتك) كما في قراءة أخرى، فيصير المعنى على هذه القراءة: لا يعبدك، وليس فيها شاهد على ما نحن بصدده، لكن على القراءة المشهورة (وآلهتك) أي: لا يعبد ما تعبد يا فرعون، وهنا الشاهد على ما قاله شيخ الإسلام .(21/168)
إذاً: حتى فرعون كان يعبد آلهة، وهذا هو الواقع من تاريخ الفراعنة والمصريين القدماء أنهم كانوا يعبدون أصناماً.
يقول: "فمنهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود، وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور"، كما يقول بعض الصوفية : أن الصلاة لا تسقط عنه دائماً لكن أحياناً، فيصلي بعض الصلوات، ويحضر بعض الجمع ويتخلف عن بعضها، فإذا قيل له في ذلك قال: لقد كنتُ في حال الجمع! أو كنت في حال المشاهدة والحضور! نعوذ بالله من ذلك! يقول: "وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناءً عنها بما هو فيه من التوجه والحضور"، يقولون: إن الغرض من الذهاب إلى المسجد أن يكون الإنسان قلبه متعلقاً بالله وحاضراً، وهذا الأمر يحصل لنا ونحن في البيت! وهذا من أشد الكفر والضلال، يقول: "ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه؛ لأن الكعبة تطوف به"، وكم من شيوخ الصوفية قيلت عنه هذه الحكاية! يقال لأحدهم: لمَِ لم يحج الشيخ؟ فيقول: كيف يحج والكعبة تطوف به؟!! نعوذ بالله من هذا الكذب والافتراء على الله، فهذا القول أكفر من تركه لهذا الركن من أركان الإسلام، قال: "ومنهم من يستحل الفطر في رمضان لغير عذر شرعي، زعماً منه استغناءه عن الصيام"، يقول: إن الغرض من الصيام هو التهذيب الروحي ونحن في قمة الروحانية، فلِمَ الصيام؟!! "ومنهم من يستحل الخمر"، وأول من اكتشف الحشيش هم الصوفية الفقراء الهنود، عندما كانوا يمشون في الأرض ويأكلون أي شيء من النبات، فوجدوا هذه الشجرة فأكلوها، فرأوها شجرة عجيبة، يأكلها الفرد فيخرف ويظن أنه يرى الجنة والنار ..إلخ، فخدمت قضيتهم الروحانية الحمقاء، ولذلك أُثِرَ عن بعضهم أنهم كانوا ينهون عن شرب الخمر، ويقولون: الحشيش أحسن منه، والعياذ بالله!(21/169)
يقول رحمه الله: "ومنهم من يستحل الخمر زعماً منه أنها إنما تحرم على العامة الذين إذا شربوها تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء"، فالحكمة عندهم والعلة في تحريم الخمر أنها تورث العداوة والبغضاء، كما ذكر الله في القرآن، يقولون: وهذه العداوة إنما تحصل بين العوام، الذين إذا سكروا تشاجروا وتخاصموا، لكن مشايخ الطرق إذا شربوا فلن يفعلوا شيئاً من هذا، فالعلة منتفية. قال: "ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة، فتباح لهم دون العامة".
وهذه من الشبهات الشيطانية التي لبسها عليهم الشيطان، وما أكثر التلبيس!
قال شيخ الإسلام : "وهذه الشبهة كانت قد وقعت لبعض الأولين"، فقد شرب أفراد من الصحابة الخمر ظناً منهم أنها حلال، تأويلاً لقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [المائدة:93].
قال: "ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش؛ كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن، زعماً منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن، وإن كان مُحرماً في الشريعة"، لقد كان يقال هذا الكلام فيقول البعض: لعله إشاعات غير صحيحة، وها هو ذا شيخ الإسلام يذكره، وهذا ما يقوله الصوفية من البركة في الخلوة والزنا والفواحش والموبقات، والعياذ بالله!
يقول: "فهؤلاء كفار باتفاق المسلمين، وهم بمنزلة من يستحل قتل المسلمين بغير حق، ويسبي حريمهم، ويغنم أموالهم، وغير ذلك من المحرمات".(21/170)
الشاهد لهذا الموضوع قوله: "لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة، كما قال الله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]"، فمع ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عنهم إلا أنه يحترز ويذكر احتمالات حتى لا يفهم كلامه في سياقٍ دون ما يقصد، فيقول: لا يعني ذلك أن كل من استحل شيئاً من المحرمات يكفر مطلقاً؛ لأن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، والتكفير يكون كما قال: "فلا يحكم بكفر أحد حتى تقام عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة"، فلابد أن يبلغ قبل أن نكفره، وهذا الحكم إنما هو عندنا نحن في تكفير الناس، وليس عند الله، أما عند الله فإن الله تعالى أعلم بعباده.
يقول: "كما قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وقد جعل شيخ الإسلام هذه الآية في العذاب الذي هو العقوبة في الدنيا، لكن المراد بها: عذاب الآخرة الذي هو العذاب على ترك أوامر الله، وليس العذاب الكوني القدري الذي يقع لهم في الدنيا إذا كفروا أو أعرضوا.
قال رحمه الله: "ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم؛ لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية".
وهذا الأمر يقع كثيراً عند الذين أسلموا قريباً ولم يعلموا بأحكام الشريعة.
أثر الجهل في التكفير
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)
ما زلنا في موضوع الحكم على المعين بالتكفير أو التضليل أو التفسيق أو التبديع ونحو ذلك، وأن الحكم على المعين يختلف عن الحكم العام.(21/171)
فمن ذلك ما ذكره المصنف رحمه الله من أن المعين قد يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، أو يكون جاهلاً, أو يكون له إيمان عظيم وحسنات، فهذه ثلاثة احتمالات.
وحديث الرجل الذي أوصى بحرقه إذا مات وذره إنما يُحْمَل على الجهل، أي أنه يناسبه قول المصنف: [ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص] فهذا أقرب ما يمكن حمله عليه، فإن كان يعلم لكنه جهل هذا،فالمقصود هو العلم الحقيقي لا أي علم.
وكنا قد وصلنا في شرح كلام شيخ الإسلام رحمه الله في الفتوى التي سئلها عن الذين يداومون على الرياضة حتى يتجوهروا إلى قوله(11/406): "لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة".
بلوغ الحجة شرط في المؤاخذة والتكفير
فقوله: "فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة" يعتبر قاعدة مهمة ومعياراً يقاس به.
يقول: "كما قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]".
يقول رحمه الله: [ولهذا لو أسلم رجلٌ ولم يعلم أن الصلاة واجبةٌ عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم؛ لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا].
لا يَكفُر ولا يُكفَّر بعدم اعتقاده أن الصلاة واجبة أو أن الخمر محرم، وهاتان القضيتان من أظهر الأمور؛ لأن من أشهر وأظهر الواجبات: الصلاة، ومن أشهر وأظهر المحرمات: الخمر، وشيخ الإسلام رحمه الله دقيق في عبارته، لذلك عدل عن الزنا إلى الخمر؛ لأن الخمر تنفر منه النفوس السليمة وإن لم تكن متدينة، أما الزنا فإن الشهوات تدعو إليه، ولا يرتدع عنه إلا من كان يخاف الله، أو من لا يستطيعه.(21/172)
المقصود: أن واجباً معلوماً ظاهراً وهو الصلاة، ومحرماً معلوماً ظاهراً وهو شرب الخمر، من لم يعلم وجوب هذا وحرمة ذلك جاهلاً به، فإنه لا يكفَّر حتى تقوم عليه الحجة.
يقول: "بل ولا يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية".
قوله: "لا يعاقب" أي: لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أما في الدنيا: فمعلوم أنه لا يعاقب وهو لا يَعلَم، لكن يُعلَّم.
وأما في الآخرة: فلدلالة ما تقدم من الآيات مع ما ذكرناه في حديث الأربعة الذين يمتحنون يوم القيامة.
حكم من أسلم بدار حرب وما علم أن الصلاة واجبة
يقول: "بل قد اختلف العلماء فيمن أسلم بدار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة، ثم علم".
هذه مسألة تتفرع عن تلك المسألة، فإذا أسلم رجل في دار الحرب كأمريكا أو بريطانيا أو الصين أو يوغسلافيا ، وهو لا يعلم أن الصلاة واجبة، لأنه إنما أسلم بأن وجد شخصاً فعلَّمه الإسلام، أو وجد كتاباً فقرأ في هذا الكتاب أن الإسلام عقيدة صحيحة، وأن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الحق، فآمن بالله وآمن برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واعتقد أن القرآن حق والإيمان حق؛ لكن ما علم أن هناك صلاة ولا صياماً، وبقي شهراً أو سنةً، ثم وجد شباباً مهتدين دعاةً إلى الله فعلَّموه الصلاة، وأنها واجبة، فهل يقضي المدة التي لم يصلّ فيها؟
يقول شيخ الإسلام : "اختلف العلماء: هل يجب عليه قضاء ما تركه بحال الجهل، على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره:
أحدهما: لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب أبي حنيفة :
والثاني: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عند أصحاب الشافعي ".
بلوغ الحجة شرط في المؤاخذة والتكفير
من درس: أثر الجهل في التكفير
فقوله: "فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة" يعتبر قاعدة مهمة ومعياراً يقاس به.(21/173)
يقول: "كما قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]".
يقول رحمه الله: [ولهذا لو أسلم رجلٌ ولم يعلم أن الصلاة واجبةٌ عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم؛ لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا].
لا يَكفُر ولا يُكفَّر بعدم اعتقاده أن الصلاة واجبة أو أن الخمر محرم، وهاتان القضيتان من أظهر الأمور؛ لأن من أشهر وأظهر الواجبات: الصلاة، ومن أشهر وأظهر المحرمات: الخمر، وشيخ الإسلام رحمه الله دقيق في عبارته، لذلك عدل عن الزنا إلى الخمر؛ لأن الخمر تنفر منه النفوس السليمة وإن لم تكن متدينة، أما الزنا فإن الشهوات تدعو إليه، ولا يرتدع عنه إلا من كان يخاف الله، أو من لا يستطيعه.
المقصود: أن واجباً معلوماً ظاهراً وهو الصلاة، ومحرماً معلوماً ظاهراً وهو شرب الخمر، من لم يعلم وجوب هذا وحرمة ذلك جاهلاً به، فإنه لا يكفَّر حتى تقوم عليه الحجة.
يقول: "بل ولا يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية".
قوله: "لا يعاقب" أي: لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أما في الدنيا: فمعلوم أنه لا يعاقب وهو لا يَعلَم، لكن يُعلَّم.
وأما في الآخرة: فلدلالة ما تقدم من الآيات مع ما ذكرناه في حديث الأربعة الذين يمتحنون يوم القيامة.
حكم من أسلم بدار حرب وما علم أن الصلاة واجبة
من درس: أثر الجهل في التكفير
يقول: "بل قد اختلف العلماء فيمن أسلم بدار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة، ثم علم".(21/174)
هذه مسألة تتفرع عن تلك المسألة، فإذا أسلم رجل في دار الحرب كأمريكا أو بريطانيا أو الصين أو يوغسلافيا ، وهو لا يعلم أن الصلاة واجبة، لأنه إنما أسلم بأن وجد شخصاً فعلَّمه الإسلام، أو وجد كتاباً فقرأ في هذا الكتاب أن الإسلام عقيدة صحيحة، وأن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الحق، فآمن بالله وآمن برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واعتقد أن القرآن حق والإيمان حق؛ لكن ما علم أن هناك صلاة ولا صياماً، وبقي شهراً أو سنةً، ثم وجد شباباً مهتدين دعاةً إلى الله فعلَّموه الصلاة، وأنها واجبة، فهل يقضي المدة التي لم يصلّ فيها؟
يقول شيخ الإسلام : "اختلف العلماء: هل يجب عليه قضاء ما تركه بحال الجهل، على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره:
أحدهما: لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب أبي حنيفة :
والثاني: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عند أصحاب الشافعي ".
اختلاف العلماء في وجوب القضاء على الجاهل بعد علمه
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)
يقول: "بل النزاع بين العلماء في كل من ترك واجباً قبل بلوغ الحجة".
أمثلة لترك الواجب من الجاهل
قال: "مثل من ترك الصلاة عند عدم الماء، يحسب أن الصلاة لا تصح بتيمم":
وهذا حكم آخر غير الحكم الأول، فالأول لا يعلم وجوب الصلاة أصلاً، وهذا يعلم وجوب الصلاة لكن يظنها لا تجب إذا لم يجد الماء.
قال: "أو من أكل حتى تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيحسب أن ذلك هو المراد بالآية، يعني قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]".
وضع حبلين أحدهما أسود والآخر أبيض، وقعد ينتظر حتى يميز بينهما وقد طلع الفجر، لكنه يظن جواز الأكل حتى يتبين له الأبيض من الأسود، فهل يقضي أو لا يقضي؟(21/175)
وهذا أمر وقع لبعض الصحابة، وهو عدي بن حاتم ، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {إنك -إذاً- لعريض الوساد }.
قال ابن تيمية :"أو مسَّ ذكره، ثم تبين له وجوب ذلك".
أي: كان يعتقد عدم وجوب الوضوء من مس الذكر، ثم تبين له وجوب ذلك على الخلاف الفقهي، بأن ترجح لديه بعد حين أن القول الصحيح هو أن من مس ذكره فليتوضأ.
يقول رحمه الله: "وأمثال هذه المسائل: هل يجب عليه القضاء؟".
وكذلك لو أن رجلاً قرأ أو علم أن الله شرع التيمم؛ لكن جهل كيف يتيمم فتمرغ كما تتمرغ الدابة، فصلى بهذا شهوراً أو أسابيع أو أياماً، وهكذا غير ذلك من الأحكام.
ذكر الخلاف في حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه
والمقصود من هذه الأمثلة أن هناك خلافاً فيمن وقع في مثل هذه المسائل، وهو المكلف الذي ترك واجباً قبل بلوغ الحجة، ثم بلغته الحجة هل عليه القضاء؟
يقول: "على قولين في مذهب أحمد وغيره، وأصل ذلك هذه المسائل الأصولية". يعني من علم الأصول لا من أصول الدين، والمسألة الأصولية هي ما ذكره بقوله:
"هل يثبت حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه؟ أو لا يثبت إلا بعد أن يتمكن من سماعه؟!"
قال: "على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره":
فالقول الأول: "قيل: يثبت مطلقاً" وذلك على القول بأن الله تعالى إذا خاطب العباد بشيء، فإنه يثبت في حق جميع المكلفين وإن لم يبلغهم.
والقول الثاني: "وقيل: لا يثبت مطلقاً".
أي: لا يثبت حتى يتمكن من سماعه ويبلغه، فيكون بلوغ الحجة شرطاً للوجوب كما سيأتي.
والقول الثالث: "وقيل: يفرق بين الخطاب الناسخ والخطاب المبتدأ، كأهل القبلة"
أي: استدلالاً بمسألة نسخ القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وقد جاء خبر النسخ بعض الصحابة وهم يصلون، فتحولوا إلى الكعبة ولم يقضوا تلك الصلاة، ومعلوم أن النسخ كان قبل أن يبدءوا فيها؛ لكنهم لما كانوا ثابتين على حكم شرعي لم يجب عليهم.(21/176)
الراجح عدم المؤاخذة قبل بلوغ الخطاب
يقول شيخ الإسلام : "والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية، أن الخطاب لا يثبت في حق أحدٍ قبل التمكن من سماعه".
وهو القول الثاني من الأقوال الثالثة، ومن الحجة له أنه كيف يثبت الخطاب في حق أحد وهو لم يسمعه؟ والوقائع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله الكثيرة تشهد وتدل لهذا القول بعد أن يبلغه، فإذا لم يبلغ المكلف الخطاب بقي على البراءة الأصلية، فلا يجب عليه شيء، وعليه قال شيخ الإسلام :
"فإن القضاء لا يجب عليه في الصور المذكورة ونظائرها"، فإذا جاءنا شخص وقال: كنت لا أدري أن الصلاة واجبة، قلنا له: صل من حين علمت وجوبها، ولا يجب عليك قضاء ما قبل علمك بوجوبها.
وآخر كان يترك الصلاة لعدم وجود الماء ولم يبلغه حكم التيمم، أو تيمم على غير الكيفية المشروعة، والآخر كان يأكل في رمضان حتى يتبين له الحبل الأبيض من الأسود يفسر الآية بذلك جهلاً، فالصحيح من أقوال العلماء أنه لا يجب عليه القضاء، وكل هذه الصور قد وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً ممن وقع له ذلك بالقضاء، وهذا دليل صحيح صريح على أنه لا يثبت حكم الخطاب في حق أحدٍ إلا بعد تمكنه من سماعه، وقيام الحجة عليه.
ويدخل في هذا أيضاً: لو أنه بلغه النص ولكن لم يفهم منه الوجوب، كأن فهم منه الندب مثلاً، أو فهمه على غير وجهه، فإنه أيضاً لا يجب في حقه؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما تعبدنا بأن نطيعه في حدود ما نعلم أنه شرعه، فمن لم يعلم أن الله شرع هذا فلا يؤاخذ به.(21/177)
ما سبق يذكرنا بما يحدث هذه الأيام من الفتوى، ونذكر ذلك لشدة الحاجة إليه، ولخطأ من يفتي في هذه الأيام -وهم كثيرون مع الأسف-! يفتون أن من تاب وعمره أربعون سنة أو ستون أو أكثر، ولم يكن يصلي ولا يصوم قبل ذلك؛ بأن عليه أن يقضي جميع الصلوات التي فاتته، وصيام جميع شهور رمضان التي فاتته، وهذه الفتوى تجعل التوبة أمراً عسيراً، مما ينفر الناس عن التوبة!
والصحيح أنه لا يقضي، لكن هل ذلك لأنه لم يبلغه الحكم مثلما قلنا هنا؟
الجواب: ليس انتفاء وجوب القضاء لكون الحكم لم يبلغه، بل لأنه كان كافراً حيث لم يكن يصلي، والآن نقول له: أسلم حقيقةً، وصلِّ، فإذا ابتدأ الصلاة فقد استأنف الإسلام، وكل ما يفعله الإنسان في حال الردة فإنه لا يجب عليه أن يقضيه.
أمثلة لترك الواجب من الجاهل
من درس: اختلاف العلماء في وجوب القضاء على الجاهل بعد علمه
قال: "مثل من ترك الصلاة عند عدم الماء، يحسب أن الصلاة لا تصح بتيمم":
وهذا حكم آخر غير الحكم الأول، فالأول لا يعلم وجوب الصلاة أصلاً، وهذا يعلم وجوب الصلاة لكن يظنها لا تجب إذا لم يجد الماء.
قال: "أو من أكل حتى تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيحسب أن ذلك هو المراد بالآية، يعني قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]".
وضع حبلين أحدهما أسود والآخر أبيض، وقعد ينتظر حتى يميز بينهما وقد طلع الفجر، لكنه يظن جواز الأكل حتى يتبين له الأبيض من الأسود، فهل يقضي أو لا يقضي؟
وهذا أمر وقع لبعض الصحابة، وهو عدي بن حاتم ، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {إنك -إذاً- لعريض الوساد }.
قال ابن تيمية :"أو مسَّ ذكره، ثم تبين له وجوب ذلك".(21/178)
أي: كان يعتقد عدم وجوب الوضوء من مس الذكر، ثم تبين له وجوب ذلك على الخلاف الفقهي، بأن ترجح لديه بعد حين أن القول الصحيح هو أن من مس ذكره فليتوضأ.
يقول رحمه الله: "وأمثال هذه المسائل: هل يجب عليه القضاء؟".
وكذلك لو أن رجلاً قرأ أو علم أن الله شرع التيمم؛ لكن جهل كيف يتيمم فتمرغ كما تتمرغ الدابة، فصلى بهذا شهوراً أو أسابيع أو أياماً، وهكذا غير ذلك من الأحكام.
ذكر الخلاف في حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه
من درس: اختلاف العلماء في وجوب القضاء على الجاهل بعد علمه
والمقصود من هذه الأمثلة أن هناك خلافاً فيمن وقع في مثل هذه المسائل، وهو المكلف الذي ترك واجباً قبل بلوغ الحجة، ثم بلغته الحجة هل عليه القضاء؟
يقول: "على قولين في مذهب أحمد وغيره، وأصل ذلك هذه المسائل الأصولية". يعني من علم الأصول لا من أصول الدين، والمسألة الأصولية هي ما ذكره بقوله:
"هل يثبت حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه؟ أو لا يثبت إلا بعد أن يتمكن من سماعه؟!"
قال: "على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره":
فالقول الأول: "قيل: يثبت مطلقاً" وذلك على القول بأن الله تعالى إذا خاطب العباد بشيء، فإنه يثبت في حق جميع المكلفين وإن لم يبلغهم.
والقول الثاني: "وقيل: لا يثبت مطلقاً".
أي: لا يثبت حتى يتمكن من سماعه ويبلغه، فيكون بلوغ الحجة شرطاً للوجوب كما سيأتي.
والقول الثالث: "وقيل: يفرق بين الخطاب الناسخ والخطاب المبتدأ، كأهل القبلة"
أي: استدلالاً بمسألة نسخ القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وقد جاء خبر النسخ بعض الصحابة وهم يصلون، فتحولوا إلى الكعبة ولم يقضوا تلك الصلاة، ومعلوم أن النسخ كان قبل أن يبدءوا فيها؛ لكنهم لما كانوا ثابتين على حكم شرعي لم يجب عليهم.
الراجح عدم المؤاخذة قبل بلوغ الخطاب
من درس: اختلاف العلماء في وجوب القضاء على الجاهل بعد علمه(21/179)
يقول شيخ الإسلام : "والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية، أن الخطاب لا يثبت في حق أحدٍ قبل التمكن من سماعه".
وهو القول الثاني من الأقوال الثالثة، ومن الحجة له أنه كيف يثبت الخطاب في حق أحد وهو لم يسمعه؟ والوقائع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله الكثيرة تشهد وتدل لهذا القول بعد أن يبلغه، فإذا لم يبلغ المكلف الخطاب بقي على البراءة الأصلية، فلا يجب عليه شيء، وعليه قال شيخ الإسلام :
"فإن القضاء لا يجب عليه في الصور المذكورة ونظائرها"، فإذا جاءنا شخص وقال: كنت لا أدري أن الصلاة واجبة، قلنا له: صل من حين علمت وجوبها، ولا يجب عليك قضاء ما قبل علمك بوجوبها.
وآخر كان يترك الصلاة لعدم وجود الماء ولم يبلغه حكم التيمم، أو تيمم على غير الكيفية المشروعة، والآخر كان يأكل في رمضان حتى يتبين له الحبل الأبيض من الأسود يفسر الآية بذلك جهلاً، فالصحيح من أقوال العلماء أنه لا يجب عليه القضاء، وكل هذه الصور قد وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً ممن وقع له ذلك بالقضاء، وهذا دليل صحيح صريح على أنه لا يثبت حكم الخطاب في حق أحدٍ إلا بعد تمكنه من سماعه، وقيام الحجة عليه.
ويدخل في هذا أيضاً: لو أنه بلغه النص ولكن لم يفهم منه الوجوب، كأن فهم منه الندب مثلاً، أو فهمه على غير وجهه، فإنه أيضاً لا يجب في حقه؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما تعبدنا بأن نطيعه في حدود ما نعلم أنه شرعه، فمن لم يعلم أن الله شرع هذا فلا يؤاخذ به.(21/180)
ما سبق يذكرنا بما يحدث هذه الأيام من الفتوى، ونذكر ذلك لشدة الحاجة إليه، ولخطأ من يفتي في هذه الأيام -وهم كثيرون مع الأسف-! يفتون أن من تاب وعمره أربعون سنة أو ستون أو أكثر، ولم يكن يصلي ولا يصوم قبل ذلك؛ بأن عليه أن يقضي جميع الصلوات التي فاتته، وصيام جميع شهور رمضان التي فاتته، وهذه الفتوى تجعل التوبة أمراً عسيراً، مما ينفر الناس عن التوبة!
والصحيح أنه لا يقضي، لكن هل ذلك لأنه لم يبلغه الحكم مثلما قلنا هنا؟
الجواب: ليس انتفاء وجوب القضاء لكون الحكم لم يبلغه، بل لأنه كان كافراً حيث لم يكن يصلي، والآن نقول له: أسلم حقيقةً، وصلِّ، فإذا ابتدأ الصلاة فقد استأنف الإسلام، وكل ما يفعله الإنسان في حال الردة فإنه لا يجب عليه أن يقضيه.
ذكر الاتفاق على انتفاء الإثم مع الجهل
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)
يقول: "مع اتفاقهم على انتفاء الإثم"
أي أن الفقهاء عامةً من الصحابة وغيرهم اتفقوا على انتفاء الإثم، ولكن الخلاف في وجوب القضاء.
والحاصل مما ذكرنا، أنه لا يقضي من الناحية الحكمية والفقهية على الصحيح الراجح، وأيضاً لا يؤاخذ من الناحية الأخروية.
فيقول: "مع اتفاقهم على انتفاء الإثم؛ لأن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان" قال تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].
فاستجاب الله لهم أن لا يؤاخذهم إذا نسوا أو أخطئوا، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية.
يقول: "فإذا كان هذا في التأثيم، فكيف في التكفير؟" أي: إذا كان لا يأثم ولا يقضي، فكيف نقول: إنه يكفُر؟!
ثم يعلل لذلك رحمه الله، ويقول: "وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثيرٌ من علوم النبوات".(21/181)
بهذه المناسبة لشيخ الإسلام رحمه الله كلام قريب من هذا المعنى وأكثر وأوسع في تفسير سورة الإخلاص أيضاً، وموجزه: أنه قد توجد أمكنة أو أزمنة يندرس فيها كثير من علوم النبوات، فآثار النبوة تمحى وما أكثر ذلك! والجاهلية المطلقة لا تقع بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؟ لأن الله تعالى تأذن وتكفل: أن لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة ظاهرة لا يضرها من خالفها؛ لكن هناك جاهلية مقيدة في زمانٍ ومكان تكون آثار النبوة عنه غائبة، يقول رحمه الله عن مثل ذلك:
"حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يُعلم كثيرٌ مما يبعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر".
أي: أنه قد يوجد مسلمون -وهذا موجود في كل الأزمنة- لكن في مناطق نائية بعيدة لم يجدوا من يبلغهم دين الله الحق، فلا يعرفون من الإسلام إلا بعض الأمور كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أو يصلي، أو يعرف أن الحج واجب، وهذا ظاهر في كثير من الحجاج، لكن إذا جاء لا يدري بأعمال الحج، فعنده شعور وعاطفة فأحب أن يحج، لكن لا يعرف ما هو الحج، ويجهل هذه الأمور جميعاً.
ذكر حديث حذيفة ودلالته على انتفاء الإثم بالجهل
يقول: "ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء في الحديث: {يأتي على الناس زمانٌ لا يعرفون به صلاةً ولا زكاةً، ولا صوماً ولا حجاً، إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، يقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون صلاةً ولا زكاةً ولا حجاً، -فقال:- ولا صوم ينجيهم من النار }".(21/182)
هذا حديث حذيفة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، ويبدو لي أن فيه خطأ من المطبعة؛ لأن الحديث يقول فيه الراوي صلة بن أشيم لحذيفة رضي الله تعالى عنه: {فما تنفعهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاةً ولا زكاةً؟ قال: تنجيهم من النار }.
هذا يكون في آخر الزمان؛ لأن الإسلام يدرس كما يدرس وشي الثوب الخلق، فلا يبقى من آثاره شيء، إلا أن الشيخ الكبير أو المرأة الكبيرة، يقولون: لا إله إلا الله، أدركنا آباءنا وهم يقولون هذه الكلمة، نعوذ بالله أن يدركنا ذلك الزمان أو ذريتنا!
وفي الحديث الآخر: {لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله } أي: لا يُعرف الله عز وجل ولا يذكر.
مذهب السلف فيمن ترك الصلاة والصيام والحج
وأهل ذلك الزمان يتسافدون كما تتسافد الحمُر في الطرقات، وذلك لانتشار الجهل، فتنتشر الفواحش والمنكرات، ولا توجد مساجد ولا تقام الصلوات، ومع ذلك فإن هؤلاء لا يكفُرون، لأنه قال: {وما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ } وهذا السؤال يدل على أنه من المتقرر عند الصحابة والتابعين، أن من لا يصلي ولا يصوم ولا يحج فليس بمسلم، ولذلك تعجب التابعي فقال: {وما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ قال حذيفة : تنجيهم من النار } ولم يقل: تدخلهم الجنة؛ لأن الأصل قبل ذلك: أن من ترك هذه الأمور أنه مؤاخذ، فالأصل المؤاخذة، فتنجيهم من النار، سواء تنجيهم بمعنى أنهم لا يدخلونها، أو أنهم يعاقبون، ولا تنافي بين ذلك، فقد يكون حجب العلم عنهم نتيجة ذنوب ومعاصٍ أجرموها هم أو آباؤهم.
والمقصود أن لفظ: (تنجيهم) محتمل الأمرين: تنجيهم من النار وتدخلهم الجنة، أو تخرجهم منها بعد أن يعذبوا فيها.(21/183)
فالمقرر عند السلف أن من لا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولا يزكي ليس بمسلم، ولذلك استنكر التابعي ذلك في حق قوم لم يدروا ولم يسمعوا إلا الشهادتين، فكيف بمن يسمع الأذان كل وقت حتى في الإذاعة والتلفاز في وقت كل صلاة، ويرى الناس يصومون، ويسمع عن الحج كل عام، ومع ذلك لا يصوم ولا يصلي ولا يحج؛ لكن يسهر إلى آخر الليل، ثم ينام إلى الساعة الثامنة أو التاسعة، ثم يذهب إلى العمل ويرجع بلا صلاة ولا صوم، ولا عنده شيء من الدين، هل هذا يكون مسلماً؟!
حديث حذيفة لا يدل على عدم كفر تارك الصلاة
ثم إن حديث حذيفة لا يدل على عدم كفر تارك الصلاة وعدم خلوده؛ فكيف نقول: إن تارك الصلاة الذي يسمع الأذان ويعلم الوجوب، ويرى الناس يغدون ويجيئون إلى بيوت الله، ومع ذلك لا يصلي ولا يصوم ولا يفعل شيئاً من ذلك، أيكون هذا مسلماً أو ينجو من النار؟!
لا يمكن ذلك.
فإذا كان هذا في حق من كانوا في آخر الزمان، فكذلك -كما يقول شيخ الإسلام - من نشأ ببادية بعيدة، أو منطقة مغمورة لم تظهر فيها آثار النبوة؛ فإنه لا يؤاخذ حتى يبلغه ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ذكر حديث حذيفة ودلالته على انتفاء الإثم بالجهل
من درس: ذكر الاتفاق على انتفاء الإثم مع الجهل
يقول: "ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء في الحديث: {يأتي على الناس زمانٌ لا يعرفون به صلاةً ولا زكاةً، ولا صوماً ولا حجاً، إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، يقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون صلاةً ولا زكاةً ولا حجاً، -فقال:- ولا صوم ينجيهم من النار }".(21/184)
هذا حديث حذيفة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، ويبدو لي أن فيه خطأ من المطبعة؛ لأن الحديث يقول فيه الراوي صلة بن أشيم لحذيفة رضي الله تعالى عنه: {فما تنفعهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاةً ولا زكاةً؟ قال: تنجيهم من النار }.
هذا يكون في آخر الزمان؛ لأن الإسلام يدرس كما يدرس وشي الثوب الخلق، فلا يبقى من آثاره شيء، إلا أن الشيخ الكبير أو المرأة الكبيرة، يقولون: لا إله إلا الله، أدركنا آباءنا وهم يقولون هذه الكلمة، نعوذ بالله أن يدركنا ذلك الزمان أو ذريتنا!
وفي الحديث الآخر: {لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله } أي: لا يُعرف الله عز وجل ولا يذكر.
مذهب السلف فيمن ترك الصلاة والصيام والحج
من درس: ذكر الاتفاق على انتفاء الإثم مع الجهل
وأهل ذلك الزمان يتسافدون كما تتسافد الحمُر في الطرقات، وذلك لانتشار الجهل، فتنتشر الفواحش والمنكرات، ولا توجد مساجد ولا تقام الصلوات، ومع ذلك فإن هؤلاء لا يكفُرون، لأنه قال: {وما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ } وهذا السؤال يدل على أنه من المتقرر عند الصحابة والتابعين، أن من لا يصلي ولا يصوم ولا يحج فليس بمسلم، ولذلك تعجب التابعي فقال: {وما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ قال حذيفة : تنجيهم من النار } ولم يقل: تدخلهم الجنة؛ لأن الأصل قبل ذلك: أن من ترك هذه الأمور أنه مؤاخذ، فالأصل المؤاخذة، فتنجيهم من النار، سواء تنجيهم بمعنى أنهم لا يدخلونها، أو أنهم يعاقبون، ولا تنافي بين ذلك، فقد يكون حجب العلم عنهم نتيجة ذنوب ومعاصٍ أجرموها هم أو آباؤهم.
والمقصود أن لفظ: (تنجيهم) محتمل الأمرين: تنجيهم من النار وتدخلهم الجنة، أو تخرجهم منها بعد أن يعذبوا فيها.(21/185)
فالمقرر عند السلف أن من لا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولا يزكي ليس بمسلم، ولذلك استنكر التابعي ذلك في حق قوم لم يدروا ولم يسمعوا إلا الشهادتين، فكيف بمن يسمع الأذان كل وقت حتى في الإذاعة والتلفاز في وقت كل صلاة، ويرى الناس يصومون، ويسمع عن الحج كل عام، ومع ذلك لا يصوم ولا يصلي ولا يحج؛ لكن يسهر إلى آخر الليل، ثم ينام إلى الساعة الثامنة أو التاسعة، ثم يذهب إلى العمل ويرجع بلا صلاة ولا صوم، ولا عنده شيء من الدين، هل هذا يكون مسلماً؟!
حديث حذيفة لا يدل على عدم كفر تارك الصلاة
من درس: ذكر الاتفاق على انتفاء الإثم مع الجهل
ثم إن حديث حذيفة لا يدل على عدم كفر تارك الصلاة وعدم خلوده؛ فكيف نقول: إن تارك الصلاة الذي يسمع الأذان ويعلم الوجوب، ويرى الناس يغدون ويجيئون إلى بيوت الله، ومع ذلك لا يصلي ولا يصوم ولا يفعل شيئاً من ذلك، أيكون هذا مسلماً أو ينجو من النار؟!
لا يمكن ذلك.
فإذا كان هذا في حق من كانوا في آخر الزمان، فكذلك -كما يقول شيخ الإسلام - من نشأ ببادية بعيدة، أو منطقة مغمورة لم تظهر فيها آثار النبوة؛ فإنه لا يؤاخذ حتى يبلغه ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ذكر حديث الرجل الذي أوصى بحرقه جاهلاً
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)
يقول: رحمه الله: "وقد دل على هذا الأصل".
الذي هو عدم المؤاخذة.(21/186)
"ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قال رجل -لم يُعجِّل حسنة قط- لأهله: إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبنه أحداً من العالمين، فلما فمات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلتَ هذا؟ قال من خشيتك يا رب، وأنت أعلم! فغفر الله له }"، ثم ذكر لفظاً آخر وروايات أخر.
بيان أن الرجل أنكر القدرة والمعاد
قال رحمه الله: "فهذا الرجل: ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق"، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، فوقع هذا الرجل في أمرين عظيمين: حيث ظن أنه إذا تفرق لن يقدر الله عليه، وظن بناء على ذلك أنه لا يعيده، أي: لا يبعثه.
قال رحمه الله: "وكل واحدٍ من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت؛ كُفر".
فشيخ الإسلام رحمه الله يقول: هذا الرجل وقع في مصيبتين:
الأولى: إنكار القدرة.
والثانية: إنكار المعاد.
فيقول: "لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره، وخشيته منه جاهلاً بذلك"، أي فهذا مؤمن أسرف على نفسه ولم يعمل خيراً قط، ولكن أيقظ الله قلبه في تلك اللحظة، ولكنه غلا في الخوف حين وجد أنه في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، ولا يستطيع أن يتقدم ولا يتأخر عن ذلك، وأمامه صفحة سوداء ملطخة بالذنوب والمعاصي، وهو يخشى عذاب الله، ويريد أن ينجو من العذاب بأي وجه، فوقع في هذه المشكلة؛ حيث غلا في الخوف، وظن الحل والخلاص فيما ليس بحل ولا خلاص، بل هو وقوع في مصيبة أو مشكلة أخرى، وهكذا حال كثير من الناس إلا من مَنَّ الله تبارك وتعالى عليه بالهداية، وليس كل من حَسُن دافعه أو رغبته يصيب الحق، ويحسن التصرف والتدبير في الأمر.
يقول: "ولكنه كان مع ذلك جاهلاً ضالاً في هذا الظن مخطئاً؛ فغفر الله له ذلك".(21/187)
قال: "والحديث صريح بأن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر؛ إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره، وهو بيِّن".
أي أن من شك في المعاد وأقيمت عليه الحجة حكم بكفره.
ذكر بعض التأويلات المخالفة لظاهر الحديث
قال: "ومن تأول قوله: لئن قدر الله علي، بمعنى (قضى) أو بمعنى (ضيَّق) فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه".
أي أن بعض العلماء أوَّل هذا الحديث، وذلك على أقوال:
الأول: أن قدر بمعنى قضى.
الثاني: أنه بمعنى ضيق.
الثالث: أنه غلط في اللفظ، مثل الرجل الذي قال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك }.
الرابع: قال ابن الجوزي : إنه كان في زمن الفترة.
والخامس: أنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر. وهذا بعيد.
بيان أن الرجل أنكر القدرة والمعاد
من درس: ذكر حديث الرجل الذي أوصى بحرقه جاهلاً
قال رحمه الله: "فهذا الرجل: ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق"، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، فوقع هذا الرجل في أمرين عظيمين: حيث ظن أنه إذا تفرق لن يقدر الله عليه، وظن بناء على ذلك أنه لا يعيده، أي: لا يبعثه.
قال رحمه الله: "وكل واحدٍ من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت؛ كُفر".
فشيخ الإسلام رحمه الله يقول: هذا الرجل وقع في مصيبتين:
الأولى: إنكار القدرة.
والثانية: إنكار المعاد.(21/188)
فيقول: "لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره، وخشيته منه جاهلاً بذلك"، أي فهذا مؤمن أسرف على نفسه ولم يعمل خيراً قط، ولكن أيقظ الله قلبه في تلك اللحظة، ولكنه غلا في الخوف حين وجد أنه في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، ولا يستطيع أن يتقدم ولا يتأخر عن ذلك، وأمامه صفحة سوداء ملطخة بالذنوب والمعاصي، وهو يخشى عذاب الله، ويريد أن ينجو من العذاب بأي وجه، فوقع في هذه المشكلة؛ حيث غلا في الخوف، وظن الحل والخلاص فيما ليس بحل ولا خلاص، بل هو وقوع في مصيبة أو مشكلة أخرى، وهكذا حال كثير من الناس إلا من مَنَّ الله تبارك وتعالى عليه بالهداية، وليس كل من حَسُن دافعه أو رغبته يصيب الحق، ويحسن التصرف والتدبير في الأمر.
يقول: "ولكنه كان مع ذلك جاهلاً ضالاً في هذا الظن مخطئاً؛ فغفر الله له ذلك".
قال: "والحديث صريح بأن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر؛ إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره، وهو بيِّن".
أي أن من شك في المعاد وأقيمت عليه الحجة حكم بكفره.
ذكر بعض التأويلات المخالفة لظاهر الحديث
من درس: ذكر حديث الرجل الذي أوصى بحرقه جاهلاً
قال: "ومن تأول قوله: لئن قدر الله علي، بمعنى (قضى) أو بمعنى (ضيَّق) فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه".
أي أن بعض العلماء أوَّل هذا الحديث، وذلك على أقوال:
الأول: أن قدر بمعنى قضى.
الثاني: أنه بمعنى ضيق.
الثالث: أنه غلط في اللفظ، مثل الرجل الذي قال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك }.
الرابع: قال ابن الجوزي : إنه كان في زمن الفترة.
والخامس: أنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر. وهذا بعيد.
دفع تأويلات من أول حديث الشك في القدرة من وجوه
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)(21/189)
فذكر شيخ الإسلام أن من تأول الحديث، فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، وسيرد رحمه الله على من تأول الحديث من وجوه:
الترتيب بين الجملتين بالفاء يدل على السببية
الوجه الأول: قال: "فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد، وقال: إذا أنا متُ فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فذِكْر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنها سبب لها" فالجملة الثانية هي سبب أمره بالحرق وغيره مما ذكر في الجملة الأولى.
يقول: "فهو فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقراً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته إذا لم يفعل، لم يكن في ذلك فائدة".
أي أنه إذا كان مقراً بأن الله يقدر على هذا وهذا فما الفائدة؟! لكن هو يرى أنه لو دفن بجثته فسيقدر الله على أن يبعثه، فإذا أحرق وسحق فلن يقدر الله عليه، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في قدرة الله على إعادة الإنسان.
فالوجه الأول أن التأويل يتنافى مع لفظ الحديث في الترتيب والتعقيب.
المغايرة بين تفريقه وأن يقدر الله عليه
الوجه الثاني: قال: "ولأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب".
أي: إذا كان (لئن قدر عليَّ) بمعنى: ضيق، أو بمعنى: قضى وحكم علي بالعذاب، فذلك هو العذاب نفسه.
قال: "فقد جعل تفريقه مغايراً لأن يقدر الرب عليه، ولهذا قال: فوالله لئن قدَر الله عليّ ليعذبني، فلا يكون الشرط هو الجزاء، فهو يقول: أنا أوصي بتفريقي حتى لا يعذبني" وعلى قولهم يكون كأنه قال: لئن عذبني الله ليعذبني، وليس هذا مراداً.
لو كان معنى (قدَر) قدَّر أو ضيق لما لجأ إلى كلمات بعيدة وعامة
الوجه الثالث: يقول: "ولأنه لو كان مراده ذلك لقال: فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني".(21/190)
لو كان قصده ما قيل إنه بمعنى ضيَّق أو بمعنى قدَّر عليَّ العذاب، لقال: يا أبنائي افعلوا هذا، فوالله لئن جازاني ربي ليعذبني عذاباً شديداً، ولم يقل: لئن قدر علي، فتكون القدرة والتقدير خارجين عن المقصود، "كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك" يعني فالناس عادةً لا يلجئون إلى خطاب بعيد المعنى مع إمكان الخطاب بخطاب معروف واضح، وهذا الرجل لم يكن في مقام بلاغة، حتى يأتي بالمعاني البعيدة، بل في مقام موت، يريد أن يقول لأولاده شيئاً واضحاً سهلاً يفهمونه.
لفظ (قَدِرَ) بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة
قال: "ولأن لفظ (قَدرَ) بمعنى ضيّق لا أصل له في اللغة".
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبحرُّه وتوسُّعه في لغة العرب معروف، فقد جاء إليه مرة أبو حيان ، بكتاب سيبويه ، وبدأ يفتخر به على شيخ الإسلام ، فقال له شيخ الإسلام : اسكت، فإن في كتاب سيبويه ثمانين خطأً.
فقد كان رحمه الله حجة في اللغة.
يقول: "ومن استشهد على ذلك"، أي على أن قدَّر بمعنى: ضيق، "بقوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11]، وقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7] فقد استشهد بما لا يَشْهَد له فإن الله قال: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7]، وكما قال عز وجل: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [سبأ:35-36]، وقال في آية أخرى: وَيَقْدِرُ لَهُ [العنكبوت:62].(21/191)
يقول شيخ الإسلام : يقدر هنا ليس معناها: التضييق، فليس المعنى: ومن ضُيِّق عليه رزقه، يقول: "فإن اللفظ كان في قوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11] معناه: اجعل ذلك بقدْر ولا تزد ولا تنقص" أي: وليس معنى وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11]: ضيِّق؛ لأنهم قد يقولون: تضييق السرد أدعى إلى الإحكام، لأنه عندما يكون الدرع مخلخلاً لا يكون كما إذا كان مشتبكاً محكماً، وعليه فالتقدير يكون بمعنى: التضييق، هذه وجهة نظرهم.
شيخ الإسلام رحمه الله يقول: معنى قدِّر: اجعله بقَدْر معين ولا تزد ولا تنقص.
أي: التزم مقداراً معيناً، لا تزد عليه ولا تنقص منه، وذلك أدعى إلى الإحكام والضبط.
يقول: "وقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7]: أي: جُعل رزقه بقدر ما يكفيه من غير فضل، بحيث لو أنفق منه لاختل" فهذا دخله على قدْر ما يقيم نفسه وأولاده، ولو كان أقل من ذلك لأصبح من غير أهل الكفاية، وصار مسكيناً أو فقيراً فيعْطَى من الزكاة.
يقول: "إذ لو ينقص الرزق عن ذلك لم يعش".
يعني: بمقدار لو نقص عن هذا المقدار لم يعش، فالله سبحانه وتعالى يرزق العباد جميعاً؛ فيرزق بعضهم رزقاً واسعاً، ويرزق البعض الآخر بحيث يكون على أدنى الكفاية، كما في قوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر [سبأ:36].
تأويل لفظ (قدر) بمعنى قضى غير صحيح
الوجه الخامس: قال: "وأما قَدر بمعنى قدَّر أي: أراد تقدير الخير والشر، فهو لم يقل: إن قدَّر عليّ ربي العذاب".
فالموضوع ليس له علاقة بالقَدَر، لو كان كذلك لقال الرجل: لئن قدَّر عليَّ ربي العذاب ليعذبني..
يقول: "بل قال: لئن قَدِر عليَّ ربي. والتقدير يتناول النوعين، فلا يصح أن يقال: لئن قضى الله عليّ؛ لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره".(21/192)
أي: ولا يصلح أن يقول: لئن قضى الله عليّ؛ لأن القضاء قد كتب، وهو يريد شيئاً يتخلص منه، فيقول: (لئن قَدر) لأنه لا يدري: هل يقدر أو لا يقدر؟ أما أنه قضى وقدَّر فيما مضى فهذا أمر قد فرِغ منه.
يقول: "ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن ما فَعَله مانعاً من ذلك في ظنه".
قال: "ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة، ليس هذا موضع بسطها".
الترتيب بين الجملتين بالفاء يدل على السببية
من درس: دفع تأويلات من أول حديث الشك في القدرة من وجوه
الوجه الأول: قال: "فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد، وقال: إذا أنا متُ فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فذِكْر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنها سبب لها" فالجملة الثانية هي سبب أمره بالحرق وغيره مما ذكر في الجملة الأولى.
يقول: "فهو فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقراً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته إذا لم يفعل، لم يكن في ذلك فائدة".
أي أنه إذا كان مقراً بأن الله يقدر على هذا وهذا فما الفائدة؟! لكن هو يرى أنه لو دفن بجثته فسيقدر الله على أن يبعثه، فإذا أحرق وسحق فلن يقدر الله عليه، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في قدرة الله على إعادة الإنسان.
فالوجه الأول أن التأويل يتنافى مع لفظ الحديث في الترتيب والتعقيب.
المغايرة بين تفريقه وأن يقدر الله عليه
من درس: دفع تأويلات من أول حديث الشك في القدرة من وجوه
الوجه الثاني: قال: "ولأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب".
أي: إذا كان (لئن قدر عليَّ) بمعنى: ضيق، أو بمعنى: قضى وحكم علي بالعذاب، فذلك هو العذاب نفسه.(21/193)
قال: "فقد جعل تفريقه مغايراً لأن يقدر الرب عليه، ولهذا قال: فوالله لئن قدَر الله عليّ ليعذبني، فلا يكون الشرط هو الجزاء، فهو يقول: أنا أوصي بتفريقي حتى لا يعذبني" وعلى قولهم يكون كأنه قال: لئن عذبني الله ليعذبني، وليس هذا مراداً.
لو كان معنى (قدَر) قدَّر أو ضيق لما لجأ إلى كلمات بعيدة وعامة
من درس: دفع تأويلات من أول حديث الشك في القدرة من وجوه
الوجه الثالث: يقول: "ولأنه لو كان مراده ذلك لقال: فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني".
لو كان قصده ما قيل إنه بمعنى ضيَّق أو بمعنى قدَّر عليَّ العذاب، لقال: يا أبنائي افعلوا هذا، فوالله لئن جازاني ربي ليعذبني عذاباً شديداً، ولم يقل: لئن قدر علي، فتكون القدرة والتقدير خارجين عن المقصود، "كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك" يعني فالناس عادةً لا يلجئون إلى خطاب بعيد المعنى مع إمكان الخطاب بخطاب معروف واضح، وهذا الرجل لم يكن في مقام بلاغة، حتى يأتي بالمعاني البعيدة، بل في مقام موت، يريد أن يقول لأولاده شيئاً واضحاً سهلاً يفهمونه.
لفظ (قَدِرَ) بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة
من درس: دفع تأويلات من أول حديث الشك في القدرة من وجوه
قال: "ولأن لفظ (قَدرَ) بمعنى ضيّق لا أصل له في اللغة".
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبحرُّه وتوسُّعه في لغة العرب معروف، فقد جاء إليه مرة أبو حيان ، بكتاب سيبويه ، وبدأ يفتخر به على شيخ الإسلام ، فقال له شيخ الإسلام : اسكت، فإن في كتاب سيبويه ثمانين خطأً.
فقد كان رحمه الله حجة في اللغة.(21/194)
يقول: "ومن استشهد على ذلك"، أي على أن قدَّر بمعنى: ضيق، "بقوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11]، وقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7] فقد استشهد بما لا يَشْهَد له فإن الله قال: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7]، وكما قال عز وجل: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [سبأ:35-36]، وقال في آية أخرى: وَيَقْدِرُ لَهُ [العنكبوت:62].
يقول شيخ الإسلام : يقدر هنا ليس معناها: التضييق، فليس المعنى: ومن ضُيِّق عليه رزقه، يقول: "فإن اللفظ كان في قوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11] معناه: اجعل ذلك بقدْر ولا تزد ولا تنقص" أي: وليس معنى وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11]: ضيِّق؛ لأنهم قد يقولون: تضييق السرد أدعى إلى الإحكام، لأنه عندما يكون الدرع مخلخلاً لا يكون كما إذا كان مشتبكاً محكماً، وعليه فالتقدير يكون بمعنى: التضييق، هذه وجهة نظرهم.
شيخ الإسلام رحمه الله يقول: معنى قدِّر: اجعله بقَدْر معين ولا تزد ولا تنقص.
أي: التزم مقداراً معيناً، لا تزد عليه ولا تنقص منه، وذلك أدعى إلى الإحكام والضبط.
يقول: "وقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7]: أي: جُعل رزقه بقدر ما يكفيه من غير فضل، بحيث لو أنفق منه لاختل" فهذا دخله على قدْر ما يقيم نفسه وأولاده، ولو كان أقل من ذلك لأصبح من غير أهل الكفاية، وصار مسكيناً أو فقيراً فيعْطَى من الزكاة.
يقول: "إذ لو ينقص الرزق عن ذلك لم يعش".
يعني: بمقدار لو نقص عن هذا المقدار لم يعش، فالله سبحانه وتعالى يرزق العباد جميعاً؛ فيرزق بعضهم رزقاً واسعاً، ويرزق البعض الآخر بحيث يكون على أدنى الكفاية، كما في قوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر [سبأ:36].(21/195)
تأويل لفظ (قدر) بمعنى قضى غير صحيح
من درس: دفع تأويلات من أول حديث الشك في القدرة من وجوه
الوجه الخامس: قال: "وأما قَدر بمعنى قدَّر أي: أراد تقدير الخير والشر، فهو لم يقل: إن قدَّر عليّ ربي العذاب".
فالموضوع ليس له علاقة بالقَدَر، لو كان كذلك لقال الرجل: لئن قدَّر عليَّ ربي العذاب ليعذبني..
يقول: "بل قال: لئن قَدِر عليَّ ربي. والتقدير يتناول النوعين، فلا يصح أن يقال: لئن قضى الله عليّ؛ لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره".
أي: ولا يصلح أن يقول: لئن قضى الله عليّ؛ لأن القضاء قد كتب، وهو يريد شيئاً يتخلص منه، فيقول: (لئن قَدر) لأنه لا يدري: هل يقدر أو لا يقدر؟ أما أنه قضى وقدَّر فيما مضى فهذا أمر قد فرِغ منه.
يقول: "ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن ما فَعَله مانعاً من ذلك في ظنه".
قال: "ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة، ليس هذا موضع بسطها".
بيان أن الرجل الشاك في قدرة الله لم يكن كافراً بل جاهلاً ببعض الصفات
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)
قال ابن تيمية : "فغاية ما في هذا أنه كان رجلاً لم يكن عالماً بجميع ما يستحقه الله من الصفات" أي: إنما كان يعلم بعضها، مثل أن الله شديد العقاب، وأنه مالك يوم الدين يحاسب ويجازي عباده على أعمالهم، وعنده إقرار بأن الله سبحانه وتعالى يحصي على الإنسان ما فعل، أي أنه من خلال هذا الحديث نعرف أنه كان عنده شيء من العلم بالشرع، ولذلك قال: أسرفت على نفسي بالمعاصي، وما عملت حسنة، بل فعلت كل قبيح وخطيئة!
فإذاً: فهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى يشرع لعباده، وأنه ينزل عليهم الأحكام فيأمرهم وينهاهم، وأنه شديد العقاب، وأنه يحاسب، وأنه يحصي على العباد أفعالهم، وغير ذلك.
فالرجل لم يكن عالماً بجميع الصفات، والشك إنما جاء في صفة القدرة، ولا يتعداها إلى غيرها.(21/196)
يقول: "وبتفصيل أنه القادر"، أي أنه كان يعلم اتصاف الله بالقدرة في الأصل، لكن لا يعلم بتفصيل ذلك.
قال: "وكثيرٌ من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك".
فكثير منهم إما أن يجهل بعض الصفات، أو يجهل تفصيل بعض الصفات، ولا يكون كافراً بذلك إلا إذا قامت عليه الحجة وبلغته الرسالة، فأنكر وجحد ولم يلتزم بذلك.
حديث عائشة في سؤالها عن علم الله بكل شيء ودلالته على عدم المؤاخذة بالجهل
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة السابعة)
يقول: "ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها من هذا الجنس ما يوافقه".
أي: فهذا أصل دلت عليه عدة أحاديث: حديث حذيفة -الذي ذكرناه- في الرجل الذي أوصى أولاده بأن يحرقوه.
ومن ذلك ما ذكره قال: "كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: {ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى: قالت: لما كانت ليلتي التي النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه، فوضعها عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه واضطجع ... } ".
فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ كأنه يتهيأ للقيام.
قالت: {فلم يثبت إلا ريثما ظن أني رقدت ... }".
أي: حتى ظن أن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها رقدت، وهي لم تكن نامت، وهذا يدل على أنه كان لا يعلم الغيب، خلافاً لأولئك الذين يكفرون بآيات الله، ويكذبون الله ورسوله، ويقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب.
قالت: " {فأخذ رداءه رويداً }" أي: سحب الرداء بهدوء.
" {وانتعل رويداً، وفتح الباب رويداً، فخرج، ثم أجافه رويداً }".
أي: أغلق الباب رويداً.(21/197)
{قالت: فجعلت درعي في رأسي، واختمرتُ وتقنعتُ إزاري، ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع ... }"، أي: المقبرة، ليتذكر الموت، ويزكي نفسه، ويدعو للموتى كما قالت: {فقام، فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، وأسرع فأسرعت، فهرول وهرولت ... }" وذلك أنها رضي الله تعالى عنها تخاف أنه يصل قبلها فلا يجدها، لأنه ما علم بها صلى الله عليه وسلم.
{قالت: فسبقته، فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت، وإذا به صلى الله عليه وسلم قد دخل فقال: ما لك يا عائشة ؟ قلت: لا شيء، قال: أخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي فأخبرته! فقال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم! فلهَزَنِي في صدري لهزةً أوجعتني، ثم قال: أظننتِ أن يحيف الله عليك ورسوله؟! }"، ومعنى يحيف: يجور، وهذا هو الشاهد من الحديث؛ إذ ظنت أن يجور عليها فيعطي ليلتها لغيرها من نسائه.
{... قالت: قلت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ ... }".
أي: أهذا الخاطر الذي خطر في نفسي أنك ذهبت عند أحد أزواجك يعلمه الله؟
{... قال: نعم. قال: فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيت، فناداني فأخفاه منكِ، فأجبتُه وأخفيتُه منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعتِ ثيابكِ، وظننتُ أنكِ رقدتِ، وكرهتُ أن أوقظك، وخشيتُ أن تستوحشي }".
أي أنه لو أيقظها وقال: لا تخافي، لربما خافت، لكنه تركها تنام حتى يرجع، لكن هي رضي الله تعالى عنها خافت أن يذهب إلى غيرها من أزواجه، لما رأته فعل ذلك.(21/198)
"{فقال: -أي: جبريل عليه السلام- إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفر لهم }، ولم يكن من عقيدة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيف عليها، أو يترك ليلتها ويخدعها ويذهب عند غيرها، فهي لا تظن ذلك ولا تعتقده؛ لكن يأتي أحياناً خاطر خفيف جداً فتسأل عن هذا الخاطر العابر الذي لا يكاد الشخص يعتقده، أيعلمه الله؟ قال: نعم! يقول: سبحانه تعالى: وَهُو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29]، وقال:يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، أي: وما هو أخفى من السر، وهو أنه يعلم السر قبل كونه سراً، فلا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5] سبحانه وتعالى.
{... فقالت: كيف أقول يا رسول الله؟ }" أي: عند زيارة المقابر {فقال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله للاحقون ... }".
قال ابن تيمية : "فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه سلم: نعم!.
وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة".
أي: لم تكن رضي الله تعالى عنها قبل أن تعلم هذا من النبي صلى الله عليه وسلم كافرة، وحاشاها رضي الله تعالى عنها من ذلك، فهي تستفهم وتسأل، لأنها كانت تجهل، فأمرٌ تجهله سألت عنه فعلمته، ولو كان الجهل به يقتضي الكفر لكانت قبل أن تسأله كافرة.(21/199)
قال: "وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان" أي: فالمخاطب بعد أن تبلغه الحجة يصبح إقراره بأن الله بكل شيء عليم من أصول الإيمان، وليس من فروعه، ولذلك فالقدرية الذين أنكروا العلم كفار، وقد قال الشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهما: (ناظروا القدرية بالعلم)، فمن أنكر علم الله كَفَر؛ لكن أن يظن الإنسان أو يتوهم أن بعض الشيء من العلم قد يخفى على الله فهذا لا يجعله يكفر، لكن إذا سأل عنه وعُلِّمَه علمه.
إقامة الحجة شرط في تكفير المعين
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثامنة)
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
"فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي صلى الله عليه وسلم: {هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم! }" وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالمٌ بكل شيءٍ يكتمه الناس كافرة" والقضية عندنا هي: أن بعض الناس قد يعتقدون الكفر، أو يقولون الكفر، وهذا لا يعني تكفير قائله أو معتقده إلا إذا قامت عليه الحجة وبلغته الدعوة.
يقول: "ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان" أي: أن الإقرار بأن الله تبارك وتعالى بكل شيء عليم؛ هو من أصول الإيمان، ولكن إنما يثبت في حق المعيَّن بعد قيام الحجة عليه.
قال رحمه الله: "وإنكار علمه بكل شيء، كإنكار قدرته على كل شيء" أي: أن ما خفي على عائشة هو مثل ما خفي على الرجل المذكور في الحديث.
قال: "هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب"، أي: هذا مع أن عائشة رضي الله عنها لم تكن خالية الذهن من الإيمان تماماً، بل كان عندها علم ودين وخير، ولذلك فهي مؤاخذة، فكانت تستحق اللوم على الذنب لو كان هذا الجهل ذنباً.(21/200)
قال: "ولهذا لهزها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ }. يعني: عندها علم، وتعلم أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لن يحيفا عليها، فهي مؤاخذة وتستحق اللوم، بمعنى: أن من لم يبلغه شيء من الدين ولا يدخل تحت المؤاخذة أصلاً، فهو أولى بأن يُعذر ولا يُعاقب على ما لم يبلغه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع.
فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائلِه لا يُحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها.
وهكذا في كل قولٍ كفري: لا ُيحكم على قائله بالكفر حتى تُقام عليه الحجة التي يكفر تاركها" وقيد الحجة هنا بأنها التي يكفر تاركها، فكل إنسان بحسبه، ولا يشترط معنىً معيناً للحجة، ولا مقداراً معيناً؛ لأن من الناس من يكفي في إقامة الحجة عليه موعظة أو كلمة أو تذكير، ومن الناس من لا يكفي فيه إلا سنوات أو شهور من التعليم؛ لضحالة علمه وقلة فهمه وفرط جهله.
وكذلك الذي يقيم الحجة، فمن الناس من يستطيع أن يقيم الحجة في مجلس واحد، ومن الناس من لا يقيمها وإن ظن أنه قد أقامها، وهذه أمور نسبية بحسب الأحوال والأشخاص، سواء في المقيم للحجة أو المتلقِّي لها، ولذلك يُراعى كل إنسان بحسبه، والله تعالى هو المطلع على الأحوال والسرائر.
ثم يرد شيخ الإسلام على من يقول بسقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول: "ودلائل فساد هذا القول كثيرةٌ في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشايخها، لا يُحتاج إلى بسطها، بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الأمر والنهي ثابت في حق العباد إلى الموت".
يعني: بهذا القول قول من قالوا: إنهم إذا تجوهروا سقطت عنهم التكاليف، وهو القول سبق أن شرحناه فيما مضى.
إقامة العقوبات على المبتدعة في الدنيا
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثامنة)(21/201)
ما تقدم ذكره كان في أحكام الآخرة، وأما أحكام الدنيا فإنها كما ذكر المصنف رحمه الله بعد ذكره للحديث قال: "وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك، لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه".
أي: أنه كان يظن أن الله لا يقدر عليه أو شك في ذلك كما تقدَّم إيضاحه، يقول: [لكن] وهي هنا للاستدراك "لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا" فالكلام السابق هو في حقِّه في الآخرة، أي: لا نقطع ولا نجزم بكفره أو ردته أو خلوده في النار .. إلى آخره، ومع أننا نقول ذلك بالنسبة لما يتعلق بالآخرة؛ لكن ذلك لا يمنعنا من معاقبته في الدنيا، وربما يُعاقب في الدنيا وهو عند الله تعالى معذور، لكن بالنسبة لأحكام الدنيا لابد من العقاب إذا أقمنا عليه الحجة وأوضجنا له الدليل، ولم يقبل ولا اهتدى، ونحن معذورون عند الله إذا عاقبناه؛ لأننا اجتهدنا وتحرينا ألا نقيم الحد والعقوبة إلا على من يستحقها، فهذا غاية اجتهادنا، وهو قد يكون معذوراً.
تقام الحجة على المبتدع قدر الإمكان ثم يعامل حسب الظاهر منه
عندما تقابلت جيوش الإيمان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع جيوش الكفر والضلال من مشركي العرب ومن الروم والفرس، فإننا لا نجزم أن كلَّ واحد من أعيان تلك الجيوش قد قامت عليه الحجة واتضحت له المحجة؛ لكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا كبراءهم، كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وإلى كسرى، ثم قبل القتال دعا قادة الإسلام أمثال: سعد وخالد وأبي عبيدة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم؛ دعوا قادة الكفرة إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وهذا غاية ما يمكن فعله، لكن قد يُقتل من يكون معذوراً، فقد لا يفقه ولا يفهم، ولم يبلغه شيء من الدين ولا من الحق، وإنما سيق إلى المعركة كالبهيمة، وهذا يقع، ولكن لا يعني ذلك أنه لا(21/202)
يقاتل في الدنيا أو لا تقام عليه الحدود إن كان من أهل الحدود، ثم مصيره إلى الله سبحانه وتعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
فنحن في الدنيا نعتقد أنهم كفار، ونستحلُّ دماءهم وأموالهم، وإذا كان فيهم من هو عند الله تبارك وتعالى معذور؛ فأمره إلى الله. وما قرَّرناه من أن رحمة الله سبقت غضبه لا يتنافى مع هذا؛ لأن أحكام الدنيا لابد أن تقام، ودين الله لابد أن يُنصر، ولا بد أن تُقام الحدود، ولو أننا لا نجاهد ولا نقيم الحد إلا على من علمنا يقيناً أنه في باطنه عرف الحق وبلغه، لكان هذا من تكليف ما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى لم يكلفنا ما لا طاقة لنا به: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وإنما أمرنا أن نتخذ الأسباب، ثم بعد ذلك هؤلاء أمرهم إلى الله سبحانه.
قتل المبتدع واستتابته
ثم ذكر المصنف رحمه الله الحكمة من عقاب المبتدع فقال: [لمنع بدعته]، أي: يُعاقب لمنع بدعته.
ثم قال: [أو أن نستتيبه فإن تاب وإلا قتلناه].
وهذه العبارة فيها إجمال فلابد لها من التفصيل، من ذلك أن يقال: ما حكم المبتدع؟ نقول: حكم المبتدع التفصيل، فمن المبتدعة من يقتل، ومن المبتدعة من يُهجر، بحسب الأحوال وبحسب المقالات، وكل ذلك له أصل من السلف .(21/203)
فأما قتل المبتدعة، فهذا أصلٌ مشهور قائم عند السلف ، يدل عليه الوقائع التي وقعت لبعض المبتدعة، وأجمعت الأمة على استحقاقه للقتل، وأثنت على من قتله على بدعته، فمنهم مثلاً: الجعد بن درهم ، وكفعل علي رضي الله تعالى عنه في قتل السبئية الذين قالوا له: أنت الله، ولم يختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ذلك، وكذلك قتاله رضي الله عنه للخوارج ، ولم يختلف الصحابة رضي الله عنهم عليه، لكن الأمر فيهم مختلف عما نحن فيه، فذاك قتال لا قتل، وفرق بين القتال والقتل، فالقتل لمعين، ومثاله الجعد بن درهم ، والجهم بن صفوان ، والحلاج ، والقتال لجماعة، وتقدم الكلام عليه.
والحاصل أن القتل مما يعاقب به صاحب البدعة إذا كانت بدعته مغلَّظة مكفرة واستتيب ولم يتب، أو رأى أهل الحل والعقد، أو الإمام أو من أفتى من العلماء أن هذا المبتدع يُقتل وإن لم يُستتب؛ وقد تعرضنا فيما مضى لهذه المسألة في حكم توبة الزنديق، ورجحنا ما رجحه شيخ الإسلام رحمه الله وهو ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد : أن الزنديق يُقتل ولا تقبل توبته.
والذي نريد أن نقوله: إن المبتدع يجوز أن يُقتل رأساً من غير استتابة؛ إذا كان ممن اشتهرت بدعته وظهرت، وكان في قتله مصلحة للدين وللإسلام والمسلمين.
هجر المبتدع
وهناك عقوبات يعاقب بها المبتدع هي دون القتل، وكثيراً ما تلتبس على طلاب العلم، وهي الهجر؛ وهذا أصل مشهور عن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، لكن كيف يُهجرون؟ وما أنواع الهجر؟ وما الأحكام المتعلقة به؟
للإجابة على هذه الأسئلة نلتقط هذه الدرر الثمينة من كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة، فإنه سُئل رحمه الله عن أحكام الهجر، وهو في حق المبتدع أدنى وأخفُّ من القتل، والمبتدع لا يجوز أن يوقَّر: [من وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ].
تقام الحجة على المبتدع قدر الإمكان ثم يعامل حسب الظاهر منه(21/204)
من درس: إقامة العقوبات على المبتدعة في الدنيا
عندما تقابلت جيوش الإيمان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع جيوش الكفر والضلال من مشركي العرب ومن الروم والفرس، فإننا لا نجزم أن كلَّ واحد من أعيان تلك الجيوش قد قامت عليه الحجة واتضحت له المحجة؛ لكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا كبراءهم، كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وإلى كسرى، ثم قبل القتال دعا قادة الإسلام أمثال: سعد وخالد وأبي عبيدة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم؛ دعوا قادة الكفرة إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وهذا غاية ما يمكن فعله، لكن قد يُقتل من يكون معذوراً، فقد لا يفقه ولا يفهم، ولم يبلغه شيء من الدين ولا من الحق، وإنما سيق إلى المعركة كالبهيمة، وهذا يقع، ولكن لا يعني ذلك أنه لا يقاتل في الدنيا أو لا تقام عليه الحدود إن كان من أهل الحدود، ثم مصيره إلى الله سبحانه وتعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
فنحن في الدنيا نعتقد أنهم كفار، ونستحلُّ دماءهم وأموالهم، وإذا كان فيهم من هو عند الله تبارك وتعالى معذور؛ فأمره إلى الله. وما قرَّرناه من أن رحمة الله سبقت غضبه لا يتنافى مع هذا؛ لأن أحكام الدنيا لابد أن تقام، ودين الله لابد أن يُنصر، ولا بد أن تُقام الحدود، ولو أننا لا نجاهد ولا نقيم الحد إلا على من علمنا يقيناً أنه في باطنه عرف الحق وبلغه، لكان هذا من تكليف ما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى لم يكلفنا ما لا طاقة لنا به: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وإنما أمرنا أن نتخذ الأسباب، ثم بعد ذلك هؤلاء أمرهم إلى الله سبحانه.
قتل المبتدع واستتابته
من درس: إقامة العقوبات على المبتدعة في الدنيا
ثم ذكر المصنف رحمه الله الحكمة من عقاب المبتدع فقال: [لمنع بدعته]، أي: يُعاقب لمنع بدعته.
ثم قال: [أو أن نستتيبه فإن تاب وإلا قتلناه].(21/205)
وهذه العبارة فيها إجمال فلابد لها من التفصيل، من ذلك أن يقال: ما حكم المبتدع؟ نقول: حكم المبتدع التفصيل، فمن المبتدعة من يقتل، ومن المبتدعة من يُهجر، بحسب الأحوال وبحسب المقالات، وكل ذلك له أصل من السلف .
فأما قتل المبتدعة، فهذا أصلٌ مشهور قائم عند السلف ، يدل عليه الوقائع التي وقعت لبعض المبتدعة، وأجمعت الأمة على استحقاقه للقتل، وأثنت على من قتله على بدعته، فمنهم مثلاً: الجعد بن درهم ، وكفعل علي رضي الله تعالى عنه في قتل السبئية الذين قالوا له: أنت الله، ولم يختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ذلك، وكذلك قتاله رضي الله عنه للخوارج ، ولم يختلف الصحابة رضي الله عنهم عليه، لكن الأمر فيهم مختلف عما نحن فيه، فذاك قتال لا قتل، وفرق بين القتال والقتل، فالقتل لمعين، ومثاله الجعد بن درهم ، والجهم بن صفوان ، والحلاج ، والقتال لجماعة، وتقدم الكلام عليه.
والحاصل أن القتل مما يعاقب به صاحب البدعة إذا كانت بدعته مغلَّظة مكفرة واستتيب ولم يتب، أو رأى أهل الحل والعقد، أو الإمام أو من أفتى من العلماء أن هذا المبتدع يُقتل وإن لم يُستتب؛ وقد تعرضنا فيما مضى لهذه المسألة في حكم توبة الزنديق، ورجحنا ما رجحه شيخ الإسلام رحمه الله وهو ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد : أن الزنديق يُقتل ولا تقبل توبته.
والذي نريد أن نقوله: إن المبتدع يجوز أن يُقتل رأساً من غير استتابة؛ إذا كان ممن اشتهرت بدعته وظهرت، وكان في قتله مصلحة للدين وللإسلام والمسلمين.
هجر المبتدع
من درس: إقامة العقوبات على المبتدعة في الدنيا
وهناك عقوبات يعاقب بها المبتدع هي دون القتل، وكثيراً ما تلتبس على طلاب العلم، وهي الهجر؛ وهذا أصل مشهور عن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، لكن كيف يُهجرون؟ وما أنواع الهجر؟ وما الأحكام المتعلقة به؟(21/206)
للإجابة على هذه الأسئلة نلتقط هذه الدرر الثمينة من كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة، فإنه سُئل رحمه الله عن أحكام الهجر، وهو في حق المبتدع أدنى وأخفُّ من القتل، والمبتدع لا يجوز أن يوقَّر: [من وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ].
أحكام هجر المبتدع
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثامنة)
وهذه فتوى شيخ الإسلام في الجزء الثامن والعشرين (ص:203) من مجموع الفتاوى : "وسُئل رحمه الله عمن يجب أو يجوز بُغضه أو هجره، أو كلاهما لله تعالى؟ وماذا يشترط على الذي يُبغضه أو يهجره لله تعالى من الشروط؟ وهل يدخل ترك السلام في الهجران أم لا؟ وإذا بدأ المهجور الهاجر بالسلام هل يجب الردُّ عليه أم لا؟ وهل يستمر البغضُ والهجران لله عز وجل حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها، أم يكون لذلك مدةٌ معلومة؟ فإن كان له مدةٌ معلومة، فما حدها؟ أفتونا مأجورين".
وهذا سؤال يدل على فقه سائله.
أنواع الهجر في الشرع
فأجاب رحمه الله: "الهجر الشرعي نوعان: أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات، والثاني: بمعنى العقوبة عليها".
أي الأول: أن تهجر أنت المنكر وتتركه، والآخر العقوبة، وهو أن تعاقب صاحب المنكر بهجره وقطيعته.
ومن الأدلة على النوع الأول وهو هجر الشيء بمعنى تركه والابتعاد عنه، مثل قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5] والرجز: الشرك، وعبادة الأصنام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: {والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه }.
وهناك علاقة بين الهجر والهجرة في لغة العرب، وعادةً ما يكون اتفاق وتقارب في المعنى اللغوي والشرعي إذا تقارب اللفظان في المبنى.(21/207)
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عدداً من الأدلة فقال: "فالأول هو المذكور في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].
وقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]." فالشاهد في الآيتين وجود معنى الهجر، كما قال تعالى: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].
قال: "فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة شرعية، مثل: قوم يشربون الخمر فلا يجلس عندهم، أو قوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمْر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره" كأن يكون لا يعلم بذلك "ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله... إلى أن قال رحمه الله: "وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال صلى الله عليه وسلم: {المهاجر من هجر ما نهى الله عنه }، ومن هذا الباب: الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمُقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكِّنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5]"، وهذا النوع واضح؛ لكن ذكره لداعي التقسيم.(21/208)
هجر المبتدع تعزير له
ثم ذكر النوع الثاني فقال: "النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يُظهر المنكرات حتى يتوب منها كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى أنزل الله توبتهم؛ حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعيِّن عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقاً. فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير.
والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات، كتارك الصلاة والزكاة، والتظاهر بالمظالم والفواحش، والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، التي ظهر أنها بدع -هذا شاهد موضوعنا- وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تُقبل شهادتهم، ولا يُصلَّى خلفهم، ولا يُؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون".
وهذا معلوم بالتواتر عن السلف رحمهم الله، أعني أن أصحاب البدع الداعين إليها لا تقبل شهادتهم، سواء كانوا من أصحاب الكلام أو من الخوارج والروافض ، فأياً كانوا فشهادتهم مردودة، ولا يُزَكُّون، فإذا شهد أحد أهل البدع عند قاضٍ فإن شهادته مردودة، كما فعل شريك بن عبد الله القاضي فقد ردَّ شهادة حماد بن أبي حنيفة ؛ لأنه يقول: إن العمل ليس من الإيمان. وكذلك لا يصلَّى خلف أصحاب البدع، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا" ولهذا يفرِّقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم، ويَكلُ سرائرهم إلى الله، مع علمه بحال كثيرٍ منهم".
أي: كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع المعذرين بعد غزوة تبوك ، جاءوا يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم ليرضى عنهم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يقبل أيمانهم، ويعرض عنهم، ويكل أمرهم إلى الله، وهو يحاسبهم ويجازيهم.(21/209)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا جاء في الحديث أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تُنكر ضرَّت العامة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيِّروه أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب منه } أعاذنا الله من عقاب الله.
يقول: "فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها؛ بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة".
وأصحاب المنكرات الباطنة تقوم عليهم الحجة بالنصح والتذكير العام، فلو أنك وقفت في المسجد محذراً من بدعة ومخوفاً منها، والمستمعون أمامك فيهم من يعلم في نفسه أنه معتقد لهذه البدعة، فقد قامت عليه الحجة في نفسه، وهذه هي فائدة التذكير العام، وكذلك لو تكلمت في مسجد من المساجد عن شر الزنا وخطره وضرره، فكل جالس همَّت نفسه بالزنا، فأنت قد خاطبته وأقمت عليه الحجة، وهذا هو بالنسبة لمن يفعل المعصية سراً ويكتمها، أما المعلِن المجاهر فله حكمٌ آخر.
أنواع الهجر في الشرع
من درس: أحكام هجر المبتدع
فأجاب رحمه الله: "الهجر الشرعي نوعان: أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات، والثاني: بمعنى العقوبة عليها".
أي الأول: أن تهجر أنت المنكر وتتركه، والآخر العقوبة، وهو أن تعاقب صاحب المنكر بهجره وقطيعته.
ومن الأدلة على النوع الأول وهو هجر الشيء بمعنى تركه والابتعاد عنه، مثل قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5] والرجز: الشرك، وعبادة الأصنام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: {والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه }.
وهناك علاقة بين الهجر والهجرة في لغة العرب، وعادةً ما يكون اتفاق وتقارب في المعنى اللغوي والشرعي إذا تقارب اللفظان في المبنى.(21/210)
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عدداً من الأدلة فقال: "فالأول هو المذكور في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].
وقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]." فالشاهد في الآيتين وجود معنى الهجر، كما قال تعالى: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].
قال: "فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة شرعية، مثل: قوم يشربون الخمر فلا يجلس عندهم، أو قوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمْر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره" كأن يكون لا يعلم بذلك "ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله... إلى أن قال رحمه الله: "وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال صلى الله عليه وسلم: {المهاجر من هجر ما نهى الله عنه }، ومن هذا الباب: الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمُقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكِّنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5]"، وهذا النوع واضح؛ لكن ذكره لداعي التقسيم.
هجر المبتدع تعزير له
من درس: أحكام هجر المبتدع(21/211)
ثم ذكر النوع الثاني فقال: "النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يُظهر المنكرات حتى يتوب منها كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى أنزل الله توبتهم؛ حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعيِّن عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقاً. فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير.
والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات، كتارك الصلاة والزكاة، والتظاهر بالمظالم والفواحش، والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، التي ظهر أنها بدع -هذا شاهد موضوعنا- وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تُقبل شهادتهم، ولا يُصلَّى خلفهم، ولا يُؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون".
وهذا معلوم بالتواتر عن السلف رحمهم الله، أعني أن أصحاب البدع الداعين إليها لا تقبل شهادتهم، سواء كانوا من أصحاب الكلام أو من الخوارج والروافض ، فأياً كانوا فشهادتهم مردودة، ولا يُزَكُّون، فإذا شهد أحد أهل البدع عند قاضٍ فإن شهادته مردودة، كما فعل شريك بن عبد الله القاضي فقد ردَّ شهادة حماد بن أبي حنيفة ؛ لأنه يقول: إن العمل ليس من الإيمان. وكذلك لا يصلَّى خلف أصحاب البدع، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا" ولهذا يفرِّقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم، ويَكلُ سرائرهم إلى الله، مع علمه بحال كثيرٍ منهم".
أي: كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع المعذرين بعد غزوة تبوك ، جاءوا يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم ليرضى عنهم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يقبل أيمانهم، ويعرض عنهم، ويكل أمرهم إلى الله، وهو يحاسبهم ويجازيهم.(21/212)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا جاء في الحديث أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تُنكر ضرَّت العامة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيِّروه أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب منه } أعاذنا الله من عقاب الله.
يقول: "فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها؛ بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة".
وأصحاب المنكرات الباطنة تقوم عليهم الحجة بالنصح والتذكير العام، فلو أنك وقفت في المسجد محذراً من بدعة ومخوفاً منها، والمستمعون أمامك فيهم من يعلم في نفسه أنه معتقد لهذه البدعة، فقد قامت عليه الحجة في نفسه، وهذه هي فائدة التذكير العام، وكذلك لو تكلمت في مسجد من المساجد عن شر الزنا وخطره وضرره، فكل جالس همَّت نفسه بالزنا، فأنت قد خاطبته وأقمت عليه الحجة، وهذا هو بالنسبة لمن يفعل المعصية سراً ويكتمها، أما المعلِن المجاهر فله حكمٌ آخر.
اختلاف الهجر حسب المصلحة الدينية
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثامنة)
يقول شيخ الإسلام : "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين".
وهذا من الحكمة في الدعوة، ولكن ما أكثر ما تُظلم هذه الحكمة! حتى إذا جئت ونصحت أحداً من الناس، قالوا: لابد أن تكون النصيحة بالحكمة، والحكمة عند بعض الناس أن تسكت ولا تنكر، وليس الأمر كما يظنون، بل الحكمة أن تتخذ الوسيلة المناسبة، والموقف الصحيح من المنكر، حسبما يقتضيه الحال وفقاً للدليل.
يقول رحمه الله: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلَّتهم وكثرتهم".
إذا كان الهاجر قوياً، كأن يكون عالماً معتبراً له شأن في المجتمع وقال: هجرت فلاناً ولا أسلم عليه؛ لأن فيه بدعة أو لأن فيه معصية، فهذا ليس مثل من يهجره إنسان لا يبالى به.
اختلاف الهجر بقوة وضعف الهاجر والمهجور
سُئل الإمام أحمد عن هجر من يقول: إن القرآن مخلوق؟ قال: إن أهل خراسان لا يقوونهم.(21/213)
يعني: نحن في بغداد نستطيع أن نهجر من يقول إن القرآن مخلوق، لكن أهل السنة في خراسان لا يقدرون؛ لأن البدعة غلبت عليها، والأهواء استحكمت فيها.
وأيضاً: لما سُئل الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه عن القدرية ، كما قال شيخ الإسلام : "لما سُئل عن القدرية وعن الحديث عنهم قال: لو تركنا الحديث عن القدرية لتركنا عامة حديث أهل البصرة ". يعني أن بدعة القدر انتشرت فيهم، فإن كان كل من تلبَّس ببدعة القدر ترك حديثه ترك عامة حديث أهل البصرة ؛ لأن البصرة فشا فيها القدر والتصوف؛ والغلو في العبادة والزهد، والكوفة فشا فيها الإرجاء، ولو قلنا: لا نروي عن القدرية ، لتركنا عامة رواية أهل البصرة ، وإن قلنا: لا يروى عن من تلبس ببدعة المرجئة ، فإننا لن نروي عن عامة أهل الكوفة ، ولذلك وضع علماء الحديث معياراً منضبطاً لقبول الرواية، وهو الصدق، لذلك روي عن الخوارج ، وكان من رواة البخاري وغيره بعض الخوارج كعمران بن حطان وغيره؛ لأن الخوارج لا يكذبون، والكذب عندهم كفر، وليس مجرد معصية، وبالعكس تُركت الرواية عن الروافض ، فلا تجد على الإطلاق رافضياً داعيةً من رواة الصحيح، لا من قيل عنه: فيه تشيُّع، والروافض لا تجد أحداً زكَّاهم أو وثَّقهم أو روى عنهم أحد ممن يشترط الصحة في كتابه؛ لأنهم يستحلون الكذب.
اختلاف الهجر بانزجار المهجور وعدمه
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "فإن المقصود به" يعني: الهجر "زجر المهجور وتأديبه"، أي إنما نهجر من يهجر من مبتدع وعاص لكي نزجره ونؤدبه، ولكي ترجع العامة عن مثل حاله، وحتى لا يقلِّده الناس ويتَّبعوه.
يقول رحمه الله: "فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشرّ وخفيته كان مشروعاً".
أي: إذا كان هجر هذا الإنسان يؤدي إلى تخفيف الشر أو إلى إضعافه فعلناه.(21/214)
قال: "وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث تكون مفسدة الهجر راجحة على مصلحته؛ لم يُشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر"
ومثال ذلك: لو أن طالباً طلب العلم، ثم ذهب إلى أهله في بادية بعيدة، أو ذهب إلى أهله في بلدٍ من البلدان التي يغلبُ عليها البدع، فوجدهم يفعلون ما يفعلون من البدع، فقال: أنا أعرف أن من أصول أهل السنة والجماعة هجر أهل البدع، فلنهجرهم، فهجر أمه وأباه، فإنه لن يدع أحداً إلا هجره؛ لأن الناس ألفوا هذه البدع وعاشوا عليها، فيصير هو المنكر المهجور لأن الهاجر في هذه الحالة ضعيف والمصلحة لا تتحقق، والمشكلة ليست في عدم قيام طالب العلم بالإنكار أو عدم هجره لأهل البدع، ولكن المشكلة أن المصلحة الشرعية غير حاصلة، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ورضي عنه وأرضاه: "بل يكون التأليف لبعض الناس، أنفع من الهجر" أي: بأن تتألفه على الحق بحسب ما فيه من الخير، ومن العلم والفهم.
اختلاف الهجر بقوة وضعف الهاجر والمهجور
من درس: اختلاف الهجر حسب المصلحة الدينية
سُئل الإمام أحمد عن هجر من يقول: إن القرآن مخلوق؟ قال: إن أهل خراسان لا يقوونهم.
يعني: نحن في بغداد نستطيع أن نهجر من يقول إن القرآن مخلوق، لكن أهل السنة في خراسان لا يقدرون؛ لأن البدعة غلبت عليها، والأهواء استحكمت فيها.(21/215)
وأيضاً: لما سُئل الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه عن القدرية ، كما قال شيخ الإسلام : "لما سُئل عن القدرية وعن الحديث عنهم قال: لو تركنا الحديث عن القدرية لتركنا عامة حديث أهل البصرة ". يعني أن بدعة القدر انتشرت فيهم، فإن كان كل من تلبَّس ببدعة القدر ترك حديثه ترك عامة حديث أهل البصرة ؛ لأن البصرة فشا فيها القدر والتصوف؛ والغلو في العبادة والزهد، والكوفة فشا فيها الإرجاء، ولو قلنا: لا نروي عن القدرية ، لتركنا عامة رواية أهل البصرة ، وإن قلنا: لا يروى عن من تلبس ببدعة المرجئة ، فإننا لن نروي عن عامة أهل الكوفة ، ولذلك وضع علماء الحديث معياراً منضبطاً لقبول الرواية، وهو الصدق، لذلك روي عن الخوارج ، وكان من رواة البخاري وغيره بعض الخوارج كعمران بن حطان وغيره؛ لأن الخوارج لا يكذبون، والكذب عندهم كفر، وليس مجرد معصية، وبالعكس تُركت الرواية عن الروافض ، فلا تجد على الإطلاق رافضياً داعيةً من رواة الصحيح، لا من قيل عنه: فيه تشيُّع، والروافض لا تجد أحداً زكَّاهم أو وثَّقهم أو روى عنهم أحد ممن يشترط الصحة في كتابه؛ لأنهم يستحلون الكذب.
اختلاف الهجر بانزجار المهجور وعدمه
من درس: اختلاف الهجر حسب المصلحة الدينية
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "فإن المقصود به" يعني: الهجر "زجر المهجور وتأديبه"، أي إنما نهجر من يهجر من مبتدع وعاص لكي نزجره ونؤدبه، ولكي ترجع العامة عن مثل حاله، وحتى لا يقلِّده الناس ويتَّبعوه.
يقول رحمه الله: "فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشرّ وخفيته كان مشروعاً".
أي: إذا كان هجر هذا الإنسان يؤدي إلى تخفيف الشر أو إلى إضعافه فعلناه.
قال: "وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث تكون مفسدة الهجر راجحة على مصلحته؛ لم يُشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر"(21/216)
ومثال ذلك: لو أن طالباً طلب العلم، ثم ذهب إلى أهله في بادية بعيدة، أو ذهب إلى أهله في بلدٍ من البلدان التي يغلبُ عليها البدع، فوجدهم يفعلون ما يفعلون من البدع، فقال: أنا أعرف أن من أصول أهل السنة والجماعة هجر أهل البدع، فلنهجرهم، فهجر أمه وأباه، فإنه لن يدع أحداً إلا هجره؛ لأن الناس ألفوا هذه البدع وعاشوا عليها، فيصير هو المنكر المهجور لأن الهاجر في هذه الحالة ضعيف والمصلحة لا تتحقق، والمشكلة ليست في عدم قيام طالب العلم بالإنكار أو عدم هجره لأهل البدع، ولكن المشكلة أن المصلحة الشرعية غير حاصلة، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ورضي عنه وأرضاه: "بل يكون التأليف لبعض الناس، أنفع من الهجر" أي: بأن تتألفه على الحق بحسب ما فيه من الخير، ومن العلم والفهم.
الأدلة على أن العمل في الهجر تابع لمصلحة الدين
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثامنة)
هجر الثلاثة المخلفين وتألف الأعراب
يقول رحمه الله: "والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألَّف قوماً ويهجر آخرين. كما أن الثلاثة الذين خلِّفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلَّفة قلوبهم".
أي: أن الثلاثة الذين خلِّفوا لن يرجعوا عن الدين مهما كان، بل الهجر يزيدهم خوفاً، كما كان واقع حالهم من بكائهم، وما غشيهم من الهمِّ والكرب، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأظلمت الدنيا في وجوههم، وهجرهم أحبُّ الناس إليهم ممن يعرف صدقهم وإيمانهم، ومع ذلك لم يزدهم ذلك إلا خوفاً وخشيةً وطمعاً في توبة الله عليهم، ولما أرسل ملك الغساسنة إلى كعب بن مالك يرغبه باللحاق به، سجر بكتابه التنور، فأمثال هؤلاء لا يخشى عليهم.(21/217)
لكن المؤلَّفة قلوبهم، لو أغضبوا أو هجروا فإنهم قد يرتدون؛ لأن ضعيف الإيمان يستجيب لعدوه وعدو دينه؛ لأنه قابل للفتنة، لذلك لا يهجر؛ بل يتألف حتى يدخل في الإسلام أمثاله من المؤلفة قلوبهم، أما من كان حاله كحال هؤلاء الثلاثة من الصحابة رضوان الله عليهم فالواحد منهم يعرف الحق ويعلمه، فيعاقب ليرتدع ويرتدع أمثاله من المؤمنين.
أما المؤلفة قلوبهم فيتألفون، فمثلاً لو سمع الأعراب بأن شيخاً من مشايخ بني تميم أو غيرهم أُعطي مائة ناقة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري ، فستجد كل شيخ من شيوخ الأعراب.. يقول: نسلم لنأخذ مثلهم، فيدخل في الإسلام وتُسلم القبيلة، وربما هدى الله تعالى القبيلة أو كثيراً منها عن إيمانٍ ويقين، وإن كان الشيخ أسلم من أجل الشاة والبعير والدرهم والدينار، ثم يصلح الله حاله ويحسن إيمانه، فهنا تحصل المصلحة للإسلام والمسلمين بهذا التأليف بخلاف الهجر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلَّفة قلوبهم، لمَّا كان أولئك سادةً مطاعين في عشائرهم، فقد كانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عزُّ الدين وتطهيرهم من ذنوبهم". يعني: أن الثلاثة وأمثالهم كان في هجرهم عز للدين، وتطهيرٌ لهم من الذنب، فعز الدين بأن يشعر الناس أن هذا الدين متين، وأن هذا الدين ليس لكل من ادعاه، وليس بالنفاق ولا بالدعاوى ولا بالشعارات الزائفة، وإنما هو جهاد وصبر وتضحية، إذ كيف يرغبون بأنفسهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يتخلفون عن ركبٍ يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركون الجهاد معه؟! فهجر هؤلاء فيه مصلحة للمؤمنين.(21/218)
قتال الكفار وتركه حسب المصلحة في العهد النبوي
يقول رحمه الله: "وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارةً، والمهادنة تارةً، وأخذ الجزية تارةً، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح".
وتجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دائماً يمثل بالمثال الآتي، وذلك لأن واجب العلماء والدعاة مثل واجب المجاهدين. ونذكر كلامه رحمه الله للفائدة، يقول رحمه الله (28/188): "ترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد، وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم". أي: قد يكون الأفضل في قتال العدو هو الإثخان في الأرض والقتل، كما في يوم بدر ، فهذا كان الأفضل، وهو الذي اختاره الله سبحانه وتعالى للمؤمنين؛ فقال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67]، وقد تكون المهادنة أو المصالحة أفضل، كما كان ذلك في عام الحديبية ، وأخذ الجزية قد يكون أفضل، وهذا ما فعله الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مع بعض أهل الكتاب؛ فإن أهل الكتاب إذا عقد لهم عقد الذمة وأخذت منهم الجزية، أتيح لهم أن يسمعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن دينه؛ وهم يعرفون صفته صلى الله عليه وسلم، كما في كتابهم، وعندهم قابلية للتديُّن، لكنهم يتدينون على ضلال، فلو سمعوا الحق لآمنوا وأذعنوا، فتكون المصلحة في أخذ الجزية منهم.(21/219)
قصة نور الدين زنكي في أسر ملك الألمان والعمل بالمصلحة
والمقصود أن يُقدر الأمر بحسب المصلحة التي يراها الناس، ولنا مثل في سيرة نور الدين الشهيد رحمه الله، الذي هزم الله سبحانه وتعالى على يديه الصليبيين، فعندما أُسر ملك الألمان، احتار فيه نور الدين وقواده، هل يقتلونه أو يطلقونه بمالٍ عظيم، فنظروا فإذا هم بحاجة إلى المال؛ لأن نور الدين رحمه الله ألغى المكوس والضرائب، وقال: كيف ننتصر عليهم ونحن نأخذ المكوس ونأخذ الضرائب؟! فقال: والله لو لم يبق في بيت المال شيء؛ فإنا لا نغلب أعداءنا إلا بطاعة الله، فترك المكوس فقلَّ ما في بيت المال فاحتار، وملك الألمان يعرض عليه فدية كبيرة، ولكنه يخشى إن أطلقه أن يأتيهم بعد حين بجيش عظيم فيقول: يا ليتنا قتلناه، ففكَّر واستخار، فأراد الله تبارك وتعالى له الخير، فأطلقه بعد أن أخذ منه مالاً عظيماً جداً ورجع إلى بلاده، وما أن وصل إلى بلاده وبدأ يؤلِّبهم ويجمعهم ليعودوا إلى أرض المسلمين، حتى أهلكه الله عز وجل، فتفاءل المسلمون وفرحوا، فقالوا: جمع الله لنا بين الحسنيين، أخذنا ماله ومات.
إذاً: فيُنظر حيثما تكون المصلحة، والله تعالى لن يضيع هذه الأمة إن اجتهدت في طلب الخير والحق.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبنيٌ على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق ...".
الإمام أحمد جعله الله تعالى عَلماً لأهل السنة ، وجعل كلامه في أهل البدع كالسيف القاطع، من قال فيه الإمام أحمد : نعم؛ ارتفع إلى قيام الساعة، ومن قال فيه: لا؛ سقط إلى قيام الساعة، فقد جعله الله فيصلاً وجعل كلامه فرقاناً بصبره وثباته على الحق، فرضي الله تعالى عنه.(21/220)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان رحمه الله يفرِّق بين الأماكن التي كَثُرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة ، والتنجيم بخراسان والتشيع في الكوفة ، وبين ما ليس كذلك"، أي: أن التنجيم انتشر في خراسان والمناطق المجاورة لها، وقد ألف الفخر الرازي -وهو إمام الأشعرية في زمانه- ألَّف كتاباً اسمه: (السر المكتوم في مخاطبة النجوم ).
فقد فرق الإمام أحمد ، والمعنى أنه لو وجد شيعي يدعو إلى بدعته في المدينة النبوية ، وهي البقعة التي بقيت هي ومكة أنظف البلاد عن البدع؛ لظهور آثار النبوة فيهما؛ ولأن فيهما أولاد الصحابة، لا سيما في المدينة ، التي فيها المهاجرون والأنصار والتابعون الذين تتلمذوا عليهم، ثم تلاميذهم، فكانت أقلَّ البلاد احتواء لأهل البدع.
يقول شيخ الإسلام : "ويُفرّق بين الأئمة المطاعين وغيرهم" يُفرَّق بين الإمام المطاع المتَّبع من أهل البدع وبين غيره، قال: "وإذا عُرف مقصود الشريعة سُلك في حصوله أوصل الطرق إليه" فالمهم أن تنظر إلى مقصد الشرع، ثم تسلك أوصل وأقصر وأفضل الطرق التي تؤدي إليه، أي: أن الحكمة هي فهم مقاصد الشرع، ثم إنزال النصوص عليها وأخذ كل حالةٍ بحسبها، وهناك مشكلة تواجه كثيراً من الدعاة، فهم يعرفون الحق ويقولونه، ويلتزمون منهج السلف في الاعتقاد، وفي الدعوة والعلم، لكن ينقصهم إنزال هذا العلم على واقعه الصحيح.
هجر الثلاثة المخلفين وتألف الأعراب
من درس: الأدلة على أن العمل في الهجر تابع لمصلحة الدين
يقول رحمه الله: "والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألَّف قوماً ويهجر آخرين. كما أن الثلاثة الذين خلِّفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلَّفة قلوبهم".(21/221)
أي: أن الثلاثة الذين خلِّفوا لن يرجعوا عن الدين مهما كان، بل الهجر يزيدهم خوفاً، كما كان واقع حالهم من بكائهم، وما غشيهم من الهمِّ والكرب، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأظلمت الدنيا في وجوههم، وهجرهم أحبُّ الناس إليهم ممن يعرف صدقهم وإيمانهم، ومع ذلك لم يزدهم ذلك إلا خوفاً وخشيةً وطمعاً في توبة الله عليهم، ولما أرسل ملك الغساسنة إلى كعب بن مالك يرغبه باللحاق به، سجر بكتابه التنور، فأمثال هؤلاء لا يخشى عليهم.
لكن المؤلَّفة قلوبهم، لو أغضبوا أو هجروا فإنهم قد يرتدون؛ لأن ضعيف الإيمان يستجيب لعدوه وعدو دينه؛ لأنه قابل للفتنة، لذلك لا يهجر؛ بل يتألف حتى يدخل في الإسلام أمثاله من المؤلفة قلوبهم، أما من كان حاله كحال هؤلاء الثلاثة من الصحابة رضوان الله عليهم فالواحد منهم يعرف الحق ويعلمه، فيعاقب ليرتدع ويرتدع أمثاله من المؤمنين.
أما المؤلفة قلوبهم فيتألفون، فمثلاً لو سمع الأعراب بأن شيخاً من مشايخ بني تميم أو غيرهم أُعطي مائة ناقة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري ، فستجد كل شيخ من شيوخ الأعراب.. يقول: نسلم لنأخذ مثلهم، فيدخل في الإسلام وتُسلم القبيلة، وربما هدى الله تعالى القبيلة أو كثيراً منها عن إيمانٍ ويقين، وإن كان الشيخ أسلم من أجل الشاة والبعير والدرهم والدينار، ثم يصلح الله حاله ويحسن إيمانه، فهنا تحصل المصلحة للإسلام والمسلمين بهذا التأليف بخلاف الهجر.(21/222)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلَّفة قلوبهم، لمَّا كان أولئك سادةً مطاعين في عشائرهم، فقد كانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عزُّ الدين وتطهيرهم من ذنوبهم". يعني: أن الثلاثة وأمثالهم كان في هجرهم عز للدين، وتطهيرٌ لهم من الذنب، فعز الدين بأن يشعر الناس أن هذا الدين متين، وأن هذا الدين ليس لكل من ادعاه، وليس بالنفاق ولا بالدعاوى ولا بالشعارات الزائفة، وإنما هو جهاد وصبر وتضحية، إذ كيف يرغبون بأنفسهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يتخلفون عن ركبٍ يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركون الجهاد معه؟! فهجر هؤلاء فيه مصلحة للمؤمنين.
قتال الكفار وتركه حسب المصلحة في العهد النبوي
من درس: الأدلة على أن العمل في الهجر تابع لمصلحة الدين
يقول رحمه الله: "وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارةً، والمهادنة تارةً، وأخذ الجزية تارةً، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح".(21/223)
وتجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دائماً يمثل بالمثال الآتي، وذلك لأن واجب العلماء والدعاة مثل واجب المجاهدين. ونذكر كلامه رحمه الله للفائدة، يقول رحمه الله (28/188): "ترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد، وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم". أي: قد يكون الأفضل في قتال العدو هو الإثخان في الأرض والقتل، كما في يوم بدر ، فهذا كان الأفضل، وهو الذي اختاره الله سبحانه وتعالى للمؤمنين؛ فقال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67]، وقد تكون المهادنة أو المصالحة أفضل، كما كان ذلك في عام الحديبية ، وأخذ الجزية قد يكون أفضل، وهذا ما فعله الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مع بعض أهل الكتاب؛ فإن أهل الكتاب إذا عقد لهم عقد الذمة وأخذت منهم الجزية، أتيح لهم أن يسمعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن دينه؛ وهم يعرفون صفته صلى الله عليه وسلم، كما في كتابهم، وعندهم قابلية للتديُّن، لكنهم يتدينون على ضلال، فلو سمعوا الحق لآمنوا وأذعنوا، فتكون المصلحة في أخذ الجزية منهم.
قصة نور الدين زنكي في أسر ملك الألمان والعمل بالمصلحة
من درس: الأدلة على أن العمل في الهجر تابع لمصلحة الدين(21/224)
والمقصود أن يُقدر الأمر بحسب المصلحة التي يراها الناس، ولنا مثل في سيرة نور الدين الشهيد رحمه الله، الذي هزم الله سبحانه وتعالى على يديه الصليبيين، فعندما أُسر ملك الألمان، احتار فيه نور الدين وقواده، هل يقتلونه أو يطلقونه بمالٍ عظيم، فنظروا فإذا هم بحاجة إلى المال؛ لأن نور الدين رحمه الله ألغى المكوس والضرائب، وقال: كيف ننتصر عليهم ونحن نأخذ المكوس ونأخذ الضرائب؟! فقال: والله لو لم يبق في بيت المال شيء؛ فإنا لا نغلب أعداءنا إلا بطاعة الله، فترك المكوس فقلَّ ما في بيت المال فاحتار، وملك الألمان يعرض عليه فدية كبيرة، ولكنه يخشى إن أطلقه أن يأتيهم بعد حين بجيش عظيم فيقول: يا ليتنا قتلناه، ففكَّر واستخار، فأراد الله تبارك وتعالى له الخير، فأطلقه بعد أن أخذ منه مالاً عظيماً جداً ورجع إلى بلاده، وما أن وصل إلى بلاده وبدأ يؤلِّبهم ويجمعهم ليعودوا إلى أرض المسلمين، حتى أهلكه الله عز وجل، فتفاءل المسلمون وفرحوا، فقالوا: جمع الله لنا بين الحسنيين، أخذنا ماله ومات.
إذاً: فيُنظر حيثما تكون المصلحة، والله تعالى لن يضيع هذه الأمة إن اجتهدت في طلب الخير والحق.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبنيٌ على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق ...".
الإمام أحمد جعله الله تعالى عَلماً لأهل السنة ، وجعل كلامه في أهل البدع كالسيف القاطع، من قال فيه الإمام أحمد : نعم؛ ارتفع إلى قيام الساعة، ومن قال فيه: لا؛ سقط إلى قيام الساعة، فقد جعله الله فيصلاً وجعل كلامه فرقاناً بصبره وثباته على الحق، فرضي الله تعالى عنه.(21/225)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان رحمه الله يفرِّق بين الأماكن التي كَثُرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة ، والتنجيم بخراسان والتشيع في الكوفة ، وبين ما ليس كذلك"، أي: أن التنجيم انتشر في خراسان والمناطق المجاورة لها، وقد ألف الفخر الرازي -وهو إمام الأشعرية في زمانه- ألَّف كتاباً اسمه: (السر المكتوم في مخاطبة النجوم ).
فقد فرق الإمام أحمد ، والمعنى أنه لو وجد شيعي يدعو إلى بدعته في المدينة النبوية ، وهي البقعة التي بقيت هي ومكة أنظف البلاد عن البدع؛ لظهور آثار النبوة فيهما؛ ولأن فيهما أولاد الصحابة، لا سيما في المدينة ، التي فيها المهاجرون والأنصار والتابعون الذين تتلمذوا عليهم، ثم تلاميذهم، فكانت أقلَّ البلاد احتواء لأهل البدع.
يقول شيخ الإسلام : "ويُفرّق بين الأئمة المطاعين وغيرهم" يُفرَّق بين الإمام المطاع المتَّبع من أهل البدع وبين غيره، قال: "وإذا عُرف مقصود الشريعة سُلك في حصوله أوصل الطرق إليه" فالمهم أن تنظر إلى مقصد الشرع، ثم تسلك أوصل وأقصر وأفضل الطرق التي تؤدي إليه، أي: أن الحكمة هي فهم مقاصد الشرع، ثم إنزال النصوص عليها وأخذ كل حالةٍ بحسبها، وهناك مشكلة تواجه كثيراً من الدعاة، فهم يعرفون الحق ويقولونه، ويلتزمون منهج السلف في الاعتقاد، وفي الدعوة والعلم، لكن ينقصهم إنزال هذا العلم على واقعه الصحيح.
الهجر بين حظ النفس ومصلحة الدين
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الثامنة)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا عُرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره".
وهذان شرطان في قبول كل عمل من الأعمال، وهما: الإخلاص، والموافقة للسنة.(21/226)
يقول رحمه الله: "فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجراً غير مأمورٍ به، كان خارجاً عن هذا". أي فالذي يجب على الإنسان ألا يعمل العمل إلا لله، إن هجر فلله، وإن أحب فلله، وإن أبغض فلله.
وإن مما ينبغي التنبه له: أن كل داعية قد يُبتلى ويُمتحن ويُؤذى، فإياك إياك أن تجعل ما ابتليت به أو أوذيت به هو المعيار في العداوة، أي: أن تعامل أحداً بشر لأنه آذاك أو أساء إليك، وإن كانت النفوس مفطورة على هذا، لكن اجعل المعيار هو أن تكون محبتك وعداوتك لله، فلا تظلم منهم أحداً ولا تحيف عليه وإن كان ظالماً لك، بل اجعل غضبك لله تعالى، ودعوتك إلى الله تعالى، فتجرَّد من حظ النفس ومن هواها، واجعل هواها وحظَّها تبعاً للحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أقام الدين ونصره فأحبه ولو آذاك في حقك أو ظلمك في نفسك؛ لأنه نصر الحق وأظهر الله به الدين، ومن كان غير ذلك وإن أحسن إليك في نفسك؛ فإنه لا يجوز لك أن تحبه أو أن تداهنه في دين الله.
هجر المؤمن أخاه لحقه
هل يعني ذلك أن الإنسان لا يهجر لحظ النفس، كمن ظلمه، أو كذب عليه، أو أخذ حقه شخص ثم أنكره؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {بُعثت بالحنيفية السمحة }، وعليه فلا تهجر من ظلمك؟!(21/227)
الجواب: لا. بل تهجره، أما شريعة الإنجيل فتقول: (من سخرك ميلاً فامش معه ميلين، ومن لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن أخذ رداءك فأعطه الإزار). وهذا ليس من شريعة الإسلام، بل قال الله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40] لكن... فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه [الشورى:40] فالشريعة الإسلامية جمعت بين العدل والعفو، فمن حقك أن تعاقب من ظلمك، وذلك حتى لا تحمل النفس على خلاف ما جبلت عليه من حب الانتقام، وذلك ربما أدى بها إلى النفور من الأوامر الشريعة، فأجاز الله للمرء أن يأخذ حقه ممن اعتدى عليه، وله أن يهجره ثلاث ليال، وهي كافية للقلوب المؤمنة أن تمحو أثر الخطأ والظلم، أو الغضب والانتقام الذي يقع في النفس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام } قوله: (وخيرهما) أي: خير المتخاصمين الذي يبدأ صاحبه بالسلام.
يقول بعد كلام له رحمه الله: "وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يُفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله".
أي: كل الأعمال يجب أن تكون لله، والهجر من جنس العقوبات، وأعلى أنواع العقوبات التي يُعاقب بها أعداء الله أن يُقاتلوا فيقتلوا ويسبوا ويُغنموا؛ فيُفعل هذا الجهاد حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193] فكذلك أيضاً: إن هجرت فيكون الهجر لله، وإن بدَّعته أو فسَّقته أو حكمت عليه، فأيضاً من باب الانتصار لدين الله، حتى يكون الدين كله لله.(21/228)
ويقول رحمه الله: "والمؤمن عليه أن يُعادي في الله، ويُوالي في الله؛ فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:9-10].
فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم".
المحبة والبغض للمرء حسب ما فيه من خير وشر
ثم قال بعد كلام له رحمه الله: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر -وهذا حال أكثر الناس في دار الإسلام- وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته".
أي: إذا كان هناك لص فقير تسوَّر على دكان وكسر الأقفال وسرق ما فيه، فإنه تقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال لفقره، فيُعاقب بموجب الذنب، ويُعطى بموجب الاستحقاق الذي هو الفقر.(21/229)
فديننا كله عدل ورحمة، وحتى في عقوبات الله الكونية، فالأمة إذا عصت الله سبحانه وتعالى وتمحَّضت للشر؛ استحقت العقوبة الكاملة والفناء، وذلك إذا كثر الخبث وغلب، وأصبح أهل الحق في قِلَّة وذِلَّة وضعف، ولم يَعد لهم وزن ولا كلمة ولا منزلة، وأما ما دام فيها خير وشر، فإن العقوبات تأتيها نذراً وغير عامة، حتى تجعل أهل الخير يجتهدون في الدعوة ويخشون وقوع العذاب، وأهل الشر يرتدعون وينزجرون، ويسمعون لدعاة الخير؛ لأنهم يرون العذاب، فإذا جاءت النُذُر وتوالت؛ فإن نفعت وحصلت التوبة والاستقامة، دفع الله تبارك وتعالى البلاء العام، وإن لم تحصل التوبة والرجعة والإنابة، بل ازداد أهل الكفر كفراً، وزِيد في ذُلِّ أهل الإيمان وإيذائهم؛ جاءت العقوبة عامة، ونجّى الله تبارك وتعالى الذين اتقوا برحمته.
يقول رحمه الله: "هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة ، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه".
هجر المؤمن أخاه لحقه
من درس: الهجر بين حظ النفس ومصلحة الدين
هل يعني ذلك أن الإنسان لا يهجر لحظ النفس، كمن ظلمه، أو كذب عليه، أو أخذ حقه شخص ثم أنكره؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {بُعثت بالحنيفية السمحة }، وعليه فلا تهجر من ظلمك؟!(21/230)
الجواب: لا. بل تهجره، أما شريعة الإنجيل فتقول: (من سخرك ميلاً فامش معه ميلين، ومن لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن أخذ رداءك فأعطه الإزار). وهذا ليس من شريعة الإسلام، بل قال الله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40] لكن... فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه [الشورى:40] فالشريعة الإسلامية جمعت بين العدل والعفو، فمن حقك أن تعاقب من ظلمك، وذلك حتى لا تحمل النفس على خلاف ما جبلت عليه من حب الانتقام، وذلك ربما أدى بها إلى النفور من الأوامر الشريعة، فأجاز الله للمرء أن يأخذ حقه ممن اعتدى عليه، وله أن يهجره ثلاث ليال، وهي كافية للقلوب المؤمنة أن تمحو أثر الخطأ والظلم، أو الغضب والانتقام الذي يقع في النفس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام } قوله: (وخيرهما) أي: خير المتخاصمين الذي يبدأ صاحبه بالسلام.
يقول بعد كلام له رحمه الله: "وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يُفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله".
أي: كل الأعمال يجب أن تكون لله، والهجر من جنس العقوبات، وأعلى أنواع العقوبات التي يُعاقب بها أعداء الله أن يُقاتلوا فيقتلوا ويسبوا ويُغنموا؛ فيُفعل هذا الجهاد حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193] فكذلك أيضاً: إن هجرت فيكون الهجر لله، وإن بدَّعته أو فسَّقته أو حكمت عليه، فأيضاً من باب الانتصار لدين الله، حتى يكون الدين كله لله.(21/231)
ويقول رحمه الله: "والمؤمن عليه أن يُعادي في الله، ويُوالي في الله؛ فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:9-10].
فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم".
المحبة والبغض للمرء حسب ما فيه من خير وشر
من درس: الهجر بين حظ النفس ومصلحة الدين
ثم قال بعد كلام له رحمه الله: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر -وهذا حال أكثر الناس في دار الإسلام- وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته".
أي: إذا كان هناك لص فقير تسوَّر على دكان وكسر الأقفال وسرق ما فيه، فإنه تقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال لفقره، فيُعاقب بموجب الذنب، ويُعطى بموجب الاستحقاق الذي هو الفقر.(21/232)
فديننا كله عدل ورحمة، وحتى في عقوبات الله الكونية، فالأمة إذا عصت الله سبحانه وتعالى وتمحَّضت للشر؛ استحقت العقوبة الكاملة والفناء، وذلك إذا كثر الخبث وغلب، وأصبح أهل الحق في قِلَّة وذِلَّة وضعف، ولم يَعد لهم وزن ولا كلمة ولا منزلة، وأما ما دام فيها خير وشر، فإن العقوبات تأتيها نذراً وغير عامة، حتى تجعل أهل الخير يجتهدون في الدعوة ويخشون وقوع العذاب، وأهل الشر يرتدعون وينزجرون، ويسمعون لدعاة الخير؛ لأنهم يرون العذاب، فإذا جاءت النُذُر وتوالت؛ فإن نفعت وحصلت التوبة والاستقامة، دفع الله تبارك وتعالى البلاء العام، وإن لم تحصل التوبة والرجعة والإنابة، بل ازداد أهل الكفر كفراً، وزِيد في ذُلِّ أهل الإيمان وإيذائهم؛ جاءت العقوبة عامة، ونجّى الله تبارك وتعالى الذين اتقوا برحمته.
يقول رحمه الله: "هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة ، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه".
مواقف الفرق من نصوص الوعد والوعيد
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة التاسعة)(21/233)
قال شيخ الإسلام في (ص:468) من المجلد الثاني عشر من مجموع الفتاوى : "فصل، إذا تبين ذلك فاعلم أن (مسائل التكفير والتفسيق) هي من مسائل (الأسماء والأحكام) التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة" ثم تكلم عن الفرق وعن معنى الإيمان، إلى أن يقول في (ص:474): "ولهذا قال علماء السنة في وصفهم اعتقاد أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب" وهي العبارة التي يشرحها المصنف رحمه الله هنا، ثم يستمر الكلام إلى أن يقول في (ص:477): "وإذا عرف مسمى الإيمان؛ فعند ذكر استحقاق الجنة والنجاة من النار، وذم من ترك بعضه ونحو ذلك، يراد به الإيمان الواجب" وهذا أيضاً سيأتي إن شاء الله شرحه في موضوع الإيمان؛ لأنه رحمه الله يتوسع ويستطرد في كلامه، فتتداخل عنده القضايا، لكن الأمر المهم الذي نريد أن نصل إليه هو قوله في (ص:478): "وإذا تبين هذا" يعني: إذا تبينت حقيقة الإيمان والخلاف فيه، وأن الإيمان إذا نفي، فالمقصود به الإيمان الواجب لا الكامل المستحب، وإن قيل: الكامل، فالمقصود به الكمال الواجب، قال: "وإذا تبين هذا، فمن ترك بعض الإيمان الواجب لعجزه عنه، إما لعدم تمكنه من العلم: مثل ألا تبلغه الرسالة، أو لعدم تمكنه من العمل، لم يكن مأموراً بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل؛ بمنزلة صلاة المريض، والخائف، والمستحاضة، وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة، فإن صلاتهم صحيحة بحسبما ما قدروا عليه" يعني من الصلاة أو من الطهارة، "وبه أمروا إذ ذاك" والمقصود من هذا أن المعذور الذي لم تبلغه المسائل العلمية، فحاله كحال المتفق عليه بين الجميع، وهو المعذور في الأمور والأحكام الشرعية الواضحة؛ كالمستحاضة والعاجز عن القيام والمريض.
اجتماع الثواب والعقاب في حق المعين عند أهل السنة
ثم قال: "فصل، فهذا أصل مختصر في (مسألة(21/234)
الأسماء)" يعني ما يتعلق بالأسماء؛ متى يسمى المرء مؤمناً أو يسمى كافراً أو يسمى عاصياً أو يسمى فاجراً.
يقول: " وأما (مسألة الأحكام) وحكمه في الدار الآخرة، فالذي عليه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة : أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان، بل يخرج منها من معه مثقال حبة أو مثقال ذرة من إيمان" وهذا قد تقدم.
ثم يقول: "وأما الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة ، فيوجبون خلود من دخل النار، وعندهم من دخلها خلد فيها، ولا يجتمع في حق الشخص الواحد العذاب والثواب.
وأهل السنة والجماعة وسائر من اتبعهم متفقون على اجتماع الأمرين -حصول الثواب من جهة والعقاب من جهة- لأن الإيمان يزيد وينقص؛ ولأن الإنسان يطيع الله في أمور ويعصيه في أمور، فيأتي ببعض شعب الإيمان مع إتيانه ببعض المعاصي، فيستحق اللوم والعقاب من جهة كما يستحق المدح والثواب من جهة أخرى".
قال: "(وأيضاً): أهل السنة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة، ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها؛ بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب، إما لحسنات تمحو كبيرته منه أو من غيره"، يعني كمن كان له حقوق على الناس أو له ولد صالح يدعو ويستغفر له، ويدخل في ذلك أيضاً الشفاعة، فقد يشفع له من لا يعرفه، ومن ليس بينه وبينه قرابة، وليس عليه حق؛ كإنسان صالح يشفعه الله سبحانه وتعالى في مجموعة، وهناك رجل من هذه الأمة يشفع في مثل مضر، فهذا من نعم الله ومن رحمته، فالمقصود أنه قد يدخل الجنة بحسناته أو بحسنات غيره.
قال: "وإما لمصائب كفرتها عنه، وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره فيه" أي: قد يكون ذلك بسبب دعائه لنفسه أو دعاء غيره له، فيستجاب للدعاء في الحالين، قال: "وإما لغير ذلك".(21/235)
أخذ الخوارج والمعتزلة بنصوص الوعيد وأخذ المرجئة بنصوص الوعد
ثم قال: "والوعيدية من الخوارج والمعتزلة " يسمون الوعيدية لأنهم يأخذون بنصوص الوعيد "يوجبون العذاب في حق أهل الكبائر" يعني بأعيانهم، يقولون ذلك "لشمول نصوص الوعيد لهم" فيرون أنهم يدخلون تحت نصوص الوعيد العامة "مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]. وتجعل المعتزلة إنفاذ الوعيد أحد الأصول الخمسة التي يكفرون من خالفها".
وقد تقدم شرح الأصول الخمسة وشرح كلام المعتزلة ، ويقابلهم في هذا القول المرجئة الذين أخذوا بنصوص الوعد.
يقول رحمه الله: "فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد، فإنها قد تتناول كثيراً من أهل الكبائر" يعني: أنهم يعتمدون نصوص الوعد؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة } فإنه يتناول أصحاب الكبائر، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر : {وإن زنى وإن سرق } فردوا عموم الوعيد بعموم الوعد.
يقول: "فهنا اضطرب الناس، فأنكر قوم من المرجئة العموم" وهذا من المذاهب الغريبة، وهو الذي يظهر من مذهب الأشعرية ومن أكثر كلامهم، فقد اضطروا حتى يتخلصوا من هذه القضية إلى أن يقولوا: (العموم مجاز، ولا يوجد عموم في اللغة أصلاً).
منهج أهل السنة في الجمع بين نصوص الوعد والوعيد
يقول: "وقال المقتصدة -ويعني بكلامه هذا أهل الحق-: بل العموم صحيح" العموم حق "والصيغ صيغ عموم"، يعني: قد أنكر أولئك المبتدعة صيغ العموم جميعاً مثل (من، وما، وكل، والنكرة في سياق النفي، وألفاظ العموم جميعاً)، وأثبت أهل السنة العموم ينكروا الصيغ الدالة عليه.(21/236)
قال: "لكن العام يقبل التخصيص" يعني: أي نص عام يمكن أن يأتي نص يخصصه، فالعموم يبقى، ولكن في حق المعين نأخذ الحكم بشروطه هل تحققت، وبموانعه هل انتفت، ثم نحكم عليه.
يقول: "والتحقيق أن يقال: الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه" يعني أنه لا تعارض بين آيات وأحاديث الوعد وبين آيات وأحاديث الوعيد، يقول: "فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط" يعني أن من كفر فقد حبط عمله والعياذ بالله، حيث قال الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5] قال: "لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة"، أي: مشروطة بعدم إيمانهم إن كانوا كفاراً، أو توبتهم إن كانوا فساقاً، فهذه مع تلك عمومها باق، ولكن يدخلها التخصيص في حق المعينين.
ثم يقول: "فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، كما بين أن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الرياء يبطل العمل"، كما جاء في الحديث القدسي يقول الله تعالى: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه } رواه مسلم .
قال: "وأنه إنما يتقبل الله من المتقين؛ أي في ذلك العمل" قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] يعني: من صلى بإخلاص وتصدق برياء؛ فإن الله يقبل صلاته؛ لأنه كان متقياً فيها، ولا يقبل صدقته منه؛ لأنه راءى فيها؛ فهناك حسنات وموانع لوقوعها، وهناك سيئات وموانع لوقوعها.(21/237)
يقول: "فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما جعل للحسنات ما يبطل ثوابها"، أي: ما يمنع حصول ثوابها؛ فكما أن الله جعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، فكذلك جعل الله تعالى بنص القرآن والسنة للحسنات ما قد يكون سبباً في عدم حصول ثوابها.
قال: "لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة" حتى لو ارتكب أعظم ذنب وهو الشرك، قال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] هذا إذا تاب من الشرك، ولو كان ذلك الذنب قتل النفس -كما مر معنا في حديث الذي قتل المائة- ثم تاب القاتل؛ الله تبارك وتعالى يتوب عليه، فأي ذنب فهو داخل تحت قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70]؛ فهذه التوبة تمحو جميع السيئات.
قال: "كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة"، فهو إن فعل محظوراً أو ترك واجباً، وهو في نفس الوقت يفعل الواجبات الأخرى، ويترك المحظورات الأخرى، فذلك لا يستدعي بطلان جميع العمل ولا قبول جميع العمل.
يقول: " وبهذا يتبين أنَّا نشهد بأن الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] على الإطلاق والعموم" وبعموم كلام الله لا بد أن نقول وأن نشهد، إذا وعظنا الناس في المساجد، وفي خطب الجمعة، وفي المجالس أو في أي مكان؛ لنزجرهم ونخوفهم من عذاب الله، ونأتي بهذه الآية ونبين أن هذا حكمه وهذا جزاؤه.(21/238)
ثم يقول: "ولا نشهد لمعين أنه في النار"، أي: لا نقول: هذا في النار؛ لأنه أكل مال يتيم؛ فإننا نشهد بالعموم والإطلاق، ولكن لا نشهد في المعين؛ يقول: "لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه" فما عندنا علم فيه بذاته وبعينه؛ "لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه".
مفهوم كلامه رحمه الله أننا لو علمنا ثبوت الشروط وانتفاء الموانع أجرينا الحكم عليه في الدنيا، ولكننا مع ذلك لا نعلم حكمه في الآخرة، وهذا هو الذي يجعلنا نعاقب في الدنيا ولا نتكلم عن العقوبة في الآخرة إلا بنص أو على يقين، أما في الدنيا، فإننا نستطيع أن نتأكد في حدود علمنا أن الشرط متحقق وأن المانع منتفٍ، فنجزي عليه العقوبة الدنيوية؛ مع أننا لا نجزم مائة بالمائة أننا على صواب؛ فقد يكون عند الله تعالى غير مذنب، لكن على القاضي أن يحكم ويتحرى؛ فإذا أصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر.
وقد يقال: ما دمنا لا نجزم بالوعيد في حق المعين، فما فائدته؟
يقول: "وفائدة الوعيد بيان أن هذا الذنب مقتضٍ لهذا العذاب، والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه".(21/239)
يعني أننا نقول للناس: من فعل هذا الفعل فهذا حكمه، فإذا أنت وعظت الناس، وذكرتهم بالله عز وجل؛ فقلت لهم: لا تأكلوا أموال اليتامى؛ فإن الله تعالى قال في ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] فأنت قد أعذرت وأبلغت، وبينت للناس حكم هذا الذنب، وكل واحد من الحاضرين يرى في نفسه ويعلم أنه فاعل لهذا الذنب؛ فعليه أن يتوب ويستغفر الله ويجتهد في الخير؛ ففي هذه الحالة وجود الوعيد له فائدة عظيمة، ولا يستلزم وعظ الناس أن تعين فلاناً بذاته، وتقول: فلان من أهل النار؛ لأن الله تعالى قال إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
يقول: "يبين هذا -يبين الفرق بين العموم والإطلاق وبين المعين- أنه قد ثبت: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وآكل ثمنها }.
وثبت عنه في صحيح البخاري عن عمر : {أن رجلاً كان يكثر شرب الخمر، فلعنه رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله }".
فالحديث الأول يدل على أن اللعن في العموم حق، وقد صرح به النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث الثاني يدل على أن لعن المعين منهي عنه، وكثير من الناس في هذه المسألة على طرفي نقيض؛ فإما أنهم ممن لا يرى ذكر هذه الأمور مطلقاً ويقول: لا نكفر، ولا نفسق، ولا نضلل، وهذا مذهب المرجئة ، وإما أنهم ممن يطلقها على المعينين رأساً بلا تثبت، وهذا منهج الخوارج وطريقهم.(21/240)
ففي الحديث الثاني علل النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن لعن شارب الخمر بقوله: {إنه يحب الله ورسوله } أي أنه وجد في هذا الشخص بعينه مانع يمنع لحوق الوعيد العام به، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم اللعن في العموم؛ لأنه هو الذي قاله وأطلقه؛ فلو أنك سمعت أن رجلاً شرب الخمر، فقلت: لعن الله شاربها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها، فما عليك شيء؛ لأنك لم تلعنه هو بعينه؛ بل أطلقت اللعن بعمومه؛ فإن كان هذا الرجل يستحق اللعن شمله اللعن، وإن لم يكن مستحقاً للعن، فأنت حينئذ ما أخطأت وما أثمت، لكن إن قلت: فلان ملعون، فقد يقال: هناك مانع يمنع من إطلاق هذا الحكم.
وربما لو انتفى هذا المانع في حق ذلك الرجل، لسكت النبي صلى الله عليه وسلم وأقر اللاعن له على لعنه، لكن وجد المانع وهو حب الله ورسوله، يقول: "فنهى عن لعن هذا المعين، وهو مدمن خمر؛ لأنه يحب الله ورسوله، وقد لعن شارب الخمر على العموم".
اجتماع الثواب والعقاب في حق المعين عند أهل السنة
من درس: مواقف الفرق من نصوص الوعد والوعيد
ثم قال: "فصل، فهذا أصل مختصر في (مسألة الأسماء)" يعني ما يتعلق بالأسماء؛ متى يسمى المرء مؤمناً أو يسمى كافراً أو يسمى عاصياً أو يسمى فاجراً.
يقول: " وأما (مسألة الأحكام) وحكمه في الدار الآخرة، فالذي عليه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة : أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان، بل يخرج منها من معه مثقال حبة أو مثقال ذرة من إيمان" وهذا قد تقدم.
ثم يقول: "وأما الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة ، فيوجبون خلود من دخل النار، وعندهم من دخلها خلد فيها، ولا يجتمع في حق الشخص الواحد العذاب والثواب.(21/241)
وأهل السنة والجماعة وسائر من اتبعهم متفقون على اجتماع الأمرين -حصول الثواب من جهة والعقاب من جهة- لأن الإيمان يزيد وينقص؛ ولأن الإنسان يطيع الله في أمور ويعصيه في أمور، فيأتي ببعض شعب الإيمان مع إتيانه ببعض المعاصي، فيستحق اللوم والعقاب من جهة كما يستحق المدح والثواب من جهة أخرى".
قال: "(وأيضاً): أهل السنة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة، ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها؛ بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب، إما لحسنات تمحو كبيرته منه أو من غيره"، يعني كمن كان له حقوق على الناس أو له ولد صالح يدعو ويستغفر له، ويدخل في ذلك أيضاً الشفاعة، فقد يشفع له من لا يعرفه، ومن ليس بينه وبينه قرابة، وليس عليه حق؛ كإنسان صالح يشفعه الله سبحانه وتعالى في مجموعة، وهناك رجل من هذه الأمة يشفع في مثل مضر، فهذا من نعم الله ومن رحمته، فالمقصود أنه قد يدخل الجنة بحسناته أو بحسنات غيره.
قال: "وإما لمصائب كفرتها عنه، وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره فيه" أي: قد يكون ذلك بسبب دعائه لنفسه أو دعاء غيره له، فيستجاب للدعاء في الحالين، قال: "وإما لغير ذلك".
أخذ الخوارج والمعتزلة بنصوص الوعيد وأخذ المرجئة بنصوص الوعد
من درس: مواقف الفرق من نصوص الوعد والوعيد
ثم قال: "والوعيدية من الخوارج والمعتزلة " يسمون الوعيدية لأنهم يأخذون بنصوص الوعيد "يوجبون العذاب في حق أهل الكبائر" يعني بأعيانهم، يقولون ذلك "لشمول نصوص الوعيد لهم" فيرون أنهم يدخلون تحت نصوص الوعيد العامة "مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]. وتجعل المعتزلة إنفاذ الوعيد أحد الأصول الخمسة التي يكفرون من خالفها".(21/242)
وقد تقدم شرح الأصول الخمسة وشرح كلام المعتزلة ، ويقابلهم في هذا القول المرجئة الذين أخذوا بنصوص الوعد.
يقول رحمه الله: "فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد، فإنها قد تتناول كثيراً من أهل الكبائر" يعني: أنهم يعتمدون نصوص الوعد؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة } فإنه يتناول أصحاب الكبائر، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر : {وإن زنى وإن سرق } فردوا عموم الوعيد بعموم الوعد.
يقول: "فهنا اضطرب الناس، فأنكر قوم من المرجئة العموم" وهذا من المذاهب الغريبة، وهو الذي يظهر من مذهب الأشعرية ومن أكثر كلامهم، فقد اضطروا حتى يتخلصوا من هذه القضية إلى أن يقولوا: (العموم مجاز، ولا يوجد عموم في اللغة أصلاً).
منهج أهل السنة في الجمع بين نصوص الوعد والوعيد
من درس: مواقف الفرق من نصوص الوعد والوعيد
يقول: "وقال المقتصدة -ويعني بكلامه هذا أهل الحق-: بل العموم صحيح" العموم حق "والصيغ صيغ عموم"، يعني: قد أنكر أولئك المبتدعة صيغ العموم جميعاً مثل (من، وما، وكل، والنكرة في سياق النفي، وألفاظ العموم جميعاً)، وأثبت أهل السنة العموم ينكروا الصيغ الدالة عليه.
قال: "لكن العام يقبل التخصيص" يعني: أي نص عام يمكن أن يأتي نص يخصصه، فالعموم يبقى، ولكن في حق المعين نأخذ الحكم بشروطه هل تحققت، وبموانعه هل انتفت، ثم نحكم عليه.(21/243)
يقول: "والتحقيق أن يقال: الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه" يعني أنه لا تعارض بين آيات وأحاديث الوعد وبين آيات وأحاديث الوعيد، يقول: "فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط" يعني أن من كفر فقد حبط عمله والعياذ بالله، حيث قال الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5] قال: "لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة"، أي: مشروطة بعدم إيمانهم إن كانوا كفاراً، أو توبتهم إن كانوا فساقاً، فهذه مع تلك عمومها باق، ولكن يدخلها التخصيص في حق المعينين.
ثم يقول: "فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، كما بين أن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الرياء يبطل العمل"، كما جاء في الحديث القدسي يقول الله تعالى: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه } رواه مسلم .
قال: "وأنه إنما يتقبل الله من المتقين؛ أي في ذلك العمل" قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] يعني: من صلى بإخلاص وتصدق برياء؛ فإن الله يقبل صلاته؛ لأنه كان متقياً فيها، ولا يقبل صدقته منه؛ لأنه راءى فيها؛ فهناك حسنات وموانع لوقوعها، وهناك سيئات وموانع لوقوعها.(21/244)
يقول: "فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما جعل للحسنات ما يبطل ثوابها"، أي: ما يمنع حصول ثوابها؛ فكما أن الله جعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، فكذلك جعل الله تعالى بنص القرآن والسنة للحسنات ما قد يكون سبباً في عدم حصول ثوابها.
قال: "لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة" حتى لو ارتكب أعظم ذنب وهو الشرك، قال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] هذا إذا تاب من الشرك، ولو كان ذلك الذنب قتل النفس -كما مر معنا في حديث الذي قتل المائة- ثم تاب القاتل؛ الله تبارك وتعالى يتوب عليه، فأي ذنب فهو داخل تحت قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70]؛ فهذه التوبة تمحو جميع السيئات.
قال: "كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة"، فهو إن فعل محظوراً أو ترك واجباً، وهو في نفس الوقت يفعل الواجبات الأخرى، ويترك المحظورات الأخرى، فذلك لا يستدعي بطلان جميع العمل ولا قبول جميع العمل.
يقول: " وبهذا يتبين أنَّا نشهد بأن الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] على الإطلاق والعموم" وبعموم كلام الله لا بد أن نقول وأن نشهد، إذا وعظنا الناس في المساجد، وفي خطب الجمعة، وفي المجالس أو في أي مكان؛ لنزجرهم ونخوفهم من عذاب الله، ونأتي بهذه الآية ونبين أن هذا حكمه وهذا جزاؤه.(21/245)
ثم يقول: "ولا نشهد لمعين أنه في النار"، أي: لا نقول: هذا في النار؛ لأنه أكل مال يتيم؛ فإننا نشهد بالعموم والإطلاق، ولكن لا نشهد في المعين؛ يقول: "لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه" فما عندنا علم فيه بذاته وبعينه؛ "لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه".
مفهوم كلامه رحمه الله أننا لو علمنا ثبوت الشروط وانتفاء الموانع أجرينا الحكم عليه في الدنيا، ولكننا مع ذلك لا نعلم حكمه في الآخرة، وهذا هو الذي يجعلنا نعاقب في الدنيا ولا نتكلم عن العقوبة في الآخرة إلا بنص أو على يقين، أما في الدنيا، فإننا نستطيع أن نتأكد في حدود علمنا أن الشرط متحقق وأن المانع منتفٍ، فنجزي عليه العقوبة الدنيوية؛ مع أننا لا نجزم مائة بالمائة أننا على صواب؛ فقد يكون عند الله تعالى غير مذنب، لكن على القاضي أن يحكم ويتحرى؛ فإذا أصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر.
وقد يقال: ما دمنا لا نجزم بالوعيد في حق المعين، فما فائدته؟
يقول: "وفائدة الوعيد بيان أن هذا الذنب مقتضٍ لهذا العذاب، والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه".(21/246)
يعني أننا نقول للناس: من فعل هذا الفعل فهذا حكمه، فإذا أنت وعظت الناس، وذكرتهم بالله عز وجل؛ فقلت لهم: لا تأكلوا أموال اليتامى؛ فإن الله تعالى قال في ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] فأنت قد أعذرت وأبلغت، وبينت للناس حكم هذا الذنب، وكل واحد من الحاضرين يرى في نفسه ويعلم أنه فاعل لهذا الذنب؛ فعليه أن يتوب ويستغفر الله ويجتهد في الخير؛ ففي هذه الحالة وجود الوعيد له فائدة عظيمة، ولا يستلزم وعظ الناس أن تعين فلاناً بذاته، وتقول: فلان من أهل النار؛ لأن الله تعالى قال إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
يقول: "يبين هذا -يبين الفرق بين العموم والإطلاق وبين المعين- أنه قد ثبت: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وآكل ثمنها }.
وثبت عنه في صحيح البخاري عن عمر : {أن رجلاً كان يكثر شرب الخمر، فلعنه رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله }".
فالحديث الأول يدل على أن اللعن في العموم حق، وقد صرح به النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث الثاني يدل على أن لعن المعين منهي عنه، وكثير من الناس في هذه المسألة على طرفي نقيض؛ فإما أنهم ممن لا يرى ذكر هذه الأمور مطلقاً ويقول: لا نكفر، ولا نفسق، ولا نضلل، وهذا مذهب المرجئة ، وإما أنهم ممن يطلقها على المعينين رأساً بلا تثبت، وهذا منهج الخوارج وطريقهم.(21/247)
ففي الحديث الثاني علل النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن لعن شارب الخمر بقوله: {إنه يحب الله ورسوله } أي أنه وجد في هذا الشخص بعينه مانع يمنع لحوق الوعيد العام به، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم اللعن في العموم؛ لأنه هو الذي قاله وأطلقه؛ فلو أنك سمعت أن رجلاً شرب الخمر، فقلت: لعن الله شاربها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها، فما عليك شيء؛ لأنك لم تلعنه هو بعينه؛ بل أطلقت اللعن بعمومه؛ فإن كان هذا الرجل يستحق اللعن شمله اللعن، وإن لم يكن مستحقاً للعن، فأنت حينئذ ما أخطأت وما أثمت، لكن إن قلت: فلان ملعون، فقد يقال: هناك مانع يمنع من إطلاق هذا الحكم.
وربما لو انتفى هذا المانع في حق ذلك الرجل، لسكت النبي صلى الله عليه وسلم وأقر اللاعن له على لعنه، لكن وجد المانع وهو حب الله ورسوله، يقول: "فنهى عن لعن هذا المعين، وهو مدمن خمر؛ لأنه يحب الله ورسوله، وقد لعن شارب الخمر على العموم".
تكفير أهل البدع والأهواء متفرع عن مسألة الأحكام والأسماء
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة التاسعة)
ضوابط أهل السنة في تكفيرهم لأهل البدع والأهواء
ثم يقول: "فصل، إذا ظهرت هذه المقدمات في اسم المؤمن والكافر والفاسق الملّي، وفي حكم الوعد والوعيد، والفرق بين المطلق والمعين، وما وقع في ذلك من الاضطراب؛ فـ(مسألة تكفير أهل البدع والأهواء) متفرعة على هذا الأصل".
فهذه المسألة هي موضوع بحثنا، والتي بناءً عليها ذكر ابن أبي العز رحمه الله حديث الرجل الذي أمر أبناءه، وأوصاهم بحرقه بعد الموت وذر رماده في البحر؛ يبين شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه المسألة متفرعة عن هذه القضايا.(21/248)
قال: "ونحن نبدأ بمذهب أئمة السنة فيها قبل التنبيه على الحجة، فنقول: المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية " وهذا سبق أن قلناه؛ فالمشهور عن أئمة السلف تكفير الجهمية في العموم، قال: "وأما المرجئة فلا تختلف نصوصه أنه لا يكفرهم".
ذكر هنا الجهمية ثم قال بعدها: " أما المرجئة "، فالمقصود بالمرجئة هنا غير الغلاة منهم؛ لأن المرجئة الغلاة -وهم الجهمية- يقولون: إن الإيمان هو المعرفة في القلب فقط، فهؤلاء يدخلون في التكفير في العموم، لكن كلامه هنا في المرجئة غير الغلاة الذين يقولون: لا يدخل العمل في الإيمان، لكنهم يرون أن الأعمال ثمرات للإيمان، وأنه يجب على الإنسان أن يأتي بالعمل، وأنه يثاب ويعاقب على العمل، لكنهم لا يدخلونه في الإيمان، فهذا مذهب المرجئة غير الغلاة الذين يقال لهم: مرجئة أهل السنة أو مرجئة الحنفية، وهذا سيأتي بيانه إن شاء الله.
والمقصود أنه غاير بين المرجئة والجهمية ، فعرفنا أنه يريد من قوله: (المرجئة): غير الغلاة منهم، والإمام أحمد رحمه الله لم يكفر المرجئة ، وكذلك الأئمة.
قال: "وكذلك الشيعة المفضلون لعلي على أبي بكر " الشيعة الذين ليس فيهم من التشيع إلا تفضيل علي على أبي بكر ، هؤلاء أيضاً لم يكفرهم السلف ، ولم يخرجوهم من الملة في الجملة.
قال: "وأما القدرية المقرّون بالعلم" إنما قال المقرون بالعلم؛ لأن من نفى العلم فهو كافر.
"والروافض الذين ليسوا من فرقة الغالية " يعني بهم الذين لم يقتصروا على تفضيل علي على أبي بكر ، بل تعدوا ذلك إلى سب الصحابة، لكنهم لم يؤلهوا علياً ولا أهل بيته.(21/249)
يقول: " وأما القدرية المقرون بالعلم والروافض الذين ليسوا من الغالية والجهمية والخوارج " فيذكر عنه -يعني الإمام أحمد رحمه الله- في تكفيرهم روايتان، هذا حقيقة قوله المطلق، مع أن الغالب عليه التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم، والخوارج ، مع قوله: ما أعلم قوماً شراً من الخوارج ".
قد ذكر الإمام أحمد حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج فقال: "صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج من عشرة أوجه".
ثم قال: "ما أعلم قوماً شراً من الخوارج "، لكنه لم يكفرهم؛ بل توقف في تكفيرهم وفي تكفير من أنكر القدر وهو مقر بالعلم، أما من أنكر العلم فهو كافر لا شك في ذلك.
فهناك مراتب عند الإمام أحمد في هؤلاء؛ حيث صنفهم إلى قوم لم يتردد في أنهم يكفرون، وقوم لم يتردد في أنهم لا يكفرون، وقوم توقف في أمرهم، أو وردت عنه روايات متعارضة بشأنهم، وهذا من عدل أهل السنة والجماعة ؛ حيث إنهم لا يعممون الأحكام على الناس، وإنما كل بحسبه، وهذا من الميزان الذي أمر الله تعالى به.
ثم يبين شيخ الإسلام أن الناس اختلفوا في فهم كلام الإمام أحمد رحمه الله، وفي فهم كلام الإمام الشافعي وأمثالهم، يقول: "وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة".
ثم يقول: "وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع" يعني أنهم كما اختلفوا في آيات الوعيد وأحاديث الوعيد، فكذلك اختلفوا في كلام الأئمة، فمنهم من جعله في المعينين، ومنهم من نفاه بإطلاق.
قال: "ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه".(21/250)
إذاً: لا تناقض في كلام الإمام أحمد ؛ إذ أنه يكفر من قال: إن القرآن مخلوق، وفي نفس الوقت حين يسأل عن فلان يقول: كان مرجئاً -مثلاً- أو كان جهمياً أو كان كذا، أي أنه يجرحه جرحاً دون الكفر، ولو كان مرتداً لصرح بذلك واكتفى به، فإن الكافر لا يقبل حديثه مطلقاً.
قال: "فإن الإمام أحمد -مثلاً- قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات" ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنهم فعلوا الأفاعيل حتى إنه كان لا يعين في أي منصب إلا من نادى بمذهبهم الخبيث، وأعلن أنه عليه، وأنه معارض لمذهب السلف .
يقول: "ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب" فهم لم يتوقفوا عند مجرد الدعاء إليها، بل استخدموا السلطة لذلك، فكانوا يعطون المناصب لمن قال بقولهم في هذه البدعة التي هي كفر، ويعاقبون من لم يقل بها.
يقول: "ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة -يعني: المعتصم الذي عذبه- وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر" فالإمام أحمد بالرغم من قوله: إن قولهم كفر، فإنه حين سئل عن المعتصم ، دعا له وعفا عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو منهج أهل السنة ، يظهرون الحق ويدافعون عنه، ويستميتون في سبيله، ومع ذلك لا يحملون غلاً ولا حقداً على أحد؛ بل الأصل عندهم الرحمة والتجاوز والتسامح.(21/251)
وكذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد سجن وأوذي وعذب، ولما أظهره الله على من فعل به ذلك، وطلب منه السلطان معاقبتهم بمثل ما عاقبوه به -تصديقاً لكلام الله سبحانه وتعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40].. وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]- عفا عنهم، وهذا هو خلق أهل السنة ؛ يعملون بالإحسان مع أنه بإمكانهم أن يعاملوا خصومهم بالعدل.
يقول: "ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم -قطعاً- فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع".
وهذا معلوم، قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113] يقول: "وهذه الأقوال والأعمال منه -أي من الإمام أحمد رحمه الله- ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر قوماً معينين".
فقد نقل عن أحمد من طريق تلاميذه الثقات أنه كفر معينين، وهذا الذي نريد أن نفهمه؛ فإن المسألة ليست على إطلاقها في أنه لا يَكْفُر من هؤلاء أحد؛ بل هناك من يَكْفُر من هؤلاء المعينين؛ كذلك لابد من إطلاق القول العام بالتكفير في غير المعين.
يقول: "فإما أن يذكر عنه في المسألة روايتان، ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفر بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه".
أي أنه قد يقال: إن الإمام أحمد روي عنه روايتان، أنه كفر فلاناً أو ما كفره، فهذا جائز أن يقع، لكنه احتمال ضعيف، والأولى التفصيل "فيقال: من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه".(21/252)
أي أن من كفره الإمام أحمد رحمه الله بعينه، فمعنى ذلك أنه قد قام عنده الدليل على تحقق شروط التكفير فيه وانتفاء الموانع. "ومن لم يكفره بعينه، فلأن ذلك منتفٍ في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم".
إذاً: لا تعارض، فهو يقولها على سبيل العموم، وأما في الأعيان فيتحرى، فمن ثبتت فيه الشروط، وانتفت عنه الموانع، أطلق الحكم بتكفيره، ومن لم يكن كذلك، لم يطلق ذلك في حقه.
ثم ذكر الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار؛ فمن أدلة الكتاب على أن الإنسان لا يؤاخذ بالتأويل والخطأ ما لم يتعمد: قوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [الأحزاب:5]... وقوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].
وقد ثبت في الصحيح عن النبي: {أن الله تعالى قال: قد فعلت } لما دعا النبي والمؤمنون بهذا الدعاء.
قال: "وأيضاً قد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن رجلاً لم يعمل خيراً قط }" وذكر الحديث، ثم قال: "وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيدهم العلم اليقيني" أي: يعلم ذلك المشتغلون بهذا الفن، الذين يؤمنون بالكتاب والسنة، والذين يأخذون الأدلة منها، وأما أهل الكلام فيردون الحديث ولو بلغ مائة طريق؛ لأنهم ليسوا من أهل هذا الفن، ولا من أهل هذا الشأن، ولا يريدون أن يؤمنوا بما يرونه مخالفاً لعقولهم أصلاً، قال: "وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممن لم يشركهم في أسباب العلم، فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله".
قال: "وأيضاً قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان }" إلى آخره، وذكر أدلة أخرى.(21/253)
الخطأ في التكفير عند السلف وما يترتب على ذلك
قال: "وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل" فهو هنا يستدل على وقوع الخطأ من السلف على عدم التكفير، فلو أن قائلاً قال قولاً بدعياً وهو كفر، فإننا نتأكد في حقه من وجود الشروط وانتفاء الموانع، أما الذي يخطئ فيوافقه دون أن يقصد ذلك، فهذا أقل درجة منه ولا شك.
وشيخ الإسلام رحمه الله يستدل على عدم إطلاق التكفير أو التعجل في إطلاقه بأن كثيراً من السلف أخطئوا في بعض المسائل، قال: "واتفقوا على عدم التكفير بذلك" ومن القضايا التي خاض فيها الصحابة موضوع المعراج يقظة، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة الإسراء، والكلام في الخلافة.
يقول: "وكذلك لبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض أقوال معروفة" ويذكر بعض الأمثلة على ذلك فيقول: "وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: (بل عجبتُ) ويقول: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه.. كان عبد الله أفقه منه" يعني ابن مسعود ، وهو شيخ الاثنين "كان عبد الله أفقه منه، فكان يقول: (بل عجبتُ).. فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة".
حين أنكر شريح (بل عجبتُ) فإنه قد ترتب على ذلك أمران:
أولاً: أنه أنكر أولاً قراءة ثابتة. ثانياً: أنه أنكر صفة من صفات الله الثابتة والتي دل عليها الكتاب والسنة، وهي صفة التعجب أو العجب، ومع ذلك يقول: "واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة" ولم يكفروه لأنه لم ينكرها على سبيل الرد والجحود؛ كما فعلت الجهمية .(21/254)
قال: "وكذلك أنكر بعض السلف بعض حروف القرآن مثل إنكار بعضهم قوله: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا [الرعد:31]، وقال: إنما هي: أولم يتبين الذين آمنوا - وإنكار الآخر قراءة قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] وقال: إنما هي: ووصى ربك"، وقد تقدم معنا ذلك بالتفصيل في موضوع الخلاف في القراءات.
قال: "وأيضاً فإن الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة" يعني: لم يبلغه شيء من الدين جملة "لم يعذبه رأساً" أي: لا يعذب أيضاً جملة.
"ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية"، فيحاسب على الجملة التي بلغته، لكن لا يعذب ولا يحاسب على التفصيل الذي لم يبلغه، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، وذكر رحمه الله بعد ذلك الأدلة على ذلك.
مواضع إطلاق التكفير العام
ومن ثم يقول: "هذا الكلام يمهد أصلين عظيمين:
أحدهما: أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة، أو أنه على العرش، أو أن القرآن كلامه، أو أنه كلم موسى، أو أنه اتخذ إبراهيم خليلاً كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك" أي: ما كان فيه جحد أو إنكار لأصل من أصول العقيدة والإيمان أو من أصول الأحكام العملية التي دل عليها الكتاب والسنة.
وهنا فائدة وهي: أن الأصول تطلق على ما يتعلق بالعقيدة، ويقابلها الفروع، وهي الأحكام العملية، ولكن ليس هذا هو المراد هنا، إنما المراد بالأصول هنا: أصول العقائد من جهة، وأصول الأحكام العملية من جهة أخرى.
فمثلاً: وجوب الصلاة، وتحريم الزنا، وتحريم الخمر، هي من أصول الأحكام.(21/255)
وقد يعبر عنها أحياناً بقولهم: هي المعلوم من الدين بالضرورة، فهذه الأصول جميعاً -أصول العقائد وأصول الأحكام- نحكم على من لم يؤمن بها بأنه كافر في الجملة وفي الإطلاق وفي العموم.
قال: "والأصل الثاني أن التكفير العام -كالوعيد العام- يجب القول بإطلاقه وعمومه". فالتكفير أو ما كان دونه كالوعيد العام يطلق كما جاء في الكتاب والسنة.
التوقف في مصير المعين في الآخرة وعلاقته بإقامة الحد عليه في الدنيا
قال: "وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار، فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه". ثم بدأ شيخ الإسلام في تفصيل موضوع العقوبة، قال: "لكن هذا التوقف في أمر الآخرة -أننا لا نشهد بالجنة أو النار- لا يمنع أن نؤاخذه في الدنيا وأن نعاقبه لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه".
إذاً: نحن نعاقب المبتدع لنمنعه عن بدعته؛ وذلك لأننا نفرق بين وقوع العقوبة وبين ارتباط ذلك بصلاح الإنسان أو فساده، وأنه غير مقبول عند الله، أو بمعنى آخر: نفرق بين وقوع العقوبة في الدنيا ووقوعها في الآخرة، أما في الآخرة، فهو تبارك وتعالى الذي يتولى الجزاء، ولا ارتباط بين هذا وذاك.
يقول: "ومما ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا؛ إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، ويكون في الآخرة غير معذب، مثل: قتال البغاة والمتأولين، مع بقائهم على العدالة".
هناك فرق بين قتال الخوارج وقطاع الطرق وبين قتال المتأولين؛ فالخوارج يُقَاتَلُون لأنهم على البدعة، وقطاع الطريق الذين يسمون المحاربين يُقَاتَلُون لأنهم مفسدون في الأرض؛ أخذاً من قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا [المائدة:33].(21/256)
أما المتأول، فهو الذي يظن أنه على الحق، واجتهاده أدى به إلى أن هذا هو الحق، فخرج به على جماعة المسلمين بأحد المعنيين؛ إما على الجماعة بمعنى الحق، أو على الجماعة بمعنى الإمام وأهل الحل والعقد الذين معه، فهذا اجتهاده، وقد يكون معذوراً؛ لكنه يقاتل حتى لا ينتشر خطؤه ولو أن أحداً استحل شيئاً مما حرم الله، أو ابتدع شيئاً في الدين، وإن كان يريد الحق، ولكنه لم يفهم الأدلة، وتأولها على غير وجهها ولم يقصد إلا الخير، لكنه أخطأ، فإذا تركناه تديَّن الناس بما هو عليه من الخطأ، ومن البدعة والضلال، وإن قاتلناه، قالوا: كيف تقاتلونه وهذا اجتهاده وهو عند الله معذور؟! فنقول: حكمه في الآخرة شيء آخر، أما في الدنيا فإننا نقاتله؛ لأن هناك فرقاً بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة.
وأوضح مثال على ذلك ما أورده شيخ الإسلام في قوله: "ومثل إقامة الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة، فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك، كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك والغامدية مع قوله: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له }، ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولاً، مع العلم بأنه باقٍ على العدالة".
يعني: إذا قال شارب النبيذ: أنا على مذهب أهل العراق ، والنبيذ عندي جائز، نقول: نحن بالنسبة لمذهبنا -وهو الراجح وعليه السلف - نجلد في شرب النبيذ، لكننا لا نحكم على شارب النبيذ بأنه منزوع العدالة كشارب الخمر؛ لأنه ما شربها لهوى أو لشهوة؛ إنما اتبع مذهبه، لكن لأننا نرى أن هذا المذهب مرجوح؛ لا نقول له: اشرب كما تريد؛ لأنه لو فعل ذلك وأقر عليه، لشرب الناس الخمر باسم النبيذ؛ ولذلك فإننا نمنعه ونعاقبه ونقول: هو غير آثم إذا كان هذا اجتهاده .. ونحن حين نعاقبه لا يلزم من معاقبتنا له أنه آثم، كما لا يلزم عكس ذلك.
يقول: "بخلاف من لا تأويل له" هذا سيأتي شرحه إن شاء الله.(21/257)
يقول: "وكذلك نعلم أن خلقاً لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة"، وهذا حاصل، كحال المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءوا يحلفون بالله أنهم كانوا من المعذورين في غزوة تبوك، ليرضى عنهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى:يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التوبة:96] وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ [النور:53] يحلفون ويقسمون الأيمان للنبي صلى الله عليه وسلم إن خرجت مرة أخرى لنجاهدن معك قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53] أي أنه قد عرف من شأنهم أنهم في كل مرة يحلفون ويكذبون، والله تعالى يطلع المؤمنين على أحوالهم من عنده، وأيضاً المؤمنون يعرفونهم بلحن القول.
فكثير من الناس تعلم أنه منافق، ورغم ذلك لا تقدر أن تعاقبه بشيء في الدنيا.
ومع أنك قد اجتمعت لديك قرائن وأدلة معينة تجعلك تعتقد أنه منافق، إلا أنك تكل أمره إلى الله.
وكحال المنافقين -في كف العقوبة عنهم في الدنيا مع اعتقاد أنهم معاقبون في الآخرة- حال أهل الذمة، من النصارى الذين يعتقدون أن الله ثالث ثلاثة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ويذهبون إلى الكنائس، ولا يؤمنون بالقرآن، ويكذبون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويشربون الخمر، ويأكلون الخنزير؛ يقترفون كل هذه الأمور؛ ومع ذلك فإن الله أمرنا أن نقرهم على دينهم بالشروط العمرية، وهي شروط أهل الذمة.
فنحن نعلم أنهم على الكفر، وأنهم لا يحلون ما أحل الله ورسوله، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ويعتقدون هذا الكفر، ومع ذلك نقرهم؛ فهناك فرق بين أحكام الدنيا وبين أحكام الآخرة؛ نقرهم في الدنيا ونحن نعلم ونعتقد أنهم معاقبون عند الله على هذا الكفر، وأن مصيرهم ومآلهم إلى النار.
يقول رحمه الله: "وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة".(21/258)
السبب في كف العقوبات عن أهل الذمة وعن المنافقين وإجرائها على التائبين والمتأولين أن الجزاء الحقيقي يكون في الدار الآخرة، فنحن إنما أمرنا أن نقيم حدود الله بما استطعنا.
يقول: "التي هي دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا، فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع به الظلم والعدوان".
ولذلك لم تكن غاية قتالنا لهم أن يؤمنوا بقلوبهم، فنحن لن نعلم ذلك؛ وإنما غاية قتالنا لهم ألا يفتن مؤمن؛ كما قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193] فبعد ذلك: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256].
فنحن نقاتل حتى يعلم الناس الحق، وحتى يصل إليهم الحق، وحتى لا يوجد في الدنيا من يفتن الناس عن الحق بالشبهات أو الشهوات.
قتل الداعي إلى البدعة بغض النظر عن تكفيره
يقول رحمه الله: "وإذا كان الأمر كذلك، فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة، ولا بالعكس، ولهذا أكثر السلف يأمرون بقتل الداعي بالبدعة الذي يضل الناس لأجل إفساده الدين، سواء قالوا: هو كافر أو ليس بكافر".
انظروا فقه السلف وفهم السلف ؛ لم يتجادلوا كثيراً في الجعد هل هو كافر أو ليس بكافر.. أما نحن الآن -مع الأسف- فتجد أكثر خلافنا هل فلان كافر أم ليس بكافر.(21/259)
لقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يعلمون أن أمور العباد إلى الله، وحقيقة العقوبة إنما هي في الآخرة، لكن إن وجد في الدنيا رجل ابتدع بدعة تفسد الدين، وجب أن يقتل؛ فأجمعوا على هذا القدر، ومنهم من أطلق الكفر، ومنهم من لم يطلقه، والمقصود أنهم لم يتجادلوا، بل القضية والنظر الأساسي عند السلف هو أن من كان في وجوده أو في بقائه خطر على الدين، وفي قتله مصلحة للدين، فإنه يقتل، أما كونه قتل كافراً أو غير ذلك، فذلك أمر ثانوي، فقد كان نظرهم إلى أصل القضية، ولذلك لا يمنع أننا قد نعذر أحداً من الناس، لكن لا يعني ذلك أننا لا نعاقبه، بل قد نعاقبه في الدنيا، ونحن نعلم أنه معذور، ونعلم أنه غير مؤاخذ عند الله سبحانه وتعالى حسب ما يظهر لنا من نيته ومن عمله.
قال: "وإذا عرف هذا، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم -بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار- لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
وهذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة.
ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة".
يقول رحمه الله: "وهذا الجواب لا يحتمل أكثر من هذا، والله المسئول أن يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، والله سبحانه أعلم".
وهذا الفصل الطويل في المجلد الثاني عشر مجموع الفتاوى من صفحة (479-501) يوضح ويجلي هذه المسألة.
ومن أهم النقاط التي نحب أن نركز عليها أن المبتدع يجوز أن يقتل تعزيراً ولو لم نحكم بردته؛ لأن هناك مع الأسف من يثير هذه المسألة ويقول: (لا يقتل) بناءً على حرية الفكر، وأن الإسلام أتى بحرية الرأي.(21/260)
فنقول: نعم الإسلام جاء بحرية الاجتهاد؛ فيجوز أن يجتهد الإنسان في ضوء الأدلة والنصوص، لكن الاجتهاد قد يكون خطأً، وقد يكون المجتهد مأجوراً عليه عند الله، ولكنه في الدنيا يعاقب.
وغاية ما عندهم أن يقولوا: إن هذا الرجل وقع في البدعة عن اجتهاد، فنقول: إن كان مجتهداً مخطئاً، فذلك يجعله غير معاقب عند الله، لكن نحن في الدنيا لابد أن نقيم الحد عليه وأن نعاقبه.
فمن أنكر شيئاً من أصول العقائد والأحكام، ومن قال: إن القرآن مخلوق، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة، ومن أنكر القدر، ومن سب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أو كفرهم، أو أتى بأي بدعة من هذه البدع، فإنه يقتل تعزيراً دفعاً لبدعته بغض النظر عن الكفر وعدمه؛ يقتل من جهة النظر إلى مصلحة الدين واستقامة المسلمين.
وعلى هذا قتل الجعد بن درهم ، وقتل غيلان الدمشقي لما أنكر القدر، وكثير غيره من أهل البدع، ثم جاء الحلاج وأمثاله، فأجمعت الأمة على قتلهم.
وهذا أصل أحببناً أن ننبه عليه؛ لأنه يوجد الآن من يحاول أن ينكره، ويقول: كل هؤلاء ما قتلوا إلا لأغراض سياسية، فلو كانت أغراضاً سياسية من الحكام، فهل حين كفرهم العلماء أو استحسنوا قتلهم -هل كان ذلك لأغراض سياسية؟!
إن هؤلاء السلف أو علماء الأمة حين رضوا بقتلهم وأثنوا على فاعله جعلوا ذلك من باب العقوبة الشرعية، والله تبارك وتعالى أعلم بالنيات، والظاهر من حال من قتلهم أنه إنما قتلهم من أجل المصلحة الدينية.
ضوابط أهل السنة في تكفيرهم لأهل البدع والأهواء
من درس: تكفير أهل البدع والأهواء متفرع عن مسألة الأحكام والأسماء
ثم يقول: "فصل، إذا ظهرت هذه المقدمات في اسم المؤمن والكافر والفاسق الملّي، وفي حكم الوعد والوعيد، والفرق بين المطلق والمعين، وما وقع في ذلك من الاضطراب؛ فـ(مسألة تكفير أهل البدع والأهواء) متفرعة على هذا الأصل".(21/261)
فهذه المسألة هي موضوع بحثنا، والتي بناءً عليها ذكر ابن أبي العز رحمه الله حديث الرجل الذي أمر أبناءه، وأوصاهم بحرقه بعد الموت وذر رماده في البحر؛ يبين شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه المسألة متفرعة عن هذه القضايا.
قال: "ونحن نبدأ بمذهب أئمة السنة فيها قبل التنبيه على الحجة، فنقول: المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية " وهذا سبق أن قلناه؛ فالمشهور عن أئمة السلف تكفير الجهمية في العموم، قال: "وأما المرجئة فلا تختلف نصوصه أنه لا يكفرهم".
ذكر هنا الجهمية ثم قال بعدها: " أما المرجئة "، فالمقصود بالمرجئة هنا غير الغلاة منهم؛ لأن المرجئة الغلاة -وهم الجهمية- يقولون: إن الإيمان هو المعرفة في القلب فقط، فهؤلاء يدخلون في التكفير في العموم، لكن كلامه هنا في المرجئة غير الغلاة الذين يقولون: لا يدخل العمل في الإيمان، لكنهم يرون أن الأعمال ثمرات للإيمان، وأنه يجب على الإنسان أن يأتي بالعمل، وأنه يثاب ويعاقب على العمل، لكنهم لا يدخلونه في الإيمان، فهذا مذهب المرجئة غير الغلاة الذين يقال لهم: مرجئة أهل السنة أو مرجئة الحنفية، وهذا سيأتي بيانه إن شاء الله.
والمقصود أنه غاير بين المرجئة والجهمية ، فعرفنا أنه يريد من قوله: (المرجئة): غير الغلاة منهم، والإمام أحمد رحمه الله لم يكفر المرجئة ، وكذلك الأئمة.
قال: "وكذلك الشيعة المفضلون لعلي على أبي بكر " الشيعة الذين ليس فيهم من التشيع إلا تفضيل علي على أبي بكر ، هؤلاء أيضاً لم يكفرهم السلف ، ولم يخرجوهم من الملة في الجملة.
قال: "وأما القدرية المقرّون بالعلم" إنما قال المقرون بالعلم؛ لأن من نفى العلم فهو كافر.
"والروافض الذين ليسوا من فرقة الغالية " يعني بهم الذين لم يقتصروا على تفضيل علي على أبي بكر ، بل تعدوا ذلك إلى سب الصحابة، لكنهم لم يؤلهوا علياً ولا أهل بيته.(21/262)
يقول: " وأما القدرية المقرون بالعلم والروافض الذين ليسوا من الغالية والجهمية والخوارج " فيذكر عنه -يعني الإمام أحمد رحمه الله- في تكفيرهم روايتان، هذا حقيقة قوله المطلق، مع أن الغالب عليه التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم، والخوارج ، مع قوله: ما أعلم قوماً شراً من الخوارج ".
قد ذكر الإمام أحمد حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج فقال: "صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج من عشرة أوجه".
ثم قال: "ما أعلم قوماً شراً من الخوارج "، لكنه لم يكفرهم؛ بل توقف في تكفيرهم وفي تكفير من أنكر القدر وهو مقر بالعلم، أما من أنكر العلم فهو كافر لا شك في ذلك.
فهناك مراتب عند الإمام أحمد في هؤلاء؛ حيث صنفهم إلى قوم لم يتردد في أنهم يكفرون، وقوم لم يتردد في أنهم لا يكفرون، وقوم توقف في أمرهم، أو وردت عنه روايات متعارضة بشأنهم، وهذا من عدل أهل السنة والجماعة ؛ حيث إنهم لا يعممون الأحكام على الناس، وإنما كل بحسبه، وهذا من الميزان الذي أمر الله تعالى به.
ثم يبين شيخ الإسلام أن الناس اختلفوا في فهم كلام الإمام أحمد رحمه الله، وفي فهم كلام الإمام الشافعي وأمثالهم، يقول: "وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة".
ثم يقول: "وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع" يعني أنهم كما اختلفوا في آيات الوعيد وأحاديث الوعيد، فكذلك اختلفوا في كلام الأئمة، فمنهم من جعله في المعينين، ومنهم من نفاه بإطلاق.
قال: "ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه".(21/263)
إذاً: لا تناقض في كلام الإمام أحمد ؛ إذ أنه يكفر من قال: إن القرآن مخلوق، وفي نفس الوقت حين يسأل عن فلان يقول: كان مرجئاً -مثلاً- أو كان جهمياً أو كان كذا، أي أنه يجرحه جرحاً دون الكفر، ولو كان مرتداً لصرح بذلك واكتفى به، فإن الكافر لا يقبل حديثه مطلقاً.
قال: "فإن الإمام أحمد -مثلاً- قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات" ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنهم فعلوا الأفاعيل حتى إنه كان لا يعين في أي منصب إلا من نادى بمذهبهم الخبيث، وأعلن أنه عليه، وأنه معارض لمذهب السلف .
يقول: "ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب" فهم لم يتوقفوا عند مجرد الدعاء إليها، بل استخدموا السلطة لذلك، فكانوا يعطون المناصب لمن قال بقولهم في هذه البدعة التي هي كفر، ويعاقبون من لم يقل بها.
يقول: "ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة -يعني: المعتصم الذي عذبه- وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر" فالإمام أحمد بالرغم من قوله: إن قولهم كفر، فإنه حين سئل عن المعتصم ، دعا له وعفا عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو منهج أهل السنة ، يظهرون الحق ويدافعون عنه، ويستميتون في سبيله، ومع ذلك لا يحملون غلاً ولا حقداً على أحد؛ بل الأصل عندهم الرحمة والتجاوز والتسامح.(21/264)
وكذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد سجن وأوذي وعذب، ولما أظهره الله على من فعل به ذلك، وطلب منه السلطان معاقبتهم بمثل ما عاقبوه به -تصديقاً لكلام الله سبحانه وتعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40].. وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]- عفا عنهم، وهذا هو خلق أهل السنة ؛ يعملون بالإحسان مع أنه بإمكانهم أن يعاملوا خصومهم بالعدل.
يقول: "ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم -قطعاً- فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع".
وهذا معلوم، قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113] يقول: "وهذه الأقوال والأعمال منه -أي من الإمام أحمد رحمه الله- ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر قوماً معينين".
فقد نقل عن أحمد من طريق تلاميذه الثقات أنه كفر معينين، وهذا الذي نريد أن نفهمه؛ فإن المسألة ليست على إطلاقها في أنه لا يَكْفُر من هؤلاء أحد؛ بل هناك من يَكْفُر من هؤلاء المعينين؛ كذلك لابد من إطلاق القول العام بالتكفير في غير المعين.
يقول: "فإما أن يذكر عنه في المسألة روايتان، ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفر بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه".
أي أنه قد يقال: إن الإمام أحمد روي عنه روايتان، أنه كفر فلاناً أو ما كفره، فهذا جائز أن يقع، لكنه احتمال ضعيف، والأولى التفصيل "فيقال: من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه".(21/265)
أي أن من كفره الإمام أحمد رحمه الله بعينه، فمعنى ذلك أنه قد قام عنده الدليل على تحقق شروط التكفير فيه وانتفاء الموانع. "ومن لم يكفره بعينه، فلأن ذلك منتفٍ في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم".
إذاً: لا تعارض، فهو يقولها على سبيل العموم، وأما في الأعيان فيتحرى، فمن ثبتت فيه الشروط، وانتفت عنه الموانع، أطلق الحكم بتكفيره، ومن لم يكن كذلك، لم يطلق ذلك في حقه.
ثم ذكر الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار؛ فمن أدلة الكتاب على أن الإنسان لا يؤاخذ بالتأويل والخطأ ما لم يتعمد: قوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [الأحزاب:5]... وقوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].
وقد ثبت في الصحيح عن النبي: {أن الله تعالى قال: قد فعلت } لما دعا النبي والمؤمنون بهذا الدعاء.
قال: "وأيضاً قد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن رجلاً لم يعمل خيراً قط }" وذكر الحديث، ثم قال: "وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيدهم العلم اليقيني" أي: يعلم ذلك المشتغلون بهذا الفن، الذين يؤمنون بالكتاب والسنة، والذين يأخذون الأدلة منها، وأما أهل الكلام فيردون الحديث ولو بلغ مائة طريق؛ لأنهم ليسوا من أهل هذا الفن، ولا من أهل هذا الشأن، ولا يريدون أن يؤمنوا بما يرونه مخالفاً لعقولهم أصلاً، قال: "وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممن لم يشركهم في أسباب العلم، فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله".
قال: "وأيضاً قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان }" إلى آخره، وذكر أدلة أخرى.
الخطأ في التكفير عند السلف وما يترتب على ذلك(21/266)
من درس: تكفير أهل البدع والأهواء متفرع عن مسألة الأحكام والأسماء
قال: "وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل" فهو هنا يستدل على وقوع الخطأ من السلف على عدم التكفير، فلو أن قائلاً قال قولاً بدعياً وهو كفر، فإننا نتأكد في حقه من وجود الشروط وانتفاء الموانع، أما الذي يخطئ فيوافقه دون أن يقصد ذلك، فهذا أقل درجة منه ولا شك.
وشيخ الإسلام رحمه الله يستدل على عدم إطلاق التكفير أو التعجل في إطلاقه بأن كثيراً من السلف أخطئوا في بعض المسائل، قال: "واتفقوا على عدم التكفير بذلك" ومن القضايا التي خاض فيها الصحابة موضوع المعراج يقظة، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة الإسراء، والكلام في الخلافة.
يقول: "وكذلك لبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض أقوال معروفة" ويذكر بعض الأمثلة على ذلك فيقول: "وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: (بل عجبتُ) ويقول: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه.. كان عبد الله أفقه منه" يعني ابن مسعود ، وهو شيخ الاثنين "كان عبد الله أفقه منه، فكان يقول: (بل عجبتُ).. فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة".
حين أنكر شريح (بل عجبتُ) فإنه قد ترتب على ذلك أمران:
أولاً: أنه أنكر أولاً قراءة ثابتة. ثانياً: أنه أنكر صفة من صفات الله الثابتة والتي دل عليها الكتاب والسنة، وهي صفة التعجب أو العجب، ومع ذلك يقول: "واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة" ولم يكفروه لأنه لم ينكرها على سبيل الرد والجحود؛ كما فعلت الجهمية .(21/267)
قال: "وكذلك أنكر بعض السلف بعض حروف القرآن مثل إنكار بعضهم قوله: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا [الرعد:31]، وقال: إنما هي: أولم يتبين الذين آمنوا - وإنكار الآخر قراءة قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] وقال: إنما هي: ووصى ربك"، وقد تقدم معنا ذلك بالتفصيل في موضوع الخلاف في القراءات.
قال: "وأيضاً فإن الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة" يعني: لم يبلغه شيء من الدين جملة "لم يعذبه رأساً" أي: لا يعذب أيضاً جملة.
"ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية"، فيحاسب على الجملة التي بلغته، لكن لا يعذب ولا يحاسب على التفصيل الذي لم يبلغه، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، وذكر رحمه الله بعد ذلك الأدلة على ذلك.
مواضع إطلاق التكفير العام
من درس: تكفير أهل البدع والأهواء متفرع عن مسألة الأحكام والأسماء
ومن ثم يقول: "هذا الكلام يمهد أصلين عظيمين:
أحدهما: أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة، أو أنه على العرش، أو أن القرآن كلامه، أو أنه كلم موسى، أو أنه اتخذ إبراهيم خليلاً كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك" أي: ما كان فيه جحد أو إنكار لأصل من أصول العقيدة والإيمان أو من أصول الأحكام العملية التي دل عليها الكتاب والسنة.
وهنا فائدة وهي: أن الأصول تطلق على ما يتعلق بالعقيدة، ويقابلها الفروع، وهي الأحكام العملية، ولكن ليس هذا هو المراد هنا، إنما المراد بالأصول هنا: أصول العقائد من جهة، وأصول الأحكام العملية من جهة أخرى.
فمثلاً: وجوب الصلاة، وتحريم الزنا، وتحريم الخمر، هي من أصول الأحكام.(21/268)
وقد يعبر عنها أحياناً بقولهم: هي المعلوم من الدين بالضرورة، فهذه الأصول جميعاً -أصول العقائد وأصول الأحكام- نحكم على من لم يؤمن بها بأنه كافر في الجملة وفي الإطلاق وفي العموم.
قال: "والأصل الثاني أن التكفير العام -كالوعيد العام- يجب القول بإطلاقه وعمومه". فالتكفير أو ما كان دونه كالوعيد العام يطلق كما جاء في الكتاب والسنة.
التوقف في مصير المعين في الآخرة وعلاقته بإقامة الحد عليه في الدنيا
من درس: تكفير أهل البدع والأهواء متفرع عن مسألة الأحكام والأسماء
قال: "وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار، فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه". ثم بدأ شيخ الإسلام في تفصيل موضوع العقوبة، قال: "لكن هذا التوقف في أمر الآخرة -أننا لا نشهد بالجنة أو النار- لا يمنع أن نؤاخذه في الدنيا وأن نعاقبه لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه".
إذاً: نحن نعاقب المبتدع لنمنعه عن بدعته؛ وذلك لأننا نفرق بين وقوع العقوبة وبين ارتباط ذلك بصلاح الإنسان أو فساده، وأنه غير مقبول عند الله، أو بمعنى آخر: نفرق بين وقوع العقوبة في الدنيا ووقوعها في الآخرة، أما في الآخرة، فهو تبارك وتعالى الذي يتولى الجزاء، ولا ارتباط بين هذا وذاك.
يقول: "ومما ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا؛ إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، ويكون في الآخرة غير معذب، مثل: قتال البغاة والمتأولين، مع بقائهم على العدالة".
هناك فرق بين قتال الخوارج وقطاع الطرق وبين قتال المتأولين؛ فالخوارج يُقَاتَلُون لأنهم على البدعة، وقطاع الطريق الذين يسمون المحاربين يُقَاتَلُون لأنهم مفسدون في الأرض؛ أخذاً من قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا [المائدة:33].(21/269)
أما المتأول، فهو الذي يظن أنه على الحق، واجتهاده أدى به إلى أن هذا هو الحق، فخرج به على جماعة المسلمين بأحد المعنيين؛ إما على الجماعة بمعنى الحق، أو على الجماعة بمعنى الإمام وأهل الحل والعقد الذين معه، فهذا اجتهاده، وقد يكون معذوراً؛ لكنه يقاتل حتى لا ينتشر خطؤه ولو أن أحداً استحل شيئاً مما حرم الله، أو ابتدع شيئاً في الدين، وإن كان يريد الحق، ولكنه لم يفهم الأدلة، وتأولها على غير وجهها ولم يقصد إلا الخير، لكنه أخطأ، فإذا تركناه تديَّن الناس بما هو عليه من الخطأ، ومن البدعة والضلال، وإن قاتلناه، قالوا: كيف تقاتلونه وهذا اجتهاده وهو عند الله معذور؟! فنقول: حكمه في الآخرة شيء آخر، أما في الدنيا فإننا نقاتله؛ لأن هناك فرقاً بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة.
وأوضح مثال على ذلك ما أورده شيخ الإسلام في قوله: "ومثل إقامة الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة، فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك، كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك والغامدية مع قوله: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له }، ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولاً، مع العلم بأنه باقٍ على العدالة".
يعني: إذا قال شارب النبيذ: أنا على مذهب أهل العراق ، والنبيذ عندي جائز، نقول: نحن بالنسبة لمذهبنا -وهو الراجح وعليه السلف - نجلد في شرب النبيذ، لكننا لا نحكم على شارب النبيذ بأنه منزوع العدالة كشارب الخمر؛ لأنه ما شربها لهوى أو لشهوة؛ إنما اتبع مذهبه، لكن لأننا نرى أن هذا المذهب مرجوح؛ لا نقول له: اشرب كما تريد؛ لأنه لو فعل ذلك وأقر عليه، لشرب الناس الخمر باسم النبيذ؛ ولذلك فإننا نمنعه ونعاقبه ونقول: هو غير آثم إذا كان هذا اجتهاده .. ونحن حين نعاقبه لا يلزم من معاقبتنا له أنه آثم، كما لا يلزم عكس ذلك.
يقول: "بخلاف من لا تأويل له" هذا سيأتي شرحه إن شاء الله.(21/270)
يقول: "وكذلك نعلم أن خلقاً لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة"، وهذا حاصل، كحال المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءوا يحلفون بالله أنهم كانوا من المعذورين في غزوة تبوك، ليرضى عنهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى:يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التوبة:96] وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ [النور:53] يحلفون ويقسمون الأيمان للنبي صلى الله عليه وسلم إن خرجت مرة أخرى لنجاهدن معك قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53] أي أنه قد عرف من شأنهم أنهم في كل مرة يحلفون ويكذبون، والله تعالى يطلع المؤمنين على أحوالهم من عنده، وأيضاً المؤمنون يعرفونهم بلحن القول.
فكثير من الناس تعلم أنه منافق، ورغم ذلك لا تقدر أن تعاقبه بشيء في الدنيا.
ومع أنك قد اجتمعت لديك قرائن وأدلة معينة تجعلك تعتقد أنه منافق، إلا أنك تكل أمره إلى الله.
وكحال المنافقين -في كف العقوبة عنهم في الدنيا مع اعتقاد أنهم معاقبون في الآخرة- حال أهل الذمة، من النصارى الذين يعتقدون أن الله ثالث ثلاثة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ويذهبون إلى الكنائس، ولا يؤمنون بالقرآن، ويكذبون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويشربون الخمر، ويأكلون الخنزير؛ يقترفون كل هذه الأمور؛ ومع ذلك فإن الله أمرنا أن نقرهم على دينهم بالشروط العمرية، وهي شروط أهل الذمة.
فنحن نعلم أنهم على الكفر، وأنهم لا يحلون ما أحل الله ورسوله، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ويعتقدون هذا الكفر، ومع ذلك نقرهم؛ فهناك فرق بين أحكام الدنيا وبين أحكام الآخرة؛ نقرهم في الدنيا ونحن نعلم ونعتقد أنهم معاقبون عند الله على هذا الكفر، وأن مصيرهم ومآلهم إلى النار.
يقول رحمه الله: "وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة".(21/271)
السبب في كف العقوبات عن أهل الذمة وعن المنافقين وإجرائها على التائبين والمتأولين أن الجزاء الحقيقي يكون في الدار الآخرة، فنحن إنما أمرنا أن نقيم حدود الله بما استطعنا.
يقول: "التي هي دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا، فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع به الظلم والعدوان".
ولذلك لم تكن غاية قتالنا لهم أن يؤمنوا بقلوبهم، فنحن لن نعلم ذلك؛ وإنما غاية قتالنا لهم ألا يفتن مؤمن؛ كما قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193] فبعد ذلك: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256].
فنحن نقاتل حتى يعلم الناس الحق، وحتى يصل إليهم الحق، وحتى لا يوجد في الدنيا من يفتن الناس عن الحق بالشبهات أو الشهوات.
قتل الداعي إلى البدعة بغض النظر عن تكفيره
من درس: تكفير أهل البدع والأهواء متفرع عن مسألة الأحكام والأسماء
يقول رحمه الله: "وإذا كان الأمر كذلك، فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة، ولا بالعكس، ولهذا أكثر السلف يأمرون بقتل الداعي بالبدعة الذي يضل الناس لأجل إفساده الدين، سواء قالوا: هو كافر أو ليس بكافر".
انظروا فقه السلف وفهم السلف ؛ لم يتجادلوا كثيراً في الجعد هل هو كافر أو ليس بكافر.. أما نحن الآن -مع الأسف- فتجد أكثر خلافنا هل فلان كافر أم ليس بكافر.(21/272)
لقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يعلمون أن أمور العباد إلى الله، وحقيقة العقوبة إنما هي في الآخرة، لكن إن وجد في الدنيا رجل ابتدع بدعة تفسد الدين، وجب أن يقتل؛ فأجمعوا على هذا القدر، ومنهم من أطلق الكفر، ومنهم من لم يطلقه، والمقصود أنهم لم يتجادلوا، بل القضية والنظر الأساسي عند السلف هو أن من كان في وجوده أو في بقائه خطر على الدين، وفي قتله مصلحة للدين، فإنه يقتل، أما كونه قتل كافراً أو غير ذلك، فذلك أمر ثانوي، فقد كان نظرهم إلى أصل القضية، ولذلك لا يمنع أننا قد نعذر أحداً من الناس، لكن لا يعني ذلك أننا لا نعاقبه، بل قد نعاقبه في الدنيا، ونحن نعلم أنه معذور، ونعلم أنه غير مؤاخذ عند الله سبحانه وتعالى حسب ما يظهر لنا من نيته ومن عمله.
قال: "وإذا عرف هذا، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم -بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار- لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
وهذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة.
ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة".
يقول رحمه الله: "وهذا الجواب لا يحتمل أكثر من هذا، والله المسئول أن يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، والله سبحانه أعلم".
وهذا الفصل الطويل في المجلد الثاني عشر مجموع الفتاوى من صفحة (479-501) يوضح ويجلي هذه المسألة.
ومن أهم النقاط التي نحب أن نركز عليها أن المبتدع يجوز أن يقتل تعزيراً ولو لم نحكم بردته؛ لأن هناك مع الأسف من يثير هذه المسألة ويقول: (لا يقتل) بناءً على حرية الفكر، وأن الإسلام أتى بحرية الرأي.(21/273)
فنقول: نعم الإسلام جاء بحرية الاجتهاد؛ فيجوز أن يجتهد الإنسان في ضوء الأدلة والنصوص، لكن الاجتهاد قد يكون خطأً، وقد يكون المجتهد مأجوراً عليه عند الله، ولكنه في الدنيا يعاقب.
وغاية ما عندهم أن يقولوا: إن هذا الرجل وقع في البدعة عن اجتهاد، فنقول: إن كان مجتهداً مخطئاً، فذلك يجعله غير معاقب عند الله، لكن نحن في الدنيا لابد أن نقيم الحد عليه وأن نعاقبه.
فمن أنكر شيئاً من أصول العقائد والأحكام، ومن قال: إن القرآن مخلوق، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة، ومن أنكر القدر، ومن سب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أو كفرهم، أو أتى بأي بدعة من هذه البدع، فإنه يقتل تعزيراً دفعاً لبدعته بغض النظر عن الكفر وعدمه؛ يقتل من جهة النظر إلى مصلحة الدين واستقامة المسلمين.
وعلى هذا قتل الجعد بن درهم ، وقتل غيلان الدمشقي لما أنكر القدر، وكثير غيره من أهل البدع، ثم جاء الحلاج وأمثاله، فأجمعت الأمة على قتلهم.
وهذا أصل أحببناً أن ننبه عليه؛ لأنه يوجد الآن من يحاول أن ينكره، ويقول: كل هؤلاء ما قتلوا إلا لأغراض سياسية، فلو كانت أغراضاً سياسية من الحكام، فهل حين كفرهم العلماء أو استحسنوا قتلهم -هل كان ذلك لأغراض سياسية؟!
إن هؤلاء السلف أو علماء الأمة حين رضوا بقتلهم وأثنوا على فاعله جعلوا ذلك من باب العقوبة الشرعية، والله تبارك وتعالى أعلم بالنيات، والظاهر من حال من قتلهم أنه إنما قتلهم من أجل المصلحة الدينية.
ليس كل من قال الكفر يكفر
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة العاشرة)
قال المصنف: [ثم إذا كان القول في نفسه كفراً، قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع، ولا يكونُ ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً؛ فلا يُتَصور أن يُكفَّر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً، وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلقَ فيه ثلاثة أصنافٍ:(21/274)
صنفٌ: كفار من المشركين ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين.
وصنفٌ: مؤمنون باطناً وظاهراً.
وصنفٌ: أقروا به ظاهراً لا باطناً.
وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة، وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقراً بالشهادتين؛ فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق.
وهنا يظهر غَلَطُ الطرفين، فإنه من كفَّر كل من قال القول المبتدع في الباطن، يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله، وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر : {أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمهُ: عبد الله ، وكان يلقب حماراً ، وكان يُضحِكُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده من الشراب، فأُتي به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يُؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله } ] .
قول المصنف رحمه الله: [ثم إذا كان القول في نفسه كفراً؛ قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع].
أي أن القول أو العمل؛ إما أن يكون دون الكفر، سواء أكان بدعة أو ذنباً أو كبيرة؛ فلا يجوز أن يقال: إنه كفر، ولا يجوز أن يقال: إن مرتكبه كافر.
وإما أن يكون القول أو العمل كفراً في حكم الله ورسوله فهنا نقول عن القول أو العمل: إنه كفر. ولا يقال: إن هذا القول أو الفعل حرام أو بدعة حتى لا نكفّر فاعله؛ فإنه ما دام أن الله ورسوله قد حكما بكفر هذا القول أو الفعل فلا حرج من إطلاقه، أما المقترف لذلك القول أو الفعل المحكوم عليه شرعاً بأنه كفرٌ؛ فلا يكفَّر إلا بتوافر الشروط وانتفاء الموانع.(21/275)
قال: [ولا يكون ذلك إلا إذا كان منافقاً زنديقاً] أي: لا يكون تكفيرُ قائله إلا إذا كان منافقاً زنديقاً، فلا يمكن أن يقع الكفر منه على الحقيقة، أو يكون كافراً على الحقيقة إلا إذا صار منافقاً زنديقاً، فتغير اسمه فلم يعد مؤمناً، لأننا حكمنا عليه بالكفر، وهو نفسه يظهر الإسلام، فأصبح حكمه أنه زنديق منافق. وهذا الذي يريد المصنف رحمه الله أن يتوصل به إلى أنه لا يجوز الحكم بالتكفير إلا بتحقق شروط وانتفاء موانع.
يقول: [فلا يتصور أن يُكفِّر أحد من أهل القبلة المظهرين للإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً] فأهل القبلة المظهرون للإسلام لا يمكن أن نحكم على أحد منهم أنه كافر إلا إذا كان منافقاً زنديقاً، أي: كافراً في الباطن بدلالة القرائن وتوافر الشروط وانتفاء الموانع والتي بمجموعها يستدل على كفر باطنه، وإذا لم يكن كافراً على الحقيقة فإن إطلاق الكفر عليه لا يجوز ولا يصح ويترتب عليه إثم كما هو معلوم.
أصناف الناس وموقفهم من دين الله
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة العاشرة)
وقد ذكر المصنف أصناف الناس فقال: [وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلق فيه ثلاثة أصناف]: أي أن الله تعالى صنف الخلق وقسمهم في القرآن إلى ثلاثة أقسام ليس لها من رابع.(21/276)
القسم الأول: المنكرون، والقسمان الآخران: المقرون، ولكن أحدهما مقر ظاهراً وباطناً، والآخر مقر ظاهراً فقط، وهو في الحقيقة والباطن كافر. فيبين أن الصنف الأول: [كفار؛ من المشركين ومن أهل الكتاب] وفي القرآن في أوائل سورة البقرة: ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:1-3] الآيات، وهذه الآيات الكريمات جمعت صفات الأصناف الثلاثة (المؤمنين، الكافرين -وأخيراً- المنافقين) ولنا مع ذلك وقفات وتأملات.
الصنف الأول: المؤمنون
الصنف الأول وهم المؤمنون، فإن الله تعالى أنزل سورة البقرة وهي أول سورة نزلت في المدينة مع بداية ظهور المجتمع المسلم، بعد أن كان المشركون -في مكة - يعذبونهم ويفتنونهم ليتخلوا عن دينهم، فبعد الهجرة أصبح للمسلمين مجتمع وكيان مستقل، وأصبحت السيادة في المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم، فبين الله تعالى في هذه السورة للمؤمنين أصناف الناس الموجودين في المدينة -والناس عامة- وبين أن من أصناف الناس -أرفعهم درجة- المهاجرون والأنصار الذين آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا معه، ولم يرتابوا، إلى آخر ما جاء في صفاتهم، فهؤلاء هم حزب الله.(21/277)
الصنف الثاني: الكفار
ثم إن الله تعالى ذكر الكفار من المشركين وأهل الكتاب وهم الذين كفروا وكذبوا بالقرآن وبرسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسلموا، ولم ينقادوا ظاهراً ولا باطناً، بل ردوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، وهؤلاء الكفار هم المشركون الذين منهم كفار قريش، والمشركون ممن حول المدينة من الأعراب الذين ذكر الله أنهم أشد كفراً ونفاقاً، ومنهم أهل الكتاب الذين كانوا في المدينة وخصوصاً اليهود؛ لأن النصارى كانوا قلة في الجزيرة ، أما في شمال الجزيرة -جنوب بلاد الشام - فكان منهم الغساسنة، لكن في مكة أو في المدينة وجد قلة ممن تنصر أو من الحنفاء وأشباههم، والمقصود أن أهل الكتاب في المدينة كانوا أيضاً كفاراً، ولذلك أتت الآيات الكثيرة في الحديث عن بني إسرائيل ضمن سورة البقرة وغيرها، وما ذكره الله من كفرهم وتكذيبهم مع أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا، أي: يقولون: سنغلبكم وننتصر عليكم، حين يبعث نبي آخر الزمان ونقاتلكم تحت رايته، ولكن لما جاءهم ما عرفوا وما استفتحوا به كفروا كما بين الله تعالى في كتابه؛ فهؤلاء هم الكفار.(21/278)
الصنف الثالث: المنافقون
والصنف الثالث -صنف جديد- وهم المنافقون، إذ أن مكة لم يكن فيها منافقون؛ لأن الابتلاء الذي وقع على المسلمين بها يمنع وجود من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ولهذا ينبغي ألا نكره الفتن والمصائب والعوائق -من هذه الحيثية- التي تأتي في طريق الدعوة -على الحقيقة- وإن كانت النفوس بطبيعتها تكره ذلك، لكن يجب علينا أن نعتقد أن الله كتب هذا الابتلاء للتمحيص، وليميز الله الخبيث من الطيب، وهذا فيه حكمة عظيمة، فلو أن الإسلام والإيمان والدرجات العلى في الجنة تُعطى بالادّعاء لادعاها ولطمع فيها كل أحد، لكن تأتي الفتن والزلازل والعوائق والعقبات ليمحص الله الصف، وليعلم المؤمن والصادق على الحقيقة، وليظهر ذلك أمام الناس وليتساقط على الطريق كل من لا خير فيه، فكل من لا يصلح لحمل هذا الدين، ولا يستطيع أن يحيط به من جميع جوانبه، ولا يقوم به حق القيام؛ فإنه يسقط ولا تبقى إلا القلة المؤمنة.
لذلك فقد تفاضل الناس حتى الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، فليس من أسلم وآمن وجاهد بعد الفتح، كمن فعل ذلك قبل الفتح، وليس من أسلم من الأعراب طمعاً في الغنائم وأُلِّفَ بها قلبه على الإيمان، كالسابقين الأولين الذين أوذوا في الله عز وجل، وحوصروا في الشعب ، وهاجروا إلى الحبشة ، ونالهم ما نالهم من الأذى وهم صابرون محتسبون. وهكذا فالناس درجات وطبقات في هذا الدين، وكذلك منازلهم عند الله تعالى ودرجاتهم في الجنة بحسب هذا الابتلاء، وخلاصة القول أن النفاق لم يكن موجوداً في مكة ، أما في المدينة فقد ظهر -بسبب الأمن وتهيؤ الأمور للمسلمين- وبزغ نجمه، وجاء ذكره في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى في معرض التحذير منه، وفي بيان صفات أهله وأحوالهم، إلى آخر ما قصه الله تعالى في سورة البقرة.(21/279)
بعد أن بين المولى جل وعلا صفات الصنفين الأولين أفاض في ذكر صفات الصنف الأخير، وكذلك جاء هذا الصنف في سورة التوبة، والنساء، والمنافقون، وفي غير ذلك من السور، كما قد أسلفنا من قبل.
والخلاصة أن الناس ثلاثة أصناف، أما الذين هم من أهل القبلة -أي: المنتسبون للإسلام- فهم في الحقيقة على صنفين:
صنف مؤمن على الحقيقة ظاهراً وباطناً، فهؤلاء لا يجوز أن يكفروا بأي حال من الأحوال.
وصنف ظاهره الإيمان وباطنه الكفر، وهؤلاء يكفّرون إذا توافرت فيهم الشروط وانتفت عنهم الموانع، ويسمى الواحد منهم منافقاً أو زنديقاً.
فإذا قُطع أو جزم أنه كافر، فمعنى ذلك الشهادة عليه بأنه ليس في قلبه ذرة من إيمان.
يقول المصنف رحمه الله: [وصنف أقروا به ظاهراً لا باطناً -وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة- وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر] أي في حقيقته التي ظهرت في فلتات كلامه وسوء فعاله [وكان مقراً بالشهادتين] أي في ظاهره [فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق].
معنى ذلك أنه لا يجوز الإقدام على تكفير من لم يقل الكفر أو يعتقده على الحقيقة؛ لأنك إذا فعلت ذلك فقد أخرجته من أن يكون مؤمناً في الباطن، وجعلته مجرد مؤمن في الظاهر، رغم أنه ليس لديك أي دليل على ذلك، ففعلك هذا يُعد من كبائر الذنوب بتكفيرك من ليس بكافر حقيقة.
فلو أن إنساناً قال مقالة، والمقالة في ذاتها تحتمل أن تكون كفراً أو بدعة، ونحن نعلم أن هذا الرجل مؤمن في باطنه إن شاء الله -كما يظهر لنا- ولا يقصد الكفر ولا يريده، فإن قلنا: إنه كافر بناءً على أن هذا اللفظ كفر، أو أن هذا الاعتقاد يؤدي إلى كفر، فقد وقعنا في التناقض؛ لأننا نقول: إننا لا نستطيع أن نشهد بأنه كافر في الباطن، وفي نفس الوقت نكفره!!
وإذا قلنا: إنه كافر؛ فكيف نقول ذلك وهو يقر بالشهادتين ويقر بالإسلام.(21/280)
وإذا قلنا: إنه مؤمن. فكيف يكون مؤمناً بإطلاق وفيه هذا العيب؟ فكيف يكون حكمه؟!!
نقول: يبقى له هنا اسم الإسلام لا يُسْلَب منه، لكنه يكون من المخطئين أو من المتأولين، وإن لم يتعمد ذلك -كأن يكون لديه شبهة أو تأويل- فهذا يعتبر من أهل البدع، ويقال: هو باقٍ على الإسلام، ولكن فيه هذه البدعة فلا يكفر، فيثبت له اسم الإسلام.
إلا أن هناك حالات نستطيع أن نجزم في حق صاحبها أنه كافر في الباطن، كما قال ابن القيم رحمه الله -وقبله شيخ الإسلام ابن تيمية - في مسألة تارك الصلاة: لو أن إنساناً يدعي الإسلام وهو لا يصلي، فسألناه عن ذلك، فأقر بوجوبها وقال: سأصلي ثم لم يصلِ، فاستتابه ولي الأمر ثلاثة أيام إما أن يصلي وإما أن يقتل، ثم إنه مع هذا لا يصلي، فهنا نجزم أنه غير مؤمن، ونشهد بذلك؛ لأنه فضَّل أن يُقتل على أن يصلي، فكيف يكون هذا في حقيقته مؤمناً؟!
فظهر لنا هنا شيء يمكن أن نشهد به عليه بدون تردد.
وكذلك لو أن إنساناً يقول: أنا أحب الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو متهم أنه من الروافض فإن طلبنا منه أن يترضى عنهما، قال: لا أترضى عنهما، فقلنا: نضربك ونعاقبك، فقال: لو ضربتموني ألف سوط فلن أقول: رضي الله عنهما. فهذا نستطيع أن نجزم أنه في الباطن لا يحبهما، فغير معقول أن تحب أبا بكر وعمر ولا تبادر بالترضي عنهما.
فالخلاصة: أننا وإن كانت الأمور باطنة فيمكن أن نستدل عليها بالأمور الظاهرة، فإن الله قد ركب في النفوس من معرفة الحق والاستدلال بالظاهر على الباطن ما يشهد له الواقع، وإن كنا لا نعلم الغيب ولا ندعيه، لكن ظاهر الحال يدلنا على ذلك، وهو دليل حق- فالاستدلال به يوصلنا إلى اليقين في هذه المسألة.
الصنف الأول: المؤمنون
من درس: أصناف الناس وموقفهم من دين الله(21/281)
الصنف الأول وهم المؤمنون، فإن الله تعالى أنزل سورة البقرة وهي أول سورة نزلت في المدينة مع بداية ظهور المجتمع المسلم، بعد أن كان المشركون -في مكة - يعذبونهم ويفتنونهم ليتخلوا عن دينهم، فبعد الهجرة أصبح للمسلمين مجتمع وكيان مستقل، وأصبحت السيادة في المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم، فبين الله تعالى في هذه السورة للمؤمنين أصناف الناس الموجودين في المدينة -والناس عامة- وبين أن من أصناف الناس -أرفعهم درجة- المهاجرون والأنصار الذين آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا معه، ولم يرتابوا، إلى آخر ما جاء في صفاتهم، فهؤلاء هم حزب الله.
الصنف الثاني: الكفار
من درس: أصناف الناس وموقفهم من دين الله
ثم إن الله تعالى ذكر الكفار من المشركين وأهل الكتاب وهم الذين كفروا وكذبوا بالقرآن وبرسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسلموا، ولم ينقادوا ظاهراً ولا باطناً، بل ردوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، وهؤلاء الكفار هم المشركون الذين منهم كفار قريش، والمشركون ممن حول المدينة من الأعراب الذين ذكر الله أنهم أشد كفراً ونفاقاً، ومنهم أهل الكتاب الذين كانوا في المدينة وخصوصاً اليهود؛ لأن النصارى كانوا قلة في الجزيرة ، أما في شمال الجزيرة -جنوب بلاد الشام - فكان منهم الغساسنة، لكن في مكة أو في المدينة وجد قلة ممن تنصر أو من الحنفاء وأشباههم، والمقصود أن أهل الكتاب في المدينة كانوا أيضاً كفاراً، ولذلك أتت الآيات الكثيرة في الحديث عن بني إسرائيل ضمن سورة البقرة وغيرها، وما ذكره الله من كفرهم وتكذيبهم مع أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا، أي: يقولون: سنغلبكم وننتصر عليكم، حين يبعث نبي آخر الزمان ونقاتلكم تحت رايته، ولكن لما جاءهم ما عرفوا وما استفتحوا به كفروا كما بين الله تعالى في كتابه؛ فهؤلاء هم الكفار.
الصنف الثالث: المنافقون
من درس: أصناف الناس وموقفهم من دين الله(21/282)
والصنف الثالث -صنف جديد- وهم المنافقون، إذ أن مكة لم يكن فيها منافقون؛ لأن الابتلاء الذي وقع على المسلمين بها يمنع وجود من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ولهذا ينبغي ألا نكره الفتن والمصائب والعوائق -من هذه الحيثية- التي تأتي في طريق الدعوة -على الحقيقة- وإن كانت النفوس بطبيعتها تكره ذلك، لكن يجب علينا أن نعتقد أن الله كتب هذا الابتلاء للتمحيص، وليميز الله الخبيث من الطيب، وهذا فيه حكمة عظيمة، فلو أن الإسلام والإيمان والدرجات العلى في الجنة تُعطى بالادّعاء لادعاها ولطمع فيها كل أحد، لكن تأتي الفتن والزلازل والعوائق والعقبات ليمحص الله الصف، وليعلم المؤمن والصادق على الحقيقة، وليظهر ذلك أمام الناس وليتساقط على الطريق كل من لا خير فيه، فكل من لا يصلح لحمل هذا الدين، ولا يستطيع أن يحيط به من جميع جوانبه، ولا يقوم به حق القيام؛ فإنه يسقط ولا تبقى إلا القلة المؤمنة.
لذلك فقد تفاضل الناس حتى الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، فليس من أسلم وآمن وجاهد بعد الفتح، كمن فعل ذلك قبل الفتح، وليس من أسلم من الأعراب طمعاً في الغنائم وأُلِّفَ بها قلبه على الإيمان، كالسابقين الأولين الذين أوذوا في الله عز وجل، وحوصروا في الشعب ، وهاجروا إلى الحبشة ، ونالهم ما نالهم من الأذى وهم صابرون محتسبون. وهكذا فالناس درجات وطبقات في هذا الدين، وكذلك منازلهم عند الله تعالى ودرجاتهم في الجنة بحسب هذا الابتلاء، وخلاصة القول أن النفاق لم يكن موجوداً في مكة ، أما في المدينة فقد ظهر -بسبب الأمن وتهيؤ الأمور للمسلمين- وبزغ نجمه، وجاء ذكره في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى في معرض التحذير منه، وفي بيان صفات أهله وأحوالهم، إلى آخر ما قصه الله تعالى في سورة البقرة.(21/283)
بعد أن بين المولى جل وعلا صفات الصنفين الأولين أفاض في ذكر صفات الصنف الأخير، وكذلك جاء هذا الصنف في سورة التوبة، والنساء، والمنافقون، وفي غير ذلك من السور، كما قد أسلفنا من قبل.
والخلاصة أن الناس ثلاثة أصناف، أما الذين هم من أهل القبلة -أي: المنتسبون للإسلام- فهم في الحقيقة على صنفين:
صنف مؤمن على الحقيقة ظاهراً وباطناً، فهؤلاء لا يجوز أن يكفروا بأي حال من الأحوال.
وصنف ظاهره الإيمان وباطنه الكفر، وهؤلاء يكفّرون إذا توافرت فيهم الشروط وانتفت عنهم الموانع، ويسمى الواحد منهم منافقاً أو زنديقاً.
فإذا قُطع أو جزم أنه كافر، فمعنى ذلك الشهادة عليه بأنه ليس في قلبه ذرة من إيمان.
يقول المصنف رحمه الله: [وصنف أقروا به ظاهراً لا باطناً -وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة- وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر] أي في حقيقته التي ظهرت في فلتات كلامه وسوء فعاله [وكان مقراً بالشهادتين] أي في ظاهره [فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق].
معنى ذلك أنه لا يجوز الإقدام على تكفير من لم يقل الكفر أو يعتقده على الحقيقة؛ لأنك إذا فعلت ذلك فقد أخرجته من أن يكون مؤمناً في الباطن، وجعلته مجرد مؤمن في الظاهر، رغم أنه ليس لديك أي دليل على ذلك، ففعلك هذا يُعد من كبائر الذنوب بتكفيرك من ليس بكافر حقيقة.
فلو أن إنساناً قال مقالة، والمقالة في ذاتها تحتمل أن تكون كفراً أو بدعة، ونحن نعلم أن هذا الرجل مؤمن في باطنه إن شاء الله -كما يظهر لنا- ولا يقصد الكفر ولا يريده، فإن قلنا: إنه كافر بناءً على أن هذا اللفظ كفر، أو أن هذا الاعتقاد يؤدي إلى كفر، فقد وقعنا في التناقض؛ لأننا نقول: إننا لا نستطيع أن نشهد بأنه كافر في الباطن، وفي نفس الوقت نكفره!!
وإذا قلنا: إنه كافر؛ فكيف نقول ذلك وهو يقر بالشهادتين ويقر بالإسلام.(21/284)
وإذا قلنا: إنه مؤمن. فكيف يكون مؤمناً بإطلاق وفيه هذا العيب؟ فكيف يكون حكمه؟!!
نقول: يبقى له هنا اسم الإسلام لا يُسْلَب منه، لكنه يكون من المخطئين أو من المتأولين، وإن لم يتعمد ذلك -كأن يكون لديه شبهة أو تأويل- فهذا يعتبر من أهل البدع، ويقال: هو باقٍ على الإسلام، ولكن فيه هذه البدعة فلا يكفر، فيثبت له اسم الإسلام.
إلا أن هناك حالات نستطيع أن نجزم في حق صاحبها أنه كافر في الباطن، كما قال ابن القيم رحمه الله -وقبله شيخ الإسلام ابن تيمية - في مسألة تارك الصلاة: لو أن إنساناً يدعي الإسلام وهو لا يصلي، فسألناه عن ذلك، فأقر بوجوبها وقال: سأصلي ثم لم يصلِ، فاستتابه ولي الأمر ثلاثة أيام إما أن يصلي وإما أن يقتل، ثم إنه مع هذا لا يصلي، فهنا نجزم أنه غير مؤمن، ونشهد بذلك؛ لأنه فضَّل أن يُقتل على أن يصلي، فكيف يكون هذا في حقيقته مؤمناً؟!
فظهر لنا هنا شيء يمكن أن نشهد به عليه بدون تردد.
وكذلك لو أن إنساناً يقول: أنا أحب الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو متهم أنه من الروافض فإن طلبنا منه أن يترضى عنهما، قال: لا أترضى عنهما، فقلنا: نضربك ونعاقبك، فقال: لو ضربتموني ألف سوط فلن أقول: رضي الله عنهما. فهذا نستطيع أن نجزم أنه في الباطن لا يحبهما، فغير معقول أن تحب أبا بكر وعمر ولا تبادر بالترضي عنهما.
فالخلاصة: أننا وإن كانت الأمور باطنة فيمكن أن نستدل عليها بالأمور الظاهرة، فإن الله قد ركب في النفوس من معرفة الحق والاستدلال بالظاهر على الباطن ما يشهد له الواقع، وإن كنا لا نعلم الغيب ولا ندعيه، لكن ظاهر الحال يدلنا على ذلك، وهو دليل حق- فالاستدلال به يوصلنا إلى اليقين في هذه المسألة.
ظاهرة الزندقة وما يتعلق بها من أحكام
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة العاشرة)(21/285)
ثم قال المصنف: [فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق] أي أن من قال قولاً كفرياً في مقالة له أو خطبة أو كتاب أو نحو ذلك، فهذا لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يكون مخطئاً؛ فننظر لماذا أخطأ في هذا، هل كان ذلك لبدعة دعته إلى هذا القول؟ أو أن لديه تأويلاً معيناً للقول بذلك القول؟
وإما أن يكون زنديقاً أي: أظهر هذه الكلمة الكفرية مع إظهاره للإسلام، ولكنه في الحقيقة يبطن الكفر، وهذا من لحن القول الذي ذكره الله تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]؛ لأن كل إنسان لا يمكن أن يعتقد الشيء ويخفيه على من يجاوره ويخالطه بالكلية. ولا يمكن أن يعتقد أحد عقيدة إلا ويظهر أثرها في سقطات لسانه أو جوارحه أو تصرفاته، لأنه من المستحيل أن يؤمن الإنسان بشيء إيماناً حقيقياً ولا يظهر ذلك أبداً.(21/286)
وهذا من حكمة الله تعالى ومن الدلالة على تلازم الظاهر والباطن، ويستثنى من ذلك ما كان مجرد شيء عابر، فإنه لا ينبني عليه حكم على الباطن سواء كان كفراً أو إيماناً، فالإيمان العابر كإنسان يحب بعض الطيبين بشكل عارض وتجده في الأصل لا يهتم بالمؤمنين ولا بالإيمان؛ لأنه ليس حباً حقيقياً، إنما هو عبارة عن عاطفة طرأت على قلبه، وكذلك إذا كان الإنسان مؤمناً ثم طرأ عليه نوع من الزيغ أو الشبهات فإنه يظهر لك أن إيمانه ثابت وباقٍ، لكن المنافق الذي يظهر الإسلام، ويحلف بالله كما حلف المنافقون للرسول صلى الله عليه وسلم، فمعلوم أن هذه الأيمان وراءها ما وراءها -نسأل الله العفو والعافية- فإن كفرهم قد ظهر في لحن القول وفلتات الألسن وسقطاتها.
من هو الزنديق؟
يقول المصنف رحمه الله: [والزنديق هو المنافق] كلمة (الزنديق) لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة، ولهذا كانوا إذا أرادوا أن يحكموا على أحد ممن لا يستطيعون أن يشهدوا له بالإيمان، ولم يكن في ظاهره من الكفار، بل كان من المقرين بالإسلام المظهرين له، فإنهم يقولون عنه: إنه منافق، ويعرفون المنافق بعلاماته المعروفة التي تكون قرائن واضحة دالة على باطنه المناقض لظاهره، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في صلاة الجماعة: [ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ] وكما قال كعب في حديث الثلاثة الذين تاب الله عليهم بعد توبتهم من تخلفهم أنه رأى الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إما منافق مغموس عليه في النفاق أو ممن عذر الله }، فكان المنافقون يعرفون بقرائن تدل على بواطنهم.(21/287)
أصل مصطلح (الزنديق) وتاريخ ظهوره عند المسلمين
ظهر هذا المصطلح الجديد؛ وهو (الزنديق) أكثر ما ظهر في العصر العباسي وانتشر وأصبح يقال: هذا رجل زنديق، أو متهم بالزندقة، فأصل هذه الكلمة كما قال بعضهم: إن الزندقة مأخوذة من كتاب كان يؤمن به المجوس يسمونه (زندفسته ) وهذا (الزندفسته ) هو كتاب المجوس ، فكانوا يتهمون من يظهر الإسلام وهو في الحقيقة غير مؤمن؛ بالزندقة؛ لأنه يعتقد ما في كتاب الفرس.
وقال آخرون: الزندقة مأخوذة من كلمة (زندكي)، والعرب يقلبون الكاف قافاً؛ فإذا نطقوا أي علم أو كلمة غير عربية فإنهم ينطقونها على قواعد لغتهم؛ فمثلاً الفرس كانوا يقولون: (خسرو) أي: ملك الفرس، وعند العرب لا يمكن أن يأتي اسم آخره واو قبلها حرف مضموم، وكذلك الخاء استثقلوها فقلبوها كافاً فصارت الكلمة عند العرب (كسرى)، فلما جاء المتأخرون ردوا الكلمة إلى (خسرو)، فتجد بعض المؤلفين اسمه (خسرو) على الاسم القديم، ومعنى كلمة (زندكي): الحياة أو الزمان أو الدهر، والعرب يسمون الذي لا يؤمن بالبعث (دَهري) بفتح الدال، أما (دُهري) بالضم فهي نسبة سماعية على غير القياس، فالقياس أن النسبة إلى دَهْر (دَهْري) بالفتح، فالعرب تقول: (دَهري) أي: لا يؤمن بالبعث، ويعتقد ببقاء الدهر، وأنه هو المتحكم في سير الخلائق، وقد حكى الله ذلك عنهم بقوله: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]. فالدهريون هم الذين لا يؤمنون بالبعث ولا باليوم الآخر، فأطلق عليهم الزنادقة نسبة إلى كلمة (زندكي) وهي تعني الدهر.(21/288)
ونستنتج مما تقدم أن الصحيح أن الزنديق: هو الدهري الذي لا يؤمن بالبعث ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وقد ظهر هذا المصطلح في تلك الفترة؛ لأن من الفرس من دخل في دين الإسلام كذباً وزوراً، وأخذوا يدسون ويكيدون للنيل منه، أما في زمن بني أمية فكان الإسلام ظاهراً عزيزاً قوياً فلم يستطيعوا أن يظهروا شيئاً من مقالاتهم، فلما جاء بنو العباس -وإنما قام ملكهم على أكتاف الفرس- قام بالدعوة إليهم أبو مسلم الخراساني ، وجاء من خراسان بجموع هائلة وقاتلوا الأمويين حتى أسقطوا دولة بني أمية وأقاموا بدلاً منها دولة بني العباس، وكان غرض أبي مسلم الخراساني إقامة دولة شيعية غالية باسم بني العباس، تكون شيعية في الظاهر مجوسية في الباطن، ولكن بني العباس فطنوا إلى ذلك وكان السفاح أول من تولى أمر الدولة العباسية، ثم جاء بعده أخوه أبو جعفر المنصور ، وكان أبو مسلم الخراساني قائداً له، وكان أبو جعفر المنصور من دهاة الرجال، ويروى عنه في الدهاء العجب العجاب، ففطن إلى أبي مسلم وإلى خطره وضرره، وبعد أن مكن له أمره ووطد له الملك قتله وقضى عليه، وقامت إثر ذلك حركة عظيمة في الفرس، وظهرت فرقة يقال لها: (الأبي مسلمية ) نسبة إلى أبي مسلم فحاربت الدولة العباسية محاربة شديدة، ولكن أبا جعفر المنصور انتصر عليها وأهلك الله تعالى أبا مسلم الملحد ومن معه، فتحول المجوس إلى دور التستر وإظهار الإسلام، ونشطوا في الدس له باطناً وذلك نتيجة لعدم قدرتهم على المجاهرة له بالحرب، وصاروا يدسون الإلحاد والكفر والزيغ في نفوس جهلة المسلمين.(21/289)
انتشار الزندقة في البلاد الإسلامية
إن الزندقة أكثر ما انتشرت في العراق ؛ لأنها الأقرب إلى بلاد المجوس ، فظهرت الزندقة في البصرة ، والكوفة أما في مصر فكان ظهورها نادراً، وأما في المدينة وسائر أرض الحجاز فلم يكن هناك وجود للزنادقة والحمد لله؛ لأن الدسائس والمؤامرات كانت من أجل النفاذ إلى مرافق الدولة، لتقويض دولة الخلافة العباسية ولإبراز المجوسية مرة أخرى، فظهر هذا المبدأ، وكان الخليفة المهدي أشهر من عرف بقتل الزنادقة ، فحين تقرأ في أي كتاب من كتب التاريخ فإنك تجد أن أعظم أعمال المهدي قتله للزنادقة ، فكان يتتبعهم ويتصيدهم تصيداً، ويسلط عليهم العلماء والثقات من الناس يتتبعون كلامهم وآراءهم، فمن وجدوه قبضوا عليه، ومن وجدوا عنده شيئاً من كتب الإلحاد وأثبت عليه هذا الإلحاد فإنه يقتل فوراً، فقتل منهم المهدي جمعاً كبيراً، ومع ذلك بقيت الزندقة ، وكان ممن اشتهر بالزندقة وقتل عليها كثير من الكتاب والشعراء والوزراء، ومنهم البرامكة الذين كانوا وزراء لهارون الرشيد وكانوا أشهر وزراء الدولة العباسية، إلا أنهم لم يتبعوا منهج أبي مسلم في الدعوة إلى هذه العقيدة، بل سلكوا طريقاً آخر حتى تمكنوا في الدولة، وحين تبين للرشيد رحمه الله أنهم زنادقة، قتلهم وأقام فيهم حكم الله تعالى، وقد ظهر له ذلك بأدلة كثيرة، كما نبهه بعض العلماء الربانيين إلى أنهم مجوس يعبدون النار، كما قال فيهم الأصمعي رحمه الله:
إذا ذكر الشرك في مجلسٍ أضاءت وجوه بني برمك
وإذا تليت عندهم آية أتوا بالأحاديث عن مزدك(21/290)
ومزدك هو رأس المزدكية (الشيوعية الأولى) قبل ماركس ولينين ، فكان أن حج هارون الرشيد ، وكان قد بدأ يشعر بمكرهم فأشاروا عليه قائلين: يا أمير المؤمنين! لو أنك وضعت في الكعبة مجمرة كبرى، ووضعت فيها العود لكان ذلك سابقة لك لم يفعلها أحد قبلك، فعلم وفطن أن هذه حيلة منهم لتكون ذريعة إلى عبادة النار، وقال: (لئن رجعنا إلى بغداد ليرين الله ما أصنع) فلما عاد إلى بغداد فتك بهم.
ومن الكتاب والأدباء المتهمين بالزندقة عبد الله بن المقفع ، وكان يقال عنه: إنه ألف الكتب ليصرف الناس عن القرآن -وما أكثر الملهيات اليوم والله المستعان- فعبد الله بن المقفع كان مهتماً بالزندقة وثبتت عليه التهمة، وكان إذا مر ببيت تعبد فيه النار يتمثل بقول الشاعر الأحوص :
يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدا وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني قسماً إليك مع الصدود لأَمْيَلُ
يعني: أنا أصد عنك في الظاهر، لكنني والله أحبك وأميل إليك بالباطن، ومن الشعراء الذين قتلوا على الزندقة بشار بن برد ، وله أشعار يظهر فيها وقوعه في الزندقة، منها قوله:
إبليس أفضل من أبيكم آدم...
وهذا كفر واضح والعياذ بالله.
وصالح بن عبد القدوس له شعر كثير في الزهد، ويلمس من شعره أن غايته التزهيد في الدنيا، ولكن هذا التزهيد في الدنيا لم يكن عن إيمان بدين محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كان على مذهب الصوفية من الهندوس وأمثالهم ممن يزهدون في الدنيا، ويعتقدون أنه لابد أن تُصفَّى الروح لتتحد بـ(براهما)، وعلينا أن نعلم أن الزهد إذا لم يكن أصله وباعثه الإيمان بالله وبرسوله؛ فإن ذلك لا ينفع صاحبه؛ فهو أشبه برهبان النصارى.
ومن أولئك الزنادقة أبو العلاء المعري ، وأشعاره مشهورة تشهد بزندقته، وكل من ترجم له يذكر ذلك -والعياذ بالله- وكذلك الحلاج ، الذي قتل بسبب ما أظهره من زندقة، وكذلك السهروردي وأمثالهم ممن قتلوا بتهمة الزندقة.(21/291)
إلا أن بعض هؤلاء الزنادقة ظهر أمره، وبعضهم لم ينفضح أمثال المعتزلة الكبار الأوائل كأبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام ، فقد كانوا زنادقة، بل الجاحظ يعد من الزنادقة، وله رسائل تشهد على أنه زنديق والعياذ بالله.
وقد قتل كثير من الناس بتهمة الزندقة حتى قيل: إنهم بلغوا الآلاف، ثم انتشر هذا المصطلح وأصبح يطلق على كل من انحرف عن الدين وأظهر الطعن في آيات الله أو الاستهزاء بدين الله بأي شكل من الأشكال.
الرافضة ودورهم في نشر الزندقة
كانت الزندقة أكثر ما تظهر في ظل الدول الرافضية، فعندما يحكم الروافض أي بلد من البلدان تظهر فيه الزندقة و الفلسفة التي يظهر منها الكفر بالله، والترجمات التي يستمد منها الكفر والضلال والعياذ بالله، وكان هذا واضحاً جداً، فنجده في أيام الدول العباسية عندما سيطر بنو بويه وكانوا شيعة ، وفي مصر عندما سيطر العبيديون وكانوا باطنية ، فأينما ظهر هذا المذهب الخبيث ظهرت الزندقة، ويبوح بها من كان يضمرها.
ومن المناسب في هذا المقام أن نذكر أن أبا الربيع الزهراني -المحدث الثقة المعروف- كان له جار من الزنادقة، ثم هداه الله فقال له أبو الربيع : ما بالكم تظهرون التشيع؟! قال: إنا -أي:معشر الزنادقة- نظرنا إلى أهل الأهواء وإلى هذه الفرق، فوجدنا أن أسهل باب ندخل منه إلى هدم الإسلام هو التشيع.(21/292)
فيدخل أحدهم الإسلام على أنه شيعي، وهو في الحقيقة زنديق يطعن في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه رضي الله عنهم، -كما يشاء- تحت ستار أنه شيعي؛ لأن الشيعة من أحمق الناس وأجهل الناس، فمع أنهم يطعنون في القرآن والسنة والصحابة يجتهدون ويبذلون أقصى جهدهم من أجل إضلال الآخرين على جهل فيهم، ولهذا قال بعض المحدثين: "لو طاوعت الشيعة لملئوا بيتي ذهباً وفضة" لأنهم يطلبون منه أحاديث في فضل علي أو الحسن أو الحسين ، وهم لا يستطيعون التمييز بين صحيح الحديث وضعيفه، وبين ما فيه مدح أو طعن في الأئمة، فكثير من الفضائل التي ينقلها الشيعة عن علي رضي الله عنه والحسن والحسين فيها طعن فيهم، وليست مما يزكّى به الناس، لكن هم غاية عقلهم ومبلغ علمهم أن هذا مدح أو ثناء، فلذلك دخل هؤلاء الكَذَبة الزنادقة من هذا الباب فأصبحوا يروون الروايات الطويلة في فضائل أهل البيت، ويفسرون الآيات حسب ما يوافق هوى الشيعة ، ومقابل ذلك فإن الشيعة تعظمهم وتوقرهم وتبذل لهم الأموال، فالزنادقة يدخلون من هذا الباب.
ولما ذكر ابن الجوزي رحمه الله أسباب انتشار مذهب القرامطة ذكر أنهم يدخلون على أتباعهم من باب حب آل البيت ومدحهم، فإذا وجدوا من المدعوين من يوافقهم رسخوا في ذهنه وغرسوا في عقله أن جل آل البيت كفار، ولم يبق إلا هؤلاء الأربعة أو الخمسة أو الاثنا عشر ثم لا يلبثون حتى يلحقوهم بمن قبلهم. فإذا سئلوا ما هو الدين الصحيح؟ قالوا: الدين الصحيح هو ما عليه الحكماء، أي فلاسفة إخوان الصفا والأديان كلها باطلة.. فيكفر. ولا حول ولا قوة إلا بالله.(21/293)
وهكذا نلاحظ أن الزندقة بدأت تحت شعار التشيع، ومن هنا كانا مقترنين أي: ظهور الزندقة وانتشارها في المجتمعات الإسلامية يقترن بظهور دول الرفض والإلحاد، فمثلاً: ما جاء التتار ودخلوا بغداد إلا بتدبير ابن العلقمي الخبيث، وبتأييد نصير الكفر الطوسي وعندئذٍ ظهر أمر الزندقة وانتشر؛ لأن هؤلاء هم في الحقيقة زنادقة يتسترون بالرفض، وتحت غطاء التشيع انتشر الرفض وعم البلاد، لذلك تجد أن كل الخلفاء والسلاطين الذين كانوا يتميزون بالعدل في التاريخ الإسلامي، يقال في ترجمتهم: من مآثره أو من فضائله -كما في البداية والنهاية - أنه كان يحرم قراءة كتب الأوائل -ضمن حربه على الزندقة- والمقصود بكتب الأوائل كتب اليونان ؛ لأنها مصدر الزندقة والإلحاد، وقد وقع كثير من ذلك، كما كان في أيام نور الدين وصلاح الدين رحمهما الله، والدولة الأيوبية عموماً، ومن قبلهم كثير من الخلفاء؛ كالخليفة القادر وأمثاله، كانوا يمنعون الناس من قراءة كتب الفلاسفة ويحرقونها، ومن وجدت عنده فإنه يعاقب، حتى يتوصلوا إلى القضاء على هذه الفتنة وعلى هذا الإلحاد.
وعلى هذا فالزنديق في عرف المتأخرين هو من عرف في عهد الصحابة بالمنافق.
قول علماء أهل السنة في الزنديق
قال: "وهنا يظهر غلط الطرفين" والطرفان هنا يقصد بهما: الذين كفّروا بإطلاق، والذين لم يكفَّروا بإطلاق.(21/294)
يقول: "فإنه من كفَّر كل من قال القول المبتدع في الباطن، يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله، وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر : {أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله ، وكان يلقب حماراً ، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله } ". وهذا الحديث في مقابل حديث: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة -وذكر منهم شاربها ... } وهذا الصحابي كان يشرب الخمر، والذي في الحديث لعن الشارب بإطلاق، أما المعين كما هو حال هذا الصحابي فلا. وسنستعرض هنا رواية الحديث والكلام عليه كما ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتاب الحدود (ج12 ص:64، 65) في رواية، والرواية الأخرى التي -ذكرها المصنف- هي عن عمر (ج12 ص:75) ونحن نأتي بالرواية الأولى؛ لأن فيها بعض الفوائد.
الرواية الأولى: يقول الإمام البخاري رحمه الله: (باب من أمر بضرب الحدّ في البيت) بسنده عن عقبة بن الحارث قال: {جيء بالنعيمان أو بابن النعيمان شارباً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان بالبيت أن يضربوه قال: فضربوه، فكنت أنا فيمن ضربه بالنعال } ثم قال: (باب الضرب بالجريد والنعال) بسنده عن عقبة بن الحارث {أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بنعيمان أو بابن نعيمان وهو سكران، فشق عليه، وأمر من في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال، وكنت فيمن ضربه }.(21/295)
ورواية أخرى عن أبي هريرة في نفس هذا الباب قال: {أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، قال: اضربوه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمنّا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان } هذه الرواية ليس فيها اللعن، وإنما فيها بدل (لعنه الله) (أخزاه الله).
أما حديث عمر رضي الله عنه فهو ما ترجم له البخاري رحمه الله بقوله: (باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة) وفي هذا التعبير إشارة إلى أن من العلماء من كره لعن شارب الخمر، ومنهم من لم يكره، وهذا دليل لمن يرى عدم جواز لعن المعين قال: "عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه {أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم .. } إلى آخر الحديث" كما ذكره المصنف.(21/296)
ذكر ابن حجر اختلاف العلماء في لعن المعين وقد تقدم هذا الموضوع ومن جملة ما قال: (وصوَّب ابن المنير أن المنع مطلقاً في حق المعين، والجواز في حق غير المعين؛ لأنه في حق غير المعين زجر عن تعاطي ذلك الفعل، وفي حق المعين أذى له وسب، وقد ثبت النهي عن أذى المسلم، واحتج من أجاز لعن المعين بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن من يستحق اللعن فيستوي المعين وغيره، وتُعقب بأنه إنما استحق اللعن بوصف الإبهام"، يعني: أن مسألة لعن المعين أو عدمه مرتبطة بالمصلحة، فإذا قيل: لعن الله فلاناً، فقد لا يكون فيه مصلحة، بل قد يكون من باب التنفير وإعانة الشيطان عليه، كما بين في الرواية الأخرى التي ورد فيها: (أخزاه الله) لكننا نقول: يمكن أن نجمع بين القولين بأن يلعن لعناً عاماً أمام صاحب الفعل المعين، فإذا جيء برجل شرب الخمر، فقلت: لعن الله شارب الخمر، أو إذا جيء برجل كذب، فقلت: لعنة الله على الكاذبين، فأنت في هذه الحالة حققت المصلحتين: أول شيء أنه انزجر؛ لأنه لما سمع الناس يلعنون الكاذبين فمعنى ذلك أنهم يريدون زجره، وفي نفس الوقت لم تلعنه بعينه أو بشخصه.
فعدم لعن المعين لا يقتضي أنه يلعن سراً، فإنك إذا رأيت منكراً معيناً كالتعامل بالربا فإنه لا يتعين عليك أن تقول: لعن الله آكل الربا بينك وبين نفسك، ثم تحتج بأن المصلحة عدم لعن المعين في هذه الحالة، بل عند تحقق المصلحة بإظهار اللعن فإنك تقول: لعن الله آكل الربا.(21/297)
يقول الحافظ ابن حجر : "وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين اسمه، فيجمع بين المصلحتين) والمصلحتان هما: مصلحة إظهار الزجر واللعن، ومصلحة عدم أذى المسلم لاحتمال أنه يحب الله ورسوله، أو أنه من أهل الخير. وهكذا فتوضع الأمور في مواضعها، ولهذا يفرق بين شارب وشارب، وبين زانٍ وزانٍ. أما بالنسبة لحد الله الذي شرعه فالحكم واحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعفِ شارب الخمر من حد الله بل جلده، لكنه شهد له بالخير، وقد يجلد غيره ولا يشهد له بالخير، وهذا من الحكمة في التعامل مع الناس، وعليه فإن هناك أموراً لا يستوي فيها الناس، وأموراً يجب أن يستوي فيها الناس، ومن الحكمة أن نضع الشيء موضعه، فالمجاهر بالمعصية لا حرمة له.
يقول ابن حجر رحمه الله: "وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين باسمه فيجمع بين المصلحتين؛ لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي، أو يقنطه من قبول التوبة" يعني: إذا رأى الناس يلعنونه فإن ذلك قد يؤدي به إلى أن ينتكس بالكلية، ويفارق أهل الخير، ويصاحب أهل الشر"، لكن لو أحسن التعامل معه لكان ذلك أدعى إلى أن ينزجر ويتوب.
ويقول -أيضاً- ابن حجر رحمه الله: "بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف فإن فيه زجراً وردعاً عن ارتكاب ذلك، وباعثاً لفاعله على الإقلاع عنه، ويقويه النهي عن التثريب على الأمة إذا جلدت على الزنا كما سيأتي قريباً.(21/298)
واحتج شيخنا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح، وهو في الصحيح، وقد توقف فيه بعض من لقيناه" أي أن شيخه البلقيني قال بقول خالفه فيه بعض من عاصره من المشايخ، وهذا القول من الحافظ يدلك على أن هؤلاء العلماء لم يتأهلوا للعلم والتدريس إلا بعد أن تخلقوا بمكارم الأخلاق التي شرعها الله عز وجل، ولهذا بقي لهم الذكر الحسن عند الناس، فيقول: (وقد توقف فيه بعض من لقيناه) ومن أدب الحافظ رحمه الله أنه أظهر اسم الشيخ صاحب القول الراجح وأغفل تعيين صاحب القول المرجوح؛ لأنه لو قال: وقد توقف فيه فلان، فإنه يفهم منه الطعن في القائل، فتأدباً مع شيوخه لم يعين القائل لعدم الحاجة إليه، قال: "بأن اللاعن لها الملائكة" وهو اعتراض له وجاهته فاللاعن لها هم الملائكة وليس نحن، فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم، وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها"، قال ابن حجر : "والذي قاله شيخنا -يعني: البلقيني - أقوى، فإن الملك معصوم، والتأسي بالمعصوم مشروع، والبحث في جواز لعن المعين وهو الموجود" يعني لا يقال: إنه ما سماها، فالكلام هنا في امرأة معينة، وواضح أن زوجها دعاها فأبت، ويعلم بناءً على ذلك أن الملائكة تلعنها، فيجوز له أن يلعنها.
ونحن نورد كلامه هنا من باب الفائدة، ولا شك أنه إن ترك لعنها فهو أفضل: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، لكن الكلام هنا في الجواز.(21/299)
وهنا يظهر الخلاف في اسم صاحب الترجمة، فقيل هو عبد الله ويلقب حماراً وقيل: نعيمان وقيل: ابن نعيمان والخلاف في اسمه طويل، لكن الذي ظهر لي أنه رجل واحد، فلا نقول: إن القصة متعددة، وإن كان ابن حجر أحياناً يميل إلى ذلك، وأحياناً يميل إلى غيره، فحيناً يقول: (وهذا مما يقوي أن صاحب الترجمة ونعيمان واحد، والله أعلم) وهنا لم يجزم ابن حجر رحمه الله بأحدهما، والذي يظهر أنه رجل واحد، وأن القصة تكررت؛ لأنه ورد في نفس الحديث: (ما أكثر ما يؤتى به) يعني أنه كان يؤتى به مراراً والذي لعنه كان رجلاً من الصحابة فقال: (اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به) وفي بعض الروايات أنه عمر .
فهذا الرجل جيء به أكثر من مرة، فربما أن الصحابة دعوا عليه أول مرة فقالوا: (أخزاك الله) ثم لما جيء به بعدها قالوا: (اللهم العنه!) فهذا أقرب من أن يقال: إن القصة في أكثر من واحد، وعليه يكون نعيمان هو نفسه عبد الله الذي يلقب حماراً ؛ والله أعلم.(21/300)
قال: {وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم } وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقاً، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمزحون ولا يقولون إلا حقاً قال بكر بن عبد الله رضي الله عنه [كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا جد الجد كانوا هم الرجال ] أي أنهم كانوا يمزحون -فهم بشر- ويحب بعضهم بعضاً، ويألفون ويؤلفون، ولكن إذا جد الجد كانوا هم الرجال في العبادة والدعوة والجهاد، أما في وقت أكل أو شرب أو جلسة أخوية فكانوا يمزحون ويتداعبون، لكن لا يقولون إلا حقاً ولا يفعلون إلا حقاً، وما ليس فيه إثم، لكن هذا الرجل له وصف متميز فقد كان جريئاً في المزاح حتى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينقل ابن حجر بعض قصصه في ذلك (بسند الباب : {أن رجلاً كان يلقب حماراً ، وكان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العُكة من السمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه، جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتسم ويأمر به فيعطى } فكان يأخذ العكة ويعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: هذه هدية مني لك والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة. فيأخذ تلك الهدية، وبعد فترة إذا بصاحب الدين يقف على رأسه مطالباً بحقه، فيجيء به نعيمان إلى رسول الله ويسأله أن يعطي الرجل حقه. يقول الحافظ: "ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم بعد قوله: {يحب الله ورسوله } قال: {وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء فقال: يا رسول الله! هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه، جاء به فقال: أعط هذا الثمن فيقول: ألم تهده إليَّ؟ فيقول: ليس عندي، فيضحك -النبي صلى الله عليه وسلم- ويأمر لصاحبه بثمنه } فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما هو فيه من الجد، ومع انشغال قلبه بالله تعالى في ذكر واستغفار وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ومع ذلك(21/301)
فقد كان في حياته -وفي قلبه- متسع للمزاح والدعابة، وكان يداعب أزواجه ويحادثهن، كما ثبت في حديث أم زرع الطويل، حين حدثته عائشة بالقصة كلها وهو يستمع إليها... -والقصة معروفة وقد أخرجها مسلم - والمسألة ليست أن نقرأ أحاديثه، وإنما الأساس أن نهتدي بهديه ونستن بسنته، ونقتدي به قولاً وعملاً واعتقاداً صلوات ربي وسلامه عليه.
ولهذا كان التابعون كما قال سفيان قبل أن يأخذوا الحديث عن الرجل ينظرون إلى هديه وسمته ودله، وهذا قول عمرو بن ميمون الأودي لما تتلمذ على يد معاذ رضي الله عنه، ثم انتقل إلى حذيفة ، وكانوا يُشَبِّهُون عبد الله بن مسعود بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسمته.
وقد كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يحسنون التأمل والتفكر في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وقوله وفعله؛ فيضعون الأمور في مواضعها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بينهم بهذه المنزلة.
نسأل الله أن يرضى عنهم وأن يلحقنا بهم.
من هو الزنديق؟
من درس: ظاهرة الزندقة وما يتعلق بها من أحكام
يقول المصنف رحمه الله: [والزنديق هو المنافق] كلمة (الزنديق) لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة، ولهذا كانوا إذا أرادوا أن يحكموا على أحد ممن لا يستطيعون أن يشهدوا له بالإيمان، ولم يكن في ظاهره من الكفار، بل كان من المقرين بالإسلام المظهرين له، فإنهم يقولون عنه: إنه منافق، ويعرفون المنافق بعلاماته المعروفة التي تكون قرائن واضحة دالة على باطنه المناقض لظاهره، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في صلاة الجماعة: [ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ] وكما قال كعب في حديث الثلاثة الذين تاب الله عليهم بعد توبتهم من تخلفهم أنه رأى الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إما منافق مغموس عليه في النفاق أو ممن عذر الله }، فكان المنافقون يعرفون بقرائن تدل على بواطنهم.(21/302)
أصل مصطلح (الزنديق) وتاريخ ظهوره عند المسلمين
من درس: ظاهرة الزندقة وما يتعلق بها من أحكام
ظهر هذا المصطلح الجديد؛ وهو (الزنديق) أكثر ما ظهر في العصر العباسي وانتشر وأصبح يقال: هذا رجل زنديق، أو متهم بالزندقة، فأصل هذه الكلمة كما قال بعضهم: إن الزندقة مأخوذة من كتاب كان يؤمن به المجوس يسمونه (زندفسته ) وهذا (الزندفسته ) هو كتاب المجوس ، فكانوا يتهمون من يظهر الإسلام وهو في الحقيقة غير مؤمن؛ بالزندقة؛ لأنه يعتقد ما في كتاب الفرس.
وقال آخرون: الزندقة مأخوذة من كلمة (زندكي)، والعرب يقلبون الكاف قافاً؛ فإذا نطقوا أي علم أو كلمة غير عربية فإنهم ينطقونها على قواعد لغتهم؛ فمثلاً الفرس كانوا يقولون: (خسرو) أي: ملك الفرس، وعند العرب لا يمكن أن يأتي اسم آخره واو قبلها حرف مضموم، وكذلك الخاء استثقلوها فقلبوها كافاً فصارت الكلمة عند العرب (كسرى)، فلما جاء المتأخرون ردوا الكلمة إلى (خسرو)، فتجد بعض المؤلفين اسمه (خسرو) على الاسم القديم، ومعنى كلمة (زندكي): الحياة أو الزمان أو الدهر، والعرب يسمون الذي لا يؤمن بالبعث (دَهري) بفتح الدال، أما (دُهري) بالضم فهي نسبة سماعية على غير القياس، فالقياس أن النسبة إلى دَهْر (دَهْري) بالفتح، فالعرب تقول: (دَهري) أي: لا يؤمن بالبعث، ويعتقد ببقاء الدهر، وأنه هو المتحكم في سير الخلائق، وقد حكى الله ذلك عنهم بقوله: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]. فالدهريون هم الذين لا يؤمنون بالبعث ولا باليوم الآخر، فأطلق عليهم الزنادقة نسبة إلى كلمة (زندكي) وهي تعني الدهر.(21/303)
ونستنتج مما تقدم أن الصحيح أن الزنديق: هو الدهري الذي لا يؤمن بالبعث ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وقد ظهر هذا المصطلح في تلك الفترة؛ لأن من الفرس من دخل في دين الإسلام كذباً وزوراً، وأخذوا يدسون ويكيدون للنيل منه، أما في زمن بني أمية فكان الإسلام ظاهراً عزيزاً قوياً فلم يستطيعوا أن يظهروا شيئاً من مقالاتهم، فلما جاء بنو العباس -وإنما قام ملكهم على أكتاف الفرس- قام بالدعوة إليهم أبو مسلم الخراساني ، وجاء من خراسان بجموع هائلة وقاتلوا الأمويين حتى أسقطوا دولة بني أمية وأقاموا بدلاً منها دولة بني العباس، وكان غرض أبي مسلم الخراساني إقامة دولة شيعية غالية باسم بني العباس، تكون شيعية في الظاهر مجوسية في الباطن، ولكن بني العباس فطنوا إلى ذلك وكان السفاح أول من تولى أمر الدولة العباسية، ثم جاء بعده أخوه أبو جعفر المنصور ، وكان أبو مسلم الخراساني قائداً له، وكان أبو جعفر المنصور من دهاة الرجال، ويروى عنه في الدهاء العجب العجاب، ففطن إلى أبي مسلم وإلى خطره وضرره، وبعد أن مكن له أمره ووطد له الملك قتله وقضى عليه، وقامت إثر ذلك حركة عظيمة في الفرس، وظهرت فرقة يقال لها: (الأبي مسلمية ) نسبة إلى أبي مسلم فحاربت الدولة العباسية محاربة شديدة، ولكن أبا جعفر المنصور انتصر عليها وأهلك الله تعالى أبا مسلم الملحد ومن معه، فتحول المجوس إلى دور التستر وإظهار الإسلام، ونشطوا في الدس له باطناً وذلك نتيجة لعدم قدرتهم على المجاهرة له بالحرب، وصاروا يدسون الإلحاد والكفر والزيغ في نفوس جهلة المسلمين.
انتشار الزندقة في البلاد الإسلامية
من درس: ظاهرة الزندقة وما يتعلق بها من أحكام(21/304)
إن الزندقة أكثر ما انتشرت في العراق ؛ لأنها الأقرب إلى بلاد المجوس ، فظهرت الزندقة في البصرة ، والكوفة أما في مصر فكان ظهورها نادراً، وأما في المدينة وسائر أرض الحجاز فلم يكن هناك وجود للزنادقة والحمد لله؛ لأن الدسائس والمؤامرات كانت من أجل النفاذ إلى مرافق الدولة، لتقويض دولة الخلافة العباسية ولإبراز المجوسية مرة أخرى، فظهر هذا المبدأ، وكان الخليفة المهدي أشهر من عرف بقتل الزنادقة ، فحين تقرأ في أي كتاب من كتب التاريخ فإنك تجد أن أعظم أعمال المهدي قتله للزنادقة ، فكان يتتبعهم ويتصيدهم تصيداً، ويسلط عليهم العلماء والثقات من الناس يتتبعون كلامهم وآراءهم، فمن وجدوه قبضوا عليه، ومن وجدوا عنده شيئاً من كتب الإلحاد وأثبت عليه هذا الإلحاد فإنه يقتل فوراً، فقتل منهم المهدي جمعاً كبيراً، ومع ذلك بقيت الزندقة ، وكان ممن اشتهر بالزندقة وقتل عليها كثير من الكتاب والشعراء والوزراء، ومنهم البرامكة الذين كانوا وزراء لهارون الرشيد وكانوا أشهر وزراء الدولة العباسية، إلا أنهم لم يتبعوا منهج أبي مسلم في الدعوة إلى هذه العقيدة، بل سلكوا طريقاً آخر حتى تمكنوا في الدولة، وحين تبين للرشيد رحمه الله أنهم زنادقة، قتلهم وأقام فيهم حكم الله تعالى، وقد ظهر له ذلك بأدلة كثيرة، كما نبهه بعض العلماء الربانيين إلى أنهم مجوس يعبدون النار، كما قال فيهم الأصمعي رحمه الله:
إذا ذكر الشرك في مجلسٍ أضاءت وجوه بني برمك
وإذا تليت عندهم آية أتوا بالأحاديث عن مزدك(21/305)
ومزدك هو رأس المزدكية (الشيوعية الأولى) قبل ماركس ولينين ، فكان أن حج هارون الرشيد ، وكان قد بدأ يشعر بمكرهم فأشاروا عليه قائلين: يا أمير المؤمنين! لو أنك وضعت في الكعبة مجمرة كبرى، ووضعت فيها العود لكان ذلك سابقة لك لم يفعلها أحد قبلك، فعلم وفطن أن هذه حيلة منهم لتكون ذريعة إلى عبادة النار، وقال: (لئن رجعنا إلى بغداد ليرين الله ما أصنع) فلما عاد إلى بغداد فتك بهم.
ومن الكتاب والأدباء المتهمين بالزندقة عبد الله بن المقفع ، وكان يقال عنه: إنه ألف الكتب ليصرف الناس عن القرآن -وما أكثر الملهيات اليوم والله المستعان- فعبد الله بن المقفع كان مهتماً بالزندقة وثبتت عليه التهمة، وكان إذا مر ببيت تعبد فيه النار يتمثل بقول الشاعر الأحوص :
يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدا وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني قسماً إليك مع الصدود لأَمْيَلُ
يعني: أنا أصد عنك في الظاهر، لكنني والله أحبك وأميل إليك بالباطن، ومن الشعراء الذين قتلوا على الزندقة بشار بن برد ، وله أشعار يظهر فيها وقوعه في الزندقة، منها قوله:
إبليس أفضل من أبيكم آدم...
وهذا كفر واضح والعياذ بالله.
وصالح بن عبد القدوس له شعر كثير في الزهد، ويلمس من شعره أن غايته التزهيد في الدنيا، ولكن هذا التزهيد في الدنيا لم يكن عن إيمان بدين محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كان على مذهب الصوفية من الهندوس وأمثالهم ممن يزهدون في الدنيا، ويعتقدون أنه لابد أن تُصفَّى الروح لتتحد بـ(براهما)، وعلينا أن نعلم أن الزهد إذا لم يكن أصله وباعثه الإيمان بالله وبرسوله؛ فإن ذلك لا ينفع صاحبه؛ فهو أشبه برهبان النصارى.
ومن أولئك الزنادقة أبو العلاء المعري ، وأشعاره مشهورة تشهد بزندقته، وكل من ترجم له يذكر ذلك -والعياذ بالله- وكذلك الحلاج ، الذي قتل بسبب ما أظهره من زندقة، وكذلك السهروردي وأمثالهم ممن قتلوا بتهمة الزندقة.(21/306)
إلا أن بعض هؤلاء الزنادقة ظهر أمره، وبعضهم لم ينفضح أمثال المعتزلة الكبار الأوائل كأبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام ، فقد كانوا زنادقة، بل الجاحظ يعد من الزنادقة، وله رسائل تشهد على أنه زنديق والعياذ بالله.
وقد قتل كثير من الناس بتهمة الزندقة حتى قيل: إنهم بلغوا الآلاف، ثم انتشر هذا المصطلح وأصبح يطلق على كل من انحرف عن الدين وأظهر الطعن في آيات الله أو الاستهزاء بدين الله بأي شكل من الأشكال.
الرافضة ودورهم في نشر الزندقة
من درس: ظاهرة الزندقة وما يتعلق بها من أحكام
كانت الزندقة أكثر ما تظهر في ظل الدول الرافضية، فعندما يحكم الروافض أي بلد من البلدان تظهر فيه الزندقة و الفلسفة التي يظهر منها الكفر بالله، والترجمات التي يستمد منها الكفر والضلال والعياذ بالله، وكان هذا واضحاً جداً، فنجده في أيام الدول العباسية عندما سيطر بنو بويه وكانوا شيعة ، وفي مصر عندما سيطر العبيديون وكانوا باطنية ، فأينما ظهر هذا المذهب الخبيث ظهرت الزندقة، ويبوح بها من كان يضمرها.
ومن المناسب في هذا المقام أن نذكر أن أبا الربيع الزهراني -المحدث الثقة المعروف- كان له جار من الزنادقة، ثم هداه الله فقال له أبو الربيع : ما بالكم تظهرون التشيع؟! قال: إنا -أي:معشر الزنادقة- نظرنا إلى أهل الأهواء وإلى هذه الفرق، فوجدنا أن أسهل باب ندخل منه إلى هدم الإسلام هو التشيع.(21/307)
فيدخل أحدهم الإسلام على أنه شيعي، وهو في الحقيقة زنديق يطعن في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه رضي الله عنهم، -كما يشاء- تحت ستار أنه شيعي؛ لأن الشيعة من أحمق الناس وأجهل الناس، فمع أنهم يطعنون في القرآن والسنة والصحابة يجتهدون ويبذلون أقصى جهدهم من أجل إضلال الآخرين على جهل فيهم، ولهذا قال بعض المحدثين: "لو طاوعت الشيعة لملئوا بيتي ذهباً وفضة" لأنهم يطلبون منه أحاديث في فضل علي أو الحسن أو الحسين ، وهم لا يستطيعون التمييز بين صحيح الحديث وضعيفه، وبين ما فيه مدح أو طعن في الأئمة، فكثير من الفضائل التي ينقلها الشيعة عن علي رضي الله عنه والحسن والحسين فيها طعن فيهم، وليست مما يزكّى به الناس، لكن هم غاية عقلهم ومبلغ علمهم أن هذا مدح أو ثناء، فلذلك دخل هؤلاء الكَذَبة الزنادقة من هذا الباب فأصبحوا يروون الروايات الطويلة في فضائل أهل البيت، ويفسرون الآيات حسب ما يوافق هوى الشيعة ، ومقابل ذلك فإن الشيعة تعظمهم وتوقرهم وتبذل لهم الأموال، فالزنادقة يدخلون من هذا الباب.
ولما ذكر ابن الجوزي رحمه الله أسباب انتشار مذهب القرامطة ذكر أنهم يدخلون على أتباعهم من باب حب آل البيت ومدحهم، فإذا وجدوا من المدعوين من يوافقهم رسخوا في ذهنه وغرسوا في عقله أن جل آل البيت كفار، ولم يبق إلا هؤلاء الأربعة أو الخمسة أو الاثنا عشر ثم لا يلبثون حتى يلحقوهم بمن قبلهم. فإذا سئلوا ما هو الدين الصحيح؟ قالوا: الدين الصحيح هو ما عليه الحكماء، أي فلاسفة إخوان الصفا والأديان كلها باطلة.. فيكفر. ولا حول ولا قوة إلا بالله.(21/308)
وهكذا نلاحظ أن الزندقة بدأت تحت شعار التشيع، ومن هنا كانا مقترنين أي: ظهور الزندقة وانتشارها في المجتمعات الإسلامية يقترن بظهور دول الرفض والإلحاد، فمثلاً: ما جاء التتار ودخلوا بغداد إلا بتدبير ابن العلقمي الخبيث، وبتأييد نصير الكفر الطوسي وعندئذٍ ظهر أمر الزندقة وانتشر؛ لأن هؤلاء هم في الحقيقة زنادقة يتسترون بالرفض، وتحت غطاء التشيع انتشر الرفض وعم البلاد، لذلك تجد أن كل الخلفاء والسلاطين الذين كانوا يتميزون بالعدل في التاريخ الإسلامي، يقال في ترجمتهم: من مآثره أو من فضائله -كما في البداية والنهاية - أنه كان يحرم قراءة كتب الأوائل -ضمن حربه على الزندقة- والمقصود بكتب الأوائل كتب اليونان ؛ لأنها مصدر الزندقة والإلحاد، وقد وقع كثير من ذلك، كما كان في أيام نور الدين وصلاح الدين رحمهما الله، والدولة الأيوبية عموماً، ومن قبلهم كثير من الخلفاء؛ كالخليفة القادر وأمثاله، كانوا يمنعون الناس من قراءة كتب الفلاسفة ويحرقونها، ومن وجدت عنده فإنه يعاقب، حتى يتوصلوا إلى القضاء على هذه الفتنة وعلى هذا الإلحاد.
وعلى هذا فالزنديق في عرف المتأخرين هو من عرف في عهد الصحابة بالمنافق.
قول علماء أهل السنة في الزنديق
من درس: ظاهرة الزندقة وما يتعلق بها من أحكام
قال: "وهنا يظهر غلط الطرفين" والطرفان هنا يقصد بهما: الذين كفّروا بإطلاق، والذين لم يكفَّروا بإطلاق.(21/309)
يقول: "فإنه من كفَّر كل من قال القول المبتدع في الباطن، يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله، وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر : {أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله ، وكان يلقب حماراً ، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله } ". وهذا الحديث في مقابل حديث: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة -وذكر منهم شاربها ... } وهذا الصحابي كان يشرب الخمر، والذي في الحديث لعن الشارب بإطلاق، أما المعين كما هو حال هذا الصحابي فلا. وسنستعرض هنا رواية الحديث والكلام عليه كما ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتاب الحدود (ج12 ص:64، 65) في رواية، والرواية الأخرى التي -ذكرها المصنف- هي عن عمر (ج12 ص:75) ونحن نأتي بالرواية الأولى؛ لأن فيها بعض الفوائد.
الرواية الأولى: يقول الإمام البخاري رحمه الله: (باب من أمر بضرب الحدّ في البيت) بسنده عن عقبة بن الحارث قال: {جيء بالنعيمان أو بابن النعيمان شارباً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان بالبيت أن يضربوه قال: فضربوه، فكنت أنا فيمن ضربه بالنعال } ثم قال: (باب الضرب بالجريد والنعال) بسنده عن عقبة بن الحارث {أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بنعيمان أو بابن نعيمان وهو سكران، فشق عليه، وأمر من في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال، وكنت فيمن ضربه }.(21/310)
ورواية أخرى عن أبي هريرة في نفس هذا الباب قال: {أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، قال: اضربوه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمنّا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان } هذه الرواية ليس فيها اللعن، وإنما فيها بدل (لعنه الله) (أخزاه الله).
أما حديث عمر رضي الله عنه فهو ما ترجم له البخاري رحمه الله بقوله: (باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة) وفي هذا التعبير إشارة إلى أن من العلماء من كره لعن شارب الخمر، ومنهم من لم يكره، وهذا دليل لمن يرى عدم جواز لعن المعين قال: "عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه {أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم .. } إلى آخر الحديث" كما ذكره المصنف.(21/311)
ذكر ابن حجر اختلاف العلماء في لعن المعين وقد تقدم هذا الموضوع ومن جملة ما قال: (وصوَّب ابن المنير أن المنع مطلقاً في حق المعين، والجواز في حق غير المعين؛ لأنه في حق غير المعين زجر عن تعاطي ذلك الفعل، وفي حق المعين أذى له وسب، وقد ثبت النهي عن أذى المسلم، واحتج من أجاز لعن المعين بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن من يستحق اللعن فيستوي المعين وغيره، وتُعقب بأنه إنما استحق اللعن بوصف الإبهام"، يعني: أن مسألة لعن المعين أو عدمه مرتبطة بالمصلحة، فإذا قيل: لعن الله فلاناً، فقد لا يكون فيه مصلحة، بل قد يكون من باب التنفير وإعانة الشيطان عليه، كما بين في الرواية الأخرى التي ورد فيها: (أخزاه الله) لكننا نقول: يمكن أن نجمع بين القولين بأن يلعن لعناً عاماً أمام صاحب الفعل المعين، فإذا جيء برجل شرب الخمر، فقلت: لعن الله شارب الخمر، أو إذا جيء برجل كذب، فقلت: لعنة الله على الكاذبين، فأنت في هذه الحالة حققت المصلحتين: أول شيء أنه انزجر؛ لأنه لما سمع الناس يلعنون الكاذبين فمعنى ذلك أنهم يريدون زجره، وفي نفس الوقت لم تلعنه بعينه أو بشخصه.
فعدم لعن المعين لا يقتضي أنه يلعن سراً، فإنك إذا رأيت منكراً معيناً كالتعامل بالربا فإنه لا يتعين عليك أن تقول: لعن الله آكل الربا بينك وبين نفسك، ثم تحتج بأن المصلحة عدم لعن المعين في هذه الحالة، بل عند تحقق المصلحة بإظهار اللعن فإنك تقول: لعن الله آكل الربا.(21/312)
يقول الحافظ ابن حجر : "وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين اسمه، فيجمع بين المصلحتين) والمصلحتان هما: مصلحة إظهار الزجر واللعن، ومصلحة عدم أذى المسلم لاحتمال أنه يحب الله ورسوله، أو أنه من أهل الخير. وهكذا فتوضع الأمور في مواضعها، ولهذا يفرق بين شارب وشارب، وبين زانٍ وزانٍ. أما بالنسبة لحد الله الذي شرعه فالحكم واحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعفِ شارب الخمر من حد الله بل جلده، لكنه شهد له بالخير، وقد يجلد غيره ولا يشهد له بالخير، وهذا من الحكمة في التعامل مع الناس، وعليه فإن هناك أموراً لا يستوي فيها الناس، وأموراً يجب أن يستوي فيها الناس، ومن الحكمة أن نضع الشيء موضعه، فالمجاهر بالمعصية لا حرمة له.
يقول ابن حجر رحمه الله: "وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين باسمه فيجمع بين المصلحتين؛ لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي، أو يقنطه من قبول التوبة" يعني: إذا رأى الناس يلعنونه فإن ذلك قد يؤدي به إلى أن ينتكس بالكلية، ويفارق أهل الخير، ويصاحب أهل الشر"، لكن لو أحسن التعامل معه لكان ذلك أدعى إلى أن ينزجر ويتوب.
ويقول -أيضاً- ابن حجر رحمه الله: "بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف فإن فيه زجراً وردعاً عن ارتكاب ذلك، وباعثاً لفاعله على الإقلاع عنه، ويقويه النهي عن التثريب على الأمة إذا جلدت على الزنا كما سيأتي قريباً.(21/313)
واحتج شيخنا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح، وهو في الصحيح، وقد توقف فيه بعض من لقيناه" أي أن شيخه البلقيني قال بقول خالفه فيه بعض من عاصره من المشايخ، وهذا القول من الحافظ يدلك على أن هؤلاء العلماء لم يتأهلوا للعلم والتدريس إلا بعد أن تخلقوا بمكارم الأخلاق التي شرعها الله عز وجل، ولهذا بقي لهم الذكر الحسن عند الناس، فيقول: (وقد توقف فيه بعض من لقيناه) ومن أدب الحافظ رحمه الله أنه أظهر اسم الشيخ صاحب القول الراجح وأغفل تعيين صاحب القول المرجوح؛ لأنه لو قال: وقد توقف فيه فلان، فإنه يفهم منه الطعن في القائل، فتأدباً مع شيوخه لم يعين القائل لعدم الحاجة إليه، قال: "بأن اللاعن لها الملائكة" وهو اعتراض له وجاهته فاللاعن لها هم الملائكة وليس نحن، فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم، وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها"، قال ابن حجر : "والذي قاله شيخنا -يعني: البلقيني - أقوى، فإن الملك معصوم، والتأسي بالمعصوم مشروع، والبحث في جواز لعن المعين وهو الموجود" يعني لا يقال: إنه ما سماها، فالكلام هنا في امرأة معينة، وواضح أن زوجها دعاها فأبت، ويعلم بناءً على ذلك أن الملائكة تلعنها، فيجوز له أن يلعنها.
ونحن نورد كلامه هنا من باب الفائدة، ولا شك أنه إن ترك لعنها فهو أفضل: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، لكن الكلام هنا في الجواز.(21/314)
وهنا يظهر الخلاف في اسم صاحب الترجمة، فقيل هو عبد الله ويلقب حماراً وقيل: نعيمان وقيل: ابن نعيمان والخلاف في اسمه طويل، لكن الذي ظهر لي أنه رجل واحد، فلا نقول: إن القصة متعددة، وإن كان ابن حجر أحياناً يميل إلى ذلك، وأحياناً يميل إلى غيره، فحيناً يقول: (وهذا مما يقوي أن صاحب الترجمة ونعيمان واحد، والله أعلم) وهنا لم يجزم ابن حجر رحمه الله بأحدهما، والذي يظهر أنه رجل واحد، وأن القصة تكررت؛ لأنه ورد في نفس الحديث: (ما أكثر ما يؤتى به) يعني أنه كان يؤتى به مراراً والذي لعنه كان رجلاً من الصحابة فقال: (اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به) وفي بعض الروايات أنه عمر .
فهذا الرجل جيء به أكثر من مرة، فربما أن الصحابة دعوا عليه أول مرة فقالوا: (أخزاك الله) ثم لما جيء به بعدها قالوا: (اللهم العنه!) فهذا أقرب من أن يقال: إن القصة في أكثر من واحد، وعليه يكون نعيمان هو نفسه عبد الله الذي يلقب حماراً ؛ والله أعلم.(21/315)
قال: {وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم } وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقاً، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمزحون ولا يقولون إلا حقاً قال بكر بن عبد الله رضي الله عنه [كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا جد الجد كانوا هم الرجال ] أي أنهم كانوا يمزحون -فهم بشر- ويحب بعضهم بعضاً، ويألفون ويؤلفون، ولكن إذا جد الجد كانوا هم الرجال في العبادة والدعوة والجهاد، أما في وقت أكل أو شرب أو جلسة أخوية فكانوا يمزحون ويتداعبون، لكن لا يقولون إلا حقاً ولا يفعلون إلا حقاً، وما ليس فيه إثم، لكن هذا الرجل له وصف متميز فقد كان جريئاً في المزاح حتى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينقل ابن حجر بعض قصصه في ذلك (بسند الباب : {أن رجلاً كان يلقب حماراً ، وكان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العُكة من السمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه، جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتسم ويأمر به فيعطى } فكان يأخذ العكة ويعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: هذه هدية مني لك والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة. فيأخذ تلك الهدية، وبعد فترة إذا بصاحب الدين يقف على رأسه مطالباً بحقه، فيجيء به نعيمان إلى رسول الله ويسأله أن يعطي الرجل حقه. يقول الحافظ: "ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم بعد قوله: {يحب الله ورسوله } قال: {وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء فقال: يا رسول الله! هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه، جاء به فقال: أعط هذا الثمن فيقول: ألم تهده إليَّ؟ فيقول: ليس عندي، فيضحك -النبي صلى الله عليه وسلم- ويأمر لصاحبه بثمنه } فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما هو فيه من الجد، ومع انشغال قلبه بالله تعالى في ذكر واستغفار وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ومع ذلك(21/316)
فقد كان في حياته -وفي قلبه- متسع للمزاح والدعابة، وكان يداعب أزواجه ويحادثهن، كما ثبت في حديث أم زرع الطويل، حين حدثته عائشة بالقصة كلها وهو يستمع إليها... -والقصة معروفة وقد أخرجها مسلم - والمسألة ليست أن نقرأ أحاديثه، وإنما الأساس أن نهتدي بهديه ونستن بسنته، ونقتدي به قولاً وعملاً واعتقاداً صلوات ربي وسلامه عليه.
ولهذا كان التابعون كما قال سفيان قبل أن يأخذوا الحديث عن الرجل ينظرون إلى هديه وسمته ودله، وهذا قول عمرو بن ميمون الأودي لما تتلمذ على يد معاذ رضي الله عنه، ثم انتقل إلى حذيفة ، وكانوا يُشَبِّهُون عبد الله بن مسعود بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسمته.
وقد كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يحسنون التأمل والتفكر في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وقوله وفعله؛ فيضعون الأمور في مواضعها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بينهم بهذه المنزلة.
نسأل الله أن يرضى عنهم وأن يلحقنا بهم.
أحكام تتعلق بمرتكب الكبيرة
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الحادية عشرة)(21/317)
النهي عن لعن مرتكب الكبيرة
قال ابن حجر رحمه الله في (ص:78) ذاكراً الفوائد من الحديث: "وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له" وهذا واضح والحمد لله، حيث أن هذا الرجل صحابي وشرب الخمر، فلم ينف عنه شرب الخمر صحبته، بل أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم أمراً زائداً عن مجرد الصحبة، وهو أنه يحب الله ورسوله، وهذه ليست في كل أحد من الناس، فهذه صفة لم يشهد بها النبي صلى الله عليه وسلم لكل أحد، بل وجد في زمنه صلى الله عليه وسلم من الأعراب ومن ضعفاء الإيمان ومن أشباههم من لم ينل شرف هذه الشهادة، فمرتكب الكبيرة كما هو معلوم عند أهل السنة والجماعة لا يكفر، ولا يخرج من الملة، فمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر فقوله مردود بأدلة كثيرة منها هذا الحديث، والذين زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر هم الخوارج ، وأيضاً قاربهم في ذلك المعتزلة ، فقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، لكن في الآخرة هو عندهم مخلدٌ في النار، فإذن هو عندهم كافر في الحكم والحقيقة، وإن كانوا لا يكفرونه في الاسم والإطلاق.(21/318)
يقول رحمه الله: "وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه" فلا تنافي بين ارتكاب النهي أو الوقوع في المحرم أو ارتكاب الكبيرة وثبوت محبة الله ورسوله، وهذا يمكن أن نعبر عنه بتعبير آخر فنقول: إنه يجتمع في القلب الواحد الطاعة والمعصية، ويجتمع فيه الإيمان والنفاق، كما تجتمع فيه السنة والبدعة، فهناك المبتدع الخالص، والمنافق الخالص، والفاجر أو العاصي الخالص الذي لا خير فيه مطلقاً، لكن أيضاً نجد من يجتمع فيه الأمران، فهذا الرجل (ابن نعيمان ) أو (نعيمان ) اجتمع فيه أمران: شرب الخمر وهو كبيرة ومعصية ولا شك في ذلك، وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم الأدلة على أصل عظيم عند أهل السنة والجماعة وهو أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن هذا الرجل لا يخلو من أن يقال فيه أحد قولين: إما أنه فاقد الإيمان كما تقول الخوارج ، وإما أن يكون كامل الإيمان كما تقول المرجئة ، وهذا الحديث رد عليهما، فلا هو كامل الإيمان، إذ كيف يقال: إنه كامل الإيمان وقد شرب الخمر؟ وليس بفاقد الإيمان، إذ كيف يكون فاقد الإيمان وهو يحب الله ورسوله؟
إذن لابد أن نقول: إنه ينقص إيمانه بقدر ما فيه من المعصية، ولكن له أيضاً من شعب الإيمان ما يكون إيمانه بها خيراً ممن هو أقل منه إيماناً، وأما نفي الإيمان عنه بالكلية فصريح الحديث يرده ويبطله.(21/319)
تكرار المعصية لا يستلزم نفي محبة الله ورسوله
يقول ابن حجر رحمه الله في ذكر فوائد الحديث: "وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله" فنقول: من أين أخذ الحافظ رحمه الله هذه الفائدة؟ أخذها من قول الصحابي: (ما أكثر ما يؤتى به)، فالرجل كان يشرب مراراً، وهذا موضع الاستدلال، وفي هذا الاستدلال نظر قال: "وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله" والمفروض أن يقال: لا تنتفي عنه محبة الله بالكلية، لكنها قد تنقص. والمقصود التحفظ على إطلاق الكلام، فلا تؤخذ هذه الفائدة على إطلاقها؛ بل لابد من التقييد، حيث إن هذا الصحابي كان يُغلب فيشرب الخمر.
ثم يرده حب الله ورسوله زمناً عن شرب الخمر، ثم يُغلب؛ أي أنه ليس في حالة استقرار على شربها ولا اطمئنان إلى ذلك، ولو وصل الأمر به إلى أن يكون مدمن خمر مطمئناً إليها، فهذا ينتزع منه حب الله ورسوله والعياذ بالله، وتسقط عنه سيما المؤمنين؛ لأنه أصبح مدمن خمر وملكت قلبه بالكلية، وهذا لا يظن بهذا الصحابي.(21/320)
محبة الله ورسوله تستوجب حسن اتباعه صلى الله عليه وسلم
إذن فالفائدة التي يمكن أن نستنتجها هي أن الإنسان مهما بلغ في الفضل والإيمان والتقوى يمكن أن يتكرر منه الذنب، وهذا ما وقع في حق ذلك الصحابي، ولأن حالته حالة خاصة ومخالفة للأصل، فقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله، لكن العادة أن من يشرب الخمر مراراً لا يكون أهلاً لأن يثنى عليه أو يمدح، وهذا هو الأصل في من يشرب الخمر، لكن هذا الرجل ليس ممن أدمن، وإنما هو رجل فيه إيمان وفيه خير، إنما يغلبه شيطانه، ولا شك أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يشربون الخمر في أول الإسلام، فقد كانت الخمر حلالاً، فربما يكون هذا الرجل ممن كان قد اعتادها قبل أن تحرّم، ولم يستطع الفكاك منها، وهذا ليس عذراً له، ولكنه يجعلنا نعلم أن اجتماع محبة الله ورسوله مع تكرار هذا الذنب له ما يفسر بالنسبة لحالته، إلا أنه لا شك عندنا أنه مع حبه لله ورسوله لا يمكن أن يكون مدمناً محباً راضياً عن نفسه وهو يفعل هذه الفعلة، لكنه يغلب عليها، فهذا دليل على أنه غير مصر، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله [آل عمران:31] ولا شك أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو الشرط في حصول المحبة ودعواها، ولهذا سمى السلف هذه الآية آية الامتحان وآية المحنة، فكل إنسان يدعي المحبة، لكن حقيقتها: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وكذلك قال في آية الجهاد: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ [التوبة:24] إلى أن قال: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].(21/321)
ولو كان الإنسان محباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: فإنه يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقدم هذا المتاع أو المحبات أو العلاقات على الجهاد في سبيل الله، لكن قد يقع الضعف من الإنسان ويدخل فيه التقصير فيجتمع في نفسه هذا وهذا، فوعيد الله هنا يتعلق بالمحبة المطلقة الكاملة، وهذا الصحابي يحب الله ورسوله إلا أن هذه المحبة تنخفض وترتفع عند إتيانه هذه المعصية.
معنى نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة
قال رحمه الله: "ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية" نفي الإيمان عن شارب الخمر، {ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن }. المقصود به -كما يقول الإمام- أنه لا يراد به زواله بالكلية، قال: "بل نفي كماله كما تقدم"، وهذا منطوق العبارة، ولو رجعنا إلى كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في أول الصحيح في كتاب الإيمان، لعلمنا لماذا وقع في مثل هذه العبارة، فهو -ابن حجر رحمه الله- يرى أن الأعمال كمال للإيمان، وأنها شرط في كمال الإيمان، وهو في هذا رحمه الله متأثر بكلام النووي والقاضي عياض والقرطبي رحمهم الله جميعاً، لكنه مع تبحره وسعة علمه ونقله عن أهل السنة من كتاب الإيمان للإمام أحمد ، ومن كتاب أصول أهل السنة والجماعة للالكائي ، ومن كتاب الشريعة للآجري ، ومن السنة لابن أبي عاصم وغيرها، وقد أدرج هذه النقولات بأكملها -تقريباً- في ضمن هذا الكتاب العظيم الذي هو الفتح ، إلا أنه في هذه النقطة تابع كلام هؤلاء الأئمة الشراح -على فضلهم وجلالتهم- الذين خفي عليهم الحق في هذه المسألة والتبست عليهم القضية، فجعلوا الفرق بين مذهب المعتزلة ومذهب السلف أن المعتزلة يرون أن الأعمال شرط في ثبوت الإيمان، والسلف يرون أن الأعمال شرط في كمال الإيمان، وليس هذا مذهب السلف ، فمذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه قول وعمل، فالأعمال هي جزء من الإيمان.
النهي عن لعن مرتكب الكبيرة(21/322)
من درس: أحكام تتعلق بمرتكب الكبيرة
قال ابن حجر رحمه الله في (ص:78) ذاكراً الفوائد من الحديث: "وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له" وهذا واضح والحمد لله، حيث أن هذا الرجل صحابي وشرب الخمر، فلم ينف عنه شرب الخمر صحبته، بل أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم أمراً زائداً عن مجرد الصحبة، وهو أنه يحب الله ورسوله، وهذه ليست في كل أحد من الناس، فهذه صفة لم يشهد بها النبي صلى الله عليه وسلم لكل أحد، بل وجد في زمنه صلى الله عليه وسلم من الأعراب ومن ضعفاء الإيمان ومن أشباههم من لم ينل شرف هذه الشهادة، فمرتكب الكبيرة كما هو معلوم عند أهل السنة والجماعة لا يكفر، ولا يخرج من الملة، فمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر فقوله مردود بأدلة كثيرة منها هذا الحديث، والذين زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر هم الخوارج ، وأيضاً قاربهم في ذلك المعتزلة ، فقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، لكن في الآخرة هو عندهم مخلدٌ في النار، فإذن هو عندهم كافر في الحكم والحقيقة، وإن كانوا لا يكفرونه في الاسم والإطلاق.(21/323)
يقول رحمه الله: "وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه" فلا تنافي بين ارتكاب النهي أو الوقوع في المحرم أو ارتكاب الكبيرة وثبوت محبة الله ورسوله، وهذا يمكن أن نعبر عنه بتعبير آخر فنقول: إنه يجتمع في القلب الواحد الطاعة والمعصية، ويجتمع فيه الإيمان والنفاق، كما تجتمع فيه السنة والبدعة، فهناك المبتدع الخالص، والمنافق الخالص، والفاجر أو العاصي الخالص الذي لا خير فيه مطلقاً، لكن أيضاً نجد من يجتمع فيه الأمران، فهذا الرجل (ابن نعيمان ) أو (نعيمان ) اجتمع فيه أمران: شرب الخمر وهو كبيرة ومعصية ولا شك في ذلك، وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم الأدلة على أصل عظيم عند أهل السنة والجماعة وهو أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن هذا الرجل لا يخلو من أن يقال فيه أحد قولين: إما أنه فاقد الإيمان كما تقول الخوارج ، وإما أن يكون كامل الإيمان كما تقول المرجئة ، وهذا الحديث رد عليهما، فلا هو كامل الإيمان، إذ كيف يقال: إنه كامل الإيمان وقد شرب الخمر؟ وليس بفاقد الإيمان، إذ كيف يكون فاقد الإيمان وهو يحب الله ورسوله؟
إذن لابد أن نقول: إنه ينقص إيمانه بقدر ما فيه من المعصية، ولكن له أيضاً من شعب الإيمان ما يكون إيمانه بها خيراً ممن هو أقل منه إيماناً، وأما نفي الإيمان عنه بالكلية فصريح الحديث يرده ويبطله.
تكرار المعصية لا يستلزم نفي محبة الله ورسوله
من درس: أحكام تتعلق بمرتكب الكبيرة(21/324)
يقول ابن حجر رحمه الله في ذكر فوائد الحديث: "وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله" فنقول: من أين أخذ الحافظ رحمه الله هذه الفائدة؟ أخذها من قول الصحابي: (ما أكثر ما يؤتى به)، فالرجل كان يشرب مراراً، وهذا موضع الاستدلال، وفي هذا الاستدلال نظر قال: "وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله" والمفروض أن يقال: لا تنتفي عنه محبة الله بالكلية، لكنها قد تنقص. والمقصود التحفظ على إطلاق الكلام، فلا تؤخذ هذه الفائدة على إطلاقها؛ بل لابد من التقييد، حيث إن هذا الصحابي كان يُغلب فيشرب الخمر.
ثم يرده حب الله ورسوله زمناً عن شرب الخمر، ثم يُغلب؛ أي أنه ليس في حالة استقرار على شربها ولا اطمئنان إلى ذلك، ولو وصل الأمر به إلى أن يكون مدمن خمر مطمئناً إليها، فهذا ينتزع منه حب الله ورسوله والعياذ بالله، وتسقط عنه سيما المؤمنين؛ لأنه أصبح مدمن خمر وملكت قلبه بالكلية، وهذا لا يظن بهذا الصحابي.
محبة الله ورسوله تستوجب حسن اتباعه صلى الله عليه وسلم
من درس: أحكام تتعلق بمرتكب الكبيرة(21/325)
إذن فالفائدة التي يمكن أن نستنتجها هي أن الإنسان مهما بلغ في الفضل والإيمان والتقوى يمكن أن يتكرر منه الذنب، وهذا ما وقع في حق ذلك الصحابي، ولأن حالته حالة خاصة ومخالفة للأصل، فقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله، لكن العادة أن من يشرب الخمر مراراً لا يكون أهلاً لأن يثنى عليه أو يمدح، وهذا هو الأصل في من يشرب الخمر، لكن هذا الرجل ليس ممن أدمن، وإنما هو رجل فيه إيمان وفيه خير، إنما يغلبه شيطانه، ولا شك أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يشربون الخمر في أول الإسلام، فقد كانت الخمر حلالاً، فربما يكون هذا الرجل ممن كان قد اعتادها قبل أن تحرّم، ولم يستطع الفكاك منها، وهذا ليس عذراً له، ولكنه يجعلنا نعلم أن اجتماع محبة الله ورسوله مع تكرار هذا الذنب له ما يفسر بالنسبة لحالته، إلا أنه لا شك عندنا أنه مع حبه لله ورسوله لا يمكن أن يكون مدمناً محباً راضياً عن نفسه وهو يفعل هذه الفعلة، لكنه يغلب عليها، فهذا دليل على أنه غير مصر، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله [آل عمران:31] ولا شك أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو الشرط في حصول المحبة ودعواها، ولهذا سمى السلف هذه الآية آية الامتحان وآية المحنة، فكل إنسان يدعي المحبة، لكن حقيقتها: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وكذلك قال في آية الجهاد: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ [التوبة:24] إلى أن قال: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].(21/326)
ولو كان الإنسان محباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: فإنه يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقدم هذا المتاع أو المحبات أو العلاقات على الجهاد في سبيل الله، لكن قد يقع الضعف من الإنسان ويدخل فيه التقصير فيجتمع في نفسه هذا وهذا، فوعيد الله هنا يتعلق بالمحبة المطلقة الكاملة، وهذا الصحابي يحب الله ورسوله إلا أن هذه المحبة تنخفض وترتفع عند إتيانه هذه المعصية.
معنى نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة
من درس: أحكام تتعلق بمرتكب الكبيرة(21/327)
قال رحمه الله: "ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية" نفي الإيمان عن شارب الخمر، {ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن }. المقصود به -كما يقول الإمام- أنه لا يراد به زواله بالكلية، قال: "بل نفي كماله كما تقدم"، وهذا منطوق العبارة، ولو رجعنا إلى كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في أول الصحيح في كتاب الإيمان، لعلمنا لماذا وقع في مثل هذه العبارة، فهو -ابن حجر رحمه الله- يرى أن الأعمال كمال للإيمان، وأنها شرط في كمال الإيمان، وهو في هذا رحمه الله متأثر بكلام النووي والقاضي عياض والقرطبي رحمهم الله جميعاً، لكنه مع تبحره وسعة علمه ونقله عن أهل السنة من كتاب الإيمان للإمام أحمد ، ومن كتاب أصول أهل السنة والجماعة للالكائي ، ومن كتاب الشريعة للآجري ، ومن السنة لابن أبي عاصم وغيرها، وقد أدرج هذه النقولات بأكملها -تقريباً- في ضمن هذا الكتاب العظيم الذي هو الفتح ، إلا أنه في هذه النقطة تابع كلام هؤلاء الأئمة الشراح -على فضلهم وجلالتهم- الذين خفي عليهم الحق في هذه المسألة والتبست عليهم القضية، فجعلوا الفرق بين مذهب المعتزلة ومذهب السلف أن المعتزلة يرون أن الأعمال شرط في ثبوت الإيمان، والسلف يرون أن الأعمال شرط في كمال الإيمان، وليس هذا مذهب السلف ، فمذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه قول وعمل، فالأعمال هي جزء من الإيمان.
عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان الزيادة والنقصان
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الحادية عشرة)(21/328)
إن الفرق الواضح بين أهل السنة وبين المعتزلة هو أن أهل السنة يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، بينما المعتزلة لا يرون ذلك، فهذا فرق واضح، وليس عند أهل السنة والجماعة مشكلة في حكم صاحب الكبيرة أنه ناقص الإيمان، فإذا كان يشرب الخمر فلا شك أنه ناقص الإيمان، فلو جمع مع الخمر الزنا فإنه يكون أشد نقصاً، وحين يجمع مع ذلك عقوق الوالدين -والعياذ بالله- يكون أكثر نقصاً، وهكذا.
وكذلك إن كان في طاعة كأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيكون له في الدين درجة عظيمة، ولو زاد على ذلك أنه يحفظ كتاب الله ويتلوه آناء الليل وآناء النهار، فيكون له درجة أعظم، ولو زاد على ذلك أن جاهد في سبيل الله، فهذا درجته أعظم، وهكذا.
فالإيمان ينقسم إلى شعب كما في الحديث الصحيح: {الإيمان بضع وسبعون أو قال بضع وستون شعبة } فبقدر ما يحقق الإنسان من الشعب يكون إيمانه أكثر، وبقدر ما يفقد من هذه الشعب يفقد من الإيمان.
فعلى منهج أهل السنة والجماعة لا نقول: إن الأعمال شرط في كمال الإيمان، ولا في وجود أصله، وإنما نقول: الأعمال جزء من الإيمان، وبعضها جزء من أصله، وبعضها جزء من كماله الواجب، وبعضها جزء من كماله المستحب، بمعنى أن بعض الأعمال شرط في أصل الإيمان، وبعض الأعمال من الكمال الواجب، وبعضها من الكمال المستحب، ففي أعمال الجوارح مما هو من شعب الإيمان: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وهي من أصل الإيمان، كما أجمع السلف أيضاً على أن الصلاة من أصل الإيمان، فتارك الصلاة نقول عنه: إنه ترك أصل الإيمان، كما أجمع عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أما من ترك واجباً من الواجبات في الصلاة أو في الحج أو ترك أي عمل من الأعمال الواجبة الكثيرة يعني كترك الإحسان إلى الجار، وترك بر الوالدين، فهذا نقول عنه: إنه لا ينتفي عنه أصل الإيمان، لكن نقول: ينتفي عنه كمال الإيمان، والمقصود كماله الواجب.(21/329)
فلو ضربنا كل الأمثلة في الصلاة، فنقول: من ترك أصل الصلاة، فهذا ترك أصل الإيمان، ومن ترك صلاة الجماعة، فقد ترك الكمال الواجب؛ لأنه واجب، أما من ترك بعض النوافل، وبعض السنن المستحبة فقد ترك الكمال المستحب.
إذن: أهل السنة منهجهم في الإيمان منضبط وواضح والحمد لله، ولا يؤثر مثل هذا القول الذي قال به الإمام الحافظ رحمه الله على منزلته وعلمه؛ لأنه:
كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
فمثل هذا الكتاب العظيم والذي جمع فيه من جميع فنون العلوم: من علم العربية، إلى علم التاريخ والسير، إلى الفقه بجميع أنواعه وأحكامه، إلى الرجال والجرح والتعديل، وعلم المصطلح، وعلوم القرآن، فقد جمع الحافظ في فتح الباري علوماً عظيمة، فلا يضره رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه أنه أخطأ في متابعته لبعض الأئمة، وهم أئمة ثقات جبال في العلم، لكن جل من لا يسهو.
ولو رجعنا إلى أول كتاب الإيمان ونظرنا إلى ما قاله الحافظ رحمه الله عن الإيمان في موضعه وما قاله هنا، فلابد لنا من تقييد كلامه رحمه الله، يعني في مسألة زيادته ونقصه، فأهل السنة والجماعة بخلافه فالإيمان عندهم يزيد وينقص، والأعمال تتفاوت، والناس يتفاوتون فيه بحسب ما يأتون من شعب الإيمان وما يتركون، ولذلك يمكن تطبيق هذه القاعدة على حديث الشعب: {أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان } فالحديث اشتمل على ثلاثة أمثلة، فالذي لا يأتي بالشهادة قد أخل بأصل الإيمان، والذي ليس عنده حياء قد أخل بواجبات الإيمان، والذي لم يمط الأذى عن الطريق ترك الكمال المستحب، كما يفهم قول الفقهاء حين يتكلمون عن الغسل الكامل أو الوضوء الكامل، والغسل المجزئ أو الوضوء المجزئ، فماذا يقصدون بالكامل؟ نقول: الفقهاء دائماً يعنون الكمال المستحب، وماذا يقصدون بالصلاة الكاملة؟ أي الصلاة التي يؤتى بأركانها وشروطها وواجباتها ومستحباتها.(21/330)
لكن في عرف المتكلمين في الإيمان أو أصحاب العقيدة أو عندما نتكلم في أبواب الإيمان، فعند إطلاق الكمال، فإنه يطلق باعتبارين: باعتبار الكمال الواجب الذي نقصه يُعد معصية وذنباً يعاقب عليه، والكمال المستحب الذي نقصه يُعد تفويتاً للأفضلية.
قال الحافظ رحمه الله كأنه يستدرك: "ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة الله ورسوله في قلب العاصي مقيداً بما إذا ندم على وقوع المعصية"، وهو يقصد من وقع في الذنب غير مصر عليه "وأقيم عليه الحد فكفر عنه الذنب المذكور، بخلاف من لم يقع منه ذلك" يعني: لم يقع منه الندم ولم يقم عليه الحد "فإنه يخشى عليه بتكرار الذنب أن يطبع على قلبه حتى يسلب منه ذلك، نسأل الله العفو والعافية".
حكم من قال بمقالات أهل الأهواء والبدع
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الحادية عشرة)
يقول المصنف رحمه الله: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج ، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة، بل بفرعٍ منها، ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير.(21/331)
فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون ].
اجتماع الطاعة والبدعة في الفرق والأعيان
فقول المصنف: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين]، يعني اجتماع الوقوع في البدعة أو المعصية أو الذنب أو النفاق العملي مع محبة الله ورسوله والإيمان باطناً أمر متيقن به في طوائف كثيرة، هذا بالنسبة للفرق، وأيضاً عند أئمة في العلم والدين كثيرين، فيلاحظ اجتماع البدعة والطاعة، أو البدعة ومحبة الله ورسوله في الباطن حتى عند بعض الطوائف البدعية، ولذلك نجد الخوارج على سبيل المثال لم يكفرهم كثير من السلف ، وتوقف فيهم الإمام أحمد ، وظاهر كلامه أنه لا يكفرهم رحمه الله، وقد جاء في الحديث: {يمرقون من الدين } إلى آخره، لكن الخوارج في واقع أمرهم وحالهم في الباطن يحبون الله ورسوله، بغض النظر عمن غلا منهم ومرق من الدين، لكن أول من خرج منهم وهم القراء متيقن أن عندهم محبة الله ورسوله، ولهذا لما قيل لعلي رضي الله تعالى عنه: [أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قالوا: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً ]، يعني هم ليسوا كفاراً ولا منافقين، ويتضح ذلك من حالهم وشدة اجتهادهم في العبادة، وقراءتهم للقرآن ومحبتهم له، وحرصهم على الاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بالشيخين والترضي عنهما، فأصل مشكلة الخوارج كما تعلمون الغلو في الدين وليست في التفريط والتهاون، فالغلو هو الذي جعلهم يريدون أن يكون عثمان وعلي كأبي بكر وعمر ، ولم يقبلوا أن يكون الخليفة أقل في كماله أقل من أبي بكر وعمر والكمال العالي جداً لا يصله كل أحد، وهناك كمال أقل منه وهو كمال معتبر أيضاً، وقد كانت مشكلة الخوارج أنهم أرادوا أن يكون معيار الكمال معياراً واحداً لكل أحد، فهم في الباطن يحبون الله ورسوله؛ فهذا كمثال، ولهذا(21/332)
تجدون في مقابلهم دائماً الروافض وقد ذكرهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقابل الخوارج وما هم عليه في الباطن ، فالروافض هم الفرقة التي تجد قلوبها في الباطن مبنية على النفاق، فالأصل فيهم النفاق مع إظهار الخير والدين، ومحبة الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة الصحابة والمؤمنين أحياناً، لكن الباطن بخلاف ذلك، فأصل مذهبهم النفاق، وأما الخوارج فأصل مذهبهم الإخلاص، لكن لم يأتوا بالموافقة وبالمتابعة، والإخلاص ضد النفاق، هذا من حيث الأصل ككل، والفرق بعد ذلك تتشعب والأفراد يختلفون، وهذا أمر آخر، لكن كمبدأ عام فإن الفرقة الواحدة تتفرع، فالشيعة تفرع منهم الرافضة ، وكان من الشيعة غير الغلاة من يقدم علياً على عثمان رضي الله تعالى عنهما، أو فيهم تشيع يسير في المواقف العملية، لكنهم في حقيقة أمرهم أئمة وعلماء وعباد، ويحبون الله ورسوله، إلا أنهم وقعوا في هذه البدعة، وهي بدعة قد غَلَظَ فيها بعض السلف حتى قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار)؛ لأنهم بعد موته صلى الله عليه وسلم كانوا إذا تكلموا يقولون: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وهذا شائع ومشهور بينهم، ومن فضل علياً على عثمان وخالفهم في هذا الترتيب، فقد أزرى بهم، فكأنه احتقر عقولهم واحتقر رأيهم، إذن فمثل هؤلاء الشيعة عندهم حب الله ورسوله وفيهم الإيمان، ولكن وقعوا في مثل هذه البدعة، وتفاوتوا فيها، كما يوجد أناس في واقعنا المعاصر يقيمون البدع وينسبونها إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نستطيع نفي المحبة لله ورسوله عنهم، ولكننا نستطيع أن ننفي عنهم فعل الصواب والمتابعة والموافقة، وأنهم في هذا العمل لم يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوا سنته، ولم يوافقوا هديه وهدي خلفائه الراشدين وصحابته.(21/333)
فما دمنا لا نستطيع أن ننفي عنهم الإيمان في الباطن، فهم ليسوا كفاراً؛ لأنهم مع بدعتهم مسلمون، وهذا هو مقصود الشارح من قوله: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة، وأئمة في العلم والدين] فيوجد أئمة من أئمة العلم والدين والهدى يخطئون في بعض المسائل، يقول: [وفيهم بعض مقالات الجهمية ، أو المرجئة ، أو القدرية ، أو الشيعة ، أو الخوارج ، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة أي: بالمنهج كله، بل بفرع منها] وهذا فرق عظيم ومهم جداً، ونحن أمة العدل الذين أمرنا الله بالعدل؛ يجب أن نعدل وننصف في حكمنا على الأئمة وعلى الطوائف وعلى الناس مراعين هذا الجانب.
أخطاء بعض الأئمة في موافقتهم لمقالات أهل البدع
وفي إشارتنا إلى بعض الأئمة، نورد هنا مثالاً، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى أخطأ في مسألة الإيمان، وقال بقول المرجئة ، يعني: أخرج العمل من الإيمان، أو على الأقل فإن تلميذيه وصاحبيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن بقيا ثابتين على ذلك.(21/334)
كما أن من الأمثلة ما جاء عن بعض المتأخرين الذين وافقوا الجهمية . ومنهم الإمام أبو حامد الغزالي الذي وافق في كتبه كلام الجهمية في نفي الصفات، فقد جاء عنه في الحديث الذي فيه أن الله سبحانه وتعالى يضع قدمه في نار جهنم، أنه يقول: يضع الجبار، والجبار اسم ملك، أو أن الجبار هو الشيطان، يعني يقول: إن التأويل لابد منه هنا، وعلى هذا فإن أبا حامد الغزالي وقع في بعض مقالات الجهمية ، ووقع أيضاً في بعض مقالات من هو أشد من الجهمية وهم الباطنية ، فتجدون كلام الغزالي عندما يتكلم عن العلم الباطن، والعلم الظاهر، وعالم الملكوت، وعالم الجبروت، وهذا مذهب الباطنية ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الناس العلم الظاهر، وكان هناك علم باطن اختص به علي بن أبي طالب أو اختص به فلاناً أو فلاناً، وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم! لكن هذا هو معتقدهم، فيأتي الإمام الغزالي رحمه الله ويكتب المضنون به على غير أهله -سبحان الله- ويقول: هذا العلم لا يقبله العامة، ويقول: هذه العلوم النفيسة لا تعطى للعامة.
يا رب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل أناس مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
يقول هذا الشاعر: هناك جوهر علم لا نبثه في الناس ولا نقوله؛ لأننا لو قلناه لقيل: هؤلاء ممن يعبدون الوثن ولتقرب المسلمون بدمائنا، وهم يرون ذلك من أفضل الأعمال، ولذلك فلن نبث ذلك العلم.
وهذا الأمر عجيب عنهم، فلماذا لا يظهرون هذا العلم لو كان حقاً؟!(21/335)
فوقع في كلام الغزالي رحمه الله ما هو من جنس كلام القرامطة الباطنية وأتباعهم، بل وقع في كلامه ما هو من جنس كلام الفلاسفة والمناطقة؛ حتى قال الغزالي رحمه الله في أول كتاب المستصفى : "من لم يتعلم المنطق وقواعده لا يوثق بعلمه"، وهذا شيء عجيب جداً وناقشه فيه الأئمة، حتى إن المازري رحمه الله رد عليه وكان من علماء المغرب في دولة المرابطين، وكانت كتب الغزالي تحرق حرقاً، إذ كيف يقول هذا الكلام، والصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم أوثق الناس علماً، ونحن نثق بعلمهم أعظم الثقة، لم يتعلموا قواعد المنطق، ولا من جاء بعدهم؟! فالمقصود أنه وقع في كلامه من جنس كلام هؤلاء، ومع ذلك فمن يستطيع أن يشهد ويتحمل القول بأنه في الباطن لا يحب الله ورسوله؟ هذا لا يقوله أحد.
ولهذا اختلف العلماء في حكمه وفي إعذاره وعدم إعذاره، ولكنهم لم يقولوا عنه: إنه كافر أو مرتد، إذن فالعالم يمكن أن يجتمع فيه محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والإيمان، ومع ذلك يقع في مثل هذه الأقوال وموافقة كلام الآخرين، ولو أن كل مبتدع يكفر؛ لقلنا: بكفر أناس لا نجزم نحن بأنهم في الباطن منافقون وكفار وزنادقة، لكننا نعتقد أنه تجتمع فيهم محبة الله ورسوله، والوقوع في هذه البدع.
فلو أن المسلمين فهموا هذه الأمور وأخذوا هذه القواعد الذهبية المستقيمة لما جاروا في الأحكام، فهم في حالين متعاكستين: إما غلو في المحبة يتناسون معه الأخطاء وإن كانت كبيرة وفادحة، وإما غلو في العداوة يتناسون معه الفضائل وإن كانت عظيمة وظاهرة.(21/336)
كما وقع الخطأ من بعض الشراح الكبار للحديث، فجاء في شروحهم موافقة لكلام غيرهم، حتى الحافظ ابن حجر رحمه الله نجد أنه ينقل كثيراً عن ابن فورك في كتابه، وينقل عن أبي المعالي الجويني تأويلات؛ خاصة عند شرحه كتاب التوحيد وإثبات الصفات من صحيح البخاري ، فماذا نقول في هؤلاء الأئمة؟ لا يحل لأحد أن يقول: إنهم في الباطن لا يريدون الحق، أو إنهم منافقون أو يكرهون الحق؟! لكننا نقول: إنهم أخطئوا فوافقوا غيرهم ووقعوا في أخطائه.
قال رحمه الله: [ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة] فنقول: هل يكون أحد من أئمة العلم والدين متمسكاً وقائماً بكل البدعة؟ يعني: هل يكون باطنياً كاملاً؟ إذا صار باطنياً كاملاً فقد خرج عن أهل السنة وليس بإمام في الدين، وهل يمكن أن يأخذ التجهم كاملاً، فيكون جهمياً من جميع الوجوه؟ أيضاً لا يكون ذلك، ولو كان كذلك لم يعد في العلماء والأئمة، وإنما يعد مع تلك الفرقة ومن أهلها.
وفي عصرنا الحاضر يوجد بعض العلماء الذين يعدون من الأئمة الدعاة ولهم فضل، وهم على خير، وقعوا في أخطاء مماثلة، فيقوم أحدهم رغبة منه في التعبير عن العدالة الاجتماعية في الإسلام فيقول: هذه اشتراكية في الإسلام، فهل نقول: هذا على مذهب لينين واستالين وجورباتشوف ؟ إننا سنكون عندئذٍ ظالمين وجائرين في الحكم؛ لأننا لا نستطيع أن نجزم بما في باطنه، ولا نعلم أنه في الباطن اشتراكي أو شيوعي أو غير ذلك، لكن نقول: هو أخطأ عندما أخذ بهذا الكلام.(21/337)
رجل آخر يقول: الديمقراطية هي الإسلام، فهل يعني هذا أنه ديمقراطي ومن دعاة الديمقراطية الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ويحكمون أهواء الناس وآراء الناس؟ كلا! لا يجوز ذلك، وليس هذا من العدل، ولكن نخطئ الفكرة وننقضها، أما الرجل فينظر إليه بحسب حاله، فقد يكون من أهل الخير والصلاح، وقد يكون مجرماً مفسداً أيضاً؛ لأنه لو كان ديمقراطياً مائة بالمائة، أو اشتراكياً مائة بالمائة، أو قومياً مائة بالمائة، لما كان من أهل الدين والدعوة والإيمان أصلاً، وإنما كان محسوباً في عداد أهل هذه المذاهب الباطلة.
من استكمل أصول مذهب معين صار من أهله
قاعدة مهمة: كل مذهب من المذاهب ومبدأ من المبادئ له أصول، من استكملها فقد استكمل المذهب، كما نقول: مذهب أهل السنة والجماعة له أصول، من استكملها فهو من أهل السنة ، ومن نقص واحداً منها نقص من أصول أهل السنة شيئاً، وتعرضنا لهذا في معرفة الفرق، ونقول: المعتزلي هو من يؤمن بالأصول الخمسة، فإن جاءنا من يوافق المعتزلة في أصلهم الذي يسمونه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يعني -عندهم-: الخروج على أئمة الجور، فهل نقول: هذا معتزلي بإطلاق؟ الجواب: لا. لكن نقول: هذا الرجل وافق المعتزلة في رأيهم في هذه القضية، ونقول: هو معتزلي في مسألة الخروج، فنقيد المسألة.(21/338)
ولو أن رجلاً آخر أخطأ في الإيمان -كبعض فقهاء الحنفية- لكنه في موضوع القدر والصفات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصحابة رضي الله تعالى عنهم، وجميع أبواب التوحيد على منهج أهل السنة ، فإن كان وافق المرجئة فنقول: هذا وافق المرجئة في الإيمان، وإن كان وافق المعتزلة فنقول: هذا وافق المعتزلة في الإيمان، ولذلك تجدون أن أعدل الناس هم أهل السنة ؛ لأن الله تعالى علم فيهم العدل والصدق والإخلاص، فرفع منزلتهم في الأمة، فهم في الجرح والتعديل يطلقون عدة عبارات، فيقولون عن فلان: فيه تشيع، وأحياناً يقولون: رافضي، وأحياناً يقولون: رافضي جلد، وأحياناً يقولون: سبئي، فهم يقولون في الرجل بحسب ما فيه، فلا يظلمونه ولا يزيدون على الحق، فهم يحكمون على الناس من خلال ما فيهم، فكل فرقة لها ضابط معين.
الرد على أهل الأهواء ليس شرطاً في صحة مذهب القائل به
وقد يكون ممن رد على بعض الفرق من وقع في بعض مقالتهم، فمثلاً ابن الجوزي رحمه الله في المنتظم وفي غيره من الكتب يهاجم الأشعرية هجوماً عنيفاً، وابن رشد يهاجم الأشعرية هجوماً عنيفاً، فلو وجدنا هذا الكلام عن ابن رشد ، فهل نقول: إنه من أهل السنة والجماعة ؛ لأنه يهاجم الأشاعرة ؟ لا. هو ليس كذلك، فابن رشد هذا شر من الأشاعرة ، فهم أقرب إلينا منه مع مهاجمته لهم؛ لأنه يقول قول الفلاسفة الذين هم أبعد الفرق في الانحراف حسب دوائر الانحراف والكفر التي رتبناها للفرق.(21/339)
إذن لا نقول: هذا من أهل السنة ؛ لأنه رد على الأشاعرة ، وكذلك ابن الجوزي رحمه الله رد عليهم، بينما تجده هو نفسه يؤول الصفات، ويتبع في ذلك شيخه ابن عقيل ، وشيخه ابن عقيل كان أقرب ما يكون من مذهب الاعتزال مع أنه حنبلي، وكذلك تلميذه ابن الجوزي كان حنبلياً، وقد وقع في شر مما وقع فيه الأشاعرة ، أو في مثله وهو يهاجمهم ويتكلم عليهم، لكن هو في نفس الوقت ليس من أهل السنة في هذه المسألة التي يقول فيها بخلاف قول أهل السنة ، يعني: نجد أنه اجتمع فيه أنه من أهل السنة في جوانب كثيرة، ولكن عنده تأويل في جوانب أخرى، وهكذا فلا نستطيع أن نقول: إنه أشعري لمجرد أنه أوَّل؛ لأنه هو نفسه يرد على الأشاعرة ، ولا نستطيع أن نقول: إنه من أهل السنة ؛ برده على الأشاعرة ؛ لأنه مع رده عليهم وقع فيما وقعوا فيه في أبواب أخرى، إذن فلابد من الميزان، وقد قال الله تعالى: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن:7] * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ [الرحمن:8] * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:9] لابد من الميزان العدل الذي نحكم به على الأفراد وعلى الجماعات وعلى الطوائف وعلى الأمم وعلى المواقف، ويكون الميزان هو ميزان العدل إن شاء الله في جميع أمورنا.(21/340)
انتحال أهل الأهواء الانتساب للأئمة
يقول المصنف: [ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة]، فلا نجد أبداً عالماً من أئمة الدين المتبوعين قائماً بجملة بدعة من البدع، يعني: آخذاً بمنهجها كله، لكن يحصل أنه يخطئ في مسألة أو يتابع في جزئية، فما يكون بعد ذلك من الأتباع إلا أن ينسبوه كله له ويتغاضون عن فضائله، فمثلاً الإمام مالك رحمه الله كان أول مذهبه في الصفات على منهج أهل السنة والجماعة ، وسار على منهجه أئمة المذهب المشهورون الكبار وظهر منهم الإمام ابن أبي زيد القيرواني الذي يسمونه مالكاً الصغير؛ لأنه أحيا وجدد ذكر الإمام مالك رحمه الله تعالى، فكتب الرسالة في فقه المالكية، وبدأه بمقدمة في العقيدة والإيمان -وهذه عادة طيبة وحسنة- والرسالة لابن أبي زيد يقال: إنها أول مدونة قانونية جمعت مواد تشريعية، وهو كتاب قيم ولا شك، وبالذات في المذهب، فمقدمة الرسالة مقدمة إيمانية سلفية ليس عليها غبار، فجاء من بعده وحاولوا أن يجعلوا الشيخ أشعرياً على مذهبهم، والشيخ ابن أبي زيد كلامه واضح، فمثلاً في مسألة العلو يقول: (وهو على عرشه المجيد بذاته) وهذا إثبات العلو (وفي كل مكان بعلمه) وهذه عبارة واضحة لا لبس فيها، فجاء الأشعرية ليؤولوا كلامه، فقالوا: (وهو على عرشه)، إلى هنا تنتهي العبارة، ثم تستأنف بقول: (المجيدُ بذاته)، أي أن الله مجيد بذاته، وهو حكيم بذاته، وعليم بذاته، أما أن يكون (وهو على عرشه المجيد) فتكون المجيد هنا صفة للعرش، فقد رفضوا ذلك، لأننا إذا قلنا: (وهو على عرشه المجيدِ بذاته) أثبتنا العلو، وهم لا يريدون ذلك بل يريدون أن يؤولوا كلامه ليوافق مذهبهم، من أجل أن ينتحلوا من ليس منهم.(21/341)
وإن أمامنا مثالاً واضحاً جلياً في مسألة الانتحال، فهذا الإمام زيد المشهور نسبة الزيدية إليه، والزيدية على منهج ومذهب المعتزلة ثم يقولون: نحن زيدية ، فيقال: ليس عند زيد ما يوافق به منهج الزيدية ، فإن زيداً وافق المعتزلة في مسألة واحدة فقط وهي مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي على أساسها خرج على بني أمية، ولم يكونوا كفاراً، بل كانوا حكام جور، وخرج من اتبعه من بعده على بني العباس، فخرجوا على أئمة الجور، ورغم هذا فنقول: لا نجزم أنه كان يعتقد هذا المبدأ للاعتقاد، لكن قد يكون رأى المصلحة في هذا الخروج. والمقصود أن الزيدية جاءوا من بعده ونسبوا كل مذهب المعتزلة إليه، وقالوا: من فضل زيد وشرفه وعلمه أنه تلقى المذهب على يد عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ، بئس الشيخ وبئس المعلم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ! لكن يظن الزيدية أنه مدح لزيد أن يقال عنه: إنه تلقى ذلك عنهما، كما يقولون أنهما تلقيا المذهب عن الحسن بن محمد بن الحنفية أو عن أبي هاشم ، ثم مع ظنهم أن الاعتزال شيء عظيم نسبوا أئمتهم إلى الاعتزال ونسبوا الاعتزال أيضاً إلى أئمتهم، وأغرب من ذلك أنك تجد في كتاب المنية والأمل ، وهو من كتبهم في الفرق يزعمون أن أول من قام بهذا المذهب الخلفاء الراشدون، حتى كادوا أن يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم على مذهبهم، فجعلوا أبا بكر وعمر على مذهبهم، ثم بعد ذلك جعلوا علياً على مذهبهم، ثم من بعده، فكأنهم يدعون أن مذهبهم هو الإسلام.
وهم ليسوا وحدهم في هذا، فقد قال المتكلمون : أول من بدأ الكلام عمر ؛ لأنه ناقش السارق في القدر، فقالوا: إن عمر جيء بسارق فقال له عمر : لم سرقت؟ فقال: هذا قدر الله، فقال عمر : [سرقت بقدر الله، ونقطع يدك بقدر الله ].(21/342)
إذن فعمر عندهم من أهل الكلام ، ورأيت كتاباً من الكتب التي تناولت نشأة الكلام، فوجدت فيه هذه العبارة، كما نسبوا إلى علي رضي الله تعالى عنه أنه ناقش أو ناظر رجلاً من القدرية ، وبهذا يكون متكلماً، يعني: كل من له رأي أو كلام أو شيء يتعلق بالعقيدة فهو عندهم متكلم، مع أن علم الكلام هو ضد التوحيد وضد العقيدة.
وتأتي الصوفية وتنتحل المشاهير، وهم في انتحالهم أشد ممن قبلهم، حتى قالوا: إن الخرقة نزل بها جبريل، وألبسها محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو ألبسها أبا بكر أو علياً ، وهكذا إلى أن وصلت إلى الحسن ، ومن ثم إلى أن وصلت إلى الجنيد ، إلى أن طارت إلى عبد القادر الجيلاني ، إلى أن وصلت إلى فلان، فسبحان الله! كيف ينتحلون هؤلاء وينسبونهم إلى ذلكم الباطل، فالادعاء كثير، لكن بعض هذا الادعاء له أصل وهو أن يكون هذا الإمام أو العالم أو المشهور المتبع قد وافق بعض جزئيات هذه البدعة، أو قال بشيء من جزئيات البدعة، فينسبونها كلها إليه، ويتركون ما هو من صريح كلامه في مخالفتهم، كما ذكرنا في مثال زيد ، فهم لا يقبلون ما ذكره زيد في أمور أخرى، فهم يأخذون بأقوال الأعلام الموافقة لهم ويلبسونهم ثوب الاعتزال ويجعلونهم جميعاً معتزلة .
وهذا ما يفعله الأشعرية في تأويل الصفات، فتجد بعضهم يقول: إن أوَّل من أوَّل: الصحابة ومن بعدهم، فيقولون: إن مجاهداً أوَّل قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] فقال: قدرته؛ وهذا تأويل، فنقول: هناك فرق بين نفي الصفة وبين تفسير الآية أو المعنى الكلي للآية، كما ينسبون إلى الصحابة نفي الصفات، فيقولون: إن ابن مسعود أوَّل؛ قلنا: ماذا أوَّل؟ قالوا: ألم يقل في قول الله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]: الهول والكرب والفزع؟!(21/343)
إذن فهم ينتحلون المشاهير من الأئمة، حتى وإن كانوا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وينسبونهم إلى مذهبهم، مع أننا نعلم ونجزم بأن هذا القول لو عرض على أحد هؤلاء الأئمة المتبوعين المشهورين بالعلم والدين لأنكره، بل لو قرءوا تاريخ أي واحد من الأئمة لوجدوا أنه ينكر بدعتهم إنكاراً شديداً وإن كان قد أخطأ فوافقهم في بعض جزئيات بدعتهم، فيقول: "ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير" فالخوارج انتحلوا كثيراً من المشاهير كما قالوا في حجر بن عدي ، وأبي بلال مرداس بن حدير وغيرهما، والقدرية انتحلوا الحسن البصري ونسبوا الحسن إلى القدر وقالوا: إمامنا في القدر: الحسن البصري !
سبحان الله! الحسن البصري يكون من أئمة المبتدعة؟ حاشاه والله! ولكن هذا مما سولت لهم أنفسهم.
اجتماع الطاعة والبدعة في الفرق والأعيان
من درس: حكم من قال بمقالات أهل الأهواء والبدع(21/344)
فقول المصنف: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين]، يعني اجتماع الوقوع في البدعة أو المعصية أو الذنب أو النفاق العملي مع محبة الله ورسوله والإيمان باطناً أمر متيقن به في طوائف كثيرة، هذا بالنسبة للفرق، وأيضاً عند أئمة في العلم والدين كثيرين، فيلاحظ اجتماع البدعة والطاعة، أو البدعة ومحبة الله ورسوله في الباطن حتى عند بعض الطوائف البدعية، ولذلك نجد الخوارج على سبيل المثال لم يكفرهم كثير من السلف ، وتوقف فيهم الإمام أحمد ، وظاهر كلامه أنه لا يكفرهم رحمه الله، وقد جاء في الحديث: {يمرقون من الدين } إلى آخره، لكن الخوارج في واقع أمرهم وحالهم في الباطن يحبون الله ورسوله، بغض النظر عمن غلا منهم ومرق من الدين، لكن أول من خرج منهم وهم القراء متيقن أن عندهم محبة الله ورسوله، ولهذا لما قيل لعلي رضي الله تعالى عنه: [أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قالوا: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً ]، يعني هم ليسوا كفاراً ولا منافقين، ويتضح ذلك من حالهم وشدة اجتهادهم في العبادة، وقراءتهم للقرآن ومحبتهم له، وحرصهم على الاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بالشيخين والترضي عنهما، فأصل مشكلة الخوارج كما تعلمون الغلو في الدين وليست في التفريط والتهاون، فالغلو هو الذي جعلهم يريدون أن يكون عثمان وعلي كأبي بكر وعمر ، ولم يقبلوا أن يكون الخليفة أقل في كماله أقل من أبي بكر وعمر والكمال العالي جداً لا يصله كل أحد، وهناك كمال أقل منه وهو كمال معتبر أيضاً، وقد كانت مشكلة الخوارج أنهم أرادوا أن يكون معيار الكمال معياراً واحداً لكل أحد، فهم في الباطن يحبون الله ورسوله؛ فهذا كمثال، ولهذا تجدون في مقابلهم دائماً الروافض وقد ذكرهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقابل الخوارج وما هم عليه في الباطن ، فالروافض هم(21/345)
الفرقة التي تجد قلوبها في الباطن مبنية على النفاق، فالأصل فيهم النفاق مع إظهار الخير والدين، ومحبة الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة الصحابة والمؤمنين أحياناً، لكن الباطن بخلاف ذلك، فأصل مذهبهم النفاق، وأما الخوارج فأصل مذهبهم الإخلاص، لكن لم يأتوا بالموافقة وبالمتابعة، والإخلاص ضد النفاق، هذا من حيث الأصل ككل، والفرق بعد ذلك تتشعب والأفراد يختلفون، وهذا أمر آخر، لكن كمبدأ عام فإن الفرقة الواحدة تتفرع، فالشيعة تفرع منهم الرافضة ، وكان من الشيعة غير الغلاة من يقدم علياً على عثمان رضي الله تعالى عنهما، أو فيهم تشيع يسير في المواقف العملية، لكنهم في حقيقة أمرهم أئمة وعلماء وعباد، ويحبون الله ورسوله، إلا أنهم وقعوا في هذه البدعة، وهي بدعة قد غَلَظَ فيها بعض السلف حتى قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار)؛ لأنهم بعد موته صلى الله عليه وسلم كانوا إذا تكلموا يقولون: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وهذا شائع ومشهور بينهم، ومن فضل علياً على عثمان وخالفهم في هذا الترتيب، فقد أزرى بهم، فكأنه احتقر عقولهم واحتقر رأيهم، إذن فمثل هؤلاء الشيعة عندهم حب الله ورسوله وفيهم الإيمان، ولكن وقعوا في مثل هذه البدعة، وتفاوتوا فيها، كما يوجد أناس في واقعنا المعاصر يقيمون البدع وينسبونها إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نستطيع نفي المحبة لله ورسوله عنهم، ولكننا نستطيع أن ننفي عنهم فعل الصواب والمتابعة والموافقة، وأنهم في هذا العمل لم يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوا سنته، ولم يوافقوا هديه وهدي خلفائه الراشدين وصحابته.(21/346)
فما دمنا لا نستطيع أن ننفي عنهم الإيمان في الباطن، فهم ليسوا كفاراً؛ لأنهم مع بدعتهم مسلمون، وهذا هو مقصود الشارح من قوله: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة، وأئمة في العلم والدين] فيوجد أئمة من أئمة العلم والدين والهدى يخطئون في بعض المسائل، يقول: [وفيهم بعض مقالات الجهمية ، أو المرجئة ، أو القدرية ، أو الشيعة ، أو الخوارج ، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة أي: بالمنهج كله، بل بفرع منها] وهذا فرق عظيم ومهم جداً، ونحن أمة العدل الذين أمرنا الله بالعدل؛ يجب أن نعدل وننصف في حكمنا على الأئمة وعلى الطوائف وعلى الناس مراعين هذا الجانب.
أخطاء بعض الأئمة في موافقتهم لمقالات أهل البدع
من درس: حكم من قال بمقالات أهل الأهواء والبدع
وفي إشارتنا إلى بعض الأئمة، نورد هنا مثالاً، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى أخطأ في مسألة الإيمان، وقال بقول المرجئة ، يعني: أخرج العمل من الإيمان، أو على الأقل فإن تلميذيه وصاحبيه أبا يوسف ومحمد بن الحسن بقيا ثابتين على ذلك.(21/347)
كما أن من الأمثلة ما جاء عن بعض المتأخرين الذين وافقوا الجهمية . ومنهم الإمام أبو حامد الغزالي الذي وافق في كتبه كلام الجهمية في نفي الصفات، فقد جاء عنه في الحديث الذي فيه أن الله سبحانه وتعالى يضع قدمه في نار جهنم، أنه يقول: يضع الجبار، والجبار اسم ملك، أو أن الجبار هو الشيطان، يعني يقول: إن التأويل لابد منه هنا، وعلى هذا فإن أبا حامد الغزالي وقع في بعض مقالات الجهمية ، ووقع أيضاً في بعض مقالات من هو أشد من الجهمية وهم الباطنية ، فتجدون كلام الغزالي عندما يتكلم عن العلم الباطن، والعلم الظاهر، وعالم الملكوت، وعالم الجبروت، وهذا مذهب الباطنية ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الناس العلم الظاهر، وكان هناك علم باطن اختص به علي بن أبي طالب أو اختص به فلاناً أو فلاناً، وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم! لكن هذا هو معتقدهم، فيأتي الإمام الغزالي رحمه الله ويكتب المضنون به على غير أهله -سبحان الله- ويقول: هذا العلم لا يقبله العامة، ويقول: هذه العلوم النفيسة لا تعطى للعامة.
يا رب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل أناس مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
يقول هذا الشاعر: هناك جوهر علم لا نبثه في الناس ولا نقوله؛ لأننا لو قلناه لقيل: هؤلاء ممن يعبدون الوثن ولتقرب المسلمون بدمائنا، وهم يرون ذلك من أفضل الأعمال، ولذلك فلن نبث ذلك العلم.
وهذا الأمر عجيب عنهم، فلماذا لا يظهرون هذا العلم لو كان حقاً؟!(21/348)
فوقع في كلام الغزالي رحمه الله ما هو من جنس كلام القرامطة الباطنية وأتباعهم، بل وقع في كلامه ما هو من جنس كلام الفلاسفة والمناطقة؛ حتى قال الغزالي رحمه الله في أول كتاب المستصفى : "من لم يتعلم المنطق وقواعده لا يوثق بعلمه"، وهذا شيء عجيب جداً وناقشه فيه الأئمة، حتى إن المازري رحمه الله رد عليه وكان من علماء المغرب في دولة المرابطين، وكانت كتب الغزالي تحرق حرقاً، إذ كيف يقول هذا الكلام، والصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم أوثق الناس علماً، ونحن نثق بعلمهم أعظم الثقة، لم يتعلموا قواعد المنطق، ولا من جاء بعدهم؟! فالمقصود أنه وقع في كلامه من جنس كلام هؤلاء، ومع ذلك فمن يستطيع أن يشهد ويتحمل القول بأنه في الباطن لا يحب الله ورسوله؟ هذا لا يقوله أحد.
ولهذا اختلف العلماء في حكمه وفي إعذاره وعدم إعذاره، ولكنهم لم يقولوا عنه: إنه كافر أو مرتد، إذن فالعالم يمكن أن يجتمع فيه محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والإيمان، ومع ذلك يقع في مثل هذه الأقوال وموافقة كلام الآخرين، ولو أن كل مبتدع يكفر؛ لقلنا: بكفر أناس لا نجزم نحن بأنهم في الباطن منافقون وكفار وزنادقة، لكننا نعتقد أنه تجتمع فيهم محبة الله ورسوله، والوقوع في هذه البدع.
فلو أن المسلمين فهموا هذه الأمور وأخذوا هذه القواعد الذهبية المستقيمة لما جاروا في الأحكام، فهم في حالين متعاكستين: إما غلو في المحبة يتناسون معه الأخطاء وإن كانت كبيرة وفادحة، وإما غلو في العداوة يتناسون معه الفضائل وإن كانت عظيمة وظاهرة.(21/349)
كما وقع الخطأ من بعض الشراح الكبار للحديث، فجاء في شروحهم موافقة لكلام غيرهم، حتى الحافظ ابن حجر رحمه الله نجد أنه ينقل كثيراً عن ابن فورك في كتابه، وينقل عن أبي المعالي الجويني تأويلات؛ خاصة عند شرحه كتاب التوحيد وإثبات الصفات من صحيح البخاري ، فماذا نقول في هؤلاء الأئمة؟ لا يحل لأحد أن يقول: إنهم في الباطن لا يريدون الحق، أو إنهم منافقون أو يكرهون الحق؟! لكننا نقول: إنهم أخطئوا فوافقوا غيرهم ووقعوا في أخطائه.
قال رحمه الله: [ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة] فنقول: هل يكون أحد من أئمة العلم والدين متمسكاً وقائماً بكل البدعة؟ يعني: هل يكون باطنياً كاملاً؟ إذا صار باطنياً كاملاً فقد خرج عن أهل السنة وليس بإمام في الدين، وهل يمكن أن يأخذ التجهم كاملاً، فيكون جهمياً من جميع الوجوه؟ أيضاً لا يكون ذلك، ولو كان كذلك لم يعد في العلماء والأئمة، وإنما يعد مع تلك الفرقة ومن أهلها.
وفي عصرنا الحاضر يوجد بعض العلماء الذين يعدون من الأئمة الدعاة ولهم فضل، وهم على خير، وقعوا في أخطاء مماثلة، فيقوم أحدهم رغبة منه في التعبير عن العدالة الاجتماعية في الإسلام فيقول: هذه اشتراكية في الإسلام، فهل نقول: هذا على مذهب لينين واستالين وجورباتشوف ؟ إننا سنكون عندئذٍ ظالمين وجائرين في الحكم؛ لأننا لا نستطيع أن نجزم بما في باطنه، ولا نعلم أنه في الباطن اشتراكي أو شيوعي أو غير ذلك، لكن نقول: هو أخطأ عندما أخذ بهذا الكلام.(21/350)
رجل آخر يقول: الديمقراطية هي الإسلام، فهل يعني هذا أنه ديمقراطي ومن دعاة الديمقراطية الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ويحكمون أهواء الناس وآراء الناس؟ كلا! لا يجوز ذلك، وليس هذا من العدل، ولكن نخطئ الفكرة وننقضها، أما الرجل فينظر إليه بحسب حاله، فقد يكون من أهل الخير والصلاح، وقد يكون مجرماً مفسداً أيضاً؛ لأنه لو كان ديمقراطياً مائة بالمائة، أو اشتراكياً مائة بالمائة، أو قومياً مائة بالمائة، لما كان من أهل الدين والدعوة والإيمان أصلاً، وإنما كان محسوباً في عداد أهل هذه المذاهب الباطلة.
من استكمل أصول مذهب معين صار من أهله
من درس: حكم من قال بمقالات أهل الأهواء والبدع
قاعدة مهمة: كل مذهب من المذاهب ومبدأ من المبادئ له أصول، من استكملها فقد استكمل المذهب، كما نقول: مذهب أهل السنة والجماعة له أصول، من استكملها فهو من أهل السنة ، ومن نقص واحداً منها نقص من أصول أهل السنة شيئاً، وتعرضنا لهذا في معرفة الفرق، ونقول: المعتزلي هو من يؤمن بالأصول الخمسة، فإن جاءنا من يوافق المعتزلة في أصلهم الذي يسمونه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يعني -عندهم-: الخروج على أئمة الجور، فهل نقول: هذا معتزلي بإطلاق؟ الجواب: لا. لكن نقول: هذا الرجل وافق المعتزلة في رأيهم في هذه القضية، ونقول: هو معتزلي في مسألة الخروج، فنقيد المسألة.(21/351)
ولو أن رجلاً آخر أخطأ في الإيمان -كبعض فقهاء الحنفية- لكنه في موضوع القدر والصفات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصحابة رضي الله تعالى عنهم، وجميع أبواب التوحيد على منهج أهل السنة ، فإن كان وافق المرجئة فنقول: هذا وافق المرجئة في الإيمان، وإن كان وافق المعتزلة فنقول: هذا وافق المعتزلة في الإيمان، ولذلك تجدون أن أعدل الناس هم أهل السنة ؛ لأن الله تعالى علم فيهم العدل والصدق والإخلاص، فرفع منزلتهم في الأمة، فهم في الجرح والتعديل يطلقون عدة عبارات، فيقولون عن فلان: فيه تشيع، وأحياناً يقولون: رافضي، وأحياناً يقولون: رافضي جلد، وأحياناً يقولون: سبئي، فهم يقولون في الرجل بحسب ما فيه، فلا يظلمونه ولا يزيدون على الحق، فهم يحكمون على الناس من خلال ما فيهم، فكل فرقة لها ضابط معين.
الرد على أهل الأهواء ليس شرطاً في صحة مذهب القائل به
من درس: حكم من قال بمقالات أهل الأهواء والبدع
وقد يكون ممن رد على بعض الفرق من وقع في بعض مقالتهم، فمثلاً ابن الجوزي رحمه الله في المنتظم وفي غيره من الكتب يهاجم الأشعرية هجوماً عنيفاً، وابن رشد يهاجم الأشعرية هجوماً عنيفاً، فلو وجدنا هذا الكلام عن ابن رشد ، فهل نقول: إنه من أهل السنة والجماعة ؛ لأنه يهاجم الأشاعرة ؟ لا. هو ليس كذلك، فابن رشد هذا شر من الأشاعرة ، فهم أقرب إلينا منه مع مهاجمته لهم؛ لأنه يقول قول الفلاسفة الذين هم أبعد الفرق في الانحراف حسب دوائر الانحراف والكفر التي رتبناها للفرق.(21/352)
إذن لا نقول: هذا من أهل السنة ؛ لأنه رد على الأشاعرة ، وكذلك ابن الجوزي رحمه الله رد عليهم، بينما تجده هو نفسه يؤول الصفات، ويتبع في ذلك شيخه ابن عقيل ، وشيخه ابن عقيل كان أقرب ما يكون من مذهب الاعتزال مع أنه حنبلي، وكذلك تلميذه ابن الجوزي كان حنبلياً، وقد وقع في شر مما وقع فيه الأشاعرة ، أو في مثله وهو يهاجمهم ويتكلم عليهم، لكن هو في نفس الوقت ليس من أهل السنة في هذه المسألة التي يقول فيها بخلاف قول أهل السنة ، يعني: نجد أنه اجتمع فيه أنه من أهل السنة في جوانب كثيرة، ولكن عنده تأويل في جوانب أخرى، وهكذا فلا نستطيع أن نقول: إنه أشعري لمجرد أنه أوَّل؛ لأنه هو نفسه يرد على الأشاعرة ، ولا نستطيع أن نقول: إنه من أهل السنة ؛ برده على الأشاعرة ؛ لأنه مع رده عليهم وقع فيما وقعوا فيه في أبواب أخرى، إذن فلابد من الميزان، وقد قال الله تعالى: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن:7] * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ [الرحمن:8] * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:9] لابد من الميزان العدل الذي نحكم به على الأفراد وعلى الجماعات وعلى الطوائف وعلى الأمم وعلى المواقف، ويكون الميزان هو ميزان العدل إن شاء الله في جميع أمورنا.
انتحال أهل الأهواء الانتساب للأئمة
من درس: حكم من قال بمقالات أهل الأهواء والبدع(21/353)
يقول المصنف: [ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة]، فلا نجد أبداً عالماً من أئمة الدين المتبوعين قائماً بجملة بدعة من البدع، يعني: آخذاً بمنهجها كله، لكن يحصل أنه يخطئ في مسألة أو يتابع في جزئية، فما يكون بعد ذلك من الأتباع إلا أن ينسبوه كله له ويتغاضون عن فضائله، فمثلاً الإمام مالك رحمه الله كان أول مذهبه في الصفات على منهج أهل السنة والجماعة ، وسار على منهجه أئمة المذهب المشهورون الكبار وظهر منهم الإمام ابن أبي زيد القيرواني الذي يسمونه مالكاً الصغير؛ لأنه أحيا وجدد ذكر الإمام مالك رحمه الله تعالى، فكتب الرسالة في فقه المالكية، وبدأه بمقدمة في العقيدة والإيمان -وهذه عادة طيبة وحسنة- والرسالة لابن أبي زيد يقال: إنها أول مدونة قانونية جمعت مواد تشريعية، وهو كتاب قيم ولا شك، وبالذات في المذهب، فمقدمة الرسالة مقدمة إيمانية سلفية ليس عليها غبار، فجاء من بعده وحاولوا أن يجعلوا الشيخ أشعرياً على مذهبهم، والشيخ ابن أبي زيد كلامه واضح، فمثلاً في مسألة العلو يقول: (وهو على عرشه المجيد بذاته) وهذا إثبات العلو (وفي كل مكان بعلمه) وهذه عبارة واضحة لا لبس فيها، فجاء الأشعرية ليؤولوا كلامه، فقالوا: (وهو على عرشه)، إلى هنا تنتهي العبارة، ثم تستأنف بقول: (المجيدُ بذاته)، أي أن الله مجيد بذاته، وهو حكيم بذاته، وعليم بذاته، أما أن يكون (وهو على عرشه المجيد) فتكون المجيد هنا صفة للعرش، فقد رفضوا ذلك، لأننا إذا قلنا: (وهو على عرشه المجيدِ بذاته) أثبتنا العلو، وهم لا يريدون ذلك بل يريدون أن يؤولوا كلامه ليوافق مذهبهم، من أجل أن ينتحلوا من ليس منهم.(21/354)
وإن أمامنا مثالاً واضحاً جلياً في مسألة الانتحال، فهذا الإمام زيد المشهور نسبة الزيدية إليه، والزيدية على منهج ومذهب المعتزلة ثم يقولون: نحن زيدية ، فيقال: ليس عند زيد ما يوافق به منهج الزيدية ، فإن زيداً وافق المعتزلة في مسألة واحدة فقط وهي مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي على أساسها خرج على بني أمية، ولم يكونوا كفاراً، بل كانوا حكام جور، وخرج من اتبعه من بعده على بني العباس، فخرجوا على أئمة الجور، ورغم هذا فنقول: لا نجزم أنه كان يعتقد هذا المبدأ للاعتقاد، لكن قد يكون رأى المصلحة في هذا الخروج. والمقصود أن الزيدية جاءوا من بعده ونسبوا كل مذهب المعتزلة إليه، وقالوا: من فضل زيد وشرفه وعلمه أنه تلقى المذهب على يد عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ، بئس الشيخ وبئس المعلم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ! لكن يظن الزيدية أنه مدح لزيد أن يقال عنه: إنه تلقى ذلك عنهما، كما يقولون أنهما تلقيا المذهب عن الحسن بن محمد بن الحنفية أو عن أبي هاشم ، ثم مع ظنهم أن الاعتزال شيء عظيم نسبوا أئمتهم إلى الاعتزال ونسبوا الاعتزال أيضاً إلى أئمتهم، وأغرب من ذلك أنك تجد في كتاب المنية والأمل ، وهو من كتبهم في الفرق يزعمون أن أول من قام بهذا المذهب الخلفاء الراشدون، حتى كادوا أن يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم على مذهبهم، فجعلوا أبا بكر وعمر على مذهبهم، ثم بعد ذلك جعلوا علياً على مذهبهم، ثم من بعده، فكأنهم يدعون أن مذهبهم هو الإسلام.
وهم ليسوا وحدهم في هذا، فقد قال المتكلمون : أول من بدأ الكلام عمر ؛ لأنه ناقش السارق في القدر، فقالوا: إن عمر جيء بسارق فقال له عمر : لم سرقت؟ فقال: هذا قدر الله، فقال عمر : [سرقت بقدر الله، ونقطع يدك بقدر الله ].(21/355)
إذن فعمر عندهم من أهل الكلام ، ورأيت كتاباً من الكتب التي تناولت نشأة الكلام، فوجدت فيه هذه العبارة، كما نسبوا إلى علي رضي الله تعالى عنه أنه ناقش أو ناظر رجلاً من القدرية ، وبهذا يكون متكلماً، يعني: كل من له رأي أو كلام أو شيء يتعلق بالعقيدة فهو عندهم متكلم، مع أن علم الكلام هو ضد التوحيد وضد العقيدة.
وتأتي الصوفية وتنتحل المشاهير، وهم في انتحالهم أشد ممن قبلهم، حتى قالوا: إن الخرقة نزل بها جبريل، وألبسها محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو ألبسها أبا بكر أو علياً ، وهكذا إلى أن وصلت إلى الحسن ، ومن ثم إلى أن وصلت إلى الجنيد ، إلى أن طارت إلى عبد القادر الجيلاني ، إلى أن وصلت إلى فلان، فسبحان الله! كيف ينتحلون هؤلاء وينسبونهم إلى ذلكم الباطل، فالادعاء كثير، لكن بعض هذا الادعاء له أصل وهو أن يكون هذا الإمام أو العالم أو المشهور المتبع قد وافق بعض جزئيات هذه البدعة، أو قال بشيء من جزئيات البدعة، فينسبونها كلها إليه، ويتركون ما هو من صريح كلامه في مخالفتهم، كما ذكرنا في مثال زيد ، فهم لا يقبلون ما ذكره زيد في أمور أخرى، فهم يأخذون بأقوال الأعلام الموافقة لهم ويلبسونهم ثوب الاعتزال ويجعلونهم جميعاً معتزلة .
وهذا ما يفعله الأشعرية في تأويل الصفات، فتجد بعضهم يقول: إن أوَّل من أوَّل: الصحابة ومن بعدهم، فيقولون: إن مجاهداً أوَّل قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] فقال: قدرته؛ وهذا تأويل، فنقول: هناك فرق بين نفي الصفة وبين تفسير الآية أو المعنى الكلي للآية، كما ينسبون إلى الصحابة نفي الصفات، فيقولون: إن ابن مسعود أوَّل؛ قلنا: ماذا أوَّل؟ قالوا: ألم يقل في قول الله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]: الهول والكرب والفزع؟!(21/356)
إذن فهم ينتحلون المشاهير من الأئمة، حتى وإن كانوا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وينسبونهم إلى مذهبهم، مع أننا نعلم ونجزم بأن هذا القول لو عرض على أحد هؤلاء الأئمة المتبوعين المشهورين بالعلم والدين لأنكره، بل لو قرءوا تاريخ أي واحد من الأئمة لوجدوا أنه ينكر بدعتهم إنكاراً شديداً وإن كان قد أخطأ فوافقهم في بعض جزئيات بدعتهم، فيقول: "ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير" فالخوارج انتحلوا كثيراً من المشاهير كما قالوا في حجر بن عدي ، وأبي بلال مرداس بن حدير وغيرهما، والقدرية انتحلوا الحسن البصري ونسبوا الحسن إلى القدر وقالوا: إمامنا في القدر: الحسن البصري !
سبحان الله! الحسن البصري يكون من أئمة المبتدعة؟ حاشاه والله! ولكن هذا مما سولت لهم أنفسهم.
مذهب أهل السنة في من وقع منه الخطأ
من درس: التكفير وضوابطه (الحلقة الحادية عشرة)(21/357)
قال المصنف: [فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون] وهذه قاعدة عظيمة في تعامل أهل السنة والجماعة مع الأمة حيث إنهم يخطئون ولا يكفرون، فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم لبعض، ومن مدائح أهل السنة أو أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون، فالخطأ واضح ويستدل على أنه خطأ، ثم صاحب الخطأ قد يكون كافراً، وقد يكون مبتدعاً، وقد يكون غير ذلك، لكن ما يهمهم هو بيان الخطأ، ولذلك عندما يتكلم أهل السنة في حق أحدٍ من أهل القبلة يحرصون من أجل بيان الحق على أن يقولوا: أخطأ فلان، ويبينون خطأه، دون تكفير، أما أهل البدع فإنهم لمجرد أي مخالفة يحكمون على المخطئ بالكفر، فنجد هؤلاء يقولون لخصومهم: أنتم تكفرون لأنكم مشبهة، فيردون عليهم قائلين: وأنتم تكفرون لأنكم معطلة ، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: هؤلاء على ضلال وبدعة، وهؤلاء على ضلال وبدعة، والكل مخطئ، أما الكفر فقد يكون وقد لا يكون، فهم يفرقون بين المعين الفرد وبين الحكم المطلق، ويفرقون بين القول وبين القائل، ويفرقون بين جملة البدعة -الذي نسميه نحن في عصرنا هذا المنهج- وبين من يقول بجزئية من جزئياتها، حتى إنه يأتيك الإنسان ويقول: أنا من المعتزلة ، وربما يقولها بلسانه وهو لا يفقه ولا يعرف عن مذهب المعتزلة شيئاً، إنما سمع أن المعتزلة فرقة إسلامية تحرر العقل وتدعو إلى التفكر، فنسب نفسه إليها ظناً منه أنه نسب نفسه إلى الحرية العقلية، فنقول له: هل تقر بالأصول الخمسة؟ فيتبين أنه لا يعرف أصولاً خمسة ولا أربعة ولا يعرف شيئاً من مذهب المعتزلة ، فحتى مع دعوى بعض الناس أنه معتزلي أو غير ذلك من الأوصاف، فقد لا ينطبق عليه ذلك الوصف، فمن عدل أهل السنة والجماعة أنهم يرفقون به حتى وإن اعترف، فيبدءون ببيان هذه العقيدة لمعتقدها حتى يتضح له أنه كان مخطئاً، وأنها خلاف ما كان يرى، فربما كان ذلك سبباً لرجوعه عن هذه العقيدة،(21/358)
فأهل السنة أرحم به حتى من نفسه، وهذه ميزة من ميزات أهل السنة والجماعة .(21/359)
التنبيه على ما في كتاب
الخلافات السياسية بين الصحابة
من الادعاءات والمغالطات والتمويه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما حمد نفسه ، وفوق ما حمده به عباده، والحمد لله على ما هدى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والحمد لله على ما من به من رجال صادقين اختارهم لصحبته ، نظر في قلوب الخلق فوجدهم أبر الخليقة قلوبا، وأنقاها سريرة ، وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، فاختارهم له أصحابا ووزرا ء؛ فكانوا خير صحب لخير نبي بعثه الله لهداية البشر ، آثروه على الأهل والولد والخل والصديق والوطن ، هجروا كل هذا من أجله ، وآووه وأصحابه المستضعفين حين رمتهم الجاهلية كلها عن قوس واحدة بالعداوة ، وآثروهم بأموالهم حين منعتهم الجاهلية من الضرب في الأرض وابتغاء الرزق فيها .
فاستحقوا بفعالهم المشرفة ، أن يسجلها الله لهم في كتابه إشادة بفضلهم، وتأكيدا لصدق إيمانهم، وأنه حق لا ادعاء ، وشحذا لهمم الخلف من بعدهم في البذل لهذا الدين كما فعلوا .(22/1)
- ( (( - - - رضي الله عنه - - - { ((( - ( - - رضي الله عنه -((( - ( - (- رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - ( - ( - ( - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - (- عليه السلام - قرآن كريم ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((- رضي الله عنه - - ( تمهيد - رضي الله عنه - - الله - (( - ( - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( - - - - - الله أكبر (- عليه السلام - قرآن كريم ((( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - (( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { - - - ((( - - - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - درهم (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( - ( - ( - - - ((( - رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(( { قرآن كريم - رضي الله عنه - - - - - عليه السلام - - - } - - - - - صدق الله العظيم (- رضي الله عنهم - - - تمهيد { - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - ( - ( - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم - - (- رضي الله عنه -( - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنهم - - ( المحتويات ( - ( - - - ( { - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -((22/2)
- ( - - - - (( ( المحتويات ( - ( - - صلى الله عليه وسلم -( - (( - { - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - فهرس - - - - ( } تم بحمد الله } - قرآن كريم ( - - صلى الله عليه وسلم -( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( - ( } (( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - - - ( المحتويات ( - ( - ( { - ( - - (- رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم ( - - - ( { (( مقدمة ( - ((- رضي الله عنه - الله أكبر - درهم (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( ( المحتويات ( - - - قرآن كريم ( - ( - ((( - ( - - - ((( - ((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(( - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - ((- رضي الله عنه - - - - قرآن كريم ( - قرآن كريم ( { - رضي الله عنه - - - - عليه السلام - - ( - - عليه السلام - - ( - (((( - - - - - جل جلاله - - - - - - جل جلاله -( الله أكبر (- عليه السلام - قرآن كريم ( - - { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ((( - { - - - - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ( { - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - ( صدق الله العظيم (- رضي الله عنهم - - - تمهيد { - - ( - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - رضي الله عنهم -(( - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله - (( - - عليه السلام - - ( - قرآن كريم(22/3)
( - ( - - رضي الله عنهم - - (( - رضي الله عنه -((( - { - ( - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( - - - - جل جلاله -( - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - } الله أكبر ( { ( - - صلى الله عليه وسلم -((- عليه السلام - - ( - (( مقدمة { - (((( (
(الحشر 008-010)
ولم تكن هذه الآيات وحيدة في الثناء عليهم ، بل الآيات كثيرة في ذلك ،وسيأتي بعضها في هذه الرسالة.
وكذلك السنة قد امتلأت بذكر فضائلهم وجميل خصالهم .
فلم يكن لأهل العلم والإيمان بد من محبتهم ، وموالاتهم ، ونشر محاسنهم وكبت من يتنقصهم أو يسبهم .
فقاموا بذلك خير قيام ، فلا تقرأ كتابا من كتب السنة التي ألفها أهل العلم لبيان الدين ، إلا وجدت فيها كتاب مناقب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، يزهو بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بكل خير ، ويدفع عنهم كل شين .
حتى صار من اعتقاد أهل العلم والإيمان في هؤلاء البررة الأخيار، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؛أنهم لا يذكرون إلا بالجميل . ومن ذكرهم بغير ذلك فهو على غير السبيل .
ومن علامة خذلان الرجل عندهم غمزه أحدا من الصحابة .
وقالوا:" لا يبسط لسانه فيهم إلا من ساءت طويته في النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والإسلام والمسلين" الإمامة لأبي نعيم (ص376)
ولما أقر الله عين نبيه صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الصحب الأوفياء له و لرسالته ، وأيقن أنهم عليها أمناء ، حفظا وتبليغا ، وجهادا من أجلها ، اختار مجاورة ربه في الرفيق الأعلى ، فنقله الله إلى ما أحب .
فكان الصحابة كما ظن صلى الله عليه وسلم، فبعد أن أخمدوا نار فتنة الردة التي كادت تعم جزيرة العرب . وانتصروا على أكبر تحد واجه هذا الدين .(22/4)
امتطوا صهوات جيادهم ، وظهور جمالهم إلى أكبر ، دولتين تعوقان انتشار هذا الدين ، وتهددان وجوده، وهما مملكة كسرى في الشرق وقيصر في الشمال ، ولم تمض سنوات قلة حتى قلموا أظفارهما وشلوا خطرهما .
بعد كسروا هاتين الدولتين أدرك أعداء هذا الدين أنه لا يمكن مجابهة هذا الدين وأهله بالحجة والبرهان، ولا بالسيف والسنان، ولكن بالكيد والدس ، والتشكيك في نقلته الأمناء وهم الصحابة الكرام ، الذين نقلوا لنا هذا الدين علما وعملا.
فقام بهذه الدسيسة ، وهي التشكيك في عدالة الصحابة ، وفي سلامة فهمهم للدين . اليهودي الماكر الخبيث عبد الله بن سبأ ووجد في جهلة المسلمين الذين أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم :بأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم أي لا يتفقهون فيه، من أصغى إلى إفكه ، حتى قام بهم إلى أفضل رجل في ذلك الزمن من الصحابة ، فقتلوه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
والويل للركب الذين سعوا إلى*** عثمان فاجتمعوا على العصيان
ثم تولى كبر هذا الإفك بعد ه الرافضة أكذب من خلق الله وأشده نفاقا .
ثم شايعهم على هذا الإفك في هذا العصر مردة الكفر من اليهود والنصارى المدعوون بالمستشرقين .
ثم من تتلمذ عليهم من منافقي العرب كطه حسين ومن على شاكلته من تلاميذ المستشرقين .
وقد تأثر بذلك الهراء بعض المسلمين الذين نحسبهم من أهل الخير والباحثين عنه ، ولكن ضعف معرفتهم بالعقيدة الإسلامية ، واستسقاؤهم أخبار الصحابة من غير المصادر الصحيحة، جعلهم فريسة سهلة لهذه الشبه ، هذا مع ضعفهم الشديد في التأصيل العلمي ، وإن كان عندهم ثقافة إسلامية عامة .
وقد وقع في يدي كتاب لمحمد بن المختار الشنقيطي عنونه " الخلافات السياسية بين الصحابة ".
فوجدته ينحو منحى من دخلت عليه بعض هذه الشبه ؛فطعن في عدالة الصحابة وردد عنهم بعض ما يردده المستشرقون وأذنابهم .(22/5)
ولما كان الكاتب له قراء من شباب الصحوة في قطرنا القطر الشنقيطي ،وأغلبهم من الشباب المحبين للخير لكن ينقصهم العلم الشرعي الذي ترد به الشبهة الباطلة ، وكان الكتاب ملئ بها ، رأيت من الواجب علي أن أبين ما فيه من الباطل حتى لا يضل به هؤلاء الشباب.
والمقصد الثاني الذب عن الصحب الأخيار ، و الله لا خير فينا إن لم نغضب لهم وندرأ عنهم سهام الذم والتنقص.
فكانت هذه التنبيهات على ما رأيت أن الكاتب قد خالف فيه الحق .
وقسمتها إلى فصول .
الفصل الأول التنبيه على ماوقع فيه الكاتب من أخطاء ، تتعلق بعقيدة أهل السنة حول الصحابة ، وفيه خمس تنبيهات .
التنبيه الأول ـ موقف أهل السنة من عدالة الصحابة وبيان مخالفة رأي الكاتب لما أجمعوا عليه في هذه المسألة .
التنبيه الثاني ـ موقف أهل السنة من سب الصحابة وإيضاح مخالفته لما ادعاه الكاتب .
التنبيه الثالث ـ وجوب الكف عن ذكر ما جرى بين الصحابة على وجه الطعن به عليهم ، ومنزلة هذا الكف من الدين ، وكشف مخالفة الكاتب فيه ، وبيان مخالفته لجميع أهل العلم فيما قال عنه .
التنبيه الرابع ـ رد ما ادعاه الكاتب عن موقف أهل السنة من الخوض في ما شجر بين الصحابة ، وإظهار أن موقفهم فيه واحد .
التنبيه الخامس ـ المصادر التي استقى الكاتب منها أقواله المخالفة لما عليه أهل العلم من أهل السنة ، في قضية الصحابة .
الفصل الثاني ـ رد ما ادعاه الكاتب من التزامه العلم والعدل في كتابه ، وتبين أنه لا يعدو كونه دعوى قدم الكاتب بها كتابه لإيجاد نوع تقبل من القارئ لما يقول وفيه التنبيهات الآتية .
التنبيه الأول ـ بيان أن الكاتب لم يلتزم العلم فيما تكلم فيه من علم الحديث وتحته الوقفات التالية .
مستوى الكاتب في علم الحديث تنظيرا .
ما ترتب عن ذلك من تطبيق له .
الأمانة العليمة في نقله لكلام أهل العلم على الأحاديث والرجال .(22/6)
التنبيه الثاني ـ بيان أن الكاتب لم يلتزم العم أو العدل في أحكامه التاريخية .
الفصل الثالث ـ كشف بطلان ما موه به الكاتب في كتابه ، من التزام منهج ابن تيمية في كلامه على الصحابة .
التنبيه الأول ـ عرض موقف شيخ لإسلام من الخلاف الذي جرى بين الصحابة وجمعه من كتبه ، وإيضاح أنه لا يختلف عما عليه أهل السنة الآخرين .
التنبيه الثاني ـ كشف ما ادعاه الكاتب على شيخ الإسلام من مسائل ، قوّله إياها وهو لم يقل بها .
الفصل الرابع ـ المصطلحات التي استخدم الكاتب في كتابه .
وفيه تنبيهان .
مدرسة التشيع السني ، ورد ما ادعاه عليها .
المصطلحات الفلسفية التي عبر بها عن مسائل شرعية .
الفصل الخامس القواعد التي يجب على الكاتب عن حياة الصحابة التزامها .
وفيه التنبيهات الآتية .
ا ـ عدالة الصحابة العدالة الدينية .
ب ـ إحسان الظن بالصحابة .
ج ـ الابتعاد عن المصادر المعادية ، الأصلية ، والتبعية .
وسميت هذا الكتاب التنبيه على ما في " كتاب الخلافات السياسية بين الصحابة" من الادعاءات والمغالطات والتمويه .
وهذا أوان الشروع في المقصود .
الفصل الأول التنبيه على ماوقع فيه الكاتب من أخطاء ، تتعلق بعقيدة أهل السنة حول الصحابة ، وفيه خمس تنبيهات .
التنبيه الأول ـ موقف أهل السنة من عدالة الصحابة وبيان مخالفة رأي الكاتب لما أجمعوا عليه في هذه المسألة .
وأول نقطة أناقش فيها الكاتب في كتابه ، قوله إن عدالة الصحابة التي يحكي المحدثون عليها الإجماع ، هي ما يتعلق بالرواية ، لا العدالة الدينية التي يذكرها الفقهاء .
قال الكاتب في ص 150(22/7)
"ومن المصطلحات التي وقع فيها اللبس واستحالت حاجزا ذهنيا ونفسيا أمام دراسة تلك الحقبة مصطلح "عدالة الصحابة " فقد خلط كثيرون بين عدالة الرواية ـ والمطلوب فيها هو الصدق والتدقيق في المروي ـ وعدالة السلوك بمعناها الفقهي القضائي التي تستلزم "اجتناب الكبائر وعدم الوقوع في الصغائر إلا نادرا ، واجتناب المباح القادح في المروءة "كما يقول الفقهاء .
وعدالة الصحابة التي يتحدث عنها أهل الحديث ليست سوى عدالة الرواية ... "
وقال في ص 152
"لكن بعض المتأخرين أساء فهم عدالة الصحابة ، وفهموا من هذا المصطلح أن الصحابي لا يذنب إلا متأولا ، وأن كل ما صدر عن بعضهم من اختلاف واقتتال مجرد اجتهاد ، ولا مجال فيه للهوى و المطامح الدنيوية . وهذا غلو وتنكر لحقائق الشرع والتاريخ والطبيعة البشرية " .
وقال في ص 154
" فإن تحويل عدالة الرواية هنا إلى عدالة في السلوك يشمل كل الصحابة خلط في الاصطلاح ، وتنكر للحقيقة الساطعة لا يليق بالمسلم الذي يؤثر الحق على الخلق مهما سموا ."
وقال :
"إن الذي يسوي بين عمار بن ياسر وبين قاتله أبي الغادية الجهني في العدالة وفي الاجتهاد المأجور صاحبه سواء أخطأ أم أصاب .. لهو ممن لا بصيرة لهم ."
النقاط موضع النقاش هي :
1ـ العدالة عند المحدثين هل هي ما ذكر الكاتب عنهم من عدم إدخالهم فيها الجانب السلوكي ؟ ويكتفون فيها بأن يكون الموصوف بها صادقا فيما يحدث به مدققا فيه ؟.
2ـ هل هناك فرق بين العدالة عند المحدثين والفقهاء كما قال الكاتب ؟ .
3ـ عدالة الصحابة عند المحدثين .
العدالة عند المحدثين كما ذكرها عنهم الكاتب " الصدق والتدقيق في المروي " لا علاقة لها بالعدالة الدينية التي يذكرها الفقهاء .(22/8)
ولم يذكر الكاتب لما قال نقلا واحدا عن أهل الحديث يحتج به لما ذكر عنهم ، لأنه لن يجده فأهل الحديث مجمعون على أن أهم جانب في العدالة هو الجانب السلوكي ، والجرح به أشد من الجرح بالجوانب الأخرى من الغفلة وسو ء الحفظ .
وهذه بعض النقول عنهم تدل على خلاف ما ذكر عنهم .
قال الشافعي :
"ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا منها أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدث به، عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ ، وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع ، لا يحدث به على المعنى ، لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه ـ:لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام. وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث ، حافظا إذا حدث به من حفظه ، حافظا لكتابه إذا حدث من كتابه . إذا شَرِك أهل الحفظ في حديث وافق حديثهم ، بريا من أن يكون مدلسا : يحدث عن من لقي ما لم يسمع منه ، ويحدث عن النبي ما يحدث الثقات خلافه عن النبي" .
(الرسالة ص370)
وقال ابن أبي حاتم :
قال أبو محمد: " فلما لم نجد سبيلا إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله ولا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة النقل والرواية وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم ، وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة .(22/9)
ولما كان الدين هو الذي جاءنا عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بنقل الرواة حق علينا معرفتهم ووجب الفحص عن الناقلة والبحث عن أحوالهم ، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة والتثبت في الرواية مما يقتضيه حكم العدالة في نقل الحديث وروايته ، بأن يكونوا أمناء في أنفسهم علماء بدينهم ، أهل ورع وتقوى وحفظ للحديث وإتقان به وتثبت فيه ، وأن يكونوا أهل تمييز وتحصيل لا يشوبهم كثير من الغفلات ، ولا تغلب عليهم الأوهام فيما قد حفظوه ووعوه ، ولا يشبه عليهم بالأغلوطات .
وأن يعزل عنهم الذين جرحهم أهل العدالة وكشفوا لنا عن عوراتهم في كذبهم وما كان يعتريهم من غالب الغفلة وسوء الحفظ وكثرة الغلط والسهو والاشتباه ، ليعرف به أدلة هذا الدين وأعلامه وأمناء الله في أرضه على كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهم هؤلاء أهل العدالة ، فيُتمسك بالذي رووه ، ويعتمد عليه ، ويحكم به ، وتجري أمور الدين عليه "
(الجرح والتعديل 1 /5)
وقال ابن حبان:
وأما شرطنا في نقلة ما أودعناه كتابنا هذا من السنن ، فإنا لم نحتج فيه إلا بحديث اجتمع في كل شيخ من رواته خمسة أشياء:
الأول العدالة في الدين بالستر الجميل.
والثاني الصدق في الحديث بالشهرة فيه.
والثالث العقل بما يحدث من الحديث .
والرابع العلم بما يحيل من معاني ما يروي .
والخامس المتعري خبره عن التدليس . فكل من اجتمع فيه هذه الخصال الخمس، احتججنا بحديثه وبنينا الكتاب على روايته، وكل من تعرى عن خصلة من هذه الخصال الخمس لم نحتج به ، والعدالة في الإنسان : هو أن يكون أكثر أحواله طاعة الله ، لأنا متى ما لم نجعل العدل إلا من لم يوجد منه معصية بحال ؛ أدانا ذلك إلى أن ليس في الدنيا عدل ، إذ الناس لا تخلو أحوالهم من ورود خلل الشيطان فيها ، بل العدل من كان ظاهر أحوله طاعة الله ، والذي يخالف العدل من كان كثر أحواله معصية الله.
(صحيح ابن حبان 1 / 151)(22/10)
قال الحاكم :
"وقد ذكرت في كتاب المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل : أنواع العدالة على خمسة أقسام ، والجرح على عشرة أقسام ، وتكلمت في هذه الكتب على الجرح والتعديل مما يغنى عن إعادته ،واستشهدت بأقاويل الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين.
وأصل عدالة المحدث: أن يكون مسلما ،لا يدعو إلى بدعة ، ولا يعلن من أنواع المعاصي ما تسقط به عدالته ، فإن كان مع ذلك حافظا لحديثه فهي أرفع درجات المحدثين ".
(معرفة علوم الحديث66)
قال الخطيب البغدادي :
حدثني أبو الفضل محمد بن عبيد الله المالكي أنه قرأ على القاضي أبى بكر محمد بن الطيب قال :"والعدالة المطلوبة في صفة الشاهد والمخبر ، هي العدالة الراجعة إلى استقامة دينه ، وسلامة مذهبه ، وسلامته من الفسق ، وما يجرى مجراه مما اتفق على أنه مبطل العدالة من أفعال الجوارح والقلوب المنهي عنها، والواجب أن يقال في جميع صفات العدالة إنها اتباع أوامر الله تعالى ،والانتهاء عن ارتكاب ما نهى عنه ، مما يسقط العدالة، وقد علم مع ذلك أنه لا يكاد يسلم المكلف من البشر من كل ذنب، ... فيجب لذلك أن يقال : إن العدل هو من عرف بأداء فرائضه ، ولزوم ما أمر به ، وتوقى ما نهى عنه ، وتجنب الفواحش المسقطة ، وتحرى الحق الواجب في أفعاله ومعاملته ، والتوقي في لفظه مما يثلم الدين والمروءة ، فمن كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه .
(الكفاية في علم الرواية 52)
قال الحازمي :
" وصفة العدالة هي اتباع أوامر الله تعالى والانتهاء عن ارتكاب ما نهى عنه ، وتجنب الفواحش المسقطة ، وتحري الحق ، والتوقي في اللفظ مما يثلم الدين والمروءة ، وليس يكفي في ذلك اجتناب الكبائر حتى يجتنب الإصرار على الصغائر ، فمتى وجدت هذه الصفات كان المتحلي بها عدلا مقبول الشهادة والرواية ."
(شروط الأئمة الخمسة ص 184 )
ذكر الكاتب أنه يوجد فرق بين العدالة عندن أهل الحديث والفقهاء .(22/11)
فقال " فقد خلط كثيرون بين عدالة الرواية ـ والمطلوب فيها هو الصدق والتدقيق في المروي ـ وعدالة السلوك بمعناها الفقهي القضائي التي تستلزم "اجتناب الكبائر وعدم الوقوع في الصغائر إلا نادرا ، واجتناب المباح القادح في المروءة "كما يقول الفقهاء .
ولم ينقل دليلا من كلام أحد من الفريقين : أهل الحديث وأهل الفقه .
وهذه نقول عن بعض أهل العلم من الفريقين تردّ ما ذكر .
قال ابن جماعة :
" الأول أجمع جماهير أئمة العلم بالحديث والفقه والأصول على أنه يشترط فيمن يحتج بحديثه العدالة والضبط ، فالعدالة أن يكون مسلما بالغا عاقلا سليما من الفسق وخوارم المروءة ."
(المنهل الروي 1 / 63 )
قال الآمدي :
"الشرط الرابع أن يكون الراوي متصفا بصفة العدالة ، وذلك يتوقف على معرفة العدل لغة وشرعا .
أما العدل في اللغة : فهو عبارة عن المتوسط في الأمور من غير إفراط في طرفي الزيادة والنقصان ومنه قوله تعالى:( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) أي عدلا ، فالوسط والعدل بمعنى واحد، وقد يطلق في اللغة ويراد المقابل للجور ، وهو اتصاف الغير بفعل ما يجب له ، وترك ما لا يجب ، والجور في مقابلته ، وقد يطلق ويراد به ما كان من الأفعال الحسنة يتعدى الفاعل إلى غيره ، ومنه يقال للملك المحسن إلى رعيته : عادل .
وأما في لسان المتشرعة ، فقد يطلق ويراد به أهلية قبول الشهادة والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الغزالي في معنى هذه الأهلية إنها عبارة عن استقامة السريرة والدين ، وحاصلها يرجع إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا ، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه .
وذلك إنما يتحقق باجتناب الكبائر وبعض الصغائر وبعض المباحات....(22/12)
وأما بعض المباحات فما يدل على نقص المروءة، ودناءة الهمة ، كالأكل في السوق ، والبول في الشوارع ، وصحبة الأراذل والإفراط في المزح ، ونحو ذلك مما يدل على سرعة الإقدام على الكذب، وعدم الاكتراث به . ولا خلاف في اعتبار اجتناب هذه الأمور في العدالة المعتبرة في قبول الشهادة والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن من لا يجتنب هذه الأمور أحرى أن لا يجتنب الكذب ، فلا يكون موثوقا بقوله، ولا خلاف أيضا في اشتراط هذه الأمور الأربعة في الشهادة"
(الإحكام للآمدي 2 / 88)
عدالة الصحابة عند المحدثين هل هي عدالة رواية كما ذكر الكاتب ؟ أم أنها عدالة ديانة ؟ .
ونترك أعلم الناس بمذاهبهم يحدثنا عن ذلك ، ولكن بعد أن نعرف القراء مكانته بين أهل هذا الشأن علماء الحديث .
المتحدث إلينا عن ذلك هو الخطيب البغدادي .
قال الحافظ ابن حجر في نزهة النظر وهو يتحدث عن التأليف في علوم الحديث : ثم جاء من بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي ، فصنف في قوانين الرواية كتابا سماه "الكفاية " وفي آدابها كتابا سماه "الجامع لآداب الشيخ والسامع " وقل فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابا مفردا ، فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة : " كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه "
كفى بها شهادة من الحافظ ابن نقطة للخطيب وموافقة الحافظ ابن حجر له عليها .
قال الخطيب البغدادي :
باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة
وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم ، وإنما يجب فيمن دونهم .(22/13)
كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله ، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم في نص القرآن ، فمن ذلك قوله تعالى :(كنتم خير أمة أخرجت للناس ) وقوله : (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) وهذا اللفظ وان كان عاما فالمراد به الخاص ، وقيل هو وارد في الصحابة دون غيرهم . وقوله : ( لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ) وقوله تعالى: ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه) وقوله تعالى: ( والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ) وقوله : ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) وقوله تعالى:( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )
في آيات يكثر إيرادها، ويطول تعدادها ، ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة مثل ذلك وأطنب في تعظيمهم وأحسن الثناء عليهم .
فمن الأخبار المستفيضة عنه في هذا المعنى ..
ثم ساق الخطيب بإسناده بعض الأحاديث المؤكدة لمعنا الآيات التي ذ كر .
عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجىء قوم تسبق أيمانهم شهادتهم ويشهدون قبل أن يستشهدوا " ..(22/14)
عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال أبو هريرة فلا أدرى ذكره مرتين أو ثلاثا ثم يخلف من بعدهم قوم يحبون السمانة ويشهدون ولا يستشهدون "
عن عمران بن حصين قال قال :" رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يخلف قوم تسبق أيمانهم شهادتهم ثم يظهر فيهم السمن "
عن أبى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تسبوا أصحابي فالذي نفسي بيده لو انفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " ..
والأخبار في هذا المعنى تتسع ، وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن ، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة ، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم ، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالىلهم المطلع على بواطنهم ، إلى تعديل أحد من الخلق له ، فهو على هذه الصفة إلا أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل الا قصد المعصية ، والخروج من باب التأويل ، فيحكم بسقوط العدالة ، وقد برأهم الله من ذلك ، ورفع أقدارهم عنه ، على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه ، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة ، والجهاد والنصرة ،وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء والاولاد ، والمناصحة في الدين ، وقوة الإيمان واليقين ، القطع على عدالتهم ، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين ، الذين يجيؤن من بعدهم أبد الآبدين.
هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء .
وذهبت طائفة من أهل البدع إلي أن حال الصحابة كانت مرضية إلى وقت الحروب التي ظهرت ، بينهم وسفك بعضهم دماء بعض ، فصار أهل تلك الحروب ساقطي العدالة ، ولما اختلطوا بأهل النزاهة وجب البحث عن أمور الرواة منهم .(22/15)
وليس في أهل الدين ، والمتحققين بالعلم ، من يصرف إليهم خبر ما لا يحتمل نوعا من التأويل وضربا من الاجتهاد ،فهم بمثابة المخالفين من الفقهاء المجتهدين في تأويل الأحكام لإشكال الأمر والتباسه، ويجب أن يكونوا على الأصل الذي قدمناه من حال العدالة والرضا؛ إذ لم يثبت ما يزيل ذلك عنهم .
أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى الهمذاني ثنا صالح بن أحمد الحافظ قال سمعت أبا جعفر أحمد بن عبدل يقول سمعت أحمد بن محمد بن سليمان التستري يقول سمعت أبا زرعة يقول : " إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم انه زنديق ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق ،والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة . والجرح بهم أولى وهم زنادقة "
(الكفاية في علم الرواية 46 ـ الكفاية في علم الرواية ـ 51)
قال الإمام ابن أبي حاتم :(22/16)
" فأما أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التفسير والتأويل وهم الذين اختارهم الله - عز وجل - لصحبة نبيه – صلى الله عليه وسلم – ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه فرضيهم له صحابة وجعلهم لنا أعلاما وقدوة فحفظوا عنه – صلى الله عليه وسلم – ما بلغهم عن الله - عز وجل - وما سن وما شرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وأدب ، ووعوه وأتقنوه ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله وتلقفهم منه واستنباطهم عنه ، فشرفهم الله - عز وجل - بما مَنَّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز وسماهم عدول الأمة ، فقال - عز ذكره - في محكم كتابه : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } (البقرة آية (143) ففسر النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الله - عز ذكره - قوله : ( وسطاً قال : عدلاً ، فكانوا عدول الأمة وأئمة الهدى وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة . وندب الله -عز وجل - إلى التمسك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم فقال : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى... } ( النساء آية (115
(كتاب الجرح والتعديل 1/7) .
قال ابن عبد البر :
"الصحابة كلهم عدول ، مرضيون ، ثقات ، أثبات ، وهو أمر مجتمع عليه عند أهل العلم بالحديث".
(التمهيد 22/47)
قال القرطبي :(22/17)
فالصحابة كلهم عدول ، أولياء الله تعالىوأصفياؤه ، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله ، هذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة . وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم ؛ فيلزم البحث عن عدالتهم ، ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر ، فقال : إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك ، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء ، فلا بد من البحث . وهذا مردود ، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ، ممن أثنى الله عليهم ، وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ، ووعدهم الجنة بقوله تعالى(مغفرة وأجرا عظيما) ، وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول ، هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخبارهم لهم بذلك ، وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد... " .
(تفسير القرطبي 16 / 254 )
قال النووي :
"ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين" .
(شرح مسلم 15 / 149 )
قال ابن حزم :
"والصحابة كلهم عدول رضي الله عنهم لثناء الله تعالى عليهم" .
(المحلى 5 /92)
فبان بما قدمنا أن عدالة الصحابة العدالة الدينة بمعناها السلوكي، وهو اجتناب الكبائر والإصرار على الصغائر، واجتناب ما يقدح في المروءة ، إجماع من المتقدمين من أهل الحديث والفقه والأصول ، لا كما أراد الكاتب أن يصور للناس من أنه فهم خاطئ للمتأخرين .
أقاويل لا تعزى إلى عالم فلا تساوي فلساً إن رجعت إلى نقض
التنبيه الثاني ـ موقف أهل السنة من سب الصحابة وإيضاح مخالفته لما ادعاه الكاتب .
قال في ص 149(22/18)
"إن مصطلحات " السب " و " الشتم " و " الذم " في سياق الفتن السياسية في صدر الإسلام لا تعني شيئا آخر غير اللعن ، رغم أن هذه الألفاظ في وضعها اللغوي تشمل ما دون ذلك من أية أوصاف مستهجنة ".
والنقاش سيتركز على النقاط التالية .
1ـ هل للكاتب سلف في هذا القول .
2ـ خطورة هذا القول والكاتب نموذج .
3ـ مناقشة تمويهات الكاتب في استدلالاته لما ذكر .
لن أ ناقش المؤلف في المعنى اللغوي للسب فقد اعترف أنه في معناه اللغوي يشمل اللعن وغيره من الأوصاف المستهجنة ، لكن أنا قشه في إخراجه اللفظ عن المعنى اللغوي دون أي دليل ، ومعلوم أن الألفاظ الشرعية واردة بلغة العرب ، فالأصل بقاء المعنى اللغوي حتى يأتي ما يدل على نقله إلى المعنى الشرعي ، أو العرفي ، ولا بد لمن ادعى أحد المعنيين المتقدمين أن يأتي لما قال بدليل شرعي إن كان المعنى شرعيا ، أو عرفي عن أهل الاصطلاح الذين جعلوه مصطلحا عرفيا ، ولم يأت الكاتب بأي من الدليلين فيبقى المعنى على ما تدل عليه اللغة .
والحقيقة المؤلمة أنني لم أجد للكاتب في هذا القول سلفا ، مع خطورة القضية ووجود نص صحيح صريح فيها ، وكثرة بحث أهل العلم لها ، واختلافهم في تكفير الساب ، مما يجعل توضيح القضية واجبا عليهم ، فهم مطبقون على أن كل ما يسمى سبا يحرم التلفظ به في جانب الصحابة ،وعدوه كبيرة من الكبائر ، وفصلوا أنواع السب تفصيلا بينا، فلو كان السب المحرم في جانب الصحابة هو اللعن فقط ، ولم يبينه هؤلاء العلماء وينصوا عليه ، لكانوا للعلم كاتمين ، ولعباد الله ظالمين ، إذ كفروهم بغير مكفر ، وفسقوهم بغير ذنب .
وهذه نصوصهم على خلاف ما ذكر الكاتب :
في تفسير القرطبي
"وقيل لمالك بن أنس رضي الله عنه من السفلة قال الذي يسب الصحابة "
(تفسير القرطبي 9 / 24)(22/19)
: قال الإمام أحمد رحمه الله : " أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس ،لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساوئهم ، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا بنقص ، فمن فعل ذلك وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ، ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ويستتيبه ، فإن تاب قبل منه ، وإن ثبت عاد عليه بالعقوبة ، وخلده الحبس حتى يموت أو يرجع " .( طبقات الحنابلة 1 /24)
وفي السنة للخلال :
"وقال أبو عبد الله : من تنقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينطوي إلا على بلية ، وله خبيئة سوء ؛ إذ قصد إلى خير الناس : وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبك "
وفي الكفاية للخطيب البغدادي :
أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى الهمذاني ثنا صالح بن أحمد الحافظ قال سمعت أبا جعفر أحمد بن عبدل يقول سمعت أحمد بن محمد بن سليمان التستري يقول سمعت أبا زرعة يقول : " إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم انه زنديق ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق ،والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة . والجرح بهم أولى وهم زنادقة "
(الكفاية في علم الرواية ج 1 ص 51)
وقال الإمام أبو نعيم رحمه الله : " فلا يتتبع هفوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزللهم ، ويحفظ عليهم ما يكون منهم حال الغضب والموجِدة إلا مفتون القلب في دينه " . ( الإمامة لأبي نعيم 344 ) .
قال البهيقي رحمه الله :(22/20)
"وإذا ظهر أن حب الصحابة من الإيمان ، فحبهم أن يعتقد فضائلهم ، ويعترف لهم بها ، ويعرف لكل ذي حق منهم حقه ، ولكل ذي غنى في الإسلام منهم غناه، ولكل ذي منزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلته ، وينشر محاسنهم ، ويدعو بالخير لهم ، ويقتدي بما جاء في أبواب الدين عنهم ، ولا يتبع زلاتهم وهفواتهم وتعمد تخير أحد منهم .. ويسكت عما لا تقع ضرورة إلى الخوض فيه مما كان بينهم وبالله التوفيق .
عن أبي بكر بن عياش في أوصاف أهل السنة والجماعة : ومن كف عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه ، فلم يذكر أحدا منهم إلا بخير "
(شعب الإيمان 2 / 192)
قال شيخ الإسلام :
"قال القاضي ابو يعلى : فقد أطلق القول فيه أنه يكفر بسبه لأحد من الصحابة ، وتوقف في رواية عبد الله وأبي طالب عن قتله وكمال الحد ، وإيجاب التعزير يقتضي أنه لم يحكم بكفره . قال : فيحتمل أن يحمل قوله ،" ما أراه على الإسلام " إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف ، ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك ، بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي ،قال : ويحتمل أن يحمل قوله :" ما أراه على الإسلام" على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله : ظلموا ، وفسقوا، بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، واخذوا الأمر بغير حق ، ويحمل قوله في إسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم ، نحو قوله : كان فيهم قلة علم وقلة معرفة بالسياسة ، والشجاعة ، وكان فيهم شح ومحبة للدنيا، ونحو ذلك ، قال : ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم : روايتان : إحداهما يكفر ، والثانية : يفسق ، وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره . حكوا في تكفيرهم روايتين.
(الصارم المسلول 3 / 1065)
قال القرطبي في تفسيره :(22/21)
"الخامسة روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير : كنا عند مالك بن أنس فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ مالك هذه الآية" محمد رسول الله والذين معه " حتى بلغ يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار " قال مالك من "أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية ".
قال القرطبي : قلت أحسن مالك في مقالته ، وأصاب في تأويله . فمن تنقص واحدا منهم ، أو طعن عليه في روايته فقد رد على رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين .
ثم قال _ بعد أن ذكر الأدلة المحرمة لسبهم ـ :
"والأحاديث بهذا المعنى كثيرة فحذار من الوقوع في أحد منهم"
(تفسير القرطبي 16/298)
قال القرطبي :
"الثانية هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة ، لأنه جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم ، وأن من سبهم أو واحدا منهم أو اعتقد فيه شرا أنه لا حق له في الفيء ؛ روى ذلك عن مالك وغيره . قال: "مالك من كان يبغض أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غل ، فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم قرأ والذين جاءوا من بعدهم "
(تفسير القرطبي 18 / 32 )
قال النووي :
"واعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره ؛ لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون ؛كما أوضحناه في أول فضائل الصحابة من هذا الشرح .
قال القاضي : وسب أحدهم من المعاصي الكبائر ، ومذهبنا ومذهب الجمهور= أنه يعزر ولا يقتل. وقال بعض المالكية يقتل"
(شرح النووي على صحيح مسلم 16 / 93)
قال شيخ الإسلام بن تيمية :(22/22)
"ونحن نرتب الكلام في فصلين، أحدهما: في حكم سبهم مطلقا، والثاني : في تفصيل أحكام الساب أما الأول فسب أصحاب رسول الله حرام بالكتاب والسنة . أما الأول فلإن الله سبحانه يقول : "ولا يغتب بعضكم بعضا" وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتابا، وقال تعالى :"ويل لكل همزة لمزة والطاعن عليهم همزة لمزة ..... "
(الصارم المسلول 3 / 1067)
ثم ذكر شيخ الإسلام الأدلة من القرآن والسنة على حرمة سب الصحابة، وعقوبة الساب، وأدلة كل من قال إنه يؤدب ، ومن قال يقتل ، ولا زم قول الساب من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبسط المسألة بما لا يسع المقام ذكره هنا .
قال :
"وأما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم ، مثل وصف بعضهم بالبخل ، أو الجب ،ن أو قلة العلم ، أو عدم الزهد ، ونحو ذلك . فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير ، ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك ، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من العلماء .
وأما من لعن وقبح مطلقا فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد"
(الصارم المسلول 3 / 1110)
وقد عد الذهبي سب الصحابة من الكبائر في كتابه الكبائر (ص233-237)
قال ابن السبكي : (( أجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة على أنهم فساق )) . (فتاوى السبكي 2/580 )
وفي حاشية بن عابدين .
قال ابن مالك في شرح المجمع : " ترد شهادة من يظهر سب السلف لأنه يكون ظاهر الفسق ..
وقال الزيلعي : أو يظهر سب السلف يعني الصالحين منهم وهم الصحابة والتابعين لأن هذه الأشياء تدل على قصور عقله وقلة مروءته ،ومن لم يمتنع عن مثلها لا يمتنع عن الكذب عادة بخلاف من لو كان يخفي ذلك اهـ
(حاشية بن عابدين 4/ 233)
قال العلامة الشيخ سليمان العلوان :
"ولا أحسب أحداً ينقب عن عثرات الصحابة ويبحث لهم عن الزلات المبنية على الشبه الواهية إلا وقد رخص عليه دينه" .
لاستنفار للذب عن الصحابة الأخيار ص 50(22/23)
فاتضح بهذه النصوص : أن أهل العلم جعلوا كل تنقص للصحابة سبا ، وأمروا بتأديب فاعله ، فأين ما ادعاه الكاتب من أن اللعن فقط هو السب المنهي عنه ؟؟؟ ليفتح الباب أمام كل متطاول على الصحابة أن يقول فيهم ما يشاء من السب ، لكن لا يلعن كما فعل هو .
خطورة القول الذي تبناه الكاتب ، التحايل على النص النبوي الناهي عن سب الصحابة ، تسويغ سب الصحابة لكل أحد ما لم يلعن ، وليقل بعد ذلك ما شاء من أنواع السب ، ويتهم أبا بكر بأنه قاتل أهل الردة من أجل الملك ، ووو ، ولا أظن أن الرافضة كانوا يحلمون في يوم من الأيام أن يأتي سني ويهدي لهم هذه الهدية ، لا بأس بشتم الصحابة ما لم يكن هناك لعن .
و الكاتب مثالا لما تقدم ، فهو أول ضحايا قاعدته هذه ، فقد سب بعض الصحابة وجدع وهذه أمثلة من كتابه ، بين الكاتب أنه ألف كتابه لبيان كيف أدخل معاوية هذه الأمة في تيه الاستبداد وبدون هذا الإدراك ؛فإن الأمة ستظل في هذا التيه ، فهي لا يمكن أن تخرج منه إلا إذا فضحت المستبدين ، ولا يمكن ذلك إذا كان المستبدون من الصحابة الذين أدخلوها في هذا التيه مسكوتا عنهم ؛ بل يبرر ما فعلوا ، كذا زعم .
قال في مقدمة كتابه ص 29
"فإن الأولوية اليوم هي كشف فضائح المستبدين ، وتجريدهم من أي شرعية أخلاقية أو تاريخية .
... لكن كشف فضائح المستبدين المعاصرين غير ممكن ما دام الحديث عن الانحرافات السياسية التي بدأت في عصر الصحابة مطبوعا بطابع التبرير والدفاع ، لا بطابع الدراسة المجردة الهادفة إلى الاعتبار ، وما دام الحديث عن تلك الفتن والخلافات السياسية يتحكم فيه فقه التحفظ ، لا التقويم ."
وقال في ص 37(22/24)
"ومهما يرهق الباحث نفسه في تأصيل العدل في الحكم والقسم ، فسيجد من المصابين بداء التجسيد من يحتج عليه قولا أو فعلا بعمل بعض الأكابر الذين آثروا أقاربهم بالولايات والأموال . ومهما يرهق نفسه في الحديث عن حق الأمة في اختيار قادتها ، فسيجد من يحاججه قولا أو فعلا بعمل بعض الأكابر الذين ورثوا أبناءهم السلطة .
وليس من حل لهذه الأزمة الفكرية والعلمية سوى التقيد بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه " قول الحق وإن كان مرا " ، وتسمية الأخطاء بأسمائها دون مواربة ، وخصوصا أخطاء الأكابر الذين هم محل القدوة والأسوة من أجيال الأمة. "
هذان النصان الواضحان يبين فيهما الكاتب أنه إنما قصد بتأليف كتابه ذكر هفوات الصحابة ، والطعن بها عليهم ، وهو ما فعله في كتابه .
وقد تركز طعنه على شخصيتين هما معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص .
قال عن معاوية في 68
"والآخذين بالمنهج التأصيلي يحاكمونه إلى المبادئ الإسلامية الأصيلة التي انبنت عليها دولة النبوة والخلافة الراشدة فيميلون إلى انتقاده . وهذا أمر منطقي كذلك نظرا للثغرات الكبيرة التي دخلت على نظام الحكم الإسلامي على يديه " .
وقال عنه في ص 80
تحت عنوان الإقرار بثقل الإرث الجاهلي .
"ولقد كان للأعراف الاجتماعية والتاريخية تأثير بالغ في إشعال الفتن السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم وليس مما يستغرب أن يكون معاوية هو أول من حول الخلافة إلى ملك ، فقد أمضى شطر عمره في بيت السيادة في قريش ، وشطره الثاني على حدود دولة الروم " .
ص 125
"وتفسير حرب صفين بأسبابها الحقيقية وهي مطامح الملك لدي معاوية وعمرو، وتجاوزهما حدود الشرع في الدماء والجنايات في الطريقة التي طلبا بها الأخذ بدم عثمان".
وقوله ص 175
بعد أن ذكر مراسلة بين معاوية وأبي موسى الأشعري .(22/25)
"وتكشف هذه المراسلة عن الفرق بين تصور أبي موسى الأشعري لموضوع الخلافة الذي اعتبره جسيم أمر هذه الأمة . يخاف ربه إذا سأله عنه ، وبين تصور معاوية الذي لم يكن يرى بأسا بالاستيلاء عليها بتوزيع العطايا والمناصب وإشهار السيوف والرماح ".
وقوله في ص 179
"وهو يتحدث عما أحدث معاوية من خرق في الحكم : وأخرج بناء السلطة من إطار مبادئ الشرع : كالشورى والبيعة والعدل .. إلى منطق القوة وقانون الغاب " .
وقال في ص 85
"فلو أن دارسا يكتب عن موضوعات في نطاق صفة <القوة> مثل الخبرة العسكرية أو العبقرية الإدارية أو الدهاء السياسي ، لوجد لدى شخصيات مثل عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ما يستحق الإشادة والثناء دون ريب بل لوجدهم على قمة من عرفهم التاريخ البشري من القادة السياسيين والعسكريين والإداريين . لكن نفس الدارس لو كتب عن موضوعات تدخل في نطاق الأمانة مثل الشرعية السياسية ، أو العدل في القسم والحكم ، أو الزهد في الولايات العامة ، وعدم الإيثار أو الاستئثار بها .. لوجد لدى تلك الشخصيات ذاتها ما يستحق النقد حقا لا ادعاء" .
وقال عن خالد بن الوليد في ص84
"إن منطق التكامل هو الذي دفع الصديق إلى التشبث بخالد في وقت ارتداد العرب ورميهم الإسلام عن قوس واحدة ، رغم أنه كان لدى الصديق مآخذ على خالد منها سيفه المرهق وتصرفه في المال وتقدمه على الخليفة ".
ورفض بعض فضائل معاوية كتولية عمر له .
قال في ص 109
"صحيح إن مجرد تولية عمر لأي شخص لا تعني براءته من ارتكاب ظلم أو إتيان معصية ، "..
وقال في ص 143
عن عثمان إنه آثر أهله وأقرباءه بالمناصب والمال .
ووصل به الاندفاع إلى حد يجعل معاوية وعمرو بن العاص أشد خطرا في جانب لانحراف المتعلق بالخلافة من الخوارج .
قال في ص 157
ـ وهو يتحدث عن أخطاء علي رضي الله عنه السياسية ومنها عدم مدارات الخوارج ـ(22/26)
" وأن يداري الخوارج ويخليهم وشأنهم وهو مهدد من طرف عدو أقوى منهم وأحسن تنظيما وتخطيطا ، وأخطر على نظام الخلافة الذي كان الخوارج ـ على انحرافهم يؤمنون به إيمانا راسخا" .
ولا تنس أن الخوارج كفروا عليا وكل الصحابة ، فما أدري ما هذه الخلافة التي يؤمنون بها ، ومن سيكون الخليفة فيها .
وأكبر مناقب علي التي امتدحه الرسول صلى الله عليه وسلم وطائفته بها ، قتالهم للخوارج الذي جعله الكاتب من أخطائه السياسية .
قال في رده على ابن تيمية قوله إن معاوية وعمرا لم يقاتلا من أجل الملك في ص 181
" لقد كان حريا بابن تيمية هنا أن يعترف ـ كما فعل دائما ـ بالطبيعة المركبة للفتنة ، وباختلاط الشبهات والشهوات فيها ، ويقبل أن دوافع معاوية وعمرو لم تكن مجرد شبهة الاقتصاص للخليفة الشهيد ، بل خالطتها شهوة الملك وحب الدنيا " .
وقال رادا على ابن تيمية قوله المتقدم ص 178
" إن كل هذه النصوص تدل على أن معاوية سعى إلى الملك بالفعل وبالقول ، وصرح بمطامعه في قيادة الأمة دون لبس . فالقول بعد ذلك أنه لم ينازع عليا الخلافة ولا سعى إليها .. تكلف بارد كان الأولى بشيخ الإسلام ابن تيمية أن يتنزه عنه .
على أن دور معاوية أكبر من مجرد الخروج على الجماعة ومنازعة الأمر أهله . فهو الذي أرسى نظام الملك بديلا عن دولة الخلافة ، فسن في الإسلام تلك السنة السيئة ، وفتح بها أبوابا من المظالم التي لم تتوقف ، ومن الدماء آلتي لم تجف منذ أربعة عشر قرنا ، وأخرج بناء السلطة من إطار مبادئ الشرع : كالشورى والبيعة والعدل .. إلى منطق القوة وقانون الغاب ، وهو أمر لا يزال المسلون يعيشون مساوئه إلى اليوم .(22/27)
فسواء تأولنا لمعاوية في مواقفه خلال الفتنة أم لم نتأول ، فإن سلوكه السياسي اللاحق ليس مما يمكن التأويل له ، وهو سلوك كان أبعد على الإسلام و المسلمين من الفتنة ذاتها ، بل من أي حدث تاريخي خلال أربعة عشرة قرنا المنصرمة . فقد كانت الفتنة التي قادها معاوية هدما لأركان الخلافة الراشدة ، لكن ما فعله معاوية بعد الفتنة من توريث السلطة لابنه بالترغيب والترهيب كان أسوأ أثرا ، لأنه إرساء لبناء جديد منحرف على أنقاض تلك الخلافة ، وسد لأبواب استردادها . فليتكلف المتكلفون ما شاءوا في تأويلهم لما حدث أثناء الفتنة ، لكنهم لن يجدوا ما يتأولونه لما حدث بعد ذلك ، إذا كانوا حقا ممن يجعل قدسية المبادئ فوق مكانة الأشخاص . "
ليس القصد من هذه النقول هنا الرد عليها ، وإنما المقصود منها إثبات أن محمد بن المختار الشنقيطي ألف كتابه من أجل سب الصحابة وتنقصهم وقد فعل ذلك شاء من شاء وأبى من أبى.
تمويهات المؤلف لما أراد المؤلف أن يؤصل لقاعدته المتقدمة لم تسعفه النصوص الشرعية ، ولا الفقهية ولا كلام شراح الحديث ولا كتب المقالات ، ففكر وقدر ؛ فوجد حديثا في صحيح مسلم ، في قصة أحد أمراء بني أمية طلب فيه هذا الأمير من سهل بن سعد أن يشتم عليا فأبى ، فلعن الأمير عليا ، فطار بها وجعلها دليلا مع أنه لا دلالة فيها . واستعجل أن يراجع بعض طرق الحديث ليتبين ما طلبه الأمير من سهل ، فقد بينت رواية ابن حبان للقصة ما طلب الأمير من سهل .(22/28)
" عن سهل بن سعد أن رجلا جاءه فقال : هذا فلان أمير من أمراء المدينة يدعوك لتسب عليا على المنبر . قال : أقول ماذا؟ قال: تقول له أبو تراب . فضحك سهل . فقال : والله ما سماه إياه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ما كان لعلي اسم أحب إليه منه . دخل علي على فاطمة ثم خرج . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فقال : أين بن عمك ؟ قالت هو ذا مضطجع في المسجد . فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فوجد رداءه قد سقط عن ظهره ؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح التراب عن ظهره ويقول : اجلس أبا تراب . والله ما كان ا سم أحب إليه منه . ما سماه إياه إلا رسول الله صلى لله عليه وسلم " .
(صحيح ابن حبان ج 15 ص 368 )
فالأمير لم يطلب من سهل كما أوضحت هذه الرواية إلا أن يسمي عليا باسم ظن أن له فيه تنقصا .
ثم موه بقصة يزيد ولا دليل فيها لعدة أمور ، أولا يزيد ليس صحابيا ، ثانيا لا يعدو الخلاف حول لعنه الخلاف في لعن المسلم المعين .
فلا علاقة للقصة بسب الصحابة ، وقصره على اللعن كما أراد الكاتب .
التنبيه الثالث ـ وجوب الكف عن ذكر ما جرى بين الصحابة على وجه الطعن به عليهم ، ومنزلة هذا الكف من الدين ، وكشف مخالفة الكاتب فيه ، وبيان مخالفته لجميع أهل العلم فيما قال عنه .
في هذه الوقفة سنتناول إخراج المؤلف مسألة فضل الصحابة ، وعدالتهم من جمل قطعيات الدين ، وزعمه أن المدخل لها في ذلك غال لا يميز بين الوحي والتاريخ .
قال في ص 130
"وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم وهم يتقاتلون لم يصوغوا خلا فاتهم السياسية بلغة الكفر والإيمان، فحري بالباحثين اليوم أن يتقيدوا بذلك ، ولا يخلطوا بين الوحي والتاريخ .(22/29)
فحسن التناول يقتضي من الدارس للخلافات السياسية بين الصحابة ـ وبين المسلمين عموما ـ أن يضع حدا فاصلا بين كليات العقيدة وفروع الدين ، وأن لا يحول الفرع إلى أصل ، فيقع في الغلو ، ويحيد عن الجادة ".
و المسائل موضع النقاش .
1 ـ تقسيم الدين إلى فروع وأصول .
2ـ ما ذا يقصد الكاتب بقوله إن الصحابة لم يصوغوا خلافاتهم لغة الكفر والإيمان .
3ـ هل مسألة فضل الصحابة وعدالتهم من جمل قطعيات الدين .
أولا تقسيم الدين إلى أصول وفروع من خزعبلات المتكلمين التي لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ، بل كل هذه الأصول تدل على خلافه .
وأفضل من بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال مبينا هذه القضية :
"والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم . وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه ، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره.
قالوا : والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة في الإسلام ، لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع ، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة ، فهي باطلة عقلا ؛ فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين ، بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة .
فمنهم من قال : مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية التي يطلب فيها العلم والاعتقاد فقط ، ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل .(22/30)
قالوا : وهذا فرق باطل فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده ، مثل وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش . وفي المسائل العلمية مالا يأثم المتنازعون فيه ، كتنازع الصحابة : هل رأى محمد ربه ؟ وكتنازعهم في بعض النصوص : هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ وما أراد بمعناه ؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات : هل هي من القرآن أم لا ؟ وكتنازعهم في بعض معاني القرآن والسنة : هل أراد الله ورسوله كذا وكذا ؟ وكتنازع الناس في دقيق الكلام : كمسألة الجوهر الفرد ، وتماثل الأجسام ، وبقاء الأعراض ، ونحو ذلك ؛ فليس في هذا تكفير ولا تفسيق .
قالوا : والمسائل العملية فيها علم وعمل ، فإذا كان الخطأ مغفورا فيها ، فالتي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون الخطأ فيها مغفورا .
ومنهم من قال : المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعي ، والفرعية ما ليس عليها دليل قطعي .
قال أولئك : وهذا الفرق خطأ أيضا ، فإن كثيرا من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها ، وغيرهم لم يعرفها ، وفيها ما هو قطعي بالإجماع ، كتحريم المحرمات الظاهرة ، ووجوب الواجبات الظاهرة ..
ومنهم من فرق بفرق ثالث ، وقال : المسائل الأصولية هي المعلومة بالعقل ، فكل مسألة علمية استقل العقل بدركها ، فهي من مسائل الأصول التي يكفر أو يفسق مخالفها . والمسائل الفروعية هي المعلومة بالشرع . قالوا : فالأول كمسائل الصفات والقدر ، والثاني كمسائل الشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار .(22/31)
فيقال لهم : ما ذكرتموه بالضد أولى ؛ فإن الكفر والفسق أحكام شرعية ، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل . فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا ، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا ، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما، والعدل من جعله الله ورسوله عدلا، والمعصوم الدم من جعله الله ورسوله معصوم الدم ، والسعيد في الآخرة من أخبر الله ورسوله عنه أنه سعيد في الآخرة ، والشقي فيها من أخبر الله ورسوله عنه أنه شقي فيها ، والواجب من الصلاة والصيام والصدقة والحج ما أوجبه الله ورسوله ، والمستحقون لميراث الميت من جعلهم الله ورسوله وارثين ، والذي يقتل حدا أو قصاصا من جعله الله ورسوله مباح الدم بذلك ،والمستحق للفيء والخمس من جعله الله ورسوله مستحقا لذلك ، والمستحق للموالاة والمعاداة من جعله الله ورسوله مستحقا للموالاة والمعاداة ، والحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله ، والدين ما شرعه الله ورسوله فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع .
وأما الأمور التي يستقل بها العقل فمثل الأمور الطبيعية ، مثل كون هذا المرض ينفع فيه الدواء الفلاني، فإن مثل هذا يعلم بالتجربة والقياس وتقليد الأطباء الذين علموا ذلك بقياس أو تجربة . وكذلك مسائل الحساب والهندسة ونحو ذلك ، هذا مما يعلم بالعقل . "
(منهاج السنة النبوية ج: 5 / 87 / 91)
ولنأخذ مثلا من التعريفات التي ذكر شيخ الإسلام ، قضية القطعية ، فلا شك أن فضل الصحابة وعدالتهم قطعية فقد وردت في القرآن ، ولا شك في قطعية كل ما ورد في القرآن ، وتواترت بها السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شك في قطعية كل ما تواتر في السنة ، وذكرها العلماء في جمل قطعيات الدين ؛ ولهذا وضع الذين قسموا الدين إلى أصول وفروع مسألة الصحابة من الأصول كما فعل الغزالي في
(قواعد العقائد 1 / 227)
والآمدي في
(غاية المرام 1 / 390)
والأشعري في(22/32)
(رسالة إلى أهل الثغر 1 / 303)
وأما قوله إن الصحابة لم يصوغوا خلافاتهم السياسية لغة الكفر والإيمان . إن كان يقصد أنهم لم يكفر بعضهم بعضا فهذا صحيح . ونحن نقول لا يجوز اعتقاد فسق أحد منهم فضلا عن تكفيره .
أو كان يقصد أنهم لم يجعلوا ما جعله الأئمة من العقيدة من وجوب السكوت عن سبهم ، أو تنقص من شارك منهم في الفتنة ، واعتقاد فضل الصحابة وعدالتهم، ووجوب حبهم ؛ فهذا خطأ بين على الصحابة تبين المنقولات التالية عنهم خطأه .
أخرج الحاكم وصححه عن سعيد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: "الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان، وبقيت واحدة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. قال: ثم قرأ: {للفقراء المهاجرين} إلىقوله: {رضوانا} فهؤلاء المهاجرون. وهذه منزلة قد مضت {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم} إلىقوله: {ولو كان بهم خصاصة}. قال: هؤلاء الأنصار. وهذه منزلة قد مضت. ثم قرأ: {والذين جاءوا من بعدهم} إلىقوله: {ربنا إنك رءوف رحيم} قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. يقول: أن تستغفروا لهم" رواه الحاكم 2/3484 وصححه).
وقالت عائشة رضي الله عنها: ((أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فسبوهم)) (رواه مسلم في كتاب التفسير-حديث [3022] صحيح مسلم 4/2317).
وعن مجاهد، عن ابن عباس، قال: ((لا تسبوا أصحاب محمد، فإن الله قد أمر بالاستغفار لهم، وقد علم أنهم سيقتتلون)) (رواه أحمد في الفضائل رقم 18)
قال ابن عمر : (( لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم أربعين سنة )) . ( رواه أحمد في فضائل الصحابة 1 / 61 وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجة 1 / 32 ) .(22/33)
وروى مسلم في صحيحه ( 3 / 1461 ) بإسناده إلى الحسن بن عائذ بن عمرو وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخل على عبيد الله بن زياد فقال : أي بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن شر الرعاء الحطمة ) ، فإياك أن تكون منهم ، فقال له اجلس فإنما أنت من نخالة – أي من قشور أو حثالة - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : وهل كانت لهم نخالة ، إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم .
كون عدالة الصحابة ، وفضلهم ، وحرمة سبهم ، ووجوب محبتهم ، وحمل أعمالهم إلى أحسن الوجوه من كليات الدين وقطعياته لا شك في هذا فقد ذكرها جميع أهل العلم الذين صنفوا في جمل الدين وقطعياته التي يجب على المسلم أن يعتقدها .
قال محمد بن عبد الله في كتابه اعتقاد أهل السنة في الصحابة :
ولا يمكن أن نجد كتاباً من كتب أهل السنة التي تبحث جوانب العقيدة المختلفة إلا ونجد هذا المبحث؛ ككتاب ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) اللالكائي و ((السنة)) لابن أبي عاصم، و ((السنة)) لعبد الله أحمد بن حنبل، و ((الأبانة)) لابن بطة، و ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) للصابوني. . وغيرها. بل كل إمام من أئمة السنة حينما يذكر عقيدته ولو في ورقة واحدة أو أقل، لا بد وأن يشير إلى موضوع الصحابة؛ إما من جهة فضلهم، أو فضل الخلفاء الراشدين، أو من جهة عدالتهم، والنهي عن سبهم والطعن فيهم، أو الإشارة إلى الكف والإمساك عما شجر بينهم. . الخ (راجع على سبيل المثال: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للألكائي (ت 418 هـ) (10/151-186) حيث ذكر المؤلف عقيدة عشرة من كبار أئمة أهل السنة، أشاروا إلى ما ذكرت، وقد حققه د. أحمد سعد حمدان الغامدي).
قلت: وقد صنف شيخ الإسلام العقيدة الواسطية ، وقال عنها إنها عقيدة جميع السلف والصحابة ، وذكر فيها مسألة الكف عما شجر بين الصحابة .(22/34)
وليضف الكاتب جميع أهل العلم الذين ذكر ابن تيمية أنهم أدخلوا مسألة الصحابة في الاعتقاد إلى خانة الغلاة .
قال شيخ الإسلام ـ في مناظرته مع الفقهاء الذين أنكروا عليه بعض الأشياء في العقيدة الواسطية ـ :
"ولما رأى هذا الحاكم العدل : ممالاتهم ، وتعصبهم ، ورأى قلة العارف الناصر ، وخافهم قال : أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد ، فنقول هذا اعتقاد احمد ، يعنى والرجل يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه ن فإنه ذا مذهب متبوع ، وغرضه بذلك قطع مخاصمة الخصوم .
فقلت : ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم ، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا ، والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول لم نقبله ، وهذه عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم !!
وقلت مرات : قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين ، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة ـ التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : "خير القرون القرن الذي بعثت فيه ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم" يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك"
مجموع فتاوى ابن تيمية ج: 3 ص: 169
وقد بين شيخ الإسلام أن هذه المسألة من جملة قطعيات الدين وأن الجماعة التي لا تلتزم هذه العقيدة تقاتل حتى تلتزمها .
فقال :(22/35)
"كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين . فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا . وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة . وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق . وكذلك أن امتنعوا عن تحريم الفواحش ، أو الزنا ، أو الميسر ، أو الخمر ، أو غير ذلك من محرمات الشريعة . وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة . وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ،وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون . وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها ؛ مثل أن يظهروا الألحاد في أسماء الله وآياته ، أو التكذيب بأسماء الله وصفاته،أو التكذيب بقدره وقضائه ، أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين، أو الطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التي توجب الخروج عن شريعة الإسلام وأمثال هذه الأمور".
(مجموع الفتاوى 28 / 511 )
التنبيه الرابع ـ رد ما ادعاه الكاتب عن موقف أهل السنة من الخوض في ما شجر بين الصحابة ، وإظهار أن موقفهم فيها واحد .
قال الكاتب في ص 133
والذي يستقرئ موقف أهل السنة من الفتنة فلن يجد مذهبا واحدا ، كما يريد أن يقنعنا به أصحاب التهويل والتعميم ، بل سيجد مذاهب خمسة على الأقل :
1 ـ مذهب الممسكين عن الخوض في الخلاف مطلقا وهذا الذي عليه متكلموا أهل السنة ، ..(22/36)
2 ـ مذهب الداعين إلى الإمساك عنه مع الخوض فيه ، كالذهبي في "تاريخ الإسلام"و" سير أعلام النبلاء " وابن كثير في "البداية والنهاية " . ويحمل خوضهم على أنه ترخص لغرض تعليمي ، أوأن المراد بالخوض عندهم هو ما كان على سبيل الذم والقدح .
3 ـ مذهب الخائضين في الخلاف مع التأول لكل الأطراف بإن كلا منها مجتهد مأجور ، وهذا مذهب مشهور ذائع اتبعه جماهير الأمة عبر القرون ، خصوصا غير المتمكنين من خلفيات الأحداث ومراميها .
4ـ مذهب الخائضين دون تأول ، وقد اشتهر من أهله بعض علماء التابعين أمثال الحسن البصري والربيع بن نافع …
5 ـ مذهب المغالين في الدفاع ، المنفعلين بردة الفعل ، المتأولين للصحابة ولغير الصحابة ، بحق وبغير حق . وهذا الذي أدعوه " التشيع السني " . ويمثله ابن العربي وتلامذته المعاصرون . وهذا المذهب الأخير هو الأعلى صوتا اليوم ، والأقوى نبرة ، لأسباب سياسية ومذهبية كثيرة ليس هذا مكان عرضها . كما يغذيه جهل أبناء الأمة بدقائق تاريخها في هذا العصر .
قال في ص 155
"ومن المصطلحات المثيرة للبس في أذهان طلاب العلم وعامة المسلمين مصطلح " الكف عما شجر بين الصحابة " الذي تردد ذكره في العقائد والمقولات والفرق ، حتى أصبح يعد أصلا من أصول أهل السنة والجماعة . وقد ذكر اللالكائي من " اعتقاد أهل السنة " " الترحم على جميع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والكف عما شجر بينهم "
ومرد اللبس هنا أيضا هو عدم فهم المصطلح في السياق الزمني الذي استخدمه علماء الإسلام فيه . فقد أراد أعلام الإسلام بهذا المصطلح معنيين : أولهما :إلجام من لم يتسلح بتفاصيل تلك الأحداث ودقائقها من المصادر الموثوقة عن الخوض فيها أصلا ، حذرا من المجازفة في النقل والكذب على الأصحاب ، والثاني : النهي عن الخوض المؤدي إلى لعن الصحابة أو تكفيرهم .. مما اعتاد المبتدعة على فعله" .(22/37)
ولكن الخلف فهموا من كلام السلف هنا غير ما أرادوا ، وأولوه على أن المراد به الإمساك مطلقا عن الحديث في الموضوع أو تناوله ولو لغرض التأصيل الشرعي والاعتبار التاريخي ، فضيقوا واسعا ، وألزموا الناس بما لا يلزم .
النقاط موضع النقاش .
1ـ هل لأهل العلم من أهل السنة مما جرى بين صحابة عدة مذاهب كما ادعى الكاتب .
2ـ وهل المقصود بأمرهم كف أناس معينين كما قال .
هذا الكلام الذي ادعاه المؤلف عن أهل السنة في الموقف من ذكر ما جرى بين الصحابة ، مجرد ادعاء لم يقم عليه المؤلف دليلا من كلام أهل السنة ، فأهل السنة لم يختلفوا في قضية الكلام فيما جرى ين الصحابة ، بل موقفهم فيه واضح ؛ وتحريره : أن ذكر ما جرى بين الصحابة على وجه التاريخ دون طعن على أحد منهم فهذا مكروه عندهم ، لأنه لا عمل تحته ، ويخاف أن يجر صاحبه إلى المحذور ، فنهيهم عنه من باب سد الذرائع .
، وهذا وجيه من الناحية الشرعية والعقلية ، فلا يشك شاك أن الإنسان لو كف عن عمل لا ينفعه ، وقد يضره دل كفه على كمال عقله وتورعه لدينه ، وأن فعله له يدل على ضعف في عقله ، وقلة احتياطه لدينه .
وأما ذكره على وجه الطعن عليهم به ، والكلام فيهم بما ينافي فضلهم وعدالتهم فلا شك في حرمته ، ولم يختلف أهل السنة في تحريمه وتبديع فاعله ، وهذا الإجماع مبني على نصوص كثيرة من الكتاب والسنة تبين فضل الصحابة ، ومتانة دينهم وحسن استقامتهم ، وتنهى عن سبهم وتنقصهم .
وهذا ذكر كلامهم الذي يدل على ما ذكرت عنهم .
(في السنة للخلال )(22/38)
723 أخبرني عصمة بن عصام قال: قال: حنبل أردت أن أكتب كتاب صفين والجمل عن خلف بن سالم ، فأتيت أبا عبد الله أكلمه في ذاك وأسأله. فقال : وما تصنع بذاك ، وليس فيه حلال، ولا حرام ،وقد كتبت مع خلف حيث كتبه، فكتبت الأسانيد وتركت الكلام، وكتبها خلف. وحضرت غندر ، واجتمعنا عنده فكتبت أسانيد حديث شعبة ، وكتبها خلف على وجهها . قلت : له ولم كتبت الأسانيد وتركت الكلام ،قال : أردت أن أعرف ما روى شعبة منها . قال :حنبل فأتيت خلف فكتبتها . فبلغ أبا عبدالله. فقال : لأبي خذ الكتاب فاحبسه عنه ، ولا تدعه ينظر فيه .
(السنة للخلال 2 / 464)
وجه الدلالة على ما ذكرنا : أن أحمد بن حنبل لم يقل له هذا حرام ، ولم يبدعه فيما فعل ، ولكن كره له ذلك وبين له وجه كراهيته له . وهو كما ترى مجرد نقل تاريخي .
وقد حرر الإمام الذهبي هذه المسألة في سير أعلام النبلاء فقال:(22/39)
"كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين . وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء ، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف ، وبعضه كذب ، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه وإخفاؤه ، بل إعدامه لتصفو القلوب ، وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم ، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء ، وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى ، بشرط أن يستغفر لهم ،كما علمنا الله تعالى حيث يقول "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا " الحشر 10 فالقوم لهم سوابق ، وأعمال مكفرة لما وقع منهم ، وجهاد محاء وعبادة ممحصة ، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم ، ولا ندعي فيهم العصمة .. فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك ، فلا نعرج عليه ولا كرامة ، فأكثره باطل وكذب وافتراء ، فدأب الروافض رواية الأباطيل ، أو رد ما في الصحاح والمسانيد ، ومتى إفاقة من به سكران"
(سير أعلام النبلاء 10 / 92)
وقال السفاريني :
"واحذر من الخوض الذي قد يزري*** بفضلهم مما جرى لو تدري
فأنه عن اجتهاد قد صدر*** فاسلم أذل الله من لهم هجر "
فبين أن الخوض المحرم هو الخوض المؤدي إلى انتقاص أحد من الصحابة أو سبه .
قال الشوكاني رحمه في جوابه لمن سأله عما جرى بين الصحابة :(22/40)
"إن كان هذا السائل طالبا للنجاة ، فليدع الاشتغال بهذه الأمور في هذا المضيق الذي تاهت فيه الأفكار ، فإن هؤلاء الذين تبحث عن حوادثهم وتتطلع لمعرفة ما شجر بينهم قد صاروا تحت أطباق الثرى ولقوا ربهم في المائة الأولى من البعثة وهانحن الآن في المائة الثالثة عشرة ، فما لنا والاشتغال بهذا الشأن الذي لا يعنينا " ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " وأي فائدة لنا في الدخول في الأمور التي فيها ريبة ، وقد أرشدنا إلى أن ندع ما يريبنا إلى ما لا يريبنا .ويكفينا في تلك القلاقل والزلازل ، أن نعتقد أنهم خير القرون وأفضل الناس .... فرحم الله امرأ اشتغل بما أوجبه الله عليه وطلبه منه ، وترك ما لا يعود عليه بنفع لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بل يعود عليه بالضرر ، ومن ظن خلاف هذا فهو مغرور مخدوع ، قاصر الباع عن إدراك الحقائق ، ومعرفة الحق على وجهه كائنا من كان".
(إرشاد السائل إلى دلائل المسائل ص 45 ـ 46)
فهذا الكلام رد لطيف على قول المؤلف " ولو لغرض التأصيل الشرعي والاعتبار التاريخي ، فضيقوا واسعا ، وألزموا الناس بما لا يلزم ."
وهذا الكلام باطل من وجوه : أحدها أن التأصيل العلمي لكل القضايا الشرعية قد قام به علماء الأصول في كلامهم على مصادر الشريعة ، فكل فعل أو قول خالف الكتاب والسنة مردود ولو قاله من قاله أو فعله من فعله .
وأما الاعتبار بحياتهم ، فقد قام به أهل العلم خير قيام ، فنشروا مناقبهم التي بلغوا بها ما بلغوا من الإيمان الصادق، والعمل الصالح ، فبلغهم الله من التمكين في الدنيا والعز فيها ، ما قد علمه القاصي والداني، و وعدهم عليها من حسن الجزاء في الآخرة ما الله به عليم ، وتركوا ذكر أعمالهم التي ليست موضع قدوة فهم بشر لا يخلون من خطإ لكن خطأهم نقطة في بحر فضائلهم ، وهذا هو المنهج الصحيح.
نصوص أهل السنة على وجوب الكف عن ذكر مساوئ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(وفي السنة للخلال)(22/41)
"825وأخبرني محمد بن جعفر ومحمد بن أبي هارون إن أبا الحارث قال : جاءنا عدد ومعهم ذكروا أنهم من الرقة فوجهنا بها إلى أبي عبد الله ما تقول فيمن زعم أنه مباح له أن يتكلم في مساوئ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو عبدالله: هذا كلام سوء رديء ، يجانبون هؤلاء القوم ولا يجالسون ويبين أمرهم للناس " .
قال أبو نعيم : " لم يأمرهم بالإمساك عن ذكر محاسنهم وفضائلهم ، وإنما أمروا بالإمساك عن ذكر أفعالهم وما يفرط منهم في ثورة الغضب وعارض الموجدة " . ( الإمامة 347 ) .
قال الأشعري :
"الإجماع الثامن والأربعون
وأجمعوا على الكف عن ذكر الصحابة ـ عليهم السلام ـ إلا بخير ما يذكرون به ، وعلى أنهم أحق أن ينشر محاسنهم ، ويلتمس لأفعالهم أفضل المخارج ، وأن نظن بهم أحسن الظن" .
(رسالة إلى أهل الثغر 1 / 303)
وقال أبو نعيم : "فمن أسوأ حالاً ممن خالف الله ورسوله وآب بالعصيان لهما والمخالفة عليهما. ألا ترى أن الله تعالىأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بإن يعفو عن أصحابه ويستغفر لهم ويخفض لهم الجناح، قال تعإلى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} (سورة آل عمران: 159). وقال: {واخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين} (سورة الشعراء: 215).
فمن سبهم وأبغضهم وحمل ما كان من تأويلهم وحروبهم على غير الجميل الحسن، فهو العادل عن أمر الله تعالىوتأديبه ووصيته فيهم. لا يبسط لسأنه فيهم إلا من سوء طويته في النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته والإسلام والمسلمين" (الإمامة: ص 375-37).
قال الداني: " من قولهم أن يحسن القول في السادة الكرام ، أصحاب محمد عليه السلام وأن تذكر فضائلهم وتنشر محاسنهم ، ويمسك عما سوى ذلك مما شجر بينهم ..
(الرسالة الوفية ص 132)(22/42)
وقال الصابوني : " ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتطهير الألسن عن ذكر يتضمن عيبا لهم ونقصا فيهم ."
(عقيدة الصلف أصحاب الحديث ص 294 )
قال حافظ حكمي :
"ثم السكوت واجب عما جرى ***بينهم من فعل ما قد قدرا
فكلهم مجتهد مثاب*** وخطؤهم يغفره الوهاب
أجمع أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الحل والعقد الذين يعتد بإجماعهم على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ، بعد قتل عثمان رضي الله عنه.
والاسترجاع على تلك المصائب التي أصيبت بها هذه الأمة ، والاستغفار للقتلى من الطرفين ، والترحم عليهم ، وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر مناقبهم ، عملا بقول الله عز وجل "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان " ( الحشر 10) الآية ، واعتقاد أن الكل منهم مجتهد إن أصاب فله أجران ، أجر على اجتهاده وأجر على إصابته ، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد والخطأ مغفور ، ولا نقول أنهم معصومون بل مجتهدون إما مصيبون وإما مخطئون لم يتعمدوا الخطأ في ذلك ، وما روى من الأحاديث في مساويهم الكثير منه مكذوب ، ومنه ما قد زيد فيه أو نقص مه وغير عن وجهه ، والصحيح منه هم فيه معذورون" .
(معارج القبول 3/1208)
وبعد هذه النقول التوضيحية لمذهب أهل السنة ، في الخوض فيما شجر بين الصحابة وأنهم مجمعون على حرمة الخوض المؤدي إلى الطعن فيهم أو سبهم أو تنقصهم .
وعند التأمل تجد أن الكاتب أخذ هذا القول وشققه، فإن أربعة من الأقوال الخمسة التي ذكر تجمع على عدم الخوض في ما شجر بين الصحابة بما يتضمن تنقصا لهم أو عيبا .(22/43)
بقي القول الذي ذكره عن الحسن فنقول متى كان يؤخذ من وقائع الأعيان مذهب ، مع ما ذكره أهل العلم من إجماعات لم يستثنوا منها الإمام الحسن ،والحسن من الشهرة بمكان، فلو كان له مذهب خاص به دون أهل العلم لذكروه في المقالات التي ينقلون عن أهل العلم ، فلما لم يذكروا له مذهبا خاصا دل ذلك على عدم وجود مذهب له في ذكر ما جرى بين الصحابة خارج عن مذهب أهل العلم الآخرين .
وقد نقل عن الحسن نفسه ما يؤكد أنه على مذهب أهل العلم الآخرين .
نقل القرطبي في تفسيره قال : " سئل الحسن البصري رحمه الله تعالىعن قتال الصحابة فيما بينهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا ، وعلموا وجهلنا ، واجتمعوا فاتبعنا ، واختلفوا فوقفنا .
(تفسير القرطبي 16/332)
فلم يبق هناك بعد هذا الكلام الواضح من الحسن البصري لأهل السنة إلا موقف واحد من الفتنة التي وقعت من الصحابة ، وهو ما يذكره أهل السنة والجماعة في كتبهم عنها .
قال الحافظ : "واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد وقد عفا الله تعالىعن المخطئ في الاجتهاد ، بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وأن المصيب يؤجر أجرين "
(فتح الباري ج 13 ص 34)
أو مذهب أهل البدع الخوض فيما شجر بينهم بنية الوقيعة في بعضهم ، أو في أحدهم ،كما فعل الكاتب في كتيبه. وأهل السنة منه براء.
هل المقصود بما ذكر من مذهب أهل العلم في الكف عما شجر بين الصحابة ، ناس دون ناس ، لا يشك أي إنسان أن قول أهل السنة في هذه المسألة عقيدة قطعية ، دل عليها الكتاب والسنة ، وأجمع عليها أهل السنة ، فمثل هذا دين قطعي ، والدين القطعي يعم جميع المكلفين .
وأما قوله :
"مرد اللبس هنا أيضا هو عدم فهم المصطلح في السياق الزمني الذي استخدمه علماء الإسلام فيه" .(22/44)
فهذا النص فيه مسحة من كلام العلمانيين حين يدعون إلى قراءة النص الديني كما قالوا قراءة تاريخية ، ويعنون بذلك قاتلهم الله أن القرآن والسنة ناسبا الحياة البشرية وتكيفت معهما في فترة معينة وولت هذه الفترة أما الفترة المعاصرة فلا يصلحان لها ، وفي هذا القول من الزندقة ما لا يخفى على ذي عين . ومع ما ذكر نعيذ الكاتب من هذا القول ونظن به الخير ، وهو وإن وافقهم في الفظ إلا أننا نعتقد أنه لا يوافقهم في المعنى على الإطلاق . أما هذا المصطلح فهو مصطلح شرعي مبني على كثير من النصوص الشرعية كتابا وسنة ، وقد مر معك بعضها مما يجعله شاملا للزمن كله، وما ذكره الكاتب من قوله :
"فقد أراد أعلام الإسلام بهذا المصطلح معنيين : أولهما إلجام من لم يتسلح بتفاصيل تلك الأحداث ودقائقها من المصادر الموثوقة عن الخوض فيها أصلا ، حذرا المجازفة في النقل والكذب على الأصحاب ، والثاني : النهي عن الخوض المؤدي إلى لعن الصحابة أو تكفيرهم .. مما اعتاد المبتدعة على فعله" .
وهل الواقع اليوم من الكلام في الصحابة إلا ما ذكره الكاتب ، فكان على الفهم الذي اختاره الكاتب لكلام السلف يجب أن يوصي بغلق باب الكلام فيهم ، أما رأى الكاتب كلام المستشرقين في الصحابة ؟؟ وكلام الرافضة ، ؟؟وكلام بعض المنتسبين إلى الدعوة ؟؟، كله من هذا المشرب الكدر ، وحتى كلام الكاتب في كتابه لا يخرج عنه .
التنبيه الخامس ـ المصادر التي استقى الكاتب منها أقواله المخالفة لما عليه أهل العلم من أهل السنة ، في قضية الصحابة .
بعد أن تأكدنا بما مر؛ أن الكاتب قد خالف منهج أهل السنة والجماعة في طريقة تناولهم لتاريخ الصحابة ، وأجهد نفسه لنسف القواعد المنهجية التي بينوا أنه يجب على الكاتب أن يراعيها، وهو يكتب عن تلك الفترة ، وذلك الجيل . بقي سؤال يحق للقارئ الكريم أن يطرحه ، من أين استقى الكاتب هذا المنهج .(22/45)
في هذه الوقفة سنحاول أن نبين من أين استقى هذا المنهج ، يرى المطلع على الساحة الثقافية ، أن كثيرا من الكتاب الكبار الذين تتمدح بهم الصحف ، وتلمّعهم وسائل الإعلام الأخرى ، قد سرت في كتاباتهم سموم المستشرقين ، وتلامذتهم من المستغربين ، وقد يظن قليل الإطلاع أن هذا الداء قد سلم منه الكتاب الإسلاميون ، وأنا أقول له على رسلك ، كلا . فهذه السموم قد سرت في كتابات كثير من الإسلاميين ، ولعل الاتجاه العصراني أو ضح مثال لذلك ، بل جل اهتماماته هي تطويع الإسلام للمبادئ الغربية العلمانية ، ووصم كل ما لا يتماشى معها ، بأنه فهم خاطئ للإسلام ، والكاتب كما لا يخفى هو أحد أصحاب هذا الاتجاه ، وأكبر دليل على ذلك ، تصديره لكتابه بمقدمة كتبها أحد رواد هذا الاتجاه ، وهو راشد الغنوشي ، فلا عجب أن كان ، متأثرا في منهجه ، بمنهج المستشرقين ، وتلامذتهم ، فقد رأينا في كتابه تطابقا كبيرا بين ما كتب ، وما كتبوا . وسأحاول أن أبين في هذه الوقفة بعض التشابه الذي وجدته ، وسأختصر ، لأني أقصد التمثيل لا الاستقصاء .
قال المستشرق فلها وزن : " ولكن أحد لم ينس أبدا للأمويين أنهم كانوا أول أمرهم أخطر أعداء النبي وأنهم لم يعتنقوا الإسلام إلا في الساعة الأولى مكرهين ، وأنهم عرفوا بعد ذلك كيف يجنون لأنفسهم ثمرة انتصاره وسيادته ، وذلك من طريق استغلال ضعف عثمان أولا ، ومن طريق المهارة في استغلال مقتله بعد ذلك .
ولقد كان أصل الأمويين لا يجعلهم أهلا لقيادة الأمة المحمدية ، وكان من السخرية فكرة الحكومة الثيوقراطية أن يظهر الأمويون يمثلها الأغلبية ، فهم كانوا مغتصبين ، وظلوا كذلك ، ولم يكونوا يستندون إلا إلى قوتهم الخاصة إلى قوة الشام .
(تاريخ الدولة العربية ص 59 )
فهذا المستشرق يرى أن الأمويين وهو يقصد بهم معاوية ، ومن معه ، توافرت لهم عدة أمور استغلوها ، من أجل الملك . وهي ضعف عثمان ، استغلال مقتله ، قوة أهل الشام .(22/46)
ولو قام إنسان بمقارنة هذا الكلام ، بكلام الشنقيطي الآتي ، لو جد تشابها كبيرا .
وقال في ص 224
وأسوأ ما في دور مروان في تلك الفتن السياسية أمور أربعة :
"أولهما تأثيره على ذي النورين عثمان رضي الله عنه ، ودوره الجوهري في إيثار بني أمية بالسلطة والثروة في أيامه ، خصوصا مع كبر عثمان في السن ، وضعفه الفطري" .
فهذا هو استغلال ضعف عثمان الذي ذكره المستشرق .
وقال في ص 125
وتفسير حرب صفين بأسبابها الحقيقية وهي مطامح الملك لدي معاوية وعمرو، وتجوزهما حدود الشرع في الدماء والجنايات في الطريقة التي طلبا بها الأخذ بدم عثمان.
فهذا هو استغلال مقتل عثمان .
وقال ص 175
وبعد أن ذكر مراسلة بين معاوية وأبي موسى الأشعري .
"وتكشف هذه المراسلة عن الفرق بين تصور أبي موسى الأشعري لموضوع الخلافة الذي اعتبره جسيم أمر هذه الأمة . يخاف ربه إذا سأله عنه ، وبين تصور معاوية الذي لم يكن يرى بأسا بالاستيلاء عليها بتوزيع العطايا والمناصب وإشهار السيوف والرماح" .
وهذا هو الاستيلاء بالقوة الذي ذكره المستشرق .
فكرة الكتاب بكل بساطة هي أن معاوية رضي الله عنه أرغم الأمة على الاستبداد بقتاله وشرائه الذمم من أجل الملك ، وكرس هذا المبدأ بولايته العهد لابنه يزيد ، و سن ذلك لمن جاء بعده من الملوك فصار يولى أهل بيته . وانجر من ذلك ظلم كبير للأمة على معاوية وزره ما عمل به إلى يوم القيامة ، فمعاوية لم يقاتل عليا من أجل قتلة عثمان ، وإنما قاتل من أجل الملك في زعم الكاتب .
وكل القواعد المذكورة في الكتاب هي لتقرير هذه القضية أو في الهجوم على من يردها أو دعاية لتقبلها أو رفض كل ما يعارضها .
ولأن معاوية من الصحابة و الطعن فيه طعن في أحد من الصحابة ، عنون كتابه
"الخلافات السياسية بين الصحابة "
ثم صاغ تلك القواعد التي أراد أن يصل من خلالها إلى ما أراد من طعن في معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما .(22/47)
فالقاعدة ـ الرابعة . ـ والخامسة . ـ والسادسة . ـ والسابعة ـ والثالثة عشرة ـ والرابعة عشرة ـ والسابعة عشرة ـ والثامنة عشرة والقواعد الثلاث الأخيرة فهي كلها في تبرير هذا الطعن والتقعيد له .
والقاعدة ـ الخامسة عشرة وـ السادسة عشرة و ـ التاسعة عشرة فهي في إزالة كل عائق شرعي يقف في وجه هذا الطعن .
وأما القاعدة ـ الحادية عشرة فهي لبيان حدود هذا الطعن الذي قصره الكاتب على اللعن والتكفير .
وأما القاعدة ـ التاسعة ـ والثانية عشرة ووقفة ملاحظات على منهج ابن تيمية وحوار مع مدرسة التشيع السني ، فهي في الهجوم على كل من لا يرى في الصحابة رأي المؤلف وخاصة في الطعن على معاوية .
وجميع الطعون التي طعن بها المؤلف على معاوية مأخوذة من كتب معروفة .
فنظرية تأثر معاوية بالحكم الجاهلي في عهده إلى يزيد بالملك أخذها عن أحمد أمين "يوم الإسلام "ص 66 و أحمد رمضان "الخلافة في الحضارة الإسلامية "ص 84 وسعيد الأفغاني "عائشة والسياسة" ص 278
وأما نظرية ارتكابه بهذا العهد كبيرة من الكبائر يضيفها إلى ذنوبه الأخرى فأخذها الكاتب من كل من .
أحمد الشريف "دور الحجاز في الحياة السياسية" ص 417
وأمين الريحاني في (الأعمال الكاملة 6 / 36 )
وأكبر شاه خان "تاريخ الإسلام "2 / 48
وأن عليه أثمها وأثم من عمل بها أخذها من عبد القادر عودة كما في كتابه " الإسلام و أوضاعنا السياسية" ص 159
وفي الكتاب مسحة العلمانية ويتضح ذلك من جعله الخلافة منصبا دنيويا وكل من يطلبه يطلبه من أجل الدنيا ، مع أن منصب الإمامة عند المسلمين مطلب ديني ووظيفة شرعية ودنيوية كما سيأتي من تعريف أهل العلم لها .
قال في ص 71
ومن الاعتراف بحدود الكمال البشري عدم تنزيه غير المعصوم عن الهوى والطموح الدنيوي مهما سمت مكانته ، وعلا كعبه .
وقال في ص72
وقد طبق ابن تيمية هذا المبدأ على موقف سعد ليلة السقيفة ..(22/48)
والآن نعرض كلام أهل العلم في موضوع الإمامة الموضح أنها منصب ديني لسياسة الدنيا به .
قال الماوردي :
" الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به "
(الأحكام السلطانية ص 5)
وقال إمام الحرمين :
" الإمامة رياسة تامة ، وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين و الدنيا "
(غياث الأمم في التياث الظلم ص 15 )
وقال العلامة ابن خلدون :
" هي حمل الكافة علي مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها ، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبار بمصالح الآخرة ، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به "
(مقدمة ابن خلدون ص 190)
ينظر مقاصد الإمامة في كتاب "الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة " للشيخ الدميجي
ص 69 ـ 122
الفكرة العامة للكتاب ،أخذها الكاتب من كتاب "الحريّات العامّة" لراشد الغنوشي : كما قال فيه متحدثا عن طرق الوصول إلى الحكم وهو يتكلم عن الاستخلاف : "ويشعر المرء بالقرف من استمرار هذا العفن قائماً في تراثنا الديني وفكرنا السياسي، ويضع يده مباشرة على هذه الألغام التي قوّضت حضارة الإسلام وأسلمتنا إلى الانحطاط، إنّه من غير ثورة شاملة تطيح بهذه السموم التي لا تزال تجري في دماء الأمّة وتشلّ طاقتها وتجهض انتفاضتها، وتحبط أحلام نهضتها، فلا أمل في انطلاقة متينة قويّة قاصدة منتجة الحضارة من جديد في أمّتنا ) . [ص162].
ويقول: ( فويل لتاريخ الازدهار من ليالي الانحطاط، هل نحن أهل لوراثة الخلافة الراشدة ونحن نلقي عليها بمزابل انحطاطنا؟ ) . [نفس الصفحة].(22/49)
يقول عن معاوية رضي الله عنه: ( الوالي المنشق معاوية بن أبي سفيان، وقد غلبت عليه - غفر الله له - شهوة الملك وعصبيّة القبيلة، فلم يكتف بأن انتزع الأمر من أهله بل ومضى في الغيّ!! لا يلوي على شيءٍ حتّى صمّم على توريثه كما يوّرث المتاع لابنه وعشيرته، فجمع في قصّته المشهورة ثلّة من المرشّحين للخلافة من الجيل الثّاني من الصحابة، وأمام ملأ من النّاس قام أحد أعوانه يخطب بصفاقة... وحينئذ بدأ مسلسل الشّر والفساد، مكرّساً الدكتاتوريّة والوصاية والعصمة، مقصياً الأمّة عن حقّها، مبدّداً طاقتها في جدلٍ عقيم حول الخلافة والاستخلاف " .
قلت ولا يخفى ما في هذا الكلام من السب والتجديع والتجريح للصحابة رضي الله عنهم ، والتلبيس على العامة ، والكذب في النقل .
وقارن كلام الشيخ بكلام التلمذ تجد تطابقا تاما .
قال الشنقيطي
" إن كل هذه النصوص تدل على أن معاوية سعى إلى الملك بالفعل وبالقول ، وصرح بمطامعه في قيادة الأمة دون لبس . فالقول بعد ذلك أنه لم ينازع عليا الخلافة ولا سعى إليها .. تكلف بارد كان لأولى بشيخ الإسلام ابن تيمية أن يتنزه عنه .
على أن دور معاوية أكبر من مجرد الخروج على الجماعة ومنازعة الأمر أهله . فهو الذي أرسى نظام الملك بديلا عن دولة الخلافة ، فسن في الإسلام تلك السنة السيئة ، وفتح بها أبوابا من المظلم التي لم تتوقف ، ومن الدماء التي لم تجف منذ أربعة عشر قرنا ، وأخر بناء السلطة من إطار مبادئ الشرع : كالشورى والبيعة والعدل .. إلى منطق القوة وقانون الغاب ، وهو أمر لا يزال المسلون يعيشون مساوئه إلى اليوم .(22/50)
فسواء تأولنا لمعاوية في مواقفه خلال الفتنة أم لم نتأول ، فإن سلوكه السياسي اللاحق ليس مما يمكن التأويل له ، وهو سلوك كان أبعد على الإسلام و المسلمين من الفتنة ذاتها ، بل من أي حدث تاريخي خلال أربعة عشرة قرنا المنصرمة . فقد كانت الفتنة التي قادها معاوية هدما لأركان الخلافة الراشدة ، لكن ما فعله معاوية بعد الفتنة من توريث السلطة لابنه بالترغيب والترهيب كان أسوأ أثرا ، لأنه إرساء لبناء جديد منحرف على أنقاض تلك الخلافة ، وسد لأبواب استردادها . فليتكلف المتكلفون ما شاءوا في تأويلهم لما حدث أثناء الفتنة ، لكنهم لن يجدوا ما يتأولونه لما حدث بعد ذلك ، إذا كانوا حقا ممن يجعل قدسية المبادئ فوق مكانة الأشخاص . "
وبعضها من مالك بن نبي كما في كتابه وجهة العالم الإسلامي ص 25
وهذا الكتاب يظهر تأثر الكاتب به تأثر كبيرا في أكثر كتاباته .
وخصوصا مقال " الصحوة الإسلامية .. خواطر في فقه المنهج "
المنشور في مجلة المنار الجديد العدد 18
الفصل الثاني ـ رد ما ادعاه الكاتب من التزامه العلم والعدل في كتابه ، وتبين أنه لا يعدو كونه دعوى قدم الكاتب بها كتابه لإيجاد جو تقبل من القارئ لما يقول وفيه التنبيهات الآتية .
التنبيه الأول ـ بيان أن الكاتب لم يلتزم العلم فيما تكلم فيه من علم الحديث وتحته الوقفات التالية .
مستوى الكاتب في علم الحديث تنظيرا .
في هذه الوقفات القادمة سنناقش الشنقيطي فيما ادعاه من التزام العلم والعدل في كتابه ، ونبين إن شاء الله تعالى كيف أنه لم يلتزمهما وإن ادعاهما ؛ لتهيئة جو نفسي معين للقارئ ، يجعله يتقبل ما يقول ، وكيف لا يقبل قول من يدعي له أنه يتكلم بعلم وعدل ، وكل من يخالفه يتكلم بجهل ، أو ظلم .
قال الشنقيطي :(22/51)
"وقد بين ابن تيمية منهجه في تناول مسائل الخلاف التي مزقت الأمة ، وهو منهج أساسه العلم والعدل. ودعا المسلمين إلى انتهاج هذا النهج. ولم يكن ليخفى على شيخ الإسلام – وقد عايش خلافات الأمة طويلا وخاض غمارها – أن آفة الخائضين في هذه الخلافات دائما تنحصر في أمرين اثنين:
الجهل بموضوع الخلاف، والتفريط في بحثه واستقرائه استقراء كافيا، يحرر نقطة النزاع، ويتحرى الصدق في الرواية، وينقب عن خلفيات الوقائع وبواعثها. والخوض مع الجهل مخالفة لتحذير الخالق سبحانه: »ولا تقف ما ليس لك به علم«(1) كما هو مخالفة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حول القضاة الثلاثة، حيث جعل القاضي بجهلٍ في النار(2).
الظلم لأحد الطرفين المختلفين، تعصبا ضده وتجاوزا، أو إغضاء عن الطرف الآخر ومجاملة، رغم أن الله تعالى حذرنا من أن نندفع مع غريزة العداء، أو أن تستخفنا الخصومة، فنتجاوز حدود بيان الحق و الأخذ به، إلى الظلم والتعدي على المخالفين. كما أمرنا بالشهادة بالقسط، ولو على أنفسنا أو الوالدين والأقربين، فقال تعالى: »ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى«(3) وقال جل من قائل: »يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا«(4).
تلك هي المعاني التي استصحبها ابن تيمية، فأوصى أن لا يخوض في هذا الموضوع إلا من تسلح بالعلم والعدل، وإلا فليترك الأمر لأهله، ويفوض الخلافات إلى رب العباد الحكَم العدل.
__________
(1) سورة الإسراء – الآية 36
(2) سيأتي تخريج الحديث قريبا
(3) سورة المائدة – جزء من الآية 8
(4) سورة النساء – الآية 135(22/52)
وقد حرصنا هنا على انتهاج نهج علماء الجرح والتعديل، لا في تثبتهم في الرواية والنقل فحسب، بل في منطلقهم الفكري الذي تأسس على الإيمان برجحان المبدإ على الشخص، على نحو ما برر به الإمام مسلم جرح الرواة في مقدمة صحيحه، من أنه "ليس من الغِيبة المحرمة، بل من الذب عن الشريعة المكرمة".
إن المنهج الذي ندعو إليه في هذه الدراسة، ونرى شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض أهل الحديث خيرَ من نظَّر له وطبقه، هو منهج قائم على التوازن بين احترام مكانة الأشخاص والتقيد بقدسية المبادئ. وهو يراعي الترجيح الذي يصبح ضرورة شرعية وعملية أحيانا، حين لا يكون الجمع بين الأمرين متاحا، فيتحيز للمبادئ دون لجلجة.
بعد هذه المقدمة من كلام الشنقيطي حول التزام العلم والعدل ، وادعائه أنه سينهج في كتابه هذا منهج أهل الحديث في التثبت في الرواية . يلزمه أن يكون عالما بعلوم الحديث التي تأهله أن يفهم منهجهم في التعامل مع الرواية أولا ، ثم يطبقه عمليا . والحقيقة التي أبداها كتاب الأستاذ الشنقيطي أنه ليس من طلاب هذا العلم الذين يفهمونه ، فضلا أن يكون من علمائه ، واتضح ذلك من خلال المسائل التي تعرض لها من هذا العلم في كتابه .
وأولها مسألة العدالة عند المحدثين وقد تقدم الكلام عنها في أول وقفة من هذه الوقفات .
ثانيها مسألة منهجية المحدثين في تأليف كتبهم ، وقد اتضح ذلك من خلال نقله كلاما للإمام النووي ونسبه إلى الأمام مسلم ، والسبب في ذلك هو الجهل بنهج مسلم في تأليف كتابه ، وأنه لم يبوبه .
قال في ص 26 على نحو ما برر به الإمام مسلم جرح الرواة في مقدمة صحيحه من أنه" ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة ".(22/53)