ولهم شهور تخالف الشهور الإسلامية وعادات تخالف العقائد الإسلامية ومحافل وخلايا مندسة ومبثوثة بين صفوف المسلمين.
ولقد حوربت البهائية واعتبرت عدوة الأديان جميعاً وحظر نشاطها في كل من مصر وتركيا وإيران بعد اطلاع علماء هذه البلدان على نوايا هذه الطائفة المجرمة عميلة الصهيونية العالمية، منذ أن تزعمها المازندراني الذي زعم لنفسه ألقاباً وصفات لا تليق إلا بالله عز وجل، تبعاً لشيخه الشيرازي الذي زعم قبل أن يقتل شر قتلة بأنه المظهر الإلهي، حيث حلت فيه الحقيقة الإلهية أتم حلول، وأنه أيضاً حقيقة كل نبي وقديس ورسول بل هو الله نفسه ( ) .
ثم جاء البهاء وأغرق في الزيارة على تلك الأوصاف كلها وزعم تلك المزاعم كلها، وزاد عليها ما جاد به خياله الواسع في التعالي، حيث زعم أن الباب نفسه إنما جاء هو وسائر الرسل للتبشير بمجيء البهاء، فهو الممثل الوحيد لبهاء الله عز وجل الذي هو متمثل به –تعالى عن إلحادهم ( ) .
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الثالث
زعيم البهائية
مؤسس هذه الطائفة يسمى حسين علي، وأبوه يسمى عباس بزرك النوري المازندراني.
ولد حسين علي النوري المازندراني في قرية من قرى المازندران في إيران تسمى نور، وقيل: ولد في طهران في سنة 1233هـ.
وحين ظهرت البابية لم يكن هذا الرجل معتبراً من حروف ((حي)) التي نظمها الباب الشيرازي، ولا كان له ذكر مشهور في أول قيام البابية، وقد اعتنق البابية سنة 1260هـ وهو في السابعة والعشرين من عمره.
وقد وجد في نفسه على الباب الشيرازي، إذ لم يجعله من حروف حي أي صفوة زعماء البابية، بل جعل أخاه يحيى صبح الأزل منهم، ولكن المازندراني استطاع كظم غيظه وأسرَّ ذلك في نفسه على الباب، إلا أنه ظل يتحين الفرص للظهور، ووجد فرصته حينما عقد البابيون مؤتمرهم في صحراء بدشت.(45/120)
حيث هيأ للمؤتمرين كل وسائل المتعة والترف، واستحوذ على قرة العين غانية البابيين، واستحوذت هي الأخرى عليه، وكانا أساس المؤتمرين وأهم البارزين فيه، إلا أن المازندراني كان يخفي نفسه في أول المؤتمر ليتحاشى الخصومة مع المؤتمرين، ولكنه ظهر في آخر المؤتمر ليقطف ثمرته حين كانت قرة العين- كما سماها الشيرازي- تصر على نسخ الشريعة الإسلامية بالشريعة البابية.
وحينما تأزمت الأمور بينهما وبين بقية المؤتمرين تدخل المازندراني لصالح قرة العين، وأخذ يقرأ سورة الواقعة ويفسرها بتفسيرات باطنية ويزعم لهم أن القرآن نفسه فيه إشارة قوية لنسخ شريعة الإسلام بشريعة الباب، فاجتمعت الكلمة على طاعة قرة العين التي جعلت نفسها بعد ذلك طائعة للمازندراني تمام الطاعة ولقبته على أحد الأقوال –بهاء الله- أو لقب نفسه هو بهذا اللقب، بعد أن تعاظم في نفسه ( ) ، أو لقبه اليهود لتحقيق ما في كتبهم من ذكر بهاء الله ورب الجنود الذي يقيم دولتهم ( ) ، عندما يأتي للإيحاء بأن مجيء المازندراني يعتبر من جملة الإرهاصات لمجيء رب الجنود إله إسرائيل بزعمهم.
ثقافته :
تلقى المازندراني العلوم الشيعية والصوفية وهو صغير، وتزعم كتب البهائية أنه كان يتكلم في أي موضوع، ويحل أي معضلة تعرض له ويتباحث في المجامع مع العلماء، ويفسر المسائل العويصة الدينية، وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره ( ) .(45/121)
وكان شغوفاً بما يتعلق بالمهدي وأخبار المهدي وقراءة كتب الصوفية والفلاسفة والباطنية، إلا أنه حينما عظم في نفسه وجاء بتخريفاته الإلحادية زعم أنه أمي لا يعرف شيئاً، ولكن الله ألهمه العلوم والمعرفة جميعاً ( ) ، وكتب ما كتب من أقوال تعد من أشنع الكذب- وكان محباً مائلاً لأقوال الصوفية وشطحاتهم- إلى أفكار البراهمة والبوذيين والباطنية والمانوية، وغير ذلك من المذاهب التي كان يغترف منها مدعياً أن كلامه وحي وظهور لكلام الله تعالى، ولقد ذكر العلماء أقوالاً شنيعة في تناقض المازندراني حين ادعى أنه أمي مع ما لفقه في كتبه من أقوال الناس ( ) .
عمالته هو وأسرته لأعداء الإسلام والمسلمين :
كانت أسرته عميلة وفية للروس، فقد كان أخوه الأكبر كاتباً في السفارة الروسية، وكان زوج أخته الميرزا مجيد سكرتيراً للوزير الروسي بطهران.
ولذلك كان الجاسوس الروسي كنييازد الجوركي من بناة البابية الأوائل، وليس الروس وحدهم في هذا الميدان؛ بل إن اليهود أيضاً دخلوا في خدمة هذه النحلة أفواجاً مع شدة تعصب اليهود لدينهم ولجنسهم واحتقارهم الآخرين.
وهدفهم واضح من هذه المسارعة وهو دعم هذه النحلة ظاهراً ليوجهوها لخدمتهم، كما تم ذلك بالفعل وبالتعاون أيضاً مع سائر أجهزة التبشير العالمي. وإلا فمتى كان اليهود يحبون خدمة الإسلام والمسلمين على حد من يزعم أن البهائيين مسلمون.
لقد أدرك اليهود وهم يسعون حثيثاً لامتلاك دولة باسمهم أن أي دعوة تقبل فكرة محو الجهاد في سبيل الله تعالى وتستهجنه أدركوا أن هذه الدعوة هي إحدى الروافد التي تمدهم بالقوة.(45/122)
فكيف إذا كانت تلك الدعوة إنما تقوم من الأساس على أكتاف اليهود وعلى تجمعهم في فلسطين، فإن المازندراني نفسه قال في الوحي الذي زعمه: ((قل تالله الحق إن الطور يطوف حول مطلع الظهور، والروح ينادي من في الملكوت هلموا وتعالوا يا أبناء الغرور. هذا يوم فيه سر كرم الله شوقاً للقائه وصاح الصهيون قد أتى الوعد وظهر ما هو المكتوب في ألواح الله المتعالي))، وهذا النداء إنما هو موجه إلى اليهود ليعودوا من كل مكان إلى امتلاك فلسطين وغيرها، وإقامة دولتهم، وجاء ابنه أو عبده –كما سمى نفسه- عباس عبد البهاء فأجلى الحقيقة بما لا وضوح بعده فقال:
((وفي زمان ذلك الغصن الممتاز، وفي تلك الدورة سيجتمع بنو إسرائيل في الأرض المقدسة، وتكون أمة اليهود التي تفرقت في الشرق والغرب والجنوب والشمال مجتمعة)).
إن هذا الكلام ليس إخباراً بالمغيبات ولكنه إخبار عن مؤامرات محكمة لعودة اليهود وتجمعهم في الأرض المقدسة، عاش عبد البهاء ووالده من قبله أول خيوط تنفيذها ولا يزالون إلى اليوم يعملون على إخراجها ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً.
وتاريخنا في هذا العصر إنما هو شاهد على نجاح تلك المخططات بكل وضوح، وشاهد على جرم البهائية ومسايرتها لليهودية، وشاهد على حقدهم على الإسلام وأهله. لقد امتزجت أفكار البهائية بأفكار اليهود وأصبح لليهود فضل كبير على عميلهم البهاء، فقد آزروه، وآووه، وهيئوا السبل لنشر أفكاره.
وكان على البهاء أن يرد جميلهم هذا بأن يضم فكره إلى أفكارهم، ويوجه لهم عقول الناس لتقبلهم وترضى باستعمارهم، ونجد ذلك متمثلاً في الأمور الآتية:(45/123)
ادعى اليهود أن الموجود بأيديهم في الكتاب المقدس حسب زعمهم من البشارات بنبي يبعث بعد موسى وعيسى ليس هو محمداً عليه السلام؛ بل إن تلك البشارات إنما تشير إلى نبي يبعث في القرن التاسع عشر، القرن الذي ظهر فيه البهاء، وأن تلك البشارات انطبقت تماماً على البهاء في زمنه، وأن نصب خيام البهاء على جبل الكرمل قد أشارت إليه التوراة والإنجيل.
وأن اليهود في زمن النبي عليه السلام إنما أقروا له ( ) بالنبوة واعترفوا بإثبات البشارات به تملقاً واتقاء له كما يفترون، وهذا هو السبب في زعمهم الذي قوى في الرسول عليه السلام الاعتقاد بأن أهل الكتاب أخفوا البشارات التي جاءت فيه. أي حينما لم يصارحوه بأن هذه البشارات إنما تنطبق فقط على رجل سيأتي فيما بعد ذلك وليس هو محمداً صلى الله عليه وسلم .
ومن هنا قام الميرزا حسين المازندراني مدافعاً عن اليهود والنصارى ومبطلاً ما وضحه القرآن من تغيير أهل الكتاب للنصوص المثبتة لنبوة محمد عليه السلام وإخفائهم لها.
فزعم أن هذا الفهم لتحريف أهل الكتاب إنما هو فهم الهمج والرعاع-يقصد علماء المسلمين- وأن التصحيح كما يزعم هو أن التحريف الذي وقع فيه اليهود إنما هو تفسيرهم للفظ الدال على نبوة محمد عليه السلام إلى تفسير آخر لا يدل عليه، وإلا فهم حسب رأيه لم يغيروا ولم يبدلوا.
ثم شبه حال اليهود في امتناعهم عن التسليم بصفات الرسول محمد عليه السلام بحال المسلمين الذين لم يؤمنوا بدعوة البهاء، وفسروا النصوص لغير صالحه وصالح دعوته الممقوتة.
وهذه الفرية الكاذبة يعرف بطلانها كل من شرح الله صدره وآمن بما جاء في القرآن الكريم وتفهم معاني نصوصه، فيعرف أن ما ذكره عن تحريف أهل الكتاب وتغييرهم له بحسب أهوائهم هو تفسير منه حسب هواه وفجوره .
هيأ اليهود لعميلهم في عكا قصر البهجة الذي صار بعد ذلك مهوى أفئدة البهائيين وقبلتهم وكعبتهم الجديدة حسب أمر الله وإرادته كما يزعم البهاء.(45/124)
اشتمل كتابه الأقدس على بشارات للصهاينة واستيطانهم في فلسطين وصاغ ذلك بعبارات توحي بأنه من علم الغيب وليس من معرفته بسر المؤامرات.
دعا في كتابه المذكور إلى تحريم الجهاد وذلك بتحريم حمل آلات الحرب مطلقاً، وأن الشخص خير له أن يكون مقتولاً لا قاتلاً، فلا جهاد في عهده لليهود ولا لغيرهم.
ولتمييع شعلة الجهاد في نفوس الرجال أباح لهم لبس الحرير في نص واحد دل على تحريم الجهاد وإباحة لبس الحرير، وهذا النص ظاهر الدلالة على الدعوة إلى الميوعة والخمول فإذا كان الرجل يلبس الحرير ويظهر النعومة ولا يحدث نفسه بالجهاد بل بالهرب منه فأي رجولة تبقى له بعد هذا وبعد لبسه الحرير ( ) ، فحال مثل هذا أخطر من اليهود.
ولم تقتصر عمالة المازندراني لليهود فقط، فقد ظل على اتصال وثيق بالدول الأجنبية المعادية للإسلام، وعلى رأس هؤلاء الإنجليز كبار المجرمين العالميين الذين نكبوا المسلمين بما لم يصل إليه أحد غيرهم، لقد عرف الإنجليز –كما عرف اليهود- أن قيام حركة المازندراني وانتصارها إضافة جديدة إلى رصيدهم من الأسلحة الفتاكة بالعالم الإسلامي.
وقم أتم عبد البهاء ما كان أسسه الطاغوت الكبير من خدمة الإنجليز، فلقد منح الإنجليز عبد البهاء وسام الإمبراطورية البريطانية في احتفال أقامه الحاكم البريطاني ((أللنبي)) في بيته وألقى كلمة شَكَرَ فيها عبد البهاء وأنعم عليه بلقب ((سير))، فكان يدعو لهم بالنصر والتأييد ظاهراً وباطناً.
ومن هنا فلا عجب حين تعلم أن الإنجليز قد خططوا ونفذوا بكل ما في وسعهم لقيام الحركة البهائية، بالأموال وبالتأييد المعنوي، وبتسهيل تنقل البهائيين، وتحذير كل من يفكر في صد طغيانهم، على غرار ما فعلوه مع عميلهم في الهند غلام أحمد، لأن الهدف واحد والغاية واحدة لكلا العميلين.(45/125)
وفي دراسة القاديانية نصوص كثيرة عن هذا العميل القادياني وتبجحه بخدمة الإنكليز، وإخلاصه لهم ظاهراً وباطناً، وأن عقيدته ستتسع باتساع ملك بريطانيا، وقد أكد هذا المفهوم هو وخلفاؤه كلهم، ولا يزالون عليه إلى يومنا الحاضر.
ولم يكتف المازندراني بالعمالة للإنجليز واليهود؛ بل كان على اتصال وثيق بالروس، وكانوا يقدمون له المساعدة والرعاية بسخاء، ولا أدل على ذلك من وقفة السفارة الروسية حين تحمست لحمايته عندما عزمت الحكومة الإيرانية على تقديمه للمحاكمة، حينما قامت محاولة من جانب البابيين لقتل الشاه انتقاماً لقتل زعيمهم علي محمد الشيرازي.
فاتهم النوري بالتآمر على ذلك فآوته السفارة وحذرت ملك إيران ناصر الدين شاه من المساس به؛ بل وقدمت السفارة الحجج على براءة عميلهم من تلك المؤامرة الفاشلة التي دبرها زعماء البابية لاغتيال الملك.
ويتضح من اعتناء الروس به أنهم اختاروه لعمالتهم بعد قتل الشيرازي واشتروا ضميره، وقرروا أن يجعلوه رئيساً للبابيين بدل أخيه صبح الأزل الذي كان يقل عنه مكراً ودهاءً، ولأجل ذلك كان تنحية صبح الأزل عن المسرح وإقامة حسين المازندراني مقامه لما رأوا فيه من الدهاء والذكاء والمكر ومسايرة الأمور والمماشاة مع الأحوال والظروف.
وحينما كان المازندراني في إيران كان وجوده هناك يشكل حركة خطيرة، ولهذا أحست الحكومة أن خطره يتزايد فطلبت من الحكومة العثمانية نقله إلى داخل الإمبراطورية التركية فنقل إليها، وبدأ يجهر بدعوته البهائية فعارضه أخوه صبح الأزل بعد أن أحس أنه يحتطب لنفسه ويريد إقصاء صبح الأزل، ومن هنا بدأ الشقاق بين الأخوين، وبدأ الميرزا حسين علي يدبر المؤامرات ضد المخالفين له، وبعد ظهور الخلاف بين الأخوين وأتباع كل منهما رأت الحكومة أن تبعد كل واحد عن الآخر فنفت البهاء إلى فلسطين ويحيى صبح الأزل إلى قبرص.(45/126)
فلقي حسين علي في فلسطين التأييد الكامل من اليهود الذين كانوا يحاولون في تلك الأثناء إقامة دولتهم وإسقاط الحكم العثماني.
وقد تدرج المازندراني في دعواه، فبدأ يبشر بأنه هو خليفة الباب الشيرازي وحده ثم ادعى أنه هو الباب، ثم انتقل إلى دعوى أن الباب لم يأت إلا ليبشر به كما كان يوحنا مبشراً بالمسيح، ثم ادعى أنه هو نفسه المسيح الذي بشر عنه وأنه هو النبي والرسول إلى الناس.
ولما وجد أذاناً صاغية لتلك الافتراءات لم يكتف بما ادعاه سابقاً؛ بل تاقت نفسه إلى دعوى الألوهية، وأن الله ظهر في صورته –تعالى الله عما يقول الظالمون.
وكان إذا مشى في الطريق أسدل على وجهه برقعاً لئلا يشاهد بهاء الله المتجلي في وجهه، وقد نشرت صورته في بعض الكتب مبرقعاً وكتابه الأقدس مملوء بالدعوة إلى ألوهيته وتصرفه في هذا الكون كما يريد، وزعم أن الرسل من أولهم إلى آخرهم لم يبعثوا إلا مقدمة بين يدي ظهوره المتمثل في ظهور الله تعالى قريباً من خلقه ( ) .
هذه بعض الأخبار التي ذكرها العلماء في كتبهم عن عمالة هذا الشخص والأدوار المرتبة التي عاشها هو وخلفاؤه في أحضان أعداء الإسلام، وفي وقت توالت فيه الضربات من كل جانب على الدولة التي كانت تمثل العالم الإسلامي، والتي كانت هي الأخرى تدنوا إلى نهايتها رويداً رويداً.
في الوقت الذي نشط فيه حثالات الناس وكبراء اللصوص وأصحاب المطامع والأخيلة المريض وساسة الشر والحقد لاقتسام تركة الرجل المريضة في هذا الجو الخانق والظلام الحالك، استطاع هؤلاء أن يصطادوا في الماء العكر؛ أي في غفلة من الحراسة الإسلامية وانشغال الدولة الإسلامية بمشاكلها التي افتعلها أعداء الإسلام ليشغلوهم بها في عقر دارهم.(45/127)
ولقد ظهر لي من خلال دراستي عن البهائية وأقوالهم ومواقفهم، والتفاف اليهود حول البهاء المازندراني ومساعدته ونشر أفكاره وقيام بعض كبراء اليهود بتأليف الكتب في تثبيت عقائد البهائية والدعاية لها-ظهر لي من هذا وغيره رأي لم أجد من أستند إليه في ذكره، ولكن لا يمنع أن أذكره ليكون محل لفت نظر؛ وهو أن أصل البهاء لا يستبعد أن يكون يهودياً من يهود إيران استناداً إلى ما سبق، وإلى مسارعة اليهود للدخول في نحلته وسماحهم له أن يتلاعب بنصوص كتبهم المقدسة، ويفسرها بأنها بشارة به ثم يؤيده علماؤهم على هذا الفهم، مع شدة تعصب اليهود ضد الجوييم أو الأمميين كما يسمونهم، ولهذا ساعده اليهود بكل قوة، ونشروا أفكارهم بكل وسيلة.
وفاة المازندراني :
وبعد أن بلغ الخامسة والسبعين من العمر أصابته الحمى، وقيل: إنه جن في آخر حياته، وكان ابنه عباس عبد البهاء يعمل كحاجب له فاستأثر بالأمر وأغدق على الجماعة الأموال فأحبوه. وحين اشتدت الحمى بمدعي الألوهية جاءه القدر المحتوم فمات في سنة 1309هـ.
ودفن قرب منزله في عكا وقيل في حيفا، وكان قد زعم أن غروب شمسه أي موته لم يكن إلا لحكمة، وأنه مع أتباعه يراهم ويؤيدهم وينصرهم بالملائكة المقربين، وقد أوصى بالخلافة من بعده لابنه الأكبر عباس، وبعده للأصغر منه الميرزا محمد علي، وكتب بذلك كتاباً وختمه بختمه، إلا أن الأمور لم تسر على هذا الوجه.
فقد استولى عباس على الأمر كله ولم ينفذ وصية والده، ونشبت بين الأخوين خلافات هائلة أعادت إلى الأذهان تلك المؤامرات التي قام بها والدهما مع أخيه صبح الأزل، وما حصل بينهم من المهاترات والنزاعات الشديدة، فكان هذا خير خلف لتنفيذ خيانة سلفه بتمامها، وهذا لا غرابة فيه، ذلك لأن أساس هذه الملة إنما قام على الخيانة والغدر والكذب من أول يوم.(45/128)
وعن موت هذا الإله المزعوم يقول الدكتور جون أسلمنت: قضى بهاء الله أواخر أيامه على الدنيا بكل هدوء وسكون، وصعد –ولم يقل ومات- بعد إصابته بالحمى في 28 مايو سنة 1892م، في سن الخامسة والسبعين.
وقال الجلبائيجاني: ((وصعد الرب إلى مقر عزه الأقدس الأعلى، وغابت حقيقته المقدسة في هويته الخفية القصوى، وكانت هذه الحادثة في ثاني شهر ذي القعدة سنة 1309هـ، وسادس عشر من شهر مايو سنة 1892م)) ( ) .
قال عبد الرحمن الوكيل في بيان معنى كلام الجلبائيجاني:
((يشير إلى أن روح الله التي زعم أنها كانت حالة في البهاء عادت إلى حالة التجرد من الجسمية))( ) .
وقال عن هلاكه بجرثومة الحمى:
((ولم يستطع رب البهائية الأكبر –وحوله كل تلك القوى- أن يصمد في حومة ذلك الصراع الرهيب الذي دار بينه وبين خلق دقيق ضعيف، كانت تزعم البهائية أنه من صنع ربها الملعون فانهار فاغر الفم من الرعب...)) إلى أن يقول عن دفن جثته الخبيثة:
((ثم زجوا بها في ظلمات القبر لخلق آخر يفترسها السوس الشره والدود المنهوم، حتى هذه العظة التي ترغم العقل والحس على السجود لم تجد طريقاً إلى قلوب البهائية لأنها غلف، فظلوا ينتظرون ربهم على باب قبره، وظلوا ينتظرون أن يطعمهم والدود يطعمه)) ( ) .
ومما أحب التنبيه عليه أن الدكتور أحمد محمد عوف قد أخطأ في بيان هلاك المازندراني حين علل ذلك بأنه مات مقتولاً على يد أتباع أخيه صبح الأزل ، وذلك في قوله:
((وهناك قتل أتباع صبح الأزل البهاء حيث دفن في عكا عام 1892م ،وبعد وفاة المازندراني خلفه ابنه عباس أفندي، وكان المازندراني قد أوصى كما تقدم أن يتولى الأمر بعده ابنه عباس، ثم من بعده محمد علي ولكن عباساً استأثر بالأمر فحصل بينهما شقاق وخلاف شديد وانقسم البهائيون حينئذ إلى فرقتين:
الفرقة الأولى، وهي الموالية لعباس أفندي، وتسمى العباسية.(45/129)
والفرقة الثانية، وهي الموالية لمحمد علي بن حسين المازندراني، وتمسى الموحدون، وصار بعد ذلك مجموع فرق البهائية بعد حدوث الانشقاقات بينهم أثر شدة المنازعات خمس فرق هي:
البابية الخلص.
الأزلية أتباع صبح الأزل.
البهائية.
العباسية.
الموحدون.
وقد آلت زعامة البهائية بعد عباس أفندي عبد البهاء إلى ابن ابنته، وهو شوقي أفندي؛ لأن عبد البهاء مات ولم يخلف غير أربع بنات فخلفه شوقي بوصية منه ولقبه آلة الله وولي أمر الله، ثم أوصى عبد البهاء بإمامة البهائية إلى أولاد شوقي الذكور دون الإناث، لكن شوقي مات بسكتة قلبية في لندن ولم يخلف لا ذكوراً ولا إناثاً.
وقد اشتهر من البهائيين رجال أمثال الملا محمد ابن الملا محمد رضا الجليائيجان الملقب بأبي الفضائل الذي لقبه الشيخ عبد الرحمن الوكيل بأبي الرذائل.
ومنهم إبراهيم جورج خير الله الذي أسس مركز البهائية في شيكاغو، ومنهم جمشيد ماني صاحب طائفة السماوية، ومنهم أحمد سهراب وغيرهم من كبار البهائية، كما اشتهرت بعض النساء ومنهن امرأة إنجليزية تسمى ((لورا كليفورد بارني)) وأخرى أمريكية تسمى ((مارثاروث))، وكان لهما جهد كبير في نشر البهائية.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الرابع
دعايات للبهائيين
البهائية –كما هو واضح من تعليمهم ومعتقداتهم- مذهب خارج عن الإسلام، لا يتفق مع الإسلام في شيء، بل ولا مع تعاليم الديانات السماوية كلها، بعد أن وصل أتباعه بالمشئوم حسين المازندراني إلى درجة الألوهية حيث دعاهم فاستجابوا له.
ويعود تأسيس هذا المذهب إلى الجهود التي بذلها أعداء الإسلام في سبيل نجاحه، حين احتضنته اليهودية العالمية لتجعل منه معولاً هداماً، وشوكة مشغلة للمسلمين والعرب بخصوصهم؛ لئلا يلتفتوا إلى أطماعهم في استعمار فلسطين وما يتبعها حسب الخارطة المرسومة عندهم لابتلاع أراضي المسلمين وإقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.(45/130)
ومن هنا فإن تعاليم البهائية كلها قائمة على نسخ الشريعة الإسلامية حسب ما قرره أقطاب البابية في مؤتمر بدشت مستبدلين عن الشريعة الإسلامية أفكارهم الحاقدة، ومستبدلين عن نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم الملحد المازندراني، ومستبدلين بالقرآن الكريم كتاب ((الأقدس))، الذي زعم المازندراني وأتباعه أنه أفضل من القرآن الكريم، بل ومن كل الكتب السماوية.
وتعاليمهم كثيرة بسبب إصرارهم على نسخ جميع الأديان وبقاء البهائية فقط، ولهذا طرقوا كل باب وظنوا أنهم قدموا للبشرية ما يصلحهم في دينهم ودنياهم، فكانوا كما قال الله تعالى: ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ{13} وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ{14} اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ? ( ).
وهذه الآيات العظيمة تنطبق تماماً على البهائية؛ فهم مفسدون ويزعمون أنهم مصلحون، وهم سفهاء ويظنون أنهم أوتوا علماً لم يؤته أحد قبلهم، وهم كذلك من أمهر الناس في النفاق والتملق والمراوغة، يعطون كل شخص يجدونه ما يحبه من الأقوال والأفعال، وقد أخبر الله عز وجل أن من كانت هذه صفته فإن الله يمد له في طغيانه إلى أن يصبح أضل من الأنعام ثم يجد بعد ذلك جزاء كل ما قدم.
وفيما يلي نذكر أهم دعاياتهم التي ينادون بتحقيقها ليضمنوا للبشر السعادة فيما يزعمون، وهي:
وحدة جميع الأديان والالتقاء على دين واحد، لتزول الخلافات بين الناس، ومن المعروف بداهة أن ذلك الدين سيكون الدين البهائي بطبيعة الحال.
وحدة الأوطان: بحيث تنمحي المفاهيم الوطنية ولا يبقى في الأذهان إلا الوطن الذي سيختاره المازندراني لهم.(45/131)
وحدة اللغة: بحيث لا يتكلم الناس كلهم بأي لغة لا محلية ولا عالمية إلا اللغة التي سينتخبها لهم المازندراني.
السلام العام والتعايش الهادئ بين كل الشعوب: كما تتعايش الخرفان، وذلك إذا طبقوا السياسة البهائية.
المساواة بين الرجل والمرأة: بحيث يصبح المجتمع كله في رتبة واحدة لا قوامة لأحد على آخر، فلا فرق بين الرجل والمرأة الكل عبيد البهاء.
وهذه اللغة البارعة منه تدل على مدى إجادته للتملق والنفاق الذي لم يحققه هو نفسه في حياته ولا خلفاؤه من بعده كما سيأتي في مناقشة هذا الطلب المستحيل.
وحينما قرر البهائيون هذه الأمور فرحوا فرحاً شديداً وظنوا لجهلهم أنهم اكتشفوا للعالم باباً إلى السعادة ما كانوا يعرفون الاتجاه إليه، وظنوا أن هذه الخيالات التي لا يمكن على الإطلاق أن تتم ظنوها شيئاً فإذا بها سراب بقيعة، أول ما فيها تريد أن تحقق شيئاً يريد الله خلافه، لأنه جعل الخلق على حال لا تتحقق فيها تلك الأحلام البهائية كلها.
وهم يعرفون هذا تماماً ولهذا فقد كذَّبت أفعالهم أقوالهم وتناقضوا في هذا تناقضاً فاحشاً وظهرت الحقيقة التي يهدفون من وراء مناداتهم بتلك الأسس، فإذا بها فخ بهائي لاصطياد العوام من الناس، وللتنفيس عن حقدهم الشديد على العالم والرغبة في السيطرة عليه بتلك الوسائل كلها، بما فيها تملق ونفاق المرأة وخداعها بوعود البهائية البراقة.
1- وحدة الأديان :
أما الهدف الأول، وهو زعمهم أن الأديان واحدة، وأن الناس يجب أن ينبذوا كل الأديان ثم يجتمعون على دين واحد.
لعل مما يوضح ماهية هذا الدين هو ذلك الإصرار من البهاء وأتباعه على أن جميع الأنبياء إنما جاءوا للتبشير بظهور هذا البهاء والاحتفاء به وبسخافاته،و أن الله تعالى قد تجلى في طلعته، وأنه هو مظهر الله الأكبر والساعة العظمى والقيامة والبعث، وأن الالتزام به وبدعوته هي الجنة، وأن النار هي ترك اتباعه.(45/132)
لقد كان المازندراني من أشد الناس تشبعاً بمبادئ الصوفية الإلحادية، فهو من كبار القائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد التام. ومن هنا فإنه لم ير أي مانع من دعوى الألوهية.
ومن المعلوم أنه ما دام البهاء هو مظهر الله في زمنه –حسب سخافاته- فإنه لا دين ولا معرفة، ولا حق ولا باطل، ولا حلال ولا حرام إلا ما جاء عن طريقه، والنتيجة من كل ذلك أن الناس يجب أن يجتمعوا على الدين البهائي فقط، ولهذا فهو يلح في تقرير وحدة الوجود بينه وبين الله، وأن الأديان كلها دين واحد، وأن الذي يمثل الله في تجليه في عصر البهائية إنما هو البهاء نفسه، وما دام الله هو البهاء فيجب أن يبقى الدين هو ما يريده البهاء.
وأقوال البهاء في تقرير ألوهيته كثيرة جداً ملأ بها كتابه ((الأقدس))نكتفي بذكر الأمثلة الآتية:
((قل: لا يرى في هيكلي إلا هيكل الله، ولا في جمالي إلا جماله، ولا في كينونتي إلا كينونته، ولا في ذاتي إلا ذاته، قل: لم يكن في نفسي إلا الحق ولا يرى في ذاتي إلا الله)) ( )
ويقول أيضاً :
((يا قوم طهروا قلوبكم ثم أبصاركم لعلكم تعرفون بارئكم في هذا القميص المقدس واللميع)) ( ) .
ويقول مخاطباً البابيين وغاضباً عليهم حين لم ينضموا تحت لوائه:
((يا أهل النفاق قد ظهر من لا يعزب عن علمه شيء)) ( ) .
وقال في استفتاحه لكلماته التي سماها فردوسية:
((كلمة الله في الورق الأول)).
وأما أقوال ابنه عبد البهاء عباس، وأما أقوال كبار أصحاب البهاء فحدث عن كثرتها ولا حرج، كلها تؤكد ألوهية المازندراني وأن له طبيعتين ناسوتية ولاهوتية، ولا انفصال لإحداهما عن الأخرى، وأنه المثل الحقيقي لبهاء الله تعالى فحينما وجد البهاء وجد بهاء الله متمثلاً فيه أتم تمثيل، وهذا ما جعله يضع برقعاً على وجهه لئلا يرى كل أحد بهاء الله.(45/133)
وقد عزمتُ على كتابة تلك النصوص عن البهائية في تقريرهم ألوهية زعيمهم، إلا أنني فترت عن إثباتها هنا، أولاً لاشمئزاز نفسي عنها، وثانياً لأنها كلها تهدف إلى إثبات ألوهية ذلك المعتوه، وإذا كان كتابه ((الأقدس)) غير موجود هنا حالياً، فقد كاد أن يكون بكل يسر وسهولة من خلال ما كتبه العلماء عن البهائية وعقائدهم وكتبهم.
بل توجد كتب صورت ذلك الكتاب كما هو؛ مثل كتاب البهائية الفكر والعقيدة تأليف صالح كامل، ومثل كتاب خفايا الطائفة البهائية للدكتور أحمد محمد عوف، حيث نقل الأقدس كله، وكذا ما نقله الشيخ إحسان إلهي رحمه الله، في كتابه البهائية نقد وتحليل، وما كتبه الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله، وغير ذلك من الكتب المتوفرة في المكتبات، ولهذا فإني لا أظن أن هناك حاجة إلى إثبات تلك النصوص الإلحادية التي تدمغ البهائيين في اعتقادهم أن زعيمهم المازندراني هو الله، كيف وهم أنفسهم يصرحون بربوبيته بدون أن يجدوا حرجاً في ذلك؟!
أما زعمهم أنهم السابقون إلى تقرير وحدة الأديان والاجتماع على الدين الحق والأخوة الصادقة واحترام كل شخص للآخر في إطار الإيمان بالله تعالى وبرسله، فلا يجهل أحد من المسلمين أن هذه الفكرة ليست من بنات أفكار المازندراني ولا من وحيه، وإنما هذا مبدأ إسلامي قرره الله في القرآن الكريم والنبي العظيم، وليس للبهاء فيها إلا تلك العبارات التي أراد أن يحاكي بها ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية، فإن الله تعالى قد أمر نبيه أن يخاطب أهل الكتاب بالرجوع إلى الحق والتعمق في استخراجه فقال لنبيه: ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? ( ) .(45/134)
وهذا الطلب قد جعله الله تعالى في إطار الاقتناع واللين فقال:
? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ? ( ). بل وأكد عز وجل على البر والعدل تجاه المخالفين للدين الصحيح، ما داموا لم يواجهوا المسلمين بأذى فقال تعالى: ? لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ? ( ) .
فهل جاء المازندراني بمثل هذا العدل والتسامح مع المخالفين إلى حين إقناعهم بالحق أم أَمَرَ فوراً أن يُقتل المخالف لمبادئه، وأن تحرق الكتب الأخرى غير كتبه، وألا ينظر الناس إلا في جماله وبهائه وكتبه، وألا يفكروا إلا فيه وفي رضاه لا غير؟
نعم، لم يأت في الحث على وحدة الأديان إلا بمثل تلك السخافات التي أراق من أجلها كثيراً من الدماء هدراً، وذم لأجلها كل الأنبياء والرسل وكل المصلحين لقصورهم في زعمه عن بيان حقيقته ودعوته المشؤومة، حيث كان أهم ما أرسلوا به إنما هو التبشير بظهور البهاء.
وبالرجوع إلى مناداة البهائية بوحدة الأديان نجد أن الإسلام قد حث وأبلغ في وجوب التمسك بالدين الحنيف المنزل من رب العالمين، بحيث لو طبقه البشر لسعدوا في الدنيا والآخرة.
فإن كل ما فيه خير ويدعو إلى خير، وليس فيه تناقض ولا عصبية بغيضة، ولا أفكار رديئة مثل ما هو الحال في البهائية التي تدعو الناس كلهم إلى ترك دينهم والتمسك بعقيدة البهاء، التي هي مملوءة بالأفكار القاصرة والآراء المتناقضة والعصبيات الشنيعة، لأنها ملفقة من شتى الأفكار من مسيحية، ويهودية ومجوسية وإسلامية وصوفية إلحادية.(45/135)
فكيف يتفق الناس على ديانة هذا أقل شأنها؟ بل كيف يتفقون على دين لم يوحد بين أصحاب المذهب نفسه! فإن العداوة الملتهبة بين البابيين والبهائيين، بل وبين الأخوين المازندراني وصبح الأزل لا ينساها أحد، وهنا يصح قول الناس: فاقد الشيء لا يعطيه.
وقد ظن حسين علي المازندراني حين أمر أتباعه أن يتفننوا في النفاق ومجاملات الآخرين فيصلوا مع المسلمين، ويدخلوا الكنيسة مع النصارى، ويدخلوا في محافل اليهود، وأن يتوددوا إلى الهندوس في معابدهم –ظن أن هذا النفاق البغيض هو البداية إلى تحقيق وحدة الأديان فكانت النتيجة عكس ما أراد.
فإن الناس حين كانوا يشاهدون عبد البهاء في كل مكان مع المسلمين ومع النصارى ومع اليهود ومع الهندوس ومع كل صاحب ملة عرفوا تماماً أن المقصود من وراء ذلك إنما هو الزعامة العالمية وهدم كل الأديان، وأن تلك التحولات إنما هي النفاق بعينه، بل والتخبط والاضطراب الفكري.
لأن الجمع بين المتناقضات ليس من فعل الإنسان السوي الذي يحترم مبدأه ونفسه فضلاً عن من يريد قلب الأمور وإصلاح المجتمع وتوحيد أفراده على حسب ما ترى من ضرورة ذلك إذا كان فعلاً مقتنعاً بمبدئه وصلاحيته للأمة.
لقد اهتم البهائيون والبابيون أيضاً بمحاربة الإسلام والمسلمين اهتماماً شديداً، وسبوا تعاليم الإسلام بأشد السباب، ومن ذلك ما جاء في الإيقان للمازندراني تسمية المسلمين بالهمج الرعاع حيث قال: ((انقضى ألف سنة ومائتان وثمان من السنين من ظهور نقطة الفرقان –أي الرسول صلى الله عليه وسلم -، وجميع هؤلاء الهمج الرعاع يتلون الفرقان في كل صباح، وما فازوا للآن بحرف من المقصود)) ( ) .
ويقول أيضاً في كتاب له يسمى مجموعة الألواح محذراً البهائيين عن الاجتماع بالمسلمين:(45/136)
((إياك أن تجتمع مع أعداء الله في مقعد، ولا تسمع منه شيئاً ولو يتلى عليك من آيات الله العزيز الكريم؛ لأن الشيطان قد ضل أكثر العباد بما وافقهم في ذكر بارئهم بأحلى ما عندهم، كما تجدون ذلك في ملأ المسلمين بحيث يذكرون الله بقلوبهم وألسنتهم ولا يعملون كل ما أمروا به، وبذلك ضلوا وأضلوا الناس إن أنتم من العالمين)) ( ) .
كما أن دعوتهم إلى توحيد الأديان ثم قصر ذلك على ديانتهم فقط يعتبر من أقوى الأدلة على كذبهم في مناداتهم باتحاد الأديان والتسامح معها، فالمازندراني يقول في كتابه ((الأقدس)) الذي يعده ناسخاً للقرآن الكريم :
((والذي يتكلم بغير ما نزل في الوحي –أي وحيه في كتابه المذكور- أنه ليس مني، إياكم أن تتبعوا كل مدع أثيم)) ( ) ، ويقول أيضاً:
((طوبى لم يشهد به الله وويل لكل منكر كفار والذي أعرض عن هذا الأمر إنه من أصحاب السعير)) ( ) ، ووصل الحال بالمازندراني أن أصدر أمراً إلى جميع من يسمع ويرى ألا يرى ولا يسمع إلا المازندراني ويترك جميع ما في هذا الكون إذا أراد النجاة-على حد زعمه- فهو يقول:
((يا صاحب العينين أغمض عينيك عن العالم وأهل العالم كله وافتح عينيك علي وعلى جمالي المقدس)) ( ) ، ولأجل تنفيذ هذا التعصب ضد المخالفين للبهائية كان البهائيون يمحون كتب مخالفيهم، خصوصاً كتب المسلمين التي كانوا يتلفونها بكل حقد وغيظ ليتحقق لهم ما يؤملون من إخراج المسلمين عن دينهم. والله متم نوره ولو كره الكافرون.
ولم ينخدع المسلمون –ولله الحمد- بهذه الدعوى التي يروجها البهائيون فإن الدين الإسلامي الحنيف قد حث على الاجتماع على العقيدة الصحيحة الربانية بطريقة تكفل الخير للجميع، وتهديهم إلى سواء السبيل بأتم بيان وأحسن عدالة وأكملها إلى نهاية الكون.
2- وحدة الأوطان :(45/137)
أما دعوتهم هذه إلى وحدة الاوطان فمعناها أن العالم يجب أن ينتمي كله إلى وطن واحد، وأن ينتمي إلى جزء من الأرض متعصب رديء صاحب خرافة ووهم، لأن الشريعة البهائية قد طلبت أن تكون الأرض وطناً واحداً لجميع العالم، ويجب أن تنمحي الحدود بين البلدان ودون النظر إلى أي اعتبار، وأن يتعايش الناس فيها دون النظر إلى أي اعتبار سياسي أو اجتماعي.
فيجب على كل شخص أن يحب الأرض كلها ولا يفضل وطناً على آخر؛ فالعالم وطن واحد لكي يلتقي الناس على الحب والولاء المشترك، ولكن لمن سيكون هذا الولاء المشترك؟ إنه بدون أي تفكير سيكون للبهاء وأتباعه، ومن هنا أخذوا يقررون القول بوحدة الأوطان ويذمون كل من يحاول أن يذكر مفهوماً غير هذا.
قال أسلمنت: ((ومن التعصيبات الرديئة التي تلحق بالتعصب الجنسي، التعصب السياسي أو الوطني، فقد حان الوقت لأن تندمج الوطنية الضعيفة ضمن الوطنية العمومية الكبرى التي يكون فيها الوطن عبارة عن العالم بأجمعه، فيقول بهاء الله: قد قيل في السابق: ((حب الوطن من الإيمان)) ( ) ، وأما في هذا اليوم فلسان العظمة ينطق ويقول: ((ليس الفخر لمن يحب الوطن؛ بل لمن يحب العالم)) ( ) ، ويقول عباس أفندي: ((ومنذ الابتداء لم تكن هناك حدود بين البلدان المختلفة فلا يوجد جزء مملوك لقوم دون غيرهم)) ( ) .
والواقع أن هذه الدعوى يدل ظاهرها على أنها من الأمور التي يتمناها كل إنسان في هذه الأرض المملوءة بالشرور والظلم، والدعوة إلى تحقيقها من الأمور التي تلفت النظر بشدة، إذ إن لها لمعاناً وبريقاً يخطف الأبصار.(45/138)
والمشكلة لا تكمن في مجرد الدعوى إلى استنباط هذه الفكرة، فهي سهلة جداً ولا يجهلها أحد مهما كان مستواه الثقافي، بعكس ما يظن البهائيون أنهم هم الذين اخترعوا الدعوة إليها، نعم، إن المشكلة لا تكمن في مجرد استنباطها، وإنما تكمن المعضلة في كيفية تحقيقها والأسلوب الذي يبذل ليقنع الناس بها، فهل وفق البهائيون إلى ذلك؟
إن الجواب غير خاف على أحد، فهو يحتل أكبر صيغ النفي: لم يقدم البهائيون من الحلول إلا الدعوة إلى احترام أرض الطاء وإلقاء السلاح، لئلا يخيفوا به الطامعين في الاستيلاء على ديار المسلمين في أرض الخاء التي يناديها المازندراني في كتابه الأقدس ((يا أرض الخاء))( ) ، أي أرض الخراب يقصد فلسطين التي عاش فيها عيشة الملوك.
لم يقدم المازندراني ولا أتباعه ما ينفع الناس بترك الانتساب إلى أوطانهم والإلتفاف حول الوطن الذي يختاره لهم المازندراني؛ لأن صاحب هذه الدعوة هو نفسه في أوائل من ينادي بالوطنية، وذلك في إظهاره التلهف على أرض الطاء طهران إيران، ونظرته المتعالية المترفعة على الأرض التي آوته إليها يد الغدر والعدوان، الأرض التي عاش فيها عيشة الملوك، ومع ذلك فهو يسميها أرض الخاء، وكان ينبغي أن يكون هو القدوة فلا يناقض نفسه بنفسه.
ومن هنا فإن المازندراني وأتباعه قد كفوا الناس مهمة الرد عليهم حيث كذبوا أنفسهم بأنفسهم؛ لأن تناقض المازندراني صاحب الفكرة قبل غيره من أتباعه أكبر دليل على كذبهم في إخلاصهم لسعادة البشر، فبينما هو ينهى عن الانتساب إلى وطن بعينه إذا به يبكي ويندب حظه على فراق وطنه-أرض الطاء كما يسميها، ويتأسف لغربته في البلدان بعيداً عن إيران حيث تغرب في العراق وتركيا وفلسطين.(45/139)
ويظهر هذا في كتابه إلى أحد أصدقائه قائلاً له: ((يا أحمد لا تنس فضلي في غيبتي، ثم اذكر أيامي في أيامك ثم كربتي وغربتي في هذا السجن البعيد)) ( ) ، ويقصد بهذا السجن وطنه الجديد فلسطين-ثم ينادى أرض الطاء-طهران إيران فيقول: ((يا أرض الطاء لا تحزني من شيء قد جعلك مطلع فرح العالمين، افرحي بما جعلك الله أفق النور ولد فيك مطلع الظهور( ) - أي نفسه)) .
وهذا الكلام والأسى والحزن على وطنه طهران وذمه لفلسطين وتسميته لها أرض الخاء تناقض ظاهر؛ إذ كيف يزعم أنه لا يجوز تفضيل وطن على وطن ثم بعد ذلك يمدح وطناً ويذم آخر بدون مبرر إلا مجرد الهوى، ونسي فلسطين وأدرنة التي آوته زمناً دبر فيها مع اليهود الخطط التي ينبغي عليه أن يسلكها لجعل فلسطين يهودية ولانتشار دعوته المشئومة التي أراد منها أن تكون ديانة عالمية تنسخ جميع الأديان حسب زعمه.
ثم ذهب يتخبط في جهله فجاء في كتاب الأقدس بكلام يتنزه عنه العامي أن ينسب إليه لكثرة ما فيه من التناقض، ومن الآراء الخيالية والتعاليم الباهتة ويلحق بمحو فكرة الأوطان المختلفة أن يمحي أمراً هاماً جداً من أذهان الناس تبعاً لمحو فكرة الأوطان، ألا وهو محو فكرة الجهاد وحمل السلاح، فقد قاد المازندراني وأتباعه حملة شرسة مضنية في إبطال قتال الكفار أياً كانوا، أو حتى مجرد النية في ذلك.
والنتيجة من وراء هذا الطلب وتقريره لا تحتاج إلى تفكير واجتهاد لاستخلاصها، فالقصد منها هو رد الجميل للروس والإنجليز واليهود الذين كانوا وراء نبوّته ثم ألوهيته وزعامته لكي يبسطوا نفوذهم دون المقاومة أو احتجاج من الناس –وخصوصاً المسلمين- لأن الشريعة الجديدة كما يزعم تأمر بهذه الطاعة، وتنهى عن رفع السلاح في وجود أي جنس من الناس مهما كان دينهم.
وهذا هو السر في وقوف أولئك الطامعين في استعمار البلدان الإسلامية والعربية جنباً إلى جنب، في بناء البهائية وتأييدها والذب عنها.(45/140)
يقول المازندراني في محو الجهاد:
((حُرم عليكم حمل آلات الحرب إلا حين الضرورة، وأحل لكم لباس الحرير)).
وقال أيضاً:
((البشارة الأولى التي منحت من أم الكتاب في هذا الظهور الأعظم محو حكم الجهاد من الكتاب)).
وقد أكد أسلمنت هذا الجانب فقال:
((إن البهائيين تركوا بالكلية استعمال الأسلحة النارية حتى في أمور الدفاع المحضة، وذلك بناء على أمر صريح من بهاء الله)) ( ) .
إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة التي تبجح فيها البهائيون لمحو أصل الجهاد ومشروعيته للدفاع عن الدين والوطن والعرض؛ لأن هذه كلها لا ينبغي أن تقف عائقاً في سبيل تقدم جحافل الكفر والإلحاد إلى ديار المسلمين كما يريد البهائي. ومن العجب ولسرٍ غير خاف جمع المازندراني بين النهي عن حمل السلاح والجهاد وبين تحليل لبس الحرير للرجال.
3- وحدة اللغة :
وأما بالنسبة لوحدة اللغة؛ أي اختيار لغة واحدة للعالم كله تكون مشتركة فيما بينهم للتفاهم فهي الفكرة التي يتظاهرون بالحرص عليها جداً، ويزعمون أنها لا تتحقق إلا بمباركة المازندراني لها. وهي محاولة مكشوفة لإبعاد المسلمين عن لغة كتاب ربهم بطريقة ماكرة.
وهي إحدى أكاذيب البهائية التي يطالبون فيها العالم بترك تعدد اللغات واختيار لغة واحدة منها، فما هي اللغة التي يجب أن يختارها الناس على حد رغبتهم هل هي لغة القرآن الكريم التي شرفها الله بإنزال كلامه بها ؟ أم هي لغة أخرى يستحسنها البهائيون عوضاً عن اللغات كلها وخطاً يستحسنونه على الخطوط كلها، ثم يترك كل ما خالفه بعد ذلك؟
يجيب عن هذا حسين علي المازندراني في كتابه الأقدس في قوله: ((يا أهل المجالس في البلاد اختاروا لغة من اللغات ليتكلم بها من على الأرض، وكذلك من الخطوط أن الله يبين لكم ما ينفعكم ويغنيكم عن دونكم أنه لهو الفضال العليم الخبير)) ( ) ، وهو يقصد بمن دون الهائية العرب وغيرهم حسب ما عرف عن أهل فارس وتعاليهم على البشر في الزمن القديم.(45/141)
ويقول ابنه عباس أفندي: إن تنوع اللغات من أهم أسباب الاختلاف بين الأمم في أوروبا ( ) .
وبعد هذه الدعوة العامة لتغيير اللغات والخطوط أيضاً وبالخصوص العربية – يفصح المازندراني بعد ذلك عن اللغة التي يقترحها؛ فإذا بها لغته لا سواها اللغة الفارسية التي قال فيها: ((يا قلمي الأعلى بدّل اللغة الفصحى باللغة النوراء ( ) ؛ أي اللغة الفارسية التي قال عنها أبو الريحان البيروني: لا تصلح إلا للأخبار الكسروية والأسمار الليلية)) ( ) .
على أن الفكرة من أساسها يصح وصفها بأنها مجرد خيال ساذج، ويصح كذلك وصفها بأنها فكرة تنبئ عن خبث ونية شريرة، وهي فكرة كذلك مخالفة للفطرة والواقع، ولم يسبق المازندراني أحد من الناس لا الأنبياء ولا غيرهم في مطالبة البشر بالرجوع إلى لغة واحدة هي الفارسية ولا غير الفارسية.
فإن الله أرسل أنبياءه كل نبي بلغة قومه، يدعونهم إلى توحيد الله والخروج عن ما يغضبه عز وجل، والرغبة في هدايتهم إلى الخير والصلاح لتجتمع قلوبهم وتتوحد أفكارهم حول هذا المبدأ، لا مبدأ توحيد اللغات والخطوط، ولو أن العالم كله يتكلم لغة واحدة، لربما فاتتهم مصالح كثيرة.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون الناس على هذا الوصف من تعدد اللغات، والله يعلم أنه لو اتحدت القلوب على العقيدة الصحيحة لزالت بينهم فوراق اللغة، ولما كان لاختلافهم فيها أي وزن، وتاريخ الصحابة مليء بالأمثلة على ذلك؛ فقد جمع الله بين سلمان الفارسي اللغة، وبلال الحبشي اللغة، وصهيب الرومي اللغة، وجعلهم في درجة واحدة مع فضلاء قريش كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم.
فلم يشعروا بأي فارق فيما بينهم، لأن دينهم واحد، وعقيدتهم واحدة، وهدفهم واحد فلم يبق لفارق اللغة أو الجنس أي مكان، وحينما تختلف العقيدة فإن الاتحاد في اللغة والجنس لا يغني ولا يؤلف القلوب.(45/142)
بل كم قد قامت الحروب وسفكت الدماء بين أهل اللغة الواحدة، وأقرب دليل على ذلك هو تلك الحروب التي خاضها العرب في الجاهلية فيما بينهم مع توحد لغتهم، ثم حروب البهائيين مع قومهم الذين يتكلمون بلغتهم من أهل إيران، والحروب الأهلية في كل بلد تقوم فيه .
ولبنان في وقتنا الحاضر أقوى دليل على ذلك حيث يقتل بعضهم بعضاً بأشد أنواع الوحشية، فإن اللغة بحد ذاتها لا تعلم الأخلاق والرحمة والموالاة وجمع الكلمة، ومن هنا فإن اختلاف اللغة ليس بالأمر الهام، واختلاف الألسنة ليس إلا دليلاً على قدرة الباري عز وجل قال تعالى: ? وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ? ( ) .
ثم إن الداعي إلى وحدة اللغة المازندراني لم يوحد اللغة حتى في وحيه وألواحه التي نسجها خياله، فكتبه –ما يذكر المطلعون عليها ( ) -مليئة من المزيج الفارسي والعربي، فمرة يدعي نزول الرحي باللغة الفارسية، ومرة أخرى باللغة العربية وأحياناً يأتي مختلطاً بالعربية والفارسية، وكلامه على هذا الاتجاه مرة يتكلم بالفارسية وأحياناً باللغة العربية.
ومعنى هذا أن دعواه توحيد اللغة كذب، وتناقضه أكبر دليل على هذا. ويظهر أنه أيقن بعدم نجاح دعوته هذه، وعلم أنه بحاجة إلى تبليغ دعوته البهائية فأذن في تعلم اللغات ليسهل تبليغ البهائية غيرهم فقال:
((قد أذن الله لمن أراد أن يتعلم الألسنة المختلفة ليبلغ أمر الله –أي العقيدة البهائية- شرق الأرض وغربها، ويذكره بين الدول والملل على شأن تنجذب الأفئدة ويحيى به كل عظم رميم ( ) ، ومع هذا لا تزال الرغبة في طمس اللغات الأخرى قائمة، وشدة رغبته في طمس اللغة العربية بذاتها يعود إلى عدة عوامل؛ إذ فيها قطع كل صلة للمسلم بدينه، كما أن في إقصائها امتداداً للدين البهائي.(45/143)
فإذا جهل المسلم لغة دينه جهل بعد ذلك كل أمور دينه، ومن هنا اهتموا بالقضاء عليها بكل ما في عقولهم الحاقدة من حيل، ولم يفلحوا في إنجاح مخططهم ولله الحمد، رغم ما بذلوه من محاولات ولا يزالون، ولم يكونوا وحدهم في ميدان حرب اللغة؛ فلقد تظافرت جهودهم وجهود كل أعداء الإسلام على حربها وإبعادها من قلوب المسلمين.
ومن هنا نجد أن الدعايات ضدها وتشويه سمعتها ووصفها بأنها لغة المستعمرين العرب؛ وأنها لا تفي بحاجة العصر وما إلى ذلك من الدعايات-نجد كل ذلك ظاهراً في كل بلد يوجد به مسلمون من غير العرب، ومن الغرائب أن فرنسا وهي مستعمرة لكثير من البلدان الأفريقية سواء كان الاستعمار ظاهراً أو خفياً تنشر بين المسلمين هناك أن اللغة العربية هي لغة المستعمرين العرب.
ولكن تجد أن المسلمين هناك يضحكون من هذه الدعاية وهم يشعرون أن اللغة العربية أقرب إلى قلوبهم من لغاتهم المحلية، ويحبونها ويحترمونها أشد الاحترام، ويشعرون بكامل السخط والسخرية من انتشار اللغات الأخرى؛ كما يذكر كثير من المسلمين هناك بمجرد أن تبدأ الحديث عن هذا.
4- السلام العالمي :
يظن البهائيون أنهم هم الذين تزعموا الدعوة إلى السلام العالمي وترك الحروب والتعايش الهادئ بين الأمم حين منعوا حمل السلاح وأوجبوا تقديم السمع والطاعة للحكام أيا كان مذهبهم، وليس فقط تحريم الحروب بل كما يزعمون كل مقدماته من النزاع والجدال والخصام، وكل ما يمت إلى الحروب في النهاية؛ بل ولا يجوز حمل السلاح حتى ولو للدفاع عن النفس.
تلك هي مزاعمهم حول دعوى إحلال السلام في العالم كله، فهل كان ذلك حقيقة؟ وهل قدموا الحلول الناجحة لمشكلات العالم التي تجرهم إلى الحروب شاءوا أم أبوا، وإلى أي مدى وصلت إليه دعوتهم من النجاح في العالم.(45/144)
هذا على فرض التسليم بأنهم هم الذين دعوا إلى السلام العالمي وحدهم، مع أن أحداً لا يجرؤ مهما كانت صلافته على مثل دعواهم بأنه مخترع الدعوة إلى السلام العالمي؛ لأن الدعوة إلى السلام دعوة ربانية قررها الإسلام وضاعف الحلول الناجحة لها بطرق ترضي كل شخص، وتنهي كل خلاف ولو رجعوا إليه لوجدوا مصداق هذا واضحاً ولا عبرة بمن فسدت فطرته واتبع هواه.
وقبل الإجابة عن ذلك نورد هنا بعض كلام البهاء وأتباعه حول مناداتهم بالسلام العالمي.
يقول حسين المازندراني: ((قد نهيناكم عن النزاع والجدال نهياً عظيماً في كتاب هذا أمر الله في هذا الظهور الأعظم ( ) .
وقال: ((لأن تُقتَلوا خير من أن تَقْتُلوا)) ( ) .
وقال: ((لا يجوز رفع السلاح ولو للدفاع عن النفس)) ( ) .
ومن هنا قال أحد زعمائهم في مصر: إن الدولة لو أجبرته على حمل السلاح في مواجهة إسرائيل فإنه سيطلقه في الهواء؛ لأن ذلك هو شعار البهائيين ( ) .
لقد ربط البهائية تحقيق ذلك السلام العالمي البهائي بطريقة ماكرة، مفادها أن تلك الدعوى لا يمكن أن تتحقق إلا بعد الارتواء من غسلين البهائية وآرائها المتناقضة، وحينئذ تمشي البشرية آمنة مطمئنة لا يخاف أحدهم إلا الله والذئب على غنمه.
إنها دعوى عريضة فوق مستوى عقول البهائية، وتصدر البهائي وأتباعه لهذا الزعم يعتبر من مهازل البهائية البائسة ويعتبر من عجائب الزمن، فمن يقبل من الناس أن يركن إلى البهائي ومزاعمه هو وأتباعه دون أن يرى الحلول الإيجابية لتلك المشكلات التي يعج بها العالم كله؛ لأن الحل عند البهائية هو أن تدخل رأسك في الشبكة لترى الحل حينئذ في عالم الخيالات الوهمية.(45/145)
نسي أو جهل البهائيون أن حل مشكلات الحياة العالمية لا يمكن أن يأتي عن طريق الخرافات والمؤامرات الظاهرة والخفية وإنما يأتي عن طريق الاقتناع التام من داخل النفس: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ? ( )، ? إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? ( ) ، ? إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ? ( ) ، وكذا قول نبي الإسلام: ((يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى))( ) .
((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ( ) .، ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) ( ) .
ومئات النصوص في كتاب الله وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيها الحلول المباشرة التي يلمسها الإنسان ويرى تأثيرها بمجرد أن يمتثل الأمر، ولو طبق الناس الإسلام لرأوا كيف يصبح السلام واقعاً حقيقياً لا خداع فيه ولا تجبر ولا مكائد ولا دسائس، ولرأوا أن جميع مشكلات العالم تذوب من تلقاء نفسها كما يذوب الملح في الماء.
لأن الحلول الإسلامية تناجي كل قلب على حدة وتقول له: ابدأ بنفسك ليقتدي بك الآخرون، فتصبح الدعوة جماعية في آن واحد دون أن يتدخل أي شخص في تفكير الآخر.
أما الدعوة البهائية للسلام العالمي فإنها تصبح هكذا: الرب هو المازندراني، والأرض التي يحكمها كل شخص هي له لا حق فيها للآخرين، فللإنجليز ما يملكون، وللروس ما يأخذون، ولأمريكا ما تريد، وعلى الجميع السمع والطاعة لمن قوي على شريعة الجاهلية الأولى، من عزّ بزّ ومن غلب استلب، ومن لم يحترف لم يعتلف، فهل هذه الفكرة الهزيلة تقدم الحلول لمشكلات الناس؟(45/146)
إن من المعروف بداهة وواقعاً أن كل تجمّع على غير هدى الخالق العظيم رب العالمين لا يمكن أن يقدم الحلول المرضية لمشكلات الناس مهما كان نبوغ المجتمعين، ومهما كان إخلاصهم، ولا نذهب بعيداً فهذا مجلس الأمن أو مقام الأمم المتحدة أشبه ما يكون بجسم لا روح فيه؛ بل هو مقر الخدع والمؤامرات لأصحاب النفوذ والقوة، لا يهمه إلا إرضاء الدول الدائمة العضوية كما يسمونها، أصحاب السيف الفولاذي الذي يسمونه ((الفيتو).
لقد صار هذا الفيتو سيفاً على رقاب الناس لا يجوز الخروج عن طاعته، ظلمه عدل وقتله رحمة وكلمته هي الفصل، فكيف بعد لك وأنى لهم أن يقدموا الحلول العادلة وهم لا يملكونها ((وفاقد الشيء لا يعطيه)).
لقد نبهنا الإسلام إلى أن الله هو رب الكون وما فيه وهو المدبر له، والخير إليه والشر بتقديره عندما تتوفر أسبابه. وكل ما يقع في هذا الكون إنما هو بمشيئته وقدرته، وقد أرشدنا الله عز وجل إلى الطرق الناجحة التي تقطع دابر الشرور والظلم فإذا لم يرد الناس تطبيقها وفضلوا تطبيق أهوائهم أوكلهم الله إلى أنفسهم- كما هو واقع البشر اليوم- ثم لا يبالي بهم في أي وادي هلكوا.
وحينئذ يتولاهم كبار المجرمين ويحلون أنفسهم محل النبوة والألوهية فيشرعون للناس بجهلهم شرائع تجرهم إلى الدمار، يقدمون السم في أطباق الذهب المزخرف، ثم تسير الحياة بالناس من ضنك إلى ضنك أشد منه، قال تعالى: ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ? ( ) .
إن الله عز وجل قد أخبرنا أنه منذ أن أوجد البشر أوجد فيهم قوتين متضادتين: قوة الخير وقوة الشر، وجعل الصراع بينهما متواصلاً، ثم سن الله لأهل الخير أن يقاتلوا أهل الشر والإلحاد وجعل ذلك القتال جهاداً يتقرب به إليه عز وجل، يثاب صاحبه ويعاقب تاركه.(45/147)
وأباح الله قتال من يعتدي على الحرمات والمقدسات وذم الجبناء والذين لا غيرة فيهم على حرمهم ومقدساتهم، وقد قاتل الرسول صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة وغزا غزواته الكثيرة الشهيرة فكان بطل الأبطال وقائد الشجعان، وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
والواقع أن هدف المازندراني حينما حرم الجهاد إنما هو خدمة أعداء الإسلام من الروس والإنجليز لا إحلال السلام كما يزعم؛ بل لإرضاء أولئك المنعمين عليه، ولقد ناقض نفسه بنفسه حينما شن الغارات على الإيرانيين أولاً ومع البابيين زملاءه ثانياً، ومع الأزليين أتباع أخيه ثالثاً، ومع المسلمين خاصة ومع كل من لا يؤمن بخرافاته عامة، فكيف يدعو إلى شيء هو نفسه لا يؤمن به: ?كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ? ( ) .
5- المساواة بين الرجال والنساء :
قد كان البهائيون من أكثر الناس ميلاً إلى استخدام النساء في الدعاية لمذهبهم؛ لأنهن أكثر انخداعاً وأكثر انجذاباً إلى الهوى والخروج على كل عرف إذا تمكنّ من ذلك.
وقد تزعمت هذه الغاية غانية البابيين قرة العين؛ تلك التي لم يكبح جماحها دين ولاخلق ولا شرف ولا احتشام، ثم اتخذت منها البهائية الخلق المثالي للنساء البهائيات.
لقد أجاد البهائيون، وعلى رأسهم البهاء وعبده ومن صار على شاكلتهم بعدهم أجادوا نفاق المرأة واستجلابها إلى الخروج على كل شيء، وأظهروا لها من التحمس إلى صفها ما لا تصل به الوالدة لابنتها أحياناً؛ لكن هذا التحمس إنما ينحصر في الكلام والوعود المعسولة والدعاية الخلابة.
وعند الفعل والتطبيق لما قالوه تجد أن أحكامهم على المرأة مما يستدعي الشفقة عليها بسبب ظلم البهائيين وشريعتهم الجائرة على المرأة، وقد اتضح تماماً أنهم لا يريدون وراء الدعاية بمساواة المرأة للرجل إلا مخالفة الشريعة الإسلامية، وجلب عاطفة النساء للمذهب البهائي، وجعلها مطية لا وعي لها.(45/148)
وللمرأة أن تسأل: هل صدق البهائيون في دعوتهم تلك، وهل أنصفوا المرأة من الرجل، وهل عاش المجتمع الذي خلطوا فيه الحابل بالنابل وتساوى فيه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، هل عاش ذلك المجتمع في الجنة البهائية، أم كانت أقوالهم في واد وأفعالهم في آخر؟
هذا ما سيتضح عند الاطلاع على أحكام البهائية من خلال تشريعاتهم التي أعدوها لمحاربة المرأة و لمحاربة الدين الإسلامي، وللخروج على طاعة الله تعالى وجعل كل شيء يسير حسب رغباتهم ووفق شهواتهم، ولو علم هؤلاء الملاحدة مكانة المرأة في الإسلام لأطرقوا حياءً، ولصغرت نفوسهم في نظرهم أن يتكلموا بأدنى كلمة انتقاد لحال المرأة في الإسلام وظله الظليل.
لقد رَخُصت المرأة في الشريعة البهائية إلى حد أنها أصبحت متعة لكل طامع، فهي معلَّمة على ألا ترد يد لامس بل هي التي عليها أن تطلب المتعة بأكثر من شخص تأسياً بما قررته زرين تاج من الفجور في مؤتمر بدشت؛ حيث نسخت الشريعة الإسلامية واستبدلتها بشريعة الباب التي لا حد لإباحيتها واستهتارها بالقيم والأخلاق.
يقول أسلمنت:
((إن إحدى الأنظمة الاجتماعية التي جعل بهاء الله لها أهمية عظيمة هي مساواة النساء بالرجال))، ولو عكس العبارة لكان أصوب، وأما عبد البهاء فقد بلغ في نفاقه النساء مبلغاً بعيداً، وقد قال عنه الشيخ عبد الرحمن الوكيل:
((وكان من خلق عبد البهاء أنه يتجمع بكل مشاعره وعواطفه لكل فتاة ويتربص بها بكل مكره وغزله ليثير وهج أنوثتها الراغبة)) ( ) ، إلى أن قال عنه:
((وتمرق أمام عينيه أنثى جميلة تتموج شعورها وهي تلهب ظهر جوادها السابح بالسوط، فيتأوه الشيخ المتصابي ويقول لمن معه: في هذا العصر ينبغي أن تأخذ المرأة حظاً من العلم مساوياً للرجل وتتمتع بنفس الامتيازات)) ( ) .(45/149)
قال عبد الرحمن الوكيل في تعليقه على هذا الموقف الشائن لمدعي النبوة عبد البهاء، قال: ((إن جلال النبوة لا تستهويه أبداً امرأة تتحدى قداسة الفضيلة بفتنتها العارية، ولا تستخفه عن وقاره شعور مواجة قد تلهب بالحب عواطف الشعراء، ولكنها تثير غضب الأنبياء.
إن عبد البهاء عاش يسجد لفتنة المرأة، ولهذا قال: ((إن تربية البنت الآن أهم من تربية الولد)) قالها زلفى إلى النسوة المارقات وخدعة يستزل بها من يستهويها لمع هذا السراب، وإلا فهل يستهوي خيال إنسان تصور عالم قد تربت نساؤه أكثر من رجاله)) ( ) .
ولقد ذكر العلماء في سيرة عبد البهاء الذي يزعم أنه أكبر الأنبياء ( ) ما تقشعر الجلود من مخازيه العنصرية والجنسية والتلون في النفاق وعدم تورعه من أن يساير كل دين، سواء كان دين الإسلام أو المسيحية أو البرهمية أو البوذية، فلقد جامل كل هذه الطوائف بأن يؤدي لكل أصحاب ملة عبادة على طريقتهم، وهذا هو النفاق بعينه حتى وإن سماه تطوراً ومسايرة لروح العصر؛ فإن التسمية لا تغير الحقائق.
إن الدعوة إلى مساواة النساء بالرجال هي دعوة حمقاء مخالفة للفطرة وللشرائع السماوية كلها، وقد تناقض البهائيون فيها كثيراً؛ حيث خالف فعلهم قولهم، فحينما ادعوا ذلك تجدهم قد فرقوا بين الرجل والمرأة في كثير من الأحكام، وإنما نادوا بهذا الشعار مخالفة لدين الإسلام الذي جاءت أحكامه بالنسبة للمرأة في تمام العدل والإنصاف وحفظ الأعراض وصيانة الأنساب.
فحرم على المرأة نبذ الحياء والتبرج والاختلاط، ومنعها من أن تلي الخلافة العامة، وأوجب عليها حقوق كثيرة، ونهاها عن أفعال قبيحة كثيرة، كما أوجب لها حقوقاً كثيرة تكون بها محترمة غير مبتذلة، كما يريد دعاة تحرير المرأة ومساواتها بالرجل.(45/150)
وحين انخدعت المرأة بهذه الدعايات الفاجرة وخرجت إلى الشارع كاشفة نابذة لبيت زوجها، وتاركة لأولادها فكانت كمن يفقأ عينه بيده، وكانت هي الخاسرة لعفتها ودينها وحيائها وزوجها وأولادها، والذين نادوا إلى الخروج إنما أرادوا منها الإباحية والانحلال اقتداءً بتلك البابية ((قرة العين)) التي أفتت بجواز نكاح المرأة بسبعة من الرجال فيما يذكر عنها ( ).
ولو رجع القارئ إلى أقوال المازندراني وابنه عباس أفندي لرأي التمييز المجحف بين معاملة الرجال والنساء في تصرفات البهائية، إذ كل الأعمال لم يكلف بها إلا الرجل فقط ولم يعهد إلى امرأة بأمر ذي بال ثم هضمها حقها في الإرث في كتابه ((الأقدس)) حيث يقول:
((وجعلنا الدار المسكونة والألبسة المخصوصة للذرية من الذكران دون الإناث والورَّاث أنه لهو المعطي الفياض)) ( ) .
إن المعطي الفياض حرم الإناث من الدار والألبسة مع مساواتهن بالذكران، فأين ذهبت المساواة التي ينادون بها بين الرجال والنساء، بل أين مجرد ظهور العدل في هذه الاحكام الخرقاء بعد أن اتضح تناقضهم فيها، والباطل لا بد وأن يتناقض أهله فيه.
ثم أيضاً أليس هذه التفرقة هي نفسها التي كانت في الجاهلية من تحريم بعض الأشياء على النساء وإباحتها للرجال، مثل ما أخبر الله في القرآن من تحريم بعض اللحوم على الإناث وإباحتها للذكور فقط؛ تخرصاً بغير هدى ولا دليل ( ) ، والواقع أن البهائية لم يتناقضوا في هذا الموضع فقط، بل في أحكام كثيرة تتعلق بالنساء ظهرت في أقوال المازندراني نفسه حين قال:
((قد حكم الله لمن استطاع عنكم حج البيت ( ) ، دون النساء عفى الله عنهن رحمة من عنده أنه لهو المعطي الوهاب)) ( ) ، مع أن المرأة بإمكانها أن تؤدي الحج كما يؤديه الرجل تماماً عند وجود الاستطاعة، وهذا في حكم الشريعة الإسلامية.(45/151)
أما حج البهائية فهو مجرد نزهة وزيارة للبيت الذي كان يسكنه الشيرازي أو البهاء، فهو مجرد زيارة في اللهو المرح والله يعلم السبب الذي جعل البهاء يسقطه عن المرأة، ومهما كان فهذا التفريق في الحكم في أداء فريضة الحج البهائي له مغزاه ودلالته في النظرة إلى المرأة ومساواتها بالرجل.
ومن أكبر ما تناقض فيه البهائي وأتباعه من بعده أنه لا يوجد نص واحد في جواز تولي المرأة المناصب العليا في الدولة، وإنما ينصون عليها في الأولاد الذكور واحداً بعد واحد، وكان ينبغي حسب كلامهم أن يجوزوا تولي المرأة لأي منصب كان.
ومن الأمور التي فرقوا فيها بين المرأة والرجل قول المازندراني: ((قد عفى الله عن النساء -حينما يجدن الدم-الصوم والصلاة ولهن أن يتوضأن ويسبحن خمساً وتسعين مرة من زوال إلى زوال: سبحان الله ذي الطلعة والجمال؛ هذا ما قدر في الكتاب إن أنتم من العالمين))( ).
وعلى كل حال فإنه لا يمكن أن يأتي شخص بما يخالف الشرع القويم والفطرة السليمة والعقل المستنير إلا ويظهر عليه التناقض والارتباك مهما أوتي من الحذق والذكاء، وأكبر دليل على ذلك هذه السخافات البهائية؛ إذ كيف يعفو الله عن النساء في حال الحيض الصوم والصلاة؟ إنه لا فرق بين المرأة والرجل.
ثم كيف أسقط عنها الصلاة والصوم وكلفها بالوضوء والتسبيح خمساً وتسعين مرة مع أن الوضوء والتسبيح لا يغنيان عن أداء الصلاة والصوم؟ لقد نقض مذهبه بنفسه.
6- عقائد أخرى للبهائيين :
سبق ذكر أهم الأسس التي يتمدح بها البهائيون، ورأينا مدى صدقهم في المناداة بها ومدى بعدها عن الإسلام.(45/152)
وإتماماً لذلك ولئلا يفوت القارئ الوقوف على الآراء العقدية لهذه الطائفة الشريرة التي أضلت بها أمة وأقامت بها كياناً –أرغب في التنبيه إلى أن آراء البهائية ليست كلها ظاهرة، فهناك آراء كثيرة لهم يخفونها لئلا يواجهوا نقمة العالم عليهم، فهي لا تزال سراً متداولاً بينهم وبين زعماء الصهيونية الماكرة على حد ما أورده الدكتور محمد حسن الأعظمي في قوله:
((إن عقيدتهم المعلنة في كتب مطبوعة ليست هي العقيدة التي يتبعونها، إن أسرار عقيدتهم في كتب سرية لا يتداولونها حتى لا يثيروا نقمة كل الأديان عليهم)) ( ) .
وهذه العقائد أوجز ذكرها فيما يلي، ولا أرى أنها تستحق التوقف عندها ومناقشتها والرد عليها؛ فهي تنضح كفراً وإلحاداً صادرة عن أناس لا يؤمنون بالله رباً ولا بمحمد نبياً، وليس عندهم أدنى وازع من حياء، ومن ليس له حياء فإنه يعمل كيفما يشاء كما أخبر الصادق المصدوق عن هذا الصنف من الناس حين قال: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) ( ) ، وبعض تلك الآراء يعود إلى هدم العقائد وأسس الديانات، وبعضها يعود إلى تخبطات في مسائل فقيهة الصواب فيها بعيد عن متناول عقولهم.
وكل ما أذكره هنا فإنه إما أن يكون مأخوذاً من كتاب الأقدس للمازندراني- دون ذكر النص لئلا يطول الكلام- أو من كتب كبار البهائيين، ويوجد كتاب الأقدس مصوراً في الكتب التي أشرنا إليها من قبل لمن أراد الاطلاع عليه ( ) .
أ- ما يتعلق بالعقائد والديانات :
من أهم أسس عقائدهم أن حسين علي المازندراني هو ربهم وإلههم حياً وميتاً, قال المازندراني في وحيه: ((من عرفني فقد عرف المقصود، ومن توجه إلي فقد توجه إلى المعبود؛ لذلك فُصل في الكتاب وقُضي الأمر من الله رب العالمين)) ( ) ، وقال أيضاً: ((لا يرى في هيكلي إلا هيكل الله ولا في جمالي إلا جماله ولا في كينونتي إلا كينونته، ولا في ذاتي إلا ذاته ولا يرى في ذاتي إلا الله)) ( ) .(45/153)
ثم وصفوا الله عز وجل بصفات مفادها أنه لا وجود لله تعالى إلا في أشخاص أولئك الملاحدة من زعماء البهائيين، ومن هنا فقد كان المازندراني إذا خرج على الناس أسدل برقعاً على وجهه لئلا يشاهد بهاء الله في وجهه الكالح.
هم من كبار القائلين بالحلول والاتحاد، وذلك أن المازندراني نفسه كان من المتعمقين في مسائل التصوف ووحدة الوجود والحلول والاتحاد.
لا يؤمنون بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية في حق عيسى عليه السلام، ولأنهم يقررون تبعاً لأقوال أعداء الإسلام أن المسيح قتل وصلب.
أن الشريعة البابية البهائية ناسخة للشريعة الإسلامية جملة وتفصيلاً.
لا يؤمنون بما جاء في الإسلام من أخبار اليوم الآخر، ولا بما جاء في كل الأديان من أخبارها، فالقيامة تعني مجيء البهاء في مظهر الله تعالى، وقيامه بأمر الناس وانتهاء الدور المحمدي صلى الله عليه وسلم على طريقة غلاة الباطنية الملاحدة.
ويعتقدون أن ما ذكر من البعث والحساب والجزاء وسائر أخبار القيامة فإنها تدل على ما يقع في هذه الحياة الدنيا عند مجيء البهاء، لا أنها أمور تقع في دار أخرى يجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته حسب ما فصلته الأديان السماوية فيما أخبر الله عز وجل به في كتابه الكريم وسنة نبيه العظيم صلوات الله وسلامه عليه.
يعتقدون أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس هو خاتم الأنبياء، وأن الوحي الإلهي إلى البشر لا انقطاع له، لهذا فهم يزعمون أن البيان العربي للشيرازي، والأقدس للمازندراني، والإيقان المختلف عليه بين حسين المازندراني وصبح الأزل- يزعمون أن هذه الكتب كانت بوحي الله عز وجل، وأنها أفصح الكتب المنزلة كلها، وأنها أفضل من القرآن الكريم، وتحدوا البشر والجن ومثلهم معهم أن يأتوا بحرف واحد مما فيها.
تسلطوا على القرآن الكريم فأولوه بتأويلات باطنية إلحادية.
لا يؤمنون بمعجزات الأنبياء ولا يقرون منها إلا ما يستطيعون تأويله على حسب هواهم.(45/154)
لا يؤمنون بالملائكة ولا بالجن.
لا يؤمنون بوجود الجنة والنار.
يباح للبهائي أن يستعمل التقية بأوسع معانيها في سبيل خداع الآخرين.
يقدسون العدد 19 ( ) .
ب- ما يتعلق بالأحكام الفقهية :
الصلاة عند البهائية :
عددها ثلاث مرات في اليوم، وهي تسع ركعات في البكور والزوال والآصال كل، صلاة ثلاث ركعات.
يؤدونها على انفراد؛ لأنه لا يصح الاجتماع إلا في الصلاة على الميت فقط، وأما للصلاة فهي حرام، وليس للطريقة التي تؤدى بها الصلاة أي بيان.
وقد قال المازندراني في الأقدس: ((قد فصلنا الصلاة في ورقة أخرى طوبى لمن عمل بما أمر به من لدن مالك الرقاب)) ( ) ، ولكن هذه الورقة التي أشار إليها الوحي البهائي لا وجود لها عند البهائية ؛ لأنها سرقت كما يذكر عبد البهاء ( ) ، فبقي أمر الصلاة عنده مجهولاً إلى أن يجدوا تلك الورقة ولن يجدوها.
القبلة هي المكان الذي يستقر فيه البهاء، وقد استقرت في عكا، وقد وصف من لم يتوجه إليه بأنه من الغافلين، وأتباعه يتوجهون إلى عكا ويزورون قبره ويطوفون به ويسجدون له ثم ينصرفون-صرف الله قلوبهم- وهي عودة إلى الوثنية والمجوسية بأكمل صورها القبيحة.
الزكاة عند البهائية :
الزكاة شأنها غامض جداً في شرع البهائية لجهل المازندراني بها، فليس لها أي تفصيل يبين الواجب وكيفية إخراجها ولمن تخرج ومتى ذلك..إلى آخر التفاصيل التي جاء بها الشرع الشريف الإسلامي.
الصوم عند البهائية :
1-19 يوماً فقط في مارس، يصومون من الصباح إلى الغروب، ولا قضاء على من لم يؤد الصوم، وقد عفى عن المسافر والمريض والحامل والمرضع والهرم والكسول أيضاً، وكذا الحائض، وكذا من كانت له أعمال شديدة، وكذا يوم عيد المولود، وهو اليوم الذي ولد فيه الشيرازي و المازندراني، وكذا يوم المبعث لا صوم فيه وهو اليوم الذي أعلن فيه الشيرازي دعوته وأظهر نبوته.
الحج عندهم :(45/155)
يتوجهون فيه إلى عكا مدفن البهاء، وإلى شيراز؛ الدار التي ولد فيها الشيرازي، وإلى الدار التي أقام بها البهاء في العراق في بغداد، ولم يبيّن البهاء متى يتم الحج إلى تلك الأماكن ولا الأعمال التي تجب في هذا الحج، وحديث كعبتهم في بغداد حديث طويل، خلاصته أن هذه الدار الآن لا وجود لها، وقد انتزع أصحابها ملكيتهم لها رغم الجهود المضنية التي بذلها البهائيون لتبقى كعبته لهم.
الزواج عندهم :
لا يكون الزواج إلا بواحدة، وإذا كان لابد من ذلك فلا يجوز أن يتعدى أكثر من اثنتين، وفي بعض الروايات لا يجوز الزواج إلا بواحدة فقط.
وحد الزناة بغير التراض تسعة مثاقيل من الذهب تسلم لبيت العدل البهائي، والمهر عندهم في المدن تسعة عشر مثقالاً من الذهب الإبريز، وفي القرى مثل ذلك من الفضة، ومن أراد الزيادة فلا يجوز له أن يتجاوز خمسة وتسعين مثقالاً ( ) .
وهذه المهور من باب العراقيل عن الزواج الشرعي ليلجئوا الراغبين فيه إلى العهر والفجور ، أما الإسلام فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((التمس ولو خاتم من حديد)) ( ) ؛ لأن العفاف والطهر أغلى من كل شيء فلا يتطلب صحة الزواج مثاقيل الذهب أو الفضة في الإسلام .
يحللون المتعة وشيوعية النساء.
لا يباح زواج الأرامل إلا بعد دفع دية، ولا يتزوج الأرمل إلا بعد تسعين يوماً، والأرملة إلا بعد خمسة وتسعين يوماً، ولم يبينوا الغرض من فرض هذه المدة.
لا يجوز الزواج بزوجة الأب، وحكم الغلمان مسكوت عنه، قال المازندراني في كتابه الأقدس الذي نسخ به القرآن الكريم؛ لأنه كلام الله كما يفتري-قال: ((قد حرمت عليكم أزواج آبائكم، إنا نستحي أن نذكر حكم الغلمان)) ( ) .
وما دام الوحي يستحي أن يذكر حكم الغلمان فمن الذي يبين حكم جريمة اللواط بعده! غريب جداً أن يستحي الرب من بيان الأحكام التي هي من ضروريات الحياة للبشر-قبح الله المازندراني وما جاء به وكل من دخل في غيه إلى يوم الدين.(45/156)
الطلاق عندهم :
مكروه.
في المواريث :
زعموا أن الرجال والنساء على السواء.
لكن تناقضوا بعد ذلك فإذا بهم يحرمون النساء من أشياء كثيرة في الإرث، كما قرر المازندراني أن الدار المسكونة والألبسة المخصوصة تكون من نصيب الأولاد الذكور دون الإناث؛ مخالفين زعمهم المساواة بين الرجال والنساء.
للشخص أن يوصي بكل ماله لأي شخص يريد سواء كان وارثاً أو غير وارث.
قرروا أن غير البهائي لا يرث البهائي؛ مخالفين زعمهم القول بوحدة الأديان واحترامها جميعاً.
أحكام أخرى عندهم :
الغسل من الجنابة ليس واجباً، ولا يوجد في شريعتهم اسم النجاسة لأي شيء؛ لأن من دخل في ديانتهم طهر له كل شيء من النجاسات والخبائث التي أجمعت عليها كل الأديان وسائر العقلاء غير الأوربيين.
ويكون الاغتسال عند البهائية في كل أسبوع مرة، وغسل الأرض في الصيف مرة في اليوم، وفي الشتاء مرة كل ثلاثة أيام.
لا يجوزون للمرأة الحجاب تأسياً بزرين تاج التي خرجت عن كل الأعراف في ذلك الزمن بعد أن خرجت على الشريعة الإسلامية ونسختها.
سن الرشد: 15 عاماً للذكر والأنثى على السواء.
ألغى البهائيون جميع العقوبات الواردة في الشرع الإسلامي إلا الدية.
الجهاد محرم في الشريعة البهائية، وتحريمه من أهم المبادئ التي جاء لأجلها المازندراني.
والسر غير خاف على أحد؛ فإن كل الدعوات الضالة من قاديانية وبهائية وسائر الدعوات اتحدت كلمتهم كلهم على محو فكرة الجهاد، لأن مصدر تلك الحركات كلها واحد، وتصب في مكان واحد، والممول واحد، وهم أعداء الإسلام الذين يهمهم جداً نسيان المسلمين لكلمة الجهاد في سبيل الله لرفع راية الإسلام.(45/157)
ومن المؤسف أنه تحقق للكفار ما أرادوا خصوصاً في عصرنا الحاضر. حيث يستحي أو يخاف زعماء المسلمين أن يدعوا الناس إلى الجهاد في سبيل الله صراحة، حتى ولو لتحرير بلدانهم ونسائهم وذرياتهم الذين يسومهم اليهود أشد الذل والإهانة في فلسطين وفي غيرها من ديار المسلمين.
يجوز للرجال والنساء أن يلبسوا ما شاءوا دون أي اعتبار للملبوس، سواء كان حريراً أو صوفاً أو أي نوع. وللرجل أن يلبس الحرير الخالص وأن يظهر كامل النعومة، إذ لم يحرّم عليه في شرع البهائية إلا حمل السلاح أو الخوض في المسائل السياسية التي هي من خصوصيات الحكام فقط!
لا يجوز للشخص أن يحلق شعر رأسه لأن الله قد خلقه زينة له.
قال المازندراني في الأقدس: ((لا تحلقوا رؤوسكم؛ قد زينها الله بالشعر في ذلك لآيات لمن ينظر إلى مقتضيات الطبيعة من لدن مالك البرية أنه لهو العزيز الحكيم، ولا ينبغي أن يتجاوز حد الآذان؛ هذا ما حكم به مولى العالمين)) ( ) .
مالك البرية والعزيز الحكيم، ومولى العالمين كل هذه الصفات الهائلة الرهيبة جاءت من أجل حلق شعر الرأس في وحي المازندراني السخيف.
لا يجوز للشخص أن يخطب على المنبر؛ بل يقعد على الكرسي الموضوع على السرير ويخطب، وكذلك لا يجوز للشخص أن يذكر الله إلا في المكان المعد للعبادة، فلا يجوز له أن يلوك فمه بذكر الله في غير مكان العبادة.
يقدسون العدد 19، ويبنون بموجبه كثيراً من الأحكام والمعاملات فيما بينهم وبين الناس، فترى مثلاً أن:
عدد الشهور 19 شهراً، والصوم 19يوماً.
وعدد أيام الشهر 19 يوماً، وكتابهم البيان 19 باباً.
وزكاة أموالهم 19 في المائة.
وعدد شهور السنة 19 شهراً، وفصول البيان 19.
وعدد الطلاق 19 مرة، ...إلى آخر وَلَعِهم بهذا الرقم.
والواقع أن كثيراً من المسلمين يجهلون حقائق البهائية وتعاليمها؛ لأن البهائية- وإن كانت نحلة ظاهرة لكنها كما تقدم- تخفي حقائق كثيرة لا تعرف إلا بالتعمق في دراستها.(45/158)
فلا غرابة بعد هذا أن ترى كثيراً من المسلمين يرددون شعارات وأفكاراً بهائية دون أن يعرفوا من أين جاءتهم؛ بل اجتهدوا في تردادها ونشرها بشتى الوسائل. وكمثال على ذلك: هذا التقديس للرقم 19 الذي يعتبره البهائيون رقماً مقدساً؛ بل هو من الأدلة القوية حسب زعمهم على نبوة زعمائهم كالشيرازي والبهائي.
ومن المؤسف حقاً أن ترى كثيراً من المسلمين انخدعوا بزخرف أقوال البهائية فتعلقوا بهذا الرقم، ثم نظروا إلى بقية الأعداد بعين المتعمق المتفحص علّهم يصلون إلى اكتشاف آخر مثل اكتشاف البهائية للعدد 19.
ولقد ألقى أحد دعاة البهائية محاضرات في الكويت ( ) عن العدد تسعة عشر وعناية القرآن الكريم به؛ بل وقيام أجزاء القرآن وجمله من هذا العدد أو من مضاعفاته، وذهب يدلل على أن القرآن من الله وأنه معجزة بدليل عنايته وقيامه على هذا العدد 19، وهو العدد الذي اهتدى إليه الميرزا الشيرازي ثم البهاء ومن جاء بعدهما، وأن فيه دلالة قوية على نبوة وألوهية البهاء في القرن التاسع عشر حسب زعم البهائية.
فحينما ألقى داعية البهائية في الكويت الدكتور محمد رشاد خليفة محاضرته عن العدد تسعة عشر بثت إذاعة الكويت تلك المحاضرة، ونُشرت في أماكن كثيرة في بلدان المسلمين كالقاهرة وغيرها في شكل كتيبات توزع، وأشرطة تباع وتهدى.
ثم قام كثير من الكتاب بتأييد تلك الفكرة وترويجها. ولعل بعض هؤلاء الذين فرحوا باكتشاف العدد 19، وادَعوا أنه دليل على معجزة القرآن ما علموا بأنهم يخدمون بهذا العمل شياطين البهائية.
ولم يقف هوس البهائية في العدد 19 عند حد، فقد جرؤوا على الكذب على الله في القرآن الكريم؛ إذ فسروا فواتح السور المشتملة على الحروف المقطعة بحسب ما يمليه مخططهم؛ للدعاية لهذا الرقم الذي أحبوه كثيراً، وذهبوا يدللون على صدق البهائية، وزعموا أن آيات القرآن الكريم وكذلك التوراة دللت على ذلك.(45/159)
ولقد كان للكمبيوتر مقام رفيع عندهم واهتمام بالغ، فهو الذي أعانهم-كما يدعون- على تخريفاتهم في دلالات الأعداد، ويستدلون بنتائج ما يخبرهم به على أنها حقائق لا تقبل الجدل مع أنها مملوءة بالتناقض والاضطراب والمغالطات المستورة حيناً والمكشوفة أحياناً.
وعلى كل حال فإن قضية هذا العدد والخوض فيه من المسائل الطويلة والغير نافعة، وما أشرنا إليه هنا يغني في التنبيه على عمق خرافات البهائية وخداعهم للناس والخطر الذي يمكن أن يجره هؤلاء على العالم لو تحققت أهدافهم لا سمح الله ( ) .
ونكتفي بما تيسر ذكره من مبادئ البهائية وتعليماتهم، وفي الوقت الحاضر يمكن إغفال النظر عن مناقشتها والرد عليها كلها؛ لأن التعليق عليها لا يتطلب أكثر من أنها تعاليم وعقائد غير إسلامية وليس لهم عليها من دليل إلا مجرد التخرص وما تهواه أنفسهم زاعمين بعد ذلك أنها منزلة من عند الله عز وجل، ناسخة لجميع الشرائع.
يقولون هذا في الوقت الذي يتظاهرون فيه بأنهم على الإسلام، للتزلف إلى المسلمين ومخادعتهم عن دينهم. فإن العلماء يذكرون أن عبد البهاء الذي ورث النبوة بعد أبيه صلى الجمعة مع المسلمين قبل وفاته بيومين، مع أن الصلاة جماعة محرمة في شريعتهم إلا على الميت.
وهو يهدف بصلاته مع المسلمين ومع النصارى ومع اليهود ومع البراهمة التدليل على أن البهائية ذات ديانة شاملة تتسع لكل المذاهب والديانات والمختلفة، وسموا هذا التخبط والاضطراب والتناقض ديناً مقدساً شاملاً ( ) .
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الخامس
أمثلة من تأويلات البهائية
للقرآن الكريم
لقد لعب التأويل دوراً خطيراً في مفاهيم الناس، وقد سبقت الإشارة إلى بعض أضراره العديدة على الإسلام والمسلمين، والغرض هنا هو ذكر بعض الأمثلة التي تبين كيف جرأت البهائية على التلاعب بالنصوص وأولتها على طريقتها الباطنية الملحدة، ومن ذلك:(45/160)
ما ورد من ذكر القيامة في القرآن قالوا: إن المقصود بها قيامة البهاء بدعوته وانتهاء الرسالة المحمدية.
النفخ في الصور دعوة الناس إلى اتباع البهاء.
البرزخ هي المدة بين الرسولين أي محمد صلى الله عليه وسلم والباب الشيرازي.
وفي قوله تعالى: ? إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ? أي ذهب ضوؤها: أي انتهت الشريعة المحمدية وجاءت الشريعة البهائية.
وفي قوله تعالى: ? وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ? أي تركت الإبل واستبدل عنها بالقاطرات والسيارات والطائرات.
? وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ? أي جمعت في حدائق الحيوانات في المدن الكبيرة.
? وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ? أي اشتعلت فيها نيران البواخر التجارية.
وقوله تعالى: ? وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ? أي اجتمعت اليهود والنصارى والمجوس على دين واحد فامتزجوا في دين الميرزا المازندراني.
? وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ? أي أسقطت الأجنة من بطون الأمهات فيسأل عن ذاك من قبل القوانين؛ لأنها تمنع الإجهاض.
? وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ? أي انتشرت الجرائد والمجلات وكثرت.
? وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ ? أي انقشعت، أي أن الشريعة الإسلامية لم يعد يستظل بها أحد.
? وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ? أي وصل بعضها ببعض عن طريق القنوات.
? وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ? ? وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ? الأولى لمن عارض الميرزا حسين، والثانية لأتباعه المؤمنين به.
? وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ? أي استخرجت الأشياء والتحف ذات القيمة.
? وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ? الجبال هنا هم الملوك والوزراء أي دونوا لهم دساتير يسيرون بموجبها، وهي الدساتير الحديثة.
وقوله تعالى: ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ? إلى آخر الآية الكريمة أي مجيء البهاء المازندراني.(45/161)
وقوله تعالى: ? يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ? قالوا-الحياة الدنيا هي الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والآخرة هي الإيمان بميرزا حسين علي البهاء.
وقوله تعالى: ? كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ{29} فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ ? قالوا: الفريق المهتدي هم الذين آمنوا بالبهاء، والآخرون هم الذين أبوا الإيمان به.
وقوله تعالى: ? وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ{55} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ? أي علم دين بهاء الله والإيمان به، لقد لبثتم في كتاب الله –الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم – أي لبثتم في إقامة كتاب الله وهو القرآن الكريم والعمل بشريعته المطهرة إلى يوم البعث؛ أي إلى قيام بهاء الله وظهوره، فهو المراد بالبعث، أي خروج الناس من دين محمد صلى الله عليه وسلم إلى دين البهاء.
وقوله تعالى: ? إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ? أي سماء الأديان انشقت.
? وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ? هم رجال الدين لم يبق لهم أثر على الناس.
وقوله تعالى: ? وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ? أي فتحت قبور الآشوريين والفراعنة والكلدانيين لأجل الدراسة.
وقوله تعالى: ? وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ? قالوا: القصد منها: الأديان السبعة البرهمية البوذية، والكونفوشستية، الزرادشتية، واليهودية، والنصرانية، والإسلام، أنها مطويات جميعاً بيمين الميرزا حسين المازندراني.
إلى غير ذلك من التأويلات الباطنية الشنيعة لآيات القرآن الكريم والكذب على الله تعالى دون مبالاة أو خوف لا من الله، ولا من انتقاد عقلاء بني آدم على هذا الصنيع الفاحش من هؤلاء السفهاء ( ) .(45/162)
وهناك تحريفات أخرى كثيرة كلها تهدف إلى شيء واحد هو محاولة حرب الإسلام وانتزاعه من قلوب أتباعه بطريقة ماكرة. وهذه التحريفات لا يحتاج المسلم إلى الاطلاع على الرد عليها؛ فهي أقل من أن تعلق بذهن أحد، إلا أن المهم في هذه التأويلات هو معرفة الدافع لهؤلاء إلى اقتحام هذه التأويلات السخيفة. يجيب الدكتور محسن عبد الحميد عن ذلك بقوله :
((والجواب أنهم يحاولون ذلك لكي يتوصلوا عن طريق تلك الأباطيل إلى أن القرآن قد بشر بمجيء البهاء، فموجب هذه التأويلات وغيرها أن نبياً سيظهر ولكن متى؟ الجواب: فند ظهور القاطرات وإنشاء حدائق الحيوانات وصنع البواخر والسفن وامتزاج النصارى واليهود والمجوس وشق القنوات وفتح قبور الآشوريين والفراعنة والكلدانيين وإجهاض الأطفال))( )!
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل السادس
موقف البهائية من السنة النبوية
وكما أولوا آيات القران الكريم أولوا كذلك الأحاديث النبوية على طريقتهم الباطنية الملحدة التي زعموا أن الأحاديث كلها شأن القرآن تدل على نهاية الشريعة المحمدية وظهور القيامة بمجيء البهاء، على قلة ما التفتوا إلى السنة؛ لأن البهاء في أنفسهم أعلى من الرسول صلى الله عليه وسلم-وأخزى الله البهائية ( ) .
ولأن السنة والحديث- كما صرح البهائي الحاقد الدكتور محمد رشاد خليفة- إنما هي بدع شيطانية والوقوف على ظاهرها دون تأويلها بظهور البهاء يعتبر كفراً بالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، ويعتبر خروجاً بالأمة إلى الشرك والضلال-كما زعم هذا الكذاب- وهذه التصريحات أصدرها في سنة 1982م وهو إمام مسجد توسان بولاية أريزونا الأمريكية باسم رشاد خليفة بحذف اسم محمد لأشياء في نفسه.(45/163)
وقد أضاف إلى افتراءاته وإلحاده فزعم أن القرآن حذر المسلمين عن أخذ الدين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يجب أن يأخذوه عن القرآن فقط. وهذا القول يكفي في رده قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) ( ) .
ثم زعم أن المسلمين رجعوا إلى الوثنية حينما عظموا الرسول صلى الله عليه وسلم ومجدوه وقد أمر الله أن يمجدوه ويعظموه هو وحده.
ومما يجدر التنبيه إليه أن البهائيين المتأخرين قد اتخذوا مسلكاً أخبث وأمكر من مسلك أسلافهم، وذلك بظهورهم أمام المسلمين بتعظيم الإسلام ونبي الإسلام، وأن الإسلام حق والرسول محمد صلى الله عليه وسلم حق، وأنه لا تنافي بين الإيمان بنبي الإسلام وبين الإيمان بنبي البهائية؛ لأن الإسلام نفسه قد بشر بنبي البهائية كثيراً في القرآن وفي السنة.
فالذي لا يؤمن بالبهائية بعد أن قامت القيامة وانتهى الدور المحمدي بظهور البهاء لا يكون مؤمناً لا بالإسلام ولا بالبهائية ولا بالله أيضاً؛ فإن الأساس للإيمان هو الإيمان بالبهاء المازندراني الملحد.
وينتهي الإيمان عند البهائية أن يتخذه الشخص إلهاً من دون الله، وصدق الله العظيم:
? وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? .
? فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? .
? رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ?( )
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل السابع
السبب في انتشار تعاليم البهائية
الواقع أنه ليس في تعاليم البهائية وديانتها ما يغري باعتناقها، فهي أفكار ملفقة من شتى المذاهب والديانات، مملوءة بالخرافات التي يأباها العقل السليم والفطرة المستقيمة، كما أنها مملوءة كذلك بالمتناقضات شأن كل باطل.(45/164)
ومع ذلك فقد انتشرت انتشاراً رهيباً في الكثير من البلدان، إلا أن بعض أهل تلك البلدان قد استفاقوا حين أمعنوا النظر في تعاليم البهائية وما تهدف إليه من الشر بالعالم كله- وفي أولهم العالم الإسلامي- هالهم ما رأوه من تلك التعاليم الجهنمية- وهالهم كذلك ما رأوه من الحقد الشديد للإسلام ونبيه العظيم.فشنوا الغارات الملتهبة على البهائيين وعلى تعاليمهم وعلى محافلهم المنتشرة وحاكموهم محاكمات ظهرت في كثير من تلك المحاكمات حقيقة البهائية الملحدة الإباحية، فأفتى القضاة والعلماء والمثقفون وكل من في قلبه أدنى ذرة من إيمان بخطر البهائية ووجوب محاربتها، والتقرب إلى الله بسحق كل بهائي؛ احتساباً للأجر والثواب، ولا تزال الحرب سجالاً بين أهل الخير وأهل الشر.
إلا أن البهائيين –وهم لا دين لهم- يحاربون غيرهم بمختلف فنون الحرب الظاهرة والخفية، ومن مؤامرات ودعايات وإغراءات ونفاق ودعارة؛ لأن كل هذا جائز في شريعة البهائية.
إضافة إلى ما تيسر لهم من أسباب أخرى كثيرة ساعدت في انتشار هذه النِّحْلة، يمكن الإشارة إلى أهمها فيما يلي:
جهل كثير من المسلمين بحقيقة المذهب البهائي، خصوصاً وأن الدعوة البهائية أكثر ما توجه إلى العوام والسطحيين من الناس.
تظاهر هؤلاء –تقية ونفاقاً- بالإسلام وبالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم .
التفاف أعداء الدين الإسلامي نحو البهاء وتعاليمه والذود عنه ونشر أباطيله وزخرف الدعايات له، والمساعدات السخيفة له ولأتباعه بكل شكل من أشكال المساعدات مادية ومعنوية.
انشغال كثير من المسلمين عند قيام البهائية بمشكلات داخلية وخارجية بعضها مشكلات حقيقية، وأكثرها إنما هي مفتعلة نم أعدائهم لإلهائهم عن ما يراد بهم ليتم المخطط بهدوء .(45/165)
كثرة تحريفات النصوص-على وفق ما يريدون- سواء كانت تلك النصوص من القرآن الكريم أو من السنة ؛ حيث أولوها على الطريقة الباطنية الماكرة؛ بحيث إذا وقف عليها من ليس عنده اطلاع كاف على أباطيل الباطنية والبهائية لابد وأن يقع في شبكاتهم ( ) ، ويصدق ولو بعض تلك الترهات.
تفنن هؤلاء في التلون، واستعمال التقية، واستحلال الكذب والنفاق، بحيث كانوا يتوددون إلى كل شخص بما يستطيعون به الوصول إلى قلبه لاستدراجه بعد ذلك إلى حيث يشاءون، دون أن يجدوا في تلك المسالك الملتوية أي حرج.
مهارة هؤلاء في تنظيم الدعوة إلى مذهبهم وتنظيم المحافل التي هي نقاط الانتشار في كل بلد توجد به هذه المحافل، وتوددهم إلى الحكام والمفكرين، وخداعهم لهم بما يظهرونه لهم من الخير وإرادة الإصلاح، والتزلف إلى رضاهم بكل وسيلة.
كما يعود انتشار مذهب البهائية إلى أن أكثر الناس يحبون الانفلات عن الالتزامات الشرعية والميل إلى الشهوات ونبذ القيود، وقد عرف زعماء البهائية هذا الجانب واستغلوه أقوى استغلال، ومن هنا دخل كثير من الناس في المذهب البهائي ليس اقتناعاً تاماً به، وإنما ليضفي على ميوله وشهواته صفة شرعية ولو على طريقة الشرع البهائي.
كما يعود أيضاً إلى أن أكثر الدعوات الباطنية إنما تنتشر بين الأوساط الفقيرة؛ حيث يقوم أصحاب تلك الدعوات بمساعدة الفقراء من بناء مدارس ومستشفيات ودور اجتماعية وقروض وإيصال بعضهم إلى الوظائف الحكومية، وتسهيل معاملاتهم وغير ذلك من المساعدات التي يكون لها أثر إيجابي في نفس المدعو ولابد إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة الخفية التي يجيد هؤلاء عرضها بأساليبهم وطرقهم الملتوية.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الثامن
كتاب البهائية الذي يقدسونه
ادعى حسين علي المازندراني الألوهية. ومن هنا كان حتماً عليه أن ينزل الكتب المقدسة ويبيّن لعباده ما يريد حسب أوهامه.(45/166)
فكان أن جاء بكتابه ((الأقدس)) وجاء فيه بما يستحي طالب العلم المبتدئ في الطلب من نسبته إلى نفسه، فكان بحق أحط كتاب، وصيغ بأردأ العبارات، وحشي بألفاظ وعبارات تنضح جهلاً، تنفر من معانيه النفوس، وتأنف من سماعه الأسماع، ألفّه ولفّقه المازندراني، وزعم أنه أفصح وأشرف كتاب منزل على الإطلاق، وفضله على كتب الله المنزلة على رسله الأخيار، ثم نسخ به جميع الكتب السابقة وفي أولها القرآن الكريم.
ولا تسأل عما فيه من الألفاظ الشنيعة والمعاني الركيكة والأخطاء اللغوية والتراكيب الغامضة، قراءته مملة ثقيلة على النفس، وقد قرأته عدة مرات؛ لأنه كتيب، وكلما قرأته ازددت غيظاً وغماً من تبجح مؤلفه واستكباره الذي فاق استكبار فرعون وهامان وقارون، فإنه كله مدح لنفسه ولبهائه ولجودة قريحته وعمق تفكيره، وإحاطته علماً بما كان وما يكون، وسماعه ضجيج أصوات الذرية في أصلاب آبائهم.
ومخاطبة الملوك والرؤساء وندائهم إلى الأخذ بديانته، ومخاطبة بعض الأراضي أيضاً مثل قوله: يا أهل البهاء، يا معشر العلماء، يا ملاّء الإنشاء، يا عبادي، يا معشر الملوك، قل لي يا ملك البرلين أسمع النداء من هذا الهيكل المبين. يا معشر الأمراء اسمعوا، يا شواطيء نهر الرين، يا معشر الروم، يا أرض الطاء، يا أرض الخاء، يا بحر الأعظم، قل يا قوم، يا ملك النمسا، يا ملوك أمريكا، هذه هي النداءات التي يكررها في كتابه.
وقبل إيراد بعض الأمثلة من ذلك الكتاب أودّ التنبيه إلى أنك حينما تقرأ فيه تحتار حيرة شديدة في معرفة مصدره، فهو مرة يأتي بآياته كما يسميها على أنها من الله تعالى لشخصه مباشرة، ومرة يأتي بها على أنه هو الله الذي تكلم به كما اقتضت إرادته، ومرة يأتي بها على أنها من إنشائه هو، ومرة يُظهر فيها العلو والاستكبار إلى أبعد الحدود، ومرة يُظهر نوعاً من التواضع.(45/167)
وهكذا يخرج منه قارئه وهو أشد جهلاً به، حتى في الآيات التي يزعم فيها بيان بعض الأحكام ففيها من التعقيد وركاكة الأسلوب ما لا يكاد يفهم إلا بكلفة.
ولكي يطلع القارئ الكريم على بعض تلك الآيات التي لفقها المازندراني نورد الأمثلة الآتية من كتابه الأنجس وليس الأقدس، وهو موجود ضمن كتاب خفايا الطائفة البهائية بنصه كاملاً كما تقدمت الإشارة إليه.
فمن ذلك زعمه أنه قد أحاط بعلم ما في اللوح وقرأه والناس غافلون، وأنه دخل مكتب الله-هكذا بهذا الأسلوب- والناس راقدون.
النص: ((يا ملاّء البيان إنا دخلنا مكتب الله إذ أنتم راقدون، ولا حظنا اللوح إذ أنتم نائمون، تالله الحق قد قرأناه قبل نزوله وأنتم غافلون)) ( )
رده على المخالفين له الذين يدعون أنهم علماء أكثر منه مع أنه أحاط بالعلم ولم يترك لهم منه إلا مثل ما تترك العظام للكلاب.
النص : ((ومنها- أي من الناس- من يدعي الباطن وباطن الباطن، قل: أيها الكذاب تالله ما عندك أنه من القشور تركناها لكم كما تترك العظام للكلاب)) ( )
وقال في بيانه لمنزلة كتابه الأقدس:
((لا تحسبن أنا أنزلنا لكم الأحكام، بل فتحنا ختم الرحيق المختوم بأصابع القدرة والاقتدار، يشهد بذلك ما نزل من قلم الوحي تفكروا يا أولي الأفكار)) ( ) .
ويندب حظ من أعرض عن ذكره بقوله: ((من الناس من غرته العلوم وبها منع عن اسمي القيوم، وإذا سمع صوت النعال من خلفه يرى نفسه أكبر من نمرود قل: أين هو يا أيها المردود تالله إنه لفي أسفل الجحيم)) ( ) .
ويقول في تفضيل كلامه: ((من يقرأ من آياتي لخير له من أن يقرأ كتب الأولين والآخرين، هذا بيان الرحمن- يعني نفسه- إن أنتم من السامعين، قل: هذا حق العلم لو أنتم من العارفين)) ( ) .
إلى أن قال: ((لو يقرأ أحداً به من الآيات بالروح والريحان خير له من أن يتلو بالكسالة صحف الله المهيمن القيوم)) ( ) .(45/168)
((قل: تالله لا تغنيكم اليوم كتب العالم ولا ما فيه من الصحف إلا بهذا الكتاب الذي ينطق في قطب الإبداع أنه لا إله إلا أنا العليم الحكيم)) ( ) إلى آخر إفكه وإلحاده وجهله بجميع الأديان.
على أن البهاء- وقد تنبأ وتأله- صار يخبر بأشياء كثيرة من المغيبات التي زعم أنها ستقع كما أخبر، فإذا بها تأتي عكس ما أراد وأخبر، وقد أخزاه الله في ما تنبأ به كما أخزى غيره من كبار الأبالسة، ونشير هنا بإيجاز إلى بعض نبوءات المازندراني ( ) ، ومنها:
ما تنبأ به المازندراني من أن البهائية سيكون لها مستقبل مشرق في العراق، وسيفتخرون بها بعد قليل من الزمن، فهل صدق في ذلك الزعم الذي ينسب الإخبار به إلى الله؟ مضى على قوله سنوات عديدة ولم يفتخر أهل العراق بها، بل وبعكس ذلك لا يوجد اليوم فيها من يستطيع المجاهرة بالبهائية رغم ادعاء المازندراني الألوهية وأن ما أخبر به سيكون كما وقع.
تنبأ المازندراني بأن طهران ستكون بهائية كلها ويحكمها بهائيون، ويمتد حكمهم من طهران إلى ما ورائها، ويعظم شأن البهائيون بها جداً.
وكذب هنا كما كذب في غير ذلك؛ فلم يسمح للبهائيين رفع رؤوسهم أو إظهار دعوتهم؛ بل بقوا فيها في غاية الذل والاحتقار ولم يقم لهم حكم فيها أو كلمة.
تنبأ المازندراني بأن دينه سيغلب الأديان كلها ويعتنقه أكثر العالم وسيهيمن هو على جميع الأرض، فماذا كانت النتيجة؟ لقد فضح الله الكاذب؛ فقد مضت سنوات عديدة وتلك الأماني الفارغة لم يتحقق منها شيء رغم ما قام به أعداء الإسلام من اليهود، والصهيونية العالمية، والصليبيون،و الاستعمار الروسي والأمريكي بمساعدته والوقوف إلى جانبه.
ولكن قدرة الله أقوى من ذلك، ففشل هؤلاء فشلاً ذريعاً في تحقيق مطامع هذا المتأله الكاذب، وكانت أحلامه خيالية، وكلامه هذيان فارغ ? لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ? .(45/169)
وأغرب شيء وأشنعه في تنبؤات البهائية ما صرح بن ابن المازندراني المسمى عبد البهاء عباس أفندي بوحي من أبيه حينما سئل عن آخر السنوات التي تعم فيها البهائية العالم وتنتشر في أرجائه وأنحائه؛ أجاب بأنه-وحسب البشارات القديمة التي ذكرها له إلهه المازندراني –أنه سيتم ذلك وبالتحديد أيضاً في 1957م. فماذا كانت النتيجة؟
لقد أظهر الله كذبهم حتى لا يبقى لأحد حجة، فلم تدخل الدول في البهائية، ولم يظهر نور الله البهاء في جميع أقطار الأرض كما زعموا.
فطردت البهائية من إيران، وطردت من العراق، وطردت من تركيا، وطردت من مصر وليبيا وسوريا، وقضي عليها في باكستان وأفغانستان، ولم يأبه لها العالم الغربي كما يريدون، وكذلك طردت من أفريقيا، ولم يقر لها قرار إلا في البيئات المنحلة أو الحاقدة على الإسلام.
وظلت طريدة لخبثها وخبث مبادئها وولائها للاستعمار في كل مكان، إلى أن آواها الإنكليز إلى فلسطين وتلقفتها اليهودية، فأين نبوءة حسين علي البهاء المازندراني وابنه عباس أفندي من أن البهائية ستكتسح جميع الأديان وستعم البلدان في الموعد الذي حدده البهائيون؟! ( )
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل التاسع
أماكن البهائية
تنتشر الأفكار وتتغلغل بين الناس دون أن يفطن لها المجتمع، لا تحدها الحدود الدولية السياسية، ولا تمسك بزمامها سلطة، تسري في الأمة سريان النعاس في جسم الإنسان حتى إذا قوي أمرها وانتشر خبرها وصار لها رجال يدافعون عنها- ظهرت متنكرة للوسط الذي تعيش فيه طالبة التغيير الجذري لكل ما حولها. ومن هنا تبدأ ثمارها؛ خيرة كانت تلك الأفكار أم شريرة.(45/170)
ومن المعلوم أن للسلطة والسياسة والمجتمع بأكمله دوراً في ظهور الفرق وعدم ظهورها حسب الظروف التي تحيط بها، فمثلاً هذه الطائفة التي نحن بصدد دراستها من الأسس الهامة في عقائدهم القول بالتقية، وحينما يخافون أن يظهروا أنفسهم على حقيقتهم يدخلون مع الناس على الوفاق والود ويبطنون ما انطوت عليه نفوسهم الشريرة من التربص بالبشرية والتمسك بعقائدهم ومحاربة الأديان المنافية لها، ويكونون كالنار تحت الرماد، ويعملون في الخفاء لنشر أفكارهم إلى أن تواتيهم الفرصة فيظهرون.
وقد انتشرت البهائية في أماكن كثيرة بعضها معلوم وبعضها في الخفاء، إلا أن وجودهم الأكبر ومركزهم الرئيسي بين حلفائهم في أرض فلسطين التي اغتصبها اليهود، وبارك هذا الاغتصاب ونشر الدعاية له البهائيون في كل مكان.
ويوجد لهم خلايا كثيرة في إيران وأمريكا والعراق ومصر وإمارات الخليج والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، ومحافلهم كثيرة وأكبرها في شيكاغو وإسرائيل وكندا وبنما ولندن وألمانيا وسويسرا والهند وباكستان وشمال أفريقيا وأوغندا واستراليا.
وقد قدر بعض زعماء البهائية عدد البهائيين بما يزيد على ستين مليون نسمة في العالم، ولكن لا ينبغي تصديقهم فيه فهو رقم دعائي أكثر منه حقيقي.
ومما لا ينكر أنه قد وقف أعداء الإسلام إلى جانب البهائية مدافعين عنها ومشجعين لها في الاستمرار، وكل من حاول الأخذ على أيدي البهائيين في أي مكان من العالم تقوم ضده دعاية رهيبة بأنه غير متحضر وإرهابي، ولا يسمح بحرية الفكر، ولا يراعي حقوق الإنسان، إلى غير ذلك من الدعايات الطويلة العريضة التي يجيدونها.(45/171)
ثم يلجئون إلى مجلس الأمن للعويل على حقوق الإنسان التي ترعاها الأمم المتحدة في نيويورك، ليجد كل من يريد إيقافهم عند حدهم أنه أصبح في عداد الأشرار دون أن يعرف الذنب الذي اقترفه، وهذا بفعل دسائس زعماء البهائية في كل مكان يوجدون فيه وتكاتفهم على باطلهم ووقوف بعضهم إلى جانب البعض الآخر لشعورهم بالقلة والذلة –أدام الله ذلهم- إلى يوم يؤوبون فيه إلى الدين الحق والصراط المستقيم.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
من مراجع البهائية
البهائية تاريخها وعقيدتها وصلتها بالباطنية والصهيونية. تأليف عبد الرحمن الوكيل.
حقيقة البابية والبهائية. تأليف الدكتور/ محسن عبد الحميد.
البهائية. السيد محب الدين الخطيب.
البهائية نقد وتحليل. إحسان إلهي ظهير.
حقيقة البهائية والقاديانية. الدكتور/ محمد حسن الأعظمي.
البهائية الفكر والعقيدة. صالح عبد الله كامل.
الحكم على البهائية. علي رشدي.
قراءة في وثائق البهائية. الدكتورة/ عائشة عبد الرحمن ((بنت الشاطئ)).
خفايا الطائفة البهائية. الدكتور/ أحمد محمد عوف.
البهائية رأس الأفعى. أول محاكمة شرعية للبهائيين لمجموعة من الكتاب.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة. ((الندوة العالمية للشباب الإسلامي)).
دراسات عن البهائية والبابية. تأليف: محب الدين الخطيب، علي علي منصور، محمد كرد علي، محمد فاضل.
وبعد هذه الدراسة عن فرق البهائية عثرت على نسخة مصورة عن هذه الفرقة تسمى موقع البهائيين في الحركات الهدامة، المفسدون في الأرض كتبها ((محمد علي كيوة))- معاصر- فيها تفاصيل دقيقة وموسعة عن البهائية، ويظهر فيها أن له اطلاعاً واسعاً على خفايا هذه الطائفة ومعرفة خاصة بهم فلترجع إليها إن شئت.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الباب التاسع
القاديانية
تمهيد: التحذير من ظهور دجالين يدعون النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم :(45/172)
قال تعالى: ? مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ? . سورة الأحزاب : 40 .
وقال تعالى: ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ? سورة المائدة : 3 .
وجاء في السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام:
((وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء)). قال أبو الدرداء: ((صدق والله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ تركنا والله على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء)) (1) .
ويقول عليه الصلاة والسلام في بيان أنه لا خير إلا دلَّ أمته عليه، ولا شر إلا وحذرها منه: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا دلَّ أمته على ما يعلمه خيراً لهم، ويحذرهم ما يعلمه شراً لهم)) (2) .
فقد جمعت هذه النصوص بيان ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبيان إكمال الدين من عند الله عز وجل، وبيان إكماله من قبل المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبيان كمال النصح والشفقة من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث بيَّن كل ما يحتاج إليه المسلم في أمور دينه ودنياه، ولم يبق لأي متحذلق مجال في الزيادة في الدين أو النقص منه لأن ما أكمله الله لا يحتاج إلى إكمال.
وفي إثبات ختم النبوة وردت نصوص كثيرة نكتفي ببعضها هنا، ومن أراد التوسع فعليه بكتب الحديث والتوحيد وما كتبه العلماء عن هذه القضية بخصوصها، ومن تلك النصوص:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي)) (3) .
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي حينما خرج إلى تبوك: ((ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي)) (4)(45/173)
إذا لا نبي بعده عليه الصلاة والسلام، ولكن هناك جريئون لا يبالون بالكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يدعون النبوة بكل صلافة. وفي هؤلاء يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم:
عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن بين يدي الساعة كذابين)) (5) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن الفتن التي تكون قبل الساعة: ((وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله)) (6) .
وتوجد أحاديث كثيرة رواها أصحاب المسانيد والسنن، كلها تكذيب لمن ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، مهما زخرف صاحبها القول وتفنن في الخداع والاحتيال.
ولقد أجمعت الأمة الإسلامية وصار معلوماً من الدين بالضرورة أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء ولا نبي بعده؛ لوصول البشرية إلى نهاية الكمال الذي لا يحتاجون بعده إلى نبي ولا إلى رسالة جديدة، فقد أكمل الله الدين وصار صالحاً للبشرية إلى نهاية هذا الكون، وهذه نعمة من الله تعالى على البشر عامة؛ لتجتمع همتهم على هذا الدين القيم، وتطمئن نفوسهم إلى أنه لا تبديل ولا تغيير لأحكامه، وأن عليهم فقط تنفيذ ما جاء من أحكامه وشرائعه للوصول إلى السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة.
واتفق المسلمون على أن كل من يدعي النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، فإما أن يكون ملحداً كذَّاباً أو مجنوناً مهوساً، ومن المعلوم أن أعداء الإسلام والمستعمرين أصحاب المطامع الواسعة في بلاد المسلمين لم يرضهم هذا المنهج الإلهي، وكذلك لم يرض هذا المنهج أصحاب النفوس المريضة المتعطشة إلى السلطة والعلو في الأرض بغير الحق.(45/174)
فقام كذَّابون يدعون النبوة معرضين عن ما ذكر الله في كتابه وما ذكره رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من انقطاع النبوة، وتظاهروا بالإسلام لتحقيق مطامعهم، ولم يكونوا وحدهم في هذا الميدان، بل وجدوا من يشجعهم ويمدهم بالمال وهم المستعمرون الذين رأوا أن هؤلاء هم أفتك الأسلحة لتفريق كلمة المسلمين وإرجاعهم إلى الذل والوثنية، فربُّوهم على أيديهم وأمدُّوهم بكل ما يحقق أحلامهم.
وقد ذهب هؤلاء المغرمون بدعوى النبوة إلى تأويل النصوص الواردة في ختم النبوة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم تأويلاً شنيعاً باطنياً، سواء كانت تلك النصوص من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: ? مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ? . سورة الأحزاب : 40 .
أو كانت من السنة النبوية، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وحتى يبعث دجالون كذَّابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله)) (7) .
أو قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) (8) .
متلاعبين بمعانيها على حسب ما يخدم عقائدهم الإلحادية، غير عابئين بما اتفق عليه المسلمون من معانيها أو بما تدل عليه اللغة العربية التي أنزل الله بها القرآن الكريم وشرَّفها به، وجعلها أفضل اللغات وجعلها مفخرة كل مسلم في كل مكان من الأرض، وصار هؤلاء يتخبطون في كل أمر يريدونه، لا يرجعون فيه إلى أهله، ولا أدل على هذا من إجماع المسلمين كلهم وإجماع كل اللهجات العربية على أن الختم معناه آخر الشيء ونهايته، بينما معناه عند هؤلاء يختلف عن ذلك تماماً .(45/175)
فهو عندهم إما أن يكون بمعنى الأفضل أو الزينة أو غير ذلك مما سنذكره إن شاء الله عنهم، ومما لا يجهله طلاب العلم أن هذه المعاني التي جاءوا بها هي واهية كبيت العنكبوت، وتدل كذلك على فراغهم من العلم ورغبتهم في الخروج على منهج الله تعالى بتلك التأويلات الفاسدة، التي لا تدل عليها اللغة ولا أقوال أهل العلم.
والواقع أن هؤلاء الفَجَرَة أمثال أحمد القادياني أو حسين علي المازندراني زعيم البهائية أو غيرهم- قد أحدثوا فوضى في مفهوم النبوة بحماقتهم؛ ففقدت كلمة النبوة جلالتها وحُرمَتُهَا وقداستها في نفوس بعض الناس؛ إذ هَانَ على أصحاب المطامع والنفوس المريضة بصفة عامة بعد هؤلاء أن يتنبئوا، خصوصاً وقد أنسوا من أعداء الإسلام تعاطفاً معهم وحماية لهم .
إضافة إلى ما أحدثته هذه النبوءات الكثيرة المزعومة من بلبلة أفكار المسلمين واضطرابهم وتمزيق وحدتهم وإفلاسهم الروحي العميق، لقد أضافت الحركة القاديانية إلى الاضطراب والجهل بالدين وتشتيت كلمة المسلمين وتضارب أفكارهم في الهند وفي غير الهند- أضافت هذه الحركة حينما جاءت في ذلك الليل البهيم تمزيقاً جديداً لوحدة المسلمين وتباعداً بينهم، وأخذ بعضهم يكفر البعض الآخر وضعفت كلمتهم.
وأسهمت بريطانيا –العدو الأكبر للمسلمين- في محاولة الإجهاز على البقية من تعلق المسلمين بدينهم ووحدتهم في الهند، وفي كل مكان وصلت إليه أقدامهم النجسة في تلك الحقبة التي ظهر فيها الغلام بدعوته الخرافية المشئومة، وكذلك المرزا حسين علي المازندراني في إيران وفي فلسطين، وقبله علي محمد الشيرازي. وللباطل صولة ثم يضمحل.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الأول
كيف نشأت القاديانية(45/176)
القاديانية وهي إحدى الفرق الباطنية الخبيثة (9) ، ظهرت في آخر القرن التاسع عشر المسيحي في الهند، وتسمى في الهند وباكستان بالقاديانية، وسموا أنفسهم في أفريقيا وغيرها من البلاد التي غزوها بالأحمدية؛ تمويهاً على المسلمين أنهم ينتسبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. ((والقاديانية ثورة على النبوة المحمدية وعلى صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وثورة على الإسلام ومؤامرة دينية وسياسية كما يذكر الندوي)) (10) .
احتضنها الإنجليز حينما كانوا حكاماً مستعمرين للهند، وتبنوها، وبذلوا لنصرتها ما في وسعهم من الإمكانيات المادية والمعنوية؛ وذلك لما رأوه فيها من تحقيق مآربهم والتمكين لهم في الهند وفي غير الهند، واحتضنتها كذلك اليهودية العالمية، ولهم مراكز في أنحاء العالم وفي إسرائيل لنشر الإسلام-كما يزعم القاديانيون.
وقد نبغت هذه الفتنة في عصر كثر الاضطراب فيه وخَيَّم الجهل وانتشرت الأفكار والمبادئ الهدامة على أوسع نطاق، وتغلغلت بين صفوف المسلمين على حين غفلة منهم، حتى أصبحت طائفة كبيرة خصوصاً حينما تولى وزارة الدولة الباكستانية المسلمة وزير قادياني هو ظفر الله خان؛ فقد تولى وزارة الخارجية وعمل كل ما في وسعه لتمكين القاديانية والقاديانيين من الانتشار والظهور.
وصارت قاديان ثم الربوة عاصمة للقاديانية ومركز دعوة ودعاية لها، وبدأت القاديانية توجه دعوتها إلى البلاد العربية والإسلامية، وبدأت تظهر في العراق وسوريا وتنتشر في أندونيسيا (11) وبعض البلدان في أفريقيا (12) ، وتتمنى بإلحاح لو وُجِدَ من يصغي لها في الجزيرة العربية –حرسها الله من الفتن والارتداد الذي يراد لها- ففيها مهبط الوحي وإليها تهوي أفئدة المؤمنين بالله من كل قطر من أقطار الأرض.(45/177)
وكم بُذلت من المحاولات الكثيرة لطوائف الفرق الضالة للتغلغل إلى قلوب المسلمين في مكة والمدينة، فرد الله كيدهم إلى نحورهم، وباءت محاولاتهم بالفشل الذريع بفضل الله وتوفيقه لعلماء المسلمين لفضح تلك الطوائف وما تبيته من السوء للمسلمين ولدينهم، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
وقد قيض الله للتصدي للقاديانيين علماء أجلاء بينوا للمسلمين خطر هؤلاء القاديانيين وارتدادهم عن الإسلام، ومن هؤلاء العلماء المجاهدون كثير من علماء الهند وباكستان، وغيرهم من علماء البلدان الإسلامية، وبُذِلَت محاولات عديدة لجعل القاديانية أقلية غير مسلمة في باكستان.
وتمَّ ذلك والحمد لله إلا أن نشاط القاديانيين هؤلاء ربما ازداد اشتعالاً وتوسعاً بين جهلة المسلمين وشبابهم، الذين لم يكن عندهم مانع من الثقافة الإسلامية عن تقبل الديانة القاديانية، التي بذلت المال ونشرت الدعاة لتحقيق ما تهدف إليه من إخراج المسلمين عن دينهم للإيمان بنبوة القادياني والحج إلى قاديان والرضى بحكم الإنجليز، واستعمارهم لبلدان المسلمين في كل مكان وصلت إليه أيدي الإنجليز الملطخة بالدماء، وقلوبهم المنطوية على غاية المكر والخديعة والإضرار بالمسلمين بكل ما يمكن فعله من قتل وسجن وتشريد، كما فعلوا في الهند بعد أن أخفقت ثورة الهند الكبرى عام 1857م، وراح ضحيتها كثير من أهل الهند، وخصوصاً من المسلمين بكل قسوة ووحشية (13) ، وبمباركة القاديانيين الذين كانوا من أخلص الجواسيس لهم.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الثاني
زعيم القاديانية
1- اسمه وأسرته :
ترجم المرزا لنفسه ولأسرته في آخر كتابه ((ضميمة الوحي)) وجاء بخلط عجيب في ذلك.(45/178)
أما اسمه فهو: غلام أحمد القادياني، واسم والده غلام مرتضى، واسم أمه جراج بي بي(14) وفي نسبة أسرته يتضارب قوله؛ فهو يزعم أنه ينتمي إلى أسرة أصلها من المغول من فرع برلاس، ومرة قال: إن أسرته فارسية (15) ، ومرة زعم أن أسرته صينية الأصل، ومرة أنه من بني فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخرى قال بأنها جاءت من سمرقند، وزعم مرة أنه يرجع إلى بني إسحاق (16) .
وبعد كل هذا الخلط والاضطراب زعم أن الله أوحى إليه أن نسبه يرجع إلى فارس فقال: ((والظاهر أن أسرتي من المغول، ولكن الآن ظهر علي من كلام الله تعالى أن أسرتي حقيقة أسرة فارسية، وأنا أؤمن بهذا؛ لأنه لا يعرف أحد حقائق الأسر مثل ما يعرفها الله تعالى)) (17) .
وفي تقرير هذا الخلط قال في ضميمة الوحي: ((وسمعت من أبي أن آبائي كانوا من الجرثومة المغلية،و لكن الله أوحى إلي أنهم كانوا من بني فارس لا من الأقوام التركية، ومع ذلك أخبرني ربي بأن بعض أمهاتي كن من بني الفاطمة-ومن أهل بيت النبوة، والله جمع فيهم نسل إسحاق وإسماعيل من كمال الحكمة والمصلحة)) (18) .
وكل من سأله عن هذه التقلبات في نسبه يقول: هكذا أخبرني الله تعالى، أو هكذا أُلهِمَ من الله أو كُلمَ على التعبير الذي يحبه (19) . أي أخبره الله بكل هذه التناقضات التي لا مبرر لها إلا الجهل والنفاق-و الله يتنزه عن هذا التناقض- ومهما قال عن أسرته، فإنها أسرة عميلة اشتهرت بعاملتها وتفانيها في خدمة الإنجليز المستعمرين لهم. وكان الغلام كثيراً ما يتباهى بأنه هو وأجداده كانوا من المخلصين لخدمة الإنجليز، كما سيأتي ذكر النصوص التي تبجح بها القادياني وأتباعه.(45/179)
أما ولادته: فقد ولد غلام أحمد في عام 1256هـ على أحد الأقوال في قرية قاديان إحدى قرى البنجاب بالهند. يقول المودودي: ((ولد الميرزا غلام أحمد- كما أشرنا في البداية- حوالي سنة 1839م، أو سنة 1840م حسبما كتبه الميرزا في تأليفه كتاب البرية، إلا أن أحد مؤرخيه كتب أنه ولد سنة 1835م (20) ، وقد وصف القادياني قريته التي ولد فيها بقوله:
((كانت قريتي أبعد من قصد السيارة، وأحقر من عيون النظارة، درست طلولها، وكره حلولها، وقلت بركاتها، وكثرت مضراتها ومعراتها، والذين يسكنون فيها كانوا كبهائم، وبذلتهم الظاهرة يدعون اللائم، لا يعلمون ما الإسلام وما القرآن وما الأحكام، فهذا من عجائب قضاء الله وغرائب القدرة أنه بعثني من مثل هذه الخربة)) (21) .
وأغلب الظن أنه كان صادقاً في وصفه لقريته بأنها خربة، ولأهلها بأنهم مثل البهائم لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً؛ إذ لولا أنهم كذلك لما جرؤ على دعوى النبوة بينهم.
2- أما هو وثقافته :
فقد قرأ مبادئ العلوم وقرأ في المنطق والعلوم الدينية والأدبية في داره على بعض الأساتذة ، مثل فضل إلهي، وفضل أحمد، وكل على شاه، كما قرأ الطب القديم على والده الذي كان طبيباً ماهراً (22) وعرافاً حاذقاً(23)، وقد كان يكثر القراءة والطلب وأجهد نفسه في ذلك(24)، إلا أن جميع معلوماته عن الإسلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم كانت مشوشة ومملوءة بالأخطاء والخلط الشنيع، كما ذكر عنه الأستاذ إحسان إلهي وذكر الأمثلة على ذلك(25).(45/180)
وقد بدأ حياته العملية بأن توظف في محكمة حاكم المديرية في مدينة سيالكوث إحدى المدن في باكستان، بمرتب يساوي خمس عشرة روبية في ذلك الوقت، وبقي على ذلك أربع سنوات من عام 1864 إلى عام 1868م، وقد استغل في هذه الفترة وقته فأقبل على تعلم الإنجليزية، كما التحق بدراسة الحقوق وأخفق في الامتحان، ثم استقال من وظيفته هذه عام 1868م وشارك والده في المحاكمات والقضايا التي كان مشغولاً بها (26) .
وهكذا بدأ حياته في تقشف وحاجة شديدة عبر عنها في كتابه: ضميمة الوحي بعدة أساليب نأخذ منها على سبيل المثال في الاستفتاء الأول الذي بدأ بقوله: ((يا علماء الإسلام وفقهاء ملة خير الأنام؛ أفتوني في رجل ادعى أنه من الله الكريم- يقصد نفسه- إلى أن قال: ((وكان في أول زمنه مستوراً في زاوية الخمول، لا يعرف ولا يذكر، ولا يرجى منه ولا يحذر، وينكر عليه ولا يوقر، ولا يعد في أشياء يحدث بها بين العوام والكبراء، بل يظن أنه ليس بشيء ويعرض عن ذكره في مجالس العقلاء)) (27) .
وقال أيضاً: ((وما كنت من المعروفين فأوحى إلي ربِّي، وقال: اخترتك)) (28) .
إلى أن يقول: ((وكنت أعيش كرجل اتخذه الناس مهجوراً)).
ونصوص أخرى كثيرة ذكرها حول إثبات هذه الحقيقة.
إلا أنه حينما تبوأ الزعامة الدينية أقبلت عليه الدنيا والهدايا الكثيرة التي تمدح بها في كتابه ضميمة الوحي في سبعة مواضع، بتعبيرات مختلفة زاعماً أنها فضل من الله، ودليل أيضاً على نبوته، منها:
((ثم بعد ذلك أيَّد الله هذا العبد كما كان وعده بأنواع الآلاء وألوان النعماء، فرجع إليه فوج من الطلباء بأموال وتحايف وما يسرُّ من الأشياء، حتى ضاق عليها المكان)) (29) .
وقال أيضاً:
((وانهالت علي الهدايا كأنها بحر تهيَّج في كل آن أمواجاً، هذه آيات الله)) (30) .
وقال: ((يأتوني من كل فج عميق بالهدايا وبكل ما يليق، هذا وحي من السماء من حضرة الكبرياء، ما كان حديثاً يفترى)) (31) .(45/181)
ومن هنا وحين أقبلت عليه الدنيا بالزعامة الدينية رتع فيها كيفما حلى له على حساب المغفلين من أتباعه، وصار ينفق في المسكن والمأكل والمشرب بما في ذلك شرب أقوى المسكرات من الخمر والمعجونات المقوية الثمينة، وصارت حياته أشبه ما تكون بحياة الزعماء السياسيين حتى شكى كثير من أتباعه هذه الحياة المملوءة بالإسراف بالنسبة للغلام ولزوجاته، من لبسهن الحرير والحلي والحلل الفاخرة، بينما أتباعه يعيشون في فقر مدقع.
وكان الغلام يغضب كثيراً حينما يُسأل عن كيفية إنفاق تلك الأموال التي تأتي بكثرة، لكنها لا ترى بعد ذلك ولا يلمس لها أثر (32) .
ومما يذكر في ترجمته أن الله قد عاجله بكثير من الأمراض، فقد أصيب بعدة أمراض حتى كان يغمى عليه كثيراً من شدة مرض السكر به، إضافة إلى الصداع الشديد الملازم له، إضافة إلى مرض المراق، وأمراض أخرى ذكرها المودودي والندوي وغيرهما في ترجمتهم له، مستندين إلى كتب الغلام وغيره من كبار أصحابه (33) .
وأما حياة خلفاء الغلام من بعده فقد أضافوا إلى الحَشَفِ سوءَ كيلة؛ لقد استهتروا بكل القيم ورتعوا في كل مراتع اللهو والفجور، ويكفي الشخص أن يقرأ كلمة الأستاذ عبد الرحمن مصري مدير كلية تعليم الإسلام في قديان، وكان من كبار علماء الجماعة القاديانية كما يذكر الأستاذ الندوي.
فقد أسلم هذا الرجل على يد بعض القاديانيين ونشأ في حضانتهم وتعلم في مصر، وحاز ثقة الجماعة حتى كان يستخلفه الميرزا بشير الدين في إمامة الصلوات، ثم اطلع على أسرار هؤلاء الماسونيين القاديانيين وثار عليهم، وألف جماعة من الثوار كان يرأسهم هو. فقد سجل قاضي محكمة الاستئناف في لاهور- كما يذكر عبد الرحمن المصري في يوم 23 سبتمبر من عام 1938م- ما يأتي:(45/182)
إن الخليفة الحالي الميرزا بشير الدين محمود من كبار الفساق، إنه يتصيد الفتيات في ستر من الزعامة الدينية، وله وكلاء وسماسرة من الرجال والنساء يحضرون له الفتيات الغافلات والشباب الغر، وقد أسس لهذا الغرض نادياً سرياً من الرجال والنساء يفسق فيه (34) .
ولا شك أن هذا الميرزا سار على سيرة والده الميرزا غلام أحمد في استهتارهما بالدين وعدم وجود المراقبة الذاتية؛ فأصبح انتهاب الملذات من الأمور المألوفة، وهذا النادي يشهد صراحة بتأثير العقائد القاديانية في أصحابها، ودليل على أن هذه الفرقة إنما قامت من الأساس على خداع الناس والوصول إلى مآربهم وشهواتهم التي لا حد لها.
3-صفاته وأخلاقه :
مما يذكر عن القادياني أنه كان قليل الفطنة مستغرقاً تبدو عليه البساطة والغرارة، فقد قيل عنه: إنه كان لا يحسن ملأ الساعة، وكان إذا أراد أن يعرف الوقت وضع أنملته على ميناء الساعة وعد الأرقام عداً، وكان لا يميز الأيمن من حذائه عن الأيسر منها، حتى اضطر إلى وضع علامة عليها، وكان يضع أحجار الاستنجاء التي يحتاج إليها كثيراً وأقراص القند التي كان مغرماً بها في مخبأ واحد (35) ...هكذا يذكر عنه.
وفي رأيي أنه كان يتظاهر بهذه الغفلة والسذاجة لأشياء في نفسه تمهيداً للإيحاء إلى الناس بأنه في تلك القوة من الاحتجاج والمناظرة والخطابة وكثرة تأليف لكتب التي بثَّها في العالم- إنما كانت بقوة ربانية وإلهام منه؛ أي ولولا ذلك لما استطاع أن يحفظ اسمه أو يكتب كلمة.
وهذا من دهائه ومكره، فإن الذي كتب عن مدح الإنجليز ما يملأ 50 خزانة كيف لا يعرف أرقام الساعة وحذاءه الأيمن عن الأيسر وأحجار الاستنجاء وأقراص القند؛ بل وبين السكر والملح كما يذكر عنه، هذا بعيد جداً خصوصاً وأن هذه الأوصاف إنما ينقلها علماء المسلمين من كتب القاديانية وعن القادياني، ومن مصادره أنه كان كثير الأمراض (36) .(45/183)
وقد ذكر هو عن نفسه وذكر عنه العلماء من المسلمين ومن كتَّاب القاديانيين من الأمراض ما لو جمعت على حجر لفلقته، فقد ذكر المودودي جملة من أمراض الغلام من مصادر القاديانيين أن الغلام كان فيه من الأمراض: -الهستيريا-القطرب-الماليخوليا-السل-أمراض الصدر-دوار الرأس-سلس البول-الأرق-التشنج القلبي-الذيابيطس-أي السكر-يبول في الليلة الواحدة أكثر من مائة مرة-الضعف العصبي-سوء الذاكرة...إلخ ذلك.
وفيما أتصور أن هذه المبالغات في ذكر أمراض الغلام المتنبي –من قبل القاديانيين- إنما يراد من ورائها مكسب هام لإثبات النبوة؛ لأن أقل هذه الأمراض تمنع الشخص أن يملأ الخزائن بمؤلفاته، ولا تسمح له بالتفكير السليم فتكون النتيجة أن كل ما قاله الغلام وكتبه إنما كان إلهاماً جاهزاً من الله لا دور للغلام فيه إلا مجرد التبليغ، خصوصاً إذا عرفنا أن الغلام وأسرته كانوا يحبون أن تشيع هذه الأمراض عنه، وقد ذكر الشيخ إحسان إلهي –رحمه الله- أمراضاً أخرى كثيرة للغلام من مصادر القاديانيين (37) ، فأي جسم يحتمل ذلك!؟
وقد وصف الغلام بالبذاءة وسوء الأخلاق وطول اللسان هجاءاً مقذعاً للمخالفين والعلماء المعاصرين وعباد الله الصالحين، وكان مصداق صفة المنافقين التي جاءت في الأحاديث الصحاح: ((وإذا خاصم فجر))، وكان يكثر من سَبِّ مخالفيه مثل هذه الألفاظ: فلان الغوي الجاهل الخليع الكلب الأحمق الضال الكذاب اللعين ابن الزنا والبغي الشيطان الغوي، وأمثال هذه الكلمات والسباب البذيء الذي لا يصدر إلا عن السفهاء والسوقة (38) .(45/184)
ومن ذلك أنه تنبأ بموت رجل في زمن محدد، ولكن هذا الرجل لم يمت حسب تنبؤه في هذه المدة، فقال له بعض العلماء: أنت تظن أنك نبي ولا تتكلم إلا بوحي الله، فكيف يمكن أن يتخلف وعد الله؟، فبدل أن يجيبهم بدليل يرد به دعواهم ويثبت دعواه، بدلاً عن ذلك بدأ يَسُبُّهُم هم وجميع علماء المسلمين فقال: ((لا يوجد في الدنيا شيء أنجس من الخنزير، ولكن العلماء الذين يخالفونني هم أنجس من الخنزير، أيها العلماء يا آكلي الجيفة و أيتها الأرواح النجسة)) (39) .
وقد وصف جميع من يخالفونه بقوله: ((بعضهم كالكلاب، وبعضهم كالذئاب وبعضهم كالخنازير)) (40) ، ويخاطب الشيخ ثناء الله الأمر تسري قائلاً: ((يا كلب يا آكل الجيفة))(41) ويقول عن العالم الكبير مهر علي الكولري الجشتي:
فقلت لك الويلات يا أرض جولر لعنت بملعون فأنت تدمر(42)
وقال في سبه لجميع مخالفيه:
إن العدا صاروا خنازير الفلا نسائهم من دونهن الأكلب(43)
وإذا كان هذا السباب لعلماء عصره لأغراض شخصية إن صرفنا النظر عن الأساس الديني فيها-وهو الأصل- فلماذا لم يقتصر في سبه على المخالفين له حين تطاول فسب أنبياء الله الأطهار دون أن يكون له أي مبرر-إلا تغطية ضعف جانبه وبطلان أفكاره وسقوطها-.
ومن ذلك السباب سبه لنبي الله عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ فقد قال عنه: ((إن عيسى ما استطاع أن يقول لنفسه إنه صالح؛ لأن الناس كانوا يعرفون أن عيسى رجل خمار، وسيء السيرة)) (44) .
وقد كذب وافترى وحاشا أن يوصف نبي الله عيسى بهذا الوصف أو الأوصاف الأخرى التي قالها عنه، مما يلزم تنزيه القارئ عن ذكرها هنا (45) ، وربما تصور الغلام أن نقضه لبناء الآخرين يشيِّد بنيانه، وأن ترفُّعه على الأنبياء يجعل منه نبياً أعلى منهم.
كما أنه له أشعار ركيكة ومعاني تافهة مملوءة بالسباب والشتائم على كل من يخالفه، ينطبق عليه المثل القائل: ((رمتني بدائها وانسلت)).(45/185)
وحين تمادى في شتم الناس وإيذائهم بلسانه وبكتاباته عنهم أوصلوا أمره إلى القضاء، فأخُِذَ عليه تعهد في المحكمة الجنائية أن لا يستعمل مرة أخرى تلك الألفاظ القبيحة والسب والشتم والقذف ضد مخالفيه، وقال الغلام نفسه: ((أنا عاهدت أمام نائب الحاكم بأني لا أستعمل بعد ذلك ألفاظاً سيئة)) (46) .
ولكنه لم يَفِ؛ فهذا هو يقول في ضميمة الوحي في معرض تعداده للنعم الوافرة عليه- يقول: ((ويطرد –أي الله- أعداءه المؤذين كالكلاب ويؤتيه ما لم يؤت أحداً من المعاصرين))(47).
وتجد تفاصيل كثيرة فيما كتبه عنه العلامة الندوي و المودودي وإحسان إلهي رحمهم الله؛ حيث يظهر القادياني فيما ينقله عنه هؤلاء الأعلام أنه كان سباباً فاحشاً لا يدانيه أحد في هذه الصفة.
كما عرف عنه التناقض في القضية الواحدة؛ حيث يذكر شيئاً ثم يذكر آخر يدل على كذبه، وحبل الكذب قصير كما قيل، ومن الكذب الذي اشتهر به الكذب على الله؛ حيث يأتي بكلام من تلفيقه ثم يزعم أن الله قاله له، ثم يكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم بوضع أحاديث من تلقاء نفسه.
كما عرف عنه الاحتيال لأخذ أموال الناس وعدم الوفاء بالتزاماته لهم، وتعليل ذلك بما لا مقنع فيه لأحد، كما في قصة الخمسين المجلد التي تزعم أنه سيؤلفها وأخذ ثمنها مقدماً، ثم كتب خمسة كتب فقط وامتنع من الباقي، ومن إرجاع الأموال أيضاً بحجة أنه لا فرق بين الخمسة والخمسين غير الصفر،ويظهر التناقض واضحاً في أفكاره حين تقارن بين قوليه الآتيين:
((أنا أعتقد كل ما يعتقده أهل السنة، كما أنا أعتقد أن محمداً خاتم النبيين ومن يدعي النبوة بعده هو كافر كاذب؛ لأني أومن أن الرسالة بدأت من آدم وانتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (48) وقوله: ((والله الذي في قبضته روحي هو الذي أرسلني، وسماني نبياً، وأظهر لصدق دعواي آيات بينات بلغ عددها ثلاثمائة ألف بينة)) (49) .
4- عمالة القادياني وأسرته للإنجليز :(45/186)
لقد جرَّت بريطانيا على المسلمين مصائب وفتناً عظيمة، لا يزال المسلمون يجترون آثارها إلى اليوم في الهند وفي بلاد العرب، وكثير من بلدان المسلمين؛ حيث فرقت كلمتهم وأوهنت قواهم وأوجدت عملاء لها في كل بلد إسلامي من أبناء ذلك البلد ومن جلدتهم، ويتكلمون بألسنتهم، ولكنهم أصبحوا بعد ذلك أشد عليهم من الأعداء الظاهرين، ونشرت الفساد والخلاعة، إلى جانب نشر النصرانية بين المسلمين، وقتلت في سبيل ذلك الأبرياء والصفوة الممتازة من العلماء ليفسحوا المجال للمبشرين، وليثبتوا كذلك استعمارهم إلى الأبد.
ومع كل هذا وغيره نرى الإنجليز وهم مسيطرون على الهند يبحثون فيها عن عميل لهم، فكان المطلوب، ووجدوا القادياني خير من يمتثل لتحقيق مآربهم، ويقدم طاعتهم على طاعة ربه ودينه الذي كان ينتمي إليه ويخون أمته الإسلامية التي كان ينتسب إليها، ولولا نكايته بعد ذلك بالإسلام والمسلمين وإدخال أفكار هدامة حارب بها العقيدة الإسلامية الصحيحة وأخرج بها كثيراً من المسلمين عن دينهم- لولا ذلك لما كان لنا بعمالته لبريطانيا أو غيرها أي غرض لإبراز دوره مع الإنجليز وخدمته لهم، لأنه كغيره ممن باعوا أنفسهم لأعدائهم، على أن عمالة هذا الشخص لبريطانيا فاقت التصور، فإنك لو رجعت إلى أي كتاب من كتب الغلام أو تصريحاته فسترى مدى تعلقه بهم وتفانيه في خدمتهم وتملقه لهم وطلب رضاهم، وتفضيلهم على غيرهم ودعوة الناس إلى الانضواء تحت لوائهم والسير خلفهم في كل شئونهم ومحاكاتهم بكل دقة.
وسترى كذلك في الجانب الآخر مدى تعلق الحكومة الإنجليزية به وبأتباعه، وكيف هيأت لهم المناصب وأغدقت عليهم الأموال ويسرت لهم في داخل الهند وخارجها إلى اليوم كل أسباب التفوق والراحة، ودافعت عنهم في كل موقف يتعرضون فيه للضغط، والنتيجة من كل تلك المواقف للجانبين غير خافية، فالمصلحة بينهم مشتركة والهدف واحد.(45/187)
ومن الأمثلة- وهي كثيرة - على خدمة هذا المتنبئ لبريطانيا قوله في منع الجهاد: ((لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها، وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر-الإنجليز-من الكتب والإعلانات والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة!! وقد نشرت جميع هذه الكتب في البلاد العربية ومصر والشام وتركيا، وكان هدفي دائماً أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة، وتمحى من قلوبهم قصص المهدي السفاك والمسيح السفاح، والأحكام التي تبعث فيهم عاطفة الجهاد وتفسد قلوب الحمقى))(50)
وقال أيضاً في رسالة قدمها إلى نائب حاكم المقاطعة: ((لقد ظللت منذ حداثة سني-وقد ناهزت اليوم الستين- أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية والنصح لها والعطف عليها وألغي فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهالهم، والتي تمنعهم من الإخلاص لهذه الحكومة، وأرى أن كتاباتي قد أثرت في قلوب المسلمين، وأحدثت تحولاً في مئات الآلاف منهم)) (51) .
ولاشك أن هذا الكلام من الخزي المفضوح لنبوته حتى لكأنه بُعث لتأييد بريطانيا والدفاع عن مصالحها وإضفاء الشرعية على استعمارها لبلاد المسلمين.
ويقول كذلك في تملقه للإنجليز وتذكيرهم بجهوده وجهود أتباعه لهم:
((والمأمول من الحكومة أن تعامل هذه الأسرة التي هي من غرس الإنجليز أنفسهم ومن صنائعهم بكل حزم واحتياط وتحقيق ورعاية، وتوصي رجال حكومتها أن تعاملني وجماعتي بعطف خاص ورعاية فائقة)) (52) .
وهنالك نصوص كثيرة بعضها بالأردية وبعضها بالفارسية وأخرى بالعربية يتناقلها العلماء عنه؛ للتأكيد على عمالته لأعداء الإسلام، وعلى رأسهم عدوهم اللدود بريطانيا وجد فيهم القادياني ضالته المنشودة ووجدوا هم أيضاً ضالتهم وما تحمله في شخص القادياني ففاضت قريحة القادياني، فأشاد بفضلهم ومنتهم المزعومة على العالم الإسلامي قاطبة والهند خاصة.(45/188)
وبقدر ما ارتبط هو وزمرته بأعداء الإسلام بقدر ما ازداد بعده عن الإسلام والمسلمين ونفرت عنه القلوب واستحوذت عليه الشياطين، وكان موقفه هو وأتباعه في غاية المقت بالنسبة لأهل السنة وعامة المسلمين فإنه ناصبهم العداء، ورأى أن الثورات التي يقومون بها على المستعمرين- أنها من فعل العقول الجامدة والحماقة، وكان يثبطهم بكل ما لديه من قوة وحيلة لمنعهم من جهاد هؤلاء الغزاة للبلاد وللدين، ويصيح فيهم أن الجاهد حرام.
وقد انتهى وقته قبل مجيء القادياني، وأما بعده فالجهاد منكر يجب-على حد زعمه- تركه والتسليم للحكومة التي أمر الله بطاعتها؛ أي حكومة بريطانيا الكافرة.
وقد تمثل في وضوح تام ولاء القاديانية للإنجليز أنهم دائماً يظهرون سرورهم وابتهاجهم بسقوط أي دولة إسلامية في يد الاستعمار، ويحتفلون بذلك ويعتبرونه من أسعد أعيادهم، لأنهم يعتبرون المكان الذي تصل إليه بريطانيا هو المكان الذي تصل إليه القاديانية.
وعلى هذا فإن عز القاديانية وانتشارها مرهون بعز الإنجليز وانتشارهم، فكيف لا يفرح القاديانيون بانتصار بريطانيا وانكسار المسلمين بعد ذلك؟ ولقد صرح بهذا كبار القاديانية ابتداء بالغلام وخلفائه، مثلهم في هذا مثل سائر الباطنية حين يفرحون بمصائب المسلمين ويحزنون من أفراحهم.
وهنا أدلة كثيرة من أقاويل القاديانيين في هذا المسلك، منها ما قاله ابن الغلام –محمود أحمد- حين استولت بريطانيا على العراق؛ حيث ألقى خطاباً قال فيه: ((إن علماء المسلمين يتهموننا بتعاوننا مع الإنكليز ويطعنوننا على ابتهاجنا على فتوحاته، فنحن نسأل: لماذا لا نفرح ولماذا لا نُسرُّ؟ وقد قال إمامنا بأني أن المهدي وحكومة بريطانيا سيفي، فنحن نبتهج بهذا الفتح ونريد أن نرى لمعان هذا السيف وبرقه في العراق وفي الشام وفي كل مكان)) (53) .
ولعله قال هذا الكلام- أنه مهدي- قبل أن يُرقَّي نفسه إلى ((نبي)).(45/189)
وقال أيضاً عندما احتلت بريطانيا القدس-وهي المدينة التي لا يعترف بها بعد أن حولها إلى قاديان-: ((نحن نشكر الله ألف وألف مرة على فتوحات بريطانيا، وأن سبب الابتهاج والسرور لأن إمامنا (الغلام القادياني) كان يدعو لفتوحاتها وكان يوصي جماعته بالدعاء لها، وأيضاً فتحت لنا أبواب الدعوة إلى القاديانية التي كانت مسدودة قبل الآن، وهذا كله لامتداد دولة بريطانيا إلى بلدان أخرى)) (54) .
كما ينقل إحسان إلهي –رحمه الله- عن جريدة الفضل القاديانية الرسمية مقالاً جاء فيه: ((أن حكومة بريطانيا هي ترس لنا نتقدم إلى الأمام تحت وقاية هذا الترس، الذي لو أبعد لمزقنا من الرماية فاتحدنا وصار رقيتها (55) وعلوها رقيتنا وعلونا، ودمارها دمارنا)) (56) .
وقال الغلام نفسه عن ربوة وظل بريطانيا عليهم: ((قد قال الله عز وجل في القرآن: ?وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ? سورة المؤمنون :50 ولما جعلني الله عز وجل مثيل عيسى جعل لي السلطنة البريطانية ربوة أمن وراحة ومستقراً حسناً؛ فالحمد لله مأوى المظلومين، ولله الحكم والمصالح، ما كان لأحد أن يؤذي من عَصَمَهُ الله، والله خير العاصمين)) (57) .
وقال كذلك: ((ولولا سيف الحكومة لأرى منكم ما رأى عيسى من الكفرة، ولذلك نشكر هذه الحكومة لا بسبيل المداهنة بل على طريق شكر المنة، ووالله إنا رأينا تحت ظلها أمناً لا يرجى من حكومة الإسلام في هذه الأيام، ولذلك لا يجوز عندنا أن يرفع عليهم السيف بالجهاد، وحرام على جميع المسلمين أن يحاربوهم ويقوموا للبغاوات والفساد، ذلك بأنهم أحسنوا إلينا بأنواع الامتنان)) (58) ..إلخ الثناء عليهم.(45/190)
والذي أحوجنا إلى ذكر هذه النصوص من أقوالهم إنما هو بيان خطر هذه الطائفة، وانخداع بعض المسلمين بما يبدي هؤلاء من الدعوة إلى الإسلام، وأنه لا فرق بين القاديانيين وسائر المسلمين، ليعرف المسلم في أي مكان وطأته أقدام القاديانيين أنهم أداة تخذيل وإضرار بالإسلام والمسلمين، وأنهم جواسيس الإنجليز ومعاول هدم للإسلام باسم الإسلام.
وبعدما قدمنا من النصوص حول عمالة القادياني وأسرته للإنجليز أليس من المغالطة المكشوفة أن يتصدى بشير محمود للقول بأن القادياني والقاديانيين لا يلغون فكرة الجهاد، ثم يرد على هذا القول بشدة ويهاجم كل من يقول به أو ينسبه إلى القاديانيين؟
نعم إنها مغالطة حين قرر بشير ذلك ثم زعم أن الجهاد الذي ينادون بإلغائه ليس هو جهاد الكفار، وإنما المقصود به ذلك الجهاد الذي يوحي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جباراً يقتل الناس، لأن الإسلام كما هو تعبيره يلعن اعتناق الدين خوفاً وطمعاً، بل إن الإسلام هو أول دين يقر بحرية العقيدة.
وبعد هذه الأقوال ينتهي إلى النتيجة الآتية في فهم الجهاد: الحروب الدينية لا تجوز إلا ضد من يتدخل في الدين ويمنع المسلمين من قولهم: ((ربنا الله)) وأن مثل هذه الحروب (59) لا تهدف إلى هدم المعابد والكنائس، ولا إلى إكراه غير المسلمين على ترك دينهم، أو إلى قتلهم؛ بل إنما ترمي إلى الدفاع عن سائر الملل والأديان والحفاظ على معابدها. إلى أن يقول:
((وقصارى القول أن الجهاد الذي أجازه الإسلام هو محاربة من يُرغم المسلمين على الارتداد عن الإسلام، أو يستعمل القوة لصد الناس عنه، أو يقتل الناس لمجرد اعتناقهم للإسلام، فمحاربة أحد لغير هذه الجرائم لا تجوز مطلقاً)) (60) . ثم زعم أن الجهاد الذي قام به المسلمون إنما هو تقليد للنصارى.(45/191)
وهذا الكلام مملوء بالدس والمغالطة، فيقال له: إذا انتظر المسلمون الكفار إلى الوقت الذي يمنعونهم فيه من قول: ((ربنا الله)) فمن أين يقومون للجهاد بعد ذلك، مع أن معظم الكفار لا يمنعون أحداً من قولها ما دام قد ترك الجهاد وصار عبداً لهم. وزعمه أن المسلمين إنما يقومون بالجهاد تقليداً للكفار النصارى، إنما هو تعبير مفضوح لجهله بفريضة الجهاد في كتاب الله عز وجل وقيام أهل التوحيد بامتثالها.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الثالث
ختم النبوة وموقف القادياني منه
وقد حاول القادياني التلاعب بعقول المسلمين وإيهامهم أن نبوته لا تتعارض مع القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، مستعملاً في ذلك شتى أنواع التأويلات الباطنية للتمويه والتعميم على نبوته الجديدة، وقد رصد العلماء كل تلك المفاهيم والتأويلات الباطلة، وكانت هذه المواقف تمثل البدايات الأولى لظهور الغلام، ولكن بعد مدة من الزمن، وبعد أن اشتد طمعه في إثبات النبوة له تمرد وعتا وادعى هو وجماعته بكل وضوح أن النبوة لا تزال ولن تزال أبداً تحل بأشخاص وتنتهي عن أشخاص دون انقطاع، وأن النبوة لم تختم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وركبوا لذلك كل صعب وذلول، ولم يكترثوا بأن هذا كفر صريح بما جاء في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، وبدلاً من أن يرجعوا إلى الحق أخذوا يتفننون في بيان مفهوم ختم النبوة على معان مختلفة وتأويلات ملفقة، منها:(45/192)
أن الله تعالى حين يكرم أحداً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويوصله إلى درجة الوحي والإلهام والنبوة فإنه-ومع تسميته نبياً- لا يتعارض هذا المفهوم-مع مفهوم ختم النبوة- إذ إن الشخص لا يزال من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن أتباعه، ولكن ينتقض هذا المفهوم إذا ادعاه شخص من غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فحينئذ يتعارض قوله تماماً مع ختم النبوة (61) . ويقول بشير محمود: ((إننا نرفض النبوة المباشرة عن غير توسط الرسول صلى الله عليه وسلم رفضاً باتاً؛ ولذلك نرفض ظهور المسيح الناصري بعينه، لكننا لا ننكر النبوة التي تضاعف كرامة النبي صلى الله عليه وسلم وتزيدها سمواً وعلواً)) (62) . وقد أخذ بشير هذا المفهوم عن والده، حيث قال الغلام في ضميمة الوحي: ((وإن قال قائل: كيف يكون نبي من هذه الأمة وقد ختم الله على النبوة؟)) وهذا سؤال مهم جداً، ولكن كيف كان جواب الغلام عنه؟ لقد أجاب بما لا مقنع فيه لأحد، وحاد عن الحق وألحد فيه، فقال: ((فالجواب أنه عز وجل ما سمى هذا الرجل نبياً إلا لإثبات كمال نبوة سيدنا خير البرية، فإن ثبوت كمال النبي لا يتحقق إلا بثبوت كمال الأمة (63) ، ومن دون ذاك ادعاء محض لا دليل عليه عند أهل الفطنة، ولا معنى لختم النبوة على فرد من غير أن تختتم كمالات النبوة على ذلك الفرد، ومن الكمالات العظمى كمال النبي في الإفاضة وهو لا يثبت من غير نموذج يوجد في الأمة))(64) .
والمغالطة في هذا الكلام:
أن النبوة لا تأتي من فيض أحد؛ بل هي تَفَضُّلٌ من الله تعالى على من يشاء من خلقه.
لماذا لا يكون النموذج الذي يدعيه الغلام عاماً؛ بحيث يحق لكل شخص أن يتصف به، فكيف احتكره القادياني بدون أن يذكر أي مبرر له.(45/193)
أن معنى القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم: ((أنه قد تمت عليه كمالات النبوة وأنه لا يأتي بعده رسول ذو شريعة جديدة، ولا نبي من غير أمته)) (65) ؛ أي أن الانبياء الذين يأتون بعده صلى الله عليه وسلم كلهم يعتبرون من أمته، وهذا ليس فيه خروج- حسب مفهوم القادياني-عن القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو ما أكده بشير محمود في كتابه ((دعوة الأمير)) (66) . ولكن الغلام في آخر أمره اخترع له ولأتباعه شريعة جديدة .
أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو صاحب الفيوضات الكمالية التي لم يعطها أحد غيره؛ ولذلك سمي بخاتم النبيين ((أي أن إطاعته تمنح كمالات النبوة، وأن التفاته الروحي يصنع الأنبياء)) (67) .
أي فإذا وجد أن أحداً يدعي النبوة ولم تكن نبوته مصدقة من خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فإنها لا تكون نبوة صحيحة، مثل الورقة التي تكون رسمية وليس عليها الختم الرسمي، وإذا كانت طاعته صلى الله عليه وسلم تمنح الكمالات والنبوة فإنه يحق لكل شخص متبع للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتصف بصفة النبوة، بل كان الصحابة في أول هؤلاء. فهل يستطيع الغلام أن يثبت أن أحداً منهم ادعاها؟
أن معنى الختم هنا هو تأخير النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر قرناً لتظهر عظمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي بعد ذلك ما يقتضي إظهار عظمة الإسلام بظهور من تطلق عليه كلمة النبي، لتبقى سلسلة النبوة متصلة الحلقات، ومن هنا أجريت على لسانه صلى الله عليه وسلم كلمة النبي للمسيح الموعود في آخر الزمان(68) ، ويقول بشير محمود :
((إن الشريعة لا تُنسخ إلا بالنبوة التشريعية الجديدة المباشرة، لكن النبوة التي تستمد من اتباع النبي الأول وتهدف إلى نشر الشريعة السابقة هي مظهر رائع للنبوة السابقة..وهي في متناول هذه الأمة)) (69) .(45/194)
أن الغلام هو ظل للرسول صلى الله عليه وسلم لبقاء النبوة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وانعكاس ظلية الكمالات المحمدية في الغلام، ومن هنا فلا تأثير في نبوة الغلام على القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم (70) ، وعلى الناس أن يتركوا عقولهم ويصدقوا هذا الهراء.
ومن الأدلة التي ساقها بشير محمود على عدم انقطاع النبوة: قول الله تعالى: ? اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ? سورة الفاتحة : 6- 7 . إلى آخر الأدلة، ثم قال: ((يتبين لنا مما ذكرنا آنفاً من الآيات أن صراط الذين أنعمت عليهم هو الانضمام إلى طائفة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، إلى أن قال: ((فلو كان عز وجل حرم علينا نعمة النبوة، لما علمنا بأن نلح في طلبها، ولما بشرنا بأن اتباع هذا النبي صلى الله عليه وسلم يشرف الإنسان بالنبوة)) (71) .
ومعنى هذا الكلام؛ أنه يصح لكل مسلم أن يطلب النبوة، بل كل مسلم نبي؛ لأن بشير يقول في معنى الآية: ((وهل من الممكن أنه عز وجل من ناحية يؤكدنا بطلب الصراط المستقيم صراط الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ومن ناحية أخرى يقول لنا والعياذ بالله: إنني حرمت عليكم هذه النعمة إلى الأبد؟ كلا)) (72) إلخ كلامه.
أن القول بانقطاع النبوة وختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم ينافي حاجة الناس إلى الرسل والأنبياء التي هي دائمة الوجود بين الناس، وشهادة الله بإكمال الدين الإسلامي يجب التغاضي عنها لتصدق مزاعم القادياني.
كما أن القول بختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيه اتهام لله بأنه نفذت خزائنه، وأنه لم يعد قادراً على إرسال الرسل-كما يزعم بشير محمود-ولكي لا نصف الله بالعجز يجب أن نثبت أن والده نبي ورسول!!(45/195)
حقا لقد كفر القاديانيون-وبكل جرأة- بما جاء عن الله في كتابه الكريم، وفيما قررته السنة النبوية من ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وهي نصوص صريحة واضحة، تسلطت عليها الباطنية، من قاديانية وصوفية وبهائية، وغيرهم من فرق الضلال؛ فأولوها على حسب أهوائهم، بتأويلات في غاية الجهل والتكلف الشنيع، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
فإن الله تعالى يقول: ? مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ? سورة الإحزاب : 40 .
فالآية صريحة وواضحة في معناها وفي دلالتها على انقطاع النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم .
فجاء الدجاجلة كالقادياني وغيره وتسلطوا على معناها فأولوها تأويلات أجمع المسلمون على أنها باطلة، مثل تأويلاتهم السابقة لمعنى خاتم النبيين من أنه أفضلهم لا غير، أو تأويلهم لها بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم مثل الخاتم الذي يختم به على المعاملات الرسمية-المهر-من كونه زينة لهم وغير ذلك من المعاني الباطلة، أو زعمهم-حين رأوا ضعف ذلك التأويل السابق-أن معنى الآية هو إثبات أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين أصحاب الشرائع المستقلة، لا الأنبياء الذي لم يأتوا بشرائع مستقلة عن التي قبلها؛ بل جاءوا متممين ومكملين للشرائع مثل حال القادياني بالنسبة للشريعة الإسلامية، التي هي في حاجة إلى من يكملها كالقادياني وغيره .(45/196)
وهي أفكار لا تجد لها رواجاً إلا بين الجهال ومن قل خوفهم من ربهم، فآثروا الدنيا على الآخرة، أو من كان له هدف يريد تحقيقه من وراء هذه الحركات الهدامة، وفي شرح الآية هذه يقول بشير الدين محمود بن الغلام أحمد: ((إن الخاتَم بفتح التاء معناه الآلة التي يختم بها وليس الانتهاء- الخاتم يتخذ للتصديق- ومعنى الآية إذاً أنه صلى الله عليه وسلم آلة الختم التي ختم بها جميع النبيين)). إلى أن يقول: ((والخلاصة أن هذه الآية لا تحظر النبوة التي ذكرناها آنفاً، ولكنها تنفي النبوة التشريعية أو النبوة المباشرة)) (73) .
وفي قوله تعالى: ? يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ? سورة الأعراف : آية 35 . استنتج من هذه الآية عدم انقطاع النبوة؛ قال: ويتبين من هذه الآية أن الأنبياء سيبعثون في هذه الأمة أيضاً؛ لأن الله تعالى يذكر هنا الأمة المسلمة بأن الأنبياء إن بعثوا إليكم فعليكم أن تؤمنوا بهم، إلى أن يقول أيضاً: إن سلمنا أن ((إما)) للشرط فإنها مع ذلك تدل على أن النبوة غير منقطعة(74) .
وبعد هذا الكذب على الله في معنى الآية يضيف كذباً آخر على النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات عدم انقطاع النبوة بعده صلى الله عليه وسلم؛ حيث أثبت أن المسيح نبي، قال: ((وعلاوة على شواهد القرآن الحكيم يتبين من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً أن باب النبوة ليس بمسدود على الإطلاق، لأنه صلى الله عليه وسلم وصف المسيح الموعود بصفة النبي مراراً، ولو لم يمكن وجود النبوة مطلقاً لما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بصفة النبي)) (75) .(45/197)
وغريب جداً هذا الفهم القاصر لخليفة القادياني في زعامة القاديانيين؛ أن يستدل بإثبات النبوة لعيسى على استمرار تجدد الأنبياء، وأن يستدل من أمر الله لبني آدم- بعد إهباطه لأبيهم إلى الأرض- بالإيمان بالأنبياء الذين سَيُرْسِلُهُمْ، على استمرار النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، هذا فَهْمٌ يدعو إلى العجب حقاً، وهذه حجة من لا حجة له، وكم تناقض القاديانيون هنا! فمرة يزعمون أن الغلام نبي مشرع، ومرة يزعمون أنه نبي تابع للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن هذا التفريق لا دليل عليه، فإن الله تعالى لم يخبرنا بأن فيه ((فرقاً)) بين النبي المشرع والآخر غير المشرع، بل أمر بالإيمان بجميع الأنبياء بدون تفريقهم بينهم، وحتى ما يقوله بعض العلماء من أن النبي هو الشخص الذي يسير على الشرع السابق للرسول قبله ويجدده، لا ينطبق على الغلام؛ لأنه جاء بتشريعات كثيرة تخالف الشريعة الإسلامية تمام المخالفة ومستقلة تمام الاستقلال (76) .
وكل تلك التأويلات- التي لفقها القادياني وأتباعه بعدم انقطاع النبوة-لا يقبلها إلا غافل فارغ عن العلم، وجاهل باللغة العربية، وجاهل بالدين الإسلامي؛ ذلك أن الختم معناه آخر الشيء ونهايته، كما يذكر علماء اللغة(77) ؛ لا أن معناه أفضل الشيء وأجوده.
وقد وردت النصوص من الكتاب والسنة على المعنى الأول، وأنه لا نبي بعده محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه آخر الأنبياء، به أكمل الله الدين وأتم به النعمة على العباد، ومن لم يعتقد هذا فلا حظ له من الإسلام، وقد قدمنا ذكر بعض الأدلة على ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وهي واضحة صريحة، لولا بُعْدُ هؤلاء عن الدين واستحواذ الشياطين عليهم. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة غير خافية على طلاب العلم.(45/198)
ومن غريب أمر القادياني أن يترك الأدلة الصريحة من القرآن والسنة على أن خاتم الشيء هو آخره، وأن الرسول خاتم الأنبياء أي آخرهم، ثم يستدل بأقوال الشعراء-الذين يتبعهم الغاوون-على أن خاتم الشيء أفضله واستدل بقول الشاعر:
فُجع القريض بخاتم الشعراء وغدير روضتها حبيب الطائي
وخاتم الشعراء هنا يعني أفضلهم وزينتهم كما فسره القاديانيون، ولكن معناه في الحقيقة أن الشاعر-وهو حسن بن وهب-يظن أن أبا تمام الذي قيل في رثائه هذا البيت- أفضل الشعراء المتقدمين ذوي الحكمة والعقل، وأنه على حسب ما يعتقد فيه الشاعر أنه خاتم الشعراء، أي فلا يمكن أن يأتي بعده مثله (78) ، هكذا ظن والظن أكذب الحديث- وعلى أي تفسير فإن القرآن والسنة لا يعارضان بأقوال الشعراء. ولكن الغريق بكل حبل يمسك، فإن تأويلات الباطنية من القاديانية أو البهائية أو غيرهم بأن خاتم النبيين أي أفضلهم أو زينة لهم، كل تلك التأويلات لا يلتفت إليها أي مسلم شرح الله صدره للإسلام، ولا شك أن نسبة هؤلاء للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كالمهر في الورقة، هذه إهانة للرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ويحترمه لا يستجيز لنفسه أن يمثله بخاتم في أسفل الورقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أجلُّ من أن يمثل بهذا.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الرابع
كيف وصل القادياني إلى دعوى النبوة
لقد تدرج غلام أحمد لدعواه النبوة وسلك مسالك عديدة، وقطع مراحل متفاوتة بينها اختلاف واضطراب، كل مرحلة بنت وقتها.
1-اتجاهه إلى التأليف :
لقد كان الميرزا في بدء حياته خامل الذكر، لا يُعبأ به ولا يُذكر بخير أو شر.(45/199)
ثم اتجه إلى التأليف والمناظرات التي كانت ملتهبة في القارة الهندية بين شتى الأفكار والفرق، وقد بدأ مناظراً جلداً عن الإسلام والمسلمين، مع ما كان يظهر منه بين الفينة والأخرى من غلو في نفسه وتمجيدها، وكان علماء المسلمين تجاهه بين الاستبشار والقلق من أن يجمح به فرسه إلى ما لا تحمد عقباه.
ومن هنا بدأت الأنظار تلتفت نحوه وذاع صيته وأعجبته نفسه ومواهبه، فبدأ يحتطب في حبله وطلب من الناس أن يبايعوه، ولم يبخل على نفسه بلقب مجدد العصر ((المأمور من الله شبيه المسيح في دعوته إلى الله وأحواله الشخصية)).
وقد اقتضت سياسة بريطانيا أن يزيدوا من النار اشتعالاً؛ فشجعوا قيام المناظرات وافتعال الخصام والعنف بين الطوائف، ليشعر الجميع بالحاجة إلى دولة قوية تحميهم وتكون الملجأ لجميعهم وهي سياسة بارعة منهم.
وحين شمر القادياني في بدء أمره للدعوة إلى الإسلام ودحض حجج خصومه من الهندوس والنصارى، وحينما توجه إليه المسلمون أعلن أنه بدأ في تأليف كتاب كبير في إثبات فضل الإسلام وإعجاز القرآن وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والرد على الديانات السائدة في الهند كالمسيحية والآرية (79) والبرهمية والبرهموسماجية (80) ، وسمى هذا الكتاب ((براهين أحمدية)) وتكفل المؤلف القادياني في أن يجمع في هذا الكتاب ثلاثمائة دليل على صدق الإسلام في خمسين مجلداً، يدفع فيه كل الاعتراضات والإيرادات التي يعترض بها الكفار عامة على الإسلام، وطلب من المفكرين أن يراسلوه بأفكارهم ليستعين بها، وطلب كذلك التبرع السخي بالمال لطبع الكتاب؛ فانخدع بذلك كثير من العلماء وعامة المسلمين، وفرحوا بهذا الإنجاز المرتقب، وبدأ القادياني يكتب، فكيف تم ذلك؟(45/200)
الواقع أن الكتاب كان بمثابة صدمة عنيفة للمسلمين وخيبة أمل مريرة، فقد أصدر الجزء الأول منه وسماه براهين أحمدية سنة 1880م، وملأه بمدح نفسه وكراماته وكشوفاته وإعلانات أخرى زكّى بها نفسه، ثم أصدر الجزء الثاني وكان لا يختلف عن الأول من حيث المضمون، ثم أصدر الجزء الثالث سنة 1882م، ثم أصدر الجزء الرابع سنة 1884م.
وقد ضمن الجزء الثالث والرابع حث العلماء والجمعيات الإسلامية على إقناع الحكومة الإنجليزية بأن المسلمين أمة هادئة سلمية مخلصة للإنجليز، وأن جهاد الإنجليز حرام، وأن حكومتهم نعمة جسيمة من الله ورحمة، وأنها هي الدولة الوحيدة التي تحقق أهداف المسلمين، وأعاد ذلك وكرره مرة بعد مرة ففطن العلماء له وعرفوا أنه لا يريد إلا الشهرة وكسب المال لا الدفاع عن الإسلام.
وحينما وقف على كتابة خمسة أجزاء بدل الخمسين طالبه المشتركون في قيمة الخمسين جزءاً فذكر أنه كان عازماً على إصدار خمسين جزءاً من هذا الكتاب، ولكنه سيقتصر على خمسة أجزاء، ولما كان الفرق بين الخمسين والخمسة هو صفر واحد فقد أنجز وعده بإتمام خمسة أجزاء، وأنه لا حق لهم في المطالبة بعد ذلك حسب مزاعمه لهم.
ولقد مج الناس سماع هذا الكتاب؛ لأنه أتخمه بالإلهامات والمنامات والخوارق والكشوف والتكليمات الإلهية والنبوات والتحديات، ومدح الإنجليز مما يطول نقله وتثقل قراءته، ثم أعلن بعد ذلك أنه هو نفسه المسيح الموعود؛ لأنه تواتر-حسب قوله- عليه الإلهام ((إنك أنت المسيح الموعود)) (81) .(45/201)
ثم جاءت سنة 1900م وبدأ الخواص من أتباعه يلقبونه بالنبي صراحة، وكان موقف الغلام إزاء هذه النقلة الخطيرة متسماً بالحذر والمراوغة، فكان يعجبه هذا اللقب ويبدي بين خاصته التأييد له، ويظهر لمن يخالفه كلمات يمتص بها غضبه بما كان يبديه من تأويل نبوته بما يشعر بالتواضع، مثل ((النبي الناقص)) أو ((النبي الجزئي)) أو ((النبي المحدث))، علها تخفف حرارة امتعاض المخالف له ولم تدم هذه الفترة طويلا، فبعد سنة 1901م أسفر عن وجهه الحقيقي بأنه نبي كامل، وأن كل ما قاله أو كتبه من أنه نبي غير كامل صار منسوخاً بثبوت نبوته.
ثم أدركه بعد ذلك عرق السوء في سنة 1904م، فاحتقر النبوة ورآها غير كافية في شخصه فادعى أنه ((كرشن))، وهو معبود من معبودي الهنادك، ولعله طمع في ميل الهنادك(82) إليه ، وهو في هذه الدعوى الخطيرة لم يأت بجديد؛ فهو خلف لأسلافه من الطغاة الذين ادعوا الألوهية على مر العصور.
2-إلهاماته :
دعوى أي شخص أن الله ألهمه كذا وكذا، من الأمور اليسيرة التي هي بإمكان كل إنسان أن يدعيها، إلا أن الخطر يكمن في ظهور النتائج-على حد قول أحد الشعراء
من تحلى بما ليس فيه فضحته نتائج الامتحان
على أن ما يحصل للنفس من إلهام ليس له مورد واحد، بل عدة موارد، فقد يرد عليها الإلهام من الله تعالى، وهنا لابد من أهلية صاحبها وتقواه وصدق إخلاصه لربه وصفاء توحيده.
وقد يرد عليها الإلهام من وساوس الشياطين إذا كان صاحبها لائقاً بذلك بعيداً عن الله.
وإلهامات الغلام كلها من هذا النوع، وقد ظهر الكذب فيها والتكلف الممقوت رغم أنه يصوغها على غرار الآيات القرآنية، يريد أن يوحى به إلى الناس على أنه إلهام من الله له ووحي مباشر إليه، يتبين ذلك من خلال صيغته وإنشائه.(45/202)
لقد كثرت إلهامات الغلام التي جعلها بمثابة وحي من الله تعالى، وهي أفكار زخرفها، وتقوَّلَ فيها على الله تعالى وتنطع، وخرج عن الإيمان بالإسلام وبختم النبوة المحمدية.
ثم تحول القادياني من شخص مسلم غيور على الدين في أول أمره إلى عدو لدود للمسلمين والإسلام، حينما رأى إقبال الناس عليه ودفع الحكومة الإنجليزية له إلى الأمام في غيه، كما هو عادة الإنجليز وخداعهم للناس.
ولهذا فقد وصل به التعلق بالإنجليز إلى حد أن الذي يأتيه بالوحي هو رجل في صورة شاب إنجليزي.
بل والوحي نفسه اختلط عليه الأمر فيه فمرة يوحى إليه بالعربية، ومرة بالفارسية وأخرى بالأردية، بل وأحياناً بالإنجليزية إتماماً للنعمة.
ويمكن أن أجعل عذر الندوي في عدم الإتيان بتلك الإلهامات التي نزلت على الغلام كلها- أجعله عذراً لي، وذلك في قوله عن الغلام:
((ثم ذكر الشيء الكثير من إلهاماته مما يطول نقله وتثقل قراءته على القارئ الأديب، إلا أننا نقتصر على مثالين من هذه الإلهامات الطريفة)) (83) .(45/203)
ثم ذكر مثالين منها يكفيان القارئ الحُكم على الغلام، ومدى ما وصل إليه من استهتار بكتاب الله وسنة نبيه، بل وبعقول الناس، بل وبعقله أيضاً هو؛ حيث جاء بكلام لا يفهمه حتى هو فضلاً عن غيره، فمما أورد الغلام في كتابه ((براهين أحمدية)) قوله: ((لقد أُلهِمْتُ آنفا وأنا أعلق هذه الحاشية، وذلك في شهر مارس عام 1882م ما نصه حرفياً: ((يا أحمد، بارك الله فيك، ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. الرحمن علم القرآن، لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم، ولتستبين سبيل المجرمين، قل إني أمرت وأنا أول المؤمنين، قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، كل بركة من محمد صلى الله عليه وسلم فتبارك من علم وتعلم...)) إلى أن يقول: ((يقولون أنى لك هذا، أنَّى لك هذا، إن هذا إلى قول البشر، وأعانه عليه قوم آخرون (84) ...)) إلى أن يقول: ((إني رافعك إلي وألقيت عليك محبة مني، لا إليه إلا الله، فاكتب وليطبع (كذا) وليرسل في الأرض، خذوا التوحيد التوحيد يا أبناء الفارس (كذا) ...أصحاب الصفة، وما أدراك ما أصحاب الصفة...) إلى أن يقول:
((قيل ارجعوا إلى الله فلا ترجعون. وقيل استحوذوا فلا تستحوذون، ولا يخفى على الله خافية، ولا يصلح شيء قبل إصلاحه ومن رد من مطبعه، (كذا) فلا مرد له)) (85) .
وأكتفي بذكر هذه النصوص عن الوحي الذي يزعمه، ولكن من الأنفع للقارئ أن يقف على جملة الإلهام أو الوحي الذي نزل على الغلام في آخر كتابه ضميمة الوحي؛ ليقف عليه القارئ وليرى مقدار ما وصل إليه هذا الشخص في إقدامه على التلاعب بكتاب الله عز وجل، وليرى الوقاحة التامة التي اتصف بها هذا الرجل وعدم خوفه عاقبة أكاذيبه.
وليرى كذلك جملة من الكلام الركيك والهذيان الفاحش والفكر الناقص المضطرب الذي تحدى به البشر.(45/204)
وكتاب الغلام أو رسالته التي جعلها بعد ذلك ملحقة بكتابه ((براهين أحمدية)) وضميمة له، صاغها على طريقة القرآن الكريم في قصر الآيات وطريقة الوقوف على رأس كل آية. ثم خلط بين آيات متباعدة دون رابط مع تبديل كلمات القرآن بكلمات من عنده أحياناً، وتحريف لألفاظ القرآن أحياناً أخرى، مع الجسارة التامة على التلاعب بترتيب الآيات ونطقها وتبديل ما شاء وترك ما يشاء.
وليقف كذلك على جهل الغلام بخالق السموات والأرض وبدائيته في ذلك؛ حيث لفق 97 صفحة ليضاهي بها القرآن الكريم (86) .
وقد تحدى الغلامُ البشر أن يأتوا بصفحات من مثل كلامه الذي هو كالقرآن فقال يرد على الذين يقولون إن كلامه مسروق وليس بإلهام من الله:
((ووالله إنه ظل القرآن ليكون آية لقوم يتدبرون. أتقولون سارق فأتوا بصفحات مسروقة كمثلها في التزام الحق والحكمة إن كنتم تصدقون)) (87) .
هذا وهو القائل:
((ألا لعنة الله على من افترى على الله أو كذّب الصادقين، وكل من كذّب الصادق أو افترى جمعهم الله في نار أعدت لهم وليسوا منها بخارجين، قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين)) (88) .
وبعد أن تحدى الغلام البشر أن يأتوا بصفحات من مثل الوحي الذي جاءه، عاد وتحدى البشر أن يأتوا بآية من تلك الآيات التي تلقاها عن الله تعالى قائلاً ومقسماً: ((ووالله لو اجتمع أولهم وآخرهم وخواصهم وعوامهم ورجالهم ونسائهم ما استطاعوا أن يأتوا بآية كما نعطى من ربنا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)) (89) ، ومن أقوى ما أوحي إليه هذا الكلام: ((فروا من مائدة الله ورغفانها وانتشروا، وبقيت الخِوَانُ على مكانها، وآثروا عصيدة الدنيا وتحلبت لها أفواههم وتلمظت لها شفاههم...)) (90) إلخ. فمن يستطيع أن يأتي بمثل هذا غيره؟!.(45/205)
وقد ذكر أن من الأدلة على نبوته أنه كان قد نقش في خاتمه: ((أليس الله بكاف عبده يا أهل الآراء)) (91) قبل أن يخبره الله بأنه نبي فاعجب لهذا الدليل أيها العاقل! وذكر أن الخاتم مضى عليه أكثر من ثلاثين سنة ولا يزال محفوظاً لديه، فضلاً من الله ورحمة، ومع هذا الفضل من الله عليه فقد سجل على نفسه أنه كان يكتم بعض الوحي؛ خوفاً من الحكومة، فقد نبأه الله أن رجلاً من أعدائه اسمه سعد الله سيموت، فأراد أن ينشر هذا الإلهام فثناه عنه وكيله فقال:
((فأردت أن أفصله في كلامي وأشيع ما صنع الله بذلك الفتان..فمنعني من ذلك وكيل كان من جماعتي، وخوفني من إرادة إشاعتي وقال: لو أشعتها لا تأمن مقت الحكام ويجرك القانون إلى الآثام...وليست الحكومة تارك المجرمين)) (92) .
فكيف بكتم الوحي لئلا يكون مجرماً أمام الحكومة، وصدق الله: ? وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ? سورة النساء : 82 .
ومن إلهاماته الأخرى هذه العبارات:
إني ألهِمْتُ إن شاء الله (93) .
إني ألهِمْتٌ رجل معقول (94) .
إني ألهِمْتُ الأسف كل الأسف (95) .
إني إلهِمتُ جوهدري رستم (96) علي.
فراش العيش (97) .
أنت مني بمنزلة أولادي (98) .
بهذه الوثنية زعم أن الله خاطبه، تعالى الله عن افترائه.
وهناك إلهامات كثيرة مملة، كما ذكر الندوي بعضها، وذكر المودودي بعضاً، وذكر إحسان إلهي بعضاً منها (99) أيضاً، ويكفي مجرد قراءتها دليلاً واضحاً على شخصية القادياني وشعوذته.
3-دعواه أنه المسيح الموعود :
بعد أن أعاد القادياني وأبدى في دعوى الإلهام انتقل إلى الدعوى الثانية وهي أنه المسيح الموعود، قال في ضميمة الوحي: ((وأتى المسيح الموعود مهجراً بأمر الله العلام؛ ليظهر الله ضياءه التام على الأنام بعد الظلام)) (100) .(45/206)
إلا أن العلماء يذكرون أن الفضل في هذا التوجه يعود إلى صديقه الحكيم نور الدين، ويتضح ذلك في رسالة بعثها القادياني رداً على رسالة لصديقه الحكيم، الذي كتب إليه اقتراحه المشهور للغلام في أن يدعي أنه المسيح، فكتب له الغلام مبدياً تواضعه في أول الأمر وعدم طموحه إلى ذلك، جاء فيها قوله:
((لقد تساءل الأستاذ الكريم ما المانع من أن يدعي هذا العاجز (101) أنه مثيل للمسيح؟، وينحي في جانب مصداق الحديث الذي جاء فيه أن المسيح ينزل في دمشق، وأي ضرر في ذلك، فليعلم الأستاذ الكريم أن العاجز ليست له حاجة إلى أن يكون مثيلاً للمسيح، إن همه الوحيد أن يدخله الله في عباده المتواضعين المطيعين)) (102) .
وما ألطفه من تواضع لو بقي عليه إن كان صادقاً في هذا الكلام، إلا أنه قد يتبادر إلى الذهن أن ما أظهره هنا من التحرج والتواضع يحتمل أنه:
كان يخاف مغبة هذه الدعوى.
أو أنه قالها قبل أن تختمر الفكرة في ذهنه.
أو أنه كان ماكراً يريد أن يستثبت من رغبات الناس ويسبر غورهم وبالأخص صديقه المذكور.
ومهما كان فقد وجهه الحكيم إلى دعوى أنه مثيل للمسيح، وبين له الخطة في ذلك بتأويل الأحاديث على وفق دعوى الغلام، وربما لم يكن الحكيم نور الدين وحده مصدر هذه الفكرة، بل الإنجليز أيضاً بطبيعة الحال كان لهم دور بارز في إضرامها ليوجهوها بعد ذلك الوجهة المطلوبة لهم، والتي أول أهدافهم منها محو فكرة الجهاد من أذهان المسلمين، وعلى أي حال كان، فقد قَبِلَ الميرزا مشورة صديقه في أن يصبح نبياً، وتأكد لديه أن الفرصة قد واتته، ومن هنا بدأ الميرزا غلام أحمد في تنفيذ تلك الفكرة وأخذ يدعو إلى ذلك بكل ما يستطيعه من إمكانيات.(45/207)
قال الندوي: ((وهنا تتميز الفكرة القاديانية عن الديانات السماوية والدعوات النبوية تميزاً واضحاً، فإن الأنبياء والرسل-صلوات الله وسلامه عليهم- ينزل عليهم الوحي من السماء ويمتلئون إيماناً وثقة برسالتهم، ولا تنبثق عقيدتهم أو دعوتهم من اقتراح أو توجيه)) (103) . كما حصل للغلام المذكور، وقد أخذ القادياني بعد ذلك يدلل على أنه هو المثيل للمسيح الموعود الذي بشرت به الأحاديث، وأنه ينبغي على كل مسلم أن يشكر الله على نزول المثيل الموعود وهو القادياني في عصره الجديد، أما المسيح ابن مريم حسب زعمه فإنه لا يعود إلى الأرض، ولكن الذي سيعود هو المثيل للمسيح والشبيه له لا المسيح نفسه؛ ولذلك فإن شبه المسيح تماماً هو القادياني وعلى الناس أن يصدقوا هذا التفسير منه ويتركوا ما جاء من النصوص في ثبوت عودة المسيح ابن مريم الذي أرسل في عصره إلى بني إسرائيل؛ لأن عودته إنما هي مثال للمسيح الهندي الغلام أحمد.
ولقد ألف عدة كتب في إثبات هذا المفهوم الجديد، وله نصوص كثيرة فيه، يمكن أن نقتصر منها على هذا المثال من كلامه الذي جاء في كتابه ((توضيح مرام)) (104) ترجمة الأستاذ الندوي (105) ؛ حيث قال:
((إن المسلمين والنصارى يعتقدون باختلاف يسير أن المسيح ابن مريم قد رُفع إلى السماء بجسده العنصري، وأنه سينزل من السماء في عصر من العصور، وقد أثبت في كتابي- يعني فتح إسلام-أنها عقيدة خاطئة، وقد شرحت أنه ليس المراد من النزول هو نزول المسيح؛ بل هو إعلام على طريق الاستعارة بقدوم مثيل المسيح، وأن هذا العاجز هو مصداق هذا الخبر حسب الإعلام والإلهام، ومن هنا فإنه لا مناص من تقمص شخصية المسيح والعراك المرير لانتزاعها وتسليم المخالفين له بها)).
وقد أكثر من الكلام حول وفاة المسيح وتحقيق أنه كان له أب وأن المقصود بكونه لا أب له أي أنه جاءه العلم من غير تعلم (106) .
دور صديقه الحكيم نور الدين في دفعه إلى الأمام:(45/208)
لقد كان لنور الدين اليد العليا على الغلام؛ حيث كان يمهد له الصعاب ويشاركه في إبراز القضايا الخطيرة وطريقة حلها وتوجيهها، ومن ذلك تفسير دمشق الواردة في صحيح مسلم أن المسيح ينزل في دمشق. فكيف ذلك ونزول القادياني كان في قاديان وبين البلدتين من البعد وعدم العلاقة بينهما ما لا يخفى على أحد.
وهذه القضية أثارها نور الدين، وهي قضية خطيرة إن لم يوجد لها حل وتوجيه مقبول عند الناس، وبعد تفكير اهتدى الغلام إلى الحل الذي أطلعه الله عليه-حسب قوله- وهو أن دمشق التي ينزل فيها المسيح ليست هي دمشق المعروفة بالشام، ولكن المراد بدمشق أنها قرية يسكنها رجال طبيعتهم يزيدية-أي قاديان- فاتفقت في الوصف مع دمشق الشام من حيث إن طبيعة أهل هاتين المدينتين يزيدية. فقال:
((وإنه لما كانت قرية قاديان شبيهة بدمشق أنزلني فيها لأمر عظيم- أي قاديان- بطرف شرقي عند المنارة البيضاء من المسجد الذي من دخله كان آمناً)) (107) يعني المسجد الذي بناه بقاديان ليحج إليه اتباعه المرتدون عن الإسلام مضاهاة للمسجد الحرام، وجعل عنده منارة بيضاء ليضلل الناس في صدق الحديث عليه لنزوله أو ظهوره عند هذه المنارة التي بناها.
تأويل الرداءين الأصفرين:(45/209)
كما أول نصوصاً كثيرة تأويلات باطنية ضالة؛ مثل تأويل ما جاء في أحاديث نزول المسيح أنه ينزل وعليه رداءان أصفران أولهما القادياني على نفسه بأنهما المرضان اللذان كانا يلازمانه وهو الصداع الشديد والدوار الذي في مقدم رأسه، وكثرة البول الناتج عن السكر الذي أصابه(108) ، وأن الله ابتلاه بهذا لئلا يقع الخلل في نبوءة الرداءين الأصفرين زيادة في تثبيت الناس فيه، وسخر من الأحاديث التي تدل على نزول المسيح ابن مريم من السماء، وزعم أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ألقى الله عليه علماً إجمالياً عن المسيح ليكمل تفصيله-على النحو المذكور- القادياني حين بعثته الجديدة من الهند، وقرر أن قبر المسيح ابن مريم موجود في كشمير وتعسف في ذلك، وجاء بالعجائب والغرائب من التأويلات التي لا تستند إلا على الهوى وعدم المبالاة، وهكذا أثبت لنفسه أنه هو المثيل للمسيح ابن مريم لوجود التشابه التام بينهما في المسكنة والتواضع والثقة في الله والتوكل عليه، وتجديد كل منهما للدين كما كان يذكر الغلام .
إلا أنه يرد سؤال مهم؛ وهو أنه من الضروري أن يكون مثيل المسيح أيضاً نبيٌّ؛ لأن المسيح كان نبياً؟ وهذا سؤال يبدو أنه قد يُشّكِّلُ عقبة أمام القادياني، وهو نفسه صاحب هذا السؤال، ولكن أجاب عنه بقوله بعد إيراد السؤال :
((فالجواب الأول عن هذا، أن سيدنا ومولانا ما اشترط للمسيح القادم بالنبوة، وكتب بكل وضوح أنه سيكون رجلاً مسلماً متبعاً للشريعة الفرقانية شأن عامة المسلمين ولا يُظْهر شيئاً أكثر من هذا)) (109) .
وعلى هذا فهو ليس المسيح وليس نبياً، قال: ((وإني ما ادعيت قط أني المسيح ابن مريم، والذي يتهمني بهذا فإنه المفتري الكذاب، بل الذي قد نشر من جانبي منذ سبعة أو ثمانية أعوام هو أني مثيل المسيح)) (110) .(45/210)
لكنه لم يقف عند هذا الحد فيما بعد، وهذا الكلام إنما جاء في مرحلة من مراحل التخطيط للنبوة، ومن هنا فإنه قد ارتفع بعد أن أثبت مِثْلِيَّتَهُ للمسيح إلى أنه هو نفسه المسيح وأمه، فقال: ((وهذا هو عيسى المرتقب، وليس المراد بمريم وعيسى في العبارات الإلهامية إلا أنا)). وقال: ((وهو قد سماني بمريم في الجزء الثالث من البراهين الأحمدية، ثم نشأتُ في الصفة المريمية إلى سنتين كما هو الظاهر من البراهين الأحمدية ومازالت أنمو وأتربى وراء الحجاب ثم ...نفخ فيّ روح عيسى كمريم وحملتُ بعيسى على وجه الاستعارة، ثم بعد عدة أشهر جعلت عيسى-بعد أنت كنت مريم- بإلهام جاءني في آخر الجزء الرابع من البراهين الأحمدية، فهكذا أصبحت ابن مريم)) (111) .
وقد حاول الميرزا بشير محمود تأسيس هذه الفكرة؛ حيث زعم أن كلمة ((مريم)) تعني حالة ووضعاً خاصاً من أوضاع المؤمنين في مرحلة من مراحل حياتهم، ثم ينتقلون إلى ((العيسوية)) الهداية التامة (112) .
وبهذا البهتان العظيم والخيال السقيم والعقوق أيضاً لأمه، لأنه صار ابناً لمريم وليس لأمه((جراغ بي بي)) أراد أن يثبت نبوته، والذي يظهر لي أن هذه التلفيقات في أفكاره ترجع إلى أنه كان متأثراً بالقول بالتناسخ إلا أنه لم يجرؤ على التصريح به في تلك الفترة، فحاول تغطيته بمثل تلك العبارات المملوءة بالغموض عن عمد.(45/211)
وقد أطال كثير ممن كتب عن القادياني الرد على هذه الأفكار، والواقع أنه لا ينبغي مجرد الاهتمام بها ولا الردود عليها؛ فهي أحط من أن تثبت أمام المناقشة والجدال، ومن الجدير بالتنبيه إليه أن بشير محمود أحمد في كتابه: ((دعوة الأمير)) قد ذكر كلاماً كثيراً حول إثبات وفاة المسيح عيسى ابن مريم، وزعم أن الذين يقولون بحياته إلى يومنا الحاضر لا يعرفون الله حق معرفته؛ حيث جعلوا المسيح مثيلاً له في عدم الفناء، وزعم أن اعتقاد حياة المسيح إلى اليوم فيه تأييد للنصارى في زعمهم ألوهية عيسى، أو أنه ابن الله! وهي مغالطة واضحة؛ فإن المسلمين حين يقولون: إن المسيح حي الآن في السماء، لا يقولون: إن حياته مثل حياة الله، بل يثبتون أنه سيرجع إلى الدنيا ثم يموت بعد ذلك كغيره من البشر.
وقد اعتبر الميرزا بشير محمود القول بأنه عيسى رفع إلى السماء ومحمداً مدفون في الأرض من أشد الإهانات التي توجه للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند الله، ويقول: كيف أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حبيب الله تركه للهموم والمصائب ولم يرفعه إلى السماء، وعيسى بمجرد أن تعرض لأدنى خطر رفعه الله إليه وجاء بشخص مثيل له ليصلب!؟ إلخ ما أورده من مغالطات شريرة، فإنه من المعلوم لدى أفهام العقلاء أن كون عيسى رفع ومحمد صلى الله عليه وسلم مدفوناً في الأرض، هذا ليس إهانة للرسول صلى الله عليه وسلم لا من قريب ولا من بعيد، فالأرض والسماء كلها لله، وقد اختار الله أن يكون الأمر على ما ذكر ولا يسأل الله عز وجل عما يفعل، ولا يعترض إلا جاهل، ونحن مع النصوص؛ ما أثبتته نثبته، وما نفته ننفيه، وقد نفت النصوص أن عيسى صلب بل إنه رفع، فيجب اعتقاد ذلك، والقول بأن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم مدفون في الأرض إهانة(113) له ، هذه الإهانة لا وجود لها إلا في أذهان المغالطين.(45/212)
كما أنه أورد شبهاً تدل على وفاة المسيح بزعمه، هي في واقعها تحريفات وتخريفات خاطئة، زخرف فيها القول، وزعم أنها حق تمويهاً على من لم يعرف مغالطاتهم.
ومن الأمور التي قررها بشير محمود هو أن والده الميرزا هو المثل للمسيح المتوفى، وأن القول بنزول المسيح عيسى ابن مريم مرة ثانية إلى الدنيا يعتبر احتقاراً للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهضماً للقول بقدرة الله في إرسال الأنبياء والمصلحين؛ إذ كيف يضطر الله إلى إرسال ميت-حسب زعمه- من بني إسرائيل وأمة محمد صلى الله عليه وسلم موجودون، وهذا المفهوم مأخوذ عن ضميمة الوحي، حيث قال الغلام القادياني: ((ويدفنون خير الرسل في التراب ويُصْعِدون عيسى إلى السموات العلى فتلك إذا قسمة ضيزى يبصرون ثم لا يبصرون يرون الحق ثم يتعامون)) (114) .
4-ادعاؤه النبوة :
وحينما وصل إلى الدرجة النهائية لتدرجه إلى مقام النبوة صرح بآخر تفاصيل الخطة، وأزاح الضباب الذي جعله سابقاً غطاء للوصول إلى هذه الدرجة التي أعلن فيها نبوته، وصال وجال وتحدى الناس وراهن على صدق نبوته وصدق نفسه أنه نبي، ومن هنا انطلق آخذاً في اعتباره أن يغطي الإسلام برداء نبوته الجديدة، وأن يتحول المسلمون على مر الزمن من الإسلام الذي ارتضاه الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه إلى يوم القيامة-أن يتحولوا إلى القاديانية فتصبح قاديان بدلاً من مكة والمدينة وبيت المقدس أيضاً، وتنتقل مهوى الأفئدة إلى قاديان، ويصبح زيارة مسجد القادياني والسلام على القادياني بدلاً عن زيارة المسجد النبوي والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصبح تعاليم القادياني بديلة لتعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية إلى آخر ما كان يهدف إليه، وفي ظني أن المنية عاجلته قبل أن يكمل المخطط تماماً، ولربما لو امتدت به الحياة بعد تلك الفترة التي قضاها لكان له شأن آخر.(45/213)
وعلى كل حال، فقد ادعى الغلام النبوة وبيَّن المهام التي أسندها الله إليه حسب زعمه، فقال: ((أنا على بصيرة من رب وهَّاب، بعثني الله على رأس المائة؛ لأجدد الدين وأنوِّر وجه الملة وأكسر الصليب وأطفئ نار النصرانية، وأقيم سنة خير البرية، ولأصلح ما فَسَدَ وأروِّج ما كسد، وأنا المسيح الموعود والمهدي المعهود، منَّ الله عليّ بالوحي والإلهام، وكلمني كما كلم رسله الكرام)) (115) ، إلا أنه تميز عن الرسل بخاصية لا توجد فيهم وهي:
أن الرسل كانوا يفرحون بأخذ النبوة ويتقبلونها بلهفة، بينما هو تقبلها رغم كراهيته لها وإيثاره الخمول على الشهرة، وهذا في قوله:
((كنت أحب أن أعيش مكتوماً كأهل القبور، فأخرجني ربي على كراهيتي من الخروج، وأضاء اسمي في العالم مع هربي من الشهرة والعروج، ولبثت عمراً كالسر المستور أو القنفذ المذعور...ثم أعطاني ربي ما يحفظ العدا)) (116) .
وقوله:
((فأخرجني الله من حجرتي، وعرفني في الناس وأنا كاره من شهرتي، وجعلني خليفة آخر الزمان وإمام هذا الأوان)) (117) .
لقد كان القادياني لبقاً في إبداء فكرته، يمشي خطوة خطوة وينتقل من مرحلة إلى مرحلة، فبدأ يتكلم عن الإلهام والعلم الباطني والعلم اليقيني كمنزلة طبيعية يصل إليها الإنسان بلزوم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والاضمحلال فيه على طريقة الصوفية، ويتكلم عن صفات النبوة والنبي الذي يجمع هذه الخصائص وإمكان ذلك.(45/214)
ولعله كان يدرس الأحوال ويتأكد من جود المحيط المناسب لهذه الدعوى الكبيرة التي ستحدث الضجة العظيمة التي كان يترقبها في المجتمع الإسلامي حين إعلانها. وقد حدث الحادث المرتقب عام 1900م حينما ألقى إمام مسجده-ويسمى عبد الكريم- خطبة الجمعة معلناً فيها أن الغلام صار نبياً رسولاً؛ لا يؤمن بالله من لا يؤمن به. وحصلت المفاجأة واندهش المصلون لهذا الحدث الغريب، وحصل الجدال والنقاش بين هذا الخطيب وبين المسلمين الذين ما كانوا يعرفون عنه إلا أنه عالم ومجدد وداعية إلى الإسلام ومناظراً لخصومه.
فعاد عبد الكريم وألقى خطبة أخرى في هذا المعنى في الجمعة الثانية، والتفت إلى الغلام أحمد وقال له: ((أنا أعتقد أنك نبي ورسول فإن كنت مخطئاً نبهني على ذلك، ولما قضيت الصلاة وهمّ الميرزا بالانصراف أمسك الخطيب عبد الكريم بذيله وطلب منه توضيح هذا الأمر، فأقبل إليه الميرزا قال: ((هذا الذي أدين به وأدعيه))، فارتفعت الأصوات بالنقاش فخرج الميرزا من بيته وقال: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ? (118).
ومن هنا شمر عن ساعد الجد في دعوى النبوة بل وتحدى على ذلك، وأنه نبي مرسل من الله صاحب شريعة، وكفّر جميع من لا يؤمن به وأثبت لنفسه أنه رسول من الله (119) ، وأنه نبي سماه الله بذلك حسب قوله: ((سماني الله نبياً تحت فيض النبوة المحمدية، وأوحى إليّ ما أوحى)) (120) .
قال أيضاً:
((وإني والله من الرحمن يكلمني ربي ويوحي إليّ بالفضل والإحسان)) .
((وخاطبني ربي إنك بأعيننا فأوفى وعده)) (121) .(45/215)
وبعد أن صرح بالنبوة أخذ يتدرج أيضاً في تلطفه مع المخالفين إلى أن جاء الحكم الأخير عليهم بالكفر والنار فبدأ بالقضية هكذا: كل من لا يؤمن بنبوة الغلام ويكفر به يستوجب العقاب إلى حد ما (122) ، ولا يكون الإنسان كافراً أو دجالاً لأجل إنكاره لدعواه، إلا أنه يكون ضالاً منحرفاً عن جادة الصواب، ويكون فاسقاً وجاهلاً جهلاً محضاً ... إلى آخر ما وصف به مخالفيه في هذه الفترة.
ثم جاءت الفترة النهائية وفيها الشدة والغلظة على المخالفين، وإخراجهم من الملة إن لم يدخلوا في دينه بخلاف من مات قبل مجيئه، ومن هنا قال: ((إن الذين خلوا من قبلي لا إثم عليهم وهم مبرءون، والذين بلغتهم دعوتي ورأوا آياتي وعرفوني وعرفتهم بنفسي وتمت عليهم حجتي ثم كفروا بآيات الله وآذوني أولئك قوم حق عليهم عقاب الله، خصوصاً بعد أن صار مهدياً متجسداً بمحمد صلى الله عليه وسلم كما زعم (123) .
ولأن الله أنزل عليه بالإلهام ((كل رجل لا يتبعك ولا يدخل في بيعتك ويبقى مخالفاً لك هو عاص لله والرسول وهو من أصحاب النار)) (124) .
وهناك نصوص كثيرة في دعوى تجسد محمد صلى الله عليه وسلم بالغلام في قاديان وظهوره مرة أخرى داعياً إلى الإسلام ونشره من جديد، منها:
((أن الله قد أنزل محمداً صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في قاديان لينجز وعده)) (125) ، ومنها : ((فالمسيح الموعود هو محمد رسول الله، وقد جاء إلى الدنيا مرة أخرى لنشر الإسلام)) (126) .
ومنها: ((فإن المسيح الموعود ليس بشخص غير النبي الكريم، بل إنه هو نفسه)) (127) .
وعلى أساس هذا المفهوم، فكل من أنكر أو كذب بنبوة الغلام فهو نفسه تكذيب وإنكار لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكل جزاء يلحق بمن كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم هو نفسه الجزاء الذي يحل بمن يكذب بالقادياني .(45/216)
وانتقلت نفس الصفات التي اختارها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فصارت للقادياني : فهو مفضل، ومسجده مفضل وقبره مفضل، وقاديان نفسها مفضلة أيضاً، ويجب على المسلم ألا يرى فارقاً بين قبر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقبر الغلام؛ لأن القبرين في منزلة واحدة، ولأن الغلام اسمه أيضاً محمد.
ولهذا فكل آية فيها ذكر محمد فإنها تنطبق أيضاً على الغلام المسيح الموعود لاتحادهما في الاسم وشمول الرسالة والتجسد، ومن هنا فلا غرابة في عدم تغيير القادياني لفظة الشهادة في الإسلام، بل أبقاها على صيغتها الشرعية: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله))؛ لأن القاديانية يزعمون- كما زعم لهم الغلام لنفسه-أن من أسمائه ((محمداً))؛ فلهذا يكفي ذلك اللفظ عن الإتيان بصيغة جديدة. وفي هذا يقول بشير أحمد ابن الغلام القادياني: ((نحن لا نحتاج لديننا إلى كلمة جديدة للشهادة بنوبة غلام أحمد؛ لأنه ليس بين النبي وبين غلام أحمد أي فارق))(128) .
هذا تعليلهم، ولعل الصحيح أنهم لم يغيروا الشهادة خبثاً وتقية؛ ليكملوا تحت شعار الإسلام ما يهدم الإسلام، ويحقق أهدافهم، وتنتشر تعاليمهم بين العامة من المسلمين على طرف من الحذر وعمق في التمويه، والسير إلى النهاية ببطء ودقة.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الخامس
نبوءات الغلام المتنبئ
وبعد أن أثبت لنفسه النبوة كان حتماً عليه أن يخبر بالمغيبات على طريقة الرسل الذين يطلعهم الله على غيبه لمصلحة يعلمها عز وجل.
فكان الغلام إذاً على نفس المسلك، ولكن كان بينه وبين المسلك النبوي كما بين السماء والأرض.
ما أبعد الفرق بين القوم في شرف وبيننا يا حثالات الحثالات(129)(45/217)
لقد ظن الغلام أنه بمجرد الإخبار بالمغيبات تثبت نبوته، وتناسى مصداق ما يخبر به النبي ووقوعه على وفق ما أخبر، ولقد خانه الحظ السعيد في أغلب أخباره فكانت تأتي النتائج سلبية وبعكس ما يخبر به تماماً مرة بعد مرة، ولقد عانى هموماً شديدة من ذلك، إلا أنه كان يحاول إخفاء ذلك بشتى الأجوبة والحيل لتغطية الفشل الذريع الذي كان يمنى به، ولكنه كان من الثبات بمكان؛ فلا يفشل في خبر إلا وقد جاء بغيره على طريقة الكهان الذين يصدقون في كل مائة كذبة مرة واحدة، لتكون منطلقاً لنشرها بين الناس.
وتنبؤاته كثيرة ومتنوعة ، بعضها يعود إلى حياته الشخصية وبعضها إلى غيره من الناس ، وبعضها إلى الأحوال الطبيعية والتغيرات المستمرة في الكون، وقد قال في بيانه لكثرتها وفي بيان أنها كلها إلهام : (( وأنها أنباء كثيرة منها ذكرنا ومنها لم نذكر ،وكفى هذا القدر للأتقياء)) (130) .
وفيما يلي نذكر بعض تلك الإلهامات التي جاء بها للتدليل على نبوته ومنها:
قصة غرامية حصلت له- لا يهمنا منها إلا جانب واحد، ومفاد هذه القصة أن الغلام أحب امرأة تسمى محمدي بيكم بنت الميرزا أحمد بك، وهو ابن خاله. خطبها الغلام بعد أن زعم أن الله أوحى إليها أنها ستكون زوجة له، وأن الله وعده بذلك، والله لا يخلف الوعد، وتحدى على ذلك كل من أراد أن يحول بينه وبين الزواج بها، وجاء بإلهامات وأخبار طويلة، وأن الذي يتزوجها غيره لا بد وأن يموت في خلال سنتين.
وخاب أمله ورفض والدها أن يزوجها منه رغم ما بذل في تحقيق ذلك، ورغم هذه الصولات والجولات فقد وقع المحذور وتزوجت هذه المرأة من غيره، وأنجبت له أولاداً وعاش زوجها عيشة هنيئة سنين عديدة، ومات الغلام وهو يتحدى من يشككه في إخبار الله له، وصدق عليه قوله حين قال متحدياً :(45/218)
((إن لم يتحقق هذا النبأ فأكون أخبث الخبثاء أيها الحمقى)) (131) ، يخاطب مخالفيه. بل وأكد أن هذا الخبر هو معيار لصدقه من كذبه (132) ، فقد مات ولم يتزوجها لا هو ولا أحد من أقربائه .
وتنبأ كذلك بأمور كثيرة خاب أمله فيها كلها، فقد جرؤ على ادعاء أمر خطير جداً يظهر فيه كذب الكاذب بعد فترة بسيطة مهما كان، وذلك هو ادعاؤه علم الغيب ومعرفة وفيات الناس الذين يغضب عليهم حيث قال: إن فلاناً الذي عاداني سيموت بعد كذا من المدة؛ يحددها بالتاريخ، فينتظر القاديانيون بفارغ الصبر تحقيق تلك النبوءة فينعكس الحال تماماً. والأمثلة على ذلك كثيرة، ولا يهمنا استقصاؤها؛ ذلك أنها جزء متمم لدعوى النبوة وفرع عنها. وما دام الأصل قد قام على شفا جرف هار؛ فإن الفرع تبع له.
وقد صارت أخبار نبوءاته وفشله فيها من الحكايات التي يتسلى بها الناس، ومن ذلك:
ما تنبأ به من موت رجل نصراني اسمه عبد الله آثم، ناظره فلم يفز الغلام عليه فغضب، وأراد أن يمحو العار عن قصوره أمام هذا النصراني فزعم أن عبد الله آثم سيموت إن لم يتب بعد خمسة عشر شهراً –حسب ما أوحى به الله إليه- وأكد ذلك بقوله: ((ما فتح علي الليلة هو هذا: بأني حينما تضرعت وابتهلت أمام الله عز وجل، ودعوت منه بأنه بفصل في هذا الأمر؛ فأعطاني آية بأن الكذاب يموت في خمسة عشر شهراً بشرط ألا يرجع إلى الحق، والصادق يكرم ويوقر، وإن لم يمت الكذاب في خمسة عشر شهراً، من 5مايو سنة 1893م، ولم يتحقق ما قلت، فأكون مستعداً لكل جزاء يسوِّد وجهي وأذلل ويجعل في جيدي حبل وأشنَق، وأنا أقسم بالله العظيم أنه يقع ما قلت ولا بد له أن يقع))(133) .
رحم الله من قال:إن البلاء موكل بالمنطق، لقد أوقع الغلام نفسه في مأزق حرج لم يخرج منه بعد ذلك لا هو ولا أتباعه، وقد وقع له في هذا الخبر الذي زعم أنه عن الله تعالى- أمور:
أنه وحي من الله.
حدده بالمدة الدقيقة.
وجدت فيه صفة الحلاف المهين.(45/219)
سب نفسه بأقذع السب إن كذب، وقد كذب.
أنه يستحق أن يشنق إن كذب.
فماذا كانت النتيجة؟ لقد كان القاديانيون ونبيهم يلهثون مما يجدون من خوف العار وظهور الكذاب، وصاروا ينظرون إلى المدة بغاية القلق والهم، كأنما ((يساقون إلى الموت وهم ينظرون))، كلما مر يوم اصفرت وجوههم، وملئوا المساجد بالصلوات والابتهالات أن يموت عبد الله آثم، إلى أن انتهت المدة والرجل في كمال صحته، فأسقط في أيديهم وخاب أملهم.
فادعوا أن عبد الله آثم قد رجع عن النصرانية، ولهذا أمهله الله ولم يمته، فلما سمع بذلك كتب يكذبهم ويفتخر أنه مسيحي وعاش بعد ذلك مدة.
نبوءته عن نفسه بأنه لا يموت حتى يتجاوز سنة 1920م، ثم مات سنة 1908م (134).
نبوءته عن رجل اسمه عبد الحكيم من المسلمين، ناظره فغضب الغلام وزعم أنه أوحي إليه أن عبد الحكيم سوف لا يعيش طويلا، بل يموت في حياة القادياني، فكانت النتيجة بالعكس؛ إذ مات الكذاب منهما في حياة الصادق كما هو تعبير القادياني، وعاش عبد الحكيم بعد موت الغلام زمناً (135) .
قصة مناظرته مع الشيخ ثناء الله الأمر تسري ودعاؤه أن يهلك الله الكاذب منهما في حياة الصادق بمرض خطير مثل الكوليرا أو غيرها؛ فاستجاب الله دعاءه وأمات الكاذب – الغلام- وبقي الشيخ ثناء الله بعده مدة طويلة (136) .
وكان يتنبأ بأن زوجته ستلد ولداً جميلاً ذكراً، وأن الله أخبره بذلك، فتلد زوجته أنثى، وحدث هذا أكثر من مرة، ومع ذلك لم ييأس الغلام أن يصدق في أي مرة.(45/220)
ومن أكاذيب نبوءته أن الطاغوت لا يمكن أن يصل قاديان ما دام فيها رسوله-أي يقصد نفسه- حتى ولو استمر الطاعون سبعين سنة (137) ، فكذبه الله ودخل الطاعون قاديان وفتك بهم، بل ودخل بيت الغلام نفسه، وكانت وفاته به، مع أن الطاعون آنذاك لم يعم البلاد والقرى المجاورة لقاديان كلها، قال في ضميمة الوحي: ((وآية له أن الله بشره بأن الطاعون لا يدخل داره وأن الزلازل لا تهلكه، وأنصاره، ويدفع الله عن بيته شرهما)) (138) . وقال أيضاً: ((وجعل الله داره حرماً آمناً، من دخلها حفظ من الطاعون وما مسه شيء من الأذى)) (139) .
وتنبأ لأحد أتباعه-ويسمى منظور محمد- أن زوجته- وكانت حاملاً-ستلد ولداً مباركاً يسمى بشير الدولة من زوجته محمدي بيجوم، فكانت النتيجة أن زوجة منظور ولدت بنتاً، ثم لم تلد حتى ماتت (140) .
وأحياناً كان يتنبأ بوقوع زلازل هائلة يتأثر منها حتى الجن والطيور، وأنها ستقع في مدة أقصاها كذا وكذا، ولكن النتيجة تظهر لتكذيب الغلام ولا يقع إلا الخير، لا الزلازل التي تنبأ بها بإخبار الله له-كما يزعم-.
وتنبأ بأن الله أوحى إليه إلهاماً أنه سيتزوج بعد تاريخ سنة 1886م نساء (141) ذوات بركة وخير ينجبن له أولاداً صالحين، وكانت النتيجة أنه مات قبل تحقق هذا الوحي المزعوم.
وتنبأ لمولود له اسمه مبارك أحمد بأنه يكون له فضل على العالمين، ويكون له شهرة عالمية وأيادٍ على الخلق (142) ، وكانت النتيجة أن الولد مات بعد ثمان سنوات من عمره.(45/221)
ورغم وقوع القادياني في أكثر من موقع حرج يبطل ما يتنبأ به، فإنه لم يتعظ من كل حادثة يكذب فيها، بل يشفع الكذبة بأخرى، ولعله كان يأمل أن يصيب مرة ويخطئ مرة أخرى، ولعل هذه المواقف المخزية التي تعرض لها كثيراً ولم ينته عن غيه إنما تدل على عدم احترامه لنفسه، وتدل كذلك على أن أتباعه أيضاً لا عقول لهم، بل هم في عداد البهائم؛ حيث لم يرتابوا في تلك النبوءات الكثيرة التي كذَّب الله فيها الغلام، خصوصاً وأنها تتعلق بأمور لا تخفى نتائجها كموت فلان وولادة فلان ...إلخ.
وقد بدأ القاديانيون يفسرون تلك النبوءات تفسيرات وتأويلات متكلفة؛ ليوهموا الناس بصدق غلامهم، كما أن الغلام نفسه وبعد أن ذاق الأمرين من تنبؤاته الكاذبة سلك مسلكاً آخر لتنبؤاته؛ وهو أنه إذا سمع بحادثة ما زعم على الفور أنه كان قد تنبأ بها، وأخبر بها قبل وقوعها وكل كاذب يجد من يصدقه، ولكل صوت صدى.
وأحياناً كان يتنبأ بوقوع أمور طبيعية لا بد من وقوعها، كقوله مثلاً:
ألهِمْت أن فلاناً سيموت وألهِمْتُ أن حرباً ستقع بين الناس، وأن الزلازل ستحدث ونحو ذلك من الأمور التي تقع عادة، فإن جاءت كما أخبر فرح بها هو أتباعه وإن كان العكس نكسوا رءوسهم قليلاً، ثم يأخذون في جمع وتلفيق المبررات.
وفي كتابه –ضميمة الوحي- تنبأ في أكثر من مكان بأن الناس سيأتون إليه في قاديان أفواجاً، فقال عن نفسه عن طريق الإلهام: ((ويعان من حضرة الكبرياء، وتأتيه من كل فج عميق أفواج بعد أفواج، كبحر مواج حتى يكاد أن يسأم من كثرتهم ويضيق صدره من رؤيتهم ويروعه ما يروع العايل المعيل عند كثرة العيال وحمل الأعباء وقلة المال)) (143) .
فكانت النتيجة عكس ذلك: ((حوربت القاديانية من قبل المسلمين في الهند وباكستان حرباً شعواء، وخرجت مهزومة محكوم عليها بالارتداد والكفر بالله، ولم تنتشر إلا في بلدان نائية بين جهلة المسلمين وعوامهم.
* * * * * * * * * * * * * * * * **(45/222)
الفصل السادس
غلوه وتفضيله نفسه على الأنبياء وغيرهم
لم يقتصر الميرزا على التنبؤ، بل حمله غروره على أن فضّل نفسه على أكثر الأنبياء والمرسلين، وأنه جُمع فيه ما تفرق في أنبياء كثيرين؛ فما من نبي إلا وقد أخذ منه قسطاً حسب قوله الآتي: ((لقد أراد الله أن يتمثل جميع الأنبياء والمرسلين في شخص رجل واحد، وإنني ذلك الرجل)) (144) . وقوله: ((وآتاني ما لم يؤت أحداً من العالمين)) (145) ، كما فضل نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال متطاولاً:
له خسف القمر المنير وإن لي غسا القمران المشرقان أتنكر(146)
وله نصوص كثيرة في تفضيله نفسه على سائر البشر، مع أنه كان في أول أمره يصف نفسه بالمسكين والضعيف، ثم جاء الميرزا بشير الدين محمود خليفته الثاني ليعلن غلوه فيه بقوله: ((إن غلام أحمد أفضل من بعض أولي العزم من الرسل)) (147) .
وقال عنه أيضاً: إنه كان أفضل من كثير من الأنبياء، ويجوز أن يكون فضل من جميع الأنبياء (148) ! وقال أيضاً مقارناً حال الناس في عهد والده وحالهم في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والفيوضات الربانية في حياة كل منهما: ولم يحرم –أي الرسول صلى الله عليه وسلم – الدنيا من الفيوض الروحانية بل زادها غزارة وتدفقاً، وإن كانت تجري من قبل كترعة صغيرة فالآن أصبحت كنهر زاخر؛ لأن العلم لم يبلغ عندئذ دوره الكامل، لكن الآن قد بلغ أوجه (149) .
ثم ادعى الغلام أنه عين محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ((من فرق بيني وبين المصطفى فما عرفني وما رأى)) (150) . كما ادعى كذلك أنه مظهر ((لكرشن)) وأنه برز فيه وتجلى(151) . ثم ادعى أنه ابن الله –تعالى الله عن أقواله الكفرية علواً كبيراً- فقال: إن الله ألهمه: أنت مني بمنزلة أولادي (152) . وخاطبه الله مرة بقوله: ((اسمع يا ولدي (153) يا شمس يا قمر (154) أنت من مائنا وهم من فشل)) (155) .(45/223)
ومن هنا رأى بأن مدحه لنفسه من الأمور الجيدة، فقال يصف شخصه ويقارن بينه وبين الأماكن المقدسة:
((وإني والله في هذا الأمر كعبة المحتاج، كما أن في مكة كعبة الحجاج، وإني أنا الحجر الأسود الذي وضع له القبول في الأرض والناس بمسه يتبركون، لعن الله قوماً يقولون: إنه يريد الدنيا. وإنا من الدنيا مبعدون)).
قال في الهامش: ((هذه خلاصة ما أوحى الله إلي)) (156) .
ثم زعم أن كل المصائب التي حلت بالقارة الهندية إنما كانت توطئة لبعثته حيث قال: ((فاعلموا رحمكم الله أن هذه المصائب من الأقدار التي ما رأيتم قبل هذا الزمان ولا آباؤكم في حين من الأحيان، إنما هي آيات الرجل الذي بعث فيكم من الله المنان))(157) .
وإذا كانت تلك الكوارث كلها بسببه فلا عيب بعد ذلك على من تشاءم به ورأى أنه مصدر الكوارث والعقاب الشديد على حد قول الله تعالى: ? وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ? سورة الأنفال : 25 .
وهذه الإلهامات والكشوف والوحي الذي ادعاه في أقواله السابقة إنما تدل على جهله المطبق وجهل أتباعه، وعدم معرفة الغلام قدر الأنبياء العظيم الذي لا يصل إليه أحد غيرهم، وتدل كذلك على عدم معرفته بنفسه أيضاً؛ حيث ظن أنه بمجرد التفضيل الفارغ لشخصه ينقله إلى رتبتهم، فقوله: إن الله جمع فيه كل صفات الأنبياء، وأنه آتاه ما لم يؤت أحداً من العالمين-كذب ظاهر؛ فإن للأنبياء صفات لم يجرؤ القادياني على ادعائها؛ فلم يؤت ملك سليمان ولا صبر أيوب، ولا سفينة نوح، ولا بركات محمد صلى الله عليه وسلم وانتشار دينه في أقطار الأرض بسرعة مذهلة دون اللجوء إلى أي دولة من الدول، ولا الحب الذي كان يكنه المسلمون له، بخلاف القادياني الذي مات وهو يحاول جاهداً أن يزوجوه ببنت ابن خاله فرفضوه رغم إذلال نفسه لهم، وتوسل بشتى الوسائل دون جدوى.(45/224)
فكيف بعد ذلك يتجاسر ويفضل نفسه على جميع البشر؛ بل وعلى أولي العزم من الرسل الذين اجتباهم الله، وجعل لهم الود والاحترام في نفس كل شخص عاقل!! بل وأغرب من هذا أن يقال: ومن أي طريق أقدم على دعوى أنه عين محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان لمحمد صلى الله عليه وسلم –حسب مزاعم القادياني وأتباعه- بعثتين: الأولى وكانت بمكة، والثانية وكانت بالقاديان بالهند، وأن محمداً في بعثته الثانية كان أكمل منه في بعثته الأولى.
إذا كان يزعم أن ذلك تم عن طريق التناسخ، فإن التناسخ لم يقل به أحد من العقلاء غير عباد البقر والفروج من الهندوس والبوذيين، ثم كيف تناقض بعد ذلك في مسألة واحدة هامة وخطيرة جداً؛ فزعم أولا أنه مظهر لكرشن معبود الهنادك، ثم زعم ذلك أنه محمد صلى الله عليه وسلم . كيف ساغ له أن يجمع بين الشرق والغرب؛ الليل والنهار في مكان واحد، هذا هو عين التخبط والجهل الشنيع.
ولقد زاد على جهله بحق الأنبياء الجهل بحق الله عز وجل؛ فها هو يثبت أن الله قال له:((أنت مني بمنزلة أولادي)).
تعالى الله عن هذا المعتقد الجاهلي فإن الله تعالى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فهو منزه عن الصاحبة والولد: ? إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً{93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً{94}وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ? سورة مريم : 93- 95.
بل هو قول عظيم جداً: ? تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً{90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً ? سورة مريم : 90 .
ولقد أخبر الله أن كل من نسب إلى الرحمن ولداً فإنه كاذب، كما قال تعالى: ? أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ{151} وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ? سورة الصافات : 151، 152 .(45/225)
ومن حكم الله عليه بأنه كاذب فقد استحق المقت وعدم الالتفات إلى قوله؛ فإن المؤمن لا يكون كذاباً، لا يستحله ولا يستمر عليه إلا من مقته الله. ولهذا فإن خطاب الله له بقوله: ((اسمع يا ولدي)) ونسبة هذا الفجور إلى وحي الله-جريمة كبرى وكلام لم يقله نبي من الأنبياء ولا ذُكِرَ في كتاب من الكتب المنزلة، ولم يقل به إلا الجهال الذين يقولون المنكر والزور .
وقول القادياني: إن الله خاطبه بقوله: يا شمس يا قمر؛ فمعاذ الله أن يصدر هذا من الله عز وجل، وإنما هذا قول الفارغين العاطلين عن المعرفة، وليس هناك ما يدعو إلى هذا الغزل، فإنه لم يؤت جمال يوسف ولا بهاءه، ومع ذلك لم يوصف يوسف بمثل هذا الوصف فأين القادياني وأين الشمس والقمر؟!.
ثم ذكر القادياني تعبيراً مجوسياً وثنياً جل الله عنه؛ حيث زعم أن الله ألهمه: أنت من مائنا وهم من فشل!! كبرت كلمة تخرج من فمه كذباً وزوراً وتنزه الله عن كل نقص: ?وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ? سورة الأنعام : 18. ? يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ? سورة غافر: 19. ?إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً?سورة مريم:93
وإذا كان القادياني قد غلا في نفسه وفضَّلها على جميع الأنبياء والمرسلين-فمن الطبيعي أن يفضلها على جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ابتداء بالصحابة الكرام فمن بعدهم. وهذا هو الذي وقع بالفعل.
فقد فضل القادياني نفسه على جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما فيهم الصحابة كلهم لم يستثن أحداً منهم،فقد أداه الغرور إلى أن يقول:
((لا شك أنه ولد في أمة محمد صلى الله عليه وسلم آلاف من الأولياء والأصفياء ولكن ما كان أحد مثلي (158) . وقد يبدو هذا التفضيل برغم بشاعته صغيراً بالنسبة لتفضيل نفسه على جميع الأنبياء حيث قال :(45/226)
((جاء أنبياء كثيرون، ولكن لم يتقدم أحد عليّ في معرفة الله، وكل ما أعطي لجميع الأنبياء أعطيت أنا وحدي بأكمله))(159) .
وجاء في تمجيد أتباعه له على نفس المعنى:
((نحن نعتقد بأن الله أنزل لصداقة غلام أحمد آيات وبينات لو توزع على ألف نبي لثبتت بها نبوتهم. وكان يجمع في ذاته جميع الصفات القدسية التي وجدت في جميع الأنبياء(160)
وقد فضل نفسه على أنبياء خصهم بأسمائهم وقبلهم فضل نفسه على آدم عليه السلام فقال: ((إن الله خلق آدم وجعله سيداً مطاعاً وأميراً حاكماً على كل ذي نسمة، كما يظهر من قوله: ? اسْجُدُواْ لآدَمَ ? ، ثم أغواه الشيطان وأخرجه من الجنة ورجع الحكم إلى الشيطان، وصار آدم مصغراً ثم خلقني الله لكي أهزم الشيطان وهذا ما وعده في القرآن)).
وتوجد نصوص كثيرة من كلامه في تفضيل نفسه على نوح وعيسى ويوسف، وإذا كان هذا هو موقفه من الأنبياء فما الحال بغيرهم؛ خصوصاً أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم هدف حربه، وحرب كل الطوائف المعادية للإسلام، ولهذا نرى القادياني وقد فضل نفسه على كثير من مشاهير الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعليّ والحسن والحسين وأبي هريرة دون أن يجد رادعاً من حياء أو ضمير، وهو حينما يسب ويشتم هؤلاء الأخيار ويترفع عليهم نسي قوله:((الذي يسب أو يشتم الأخيار المقدسين فليس إلا خبيث ملعون لئيم))(161).
وقد تطاول أحد أقرباء الغلام وقال في جرأة شريرة: ((أين أبو بكر وعمر من غلام أحمد، إنهما لا يستحقان أن يحملا نعليه)) (162) .
ونصوص أخرى كلها تدور على تفضيل القادياني على من لا يساوي شراك نعل أحدهم، نتركها لتفاهتها ولما فيها أيضاً من الظلم الصريح بسبب تنقص القاديانيين بالأنبياء وبأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .(45/227)
ومن الغريب حقاً أن القاديانيين حينما يزعمون أو يزعم الغلام لنفسه أن له هذا الفضل الذي لا حد له يأبى الله إلا أن يظهره على حقيقته، فإذا به يوصف بأنه كان سكيراً عربيداً يحب الأفيون حباً شديداً حتى جعله في شريعته نصف الطب، يقول عنه ابنه محمود أحمد: ((إن الأفيون يستعمل في الأدوية كثيراً حتى كان أبي يقول: إن الأفيون نصف الطب))، ثم يقول محمود عن تحليله: ((ولذا استعماله للتداوي يجوز، ولا بأس به)).
ويذكر كذلك أن والده صنع من الأفيون دواءً إلهياً بإلهام منه عز وجل، فقال بعد كلامه السابق: ((وأنه (163) صنع دواء باسم ترياق إلهي بهدى الله وأعينه، وكان الجزء الأكبر في هذا الدواء الأفيون، وكان يعطي هذا الدواء لخليفته الأول نور الدين، كما كان يستعمله هو أيضاً حيناً بعد حين لمختلف الأمراض)) (164) .
وكان الغلام يشتري خمراً خاصاً يأتي من بريطانيا يسمى وائن؛هو أقوى المسكرات(165) . فكيف ساغ لهذا الحشَّاش-كما سماه إحسان إلهي رحمه الله- أن يفضل نفسه على آدم والأنبياء والمرسلين وجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم !؟
وقد تبع هذا التفضيل دعوى المعجزات التي فاقت معجزات الأنبياء؛ لأن الغلام تمدح بمعجزات كثيرة وزعم أنها فاقت معجزات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ حيث قارن الغلام بين معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم فبلغت ثلاثة آلاف معجزة، وبين معجزاته فبلغت أكثر من مليون معجزة (166) .
وهي معجزات خرافية وفضائح شنيعة ظنها ماءً فإذا بها سراب.
ومن تلك المعجزات الهامة أنه تزوج بزوجته الثانية وهي شابة وكان عمره هو الخمسين، وكان مصاباً بعدة أمراض فتاكة قال عنها:(45/228)
((والمعجزة الثانية بأنه لما نزل الوحي المقدس في شأن الزواج كنت مصاباً بضعف القلب والدماغ والجسم ومرض البول ودوران الرأس والدق، وفي هذه الأمراض المضنية لما تزوجت تأسف بعض الناس؛ لأن حالتي وقوتي الرجولية كانت كالمعدوم وكنت كشيخ فان))(167) .
كما أنه أيضاً ما كانت به قوة رجولية للزواج ومع ذلك أنجب أولاداً فقال: ((حينما تزوجت لا زلت متيقنا بأني لست برجل مدة طويلة)) (168) ثم قال: ((ولكن مع هذه الأمراض والضعف أعطيت الصحة وأربعة بنون)) (169) .
ومن هنا حُق للشيخ إحسان إلهي-رحمه الله- أن يعلق على هذه المعجزة العظيمة بقوله: ((وليت شعري ماذا يريد من معجزاته؟ إن كان المراد من المعجزات بأنه ولد له الأولاد مع أنه كان محروماً من القوة الرجولية، فهذه معجزة زوجته لا معجزته هو)) (170) . إنه تمدح بهذه المعجزة في غفلة عن عقله فجاءت فضيحة مضحكة.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل السابع
أهم عقائد القاديانية
لقد تخبط القادياني وأتباعه في متاهات عديدة وجاءوا بأفكار شاذة غريبة، وتناقضوا في أقوالهم وأفعالهم. ومن الأمور التي تظهر في معتقدات زعيمهم القادياني مبادئ كثيرة ننبه إلى أهمها بإيجاز فيما يلي:
التناسخ والحلول :
اعتقاد التناسخ والحلول، وأن الأنبياء تتناسخ أرواحهم وتتقمص روح بعضِهِم وحقيقَتُه جَسَد وحقيقَةَ آخرين، وتظهر في مظهر الجسد الآخر تماماً، وقد قال بهذا ليصل إلى تثبيت بعثته ونبوته.(45/229)
وعلى هذا الاعتقاد الفاسد قرر أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد ولد بعادته وفكرته ومشابهته القلبية بعد وفاته بنحو ألفي سنة وخمسين، في بيت عبد لله بن عبد المطلب وسمي بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومثل هذه الولادة حصلت لعيسى عليه السلام حينما ظهر بمظهر القادياني أيضاً. وأن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم بعث مرتين-كما صرح القاديانيون بذلك- بعثته الأولى وبعثته الأخرى حينما حلت روحانيته في القادياني نفسه.
وفي هذا يقول القاديانية: ((إن مراتب الوجود دائرة، وقد ولد إبراهيم بعادته وفطرته ومشابهته القلبية بعد وفاته بنحو ألفي سنة وخمسين، في بيت عبد الله بن عبد المطلب وسمي بمحمد صلى الله عليه وسلم )) (171) .
وقال أيضاً: ((وتحل الحقيقة المحمدية وتتجلى في متبع كامل))... (172) .
وقد مضى مئات الأفراد تحققت فيهم الحقيقة المحمدية وكانوا يسمون عند الله عن طريق الظل محمداً وأحمد)) (173) . وبقصد بطريق الظل أنهم أشباح للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على طريقة التأويلات الباطنية.
ويجاب عن هذا بقول الله تعالى: ?أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً?سورة مريم:78 . فمن الذي أخبره بأن هؤلاء الأظلة هم عند الله محمد وأحمد.
ويقول عن حلول شخصية المسيح ابن مريم في شخصه، هو حين أرسله الله: ((إن الله أرسل رجلاً كان أنموذجاً لروحانية عيسى، وقد ظهر في مظهره وسمي المسيح الموعود؛ لأن الحقيقة العيسوية قد حلت فيه. ومعنى ذلك أن الحقيقة العيسوية قد اتحدت به)) (174) .
وهذه العقيدة المجوسية-أي عقيدة التناسخ- إنما تأثر بها لأمور:
منها: بعده عن الدين وعن الحقائق التي ذكرت فيه لمصير الروح بعد الموت.
ومنها: مجاورته للهندوس وميله إليهم في هذا المبدأ خصوصاً وأنه يحقق لهم مكاسب، في أولها هذه العقيدة التي تسبغ عليه شخصية المسيح وشخصية محمد عليهما الصلاة والسلام.(45/230)
فلا عجب بعد ذلك في تأكيده لعقيدة الحلول والتناسخ (175) بين البشر، بل الأدهى والأمرُّ من ذلك أنه ادعى حلول الله عز وجل فيه؛ حيث قال: ((إن الله أُنْزِل فيَّ وأنا واسطة بينه وبين المخلوقات كلها)) (176) .
التشبيه :
كما أن للقادياني أقوالاً كفرية في وصف الله تعالى؛ فهو يزعم أن الله قال عن نفسه جل وعلا: بأنه يصلي ويصوم ويصحو وينام، وأنه يخطئ ويصيب .
قال القادياني: ((قال لي الله: إني أصلي وأصوم وأصحو وأنام)) (177) . وقال أيضاً: ((قال الله: إني مع الرسول أجيب؛ أخطئ وأصيب، إني مع الرسول محيط)) (178) .
ويبلغ منتهى التشبيه والتجسيم حين زعم أنه رأى في الكشف أنه قدم أوراقاً كثيرة إلى الله تعالى ليوقع عليها ويصدق على طلباته التي اقترحها؛ فوقع الله عليها بحبر أحمر، وكان عنده-كما يزعم- في وقت الكشف رجل من مريديه اسمه عبد الله، ثم نفض الرب القلم فسقطت منه قطرات الحبر على أثوابه وأثواب مريده، وحينما انتهى الكشف رأى-كما يكذب- بالفعل أن أثوابه وأثواب عبد الله لطخت بتلك الحمرة (179) .
وقد وصف الله تعالى بأنه مثل الأخطبوط على طريقته البدائية؛ حيث قال: نستطيع أن نفرض لتصوير وجود الله تعالى بأنه له أياد وأرجل كثيرة، وأعضاءه بكثرة لا تعد ولا تحصى، وفي ضخامة لا نهاية لطولها وعرضها، مثل الأخطبوط له عروق كثيرة امتدت إلى أنحاء العالم وأطرافه (180) . بل يصف القادياني إله العالمين بصفات في غاية القبح والشناعة، ننزه عن ذكرها أسماع وأبصار طلاب العلم؛ كلها تدور حول الجنس والولادة على طريقة الباطنية وغلاة التشبيه والتجسيم، بل وعلى طريقة النصارى الذين ادعوا أن لله ولداً (181) .
وفي صراحة تامة يصرح الغلام بأن الله له فم-تعالى الله عن قوله- ينفخ به الصور تأييداً لدعوته المشئومة، حيث قال:(45/231)
((ستؤسس جماعة وينفخ الله الصور بفمه لتأييدها، وينجذب إلى هذا الصوت كل سعيد ولا يبقى إلا الأشقياء الذين حقت عليهم الضلالة وخلقوا ليملئوا جهنم)) (182) .
لقد وصل في تشبيه رب العالمين إلى مثل ما وصل عتاة التجسيم والتشبيه؛ مثله مثل هشام بن الحكم الرافضي وغيره، ممن ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يظن أنه يحسن صنعاً.
وأغلب الظن أن الغلام كان متأكداً من حركته، بأنه لم يحسن فيها صنعاً، ولكن غلبته شهوته وحبه الزعامة.
ولقد شبه الله بإنسان له قصر، فيه باب يمنع الداخلين إلا بإذنه. قال في ضميمة الوحي: ((ولا يوصل إلى قصر الله وبابه إلا هذا الدين الأجلى)) (183) .
ومما لا ريب فيه أن من تصور أن الله تعالى يصلي ويصوم، أو يفعل غيرهما من العبادة أنه لا حظَّ له من العقل فضلاً عن الدين، فلمن يصلي ويصوم الرب عز وجل؟ ومن الذي كلفه بهذه التكليفات؟ تعالى الله عن هذا المعتقد الجاهلي البدائي.
وأما كونه عز وجل يلحقه النوم والصحو، والخطأ والصواب، وغير ذلك من صفات النقص التي تحل بالبشر لنقصهم وافتقارهم إلى ذلك، فإن الله تعالى هو الخلاق العظيم، والقوي العزيز، يعلم ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
وورد في الحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)) (184) .
وهو حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لا يكون إلا ما أراد، تنزه سبحانه عن الخطأ لأنه محال عليه عز وجل لنفاذ علمه بكل شيء.
ووصْفُه تعالى بالتوقيع والكتابة، أو أنه مثل الأخطبوط، أو أن له ولداً كل هذه الأوصاف إنما يطلقها على الله تعالى من خرج عن الحق واتبع هواه وأفسد عقله قرناء السوء من الجن والإنس، وصار أضل من الأنعام واتخذ دينه لهواً ولعباً وفضل العقائد الوثنية والخرافية على دين الإسلام، فانسلخ منه وأضله الله على علم. نعوذ بالله من الزيغ والضلال.(45/232)
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الثامن
علاقة القاديانية بالإسلام وبالمسلمين وبغير المسلمين،
وموقف علماء الهند وباكستان من القاديانيين
لقد ابتعد القادياني وعن الإسلام عن المسلمين، وزاحمت القاديانية الإسلام، وأرادت أن تحل محله في العقيدة والفكر والعاطفة، وقطعت أقوى صلة للقاديانية بالإسلام، وجعلت كل من يدخل هذه الديانة الجديدة أو الإسلام الجديد –كما يزعم القاديانيون- بعيداً عن الإسلام الذي ارتضاه رب العالمين لخلقه. ومن هنا نرى القاديانيين يقارنون بين أصحاب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبين أتباع الغلام، دون أن يجدوا في ذلك أي حرج، فقد جاء في صحيفة الفضل القاديانية: ((لم يكن فرق بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتلاميذ الميرزا غلام أحمد؛ إلا أن أولئك رجال البعثة الأولى وهؤلاء رجال البعثة الثانية)) (185) .
ثم جعلوا الحج الأكبر هو زيارة قاديان، وقبر القادياني، مضاهاة لزيارة المسجد النبوي الشريف والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، ونصوا على أن الأماكن المقدسة في الإسلام ثلاثة: مكة والمدينة وقاديان، وأوَّلوا المراد بالمسجد الأقصى بأنه مسجد قاديان، فقد جاء في تلك الصحيفة أيضاً:
((إن الذي يزور قبر المسيح الموعود عند المنارة البيضاء، يساهم في البركات التي تخص قبة النبي الخضراء في المدينة، فما أشقى الرجل الذي يحرم نفسه هذا التمتع في الحج الأكبر إلى قاديان)) (186) .
وفيها أيضاً: ((أن الحج إلى مكة بغير الحج إلى قاديان حج جاف خشيب؛ لأن الحج إلى مكة اليوم لا يؤدي رسالته ولا يفي بغرضه)) (187) .
واخترعوا لهم أشهراً غير الأشهر الإسلامية، وهي:
الصلح، التبليغ، الأمان، الشهادة، الهجرة، الإحسان، الوفاء، الظهور، تبوك، الإخاء، النبوءة، الفتح (188) .(45/233)
وهو نفس المسلك الذي سار عليه البهاء المازندراني حين اخترع له أشهراً غير الأشهر الإسلامية، ليقطعوا صلتهم بالأشهر الإسلامية وبما جاء فيها من مناسبات مفضلة، ومن هنا يتضح أن علاقة القاديانيين بالمسلمين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم علاقة مبتورة، فقد قطعوا كل صلة بهم وعاملوهم على الأسس الآتية:
أن المسلمين كفار ما لم يدخلوا في القاديانية؛ لأنهم يفرقون بين الرسل، والله تعالى يقول: ? لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ? سورة البقرة : 285 ، فالمؤمن بالإسلام ونبيه إذا لم يؤمن بالقاديانية ونبيها فإنه يكون كافراً.
وعلى هذا فإنه لو مات مسلم، فإنه لا يجوز للقادياني الصلاة عليه ولا دفنه في مقابرهم؛ لأنه كافر لعدم إيمانه بنبوة الغلام، فلا تجوز الصلاة عليه ولو كان طفلاً أيضاً، ويذكر أن ظفر الله خان وزير خارجية باكستان لم يُصَلِّ على القائد الشهير محمد علي جناح حين مات، لأنه في نظر ظفر الله كافر لعدم إيمانه بنبوة الغلام.
لا يجوز نكاح المسلم بالقاديانية، ويجوز ذلك للقادياني كما هو الحال بالنسبة لأهل الكتاب؛ أي إنهم يعاملون المسلمين معاملة أهل الكتاب.
لا تصح الصلاة خلف غير القادياني مهما كانت منزلته، وإذا فعل ذلك تقية أو لمصلحة، فعليه أن يعيد تلك الصلاة حتماً، حتى وإن كان صلاها في أحد الحرمين الشريفين، وهذه التقية أو النفاق هو الأساس الذي قام عليه مذهب الشيعة والباطنية والقاديانية.
لا يجوز حضور اجتماعات المسلمين سواء كانت في أفراحهم أو في مصائبهم، بل ولا يجوز أن يذكر المخالف للقاديانية من المسلمين أو يترحم عليه أو يستغفر له.
بل و أبعد من هذا أنهم لا يجوزون الصلاة على من يصلي من القاديانيين خلف المسلمين أو يتعامل معهم أو يوادهم (189) .
علاقتهم بغير المسلمين:
وأما علاقتهم بغير المسلمين فنوجزها فيما يلي :(45/234)
لقد قامت بين القاديانيين وبين كثير من الملل المخالفة للإسلام علاقات قوية، خصوصاً بينهم وبين الدول المعادية للمسلمين، مثل بريطانيا وإسرائيل اليهودية الحاقدة، فهي تتمتع معهم بصداقات حميمة واتصالات وثيقة، وقد أعطتهم إسرائيل أمكنة لفتح المراكز والمدارس، وأغدقت عليهم الأموال سراً وجهراً، وقد جاء في خطاب للقاديانيين باسم ((مراكزنا في الخارج)) هذا النص:
((ويمكن للقارئين أن يعرفوا مكانتنا في إسرائيل بأمر بسيط، بأن مبلغنا جوهدري محمد شريف حينما أراد الرجوع من إسرائيل إلى باكستان سنة 1956م، أرسل إليه رئيس دولة إسرائيل بأن يزوره قبل مغادرته البلاد، فاغتنم المبشر هذه الفرصة وقدم إليه القرآن المترجم إلى الألمانية الذي قبله الرئيس بكل سرور (190) !!!وقد نشر تفاصيل اللقاء في الصحف الإسرائيلية، كما أذيع أيضاً في الإذاعة، بل وقد سمحت لهم إسرائيل بإنشاء مدرسة بقرب جبل الكبابير.
ومن المعروف بداهة أن إسرائيل ما كانت لتحتضن هذه الدعوة القاديانية ولا أن تقوم بتمويلها بل والدعاية لها لو أنها تعرف فيها مثقال ذرة من الإسلام، الذي تعتبره إسرائيل الخطر الحقيقي عليها، كما أن إسرائيل تمول جميع الحركات الهدامة من قاديانية وبهائية وغير ذلك لتحقيق أهدافها في السيطرة والعلو، فالمؤامرات واضحة لا تحتاج إلى سياسي بارع ولا ذكي في تحليل الأحداث.(45/235)
رحب القوميون الهنود بالقاديانية وفرحوا بها وتحمسوا لها كثيراً، لأن هؤلاء الهنادك يحقدون على الإسلام حقداً لا يقل عن حقد اليهود والنصارى، وضايقهم جداً توجه المسلمين الهنود بقلوبهم إلى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وكتاب ربهم، بل وإلى الجزيرة العربية إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولهذا فقد اعتبروا توجه الناس إلى قاديان انتصاراً للوطنية الهندية على الإسلام الأجنبي عن بلادهم، وفرصة سانحة للتحول العظيم في تفكير المسلمين الهنود وغيرهم من الإسلام إلى القوميات والتعصب لها بدلاً عن الإسلام. وفي هذا يقول الكاتب الهندوكي د/شنكرداس مهرا:
((إن المسلمين الهنود يعتبرون أنفسهم أمة منفصلة متميزة ولا يزالون يتغنون ببلاد العرب ويحنون إليها، ولو استطاعوا لأطلقوا على الهند اسم العرب، وفي هذا الظلام الحالك وفي هذا اليأس الشامل يظهر شعاع من النور يبعث الأمل في صدور الوطنيين وهي حركة الأحمديين (القاديانيين).
وكلما أقبل المسلمون إلى الأحمدية نظروا إلى قاديان كمكة هذه البلاد والمركز الروحي العالمي وأصبحوا مخلصين للهند وقوميين بمعنى الكلمة.
إن تقدم الحركة الأحمدية ضربة قاضية على الحضارة العربية والوحدة الإسلامية. وكل من اعتنق الأحمدية تغيرت وجهة نظره وضعفت صلته الروحية بمحمد صلى الله عليه وسلم بذلك، وتنتقل الخلافة من الجزيرة العربية وتركيا إلى قاديان في الهند، ولا يتبقى لمكة والمدينة إلا حرمة تقليدية.
إن كل أحمدي سواء كان في البلاد العربية أو تركيا أو إيران أو في أي ناحية من نواحي العالم يستمد من قاديان القوة الروحية وتصبح قاديان أرض نجاة له، وفي ذلك سر فضل الهند، وهذا هو سر عدم ارتياح المسلمين إلى حركة الأحمدية وقلقهم منها؛ لأنهم يعتقدون أن حركة الأحمدية هي المنافسة للحضارة العربية والإسلام.(45/236)
ولذلك اعتزل الأحمديون عن حركة الخلافة لأنهم يحرصون على تأسيس الخلافة في قاديان مكان تركيا والجزيرة العربية، وإن كان هذا الواقع مقلقاً لمسلمين الذين لا يزالون يحلمون بالاتحاد الإسلامي وبالاتحاد العربي، ولكنه مصدر سرور وارتياح للوطنيين الهنديين))(191) .
والكلام ظاهر المعنى ينفث خبثاً وحقداً على المسلمين وعلى الإسلام، ويريد قائله أن تشن الحرب التي لا هوادة فيها على كل مسلم غير القاديانيين، الذين يرى فيهم تحقيق أحلامه الكفرية ومحو الإسلام من أذهان المسلمين والاهتداء بعميل الإنجليز وبالوطنيين الهنود، كما يريد فوضويو المجوسية وداعتها الحاقدون.
ومما يوضح موقف القاديانيين من الإسلام أيضاً ذلك الدفاع الذي بذله عدو الإسلام والمسلمين في الهند جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند حينذاك عن هذه الطائفة المسلمين-يقص القاديانيين-على حد زعمه، وغريب منه أن يتعاطف مع المسلمين، فقد قال متسائلاً ومستنكراً: لماذا يلح المسلمون على فصل القاديانية عن الإسلام، وهي طائفة من طوائف المسلمين الكثيرة؟ فأجابه الدكتور محمد إقبال –رحمه الله- فقال: ((القاديانية تريد أن تنحت من أمة النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم أمة جديدة تؤمن بالنبي الهندي...وقال: إنها أشد خطراً على الحياة الاجتماعية الإسلامية في الهند عن عقائد ((أسفنورا)) الفيلسوف الثائر على نظام اليهود)) (192) .
وحينما تظاهر القاديانيون في خبث ودهاء ومكر بالإسلام، إنما أرادوا أن يموهوا على المسلمين ويدخلوا على عوامهم من طرق لا يفطنون لها ليسلخوهم عن دينهم شيئاً فشيئاً إن استطاعوا، ولن يتم لهم ذلك إن شاء الله تعالى.
ومن هنا نجد أن لعلماء الهند وباكستان من المسلمين مواقف ونضالاً مريراً للقاديانية؛ حيث جعلوها بالعراء وبينوا زيف تظاهر القاديانيين بالإسلام ومدى عداوتهم له.(45/237)
والجدير بالذكر أن محكمة باكستانية موقرة أصدرت حكماً شرعياً بشأن هذه الفئة الشريرة من القاديانيين وبكل حزم وشجاعة، وقد ظهر في الأسواق في شكل كتاب، وقد صدر الكتاب مترجماً من الأردية إلى العربية تعريب الأستاذ/محمد بشير، باسم ((المحكمة الشرعية الفيدرالية بجمهورية باكستان الإسلامية تقرر: القاديانية فئة كافرة)).
جاء في أول الكتاب قوله: ((بإذن من المحكمة الشرعية الفيدرالية الباكستانية بإسلام آباد طبعنا النص الكامل لحكمها على الالتماس الشرعي رقم 17/ آيل لعام 1984م، والالتماس الشرعي رقم 2/آيل لعام 1984م والقاضي بوضع القاديانيين من كلتا الفرقتين: الفرقة اللاهورية والفرقة القاديانية)) (193) .
وكانت هذه المحكمة مؤلفة من سيادة القاضي: فخر عالم رئيس القضاة، القاضي: شودري محمد صديق، القاضي الشيخ: ملك غلام علي، القاضي الشيخ: عبد القدوس القاسمي.
وقد بحث هؤلاء القضاة مسألة القاديانية بكل جد وحزم، وقد استعانوا بمجموعة من العلماء في مناقشتهم لقضية القادياني وزعمه النبوة، ومواقف القاديانيين من المسلمين ومن الإسلام ونبيه وتعاليمه، على ضوء الالتماس الذي قدمه بعض المحامين والقاديانيين، ومنهم مجيب الرحمن، والنقيب المتقاعد عبد الواحد وغيرهما.
وقد استوفت المحكمة دراسة المسألة كاملة، وظهرت النتيجة بتاريخ 1984م كما يلي:
أصدر رئيس المحكمة فخر عالم مرسوماً يسمى: ((مرسوم حظر ومعاقبة النشاطات المناهضة للإسلام للفرقة القاديانية والفرقة اللاهورية والأحمديين)).
جعلت هذه البنود فعلاً إجرامياً من القادياني:
أ- أن يسمي نفسه أو يتظاهر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بكونه مسلماَ أو أن يسمى مذهبه الإسلام.
ب- أن ينشر ويروج مذهبه أو أن يدعو غيره إلى قبول مذهبه أو يثير بطريقة ما المشاعر الدينية للمسلمين.
ج- أن يدعو الناس إلى الصلاة بقراءة الأذان، أو يسمي طريقة ندائه للصلاة أو شكله بكلمة الأذان.(45/238)
د- أن يدعو أو يسمي محل عبادته مسجداً.
هـ- أن يذكر أي شخص غير أحد من خلفاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم بكلمة أمير المؤمنين أو خليفة المؤمنين أو خليفة المسلمين أو الصحابي أو رضي الله عنه، أو يذكر أحداً غير زوج من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة أم المؤمنين أو أن يسمى غير أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة أهل البيت (194) .
ومما لا ريب فيه أن هذا توفيق عظيم من الله لهذه المحكمة، أجزل الله لهم ولمن ساعدهم الأجر والثواب إلى يوم الدين؛ فإنهم أصابوا القاديانية في مقتلها دون أن يظلموهم بكلمة واحدة أو قانون غير ما يستحقونه.
وفي أحكام العقوبات جاء في المرسوم:
((أي شخص يدنس اسماً مقدساً لأي من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (أمهات المؤمنين) أو أهل بيته أو خلفائه الراشدين أو صحابته، بأية كلمات منطوقة أو مكتوبة، أو بأي تعبير محسوس أو بأي تعريض أو تلميح أو إيماء ما، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة –سيعاقب بسجن لمدة يجوز أن تمتد إلا ثلاث سنوات عن كل تعبير، أو الغرامة أو العقوبتين كلتيهما(195)
ومنه: أي شخص من الفرقة القاديانية أو الفرقة اللاهورية الذين يسمون أنفسهم أحمديين أو بأي اسم آخر، يذكر بكلمات منطوقة أو مكتوبة أو بأي تعبير محسوس طريقة النداء للصلوات التي تستعملها فرقته بكلمة الأذان، أو يقرأ الأذان كما يقرؤه المسلمون –سيعاقب بسجن لمدة يجوز أن تمتد إلى ثلاث سنوات عن كل تعبير، وسيكون معرضاً للغرامة أيضاً)) (196) .
وقد بلغت دراسة المحكمة لهذه الطائفة (188) مائة وثمان وثمانين صفحة استوعبت أهم ما يتعلق بأفكار القادياني وفرقته الشريرة، وانتهت بصرف النظر عن الالتماسات التي تقدم بها مجيب الرحمن وعبد الواحد وغيرهما من القاديانيين.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل التاسع
أسباب انتشار القاديانية(45/239)
إن البشر ليسوا على درجة واحدة من الفهم والذكاء، ولا قوة الإيمان وضعفه، بل هم أصناف وأشكال: منهم الخامل، ومنهم المخادع، ومنهم من يحب المسكنة والذلة، ومنهم من يحب الرياسة والسلطة والشهرة، ولهذا فكل صائح يجد له صدى، وكل داع يجد له أتباعاً، مهما كانت دعوته خيرة أو شريرة؛ الخيرة يقبلها أهل الخير، والشريرة يتلقفها أهل الشر، والتافهة يتقبلها التافه من الناس وضعاف النفوس.
والقادياني ودعوته الشريرة التافهة وجد لها من يتقبلها. والذي يهمنا هنا هو نظرة سريعة في الأسباب التي ساعدت على انتشار وباء القاديانية، ويمكن أن نوجز عناصر تلك الأسباب في الأمور التالية:
جهل كثير من الناس بحقيقة الدين الذي ارتضاه الله، فأكثرهم مسلم بالتبعية والتقليد يتأثرون بكل دعوة ويقلدون كل صائح.
وقوف الاستعمار إلى جانب هذه الدعوة الخبيثة وتأييده لها مادياً ومعنوياً لإدراكهم نتائجها في تحقيق أطماعهم في العالم الإسلامي.
استغلال القاديانيين لفقراء بعض المسلمين، بمساعدتهم المادية ببناء المدارس والمساجد والمستشفيات، وتوزيع الكتب وإيجاد بعض الوظائف وغير ذلك.
نشاط القاديانيين وذهابهم إلى الأماكن النائية من بلدان المسلمين التي يكثر فيها الجهل والعامية.
تمويه القاديانيين على السذج من المسلمين، بأن القاديانية والإسلام شيء واحد، وأن القاديانية ما قامت إلا لخدمة الإسلام.
عدم قيام علماء الإسلام بالتوعية الكافية ضد القاديانية وغيرها من الطوائف الضالة التي بدأت تنتشر في هذا الزمن أكثر من أي وقت مضى، وبتخطيط أدق وأكمل عما مضى؛ إذ العالم اليوم من عزّ بزّ، ومن غلب استلب.
هذه هي أهم الأسباب وربما توجد أسباب أخرى كثيرة ساعدت في نشر القاديانية في أماكن كثيرة من بلدان المسلمين.(45/240)
ويطول المقام لشرح تلك الأسباب التي استغلها القاديانيون وحولوا كثيراً من المسلمين إلى ديانتهم، وأدخلوا كذلك كثيراً من غير المسلمين في القاديانية على أساس أنها هي الدين الإسلامي الذي ارتضاه الله وأنزل به القرآن الكريم وأرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يعلم الشخص مدى البعد بينه وبين الإسلام إلا إذا وفقه الله فأبصر واقع القاديانية.
على أنه وجد بعد ذلك نوع من اليقظة الإسلامية، ووجد علماء أوقفوا القاديانية عند حدها في بعض البلدان وكتبوا مقالات كثيرة، بل ووجد أيضاً من بعض من دخل القاديانية من المفكرين على أساس أنها هي الإسلام، ولكنه تبين له بعد ذلك أنها عدوة للإسلام فبدأ يهاجمها ويدعو إلى الإسلام الصحيح.
ومع هذا كله فقد انتشرت القاديانية في هذه الأيام وبدأت تستعيد أنفاسها في أماكن متفرقة من العالم الإسلامي، مستغلين نفس الأسباب التي ذكرت آنفاً، والأمل في الله قوي أن يهيئ من عباده من يتصدى للقاديانية وغيرها من التيارات الهدامة المعاصرة، ويكشف زيفها ويبين خطرها على الإسلام والمسلمين وما ذلك على الله بعزيز.(45/241)
ولولا أن خطة قوية وتياراً هائلاً لصرف أنظار الناس عن واقع هذه الفرق الخبيثة لانكشفت ولبان لكل ذي لب الخطر الذي يترصد العقيدة الإسلامية من جراء انتشار هذه الفرق التي تتظاهر بالإسلام لبناء عقائدها المنحرفة وأمجادها الزائفة، ولا أدل على نجاح تلك الخطة من انصراف عامة المسلمين –بل وطلاب العلم- عن معرفة هذه الفرق، التي يموج بها العالم الإسلامي في شتى الدول الإسلامية دون استثناء، فانظر –أخي القارئ الكريم- إلى أي اجتماع بين المسلمين، كبيراً كان ذلك الاجتماع أو صغيراً، وسواء كان المجتمعون طلاب علم أو عامة- لا تسمع أي حديث عن هذه الفرق وبيان أخطارها على الدين والمجتمع، حتى ليخيل لغير المتتبع لهذه الحركات الهدامة أنه لا توجد بين المسلمين أي فرقة خارجة عن التدين الصحيح، ولهذا يرددون عبارة: المسلمون بخير دائماً.
ولقد عزى الشيخ إحسان إلهي-رحمه الله- سبب انتشار القاديانية في بلدان المسلمين وخصوصاً أفريقيا وأوروبا إلى أهم الأسباب الآتية:
مساعدة الاستعمار بشتى أشكاله لهم؛ حيث يمدونهم بكل أنوع المساعدات.
قلة وجود العلماء المسلمين الحقيقيين وشغور مناصبهم في تلك البلاد.
جهل أكثر المسلمين لحقيقة القاديانية الأصلية وأهدافهم.
غفلة العالم الإسلامي عن أفريقيا، في الوقت الذي تنشر فيها القاديانية أكثر من خمس(197) مجلات راقية، بينما لا توجد مجلة واحدة للمسلمين في أفريقيا كلها تجابههم.
وجود مئات المبلغين القاديانيين الذي يتجولون من أدنى أفريقيا إلى أقصاها عبر القارات الأخرى.
أقاموا فيها 47 سبعاً وأربعين مدرسة وبنوا 260 مائتين وستين مسجداً (198) ، هذا غير ما يتبع ذلك من المكتبات العامة والخاصة والمؤلفات والنشرات، وترجمة القرآن إلى لغات شتى.
كما فتحوا في الآونة الأخيرة مستشفيات ودوراً اجتماعية في مختلف أنحائها، وأصبح أتباعهم- حسب نشراتهم - أكثر من مليوني شخص في مدة لا تجاوز خمس عشرة سنة(199) .(45/242)
هذا كله يجري في الوقت الذي شحت فيه الدول الإسلامية بإرسال الدعاة إلى تلك الأماكن النائية من العالم الإسلامي ليواجهوا نشاط آلاف القاديانيين، وما ذلك عن فقر في الدول الإسلامية، ولكنه ضعف الحماس للدين الإسلامي، وانشغالهم بأنفسهم وبأمور أخرى افتعلها أعداء الإسلام لإلهاء زعماء المسلمين بها، واشغالهم بعيدين عن واجبهم الذي يحتمه عليهم دينهم الإسلامي.
ولو توجهت الدول الإسلامية إلى خدمة الدين الذي ارتضاه الله لهم، وبذلت بعض الأموال التي تذهب إلى هنا وهناك فيما لا يعود أكثره لخير الإسلام والمسلمين، لو توجه هؤلاء بنية صادقة وعزم قوي، لتغير الحال المهين الذي تعيشه الأمة الإسلامية في كل مكان، ولصار المسلمون هم سادة العالم ومشاعل أنواره ومحط آمال الفقراء والمستضعفين في العالم كله، ومنفذاً لكل من أحاطت به ظلمات الجهل والظلم المشين.
إلا أن العالم الإسلامي مع الأسف الشديد صار حاله مع دينه، مثل حال العلم عند كثير من أتباعه حين وصفهم الجرجاني بقوله:
ولكن أهانوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما
لقد كان للقاديانيين نشاط قوي في الصحافة والمجلات، لعلمهم بتأثير هذه الوسيلة في مفاهيم الأمة، ومن هنا فقد أصدر القاديانيون عدة مجلات بعدة لغات وفي عدة دول نذكر هنا الأرقام التي أفادها النجرامي، إضافة إلى ما سبق ذكره عن إحسان إلهي:
فلهم في نيجيريا مجلة أسبوعية باللغة الإنجليزية.
ولهم في غانا مجلة شهرية باللغة الإنجليزية.
ولهم في سيراليون مجلة شهرية باللغة الإنجليزية.
ولهم في كينيا مجلة تصدر كل ثلاثة أشهر باللغة الإنجليزية.
ولهم في شرق أفريقيا مجلة شهرية باللغة السواحلية.
ولهم في موريشيوس مجلة شهرية باللغة الإنجليزية والفرنسية.
ولهم سيلون مجلة شهرية باللغة الإنجليزية.
ولهم في إندونيسيا مجلة شهرية باللغة الإندونيسية.
ولهم في إسرائيل مجلة شهرية باللغة العبرية.(45/243)
ولهم في سويسرا مجلة شهرية باللغة الألمانية.
ولهم في لندن مجلة شهرية باللغة الإنجليزية.
ولهم في الدنمارك مجلة شهرية باللغة الدنماركية.
هذا بالإضافة إلى الكتب الكثيرة والمبالغ الضخمة التي ترسلها دائماً إلى بلدان كثيرة، لنشر القاديانية بين شعوب تلك البلدان.
كما أن لهم نشاطات أخرى؛ وهي بناء المدارس والمساجد، فقد بلغ عدد المدارس في أفريقيا حوالي 47 مدرسة كما تقدم.
كما بلغ عدد المساجد التي بنوها في العالم حوالي 343 مسجداً، بَنَوْا في أمريكا وفي هولندا وسويسرا وبورما- كل بلد من هذه البلدان- مسجداً واحداً، وفي ألمانيا-ألمانيا الغربية-مسجدين، وفي سيلون مسجدين – وكذا الملايو –وفي الولايات المتحدة الأمريكية ثلاثة مساجد، وفي بورنيو ستة مساجد، وفي موريشيوس عشرين مسجداً، وفي شمال أفريقيا أربعين مسجداً، وكذا في نيجيريا وفي سيراليون ستين مسجداً، وكذا في أندونيسيا، وفي غانا 161 مائة وواحداً وستين مسجداً.
وهذه المساجد إنما أقيمت لتكون وكراً للقاديانية ومحلاً للتخطيط وحبك الدسائس على الأمة الإسلامية، وإقامة الزعامة القاديانية على حساب الإسلام، فهي أشبه ما تكون بمسجد الضرار الذي هدمه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر ربه حينما بني على نية سيئة.
يقول النجرامي:( فليتنا نعمل بهذه المساجد كما عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بمسجد الضرار، حتى لا تكون نقطة الانطلاق لهذه الحركة الضالة، تنطلق من خلالها للكيد للمسلمين وتفتيت وحدتهم وبذر الشقاق بين جموعهم)) (200) .(45/244)
ومما لا ريب فيه أن هذه الأعمال التي قام بها القاديانيون وهذا النشاط الذي أبداه هؤلاء في نشر باطلهم، يحتاج ضرورة إلى أعمال خيرة تقابله وتصده، وإلا لكان المجال مفتوحاً أمام هؤلاء الذين ازداد نشاطهم أكثر مما ذكر سابقاً، وزاد طمعهم في بلدان المسلمين، والاستحواذ على شباب المسلمين، خصوصاً والأوضاع الداخلية تساعدهم على ذلك كثيراً في ظل الحكام الذين هم رؤوس حراب فوق الشعوب الإسلامية.
فإن كثيراً من حكام الدول الإسلامية لم يبق فيهم ما يتفاءل به الإسلام والمسلمون، لأنهم إن لم يبدءوه بالحرب كان أقل ما فيهم نحوه الاستهتار بمبادئه وإظهار الجفاء لتعاليمه والتقطيب في وجوه من يمثلونه؛ لأن هؤلاء لا يثمنون عند عتاة الكفر والإلحاد إلا بقدر ما يهدمون من تعاليم الإسلام.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل العاشر
وفاة القادياني
وقعت في عام 1907م بين القادياني وبين العلامة ثناء الله الأمر تسري مناظرات خرج الغلام منها مدحوراً مغضباً، ثم تحدى القادياني الشيخ ثناء الله بأن الله سيميت الكاذب منهما في حياة الآخر، ودعا الله تعالى أن يقبض المبطل في حياة صاحبه، ويسلط عليه داء مثل الهيضة والطاعون يكون فيه حتفه.
وفي شهر مايو 1908م أجيبت دعوته فأصيب بالهيضة الوبائية الكوليرا في لاهور، فمات في بيت الخلاء وكان جالساً لقضاء حاجته: ?وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ? سورة إبراهيم: 15.
ونقلت جثته إلى قاديان حيث دفن في المقبرة التي سماها بمقبرة الجنة بهشتي مقبرة (201) ، وعاش ثناء الله بعده أربعين سنة في نضال القاديانيين والرد عليهم، وانطبق على القادياني قوله: ((إن كنت كذاباً ومفترياً كما تزعم في كل مقالة لك فإنني سأهلك في حياتك؛ لأنني أعلم أن المفسد الكذاب لا يعيش طويلاً، في عاقبة الأمر يموت ذلاً وحسرة في حياة ألد أعدائه، حتى لا يتمكن من إفساد عباده)) (202) .(45/245)
وبعد هلاك الميرزا خلفه في زعامة القاديانية صديقه الحميم وشريكه في قيام نبوته الحكيم نور الدين البهيروي.
والملاحظ أن القادياني أثبت أنه كان كذاباً في دعواه النبوة حتى في موته، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه)) كما رواه الصحابي الجليل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (203) .
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الحادي عشر
بعض زعماء القاديانية
برز كثير من زعماء القاديانية وكبرائهم متخذين من حيل القادياني وضلالاته منهجاً لهم .
وطمع بعضهم في نفس المكانة التي احتلها زعيمهم-أي مرتبة النبوة- إلا أن بريطانيا لم تشأ أن تقويهم إلى حد نصرتهم على ادعاء النبوة، كما فعلت مع الغلام؛ لئلا يذهب تأثير القاديانية من نفوس أتباع القادياني بحيث تصبح النبوءة متعددة في عصر واحد، مما يستدعي فتور الناس عن التصديق، أو الشك في نبوة الغلام، فتخسر ما بنته في أعوام عديدة، وكانوا أذكى من أولئك الذين تشوقوا للنبوة.
وفيما يلي نذكر بعض أولئك الزعماء بصورة موجزة؛ إتماماً للتعريف بالقاديانيين وهم بالإضافة إلى الغلام أحمد القادياني المؤسس الأول للقاديانية:
1- الحكيم نور الدين البهيروي :
هذا الرجل هو الشخصية البارزة بعد الغلام وصار هو الخليفة للقاديانية بعد موت الغلام، ويعتقد بعض الباحثين أنه صاحب الفكرة والتصميم في الحركة القاديانية كلها، وكان محباً للعز والجاه يتمنى ذلك بأي ثمن كان، وقد وجد في الغلام ما يمكنه من تحقيق ما يهدف إليه من الشهرة، فالتحق به وصار أكبر أعوانه والمخطط والمنفذ لأكثر آراء المتنبي، وكان المتنبي يبالغ في إكرامه إلى أبعد الحدود.(45/246)
ولد الحكيم نور الدين في عام 1258هـ في بهيرة من مديرية شاه بور في البنجاب غربي الباكستان وتسمى هذه المديرية الآن سركودها (204) ، وأبوه غلام رسول كان إماماً في مسجد بهيرة، وقد درس الحكيم نور الدين الفارسية وتعلم الخط ومبادئ العربية.
وعين أستاذاً للفارسية في مدرسة حكومية في روالبندي في عام 1858م ثم عين مديراً لمدرسة ابتدائية لمدة أربع سنوات، ثم تركها وانقطع للدراسة وملازمة بعض الشيوخ في ((رامبور))، ثم سافر إلى لكهنو ودرس الطب عن الطبيب المشهور الحكيم على حسين مدة سنتين، ثم سافر إلى بهوبال، ثم إلى الحجاز، وفي كل ذلك يتلقى العلم عن علماء هذه البلدان.
ثم عين طبيباً خاصاً في ولاية جمون-كشمير الجنوبية- واشتهر بها، وفي هذا الوقت تعرف على الميرزا غلام أحمد القادياني الذي كان مقيم في سيالكوت وتوثقت بينهما الصداقة وشرع يحرض القادياني على ادعاء النبوة ويؤلف الكتب لتصديقه وتكفير من لا يؤمن بنبوته، ولقب بالخليفة الأول وخليفة المسيح الموعد بمباركة الاستعمار البريطاني.
وكان آخر حياته أن سقط عن فرسه وجرح واعتقل لسانه قبل وفاته بأيام، ومات في 13 من مارس عام 1914م واستخلف الميرزا بشير الدين محمود نجل الميرزا غلام أحمد.
صفاته :
وكان الحكيم المذكور- كما وصفه الندوي- قلق النفس، ثائر الفكر، عقلي النزعة، تأثر بالمدرسة التي تدين بضرورة اخضاع الدين والعقيدة والقرآن للعلوم الطبيعية التي دخلت عن طريق الإنجليز، وتأويل كل ما عارض المقررات الطبيعية في ذلك العصر وكان كثير الرغبة في المباحثات والمناظرات(205) .
وقد ظل متحمساً للقاديانية زعيماً لها بعد وفاة الميرزا القادياني إلى أن توفي.
محمود أحمد :(45/247)
ابن غلام أحمد أو الخليفة الثاني للقاديانية. تولي زعامة القاديانيين بعد وفاة نور الدين، وأعلن أنه خليفة ليس للقاديانيين فقط، وإنما هو خليفة لجميع أهل الأرض بما فيهم بريطانيا، التي تفانى في الجاسوسية لها؛ حيث أعلن قوله: ((أنا لست فقط خليفة القاديانية ولا خليفة الهند بل أنا خليفة المسيح الموعود، فإذاً أنا خليفة لأفغانستان والعالم العربي وإيران والصين واليابان وأوروبا وأمريكا وأفريقيا وسماترا وجاوا، وحتى أنا خليفة لبريطانيا أيضاً وسلطاني محيط جميع قارات العالم)) (206) .
ثم ادعى أن لقمان هو والده، وأنه هو ولد لقمان الذي ذكره الله بقوله: ? وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ ? سورة لقمان : 13 ، ومما يذكر عن سيرته أنها كانت مملوءة فحشاً وشناعة وفجوراً مما جعل القاديانيين يتألمون منه...
ومما كان يوصي به أتباعه أنه يقول لهم: ((إن آلام الحكومة الإنجليزية آلامنا))، وكان يشاركهم في أفراحهم ويرى خدمتهم شرفاً له على نفس المسلك الذي كان عليه والده من قبل-ومن يشابه أباه فما ظلم-، واستمر في غيه إلى أن عاقبه الله بعده أمراض ألزمته الفراش إلى أن هلك سنة 1965م.
الخواجة كمال الدين :
كان يدعي لنفسه أنه مثل غلام أحمد في الإصلاح والتجديد، وقد أخذ كثيراً من الأموال وذهب إلى انجلترا لتبليغ القاديانية، وسكن في ((ووكنج مشن))، ومال إلى انتهاب اللذات وبناء البيوت الفاخرة.
وكان إذا سمع بشخص أسلم ادعى فوراً أنه أسلم على يديه على الطريقة القاديانية الخارجة عن هدي الإسلام. وكان بعض هؤلاء الذين يدخلون في الإسلام من الأوروبيين-ويدعي الخواجة أنهم أسلموا على طريقة القاديانية- حين يعلمون ادعاء الخواجة يكذبونه، ويبينون أنه لا علاقة لهم بمذهب القاديانية.(45/248)
وقد ذكر سائح هندي عن الخواجة كمال الدين وطريقته في طعامه، فقال: ((إن الأستاذ كمال الدين كان جالساً مع أحد أصدقائه في المطعم يأكلان الطعام، وبعد ذهابهما سألت صبي المطعم ما ذا أكل هذان الشيخان، فقال بكل سذاجة: أطيب نوع من لحم الخنزير)) (207) .
قال إحسان إلهي: ((فهذا الصحابي الجليل للمتنبي القادياني ومن زعماء القاديانية اللاهورية مات بعد أن ترك تركة ضخمة)) (208) ، وأيضاً كان يأكل أطيب نوع من لحم الخنزير، وأين الطيب؟ وأين لحم الخنزير؟
وقال فضل كريم خان في تكذيبه لإدعاء القاديانيين أن الناس أسلموا على أيديهم في ((ووكنج مشن))-قال:
((لا يوجد في عظماء الإنجليز الذين أسلموا من يرجع الفضل في إسلامه إلى ووكنج مشن. وقد أعلن اللورد هدلي أنه درس الإسلام بنفسه واعتنق الإسلام، وقال: ولم أتعرف على الخواجة كمال الدين إلا قبل إسلامي بأسبوعين فقط. وقد أسلم المستر مار ماديوك بكتهال في مصر وبفضل الأتراك والمصريين وتأثيرهم. وقد اعتنق سرارجيبا لدهملتين بضرورة عائلية، وهكذا إذا فحصنا وجدنا أن ووكنج مشن ليس لها في إسلام هؤلاء فضل ولا نصيب))(209).
ويقول في نفس هذه المقالة راداً على الذين يزعمون أن مسجد ووكنج مشن من بناء القاديانيين، ومبيناً صلة القاديانيين به بعد ذلك:
((لست أدري كيف شاع في الهند أن جامع ووكنج من بناء القاديانيين!، الواقع أن هذا الجامع إنما بني بالمال الذي تبرعت به إمارة بوفال الإسلامية، أما المسكن الذي بجوار الجامع فهو في تذكار وزير حيدر آباد المشهور سرسالا رجنك، وقد بني كل ذلك تحت إشراف العالم الألماني الدكتور لائتس، لقد أسكن المؤلف الإسلامي المشهور السيد أمير علي الخواجة كمال الدين في هذا الجامع. وإلى الأول يرجع الفضل في بقاء هذا الجامع مركزاً للمسلمين)) (210) .
وهناك شخصيات أخرى قاديانية – مثل :(45/249)
محمد أحسن أمر وهو الذي كان مصدر عون لقادياني، حيث كان يرسل إليه مسودات كتبه، ليصلح ما يحتاج إلى إصلاحه فيها ثم يرسلها للغلام ليجعل اسمه على الكتاب.
وقد كان في عيشة راضية طوال عهد الغلام، إلا أنه وفي خلافة ابن الغلام محمود وأحمد وقع بين شركة النبوة القاديانية من التشاجر والسباب والتفرقة ما كان طبيعياً- في مثل تلك العلاقات القائمة على الكذب والحيل-أن يقع.
ومنهم: محمد صادق، وكان مفتياً للقاديانية، وعبد الكريم السيالكوتي إمام مسجد الغلام وخطيبه وصديق الغلام الخالص الذي مدحه بقوله: ((لم يولد في القاديانية رجل ثالث يضاهي حضرة الشيخ عبد الكريم))، وهو أول من خاطب الغلام برسول الله ونبي الله، فأذاقه الله في الدنيا عذاباً تقشعر منه الجلود.
كتب ابن الغلام أحمد بشير أحمد عن مرض عبد الكريم فقال: ((فابتلي الشيخ عبد الكريم في مرض كاربينكل وما بقي في جسمه موضع إلا شق من العمليات الجراحية، وكان يصرخ في مرضه صرخات لا يحتمل الإنسان سماعها؛ ولأجل ذلك غير حضرة المسيح الموعود مسكنه؛ لأن الشيخ عبد الكريم كان يسكن في نفس البيت الذي كان يسكنه المسيح الموعود، وكان الشيخ عبد الكريم يبكي ويصرخ لكي يزوره حضرة المسيح ولكن حضرة المسيح لم يذهب لعيادته؛ لأنه كان يقول: ((أنا أريد أن أذهب إليه ولكني لا أطيق أن أراه في هذه الحالة)).
وبعض الأحيان كان الشيخ عبد الكريم يفقد شعوره لشدة مرضه، وكان يقول: هاتوا إلي المركب حتى أذهب إلى حضرة المسيح؛ لأني منذ أيام ما رأيته، كأنه كان يظن أنه يسكن بعيداً عن حضرته في خارج القاديان، وهكذا استمر به المرض حتى هلك.(45/250)
ومنهم: يار محمد، وهو من المؤسسين الأوائل لنبوة الغلام، وبعد هلاك الغلام استسهل يار محمد أمر النبوة فادعى هو الآخر أنه نبي لحضرة الغلام، وكان من أساتذة ابن الغلام محمود أحمد الذي رد بعد ذلك على يار محمد وخطأه في دعواه النبوة، وأن ذلك إنما كان عن سبب اختلال وقع به.
ومنهم نور أحمد القادياني الذي أعلن أنه رسول الله أيضاً فأعلن قوله: لا إله إلا الله نور أحمد رسول الله، أنا رسول الله أُرسلت رحمة للعالمين كما أنا مظهر لجميع الأنبياء، فردّ عليه ابن الغلام وخطأه وزعم بأن به مرض الجنون حسداً من ابن الغلام له.
ومنهم عبد الله تيمابوري، ادعى النبوة حسب بشارات غلام أحمد فقال: أنا هو الذي بشر عنه حضرة الأقدس المسيح الموعود غلام أحمد بأنه يرسل نبي، فها أنا أرسلت ببركة غلام أحمد وفيضانه، وسوف يظهر على يدي صداقة حضرة الغلام على الدنيا.
ولقد هان أمر النبوة في نظر صحابة الغلام، فادعى كل واحد أنه هو النبي المبعوث بعد الغلام، وكوّنوا جماعة قاديانية أخرى حصل بينهم نزاعات كثيرة إلا أنه كان يجمعهم تقريباً انتسابهم إلى الغلام، وأن الغلام القادياني نبي الله ورسوله كما أنهم أنبياء الله ورسله ولا نجاة لمن لم يؤمن بنبوة الغلام أحمد، كما لا نجاة لمن لم يؤمن بنبوتهم ورسالتهم هم أيضاً.
والفرق بينهم وبين المتنبي الغلام القادياني-بزعمهم- أن الغلام اكتسب النبوة بلا واسطة، وهم اكتسبوها بواسطته، فهو كالأستاذ لهم وهؤلاء كالتلاميذ له، وكانوا خلفاً جيداً للغلام وجيداً للاستعمار البريطاني، ولكن بريطانيا لم تقدم على دعمهم دعماً كاملاً، ولم تدع إلى نبوتهم كما دعت إلى نبوة الغلام؛ لئلا يستهين الناس بالقادياني؛ فتبطل دعواه النبوة وينفر الناس عنها كما تقدم.(45/251)
هؤلاء هم أشهر زعماء القاديانية، وهناك مئات من الزعماء الأشقياء لهذه الفرقة الضالة، وقد خذلهم الله في أماكن كثيرة وانبرى لهم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم يردون عليهم ويبينون خروجهم عن الإسلام ويحذرون منهم، مما جعل القاديانيين يتتبعون بدعوتهم الديار النائية للمسلمين ومن تكثر بينهم الأمية، وقد نجحوا في دعوتهم بينهم.
والحرب بين قوى الخير وقوى الشر من الأمور التي لا تنتهي بين البشر، ولله الحكمة في ذلك والحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار.
?رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ?سورة آل عمران:8
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الثاني عشر
الفرع اللاهوري القادياني
أمير هذا الفرع هو محمد علي من أوائل المنشئين صرح القاديانية، وممن كان له يد ومنّة عظيمة في توجيه الغلام المتنبي ومساعدته بالفكر والقلم أيضاً،وكان هو الآخر من أشد المخلصين للإنجليز والمحرضين على بذل الطاعة التامة لهم، وقد كانت لهم مواقف مع الغلام وأسرته؛ إذ كان أحياناً يتبرم من استبداد المتنبي بالأموال التي تصل إليه من أتباعه، فيصرح للمتنبي بهذا ويرد عليه المتنبي هذه التهمة.
وبعد وفاة الغلام استفحل الخلاف بين أسرة المتنبي ومحمد علي، حول اقتسام الأموال التي جاءتهم حيث استغلها ورثة المتنبي مع علمهم ((بأن هذه النبوة شركة تجارية وهم كلهم شركاء فيها)) (211) ، ولعل هذه الخلافات الشخصية لم يكن لها تأثير على إتمام الخطة وإحلال القاديانية محل الإسلام، خصوصاً والقوة التي أنشأت الغلام وفكرته لا تزال هي القوة، والمتآمرون لا يزالون في إتمام حبكها وتنفيذها.(45/252)
أما بالنسبة لحقيقة معتقد هذا الرجل في غلام أحمد، وهل كان متلوناً أو كان له مبدأ أُمليَ عليه، أو كان مقتنعاً به دون تدخل أحد، فإن الذي اتضح لي من كلام العلماء الذين نقلوا عنه آراءه أنهم مختلفون على النحو الآتي :
منهم من يرى أن (محمد علي) اختير من قبل الساسة الإنجليز لإتمام مخطط القاديانية بطريقة يتحاشى بها المواجهة مع مختلف طوائف المسلمين في الهند والباكستان وغيرهما، ويتحاشى بها كذلك مصادمة علماء الإسلام الذين نشطوا في فضح القاديانية وإخراجها عن الدين الإسلامي، فاقتضى الحال أن يتظاهر محمد علي وفرعه بأنهم معتدلون لا يقولون بنبوة الغلام، وإنما يثبتون أنه محدد ومصلح؛ لاستدراج الناس إلى القاديانية ولامتصاص غضب المسلمين على القاديانية، فتظاهر بعد ذلك محمد علي وفرعه بهذه الفكرة بغرض اصطياد من يقع في أيديهم (212) .
ومنهم من يرى أن (محمد علي) وفرعه كانوا يعتقدون أن الميرزا غلام أحمد لم يدَّعِ النبوة، وكل ما جاء عنه في ذلك إنما هي تعبيرات ومجازات، وكابروا في ذلك اللغة وكابروا الواقع .
وقد لقبهم القاديانيون بالمنافقين ((لأنهم يحاولون الجمع بين العقيدة القاديانية والانتساب إلى مؤسسها وزعيمها، وبين إرضاء الجماهير)) ومع هذا الموقف فإن محمد علي اللاهوري، دائماً يلقب الميرزا غلام أحمد بمجدد القرن الرابع عشر والمصلح الأكبر، وزيادة على ذلك يعتقد أنه المسيح الموعود)).
قال الندوي عنهم: ((وعلى ذلك تلتقي الطائفتان)) (213) .
وذهب الأستاذ مرزا محمد سليم أختر في كتابه: ((لماذا تركت القاديانية؟)) إلى رأي آخر حيث قال بعد أن ذكر ما وقع بين محمد علي وجماعة الربوة من خلاف على منصب الخلافة بعد نور الدين-قال: ((وأنكر نبوة الميرزا ليكسب العزة عند المسلمين))، ثم قال: ((ولم ينكر أحد هذه الحقيقة: أن (محمد علي) أقر بنبوة الميرزا، وإنكاره لنبوته يعتبر كالعقدة في الهواء)) (214) .(45/253)
والواقع أن القول بأن الفرع اللاهوري-وعلى رأسهم محمد- علي ما كانوا يؤمنون بنبوة الغلام عن اقتناع قول بعيد جداً؛ ذلك أن مواقفهم وتصريحاتهم كلها تشهد بإقرارهم بنبوة الغلام وليس فقط أنه مصلح ومجدد.
كما أن تصريحات الغلام نفسه بنبوته لا تخفى على من هو أبعد من الفرع اللاهوري، فكيف يقال بأنها خفيت عليهم؟!
كما أن معتقد الفرع اللاهوري ليس له أي أساسا آخر غير الأساس الذي بناه غلام أحمد وأسهم فيه محمد علي نفسه.
والباطل لا بد وأن يتناقض أهله فيه، فقد صرح محمد علي نفسه بقوله عن الغلام: ((نحن نعتقد أن غلام أحمد مسيح موعود ومهدي معهود وهو رسول الله ونبيه، ونزله في مرتبة بينها لنفسه؛ أي إنه أفضل من جميع الرسل،كما نحن نؤمن بأن لا نجاة لمن لا يؤمن به))(215)
ونصوص أخرى كثيرة كلها تثبت أن هذا الفرع لا يختلف في النتيجة عن الحركة القاديانية الأم في قاديان، وأنه كان يراوغ في إظهار معتقده نفاقاً وإيغالاً في خداع العامة، حتى إنه كان يوصي أتباعه في جزيرة مارشيس ألا ينشروا هناك أن الغلام نبي، وأن من لم يؤمن به فهو كافر؛ لأن هذا المسلك يضر بانتشار القاديانية (216) ، أي ولكن ينشروا أنه مجدد، لتقريب وجذب المسلمين إليهم.
ومن أقوال هذا الفرع أيضاً: ((يا ليت أن القاديانية كانت تُظهر غلام أحمد بصورة غير النبي...ولو فعلوا هذا لكانت القاديانية دخلت في أنحاء العالم كله)) (217).
وبهذا يتضح أن هذا الفرع أمكر وأكثر احتيالاً لنشر القاديانية، وهو الذي أتيح له التوغل في العصر الحاضر إلى أقصى البلدان الإسلامية في آسيا وفي أفريقيا.(45/254)
وقد قام محمد علي بنشاط كبير في عرض القاديانية. ولعل من أهم أعماله ترجمته للقرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية(218) ؛ حيث ملأها بالأفكار القاديانية، مما جعل الكثير من الناس يقعون ضحية تلك الأفكار ظانين أنها ترجمة رجل مسلم، لقد اتجه هذا الرجل في تفسيره للقرآن وجهة خطيرة لم يتورع فيها عن الكذب والتعسف ومخالفة أهل العلم واللغة والإجماع، وإنما فسره بمعان باطنية، فيها التركيز على إنكار الإيمان بالغيب وبالقدرة الإلهية، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، منها على سبيل المثال:
قوله تعالى لموسى: ?اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً? سورة البقرة:60 أي أن الله أمر موسى بالمسير إلى جبل فيه اثنتا عشرة عيناً.
? وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ? سورة البقرة:63 ؛ أي كنتم في منخفض من الأرض والجبل يطل عليكم.
? فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ? سورة البقرة:65 ؛ أي مسخت قلوبهم وأخلاقهم.
? أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ ? سورة آل عمران :49 . المراد بالطير هنا استعارة؛ أي رجال يستطيعون أن يرتفعوا من الأرض وما يتصل بها من أخلاق وأشياء، ويطيروا إلى الله ويحلقوا في عالم الروح.
المراد باليد البيضاء التي أُعطي موسى أي الحجة، والحبال والعصي في قوله تعالى: ?فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ? سورة : الشعراء : 44 . أي وسائلهم وحيلهم التي عملوها في إحباط سعي موسى (219) .
وفي قوله تعالى: ?فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ?سورة سبأ:14 . الآية: دابة الأرض: هو رجل اسمه رحبعام بن سليمان الذي تولى الملك بعده، وسمي دابة الأرض لقصر نظره؛ إذ كان لا يجاوز الأرض.
والمنسأة التي هي العصا كناية عن ضعف الحكومة وانقراضها.(45/255)
والجن: شعوب أجنبية بقيت في حكم بني إسرائيل إلى ذلك العهد.
وهدهد سليمان: هو إنسان كان يسمى الهدهد وكان رئيس البوليس السري في حكومة سليمان.
وقد تلاعب بمعاني القرآن الكريم على هذا التفسير الباطني الهزلي المملوء بالأكاذيب والخرافات، وقد تلقفه المسلمون –خصوصاً من لم يعرف العربية- بكل سرور، لعدم علمهم بأن تفسير محمد علي للقرآن الكريم باللغة الإنجليزية، إنما يراد به هدم معاني الشريعة الإسلامية والمفاهيم الصحيحة، وقد ذكر الأستاذ الندوي في كتابه القادياني والقاديانية كثيراً من مثل هذا التلاعب بالقرآن للتحذير وإبراء الذمة (220) .
* * * * * * * * * * * * * * * * **
من أهم مراجع القاديانية
ما هي القاديانية/ أبو الأعلى المودودي.
القادياني والقاديانية/ أبو الحسن علي الندوي.
القاديانية دراسة وتحليل/ إحسان إلهي ظهير.
القاديانية/ عبد الله صالح الحموي.
معتقدات الجماعة الأحمدية الإسلامية/ بشير محمود أحمد.
لماذا تركت القاديانية؟/ ميرزا محمد سليم أختر.
المحكمة الشرعية الفيدرالية بجمهورية باكستان الإسلامية تقرر: ((القاديانية فئة كافرة)) تعريب الأستاذ محمد بشير.
القاديانية الخطر الذي يهدد الإسلام/ د.أحمد محمد عوف.
حب العرب إيمان/ للميرزا غلام أحمد-خطبة جمعة.
أباطيل القاديانية في الميزان/ د.محمد يوسف النجرامي.
دعوة الأمير (معتقدات الجماعة الأحمدية الإسلامية) للميرزا بشير محمود أحمد.
ضميمة الوحي/ للقادياني.
توجد بحوث عن القاديانية منها:
القاديانية في إندونيسيا للشيخ شفيق أمر الله شمس الدين.
القاديانية في غانا للشيخ سحنون تاج الدين.(45/256)
كما أنني قدمت أثناء الكتابة عن القاديانية ما ترجمه المشائخ: أبو الأعلى المودودي، والشيخ الندوي، والشيخ إحسان إلهي، على ما ترجمه غيرهم؛ للثقة القوية بغزارة علم هؤلاء، وإحاطتهم بمفاهيم القاديانية كلها، وعظيم شرفهم في الخلق والدين، فالاعتماد على ترجمة هؤلاء أولى من غيرهم في نظري، خصوصاً لمن لم يعرف اللغة الأردية.
* * * * * * * * * * * * * * * * **(45/257)
فرق معاصرة
تنتسب إلى الإسلام
وبيان موقف الإسلام منها
تأليف
د. غالب بن علي عواجي
عضو هئية التدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية
الجزء الثالث
http://www.saaid.net
الفصل الأول
تمهيد في بيان انحراف الصوفية بصفة عامة
الصوفية التي نبحثها هنا هي الصوفية التي خرجت عن الحق إلي الغلو متأثرة بشتى الأفكار المنحرفة التي هي في الواقع أفكار بدعية طرأت على المسلمين في غياب الوعي الإسلامي وبروز الجهل وعلماء السوء المغرمين بالخرافات وحب الزعامة وهي ذات مفاهيم خاطئة مضطربة تأثرت بمسالك منحرفة وبالغت فيها إلى حد الهوس والاضطراب الفكري الشنيع وكأن حافظ إبراهيم حينما ندب اللغة العربية بقوله:
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة
مشكلة الألوان مختلفات
كأنه عنى المذهب الصوفي في انحرافه وتنوع مصادره وتلفيق أفكاره من شتي المذاهب ولقد جرأ أصحاب هذه الطريقة الصوفية على القول على الله بغير علم كما كذبوا وأكثروا على رسوله صلى الله عليه وسلم لتقوية مبادئهم الكثيرة وتأييدها وبالغوا في الكذب وزخرف القول وتفننوا في الطرق والآراء حتى ليخيلوا للشخص أنهم على شيء وهم في فراغ وجهل شديد.
وطرقوا مسائل ليست من الإسلام في شيء ولم يقل بها أحد من المسلمين وأظهروا بزخرفهم أنها من الإسلام بما قدموه من تقليب الأدلة وإثارة الشبهة والتفنن في الاستدلال والجواب، وقالوا بوحدة الوجود والحلول والاتحاد ووحدة الشهود، والكشف والقطب والغوث، وغير ذلك من الأمور التي طرقها كبار دعاتهم، مثل: الحلاج وابن عربي وابن الفارض والبسطامي والجيلي، وغيرهم ممن لبس عليهم إبليس فقالوا بوجود الله تعالى في كل شيء، حتى صار في عرف غلاتهم أن من لا يعتقد اتصاف الخلق بأوصاف الخالق، لا يمكن أن يعد صوفياً وولياً من أولياء الله، كما ذكر الأستاذ إحسان إلهي ذلك عنهم( ).(46/1)
وهكذا أصبح المذهب الصوفي بعد أن لبس إبليس على أتباعه خليطاً من شتى الأفكار والآراء المنحرفة، حيث يظهر فيه جلياً غلو الشيعة ومبادئ الباطنية وآراء المسيحية والهندوكية والبوذية، وغير ذلك من الديانات والفلسفيات القديمة كالأفلاطونية والأفلوطينية وسائر ما قال به علماء اليونان( ).
وقد قامت الدعوة للصوفية وإظهار شأنها من جديد في هذا العصر على نطاق واسع بسبب عوامل عدة:
منها: جهل كثير من المسلمين بحقيقة دينهم ثم الجهل بحقيقة الصوفية كذلك.
ومنها: مساعدة أعداء الإسلام على نشر الصوفية، لأنهم يعرفون المكاسب التي سيجنون ثمارها إذا علا سلطان الصوفية وفشا الجهل وانتشرت الخرافات الصوفية وخزعبلاتها وتأثروا بآرائها السلبية في مفهوم الجهاد في سبيل الله وفي مفهوم وحدة الأديان التابعة لمفهوم وحدة الوجود.
وأعداء الإسلام هنا فريقان:
فريق عداوته ظاهرة: وهم المستعمرون ومن يبيتون النية لهدم الإسلام وتشتيت كلمة المسلمين، وقد استفاد هؤلاء من أفكار الصوفية كثيراً حين نام المسلمون على دعوى الزهد والإقبال على الآخرة بغير بينة، والتمسح بصور الأولياء وطلب البركة والنصر منهم في حياتهم وبعد موتهم أيضاً، والعكوف على قبورهم.
وفريق آخر متلبسون باسم الدين ويحكمون كثيراً من ديار المسلمين؛ وهؤلاء يساعدون الصوفية خوفاً من عودة الوعي الإسلامي السلفي الذي يصطدم مع ميول ورغبات هؤلاء وشهواتهم.
لأجل هذا ولغيره كان تنبيه طلاب العلم إلي خطر هذا المذهب الرديء واجباً يحتمه النصح لكل مسلم يحب حماية نفسه ودينه، من الانزلاق في خضم الأفكار المبثوثة بين صفوف المسلمين، والتي كان من نتيجتها زيادة الكوارث والخبال الذي حل بديار المسلمين حين ابتعدوا عن المنهج الحق الذي شرعه الله لعباده.(46/2)
ولقد فرح أعداء الإسلام بانتشار الصوفية التي مهدت لهم السبيل بدعوى الزهد والتقشف والابتعاد عن المظاهر وعن منازعة الحكام والرضا بأفعالهم؛ فعاش المسلمون على هامش الحياة بعد أن خدرت الصوفية أعصابهم بترهاتها وخزعبلاتها التي تنافي العقل السليم والدين الإسلامي الحنيف في كثير من مبادئها وطقوسها المختلفة ونظرتها إلي الحياة.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثاني
التعريف بالصوفية لغة واصطلاحاً
اختلفت كلمة العلماء حول التعريف الحقيقي للصوفية وللتصوف اختلافاً كثيراً قلما يوجد له مثيل، وقد ذكر بعض العلماء أن تلك التعريفات قد تصل إلي الألفين، يقول محمد طاهر الحامدي: "الأقوال المأثورة في التصوف قيل: إنها زهاء ألفين"( )، وقد نقل إحسان إلهي في كتابة "التصوف: المنشأ والمصدر" أقوالاً كثيرة عن أقطاب التصوف في تعريفهم ومفهومهم للتصوف( )، ولكن مهما قيل عن كثرتها واختلاف الناس فيها فإنها كلها لا طائل من ورائها عند التمعن في دراستها، مما يستدعي الحال غض النظر عن تلك التعريفات كلها، وإلقاء الضوء على الأقرب منها، وفيما يلي بيان ذلك.
في اللغة:
يطلق علماء اللغة كلمة (صوف) في معاجم اللغة تحت مادة (صوف) على عدة معان، منها إطلاق كلمة صوف على الصوف المعروف من شعر الحيوانات، ومنها صوفان وصوفانة وتطلق على بقلة زغباء قصيرة. وقد أطلقت كلمة "صوف" في بعض دلالتها بمعنى الميل، فيقال صاف السهم عن الهدف بمعنى مال عنه، وصاف عن الشر أي عدل عنه( ).
في الاصطلاح:
يجب إدراك أن الصوفية مرت بمراحل وتطورات ومفاهيم مختلفة، ومن هنا وقع كثير من الجدل بين العلماء في التعريف بالصوفية، ومهما قيل عن كثرة التعريفات للتصوف، فإنه يصدق عليه عموماً أنه بدعة محدثة في الدين وطرائق ما أنزل الله بها من سلطان.
ونذكر فيما يلي بعض التعريفات التي أطلقت على مفهوم التصوف سواء، كانت من الصوفية أو من مخالفيهم، ومن ذلك ما يلي:(46/3)
1- التصوف هو تجريد العمل لله تعالى، والزهد في الدنيا وترك دواعي الشهرة، والميل إلى التواضع والخمول، وإماتة الشهوات في النفس.
وهذا التعريف قد لا يصدق في الواقع إلا على التصوف في عهده الأول، الذي كان التصوف فيه عبارة عن الانقطاع لعبادة الله وحده، والزهد في الدنيا والتخفف من متاعها والإقبال على الآخرة، دون أن يلبسوا ذلك بشيء من الأفكار والسلوك المشين الذي وصلت إليه الصوفية بعد ذلك.
2- وذهب قسم كثير من العلماء إلى أن سبب التسمية للمتصوفة بهذا الاسم – أي "الصوفية" – إنما كان نسبة إلى لبسهم الصوف الذي عبر عن الزهد والتقشف وترك التنعم والملذات المباحة، وقد علق القشيري على هذا بقوله: "فذلك وجه، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف".
3- وبعض العلماء يرى أن التصوف مأخوذ عن الصفاء؛ أي صفاء أسرارهم أو صفاء قلوبهم أو صفاء معاملتهم لله تعالى، وهو ما يحب الصوفيون التسمي به، بل إن كل انتساب فيما لاحظ (نيكلسون) إلى الصوف يقابله اثنا عشر تعريفاً تعتمد على الصفاء، الذي حاول الصوفية أن ينتسبوا إليه( ). إلا أن القشيري قد استبعد هذا المفهوم في اللغة بقوله: "ومن قال أنه مشتق من الصفاء فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة"( ).
4- وبعضهم يرى أنه نسبة إلى الصفة التي كان يجلس فيها فقراء الصحابة رضوان الله عليهم في المسجد، ويرى القشيري أن النسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفي( ).
5- وبعضهم يرى أنه نسبة إلى الصف الأول، قال القشيري:
"فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم، فالمعنى صحيح ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف"( ).
6- وبعضهم يرى أنه نسبة إلى قبيلة بني صوفة وهى قبيلة بدوية كانت حول البيت في الجاهلية، وهى تنتسب إلى رجل يقال له صوفة كان قد انقطع للعبادة في المسجد الحرام.
7- وبعضهم يرى أنها نسبة إلى الصفوة من خلق الله تعالى.(46/4)
وهناك تعريفات كثيرة خاض فيها العلماء باجتهاداتهم بعضها من وضع أقطاب التصوف وبعضها من غيرهم لا يهمنا سردها هنا بالتفصيل والدراسة الشاملة لها كلها( )، إذ الغرض إنما هو التنبيه إلى ما وقع من اختلاف في التعريف بهم، ولما كانت تلك التعريفات أموراً اجتهادية واستحسانات وتقريباً لهذا المذهب، فإنك تجد أنه يرد عليها اعتراضات كثيرة، وفى بعضها أخطاء واضحة.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ردود على بعض تلك التعريفات، فقد ذكر أنه إذا كانت النسبة إلى أهل الصفة – وهو خطأ تاريخي كما سنبين – ذلك – فإنه يقال صُفِّي، وأما إذا كانت إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى فإنه يقال صَفِّي، وأما إذا كانت نسبة إلى الصفوة من خلق الله فإنه يقال صَفوِيٌّ، وأما إذا كانت النسبة إلى ذلك الرجل الجاهلي فإنه لا أحد من المتصوفة يرضى أن ينسب إلى قبيلة جاهلية قبل الإسلام، إضافة إلى أنه لم تعرف هذه التسمية بين الصحابة ولا كانت هذه القبيلة مشهورة أيضاً( ).
وقد زعم كاتب نصراني هو "جورجي زيدان" "أن كلمة تصوف في العربية تعادلها كلمة "سوفيا" اليونانية والتي معناها الحكمة"( )، أي أن التصوف نسبة إلى الحكمة اليونانية، وهو زعم أبطله كثير من العلماء؛ وربما لأن التصوف إنما ظهر بعد الإسلام ولا يمنع هذا أن تتأثر الصوفية بعد ذلك بشتى التأثيرات بل هو الواقع، ولكن ليس بالمفهوم اليوناني الكامل.
هذا ونسبة التصوف إلى الصوف أقرب إلى الاشتقاق اللغوي كما أنه أقرب كذلك إلى ذوق الصوفية وحالهم في تمسكهم بلباس الصوف، وقد ذهب إلى تقرير هذا القول كثير من العلماء في نسبتهم لهذه الطائفة التي لم توجد في زمن النبى صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان؛ إذ لو وجدت في هذه الأزمنة وعرفها الناس وعرفوا مسالكها لاشتهرت تسميتها ولما حصل لبس أو خلاف في حقيقتها واتجاهاتها بين المتأخرين.(46/5)
وقد رجح شيخ الإسلام فيما يظهر من كلامه أن التصوف نسبة إلى الصوف حيث قال: "وقيل – وهو المعروف -: أنه نسبة إلى لبس الصوف".
ثم علل ذلك بقوله: "فإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار؛ ولهذا كان يقال فقه كوفي وعبادة بصرية"( ).
وأيد للسهروردي صحة القول بنسبة الصوفية إلى الصوف، وذكر أدلة كثيرة على فضائل لبس الصوف، وبالغ في مدح الصوفية حين اختاروا هذا الاسم بما يطول نقله.
ثم ذكر الأسماء الأخرى والتي منها نسبتهم إلى أهل الصفة من فقراء الصحابة المهاجرين ثم قال:
"وهذا وإن كان لا يستقيم من حيث الاشتقاق اللغوي ولكن صحيح من حيث المعنى؛ لأن الصوفية يشاكل حالهم حال أولئك"( ).
وستأتي مناقشة هذا الإدعاء للسهرودى.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثالث
هل توجد علاقة بين المتصوفة وأهل الصفة
والواقع أن هذه القضية تعتبر من القضايا الساخنة خاض غمارها المتصوفة من جانب، وغير المتصوفة من الجانب الآخر حول الصلة بين الفريقين: الصوفية، وأهل الصفة.
فهل توجد فعلاً علاقة بين الصوفية وأهلا الصفة؟
الجواب: إنه بالرغم مما بذله المتصوفة من جدل وبحوث لتقريب التصوف إلى أهل الصفة فإن ذلك لم يجدهم شيئاً.
فهناك من المتصوفة كالمنوفي، والسهروردي، وغيرهما من كبار الصوفية من يزعم وجود تلك الصلة بين الفريقين، وأن أهل الصُفة هم سلف أهل التصوف، فالسهروردي يرى أن العلاقة بين المتصوفة وأهل الصفة تتمثل في حب الانفراد والعزلة عن الناس والشوق إلى الله تعالى، وأن هذه الفكرة هي الجامع بين الصوفية وأهل الصفة فيما يرى، وقد قال في إثبات ذلك:(46/6)
"الصوفية يشاكل حالهم حال أولئك( )، لكونهم مجتمعين متآلفين متصاحبين لله وفي الله كأصحاب الصفة، وكانوا نحواً من أربعمائة رجل لم تكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر، جمعوا أنفسهم في المسجد كاجتماع الصوفية قديماً وحديثاً في الزوايا والربط.." ( ) إلى آخر كلامه.
وأما المنوفي فقد قال عنهم:
"هم قوم أخلاهم الحق من الركون إلى شيء من العروض الفانية وشغل أفئدتهم بالحياة الباقية.." إلى أن يقول: "استوطنوا الصفة فصفوا أنفسهم من الأكدار ونقوها من الأغيار، واعتصموا من حظوظ النفوس بالإيثار".
إلى أن قال: "وكان الظاهر من أحوالهم والمشهود من أخبارهم غلبة الفقر عليهم وإيثارهم القلة واختيارهم لها، فلم يجتمع لهم نوعان، ولا حضر لهم من الأطعمة لونان"( ).
والحقيقة أن السهروردي وغيره من المتصوفة لم يستطيعوا أن يأتوا برباط واحد، أو بوجه شبه يعتبر قاسماً مشتركاً صحيحاً مقبولاً بين حال أهل الصفة رضوان الله عليهم وبين المتصوفة، مع كثرة ما حاول هو وغيره وبشتى الأساليب أن يوجدوا تلك الصلة المزعومة، وأن يكون أولئك الصحابة الأفاضل هم الأساس لأقطاب التصوف والمثل الأول لهم.
مع محاولة بعضهم كذلك ربط حركة التصوف وما تحمل من حب العزلة والانفراد والخلوة بما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم، من تحبيب الخلوة إليه في غار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد.
وقد فاتهم أن هذا لا يصلح أن يكون دليلاً لهم على ذلك؛ فإن أقل ما ينقصه هو أن تلك الخلوة إنما كانت بعناية من الله له؛ ليستعد لحمل أعباء الرسالة فيما بعد، وقبل أن يكلف أيضاً بدعوة الناس وإقامة شعائر الدين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد أن اختاره الله لتبليغ الدعوة كان محط أنظار الناس في كل لحظة من لحظات عمره المبارك، وإلا فكيف انتشر الإسلام بعد ذلك ودخل الناس في دين الله أفواجاً لو بقى على تلك الخلوة وبمفهوم الصوفية أيضاً؟!.(46/7)
والحق أن المتصوفة ليس لهم مستند في تعلقهم بأساس تصوفهم سواء كان ذلك التعلق بالصحابة من أهل الصفة، أو بالرسول صلى الله عليه وسلم في خلوته في غار حراء، ومن زعم أن بدايات التصوف كان الرسول صلى الله عليه وسلم أو أهل الصفة فلا شك في خطئه.
وإذا كان المتصوفة فيما يدعون يحبون الفقر والخرقة( )،والانزواء في الزوايا والأربطة، فإن الثابت المتواتر أن أهل الصفة في مجملهم كانوا كثيراً ما يشكون حالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمل أن يساعدهم على حياة طيبة في الدنيا تكون عوناً لهم إلى الآخرة، وقد أخبر الله عنهم أنهم يتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.
وقد تحقق لمعظمهم بعد ذلك مال وافر، عملاً منهم بقول الله تعالى ( وَلاَ تَنسَ نَصِيِبَكَ مِنَ الدُّنْيَا (( )، واجتمعت لبعضهم ألوان الأطعمة المباحة ولم يزهدوا عن الدنيا نهائياً، لأنهم يعلمون أن ذلك لا ينافي الزهد، بينما معظم المتصوفة إنما يريد بإظهار ذلك الزهد وتلك الرهبانية الوصول إلى ما في أيدي الناس واستعباد أذهانهم وأفكارهم، لا زهداً حقيقياً عن الدنيا في أكثر أحوالهم؛ حيث وجد لبعضهم بعد موتهم مدخرات كثيرة مما يتنافى ودعوى الزهد؛ لأن الزهد الحقيقي هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، فلا رهبانية ولا تواكل ولا تحريم لما أحله الله من الطيبات، ولا استحلال ما لم يرد به الشرع، وهذا هو الزهد لا إظهار الفقر والعوز كما يراه غلاة المتصوفة.
إن تلك الصلة بين الصوفية وأهل الصفة التي يزعمها السهروردي والمنوفي محض خيال؛ ذلك أن أهل الصفة ما كانوا يحبون الفقر ولا يحبون الانفراد والعزلة عن الناس، وكيف يحبون العزلة والانفراد وهم في أكثر أماكن تجمع الناس؟! وأيضاً أكان مكثهم في الصفة بمحض رغبتهم أم كانت حالة طارئة أملتها عليهم الظروف المعيشية؟.(46/8)
ذلك أنه لا يخفى على طلاب العلم – أن أهل الصفة كانوا من الفقراء الذين لا يجدون مأوى غير المسجد، في الوقت الذي كانوا يبحثون فيه بكل جد من أجل الوصول إلى حال اليسار والغنى، خصوصاً وهم يتلون قول الله تعالى (وَلاَ تَنسَ نَصِيِبَكَ مِنَ الدُّنْيَا (، كما يسمعون قول المصطفى صلى الله عليه وسلم "المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير"( ).وقوله أيضاً: "اليد العليا خير من اليد السفلى( )".
فما كان أحدهم يحمل الزنبيل على ظهره ويطوف بالبيوت في طلب رزقه متكاسلاً عن العمل، متكلاً على ما في أيدي الناس أعطوه أم منعوه، كما هي حال كثير من المتصوفة بعد أن فسدت فطرهم واختلت مفاهيمهم.
حين صاروا كما مدحهم السهروردي بقوله:
"واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة وينفردون أخرى، أسوة بأهل الصفة، تاركين للأسباب متبتلين إلى رب الأرباب"( ).
وأما زعم المنوفي أن الله اختار أهل الصفة ليكونوا كذلك وهم أيضاً قد اختاروا الفقر والمسكنة – فهو زعم باطل يكذبه الله في القرآن الكريم وتكذبه السنة النبوية والتاريخ. لقد كان من أهل الصفة أميراً ومن أصبح غنياً ذا ثراء كبير وفير، ومن أصبح قائد جيوش جرارة، وهم مع ذلك في قمة الزهد والخشوع لربهم.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الرابع
أسماء الصوفية وسبب تسميتهم بها
من أشهر الأسماء لهذه الطائفة اسم "الصوفية"، ولهم أسماء أخرى غير مشهورة علي ألسنة الناس، ومن تلك الأسماء التي أطلقت عليهم أو أطلقوها هم علي أنفسهم:
1- الصوفية: وهو الاسم المشهور الذي يشمل كل فرقهم، وهم يرضون به ويتمدحون بالانتساب إليه، وقد سبق تعليل هذه التسمية.
2- أرباب الحقائق: لزعمهم أنهم وصلوا إلي حقائق الأمور وخفاياها بخلاف غيرهم من الناس الذين أطلقوا عليهم اسم "أهل الظاهر"و"أهل الرسوم"( ).(46/9)
3- الفقراء: وهو اسم زعم السهروردي أن الله هو الذي سماهم به حيث قال: "وأهل الشام لا يفرقون بين التصوف والفقر يقولون: قال الله تعالي:( لِلفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ( ( )، هذا وصف الصوفية، والله تعالي سماهم فقراء"( ).
4- ويسمون شكفتية في خرسان نسبة إلي الغار، قال السهروردي عن الصوفية في خرسان: "كان منهم طائفة بخرسان يأوون إلي الكهوف والمغارات، ولا يسكنون القرى والمدن يسمونهم في خرسان شكفتية؛ لأن شكفت اسم الغار؛ ينسبونهم إلي المأوى والمستقر"( ).
5- جوعية: قال السهروردي: "وأهل الشام يسمونهم جوعية"( ).
6- الملامية أو الملامتية: وقد عنون المنوفي لها بقوله: "أهل الملامة والملامتية"( ).
والملامتية هي إحدي تطور المذهب الصوفي ووساوسه المتشعبة وأمانيه البراقة، وهذه الملامة التي يعتنقها بعض الصوفية ويتظاهر بها هي في أحد مفاهيمها بعينه , يدخل فيه الشخص من حيث يشعر أو لا يشعر , بل وسموه النفاق المحمود( )، حين يأتى الصوفي بما يلام عليه لأجل أغراض سامية فيما يزعمون، ولكن متى كان النفاق محموداً؟!
والملامتي حسب المفهوم الصوفي عرفه السهروردي بقوله عن بعضهم: "الملامتي هو الذي لا يظهر خيراً ولا يضمر شراً"، ثم قال: "وشرح هذا هو: أن الملامتي تشربت عروقه طعم الإخلاص وحقق بالصدق , فلا يحب أن يطلع أحد على حاله وأعماله ولا يتم هذا الإخلاص إلا إذا أصبح يستوي عنده المدح والذم له من الناس، وألا يفكر في اقتضاء ثواب العمل في الآخرة"( ).
ويعللون لهذا بأنه مع الناس في الظاهر، وهو مع الله في الباطن مهما كانت أفعاله في الظاهر.ومن هنا أبو سعيد الخراز: "رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين "(46/10)
ومن شرح السهروردي هذا الكلام بقوله:"ومعني قوله: إن إخلاص المريدين معلول برؤية الإخلاص والعارف منزه عن الرياء الذي يبطل العمل، ولكن لعله يظهر شيئاً من حاله وعمله بعلم كامل عنده فيه؛ لجذب مريد أو معاناة خلق من أخلاق النفس في إظهاره الحال والعمل، وللعارفين في ذلك علم دقيق لا يعرفه غيرهم، فيرى ذلك ناقص العلم صورة رياء، وليس برياء إنما هو صريح العلم لله وبالله من غير حضور نفس ووجود آفة فيه( ).
والصحيح أنه التلاعب بعقول الناس والترويج للباطل بأبطل منه وقلب للحقائق، إذ كان الأولى أن يغلظ ذنب العارف لا أن يكون الرياء منه أفضل من غيره، ومتى كانت دعوة المصلحين تقوم علي أساس مداهنة الناس ومراءاتهم؟!وأيضاً كيف صح له أن يصف محض الرياء بأنه ليس رياء وإنما هو صريح العلم لله وبالله من غير حضور نفس؟!
فمن يقبل هذا الخداع ويتهم نظره وعقله، ويصدق بأن تلك الحال التي اعترت الصوفي إنما هي من أجل أن يجذب المريد أو يرد أن يذل نفسه، فمن أين يعلم الناس ذلك حتى يمكنهم أن يسموا الرياء عبادة لله؟؛ ولهذا فإن من الثابت عندهم أن كل ما يصدر عن الصوفي ينبغي أن يفسر بخير حتى وإن كان فعل الفواحش، فيجب الاعتقاد علي أنه لم يفعل ذلك إلا لحكمة جليلة، كما بين ذلك الشعراني في طبقاته وغيره من كبار الصوفية، في تراجمهم لسادتهم عتاة الصوفية.
وفي هذا يقول الدباغ:
"إن غير الولي إذا انكشفت عورته نفرت منه الملائكة الكرام- والمراد بالعورة العورة الحسية، والعورة المعنوية التي تكون بذكر المجون وألفاظ السفه- وأما الولي فإنها لا تنفر منه إذا وقع له ذلك؛ لأنه إنما يفعله لغرض صحيح فيترك ستر عورته لما هو أولي منه"( ).
ويؤكد الفوتي ظان الواجب في حق المشائخ والأولياء- وهو كثير جداً- منه:
1-عدم الاعتراض علي الشيخ في أي شيء يفعله ولو كان ظاهره حرام.
2-أن يكون المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل( ).(46/11)
وشروط أخري يندى لها الجبين ويموت القلب حسرة لأولئك الذين أذلتهم الصوفية وملكت عليهم كل عرق ينبض بالحياء والحياة، وذكر علماء التصوف أمثلةً وأخباراً كثيرة في وجوب التسليم والرضاء لكل ما يفعله الولي الصوفي مهما كان ذلك العمل، وهو ما قرره الفوتي وعلي حرازم والشعراني والمنوفي وأبو يزيد البسطامي والسهروردي وغيرهم من كبار الصوفية المجرمين في حق البشرية.
ومهما كان، فإن الملامتية في حقيقتها إنما هي إحدى مصايد الصوفية مهما زخرفوا القول فيها.
وقال ابن عربي عن هؤلاء الملامتية:
"أنهم رجال قطعهم الله إليه وصانهم صيانة الغيرة عليهم؛ لئلا تمتد إليهم عين فتشغلهم عن الله. لقد انفردوا مع الله راسخين لا يتزلزلون عن عبوديتهم مع الله طرفة عين( ).
ويرى ابن عربي في فتوحاته المكية أن هذا الاسم أطلق عليهم؛ لأنهم أخفوا مكانتهم الشريفة في العامة، فكأن المكانة تلومهم حيث لم يظهروا عزتها وسلطانها( ).
وقد شبههم المنوفي في كتابه جمهرة الأولياء بأهل الكهف في فتوتهم وحالهم، حين قال في التعريف بهم: "الملامة نعت لإبدال أهل الفتوة، واسم الملامية أو الملامتية أطلق علي قوم يلومون أنفسهم مع حسن أحوالهم ونموها"، وقد استفاض المنوفي في الأمثلة للملامتية وحشر كثيراً من الناس أمثلة للفتوة( ).
وقد قسم شيخ الإسلام الملامية إلي قسمين:
ملامية يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وهؤلاء هم أهل الملام المحمود.
وملامية يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصرون على الملام في ذلك والصبر عليه، وهؤلاء هم أهل الملام المذموم.
قال: "وبهذا يحصل الفرق بين الملامية الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وبين الملامية الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك"( ).(46/12)
وأشار العلامة ابن الجوزي – رحمه الله – إلى مسلك من مسالك هؤلاء الملامية، وهو: ارتكاب المعاصى بحجة عدم لفت الأنظار إلى صلاحهم – كما يتصورون – فقال
"وفى الصوفية قوم يسمون الملامتية اقتحموا الذنوب وقالوا: مقصودنا أن نسقط عن أعين الناس فنسلم من الجاه"، ثم قال معلقاً على هذا الزعم الباطل: "وهؤلاء قد أسقطوا جاههم عند الله لمخالفة الشرع"( ).
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الخامس
متى ظهر المذهب الصوفي
لقد تضاربت أقوال العلماء وتعددت مفاهيمهم حول الوقت الذي ظهرت فيه الصوفية، وكل أدلي بدلوه حسبما ترجح لديه، والواقع أنه لا يعرف بالتحديد الدقيق متى بدأ التصوف في المسلمين ولا من هو أول متصوف، وقد تقدم ذكر السبب في عدم اتفاق العلماء على تاريخ ظهور أي فرقة من الفرق بالتحديد الدقيق السالم من الاختلاف.
ونظراً لكثرة تلك التحديدات لظهور الصوفية، وما تتطلبه من دراسة قد تأخذ حجماً كبيراً فقد رأيت أن أذكر الأقوال في بدء نشأتهم سرداً مجرداً عن الدراسة التفصيلية، فقد لا يتعلق بها غرض كبير بقدر ما يتعلق الغرض بذكر آرائهم وإبطال الخاطيء منها، وبيان بُعد بعضها عن الدين الإسلامي الحنيف، والتحذير من الاغترار بها وعدم الركون إلى زخرف القول فيها، لأنها من وحي الشياطين إلي أوليائهم، وفيما يلي ذكر تلك التحديدات من أقوال العلماء:
1- أن هذه التسمية عرفت قبل الإسلام مراداً بها أصحاب الفضل والشرف.
2- أن المذهب الصوفي ظهر 150 هـ.
3- أن المذهب الصوفي ظهر 189هـ.
4- أن المذهب الصوفي ظهر بعد المائتين من الهجرة.
5- أن المذهب الصوفي ظهر قبل المائتين من الهجرة.
6- أن المذهب الصوفي ظهر بعد القرون الثلاثة الأولي أي في القرن الرابع الهجري.
7- أنه اشتد بعد النصف الثاني من القرن الثامن والتاسع والعاشر حين ظهرت آلاف الطرق الصوفية.(46/13)
8- أن التصوف كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الهجويري من علماء الصوفية، وهذا من أبطل الأقوال( ).
والذي يظهر لي من بين هذه الاختلافات أن التصوف ظهر بعد الإسلام في شكل زهد ورغبة في الدار الآخرة، وكبح جماح النفس في حب الدنيا مهما أمكن، ثم صارت الأمور على هذا المفهوم، ثم لحقه ما يلحق غيره من سائر المبادئ والأفكار من حب التطوير وإدخال شتى المفاهيم بقصد تهذيب الفكرة وتقديمها في شكل متكامل، بغض النظر عن مطابقتها للحق أو مجانبتها له.
على أن أقطاب التصوف وهم يبنون هذا المسلك لم يوفقوا إلى الابتعاد عن شتى التيارات والأفكار المخالفة للإسلام والتأثر بها، وظهورها واضحة جلية في معتقداتهم وسائر سلوكهم، علي المستوى الفردي أو الجماعي، بعد أن تنوع الأساس الذي قام عليه المذهب في أوله.
وعلي كل ما ورد من الأقوال، فإن العلماء متظافرون على أن التصوف ليس له وجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم علي الصحيح من أقوالهم؛ إذ من المحال أن يتشرف أحد من الصحابة بالانتساب إلي غير صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه التسمية حدثت بعد ذلك حين لبس إبليس على أولئك القوم وصاروا أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون.
ومن هنا يذكر السهروردي ظهور الصوفية بقوله:
"وهذا الاسم لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان في زمن التابعين … وقيل: لم يعرف هذا الاسم إلي المائتين من الهجرة العربية؛ لأن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمون الرجل صحابياً لشرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
ويقول المنوفي: "ولم تطلق كلمة صوفية علي جماعة بعينها إلا في القرن الثاني للهجرة"( ).
ولكن يذكر شيخ الإسلام – رحمة الله - تحديد بدء التكلم به بقوله:
"أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهوراً في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك"( ).(46/14)
وكذلك يذكر أيضاً أن التصوف أول ما أشتهر كان في البصرة، حتى قيل: فقه كوفي وعبادة بصرية، وأن الصوفية أول ما ظهرت من البصرة؛ لأن بعض هؤلاء كان إذا سمع القرآن يصعق وبعضهم يخر ميتاً كما حدث ذلك لغير الصوفية أيضاً، وقد حدث أن قاضي البصرة زرارة بن أوفى قرأ في صلاة الفجر: ( فإذا نقر في الناقور(( )، فخر ميتاً. وقد أنكر الموجود من الصحابة في ذلك الوقت هذا السلوك ومقتوه أشد المقت، قال ابن تيمية: "ولم يكن في الصحابة من هذا حاله"( ).
وقد تقدم في حديث العرباض بن سارية وصف حال الصحابة حين سماعهم للقرآن الكريم ولخطب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعرف الناس بالحق وأخشعهم لله، وأبعدهم عن مفتريات الصوفية وشركياتهم.
ولقد بين علماء السلف كل ذلك أكمل بيان، ولا زال علماء الحق أيضاً يجاهدون التصوف بأفكارهم وأقلامهم وإبطال الفكر الصوفي الباطني المتمثل في تقديس القبور والمزارات والأولياء، ودعوى علم الغيب وختم الولاية … إلي آخر أفكار الصوفية المنحرف منها. وكان لهؤلاء العلماء من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله – في القرن الثامن، وتلاميذه: ابن القيم، وابن كثير، والحافظ الذهبي، والحافظ المزي، وغيرهم من العلماء، وممن جاء بعدهم كالشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر- كان لعلماء الحق – من هؤلاء رحمهم الله وغيرهم – الباع الطويل في كسر شوكة التصوف وبيان انحراف المتصوفة عن الحق، وتخديرهم لأفكار المسلمين، وإذلال مشائخ التصوف لهم إلي حد العبودية، كما سيتضح ذلك من خلال هذه الدراسة للصوفية.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل السادس
حقيقة التصوف
لقد مضي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يعرف عنهم أي سلوك يتميزون به غير اتباع الكتاب والسنة والتشرف بنسبتهم إلي ذلك، غير ملتفتين إلي التنطع في سلوكهم أو مخترعين طرائق ورهبانية مبتدعة.(46/15)
إلي أن أحدث أناس في الدين بدعة التصوف منحرفين عن المنهج السليم، وراحوا يتخبطون في دوائر وهمية وفرق عديدة وأحزاب متناحرة كل حزب بما لديهم فرحون.
وقد أخذ كل فريق من هؤلاء يعبر عن التصوف حسب ما يراه، ويطول سرد تلك المفاهيم والتعبيرات والأقوال التي صدرت عن أقطاب هؤلاء؛ كالجريري، والجنيد، وعمرو بن عثمان المكي، ومحمد بن علي القصاب، ومعروف الكرخي، والسهروردي، والشبلي، والشاذلي، والتجاني، والبسطامي، وابن عربي، وابن الفارض وغيرهم.
ولهذا فإن العلماء لم يتفقوا علي بيان محدد لمفهوم التصوف عند الصوفيين؛ ذلك لإطلاق هؤلاء الصوفية عبارات شتى حسب ذوق كل فريق، وتخيلاته لمفهوم التصوف، إلا أن الحصيلة العامة لأقوالهم تلتقي حول أن التصوف هو: القرب من الله، وترك الاكتساب، والتمسك بالخلق الرفيع، والجود، ورفع التكاليف عن بعض فضلائهم حين يتصلون بالله عز وجل علي حد زعمهم، ويصلون إلي درجة اليقين وظهور المكاشفات، ثم هم بعد ذلك درجات في تطبيق هذا المفهوم.
ولقد ذكر القشيري في "رسالته" عدداً من الآراء الصوفية في مفهوم التصوف والصوفي، حيث قال:
"وتكلم الناس في التصوف ما معناه، وفي الصوفي من هو؟ فكل عبر بما وقع له، واستقصاء جميعه يخرجنا عن المقصود من الإيجاز، وسنذكر هنا بعض مقالاتهم فيه علي حد التلويح".
وإذا كان القشيري قد اعتذر عن إيراد كل ذلك لكثرته مكتفياً بذكر بعض مقالاتهم، فإنني أنا كذلك أعتذر عن إيراد كل ما ذكره القشيري لكثرته أيضاً، وأذكر من ذلك ما نقله عن الجنيد أنه قال:
"إذا رأيت الصوفي يعني لظاهره فاعلم أن باطنه خراب".
وقال القشيري:(46/16)
"سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل ابن الجلاء: ما معني قولهم صوفي؟ فقال: ليس نعرفه في شرط العلم، ولكن نعرف أن من كان فقيراً مجرداً من الأسباب وكان مع الله تعالي بلا مكان، ولا يمنعه الحق سبحانه عن علم كل مكان، يسمى صوفياً". ونقل عن أبي يعقوب المزابلي أنه قال: "التصوف حال تضمحل فيها معالم الإنسانية".
وقال القشيري أيضاً: "سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول: أحسن ما قيل في هذا الباب قول من قال: هذا طريق لا يصلح إلا لأقوام قد كنس الله بأرواحهم المزابل( )؛ ولهذا قال رحمة الله يوماً: "لو لم يكن للفقير إلا روح فعرضها علي كلاب هذا الباب لم ينظر كلب إليها".
وعن الأستاذ أبي سهل الصعلوكي أنه قال:
" التصوف الإعراض عن الاعتراض".
قال القشيري:
"ويقال: الصوفي المصطلم عنه( )، بما لاح له من الحق"( ).
وهناك أقوال أخري ذكرها القشيري كلها تدور حول مدح التصوف وبيان تعلقات الصوفية ومفاهيمهم حول المولي جل وعلا، وحول هذا الكون وواجبات الصوفي واهتماماته الدنيوية والأخروية، صيغت بزخرف من القول وإيغال في الخيال في بعضها، وحكم جيدة في البعض الآخر.
وأما السهروردي فقد أورد باباً خاصاً في كتابه عوارف المعارف قال فيه:
"الباب الخامس في ماهية التصوف"،
وقد أكد في هذا الباب علي أن أساس التصوف هو الفقر، حيث قال: "فالفقر كائن في ماهية التصوف وهو أساسه وبه قوامه"، ونقل أقوالاً كثيرة عن صفة هذا الفقر الصوفي، منها: ما قاله الشبلي حين سئل عن حقيقة الفقر فقال: "ألا يستغني بشيء دون الحق".
ونقل عن مظفر القرميسني أنه قال: "الفقير الذي لا يكون له إلي الله حاجة"( )؟
وقال السهروردي:
"وقيل: التصوف ذكر مع اجتماع ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع"
إلي آخر ما ذكر مما قدمناه ذكره عن القشيري، وقد أضاف أوصافاً أخري لا ضرورة لذكرها( ).(46/17)
وأما حقيقة التصوف وأصله عند غير الصوفية فقد اختلفت وجهة نظر العلماء في الحكم عليه.
وأهم ما قيل في ذلك:
أن التصوف علي الإطلاق أساسه الإسلام وأن أصوله العقدية وسلوكهم فيه مستمدة من نصوص الكتاب والسنة، وما أدي إليه الاجتهاد في فهمها.
وهذا القول قريب من وجهة نظر الصوفية ومفهومهم فيه رغم اعتراف بعضهم بتأثر التصوف ببعض التيارات الفكرية الخارجية عن الإسلام.
أن التصوف علي الاطلاق ليس إسلامي النشأة، وإنما وفد علي البيئة الإسلامية مع ما وفد من عادات وتقاليد الأجناس الأخرى بعدما امتزجت واختلطت عقب الفتح الإسلامي( ).
وعلى هذا الرأي بعض الملاحظات، فقد ينطبق هذا الرأي علي ذلك النوع من التصوف، الذي قام على أساس من الغلو والانحراف الذي جاء به أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد، مع تظاهرهم بالانتساب إلى الإسلام وتقديسهم لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل سبب هذا القول إنما يعود إلي الواقع الذي اشتمل عليه مفهوم التصوف.
وقد يبدوا للناظر أنه يوجد لكل من القولين السابقين ما يبررهما في العقائد الصوفية، وأهل هذا القول يرجعون نشأة التصوف إلي أنه فارسي أو هندي أو يوناني أو مسيحي أو أنه مزيج من هذا كله، وعلي رأس هذا الفريق كثير من المستشرقين ومن غيرهم أيضاً.(46/18)
ومما نكتفي بالإشارة إليه هنا بغض النظر عن ترجيح نشأة التصوف وحقيقته أن الطريقة الصوفية قد تأثرت كثيراً بالآراء والأفكار المخالفة للإسلام، حيث تظهر فيها تلك الأفكار واضحة جلية في جوانب كثيرة في الاعتقاد والسلوك، خصوصاً الأفكار الهندية والفارسية واليونانية والمسيحية، كما سيتضح ذلك من دراستنا لهذه الطائفة، بعد أن كان التصوف في بدء أمره عند بعض المسلمين عبارة عن الزهد عن الدنيا والرغبة في الآخرة، وقتل هوى النفس والاتجاه إلي الله، ولبس الصوف لتعويد النفس علي التحمل والمكابدة، إلي أن أخذ يتطور في الانحدار والبعد عن حقيقة الإسلام في كثير من الأمور التي طرقها التصوف؛ فأصبح مذموماً نفر عنه أهل الحق لخلط المتصوفة بين الزهد والتصوف المغالي.
إذ الزهد المشروع لم يذمه أحد، وتوجه الذم إلي التصوف رغم تظاهر المتصوفة بالزهد، حتى صار أطيب الطعام عندهم ما كان عن ذل السؤال وحمل الزنبيل والتسول والانزواء في أماكن عبادتهم، وانتظار ما يجود به الناس عليهم، ويظنون أنهم يحققون بذلك التوكل الذي يريده الله، وهم في الحقيقة إنما يحققون التواكل والكسل البغيض عن طلب الرزق وإعزاز النفس، إضافة إلي الابتعاد عن تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وما يهدف إليه، من إيجاد اليقين بعزة النفس وكرماتها في الدنيا والآخرة.
ومهما قيل عن حقيقة التصوف فإننا سندرس أهم الآراء الصوفية بتفصيل يتضح به الحكم علي الصوفية بصورة جلية من واقع كلامهم وسلوكهم إن شاء الله تعالى.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل السابع
أقسام المتصوفة وذكر طرقهم واختيار الطريقة
التجانية نموذجاً ودراستها شاملة من واقع كتبهم
الصوفيون طوائف عديدة وأهواء متباينة، شأن كل أصحاب البدع حين يتركون المنهج الذي شرعه الله لعباده.(46/19)
ولقد اختلف العلماء في عدهم لأقسام وطرق التصوف اختلافاً واسعاً؛ إذ تجد بعضهم يعدهم قسمين، وبعضهم يعدهم ثلاثة أقسام، وبعضهم يوصلهم إلى ستة أقسام.
وهذا الاختلاف سببه تنوع مصادر الصوفية وتنوع أفكارهم، فبعض الصوفية تابعون للمذهب الإشراقى، الذي يدعي أن المعرفة والعلم تقذف في النفس بسبب طول المجاهدة الروحية، إذ يحصل لها بذلك فيض وإشراق إلهي، ومذهبهم أشبه ما يكون بالمذهب البوذي في رياضة النفس وحملها على المكاره. هذا قسم من الصوفية.
وقسم آخر بعض العلماء يعبر عنهم بصوفية الحقائق، وهم من صفوا من الكدر وامتلئوا من الفكر كما يدعون، على طريقة الفلسفة الهندية.
وقسم آخر من الصوفية قائلون بالحلول؛ أي دعوى أن الله – تعالى عن قولهم – حل في مخلوقاته وأن أرواحهم لاهوتية وأجسامهم ناسوتية.
ومن أكابر أهل هذا المذهب الرديء الحلاج، حين قال في تفسير هذا الحلول:
سبحان من أظهر ناسوته
ثم بدأ في خلقه ظاهراً
حتى لقد عاينه خلقه
سر سنا لاهوته الثاقب
في صورة الآكل والشارب
كلحظة الحاجب بالحاجب
وصوفية وحدة الوجود هم القائلون بأن الموجودات كلها تمثل الباري عز وجل، وفى أولهم ابن عربي وهو من المؤسسين لمذهب وحدة الوجود، يقول في تقرير ذلك في كتابه الفتوحات المكية:
العبد رب والرب عبد
إن قلت عبد فذاك رب
يا ليت شعري من المكلف
أو قلت رب فأنّى يكلف
وقد قسم شيخ الإسلام الصوفية إلى ثلاثة أقسام هم:
1- صوفية الحقائق ... ... 2- صوفية الأرزاق ... ... 3-صوفية الرسم
وقال عن القسم الأول: "فأما صوفية الحقائق فهم الذين وصفناهم".(46/20)
ولعله يقصد بذلك ما قدم من ذكر خلاف الناس في الحكم على الصوفية والتصوف حيث قال: "ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه، تنازع الناس في طريقهم، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة … "، قال:وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء ". ثم قال في بيان حكمه عليهم بعد ذكر هذا الخلاف: "وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله تعالى كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله.." إلى آخر ما ذكره عنهم.
ولعل هذا الحكم منه إنما ينطبق على التصوف في بدء أمره حينما كان بمعنى الزهد والاجتهاد في العبادة.
ثم قال عن القسم الثاني منهم:
"وأما صوفية الأرزاق فهم الذين وقفت عليهم الوقوف كالخوانك، فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق فإن هذا عزيز، وأكبر أهل الحقائق لا يتصدون بلوازم الخوانك ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط" ثم ذكرها , وهي: وجود العدالة الشرعية فيهم , والتأدب بآداب الشرع , وألا يكون متمسكاً بفضول الدنيا.
ثم قال عن القسم الثالث منهم:
"وأما صوفية الرسم فهمهم المقتصرون على النسبة، فهمُّم في اللباس والآداب الوصفية ونحو ذلك"( )، أي أنهم يتشبهون بالصوفية في الظاهر ويعرفون أقوالهم، ولكنهم خارجون عن طريقهم همهم جمع الأموال والاحتيال على الجهال بأمرهم.
وهذا التقسيم واضح جلي، إلا أنه ليس فيه توضيح وبيان لمدى ما وصلت إليه العقيدة الصوفية فيما بعد، ومدى تأثرها بالينابيع والمصادر الخارجة عن الإسلام.(46/21)
لقد أصبح من الصعب جداً تمييز طوائف التصوف أو الحكم عليهم بحكم واحد شامل لجميع فرقهم وعقائدهم المتشعبة؛ إذ لا يمكن معرفة كل قسم من أقسام التصوف قائما بنفسه متميزاً عن غيره إلا من خلال "الطرق" الكثيرة، والتي هي تعبير عن التزام مجموعة من الأتباع أو المريدين بشيخ يجعلونه قدوتهم، وينفذون ما يوجبه عليهم من أذكار وسلوك، وقد تتفق طريقته مع بعض الطرق وقد تختلف عنها، والطرق الصوفية لم تقف عند حد أو مفهوم، فهي دائماً في ازدياد وتجدد؛ إذ كل من ابتدع طريقاً، وجد له أتباعاً يتسمون باسمه أو باسم طريقته.
وقد ذكر الشيخ أبو علي حسن بن علي العجمي الحنفي طرق الصوفية، فعد منها أربعين طريقاً في رسالة له، وقد لخصها الشيخ أبو سالم العياشي في رحلته، وقد أوصلها غيرهم إلى أكثر من ذلك.
"والحق أن الطرق الصوفية كثيرة جداً بحيث يصعب حصرها؛ إذ كل من عنّ له أن يبتدع طريقا فعل، وسماها باسمه واسم قبيلته أو عشيرته، وهذا مشاهد بكثرة في أفريقيا؛ إذ بين فترة وأخرى تخرج طريقة جديدة تحمل اسماً جديداً ولها أوضاع معينة وأوراد مقررة"( ).
وذكر الدكتور صابر طعيمة ما مجموعة 66 طريقة وقال:
"وأما الطرق الصوفية الحديثة فمن العسير تسجيل أسماء معظمها في كتاب، ويكفى أنه في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري قد بلغ عدد الطرق الصوفية في بلد واحد أكثر من مائة طريق"( ).
ثم أخذ بعد منها 52 طريقة نقلاً عن المنوفي في كتابه جمهرة الأولياء، الذي ذكر فيه قسماً كبيراً من طرقهم تحت عنوان "هذا بيان بشيوخ الطرق الصوفية في عصرنا"( ).(46/22)
وكل الطرق الصوفية ناتجة عن الهوى ونابعة منه ومبنية على الرغبة في الزعامة والعلو في الأرض واستعباد الناس، وصار زعماء الصوفية في مجموعهم يحرصون حرصاً شديداً على هذه الزعامة الروحية، ووصل بهم الحرص عليها أن جعلوها وراثية وكأنها جزء من المال الذي يخلفه الميت على حد ما أورده محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني، فإنه قال بعد سرده الطويل لطرق الصوفية وأسماء مشائخها قال بعدها:
"وكل هذه الطرق تنسب كل واحدة لولي من الأولياء رضي الله عنهم، وقد يرثها حفيد أو سبط لولي من أولئك الأولياء فيكرمه الله سبحانه وتعالى بكرامة آبائه وأجداده الصالحين، فإن سار على دربهم أكرمه الله مثل ما أكرمهم، وإن فرط أو قصر أكرمه الله لأجلهم"( ).
وهذا جهل شنيع وكذب من أشد أنواع الكذب، فإن هذه المحاباه التي افترضوها على الله تعالى إنما هي من جنس الهوس والأماني الباطلة والقرآن مملوء بالرد على مثل هذه الافتراءات، والسنة كذلك ترد مثل هذه الأفكار الجاهلية، فالقرآن يصرح بأن ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِيِنٌ( ( )، وأن كل نفس( لَهَا ما كَسَبَتْ وعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ(( ). وأن صلاح الآباء – إن كانوا صالحين بحق – لا يغني عن الأبناء إن لم يكونوا كذلك.
وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم لقرابته أنه لا يملك لهم من الله شيئاً، وأن عليهم ألا يتكلوا على الأنساب، بل عليهم أن يحذروا الله عز وجل وأن يتقربوا إليه بالأعمال الصالحة؛ إذ لو كانت الأنساب تغني لما هلك والد إبراهيم وابن نوح على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، وهذا رد صريح على ما يزعمه الصوفيون من التقرب إلى الله بولاية القطب الفلاني أو الغوث الفلاني، وأن الله يفيض حتى على العصاة منهم إكراماً لآبائهم، وإن الذي جرأهم على هذا هو قلة خوفهم من الله تعالى، واستحلالهم الكذب في سبيل مدح أوليائهم بالحق وبالباطل.(46/23)
وقد قال عبد الرحمن عبد الخالق في بيان تاريخ نشأة الطرق الصوفية ونظامها الوراثى: "وقد قيل: إن أول صوفى وضع نظام الصوفية هو الصوفي الإيراني محمد أحمد المهيمي المتوفي سنة 430هـ، والمعروف باسم أبى سعيد، فقد أقام في بلدته نظاماً للدراويش، وأقام بناءً للصوفية بجوار منزله، وسن نظام تسلسل الطرق عن طريق الوراثة، وبين كثيراً من أمور التربية الصوفية؛ بل هو من أوائل من كتب في طريقه التربية الصوفية، وهو أكبر من عبد الكريم القشيري صاحب الرسالة القشيرية"( ).
ومن طرق الصوفية الكثيرة:
الطريقة التجانية:
وسندرسها بالتفصيل كمثال للطرق الصوفية التي تعتم واجهة الإسلام المشرقة لدى كثير من جهلاء المسلمين الذين جرفهم تيار التجانية وأذلتهم واستعبدتهم وأوصلتهم إلى مآس يندى لها الجبين.
ولقد وقفت بنفسى على بعض ما يتعبد به التجانيون من طاعة مشائخهم، وإحياء خرافاتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان وشدة تعصبهم لها، ونفورهم عن كل من يريد أن يسدي لهم النصيحة خروجاً عن كتمان الحق.
وهذه الطريقة التي لها الأمر والنهى في أقطار كثيرة من بلاد أفريقيا بخصوصها، وهى نسبة إلى شخص يسمى أحمد بن محمد بن مختار التجاني. ولد سنة 1150هـ، بقر ية عين ماضى، وينسب إلى بلدة تسمى "بني تجين" من قرى البربر، ولم يترك فضلاً مزعوماً ادعاه شيخ صوفي لنفسه إلا وادعاه هو لنفسه وزاد عليه( )،ولقد ادعى أموراً كثيرة يطول الحديث لو بسطت، وإنما نشير إليها إجمالاً فيما يأتي:
1- ادعى أنه خاتم الأولياء جميعاً وهى دعوى كاذبة مبنية على فهم خاطئ وقياس باطل، فزعم أن الولاية لها ختم كختم النبوة ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، والتيجاني خاتم الأولياء فلا ولي بعده.
2- أنه الغوث الأكبر في حياته وبعد مماته وقد جعل نفسه بهذه الدعوى وثناً يعبد من دون الله.(46/24)
3- أن أرواح الأولياء منذ آدم إلى وقت ظهوره، لا يأتيها الفتح والعلم الرباني إلا بواسطته هو، وهذا نهاية الحمق والقول على الله بغير علم، والاستهانة بعقول الناس وخداعهم.
4- زعم متطاولاً أن قدمه على رقبة كل ولي لله تعالى منذ أن خلق آدم إلى النفخ في الصور، وربما يجازى بهذا الكبر أن يحشر في صورة الذرة كما هو جزاء المتكبرين.
5- أنه هو أول من يدخل الجنة هو وأصحابه وأتباعهم، وصدق عليهم قول الله:( تِلْكَ أمَانِيِّهُمْ(( ).
6- أن الله شفعة في جميع الناس الذين يعيشون في قرنه الذي عاش فيه.
7- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه ذكراً يسمى "صلاة الفاتح" يفضل كل ذكر قرئ في الأرض ستين ألف مرة بما في ذلك القرآن الكريم، والذكر المزعوم هنا – صلاة الفاتح – ذكر مبتدع سيئ التركيب ركيك العبارة، وهو لا يعدو ثلاثة أسطر وهو:
"اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، الهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله، حق قدره ومقداره العظيم".
هذا هو الذكر الهائل عنده الذي ألهمه الله حسب زعمه، أو علّمَه، به النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً ثم فضله على كل ذكر.
ولقد رأيت أتباعه وهم يجلسون في يوم الجمعة – من بعد صلاة العصر إلى المغرب – وهم يرددون هذا الكلام بصوت جماعي ومرتفع جداً يسمع من مكان بعيد، ثم ينصرفون وهم لا يشكون في أنهم من أعظم الخلق عبادةً وأجراً عند الله، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.(46/25)
فما الجديد في هذا الذكر؟، وما معنى تلك الكلمات الجوفاء وذلك التركيب المفكك؟. الواقع أنه ليس فيها ما يستحق ذلك الأجر العظيم الذي لا يعده الحاسبون، حسب ما قدروه لصلاة الفاتح، ومع ذلك فهو يزعم أنه تلقاه عن الله وعن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والقرآن الكريم مملوء بالأدعية الشرعية النافعة الفاضلة، وكتب الحديث مملوءة بالأذكار النبوية الصحيحة التي يؤجر صاحبها على قولها، وتجاب دعوته إذا اشتملت على أنواع التوحيد، بأحسن الألفاظ وأشمل المعاني ممن أوتى جوامع الكلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ثم لم يقف التجاني عند هذا الحد في غلوه في تقدير نفسه وفى تقدير ما جاء به من خرافات وأذكار في صلاة الفاتح المزعومة أنها من الله تعالى، وأن لها ذلك الفضل الذي لا يصفه الواصفون وفى غيرها من الأذكار الأخرى، بل زعم أيضاً أن أتباعه لا تكتب عليهم سيئات ما عملوا، بل يدخلون الجنة مهما عصوا وبغير حساب ولا عقاب، ولو عملوا من الذنوب ما عملوا، بضمانة رسول الله صلى الله عليه وسلم له كما زعم لنفسه.
وهذا الهوس هو من جنس هوس اليهود، الذين زعموا أن الله لا يعذبهم إلا أياماً معدودة إن عذبهم؛ لأنهم شعب الله المختار، كما يعتقدون ويتشدقون بالتمدح بذلك في التلمود وقي غيره من كتبهم المقدسة عندهم.
ثم يدعي التجانيون كرامات لم يقل بها حتى أفضل الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن من رأى التجاني يومي الاثنين والجمعة، فإنه يكون من أهل الجنة إكراماً للتجاني، حتى وإن كان الرائي كافراً؛ لأنه لا يتمكن من رؤية التجاني في هذين اليومين إلا من سبقت له السعادة في علم الله تعالى، كما قرره علي حرازم والفوتى.(46/26)
وهذه الدعوى لهذا الضال من غرائب الأمور، ولو كانت له ولأتباعه أفهام لعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل البشر لم يقل ذلك وأنه كان يراه المؤمن والكافر في كل أيامه ويبقى المؤمن مؤمناً والكافر كافراً إلى أن يؤمن، ولم يقل صلى الله عليه وسلم بما قاله التجاني المذكور.
ومن خرافات التجاني زعمه أنه يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل وقت يشاء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يجالسهم ويحضر سمرهم ولهوهم، ويلقي عليهم أذكارهم وأدعيتهم الشركية والخرافية حسب ما يفترون.
ولقد صرف التجانيون الناس عن الهدى والطريق الصحيح، وملئوا أذهانهم بشركيات وخرافات لا تمت إلى الدين الإسلامي بأي علاقة، وجنوا على عقائد المسلمين بما ألقوه في قلوبهم من الرجوع إلى الوثنية والخرافات الجاهلية والتعلق بغير الله تعالى، وصرف أنظارهم عن واقعهم المتردي من حيث لا يشعر هؤلاء الأتباع.
ولقد انتشرت هذه الطريقة الضالة في شمال ووسط وغرب أفريقيا، وضمت تحت لوائها ملايين كثيرة من أبناء المسلمين، الذين أصبحوا لاهم لأحدهم إلا أن يأخذ بطريقة شيخه، ليضمن دخول الجنة بغض النظر عن العمل وصحبته.
ثم جاء من بني على هذا الواقع الفاسد وزعم أنه صاحب الفيض التجاني الذي بشر به التجاني، وأن أتباعه هو الآخر يدخلون الجنة جميعاً بغير حساب ولا عقاب، ولو كانوا على أي ملة قبل ذلك، ومن هؤلاء الذين ادعوا هذا الفيض المزعوم الحاج إبراهيم السنغالي، والذى كان له شأن عظيم وحركة قوية، وبسط دعوته تلك في أصقاع واسعة من القارة الأفريقية.
وإلى جانب الطريقة التجانية طرق كثيرة - كما ذكرنا من قبل - يحتاج بيانها إلى عدة صفحات، وهى في جملتها لا تخرج عن هوس وتخبطات التجانية.
وقد استحسنت هنا ذكر بعض الأمثلة من كتب الصوفية التجانية، تمثل أنواعاً من الآراء والمفاهيم التي يحرصون عليها، دون مبالاة بما فيها من الغلو والانحراف.(46/27)
وقد وقع اختياري على قراءة وتمحيص ما في جواهر المعاني تأليف علي حرازم، ورماح حزب الرحيم تأليف الفوتي، وكتيب الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية؛ حيث أضع العنوان المناسب ثم أنقل تحته ما يدل عليه من كلام علماء التجانية.
وأوضح ما يميز الانحراف في كتب التجانية، هو الغلو الفاحش في أئمة الصوفية والتجاني وغيره، ومدحهم بما لا يليق إلا بالله العظيم، من علمهم المغيبات وأنواع العلوم والمعارف التي لا يدركها إلا الله عز وجل، وبالتالي ذكر مدائح لهم، وهي في الحقيقة ذم ما بعده ذم، تدل دلالة صريحة على بعد أولئك ومجونهم واستهتارهم بعقول الناس.
قال علي حرازم في كتابه جواهر المعاني عن السيد أحمد بن محمد بالفتح جد أحمد التيجاني:
" وقد حكي عنه رضي الله عنه أنه كان له بيت في داره لم يدخله أحد غيره، وكان إذا خرج من داره للمسجد يتبرقع ولا يرى أحد وجهه ولا يكشف عن وجهه ألا إذا دخل المسجد، ثم إذا رجع إلى داره عاد إلى ستر وجهه حتى يدخل لخلوته، وقد سألت الشيخ رضي الله عنه عن سبب ستر وجهه عن الناس فأجاب رضي الله عنه قال: لعله بلغ مرتبة في الولاية، فإن من بلغها يصير كل من رأى وجهه لا يقدر على مفارقته طرفة عين، وإن فارقة أو احتجب عنه مات لحينه"( ).
نسب التجاني:
ويقول عن نسب التجاني حين سأل الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً كما يزعم دائماً: " ولم يكتف بما هو مذكور من الآباء والأجداد والرسوم وإخبار الأعيان والآحاد، حتى سأل سيد الوجود وعلم الشهود صلى الله عليه وسلم في كل نفس مشهود، عن نسبه، وهل هو من الأبناء والأولاد ومن الآل والأحفاد، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: أنت ولدي حقاً أنت ولدي حقا أنت ولدي حقا، كررها صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، وقال له صلى الله عليه وسلم: نسبك إلى الحسن بن علي صحيح"( ).
التجاني يرى الأنبياء كلهم:(46/28)
أورد علي حرازم عدة روايات تثبت رؤية التجاني للرسول محمداً صلى الله عليه وسلم وسؤاله عن أحكام كثيرة في الفقه وعن الجمع بين بعض الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجيبه عن كل سؤال بغاية التلطف، ثم التقى بموسى وسأله كذلك عن بعض الأسئلة وأجابه عنها ثم قال علي حرازم:" فانظر رحمك الله أحوال هذا الشيخ مع صفوة الله من خلقة"( ).
المشابهة بين التجاني حال سكره وبين النبي صلى الله عليه وسلم حال تلقيه الوحي:
يقول علي حرازم:" لا يزال تظهر عليه الغيبة في حال ظهور صحوه فضلاً عن حال ظهور سكره.. وكذلك يظهر عليه رضي الله عنه من آثار جذبه وقوة حاله أمور أخرى، كعظم جثته، وامتلاء بدنه، وتهلل وجهه، وثقل الأمر عليه حتى لا يستطيع حركة"( ). ونتذكر هنا ما كان يقع للنبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي وتلقي الأمر الإلهي.
التجاني يعلم الغيب لكل أمر مهما كانت دقته ويعلم ما في قلوب أصحابه:
يقول في هذا: "ومن كماله رضي الله عنه نفوذ بصيرته الربانية… من إظهار مضمرات وإخبار بمغيبات وعلم بعواقب الحاجات… فيعرف أحوال قلوب الأصحاب… ويعرف ما هم عليه ظاهراً وباطناً وما زاد وما نقص"( ).
الاسم الأعظم وموقف التجاني منه:
قال علي حرازم: "قال سيدنا رضي الله عنه: أعطيت اسم الله العظيم الأعظم صيغاً عديدة، وعلمنى كيفية أستخرج بها ما أحببت من تراكيبه"، ثم أعطاه أيضاً الاسم الخاص بعلي رضي الله عنه فقال:"قال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم: وهذا الاسم الخاص بسيدنا علي، لا يعطى إلا لمن سبق عند الله في الأزل أنه يصير قطباً"
وفى هذا الكلام الذي لا عقل له أمور:
1- ما هو الاسم الخاص بعلي غير علي بن أبى طالب؟
2- كيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي " سيدنا علي" كما هو ظاهر النص؟(46/29)
وأما بالنسبة لثواب الاسم الذي أعطيه التجاني، فأقله ما يذكره علي حرازم بقوله:"قال الشيخ رضي الله عنه، حاكياً ما أخبره به سيد الوجود صلى الله عليه وسلم: فإنه يحصل لتاليه في كل مرة سبعون ألف مقام في الجنة، في كل مقام سبعون ألفاً من كل شيء في الجنة… وله في كل مقام سبعون حوراً، وسبعون نهراً من العسل، وكلما خرج من فمه هبطت عليه أربعة من الملائكة المقربين، فكتبوه من فيه… وله في كل مرة ثواب جميع ما ذكر به الله على ألسنة جميع خلقه في سائر عالمه، وله في كل مرة ثواب ما سبح به ربنا على لسان كل مخلوق، من أول خلق العالم إلى آخره، وله ثواب صلاة الفاتح لما أغلق( ) بتمامها، ستة آلاف مرة لكل مرة منه، وله ثواب سورة الفاتحة، وله ثواب من قرأ القرآن كله، أعنى بكل مرة أجر ختمة.
وله في كل مرة من تلاوته ثواب كل دعاء وقع في الوجود، وكل ما تلاه التالي تلته معه جميع ملائكة عوالم الله بأسرها، وكل ملك يتلوه بجميع ألسنته، فإن من الملائكة من له سبعون لساناً ومنهم من له ستون لساناً"( )، وخوفاً أن يمل القارىء فسأقف هنا، وإلا فإن النص قد استغرق ست صفحات في جواهر المعاني، كلها في مضاعفة الأجر لمن تلا دعاء التجاني، الذي علمه به الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى مقابلته له يقظة لا مناماً.
أوراد التجاني:
أورد علي حرازم في كتابه جواهر المعاني أوراداً عديدة- لا يتسع المقام لذكرها- عن شيخه التجاني، بأسلوب ركيك ومعان متنافرة هابطة مملة.
رؤية التجاني:
من رأى التجاني فهو في الجنة. قال علي حرازم: "قال رضي الله عنه: أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً؛ قال لي: أنت من الآمنين، وكل من رآك من الآمنين إن مات على الإيمان، وكل من أحسن إليك بخدمة أو غيرها وكل من أطعمك يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب"( ).
ثواب صلاة الفاتح:(46/30)
ليس من السهل كتابة كل ما ذكره التجاني لفضل صلاة الفاتح؛ وذلك لكثرة ما أورده التجانيون، غير أننا سنكتفى بمثال واحد من تلك الترهات المفتراه، قال التجاني عن نفسه: "ثم أمرني صلى الله عليه وسلم للرجوع إلى صلاة الفاتح لما أغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل كل تسبيح وقع في الكون، ومن كل ذكر من كل دعاء كبيراً أو صغيراً، ومن القرآن ستة آلاف مرة.." إلى أن يقول:
"قال صلى الله عليه وسلم ما معناه: إن صلاة الفاتح لما أغلق بستمائة ألف صلاة، وكل صلاة من الستمائة ألف صلاة بأربعمائة عزوة، ثم قال بعده صلى الله عليه وسلم: إن من صلى بها أي بالفاتح لما أغلق.. إلخ مرة واحدة حصل له ثواب ما إذا صلى بكل صلاة وقعت في العالم، من كل جن وإنس وملك ستمائة ألف صلاة، من أول العالم إلى وقت تلفظ الذاكر بها، أي كأنه صلى بكل صلاة ستمائة ألف صلاة من جميع المصلين عموماً ملكاً وجناً وإنساً، وكل صلاة من ذلك بأربعمائة غزوة، وكل صلاة من ذلك بزوجة من الحور وعشر حسنات ومحو عشر سيئات ورفع عشر درجات، وأن الله يصلي عليه وملائكته بكل صلاة علي عشر مرات"( ).
وقد أضاف محمد السيد التجاني إلى تلك الخيالات في فضل صلاة الفاتح خيالات أخرى قال فيها: "وصلاة الفاتح التي هي من الله كتبت بحروف مستقيمة بكل لسان تفهمه من لسان العربية، فوق رأسه، وهي تاجه وعزه وملكه، وبها فضل على سائر خلق الله، وبها تثبتت خلافته في الدنيا والآخرة، وبها ظهرت الحقيقة المحمدية كل الظهور، وبها ثبتت الحقيقة المحمدية في محراب القدس.(46/31)
وبها أعز الله دينه وبها ظهرت مقامات الدين كلها، وبها فضلت هذه الأمة وصارت وسطاً، وبها قوام الأرواح والأشباح، وبها ظهرت التكاليف، وبها برزت الجنة ونعيمها، وبها ساد سيدنا محمد غيره ممن دونه من الأنبياء والمرسلين، وبها تعرف جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل عليهم السلام.
وبها نظام الكائنات، وفيها روح الموجودات وحياتها، وبها شرفت الأنبياء والملائكة، وبها ظهرت محاسن الأخلاق المحمدية، وهي التي شرف الله بها النبي صلى الله عليه وسلم، وشرفها بالنبي صلى الله عليه وسلم وهي مرتبته وحقيقته صلى الله عليه وسلم.
وهي أول الصلوات التي ظهرت من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من قلوب العارفين، فإن الله جل جلاله هو الذي صلى عليه؛ أي تجلى فيه بكمال ذاته مراتبه وأسمائه وصفاته، وذلك التجلي هو عين تشريفه وإعزازه وتفضيله على سائر الخلائق؛ لأنه لم يتجل في أحد بكمال ذاته إلا فيه صلى الله عليه وسلم.." ( ) إلى آخر هذه العجائب والغرائب التي لا مستند لها إلا الخيال والأماني الفارغة، وإلا فهل يوجد في الشريعة الإسلامية دليل واحد على تلك الخزعبلات والتهويلات؟!
خاصية صلاة الفاتح:
قال الشعراني: "وخاصية صلاة الفاتح لما أغلق.. الخ، أمر إلهي لا مدخل للعقول فيه، ولو قدرت مائة ألف أمة، في كل أمة مائة ألف قبيلة، في كل قبيلة مائة ألف رجل، وعاش كل واحد منهم مائة ألف عام يذكر كل واحد منهم في كل يوم ألف صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من غير صلاة الفاتح لما أغلق، وجميع ثواب هذه الأمم كلها في مدة هذه السنين كلها في هذه الأذكار كلها، ما لحقوا كلهم ثواب مرة واحدة من صلاة الفاتح لما أغلق، فلا تلتفت لتكذيب مكذب( )".
الشيخ الواصل يرى الله علانية في كل وقت مع انتفاء الغير والغيرية بينهم:(46/32)
قال الشعراني: " اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو؟ فأجاب عنه بقوله: " أما حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظراً عينياً وتحقيقاً يقيناً، فإن الأمر أوله محاضرة: وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر كثيف، ثم مكاشفة: وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، ثم مشاهدة: وهو تجلي الحقائق بلا حجاب لكن مع خصوصية، ثم معاينة: وهو مطالعة الحقائق بلا حجاب ولا خصوصية ولا بقاء للغير والغيرية عيناً وأثراً، وهو مقام السحق والمحق والدك وفناء الفناء، فليس في هذا إلا معاينة الحق في الحق للحق بالحق فلم يبق إلا الله لا شيء غيره. فلا ثم موصول ولا ثم واصل( )".
وفعل الأولياء للفواحش علانية إنما هو تخيل من الناظر، أو من باب ستر حال الولي، بعد أن رأوا عامة الناس لا هم لهم إلا قضاء رغباتهم، فأحب الأولياء الصوفية عند ذلك ألا يظهروا أنفسهم للعامة، فاحتجبوا عنهم بارتكاب تلك الفواحش في الظاهر.
قال علي حرازم: "فلما عرف العارفون ما في العامة من هذا الأمر احتجبوا عن العامة وطردوهم بكل وجه وبكل حال… فخلط العارفون عليهم بوجوه من التخليط استتاراً عن العامة بإظهار أمور من الزنا، والكذب الفاحش، والخمر، وقتل النفس، وغير ذلك من الدواهي التي تحكم على صاحبها أنه في سخط الله وغضبه، والأمور التي يقتحمها العارفون في هذا الميدان إنما يظهرون صوراً من الغيب لا وجود لها في الخارج إنما هي تصورات خيالية، يراها غيرهم حقيقة فيفعلون في تلك الصور أموراً منكرة في الشرع، وهم في الحقيقة لم يفعلوا شيئاً فاستتروا بذلك من العامة حفظاً لمقامهم"( ).(46/33)
وهكذا فعل الزنا وشرب الخمور وغيرها من الفواحش لا حقيقة لها، حتى وإن ثبت أن الصوفي يفعلها، فإنما ذلك خيال، وما أكثر ما يثبت عن هؤلاء من فعل الفواحش، حتى في البهائم، كما يثبت الشعراني ذلك في طبقاته عن علي وحيش، الذي يترضى عنه الشعراني كما هي عادته في الترضي عن أولئك الفجار؟!
دعاء تجاني في طلب الاتصاف بالألوهية؟!:
"ومن أدعيته رضي الله عنه، مما أملاه علينا ونصه رضي الله عنه: اللهم حققني بك تحقيقاً يسقط النسب، والرتب، والتعينات، والتعقلات، والاعتبارات، والتوهمات، والتخيلات؛ حيث لا أين، ولا كيف، ولارسم، ولا علم، ولا وصف، ولا مساكنة، ولا ملاحظة، مستغرقاً فيك بمحق الغير والغيرية، بتحقيقي بك من حيث أنت بما أنت وكيف أنت؛ حيث لا حس ولا اعتبار إلا أنت، بك لا عنك منك"( ).
مباسطة البسطامي مع ربه كما يرويها التجاني لتلميذه علي حرازم:
أنه قال: "إن أبا يزيد باسطه الحق في بعض مباسطته قال له: يا عبد السوء! لو أخبرت الناس بمساويك لرجموك بالحجارة، فقال له: وعزتك لو أخبرت الناس بما كشفت لي من سعة رحمتك لما عبدك أحد، فقال له: لا تفعل، فسكت"( ).
إهانة للقرآن الكريم:
"فإذا عرفت هذه الحيثية، عرفت أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، لمثل أهل هذا الوقت، أفضل لهم من تلاوة القرآن"( ).
السر في وجود هذا الكون ومصدره:
"قال سيدنا رضي الله عنه: ما خلق الله لنفسه إلا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم، والباقي من الوجود كله مخلوق لأجله صلى الله عليه وسلم، ولولا أنه خلق سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ما خلق شيئاً من العوالم"( ).
تلاعب بمعاني النصوص:
أورد علي حرازم، عن شيخه وسيده التجاني، نصوصاً كثيرة في تفسير القرآن الكريم وبعض الأحاديث، فسرها بمحض الهوى والجهل والتخبط والقول على الله بغير علم في جرأة عاتية.
الحلول والاتحاد:(46/34)
قال التجاني: "فهو سبحانه وتعالى مع كل شيء بذاته، وأقرب إلى كل شيء بذاته، من وجه لا يدركه العقل"( ).
وقال:
"اعلم أن أذواق العارفين في ذوات الوجود، أنهم يرون أعيان الموجودات كسراب بقيعةٍ… الآية- فما في ذوات الوجود كله إلا الله سبحانه وتعالى، تجلى بصورها وأسمائها وما ثم إلا أسماؤه وصفاته، فظاهر الوجود صور الموجودات وصورها وأسماؤها ظاهرة بصورة الغير والغيرية…" إلى أن يقول:
"فإذا رأيت ما يظهر من صور الموجودات، على اختلاف أحواله وتباين أشكاله وتشتيت أموره من مذمومة ومحمودة، فما فيها إلا تجليات الحق سبحانه وتعالى"( ).
الولاية والألوهية وهل يوجد فرق بينهما أولا؟ عند التجاني:
1- معرفة الولي أصعب من معرفة الله.
2- لو كشف عن حقيقة الولي لعُبد. قاله المرسي.
3- وأمري بأمر الله إن قلت: كن، يكن. قاله الجيلاني.
4- يا ريح اسكني عليهم بإذنى( ).
قال علي حرازم:
" فأجاب رضي الله عنه بقوله: "وحقيقة الولي أنه يسلب من جميع الصفات البشرية ويتحلى بالأخلاق الإلهية ظاهراً وباطناً…" إلى أن يقول: " ومعنى قوله: لو كشف عن حقيقة الولي لعبد؛ لأن أوصافه من أوصاف إلهه ونعوته من نعوته؛ لأنه ينسلخ من جميع الأوصاف البشرية كما تنسلخ الشاة من جلدها، ويلبس خلعة الأخلاق الإلهية"".
تملك أقطاب الصوفية للكون بتفويض من الله لهم:
يقول حرازم عن شيخه: "قال رضي الله عنه: معنى ذلك أن الله ملكهم الخلافة العظمى واستخلفهم على مملكته تفويضاً عاماً أن يفعلوا في المملكة كل ما يريدون، وملكهم الله تعالى كلمة التكوين، متى قالوا للشيء: كن، كان من حينه"، فأي إلحاد بعد هذا من هؤلاء الذين يترضى عنهم علي حرازم.
الصلاحيات للولي أعلى من الصلاحيات للنبي:
قال: "وسألته رضي الله عنه عن قولهم: إن دائرة الولي أوسع من دائرة النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب رضي الله عنه بقوله: المراد بالولي أولياء هذه الأمة فقط… إلى أن قال:(46/35)
"الرسول ليس له عموم الأمر والنهي إلا ما سمعه من مرسله سبحانه وتعالى، لا يزيد وراء ذلك شيئاً، وإنما هو في ذلك مبلغ فقط؛ ليس بآمر ولا ناه، إلا أن يكون الرسول خليفة، فله المرتبة الأولى، فالخليفة الولي أوسع دائرة في الأمر والنهي والحكم من الرسول الذي ليس بخليفة"( ).
حقيقة القطبانية تمتد قدرتها بامتداد ما وصلت إليه الألوهية وتحجبها أيضا:
قال علي حرازم:
"وسألته رضي الله عنه عن حقيقة القطبانية، فأجاب رضي الله عنه بقوله: اعلم أن حقيقة القطبانية هي الخلافة عن الحق مطلقاً في جميع الوجود جملة وتفصيلاً، حيثما كان الرب إلهاً كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من عليه ألوهية الله تعالى، ثم قيامه بالبرزخية العظمى بين الحق والخلق، فلا يصل إلى الخلق شيء كائناً ما كان من الحق إلا بحكم القطب" ( ).
رغبة الصوفية في تجهيل الخلق بربهم ونسيانهم لذكره ليصفو لهم وحدهم:
قال التجاني:
"المحبة الصادقة هي التي تورث الغيرة لصالحبها، قيل للشبلي رضي الله عنه: متى تستريح؟ قال: إذا لم أر له ذاكراً غيرى، وقال: أبو يزيد رضي الله عنه لصاحبه حين قال له: وهل سألته المعرفة به؟ قال له: اسكت، غرت عليه من أن يعرفه غيرى.
التوحيد عند التجانية يقتضي شعور الشخص أنه هو الله لا فارق بين ذاته وذات المولى عز وجل وأن ينسى جسمية نفسه تماماً:
قال حرازم: "سألت سيدنا رضي الله عنه عن هذا التوحيد، فأجاب رضي الله عنه عن التوحيد: هو توحيده لنفسه بنفسه عن نفسه، وهذا التوحيد لا سبيل إليه إلا بالفناء، قال الجريري رضي الله عنه: كل إشارة أشار بها الخلق إلى الحق فهي مردودة عليهم حتى يشيروا إلى الحق بالحق. أراد بهذا الذي ذكرناه هو عرو النسب حيث تنطمس النسب في الذات … قال الشبلي حين دخل عليه رجل قال له: ما تريد؟، قال له: أسأل عن الشبلي، قال له: مات لا رحمه الله( ).
كلمات غامضة صوفية:
التجلي الأول: هو الله عز وجل.(46/36)
التجلي الثاني: هو ظهور محمد صلى الله عليه وسلم قبل الخلق حسب زعمهم.
التجلي الأخير: هو ظهور آدم، ويسمى أيضاً اللباس الأخير( ).
حمق وخرافة:
يقرر التجاني أن الأنبياء لم يخرجوا من أمهاتهم من المحل المعتاد للولادة، وإنما يخرجون من تحت سرة أمهاتهم تنزيهاً لهم، ثم أخذ يدلل على هذه الخرافة بما تمجه الأسماع( ).
نزول الوحي على القطب من الله لكن بواسطة الحقيقة المحمدية وإن رآه من الله فقد خدع ولبس عليه:
قال: "وما ذكر من أن العقل يأخذ العلم عن الله بواسطة، فإنه نفي الواسطة المشهورة، لا يشهد واسطة بينه وبين الحق أصلاً، لكنها موجودة في نفسها غير مشهودة له، وهى الحقيقة المحمدية، فإنه لا مطمع لأحد في درك حقيقتها فضلاً عن مشاهدتها، فإنها أخفى من السر الخفي، فإنه يرى نفسه يأخذ العلم عن الله بلا واسطة، وما برز له ذلك العلم إلا من الحقيقة المحمدية من حيث لا يراها، وإن رآه من الله فإنه مغطى عليه بحجاب التلبيس، فهذا معنى أخذ العلم عن الله بلا واسطة"( ).
شكوى علماء الصوفية من علماء المسلمين في حجزهم عن الإتيان بما تأت به الأنبياء:
قال علي حرازم:
"قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه: لولا علماء الظاهر- أو كما قال- لأتت الأولياء عن الله بما أتت به الانبياء"( ).
معنى قول الشيخ الضال ابن عربي: من وحد فقد ألحد واعتبارهم التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلحاداً:
قال علي حرازم عن شيخه التجاني:
"وسألته رضي الله عنه عن معنى قول الشيخ الأكبر: من وحد فقد ألحد فأجاب رضي الله عنه بقوله: معنى الإلحاد هو الخروج عن الجادة المستقيمة، فإن العارف إذا وحد بتوحيد العامة فقد ألحد، والعامي إذا وحد بتوحيد العارف فقد ألحد يعني كفر".
التجاني يعرف أنفاس الإنسان وخواطره بغض النظر عن طول عمره أو قصره:(46/37)
قال: "وسألته رضي الله عنه عن عدد أنفاس الإنسان، فأجاب رضي الله عنه بقوله: عدد أنفاس الإنسان أربعة وعشرون ألفاً، نصفها داخل ونصفها خارج، وأما الخواطر فعددها سبعون ألف خاطرة، تخطر كل يوم على القلب حتماً لا يتخلف منها واحد"( ).
القطب الصوفي لا يستطيع أن يسمع كلام الناس بعد أن يسمع كلام الله له إلا بعد فترة نقاهة وسماعه لكلام الله أعلى من سماع الأنبياء له:
قال: "ثم قال سيدنا رضي الله عنه: من فتح عليه في هذا الأمر العظيم والنعيم الجسيم، لا يقدر أن يسمع كلام الخلق إلا إذا اعتزل ثلاثة أيام يذكر الله، فحينئذ يقدر على سماع كلامهم، وإن لم يفعل ما ذكر، فإنه مهما سمع كلامهم يتقيأ لقبحه بالنسبة للذة ما سمع من كلام الحق، وسماع كلام الله لمن سمعه لا بأذن فقط بل بجميع أجزاء ذاته كلها، حتى يصير كل ذرة من ذاته تلتذ مثل جميع ذاته بكمالها"( ).
الجنة في نظر الصوفية لا قيمة لها:
قال: "ومن كلامه رضي الله عنه قال: كل العارفين في شغل عن الله تعالى؛ لأنهم بقي لهم ضرب من حظوظهم، إلا أهل التجلي الأكبر الذين لا حظ لهم في الجنة، فإنهم عنده سبحانه وتعالى مقيدون في حضرة قربه، وواصلهم بما لا تحيط العقول وصفه … فإن، هؤلاء لا التفات لهم إلى الجنة ونعيمها ولا عبرة لهم بها أوجدت أم عدمت"( ).
والبديل لها عند الصوفية هو النظر إلى المشائخ والجلوس بين أيديهم بكل الخضوع والتذلل؛ ولهذا يقول محمد السيد التجاني في كتابه الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية ناقلاً عن مشائخ الصوفية: "الجلوس بين يدي ولي قدر ما تحلب فيه شاة أفضل من عبادة ألف سنة"( ).
وعلى المسلمين ألا يجتهدوا في طلب ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر فقط، بينما الجلوس أمام شيخ صوفي كالدجاجة، داجن في زاويته المظلمة حساً ومعنى، خمس دقائق، خير من عبادة ألف سنة، فهل بعد هذا السفه للنفس والحمق المردي حمق أو سفه؟
كيفية خلق هذا الكون عند الصوفية:
يقول:(46/38)
"ومن كلامه رضي الله عنه قال: أول موجود أوجده الله تعالى من حضرة الغيب هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم نسل الله أرواح العالم من روحه صلى الله عليه وسلم، الاجسام النورانية كالملائكة ومن ضاهاهم".
وأما الأجسام الكثيفة الظلمانية فإنما خلقت من النسبة الثانية من روحه صلى الله عليه وسلم، فإن لروحه صلى الله عليه وسلم نسبتين أفاضها على الوجود كله؛ فالنسبة الأولى نسبة النور المحض ومنه خلقت الأرواح كلها والأجسام النورانية التي لا ظلمة فيها، والنسبة الثانية من نسبة روحه صلى الله عليه وسلم نسبة الظلام ومن هذه النسبة خلق الأجسام الظلمانية كالشياطين وسائر الأجسام الكثيفة والجحيم ودركاتها، كما أن الجنة وجميع درجاتها خلقت من النسبة النورانية، فهذه نسبة العالم كله إلى روحه صلى الله عليه وسلم.
أما الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وسلم فهي أول موجود أوجده الله تعالى من حضرة الغيب، وليس عند الله من خلق موجود قبلها( ).
فالملائكة والشياطين والجنة والنار – بل والكون كله – مخلوق من روح محمد صلى الله عليه وسلم، فأين العقول التي تصدق بمثل هذا الفحش والإهانة لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، أن تكون الشياطين والجحيم وغيرهما – مما نص عليه التجاني – مخلوقة من روح محمد صلى الله عليه وسلم، كبرت كلمة تخرج من فمه.
تطاول التجاني على الصحابة وكل من جاء بعدهم:
قال التجاني في كتابه إلى أهل الأغواط:
"وأقول لكم إن مقامنا عند الله في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء، ولا يقاربه من صغر ولا من كبر، وأن جميع الأولياء من عصر الصحابة إلى النفخ في الصور، ليس فيهم من يصل مقامنا ولا يقاربه؛ لبعد مرامه عن جميع العقول وصعوبة مسلكه على أكابر الفحول"( ).
تصرف التجاني في الجنة:(46/39)
جاء كذلك في كتابه إلى أهل الأغواط بالمغرب يقول لهم: "ولم أقل لكم ذلك حتى سمعته من الرسول صلى الله عليه وسلم تحقيقاً، وليس من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب، ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا، إلا أنا وحدي"( ).
عدوان الصوفية بعضهم على بعض وطلب كل صاحب طريقة العلو على الآخرين:
سأل رجل من أهل فاس بالمغرب التجاني عن الدائرة الشاذلية وأسمائها وخواصها وفضائلها، فأجابه التجاني بقوله:
"اعلم أن التمسك بما في كتب أهل الخواص من دائرة الشاذلية رضى الله عنه: أسماء الله، والحروف، والجداول، كله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ما في جميعها إلا التعب والطمع الذي لا يوجد فيه قليل من الفائدة ولا جدوى من الفائدة"( ).
الصوفي له قوة الخلاق العظيم كما يرى التجاني:
قال علي حرازم تحت عنوان "سر شريف":
"قال سيدنا رضي الله عنه: إذا تجلى الله لسر عبد، ملكه جميع الأسرار، وألحقه بدرجة الأحرار، وكان له تصرف ذاتي؛ متى توجهت إرادته لأي خارق كان انخراق له في الحين، إلا أن بعضهم يضيف لها كلمة كن وبعضهم بمجرد الإرادة"( ).
ومعنى هذا التطاول الغريب أن الله تعالى "إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون"،أما هؤلاء فإذا أراد أحدهم شيئاً تكفيه مجرد الإرادة لإيجاده وإذا أضاف إليها "كن" فلا حرج عليه عند بعضهم، فكلمة "كن" عندهم إنما هي مجرد إضافة عارضة.
مزايا التجاني لم يصلها أحد من البشر بل ولا ملك مقرب ولا نبي مرسل:
كل من أخذ وردنا وداوم عليه إلى الممات، أنه يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب هو ووالداه وأزواجه وذريته( ).
وكذلك من حصل له النظر فينا يوم الجمعة أو الاثنين يدخل الجنة بغير، حساب ولا عقاب( ).(46/40)
والسبب في تخصيص يوم الجمعة والاثنين بحصول هذا الفضل العظيم، لمن نظر إلى وجهه الذي عليه غبرة، هو اعتقاده أن الجمعة خلق آدم والاثنين خلق فيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن هنا حصل له هذا الفضل العظيم في هذين اليومين اللذين وقع فيهما الفرع أفضل من الأصل على ميزان التجاني المعكوس.
جفاء وعتو ونفور عن الله تعالى وحمق مركب:
مدح التجاني أبا عُبيدة الخواص بقوله:
"وله منذ أربعين سنة ما رفع رأسه إلى السماء حياءً من الله تعالى، وهذا هو حياء العارفين"( ).
أذكار وأدعية بعبارات متكلفة غامضة وأساليب ركيكة مرذولة:
قال علي حرازم:
"وأول ما نبدأ به ذكر الصلوات التي أملاها مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيضه الشريف يقظة على شيخنا أبى العباس.. الأولى سماها شيخنا رضى الله عنه ياقوتة الحقائق في التعريف بحقيقة سيد الخلائق، ونصها: الله الله الله اللهم أنت الله الذي لا إله إلا أنت العالي في عظمة انفراد حضرة أحديتك التي شئت فيه بوجود شؤونك … اللهم برتبة هذه العظمة وإطلاقها في وجد وعدم، أن تصلي وتسلم على ترجمان لسان القدم اللوح المحفوظ والنور الساري المحدود.. لله لله لله آه أمين، هو هو هو آمين"( ).
ذلك هو الدعاء الأول وما يحمله من هذيان يبعث على الاشمئزاز والنفور.
أما الدعاء الثاني فقد جاء فيه قوله، وبعباراته المتكلفة التي تخفى وراءها قبائح وجِهلاً شنيعاً - قال:
"وهي أيضاً من إملائه صلى الله عليه وسلم لشيخنا يقظة، وهي: اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني، ونور الأكوان المتكونة الآدمي صاحب الحق الرباني، البرق الأسطع بمزون الأرياح المالئة لكل متعرض من البحور والأواني … اللهم صل وسلم على عين الحق التي تتجلى منها عروس الحقائق عين المعارف الأقوم صراطك التام الأسقم … إحاطة النور المطلسم"( ).(46/41)
وما أدري من أين يأتي الخشوع في مثل هذا الدعاء الذي هو أقرب إلى الألغاز والهذيان.
وجاء في نص الدعاء الثالث:
"اللهم صل وسلم على عين ذاتك العلية … عبدك القائم بك منك لك إليك، بأتم الصلوات الزكية، المصلي في محراب عين هاء الهوية، فصل اللهم عليه صلاة كاملة تامة بك ومنك وإليك وعليك … وتب علينا بمحض فضلك الكريم في الصلاة عليه"( ).
وقد شرح علي حرازم تلك الأدعية فكان كمن أراد أن يكحلها فأعماها حيث جاء هو الآخر بكلمات أغمض من النص بغرض أن تلك الأدعية وشرحها تحمل علماً لا يعرفه إلا هؤلاء العباقرة.
وقد شرح وصف التجاني للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه اللوح المحفوظ فقال: "قوله: اللوح المحفوظ" اعلم أن اللوح المحفوظ هنا هو نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.وتشبيهه هنا صلى الله عليه وسلم باللوح المحفوظ يسمى عند المتكلمين تشبيه التسامح، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم أكبر وأوسع من اللوح المحفوظ بأضعاف مضاعفة؛ لأن غاية علوم اللوح وما سطر فيه إنما هو منشأ العالم إلى النفخ في الصور فرداً فرداً بلا شذوذ.
وأما ما وراء ذلك من أحوال يوم القيامة وأحوال الشؤون والأمور والاعتبارات واللوازم والمقتضيات كلها ليس في اللوح المحفوظ منه شيء إلا أمور قليلة، مثل فلان يعمل كذا وكذا من الأعمال وجزاؤه في جنة الخلد، أو جنة النعيم، أو جنة المأوى له فيها كذا وكذا، وفلان يعمل كذا وكذا من الشر، ومستقره في الدرك الثانية أو الثالثة، وهكذا هو قليل بالنسبة لأحوال الجنة والنار وأحوال يوم القيامة.
وأما هو صلى الله عليه وسلم فإنه جمع في حقيقته المحمدية كل ما أحاط به علم الله تعالى من الأزل إلى الأبد من علوم المخلوقات بأسرها ومعرفة مقتضياتها ولوازمها( ).
المراتب الصوفية يبينها خليفة التجاني علي حرازم بقوله:(46/42)
المرتبة الأولى: مرتبة الاستهتار بذكر الله تعالى حتى يقع صاحبها في الذهول عن الأكوان، والطمأنينة بذكر الله تعالى مستغرقاً جميع أوقات دهره، وهم الأولياء.
المرتبة الثانية: لباس الحلة الملكية، وهي فوق هذه المرتبة؛ وهي أن يتصف صاحبها بأحوال الملائكة( ).
المرتبة الثالثة: وهى فوق هذه، وهى لباس الحلة الإلهية؛ لا تذكر ولا يعلمها إلى من ذاقها، وصاحبها هو الذي يطلق عليه اسم الصديق فهي ضرب من النبوة، أو هي النبوة بعينها، وهم العارفون والصديقون( ).
وتفسيره بأنها النبوة خداع وجبن عن إظهار الحقيقة؛ إذ أن هذه المرتبة "لباس الحلة الإلهية التي لا يعرفها إلا من ذاقها" تفيد معنى الألوهية، إلا أنه لم يصرح بهذا لئلا يكشف الحقيقة فتظهر حقيقتهم الإجرامية.
جوهرة الكمال:
يسميها التجانيون صلاة جوهرة الكمال، وهى التي قدمنا منها، وأولها "اللهم صل وسلم علي عين الرحمة الربانية والياقوتة المتحققة …" الخ( ).
قال على حرازم في أول كلامه في شرحها:
"الحمد لله الذي فتق من كنه الغيب رتق الكائنات، وجعل أصلها ونشأتها نور حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فكان أصل الموجودات، فأوجد منها بقدرته القدسية وكلمته الأزلية فطرة آدم وجعل شكله صورة العالم وعلمه الأسماء كلها، وجعله من جميع البرية خلاصتها وصفوتها، وأخرج من عنصره الأرواح والذرية والأشباح( )، واختار منها صفوة الأنبياء والرسل والأولياء بالرسالة والولاية …"( ) إلى آخر ما جاء به من عجائب الحمق.
خواص صلاة جوهرة الكمال:
زعم التجانيون أن لهذه الصلاة أو الدعاء خواص لا يقدر لها قدر، ولا أظن أحداً لم تدنس الصوفية فطرته يصدقها، قال:
"وذكر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم خواصاً منها:
1- أن المرة الواحدة تعادل تسبيح العالم ثلاث مرات.(46/43)
2- أن من قرأها سبعاً فأكثر، يحضره روح النبي صلى الله عليه وسلم محبة خاصة، ولا يموت حتى يكون من الأولياء، وقال الشيخ رضي الله عنه: من داوم عليها سبعاً عند النوم، على طهارة كاملة وفراش طاهر، يرى النبي صلى الله عليه وسلم ( ).
إلى أن قال: "فإنه لولا وجوده صلى الله عليه وسلم ما كان وجود لموجود أصلاً من غير الحق سبحانه وتعالى … فإنه لولا هو صلى الله عليه وسلم ما خلق شيء من الأكوان، ولا رحم شيء منها لا بالوجود ولا بإفاضة الرحمة"( ).
ثم قال: " تنبيه شريف:
اعلم أنه لما خلق الله الحقيقة المحمدية، أودع فيها سبحانه وتعالى جميع ما قسمه لخلقة، من فيوض العلوم والمعارف والأسرار، والتجليات والأنوار، والحقائق بجميع أحكامها ومقتضياتها ولوازمها، ثم هو صلى الله عليه وسلم الآن يترقى في شهود الكلمات الإلهية، مما لا مطمع فيه لغيره، ولا تنقضي تلك الكمالات بطول أبد الآباد"( ).
وتظهر الطلاسم واضحة في هذا الدعاء التجاني العجيب الغريب المسمى بحزب البحر، قال محمد السيد التجاني:
"مقصد حزب البحر التعوذ والبسملة، وبه نستعين، وبه الحلول والقوة، رب سهل ويسر، ولا تعسر علينا يا ميسر كل عسير أبت خدذ رزط ظكل منص صعغ فقس شهولاي لا إله إلا الله عشراً، ثم صلاة الفاتح عشراً، ويرفع يديه إلى السماء، ويقرأ فاتحة الكتاب مرة بنية ما يريد، ثم البسملة الله الرحمن الرحيم، يا الله يا عليّ.. الخ"(1)
وقد ذكر دعاءً يقوله من أراد أن يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، وفي آخره يبخر بالعود أو الجاوي على طريقة الشعوذة والسحرة.
ثم ذكر دعاء آخر لجلب الغنى ودفع الفقر.
ثم ذكر دعاء لكيفية خاصة من جوهرة الكمال تقوم مقام اللطيف الكبير، هكذا وبهذا الأسلوب.
إلى أن ذكر الطامة الكبرى وهي في قوله الآتي:(46/44)
"كيفية من الصلوات تسمى مهر السر والحور، وعين الفتح والنور، من أكثر من تلاوتها يرى رب العزة في المنام، ولا يفارقه رسول الله وروح القدس أبداً "(2) وأحب ألا أذكر تلك الأدعية، لأنزه سمع وبصر القارئ عن حشو ذهنه بخزعبلات الصوفية وخرافاتهم، ومن تناقضاتهم أن يأتوا بدعاء لجلب الغنى ودفع الفقر، وهم لا يحبون الدنيا كما يزعمون، ويحبون الفقر ويجعلونه من أشرف الأسماء لديهم.
وأما زعمهم رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، ورؤية المولى عز وجل والاتحاد به، فهي ديدنهم وعليها قام دينهم.
الخضوع لأقطاب التصوف:
يجب الخضوع التام لأقطاب التصوف وترك الأفكار عليهم في أي شيء، يقول الفوتي في كتابه:"رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم"
هامش جواهر المعنى:
"اعلم أن المنكر على الأولياء ساقط من عين الله وهالك في الدنيا والآخرة وأنه في لعنة الله ومحاربته"(3)، ويقصد بأولياء الله هنا أقطاب التصوف.
فليعتصم المريد بشيخه وليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ البحر بالقائد، بحيث يفوض أمره إليه بالكلية، ولا يخالفه في ورد ولا صدر، ولا يبقى في متابعته شيئاً ولا يذر، وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه لو أخطأ، أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب(1)، إلى أن قال: "ولا اعتراض بأن يكون بين يديه كالميت بين يدي غاسله، وقد قال من قال لشيخه: لمَ؟ فإنه لا ينتفع به"(2).
التصدر للمشيخة خطر عظيم إلا بإذن شيخ صوفي:
يقول الفوتي: "قلت التصدر للشيخوخة بغير إذن شيخ كامل الخطر جداً، لأنه يكون سبباً لسوء الخاتمة، وإن لم يتب فاعله فلا يموت إلا كافراً"(3).
الاتصاف بالله وتهوين الفاحشة:
ذكر الفوتي أن أحد المريدين طلب من شيخه أن يدله على الله فقال له: اتصف بصفة من صفات الله تعالى، فاختار الصدق، ثم ارتكب جريمة زنا، وحين سأل أجاب بقوله:نعم، فسجنه الوالي لظنه أنه مجنون، فشفع فيه بعضهم فأخرج من السجن بفضل صدقه كما يزعم.(46/45)
وقد صاغها الفوتي بأسلوب مزخرف مطول يهون الجريمة بدلاً من التنفير عنها(4)، وذكر الفوتي في رماحه قصصاً كثيرة جداً كلها تهدف إلى طاعة المشائخ طاعة عمياء، لا اعتراض ولا جدال، حتى ولو أمر الشيخ المريد بفعل الفواحش وقتل النفوس فعليه التنفيذ، لأنه لا يعرف الحكمة من وراء ذلك إلا الشيخ.
منها: أن بعض المشائخ أمر مريداً له بقتل والده، فجاء المريد بالليل ووالده عند أمه فاحتز رأسه وجاء به إلى الشيخ، فلما عرف صدق إيمان المريد كشف له عن الرأس، فإذا هو ليس والد المريد وإنما كان علجاً في حال غياب أبيه، جاء الشيخ الوحي بذلك.
ثم ذكر قصصاً كثيرة حول هذه الطاعة، ثم عقب بذكر قصص أخرى تفيد أن التلميذ لا ينبغي أن يشك في شيخه حتى ولو رآه يشرب الخمر ويزني ويقتل النفوس، وقد دخلت على أحد المشائخ امرأة ولكنها الدنيا تصورت في صورة امرأة ثم دخلت عليه.
إلى آخر ما ذكر من أمثال هذه الفواحش بأسلوب سافر لم أذكره بنصه، لأولئك الذين سماهم أولياء، والذين قال عنهم بعد ذلك:
"الشيخ هو الولي الكامل في قوله كالنبي في أمته، وأن مبايعته كمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لكونه نائباً عن النبي صلى الله عليه وسلم"(1).
ومن هنا فإنه ينبغي على المريد:
"أن يرى استمداده من شيخه هو استمداده من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه نائبه"(2).
"فعلم أن كل من لم يعتقد في شيخه أنه أشفق عليه من نفسه، وأنه لا يأمر قط بترك شيء إلا ليعطيه أنفس منه، فمحبته نفاق"(3).
وذكر أن الشيخ لو طلب إلى أحد مريديه أن يطلق زوجته، أو يأتي بنصف ماله، أو منعه من وظائفه ومصالحه فأبى، لكان دل على نفاق أيضاً.
ولعل في ذكر الآداب التي ينبغي على المريد أن يمتثلها، أقوى تصوير لمدى هيمنة شيوخ الصوفية على أتباعهم، ومدى الغبن والذل اللذين يلحقان بأولئك القطعان من أتباع رهبان الصوفية، وقد ذكر الفوتي منها ما يلي:(46/46)
1- تعظيم الشيخ وتوقيره ظاهراً وباطناً، وعدم الاعتراض عليه في شيء فعله، ولو كان ظاهره أنه حرام، وعدم الالتجاء لغيره من الصالحين.
2- ألا يقعد وشيخه واقف.
3- ولا ينام بحضرته إلا بإذنه، في محل الضرورات، ككونه معه في مكان واحد.
4- ألا يكثر الكلام بحضرته ولو باسطه.
5- وألا يجلس على سجادته.
6- ولا يسبح بسبحته.
7- ولا يجلس في المكان المعد له.
8- ولا يلج عليه في أمر.
9- ولا يسافر.
10- ولا يتزوج.
11- ولا يفعل فعلاً من الأمور المهمة إلا بإذنه.
12- ولا يمسك يده للسلام ويده مشغولة بشيء، كقلم أو أكل أو شرب، بل يسلم بلسانه، وينظر بعد ذلك ما يأمره به.
13- ولا يمشي أمامه ولا يساويه، إلا بليل مظلم، ليكون مشيه أمامه صوناً له عن مصادمة ضرر.
14- وألا يذكره بخير عند أعدائه، خوفاً من أين يكون وسيلة لقدحهم فيه.
15- وأنه يحفظه في غيبته كحفظه في حضوره.
16- وأنه يلاحظه بقلبه في جميع أحواله سفراً وحضراً لتعمه بركته.
17- وألا يعاشر من كان الشيخ يكرهه، أو من طرده الشيخ عنه.
18- وأن يحب كل من أحبه الشيخ، ويكره كل من يكرهه الشيخ.
19- وأن يرى كل بركة حصلت له من بركات الدنيا والآخرة فببركته.
20- وأن يصبر على جفوته وإعراضه عنه.
21- وأن يحمل كلامه على ظاهره فيمتثله إلا لقرينة صارفة.
22- وألا يتجسس على أحوال الشيخ من عبادة أو عادة، فإن في ذلك هلاكه.
23- وألا يدخل عليه خلوة إلا بإذن.
24- ولا يرفع الستارة التي فيها الشيخ إلا بإذن وإلا هلك.
25- وألا يزور الشيخ إلا وهو على طهارة، لأن حضرة الشيخ حضرة الله تعالى.
26- وأن يحسن الظن به في كل حال.,
27- وأن يقدم محبته على محبة غيره ما عدا الله ورسوله.
28- وألا يكلفه شيئاً، حتى لو قدم من سفر لكان هو الذي يسعى ليسلم على الشيخ، ولا ينتظر أن الشيخ يأتيه للسلام عليه.
29- وألا يكتم عن الشيخ شيئاً مما يخطر له.
30- وألا يعترض عليه فيما يكون منه.(46/47)
31- وألا ينظر في أفعال الشيخ، ولا يعتدى أمر شيخه، ولا يتأول عليه كلامه.
32- ولا يطلب علة للأمر الذي يأمره به، بل يبادر إلى امتثال ما أمره به، سواء عقل معناه أو لم يعقل.. ومتى تأول على الشيخ ما أمره به، أو يقول: تخيلت أنك أردت كذا، فليعلم أنه في إدبار، فليبك على نفسه.
33- ولا يلبس ثوباً لبسه شيخه إلا إذا كساه الشيخ إياه.
34- ولا يسأله عن شيء سؤال من يطلب الجواب منه، بل يجب عليه أن يقص ما وقع له، فإن أجابه كان وإلا فلا، وإن وصف ذلك على أن يجيب الشيخ فقد جعله سؤالاً، وإذا جعله سؤالاً فقد أساء الأدب.
35- ولا يخون شيخه في أمر مأمور به.
36- ومن شرط المريد أن يكون بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل، إن غسل عضواً من أعضائه قبل آخر أو حركه أو تصرف فيه كيف يشاء، فلا يخطر عليه خاطر اعتراضه.
37- ولا يجلس بين يديه إلا مستوفزاً كجلوس العبد بين يدي سيده.
وذكر شروطاً إلى أن قال:
38- ولا يقعد مقعداً حيث كان إلا ويتيقن أن الشيخ يراه، فليلزم ذلك.
39- ولا يديم النظر إليه، فإن ذلك يورث قلة الأدب والحياء، ويخرج الاحترام من القلب.
40- ولا يكثر مجالسته.
41- ولا يقضي لأحد حاجة حتى يشاوره فيها.
42- وإن طلق امرأة فمن الأدب ألا يتزوجها.
43- ولا يدخل عليه متى دخل عليه إلا قبل يديه وأطرق.
44- ويتحبب إليه بامتثال أمره ونهيه.
45- وليكن حافظاً شحيحاً على عرضه.
46- وإذا قدم إليه طعاماً فليلقه أمامه بجميع ما يحتاج إليه، وليقف خلف الباب فإذا دعاه أجابه وإلا فليتركه حتى يفرغ، فإذا فرغ أزال المائدة، فإن بقي شيء من طعامه وأمره بالأكل فليأكل، ولا يؤثر بنصيبه أحداً.
47- ويجتهد ألا يراه إلا فيما يسره، ولا يتمن عليه، وليحذر مكر الشيوخ فإنهم يمكرون بالطالب، فليحافظ على أنفاسه في الحضور معه.
48- ومن شرط المريد ألا يرد على الشيخ كلامه، ولو الحق بيد المريد.(46/48)
49- الاعتراض على الشيخ حرام على المريدين وقوعه، فهذا مريد مسخر للشيطان.
50- ومن شرط المريد إذا وجهه شيخه في أمر أن يمضي لأمره، من غير تأمل ولا توقف ولا يصرفه عنه صارف، حتى قال بعض الشيوخ لبعض المريدين: أرأيت لو وجهك شيخك في أمر فمررت بمسجد تقام فيه الصلاة، فما تصنع؟ فقال: امضي لأمر الشيخ ولا أصلي حتى أرجع إليه، فقال له: أحسنت.
51- ومن شروط المريد الوفاء بكل ما يشترط عليه الشيخ سواء كان صعباً أو سهلاً، وليس للمريد أن يعترض على الشيخ في شيء... فإنهم قالوا: الاعتراض على الشيوخ سم قاتل.
وإن رأيت من الشيخ ما يتراءى عندك أنه غير مشروع فاتهم نفسك.
الولي ينظر إلى باطن المريد ولا عبرة عنده بظاهره.
كل ما يفعله الولي من الأعمال التي تعينه في الظاهر، إنما يكون بسبب معاصي الناس المريدين له، وإلا ما حصل له ذلك، ولو كانوا أصحاب خير وبر لرأوا كل ما يفعله حسناً( ).
... ولقد تركت ذكر آداب وشروط كثيرة واجبة لمشائخ الصوفية بإيجاب النبي صلى الله عليه وسلم لها، على حد افتراء هؤلاء الكاذبين سراق عقول البشر، الذين لا يهمهم أن يدوسوا كرامة الإنسان بأرجلهم.
... ولقد ظهر للقارئ الكريم من خلال ما قدمنا من الآداب التي تطلب من المريد – وهي في الحقيقة أغلال – ما يبعث على الأسى والحزن على أولئك الذي أصبحوا ضحايا الجشع الصوفي، ولقد كنت أتحرق غيظاً في أثناء كتاباتي لهذا الدجل الصوفي التجاني وتشويههم لصورة الإسلام السمحة، واستبعادهم لهؤلاء البله والعوام من المسلمين، إلى حد أنهم يشترطون عليهم أن يروا المنكرات التي يفعلها المشائخ، من الزنا، وبيع الحشيش، وسائر أنواع المنكرات – أن يروا ذلك إما أنهم يفعلونه لحكمة لا يعلمها إلا هؤلاء الأقطاب، أو بسبب معاصي الناس، أو أنها صور تخيل للشخص وليست حقيقية، فأي لصوصية هذه وأي استهتار بكرامة الإنسان؟!(46/49)
... قارن يا أخي المسلم بين من يدخل الإسلام ومدى ما يشعر به من كرامة لنفسه، حين يقال له: أنت الإنسان المكرم الذي سخر لك الله ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة، أنت أكرم على الله من السموات والأرض، أنت خليفة الله في هذه الأرض( )، إلى غير ذلك من تعاليم الإسلام، وبين تعاليم هؤلاء اللصوص المحترفين، حين يشترطون على الداخل في الإسلام على طريقتهم أن يرمي نفسه أرضا لا حراك به، كالميت بين يدي الغاسل، وإذا قدم لشيخه أكلاً أن يقف وراء الباب، ثم يأكل بعد ذلك ما يبقى بعد شبع شيخه الجشع الذي لا يسال عما يفعل.
... لقد سد كهنة التصوف كل منفذ لعودة عقل الإنسان إلى الصواب وكبلوه بسلاسل وأغلال لا انفكاك له منها إلا إذا تداركته رحمة الله تعالى، ولهذا نجد أن من خرج عن طرقهم الفاسدة يكاد يصعق حين تذكر له.
تثليث صوفي:
يقول الفوتي: "فإن المريد لا يجيء منه شيء حتى لا يكون بقلبه غير الشيخ، والله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم"( )، الشيخ، الله، الرسول.
تشريع جديد لأقطاب التصوف:
"ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم وتبحر فيه أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظير الأحكام الظاهرة على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات ومندوبات ومحرمات ومكروهات وخلاف الأولى"( ).
تثبيت الفرقة بين المسلمين وإحكام قبضتهم على أتباعهم وحجرهم عليهم:
يقول علي حرازم: "وأما أتباعه رضي الله عنه-أي التجاني- فقد أخبره سيد الوجود صلى الله عليه وسلم أن كل من أحبه فهو حبيب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون ولياً قطعاً، وأمره أن ينهي أصحابه عن زيارة الأولياء، الأحياء منهم والأموات، وكل من زار منهم ينسلخ عن طريقته.."، إلى أن يقول:
"ويجب على الشيخ ألا يترك أصحابه يزورون شيخاً آخر، ولا يجالسون أصحابه، فإن المضرة سريعة للمريدين"( ).(46/50)
"وسمعت سيدي علياً المرصفي يقول: لا ينبغي لمريد أن يزور ولا يزار، لغلبة الآفات عليه"( ).
تحكم على الله وترهيب للأتباع:
"حكى القشيري في رسالته أن شقيقاً البلخى وأبا تراب النخشبي قدما على أبي يزيد، وقدمت السفرة وشاب يخدم أب يزيد، فقال شقيق: كل معنا يا فتى!، فقال أنا صائم، فقال أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر، فأبى، فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة، فأبى، فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله، فأخذ الشاب بعد مدة وقطعت يده بسرقة"( ).
مبدأ باطني وهو التبني الروحي كما يسمونه:
قال الفوتي: "الفصل الثالث والعشرون في إعلامهم بأن الوالد المعنوي الذي هو الشيخ أرفع رتبة وأولى بالبر والتوقير، وأحق رعاية، وآكد دراية، وأقرب حسباً، وأوصل نسباً من الوالد الحسي"( )، ثم جاء في هذا الفصل بكل طامة إلى أن قال أكاذيب ترددها النصوص الصحيحة والفطر السليمة في دور المشائخ الصوفية في يوم القيامة، منها:
"وأيضا يدعو المريدين بأسماء مشائخهم – أي في يوم القيامة – ويدعوهم إلى منازلهم، ودعاؤهم في ذلك اليوم الشديد الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت بأسماء المشائخ دون أسماء الآباء والأمهات يكفي دليلاً على ارتفاع رتبة المشيخة التي هي الولادة المعنوية، على رتبة الولادة الجسمية"( ).
جزاء المشايخ:
ومن هنا فجزاء المشائخ لا يكاد يبلغه أحد، وقد أوصله كهنة التصوف إلى مرتبة فوق مرتبة الأنبياء حسب قولهم الآتي:
"والله لو وقف المريدون على الجمر بين يدي أحد أشياخهم منذ خلق الله الدنيا إلى انقضائها، ولم يقوموا بواجب حق معلمهم، في إرشادهم إلى إزالة تلك الموانع التي تمنعهم من دخول حضرة الله:( ) قالوا: "ومن نسب تلميذاً إلى غير أستاذه، كمن نسب ولداً إلى غير أبيه"( ).
العشق والغرام في المذهب الصوفي وأكاذيبهم في ذلك:(46/51)
"روى السهرودي بسنده أنا النبي صلى الله عليه وسلم قال حاكياً عن ربه: إذا كان الغالب إلى عبدي الاشتغال بي، جعلت همه ولذته في ذكري، فإذا جعلت همته ولذته في ذكري عشقني وعشقته، ورفعت له الحجاب فيما بيني وبينه ولا يسهوا إذا سها الناس، أولئك كلامهم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال الأبدال حقاً،أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبة أو عذاباً ذكرتهم فصرفته بهم عنهم"( ).
وهذا الحديث بلا شك أنه من جنس الأحاديث التي يرويها الصوفي عن قلبه عن ربه مباشرة، دون أن يعلم بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
متى يسقط ذكر الله تعالى عند الصوفية، فلا يعود لذكر الله وجود في حقهم؟:
يقول الفوتي: "قلت: وإذا كثر العبد ذكر ربه باللسان حصل له الحضور، وإذا حصل له كثرة الذكر مع الحضور، صار الحق مشهودة، وهناك يستغني عن ذكر اللسان… لأن حضرة شهود الحق سبحانه حضرة بهت وخرس، يستغني صاحبها في الجمعية بالمدلول، فقد استغنى العبد عن الدليل فافهم"( ).
ويوضح المقصود من الكلام السابق، قوله عما يجده الشخص في ميدان التصوف، في كفره الآتي:
"وفي هذا الميدان ينمحي الذاكر والذكر ويصير حالة أن لو نطق قال: أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لاستهلاكه في بحار التوحيد، وهذه المرتبة هي آخر مراتب الذكر وصاحبها صامت جامد لا يذكر ولا يتحرك"( ).
وإذا ذكر الله بلسانه في هذه الحال، فإنه يعتبر في حقه ذنباً وفي هذا الحال المعكوس يقول:
بذكر الله تزداد الذنوب
وتنطمس السرائر والقلوب
فترك الذكر أفضل كل شيء
وشمس الذات ليس لها غروب( )
زاد الله ذنوبهم وطمس سرائرهم، انظر كيف تلاعب الشيطان بهم حتى أصبح ذكر الله يزيد ذنوب الإنسان، ويطمس سريرته وقلبه، لأن الأولى به حين يصل إلى تلك المرتبة أن يترك كل شيء، ولاتحاده التام بالله تعالى؛ حيث تصبح ذاته لا غروب لها بعد ذلك.
مستند الصوفية في وجدهم ورقصهم:(46/52)
قال الفوتي: "قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى على كل أحيانه، فإذا انضم إلى هذا القيام رقص أو وجد ونحوه، فلا إنكار عليهم، فإن ذلك من لذات الشهود والمواجيد، وقد ورد في بعض طرق الحديث رقص جعفر بن أبي طالب بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له: أشبهت خلقي وخلقي، من لذة هذا الخطاب،ولم ينكر عليه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فكان هذا أصلاً في الجملة في رقص الصوفية ووجدهم"( ).
ومما يدركه طلاب العلم أن هذا القول مملوء بالمغالطة والكذب، فأين اهتزاز جعفر وخفته في حال سماعه قول الرسول صلى الله عليه وسلم، من رقص الصوفية وتمايلهم طرباً الذي لا يمت إلى الخشوع بأدنى قرابة، وبذكر لا يورث أيضا أي خضوع ولا ذكر للآخرة، مثل ما يذكره الفوتي بقوله في تعداد أنواع ذكرهم وقال:
"فلا حرج على الذكار ما دام مسلوب الاختيار ويستعمله كيف شاء على أنواع مختلفة كلها محمودة وصاحبها مشكور عليها، فلها أسرار، فربما يجري على لسانه الله الله الله، أو هو هو هو، أو لا لا لا لا لا لا لا، أو آ آ آ آ بالمد، أو أ أ أ أ أ أ بالقصر، أو اهـ اهـ اهـ اهـ اهـ اهـ اهـ، أو ها ها ها ها ها ها ها ها، أو … عياط بغير حرف أو صراخ وتخبيط، فأدبه في ذلك الوقت أن يسلم نفسه لوارده يتصرف فيه كيف يشاء"( ).
ولك أيها القارئ اللبيب أن تتصور الصوفي وهو يترنح يميناً وشمالاً وهو يصرخ هو هو هو، أو لا لا لا لا لا لا لا، أو أ أ أ أ، أو ها ها ها ها ها ها ها ها ها، أو بغير تلك الصفات الهوجاء، بأن يكون عياطا بغير حرف، أو كان ذكره أن يصرخ، أو تخبط كالذي مسه الشيطان، فكيف تتصور النتيجة، إنها مآس تقشعر لها الجلود، إن هذا عار على الإسلام والمسلمين، بل عار على العقل والإدراك، إنك لو اطلعت عليهم وهم يرددون هو هو هو – ولم تكن تعرف التصوف من قبل – لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً.(46/53)
ذكر الله وصفة طبية محتكرة على أقطاب الصوفية وبرضاهم:
"اعلم أن الذكر المأخوذ عن غير شيخ، أو عن شيخ غير مفتوح عليه عارف، هلاك صاحبه أقرب من سلامته، ولا سيما أسماء الله تعالى"؛ وسبب ذلك يبينه أحد كهنة الصوفية – وهو عبد العزيز الدباغ – بقوله: "الأسماء الحسنى لها أنوار من أنوار الحق سبحانه، فإذا أردت أن تذكر الاسم، فإن كان مع الاسم نوره الذي يحجب من الشيطان وأنت تذكره لم يضرك، وإن لم يكن مع الاسم نوره الذي يحجب من الشيطان، حضر الشيطان وتسبب في ضرر العبد والشيخ إذا كان عارفاً وهو في حضرة الحق"( ).
رؤية الثعلبي:
من رأى الثعلبي أحد أقطاب الصوفية دخل الجنة. اجتمع أحمد التجاني بالشريف الحسني التهامي فقال له: "سمعت أن لك مزية عظيمة فقال له: ما هي؟ قال له: من رآك يدخل الجنة، قال: نعم، إلا أن المزية ليست لي، فقال له شيخنا: لمن هي، قال: للشيخ الثعلبي؛ لأن من رآه ومن رأى من رآه إلى سبعة أو ثمانية، أو اثني عشر إنساناً يدخل الجنة، وأنا رأيت من رأى من رآه"( ).
وقال كذلك الثعلبي أنه قال: "من رآني إلى سبعة ضمنت له الجنة"( ).
الأولياء والنبي صلى الله عليه وسلم:
الأولياء يرون النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، حسب زعم الفوتي في قوله: "الفصل الحادي والثلاثون في إعلامهم أن الأولياء يرون النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وأنه صلى الله عليه وسلم يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث يشاء في أقطار الأرض والملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته ولم يتبدل منه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد الله أنا يراه عبد، رفع الحجاب فيراه على هيئته التي كان هو عليها"( ).(46/54)
وجاء في الباب بما لا يتصوره عقل سليم من مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ومقابلتهم له، وأخذهم عنه علوماً وفوائد، وغير ذلك مما لا نرى التطويل بذكره، وفوق ما تقدم يذكر الفوتي أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر الديوان الصوفي، وقد أطال في أخبار هذا الديوان والترتيب الذي يسيرون عليه حينما يحضر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حينما يتغيب، قال في أول ذلك الكلام:
"قلت: ولا ينكر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة إلا من لا شعور له بمقامات العارفين ولا اطلاع له على ديوان الصالحين، فها أنا ألخص لك شيئاً من ذلك"( ).
وقال الله من هذا التلخيص الذي هو أشبه ما يكون بحكايات ألف ليلة وليلة، إلا أن تلك الحكايات لألف ليلة وليلة لا تصل إلى عشر الأكاذيب التي ساقها أقطاب التصوف في تفاصيل ذلك الديوان الغريب، الذي يحضره الأولياء والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، أحيانا يحضره الأنبياء كلهم ويحضره أيضا الأموات، ويعرفون بعلامات في لباسهم وكلامهم( )، وأخبار أخرى إذا قرأها العاقل حمد الله على نعمة العقل والدين.
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يحضر الديوان الصوفي فقط، وإنما يحضر أيضاً- حسب أكاذيب الصوفية – صلاة جوهرة الكمال، حسبما يقرره محمد السيد التجاني في كتابه الهداية الربانية؛ حيث يقول:
"وكذلك يحضر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخلفاء الأربعة، والشيخ، ومع عدد عظيم من صفوة الملائكة في الوظيفة السابعة من الجوهرة إلى الاختتام، ويشفع في جميع الحاضرين شفاعة خاصة تلحقهم، وتلحق السابع من أولاده ولو لم يكن فقيراً، إن حضرها بمحبة في الذكر وأهله، ولو لم يعرف خاصيتها، بل يحضر النبي صلى الله عليه وسلم لكل من قرأها في غير الوظيفة حتى يختم، ولو سار عمره ما فارقه صلى الله عليه وسلم صباحاً أو فقيراً أو تلميذاً، وهذا أغرب من كل غريب تفضل به الحق سبحانه على أهل هذه الطريقة لا غير"( ).(46/55)
ولئن كان محمد السيد التجاني، قد كذب في أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة وتلك الصفوف من الملائكة يحضرون، فإنه قد صدق حين قال عن كل ما ذكره سابقاً: "وهذا أغرب من كل غريب"، نعم إنه في منتهى الغرابة، فأي عقل سليم يصدق مثل ذلك الهراء السمج، والكذب على الله، وعلى نبيه، وعلى خيار الصحابة.
ولقد ذكرني كلامه بموقف مر علي حيث وقفت أمام بائع في حانوته- دكانه – وقد كتب عليها لوحة كبيرة هذا عنوانها "من يصدق؟! خصم خمسين في المائة!" فقلت له: نعم، لا أحد يصدق – وأنا أولهم – أنك تخصم خمسين في المائة فضحك وقال: "الناس لا يفهمون غير ما فهمته".
أمثلة مختصرة من مزاعم التجاني يذكرها الفوتي، وفيها من المبالغات تزكية النفس وإطرائها ما لا يليق بمخلوق:
منها قوله:
1- قد أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأني أنا القطب المكتوم، منه إلى مشافهة يقظة لا مناماً.
2- لا يشرب ولي، ولا يسقي إلا من بحرنا، من نشأة العالم إلى النفخ في الصور.
3- إذا جمع الله خلقه في الموقف ينادي مناد بأعلى صوته حتى يسمعه كل من في الموقف: يا أهل المحشر! هذا إمامكم الذي كان مددكم منه.
4- قال الشيخ عبد القادر الجيلاني: قدمي هذا على رقبة كل ولي لله تعالى – يعني أهل عصره – وأما أنا فقدماي هاتان – وجمعهما – على رقبة ولي لله تعالى من لدن أدم إلى النفخ في الصور.
5- هذا القرن أفضل من جميع ما تقدمه من القرون السالفة سوى القرون الثلاثة الوارد النص بأفضليتها( ).
ثم ذكر الفوتي فضائل من تمسك بطريقة التجاني نوردها ليقف القارئ على مدى الهوس والأماني الفارغة التي أقام الصوفية مذهبهم عليها:
1- أن جده صلى الله عليه وسلم ضمن لهم أن يموتوا على الإيمان والإسلام.
2- أن يخفف الله عنهم سكرات الموت.
3- لا يرون في قبورهم إلا ما يسرهم.
4- أن يؤمنهم الله من جميع أنواع عذابه وتخويفه وجميع الشرور من الموت إلى المستقر في الجنة.(46/56)
5- يغفر الله لهم جميع ذنوبهم ما تقدم وما تأخر منها.
6- أن يؤدي الله عنهم جميع تبعاتهم ومظالمهم من خزائن فضله عز وجل لا من حسناتهم.
7- ألا يحاسبهم الله تعالى يوم القيامة ولا يناقشهم ولا يسألهم عن القليل والكثير.
8- أن يظلهم الله في ظل عرشه يوم القيامة.
9- أن يجيزهم الله تعالى على الصراط أسرع من طرفة العين على كواهل الملائكة.
10- أن يسقيهم الله تعالى من حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
11- أن يدخلهم الله الجنة بغير حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى.
12- أن يستقرون في عليين وجنة الفردوس وجنة عدن.
13- أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب كل من أحب التجاني.
14- أن محب التجاني لا يموت حتى يكون ولياً.
15- أن أبوي آخذي ورده وأزواجه وذريته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو لم يكن لهم به تعلق.
16- أن التجانيين تلاميذ للنبي صلى الله عليه وسلم وأحباب الله.
17- أن أصحاب التجاني يعتبرون صحابيين مثل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
18- أن أي أذية لأي تجاني تعتبر أذية للرسول صلى الله عليه وسلم.
19- أن الإمام المهدي في آخر الزمان يأخذ عنهم ويدخل في زمرتهم ويطلب أن يعلموه الفاتحة.
20- أن كل واحد من التجانيين أعلى من أكبر ولي من الأولياء ممن عداهم.
21- في الأذكار التي أعطيها التجاني اسم الله الأعظم.
22- أن كل تجاني يحفظ الأذكار آمن من السلب.
23- أن الله تعالى يعطيهم عن كل عامل تقبل الله عمله الضعف في أجره وهم رقود.
24- لا يمر عليه ما يمر على سائر الناس من التعب في الموقف.
25- أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر هو وخلفاؤه مع التجانيين دائماً.
26- يتميزون يوم القيامة عن سائر الناس بأن كل واحد منهم مكتوب بين عينيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى قلبه مما يلي ظهره محمد بن عبد الله، وعلى رأسه تاج من نور مكتوب فيه الطريقة التجانية منشؤها الحقيقة المحمدية.(46/57)
27- أن التجاني لا يعذب ولو قتل سبعين روحا إذا تاب بعدها.
أقتصر على ما ذكر وإلا فإن الفوتي ذكر بعد ذلك مزايا تدل على سعة خياله وعدم خوفه من القول على الله بغير علم.
ثم ذكر مزايا لأذكار الطريقة التجانية لا يستطيع الخلق حصرها ولو جائوا بكل أجهزة الآلات الحاسبة، واستدل على ذلك بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وكل المخلوقات في السموات والأرض ومن فيهن والعرش والكرسي والقلم واللوح المحفوظ – كلها خلقت من نور محمد صلى الله عليه وسلم، والأرواح كلها كذلك من نوره صلى الله عليه وسلم. هذه الخرافات كلها يثبتها الفوتي في رماحه تبعاً لمفاهيم الصوفية الضالة، ويثبت أن الله قبل كل شيء ليس معه إلا ذات النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الملائكة وجبريل في أولهم إنما خلقوا لخدمة محمد صلى الله عليه وسلم ( ).
تلاعب التجانية بتفسير القرآن الكريم:
"أنه صلى الله عليه وسلم عين الرحمة الربانية؛ لأن جميع الوجود رحم بالوجود بوجوده صلى الله عليه وسلم، ومن يفيض وجوده أيضا رحم جميع الوجود؛ فلهذا قيل فيه: عين الرحمة صلى الله عليه وسلم وهو المراد بقوله: ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (( ).وقوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لَلْعَالَمِينَ(( )" ( ).
الصوفية باطنية ويفضلون العلوم الباطنية على العلوم الإسلامية:(46/58)
تسائل الفوتي على لسان شخص: ما الفائدة من الالتجاء إلى علم الشريعة – أي علم الظاهر – مع أن الحقيقة أي العلم الباطني أفضل؟، ثم أجاب عن ذلك، وصيغة السؤال والجواب هي: "فإن قلت: فلم لا يكتفي الإنسان بعلم الباطن المسمى علم الحقيقة، فيعمل بها حيث كانت هي المقصودة بالذات، فلم يقدم على الظاهر المسمى بالشريعة التي هي الوسيلة؟"، قم قال في الجواب: "قلت: اعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه أن علم الشريعة الذي هو علم الظاهر وسيلة إلى المقصود بالذات الذي هو علم الحقيقة كما ذكرت، وعلم الحقيقة افضل وأشرف منه، إلا أن الانتفاع بعلم الحقيقة منوط باستصحاب علم الشريعة"، ونقل عن عبد العزيز بن مسعود الدباغ قوله:
"إن علم الظاهر بمثابة الفنار الذي يضيء ليلاً، فإنه يفيد في ظلمة الليل فائدة جليلة. وعلم الباطن بمثابة طلوع الشمس وسطوع أنوارها وقت الظهيرة"( ).
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثامن
الخلوات الصوفية ومنها الخلوات التجانية
... أورد الفوتي في رماحه المعوجة، إيضاحات كثيرة لهذه الخلوات الصوفية تحتاج إلى دراسة مستقلة، ولئلا يفوت القارئ بعض أخبارها فإنني سأكتفي بإيجاز بعض ما قرره فيها كهنة الصوفية، الذين أسهموا بجهد كبير في تنويم الأمة الإسلامية وتأخرها، وتخدير كل عرق نابض فيها حتى وصلت إلى ما وصلت عليه، ومما لا يزال أقوى شاهد على تلك الجهود ما هو حاصل بين المسلمين في عصرنا الحاضر.
الدليل على الخلوات الصوفية حسب زعمهم:
... يستدلون بما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه – وهو التعبد الليالي ذوات العدد -…" إلخ الحديث( ).
يقول الفوتي:(46/59)
"فهذا الحديث المنبئ عن بدء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصل في إثبات المشائخ للخلوة لمريد من الطالبين"( ).
والجواب:
1- أن هذا الحديث بينه وبين الخلوة الصوفية فراق لا لقاء معه، فإن خلوة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كانت لتحبيب الله عز وجل له ليهيئه لحمل الأمانة العظمى.
2- كانت قبل أن يؤمر بتبليغ الناس الدين الإسلامي،
3- لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أشار إليها ولا استحسنها لأمته على الطريقة الصوفية.
4- لم يفعلها أحد من الصحابة ولا من بعدهم من التابعين لهم بإحسان.
5- أنها تنافي ما هو ظاهر من الشريعة الإسلامية، بالاكتساب وبدعوة الناس ومخالطتهم، إلى غير ذلك من الأجوبة التي يدركها طلاب العلم.
والخلوة الصوفية بدعة مستحدثة، وليس فيها أي نفع لا للشخص ولا للمجتمع، يخرج منها مظلم الفكر محلاً للوساوس نافراً عن الناس.
مدتها:
يقول الفوتي:
"وأكثرها عند القوم لا حد له، لكن السنة تشير للأربعين بمواعدة موسى صلى الله عليه وسلم، والقصد في الحقيقة الثلاثون؛ إذ هي أصل المواعدة وجاور صلى الله عليه وسلم بحراء شهراً".
شروط الخلوة الصوفية:
ذكر الفوتي ستة وعشرين شرطاً لصحتها نذكرها باختصار، وللقارئ أن يلاحظ أثناء عرضها مدى تغلغل الأفكار المخالفة للإسلام فيها، من بوذية وهندوسية ونصرانية وغير ذلك:
1- أن يعود نفسه قبل دخولها إذا أراد الشروع، السهر والذكر وخفة الأكل والعزلة.
2- أن يكون دخول الخلوة بحضور الشيخ ومباركته له وللمكان أيضاً.
3- أن يعتقد في نفسه أن دخوله الخلوة إنما هو بقصد أن يستريح الناس من شره.
4- أن يدخلها كما يدخل المسجد مبسملاً متعوذاً بالله تعالى من شر نفسه، مستعيناً مستمداً من أرواح مشايخه بواسطة شيخه المباشر.
5- أن يدخل الشيخ الخلوة ويركع فيها ركعتين قبل دخول المريد ويتوجه إلى الله تعالى في توفيق المريد.(46/60)
6- أن يعتقد عند دخوله الخلوة أن الله تعالى ليس كمثله شيء، فكلما يتجلى له في خلوته من الصور، ويقول له: أنا الله، فيقل: سبحان الله! آمنت بالله.
7- ألا يتلهف كثيراً على كثرة ظهور الكرامات.
8- أن يكون غير مستند إلى جدار الخلوة ولا متكئاً على شيء، مطرقاً رأسه تعظيما لله تعالى، مغمضاً عينيه، ملاحظاً قوله تعالى: أنا جليس من ذكرني، ثم يجعل خيال شيخه بين عينيه، فإنه معه وإن لم يره المريد.
9- أن يشغل قلبه بمعنى الذكر على قدر مقامه، مراعياً معنى الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه.
10- أن يداوم الصوم؛ لأنه يؤثر في تقليل الأجزاء الترابية والمائية فيصفو القلب.
11- أن تكون الخلوة مظلمة لا يدخل فيها شعاع الشمس وضوء النهار، فيسد على نفسه طرق الحواس الظاهرة، وسد طرق الحواس الظاهرة شرط لفتح حواس القلب.
12- دوام الضوء لتلألأ الأنوار فيها بعد ذلك.
13- دوام السكوت إلا عن ذكر الله تعالى إلا عند الضرورة القصوى فيتكلم بحذر شديد أن يزيد.
14- أن تكون الخلوة بعيدة عن حس الكلام وتشويش الناس عليه.
15- كونه إذا خرج للوضوء والصلاة يخرج مطرقاً رأسه إلى الأرض غير ناظر إلى أحد، ويحذر كل الحذر نظر الناس إليه، مغطياً رأسه ورقبته بشيء؛ لأنه ربما يحصل له عرق الذكر فيلحقه الهواء فيضره.
16- أن يحافظ على صلاة الجمعة والجماعة – وإن وجد نفقة فليتخذ له شخصاً يصلى معه في خلوته؛ أي بالإيجار.
وإذا خرج لصلاة الجماعة فليتأخر حتى يكبر الإمام تكبيرة الإحرام فإذا انتهى من الصلاة رجع فوراً إلى خلوته , قال السهروري:"وقد رأينا من يتشوش عقله في خلوته ولعل ذلك لشؤم إصراره على ترك صلاة الجماعة.
17- المحافظة على الأمر الوسط في الطعام لا فوق الشبع ولا الجوع المفرط.
18- ألا ينام إلا إذا غلبه النوم بأن تشوش عليه الذكر.
19- نفي الخواطر عن نفسه خيره كانت أم شريرة.(46/61)
20- دوام ربط القلب بالشيخ بالاعتقاد والاستمداد على وصف التسليم والمحبة، والاعتقاد التام بأنه لا يصل إليه أي خير إلا من قبل شيخه المباشر، ومتى غاب فكره عن الشيخ فقد خسر الصفقة.
21- ترك الاعتراض عن الشيخ؛ لأنه أعلم بمصالحه وأكبر عقلاً وأعظم؛ لأنه بالغ مبلغ الرجال بخلاف المريد.
22- أنهم في أثناء خلوتهم لا يفتحون أبواب خلوتهم لمجيء الناس وزيارتهم والتبرك بهم، وإياك وتلبيسات النفوس وخداع الشيطان بالإلقاء فيك أن هذا الشخص يهتدي بك وبكلامك وينتفع بملاقاتك في الدين، فإنها من شبكات مكر اللعين.
23- أنه إذا شاهدوا أشياء تقع لهم في اليقظة أو بين النوم واليقظة فلا يستقبحون ذلك ولا يستحسنونه، بل يعرضون ذلك على الشيخ وهو يتصرف بعد ذلك.
24- دوام الذكر والأذكار حسب ترتيب الشيخ لها.
25- الإخلاص وحسم مادة الرياء وطلب السمعة بالكلية.
26- ألا يعين مدة يخرج بعد كمالها، فإن النفس يصير لها بذلك تطلع إلى انقضاء المدة، بل يدخلها وهو يحدث نفسه بأنه قد انتهى من الحياة ودخل القبر.
هذه أهم الشروط التي لفقها علماء التصوف مثل حرازم الفوتي والسهروردي والشيخ نجم الدين البكري وغيرهم من عتاة التصوف.
ولا شك أن القارئ يدرك تأثير هؤلاء الصوفية بالمبادئ الخارجة عن الإسلام، وكيف حاولوا أن يظهروها ويغطوها بغطاء إسلامي، وإلا فأين مستندهم من القرآن والسنة النبوية على تلك الرهبانية وتلك الخلوة، في ذلك الحفش المظلم، الذي يسد فيه أي شعاع للنور، ويجلس غير مستند على شيء؟!، هل هو من الإسلام؟!، وتلك الطاعة العمياء التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي لا ينبغي أن تكون إلا لله ولرسوله فقط، هل هي من الإسلام؟.
إن كل ذلك جناية، على العقل أيما جناية وإذلال للمؤمن أيما إذلال، وإساءة لتعاليم الإسلام الحنيف وتشويه لصورته المشرقة عند من لا يعرفه.(46/62)
وزوجة الشيخ المطلقة لا يحق للمريد أن يتزوجها لقول الله في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِه(( )، يقول الفوتي في بيانه لأقسام الناس بالنسبة لطاعة شيوخهم:
"ومنهم من يتزوج مطلقة شيخه لولا قول الله تعالى: ( وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِه أَبَداً(( ).
أقسام الخلوات الصوفية:
1- خلوة الأربعين يوماً التي تقدم ذكرها وشروطها.
2- خلوة فاتحة الكتاب، وكيفيتها أن تصوم أربعين يوماً وتحترز فيها من أكل الحيوان وما يخرج منه، وتقرأ هذا الدعاء.. إلى آخر ما يذكر، وهنا لا أظن أن الأمر يحتاج إلى اجتهاد في استكشاف نزعة التصوف الوثنية.
3- خلوة البسملة ومدتها تسعة عشر يوماً، ومن فاته سر بسم الله الرحمن الرحيم فلا يطمع أن يفتح عليه بشيء.
4- خلوة الفاتحة أيضاً وهي أن يلازم بقراءتها بالخلوة أربعين يوماً.
5- خلوة الياقوتة الفريدة، وخلوتها عشرون يوماً، تتلى كل يوم في الخلوة ألفي مرة.
وقال الفوتي بعد ذكر تلك الخلوات الخرافية:
"انتهى ما أردنا ذكره منها، ولكل واحد منها ثمرات لا يمكن حصرها، منعني من ذكر بعضها الخوف من شياطين الطلبة" ( ). ولعله يدرك أن هؤلاء الطلبة ربما لا يزال فيهم وميض من العقل والمعرفة، فأخر الأخبار بكل التفاصيل إلى وقتها.
ولعل الذي شجع الصوفية على هذا الخبط والاضطراب، ما هو مقرر عندهم في القاعدة الآتية: "أصحاب الفتح الأكبر لا يتقيدون بمذهب من مذاهب المجتهدين، بل يدورون مع الحق عند الله تعالى أينما دار"( )، ولهذا فكل عمل يعملونه يعتبر من باب التشريع للأمة.
تثبيط الصوفية أتباعهم عن الجهاد في سبيل الله وقتال الكفار وتسميتهم للجهاد بالجهاد الأصغر وتسميتهم لما يسمونه جهاد النفس بالجهاد الأكبر:
قال الفوتي: "انعقد إجماع الأمة على وجوب جهاد النفس، والهجرة عن مألوفاتها وردها إلى الله تعالى، أكبر من جهاد الكفار بلا ريب، لوجوه( ):(46/63)
1- أحدها: أن جهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها السيئة فرض عين وجهاد الكفار فرض كفاية.
2- أن النفس أعدى من كل عدو لصاحبها؛ لأن المجاهد جهاد الكفار إن قتل الكافر دخل الجنة، وإن قتله الكافر كان شهيداً، بخلاف النفس فإن غلبها صاحبها استولى عليها، وكان الحكم للروح وسعد وسعدت سعادة الأبد، ومن غلبت وتسلطت على الروح تسلط عليه الكفر والمعاصي فيهلك.
3- إن ضرر الكفار مقصور في الدنيا وهي فانية ولذلك كان جهادهم أصغر… وفي عرائس البيان عند قوله تعالى: ( يَا أًيُّهَا الًّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ(( ) النفوس التي هي تجمع الهوى والبلاء والحجاب، من عرفها قاتلها وأمتها؛ يعنون الرياضات.
4- أن جهاد الكفار قد لا يكون فرضاً في بعض السنين، وجهاد النفس وردها عن مقتضى هواها والهجرة عن مألوفاتها الباطلة واجب عين على كل مسلم ومسلمة في كل لحظة.
5- أن بعض فروض الكفاية أفضل من جهاد الكفار.
6- أن فرض جهاد الكفار يسقط بمنع الأمر والنهي من الوالدين، لوجوب طاعتهما، ويحرم طاعتهما في مجاهدة نفسه.
7- أن جهاد الكفار يقدر عليه كل أحد وجهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها… لا يقدر عليه إلا الموفقين.
8- أن شهيد جهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها المخزية شهيد قطعاً في الآخرة، وأكثر شهداء الكفار شهداء الدنيا فقط دون الآخرة.
9- أن القائم بجهاد نفسه والهجرة عن مألوفاتها المضلة، قائم لإصلاح نفسه وساع في تخليصها من الدنيا وعذاب الآخرة، والقائم بجهاد الكفار قائم لإصلاح غيره
10- أن شهيد جهاد النفس والهجرة عن مألوفاتها المبعدة عن الله تعالى أفضل من شهيد جهاد الكفار بدرجات.
وهناك أقوال أخرى كثيرة لأقطاب التصوف في تثبيط المسلمين عن جهاد الكفار، وتركهم، والانزواء في الزوايا والأربطة ومجاهدة النفس وإصلاحها دون إصلاح الآخرين.(46/64)
ومن الواضح أن تلك التعليلات التي ذكرها الفوتي ويذكرها غيره من أقطاب الصوفية تعليلات واهية، تردها النصوص الكثيرة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه، كما في سورة براءة وكما في أحاديث فضل الجهاد والقتل في سبيل الله، وتمني الشهيد الرجوع إلى الدنيا مرة أخرى ليقتل في سبيل الله، ولما يرى من إنعام الله ورضاه عنه.
وزعم الصوفية أن جهاد النفس أولى مغالطة؛ فإن جهاد الكفار هو أعلى جهاد للنفس، وفضله أعلى وأشرف، ولو أن المسلمين أطاعوا الصوفية، وقبعوا في الزوايا المظلمة، وتركوا قتال الكفار, واهتموا بجهاد أنفسهم على طريقة الصوفية لجاء الكفار , ولكان أول ما يبدءون به هو إخراج هؤلاء الدواجن من زواياهم، ثم هتك أعراض المسلمين وأخذ بلدانهم وأموالهم وإذلالهم وإهانتهم. إن ما يذهب إليه هؤلاء الصوفية هو تخدير وتنويم للمسلمين.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خدّه بدموعه
فنحورنا يوم الكتيبة تخضب
ومن الواضح أن أعداء الإسلام حينما ينظرون إلى الصوفية بعين الرضا والارتياح، فإنما ذلك لأجل هذه المواقف المتخاذلة التي وقفها أقطاب التصوف منهم، ولقد اتفقت دعوة الصوفية إلى ترك الجهاد مع كل الأفكار الخارجة عن منهج الله عز وجل؛ إذ ما من طائفة من تلك الطوائف إلا وكانت الدعوة إلى ترك الجهاد من أولويات اهتماماتهم.
وأرجو من الله عز وجل أن يهيئ لدراسة الأفكار الصوفية المتقدمة دراسة وافية، ورد كل مزاعمهم التي فرقوا بها دينهم وأمتهم إلى وقتنا الحاضر.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل التاسع
مغالطات لجنة جماعة الصوفية في مدينة "ألورن" في نيجيريا(46/65)
... وأما لجنة جماعة الصوفية في مدينة "ألورن" في نيجيريا فقد أرادوا تحسين الوجه الكالح للتجانية والقادرية أيضاً؛ حيث أخرجوا كتيباً باسم "رفع الشبهات عما في القادرية والتجانية من الشطحات"( )، وقام بترتيبه الحاج محمد إبراهيم النفاوي القادري، والحاج علي أبو بكر جبتا التجاني. وقد صدروا هذا الكتيب بأبيات للحاج حمزة سلمان أبارغدرما الألوري ومنها:
انتبهوا يا معشر الإخوان
على فساد واعظي الزمان
قد دخلوا في هذه البلدان
لنصرة الإلحاد والشيطان
وطعنوا في شيخنا التجاني
وطعنوا في شيخنا الجيلاني
... إلى آخر تلك الأبيات التي يدافع بها عن التجانية ويحذر من دعوة المصلحين من المسلمين إلى رجوع التجانيين إلى الحق، وقد وصف هذه الدعوة الإصلاحية أنها نصرة للشياطين وللإلحاد، لمجرد انتقادها منهج التجانية وجرائمه، ويقصد بهم جماعة نصرة الإسلام في مدينة كادونا.
... وما دامت النصيحة واجبة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإنني أحذرك أيها القارئ من قارئتها قبل أن تقرأ مبادئ الصوفية والردود عليهم، لا لغزارة علم فيها، وإنما لكثرة المغالطات والتأويلات وإيراد الأدلة على غير معانيها الصحيحة سواء كانت من القرآن الكريم، أو من السنة النبوية، فقد جاءت ردودهم من واقع الانفعال العصبي، ضد من كفرهم من بعض الدعاة وطلبة العلم في نيجيريا وغيرها، كما يذكرون، ولا ريب أن إعلان تكفيرهم وإخراجهم من الملة هم أو سائر الصوفية، حكماً عاماً دون تفصيل، لا ريب في قبح خطئه.(46/66)
... ومما أحب تنبيه طالب العلم إليه هو ما جاء في ردودهم من الأخطاء الفاحشة في تأويل صفات الله تعالى كما في الطريقة المعروفة عن نفاة الصفات؛ حيث جعلوها من المتشابهات ثم أكدوا أنهم يؤمنون بالمتشابهات من القرآن الكريم ومن السنة النبوية، ويطلبون لما ظاهره عدم موافقة الواقع تأويلاً؛ ليخلصوا بعد ذلك لأقطاب الصوفية – أيضاً – كلامهم يحمل ما كان منه مخالفاً للواقع أو فيه شطح على التأويل،مع حسن الظن بهم كيفما كان اعتقادهم، وهو طلب مردود؛ فإن الإنسان لا يعلم ما في نفسه إلا الله، وإنما يحكم عليه حسب ما يظهر من قوله أو فعله أو اعتقاده.
... وهؤلاء أصحاب الشطح أظهروا كلمات كفرية، وفعلوا أفعالاً باطلة وتمدحوا بذلك كله، ولو جاز هذا المسلك لجاز أن نعتذر لمن لطم شخصاً أو لعنه، بأنه فعل ذلك من فرط حبه وتقديره له.
وأما بالنسبة لجواب التجانيين في مدينة "ألورن" عن بعض المبالغات في الطريقة التجانية- ومنها صلاة الفاتح – فقد أجابوا عن تقرير التجانيين، في أن صلاة الفاتح لما أغلق المرة الواحدة منها تعدل آلاف ختمة، بأن هذا من المتشابهات، ولعله أريد بذلك تفضيل الممكن على المستحيل؛ أي من حيث أنه يمكن أن يصلي بصلاة الفاتح في دقيقة واحدة، ويستحيل أن يقرأ ستة آلاف ختمة في دقيقة واحدة.
والغريب في هذا الجواب أن يتكلف له إلى هذا الحد بأن يقال: إنه من المتشابه، وكان الأسهل والأقوى في الجواب أنهم يقولون: هذا خطأ من التجاني وخروج عن الصواب لا أنهم يجعلونه من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، فهو قول بشر، والبشر معرضون للخطأ والصواب، وأي حرج في أن يخطأ التجاني أو غيره، ومن المؤسف أن يقال: أخطأ عمر أو أخطأ ابن عباس أو ابن مسعود أو ابن عمر ثم لا تحصل هذه الجرأة أمام التجاني، ويقال له: أخطأت، فإن القرآن الكريم هو كتاب الله لا يعدله كلام البشر، مهما كانوا عليه من العلم أو الصلاح، ولكن التعصب ليس له عقل.(46/67)
مع أن صلاة الفاتح هذه ليس فيها ذكر السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بل فيها ذكر الصلاة فقط، وهو نقص بلا شك في صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، على ضوء قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً(( ).
ونذكر للقارئ هنا جواب علماء "ألورن" من الصوفيين التجانيين، حيث قالوا: "فالجواب: على المسلم أن يصلي على النبي، وأن يسلم عليه مرة في عمره، ثم ما زاد فعلى الاستحباب، فلا يجب الجمع بينهما في زمان واحد".
وهذا رأى مرجوح وإن كان قد قال به جماعة من العلماء.
فإن الحق الذي تطمئن إليه النفس هو: أن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم تجب في مواطن كثيرة وليس مرة واحدة( )، فإن هناك عشرات الأحاديث في الحث على الصلاة عليه في كل وقت وخصوصاً يوم الجمعة، والله تعالى في القرآن الكريم يطلب من المؤمنين أن يداوموا الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رغم أنف عبد ذكرت عنده فلم يصل عليّ"، فهل نترك الصلاة والسلام عليه في التشهد في الصلاة بحجة أنه لا يجب علينا السلام عليه إلا مرة واحدة في العمر؟
فجوابهم هذا سقيم مثل سقم جوهرة الكمال التي ورد فيها وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأسقم، ومع ذلك حاول كبراء الصوفية جاهدين إخراج ما جاء في هذه الصلاة من عثرات وجهل بصورة مقبولة، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، لأن في صلاة جوهرة الكمال أمور يقف عندها الشخص حائراً طالباً الدليل ملحاً عليه، منها:
1- إيجابهم الوضوء لقراءتها كما في الهداية الربانية وجوهرة الكمال ورماح الفوتي.
2- وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأسقم، وهي كلمة نابية لا تقبلها النفس مهما أسدل عليها من تأويلات.
3- ما جاء من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بإحاطة النور المطلسم.
4- زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بنفسه عند قراءة جوهرة الكمال.(46/68)
أجابوا عن وجوب الوضوء لقراءتها بأنه شرط كمال لتحصيل البركة.
وعن الأسقم أنها بمعنى العدل.
وعن المطلسم أي الخفي عن الغير.
وعن حضور النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ممكن؛ لأنه من الخوارق، والنبي في قبره يرد السلام على من يسلم عليه ويظهر لأحبابه في أي مكان.
ثم استدلوا على حضوره في كل مكان بدليل أحب أن تحكم عليه أنت بنفسك أيها القارئ،هذا الدليل هو محطة (التليفزيون) حيث تبث الصور في كل مكان وهي ثابتة في مكانها، فهل تلك الأجوبة التي أجابوا بها على مسائل في غاية الأهمية تقنع أحداً يحرص على معرفة الحق؟، وهل محطة التليفزيون تكفي لإقناع المسلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي بعد وفاته إلى مجالسهم؟!.
وكذا إيجابهم الوضوء لجوهرة الكمال، فإنه قد تقرر عند المسلمين أن الوضوء لا يجب إلا للصلاة ولقراءة القرآن والطواف بالبيت، أما أنه يجب لقراءة جوهرة الكمال فهو حكم جديد يحتاج إلى دليل، وأين الدليل؟!.
وأما الأسقم والمطلسم فيكفي في النفور عن ظاهرها، فهي كلمات متكلفة لم ترد في كتاب الله ولا في سنة نبيه ولا في أقوال علماء الإسلام.
وأما حضور النبي صلى الله عليه وسلم مجلس لهوهم وطربهم فهو قول لا يسلم لهم به أي إنسان عنده مسكة من عقل أو أثاره من علم، فحينما مات النبي صلى الله عليه وسلم غسل، وحفر قبره، ودلي فيه كما هو الحال في بقية بني آدم، ثم دفن، بعد ذلك النزاع بين المسلمين في موضع دفنه، وحصل ما حصل للمسلمين بعد وفاته من فتن وبلايا – كانوا أحوج إليه، ومع ذلك لم يقل أحد منهم أنه رآه أو حضر أمرهم أو شاركهم فيه.(46/69)
وإذا كان الأمر على ما ذكره الصوفية في حقه الشريف، من أنه يخرج من قبره حين يجتمعون ويفرشون له بساطاً أبيض يليق بوقوفه عليه، فمن يدفنه مرة أخرى؟!، فإنهم يزعمون أنه يحضر بجسده ويقابلهم يقظة لا مناماً، وهذا يبطل ما استدل به التجانيون المتأخرون من تمثيل حضوره بمحطة (التليفزيون)؛ لأن هذا لا يتحقق إلا إذا قالوا: يحضر بروحة فقط وفي مكان واحد أيضاً فقط، وهم لا يقولون هذا؛ بل يقولون: يحضر في كل مكان في وقت واحد وبجسده الشريف.
وهل محطة التلفزيون تصلح أن تكون دليلاً مقنعاً على هذه المسألة الخطيرة؟.
ويجدر بالذكر هنا أن جماعة "ألورن" تناقضوا في مسألة أصلها خطأ، وبنوا عليها حكماً خاطئاً، وذلك في قولهم: فصلاة الفاتح خالصة جامعة شاملة للمعاني العالية، ولو كان مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته لفرح بها، كما فرح بمدح كعب بن زهير حين مدحه بقوله:
إن الرسول لسيف يستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
وبغض النظر عن صحة ترتيب البيت فإن الذي يهمنا هنا أمور، منها:
1- كيف يقولون: أن صلاة الفاتح لو مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته لفرح بها، وهم يعتقدون ويقررون في كتبهم المعتمدة، أن الرسول يحضر أماكنهم ويجالسهم ويحضر الديوان العام لهم بجسده وروحه، ومعنى هذا أنه سمع بهذه الصلاة مرات عديدة؟!.
2- أنهم يقررون أنها وحي من الرسول صلى الله عليه وسلم للتجاني فكيف بعد ذلك سيقولون: إنه لو سمع بها لفرح؟!.
3- أنه ليس فيها ما يفرح، ففي الأذكار الثابتة والصلوات التي علمها صلى الله عليه وسلم أمته لا تعتبر صلاة الفاتح لما أغلق شيئاً بالنسبة لها.
4- فكره، فهي من باب إن من البيان لسحراً، بخلاف دعاء الفاتح فليس فيه شيء من هذا.(46/70)
5- كيف يقررون فرح النبي صلى الله عليه وسلم بها لو سمعها، مع أن فيها إثبات أجور لا يعلم عددها إلا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بوحي، وهي أمور غيبية لا تقال إلا بإخبار الله ورسوله عنها، فإثباتهم لتلك الأجور إما أن تكون بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وذكره لها، وإما أن تكون من وضع خيالاتهم، وإذا قالوا: ما لم يثبت فهو رد عليه، فكيف يدعون أنها كانت من تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يقولون لو علم بها لفرح بها ثم يثبتون فيها أجوراً خيالية بدون سند صحيح.
وعلى هذا فيعتبر قول جماعة "ألورن": إن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان سمعها لفرح بها، كلام من تلقاء أنفسهم واجتهاد خاص بهم، تناقضوا فيه دون أن يشعروا، مع أن هذا القول غير مسلم به؛ فإنه بإمكان كل شخص أن يخترع في الدين ما يشاء، ثم يقول بمثل مقالتهم هذه ويعلل بمثل تعليلاتهم.
تنبيه:
لقد أطلت في النقل عن التجانية فيما تقدم لأمور أبديها فيما يأتي:
1- أن ذلك النقل كان من أهم كتب التجانية مثل: جواهر المعاني، ورماح الفوتي، وغيرهما من كتب التجانيين.
2- لأن التجانية لا تزال مستولية على مفاهيم كثير من الناس، ولا تزال لها سلطتها الفولاذية على كثير من بلاد أفريقيا بخصوصها.
3- لكي يقف القارئ على أفكار التجانية وما تحمله من أخطار من كتبهم؛ لئلا يظن أحد بوقوع التحامل عليهم.
4- كنت قد جمعت تلك الأقوال في أوراق خاصة للرجوع إليها عند الحاجة، ثم رأيت أن حاجة طلاب العلم إليها أيضاً لدراستها وللرد على التجانية ربما تفوق حاجتي؛ فأحببت أن أقدمها بل أعتبرها هدية لهم؛ حيث قرأت أهم مصادرهم واستخلصت منها ما يحتاج إلى تنبيه ودراسة ونقد؛ لضرره على الإسلام والمسلمين.(46/71)
عرضت لك الأفكار من باب النصيحة لكي لا يقع أي شخص ضحية تلك الأفكار التجانية الخاطئة، ولينجوا منها من أراد الله به خيراً، ممن وقع فيها، بعدما يقرأ بنفسه ما تبيته التجانية لأتباعها، من ذل واستعباد لا يليق بالإنسان الذي كرمه الله تعالى.
ما لمسته بنفسي من التعصب الأعمى للتجاني وأفكاره، من جهلة بعض المسلمين، مما يجعل الواقف على ذلك في حزن على هؤلاء الذين أرغمت أنوفهم في الأرض، دون أن يشعروا بكرامتهم المداسة من قبل أقطاب التصوف؛ حيث علقوا أنظارهم وأهدافهم بالوصل إلى الكرامات والاتحاد مع الله ومناجاته لهم، ووصولهم إلى درجة يسقط معها كل تكليف، وأنهم في الآخرة من الآمنين؛ لأنهم قد رأوا التجاني أو رأوا من يراه إلى اثني عشر رجلاً، وهو أو الثعلبي أو غيرهما ممن جرأ على استعباد أفكار الناس دون رحمة بهم أو عطف على مصيرهم.
كان في نيتي أن أجعل تلك النصوص موضع دراية خاصة؛ إذ لا تحتمل هذه الدراسة التوسع في دراسة تلك النصوص وفحصها والرد عليها، ومهما يكن، فقد حصلت عندي قناعة تامة بأن إطلاع طلاب العلم على تلك النصوص – حتى وإن كانت بطريقة موجزة – فيها نفع عظيم لهم، وفيها أيضاً تزويدهم بما يدحض تعصب التجانيين ضدهم،ودفع شبههم والتطاول عليهم، حين يغالطون في نفي المفاهيم الضالة التي توجد في كتبهم المعتمدة، والتظاهر بالاستقامة وعدم الغلو.
والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل العاشر
كيفية الدخول في المذهب الصوفي
... ... للصوفية طرق عديدة ومسالك مظلمة وقواعد خاصة للتربية حسب منهجهم، وكيفية ذلك عندهم نوجز الكلام عنه فيما يلي:
1- أول ما يجب على الداخل هو أن يختار الفرد أو الجماعة من المريدين شيخاً لهم يسلك بهم رياضة خاصة بهم على دعوى وزعم تصفية القلب للوصول بالمريد إلى معرفة الله، هكذا يزعمون وهو في الحقيقة يصل إلى متاهات وضلال بعيد،(46/72)
ولا يتم السير في الطريق الصوفي إلا إذا عطل المريد عقله وفكره.
2- أن يتبع المريد شيخه أتباعاً مطلقاً حتى وإن كان في تحريم الحلال وإحلال الحرام.
3- عليه أن يردد ما يردده الشيخ من أذكار.
4- ثم يكون وجوباً عليه أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، فإن الاعتراض وإبداء الرأي من أكبر الأخطار على المريد وطرده عن رحمة الله.
5- وعليه كذلك أن يعتقد أن جميع ما يفعله الشيخ هو الحق والصواب حتى وإن رآه يشرب الخمر ويزني؛ لأن الشيخ لا يفعل الفواحش بروحة وإنما بصورته البشرية لتربية المريدين، وهذا مخرج للصوفي إذا فعل فاحشة، وما أكثر ما يفعلونها تحت هذا الستار، وعلى التلميذ أن لا يفكر في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ لأنه يتعارض تماماً مع ما يراه زعماء الصوفية من وجوب التسليم للشيخ في كل ما يأتي ويذر.
6- كما أنه يحب عليه أن يجتاز تلك الخلوة المفروضة.
7- وأن يتصور صورة الشيخ ماثلة أمامه في كل حال، وأن يعتقد أن الشيخ يعلم بكل شيء عنه وهو في داخل خلوته، ويعرف كل شؤونه ما دق منها وما جل.
8- وأن لا يغير شيخه بآخر.
9- ولا يزور أحد المشائخ والأولياء ما دام في أول أمره.
10- وأن يمشي في الطريقة منزلة منزلة حتى يصل إلى القطبانية.
11- وألا يخالط المقصرين والبطالين من أهل قيل وقال.
12- وألا يضن بماله ولو طلبه الشيخ كله.
13- وأن يرضى بالذل الدائم وحرمان النصيب، والجوع الدائم والخمول وذم الناس له، وتقديم أضرابه وأشكاله وأقرانه عليه في الإكرام والعطاء والتقريب عند الشيوخ ومجالس العلماء، فيجوع هو والجماعة يشبعون والكل أعزاء ونصيبه الذل، ويعز الجماعة ويستجيز الذل ويجعله نصيبه. قال الجيلاني بعد أن ذكر ما سبق:
"فمن لم يرض بهذا ويوطن نفسه عليه فلا يكاد أن يفتح عليه ويجيء منه شيء"( )، إلى آخر ما ذكر الجيلاني مما يطول نقله.(46/73)
وأول المنازل في الطرق الصوفية يسمى فيها الداخل مريداً، أي يريد السير في الطريقة، وتسمى منزلة الإرادة يقبلة الشيخ ويأخذ عليه العهود بالتوبة من الذنوب وصدق النية وترداد الأوراد المقررة عليه من الشيخ، وألا يعتقد أي معتقد لم يقره الشيخ، ولا يحق له الاعتراض على الشيخ حتى إن رآه مخطئاً.
ويسمى بعد توجهه وإرادته المذهب الصوفي سالكاً، وبعد استمراره وسلوكه ومواظبته على الأوراد التي يلقنه الشيخ، فإذا أتقنها انتقل إلى مرتبة أخرى تسمى مرتبة العبودية( )، وعليه أن يكثر من الضراعة والإلحاح إلى الله بترداد ما يمليه عليه المشائخ من أذكار وأوراد.
ثم ينتقل المريد إلى مقام آخر حيث تقبل عليه العناية الإلهية وينتقل قلبه إلى مقام العشق لله، وعلى المريد هنا أن يكثر من الرياضة التي توصله إلى ربه فيما يزعمون، فيكثر من الأوراد والعزلة بنفسه والندم الشديد حتى تتملكه – بزعمهم – حال علوية شريفة ينتقل بها إلى مقام يسمى (الوجد( ) والهيام) وهو أسمى من مقام العشق، وعند هذا المقام المزعوم تتوارد على قلب السالك النفحات الربانية، ويعتقدون أنه في هذه الحال تزداد معرفة السالك الباطنة الصفات الذات العلية.
وهنا يصل السالك فيما يزعمون إلى الحقيقة وتسمى هذه المرحلة - مقام الحقيقة – التي يعرفها المنوفي بأنها "مشاهدة الربوبية"( )، وهي في الحقيقة الوصول إلى أعماق الوثنية والحلول، فإذا وصل بزعمهم إلى مقام الحقيقة يمكنه أن يظل يرتقي إلى أن يحقق منازل ثلاثاً هي: "الفناء"، و "اللقاء"، و "البقاء"، والفناء يقصدون به أن يفنى العبد عن كل شيء في الله تعالى، ويصير كما قال الحلاج: ما في الجبة إلا الله.(46/74)
فالوجود عنده كله يمثل الله – تعالى عن قولهم، وخصوصاً النساء فإنه يتمثل فيهم بصورة أكمل، ومن هنا بدى على أدبهم العشق والغرام والهياج الجنسي إلا أنهم زعموا أن هذا الغزل وهذا الهياج الملتهب إنما هو في الله، وسموه الحب الإلهي يجتمع الرجال والنساء ويرددون إما أبياتاً شعرية أو غيرها في رقص وتمايل، كما يحصل في الرقصات والسهرات مما يتنافى مع أبسط المثل الإسلامية والخشوع المطلوب في العبادات.
وأما اللقاء والبقاء( ) فإن الصوفية يقصدون بذلك أن العبد من خلال تلك المنازل تتجلى عظمة الخالق سبحانه على قلب السالك فلا يرى أمامه إلا الله، ولا يجد في الوجود جميعاً إلا واجب الوجود سبحانه، وتمحى أثار الموجودات من أمام عينيه إلا وجود الله سبحانه وتعالى، قال المنوفي:
"سئل أبو يعقوب النهرجوري عن صحة الفناء والبقاء فقال: الفناء هو رؤية قيام العبد بالله عز وجل، والبقاء رؤية قيام الله تعالى منفرداً بذاته"( ).
وهذه الدرجات هي ما عبر عنه الحلاج بقوله: "ما في الجبة إلا الله".
وللسهرودي والمنوفي تفاصيل كثيرة حول المقامات ومراتبها العديدة في كتاب السهرودي "عوارف المعارف" وكتاب المنوفي "جمهرة الأولياء"( )، والواقع أن غلاتهم وقعوا في هوس وتخبط، وتلاعب الشيطان بهم لبعدهم عن منهج الله وشرعه، فجاءوا بأفكار وأقوال وحكم تنضح وثنية وجهلاً وأشعار غزلية، وقد قال الشافعي: "ما تصوف رجل في أول النهار وأتى عليه الضحى إلا وهو أحمق".
والحاصل أن تلك هي الطرق لدخول المذهب كما أتضح مما سبق، ونجمل أهمها فيما يلي:
1- أن يلتزم الشخص أمام شيخه بالمحافظة على الطريقة التي يحددها له الشيخ.
2- أن يكون المريد – أي الدال في المذهب – على صلة بشيخه المأذون له هو أو من ينيبه الشيخ عنه ليتولى تعليم المريد.
3- أن يجتاز المريد عهداً يعاهد الشيخ ويده في يده مغمضاً عينيه على الالتزام والوفاء الدائم لشيخه ولطريقته لا يحيد عنها ابداً.(46/75)
4- أن يكون المريد دائم الاشتغال بالأوراد والأدعية التي يقررها عليه الشيخ سواء عرف معانيها أم لا.
5- أن يكمل مدة الخلوة التي يقررها الشيخ على المريد في سرداب أو دهليز أو زاوية مدة لا تزيد عن أربعين ليلة ولا تقل عن أربعين ليلة ولا تقل عن عشر ليال، ولهم شروط كثيرة لصحة هذه الخلوة قاسية جداً يخرج الشخص منها وهو في منتهى الحمق والبلادة والغفلة عن كل شيء إلا عن شيخه وأذكاره، وهو الهدف الحقيقي من تلك الفكرة.
ومن الشروط التي يقطعونها للمريد على أنفسهم – حسب زعمهم – أن يصبح من أهل الكشف، وأن يترقى في ذلك إلى أن يتعلم ما وراء العقل ويصبح من أهل التجلي، بحيث تدرك ذات المريد ذات الله في كل وقت.
أن يفنى المريد عن كل شيء غير الله تعالى، فلا يحس بأي وجود غير وجود ربه وشيخه، وبذا يصبح الشخص من أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود؛ لأن الله قد ظهر في كل شيء حسب تعاليمهم بعد فناء المريد عن كل شيء وتصوره أن الله أمامه في كل مكان.
أن يطلب المريد علم الباطن الذي هو بمنزلة اللب، وأن يتعمق في العلم الباطني حسب ما يمليه عليه الشيخ، وإذا تطور في ذلك فإنه يصل إلى حد اليقين فتسقط عنه التكاليف كما يفترون ويصبح ولياً من الأولياء.
وهذه القواعد والشروط الصوفية يتمرن عليها الشخص أو الأشخاص الذين يريدون الداخل في متاهات الصوفية، حتى يتقبلها الدخول بقبول حسن، فيموت فكره وذوقه ويصبح في الحقيقة عبداً ذليلاً لمشائخ الصوفية، فيسلكون به طرقاً ملتوية وتعاليم معقدة حتى تثبت في ذهن الداخل أمور عظام أقلها أن لا حلال ولا حرام، ولا علم ولا عمل إلا ما جاء عن شيخ طريقته وإذنه به، وما يتلقاه عن قلبه عن ربه وما يمليه عليه ذوقه أيضاً.
وإذا أراد القارئ التوسع في هذا ومعرفة كيفية الدخول في الطريق الصوفي فعليه بالرجوع إلى عوارف المعارف للسهروردي وإلى ما كتبه الجيلاني في كتابه الغنية( ).(46/76)
قال المنوفي في بيان بعض المسالك الصوفية ومنزلة الشيخ فيها: "وإذن فهناك طريق الله، وسالك يسلك ذلك الطريق، ومرشد يدل على مفاوز الطريق… وذلك الطريق الذي كان أول مرشد له الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن تحلى بدقائق الإيمان… وبعبارة أخرى هو طريق التصوف الذي كان أول خطوة فيه أن بايع الرسول صلى الله عليه وسلم العشرة أهل بيعة الرضوان… فمن بدأ السير فيه فهو مريد التصوف، ومن توسط فهو سالك متعرف، ومن انتهى إلى مقام التحقيق فهو المرشد المحقق( ).
وقد أوصل المنوفي الدرجات إلى سبعين درجة( )، يكاشف العبد في آخرها إذا ترقى فيها مقاماً مقاماً، ولا طائل من وراء سرد كل ما قرره أقطاب التصوف كالسهروردي والمنوفي والغزالي والقشيري.
فإنه يكفي أن يقال في الجواب عنها: أنها بناء في الهواء وأفكار لم يرشد إليها كتاب ولا سنة ولا أقوال علماء الأمة الإسلامية أصحاب العقول النيرة الذين أعرضوا عن تكليف ما ليس لهم به علم من الأمور الغيبية التي لا يصح فيها الحكم إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الحادي عشر
أصول الصوفية
... يزعم المتصوفة: كما هو شأن كل الطوائف المفارقة للمنهج الرباني أنهم على حق وأن ما يدينون به من أفكار وخرافات إنما هي نابعة من تمسكهم بالكتاب والسنة وفهم حقائق الإسلام، وهذه الدعوى ينتحلها زعماء الطوائف بغرض ترويج مبادئهم وإظهارها بمظهر الحق مهما كانت بعيدة عنه.
وذلك أن دعوى التمسك بالكتاب والسنة سهلة على اللسان ولكن التطبيق هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه.(46/77)
وقد ذكر أحد أعلامهم وهو السيد محمود أبو الفيض المنوفي بعض مستنداتهم فقال: "والتصوف الإسلامي نبعه القرآن أولاً وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ثانياً والفقه في الدين فروعاً وأصولاً ثالثاً ولهم – أي المتصوفة – فوق ذلك قواعد وقوانين صوفية استمدوها من حقائق اليقين وخفي معاني القرآن، ومن دقائق السنة عملية معملية، ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، وهذا في الواقع مستمد علم التصوف الإسلامي( ).
أي أنهم يرجعون في جملة مستنداتهم إلى تلك الدعوى العريضة وهي أخذهم الأحكام من حقائق اليقين وخفي معاني القرآن، وفي الحقيقة إنما يرجعون إلى الهوى، وإلى تفسير القرآن باطنياً غير مستندين إلى المعاني التي ذكرها العلماء من أهل الحق لمعاني تلك النصوص.
ثم يذكر المنوفي مستنداً آخر لهم بقوله:
"ومستمد الصوفية هم أهل الصفة، وإن كان تعريف الاسم يناسب لبس الصوف من حيث الاشتقاق. وهذا صحيح؛ لأن أهل الصفة وغيرهم من الروحيين في الإسلام وقبل الإسلام، ومن قديم الزمان كانوا يلبسون الصوف لخشونة فيه وهم متخوشنون، أو قل لسبب لونه الأبيض الذي يرمز إلى الطهارة والصفاء، وكان أيضاً لباس الحواريين"( ).
ويذكر الغزالي أن مستندات الصوفية وأصولهم مشاهدة الملائكة وأرواح الأنبياء، والخضر بخصوصه ومخاطبتهم فهو يقول:
ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد، ثم تترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها النطاق، ولا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظة خطأ صريح لا يمكن الاحتراز عنه إلا لمن رسخ فيه ونهل منه منهله"( ).(46/78)
وبطلان هذا الكلام واضح، وربما أن الذين يشاهدونهم بزعم أنهم الملائكة أو أرواح الأنبياء وسماع الأصوات إنما هي شياطينهم تتلاعب بهم وتتراءى لهم ليضلونهم، وما أكثر خدع الشياطين لإغواء الناس.
وكذلك من مزاعمهم وأصولهم في مستندهم إلى الطريق إلى الله علم الباطن الذي أفضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله عنه، وعلي أفضى به إلى الأئمة المذكورين في كتبهم، وذلك فيما يزعمون أن جبريل عليه السلام نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بالشريعة فلما تقررت الشريعة واستقرت نزل إليه بالحقيقة ( ) المقصودة والحكمة المرجوة من أعمال الشريعة وهي الأيمان والإحسان، ثم خص الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم باطن الشريعة بعض أصحابه كعلي ثم الحسن دون بعض.
وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كذب هؤلاء، وقد سرد المنوفي أسماء السلسلة التي تداولتها الصوفية ابتداءً بالإمام علي إلى أحمد بن عطا الله السكندري( )، صاحب لطائف المنن، أورد بعض النصوص المرفوعة كذباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيها أن كل آية لها ظاهر وباطن وظاهر الآية ما ظهر من معانيها، وباطنها ما تضمنته من أسرار إلهية لا يطلع عليها إلا أهل المعرفة بالله ممن سرد أسماءهم من أوليائه الذين يعلمون علم الباطن في زعمه.
ولقد نفى عليّ رضي الله عنه أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصهم بعلم دون سائر البشر، وقد سبق إبطال الباطنية في دعواهم أن النصوص لها ظاهر وباطن.
ويقول المنوفي أيضاً في دعواهم الالتصاق بأهل الصفة:
"وكان عظماء أهل الصفة بل جلهم من أوائل الصوفية وأهل طريق الله،وحسبنا في ذلك أن نزل فيهم قرآن عند قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَّ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ (( )"( ).
ويقول الشعراني في مستند القوم:(46/79)
"مقدمة في بيان أن طريق القوم مشيدة بالكتاب والسنة، وأنها مبنية على سلوك أخلاق الأنبياء والأصفياء، وبيان أنها تكون مذمومة إلا إن خالفت صريح القرآن أو السنة أو الإجماع لا غير"( ).
لكنه أضاف بعدما تقدم قوله عن مستند جديد:
"ثم اعلم يا أخي رحمك الله أن علم التصوف عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء"، إلى أن قال: " فمن جعل علم التصوف علماً مستقلاً صدق ومن جعله من عين أحكام الشريعة صدق"( ).
ومستند آخر أيضاً يذكره بقوله:
"ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم وتبحر فيها أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظير الأحكام الظاهرة على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات ومندوبات، وآداباً ومحرمات، ومكروهات وخلاف الأولى، نظير ما فعله المجتهدون"( ).
ومن هنا نجد أن الصوفية ينفرون أشد النفور من العلم عن طريق التعلم، ويفضلون ما يسمونه علم الكشف بلا واسطة وهو ما عبر عنه محي الدين بن العربي حينما كتب إلى الرازي كتاباً جاء فيه:
" إن الرجل لا يكمل عندنا في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله عز وجل بلا واسطة من نقل أو شيخ، فإن كان علمه مستفاداً من نقل أو شيخ فما برح عن الأخذ عن المحدثات، وذلك معلوم عند أهل الله عز وجل"، إلى أن يقول: "فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود لا عن نظر وفكر وظن وتخمين"( ).
ويقول الشعراني في هذا المعنى ناقلاً عن شيخه البسطامي، موضحاً مصادر التشريع في ذوقهم: "وكان الشيخ كامل أبو اليزيد البسطامي رضي الله عنه يقول لعلماء عصره: أخذتم علمكم من علماء الرسوم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت"( ).
وبعد هذا الكلام لا يلام من احتار في أمر الصوفية ومصادرهم، فبينما هم يحضون على التمسك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعدم الخروج عنهما إذا بهم يفصحون بالحقيقة في النهاية وهي أن مصادرهم في التشريع إنما هو الكشف والإلهام وهو فعلاً ما سلكوه في كل سلوكهم وتشريعاتهم.(46/80)
وعلى نفس المعنى السابق يقول الفوتي: "إن الولي المفتوح عليه لا يتقيد بمذهب معين من مذاهب المجتهدين بل يدور مع الحق عند الله تعالى أينما درا"( )، أي حسب تجدد الكشف له والإلهام الرباني المتكرر عليه، وهو كذلك يشير إلى قول أحمد بن المبارك في الإبريز حيث قال:
"إن الولي المفتوح عليه يعرف الحق والصواب ولا يتقيد بمذهب من المذاهب، ولو تعطلت المذاهب بأسره لقدر على إحياء الشريعة، وكيف لا وهو الذي لا يغيب عنه النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين ولا يخرج عن مشاهدة الحق جل جلالة لحظة"( ).
والواقع أن كل منصف له أدنى إلمام بالشريعة الإسلامية لو حكم في دعاوى الصوفية وفي زعمهم شرعيه شطحاتهم، ومستنداتهم في ذلك كله لا تضح له بما لا خفاء به أن المتصوفة قد جانبوا الصواب في كثير من أمور الدين، وأنه لا مستند لهم إلا هواهم الذي يسمونه الكشف والإلهام الصريح، دلك أن قولهم: أن التصوف نبعه القرآن والسنة والفقه في الدين، وفوق ذلك أن له قواعد وقوانين استمدوها من حقائق اليقين دعاوى غير ثابتة.
... فليس في القرآن آية واحدة في شريعة غلو التصوف، وليس في السنة النبوية عبارة واحدة جاءت دليلاً يسند شطحات الصوفية وأورادهم وترنيماتهم وحلقات رقصهم، وليس في علوم الفقه الإسلامي وأصوله شيء من هذا القبيل، ثم هم لا يذكروا أيضاً أدلة من القرآن تدل فعلاً على ما يذهبون إليه.
وقد تلمسوا بعض الأدلة من السنة أساءوا الفهم فيها؛ ولهذا جعلوا القواعد والقوانين الصوفية فوق المصادر الثلاثة: القرآن، والسنة، والفقه الإسلامي، كما قال المنوفي:
"ولهم فوق ذلك قواعد وقوانين صوفية استمدوها من حقائق اليقين"؛ ولهذا تجد السلسلة عندهم حدثني قلبي عن ربي: "وهذه الحقائق اليقينية التي ذكرها المنوفي في الحقيقة من جنس الهوى والاضطراب الفكري، ثم حرفوا معاني القرآن إلى ما يوافق أهوائهم كما فعلت الباطنية تماماً.(46/81)
... إن ما زعمه القطب الصوفي صاحب كتاب جمهرة الأولياء من أن مستمد الصوفية هم أهل الصفة إنما هو دليل على خواء علمي بالكتاب والسنة وسيرة الصحابة الكرام، فهل كان لأهل الصفة تشريع خاص بهم، وهل كان لهم شرف يحبون الحفاظ عليه والانتساب إليه غير شرف الانتساب إلى الإسلام وطاعة الله وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
... وأهل الصفة الذين ذكرهم المنوفي هم خيار الصحابة كأبي هريرة وخباب بن الأرت وبلال وسلمان الفارسي وأبي سعيد الخدري وأبى برزة الأسلمي وصهيب بن سنان وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر وأبو فكيهة ووابصة بن معبد الجهني وأنس بن مالك"( ).
فهل هؤلاء الأعلام الأبرار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل الصوفية وهل كان هؤلاء على الزعم الصوفي هم سلف الحلاج وابن عربي وابن الفارض وابن سبعين، وغيرهم من عتاة الصوفية الذين يأخذ أحدهم السكر بالله كما يزعمون إلى حد أن يقول لا إله إلا أنا – أو ما في الجبة إلا الله – أو قولهم – العبد رب والرب عبد، يا ليت شعري من المكلف هل يمكن أن يكون أساس هؤلاء هم أولئك الأخيار.
... بل إن المنوفي زعم أن الله عز وجل أمر نبيه أن يكون صوفياً فقال: "وأيضاً قد أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعد أن رباه وكمل خلقه وأتم عليه نعمته بأن يتصوف ويندمج في الصوفية بقوله: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَّ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (( ).(46/82)
... ومع بعد هذا الاستدلال عن ما يهدف إليه المنوفي فإنه يواصل ما يعتبره أدلة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من مشى على الطريق الصوفي فقال: "وأن الله عز وجل قبل أن يرسل محمداً برسالته الكبرى، والملة العظمى أمره بدخول الخلوة (غار حراء)" إلى أن يقول: "فلما دخل الرسول الخلوة وتعبد وتحنث في غار حراء، وفيه قد أكثر من الذكر والاستغفار والاعتكاف… وما نعتبر هذا النمط من العبادة الخاصة إلا أن نعده تصوفاً إسلامياً رفيعاً.
... وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بدأ متدرجاً في الكمال كمريد ثم تهيأ لحمل الرسالة؛ ولذا وصفه الله في كتابه بقوله: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍْ عَظِيمٍ (( )، وحتى بعد أن حمل الرسالة وأصبح سيد المرسلين أمره الله بأن يصاحب أهل الصفة، وذلك واضح في قوله":( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَّ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ( أي يا محمد"( ).
... لقد قالب المنوفي الأمور وحاول جاهداً أن يقيم الأدلة على أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم كان صوفياً قولاً وفعلاً قبل إن تأتيه الرسالة وبعد ما جاءته أيضاً، وأنه ابتدأ كأي صوفي "مريداً" ثم تدرج في الكمال.
وإذا أمعنا النظر في هذا التصوف الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة حسب رأي المنوفي فلا نجد للمنوفي مستنداً إلا إلى منشأ التصوف الذي كان قبل الإسلام متمثلاً في شتى الديانات المنحرفة على حد قوله الآتي: "… وإن تعرجت تعاليم التصوف وتلونت بعض فروعه ألواناً عدة، واتجهت تلك الفروع اتجاهات مختلفة بسبب المذاهب الموروثة للداخلين المحدثين في الإسلام من هنود وفرس وإسرائيليين ومسيحيين، الذي شجع عليه المأمون ومن بعده من الخلفاء العباسيين.(46/83)
... فترجم المسلون كتباً كثيرة من التصوف الهندي واليوناني والفارسي، وطمعت بعض فروع التصوف الإسلامي الخالص بما دخل عليها من النزعات الأفلاطونية الحديثة أو القديمة، وبعض المذاهب الهندية والفارسية في التصوف كنظرية الحلول والاتحاد والتقمص والتناسخ وما إلى ذلك"( ).
... وبلا ريب فإن هذه الشهادة منه على ما في التصوف من خلط واضطراب وتعاليم خارجة عن الإسلام لا تحتاج إلى تعليق أحد عليها فكيف تتفق بعد هذا مفاهيم التصوف مع المفاهيم الإسلامية المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم، ويبقى أن ما قرره المنوفي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من سن قواعد التصوف حينما كان يخلو بنفسه ويتعبد في غار حراء وهو منتهى الجهل وأشنع القياس.
... ولاحظ تناقض المنوفي في كتابه جمهرة الأولياء حينما لم يستطيع أن يخفي حقيقة التصوف حيث باح بأن الصوفية قد تأثرت إلى حد كبير بعقائد الداخلين في الإسلام من هنود وفرس وإسرائيليين ومسيحيين، ولا سيما في عصر الترجمة لفلسفة هؤلاء؛ حيث أخذ التصوف منها جوانب لم ينكرها المنوفي وهو في كل كتاباته عنهم يكيل المدح للصوفية، وأن أول متصوف في الإسلام هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الله أمره بذلك ليسنّ الطرق الصوفية ابتداء بالخلوة في غار حراء ثم الزهد.
... وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول المتصوفة فكان ينبغي عليهم أن يقدروا هذا الموقف فيقبلون سنته لا أن يردوها ويعيبون أهل الظاهر كما يسمونهم ممن يخالفهم من أهل الحق حين يقولون لهم: أنتم تأخذون الحديث بسند ميت عن ميت، حدثني فلان وقد مات عن فلان وقد مات، على نحو ما قاله البسطامي ناعياً على علماء الشريعة ومفاخراً لهم حين قال لهم:
... "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت؛ ويقول أمثالنا: حدثني قلبي عن ربي، وأنتم تقولون: حدثني فلان وأين هو؟ قولوا: مات، عن فلان وأين هو؟ قالوا: مات".(46/84)
... وهذا القول إنما يدل على جهل وبغض للسنة النبوية ولأهلها وللطريقة التي يتداولها أهل الحق في تلقي دينهم من مصدره الفياض.
... كما أنه من غير الإنصاف أن يقصروا ذلك المسلك عليهم فقط؛ لأنه في استطاعة كل شخص من الناس أن يقول حدثني قلبي عن ربي، وأن يدعي من الزهد والقرب من الله مثل ما يدعون، ثم أنه يلزم على قولهم الأسانيد الثابتة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أصحابها قد ماتوا فيقال لهم: والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد مات أيضاً.
... وينبغي على قولهم هذا أن نأخذ بالأحاديث التي يرونها عن قلوبهم عن ربهم مباشرةً، وهذا القول منهم وإن كان يبدوا ساذجاً تافهاً إلا أنه يحمل في طياته أخطاراً جسيمة بالنسبة للإسلام وللمسلمين لو تحقق لهم ما يهدفون إليه من التفاف الناس حولهم، والأخذ بمبادئهم وتشريعاتهم وإلهائهم بها عن كتاب الله عز وجل وعن سنة نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثاني عشر
إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للصوفية
1- عقيدة المتصوفة في الإله عز وجل:
الله عز وجل هو الواحد الأحد الفرد الصمد، خلق المخلوقات وأوجدها، وأمر الثقلين والجن والأنس بأوامر، ونهاهم عن نواه، من قام بامتثال أمره فيها دخل في طاعته، ومن أبى صار من أعدائه، وهو غني عن الخلق وعبادتهم، وجعل لكلا الفريقين جزاء عادلاً إما الثواب وإما العقاب.
وقد وصف الله نفسه في كتابه الكريم ووصفه نبيه بالصفات الثابتة له عز وجل فهو رب كل شيء ومالكه، ( إِن كلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً( لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (( ).(46/85)
ولقد استقر في أذهان العقلاء مباينة الله لخلقه وقربه منهم بعلمه وإحاطته وأنه متفرد بالأسماء الحسنى والصفات العليا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأمرنا عز وجل أن نصفه بما وصف به نفسه في كتابه الكريم وبما وصفه به نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم غير معطلين ولا محرفين ولا مكيفين، ذاته لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفات خلقه حتى وإن اتفقت التسمية فإنها لا تتفق في الحقيقة وتبقى المباينة بين الحقائق مما لا يخفى إلا على من لم يفهم الحق.
هذا هو الاعتقاد الذي أمر الله العباد به فما هو موقف الصوفية منه. إن المتتبع لعقائد زعماء الصوفية يجد أنهم يعتقدون بوجود معبود لا حقيقة له قائمة بذاته، معبود لهم يذكر في الشريعة الإسلامية ولم تدل عليه العقول ولا الفطر السليمة إنه معبود غير رب العالمين تعالى وتقدس.
يظهر في صورة الصوفي العابد الذي وصل إلى مرتبة النيابة عن الله قي تصريف أمور هذا الكون والتحكم فيه بحكم نيابته عن الله وعلمه بكل المغيبات ورؤيته لله في كل وقت لارتفاع الإنية بينه وبين الله عز وجل الذي يظهر أحياناً في صورة شاب وأحياناً في صورة الآكل والشارب، وأحياناً في صورة شخص كأنه محجور عليه تعالى بعد أن فوض الكون وما فيه إلى أقطاب الصوفية يتصرفون فيه بما يشاءون، كما تفيد أقوالهم وتبجحهم بذلك.
2 - الحلول:
لقد أصبح الحلول من لوازم الصوفية الغلاة ومن المبادئ الأساسية عندهم، وكتبهم مملوءة بذلك نثراً ونظماً، وقد اختلف العلماء في تعريف الحلول:
فمنهم من قال: هو اتحاد جسمين بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر كحلول ماء الورد في الورد.
ومنهم من قال: هو اختصاص شيء بشيء، بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر.(46/86)
واستعمل بعض المتصوفة لفظ الحلول ليشيروا به إلى صلة الرب والعبد واللاهوت والناسوت، بمعنى أن الله تعالى يحل في بعض الأجساد الخاصة، وهو مبدأ نصراني وأول من أعلنه من الصوفية الحسين بن منصور الحلاج، حين عبر عن ذلك في أبياته الشعرية التي يقرر فيها أن الله تعالى حل في كل شيء، وأنه لا فارق بين الخالق والمخلوق.
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتني( )
والقائلون بالحلول منهم من قصر الحلول وخصه ببعض الناس، كقول النصارى بالحلول في عيسى عليه السلام، وكقول بعض غلاة الشيعة كالخطابية الذين اعتقدوا أن الله حل في جعفر الصادق، والسبئية الذين قالوا بحلول الله في عليّ، ومثله قول النصيرية فيه، وقول الدروز بحلوله عز وجل في شخص الحاكم.
وفريق آخر قال بالحلول العام، وأن الله حال في كل شيء، وأنه في كل مكان، وهؤلاء تأثروا بالفلسفة الطبيعية عند اليونان – وهم الجهمية ومن قال بقولهم.
ويمثل الحلول العام البسطامي في قوله: "رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زينني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك، فتكون أنت ذلك ولا أكون أنا هناك".(كَبُرَتْ كَلمَةَ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُن إِلاَ كَذِباً(( ).
وهذا الطلب الغريب العجيب يريد به أبو يزيد البسطامي كما تقدم أن يحتال على الله عز وجل ليصبغ عليه الوحدانية ويرفع ما بينه وبين البسطامي من الإنية بحيث إذا قال الله عز وجل "أنا" وقال البسطامي "أنا" انعدم الفرق بينهما، وحينئذ يمثل البسطامي الله عز وجل تمام المماثلة، فإذا شوهد البسطامي شوهد عند ذلك الخلاق العظيم – سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.(46/87)
وليس هذا فقط، بل أحياناً يختلط الحابل بالنابل فيحصل بين الرب والعبد مدّ وجزر حسب ما يتصوره ابن عربي في قوله:
ففي حال أقربه
وفي الأحيان أجحده
فيعرفني وأنكره
وأعرفه فأشهده
فإني بالغني وأنا
أساعده وأسعده
فيحمدني وأحمده
ويعبدني واعبده( )
ولعله بعد هذه المراوغة استقر الأمر على أن الله هو نفسه كل موجود على ظهر الأرض؛ فهو العاشق والمعشوق، والرجل والمرأة، فالأجسام صور عنه، وذلك في قوله:
فمن ليلى ومن لبنى
ومن هند ومن بثينه
ومن قيس ومن بشر
أليسوا كلهم عينه( )
وفي قوله أيضاً:
فعين الخلق عين الحق فيه
فلا تنكر فإن الكون عينه
فإن فرقت فالعرفان باد
وإن لم فاعتبر فالبين بينه( )
وقد ملأ كتابه الذي سماه بالفتوحات المكية أشعاراً وشروحاً لها حول هذا الاتحاد والحلول.
ويقول ابن الفارض عن الذات الإلهية كما يتصور:
ففي النشأة الأولي تراءت لآدم
بمظهر حوا قبل حكم النبوة
وتظهر للعشاق في كل مظهر
من اللبس في أشكال حسن بديعة
ففي مرة لبنى وأخرى بثينة
وآونة تدعى بعزة عزت( )
ومن هنا نشأ عند ابن الفارض الفوضى الفكرية في تداخل جميع الأديان الحق منها والباطل، حتى صارت بجميع أشكالها شكلاً واحداً، فكأنه أراد أن يجمع بين الليل والنهار، والحار والبارد، والحق والباطل، فتصور أن الملل كلها سواء كانت شركية وثنية أو مجوسية أو نصرانية أو يهودية، الكل عنده يرجع إلى مصدر واحد وحقيقة واحدة هي الله.
وتائيته المشهورة مليئة بتأكيد هذا الخلط والاضطراب، فهو بعد أن قرر أن جميع العبادات وجميع الأفعال التي تصدر عن الناس هي نفسها أفعال الله قال عن المجوس:
وإن عبد النار المجوس وما انطفت
كما جاء في الأخبار في ألف حجة
فما عبدوا غيري وان كان قصدهم
سواي وإن لم يعقدوا عقد نيتي
رأوا ضوء ناري مرة فتوهموه(46/88)
ناراً فضلوا في الهدى بالأشعة( )
وكثير من مثل هذا الهذيان في أشعارهم هو وسائر غلاة الصوفية ممكن هم على شاكلته أنهم يتصورون معبودهم يتجلى في صورة امرأة؛ ولهذا نجد أن الصوفية يلهجون بذكر النساء، ويرونهم أكمل وأتم وأجمل لتعينات الذات الإلهية التي يعتقدونها فيهن، وهذا واضح جداً في تلك العناية التي لقيتها المرأة في الأدب الصوفي من التذلل لها والتشبث بها والتفتن في وصفها.
ومما قاله ابن عربي في تقريره حول الله تعالى عن كلامه في المرأة أن الأمر بالغسل؛ لأن الحق غيور على عبده أن يعتقد أن يلتذ بغيره، فلهذا أحب النبي صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا نشاهد الحق مجرداً عن المراد، فشهود الحق في النساء أعظم شهود وأكمله، وأعظم الوصلة والنكاح… قال: فمن جاء لامرأته أو لأنثى بمجرد الالتذاذ ولكن لا يدري بمن كما قال:
صح عند الناس أني عاشق
غير أنهم لا يعرفوا عشقي لمن
كذلك هذا أحب الالتذاذ فأحب المحل الذي يكون فيه، - هو المرأة -، ولكن غاب عنه روح المسألة فلو علمها لعلم بمن التذ؟ ومن التذ؟ وكان كاملاً قال من شاهد الحق في المرأة كان شهوده في منفعل وهو أعظم الشهود ويكون حباً إلهياً"( ).
ومن هذا المفهوم الباطل تجرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأساء الأدب في حقه وافترى عليه بما لا يقدم عليه مسلم يعرف ولو شيئاً يسيراً عن الإسلام وعن نبيه العظيم الذي اعترف له كل من عرفه أو سمع عنه بأنه خير منقذ للبشرية، عابداً لربه حق عبادته، متواضعاً، بالمؤمنين رءوف رحيم، لكن ابن عربي يقرر حسب مذهبه الرديء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحب النساء لكمال شهود الحق فيهن، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا البهتان.(46/89)
بل قرر زعماء الإباحية والزنادقة العتاة ابن عربي وابن الفارض وغيرهما أن الله تعالى يتجلى في كل صورة حسنة في صورة الرجل أو المرأة فيكون فاعلاً ومفتعلاً – تعلى الله عن كفرهم وإلحادهم علواً كبيراً، وأن الله تجلى في صور العاشقات والمعشوقات( )، ويطول النقل عنهم ولو أردنا ذلك مما يأباه الدين وتشمئز منه النفوس وتمجه الفطر السليمة ويأباه الذوق.
"وفي تفسير الحديث: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به"( )، "يذكر السهروردي أن المحب يعود بفوائد اكتساب الصفات من المحبوب، أي بحيث تشترك الصفات بين المحب والمحبوب فلا يحصل بينهما أي فارق، ثم استشهد على هذا في الاتحاد والحلول بمبدأ الحلاج:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا … الخ.
ويقول ابن عطا السكندري في بيان حقيقة الولي:
"ولقد سمعت شيخنا أبا العباس رضي الله عنه يقول: لو كشف عن حقيقة الولي لعُبِد؛ لأن أوصافه من أوصافه ونعوته من نعوته"( ) وقال أيضاً في وجود الله تعالى أنه لا خفاء به ولا حجاب عليه:
"كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء"( ).
وفي الشطحات الصوفية وجرأتهم على قول كل ما يريدون ما لا يخفى على طلاب العلم.
ومما يذكر في سيرة ابن عربي أنه شغف حين كان بمكة بحب امرأة هي ابنة رجل يسمى الشيخ مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجاء الأصفهاني، ووصفها بأوصاف من الغزل بجمالها ما لا يحتمل المقام ذكره هنا ضمنه كتابة ترجمان الأشواق"، ثم شرحه بطلب من رجلين من خاصته فشرحهُ في كتاب سماه "ذخائر الأعلاق".(46/90)
حاول جاهداً أن يغطي ما قاله في تلك المرأة من العشق والغرام ليحوله علي أنه قاله في الحب الإلهي، ولكن لم يتم ذلك؛ حيث غلب الطبع على التطبع، وليست هذه معشوقته الوحيدة، بل هناك أخرى عشقها وهو يطوف حول البيت، وقال فيها أشعاراً غزلية ماجنةً، ولم يستشعر مقدار جرمه في الحرم الذي يعاقب الله فيه على مجرد النية، ثم وصف تلك الأشعار بعد ذلك بالحب الإلهي تمويهاً وتغطية لمجون هذا الشيخ الصوفي الكبير، فأين الحب الإلهي في مثل قوله:
ليت شعري هل دروا
أي قلب ملكوا
وفؤادي لو درى
أي شعب سلكوا
أتراهم سلموا
أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى
في الهوى وارتبكوا( )
3 - وحدة الوجود:
وحدة الوجود عقيدة إلحادية تأتي بعد التشبع بفكرة الحلول في بعض الموجودات، ومفادها لا شيء إلا الله وكل ما في الوجود يمثل الله عز وجل لا انفصال بين الخالق والمخلوق، وأن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة، وهي فكرة هندية بوذية مجوسية.
وهذا هو المبدأ الذي قام عليه مذهب ابن عربي الذي قال: سبحان من خلق الأشياء وهو عينها، وتجرأ على تفسير كتاب الله بغير علم فاستدل بآيات من القرآن الكريم زعماً أن الله أطلق اسم الوجود على نفسه كما في قوله تعالى: ( وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ (( )، ( لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً (( )، ( يّجِدِ اللهَ غَفُوراً (( )، واستدل بأحاديث موضوعة مثل حديث: "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
وهذا الاستدلال من أغرب وأنكر ما تلفظ به قائل.
إذ كيف يتأتى لهم القول أن القرآن والسنة يدعون إلى الإلحاد والكفر بالله؟ ولا شك أن هذه العقائد الإلحادية قديمة جداً في العبادات الهندية والديانات البوذية. وقد انقسم أصحاب هذه المبادئ الإلحادية إلى فريقين:(46/91)
1 - الفريق الأول: يرى الله سبحانه وتعالى روحاً وأن العالم جسماً لذلك الروح، فإذا سما الإنسان وتطهر التصق بالروح أي الله.
2 - الفريق الثاني: هؤلاء يزعمون أن جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها غير وجود الله، فكل شيء في زعمهم هو الله تجلى فيه( ).
والإسلام بريء من هذه الأفكار المنحرفة الخرافية كلها ( هُوَ الأول وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ ( ( )، وهؤلاء يقولون أن الله ما دام هو أصل وجود هذه الممكنات المشاهدة فكأن الموجودات في حكم العدل، والوجود الحقيقي هو الله الذي تجلى في أفعاله ومخلوقاته، وبالتالي فإن العقائد كلها حقائق والناس لا خلاف بينهم حقيقة، والديانات كلها ترجع إلى حقيقة واحدة، هذا ولا شك أنه خلط وانحراف شنيع أدى بمن أعتنقه إلى خذلان المسلمين وترك أمر الجهاد.
ولهذا نجد أن المستشرقين اهتموا كثيراً بدراسة ظاهرة التصوف؛ لأنها تحقق أهدافهم في إلهاء المسلمين وتفرق كلمتهم، وبالتالي فإنهم وجدوا فيها معيناً لهم على نشر الإلحاد وإنكار النبوات ونبذ التكاليف الشرعية والدعوة إلى القول بوحدة الأديان وتصويبها جميعاً مهما كانت، حتى وإن كانت عبادة الحجر والشجر.
والواقع أنه ما من مسلم يشك في كفر أو ارتداد من قال بوحدة الوجود، وعلماء الإسلام حين حكموا بكفر غلاة المتصوفة من القائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد حكموا أيضاً بكفر من لم ير تكفيرهم.
ولقد قال شيخ الإسلام عن هؤلاء: "إن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب".
ولقد وصل الهوس والجنون بابن الفارض – بناء على عقيدته أن الله هو عين كل شيء – وصل به الحال إلى أن يعتقد أنه هو الله حقيقة؛ لأن الله حسب خرافاته هو عين كل شيء فهو على هذا يمثل الله – تعالى عن قولهم.
وابن عربي من أساطين القائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد وصحة الأديان كلها، مهما كانت في الكفر إذ المرجع والمآل واحد، ومن هنا فهو يقول:(46/92)
عقد الخلائق في الإله عقائداً
وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
ويقول:
العبد رب والرب عبد
يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب
أو قلت رب فأنى يكلف
ولابن عربي في كتابه "فصوص الحكم"، وكتابه الآخر "الفتوحات المكية" من الأقوال في وحدة الوجود ونفي الفرق بين الخالق والمخلوق وثبوت اتحادهما تماماً أقوال لا تكاد تحصر نثراً ونظماً.
وأما ابن الفارض فإذا أراد الشخص أن يعرف عقيدته تمام المعرفة فليقرأ تائيته التي باح فيها بكل صراحة وتحد أن الله متحد بكل موجود، وأن ابن الفارض نفسه هو المثل الكبير لله تعالى في صفاته وأفعاله؛ ولهذا فهو يفسر كل ما في الوجود بأنه يصح أن يقال فيه: إن الله أوجده أو كل موجود هو أيضاً ذلك الموجد.
وأن كل عبادة تقام فإنها توجه له أو لله لا فارق بينهما إلا في ذكر الاثنينية التي هي أيضاً لا وجود لها عند استجلاء الحقيقة حيث تتلاشى الاثنينية ويصبح الوجود واحداً ممثلاً في كل شيء.
وإذا أردت تفصيل كل تلك الحقائق عنه فاقرأ تائيته أو الأبيات الآتية، وانظر شرحها عند الشيخ عبد الرحمن الوكيل( ).
ويقول ابن الفارض عن الذات الإلهية وتجليها له:
جلت في تجليها الوجود لناظري
ففي كل مرئى أراها برؤية
ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها
وذاتي بذاتي إذا تحلت تجلت
فوصفي إذا لم تدع باثنين وصفها
وهيئتها إذ واحد نحن هيئتي
فإن دعيت( ) كنت المجيب وإن أكن
منادى أجابت من دعاني ولبت
فقد رفعت تاء المخاطب بيننا
وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
وكل الجهات الست نحوي توجهت
بما تم من نسك وحج وعمرة
لها صلواتي في المقام أقيمها
وأشهد فيها أنها لها صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
صلاتي لغيري في أداء كل سجدة( )(46/93)
ويقول عن معنى سجود الملائكة لآدم، وأ ون الملائكة إنما هم صفة من صفاته لا خلق مستقل:
وفيَّ شهدت الساجدين لمظهري
فحققت أني كنت آدم سجدتي
شرحه الصوفي القاشاني بقوله:
"أي عاينت في نفسي الملائكة الساجدين لمظهري فعلمت حقيقة أني كنت في سجدتي آدم تلك السجدة وأن الملائكة يسجدون لي والملائكة صفة من صفاتي، فللساجد صفى مني تسجد لذاتي"( ).
ومن عتاة دعاة وحدة الوجود الجيلي صاحب كتاب "الإنسان الكامل" وقد ترجم له الشعراني وأطال في ترجمته، ابتدأها بقوله:
"ومنهم أبو صالح سيدي عبد القادر الجيلي رضي الله عنه"( ). ثم جاء في أخباره بما لا يصدقه عاقل.
ومما يدل على تعمق الجليلي في القول بوحدة الوجود وأنه لم يعد بينه وبين الله أي فارق، ولا بينه وبين كل المخلوقات في هذا الكون أي فارق أيضاً ما أورده في كتابه الإنسان الكامل( ):
لي الملك في الدارين لم أر فيهما
سواي فأرجو فضله أو فأخشاه
وقد حزت أنواع الكمال
جمال جلال الكل ما أنا إلا هو
لي الملك والملكوت نسجي وصنعي
لي الغيب والجبروت مني منشاه
فمهما ترى من معدن ونباته
حيوانه مع أنسه وسجاياه
ومهما ترى من أبحر وقفاره
ومن شجر أو شاهق طال أعلاه
ومهما ترى من صور معنوية
من مشهد للعين طاب محياه
ومهما ترى من هيئة ملكية
ومن منظر إبليس قد كان معناه
ومهما ترى من شهوة بشرية
طبع وإيثار لحق تعاطاه
ومهما ترى من عرشه ومحيطه
كرسيه أو رفرف عز مجلاه
فإني ذاك الكل والكل مشهدي
نا المتجلي في حقيقته لا هو
وإني رب للأنام وسيد
جميع الورى اسم وذاتي مسماه( )
فالجيلي هو كل شيء والله هو أيضاً كل شيء، من خير أو شر، من فسق أو فجور، الكل هو الله على حسب هذه العقيدة المجوسية.(46/94)
ومن القائلين بوحدة الوجود ووحدة الشهود هو أبو حامد الغزالي، ولقد تأثر الناس به كثيراً؛ لأنه كان في وقته يداري كل طائفة ويتودد إليها بالموافقة، وخفي أمره على كثير من الناس فلم يفطنوا إلى تعلقه بوحدة الوجود، وإن كان قد صرح بها كثيراً في كتبه، وخصوصاً إحياء علوم الدين، وفي هذا يقول عنه عبد الرحمن الوكيل:
"لا تعجب حين ترى الغزالي يجنح في دهاء إلى السلفية في بعض ما كتب فللغزالي وجوه عدة كان يرائي بها صنوف الناس في عصره، فهو أشعري؛ لأن نظام الملك صاحب المدرسة النظامية أراده على ذلك، وهو عدو للفلسفة؛ لأن الجماهير على تلك العداوة، وهو متكلم ولكنه يتراءى بعداوته للكلاميين اتقاء غضب الحنابلة.
وأما بالنسبة لرجوعه عن غلوه في التصوف، وأو عدم رجوعه فقد قرر بعض العلماء أن الغزالي رجع عن تلك الاقوال الصوفية، إلا أن بعضهم شكك في رجوعه وتوبته، ومن هنا يقول عبد الرحمن الوكيل:
"يحاول السبكي في كتابه طبقات الشفاعية تبرئة ساحة الغزالي بزعمه أنه اشتغل في أخريات أيامه بالكتاب والسنة ونحن نسأل الله أن يكون ذلك حقاً، ولكن لا بد من تحذير المسلمين جميعاً من تراث الغزالي، فكل ما له من كتب في أيديهم تراث صوفي ولم يترك لنا في أخريات أيامه كتاباً يدل على أنه اشتغل بالكتاب وبالسنة"( ).
ومن أقوال الغزالي في وحدة الوجود كما جاءت في كتابه إحياء علوم الدين قوله في ثنايا بيانه لما سماه مراتب التوحيد ……
"والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق عموم المسلمين، وهو اعتقاد العوام.
والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار.(46/95)
والرابعة: ألا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين وتسمية الصوفية الفناء في التوحيد؛ لأنه من حيث لا يرى إلا وحداً فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً بالتوحيد كان فانياً عن نفسه في توحيده بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه والحق"( ).
وفي هذا التعبير أمور تدل على وحدة الوجود، وذلك فيما يلي:
وصفه لعموم المسلمين بأنهم عوام في الاعتقاد، ويقصد به العقيدة السهلة الواضحة التي جاء بها الإسلام.
في تقريره أن الذي يشاهد تلك الأمور عن طريق الكشف يراها كلها صادرة عن فاعل واحد هو الله تعالى، وأنها عبارة عنه على ما فيها من خير وشر.
قوله: لا يرى في الوجود إلا واحداً، هذا هو عين القول بوحدة الوجود.
وعندما أورد استشكالاً قد يرد في الذهن، وهو قوله:
"فإن قلت كيف يتصور ألا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة فكيف يكون الكثير واحداً؟
ولا شك أن هذا الاستشكال وارد، وهو استشكال قوي جداً ويحتاج إلى جواب شاف، فبماذا أجاب الغزالي عن هذا؟ أجاب عن إيراد هذا السؤال بقوله:
"فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات وأسرار هذا العلم، لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون: إفشاء الربوبية كفر".
وهذا الجواب فيه اتهام لله بالتقصير في بيان أمر التوحيد؛ حيث لم يبينه الله تمام البيان، ولا بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه أحد إلا أرباب الكشف الصوفي الذين يعرفون كل تفاصيل التوحيد إلا أنهم لا يحبون إفشاء سر الربوبية؛ لأنه يؤدي إلى الكفر حسب هذا الزعم، والواقع أنه قد صدق، فإن هذا التوحيد الذي لا يعرفه إلا أصحاب الكشف هو نفسه التوحيد الذي لا يفرق بين الخالق والمخلوق وهو أمر لا يقر به أحد من المسلمين.(46/96)
أما الجواب الثاني فهو مثل ضربه يفيد أنه قد يحصل تعدد أشياء في شيء واحد دون فارق بينهما؛ وذلك كالإنسان وأعضائه فهو إنسان واحد ولكن له أعضاء كثيرة؛ روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشاؤه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد أي إنسان.
وهذا الجواب أردأ من الذي قبله، يريد أن يثبت لنا القول بوحدة الوجود قياساً على الوحدة المتكاملة بين الإنسان وأعضائه، وأراد من هذا أيضاً جعله هذه الأوصاف هي نفسها الفناء في التوحيد حسب ما أورده عن موقف جرى بين الحلاج والخواص.
حيث رأى الخواص يدور في الأسفار فقال: في ماذا أنت؟ فقال: أدور في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل، فقال الحسين – الحلاج-: قد أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد؟ فكأن الخواص كان في تصحيح المقام الثالث فطالبه بالمقام الرابع.
أي أن الحلاج كان في المقام الثالث أو الرتبة الثالثة في التوحيد، وهي أنه يرى الأشياء هي نفسها "الله"، ولكن بطريق الواسطة والكشف فطالبه الخواص – والغزالي لإقراره كلام الخواص – بأن يرتقي إلى الدرجة الرابعة( ) في تحقيق التوحيد، وهي أن لا يرى في الوجود إلا واحداً وهي (الفناء في التوحيد) بدون واسطة ولا كشف وبها يتحقق التوحيد.
وفي كتابة مشكاة الأنوار للغزالي تصريح بوحدة الوجود في أكثر من موضع( )، وقد فندها الشيخ عبد الرحمن الوكيل وأظهر عوارها( ).
ومن كبار القائلين بوحدة الوجود عامر بن عامر أبو الفضل عز الدين حيث قال محاكياً الفارض في تائيته وفي معتقده أيضاً:
تجلى لي المحبوب من كل وجهة
فشاهدته في كل معنى وصورة
وخاطبني مني بكشف سرائر
تعالت عن الأغيار لطفاً وجلت( )
فقال أتدري من أنا قلت أنت أنا
منادى أنا إذ كنت أنت حقيقتي
نظرت فلم أبصر محض وحدة
بغير شريك قد تغطت بكثرة
تكثرت الأشياء والكل واحد
صفات وذات ضمناً في هوية
فأنت أنا لا بل أنا أنت وحدة(46/97)
منزهة عن كل غير وشركة( )
وقد اختار نقل هذه الأبيات من تائية ابن عامر الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهي صريحة لا لبس فيها على ما يذهب إليه أهل وحدة الوجود الذين يرون أنه لا يكتمل إيمان العبد ولا يصل إلى الله إلا إذا تلاشت "أنا" من نفسه فأصبح في لجة جمع الجمع ورفع الاثنينية.
وقد سلك هذا المسلك في الاعتقاد بوحدة الوجود جماعة أخرى من الصوفية يمكن إحالة القارئ للاطلاع على كلامهم إلى كتاب الشيخ عبد الرحمن الوكيل، حيث ذكر نصوصاً كثيرة عنهم نثراً ونظماً، ومن أولئك محمد بن إسحاق المشهور بالقونوى( )، وعبد الغني بن إسماعيل المشهور بالنابلسي( )، وعبد السلام بن بشيش أو مشيش وهو من كبار شيوخ الشاذلية، ومحمد الدمرداش المحمدي( )، وأحمد بن عجيبة الإدريسي( )، وحسن رضوان( ).
وكل واحد من هؤلاء قد أدلى بدلوه وخاض فيما ليس له بحق وحاول تثبيت عقيدة وحدة الوجود بكل ما أمكنه من الكلام نثراً ونظماً مما قد يطول نقله وتثقل قراءته، إذ إنهم لا يختلفون إلا في الألفاظ فقط والمورد واحد.
4- وحدة الشهود أو الفناء وبيان العلاقة بين وحدة الشهود ووحدة الوجود:
وحدة الشهود هو ما يسمونه في بدء أمره مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، أي لا يصل إلى درجة الحلول ولاتحاد في أول الأمر إلا بعد أن يترقى درجات ثم يصبح كما يقول على حرازم ناقلاً جواب شيخه التجاني: "اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو؟ فأجاب رضي الله عنه بقوله: أما حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظراً عينياً وتحقيقاً يقينياً"( ).
وهذه نهاية الفناء في الله ووحدة الشهود فيه.
وأما العلاقة بين وحدة الوجود ووحدة الشهود:(46/98)
فإنه يرى بعض العلماء أن بين وحدة الوجود ووحدة الشهود فارقاً بعيداً، وذلك أن وحدة الوجود هي الحلول والاتحاد وعدم التفرقة بين الله وبين غيره من الموجودات، بينما وحدة الشهود عند بعضهم هي بمعنى شدة مراقبة الله تعالى بحيث يعبده كأنه يراه.
ومن هنا ظن هذا البعض أن وحدة الشهود لا غبار على من يقول بها، ومنهم من يؤكد على أن وحدة الشهود هي الدرجة الأولى إلى وحدة الوجود، والواقع أن التفريق بين وحدة الشهود ووحدة الوجود ليس له أساس ثابت بل هو قائم على غير دليل إلا دليلاً واحداً هو الذوق الصوفي، وذلك أن خير البشر لم يستعمل هذه الحالة ولا نطق باسمها في عبادته لربه، ولا كان أصحابه أيضاً يقولون بها.
فكان شأنهم أنهم يعبدون الله وهم على أشد ما يكونون من الوجل والخوف أن ترد عليهم أعمالهم مع وجود أشد الطمع في نفوسهم لعفو ربهم وتجاوزه عنهم يعبدونه بالخوف والرجاء، ووحدة الشهود ووحدة الوجود لم تعرف إلا بين الفئات الذين امتلأت نفوسهم إعجاباً وتيهاً بأعمالهم وقلت هيبة الله تعالى في نفوسهم.
يقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل في أثناء رده على الغزالي وبيان خطر أفكاره على الإسلام والمسلمين، ومدى تعلق الغزالي بوحدة الوجود أو الشهود:
"أرأيت إلى من صنمَّته( ) الصوفية باللقب الفخم( ) لتفتن به المسلمين عن هدى الله تعالى؟ أرأيت إلى الغزالي يدين بوحدة الوجود أو الشهود – سمها بما شئت، فعند الكفر تلتقي الأسطورتان لا تقل إن وحدة الوجود أنشودة من البداية ووحدة الشهود أغرودة عند النهاية فكلتاهما بدعة صوفية، بيد أنها غايرت الاسمين وخالفت بين اللونين ولكن البصر البصير لا يخدعه اسم الشهد سمي به السم الناقع كلتاهما زعاف الرقطاء، غير أن واحدة منهما في كأس من زجاج والأخرى في كأس من ذهب"( ).(46/99)
فينبغي أن نبتعد عن هذه الكلمة – وحدة – أشد البعد فإن الله تعالى هو الواحد القهار لم يشرك أحد في خلقه ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ( وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوَاً أَحَدْ (( )، ولنا في العبارات الطيبة التي تربطنا بربنا مجال واسع كالإسلام والإيمان والإحسان كما جاء في حديث جبريل؛ حيث سأله عن تلك الأمور ولم يسأله عن وحدة الوجود أو وحدة الشهود ولا وحدة الوجود ولا الحلول ولا الكشف، ولا غير هذا مما هو اختراع الصوفية تبعاً لأفكار ضالة ليس بينها وبين الإسلام أي صلة أو تقارب.
إن وحدة الشهود تؤدي في النهاية إلى القول بالحلول رغم ما زخرفوه من الكلام والتدليس.
وقد وضح علي حرازم الأمر وجلاه في بيانه لأقسام مراتب المحبة التي هي محبة الإيمان، ومحبة الآلاء والنعماء، ومحبة الصفات، ومحبة الذات، ثم بين هذه المراتب إلى أن قال عن القسم الرابع من المحبة:
"ومتى وصل إلى محبة الذات أعني أنه يشم رائحة منها فقط انتقل إلى الفناء مرتبة بعد مرتبة، فيكون أمره أولاً ذهولاً عن الأكوان ثم سكراً ثم عينية وفناءً مع شعوره بالفناء، ثم إلى فناء الفناء وهو لم يحس بشيء شعوراً وتهمماً وحساً واعتباراً، وغاب عقله ووهمه وانسحق عدده وكمه فلم يبق إلا الحق بالحق للحق في الحق، وهو مقام الفتح والبداية يعني بداية المعرفة، وصاحبه إذا أفاق من سكرته يأخذ في الترقي والصعود في المقامات إلى أبد الأبد بلا نهاية"( ).
وقوله: إنه لا نهاية لترقية لا يتفق مع ما قدمه مما يدل على نهاية الترقي، وهو الوصول إلى وحدة الوجود كما في قوله:
"إلى أن ينتقل إلى المشاهدة وهي الاستهلاك في التوحيد وغاية المشاهدة ينمحق الغير والغيرية، فليس إلا الحق بالحق للحق عن الحق فلا علم ولا رسم ولا عقل ولا وهم ولا خيال ولا كيفية ولا كمية ولا نسبه انتفت الغيرية كلها"( ).
إلى أن قال عن دخول الحضرة الإلهية:(46/100)
"فإن من دخلها غاب عن الوجود كله فلم يبقى إلا الألوهية المحضة حتى نفسه تغيب عنه، ففي هذه الحال لا نطق للعبد ولا عقل ولا هم ولا حركة ولا سكون ولا رسم ولا كيف ولا أين ولا محدود ولا علم، فلو نطق العبد في هذا الحال لقال: لا إله إلا أنا سبحاني ما أعظم شأني؛ لأنه مترجم عن الله عز وجل"( ).
وهذا هو الحلول والاتحاد، مع هذا سماه علي حرازم"غاية الصفاء" ونسي أو تناسى أو جهل – وهو الصحيح – أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أحد من صحابته قد قال: سبحاني ما أعظم شأني أو قال: لا إله إلا أنا؛ لأن قائل هذه الألفاظ لا دين له إلا دين المجوسية، ومن هنا استشهد علي حرازم بعد الكلام السابق على صحة هذا الصحو في الله بقول الحلاج: سبحاني ما أعظم شأني. ومن حسن الحظ لم يستدل بقول أحد من المسلمين.
وتتضح صورة القول بوحدة الوجود عند التجانية كما هي عند سائر أقطاب الغلاة في قول علي حرازم في صراحة تامة زفي مواضع كثيرة في كتابه جواهر المعاني نأخذ منها قوله في أثناء بيانه لمنزلة الخلق من الحق تبارك وتعالى وأنهم صور تنبئ عن الله تماماً فقال في ذلك: "ولا يكون هذا إلا لمن عرف وحدة الوجود فيشاهد فيها الوصل والفصل فإن الوجود عين واحدة ولا تجرؤ فيها على كثرة أجناسها وأنواعها،ووحدتها لا تخرجها عن افتراق أشخاصها بأحكام الخواص وهي المعبر عنها عند العارفين أن كثرة عين الوحدة والوحدة عين الكثرة"( ).(46/101)
ومن العجيب أنهم يستدلون على هذا المسلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب…" إلى أخر الحديث( )، والحديث حسب مفهومهم معناه أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات، أنه يصير في معنى الحق – تعالى الله عن ذلك – وأنه يفنى عن نفسه جمله حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفاً في شهوده وإن لم تعدم في الخارج( )، وينسى العبد نفسه في الله وأن الله يحل بجوارحهم، فهو في سمعهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم قد اتحدت ذاته بذواتهم.
فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد ما ذهب إليه زعماء الصوفية؟ والجواب سيكون بالنفي قطعاً. وقد أجاب العلماء عن معنى هذا الحديث بعدة أجوبة ذكرها كلها ابن حجر رحمه الله، ومنها أن معناه أن العبد يحب طاعة الله ويؤثر خدمته ومحبته، وأنه لا يستعمل هذه الجوارح إلا وفق ما شرعه الله له فلا يستعملها إلا في ما أحبه الله ويبعدها عن كل ما يغضب الله تعالى( )، لا أن الله يحل في تلك الجوارح، والرسول صلى الله عليه وسلم لعظم وأجل من أن يتصور ربه على هذه الصفات.
وتلك المعاني الباطلة لمعنى الحديث موضحة في جمهرة الأولياء للمنوفي فيه مقال تحت عنوان "دور الكمال" ذكر فيه أن الصوفية قد تطورت فشاركت في أبحاث كثيرة فقهية وفلسفية إلى أن قال: "وقد خطى الجنيد في هذا السبيل الخطوات الأولى الفاصلة فانتقل من حال الفناء التي قال بها البسطامي إلى فكرة الاتحاد، وذهب إلى أن المتصوف قد يصل إلى درجة يتحد فيها الروح اتحاداً تاماً بخالقها عن طريق الشهود" ( ).(46/102)
ثم ذكر بعد ذلك أنه ليس المراد من هذا الاتحاد ما هو معروف في البوذية والمسيحية، وإنما هو بمعنى أنه مجرد ملاحظة روحية، ولكن يبقى عليه أن الملاحظة الروحية لا يقال فيها بالاتحاد، وإنما هي زيادة تعلق القلب بخالقها فقط، ومن قال إن ملاحظاته جعلته متحداً مع الله فلا شك في خروجه عن الحق مهما حاول بعد ذلك تغطية معتقده بزخرف القول.
لقد أصبحت وحدة الشهود عند المتصوفة هي أخص مظهر من مظاهر الحياة الصوفية وهي الحال التي يسمونها بالفناء وعين التوحيد وحال الجمع، وهي الاتصال بين العبد وبين ربه عن طريق الشهود الصريح فيما يزعمون. ويصل الإنسان إليها – بزعمهم – بكثرة الذكر حتى يقع الشهود القلبي ثم يستغني عن الذكر بمشاهدة المذكور – حسب تخيلاتهم السقيمة الإلحادية – فاتضح مما سبق أن الفوارق لا تكاد تعرف بين تلك التسميات، فهي داخلة في النهاية كلها في دائرة واحدة هي القول بالحلول مهما تعددت صوره( ).
وأما اعتقادهم في الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضرب من الخيال والإلحاد، فهم يزعمون:
1- أن الله كان في عماء دون تعيين فأراد أن يتعين في صورة فتعين في صورة محمد صلى الله عليه وسلم، أي أنهم يعتقدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله سبحانه وتعالى ذاتاً وصفةً حيث تعينت فيه الذات الإلهية في صورة مادة كما قرر الكشخانلي ومحمد الدمرداش – والجيلي والبيطار والقاشاني والفوتي وعلي حرازم والشعراني( ).
2- وأن الذي هاجر من مكة إلى المدينة هو الذات الإلهية متجلية في صورة هو محمد صلى الله عليه وسلم كما قرر ابن عربي ذلك في قوله: "اللهم أفض صلة صلواتك وسلامة تسليماتك على أول التعيينات المفاضة من العماء الرباني وأخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني المهاجر من مكة كان الله ولم يكن معه شيء ثان إلى المدينة… الجمع بين العبودية والربوبية الشامل للإمكانية والوجودية"( ).(46/103)
3- أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث يشاء في أقطار الأرض إلى اليوم لم يتبدل بعد وفاته.
4- كل هذه الموجودات إنما وجدت من نور محمد صلى الله عليه وسلم ثم تفرقت في الكون( )، وهكذا فقد أصبح من الأمور المسلمة عند الصوفية أن هذا الكون و كل ما يحصل فيه من خير وفيض، إنما يتم عن طريق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وفيما قدمنا من النقل عن جواهر المعاني و رماح الفوتي ما يغني عن إعادته هنا،وهذا المعتقد مقرر في كتب الصوفية كلهم من التجانية أو من غيرهم؛ولهذا يقول المنوفي في بيان تلك القضية:
لله در القائل:
من رحمة تصعد أو تنزل
ما أرسل الرحمن أو يرسل
من كل ما يختص أو يشمل
في ملكوت الله وملكه
نبيه المختار المرسل
إلا وطه المصطفى عبده
بعلم هذا كل من يعقل( )
واسطة فيها واصل لها
أي أن كل من يعقل ـ و لو قال كل من يجهل لكان أصوب- يعرف تمام المعرفة أن هذا الكون وما فيه إنما هو مستمد لبقائه ووجوده من محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو الرب تعالى في تعيينه الثاني.
ويقرر ابن عطاء الله السكندري ذلك بقوله:"جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة ونبينا صلى الله عليه وسلم عين الرحمة"( )
ومما لا يجهله أي مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبد بشر مثل سائر البشر كرمه الله تفضلاً ومنة بالرسالة مثل سائر الأنبياء والرسل.
وهو عليه الصلاة والسلام غني عن مبالغات الصوفية وأكاذيبهم الحمقاء، فكل ما قرره أقطاب الصوفية من أولهم إلى آخرهم حول الحقيقة المحمدية ونشوء الخلق عنها فإنه كلام خارج عن عقيدة المسلمين من دان فلا حظ له في الإسلام بل هو مجوسي وثني.
يعتقدون كما قرره ابن عربي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف القرآن قبل نزوله بل إنه على حسب زعمهم هو الذي يعلم جبريل الذي بدوره يوحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ثانية( ).(46/104)
ومن الصوفية مثل أبي يزيد البسطامي من يزعم أن الرسل كانوا أقل من مرتبتهم حيث قال:"خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله"( ) وهذه الافتراءات كلها إلحاد وزندقة وشبهات مظلمة وإبطالها مما لا يشق على مسلم عرف شيئاً عن تعاليم الإسلام، فإن القرآن منزل من عند الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام وهذه هي عقيدة كل مسلم، من لم يؤمن بها أو شك فيها فلا حظ له من الإسلام ولا صلة بينه وبين المسلمين.
6 - الولاية وبيان بعض المصطلحات الصوفية:
تطلق كلمة ولاية في اللغة العربية( )، على عدة معان منها التابع، المحب والصديق والناصر.
أما معناها في مفهوم الصوفية فهي تنتهي أخيراً في مصب وحدة الوجود، فقد عرفها المنوفي( ) تحت عنوان "أولياء الله"بقوله: "اعلم أن الولاية عبارة عن تولي الحق سبحانه وتعالى عبده بظهور أسمائه وصفاته عليه علماً وعيناً وحالاً وأثر لذة وتصرفاً"، ثم زاد الأمر وضوحاً حينما بين التجليات الإلهية والفيوضات التي تقع على السالك وأفعاله وأفعال كل المخلوقات ثم "لا يرى في نظره غير فعل الفاعل الحقيقي وهو الله".
وعرفها الجرجاني بقوله:
الولي: هو العارف بالله وصفاته بحسب ما يمكن، المواظب على الطاعات المجتنب عن المعاصي المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات.
وقال أيضاً: الولاية: هي قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه( ).
وقد ذكر السهروردي الولاية وقسمها إلى أقسام باعتبارات مختلفة ثم ذكر بعض الكرامات للأولياء التي لا يخلو من ذكرها كتاب صوفي، وأكثر تلك الكرامات التي يروونها محض خرافات وقصص باطلة. ثم خلص السهروردي إلى أن الصالحين الذين يتولاهم الله ويتولونه ليس المراد بهم: "الذي يقصده أهل الطريق عند تفصيل المراتب ويقولون: فلان صالح وشهيد وولي، بل الصلاح هنا المراد به: الذين صلحوا لحضرته بتحقيق الفناء عن خليقته" ( ).(46/105)
وأما القطب الكبير عند الصوفية وهو القشيري فقد ذكر تعريفات كثيرة للولاية، ونقل عن أكابر مشائخهم آراءهم في الولاية وأهميتها وعلاماتها وكيفية الحصول عليها ومسائل أخرى( )، وهكذا فإن نظرة الصوفية إلى الولي والولاية ليست هي تلك المنزلة الطيبة في مفهوم الإسلام، لأن الولي الصوفي لا حد لصلاحياته في هذا الكون.
وقد جاءت الولاية في القرآن الكريم مراداً بها المدح، وأحياناً مراداً بها الذم، فهي تستعمل في الخير وفي الشر حسب إطلاقها، لأن صاحبها إما أن يكون ولياً لله تعالى أو ولياً للشيطان، وبين الولايتين من البعد والانفصال ما يعرفه كل مسلم سليم الفطرة صافي العقيدة.
وجاءت في السنة النبوية مراداً بها وصف من ساروا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتزموا طريق الخير ونصروا الدين ووالوه.
ثم توسع الصوفية والشيعة في إطلاقها وخرجوا بها عن حقيقتها ومدلولها الصحيح، فأطلقت على الرجل المتصوف أو من ينتسب إلى آل البيت، ثم أسبغوا على أئمتهم وكبار دعاتهم هذه الكلمة وأنواعاً أخرى من التهويلات لمطامع اجتماعية وسياسية.
ثم أخذها الصوفيين بعد ذلك وأخرجوها في مذاهب الحلول والاتحاد وحدة الوجود، وهناك صفة ثانية أضيفت إلى مفهوم الولاية عند الشيعة والصوفي، وهي صفة العلم اللدني الذي أخذه علي بن أبي طالب عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما زعموا، ثم ورثة إياهم ببركة تلك الولاية، وبلغ الغلو بالصوفية في أوليائهم إلى أن اتخذوهم بين الله وبين خلقه وسطاء على طريقة النصارى واليهود والمشركين تماماً.(46/106)
فكما اتخذ هؤلاء المسيح وعزيراً والملائكة أرباباً لهم من دون الله، اتخذ الصوفية وسطاء إلى الله عز وجل أسموهم القطب والغوث والولي ونسبوا إليهم النفع والضر، لأن الله بزعمهم جذبهم إليه واختصهم ثم ساووهم مع الله تعالى في كل صفاته، بل أصبح من شرط الولي أن يكون متصفاً بصفات الله-كما يزعمون- ومن هنا نشأ تنطعهم وتنقصهم للأنبياء على حد ما ورد عن أبي يزيد البسطامي في قوله: "خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله".
ثم اخترعوا مفهوماً كاذباً للولاية، فهي عندهم مجرد هبة من الله عز وجل لبعض خلقه دون أن يكون لها سبب، بل وبغض النظر عن صلاح الشخص أو فجوره، واستدلوا بقول الله عز وجل: {يختص برحمته من يشاء}( )، أي دون سبب حسب مفهومهم.
ومعنى هذا أنهم يجعلون مفهوم للولاية كمفهوم النبوة، الكل بلا سبب ظاهر، وهذا خلاف ما قرره الإسلام بالنسبة لولاية التي تنتج عن طاعة الله تعالى والمتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وقد قسموا الولاية والأولياء إلى أقسام يطول شرحها بدون فائدة فيها( ).
إلا ما نستثنيه مما ذكره المنوفي حين قسمهم إلى:
1- الملامتية:
وهم الذين لا يظهرون للخلق أعمالاً وأسراراً، بل يخفون أسرارهم لكمال ذوقهم وقوة شهودهم لربهم.
2- الغوث الأكبر:
وهو أكبر الأولياء والأقطاب، وهو ذات الحق باعتبار تجريدها من الاسم والصفة".
3- الأوتاد الأربعة:
وهم حفظة العلم كل واحد منهم في ركن من أركان العالم، وهم على قدم بدل من الأبدال، أي أقل رتبة من الأبدال، لأن الأبدال يكونون على قدم قطب من الأقطاب.
4- الأقطاب السبعة:(46/107)
لحفظ القارات السبع، والقطب هو الواحد الذي هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان. والقطبانية الكبرى هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم، والأبدال زعموا أنهم أربعون وهم مكلفون بحفظ العالم والكون، وقد عّرفهم المنوفي بأنهم: "أبدال الأقطاب من الأولياء، فإن مات قطب أحل الله محله بدلاً منه، ومنهم الخلفاء الأربعة".
5- النجباء:
وهم الأربعون القائمون بإصلاح شئون السالكين.
6- الأفراد:
وهم المفردون والغرباء لتفردهم عن الخلق بشهود الحق، وغربتهم في أهل زمانهم، وهم غير منحصرين في رتبة أو منزلة، ولهم كشف خاص وعلوم إلهية غريبة على الناس.. وهم على قدم النبي صلى الله عليه وسلم( ).
وأخيراً وصلوا بالولاية إلى أنها مثل النبوة تماماً فلها ختم كما للنبوة ختم، فختم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وخاتم الأولياء عند الصوفية مجموعة من الكذابين مختلفون فيما بينهم على ادعائها.
وأول من ادعى ختم الولاية به هو محمد بن علي بن الحسين، ويسمونه "الحكيم الترمذي"، وقد ظهر في القرن الثالث الهجري- في آخره- وهو غير الترمذي صاحب السنن.
وحين صنف الحكيم الترمذي كتابه"ختم الولاية" مضاهياً بذلك القول بختم النبوة شهدوا عليه الكفر ثم نفي من ترمذ.
ثم جاء ابن عربي المتوفي سنة 638 هـ فادعى أنه خاتم الأولياء، ثم جاء محمد بن عثمان الميرغني السوداني المتوفي سنة 1268 هـ فادعى أنه هو خاتم الأولياء، ثم جاء أحمد التجاني من فاس بالمغرب المتوفي سنة 1230 هـ فادعى أنه هو خاتم الأولياء، وأن من سبقه أو يلحقه ممن يدعي ختم الولاية فإنه كاذب مفتر.
وكل واحد ممن يدعيها له مزاعم وادعاءات وكرامات ومزايا لا يصدقها شخص له أدنى معرفة بالدين الإسلامي.(46/108)
وكلما جاء رجل منهم ادعى أنه هو خاتم الأولياء وأن غيره كاذب والكل-والله يشهد- كاذبون، ثم بلغ بهم الغلو أن فضلوا خاتم الأولياء المزعوم على خاتم النبيين لأمور لا فائدة من التطويل بذكرها، فإنهم مهما تفننوا في الاستدلال على ذلك ومهما زخرفوا القول فيه فهو مردود جملةً وتفصيلاً.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثالث عشر
الكشف الصوفي
من أصول الدين الإسلامي وقواعد الإيمان في الشريعة الإسلامية أن الله تعالى وحده هو علام الغيوب، وأن الخلق مهما كانت منزلة أحدهم لا يصل إلى معرفة الغيب، إلا من شاء الله أن يطلعه على ما أراد من ذلك، سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً.
ولقد تعدى المتصوفة على هذه الصفة لله عز وجل فأقاموا أمراً سموه "الكشف الصوفى"، ويعنى عندهم رفع الحجب من أمام قلب الصوفي وبصره ليعلم بعد ذلك كل ما يجرى في هذا الكون.
وبالغوا في هذا الإدعاء بما لا يجرؤ على القول به إلا عتاة الزنادقة، كما هو مسطر في كتبهم بأقلامهم، وكما تبين ذلك من خلال ما قدمنا من الإشارات الكثيرة إلى حقيقة الكشف من خلال نظرتهم إلى أقطابهم في حالة رفع الحجب عنهم واتحادهم بالله ورفع الأنية بينهم وبين الله، ويبدوا أنهم ترقوا في هذه الدعوى على النحو التالى:
1- ادعوا أن الصوفي يكشف له عن معان جديدة في القرآن والسنة والآثار والرسوم لا يعلمها علماء الشريعة، الذين سموهم علماء الظاهر والقراطيس؛ لأنهم أي علماء الشريعة إنما يعتمدون في نقل تلك المعاني من القرآن والسنة على موتى، وأما هم فإنهم يأخذونها عن الله تعالى مباشرة.
ومن هنا تجد أقطاب التصوف حين يشرحون بعض الآيات والأحاديث يأتون فيها بمعان من نسج أخيلتهم ويزعمون فيها مزاعم هي عين الأكاذيب التي لا يسندها أي دليل لا من الشرع، بل ولا من العقل في أكثر ما جاءوا به في شروحاتهم.(46/109)
2- ثم ترقوا فقالوا: إن لهم علوماً لا توجد في الكتاب ولا في السنة يأخذونها جديدة عن الخضر الذي هو على شريعة الباطن حسب زعمهم.
وهذه الفرية هي التي استباحوا بموجبها كثيراً من الفواحش والمحرمات إذ أن النصوص التي يفيد ظاهرها التحريم قد يفيد باطنها الإباحة، والخضر يؤكد لهم ذلك، فإذا بتلك النصوص ظاهرها في واد وباطنها في واد آخر لا صلة بينها إلا تلك الروايات التي صدرت عن الخضر، أو بعض المنامات التي حدثت لأقطابهم الكبار الذين استباحوا كل محرم من الفواحش.
3- وهناك فرية أيضاً اقترفوها، وهي قولهم: أنهم يتلقون علومهم عن ملك الإلهام كما تلقى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم علومه من ملك الوحي مباشرة.
4- وآخرون منهم يزعمون أنهم يتلقون علومهم عن الله رأساً وبلا واسطة؛ حيث تنطبع هذه العلوم في نفوسهم، وبموجبها يأتون ما يأتون من أمور.
5- وآخرون منهم يدَّعون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يخبرهم بأذكارهم وعبادتهم يقظة لا مناماً.
6- ثم زعموا أنهم يعلمون أسرار الحروف المقطعة من القرآن وقصص الأنبياء على حقيقتها، وأنهم يجتمعون بالأنبياء ويسألونهم عن تفاصيل قصصهم، وخرافات كثيرة ذكرها الجيلي في كتابه "الإنسان الكامل" يمجها السمع وينفر عنها الذوق.
وكذا الغزالي حين دخل التصوف ولم يستطع الخروج منه رغم أنه كان من علماء الشريعة، فقد ذكر أشياء كثيرة عن الكشف الصوفي وخرافاتهم فيه مؤيداً له.
وعتاة هذه الدعوى ابن عربي وعبد العزيز الدباغ والبسطامي والتجاني والمرسي وغيرهم( )، لقد كانت دعوى الكشف هي المقدمة الأولى في نظري إلى الادعاء بوحدة الوجود والحلول، فإن دعوى الكشف مبالغة فاحشة، ولكنها تعتبر من باب التمهيد لما هو أفحش منها، وهو ادعاء الاتصاف بالله والأخذ عنه مباشرة.(46/110)
ولذلك ترى كثيراً من المؤلفين من علماء التصوف زعموا أنهم لم يأتوا بما ذكروه في كتبهم إلا عن طريق الكشف الصريح يتلقونه عن الله مباشرة، رغم ما يحمل من كفر وفجور وزندقة وإباحية.
كما زعم ابن عربي في فصوصه، والجيلي في كتابه "الإنسان الكامل" الذي يقصد به الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اتصف حسب تقرير الجيلي بصفات الله تعالى، وبصفات أقطاب التصوف أحياناً؛ حيث يظهر في صورة أى شيخ منهم كالشبلي والجبرتي وغيرهما في زمنهم وفي غير زمنهم.
وكتاب الجيلي "الإنسان الكامل" مملوء بالعبارات التي تؤدي إلى إحياء الخرافات والزندقة، فقراءة عابرة له تجعلك لا تتوقف في هذا الحكم عليه ولا فيما كتبه عتاة التصوف كالدباغ وتلميذه أحمد بن مبارك والشعراني وعلي حرازم، وغيرهم ممن لا يلتزم بالعقيدة الإسلامية الصحيحة.
ثم دخلوا على عوام المسلمين عن طريق الكشف الإلهي والوصول إلى الحقيقة وصفاء القلب والولاية، وغير ذلك من أنواع الشبكات الصوفية التي يصطادون بها الناس عن طريق دعوى الكشف والتظاهر بالزهد، وإكرام الله لهم بمعرفة ما لم يعرفه غيرهم، وفى كل ذلك تساعدهم الشياطين، وأكثر هؤلاء الذين يخبرون بالمغيبات عن طريق الكشف إنما يستعينون بالسحر والطلاسم.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الرابع عشر
الشطحات الصوفية
لقد وصل الصوفية في شطحاتهم إلى حد لا يقدم عليه إلا من تزندق وألحد وخرج عن الدين، ولقد فاضت كتبهم بذلك وتواتر النقل عنهم، وهو أمر لا يدع مجالاً للشك في إلحاد من يعمل ذلك منهم، وفي إعراضه عن الخلق الفاضل والعقل السليم، فضلاً عن الدين.(46/111)
ومما يلحظه القارئ أنهم بعد أن أوردوا أنفسهم تلك الموارد الوخيمة أرادوا أن يجدوا مخرجاً منها، فلم يجدوا لهم مخرجاً فادعوا أنهم إنما قالوا تلك الكلمات الكفرية في حال سكرهم بالله تعالى وغيبوبة عقولهم عن الإحساس بأى شيء غير الله، وما أقبح هذا العذر وأسمجه فهل هم أحب لله من الأنبياء ومن كثير من أتباعهم الذين لا يقاس بهم غيرهم، ولم يعثر عن أحد منهم أن تلفظ بما تلفظ به هؤلاء الذين امتلأت نفوسهم زندقة وحقداً على الإسلام والمسلمين.
ومما يدركه طالب العلم أن الشطحات الصوفية كثيرة جداً، لا يمكن حصرها إلا بدراسة وافية( )، غير أننا سنعرض هنا بعض الامثلة لتكون نموذجاً لبقية شطحهم وغلوهم ومقدار جرأتهم على اقتحام الامور العظيمة في الإلحاد.
ونبدأ ببعض ما ذكر عن أبي يزيد البسطامي: طيفور بن عيسى.
1- قال أبو يزيد عن الله تعالى: "رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك فقلت: زيني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعنى إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هنا".
ومعناه أنه يطلب أن يصوره الله على صورته عز وجل تماماً، فإذا شاهده الناس قالوا: شاهدنا الله.
والرواية عنه هي كما تقدم إلا أني أرى أن هذه العبارة: "إن خلقي يحبون أن يروك" ليست هكذا – ولم أر أحد بين هذا – ولكن لعل الصواب فيها "إن خلقي يحبون أن يروني"، ولهذا بين أبو يزيد كيفية الطريقة التي يمكن أن يرى الخلق فيها ربهم، وذلك بأن يرقى البسطامي إلى حد النيابة التامة عن الله تعالى صفة وشكلاً – تعالى الله.
2- وقال مرة: "سبحاني سبحاني".
وقال: ضربت خيمتي بإزاء العرش أو عند العرش.
3- واجتاز بمقبرة لليهود فقال:"معذورون" ومر بمقبرة للمسلمين فقال: "مغرورون".
4- وقال: يخاطب الله: كنت لي مرآة فصرت أنا المرآة.
5- وقال: لأن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة.(46/112)
6- وقال: إلهي أن كان في سابق علمك أنك تعذب أحداً من خلقك بالنار فعظم خلقي فيه – أى النار – حتى لا يسع معي غيري.
7- وقال: ما النار؟ لاستندن إليها غداً وأقول: اجعلنى لأهلها فداء أو لأبلعنها. ما الجنة؟ لعبة صبيان.
8- تلك بعض شطحات البسطامي، وهناك الكثير يوردها علماء الصوفية عنه بين مستحسن لها وبين مراوغ في معانيها( ).
أما الشبلي فهو الأخر له من الشطحات ما نذكر بعضه فيما يلي:
1- أخذ من يد إنسان كسرة خبز فأكلها فقال: "إن نفسي هذه تطلب مني كسرة خبز، ولو التفت سري إلى العرش والكرسي لاحترق".
2- وقال لو خطر ببالي أن الجحيم نيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة لكنت مشتركاً.
3- وقال: أيش أعمل بلظى وسقر؟ عندي أن لظى وسقر فيها تسكن يعني في القطيعة والإعراض – لأنه من عذبه الله بالقطيعة فهو أشد عذاباً ممن عذبه بلظى وسقر.
4- وسمع قارئاً يقرأ هذه الآية: (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) ( )، فقال الشبلي: ليتني كنت واحداً منهم.
5- وقال: إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفؤها فصعب ذلك على جماعة ممن كان يسمع ذلك.
6- وقيل له: لم تقول: "الله"، ولا تقول "لا إله إلا الله"؟ فقال: استحى أن أواجه إثباتاً بعد نفي.. أخشى أن أؤخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار( ).
وقال أبو الحسن النوري وقد سمع المؤذن طعنه وشم الموت وسمع نباح كلب فقال: لبيك وسعديك.
وسمع أبو حمزة الصوفي شاة مرغياً فقال:"لبيك يا سيدي".
وقيل للتلمسانى وقد أشاروا له إلى كلب أجرب ميت: هو ذات الله أيضاً؟ فقال: "وهل ثم شيء خارج عنها"( ).
وهذه العبارات إنما هي أمثلة قليلة وهناك آلاف الشطحات في حال سكرهم بالله كما يزعمون، والحقيقة أنها صادرة عن أناس يدعون الحلول والاتحاد وهم في كامل وعيهم وشيطنتهم، وعندهم تمام الجرأة على الكذب على الله لجهلهم به عز وجل وهوانهم عليه.(46/113)
وإذا رجع القارئ إلى كتاب الطبقات الكبرى للشعراني فسيرى العجائب والغرائب مما ينقله الشعراني عن أسياده الذين ترجم لهم مبتدئاً بقوله:"فقال سيدى.. رضي الله عنه – ثم ملأ كتابه بأخبار هؤلاء في شطحاتهم وفي تصرفاتهم بما يستحي الإنسان أن يقرأه أو ينظر فيه، شطحات تصل إلى عمق الكفر، وتصرفات من أولئك الأقطاب تصرخ بالعار والفجور، وقد ترجم لعدد كثير، فارجع إليه إن أحببت أن ترى مهازل الصوفية وسقطاتهم التي لا تقال".
وقد ترجم الشعراني لعدد كثير منهم، وزعم أنهم كلهم أقطاب التصوف، ولكن ينبغي الانتباه إلى أنه حشر خيرة الصحابة رضوان الله عليهم بل جعل الخليفة الأول للمسلمين أبا بكر رضي الله عنه هو أول هؤلاء الأقطاب ثم عمر، إلى أن ذكر أيضاً كثيراً من خيار التابعين وعلماء الأمة الذين لا صلة لهم بخرافات الصوفية وخزعبلاتها، بل إن حشره لهؤلاء مع الحلاج والبسطامي والشاذلي والمرسي وغيرهم من عتاة التصوف يعتبر إهانة لهم.
وقد سار على نفس المنهج كثير من مؤلفي الصوفية، كما فعل نفس المسلك الذي سلكه الشعراني، المنوفي في جمهرة الأولياء، وقبلهم القشيري، وكل من جاء بعد هؤلاء سلك نفس ذلك المسلك الخاطئ.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الخامس عشر
التكاليف في نظر الصوفية
يعتقد غلاة الصوفية أن الصلاة والصوم والحج والزكاة هي عبادات العوام، وأما هم فيسمون أنفسهم الخاصة أو خاصة الخاصة، ولذلك فإن لهم عبادات خاصة، ومناهج وطرق خاصة، ومفاهيم تختلف تماماً عن مفاهيم العامة، خصوصاً بعد وصول أحدهم درجة اليقين – كما يزعمون – وقد شرع كل قوم منهم شرائع خاصة بهم، في الذكر والخلوة والملابس المخصوصة والحلقات الخاصة.(46/114)
وقد يتفقون في بعضها وقد يختلفون، إلا أن كل صاحب طريقة يجعل على أتباعه أغلالاً وحواجز شديدة، بحيث لا يستطيع أحدهم أن يغير طريقته بطريقة أخرى، وحتى مجرد الذكر إلا بإذن الشيخ وكل ذلك إنما يفعلونه كما يزعمون من أجل ربط القلب بالله للتلقي عنه مباشرة، ولاستمداد العلوم والمعارف عن الله رأساً على يد شيخ خوله الله ومنحه القدرة على ذلك.
وأما بالنسبة للتحريم والتحليل فأهل وحده الوجود منهم لا شيء يحرم عندهم؛ لأن الكل عين واحدة وفعل الخير وفعل الشر والقبيح والحسن إنما هي أفعال لا فروق بينها لاحتواء الذات لها كلها، ولذلك فقد حصل من بعض كبارهم وأئمتهم ما يستقبح الشخص مجرد ذكره؛ إذ كان منهم الزناة واللوطية والملاحدة، ثم لا يحق لأي شخص أن يعترض؛ لأن الشيخ لا يفعل شيئاً إلا لحكمة.
وأيضاً لا يفعل هذه الأمور التي يعتبرها الناس فواحش بجسمه وروحه بل بجسمه فقط، وأما روحه فهي أجل من أن تتدنى إلى فعل هذه الأمور الجسيمة، وقد وجدوا من الناس الذين هم أضل من البهائم من يصدقهم في كل ما يصدر عنهم، فصدقوهم في التفرقة بين ما يفعلونه بأجسامهم لحكمة وبين ما في أرواحهم من السمو والتعالي عن ما يفعله سائر الناس، والعقل من أجل نعم الله على الإنسان.
ثم اخترعوا مفهوماً ضالاً وهو أنه قد يصل الأمر أحياناً إلى حد أن للولي شريعته الخاصة، وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم تلقي شريعته الخاصة فلا يمنع أن يحصل الخلاف بينهما ويكون الجميع على الصواب، فالولي يتلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للخاصة، ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقى شريعته عن الله مباشرة وهي شريعة للعوام.
ولذلك تجد في حلقات هؤلاء الصوفية الغلاة من الفواحش والخروج عن تعاليم الإسلام ما لا يمت إلى الإسلام بصلة؛ لأن هذه الأفعال من الاختلاط والحشيش وأنواع الفساد قد تكون مباحة في شريعة الولي مع حرمتها في شريعة النبي، ولكل شريعته.(46/115)
وما دام الشيخ الصوفي قد وصل إلى حد التلقي عن الله مباشرة واطلعه على كثير من أسرار هذا الكون وعرف الكثير من المغيبات فإنه والحال هذه ليس عنده طمع في جنة ولا خوف من النار، ومن هنا تنشأ الاستهانة التامة بجميع التكاليف الشرعية.
وقد تبجح الكثير منهم بأنه لا يعبد الله طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار؛ لأن هذه العبادة معاوضة والصوفي قد اتحد بالله وفني فيه لأجله لا لغرض آخر، والخوف من النار أيضاً طبع العبيد لا طبع الأحرار كما تبجح البسطامي بقوله السابق:"ما النار؟ لاستندن إليها غداً وأقول اجعلني لأهلها فداء أو لأبلعنها، ما الجنة؟ لعبة صبيان"، وقول الشبلي: "إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفئوها".
فهم يزعمون أنهم يعبدون الله حباً في الله لا كما يعبده الخائفون من النار الطامعون في الجنة فإن عبادتهم إنما هي على سبيل العوض لا حباً في الله – وعلى هذا فإن من سبقهم من صالحي المؤمنين والأولياء من الصحابة وغيرهم بل والأنبياء كانت همتهم قاصرة عن إدراك هذا المعنى الذي اهتدى إليه هؤلاء!!
ومما يدل على تقدم ما نذكره فيما يلي من كلام الصوفية، حيث قسم المنوفي الناس بالنسبة لمراتبهم وقربهم وبعدهم عن الله تعالى ثلاثة أقسام تحت عنوان "حقيقة الطريق" فقال:
"إن هذا الطريق وهو السيرة المختصة بالسالكين إلى الله تعالى عند قطع المنازل والترقي في المقامات ينقسم بحسب اختلاف أحوالهم إلى ثلاثة أقسام لكل قسم منها طريقة:(46/116)
فالقسم الأول ذوو الامزجة الكثيفة والأفهام الضعيفة الذين يعسر عليهم محاولة التعلم من طريق التعليم , فطريقهم يستقيم بالعبادة والتنسك والزهادة والصلاة والصوم وتلاوة القرآن والحج والجهاد وغيرها من الأعمال الظاهرة، لأن هذه الطائفة لصلابة أبدانها وقوة أركانها تتحمل مشاق العبادة … والسالكون بهذا الطريق لا يزالون على هذه المناهج حتى يرقوا لأرفع المعارج ويقربون من مواطن تنزلات المعارف – وإذا وصلوا إلى هذا الحد –"، فحينئذ يكشف لهم عن سبحات المحبوب ويرون عجائب الغيوب ويتلقون عرائس الأسرار، وهذه الطرق صعبة جداً والواصل بها على خطر عظيم.
أما الثانية وهى طريقة أهل الخصوص وهم من ذوى الأفهام اللوذعية والأخلاق الرحبة والهياكل النورانية والنفوس الأبي، أولئك الذين قد لا يملكون نفوسهم في حال النزوات فطريقهم المجاهدات.. والسالكون بها لا يزالون يرتاضون في قلع ما انطبع في نفوسهم من الأخلاق الذميمة إلى أن تذهب تلك الطباع المكتسبة وترجع إلى فطرتها السليمة.
والقسم الثالث هم ذوو النفوس الرضية والعقول الزكية والفطرة الصديقية التي أبدان أصحابها في نهاية الاعتدال واللطافة، وطريقهم طريق المطلوبين إلى الله والطائرين إليه، وهي طريق المحبوبين المخطوبين من رب العالمين، وملاك السير بها صفاء القلب، وصدق الحب، والتحقق ظاهراً وباطناً جهراً وسراً بشعائر التصديق، فيخرج عن حوله وقوته وعقله وفطنته إلى حول الله وقوته"( ).
وقال أيضاً:"وبما أن التصوف هو زبدة الديانات ولبها وليس مجرد تقاليد وطقوس وقواعد ظاهرية كان لكل ديانة تصوفها"( ).وهذا الكلام فيه التصريح بأن التصوف لم يكن نبعه الإسلام فقط، وإنما هو زبدة الديانات أي أنه ملفق من ديانات شتى، وفيه أيضاً التصريح بأنه ليس مجرد تقاليد وطقوس وقواعد ظاهرية.(46/117)
والإسلام كما هو معلوم فيه بيان شامل لكل ما يحتاجه المسلم وهو نظام كامل، ولا يجوز تسميته مجرد تقاليد وطقوس، على أن القواعد الظاهرية نسبة إلى الظاهر يقصد بها قواعد الشريعة الذين يسميهم الصوفيون أهل الظاهر.
وقد فرق أيضاً بين الزاهد والصوفى:
بأن الزاهد هو الذي ينصرف عن الملاذ الدنيوية وينكر على نفسه جميع شهواته وإن أحلها الشرع، ويتحمل مرارة الجوع والعطش بصفة مستمرة وصوم دائم.. لا يفعل كل ذلك إلا طمعاً في ربح الآخرة والمكافأة بجنات النعيم.
وأما الصوفي فلا يرجو من ذلك شيئاً وإنما همة الوقت الحاضر وهدفه أن زهد وأن عبد معرفة الله والاتصال برضوانه"( ).
ومعنى هذا أن الجنة والنار لا قيمة لها في نظر الصوفي:
"لم يبلغ الأبدال ما بلغوا بصوم ولا صلاة، ولكن بالسخاء والشجاعة وذمهم أنفسهم عند أنفسهم"( )، وهذا الكلام فيه الاستهانة بشرائع الإسلام حيث فضل السخاء والشجاعة وذم النفس على الصوم والصلاة.
وقال أيضاً: "إن الله يفتح للعارف وهو على فراشه ما لا يفتح لغيره وهو قائم يصلي"( )، وهذه دعوى صريحة إلى التكاسل في الطاعات وتعريض بقلة فضل الصلاة.
وتتضح منزلة التكاليف عند بعض أولياء الصوفية عند الشعراني في تراجمه لكثير من أعلامهم بما لا يدع مجالاً للشك في إلحاد وزندقة هؤلاء الذين يسميهم أولياء ويترضى عنهم أيضاً.
وكمثال على ذلك ما أورده في ترجمته للشريف المجذوب حيث قال:
"وكان أصله جمالاً عند بعض الأمراء ثم حصل له الجذب … وكان له كشف ومثاقلات للناس الذين ينكرون عليه، وكان رضي الله عنه يأكل في نهار رمضان ويقول: أنا معتوق أعتقنى ربي، وكان كل من أنكر عليه يعطبه في الحال، وكان رضي الله عنه يتظاهر ببلع الحشيش فوجدوها حلاوة، وكان قد أعطاه الله تعالى التمييز بين الأشقياء والسعداء في هذه الدار"( ).(46/118)
ومن أولئك الأولياء أيضاً بركات الخياط رضى الله عنه، كان رضي الله عنه من الملامتية … وأخبرني الشيخ عبد الواحد رضي الله عنه أحد جماعة سيدي أبي السعود الجارحي رضي الله عنه، قال: مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ مفتى الجامع الأزهر وجماعة فقالوا: امضو بنا نزوره وكان يوم جمعة فسلم المؤذن على المنارة , فقالوا له: نصلي الجمعة فقال: مالي عادة بذلك.
فأنكروا عليه فقال: نصلى اليوم لأجلكم، فخرج إلى جامع المارداني فوجد في الطريق مسقاة كلاب فتطهر منها، ثم وقع في مشخة حمير ففارقوه وصاروا يوبخون الشيخ الذي جاء بهم إلى هذا الرجل، وصار الشيخ بركات يوبخ عبد الواحد ويقول أيش هؤلاء الحجارة الذين أتيت بهم لا يعود لك بالعادة أبداً … وله وقائع مشهورة رضي الله عنه"( ).
وأمثلة أخرى كثيرة يوردها الشعراني تدل على مدى استهتار هؤلاء الأولياء – حسب زعمه – بالأخلاق والدين والتكاليف، فقد ذكر عن علي وحيش ما يخجل القلم من كتابته ويتلعثم اللسان من النطق به( )؛ من الأعمال الفاحشة والزنا وفعله بالبهائم وصاحبها قائم أمامه، وإن لم يرض تسمر في مكانه كما يذكر الشعراني.
ويبدو أن للكشف الصوفي علاقة قوية بترك التكاليف على حد ما أورده عنهم الشيخ سعيد حوى في قوله:
"يربط بعض الصوفية بين الكشف وترك التكاليف، فيرون أن الإنسان متى كشف له شيء من أمر الغيب – وما أكثر ما يتوهون في هذا الشأن – سقط عنه التكليف، فلا صلاة ولا صيام ولا غير ذلك، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى: ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَى يَأتِيَكَ الْيَقِنُ ( ( )"( ).
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل السادس عشر
الأذكار الصوفية
أم الأذكار الصوفية فحدث ولا حرج عن خرافتهم فيها، وقد قدمنا من الأمثلة ما يوضح حال هؤلاء ومدى ما وصلوا إليه من الجهل بربهم والبعد عن هدى خير الأنام، هذا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.(46/119)
لقد اخترعوا أذكاراً وشرعوا أوراداً ما أنزل الله بها من سلطان، بل اشتملت على الكفر والزندقة في كثير منها والكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما اشتملت على كلمات سريانية غير معروفة المعنى وعلى رموز وحروف مقطعة لا يعرف المراد منها.
وكل صاحب طريقة له أذكار هي أفضل من كل ذكر، وأجرها أعظم من كل أجر، وما عداه باطل حسب تخرصاتهم في كل ذلك، ينطبق عليهم قول الله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيءٍ}( )، فهم متفرقون قد لا يجمعهم إلا الاتفاق على الرقص وادعاء الوصول إلى الله ومكالمته ورفع الغير والغيرية بينة وبينهم.
مع أن كل صاحب طريقة يدعى أنه يأخذ تلك الأذكار مباشرة عن الله عز وجل أو عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يقظة لا مناماً كما يزعمون، وفضلوها تفضيلاً عالياً ليرفعوا شأنها في نفوس أتباعهم ومريديهم على القرآن والسنة والأدعية المأثورة، ويطول البحث لو أردنا ذكر نماذج من تلك الطرق المختلفة والأذكار المتباينة فيما بينها.
فمنها الأذكار التجانية التي سبق ذكرها، ومنها أذكار البسطامي والرفاعي والجيلاني والشبلي وأبو العباس المرسي وآخرين كثيرين، ومنها أذكار الطريقة الشاذلية التي زعم أصحابها أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والخضر هما اللذان علما الشيخ أحمد الإدريسي، حيث ذكر تلميذه صالح محمد الجعفري ذلك في كتابه مفاتيح كنوز السموات والأرض المخزونة التي أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لشيخ الطريقة الإدريسية المصونة( ).
وهي أذكار في غاية الركاكة والكذب على الله وعلى الرسول والاعتداء في الدعاء على حق الله ورسوله، ولم يكتف هؤلاء بادعائهم أنهم يأخذون أذكارهم عن الله ورسوله فقط، بل هناك كما يذكرون بعض الأولياء الذين قد ماتوا هم أيضاً يلتقون ببعض المشائخ الأحياء ويعلمونهم أدعية وأوراداً لا حد لأجر من يقولها.(46/120)
ولو كان الذكر كلاماً لا معنى له في أي لغة من اللغات المعروفة من مثال ما ذكروه عن الدسوقي أنه علمهم هذا الدعاء: "بسم الله الخالق يلجمه بلجام قدرته أحمى حميثاً أطمي طميثاً وكان الله قوياً عزيزاً حم عسق حمايتنا كهيعص كفايتنا... "( ) إلى آخر الذكر الذي يدل على مدى ضحالة معرفتهم بالله ورسوله و عدم التفاهم إلى ما شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الدعاء الواضح المثمر في قلب العبد إذا دعا ربه بإخلاص وتوجه.
وقد ذكروا من الأجر لقائل أذكارهم الجوفاء ما لا يحد ولا يعد ولا يتصور في الذهن، وقد يبدو على تلك الأدعية حرارة الإيمان وصدق الالتجاء إلى الله تعالى، ولكنه في الحقيقة ليس موجهاً إلى الله فقط بل إلى أوليائهم الأحياء أو الأموات أيضاً.
ومدار أذكارهم على الإثبات كما يزعمون، فهم يقتصرون على لفظة "الله" بدلا عن لا إله إلا الله يعللون لهذا المسلك بما لا مقنع فيه حتى للجهال العامة فضلاً عن أهل العلم، حيث يقولون: إن اقتصارهم على لفظة "الله" وتكرارها خوفاً أن يموت الشخص عند ذلك النفي في قول "لا إله".
ولا ندري كيف يقرءونها في القرآن {فاعلم أنه لا إله إلا الله}، وماذا يفعل المؤذن، وماذا يفعل الداخل في الإسلام عندما ينطق الشهادتين، وأمور أخرى لا يستطيع العقل أن يتصور مدى التخبط الذي حل بهؤلاء.
ومن غريب أمر الصوفية في أذكارهم أنهم رتبوها على طريقة شيطانية من وحي شياطينهم، حيث جعلوا لكل اسم من أسماء الله تعالى ذكراً خاصاً به، ولطبقة خاصة به، فمن ذلك زعمهم أن اسم الله العفو يليق بأذكار العوام، لأنه يصلحهم وليس من شأن السالكين إلى الله ذكره.(46/121)
أما اسمه تعالى الباعث فإنه يذكره أهل الغفلة ولا يذكره أهل طلب الفناء، وأما اسمه الغافر فيلقن لعوام التلاميذ وهم الخائفون من عقوبة الذنب، وأما من يصلح للحضرة الإلهية فذكره مغفرة الذنب عندهم يورث الوحشة، وأما اسمه تعالى المتين فإن ذكره يضر أرباب الخلوة وينفع أهل الاستهزاء بالدين.
وهكذا استمر السكندري في وصف أسماء الله وخواصها، وكأنما هو طبيب يصف العلاج ومنافعه، وقد تقدم ذكر الطريقة التجانية، ونضيف هنا ما استخلصه الشيخ عبد الرحمن الوكيل في بيانه لكيفيات الذكر الصوفي ومراحله، فنوجز ذلك فيما يلي (بتصرف):
إذا جاء وقت المولد - الأعياد الوثنية - يجتمع الرجال والنساء أو الدراويش والدرويشات كما يحبون تسميتهم بذلك.
بعد أن يتخموا بطونهم بأنواع المأكولات التي تقدم في هذه المناسبة يقوم الشيخ الكبير ويصفق بيديه اللامعتين من "دسم الحرام" إيذاناً ببدأ الذكر.
يخرج من شفتيه ومنخريه اسم الله ملحداً في حروفه وفي النطق به.
يقوم المتغزلون بإنشاد قصائد غزلية تلهب المشاعر، ويصاحبهم المطبلون وأصحاب الآلات المطربة.
ثم يهب الشيخ ويهب معه المريدون يتمايلون يمنة ويسرة في حركات مثيرة صاخبة كل ينوح على ليلاه _ والآهات والزفرات والقبل، كما رأيتهم بعيني( )- هي الشعار العام لهم،وكل واحد من الحاضرين يبذل أقصى جهده في إظهار أقوى الحركات والحماس ليلفت الأنظار إليه.
على الحاضرين أن يستحضر كل واحد منهم صورة شيخه أمامه إن لم يكن موجوداً، أو يستمد منه العون في بدء قيامه بهذا الذكر قائلاً: مددك يا أستاذي، ثم يستأذن أصحاب الطريق والقدم فيقول: دستور يا أصحاب الطريق والقدم.
ينبغي على كل واحد أن يلتزم بطريقة الذكر، وهي كما يلي:
أن يهتز من فوق رأسه إلى أصل قدميه.
أن يبدأ بـ (لا) يميناً ويرجع بـ (إله) فيتوسط، ثم يختم (إلا الله) يساراً قبلة القلب.
إذا ذكر اسماً مفرداً مثل الله، أو هو، أو حيّ لابد أن يضرب بذقنه على صدره.(46/122)
في كل ذلك يجب أن ينتع الكلمة من سرته إلى قلبه ثم يستمر هكذا في هذه الصور البهلوانية التي هي أقرب إلى الجنون والعربدة منها إلى أقل التفات إلى الله تعالى أو ثوابه وعقابه.
يجب ملاحظة أن المريد لا يدعو بأي اسم لله إذا سمح له به الشيخ وإلا حصل عليه ضرر شديد.
ثبت أن تلك الطريقة الصوفية في الدعاء أخذت بتمامها عن اليهود، حيث جاء ذلك في المزمور التاسع والأربعين بعد المائة في العهد القديم وهو:
"ليبتهج بنو صهيون بملكهم ليسبحوا اسمه برقص، بدف وعود ليرنموا، هللوا يا، سبحوا الله في قدسه، سبحوه برباب وعود، سبحوه بدف ورقص، سبحوه بأوتار ومزمار، سبحوه بصنوع الهتاف"( )
ولقد ذكر ابن عطاء الله السكندري أدعية عن مشائخه وأسياده في الطريقة طويلة مملة ممجوجة، مملوءة بالتنطع والتعدي في الدعاء والإشعار بكبريائهم وعتوهم وطلبهم الحلول والاتحاد به، منه دعاء الشيخ أبو الحسن الشاذلي، وفيه:
"يا عزيز يا رحيم... وأسقط البين بيني وبينك حتى لا يكون شيء أقرب إلي منك... اللهم هب لي النور الذي أرى به رسولك صلى الله عليه وسلم ما كان ويكون، اللهم ارزقني من كنز لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة، واضربني بها ضرباً تمحق بها من قلبي كل قوة. باسم المهيمن العزيز القادر أجل كل شيء وهو ناصري ق.ج ن ص انصرني"( ).
ونفس الدعاء السابق أيضاً كان يدعو به القطب الكبير أبو العباس أحمد المرسي، بل وزاد عليه أشياء أخرى ومنه:
"اللهم اهدني لنورك... وهب لي علماً يوافق علمك... وارفع الحجاب فيما بيني وبينك، وأسقط البين عني حتى لا يكون شيء بيني وبينك، واكشف لي عن الحقيقة الأمر.."، إلى أن قال: "كيف يكون ذنبي عظيماً مع عظمتك أم كيف تجيب من لم يسألك وتترك من سألك؟
إلهي جذبك لي أطمعني فيك...قاف جيم سران مع سرك هب لي من نورك ما أتحقق به حقائق ذاتك"( ) الخ.
ثم أورد السكندري دعاء حزب شيخه الشاذلي، وفيه:(46/123)
"لا إله إلا الله نور عرش الله، لا إله إلا الله نور لوح الله، لا إله إلا الله نور قلم الله، لا إله إلا الله نور رسول الله"، ثم كرر الدعاء على الصفة إلى أن قال:
"وتالله لئن لم ترعني بعينيك وتحفظني بقدرتك لأهلكن نفسي ولأهلكن أمة من خلقك.. يا من به ومنه وإليه يعود كل شيء أسألك بحرمة الأستاذ، بل بحرمة النبي الهادي، بل بحرمة السبعين والثمانية.. اللهم صلني باسمك العظيم الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء، وهب لي من سراً لا تضر منه الذنوب شيئاً.. واجعلني خزانة الأربعين"( ).
إلى آخر ما ورد من أذكار لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هي سراب يحسبه الظمآن ماءً.
ومنهم من يدعو بهذا الدعاء بدلاً عن سبحان الله وبحمده، لا إله إلا الله، بدلاً عن ذلك يدعو بهذا الذي تقشعر منه الجلود وتشمئز منه النفوس وهو من أدعية الطريقة الشاذلية.
"سقفاطيس، سقاطيم آمون قاف آدم حم هأ آمين كد كد كردد ده بها بهيا بهيا بهيهات لمقفنجل يا أرض خذيهم"( )، نعم يا أرض خذيهم إنها مأساة حقيقية حين توجد تلك الأذكار الجوفاء ثم يتبعها الوجد والرقص والطبول والزغاريد كما نبينه فيما يلي:
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل السابع عشر
الوجد والرقص عند الصوفية
لقد كان للغرام العارم والرقص والتمايل عند الصوفية مكانه ثابتة بل هذا النوع صار من أقوى الشبكات التي يصطادون بها من قلت معرفتهم بالدين الإسلامي الحنيف، وحقاً إنه نوع من الخلل في السلوك والاضطراب الذهني حين يعبدون الله بالرقص والحركات التي لا تمت إلى عبادة الله بأية صلة إلا كما تمت إليها عبادة اليهود من قبل حين حثتهم التوراة _ المحرفة _ العهد القديم _ المزامير على وجوب التسبيح لله بالدف والمزمار والعود والربابة.(46/124)
وعند الصوفية في أوقاتهم الخاصة مجالس يجتمعون فيها على الرقص والغناء والتصفيق والصياح بأصوات منكرة يمزقون فيها ثيابهم ويتمايلون حين يأخذ منهم الطرب مأخذه في حركات بهلوانية لا يفهم منها أي إشارة إلى الخوف من النار أو الرغبة في الجنة.
وقد أصبح الرقص الصوفي الحديث عند معظم الطرق الصوفية في مناسبات الاحتفال بمولد بعض كبارهم أو في أية مناسبة من مناسباتهم الكثيرة، يحضر عازفون وموسيقيون ويختلط بعضهم ببعض رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، ويجلس في هذه المناسبة كبار الأتباع يتناولون ألواناً من شرب الدخان، وكبار أئمتهم يقرءون عليهم بعض الخرافات المنسوبة لمقبوريهم( ).
والغناء الذي يترنمون به يشتعل حباً وعشقاً وغراماً وقصائد وجد وحزن، فإذا سئلوا عن ذلك زعموا أنها من الطرق التي توصلهم إلى ربهم، أو هو الحب الإلهي كما يسمونه لترغيب الناس فيه. وهذه الصور البهلوانية الرعناء هي صورة الذكر.
فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من الصحابة يفعلون مثل هذا التنطع المذموم، وهل مثل تلك الحركات تشير إلى الخشوع لله تعالى والسكينة في العبادة من قريب أو من بعيد، وهل ذلك الاختلاط والتمايل يمكن أن يكون بعيداً عن الشيطان. إنها مهازل وسخرية بدينهم ومع ذلك فهم يتلمسون لهم الأدلة التي يجادلون بها مهما كان سقوطها.
أدلتهم على جواز ذلك والرد عليها:
وهكذا لم يكتف هؤلاء بتلك المسالك التي غلوا فيها إلى أن أخرجوا بعض عباداتهم في صور غنائية ورقص، بل حاولوا كذلك أن يجدوا لتلك الأفعال أدلة لمشروعيتها، ومن ذلك:
زعمهم أن سلمان رضي الله عنه حين نزل قوله تعالى: (وإن جهنم لموعدهم أجمعين)( ) صاح سلمان الفارسي صيحة ووقع على رأسه ثم خرج هارباً ثلاثة أيام.
ومن ذلك أيضاً احتجاجهم بقول الله تعالى لأيوب عليه السلام: (اركض برجلك)( ).(46/125)
ومنها قول الرسول( لعلي: "أنت مني وأنا منك" فحجل، وقال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي" فحجل، وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا" فحجل.
ومنها احتجاجهم لسماع الرسول ( جاريتين تغنيان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى بثوبه، فجاء أبو بكر فانتهرهم، فنهاه الرسول ( وقال: "دعهما فإنها أيام عيد".
ومنها أن الحبشة زفنت والنبي ( ينظر إليهم.
واحتج أبو عبد الرحمن السلمي على جواز الرقص بما روي عن الشافعي أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الحداء يتغنى في دار العاص بن وائل بهذين البيتين:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت به زينب في نسوة عطرات
فلما رأت ركب النميري أعرضت وهن من أن يلقينه حذرات
قال فضرب برجله الأرض زماناً وقال: هذا مما يلذ سماعه.
ومنها أن عمر رضي الله عنه كان ربما مر بآية في وردة فتخنقه العبرة ويسقط ويلزم البيت اليوم واليومين حتى يعاد ويحسب مريضاً.
ومنها أن الرسول ( قال في حق أبى موسى: " لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود " ومنها استحسان الرسول شعر النابغة حتى قال له: "لا يفضض الله فاك"، ووضعه أيضاً المنبر لحسان يقول عليه الشعر في هجاء المخالفين للرسول (.
ومنها أن بعض الصالحين رأى الخضر وسأله عن السماع الصوفي فقال له: ذلك هو الصفاء الزلال.
ورأى أحدهم الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن سماع الصوفية فقال له الرسول: ما أنكره، ولكن قل لهم يفتتحون قبله بقراءة القرآن ويختتمون بعده بالقرآن..
ومنها أن الخضر تواجد حتى سقط على جبهته وصار الدم يقطر منها ولا يقع على الأرض، حين سمع أبياتاً من الشعر قالها شخص بحضرته، ذكرها السهروردي.
ومن أدلتهم أن بعض الصالحين رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وهو يقول له كلاماً والنبي صلى الله عليه وسلم قد وضع يده على صدره كالمتواجد بذلك.(46/126)
ثم أورد السهروردي أدلة كثيرة عن بعض الصوفيين في حال تواجدهم؛ بعضهم مشى على الماء، وبعضهم لم يحترق بالنار، وبعضهم يرتفع أذرعاً عن الأرض، إلى أن، ختم السهروردي أدلته – وهى كثيرة بزعمه – بهذه القصة، وهي أن أعرابياً أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد لسعت حية الهوى كبدى فلا طيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي
فتواجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواجد الأصحاب معه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، ثم قسم رداءه بينهم، حيث مزقه إلى أربعمائة قطعة( ).
تلك أهم الحجج التي يتمسك بها الصوفيون في مشروعية لهوهم وتواجدهم، فما مدى صحة استدلالهم، وهل ما ذكروه من تلك الروايات كلها صحيحة، أو هل كان فهمهم لها فهماً صحيحاً؟
والجواب عن هذه الاحتجاجات يحتاج إلى دراسة ووقت، ولكن أكتفى هنا بإيجاز الرد عليهم في دفع حججهم وأدلتهم بأنها احتجاجات واهية وتلفيق غير مقبول ومزاعم لا صحة لها:
*فأما ما رووه عن سلمان فإنه كذب، ومحال كذلك، فقد رويت هذه القصة بلا سند. ثم إن الآية نزلت بمكة بالاتفاق كما قال القرطبي، وسلمان إنما أسلم بالمدينة كما هو معلوم.
ثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهي أشد النهي عن مثل هذه الأمور المنافية للوقار والخشوع، فإنه كان صلى الله عليه وسلم يبغض الصياح أو إظهار التخشع عند سماع القرآن أو المواعظ إلا في الحدود المشروعة، ومن ذلك ما رواه أنس قال: "وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فإذا برجل قد صعق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ذا الملبس علينا ديننا إن كان صادقاً فقد شهر نفسه وإن كان كاذباً فمحقه الله"( ).
وقد عرف عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يخشعون تمام الخشوع، فتذرف عيونهم وتخاف قلوبهم، ولم يصعق أحد منهم وهم أعرف بالله من غيرهم وأتقى له وأكثر انقياداً وقبولاً للحق تمسكاً به، ولو كان ذلك الوجد والهيام والصعق خير لما سبقهم أحد إليه.(46/127)
*واما احتجاجهم بقول الله تعالى لأيوب: (اركض برجلك) ( ) فهذا احتجاج يدل على جهل صاحبه بحقيقة حال أيوب المبتلى بما لا يصبر عليه أحد إلا من أعانه الله وقوى يقينه، فإنه يقال لهذا المحتج: إن الله لم يأمر أيوباً بضرب رجله فرحاً وطرباً.
وإنما أمر بضرب رجله من باب فعل الأسباب إكراماً من الله تعالى له، ثم إنه لم يركض برجله ابتداء وإنما تنفيذاً للأمر، وكذلك لإشعاره بتغير الحال، ولحكم أخرى لا يعلمها إلا الله تعالى ليس منها جواز الرقص، ولم يك حاله يستدعي أن يضرب برجله الأرض تواجداً وطرباً إلا عند الجفاة.
*وأما احتجاجهم بحجل على و جعفر وزيد، فإن الحجل هو نوع من المشي يفعل عند الفرح وارتياح النفس أحياناً ليعبر الشخص به عن فرحه دون قصد الرقص والتمايل، والصحابة هؤلاء لم يكن منهم رقص ولا تمايل ولا إنشاد قصائد الغزل المهيجة، فليس فيه دلالة على ما يريد المتصوفة، وما فعله هؤلاء الصحابة إنما كانت حالة عارضة لا قصد لهم فيها لإظهار الطرب والتواجد.
*وأما احتجاجهم بزفن الحبشة فإن الزفن أيضاً نوع من المشي مع الرقص ويشير كذلك إلى الاعتداد بالنفس، وأكثر ما يفعل عند اللقاء في الحرب إظهاراً للشجاعة وعدم المبالاة بالعدو، وليس المقصود منه الرقص والطرب كما يرى الصوفية.
*وأما ما ذكروه عن سعيد بن المسيب – رحمه الله – فإنه مكذوب عليه، وليس هذا شعره، وهو أوقر من أن يصل إلى هذا الحد.
*وهذه الأبيات فيما يذكره الأدباء قالها محمد بن عبد الله بن نمير الشاعر الثقفي، يتغزل فيها بزينب بنت يوسف الثقفي أخت الحجاج. وقد هرب بعد ذلك إلى عبد الملك خوفاً من الحجاج، فسأله عبد الملك بن مروان عن الركب ماذا كان؟ فقال له: كانت أحمرة عجافاً حملت عليها قطراناً من الطائف، فضحك عبد الملك وأمر الحجاج أن لا يؤذيه.(46/128)
ثم لو قدرنا أن ابن المسيب ضرب برجله الأرض فليس في ذلك حجة على جواز الرقص، ولا أنه ضرب بها وهو يريد الرقص، فإن الإنسان قد يضرب برجله الأرض أو يدقها لشيء يسمعه ولا يسمى ذلك رقصاً منه، بل إن الإنسان قد يضرب برجله الأرض إما فرحاً وإما غضباً وإما غيظاً( ).
*وأما احتجاجهم بسماع الرسول للجاريتين فهو استدلال غريب منهم على جواز الرقص والتمايل والتواجد؛ ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مسجي بثوبه، وهم حينما يتواجدون لا يتدثرون بثيابهم، بل تعلو همتهم ويشتد عراكهم ويمزقون ثيابهم، فأين فعلهم من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟.
*كذلك فإن الجاريتين كانتا تنشدان كلاماً ليس فيه غزل أو تشبيب أو خروج عن حد الوقار والأدب، وكان الحال يستدعي الترويح عن النفس، خصوصاً وأنه يوم عيد وعائشة رضي الله عنها كانت جارية شابة.
*وأما استدلالهم بما ينسبونه إلى عمر رضي الله عنه من أنه كان يلزم البيت اليوم واليومين حينما يسمع بعض الآيات في ورده؛ فإنه لم يعرف أن الصحابة كانت لهم أوراد يرددونها على طريقة الصوفية، بل ولم يعرف عنه أنه يمرض اليوم واليومين بسبب ما يسمعه من بعض الآيات، لا هو ولا غيره من الصحابة.
*وأما استدلالهم بحسن صوت أبى موسى فليس فيه دليل على الوجد الصوفي، وإنما هو إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك النعمة التي أعطيها أبو موسى، فهل كان الصحابة يرقصون على سماع قراءته أو يصعقون أو يمزقون ثيابهم؟ كلا.
*وكذلك استحسان الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الكلام أو الشعر ليس فيه دلالة للصوفية، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستحسن أشياء ويستقبح أشياء، وهذا أمر طبيعي في النفوس.
*وأما ما يحشده أقطاب التصوف من الأدلة بالرؤى المنامية أو بمقابلتهم للخضر، فإنها أدلة باطلة، حتى ولو كان الرائي ثقة، فإنه لا يتعبد برؤياه فما بالك وتلك الرؤى الصوفية عن مجهولين، إضافة إلى التكليف الظاهر في رواياتهم.(46/129)
*وزعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطرب ويتواجد ويضرب بيده على صدره ويمزق ثيابه ويعطيها لأصحابه كله كلام يدل على عدم احترامهم للرسول صلى الله عليه وسلم وعدم معرفة قدرة العظيم. فهل كان يصل به التواجد إلى حد أن يسقط رداءه عن منكبيه من سماع تلك الأبيات الفارغة: قد لسعت حية الهوى كبدي …؟
*وما ذكره السهروردي من أن بعض أقطاب التصوف يكاد أن يطير أو يرتفع من الأرض أذرعاً أو يدخل الشمعة في عينه أو يطأ النار ولا يحس بها أو يمشي على الماء أو غير ذلك من الحركات البهلوانية العشوائية التي يفعلها هؤلاء، فلا ريب أنها من أقوى الدلائل على تلاعب الشياطين بهم وإخراجهم عن حد الاعتدال الذي أقل ما يوصف به أنه ينافي الخوف من الله تعالى والرغبة في المغفرة.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثامن عشر
الكرامات وخوارق العادات عند الصوفية
للأولياء الحقيقيين كرامات لا تنكر، وقد كان للصحابة رضي الله عنهم من الكرامات ما هو جدير بهم، وكان لغيرهم من الأولياء والعلماء كرامات كثيرة، وهدفنا هنا من ذكر الكرامات وخوارق العادات هو بيان تلك الكرامات والخوارق التي تتم على أيدي أناس ليسوا من أولياء الله، وليس لهم صلاح يؤهلهم لذلك.
وبيان أن ذلك من مكائد الشيطان وتلبيسه على الناس بأن يظهر لبعضهم أموراً غيبية تبدو كأنها كرامات من الله للشخص فيتخيل أنه بلغ منزلة عالية فاق فيها غيره من الناس، وأنه أصبح يماثل الأنبياء في كراماتهم وقربه من الله. وهذه الحال كثيرة الوقوع لمن يدعون أنهم أولياء لله، وأكثرهم في الحقيقة أعداء له وموالين لشياطينهم.(46/130)
ومن تلاعب الشياطين بهؤلاء: أن يسمع أحدهم صوتاً من حجر أو شجر أو صنم يأمره وينهاه بأمور في بعضها الشرك بالله فيظن المغرور أن الله خاطبه أو , الملائكة على سبيل الكرامة، ومعلوم أن الله لا يأمر بالفحشاء، والملائكة لا تأمر بالشرك بالله وإنما أولئك هم الشياطين يلبسون عليهم أمورهم كما كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام أيضاً.
وقد يظن هؤلاء أن ذلك وحى من الله عليهم كما حصل لكثير من الذين قلت معرفتهم بالله كالمختار بن أبى عبيد الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كذاب ثقيف وغيره ممن استهوتهم الشياطين.
ومنها: أن الشياطين قد تتمثل بصورة المستغاث به من الناس فيظن المشرك بالله أن هذه الصورة هي الشيخ الفلاني أو الولي الفلاني، أو أن ملكاً جاء على صورته، وإنما هو في الحقيقة شيطان تمثل له ليضله.
ومنها: أن تخاطب الشياطين بعض العبَّاد الجهال، ويوهمونه أنه المهدي المنتظر وصاحب الزمان الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويغرونه بزخرف القول وشتى الوساوس حتى يصدق نفسه فيدعي المهدية وغير ذلك.
بل يبلغ الحال ببعضهم أن يرى الكعبة تطوف به، ويرى عرشاً عظيماً وعليه صورة عظيمة وأنواراً وأشخاصاً تصعد وتنزل فيظنها الملائكة بين يدي الله تعالى وأن الله كشف له النظر إليه.
وهذا يتطلب من المؤمن العاقل التنبه لمثل المكائد الشيطانية بلجوئه إلى الله والاهتداء بهدية، وسوء الظن بنفسه الأمارة بالسوء، وأن ينظر إلى نفسه من باب الذل والاحتقار والحاجة إلى ربه، ويزن أعماله بامتثاله أوامر الله واجتنابه نواهيه، فيحكم على نفسه عند ذلك بالتقصير أو القرب من الله تعالى.
ويكبح جماح نفسه الأمارة بالسوء، وأن لا يصدق ما يتراءى له من كرامات تنافي الإسلام، مثل أنواع الكرامات التي تبجح بها بعض غلاة الصوفية لأنفسهم كما ذكرها المناوي، وهي:(46/131)
إحياء الموتى. وقد مثل بأبي عبيد اليسري الذي أحيا دابته بعد ما ماتت، ومفرج الدماميني الذي أحيا الفراخ المشوية، والكيلانى وأبو يوسف الدهمانى الذي أحيا لتلميذه ولده بعد ما مات.
ومن الكرامات التي يزعمونها أن الأولياء من الصوفية لهم القدرة على المشي على الماء وكلام البهائم وطي الأرض وظهور الشيء في غير موضعه والمشي على السحاب وتحويل التراب إلى خبز وإبراء الأكمه والأبرص.
ويذكر علي حرازم منهم أن الولي يملك كلمة التكوين فإذا أراد شيئاً فإنه يقول له كن فيكون. وقد ذكر أمثلة كثيرة في كتابه جواهر المعاني لمثل هذا الخلط والكذب على الله وعلى الناس.
ومن المعجزات والكرامات التي يملكها الأولياء من الصوفية – حسب زعمهم – سماع نطق الجمادات، كما يزعم ابن عربي الذي ملأ كتبه بأنواع الأكاذيب حول تلك المعجزات والكرامات الصوفية.
ضمانة الجنة لمن أطعم صوفياً أو قضى له حاجة؛ كما ضمن ذلك التجاني لكل من أحبه أو أطعمه أو أحسن إليه بأي شيء كما يذكر التجانيون في كتبهم افتخاراً بكرامات سيدهم التي منها هذه الكرامة التي أكدها علي حرازم والفوتي نقلاً عن التجاني.
وكل تلك الكرامات أشبه ما تكون بأحلام الصبيان أو صراعات المجانين، وتكذيبها والسخرية بها لا تحتاج إلى ضياع الوقت في الاشتغال بالردود عليها وبيان سخافتها ودجل من يدعيها ممن جرؤ على الكذب على الله وعلى الناس وضللوا أتباعهم وأخرجوهم عن الإسلام من حيث لا يشعر أولئك الأتباع، لأنهم أصبحوا كما قال الله تعالى: (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) ( ).
وفيما يلي نذكر بعض الأمثلة من كلام أقطاب التصوف في الكرامات التي يزعمونها لأنفسهم أو لأوليائهم لترى مدى بعد تلك العقول عن الحق والأفكار الرديئة التي انطوت عليها الزعامات الصوفية.(46/132)
يقول عبد الكريم القشيري عن كرامات أبى الحسين النوري أنه قال: "كان في نفسي شيء من هذه الكرامات، فأخذت قصبة من الصبيان وقمت بين زورقين ثم قلت: وعزتك إن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي، قال فخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال"( ).
فهذا جاهل بحق ربه وأراد أن يقتل نفسه: وقد صادف ما قدره الله له – أو كان بفعل الشيطان ليغويه – أن خرجت له تلك السمكة، ومهما كان فإن هذا المسلك لم يكن من مسلك الأولياء على هذا النحو، وقال عنه:
"وحكي عن النوري أنه خرج ليلة إلى شط دجلة فوجدها وقد التزق الشطان فانصرف وقال: وعزتك لا أجوزها إلا في زورق".
وقد فسر ذلك العروسي فقال: "أي التقى له الشطان بحيث لو مد رجله كان على الشط الآخر، فانصرف وقال تأدباً واعترافاً بتوالي نعم الله عليه في كل خارق: وعزتك لا أجوزها إلا في زورق كسائر الناس"( ).
فكيف يكون الأدب مع الله أن ترد مكرمته إلا عند القشيري والنوري، وقال أبو الحارث الأولاشي: "مكثت ثلاثين سنة ما يسمع – أي ينطق – لساني إلا من سري ثم تغيرت الحال فمكثت ثلاثين سنة لا يسمع سري إلا من ربي".( )
"وكان يحيى بن سعيد يتعبد في غرفة ليس إليها سلم ولا درج، فكان إذا أراد أن يتطهر يجيء إلى باب الغرفة ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويمر في الهواء كأنه طير ثم يتطهر فإذا فرغ يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويعود إلى غرفته"( ).
وقال أبو يعقوب السوسي: "جاءني مريد بمكة فقال: يا أستاذ أنا غداً أموت وقت الظهر فخذ هذا الدينار فاحفر لي بنصفه وكفِّنِّي بنصفه الآخر، ثم لما كان الغد وطاف بالبيت ثم تباعد ومات، فغسلته وكفنته ووضعته في اللحد، ففتح عينيه فقلت أحياة بعد موت؟ فقال أنا حي وكل محب لله حي"( ).(46/133)
وأما بالنسبة للخضر فحدث ولا حرج لقد ملأ الصوفيون كتبهم بحكايات عن الخضر لا حد لها ولا حصر إذ لا يخلو كتاب من كتبهم من نسج القصص والأساطير عليه، ومفادها أن الخضر يجيب كل من يستغيث به في أي بلد كان.
ويذكر القشيري أنه حدث ابن أبى عبيد اليسري عن أبيه أنه غزا سنة من السنين فخرج في السرية فمات المهر الذي كان تحته وهو في السرية فقال: يا رب أعرناه حتى نرجع إلى بسرى يعنى قريته فإذا المهر قائم … إلى آخر القصة.
ومثل هذه القصة قصة أخرى وقعت لأحد الأولياء ذكرها أبو سبرة النخعي( )، وذكر السكندري أنواعاً من الكرامات التي تحصل للولي فقال:
"ثم إن هذه الكرامات قد تكون طياً للأرض ومشياً على الماء وطيراناً في الهواء واطلاعاً على كوائن كانت وكائن بعد لم تكن من غير طريق العادة وتكثير الطعام أو الشراب أو إتياناً بثمرة في غير إبانها، وإنباعاً ماء من غير حفر أو تسخير حيوانات عادية، أو إجابة دعوة بإتيان مطر في غير وقته، أو صبر عن الغذاء مدة تخرج عن طور العادة، أو إثمار لشجرة يابسة ما ليس عادتها أن تكون مثمرة له"( ).
ونقل عن المرسي قوله: "وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: جلت في ملكوت الله فرأيت أبا مدين متعلقاً بساق العرش وهو رجل أشقر أزرق العينين.. الخ"( ).
وذكر السكندري عن الصوفي القرشي أنه جاءه الخضر بزيتونه من نجد وكان به مرض الجذام فقال له: كل هذه الزيتونة ففيها شفاؤك، فقال له: اذهب أنت وزيتونتك لا حاجة لي بها( ).
ثم شرع السكندري كغيره من علماء الصوفية في ذكر فضائل الخضر وأفعاله مع الأولياء الصوفية وأورد قصصاً في ذلك كثيرة ورد على الذين ينكرون وجوده بدليل أن إبليس موجود الآن فلا ينبغي جحد وجود الخضر وهذا الدليل من أبعد ما يكون عن الصواب، لأن وجود إبليس بنص القرآن والسنة، وجود الخضر إلى الآن لا دليل عليه لا عقلاً ولا نقلاً.(46/134)
وكرامات كثيرة يذكرها السكندري لمشائخه لا يصدقها عاقل نترك ذكرها هنا، ومن أراد الإطلاع عليها فليرجع إلى كتاب السكندري "لطائف المنن"؛ حيث ملأه بكرامات وبشطحات أولئك المشائخ بما لا يجرؤ أي مسلم يخاف الله أن يتطاول على الله وعلى رسله ولو بأقل من تلك الشطحات الخرقاء من دعوى علم الغيب بكل شيء في هذا الكون مهما كان حقيراً في ليل أو نهار، ومن دعوى الاتحاد بالله ومجالسته، ومن دعوى مصاحبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كل وقت، ومن دعوى مشاهدة الجنة دائماً، وأشياء أخرى حين يقرأها المسلم يقول: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
ومثل ما خاض فيه السكندري خاض فيه أيضاً الشعراني، ولا أرى أن المقام يسمح بذكر نماذج من تلك الكرامات الخيالية التي زعمها الشعراني لأقطاب التصوف الذين ترجم لكل واحد منهم وجاء في تراجمهم بما لا يقوله إنسان سليم الفترة سليم العقل عنده أدنى معرفة بالدين الإسلامي.
إنها جرائم حشدها الشعراني في طبقاته على أنها كرامات لأولئك الذين زعم كذباً أنهم أولياء أقل ما فيها الاستهانة بجرائم اللواط والزنا والشذوذ الجنسي _ كما يسمى في عصرنا _ ومن غريب أمره أنه يذكر الشخص منهم ثم يأتي في ترجمته وكراماته بما ينكس الرأس حياء ثم يختمها بقوله عنه _ رضي الله عنه _.
ولو أن هؤلاء الصوفية من أمثال ابن عربي والمنوفي والسهروردي والشعراني والسكندري وعلي حرازم والفوتي ذكروا كرامات قليلة وفيها نوع من التعقل لكنت نقلتها هنا ولكن لا حيلة في ذلك وكتبهم كلها مملوءة بكرامات كل واحدة تعلن أختها( )، ومن هنا أعرضت عن ذكر ذلك وكنت مثل خراش الذي قال فيه الشاعر:
تكاسرت الضباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد
على أن بعض تلك الكرامات لا تستحق أن تذكر لأحد؛ إذ فيها الاستهانة بالأخلاق والآداب العامة، وفيها التشجيع على اللهو والفسق.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل التاسع عشر
تراجم زعماء الصوفية(46/135)
للصوفية زعماء كثيرون ليس من السهل حصرهم وذكر تراجمهم غير أننا نحيل من أراد التوسع في تراجمهم إلى كتب الصوفية أنفسهم.
وقبل إيراد بعض تلك الكتب أحب التنبيه إلى أن بعض علماء الصوفية حينما كتبوا تراجم لمشاهيرهم وأسلافهم ارتكبوا جرماً في حق الصحابة رضوان الله عليهم وفي حق غيرهم من خيار المسلمين وعلمائهم، حيث حشروهم في سلسلة واحدة مع كبار غلاة وفساق الصوفية الذين وصل بهم الاستهتار بأخلاق وبأمور الدين الشرعية وبالآداب الإسلامية، بل والعرفية إلى حد يستحي الإنسان من ذكرها، وأعمال لا يتصور وقوعها من جهال المسلمين، فما الظن بطلاب العلم، بل وما الظن بأولياء الله؟
وكنت قد جمعت عدة أوراق في تراجم أقطاب التصوف، ولكني رأيتها أليق بكتب التاريخ وتطول بها هذه الدراسة فاكتفيت بذكر بعض المراجع التي اهتمت بدراسة شخصيات علماء التصوف ونقل أخبارهم وشطحاتهم وكشوفاتهم ومنزلتهم عند الله وعند الناس، وما آل إليه أمر كل واحد منهم، ومن أهم تلك الكتب:
الرسالة القشيرية: لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري النيسابوري الشافعي 471-465هـ،وهي مجلدان، خصص المجلد الأول من ص61 إلى آخره لتراجم مشائخ التصوف، ابتدأه بهذا العنوان: "فصل في ذكر مشائخ هذه الطريقة وما يدل من سيرهم وأقوالهم على تعظيم الشريعة"( )، ثم ذكر تراجم لثلاثة وثمانين شخصاً من كبار زعماء التصوف.
الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار تأليف عبد الوهاب ابن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بالشعراني. ظهر في القرن العاشر الهجري.
والطبقات مجلدان خصصهما لتراجم كبار علماء الصوفية من رجال ونساء،
وقد ترجم لأربعمائة وأربعة وعشرين شخصاً، بإضافة مشائخه وعددهم 87 شخصاً، وقد بدأ تراجم هؤلاء بأبي بكر الصديق رضي الله عنه وختمهم بعلي بن شهاب جده الأدنى، ثم ابتدأ بمحمد المغربي الشاذلي وختمهم بالشيخ علي العياشي.(46/136)
جمهرة الأولياء أعلام أهل التصوف، تأليف محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني. مجلدين، خصص الجزء الثاني لترجمة كثير من الأعلام، أعلام الصحابة وأهل الصفة، ثم ترجم لعدد من أعلام التصوف تحت عنوان: "طبقة التابعين وتابعيهم ذكر التابعين من الأولياء"( ).
ثم ترجم لسبعة وثمانين شخصاً، حشر بعض الفضلاء من أعلام الإسلام مع كبار الغلاة من الصوفية دون تمييز.
كتاب عوارف المعارف لأبي حفص عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد عموية الصديقي القرشي التميمي اليكري الشافعي الملقب بشهاب الدين السهروردي 539-632هـ، ولم يبرز التراجم لرجال الصوفية في هذا الكتاب إلا أنه ذكر كثير من أعلام التصوف في ثنايا أبواب الكتاب.
لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري، وطريقته مثل طريقة السهروردي.
جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني- تأليف/علي حرزام ابن العربي برادة المغربي.
كتاب رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم-تأليف/عمر بن سعيد الفوتي الطوري الكدوي.
و"جواهر المعاني" مجلدان، وكذا"الرماح" مجلدان بهامش كتاب جواهر المعاني، اهتم المؤلفان ببيان الطريقة التجانية، وذكر التجاني وكبار أتباعه بتوسع تام.
وقد ألف بعض العلماء مؤلفات خاصة عن شخصيات الصوفية مثل ابن عربي والبسطامي والتجاني والنقشبندي وابن سبعين والغزالي وابن الفارض والحلاج والجيلاني.
* * * * * * * * * * * * * *
بعض المراجع عن الصوفية
كتب الصوفية
1- الرسالة القشيرية-للقشيري.
2- عوارف المعارف. للسهروردي.
3- لطائف المنن. للسكندري.
4- جمهرة الأولياء. للمنوفي.
5- جواهر المعاني. علي حرازم.
6- رماح حزب الرحيم. الفوتي.
7- الطبقات الكبرى. الشعراني.
8- الفتوحات الربانية. ابن العربي.
9- فصوص الحكم. ابن العربي.
10- تائية ابن الفارض. ابن الفارض.
11- تخريج الأربعين السلمية في التصوف. للسخاوي، تحقيق علي حسن.(46/137)
12- الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية. محمد السيد التجاني.
13- الغنية لطالبي طريق الحق. عبد القادر الجيلاني.
14- رفع الشبهات عما في القادرية والتجانية من الشطحات. لجنة جماعة الصوفية في ألورن.
* * * * * * * * * * * * * *
ومن الكتب التي ألفها علماء الإسلام من غير الصوفيين
1- الصوفية والفقراء. شيخ الإسلام ابن تيمية.
2- الجزء11 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام.
3- هذه هي الصوفية. عبد الرحمن الوكيل.
4- الفكر الصوفي. عبد الرحمن عبد الخالق.
5- التصوف معتقداً ومسلكاً. صابر طعيمة.
6- التصوف المنشأ والمصدر. إحسان إلهي ظهير.
7- التصوف والاتجاه السلفي في العصر الحديث. مصطفى حلمي.
8- إلى التصوف يا عباد الله. الجزائري.
9- التجانية. علي بن محمد الدخيل الله.
10- رسائل وفتاوى في ذم ابن العربي الصوفي. جمع وتحقيق موسى الدويش.
11- النقشبندية عرض وتحليل. عبد الرحمن دمشقية.
12- كتاب ابن عربي الصوفي في ميزان البحث والتحقيق. عبد القادر حبيب الله السندي.
13- الهداية الهادية إلى الطائفة التجانية. محمد تقي الدين الهلالي.
14- الصوفية نشأتها ونطورها. محمد العبدة، طارق عبد الحليم.
15- نظرات في معتقد ابن عربي. كمال محمد عيسى.
16- الرفاعية. عبد الرحمن دمشقية.
17- نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام. سارة عبد المحسن السعود.
* * * * * * * * * * * * * *
تتمة المنهج
لقد استحسن بعض أعضاء العقيدة إضافة بعض الجوانب عن المرجئة، وبعض المسائل عن الفرق الإسلامية كان لها دور بارز في قيام مفاهيم جديدة على العقيدة الإسلامية التي عليها أهل السنة والجماعة.(46/138)
ومما أحب التنبيه عليه أن تلك الفرق التي سنأخذ بعض الفقرات عنها تعتبر من الفرق الأساسية في تقسيم الأمة الإسلامية وتفرقهم، وقد حظيت تلك الفرق بالدراسة الواسعة من قبل علماء الفرق ومؤلفي العقائد الإسلامية، وقد ألفت فيها مؤلفات لا تكاد تحصر، كما أنها قد مرت دراستها بصفة عامة على طلاب هذه المرحلة من الدراسة، ولا يزالون أيضاً يدرسونها في مادة التوحيد.
ومن هنا فإنني سأكتفي بذكر الفقرات المستحسن إضافتها إلى المنهج تاركاً ماعدا ذلك من أخبار تلك الفرق سواء تاريخية منها أو عقدية، فهي كما تقدم تحتاج إلى مؤلفات لدراستها وبيان ما قاله علماء الإسلام عنهم، ولعل ما أكتبه هنا يصح أن يوصف بأنه من باب التذكير بالمعلومات السابقة، أسأل الله أن ينفعني وإخواني طلاب العلم بما نقرأ ونسمع، وأن يرزقنا حسن النية والرغبة في خدمة الإسلام والمسلمين فهو القادر على ذلك، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
* * * * * * * * * * * * * *
الباب الحادي عشر
دراسة المرجئة
أولاً: تمهيد:
المرجئة من أوائل الفرق التي تنسب إلى الإسلام في الظهور، وقد احتلت مكاناً واسعاً في أذهان الناس وفي اهتمام العلماء بأخبارهم وبيان معتقداتهم بين مدافع عنهم ومحاج لهم، وبين معجب بأدلتهم وبين داحض لها، ومن هنا نجد أن المقصود بالإرجاء بالذات لم يتفق علماء الفرق والمقالات على تعيينه دون اختلاف، كما أن قضية الإرجاء قد جرّت كثير من علماء الأمة الإسلامية المشهورين إلى الركون إليها على تفاوت في المواقف والمفاهيم حيالها، ووجد بعض علماء السلف طريقاً إلى انتقاد مسالك آخرين، ووجد لهؤلاء مدافعين عنهم ومؤيدين لفكرتهم دفاعاً قد يصل إلى درجة التعصب وليّ أعناق النصوص لتوافق ما يذهبون إليه، كما وجد قسم من المدافعين حاولوا جهدهم لتقريب وجهات النظر بين القائلين بالإرجاء وبين مخاليفهم فيه.(46/139)
ولقد أخذت تلك الخصومات أشكال من العنف واللين، كما التهمت كثيراً من الأوقات والجهود التي لو كانت قد بذلت في خدمة ودراسة العقيدة الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة ومعتقد السلف لكان لها من النفع والخير ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
ولكنها ذهبت حول تقرير حقيقة الإرجاء والرد عليه وجمع أدلته والوقف عندها، واستنتاج مفاهيمها ومقارنة بعضها بالبعض الآخر، وكان يكفي للانتهاء عن الخوض في هذه القضية وقفة واحدة متأنية، ومواجهة الحقيقة التي طالما أغفلها هؤلاء وأولئك ألا وهي الإرجاء الذي هو بمعنى ترك الأعمال وعدم الاهتمام بها لا مكان له في الواقع إلا عند المتأخرين الذين يريدون التحايل والانفلات بأي وسيلة، ذلك أن الذين قرروا الإرجاء في بدء أمرهم عند التحقيق من أكثر الناس عبادة وعملاً، بدليل أنك تجد الشخص منهم يحث على الإرجاء بكلام قد ألفه وحفظه، ولكن إذا جاء إلى ميدان العمل تجده من المحرضين على اغتنام الفرص، والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، فلم يبق للإرجاء عنده إلا ذلك الجزء من الكلام المردد في إيقاظ الخصومة( ).
ومن هنا نجد أن شيخ الإسلام رحمة الله – وقد قدم دراسة وافية للمرجئة- يذكر أن السلف كانوا يصلون خلفهم ويترحمون عليهم، وإنما يشنعون عليهم مسلكهم الخاطئ في تأخير العمل عن الحقيقة الإيمان، وهؤلاء هم مرجئة الفقهاء بخلاف مرجئة الجهمية الغلاة.
وقبل البدء بتفاصيل فكر المرجئة وبيان نشأته وما آل إليه، قبل أن نذكر على سبيل الإيجاز التعريف بالمرجئة لغة واصطلاحاً.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الأول
التعريف بالإرجاء لغة واصطلاحاً
وبيان أقوال العلماء في ذلك
الإرجاء في اللغة:(46/140)
يطلق على عدة معاني منها: الأمل والخوف والتأخير وإعطاء الرجاء، وقد يهمز وقد لا يهمز. قال تعالى: {وترجون من الله ما لا يرجون}( )، أي لكم أمل في الله لا يوجد عندهم، وقال تعالى: {ما لكم ترجون لله وقاراً}( )، أي ما لكم لا تخافون من عذاب الله تعالى؟
أما الإرجاء بمعنى التأخير فمثل قول الله تعالى: {قالوا أرجه وأخاه}( )، قرئ أرجه وأرجئه أي أخره، وقال تعالى: {وآخرون مرجون لأمر الله}( ).
ويذكر الأزهري حال استعمال الجاء بمعنى الخوف بقوله: إنما يستعمل الرجاء في موضع الخوف إذا كان معه حرف نفي، ومنه قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} المعنى مالكم لا تخافون لله عظمة. قال الفراء: وقد قال بعض المفسرين في قول الله: {وترجون من الله ما لا يرجون}: إن معناه تخافون( ) والإرجاء يهمز ولا يهمز، قال ابن السكيت: يقال: أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته، قال الله عز وجل {وآخرون مرجون لأمر الله} وقرئ مرجئون، وقرئ أرجه وأخاه، وقرئ أرجئه وأخاه. قال: ويقال هذا رجل مرجئ، وهم المرجئة، وإن شئت قلت: مرج وهم المرجية... وقال غيره: إنما قيل لهذه العصابة مرجئة، لأنهم قدموا القول وأرجوا العمل، أي أخروه"( ).
تعريف الإرجاء في الاصطلاح:
اختلفت كلمة العلماء في المفهوم الحقيقي للإرجاء، مفاد ذلك نوجزه فيما يلي:
1- أن الأرجاء في الاصطلاح مأخوذ من معناه اللغوي؛ أي بمعنى التأخير والإمهال – وهو إرجاء العمل عن درجة الإيمان، وجعله في منزلة ثانية بالنسبة للإيمان لا أنه جزء منه، وأن الإيمان يتناول الاعمال على سبيل المجاز، بينما هو حقيقة في مجرد التصديق، كما أنه قد يطلق على أولئك الذين كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
كما أنه يشمل أيضاً جميع من أخر العمل عن النية والتصديق.
2- وذهب آخرون إلى أن الأرجاء يراد به تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه في الدنيا حكم ما( ).(46/141)
وبعضهم ربط الإرجاء بما جرى في شأن علي رضي الله عنه من تأخيره في المفاضلة بين الصحابة إلى الدرجة الرابعة( )، أو إرجاء أمره هو وعثمان إلى الله ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا كفر، وخلص بعضهم من هذا المفهوم إلى وصف الصحابة الذين اعتزلوا الخوض في الفتن التي وقعت بين الصحابة وخصوصاً ما جرى بين علي ومعاوية من فتن ومعارك طاحنة، خلصوا إلى زعم أن هؤلاء هم نواة الإرجاء، حيث توقفوا عن الخوض فيها واعتصموا بالسكوت، وهذا خطأ من قائليه؛ فإن توقف بعض الصحابة إنما كان بغرض ريثما تتجلى الأمور، واستندوا إلى مفهوم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت – أو وقعت – فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه"، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال:"يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاة"( ).
ومن هؤلاء الصحابة الذين امتنعوا عن الخوض في تلك الأحداث المؤسفة: سعد بن أبى وقاص، وأبو بكرة راوي الحديث السابق، وعبد الله بن عمر، وعمران بن الحصين؛ حيث توقفوا ثم أرجئوا الحكم في تلك الفتن وفوضوا أمر المختلفين فيها إلى الله سبحانه وتعالى فلم يحكموا بتخطئة أحد أو تصويبه مع اعترافهم بفضل الجميع، فكيف يعتبر هؤلاء هم أساس الإرجاء، فإن موقفهم لا يعد التوقف عن الدخول عن نصرة أحد بالسيف، وهم في توقفهم كانوا يستندون إلى النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة، والتي تحذر من الدخول في الفتن، فقد كان هؤلاء يودون لو أن الأمور تمت معالجتها بالصبر والصلح بين المتقاتلين، بدلاً عن التسرع في القتال ابتداء قبل بذل أسباب الوفاق.
وهذا الموقف منهم هو عين الصواب؛ فإن السلامة من قتل المسلم خير من التعيير بالتريث لعدم قتاله.(46/142)
وليس إرجاء حكم هؤلاء الصحابة في علي ومعاوية هو أساس الإرجاء البدعي، فالواقع أن إطلاق اسم الإرجاء على كل من يقول عن الإيمان: إنه قول أو تصديق بلا عمل، أو القول بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا تنفع مع الكفر طاعة – هو الأغلب في عرف العلماء حينما يطلقون حكم الإرجاء على أحد؛ بل هو المقصود بالإرجاء.
وفي كل ما تقدم يقول الشهرستاني:"الإرجاء على معنيين: أحدهما بمعنى التأخير كما في قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه)" أي أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء.
أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد. وأما بالمعنى الثاني فظاهر× فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار( )، إلى أن قال: وقيل: الإرجاء تأخير علي رضي الله عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة( ).
الفصل الثاني
الأساس الذي قام عليه مذهب المرجئة
الأساس الذي قام عليه مذهب الإرجاء هو الخلاف في حقيقة الإيمان ومم يتألف، وتحديد معناه، وما يتبع ذلك من أبحاث. وهل الإيمان فعل القلب فقط أو هو فعل القلب واللسان معاً؟ أي والعمل غير داخل في حقيقته، وبالتالي لا يزيد الإيمان ولا ينقص؛ إذا التصديق واحد لا يختلف أهله فيه، هذه أهم ميزات بحوث هذه الطوائف المرجئة،وإلى كل قسم من تلك الأقسام ذهب فريق من المرجئة.
إلا أن أكثر فرق المرجئة على أن الإيمان هو مجرد ما في القلب ولا يضر مع ذلك أن يظهر من عمله ما ظهر، حتى وإن كان كفراً وزندقة، وهذا مذهب الجهم بن صفوان، ولا عبرة عنده بالإقرار باللسان ولا الأعمال أيضاً؛ لأنها ليست جزءاً من حقيقة الإيمان.(46/143)
وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو القول باللسان، ولا يضر مع ذلك أن يبطن أي معتقد حتى وإن كان الكفر. وذهب أبو حنيفة رحمة الله إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، لا يغنى إحداهما عن الآخر؛ أي فمن صدق بقلبه و أعلن التكذيب بلسانه لا يسمى مؤمناً. وعلى هذا قام مذهب الحنفية وهو أقرب مذاهب المرجئة إلى أهل السنة لموافقتهم أهل السنة في أن العاصي تحت المشيئة، وأنه لا يخرج عن الإيمان. وخالفوهم في عدم إدخال العمل في الإيمان يزيد وينقص، فلم يقولوا بذلك. هذا هو المشهور عن أهل الفقه و العبادة من المرجئة، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومن قال بقوله من فقهاء الكوفة الذين أخروا العمل عن حقيقة الإيمان وماهيته.
على أن في نسبة الإرجاء إلى أبى حنيفة من الخلاف الكثير بين العلماء ما لا يخفى، هل كان أبو حنيفة من المرجئة كما وصفه كتاب المقالات والفرق، أم كان ضد الإرجاء كما يصفه المدافعون عنه؛ لأن الإرجاء يتميز بالتساهل في الأعمال وتأخيرها من منزلة الإيمان، وأبو حنيفة رحمة الله تعالى بلغ حداً كبيراً في الاهتمام بالفروع، مما يدل على أنه يهتم بالعمل، وهذا عكس الإرجاء، فكيف يوصف بالإرجاء حسب هذا الدفاع عنه!!
وأما ماجاء في الكتاب المنسوب إليه الفقه الأكبر، من عبارات تدل دلالة واضحة على إرجائه – فقد شكك هؤلاء المدافعون عنه في صحة نسبة هذا الكتاب إليه، بل كذبوا نسبته إليه.
ودافع عنه الشهرستاني وذهب إلى أن نسبة الإرجاء إلى أبي حنيفة إنما كان سببه في رأيه-المعتزلة والقدرية- عن سوء فهم منهم لرأي أبي حنيفة الذي يرى بأن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان، إضافة إلى أن المعتزلة-كما يرى الشهرستاني- كانوا يسمون كل من خالفهم مرجئاً( ).(46/144)
والواقع أن النقول بإرجاء أبي حنيفة كثيرة، وعلماء الفرق أغلبهم يقرنسبة الإرجاء إليه بالمعنى الذي قدمنا ذكره. وهذا هو الثابت، ولا يقال: إن أبا حنيفة كان من غلاة المرجئة بالجهمية مثلاً، وذلك لموافقته أهل السنة والاعتقاد السليم في جوانب كثيرة في باب الإيمان وإن خالفهم فيما ذكر.
ولقد بذل كثير من علماء الأحناف جهدهم ليجعلوا الخلاف بينهم وبين أهل السنة في حقيقة الإيمان لفظياً، فلم يتم لهم ذلك مع أنهم يستندون إلى جعل الخلاف لفظياً على الاتفاق الحاصل فعلاً بينهم وبين أهل السنة في مرتكب الكبيرة عند الله؛ إذ لا يسمى كافراً ولا يحكم له بالخلود في النار يوم القيامة، بل هو تحت المشيئة إن شاء الله عفى عنه بفضله وإن شاء عاقبه بعدله.
وكذلك اتفاقهم على أن الأعمال لا بد منها، وأن العبد لو صدق بقلبه وأقر بلسانه ولكن امتنع عن العمل فلم يقم به-أنه يستحق اللوم والعقوبة، وأنه من العصاة. إلا أن كل هذه الحجج لا تجعل الخلاف لفظياً؛ وذلك أن أهل السنه لايخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، فالتفرقة بين الأعمال والإيمان لا يقول بها السلف.
كما أن السلف لا يرون أن الناس على درجة واحدة في الإيمان والتوحيد، كذلك حكم الأحناف للعصاة بالإيمان الكامل لم يوافقهم فيه السلف، كما أن السلف لا يوافقونهم في القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه.
والحاصل: أن المرجئة أقسام كثيرة وأنهم يختلفون في بعض أسس الإرجاء، كما سيتضح ذلك إن شاء الله.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثالث
كيف نشأ الإرجاء وكيف تطور إلى مذهب
عرفنا مما سبق في التعريف بالمرجئة أن الإرجاء في بدء الأمر كان يراد به في بعض اطلاقاته أولئك الذين أحبو السلامة والبعد عن الخلافات وترك المنازعات في الأمور السياسية والدينية، وخصوصاً ما يتعلق بالأحكام الأخروية من إيمان وكفر وجنة ونار، وما يتعلق كذلك بأمر علي وعثمان وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة وغيرهم.(46/145)
وما جرى بين علي ومعاوية من أحداث- كما مثله الحسن بن محمد بن الحنفية ومن جاء على طريقته- إلا أنه من الملاحظ أنه بعد قتل عثمان رضي الله عنه وبعد ظهور الخوارج والشيعة أخذ الإرجاء يتطور تدريجياً.
فظهر الخلاف في حكم مرتكب الكبيرة ومنزلة العمل من الإيمان، ثم ظهر جماعة دفعوا بالإرجاء إلى الحد المذموم والغلو، فبدأ الإرجاء يتكون على صفة مذهب، فقرر هؤلاء أن مرتكب الكبيرة كامل الأيمان وأنه لا تضر مع الإيمان معصية، ولاتنفع مع الكفر طاعة، وأن الإيمان في القلب. فلا يضر الشخص أي شيء بعد ذلك ولو تلفظ بالكفر والإلحاد، فإنه يبقى إيمانه كاملاً لايتزعزع. وهذا بلا شك غلو وتطرف مذموم.
وأهل هذه المرحلة ممقوتون ومذهبهم يفضي إلى درجة الإباحية والتكاسل والتعويل على عفو الله وحده دون العمل لذلك. وهو أمر تأباه الشريعة الإسلامية.
ولقد احتدم النزاع بين أهل السنة والخوارج والمعتزلة من جانب، وبين المرجئة من جانب آخر في دخول الأعمال في مسمى الإيمان، ويظهر أثر ذلك في مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته وأمره في الآخرة إلى الله وإلى مشيئته- كما يقول السلف- أم هو كافر في الدنيا ومخلد في الآخرة في النار- كما تقول الخوارج- لأنه أخل بالعمل فكفر؟ أم هو في منزلة بين المنزلتين في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، وفي الآخرة هو مخلد في النار- كما تقول المعتزلة-؟
أم هو مؤمن كامل الإيمان لم يتأثر إيمانه بالكبيرة مطلقاً- كما تقول المرجئة- لأنه مصدق بقلبه فلا مجال لأن يتأثر إيمانه؛ لأن الإيمان عندهم- على هذا المفهوم- لا يزيد ولا ينقص بل يبقى إيمانه كاملاً إذا كان التصديق موجوداً في قلبه. وفي الحقيقة أن مذهب المرجئة تطور على هذا المفهوم حتى صار من أوسع المذاهب وأكثرها تساهلاً.(46/146)
فبينما الخوارج يرون أن مرتكب الذنب كافرا مخلد في النار، والمعتزلة تراه في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، وفي الآخرة مصيره النار، ثم تزعم هاتان الطائفتان أن الناس كلهم كفار إلا من كان خارجياً، وتزعم المعتزلة أن الناس كلهم كفار إلا من كان معتزلياً، فضاقت نظرتهم إلى غيرهم، فإذا بالمرجئة توسع المجال، فزعمت أن كل طائفة تنسب نفسها إلى الإسلام، وتصدق به تعد من المؤمنين الخلّص بغض النظر عن عملها بعد ذلك، بالخوارج والشيعة والمعتزلة وسائر الطوائف في نظر المرجئة هم من أهل الإيمان الكامل.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الرابع
بيان أول من قال بالإرجاء وبيان أهم زعماء المرجئة
تطورت فكرة الإرجاء حتى وصلت في دورها المتأخر إلى الحد الذي يصدق عليها أنها ظاهرة بدعية خطيرة بعد أن تضاربت الأفكار، وتعصب كل فريق لفكره ولرأيه من خوارج وشيعه ومعتزلة وجهمية وأشعرية وغيرهم كما تقدم، ولكن من الذي بدأ بهذه الفكرة التي تطورت بعد ذلك إلى أن وصلت على ما هي عليه اليوم.
يذكر العلماء أن الحسن بن محمد بن الحنفية هو أول من ذكر الإرجاء في المدينة بخصوص علىّ وعثمان وطلحة والزبير، حينما خاض الناس فيهم وهو ساكت ثم قال: قد سمعت مقالتكم ولم أر شيئاً أمثل من أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير، فلا يتولوا ولا يتبرأ منهم( ). ولكنه ندم بعد ذلك على هذا الكلام وتمنى أنه مات قبل أن يقوله، فصار كلامه بعد ذلك طريقاً لنشأة القول بالإرجاء، وقد بلغ أباه محمد بن الحنفية كلامُ الحسن فضربه بعصا فشجه، وقال: لاتتولى أباك عليّا؟ ولم يلتفت الذين تبنوا القول بالإرجاء إلى ندم الحسن بعد ذلك، فإن كتابه عن الإرجاء انتشر بين الناس وصادف هوى في نفوس كثيرة فاعتنقوه( ).
ولكن ينبغى معرفة أن إرجاء الحسن إنما هو في الحكم بالصواب أو الخطأ على من ذكرهم، ولم يتعلق إرجاؤه بالإيمان أم عدمه كما هو حال مذهب المرجئة أخيراً.(46/147)
فأصبح هذا الموقف يناقض ما عليه الخوارج من تكفيرهما والبراءة منهما، وما عليه الشيعة من الغلو في عليّ والحط من شأن عثمان وتكفيره، ويخالف أيضاً موقف أهل السنة والجماعة منهما من وجوب موالاتهما والترضي عنهما والشهادة لهما بالجنة، كما هو مذهب السلف فيهما إلا أنه يعتبر كالخطوة الأولى إلى مذهب الخوارج والتمهيد له.
وقيل: إن أول من قال بالإرجاء على طريقة الغلو فيه هو رجل يسمى ذر بن عبد الله الهمداني وهو تابعي، وقد ذمه علماء عصره من أهل السنة، بل كان بعضهم- مثل إبراهيم النخعي- لايرد عليه إذا سلم، وكذلك سعيد بن جبير.
والجمع بين هذا القول والذي قبله يتضح باختلاف حقيقة الإرجاء عند الحسن وعند ذر بن عبد الله؛ إذ الإرجاء عند الحسن ترك الحكم على أولئك الأشخاص. وأما الإرجاء عند ذر فهو إخراج العمل عن مسمى الإيمان.
وهناك أقوال أخرى في أول من دعا إلى الإرجاء فقيل: إن أول من أحدثه رجل بالعراق اسمه قيس بن عمرو الماضري.
وقيل: إن أول من أحدثه حماد بن أبي سليمان وهو شيخ أبي حنيفة وتلميذ إبراهيم النخعى، ثم انتشر في أهل الكوفة، وقد عاصر حماد بن ذر بن عبد الله. ويذكر شيخ الإسلام عن نشأة الإرجاء بالكوفة أن أول من قال فيهم حماد بن أبي سليمان( ).
وقيل: إن أول من قال به رجل اسمه سالم الأفطس، ويطلق على إرجاء هؤلاء أنه إرجاء الفقهاء، ويظهر أن تلك الأقوال لاتباعد بينها؛ لأن هؤلاء كانوا في عصر واحد، وكانوا أيضاً على اتفاق في إرجائهم.(46/148)
ولقد نسب الإرجاء إلى علماء مشاهير، وقد عد الشهرستاني جماعة من هؤلاء ومنهم: الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، وذكر أنه أول من قال بالإرجاء، ولكنه لم يجزم بذلك فيما يبدو من تعبيره، حيث ذكر ذلك بصيغة التمريض"قيل"، ثم ذكر أنه كان يكتب فيه الكتب إلى الأمصار ثم قال: "إلا إنه ما أخر العمل عن الإيمان كما قالت المرجئة اليونسية والعبيدية، لكنه حكم بأن صاحب الكبيرة لا يكفر؛ إذ الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإيمان حتى يزول الإيمان بزوالها".
كما عدّ منهم سعيد بن جبير( )، وطلق بن حبيب وعمر بن مرة ومحارب ابن زياد ومقاتل بن سليمان وذر، وعمرو بن ذر، وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وقديد بن جعفر، ثم قال: "وهؤلاء كلهم أئمة الحديث لم يكفروا أصحاب الكبائر بالكبيرة، ولم يحكموا بتخليدهم في النار؛ خلافاً للخوارج والقدرية".
إلا أنه ذكر عن مقاتل قوله: "ويحكى عن مقاتل بن سليمان: أن المعصية لا تضر صاحب التوحيد والإيمان، وأنه لا يدخل النار مؤمن" ثم قال: " والصحيح من النقل عنه أن المؤمن العاصي ربه يعذب يوم القيامة على الصراط وهو على متن جهنم يصيبه لفح النار وحرها ولهيبها فيتألم بذلك على قدر معصيته ثم يدخل الجنة، ومثل ذلك بالحبة على المقلاة المؤججة بالنار"( ).
ومن كبار المرجئة ومشاهيرهم: الجهم بن صفوان، وأبو الحسين الصالحى، ويونس السمري، وأبو ثوبان، والحسين بن محمد النجار، وغيلان، ومحمد بن شبيب، وأبو معاذ التومني، وبشر المريسي، ومحمد بن كرام، ومقاتل ابن سليمان المشبه لله عز وجل بخلقه ومثله الجواربي وهما من غلاة المشبهة( ).
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الخامس
أصول المرجئة
تكاد فرق المرجئة تتفق في أصولها على مسائل هامة هي:
تعريف الإيمان بأنه التصديق بالقول أو المعرفة أو الإقرار.(46/149)
وأن العمل ليس داخلاً في حقيقة الإيمان، ولا هو جزء منه، مع أنهم لا يغفلون منزلة العمل من الإيمان تماماً إلا عند الجهم ومن تبعه في غلوه.
وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن التصديق بالشيء والجزم به لا يدخله زيادة ولا نقصان.
وأن أصحاب المعاصي مؤمنون كاملوا الإيمان بكمال تصديقهم وأنهم حتماً لا يدخلون النار في الآخرة.
ولهم اعتقادات أخرى: كالقول بأن الإنسان يخلق فعله، وأن الله لا يرى في الآخرة، وقد تأثروا في هذه الآراء بالمعتزلة، وكذا رأيهم في أن الإمامة ليست واجبة، فإن كان ولا بد فمن أي جنس كان ولو كان غير قرشي، وقد تأثروا بهذا الرأي من الخوارج الذين كانوا ينادون به ولم يطبقوه.
ومن عقائد المرجئة الجهمية أن الكفر بالله هو الجهل به- وهو قول جهم -، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وأنه لا يتبعض، ومنها أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى أهلهما ولا خلود لأحد فيهما.
وبعضهم ذهب إلى أن كل معصية فهي كبيرة، وبعضهم يذهب إلى أن غفران الله الذنوب بالتوبة تفضل من الله، وبعضهم إلى أنه باستحقاق، وبعضهم جوز على الأنبياء فعل الكبائر، وبعضهم ذهب في إثبات التوحيد إلى قول المعتزلة، وبعضهم إلى قول المشبهة، ومنهم من أثبت رؤية الله تعالى في الآخرة، ومنهم من نفاها كالمعتزلة، واختلفوا في القول بخلق القرآن، فمنهم من قال: إنه مخلوق. ومنهم من قال: غير مخلوق. ومنهم من توقف.
واختلفوا في القول بالقدر فبعضهم نفى القدر وقال بأقوال المعتزلة، وبعضهم أثبته، واختلفوا في أسماء الله وصفاته، فبعضهم قال بأقوال عبد الله ابن كلاب، ومنهم من قال بأقوال المعتزلة( ).
وفيما يلي تفصيل واضح لأقسام اتجاهات الناس في حقيقة الإيمان كما رتبها الدكتور/ سفر الحوالي:
أن الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح:
1- أهل السنة 2- الخوارج 3- المعتزلة
أنه بالقلب واللسان فقط:
مرجئة الفقهاء الحنفية.(46/150)
ابن كلاب، وكان على عقيدة المرجئة الفقهاء، وقد انقرض مذهبه.
أنه باللسان والجوارح فقط:
الغسانية.
فرقة مجهولة لم يصرح العلماء بتسميتها، ولعلها الغسانية.
أنه بالقلب فقط:
1- الجهمية 2- المريسية 3- الصالحية
4- الأشعرية 5- الماتريدية.
أنه باللسان فقط:
الكرّامية: وقد انقرضوا، وقد ذكر عنهم شيخ الإسلام أنهم يقولون:
المنافق مؤمن وهو مخلد في النار؛ لأنه آمن ظاهراً لا باطناً ويدخل الجنة من آمن ظاهراً وباطناً.
أ- الذين قالوا: إنه بالقلب واللسان والجوارح:
1- الذين قالوا: الإيمان فعل كل واجب وترك كل محرم، ويذهب الإيمان كله بترك الواجب أو فعل الكبيرة:
1-الخوارج؛ مرتكب الكبيرة عندهم كافر.
2-المعتزلة؛ مرتكب الكبيرة عندهم في منزلة بين المنزلتين؛ يعني في الدنيا، وأما في الآخرة فقد وافقوا الخوارج في الحكم.
2- الذين قالوا: الإيمان قول وعمل – أي عمل القلب والجوارح – وكل طاعة هي شعبة من الإيمان أو جزء منه.
والإيمان يكمل باستكمال شعبه وينقص بنقصانها، لكن منها ما يذهب الإيمان كله بذهابه؛ ومنها ما ينقص بذهابه.
فمن شعب الإيمان أصول لا يتحقق إلا بها، ولا يستحق مدعيه مطلق الاسم بدونها،ومنها واجبات لا يستحق الاسم المطلق بدونها، ومنها كمالات يرتقي صاحبها إلى أعلى درجاته. "وتفصيل هذا كله بحسب النصوص". كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
ب- الذين قالوا: إنه يكون بالقلب واللسان فقط:
الذين يدخلون أعمال القلب – يعنى في حقيقة الإيمان – وهم بعض قدماء المرجئة الفقهاء، وبعض محدثي الحنفية المتأخرين.
الذين لا يدخلون أعمال القلب، وقد تطور بهم الأمر إلى إخراج قول اللسان أيضاً من الإيمان وجعلوه علامة فقط، وهم عامة الحنفية "الماتريدية".
ج- الذين قالوا: إنه يكون بالقلب فقط:
الذين يدخلون فيه أعمال القلب جميعاً، وهم سائر فرق المرجئة: كاليونسية والشمرية والتومنية.
الذين يقولون: هو عمل قلبي واحد – المعرفة – الجهم بن صفوان.(46/151)
الذين يقولون: هو عمل قلبي واحد – التصديق – الأشعرية والماتريدية
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل السادس
أقسام المرجئة
انقسمت المرجئة في اعتقاداتها إلى أقسام كثيرة وفرق كثيرة وفرق يطول ذكرها، ويمكن الإشارة هنا إلى رؤوس تلك الفرق، وهى كما يذكرها علماء الفرق:
مرجئة السنة: وهم الأحناف: أبو حنيفة وشيخه حماد بن أبى سليمان ومن أتبعهما من مرجئة الكوفة وغيرهم، وهؤلاء أخروا العمل عن حقيقة الإيمان.
مرجئة الجبرية: وهم الجهمية أتباع جهم بن صفوان، وهم الذين اكتفوا بالمعرفة القلبية وأن المعاصي لا أثر لها في الإيمان، وأن الإقرار والعمل ليس من الإيمان.
مرجئة القدرية: الذين تزعمهم غيلان الدمشقي، وهم الغيلانية.
مرجئة خالصة: وهم فرق اختلف العلماء في عدهم لها.
مرجئة الكرامية: أصحاب محمد بن كرام، وهم الذين يزعمون أن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب.
مرجئة الخوارج: الشبيبية وبعض فرق الصفرية الذين توقفوا في حكم مرتكب الكبيرة.
وعدّ الأشعري في مقالاته المرجئة وأوصالهم في اثنتي عشر فرقة( ).
ولهم فروع كثيرة، وبين العلماء اختلافات كثيرة أيضاً في عدّهم لأقسام وطوائف المرجئة، وفي أي الفرق أصلية وأيها فرعية، وأيها يصدق عليه الإرجاء وأيها لا يصدق عليه.
ولا ضرورة تدعوا إلى تفصيل الكلام هنا في كل طائفة من هذه الفرق الفرعية وذلك لاتحادهم العام في مذهبهم وقيامه على الإرجاء.
ولما حصل أيضاً من رجوع بعض فرقهم إلى الفرق الأخرى واندماجهم بعد ذلك في فرقة واحدة، ولدقة الخلاف في بعض المسائل الفرعية، وموضع استقصاء ذلك كله الكتب المطولة في التاريخ والفرق.
الفصل السابع
أدلة المرجئة لمذهبهم والرد عليها(46/152)
تلمس المرجئة في الاستدلال لمذهبهم نصوصاً وشبهات، أوّلوا النصوص ونصروا الشبهات بتكلفات غير صحيحة، وخرجوا بنتيجة،هي أن العمل ليس من حقيقة الإيمان، وأخّروا جميع أعمال الجوارح عن الإيمان، وقالوا: يكفي في دخول الإيمان والفوز برضى الله أن يحتوي القلب على المعرفة والتصديق كما سبق، وفتحوا بذلك باباً واسعاً لأهل البطالة والكسل والمغرمين بالأماني دون العمل، والذين يحبون التفلت عن ما تقضيه النصوص الشرعية، ولهذا تجد المرجئة الغلاة منهم أكسل الناس في العبادة وأضعفهم في الالتزام، وقد تلمسوا لما يذهبون إليه بعض الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية وزعموا أنها تدل على مذهبهم.
فمن القرآن الكريم: استدلوا بقول الله تعالى:
{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}( ).
{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم}( ).
كما اهتمت الجهمية بجمع النصوص التي تجعل الإيمان أو الكفر محله القلب. كما في قول الله تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان}( ).
{إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}( ).
{ختم الله على قلوبهم}( ).
إلى غير ذلك من الآيات التي يوحي ظاهرها بهذا المفهوم المتكلف للمرجئة.
أما من السنة النبوية: فقد استدلوا بما يلي:
بعض الأحاديث والآثار التي يدل ظاهرها على الاكتفاء بالبعد عن الشرك ووجود الإيمان في القلب للفوز برضى الله، مثل:
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار".قال ابن مسعود: "وقلت أنا من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة"( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: "يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة"( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ثبت قلبي على دينك"( ).(46/153)
وكذا حديث الجارية التي سألها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: "أين الله؟ فقالت: في السماء. فقال لمولاها: اعتقها فإنها مؤمنة"( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات"( ).
ومن أدلتهم كذلك ما جاء في أحاديث شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أقوام فيخرجهم الله من النار حتى لا يبقى من في قلبه ذرة أو برة أو شعيرة من الإيمان، وفيه: "فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل إلى أن قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه"( ).
وقد استدل بهذا الحديث لإرجائهم من العبارات السابقة:
لم يعملوا خيراً قط.
هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه.
فقالوا: إذا لم يكن لهم عمل خير قط فما الذي بقي معهم؟ والجواب –كما يزعمون- أنه بقي معهم التصديق فقط ونفعهم دون النظر في العمل، لأن حقيقة الإيمان –كما يزعمون- لم تتوقف على العمل.
ومن الشبهات التي تعلق بها المرجئة أيضاً على أن العمل ليس من الإيمان قولهم:
إن الكفر ضد الإيمان فحيثما ثبت الكفر نفي الإيمان، والعكس.
ومنها ما جاء في نصوص كثيرة فيها عطف العمل على الإيمان.
ومن أدلة الأحناف على أن الإيمان قول واعتقاد فقط، وأن الأعمال ليست داخلة فيه وإنما هي شرائع الإسلام فإذا عمل معصية نقص من شرائع الإسلام وليس من التصديق بالإسلام – من أدلتهم على ذلك قولهم:
إن الإيمان في اللغة المقصود به التصديق فقط، والعمل بالجوارح لا يسمى تصديقاً فليس من الإيمان.(46/154)
لو كانت الأعمال من الإيمان والتوحيد لو جب الحكم بعدم الإيمان لمن ضيع شيئاً من الأعمال، وفي ذلك يقول أبو حنيفة في كتابه الوصية: ثم العمل غير الإيمان، والإيمان غير العمل، بدليل أن كثيراً من الأوقات يرتفع العمل من المؤمن ولا يجوز أن يقال يرتفع عنه الإيمان، فإن الحائض ترتفع عنها الصلاة، ولا يجوز أن يقال: ارتفع عنها الإيمان، إلى غير ذلك من النصوص التي استدل بها المرجئة عموماً والأحناف بخصوصهم، والتي فهموا منها ما يدل على صحة مذهبهم، ثم نتج عن صنيعهم هذا تضارب الأدلة في مدلولاتها-أمامهم- لعدم وقوفهم على ما تقتضيه من الفهم السليم الذي هدى الله إليه أهل السنة، بل ذهبت كل طائفة من طوائف المرجئة الكثيرة إلى الاستدلال لما تزعمه بنصوص قد لا تستدل بها الطوائف الأخرى.
قال ابن أبي العز الحنفي: "فمن أدلة الأصحاب لأبي حنيفة رحمة الله: أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، قال تعالى مخبراً عن إخوة يوسف: ( وما أنت بمؤمن لنا (( ) أي بمصدق لنا، ومنهم من أدعى إجماع أهل اللغة على ذلك، ثم هذا المعنى اللغوي- وهو التصديق بالقلب-هو الواجب على العبد حقاً لله، وهو أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى. والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا، هذا على أحد القولين كما تقدم.
ولأنه ضد الكفر وهو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما، وقوله: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان (( ) يدل على أن القلب هو موضع الإيمان لا اللسان، ولأنه لو كان مركب من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه، ولأن العمل قد عطف على الإيمان والعطف يقتضي المغايرة، قال الله تعالى: {آمنوا وعملوا الصالحات}( )، وغيرها في مواضع من القرآن"( ).
الرد على أدلة المرجئة:(46/155)
والواقع أن تلك النصوص التي تقدمت في استدلال المرجئة على إخراج العمل عن حقيقة الإيمان لا يسلم لهم فهمهم لها من أنها على إخراج الأعمال الظاهرة عن أعمال القلب، فإن إيمان القلب وإن كان الأساس وعليه الاعتماد الأول ولكن لا ينفي هذا أثر إيمان القلب يظهر على الجوارح بل هو الحق، والنصوص كما هو الواضح منها لا تدل على تصديق القلب وحده، وإنما تدل على أن الإيمان له دلالات لا تتضح إلا بالأعمال الظاهرة، والذين أحجموا عن إدخال الأعمال الظاهرة في حقيقة الإيمان نتج عن ذلك تساهل عندهم في الحكم حتى على الفجار الذي لا شك في ظهور فجورهم.
فتجد منهم من لا يكفر بالأعمال الظاهرة حتى وإن كانت توحي بكفر صاحبها علانية، فهم لا يجرءون على تكفيره حتى يتأكدوا من مصداقية قلبه بالإيمان، لأنه لو صدق بشعائر الإسلام فلا يكفر مهما عمل إلا إذا ارتفع التصديق عن قلبه فهنا يجرءون على تكفيره.
وهذه نتيجة طبيعية بالنسبة لهم بعد أن أغفلوا ارتباط الأعمال بإيمان القلب.
والحق أن الفعل المكفر يكفر به صاحبه إذا كان الفعل نفسه يوحي الشرع في الكتاب أو السنة أو إجماع علماء الأمة بكفر فاعله، إذ لو لم يكفر قلبه أولاً لما كفرت جوارحه، فمن سبّ الله أو رسوله أو فضل القوانين الوضعية على الشرعية الإسلامية وقدمها عليها أو غير ذلك من الأمور المعلومة من دين الإسلام بالضرورة-فإنه لا يحتاج لتكفيره إلى مساءلته هل هو مصدق بالإيمان أم لا، لأن فعله شاهد عليه بعدم التصديق، أو أن تصديقه مثل تصديق إبليس بربه وباليوم الآخر، فهل نفعه ذلك؟ فكذلك هؤلاء، إلا أن يأتي أحدهم بمخرج له في ذلك معتقداً صحته.(46/156)
قال شيخ الإسلام –رحمة الله- عنهم: "فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي، قد صرحوا بأن سب الله ورسوله والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر- ليس هو كفر في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على كفره، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفاً بالله موحداً له مؤمناً به، فإذا أقيمت عليه الحجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطناً وظاهراً قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطني، وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك"( ).
ومن استند منهم إلى إخراج الأعمال عن حقيقة الإيمان بما استنبطه مما جاء في القرآن الكريم من إسناد الإيمان إلى القلب فقط، كقول الله تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}( ).
وقوله تعالى: {من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب}( ).
وقوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله}( ).
وقوله تعالى: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا}( ).
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين منزلة الإيمان وضده من القلب، من استند منهم إلى ذلك فقد أخطأ الفهم، فليس المراد منها إخراج العمل وإغفاله عن إيمان القلب، فإن من أنكر تلازم الأعمال الظاهرة بأعمال القلوب وقال: إن الإيمان هو المعرفة فقط فهو جهمي، وكذا من قال: إنه التصديق فقط مثل الأشاعرة فقد تجهم، إذ لا فرق بين دعوى المعرفة ودعوى التصديق فقط-وكلاهما من دون عمل، وما ذكره بعض الأشاعرة من التفريق بينهما فإنه نصرة لمذهبهم فإن كلتا الطائفتين تلتقي على إخراج الأعمال عن حقيقة الإيمان، فيبقى النزاع في التفرقة بين المعرفة والتصديق المجرد عن العمل غير واضح، فإن المعرفة والتصديق موضعهما القلب، والعمل الظاهر دليل ذلك ولازم له.
وقد كفر أئمة العلم من قال بقول جهم: إن الإيمان هو التصديق فقط.(46/157)
فظهر أن تلك الآيات لا تدل على نفي دخول الأعمال في حقيقة الإيمان، بل غاية ما فيها التركيز على أهمية الإيمان القلبي الذي بدوره يثمر الإيمان بالقيام بأعمال الشرع الظاهرة، أو أنها أسندت إلى القلوب باعتبار أنها هي المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
وأما ما استدل به المرجئة من النصوص التي تدل على أن من اجتنب الشرك دخل الجنة-سواء كانت تلك النصوص من القرآن الكريم أو من السنة النبوية فإن الجواب على ذلك:
"إن هذه النصوص تفيد أن من لم يقع في الشرك مع التوبة والقيام بأمر الله والانتهاء عن نهيه-أن الله يغفر له الذنوب التي هي دون الشرك، فإذا مات على بعض الذنوب يرجى له المغفرة ابتداء، أو يعاقبه الله بذنبه ثم يدخله الجنة، كما هو مذهب السلف في أهل الذنوب حسب ما تفيده النصوص من الكتاب والسنة.
كما أنه لا يقع من شخص عرف التوحيد وأخلص لربه أنه لا يأتي بالأعمال الأخرى التي أوجبها الإسلام، بحيث يكتفي بابتعاده عن الشرك ثم يركن إلى ذلك لدخوله الجنة، فاتضح أن هذه الآيات لا تدل عن إغفال العمل والاقتصار على المعرفة أو التصديق بالقلب أن هذه الآيات لا تدل على إغفال العمل والاقتصار على المعرفة أو القلب كما يرى المرجئة، بل هي واردة في حكم من مات تائباً أو لم تكن عليه معاص، أو كانت عليه معاص ومات على التوحيد، بحيث كان آخر كلامه في الدنيا: لا إله إلا الله".
وما فهموه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"التقوى ها هنا" بأن الإيمان والكفر محلهما القلب، ولا عبرة بعمل جارح- فهو فهم غير سديد من جهة نفي دخول الأعمال الظاهرة إذا لم تثمر القيام بأعمال الإيمان الظاهرة فهي ليست تقوى صحيحة. وهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن الإيمان هو مجرد التصديق والإقرار بالقلب فقط دون أن يرى أثر ذلك في الأعمال كلها.(46/158)
وقد جرهم إلى هذا الفهم أمر لم يتقبلوه وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرة يعبر عن الإيمان بأعمال القلب ومرة بأعمال الجوارح ومرة بكليهما، فمن وقف على جانب دون آخر من هذه المراتب فقد قصر ولم يلتزم الحق واختلط الأمر عليه، وأما حديث الجارية الذي استدل به المرجئة على مذهبهم أن ترك العمل لا ينافي الإيمان، فإن المراد من شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لها بالإيمان-أي الإيمان الظاهر- الذي تجري بموجبة الأحكام الدنيوية لا الإيمان الحقيقي الكامل.
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن إيمان هذه الجارية ليس مثل إيمان كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة السابقين، وإنما أراد الإيمان الظاهر الذي يميز المسلم عن الكافر ابتداءً في المعاملات الدنيوية، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم اكتفى بسؤالها عن الإيمان فقط بأن قال لها: هل أنت مؤمنة وسكت لكان فيه نظر للمرجئة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم سألها عن أشياء أخرى فقد قال لها: "أتشهدين أن لا إله إلا الله. قالت: نعم. قال: أتشهدين أن محمداً رسول الله؟ قالت: نعم. قال: أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أعتقها"( ).
وهذه كلها من أعمال الإيمان الباطنة والظاهرة أيضاً. قال شيخ الإسلام عن تمسك المرجئة بهذا الحديث: "وهذا لا حجة فيه، لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة"( ). فظهر أن هذه الأسئلة يريد الرسول صلى الله عليه وسلم من ورائها معرفة منزلة هذه الجارية من أحكام الإسلام، وهل تستحق أن يطلق عليها اسم الإيمان أم لا. وليس المقصود أنها بلغت في إيمانها إلى حد إيمانه أو إيمان كبار أصحابه.(46/159)
وعلى الفرض أن الجارية قالت للرسول صلى الله عليه وسلم أنا مؤمنة بكل شرائع الإسلام بمعنى مصدقة بها، ولكني لا أرى فرضية الصلاة والزكاة والصوم وغير ذلك من شرائع الإسلام. أي لا أرى لزوم عملها بالجوارح على أنها حقيقة الإيمان، بل تطلق عليه مجازاً، فهل كان صدر الرسول صلى الله عليه وسلم سينشرح منها ويأمر مولاها بعتقها ويشهد لها بالإيمان( ).
وأما حديث شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أولئك فالجواب عنه: أنه لابد من النظر إلى الأحاديث الكثيرة التي صرحت بأنها من أهل الإيمان وعليهم أثر السجود الذي هو عبارة عن عمل الصلاة وأن الجهنميين يعرفون بذلك.
وفي بعض الروايات أن المؤمنين يشفعون فيمن عرفوه بأنه من أهل الإيمان والعمل في الدنيا، وهذا لا يمنع أن فيه جماعة من الناس لهم أعمال لا يعلم بها إلا الله أخرجهم الله بسببها من النار، حيث ظهرت عليهم علامات إيمانهم وأعمالهم التي قدموها.
وقوله: "لم يعملوا خيراً قط" لا ينفي العمل مطلقاً بل قد يكون لهم عمل وإن كان قليلاً إلى جانب إيمانهم وحسناتهم الأخرى فينفعهم ذلك، وهذا مثل أن تقول لشخص: أنت ما عملت شيئاً بعد إتمامه للعمل الذي هو فيه، فإنك لا تنفي وجود عمل ما، ولكن حيث كان العمل غير كامل ولا دقيق ولا يعتبر به-ولو من وجهة نظرك- اعتبرته في عداد من لم يعمل شيئاً وهو أسلوب من أساليب العرب في كلامهم.(46/160)
ثم إن هؤلاء معهم إيمان وعمل، ولولا ذلك لكانوا كسائر الكفار والمشركين يخلدون في النار، فلا مزية لخروجهم منها إلا ذلك، وربما أن الله أخرجهم أو أدخلهم الجنة لعزمهم على العمل ومباشرتهم الدخول فيه كما حصل لبعضهم حين أسلم صادقاً مخلصاً ثم دخل المعركة فقتل فشهد الرسول صلى الله عليه وسلم له بالجنة، مع أنه لم يظهر منه إلا حسن قبوله للإسلام ودخوله المعركة، ولكن الله اطلع على إيمانه القوي وأوله بذله نفسه للقتل مع المسلمين في سبيل نصرة الإسلام، ولقصر وقته عن أداء الواجبات الأخرى فغفر الله له.
وكقصة الرجل الذي قتل مائة نفس ثم تداركته رحمة الله فدخل الجنة، ومثله ما وقع للرجل الذي أوصى أن يحرق بعد موته فغفر الله له، فمثل هؤلاء في عزمهم وقوة إيمانهم كمثل الذي عمل، وفرق بين من له رغبة وعزم على العمل وبين من تركه اتكالاً وتكاسلاً.
وأما احتجاجهم بقولهم: إن الكفر ضد الإيمان فحينما ثبت الكفر انتفى الإيمان والعكس.
فإنه يقال لهم: إطلاق القول بأن كل كفر هو ضد الإيمان ويخرج من الملة مطلقاً ليس صحيحاً على إطلاقه هكذا إلا عند الخوارج في حكمهم على أصحاب المعاصي بالكفر المخرج من الملة، فإن الإيمان درجات، وهو اسم مشترك يقع على معان كثيرة، منها ما يكون الكفر ضداً له، كأن يعتقد الكفر ويعمل به ويدعو إليه فكفره اعتقادي وهو ضد الإيمان ولا نزاع في هذا.
ومنها ما يكون الفسق ضداً له لا الكفر، كترك بعض الأعمال المفروضة مع الاعتراف بوجوبها. ومنها ما يكون الترك ضداً له لا الكفر ولا الفسق، كترك بعض الأعمال التي هي تطوع إذ لا يصح تسمية التارك لها كافراً ولا فاسقاً وإنما يسمى تاركاً ومفرطاً في حق نفسه لعدم قيامه بتلك الأعمال التي تزيد في إيمانه( ).(46/161)
وقد يطلق السلف التسمية بالكفر على بعض من يعمل أعملاً جاء الشرع بإطلاق الكفر عليها ولكنهم يسمونه كفراً عملياً لا اعتقادياً حتى تقام الحجة على صاحبه، كالذنوب التي وردت النصوص بإطلاق الكفر على أهلها، كالزنا والسرقة وشرب الخمر في حق من لم يجحد النصوص الواردة في تحريمها قبل إقامة الحجة عليه ببيانها، فإن السلف يطلقون عليه الكفر تمشياً مع النصوص، ثم يفصلون بعد ذلك فإذا استحلها ولم يعترف بوجوبها وردَّ النصوص فهو كافر كفراً اعتقادياً ظاهراً وباطناً.
وأما ما استدلوا به من ورود نصوص كثيرة فيها عطف العمل على الإيمان، وأن المعطوف والمعطوف عليه بينهما مغايرة وفرق وإلا لما عطف عليه، فالواقع أن النصوص كما يتضح منها، أحياناً يرد فيها ذكر الإيمان في حالة العطف بمعنى الدين وذلك في حال إطلاق الإيمان وحده، فإنه يدخل فيه الأعمال، فإذا أطلق لفظ الإيمان فقط تبادر إلى الذهن أن المقصود بذلك الإيمان القلبي وعمل الجوارح والنطق باللسان ولا يفهم منه التصديق فقط أو الإقرار فقط إلا عند المرجئة، حيث تكلفوا دعوى وقوع ذلك.
وأما في حال ذكر الإيمان والعمل معاً فلا مغايرة بينهما في الحكم الذي ذكر لهم، بل يكون ذلك من جنس عطف الخاص على العام مثل قوله تعالى: ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى( ( ). فإن الصلاة الوسطى من ضمن بقية الصلوات وإنما أفردت بالذكر الخاص بعد الذكر العام لمزيد العناية والاهتمام بها، وأحياناً إذا ذكر العمل الصالح والإيمان معاً يكون المقصود بذلك إظهار وتوكيد حقيقة الإيمان بالعمل الصالح، إذ لا يكون العمل صالحاً مقبولاً إلا بعد إيمان صاحبه، فذكر الإيمان والعمل معاً من باب التوكيد أو عطف الخاص على العام. والحاصل أن الإيمان المطلق يستلزم الأعمال كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية( ).(46/162)
وأما ما استدل به الأحناف من أن الإيمان في اللغة المقصود به التصديق، والعمل لا يسمى تصديقاً فيقال لهم: إنه لم يسم التصديق بالقلب دون التصديق باللسان والعمل إيماناً في اللغة، ولم يعرف عن العرب أنهم يحكمون للشخص بالتصديق والإيمان بشيء صدقه بقلبه ثم أعلن التكذيب به بلسانه، كذلك لم يعرف في اللغة أن التصديق باللسان فقط دون التصديق بالقلب يعتبر إيماناً.
إذاً فلا يسمى مؤمناً بالشيء إلا إذا توافق التصديق بالقلب واللسان معاً ونتج عنهما حصول أثر ذلك وهو العمل.
ويرد على من ذهب مذهب الإمام أبى حنيفة في إخراج العمل عن الإيمان، واستدل باللغة على أن الإيمان هو التصديق – يرد عليهم بما ذهبوا إليه هم أيضاً من عدم جواز إطلاق الإيمان على الشخص إلا إذا صدق بالله عز وجل وبرسوله، وبكل ما جاء به القرآن والبعث والجنة والنار والصلاة والزكاة، وغير ذلك.
ومعلوم أن هذا الإيمان قد اشتمل على أعمال، فكيف يحق لهم بعد ذلك عدم اعتبار الأعمال من الإيمان، وهم يشترطون لثبوت إيمان الشخص ما ذكر.
ويقال لهم أيضاً: لو كان ما تقولون صحيحاً من أن الإيمان هو التصديق فقط – لوجب أن يطلق اسم الإيمان على كل من صدق بشيء ثم كذب بلوازمه، فقد أخبر الله بأن قوماً يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض الرسل ومع ذلك سماهم الله كفاراً مع تصديقهم بالله. قال تعالى: ( إن الذين يكفرون بالله ورسوله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً * أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً (( ).
فهؤلاء مصدقون بالله وبرسوله، لولا أنهم يريدون أن يأخذوا من كل ديانة ما يوافق هواهم.
نعم إن أصل الإيمان في اللغة هو التصديق بالقلب واللسان معاً بأي شيء كان إلا أن الله عز وجل وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة لا على العقد لكل شيء.(46/163)
وأوقعها أيضاً سبحانه على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة لا بما سواها.
وأوقعها أيضاً على أعمال الجوارح لكل ما هو طاعة له تعالى فقط. والله عز وجل هو خالق اللغة وأهلها، فلا يجوز لأحد مخالفة الله عز وجل فيما أنزله وحكم به والتعلل باللغة في دفع الحق.
وقد أنزل في القرآن أن الأعمال من الإيمان قال تعالى: ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم(( ).
ومعلوم أن التصديق بالشيء حقيقة لا يقع إلا إذا وجد التصديق الكامل بذلك الشيء وازداد فيه رغبة وعملا. فالمصدق بالله تعالى و بأنبيائه و بما جاء عن الله تعالي هو الذي صدق بذلك ظاهرا وباطنا فصح وصفه بالتصديق.
والآية فيها الأخبار بزيادة الإيمان لا بالتصديق فإنه قد حصل في قلوب المؤمنين، والزيادة هنا هي ما يحصل من الزيادة بالأعمال والتقرب بها إلى الله تعالى.
فإن أساس التصديق لا يتبعض في الشيئ الواحد و إن كان الناس يتفاضلون فيه؛ لأنه لو تبعض لكان صاحبه شاكاً.
فلو أن شخصاً صدق بالقرآن كله إلا آية واحدة لما كان مؤمناً بالقرآن ولكان تصديقه مشابهاً لتصديق بعض أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم وكفرهم بذلك، كالموشكانية والعيسوية من يهود أصفهان الذين صدقوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نبي الله حقاً ولكنه إلى العرب خاصة لا إليهم، ولكان أيضاً مشابهاً لتصديق إبليس بربه، وهو مع ذلك كافراً بلا خلاف مخلد في النار لم ينفعه تصديقه ومعرفته بربه دون الإذعان الكامل لما أمر الله واجتناب ما نهي عنه قولاً وعملاً واعتقاداً.(46/164)
ولشيخ الإسلام ردود مطولة في إبطال تعلق المرجئة بقوله تعالى: ( وما أنت بمؤمن لنا ( أي بمصدق – على أن الإيمان هو التصديق، والعمل خارج عن التصديق، وفي أن الإيمان هو التصديق في اللغة وفي الشرع أيضاً( )، ثم إن إطلاق الإيمان على الأعمال أو الأعمال على الإيمان أمر مقرر عند السلف وثابت لا يمارون في صحته لورود ذلك في نصوص كثيرة.
فالجهاد والصوم والصلاة وغيرها من الإيمان،كما أنهم يسمون الإيمان عملاً لما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور"( ).
وقال الأوزاعي: "لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيل الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيل الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة. وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان والإيمان من العمل"( ).
فالصلاة مثلاً من أعمال الجوارح، وقد قال تعالى: ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ( ( ) أي صلاتكم إلى بيت المقدس، لا كما ذهب إليه المرجئة من أن المعنى أي تصديقكم بالنبي صلى الله عليه وسلم والدين.
قال شيخ الإسلام: وحقيقة الأمر أن اسم الإيمان يستعمل تارة هكذا وتارة هكذا … فإذا قرن اسم الإيمان بالإسلام أو, العمل كان دالاً على الباطن فقط.
… وإن أُفرد اسم الإيمان فقد يتناول الباطن والظاهر، وبهذا تأتلف النصوص.
وأما إذا قُرن اسم الإسلام والإيمان كما في قوله تعالى: ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ( ( ) وقوله تعالى ( فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين( ( ) فقد يراد بالإسلام الأعمال الظاهرة( )، أي والإيمان الأعمال الباطنة، وهذا هو مذهب السلف أما الإيمان أخص من الإسلام.(46/165)
وأما استدلالهم بقولهم: لو كان العمل يسمى إيماناً لكان من ضيع منه شيئاً فقد الإيمان كله، فلا يكون مؤمناً أو لا يقال له مؤمن.
يقال لهم: إن هذا الاستدلال تحكم وخروج عن ما يقتضيه الحق، فلا يجوز أن نسمى الشخص مؤمناً ولا كافراً إلا بنص واضح عن الله أو عن رسوله، فمن سماه الله مؤمناً نسميه مؤمناً، ومن سماه كافراً نسميه كافراً، بل نقول:أن من ضيع شيئاً من ما أمر بالإيمان به فقد ضيع بعض الإيمان ولم يضيع الكل، فلا يخرج عن الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه بالكلية( ).
وأما بالنسبة لارتفاع العمل عن الحائض وعدم ارتفاع الإيمان عنها فإن هذا الاستدلال غير صواب، ذلك أنها في حالة ارتفاع العمل عنها لم يكن من قبلها، وإنما ذلك من قبل خالقه، وهي في تلك الحال في حكم العامل؛ ولهذا لا يتوجه إليها الذنب بترك الصلاة والصوم في تلك الحال وهى لا زالت على الإيمان والعمل لم تخرج بتركهما في تلك الحال عن الإيمان ولا عن مواصلة العمل فإن تلك الفترة الطارئة لا تجعلها في عداد من خرج عن الإيمان وضيع العمل لكي يصدق عليها ترك الإيمان بسبب ترك العمل كما استدل هؤلاء.
وأما ما ذهب إليه المرجئة من أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، كما أن التصديق لا يزيد ولا ينقص، فهو قول من أبطل الأقوال وهو قياس على أمر غير مسلم، فالتصديق لا يصح لهم ما زعموه فيه من أنه لا يتفاضل الناس فيه، بل يتفاضلون تفاضلاً ظاهراً في التصديق بقضاياً تمر بالناس يومياً في حياتهم، فضلاً عن تصديق بقضايا المغيبات من أخبار اليوم الآخر والجنة والنار وأسماء الله وصفاته، فمن زعم أن تصديق أقل الناس إيماناً بالله مثل تصديق أكمل الناس إيماناً به بتلك الأمور المغيبة – فلا شك في بطلان قوله بما لا يحتاج إلى سرد الأدلة عليهم.(46/166)
وأما زيادة الإيمان ونقصانه فيكفي في ثبوته إخبار الله عز وجل بذلك في كتابه الكريم وإخبار نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة بما لا يخفى على طلاب العلم معرفته، فإن أدلته واضحة تمام الوضوح، ومعتقد السلف فيه من أوضح الأمور، وهو الاعتقاد الجازم أن الإيمان يزيد وينقص في قلب كل شخص.
وكل إنسان يلمس هذا من نفسه ولا ينكره إلا مكابر، على أنه بعد ثبوت ذلك في كتاب الله وفي سنة نبيه وفي إجماع علماء السلف – بعد ثبوت هذا كله لا يحق لمسلم أن يتشكك في ذلك، بل يجب الإيمان والجزم به.
وينبغي التنبيه إلى أمر هام، وهو وجود عدة أحاديث كلها موضوعة يذكر فيها أن الإيمان في القلب فقط، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ونضيف هنا ما ذكره العلماء من أنه كلما عثرت على حديث من هذا النوع فهو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذا يقول ابن القيم رحمه الله:
"وكل حديث فيه أن الإيمام لا يزيد ولا ينقص فكذب مختلق"( ) ومن تلك الأحاديث:
حديث: "من قال: الإيمان يزيد وينقص فقد خرج من أمر الله، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله، فليس له في الإسلام نصيب"، قال الشوكاني: رواه محمد بن تميم، وهو واضعه( ).
ومنها الحديث المروي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فزيادته نفاق ونقصانه كفر، فإن تابوا وإلا فاضربوا أعناقهم بالسيف أولئك أعداء الرحمن فارقوا دين الله تعالى واستحلوا الكفر وخاصموا الله، طهر الله الأرض منهم ألا فلا صلاة لهم ألا فلا زكاة لهم ألا فلا صوم لهم ألا فلا حج لهم ألا فلا دين لهم، هم براء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بريء منهم"، وقال السيوطي: موضوع، آفته الطالقاني كذاب خبيث من المرجئة كان يضع الحديث لمذهبه( ).(46/167)
ومثله أيضاً الحديث المروى عن أبى هريرة رضي الله عنه أن وفد ثقيف جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الإيمان هل يزيد وينقص فقال: "لا، زيادته كفر ونقصانه شرك" وهو حديث موضوع وضعه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي وهو من رؤساء المرجئة.
قال السيوطي نقلاً عن الحاكم: "اسناده فيه مظلمات، والحديث باطل والذي تولى كبره أبو مطيع"( ).
وكأن الذين وضعوا أمثال هذه الأحاديث كانوا يجهلون أو يتجاهلون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قول الله تعالى: ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون ( ( )، وآيات أخرى كثيرة تثبت زيادة الإيمان، فكيف ينفي الرسول صلى الله عليه وسلم ما أثبته الله في القرآن. لأن ما قبل الزيادة – كما هو معروف – قبل النقصان، وقول المرجئة بعدم زيادته ونقصانه إنما حملهم على ذلك زعمهم أن التصديق شيء واحد، وبالتالي فهو لا يختلف حسب مفهومهم ولا يتفاضل الناس فيه.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثامن
مذهب أهل السنة في تعريف الإيمان
مذهب أهل السنة المتمسكين بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم السائرين علي وفق ما كان عليه المصطفي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم في أسماء الله وصفاته، وفي مجانبة البدع وأهلها – مذهبهم في الإيمان أنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي".
هذا هو منهجهم واعتقادهم في الإيمان. أن العمل داخل في حقيقة الإيمان وأنه لا إيمان بدون عمل، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية حسب ما حل بالقلب من ذلك.
وهذا هو الواضح من النصوص الكثيرة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، إلا أنه قد تختلف تعبيرات أهل السنة عن حقيقة الإيمان فيعرفونه بصيغ مختلفة( )، ولكن القصد واحد، وهو إدخال العمل في حقيقة الإيمان كما يدل عليه كلام الله تعالي وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.(46/168)
ومنه قوله تعالي في بيان جملة من صفات المتقين أهل الإيمان: ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال علي حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (( ).
وقال تعالي مبيناً الخصال التي يكون بها الشخص مؤمناً إذا طبقها على نفسه وعمل بما دلت عليه:( قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكاة فاعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن ابتغي وراء ذلك فأولئك هم العادون (7) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8) والذين هم علي صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ( ( )، وقال تعالي: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون(( ).
وهذه الآيات واضحة الدلالة علي مذهب أهل السنة في حقيقة الإيمان المكون من القول والعمل والاعتقاد. وهي حجة على من فرق في الإيمان بين الاعتقاد والعمل، أو غالط في بعض تعريفات السلف للإيمان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله – في بيان أقوال السلف حقيقة الإيمان:"ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية: وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح. وكل هذا صحيح فإذا قالوا: قول وعمل؛ فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام"( ).(46/169)
وقال أيضاً: "والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل الجوارح والقلب، ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية. قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع فلان كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة ".
وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل وإنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال ولكن كان مقصودههم الرد علي المرجئة الذين جعلوه قولا فقط. فقالوا: بل هو قول وعمل والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مرادهم كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة"( ).
واستدل أهل السنة على ما يذهبون إليه من دخول العمل في مسمى الإيمان بأحاديث كثيرة منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"( )
وقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: " آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا الخمس من المغنم"( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم:"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخيارهم خيارهم لنسائهم"( )
وأحاديث أخرى كثيرة جعل فيها العمل من الإيمان.
وعلى هذا مضى السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم.
وعليه أيضاً مضى علماء الإسلام، ومنهم الأئمة مالك والشافعي وأحمد، حيث فسروا الإيمان بأنه التصديق والقول والعمل، وأنه يقبل الزيادة ويقبل النقص، وأن أهله يتفاوتون فيه.(46/170)
ومما ينبغي فهمه أن السلف حينما يعرفون الإيمان بأنه قول وعمل؛ لا يقصدون أن الإيمان قول باللسان وعمل بالجوارح دون النظر إلي إيمان القلب وتصديقه وعمله، فإن السلف ما كانوا يريدون ألفاظ اللسان وحركات الجوارح مجردة عن عمل القلب وتصديقه الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله وجميع شرائع الإسلام.
فإن السلف يعتبرون إيمان القلب أمراً أساسياً في الإيمان وصلاح العمل، وإنما لم يصرحوا به لظهوره، إذ إنهم لم يتصوروا أن تلك الثلاثة الأمور في التعريف بالإيمان منفصلة عن بعضها. وحينما يعرف السلف الإيمان بأنه الإقرار والتصديق أو تصديق وعمل، لا يريدون من التصديق مجرد التصديق بالخبر فقط دون الالتفات إلي ثمرة التصديق وهو الإذعان والامتثال للأمر، الذي يتبعه العمل حتماً بل يريدون التصديق الذي يتبعه العمل كأثر للتصديق، وإلا فلا فائدة من التصديق إن لم يثمر العمل.
وهذا التفسير هو ما دل عليه الكتاب والسنة واللغة قال تعالي: ( وناديناه أن يا إبراهيم(140) قد صدقت الرءيا ( ( ) أي قد امتثلت الأمر وحققته فعلاًُ لو لا أن الله فدى ولدك بذبح غيره، وليس المقصود إنك صدقت الرؤيا كما تصدق سائر الأخبار أو تكذب، بل صدقتها وجزمت بالعمل القلبي الذي يتبعه العمل الظاهر وهو إرادتك ذبح ابنك، ولو كان المقصود بذلك مجرد المدح على تصديق الرؤيا لما كان له فضيلة فيها.
ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب علي ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهى، والفرج يصدف ذلك كله ويكذبه"( ).
وتصديق الفرج وتكذيبه كناية عن الفعل نفسه أو عدمه، وعلي هذا فالتصديق الذي يريده السلف هو ما يتبعه العمل، وبهذا يتبين خطأ من ذهب إلى أن مراد السلف هو التصديق المجرد بالقلب دون الالتفات إلى عمل القلب وإذعانه.(46/171)
كما أن السلف يفسرون الإقرار هنا بمعنى حصول الالتزام والإذعان لا مجرد الإقرار بمعنى الاعتراف أو التصديق بالشيء، قال تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (( ).
والإقرار هنا ليس مجرد الاعتراف بل لابد من الإقرار المستلزم للعمل إذ الإقرار وحده لا يكفي.
أما مذهب المرجئة؛ فإن مجرد التصديق بالشيء يعتبر إيماناً به ظاهراً وباطناً، بغض النظر عن العمل – على حسب منهجهم-، فإذا تلفظ الشخص عندهم بكلمة الإخلاص – لا إله إلا الله –أصبح بمجرد تلفظه، إضافة إلي تصديقه مؤمناً كامل الإيمان ظاهراً وباطناً.
فإذا امتنع عن قولها فحكمه عندهم أنه كافر في الظاهر، وقد يكون مؤمناً في باطنه كما يزعمون، والسلف يحكمون بكفره ظاهراً وباطناً إذا امتنع عن قولها مع القدرة، مع أن مجرد التصديق قد لا يكون به الشخص مؤمناً، فإن بعض اليهود كان مصدقاً برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به من عند الله، ولكنهم لم يدخلوا الإسلام إما حسداً وإما خوفاً وإما استكباراً.
وبعضهم يزعم أنه رسول الله حقاً ولكن إلى العرب بخصوصهم( )، فلم ينفعهم هذا التصديق في الحكم لهم بالإيمان مع جمعهم بين الإقرار والتصديق كالموشكانية والعيسوية من يهود أصفهان – كما قدمنا.
وإن الإنسان ليعجب حقاً ممن تجاهل منزلة العمل من الإيمان وهو يقرأ كتاب الله وسنة نبيه، ويسمع الأحاديث التي تجعل الإيمان والعمل قرينين لا يغني أحدهم عن الآخر، فقد قرن الله تعالى العمل بالإيمان في مواضع عديدة من كتابه الكريم، وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك أحاديث كثيرة.
قال تعالى: ((وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار (( ).(46/172)
وقال تعالي: (والعصر (1) أن الإنسان لفي خسر(2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر(( )، ومرة يذكر الله في القرآن الكريم العمل ثم يذكر بعده الإيمان.
ومما يدل علي أنه لا فرق بين العمل والإيمان أو الإيمان والعمل في إطلاق كل منها علي الآخر أيضاً قوله تعالي: ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً(( ).
فمن فرق بين الإيمان والعمل بالجوارح فلا شك في مخالفته الصريحة للقرآن والسنة، وأنه ينبغي عليه التوبة والرجوع فلا شك في مخالفته الصريحة للقرآن والسنة، وأنه ينبغي عليه التوبة والرجوع إلي هدي القرآن الكريم، وأن يترك الفلسفيات التي أنتجت هذه الخلافات العقيمة في قضية الإيمان التي كانت في تمام الوضوح عند الصحابة ومن بعدهم، حتى نبغت هذه الفئام من الناس ليشرحوا الإيمان بأغمض مما يتصور العقل كما هي عادة أولئك.
فإنهم يشرحون المسألة الواضحة حتى يجعلوها ألغازاً وطلاسم لا يعرف منها أحياناً إلا الحروف التي كتبت بها فتجد شروحات وكلاماً كثيراً لا فائدة من ورائه، وصدق ابن العز في قوله عن كثرة كلام المتأخرين وقلة كلام المتقدمين قال: "كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيراً قليل البركة بخلاف كلام المتقدمين فإنه قليل كثير البركة"( )، فهل يوجد أوضح من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حقيقة الإيمان حين قال لجبريل في سؤاله عن الإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"( )؟
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"( ).(46/173)
والأحاديث كثيرة في هذا المعنى الذي يوضح حقيقة الإيمان في أنه مركب من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فمن زعم أنه مؤمن ومصدق بقلبه ولكن لا يؤمن بعمل تلك الأمور الظاهرة للإيمان فقد رد الحديث مهما ادعى من تعليلات، كما أن مجرد الإقرار لا يكفي للدخول في الإسلام عند السلف، فإذا أقر الشخص لكنه رفض العمل متعمداً فهو دليل علي كذبه في إقراره.
فمن أقر بالإسلام ثم امتنع عن الصلاة والزكاة والحج والصيام وغير ذلك من شعائر الإسلام وأصر على الامتناع، فإن المرجئة لا يتجاسرون على الحكم عليه بالكفر لجواز أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، وفاتهم أن الذي يطمئن قلبه بالإيمان تكون شعائر الإسلام أحب إليه من كل فعل، وأن قرة عينه تكون دائماً في القيام بتلك الأعمال والاستزادة منها متقرباً بعملها إلي ربه.
هذا ويدل علي بعد فكر المرجئة عن الحق، فلو أن شخصاً صدق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه أبى أن يعمل بجوارحه ما أمر به كالصلاة مثلاً، وأصر على إبائه حتى قدم لضرب عنقه وهو مصر على إبائه، فإنهم يزعمون بأنه قد يكون مؤمناً في الباطن، ونحن لا ندري حتى وإن كان ظاهره الكفر الصريح.
وهذا افتراض كاذب لا وجود له إلا في الذهن؛ إذ لو كان مصدقاً بقلبه لما فضل أن تضرب عنقه على الامتثال لأمر ربه، وهو يعلم أن الأحكام في الدنيا إنما تجري على حسب ما يظهر من أفعال الإنسان، ثم رضي أن يموت كافراً في نظر المسلمين وراضياً بالأحكام التي سيعامله بها المسلمون بعد موته من عدم الصلاة عليه، وعدم دفنه في مقابر المسلمين، وأنه لا يورث إلى غير ذلك( ).(46/174)
يقول شيخ الإسلام رحمة الله: "ومن هنا يظهر خطأ جهم بن صفوان ومن اتبعه؛حيث ظنوا أن الإيمان، مجرد تصديق القلب وعمله، ولم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان بقلبه وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة.
قالوا: وهذه كلها معاصي لا ينافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن، قالوا: وإنما يثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر. كما يحكم بالإقرار والشهود وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود"( )
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل التاسع
منزلة مذهب المرجئة عند السلف
مذهب المرجئة المتأخرين منهم مذهب رديء وخطير، يهون المعصية، ويدعو إلي الكسل والخمول، ولذا تجد السلف يحذرون منه كثيراً ويذمونه لما اشتمل عليه من فساد وإخمال لشعلة الإيمان في القلوب، وتمييع لمنزلة العمل في النفوس. وهذا المذهب ومذهب القدرية من المذاهب الرديئة.
ويذكر بعض العلماء روايات في ذمهم والتنفير من معتقداتهم، ومن تلك الروايات.
1-"صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب؛ المرجئة والقدرية"( ).
2-"صنفان من هذه الأمة لا تنالها شفاعتي؛ المرجئة والقدرية"( ).
3-"ألا وإن الله لعن القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً "( ).
4-"صنفان من أمتي لا يردان على الحوض ولا يدخلان الجنة؛ القدرية والمرجئة"( ).
5-"لكل أمة مجوس ولكل أمة نصارى ولكل أمة يهود، وإن مجوس أمتي القدرية، ونصاراهم الحشوية، ويهودهم المرجئة"( ).
6- وفي رواية عن أنس بن مالك مرفوعة: "القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم"( )(46/175)
وهذه الروايات ظاهرة في ذم المرجئة والقدرية لو كانت صحيحة بالرغم من تعدد طرقها، وبالرغم من كثرة احتجاج العلماء بها على القدرية والمرجئة.
وهناك من ضعفها لضعف أسانيدها، وإن ذكرها فمن باب تنوع الردود علي ذم القدرية والمرجئة، ويتلخص من كلام العلماء أنها دائرة بين الصحة والضعف والحسن، وفيها أن القول بالقدر والإرجاء لم يختص به هذه الأمة، بل إنها نزعة شريرة في الأمم السابقة، فالشيطان هو الذي يمليها لأتباعه في كل أمة وفي كل عصر ومع دعوة كل نبي.
ومهما كان فإن علماء السلف قد أدوا ما عليهم من النصح بوقوفهم في وجه هذه الطائفة، وتبيين ضلالها والخطر الذي يكمن في دعوتهم، ونصحوا للمسلمين بالابتعاد عن أقوالهم، ومن ذلك:
قال الإمام أحمد رحمة الله حين قيل له: من المرجئ؟ قال: المرجئ الذي يقول: الإيمان قول. وقيل له: المرجئة من هم؟ قال: من زعم أن الإيمان قول.وسئل عن من يقول: إنما الإيمان قول؛ فأجاب: هذا قول أهل الإرجاء قول محدث لم يكن عليه سلفنا ومن يقتدى به، وقال أيضاً: لا يصلي خلف مرجئ.
وذكر سعيد بن جبير المرجئة فقال: إنهم يهود أهل القبلة، أو صابئة هذه الأمة، ولعله لمشابهتهم اليهود حينما قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، أو قد يكون قال هذا عنهم لا تكالهم على غفران ذنوبهم دون النظر إلي أهمية العمل.
وقال فضيل بن عياض: "يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول لا عمل. ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة لا قول ولا عمل. ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل. فمن قال: الإيمان قول وعمل فقد أخذ بالتونقة، ومن قال: الإيمان قول بلا عمل فقد خاطر لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه.
وقال منصور بن المعتمر في شئ: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة.
وقال شريك، وذكر المرجئة فقال: هم أخبث قوم، وحسبك بالرافضة خبثاً، ولكن المرجئة يكذبون علي الله.
وقال سفيان الثوري: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري.(46/176)
وقال إبراهيم النخعي: الإرجاء بدعة؛ وقال أيضاً: لفتنتهم عندي أخوف علي هذه الأمة من فتنة الأزارقة.
وقال الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة هي أضر على أهله من الإرجاء.
وقال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء.
وسئل ميمون بن مهران عن كلام المرجئة فقال: أنا أكبر من ذلك.
وقال سعيد بن جبير لذر الهمداني: ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه.
وقال أيوب السختياني: أنا أكبر من دين المرجئة( ).
ونكتفي بما تقدم ذكره عن هذه الطائفة التي ازداد شرها وانتشارها في عصرنا الحاضر لموافقة هذه الأفكار لما في نفوس كثير من الناس الذين يريدون التفلت عن القيام به، فوجدوا في مذاهب المرجئة سنداً قوياُ وعذراً واضحاً في ذلك، وهم يغالطون أنفسهم، على معرفة تامة بأن منهجهم هذا لم يتحروا فيه النهج الذي بينه الله لعباده، والسيرة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وما من ناصح لهم عن تفريطهم إلا وأجابوه بأن الإيمان في القلب لا في المظاهر التي هي أقرب إلي الرياء بزعمهم. وهي حجة شيطانية كاذبة، إذ لو صحت لقلنا لكل من يعمل عملاً صالحاً: أنت مراء، وبذلك أفسدوا قلوب كثير من عامة المسلمين الذين يتأثرون بمثل هذه الأفكار الخبيثة التي ينفرون بها الناس عن مجالس العلم وسماع طريق الخير من أهل الصلاح والتقوى.
ولذلك تجرأ هؤلاء- وأكثرهم ممن لا يحسن فاتحة القرآن- علي ذم العلماء والمصلحين الذين يدعونهم إلي العمل الصالح وإلي الالتزام بمنهج الله وتطبيقه قولاً وفعلاً واعتقاداً، زاعمين أن إيمانهم يعدل إيمان هؤلاء الذين إيمانهم في هذه المظاهر كما يسمونها، بل ويجزم بعضهم أنهم أقرب إلي الله من هؤلاء الكادحين في رضى ربهم وطلب مغفرته وعفوه.(46/177)
نكتفي بهذا الموجز عن الإرجاء ومن أراد التوسع فعليه بكتب الفرق والمقالات؛ إذ لا يخلو كتاب من ذكر هذه الطائفة، ويرجع كذلك إلي ما كتبه الأخ سفر الحوالي في كتابه طوائف المرجئة وموقف أهل السنة منهم، وقبل ذلك كله ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عنهم كما تجد ذلك في كتابه الإيمان الذي أصبح ضمن الجزء السابع من مجموع فتاوى شيخ الإسلام رحمة الله. وغير ذلك من كتب علماء السلف الذين عنوا بدراسة هذه الطائفة.
* * * * * * * * * * * * * *
أهم المراجع لهذه الفرقة
1- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين / لأبي الحسن الأشعري.
2- الملل والنحل / للشهر ستاني.
3- الفرق بين الفرق/ للبغدادي.
4- الفصل في الملل والأهواء والنحل / لابن حزم.
5- مواضع متفرقة من كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي في الجزء (7) منها، وفي كتابه "الإيمان".
6- ظاهرة الإرجاء قي الفكر الإسلامي / د.سفر الحوالي.
7- طوائف المرجئة وموقف أهل السنة منهم / د. هادي طالبي.
8- شرح العقيدة الطحاوية / لابن أبي العز.
* * * * * * * * * * * * * *
الباب الثاني عشر
الجهمية
هل توجد آراء الجهمية في وقتنا الحاضر؟
تمهيد:
لقد كان لهذه الطائفة التي قامت على مبدأ التعطيل والجبر صولة وجولة في تاريخ الأمة الإسلامية، ولقد تمكنوا وعلا شأنهم وقتاً من الزمن، واهتم علماء الفرق وأصحاب التاريخ والعقائد بأخبارهم وبيان عقائدهم وذكر أشهر رجالاتهم.
وآراء هذه الطائفة لا تزال في بعض المجتمعات، ولا يزال الخصام بينهم وبين أهل الحق قائماً على أشده، كما كان سابقاً في الزمن القديم حتى وإن اختلفت في بعض الأحيان المسميات، خصوصاً بعد ظهور العصريين الجدد بمفاهيمهم الباطلة، الذين لم يقفوا عند حد في إثارة كل ما يمت إلي هواهم ولو بأدنى صلة، فهم جادون في إحياء تلك المفاهيم الجهمية الباطلة باسم التجديد حيناً والتطور أحياناً أخرى.(46/178)
فمثلاً الاكتفاء بمعرفة وجود الله عن العمل، أو الاعتقاد بعدم وجود الجنة الآن، وكذا النار، أو قولهم أو زعم أن الله لا يوصف بوصف، أو ليس في جهة. وغير ذلك من الآراء التي يعتقدها بعض الناس اليوم هي نفسها آراء الجهمية قديماً.
وإذا كان المثال للانفلات من الالتزام بالعقيدة الصحيحة والسير لهدمها تحت شعارات براقة في دعوى التجديد والتطوير، وأحياناً في صورة تمجيد للعقل والعلم أو التراث مما اهتم به كثير من الكتاب والكاتبات قديماً وحديثاً؛ فإنه يتوجب على كل طالب علم أن يحذر هؤلاء ويحذر منهم، وألا يركن إلي كتاباتهم، بل ولا ينبغي الاهتمام بقراءة كتبهم قبل أن يطلع على ما عندهم من الباطل؛ فإن تلك الكتب مملوءة بالدس والانحراف تحت زخرف من القول.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الأول
التعريف بالجهمية وبمؤسسها
الجهمية إحدى الفرق الكلامية التي تنتسب إلي الإسلام، وهي ذات مفاهيم وآراء عقدية كانت لها آراء خاطئة في مفهوم الإيمان وفي صفات الله تعالي وأسمائه.
وترجع في نسبتها إلي مؤسسها الجهم بن صفوان الترمذي، الذي كان له ولأتباعه في فترة من الفترات شأن وقوة في الدولة الإسلامية حيناً من الدهر، وقد عتوا واستكبروا واضهدوا المخالفين لهم حينما تمكنوا منهم، ثم أدال الله عليهم فلقوا نفس المصير الذي حل بغيرهم على أيديهم. سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تبديلاً.
لقد كان هؤلاء الجهمية العقبة الكئود في طريق العقيدة السلفية النقية وانتشارها؛ حيث صرفوا علماء السلف عن نشرها بما وضعوا أمامهم من عراقيل شغلتهم وأخذت الحيز الأكبر من أوقاتهم في رد شبهات الجهمية ومجادلاتهم لهم وخصامهم معهم، وكانت العاقبة الحسنة – ولا تزال – لأهل السنة والجماعة ولله الحمد.
من هو الجهم بن صفوان:(46/179)
هذ1 الرجل هو حامل لواء الجهمية، واسمه الجهم بن صفوان، وهو من أهل خراسان، ظهر في المائة الثانية من الهجرة سنة 2هـ،ويكني بأبي محرز، وهو من الجبرية الخالصة، وأول من ابتدع القول بخلق القرآن وتعطيل الله عن صفاته.
وكان مولى لبني راسب إحدى قبائل الأزد، وكان من أخلص أصدقاء الحارث بن سريج إلي أن قتلاً سنة 128 هـ، وقيل: إن الجهم قتل سنة 130، وقيل سنة 132هـ. وتاريخه طويل، وكتبت فيه مؤلفات عديدة ورسائل جامعية.
كان الجهم كثير الجدال والخصومات والمناظرات، وإلا أنه لم يكن له بصر بعلم الحديث ولم يكن من المهتمين به، إذ شغله علم الكلام عن تلك، وقد نبذ علماء السلف أفكار جهم وشنعوا عليه ومقتوه أشد مقت مع ما كان يتظاهر به من إقامة الحق، قال عنه الأشعري بعد أن ذكر جملة من آرائه الاعتقادية التي تفرد بها، قال: "وكان جهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"( ).
إلا أن الشيخ جمال الدين القاسمي ذهب إلي أ ن جهماً كان من أحرص الناس على إقامة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن قتله إنما كان لأمر سياسي، وذلك لخروجه في وجه بني أمية، ولم يكن قتله لأمر ديني يوجب ذلك فيما يرى القاسمي"( ). وهو بهذا قد خالف ما ذكره جمهور العلماء من أن قتله إنما كان لأمر ديني، وقد أقر الناس قتله في وقته لضلاله.
وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد قال عنه:"وكذلك الجهم وشيعته دعو الناس إلي المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشراً كثيراً، فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدوا الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام"( ).
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثاني
نشأة الجهمية
نشأة الجهمية:
قامت أفكار الجهم بن صفوان على البدع الكلامية والآراء المخالفة لحقيقة العقيدة السلفية متأثراً بشتى الاتجاهات الفكرية الباطلة.(46/180)
وكانت نقطة الانتشار لهذه الطائفة بلدة ترمذ التي ينتسب إليها الجهم، ومنها انتشرت في بقية خراسان، ثم تطورت فيما بعد وانتشرت بين العامة والخاصة، ووجد لها رجال يدافعون عنها، وظهرت لها مؤلفات وتغلغلت إلي عقول كثير من الناس على مختلف الطبقات. وقد ذكر شيخ الإسلام درجات الجهمية ومدى تأثر الناس بهم، وقسمهم إلي ثلاث درجات:
الدرجة الأولي: وهم الجهمية الغالية النافون لأسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من الأسماء الحسنى قالوا: هو مجاز.
الدرجة الثانية من الجهمية: وهم المعتزلة ونحوهم، الذين يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة لكن ينفون صفاته.
الدرجة الثالثة: وهم قسم من الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، ولكن فيهم نوع من التجهم، وهم الذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة ولكنهم يريدون طائفة من الأسماء، والصفات الخبرية وغير الخبرية ويؤولونها.
ومنهم من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه، وطائفة من أهل الحديث. ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضاً في الجملة، لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه.
وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلي السنة المحضة أقرب منهم إلي الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طائف هم إلي الجهمية أقرب منهم إلي أهل السنة المحضة"( )
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثالث
بيان مصدر مقالة الجهمية(46/181)
يذكر شيخ الإسلام أصل مقالة التعطيل وأنها ترجع في نهايتها إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة الضالين، يذكر ذلك في قوله: "ثم أصل هذه المقالة – التعطيل للصفات – وإنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام – أعني أن الله سبحانه وتعالي ليس على العرش حقيقة وإنما استوى بمعني استولى ونحو ذلك...
أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم "( ).
ولهذا كان التجسيم والتشبيه هو أظهر سمات الديانة اليهودية المحرفة التي ملئت بها التوراة من وصف الله تعالي بصفات البشر من الندم والحزن وعدم العلم بالمغيبات، وغير ذلك من المعتقدات الباطلة.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الرابع
ذكر أهم عقائد الجهمية إجمالاً
للجهمية آراء وعقائد كثيرة تحتاج في دراستها إلي غير هذه العجالة. ومن أهم تلك الآراء للجهم ما نوجزه فيما يلي:
1 - مذهبهم في التوحيد؛ هو إنكار جميع الأسماء والصفات لله عز وجل ويجعلون أسماء الله من باب المجاز.
2 - القول بالجبر والإرجاء.
3 - إنكار كثير من أمور اليوم الآخر مثل:
1- الصراط.
2- الميزان.
3- رؤية الله تعالي.
4- عذاب القبر.
5- القول بفناء الجنة والنار.
4- ومنها نفي أن يكون الله متكلماً بكلام يليق بجلاله، والقول بأن القرآن مخلوق.
5- وأن الإيمان هو المعرفة بالله.
6- ونفي أن يكون الله تعالي في جهة العلو.
7- والقول بأن الله قريب بذاته، وأن الله مع كل أحد بذاته عز وجل، وهذا هو المذهب الذي بنى عليه أهل الاتحاد والحلول أفكارهم.
وقد ذكر أبو الحسن الأشعري آراء جهم التي تفرد بها فقال:(46/182)
"الذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل بالله فقط، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال: تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس، وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله سبحانه، إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، وخلق له إرادة للفعل واختياراً له منفرداً بذلك، كما خلق له طولاً كان به طويلاً ولوناً كان به متلوناً…
ويحكي عنه أنه كان يقول: لا أقول: إن الله سبحانه شيء؛ لأن ذلك تشبيه له بالأشياء( )، وكان يقول: إن علم الله سبحانه محدث – فيما يحكى عنه، ويقول بخلق القرآن، وأنه لا يقال: إن الله لم يزل عالماً بالأشياء قبل أن تكون"( ). إلي غير ذلك من آراء الجهمية الكثيرة.
وقد استفاض النقل عن العلماء في ردودهم على آراء جهم وأتباعه وفندوها وبينوا مصادرها، وعلى حسب ما قيل قديماً: "ما لا يدرك كله لا يترك كله"، ولهذا فإنني سأقتصر على إيضاح أهم الجوانب الاعتقادية لهذه الطائفة، وأبرز سماتها فيما يلي:
1- إنكار جميع الأسماء والصفات.
2- القول بالجبر والإرجاء.
3- إنكار الصراط.
4- إنكار الميزان.
5- القول بفناء الجنة والنار
1 - إنكار الجهمية لجميع الأسماء والصفات:
تنكر الجهمية جميع الأسماء التي سمى الله بها نفسه وجميع الصفات التي وصف بها نفسه بحجج واهية وتأويلات باطلة، وقد عرفنا فيما سبق مصدر هذه الأفكار التي يعتنقها الجهمية القدماء والجدد.
وهذه المسألة كتب عنها العلماء كتابات مستفيضة ومؤلفات عديدة، دحضوا فيها كل ما يتعلق به الجهمية في نفي الأسماء والصفات، وقلما يخلو كتاب من كتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وسائر علماء الفرق من رد وخصام وجدال مع هؤلاء.
شبهات الجهمية في نفي الصفات:
لقد أقدم الجهمية علي نفي الأسماء والصفات بمزاعم من أهمها:(46/183)
1-أن إثبات الصفات يقتضي أن يكون الله جسماً؛ لأن الصفات لا تقوم إلا بالأجسام، لأنها أعراض والأعراض لا تقوم بنفسها.
2-إرادة تنزيه الله تعالى.
3-أن وصف الله تعالي بتلك الصفات التي ذكرت في كتابه الكريم أو في سنة نبيه العظيم يقتضي مشابهة الله بخلقه، فينبغي نفي كل صفة نسبت إلي الله تعالى وتوجد كذلك في المخلوقات لئلا يؤدي إلى تشبيه الله – بزعمهم – بمخلوقاته التي تحمل اسم تلك الصفات.
الرد عليهم:
مما يدركه طلاب العلم أن الله عز وجل وصف نفسه في كتابه الكريم ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم بصفات تعرف معانيها ولا تدرك كيفياتها، وهي معروفة في القرآن والحديث.
وقد وقف السلف من الصحابة الكرام إلي وقتنا الحاضر إزاء هذه الصفات موقفاً واضحاً جلياً لا لبس فيه، يتلخص في كلمات يسيرة ومعان واضحة، ألا وهو الإيمان التام بكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم، كما جاءت به النصوص من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف.
يقولون عن كل صفة: الصفة معلومة والكيف مجهول والسؤال عنها بدعه، ولم يتنطعوا تنطع المشبهة ولم يسلكوا مسالك المعطلة؛ لأنهم على معرفة تامة أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فلا يصفون ذاتاً غير مدركة الماهية بصفات تكيفها؛ لأن هذا هو القول على الله بغير علم.
إذ كيف تكيف ذاتاً لم تدركها ولم توصف لك أكثر من صفات مجملة قابلة للاشتراك في الأسماء متباينة الحقائق، ومن هنا نجد أنه لم يعرف عن أي شخص من الصحابة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية أي صفة من الصفات التي أخبر الله بها في القرآن الكريم أو أخبرهم بها نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وهذه دلالة على قوة ذكائهم و صفاء عقولهم لأنهم يعرفون بداهة أن الاشتراك في التسمية لا يوجب الاشتراك والمماثلة في الذات، إذ يقال: رأس الرجل ورأس الجمل ورأس الذرة ورأس الجبل، وبين ذوات هذه الأشياء من الفروق ما لا يخفى على عاقل.(46/184)
وكذلك بقية الصفات، ولهذا فإن عقلاء الناس حينما آمنوا بصفات الله عز وجل لم يتصورا فيها أي تشبيه، بل كانوا يعتبرون مجرد التفكير في المشابهة من وسواس الشيطان فيذكرون الله تعالي. كما أن إيمانهم بالصفات كان يجري كله على هذا المفهوم، فما كانوا يفرقون بين أن تكون الصفة ذاتية أو فعلية، ولم يحصل بينهم أي نزاع أو جدال في مسائل الأسماء والصفات، كما حصل عند من اتبع هواه ممن عطل أولاً ثم شبه ثانياً ثم زعم أنه ينزه الله تعالي.
ومن العجائب أن يثبت الله لنفسه الصفة وهم ينفونها عنه، ومثلهم في هذا كمثل شخص سأل آخر عن اسمه وهو لا يعرفه فأخبره فقال له: لا، إن اسمك ليس هذا، ذلك أن الله تعالى قال: ( الرحمن علي العرش استوى (، وهم يقولن: لا يجوز إثبات هذه الصفة بل يجب نفيها مطلقاً، أو تأويلها بمعني استولى أو قصد، أو غير ذلك من تأويلاتهم الباطلة.
وحينما قال تعالى عن نفسه: ( وهو السميع البصير (، قالوا: يجب نفي مدلول هذا نفياً تاماً أو تأويله؛ إما أن يكون بمعنى سميع بلا سمع بصير بلا بصر، أو أنه سميع بذاته بصير بذاته، إلي آخر مواقفهم الخاطئة تجاه كل الصفات والأسماء.
لقد عارض الجهمية ومن سار على طريقتهم كتاب الله وسنة نبيه، وقدموا آراءهم وما تراه عقولهم على نصوص الكتاب والسنة فلم يقفوا عند حدود فهم العقل ومدى قدرته، بل تجاوزوا ذلك وظنوا أنهم علي شيء، وزخرفوا القول في ذلك، وتحذلقوا وتنطعوا فخرجوا من نور العلم إلي ظلمات الجهل، ومن اليقين إلي الشكوك عقاباً من الله لهم لعدم تلقي النصوص ومدلولاتها بالطمأنينة والتسليم، وترك التكلف في البحث عن أمور هي من المغيبات ولم يخبرنا الله بتفاصيلها و لا رسوله صلى الله عليه وسلم فقد أراد الله أن تكون كيفياتها سراً مكتوماً عن العباد وهم يريدون الاطلاع عليها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.(46/185)
إن تنزيه الله عز وجل لا يمكن أن يكون بسلب صفاته وما تدل عليه من العظمة والكمال، إنه من الإجرام أن ينزه الله عن ما تمدح به: (قل أأنتم أعلم أم الله (( ).
إن التنزيه الصحيح إنما يكون في إثبات الصفة في أعلى كمالها؛ لأن الكمال المطلق لا يوصف به أحد غير الله تعالي.
وأي تنزيه في أن تقول: إن الله ليس فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن يسار ولا يحس ولا يشم ولا يري أبداً ولا يكلم أحداً، وإنه في كل مكان بذاته، وإنه لا سمع ولا بصر له، ولا يوصف بالرحمة ولا بالغضب ولا بالمجيء، إلي آخر تلك الأوصاف التي لا تقال إلا للمعدوم.
إنها صفات سلبية نتيجتها أن لا معبود إلا العدم، فليس هناك رب بائن من خلقه مستو على عرشه له كل صفات الكمال والجلال.
ومن هنا وجد الملاحدة ضالتهم المنشودة في تقوية إلحادهم واحتجاجهم على ذلك بما زعموا أنه من كلام المسلمين السابق، وهم يعلمون تمام العلم أن كلام الجهمية السابق ليس له بالإسلام أية صلة، وأنه ليس من كلام المسلمين، وإنما هو من أفكار ملاحدة الفلاسفة.
إن الجسمية التي يزعمونها حينما يثبتون الصفات لله تعالى، إنما هو من باب تغطية إلحادهم ومروقهم عن الدين، وهم أقل وأذل من أن يجدوا كلاماً ما، لعلماء المسلمين فضلاً عن الصحابة فضلاً عن الكتاب والسنة، يشير إلي هذا المفهوم الذي تنبهوا له بزعمهم ونفوا بموجبه صفات الله وأسمائه.
إن كلمة الجسمية لله تعالي نفياً أو إثباتاً هي من الألفاظ المخترعة التي لم ترد في الشرع لا في الكتاب ولا في السنة، وهي تخفي وراءها هدفا ما، ولو وقف هؤلاء الذين يطلقون على الله إلا ما ثبت له من الأسماء والصفات، وترك ذلك التنطع المذموم؛ لأن لفظ الجسم لفظ عام يحتاج إلي بيان وتوضيح ممن يقول به؛ لأنه لم يرد في الشرع لا بالنفي ولا بالإثبات، ولهذا كان في إطلاقه حق وباطل ويجب على القائل به تفصيل ما يريد.(46/186)
فهناك من ينفي لفظ الجسم من الجهمية والمعتزلة ليخفي ما يهدف إليه من نفي ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وهناك من يثبت الجسم من المشبهة ليخفي ما يهدف إليه من إثبات ما نفاه الله عن نفسه؛ وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمة الله عن هذه المسألة وفصلها تفصيلاً شافياً كافياً فقال:
"واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتاً فيكون له الإثبات، ولا نفياً فيكون له النفي. فمن أطلقه نفياً أو إثباتاً سئل عما أراد به، فإن قال: أردت بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمي في اللغة جسم سواه، فلا يقال للهوى: جسم لغة، ولا للنار ولا للماء. فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا، فهذا المعنى منفي عن الله عقلاً وسمعاً،وإن أردتم به المركب من المادة والصورة والمركب من الجواهر الفردة فهذا منفي عن الله قطعاً.
والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً، فليس الجسم المخلوق مركباً من هذا ولا من هذا، وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويري بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة لله تعالي وهو موصوف بها فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً، كما أنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصباً، ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبرياً، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسماً مشبهاً".
إلي أن قال: "وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق به بإصبعه رافعاً بها إلي السماء بمشهد الجمع الأعظم مشهداً له لا للقبلة، وإن أردتم بالجسم ما يقال أين هو؟ فقد سأل أعلم الخلق به بأين، منبهاً على علوه على عرشه وسمع السؤال بأين وأجاب عنه، ولم يقل: هذا السؤال إنما يكون عن الجسم.(46/187)
وإن أردتم بالجسم ما يلحقه (من وإلى)( ). فقد نزل جبريل من عنده وعرج برسوله إليه، وإليه يصعد الكلم الطيب، وعبده المسيح رفع إليه، وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر غير أمر فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، وهذه صفات متميزة متغايرة…" إلى أن قال:
"وإن أردتم بالجسم ما له وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه. وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستوياً على غيره فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه"( ).
فينبغي للعاقل أن يتفطن لكلام أهل الزيغ ونبزهم لعلماء السنة تنفيراً للعامة عنهم، كما أنه يجب على المؤمن ألا ينساق وراء مغالطات أصحاب البدع، فهم من دأبهم قلب الحقائق والتلبيس على الناس لتقوية ما اقتنعوا به من أفكار الملاحدة وفلاسفة اليونان.
2-قول الجهمية بالإرجاء والجبر:
لقد كان الجهم بن صفوان مؤسساً حقيقياً لكثير من الشبهات في الدين، ومؤججاً لكثير من الفتن بين المسلمين بفعل من جاء بعده ممن راقت في نظره آراء جهم، ويظهر الإرجاء عند الجهمية في تلك الآراء التي نادى بها الجهم، ومن أهمها عدم اعتبار العلم من الإيمان، فإن الإيمان وحقيقته في نظرهم إنما هو مجرد الإقرار بالقلب ولا قيمة للعمل في الإيمان؛ ولهذا سارع أصحاب الفسق والاستهتار بالقيم إلى التمسك بهذا المذهب؛ لأنه يساير رغباتهم ويثبت لهم الإيمان بغض النظر عن جميع المعاصي التي يرتكبونها، فهم مؤمنون كاملو الإيمان بالمفهوم الجبري والإرجائي،فهم لا يمكن أن يطلقوا الكفر على أحد بسبب ترك الأعمال التي أمر الله بها، بل لا يتجاسرون على إطلاق الكفر إلا إذا لم يقر بقلبه حسب زعمهم.
قال ابن أبي العز رحمة الله:(46/188)
"والجبرية أصل قولهم من جهم بن صفوان كما تقدم، وأن فعل العبد بمنزلة طوله ولونه، وهم عكس القدرية نفاة القدر فإن القدرية إنما نسبوا إلي القدر لنفيهم إياه، كما سميت المرجئة لنفيهم الإرجاء، وأنه لا أحد مرجأ لأمر الله، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وقد تسمي الجبرية قدرية؛ لأنهم غلوا في إثبات القدر وكما يسمى الذين لا يجزمون بشيء من الوعد والوعيد، بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع، فلا يجزمون بثواب من تاب كما لا يجزمون بعقوبة من لم يتب وكما لا يجزم لمعين"( ).
وقد قام أساس إرجاء الجهمية على موقفهم من حقيقة الإيمان وفي مبحث المرجئة دراسة حول المرجئة وموقفهم من الإيمان، وأنه المعرفة فقط وأنه كذلك لا يزيد ولا ينقص، ومن العمل وأنه لا صله له بالإيمان، ومن مرتكب الكبيرة،، وأن الذنوب لا تعلق لا بالإعتقاد وإنما هي تابعة للأعمال، وبالتالي فلا أثر لها على الإيمان الذي في القلب فهونوا المعاصي وشجعوا علي الركون إلي الكسل والخمول في العبادات.
ومع ذلك فهم يزعمون أن إيمان أي واحد منهم هو مثل إيمان جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لا تفاقهم في المعرفة بالله التي بنى الجهميون عقيدتهم في الإيمان عليها، وهم أجهل الناس بمعرفته عز وجل إذ نفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلا، إضافة إلي ما أحدثوه من الآراء والبدع الفاسدة.
وأما الجبر- بفتح الجيم وسكون الباء- فمعناه إسناد ما يفعله الشخص من أعمال إلي الله عز وجل، وأن العبد لا قدرة له البتة على الفعل، وإنما هو مجبور على فعله، وحركته في الفعل بمثابة حركة النباتات والجمادات، ومن هنا فإنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ لأن العبد مجبور على فعله لا حول له ولا قوة.
قال الإمام ابن القيم عنهم:
بل فعله كتحرك الرجفان
وتحرك الأشجار للميلان
أفعاله حر الحميم الآن
فيه تعالى الله ذو الإحسان
أنى ينزه عنه ذو السلطان
هذا بمقبول لدى الأذهان(46/189)
والعبد عندهم فليس بفاعل
وهبوب ريح أو تحرك نائم
والله يصليه على ما لم ليس من
لكن يعاقبه على أفعاله
والظلم عندهم المحال لذاته
ويكون مدحاً ذلك التنزيه ما
والمقصود بهذا بيان مذهب الجهم الذي قرر فيه أن العبد مسلوب الإرادة والاختيار لأفعاله، مثله مثل حركة المرتعد وهبوب الرياح وحركة النائم وحركة الأشجار وتمايلها بفعل الرياح، ثم زعموا ما لا يعقله أحد إلا هم ومن قال بقولهم؛ وهو أن الله عز وجل مع أنه هو الذي جبر الإنسان على فعله ورغماً عنه، ومع ذلك فإن الله يعذبه بنار جهنم مع أن الفعل هو نفسه فعل الله فيه.
وقالوا: إن هذا ليس بظلم، لأن الإنسان ملك الله؛ لأن الظلم في مفهومهم هو المحال لذاته غير المتصور وقوعه( )، وهذا تكذيب لقول الله: (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (( )، وقوله تعالي: ( ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون (( )، إلي غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى الذي يفيد أن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، وقد مدح بذلك لبيان كمال عدله، فأين هذا المفهوم من مفهوم الجهمية حينما يقررون أن الإنسان مجبور على فعله، لا لوم عليه فيما يأتيه من الأفعال القبيحة والمنكرات؛ لأن موجدها إنما الله تعالى، ثم كلفه بامتثال أمره ونهيه فكيف يتصور هذا؟ يكلفه الله بالامتثال ثم يوجد فيه قوة العصيان، هذا تناقض وتكليف بما لا يطاق.
وقد أخبر الله تعالي بأن الحق هو عكس هذا المفهوم، فقال عز وجل: ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها (( )، وجبر العبد على فعله لا يتفق مع مضمون هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث، ويصح على مفهوم هؤلاء الجهمية ألا يقال للزاني: إنه زان، ولا للسارق: إنه سارق، ولا للمصلي: إنه مصل … الخ؛ لأن هذه الأفعال هي أفعال الله فيهم، وإنما هم منفذون لها. لقد أعظموا على الله الفرية وقفوا ما ليس لهم بحق!!
3- إنكار الجهمية الصراط:(46/190)
الصراط من الأمور الغيبية التي أعدها الله في يوم القيامة، وقد ثبت في الشرع بأحاديث صحيحة إضافة إلي قول الله عز وجل: ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما ًمقضياً(( )
وفي الصراط تفاصيل طويلة وأخبار كثيرة، وقد حاولت حصر أكثر ما تيسر من أخباره في "الحياة الآخرة ما بين البعث إلي دخول الجنة أو النار"( ).
ونكتفي بإيجاز ما يهمنا ذكره هنا من أخبار هذا الأمر.
الصراط المراد به: ما ثبت في السنة النبوية أنه جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف، يعبره الخلائق بقدر أعمالها إلي الجنة فمنهم من يجتازه ومنهم من يقع فيه.
وقد ورد في القرآن الكريم لفظة الصراط في تسعة وأربعين موضعاً-علي معان مختلفة لكنها متقاربة في المعنى- مراداً بها الطريق أو طريق الهداية والرشاد. هذا في اللغة، ولكن السلف ما كانوا يغفلون حقيقته الشرعية من أنه جسر ممدود على متن جهنم، ولم يأت التصريح بذكره في القرآن الكريم.
غير أن هناك آيات بعض العلماء جعلها في ذكر الصراط وبعضهم يجعلها إشارة إليه، ومن ذلك:
قول الله تعالى: (فاهدوهم إلي صراط الجحيم (( )، وهذه الآية ليس فيها التصريح التام بذكر الصراط في اصطلاح الشرع، إلا أن يقال: إن طريق الجحيم هو أخذهم إلي الصراط ومنه إلي النار.
ومنه قوله تعالى: ((فلا اقتحم العقبة (( )،ورد في تفسير العقبة أقوال كثيرة منها أن العقبة هنا هي الصراط.
وكذا قوله تعالي: ( وإن منكم إلا واردها… ( الآية؛ أي بالمرور على الصراط.
أما في السنة النبوية فقد ورد ذكره ووصفه وكيفية المرور عليه في عدة أحاديث في الصحاح والسنن والمسانيد، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((ويضرب جسر جهنم))0 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ:اللهم سلم، وبه كلابيب مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله فتخطف الناس بأعمالهم منهم الموبق ومنهم المخردل ثم ينجو"( ) إلى آخر الحديث.(46/191)
وللصراط أوصاف كثيرة؛ فهو أحد من السيف وأدق من الشعرة، عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم ولا ينجو عليه إلا من كتبت له السعادة، ولا صحة لأقوال المتأولين له فإنها في مقابلة النصوص، وفي مرورهم عليه يعطون أنواراً كل شخص نوره على قدر عمله.
ثم يقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكواكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل يرمل رملاً0 وقد نصبه الله لحكمة فلو شاء لاجتاز الخلق بغير نصبه، وقد تلمس بعض العلماء حكماً كثيرة لذلك إلا أنه ينبغي الإيمان التام بأن لله حكمة قد تظهر وقد لا تظهر حقيقتها لأحد، ولسنا مكلفين باستخراج الحكمة وقد كلفنا بالإيمان بكل ما صح ثبوته.
كما أنه ورد في تحديد مسافة الصراط أقوال كثيرة تفتقر إلى دليل من الشرع، فهي من اجتهادات العلماء واستنباطاتهم، وينبغي معرفة أن المسافة وطولها أو قصرها تعود إلى العمل، فالاجتياز عليه إنما هو بقدر العمل كما ثبت ذلك في عدة نصوص.
وإنكار الجهمية وغيرهم للصراط ليس لهم ما يتمسكون به إلا شبهات باطلة واستبعاد له، ظانين أن استبعاده في عقولهم يصح أن يكون دليلاً على إنكاره، وبغض النظر عن سرد تلك الشبهات فإن النتيجة واحدة وهي إنكار الصراط، ويكفي في الرد عليهم أن يقال لهم: إنكم تردون أقوال نبيكم صلى الله عليه وسلم بمحض الهوى والشبهات، وليس لكم أي دليل، ومن رد أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بعد صحة ثبوتها، فلا ريب في خسرانه ومفارقته طريق المؤمنين0
وإذا أردت أيها القارئ الكريم تفاصيل الصراط كاملة فارجع إلى ما سبق ذكره في المراجع التي ترشدك إلى أماكن أقوال العلماء وخلاصة آرائهم..
4_ إنكار الجهميه للميزان:(46/192)
الميزان من أمور الآخرة الغيبية التي يجب الإيمان بها وقد أنكرته الجهمية، والمراد به في الاصطلاح الشرعي: الميزان الذي أخبر الله تعالى عنه في الأحاديث الشريفة في أكثر من مناسبة تنويهاً بعظم شأنه وخطورة أمره.
وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان توزن به أعمال العباد خيرها وشرها، وقد أخبر الله عنه في القرآن الكريم إخباراً مجملاً من غير تفصيل لحقيقته، وجاءت السنة النبوية فبينته. يظهره الله في يوم القيامة لإظهار مقادير أعمال الخلق، وقد أجمع المسلمون على القول به واعتقاده.
وجاء ذكره في القرآن الكريم في أكثر من آية تنويهاً بعظمه وأهميته، قال تعالى: ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين (( )، وآيات أخرى كثيرة لا تخفى على طلاب العلم، ودلالتها على إثبات الميزان أمر ظاهر، وقد وصف الله فيها الموازين عدل وأن من ثقل ميزانه، فقد أفلح وعاش عيشة راضية، ومن خف ميزانه فقد خسر وهوى إلي جهنم.
كما وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة فيها بيان ثبوت الميزان وصفاته وما الذي يوزن فيه، هل هو العامل فقط أو العمل فقط أو العامل والعمل، أو صحف الأعمال، وما الذي يثقله وما الذي يخففه ومن تلك الأحاديث وهي كثيرة:
قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"( ).
وأنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا: ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا (( ) "( ).
وثبت أن العمل يوزن ويوزن أيضاً العامل، وتوزن صحائف الأعمال، وروي أن أشد ما يكون الناس خوفاً في يوم القيامة عندما يأتي دور الوزن.(46/193)
وقد تلقى المسلمون أخباره بالقبول والتصديق لثبوته بالكتاب والسنة والإجماع( )، ولم يخالف في ثبوته أي شخص من السلف.
وقد ذهبت الجهمية وغيرهم من أهل البدع إلى إنكاره بلا دليل، لأنه في زعمهم – يستحيل وزن الأعراض، كما أنكروا أن يكون هناك ميزان حقيقي له كفتان ولسان، معرضين عن النصوص الثابتة بذلك كما قدمنا بعضها.
... وإذا أراد القارئ المزيد من أخبار الميزان والإطلاع على المناقشات الموسعة فيه فليقرأ – إن أحب – "الحياة الآخرة ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار ". فسوف يجد فيه إن شاء الله كل ما يطلبه من تفصيل لأخبار الميزان ومواقف علماء السنة وعلماء البدع منه، وما الذي يوزن؟ وهل توزن أعمال الجن؟ وهل هو ميزان واحد أو موازين متعددة؟ إلى غير ذلك من الأمور التي تتعلق بهذا الأمر.
5- قول الجهمية بفناء الجنة والنار:
... اقتضت حكمة الله تعالى أن يوجد الجنة وأن تكون دار أوليائه إلى الأبد، وأن يوجد النار وتكون دار أعدائه إلى الأبد، خلقهما الله وكتب لهما البقاء الأبدي بإبقاء الله تعالى لهما وهذا هو الثابت في الشريعة الإسلامية.
... وخالفت الجهمية وجاءوا بأفكار ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، قال شمس الدين ابن القيم:
"والجهم أفناها وأفنى أهلها تبا لذاك الجاهل الفتان " (1)
ولم يكن لهم ما يستدلون به على إنكارهم ذلك إلا مجرد الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، وصاروا يشنعون على السلف أهل الحق ما يعتقدونه في وجود الجنة والنار الآن ودوامهما في المستقبل.(46/194)
... قال ابن أبي العز رحمه الله (2): " وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة وكفروه به وصاحوا به وباتباعه من أقطار الأرض، وهذا قاله لأصلة الفاسد الذي اعتقده وهو امتناع وجود مالا يتناهى من الحوادث، وهو عمدة أهل الكلام المذموم التي استدلوا بها على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأى جهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنعه في المستقبل، فداوم الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي ".
... لقد زعم الجهم وأتباعه أن الجنة والنار ستفنى بحجة أن ما لا نهاية له من الأمور الحادثة المتجددة بعد أن لم تكن يستحيل – حسب زعمه – أنها تبقى إلى ما لا نهاية، ولم يتصور أن بعض الأشياء التي شاء الله البقاء أنه يمتنع فناؤها.
... ولا يوجد له من الأدلة إلا ما قاله أهل الكلام حينما أرادوا الاستدلال حسب عقولهم على حدوث الأجسام حين قالوا: كل جسم حادث لا بقاء له، فالأجسام حادثة وكل ما قبل الحدوث فهو حادث، والعالم قبل الحدوث فهو حادث.
... ثم زعم جهم أن الرب يمتنع عليه إيجاد حوادث لا أول لها، مخافة تعدد الآلهة إذا قلنا بوجودها، ثم قاس هذا على نهاية الحوادث، فكما أنه يستحيل عنده وجود حوادث لا أول لها، فكذلك يمتنع القول بوجود حوادث لا أخر لها لأن الله وحده هو الأول والآخر.
... وقد ظن أن هذا من تنزيه الله تعالى، وهو في الواقع إساءة ظن بقدرة الله تعالى، ولم يعلم أن ما أرا د الله البقاء فإنه يمتنع عليه الانتهاء، فإن الجنة أراد الله لها البقاء والنار كذلك فيستحيل أن تفنيا، وإلا كان فناؤهما تكذيبا لكتاب الله وسنة نبيه، فإن القرآن الكريم مملوء بالأخبار عن بقائهما إلى الأبد.(46/195)
... قال تعالى: ?وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ( (1) أي غير منقطع إلا إذا شاء الله أن يقطعه، فقوته فوق ذلك، ولكن أخبر عز وجل أنه لم يشأ أن ينقطع أبدا فيجب تصديق ذلك: ?ومن أصدق من الله قيلا (.
... وقال تعالى: ?وما هم منها بمخرجين ( (2)، " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " (3)، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في إثبات هذا المفهوم.
... وقد جاءت السنة بتأكيد ثبوت وجود الجنة والنار الآن ودوامهما في المستقبل في أحاديث كثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم: ?من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ( (4)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ?ينادي مناديا يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا ( (5).
... وورد عن ذبح الموت بين الجنة والنار ثم يقال: ?يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ( (6)، والمذبوح هنا ليس هو ملك الموت كما يظن البعض حاشاه من ذلك، وإنما المذبوح هو الموت نفسه على صورة كبش أملح، لأن الموت مخلوق والحياة مخلوقة كما أخبر الله تعالى.
... وعن دوام النار يقول الله تعالى: " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " (7)، وقال تعالى: (خالدين فيها أبدا ( (8)، ?وما هم بخارجين من النار ( (9)، ?لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ( (10)(46/196)
... فهذه النصوص تثبت بجلاء دوام الجنة والنار، وأن المنكرين ذلك ليس لهم أي جليل أي دليل إلا مجرد الاستبعاد وهو ليس بدليل، وإلا ما قاسوه بأخيلتهم الضعيفة، ولئن نازع هؤلاء في دوامهما فقد نازعوا في وجودهما الآن، حيث نفوا ذلك وأصروا على عدم وجودهما الآن بدليل أن الجنة لو كانت موجودة الآن لما ذكر في الأحاديث أن الأعمال الصالحة يغرس لصاحبها شجر في الجنة، ونسوا أن البيت الجميل المتكامل البناء والحسن، لا يمنع أن يزداد فيه من أنواع التحسينات والنقوش والزخرفة ما يزيده جمالاً وحسناً.
وقد ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم أدلة على وجودهما الآن بما لا يخفي إلا على أهل البدع، فقد قال تعالى عن الجنة: ?أعدت للمتقين ( (1).
... وقال عن النار كذلك: ?أعدت للكافرين ( (2)، لقد أعدهما الله تعالى قبل نزول أهلهما فيهما.
... وقد جاء في السنة النبوية ما يؤكد وجودهما الآن كما جاء ما يؤكد بقاءهما أبدا – كما تقدم.
... ومن الأحاديث التي تؤكد وجودهما الآن ما جاء في حديث الإسراء والمعراج قوله صلى الله عليه وسلم: " ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى. فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال: ثم دخلت الجنة فإذا هي جنابذ اللؤلؤ وإذا ترا بها المسك " (3).
وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعدة بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة " (4).
... وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه: رأى الجنة وتناول منها عنقودا، وقال لهم " ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا"(5).
... إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تؤكد وجودهما الآن، إضافة إلى ما جاء في القرآن الكريم، ولكن أهل البدع لا ينظرون إلى الحق إلا من زاوية هواهم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الخامس
الحكم على الجهمية(46/197)
... يتورع السلف كثيرا عن إكفار أي جماعة أو شخص، ويرهبون إطلاق التكفير، فلا يتسرعوا فيه كما تفعل الفرق المبطلة في تكفير الناس أو في تكفير بعضهم بعضا أيضا، إلا أن السلف لا يتورعون عن إطلاق كلمة الكفر على من جاءت النصوص بتكفيرهم أو بتسميتهم كفارا، عملا بالنصوص ووقوفا عند مفهومها الصحيح. ومن هنا تجد أن السلف حينما يطلقون الكفر على فرد أو جماعة لهم ضوابط قوية ودرجات في التكفير، من لا يفطن لها وقع – ولابد – في الخطأ سواء أكان خطأ شرعيا أم خطأ في مفهومه للتكفير عند السلف.
... ولهذا نجد أن كثير من العلماء يقعون في الخطأ حينما يحكون مذاهب السلف وهم على غير دراية كافية بمفاهيمهم ومصطلحاتهم.
أما بالنسبة لتكفير الجهمية بخصوصهم، فإنك ستجد أيها القارئ الكريم أن كلام الناس مختلف في إطلاق الكفر على الجهمية، فهناك من يهاجمهم ويحكم بكفرهم ويسوق المبررات لذلك، وهناك من يدافع عنهم ويأتي أيضا بمبررات.
... ولقد ذهب كثير من علماء السلف إلى تكفير الجهمية وإخراجهم من أهل القبلة، ومن هؤلاء الإمام الدارمي أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، فقد جعل في كتابه – " كتاب الرد على الجهمية " (1) – بابا سماه باب الاحتجاج في إكفار الجهمية "، وبابا أخر سماه " بابا قتل الزنادقة والجهمية واستتابتهم من كفرهم ".
... وأورد تحت هذين البابين أدلة كثيرة من الكتاب الكريم ومن السنة النبوية، ومن الآثار وأقوال العلماء ما يطول ذكره، وحاصلة أن الجهمية كفار للأمور الآتية:
بدلالة القرآن الكريم، حيث أخبر عن قريش قالوا عن القرآن: ?إن هذا إلا قول البشر ( (2) أي مخلوق، وهو نفسه قول الجهم بخلقه، ثم أورد كثيرا من الآيات في هذا.
ومن الأثر ما ورد عن علي وابن عباس في قتلهم الزنادقة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه " (3)، والجهمية أفحش زندقة وأظهر كفرا منهم.(46/198)
قال الدارمي: " ونكفرهم أيضا بكفر مشهور "، ثم ذكر من ذلك قولهم بخلق القرآن، وتكذيبهم لما أخبر الله تعالى أنه يتكلم متى شاء وكلم موسى تكليما، وهؤلاء ينفون عنه صفة الكلام فيجعلونه بمنزله الأصنام التي لا تتكلم، ثم بكفرهم في عدم إثباتهم لله تعالي ما أثبته لنفسه من الصفات: كالوجه والسمع والبصر والعلم والكلام. وبكفرهم في أنهم لا يدرون أين الله تعالى ولا يصفونه بإين ولا يثبتون له مطلق الفوقية الثابتة بالنصوص الصريحة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ".
كما أورد الدارمي جملة من أسماء الذين حكموا بكفر الجهمية صراحة، ومنهم: سلام بن أبي مطيع، وحماد بن زيد، ويزيد بن هارون، وابن المبارك، ووكيع، وحماد بن أبي سليمان، ويحي بن يحيى، وأبو توبة الربيع ابن نافع، ومالك بن أنس.
* * * * * * * * * * * * * *
الباب الثالث عشر
المعتزلة
الفصل الأول
نشأتهم
... المعتزلة أسم يطلق على فرقة ظهرت في الإسلام في القرن الثاني الهجري ما بين سنة 105 وسنة 110هـ، بزعامة رجل يسمي واصل بن عطاء الغزال. نشأت هذه الطائفة متأثرة بشتى الاتجاهات الموجودة في ذلك العصر، وقد أصبحت المعتزلة فرقة كبيرة تفرعت عن الجهمية في معظم الآراء، ثم انتشرت في أكثر بلدان المسلمين انتشارا واسعا، وعن كثرتهم وانتشارهم يقول الشيخ جمال الدين القاسمي:
... " هذه الفرقة من أعظم الفرق رجالا وأكثرها تابعا، فإن شيعة العراق على الإطلاق معتزلة، وكذلك شيعة الأقطار الهندية والشامية والبلاد الفارسية، ومثلهم الزيدية في اليمن، فإنهم على مذهب المعتزلة في الأصول كما قاله العلامة المقبلي في " العلم الشامخ "، وهؤلاء يعدون في المسلمين بالملايين. بهذا يعلم أن الجهمية المعتزلة ليسوا في قلة، فضلا عن أن يظن أنهم انقرضوا وأن لا فائدة في المناظرة معهم، وقائل ذلك جاهل بعلم تقويم البلدان ومذاهب أهلها " (1).(46/199)
... وهناك روايات يذكرها الباحثون في كيفية نشأة المعتزلة:
إذ يرى بعض العلماء أن أصل بدء الاعتزال كان في زمن الخليفة الراشد علي رضى الله عنه، حينما اعتزل جماعة من الصحابة كانوا معه السياسة، وتركوا الخوض في تلك الخلافات التي نجمت بين علي ومعاوية رضى الله عنهما، وهذا القول باطل لا صحة له، وقد أيده الشيخ محمد الطاهر النيفر (2).
ويرى أكثر العلماء أن أصل بدء الاعتزال هو ما وقع بين الحسن البصري وواصل بن عطاء من خلاف في حكم أهل الذنوب.
وقد ظهر قرن الاعتزال بمبادئه المعروفة من البصرة التي كانت مسكنا للحسن البصري ثم انتشر في الكوفة وبغداد، ومنها إلى شتى الأقطار والآفاق.
ومما يذكر للمعتزلة أنهم كانوا شوكة قوية في صد مبادئ الزندقة، وقاموا بجهود كثيفة لنشر الإسلام، إلا أنهم لم يحسنوا التصرف إزاء القول بخلق القرآن وغيره من المبادئ التي عجلت باضطهادهم بعد قوتهم وشدة جانبهم.
وقد تفرقت المعتزلة فرقا كثيرة، واختلفوا في المبادئ والتعاليم، ووصلوا إلى اثنين وعشرين فرقة، نترك ذكر تفاصيلها هنا، ونحيل من أراد التوسع في ذلك إلى كتب الفرق (3).
إلا أنه يجمعهم إطار عام وهو الاعتقاد بالأصول الخمسة:
التوحيد على طريقة الجهمية والعدل على طريقة القدرية، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على طريقة الخوارج.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثاني
أسماء المعتزلة وسبب تلك التسميات
... يجد الباحث عن أسماء المعتزلة أن العلماء لم يتفقوا على تسمية واحدة للمعتزلة، ولم يقتصر كذلك المعتزلة على تسمية واحدة لهم.
ومن أقوال العلماء في تسميتهم:(46/200)
المعتزلة : ويرجع سبب التسمية إلى اعتزال أول زعيم لهم وهو واصل ابن عطاء الغزالي إلى حلقة الحسن البصري حينما ألقي رجل سؤالا عن مرتكبي الذنوب فبادر واصل إلى الجواب قبل أن يجيب الحسن (1)، ومن هنا تطور الأمر إلى اعتزال واصل ومن معه حلقة الحسن البصري فسموا معتزلة على سبيل الذم من قبل المخالفين لهم، على أن هذا التعليل لتسميتهم ليس أمرا متفقا عليه بل هناك عدة تعليلات واعتراضات وأجوبة أخرى (2).
وقد أخذت المعتزلة مبادئ كثيرة عن الجهمية، فقد أخذت القول بنفي رؤية الله تعالى ونفي الصفات والقول بخلق القرآن.
تسمية المعتزلة جهمية : ولهذا الاتفاق بين المعتزلة والجهمية في تلك المسائل العقدية، ولسبق الجهمية في الظهور، أطلق العلماء اسم الجهمية على المعتزلة، وذلك لأن المعتزلة هم الذين احيوا آراء الجهمية في مبدأ ظهورهم، حيث جاء المعتزلة ونفخوا في رمادهم وصيروها جمرا من جديد، ومن هنا استحق المعتزلة أن يطلق عليهم جهمية. فالجهمية أعم من المعتزلة فكل معتزلي جهمي، وليس كل جهمي معتزليا(3).
تسميتهم بالقدرية: بسبب موافقتهم القدرية في إنكار القدر وإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم، وهم لا يرضون بهذا الاسم ويرون أنه ينبغي أن يطلق على الذين يقولون بالقدر خيره وشره من الله تعالى لا عليهم، لأنهم لا يقولون بذلك، بل يقولون بان الناس هم الذين يقدرون أعمالهم. ولكن ابن قتيبة يرد عليهم ويرى أن نفي المعتزلة للقدر من الله تعالي وإضافته إلى أنفسهم يوجب أن يسموا قدرية، لأن مدعي الشيئ لنفسه أحق أن ينسب إليه (4)، وكان أول المتكلمين في القدر والمقررين له معبد الجهني وغيلان الدمشقي.
ومن أسمائهم الثنوية والمجوسية: وهم ينفرون من هذا الاسم، والذي حمل المخالفين لهم على تسميتهم به هو مذهب المعتزلة نفسه، الذي يقرر أن الخير من الله والشر من العبد، وهو يشبه مذهب الثنوية والمجوس الذي يقرر وجود إلهين: أحدهما للخير والآخر للشر.(46/201)
الوعيدية: وهو ما اشتهروا به من قولهم بإنفاذ الوعد والوعيد لا محالة، وأن الله تعالى لا خلف في وعده ووعيده، فلابد من عقاب المذنب إلا أن يتوب قبل الموت.
المعطلة : وهو اسم للجهمية أيضا ثم أطلق على المعتزلة لموافقتهم الجهمية في نفي الصفات وتعطيلها وتأويل ما لا يتوافق مع مذهبهم من نصوص الكتاب والسنة ,
وإذا كانت تلك الأسماء لم يرتاحوا إليها ولا يحبون التسمية بها,فإن هناك أسماء أخر اختاروها لأنفسهم وأخذوا يدللون على الأفضل.
وتلك الأسماء هي:
المعتزلة : وقد سبق أنه اسم ذم وهو كذلك إلا أن المعتزلة حينما رأوا ولع الناس بتسميتهم به أخذوا يدللون على أنه اسم مدح بمعنى الاعتزال عن الشرور والمحدثات واعتزال الفتن والمبتدعين على حد قوله تعالى:? واهجرهم هجرا جميلا ? (1).
أهل العدل والتوحيد أو "العدلية ": والعدل عندهم يعنى نفي القدر عن الله تعالى، أو أن تضاف إليه أفعال العباد القبيحة، والتوحيد عندهم يعنى نفى الصفات عن الله تعالى، وتسميتهم بالعدلية اسم مدح اخترعوه لأنفسهم.
أهل الحق: لأنهم يعتبرون أنفسهم على الحق ومن عداهم على الباطل.
الفرقة الناجية: لينطبق عليهم ما ورد في فضائل هذه الفرقة.
المنزهون الله : لزعمهم حين نفوا الصفات أنهم ينزهون الله، وأطلقوا على من عداهم وخصوصا أهل السنة أسماء جائرة كاذبة مثل: القدرية – المجيزة – المشبه – الحشوية – النابتة.
سلطان المعتزلة:
... ومهما كان، فلقد عظم أمر المعتزلة – الجهمية – واشتدت شوكتهم وقوى ساعدهم حينما استطاعوا اختطاف الخليفة العباسي المأمون إلى جانبهم، وحجبوا عنه كل فكر يخالف فكرهم، ووقع – رغم حبة للعلم والإطلاع – في يد أحمد بن ابي دؤاد، ومن ثم ناصر المعتزلة بكل ما لديه من قوة، بلا وأراد حمل كافة الناس على اعتناق المذهب المعتزلي، ورغب الناس فيه ورهبهم من تركه.(46/202)
... ولقي المسلمون عنتا شديدا منه، وفتن كثير من الناس، وأوذي الكثير من العلماء الأجلاء وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله. " وتسمى هذه الفترة بمحنة خلق القرآن، وقد بلغوا الذروة ثم أخذوا ينحدرون عنها، فلما جاء المتوكل وجد نارا تتقد في كل مكان وامتحانات وضربا وتشريدا ونفيا، كل ذلك جلب السخط العام على رجال الدولة، فأبطل المتوكل القول بخلق القرآن وأبطل المحاكمات ليكتسب تأييد الرأى العام، وبذلك نصر المحدثين نصرا مؤزرا، فأصبح القول بالاعتزال يتحدث به سرا بعد أن كان جهرا " (2).
الاتفاق بين المعتزلة والقدرية:
... ومن الجدير بالذكر أنه قد اتفقت مفاهيم المعتزلة مع القدرية في مسألة من أهم مسائل العقيدة، ألا وهى القدر وموقف الإنسان حياله، فذهبت المعتزلة والقدرية إلى القول بأن الله تعالى غير خالق لأفعال الناس، بل الناس هم الذين يخلقون أفعالهم بأنفسهم، وليس لله تعالى أي صنع في ذلك ولا قدرة ولا مشيئة ولا قضاء. وهذا تكذيب لله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام.
... وقد حملهم على ذلك قلة علمهم وعدم تصورهم أن يكون الله تعالى يأمر أو ينهى عن شيء وهو يعلم عاقبة ما سيئول إليه ذلك الشيء، فإن إثبات علم الله السابق ينافي أمره بالامتثال، وعلمه بالعصاة ينافى خلقه لهم وأمرهم بالطاعة كما يرى هؤلاء.(46/203)
... وكل هذا باطل، فإن الله تعالى يقول: ?والله خلقكم وما تعملون ( (1)، ويقول سبحانه وتعالى في نفاذ مشيئته: ?وما تشاءون إلا أن يشاء الله ( (2)، فمشيئة الإنسان ليست مستقلة عن مشيئة الله تعالى، والعبد مأمور بالامتثال ومنهي عن العصيان، وهو غير مسئول عن معرفة ما في القدر والأمور المغيبة، وإثبات علم الله تعالى لا ينافى الأمر بالامتثال، وعلمه بالعصاة لا ينافى خلقه لهم وأمرهم بطاعته، فقد علم الله كل ما سيفعله إبليس، ولكنه أمره بطاعته وبالسجود لآدم، وعلم أن الناس سيكون منهم الطائع والعاصي ولكنه أمر الجميع بطاعته، والعباد أعجز من أن يخلقوا أفعالهم بأنفسهم دون قدرة الله ومشيئة وقضائه.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الثالث
مشاهير المعتزلة القدرية الجهمية
... ظهر في المعتزلة الجهمية رجال كان لهم أثر بارز في انتشار أفكارهم وذيوعها بين الخاصة والعامة، فكان منهم المناظرون الخصمون والمؤلفون، بل ووصلوا إلى أخذ السلطة، واستجلاب الخلفاء إلى مبادئهم، كما سبق. ومن رجالهم المشاهير.
1- بشر بن السري ... ... ... ... ... 2- ثور بن زيد المدني
3- ثور بن يزيد الحمصي ... ... ... ... ... 4- حسان بن عطية المحاربي
5- الحسن بن ذكوان ... ... ... ... ... 6- داود بن الحصين
7- زكريا بن إسحاق ... ... ... ... ... 8- سالم بن عجلان
9- سلام بن عجلان ... ... ... ... ... 10- سلام بن مسكين
11- سيف بن سليمان المكي ... ... ... ... 12- شبل بن عاد.
13- شريك بن أبي نمير ... ... ... ... ... 14- صالح بن كيسان
15- عبد الله بن عمرو ... ... ... ... ... 16- عبد الله بن أبي لبيد
17- عبد الله بن أبي نجيح ... ... ... ... 18- عبد الأعلى بن عبد الأعلى
19- عبد الرحمن بن إسحاق المدني ... ... ... 20- عبد الوارث بن سعيد الثوري(46/204)
21- عطاء بن أبي ميمونة ... ... ... ... 22- العلاء بن الحا رث
23- عمرو بن أبي زائدة ... ... ... ... 24- عمران بن مسلم القصير
25- عمير بن هانيء ... ... ... ... ... 26- عوف الأعرابي
27- كهمس بن المنهال ... ... ... ... 28- محمد بن سواء البصري
29- هارون بن موسى الأعور النحوي ... ... 30- هشام الدستوائي
31- وهب بن منبه ... ... ... ... ... 32- يحيى بن حمزة الحضرمي
قال السيوطي: "هؤلاء رموا بالقدر وكلهم ممن روى له الشيخان أو أحدهما " (1)
وإضافة إلى ما ذكره السيوطي رحمه الله هنا، فإنه لم يقتصر خطأ المعتزلة الفاحش في مسألة القدر، إنما كان لهم خبط واضطراب في أهم قضية على الإطلاق ألا وهى توحيد الله عز وجل، في مذهبهم أن التوحيد هو نفى جميع الصفات التي وصف الله بها نفسه المقدسة، واستبدلوها بصفات يتنزه الله عن الاتصاف بها، وزعموا أنها هي الحق.
... وقد أورد الأشعري جملة اعتقاد المعتزلة في التوحيد وسرد عنهم عدة جمل يصفون بها الله عز وجل، زعموا أن ذلك هو توحيد الله تعالي وهو في الحقيقة إلحاد يؤدي إلى إنكار وجود الله تعالي، فقد وصفوة بصفات مبنية كلها على النفي المجرد، مملوءة بالتناقض والمستحيلات التي لا يمكن أن يوجد لها محل خارج الذهن لا تمت إلى توحيد الله بأى صلة، بل هي خيالات محضة وكذب على الله بغير دليل ولا أثاره من علم، ويمكن للقارئ أن يقف عليها في كلام الأشعري الآتي:(46/205)
... " أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وليس بجسم ولا شبح، ولا جثة ولا صورة، ولا لحم ولا دم ولا شخص، ولا جوهر ولا عرض، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة، ولا بذي حرارة ولا رطوبة ولا يبوسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق، ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين وشمال، وأمام وخلف، وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسسة ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن " (1).
... إلى أخر تلك الأوصاف التي ملئوا بها كتبهم وحشوا بها أذهان الناس، والتي لا يخرج القارئ منها بثمرة ولا يستفيد السامع فائدة تنفعه في دينه أو في دنياه لأنها جهل وخبط واضطراب فكري أدى إليه علم الكلام الذي جر على المسلمين الفتن وأنواع الشرور.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الرابع
ذكر أهم عقائد المعتزلة إجمالا
... وللمعتزلة - كغيرهم من الفرق الكلامية – آراء وأفكار ومعتقدات كثيرة تحتاج دراستها إلى مجلدات، غير أنه يمكن عرض أهم آرائهم بإيجاز في المسائل الآتية:
1 - اختلفوا في المكان لله تعالي:
1- فذهب بعضهم – وهم جمهورهم – إلى أن الله تعالى في كل مكان بتدبيره، وهذا قول أبي الهذيل والجعفرين، والإسكافي، ومحمد بن عبد الوهاب الجبائي.
2- وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا في مكان، بل هو على ما لم يزل عليه، وهذا هشام الفوطي وعباد بن سليمان وأبي زفر
2- ذهبوا إلى أن الاستواء هو بمعنى الاستيلاء في قول الله تعالي: ?الرحمن على العرش استوى ( (1).
3- اجمعوا على أن الله لا يرى بالأبصار.
4- اختلفوا في صفة الكلام لله تعالى:
1- فذهب بعضهم إلى إثبات الكلام لله تعالي.
2- وذهب بعضهم إلى إنكار ذلك.(46/206)
ولهم اختلافات كثيرة في مسائل دقيقة من مسائل الصفات والعقائد (2)، لا يستدعي المقام الدخول في تفاصيلها ,
وأهم ما أود التنبيه عليه هو أن أبرز سمات هذه الطائفة في باب الأسماء والصفات تظهر في:
إنكارهم الصفات وتعطيلها.
أنهم بنوا آراءهم ومعتقداتهم في أصول خمسة، لا يسمي الشخص معتزلياً إلا إذا حققها واعتقد صحتها، وسوف نبين هذه الأصول مع الرد عليها، حسب ما يقتضيه المقام من الإيجاز المفيد إن شاء الله تعالى.
وقبل بيان تلك الأصول أجدني على يقين من أن إنكار الصفات وتعطيلها في مفهوم الفكر المعتزلي أمر لا يجهله طلاب العلم، فقد استفاضت كتب الفرق والمقالات وكتب التاريخ والعقائد في بيان هذا الموقف الخاطئ للمعتزلة، وسموه مع ذلك توحيد الله تعالي، وتنزيها له.
لقد لبس الشيطان عليهم " حتى رأوا حسنا ما ليس بالحسن"، لانسياقهم في فلك أهل الكلام المذموم والفلسفة الدخيلة الممقوتة، فسموا ذمهم لله تعالى بإنكارهم لصفاته تعالى باسم ظاهره فيه الرحمة وباطنة من قبله العذاب، أي أن ظاهرة التنزيه ولكن باطنه تمام التشبيه والتعطيل، ولكن التسمية لا تغير الحقيقة عند عقلاء بني أدم في المسائل الاعتقادية التي يتوجب بسببها الطاعة والمعصية والحق والباطل. وكل هذه المواقف إنما جرتها كتب اليونان الفلسفية، التي وصفها أحد علماء اليونان بأنها ما دخلت بلدا إلا وأفسدت أهله.
لقد أساء المأمون الخليفة العباسي إلى الإسلام والمسلمين حين شجع ترجمة تلك الكتب ونشرها في ديار المسلمين، وحينما تضلع منها المعتزلة بدأت أفكارهم في الاضطراب، ولا أدل على هذا من إقدامهم على إنكار صفات الله تعالى الذي نتج عن جمعهم بين التشبيه والتعطيل ثم نفي تلك الصفات وسنذكر مزيدا من الرد عليهم إن شاء الله تعالي في دراسة أصول المعتزلة في الأصل الأول.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الخامس
الأصول الخمسة للمعتزلة بيانها، والرد عليها(46/207)
الأصول الخمسة هي إجمالا:
1- التوحيد.
2- العدل.
3- الوعد والوعيد.
4- القول بالمنزلة بين المنزلتين.
5- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ويذكر العلماء أنه لا يسمى الشخص معتزلياً حتى يقول بهذه الأصول الخمسة.
أ - أما الأصل الأول وهو التوحيد: فإنهم يقصدون به البحث حول صفات الله عز وجل وما يجب لله تعالي وما لا يجب في حقه.
وقد حرص المعتزلة على إنكار صفات لله تعالى بحجة أن إثباتها يستلزم تعدد القدماء وهو شرك على حد زعمهم، لأن إثبات الصفات يوحي بجعل كل صفة إلها، والمخرج من ذلك هو نفى الصفات وإرجاعها إلى ذات الباري تعالي فيقال: عالم بذاته قادر بذاته.. الخ، وبذلك يتحقق التوحيد في نظرهم.
الرد عليهم
... إن الرد على المعتزلة في نفى صفات الله عز وجل مما لا يجهله أي طالب علم، كما أن مذهب السلف في تقرير صفات الله عز وجل في أتم وضوح وأجلى حقيقة، فإن السلف رحمهم الله يثبتون صفات الله عز وجل كما جاءت في الكتاب والسنة دون تحريف أو تأويل، مع معرفتهم بمعانيها وتوقفهم في بيان كيفياتها، لأنهم يؤمنون بأن الكلام في صفة كل شيء فرع عن تصور ذاته، والله عز وجل له ذات لا تشبه الذات ولا يعلم أحد كيفيتها، وصفاته كذلك ثابتة على ما يليق بذاته جل وعلا.
... وهكذا ينبغي أن يكون معتقد المسلم، يصف الله بما وصف به نفسه في كتابه الكريم، وبما وصفه به رسوله الأمين نفيا وإثباتا. ولا يقف ما ليس له به علم، وقد علم أن طريقة السلف تتلخص في إثبات أسماء الله وصفاته على وجه لا يوحي بأي نوع من المماثلة والمشابهة على ضوء قول الله عز وجل: ?ليس كمثله شيء وهو السميع البصير((1) المتضمن رد التشبيه والتمثيل ورد الإلحاد والتعطيل.
... ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبا أصحابه حينما كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل: " أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، تدعون سميعا بصيرا قريبا " (2).(46/208)
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها - يعني قوله تعالى: ?سميعا بصيرا ( (3) ويضع أصبعيه، قال أبو يونس: وضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتي تليها على عينية (4)،
وهذا زيادة تأكيد في إثبات صفات الله تعالي، قال البيهقي " وأراد بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله بيان محلهما من الإنسان " (1)
... وصفاته عز وجل قديمة قائمة بذاته زائدة على الذات (2)، على التفضيل الصحيح عند السلف، لا كما ترى الفرق المخالفة للحق بأنها ذاته وليست بزائدة على الذات، لكي يتم لهم نفي الصفات مطلقا بزعم نفي التجزؤ أو التركيب أو تعدد القدماء وهو زعم باطل.
2- الأصل الثاني للمعتزلة: العدل:
يقول القاضي عبد الجبار في بيانه لمعنى العدل ودلالاته، وفى سبب تأخيره الكلام عليه بعد إيراد بحث التوحيد – يقول:
" وأما الأصل الثاني من الأصول الخمسة وهو الكلام في العدل. وهو كلام يرجع إلى أفعال القديم جل وعز وما يجوز عليه وما لا يجوز، فذلك أو جبنا تأخير الكلام في العدل عن الكلام في التوحيد " (3).
والذي يهمنا هنا هو بيات المراد بالعدل عندهم، حيث اتضح أنهم يريدون بالعدل ما يتعلق بأفعال الله عز وجل التي يصفونها كلها بالحسن ونفي القبح عنها – بما فيه نفي أعمال العباد القبيحة عن الله عز وجل رضاء وخلقا، لأن ذلك يوجب نسبة الفعل القبيح إلى الله تعالى وهو منزه عن ذلك لأن الله تعالى يقول: ?والله لا يحب الفساد((4)، (وما الله يريد ظلما للعباد ( (5)،
ويقول تعالى: ?إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضي لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم.. ( (5) الآية.
... وفى هذا الفهم الخاطئ يقول القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة: " أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنهم هم المحدثون لها " (6).(46/209)
... وقال في كتابه " المغني في أبواب العدل والتوحيد " تحت عنوان " الكلام في المخلوق ": " اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم. وأن من قال: إن سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه (7).
... فاتفق المعتزلة على أن الله تعالى غير خالق لأفعال العباد وأن العباد هم الخالقون لأفعالهم، مع أنهم يؤمنون بأن الله تعالي عالم بكل ما يعمله العباد وأن الله تعالي هو الذي أعطاهم القدرة على الفعل أو الترك.
ولهم في هذا الباب شبه كثيرة وجدال عقلي.
ومن تلك الشبه:
أن إثبات خلق الله تعالي لأفعال العباد فيه نسبة الظلم والجور إليه تعالى والله منزه عن ذلك.
ومنها آيات كثيرة في القرآن الكريم يستدلون بها، منها قول الله تعالي:
?ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت( (1)، ومأخذهم من هذه الآية كلمة "تفاوت"، وقد أخطأوا المراد منها حيث فسرها القاضي عبد الجبار بقوله:
" نفى الله التفاوت عن خلقه، فلا يخلو: إما أن المراد بالتفاوت من جهة الخلقة أو من جهة الحكمة، ولا يجوز أن يكون المراد به التفاوت من جهة الخلقة، لأن في خلقه المخلوقات من التفاوت ما لا يخفي، فليس إلا أن المراد به التفاوت من جهة الحكمة على ما قلناه. إذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة الله تعالي، لاشتمالها على التفاوت وغيره " (2).
الرد عليهم:
... مما لا شك فيه أن أفعال الله كلها حسنة لا قبيح فيها، إلا أن المعتزلة ارتكبوا مغالطات واضحة في فهم النصوص.
ذلك أن الظلم الذي نفاه الله عن نفسه هو وضع الشيء في غير موضعه أو وضع سيئات شخص على أخر، أو أن ينقص من حسنات المحسن، وهذا ظلم بلا شك والله منزه عنه.(46/210)
والخلاف إنما هو في حقيقته في خلق كل الأشياء وكل الأفعال، وأنها لا تخرج عن خلق الله وإرادته لها، قال تعالي: ?والله خالق كل شيء ( (3)، وقال تعالى: ?والله خلقكم وما تعملون ( (4)، وهؤلاء يقولون: الإنسان هو الذي يخلق فعله فرارا – بزعمهم – من نسبة خلق الأفعال إلى الله تعالي وإرادتها بزعمهم.
ولم ينظروا إلى أن الله عز وجل هو الخالق للعباد وأعمالهم، ولا يوجب ذلك أن يكون الله تعالي هو الفاعل لأعمالهم، فخلق الظلم والكذب والطاعة والمعصية، فمن فعل الظلم بأن غش الناس أو غصبهم أموالهم يقال له: غاش ومغتصب ومنتهب وسارق وفاجر.. إلى أخر الصفات، ولا ينسب إلى الله تعالى إلا باعتبار أقدار الله تعالي للعبد وشمول مشيئة لها لا أن الله هو الفاعل الحقيقي لتلك الجرائم، ولذلك حين جئ بسارق إلى عمر رضى الله قال له: لم سرقت؟ فقال السارق: قدر الله علي، فقال عمر: وأنا قدر الله على أن أقطع يدك " (5).
" ذلك أننا لسنا مطالبين بالوقوف على ما عند الله من الأقدار، إنما نحن مطالبون بالقيام بالأعمال التي يريدها الله والاجتناب عن مالا يريده، ورتب الله الحدود ومصالح الناس على هذا القدر ".
فالله تعالى خلق ظلما من اتصف به من الناس كان ظالما، وخلق كذبا من اتصف به كان كاذبا، وخلق طاعة من اتصف بها كان مطيعا، وقد ورد في الحديث:إن الله تعالى لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم " (6).
وأما بالنسبة لاستدلالهم بالآية الكريمة: ?ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ((1).
فقد فسروا التفاوت هنا بالحكمة، بينما الصحيح أن التفاوت المنفي هنا هو التفاوت في الخلقة، أي لا يوجد في خلق السموات والأرض من تفاوت، أي من عيب أو خلل، لقلة استوائهما بل هما في أدق تناسب وإتقان، فالمقصود بنفي التفاوت في الخلقة وليس في الحكمة كما فسروه.
وهناك آيات أخرى استدلوا بها ذكرها القاضي عبد الجبار في كتابه شرح الأصول الخمسة (2).(46/211)
ويلتحق بمسألة العدل مسائل من أهمها:
... الصلاح والصلح، واللطف من الله تعالى، وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام.
والصلح: كلمة محببة إلى النفوس، لأنها ضد الفساد.
والأصلح: كلمة توحي بأعمق من الصلاح، وقوة القرب من الخير والنفع.
والمعتزلة تؤكد أن الله تعالي لا يفعل بعبادة إلا الصلاح وما فيه نفعهم وجوبا عليه جلا وعلا، لأنه إذا لم يفعل ذلك كان ظلما لهم ونقصا مما فيه صلاحهم، بل وخلاف الحكمة في إيجاده لهم إذا لم يعنهم على ما كلفهم به، حسب ما يرى المعتزلة من الواجبات التي افترضوها على الله تعالى.
الرد عليهم:
... أمر الله وأرشد عبادة إلى أن يفعلوا كل ما فيه صلاحهم، وأن مرد ذلك يعود إليهم هم، وأن الله تعالى لا تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة المطيع، وقد كتب الله على نفسه الرحمة تفضلا منه، وحرم الظلم عدلا منه.
... والله تعالى يفعل بعباده الأصلح لهم، ولكن لا يجوز القول بالوجوب عليه جل وعلا على سبيل المعاوضة كما هو الحال بين المخلوقين.
فإن العباد لا يوجبون عليه شيئا وإنما هو الذي أوجب على نفسه تفضلا منه وكرما، لا أنه يجب عليه فعل الصلاح والأصلح بمفهوم المعتزلة الذي فيه إقامة الحجة عليه إن لم يفعل بهم ذلك، فإنه حسب معتقد هؤلاء يحق للكافر أن يقول: يا رب أنت خلقتني وزقتني ومكنتني من الكفر حتى مت كافرا، فلم أقدرتني على ذلك، ولم تعاملني بالأصلح كغيري من الناس الذين ماتوا على الإسلام؟
... ويحق كذلك لمن كانتا درجته نازلة في الجنة أن يقول: لما لم تمكني من الأعمال التي توصلني إلى ما وصل إليه غيري من الدرجات العلى؟
... ومذهب أهل السنة هو الحق، فلا إيجاب على الله إلا ما أوجبه على نفسه تفضلا منه وكرما، لأن العباد يستحقون عليه شيئا بإيجاب أحد من خلقه عليه.
... وكذلك مسألة اللطف من الله تعالى هي من الأمور الثابتة، لكن ليس على سبيل الإيجاب على الله تعالى كما ترى المعتزلة.(46/212)
... بل اللطف من الله بمحض تفضله جل وعلا وكرمه ومنه عليه بالتوفيق إلى فعل الخيرات وترك المحذورات، ولا يجوز القول بوجوب فعل اللطف على الله تعالى.
... قال تعالي: ?ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ( (1)
... فقد لطف الله بعباده إذ لم يتبعوا الشيطان جملة، حيث بصرهم بعواقب طاعة الشياطين وبين لهم أضرار ذلك، ثم لطف بهم وقوى عزيمتهم على عصيان الشيطان تفضلا منه تعالي وليس بإيجاب أحد عليه.
... وأما إرسال الرسل فإنه من جملة ما توجيه المعتزلة على الله تعالى، لأنه إذا لم يفعل ذلك كان مخلا بما هو واجب عليه، لأن صلاح العباد يتعلق بإرسال الرسل لتعريف الناس، وما دام صلاح العباد يتوقف على إرسالهم فإن إرسالهم يكون واجبا عليه، لأن إرسالهم هو مقتضى العدل الذي يتم به صلاح الخلق.
الرد عليهم:
... قد عرفنا فيما سبق أنه لا يجوز لأحد أن يوجب على الله تعالي شيئا، فهو رب العباد وخالقهم ومالكهم يتصرف فيهم كما يشاء فلا موجب عليه إلا ما أوجبه هو على نفسه تفضلا وكرما.
... وقد اقتضت حكمته تعالى أن يرسل الرسل وأن يعذر إلى الخلق فلا يعذب أحدا إلا على مخالفته لرسله قال تعالى: ?وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( (2)، وقال تعالى: ?ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ( (3)، وهذا من تفضله وكرمه على عباده ولطفه بهم، لا أن أحدا أوجبه عليه كما ترى المعتزلة.
3- الأصل الثالث: الوعد والوعيد:
1 - الوعد:
الوعد في مفهوم المعتزلة عرفه القاضي عبد الجبار بقوله:
... "أما الوعد فهو كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه في المستقبل، ولا فرق بين أن يكون حسنا مستحقا وبين ألا يكون كذلك، ألا ترى أنه كما يقال: أنه تعالى وعد المطيعين بالثواب، فقد يقال: وعدهم بالتفضل مع أنه غير مستحق، وكذلك يقال: فلان وعد فلانا بضيافة في وقت يتضيق عليه الصلاة مع أنه يكون قبيحا " (4)(46/213)
... قال: " ولابد من استقبال الحال في الحدين (5) جميعا، لأنه إن نفعه في الحال أو ضره مع القول لم يكن واعدا ولا متوعدا " (6).. إلى أن قال في بيان علوم الوعد والوعيد في مفهومهم: " وأما علوم الوعد والوعيد فهو أنه يعلم أن الله وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب وأنه يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف والكذب " (7).
... هذا هو مذهب المعتزلة، يوجبون على ربهم أن ينفذ وعده وأن يعطي العبد أجر ما كلفه به من طاعات استحقاقا منه على الله مقابل وعد الله له إذا التزم العبد بجميع التكاليف التي اختارها الله وكلف بها عباده.
وقد أورد المعتزلة لتأييد مذهبهم هذا بعض النصوص التي فهموا منها وجوب إنفاذ الله وعده، وهى آيات من القرآن الكريم وبعض الشبه العقلية، منها قول الله عز وجل: ?ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ( (1).
... وموضع الشاهد من الآية هو قوله تعالى: (فقد وقع أجره على الله (، حيث فسروا هذا الوقوع بمعني الوجوب، أي فقد وجب ثوابه على الله استحقاقا، لأن العمل في رأيهم من موجبات الثواب.
... واستدلوا أيضا على ذلك من العقل بأن الله مادام قد كلف عباده بالأعمال الشاقة فلابد أن يكون لها مقابل من الأجر، وإلا لكان ذلك ظلما، والله منزه عن الظلم، فلا يجوز على الله تعالي – في نظرهم – أن يوجب العمل ولا يوجب له جزاء.
... والواقع أن ما استدلوا به من الآية والشبهة العقلية إنما بنوه على مسألة وجوب دخول الجنة بالعمل وهى من المسائل الهامة، وقد أورد الحافظ ابن حجر فيها عدة معاني للعلماء حول مفهوم الحديث الذي روته عائشة رضى الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سددوا وقاربوا وابشروا، فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة " (2).(46/214)
... وحول مفهوم الآيات التي تفيد أن دخول الجنة لا يكون إلا بالعمل لقوله تعالى: ?يقولون سلام عليكم أدخلوا الجنة بما كنتم تعملون ( (3).
... وبين الآيات التي تفيد أن دخولها إنما هو تفضل من الله تعالى لقوله عز وجل في إخباره عن كلام أهل الجنة وغبطتهم بما هم فيه: ?الذي أحلنا دار المقامة من فضله ( (4).
... فهل يكون دخول الجنة استحقاقا بالعمل كما ترى المعتزلة، أم إن دخولها إنما هو بفضل الله مضافا إليه العمل؟
... والحق أن دخول الجنة إنما هو بفضل الله أولا وأخيرا، وليس للعبد على ربه أي استحقاقا غير أن الله تعالي أوجب على نفسه أنه لا يظلم عمل عامل من ذكر أو أنثي، فجعل العمل من الأسباب دخول الجنة، والسباب نفسها إنما هي تفضيل من الله تعالى.
فاتضح أن استدلال المعتزلة بالآية السابقة وغيرها في وجوب الثواب – بمعني أن الله تعالى يجب عليه شيء لم يوجبه هو على نفسه – استدلال خاطئ، فإن الله تعالي لا يستطيع أحد من خلقه أن يوجب عليه شيئا لم يوجبه هو على نفسه.
فالخلق عبيده وله عليهم من النعم ما لا يقومون بشكر أقلها، ومع ذلك فإن الله تعالى لا يخلف وعده، فإنه يعطي العبد ما وعده به من الخير بحكم وعده وكرمه، وفرق بين وقوع ذلك على هذه الصفة وبين وقوعه استحقاقا.
هذا الجواب يدفع كذلك شبهتهم العقلية التي بنوها على المعارضة بينهم وبين الله عز وجل وقد علمت خطأ هذا التصور (1)، وأن نعمة واحدة لا تفي بها أعمال العبد مهما كثرت، ولكن الله تعالي جعل العمل مع رحمة الله تعالى من أسباب دخول الجنة.
2 - الوعيد:
والوعيد في مفهوم المعتزلة سبق بيانه في كلام القاضي عبد الجبار من أن الله يفعل ما وعد به توعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف والكذب ".(46/215)
والمقصود بالوعيد هنا هو ما يتعلق بأحكام المذنبين من عصاه المؤمنين إذا ماتوا من غير توبة، وقد أوضح المعتزلة رأيهم في هذا وهو أن أصحاب الكبائر إذا ماتوا من غير توبة فإنهم يستحقون بمقتضى الوعيد من الله النار خالدين فيها إلا أن عقابهم يكون أخف من عقاب الكفار (2)
شبههم:
... للمعتزلة شبهات في تأييدهم لمذهبهم بإنفاذ الوعيد لا محالة، وقد استدلوا من القرآن الكريم بكل آية يذكر فيها عقاب العصاة بالنار والخلود فيها، وهى آيات كثيرة مثل قوله عز وجل: ?إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين ( (3).
... وقوله تعالى: ?بلي من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( (4).
وآيات أخرى كثيرة يدل ظاهرها على هذا المفهوم.
والواقع: أن مسألة تخليد أصحاب الذنوب في النار من المسائل التي بحثها المعتزلة وأهل السنة، وأطالوا فيها الكلام وكثر فيها الخصام، وأود إيجاز النتيجة في ما يلي:
إن استدلال المعتزلة لما يذهبون إليه من إنفاذ الوعيد لا محالة، وأن أصحاب الكبائر والذنوب من المؤمنين مخلدون في النار حتما قول غير مسلم، وهو خطأ في فهم النصوص وحمل لها على غير معانيها الصحيحة، فإن الآيات لا تدل على خلود أصحاب المعاصي من المؤمنين خلودا أبديا حتميا، ذلك أن الله عز وجل قد يعفو عنهم ابتداء وقد يعذبهم بقدر ذنوبهم ثم يخرجهم الله بتوحيدهم وإيمانهم، لأنه لا يخلد في النار إلا من مات على الشرك الذي أخبر عز وجل أنه لا يغفر لصاحبه، وأما ما عدا الشرك فإن الله تعالي يغفره.(46/216)
ومن ناحية أخرى، فإن خلف الوعيد من فعل الكرام وهى صفة مدح، بخلاف خلف الوعد فإنها صفة ذم، والله عز وجل يتنزه عنها، بخلاف الوعيد فإنه يعتبر من باب التفضل والتكرم وإسقاط حق نفسه، وهذا هو مذهب السلف أهل السنة والجماعة. وما ذهب إليه المعتزلة من منع إخلاف الوعيد وزعمهم أنه من الكذب فهو إلى سوء الظن أقرب، وهو تحكم على الله عز وجل، والله تعالى يفعل ما يشاء.
وقد أجمل الطحاوي مذهب أهل السنة في كلامه الآتي: " وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين (1) وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: ?ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( (2)، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالي تولى أهل معرفته ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته (3).
وهذه الشفاعة التي أشار إليها الطحاوي رحمه الله للمعتزلة فيها موقف مخالف لموقف أهل الحق.
وذلك أن المعتزلة لا ترى الشفاعة لأحد في الآخرة إلا للمؤمنين فقط دون الفساق من أهل القبلة، فلا شفاعة لأهل الكبائر، لأن إثبات ذلك يؤدي إلى خلف وعيد الله، وخلف الوعيد عندهم يعتبر كذبا والله يتنزه عن الكذب.
ثم استدلوا بالآيات الواردة في نفي الشفاعة عن غير المؤمنين الفائزين كقوله تعالى: ?واتقوا يوما لا تجرى نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ( (4).
وكذا قوله تعالي: ?ولا يشفعون إلا لمن ارتضي ( (5)، أي والفساق غير راضي عنهم فلا تصح الشفاعة فيهم.
وقوله تعالى: ?ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ( (6).. إلى غير ذلك من الآيات الواردة بهذا المعنى.(46/217)
ولا ريب أن المعتزلة جانبوا الصواب في الحكم بنفي الشفاعة في العصاة، فإن القول بإثبات هذه الشفاعة مما هو ثابت متواتر عن السلف، لثبوت الأحاديث المتواترة بذلك وإجماع علماء الإسلام عدا المعتزلة.
والذي جر المعتزلة لهذا الخطأ خطأ أخر، وهو أن من عقائدهم أن السيئات يذهبن الحسنات, فلو أتى الشخص بحسنات كالجبال , ثم جاء بعدها بسيئة , فإن تلك الحسنات تحبط بمجرد صدور المعصية.
ومذهب السلف أنه لا شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة عن الإسلام والرجوع إلى الكفر، كما أن تكفير جميع السيئات عن المذنب لا يكون إلا بالتوبة.
وفى هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" والتحقيق أن يقال: إن الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما أن ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه، فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط، لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة، لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب وهذا متفق عليه بين المسلمين، فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات وأن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، إلى أن قال: " فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة " (1).
4 - الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين
تدور هذه المسألة حول الحكم على مرتكب الكبيرة، حينما طلب إلى الحسن البصري أن يبين الحكم في صاحب الكبيرة، وما تلا ذلك من جواب واصل بن عطاء، ثم اشتداد الخلاف بعد ذلك واعتزال واصل وجماعته حلقة الحسن البصري.(46/218)
وقد قدمنا أن قضية مرتكبي الذنوب كانت هي الحصيلة الحتمية عند المعتزلة لمواقف الفرق الأخرى من خوارج ومرجئة وأهل السنة أيضا، بسبب ما استجد بين المسلمين من أحداث خطيرة سياسية، ابتداء من قتل عثمان رضي الله عنه وانتهاء بأصحاب المعاصي أيا كان عصيانهم.
وقد أجمعت المعتزلة على قضية المنزلة بين المنزلتين واعتبروها أصلا من الأصول الثابتة.
وتلقب هذه المسألة حسب ما يذكره القاضي عبد الجبار " بمسألة الأسماء والأحكام " (2).
وقد بين اصطلاح المتكلمين في معنى المنزلة بين المنزلتين بقوله:
" والأصل في ذلك أن هذه العبارة إنما تستعمل في شيء بين شيئين ينجذب إلى كل واحد منهما بشبه. هذا في أصل اللغة، وأما في اصطلاح المتكلمين فهو العلم بأن لصاحب الكبيرة اسما بين الاسمين وحكما بين الحكمين على ما يجئ من بعد " (3).
وما أحال إليه هنا في قوله: " على ما يجئ من بعد " قد شرحه تحت عنوان: " الأصل الرابع: وهو الكلام في المنزلة بين المنزلتين "، قال فيه: " أعلم أن هذا الفصل كلام في الأسماء والأحكام ويلقب بالنزلة بين المنزلتين، ومعنى قولنا: إنه كلام في أسماء الأحكام، هو أنه كلام في أن صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين، لا يكون اسمه اسم الكافر ولا اسمه اسم المؤمن وإنما يسمى فاسقا وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث، وهذا الحكم الذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين، فإن صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلة الكافر ولا منزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما " (4).
والمقصود أن المعتزلة يريدون بالمنزلة بين المنزلتين المؤمن صاحب المعاصي، فهو عندهم ليس بمؤمن ولا كافر بل يفرد له حكم ثالث وهو تسميته " فاسقا" في الدنيا، والحكم بخلوده في النار في الآخرة، فاختلف اسمه وحكمه في الدنيا فاستحق أن يكون في منزلة بين المنزلتين.(46/219)
والذي حيرهم في أمر الفاسق هو أنه من جهة ليس بمؤمن، لأن حكم المؤمن لا ينطبق عليه في الواقع لمجيئه بأعمال غير المؤمنين في بعض أموره، وهو كذلك ليس بكافر تماما لمجيئه بأعمال المؤمنين في بعض أموره، إذا فهو فاسق، والفسق اسم ذم، وما ثبت له اسم الذم انتقى عنه اسم المدح، وقد توعد الله الفساق بالنار فحكمه في الآخرة الخلود فيها.
ويرد عليهم: ببيان حكم مرتكب الكبيرة في الشرع، هل حكم بكفره وإخراجه من الملة أو حكم بإيمانه الإيمان الكامل، أو هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.
الواقع: أن العاصي غير خارج من الملة بفسقه بل هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولم تخرجه النصوص عن الإيمان لا في كتاب الله ولا في سنة نبيه، ولا في إجماع الأمة، وفى هذا يقول الطحاوي: "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله " (1).
وقد أجاب الشارح ابن أبي العز الحنفي حول ما ورد من تسمية الشارع لبعض الذنوب كفرا مثل قول الله تعالى: ?ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ( (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(3).
وأمثلة أخرى كثيرة يفيد ظاهرها إطلاق كلمة الكفر على من اقترف ذنبا من تلك الذنوب.
ثم أجاب عن ذلك كله فقال:(46/220)
" والجوانب: أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية – كما قالت الخوارج – إذ لو كفر كفرا ينقل عن الملة لكان مرتدا يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولا القصاص ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام، ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين – كما قالت المعتزلة – فإن قولهم باطل أيضا، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ( (4) إلى أن قال: ?فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف (، فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا وجعله أخا لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بلا ريب، وقال تعالى: ?وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ( إلى أن قال: ?إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم ( (5)
ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار " (6) فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه "، ثم أورد حديث المفلس (7) وقول الله تعالى: ?إن الحسنات يذهبن السيئات ( (8)، ثم قال: " فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته " (9).(46/221)
وهذا جواب نفيس جامع لفوائد عظيمة وفيه بيان جلي لمذهب السلف في هذه القضية التي أخطأ فيها المعتزلة وجعلوا العصاة في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، وحكموا بخلودهم في النار في الآخرة، ولم يلتفتوا إلى مشيئة الله تعالى في أولئك وهو الفعال لما يريد جل وعلا – فقطعوا عنه المشيئة، ثم زادوا الخطأ بآخر حينما حكموا بخلوده في النار مع من مات على الشرك ولم يسجد لله سجدة، ولا شك أن العقل يأبى هذا الحكم مع أنهم ممن يقدر العقل ويقدمه على النقل، ولكن الهوى يغطي على العقل والفهم إلا من وفقه الله تعالي.
5- الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
هذا هو الأصل الأخير من أصول المعتزلة الخمسة.
... وقد بين القاضي عبد الجبار حقيقة الأمر، والنهي، والمعروف، والمنكر، فقال: " أما الأمر: فهو قول القائل لمن دونه في الرتبة: أفعل، والنهي هو قول القائل لمن دونه: ولا تفعل.
... وأما المعروف: فهو كل فعل عرف فاعله حسنه أو دل عليه، ولهذا لا يقال في أفعال القديم تعالى: معروف، لم يعرف حسنها ولا دل عليها.
... وأما المنكر: فهو كل فعل عرف فاعله قبحه أو دل عليه، ولو وقع من الله تعالي القبيح لا يقال: أنه منكر، لما لم يعرف قبحه ولا دل عليه " (1).
... ومعنى التعريف أن المعروف والمنكر لابد أن يتضح أمرهما عند الشخص بأن يرى حسن المعروف ويدلل عليه، ويرى قبح المنكر ويستطيع أن يدلل عليه، وهذا بخلاف ما لو وقع من الله – افتراضا – فعل القبيح فإنه لا يستطيع أن يدلل عليه، ولذا فلا يوصف بالمنكر.
... والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبران من فروض الكفايات عند المعتزلة إذا قام بهما من يكفي سقط عن الباقين، وحكمها عموما الوجوب الكفائي.
... وقد استدل المعتزلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأدلة كثيرة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية والإجماع.(46/222)
... فمن القرآن الكريم قوله تعالى: ?كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ((2)، قال عبد الجبار: " فالله تعالى مدحنا على ذلك فلولا أنها من الحسنات الواجبات وإلا لم يفعل ذلك " (3).
... قال عبد الجبار: " وأما من السنة فهو قول النبي: " ليس لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل"(4).
... قال: " وأما الإجماع فلا إشكال فيه، لأنهم اتفقوا على ذلك " (5)، وقد توافق أهل السنة والمعتزلة في حكم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كونه من الواجبات على الكفاية، وهو ما قرره الله تعالي في كتابه الكريم حيث قال: ?ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ((1)، وإلا أنه وقع خلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يلي:
1- طريقة تغيير المنكر.
2- أوجبوا الخروج على السلطان الجائر.
3- حمل السلاح في وجوه المخالفين لهم سواء كانوا من الكفار أو من أصحاب المعاصي من أهل القبلة.
فأما طريقة تغيير المنكر: فقد ساروا فيها عكس الحديث الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم موقف المسلم إزاء تغيير المنكرات.
... عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "
... إذ إن تغيير المنكر عندهم يبدأ بالحسنى ثم باللسان ثم باليد ثم بالسيف، بينما الحديث يرشد إلى العكس، وهو ما يذهب إليه أهل الحق، من أن تغيير المنكر يبدأ بالفعل باليد إذا لم يترتب عليه مفاسد، والتغيير باليد هنا لا يكون بالسيف، وإنما هو إزالة المنكر بدون قتال ولا فتح باب فتنة أكبر من المنكر المراد إزالته.(46/223)
... فإن لم يتمكن الشخص من التغيير باليد انتقل إلى التغيير باللسان، فإن وصل الحال إلى عدم الاستطاعة من التغيير باللسان بأن كان الشر هو الغالب على الخير، فليكتف بالتغيير بالقلب من كراهة المنكر وتمنى زواله وبغضه وبغض أهله، ومع هذا فلا مكان للسيف هنا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرشد إليه، ولما فيه كذلك من جر الأمة إلى ما هو أكبر من تغيير ذلك المنكر، بخلاف المعتزلة فإنهم لا يرون حرجا في حمل السلاح لتغيير المنكر.
... وأما الخروج على السلطان الجائر فقد أوجبه المعتزلة، والواقع أن جور السلطان وارتكابه المعاصي لا يوجب الخروج عليه لما يترتب على ذلك من المفاسد ومن سفك الدماء وتفريق كلمة الأمة، فإن الإسلام لا يبيح الخروج عليه إلا عندما يظهر الكفر منه صراحة.
... وأما حمل السلاح في وجوه المخالفين لهم من أهل القبلة فلا دليل لهم على ذلك، ولا يجوز أن يستحيل دم المسلم إلا بما حدده الشرع، وصاحب الكبيرة ليس بكافر، فلا يجوز قتاله واستحلال دمه ولم يأمر الشرع بذلك، فيجب على المسلم الالتزام وترك تنطع الخوارج والمعتزلة.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الباب الرابع عشر
" الأشاعرة أو السبعية "(*)
وفيه المطالب الآتية:
1- ظهور الأشاعرة:
ظهرت الأشعرية بعد أن تنفس الناس الصعداء من سيطرة المعتزلة في القرن الثالث الهجري.
وهى في الأصل نسبة إلى أبي الحسن الأشعري، ظهر بالبصرة وكان أول أمره على مذهب المعتزلة ثم تركه واستقل عنهم، ولقد أصبح الانتساب إلى الأشعري هو ما عليه أكثر الناس في البلدان الإسلامية.
بعضهم على معرفة بمذهبه الصحيح وآرائه التي استقر عليها أخيرا، وبعضهم على جهل تام بذلك وبعضهم يتجاهل ويصر على مخالفته مع انتسابه إليه.(46/224)
وانتساب الأشاعرة إليه إنما هو بعد تركه للاعتزال وانتسابه إلى ابن كلاب، وهى المرحلة الثانية من المراحل التي مر بها الأشعرية، ولم يدم فيها إذ رجع إلى مذهب السلف، ولكن بعض الأشاعرة ينتسبون إليه ولكن في مرحلته الثانية، ومن انتسب إليه في مرحلته الثالثة فقد وافق السلف، ونذكر فيما يلي نبذة موجزة عنه.
2 - أبو الحسن الأشعري:
هو علي بن إسماعيل الأشعري ينتسب إلى أبي موسى الأشعرية، وهو أحد علماء القرن الثالث، تنتسب إليه الأشعري، ولد في البصرة سنة 250 هـ وقيل: سنة 270 هـ وتوفى سنة 330 هـ على أحد الأقوال.
تعمق أولا في مذهب المعتزلة وتتلمذ على أبي علي الجبائي محمد بن عبد الوهاب أحد مشاهير المعتزلة، إلا أن الله أراد له الخروج عن مذهبهم والدخول في مذهب أهل السنة والجماعة، وتوج ذلك بما سجله في كتاب " الإبانة عن أصول الديانة ".
ومما يذكر عن سيرته أنه كان دائما يتململ من اختلاف الفرق في وقته وينظر فيها بعقل ثاقب، فهداه الله إلى الحق واقتنع بما عليه السلف من اعتقاد مطابق لما جاء في القرآن والسنة النبوية فكان له موقف حاسم في ذلك.(46/225)
ومما يدل على ذكائه وطلبه للحق وإفحامه لخصمه في المحاجة أنه سأل أستاذه (1) أبا علي الجبائي عن ثلاثة أخوة كان أحدهم مؤمنا برا تقيا. والثاني كان كافراً فاسقاً شقياً، والثالث كان صغيرا، فماتوا فكيف حالهم؟ فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات وأما الصغير فمن أهل السلامة. فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟ فقال الجبائي: لا لأنه يقال له: أخوك إنما وصل إلى هذه الدرجات بطاعاته الكثيرة وليس لك تلك الطاعات، فقال الأشعري: فإن قال: ذلك التقصير ليس مني فإنك ما أبقيتني على الطاعة، فقال الجبائي: يقول البارئ جل وعلا: كنت أعلم لو بقيت لعصيت وصرت مستحقا للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك، فقال الأشعري: فلو قال الأخ الأكبر يا إله العالمين كما علمت حاله فقد علمت حالي فلم راعيت مصلحته دوني؟ فانقطع الجبائي.
... لقد كان الأشعري إماما فذا كثير التأليف واسع الإطلاع محببا إلى الناس، ولهذا تجد أن كل طائفة تدعي نسبته إليها " فالمالكي يدعي أنه مالكي، والشافعي يزعم أنه شافعي، والحنفي كذلك " (2).
3 - عقيدة الأشعري:
علمنا فيما مضى أن الأشعري كان على مذهب المعتزلة ومن العارفين به، وأنه أقام عليه مدة أربعين سنة ومما يذكره العلماء عن سيرته ورجوعه عن الاعتزال ومذهب ابن كلاب إلى المذهب الحق، أنه مكث في بيته خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الناس وفى نهايتها خرج في يوم جمعة، وبعد أن انتهى من الصلاة صعد المنبر وقال مخاطبا من أمامه من جموع الناس:
" أيها الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله تعالى لا يرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع متصد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم.(46/226)
معاشر الناس إنما تغيبت عنكم هذه المدة، لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة ولم يترجح عندي شيء على شيء فاستهديت الله تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقد كما انخلعت من ثوبي هذا "، وانخلع من ثوب كان عليه. ودفع الناس ما كتبه على طريقة الجماعة من الفقهاء والمحدثين (1).
وحينما أنضم إلى أهل السنة والجماعة، فرحوا به فرحا شديدا، واحترموه وعرفوا قدرة وإخلاصه وتوجهه إلى الحق بيقين ثابت، وصارت أقواله حجة وآراؤه متبعة، بينما ثار عليه أهل الاعتزال وذموه بأنواع الذم غيظا عليه، لوقوفه في وجوههم وإبطال آرائهم المخالفة للحق وتركه لمذهبهم، خصوصا وأنه كان من المتعمقين في مذهبهم والعارفين بعواره.
ومما ينبغي ملاحظته أن ينتبه طالب العلم إلى تمويه المغرضين ممن يزعم أن الأشعري لم يتب عن الاعتزال، وأن الإبانة مدسوسة عليه، وهو كذب ليس له ما يسنده، بل الصحيح الذي عليه عامة علماء السلف أن الأشعري رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة وتاب من كل ما يخالفه، كما صرح بذلك في كتبه كالإبانة وغيرها من مؤلفاته النافعة (2).
وعلى هذا فإن الأشعري مر بثلاثة أحوال في عقيدته:
الحال الأول: حال الاعتزال.
الحال الثاني: إثبات الصفات العقلية السبع: وهى الحياة – والعلم – والقدرة – والإرادة – والسمع – والبصر – والكلام. وتأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك.
الحال الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريا على منوال السلف كما في الإبانة التي نوه بها أحد معاصري الأشعري فقال بمدحه:
غير الإبانة واللمع
تفنن في العلوم بما جمع
مما قد صنع
أخذا بأحسن ما استمع
ين ومن تصفحها انتفع
فوق المنابر في الجمع
أهل الكنائس والبيع
ترك المحجة وابتدع(1)(46/227)
لو لم يصنف عمره
لكفي فكيف عمره
مجموعة تربي على المئين
لم يأل في تصنيفها
فهدى بها المسترشد
تتلى معاني كتبه
ويخاف من إفحامه
فهو الشجا في حلق من
وفى كتابه الإبانة توضيح تام لعقيدته السلفية ومتابعته لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، فارجع أيها القارئ الكريم إلى هذا الكتاب واقرأة، وخصوصا الباب الذي عنوانه " باب في إبانة قول أهل الحق والسنة " تجد فيه العقيدة السلفية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
... وأرى أنه من باب تيسير الإطلاع على ما في هذا الباب أن أنقله بطولة لعظيم نفعه وعموم فائدته، في كلام عذب وعبارات جميلة لا يمل القارئ من قراءته، فإليك مضمون ما فيه بحروفه، أسأل الله النفع للجميع.
عقيدته كما بينها في كتابه " الإبانة":
قال رحمه الله تعالى:
باب في إبانة قول أهل الحق والسنة
فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قبل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون. وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل – نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته – قائلون ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وخليل معظم مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين.(46/228)
وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسوله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبه ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور وأن الله استوى على عرشه كما قال: ?الرحمن على العرش استوى ( (2)، وأن له وجها كما قال: ?ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ( (3)، وأن له يدين بلا كيف كما قال: ?خلقت بيدي ( (4)، وكما قال: ?بل يداه مبسوطتان ( (5)، وأن له عينا بلا كيف كما قال: ?تجري بأعيننا ( (6)، وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا، وأن لله علما كما قال: ?أنزله بعلمه ( (1)، وكما قال: ?وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه((2).
ونثبت له السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج، ونثبت أن لله قوة كما قال: ?أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة( (3)، ونقول: إن كلام الله غير مخلوق وإنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له: كن فيكون كما قال: ?إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( (4) وإنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل وإن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله الله ولا نستغني عن الله ولا نقدر على الخروج من علم الله عز وجل، وإنه لا خالق إلا الله، وإن أعمال العبد مخلوقة لله مقدورة كما قال: ?خلقكم وما تعملون ( (5) وإن العباد ولا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون كما قال: ?هل من خالق غير الله ( (6)، وكما قال: ?لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ((7)، وكما قال: ?أفمن يخلق كمن لا يخلق ( (8)، وكما قال: ?أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ( (9)، وهذا في كتاب الله كثير.(46/229)
وإن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر إليهم وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين كما قال تبارك وتعالى: ?من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون( (10)، وإن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وإنه خذلهم وطبع على قلوبهم، وإن الخير والشر بقضاء الله وقدره وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله، وأنا نلجئ أمورنا إلى الله ونبث الحاجة والفقر في كل وقت إليه، ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وإن من قال بخلق القرآن فهو كافر.
وندين بأن الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة، كما قال الله عز وجل: ?كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون( (11)، وإن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا، وإن الله سبحانه وتعالي تجلى للجبل فجعله دكا فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا، ونرى بألا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمور، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون. ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبههما مستحلا لها غير معتقد لتحريمها كان كافرا.
ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمان، وندين بأنه يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل (1)، وأنه عز وجل يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع (2) كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(46/230)
وندين بألا ننزل أحدا من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين.
ونقول: عن الله عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وأن الميزان حق والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين.
وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحية في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وندين (3) بحب السلف الذين اختارهم الله عز وجل لصحبه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ونثني عليهم بما أثني الله به عليهم ونتولاهم أجمعين.
ونقول: إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة، وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، ثم عثمان بن عفان رضى الله عنه وأن الذين قاتلوه قاتلوه ظلما وعدوانا، ثم علي بن أبي طالب رضى الله عنه، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة، ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم. وندين لله بأن الأئمة الأربعة خلفاء راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم.(46/231)
ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ وسائر ما نقلوه واثبتوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل، ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول: إن الله عز وجل يجئ يوم القيامة كما قال: ?وجاء ربك والملك صفا صفا ( (4)، وإن الله عز وجل يقرب من عباده كيف شاء كما قال: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد( (5)، وكما قال: ?ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى( (1)، ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وغيره، كما روى عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج.
... وإن المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافا لقول من أنكر ذلك، ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح ولإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة.
... وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال في الفتنة، ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومسائلتهما المدفونين في قبورهم (2)، ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام ونقر أن لذلك تفسيرا، ونرى الصدقة عن موتي المسلمين والدعاء لهم ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك، ونصدق بأن في الدنيا سحره وسحرا وأن السحر كائن موجود في الدنيا، وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وتوارثهم.(46/232)
... ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله عز وجل يرزقها عبادة حالا وحراما، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عز وجل: ?الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ( (3)، وكما قال: ?من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ( (4)، ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله عز وجل بآيات يظهرها عليهم.
... وقولنا في أطفال المشركين: إن الله يؤجج لهم في الآخرة نارا ثم يقول لهم: اقتحموها كما جاءت بذلك الرواية، وندين لله عز وجل بأنه يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون، وما كان يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقى منه مما لم نذكره بابا بابا وشيئاً شيئاً إن شاء الله تعالى (5).
4 - أشهر زعماء الأشعرية الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري:
لقد انتسب إلى الأشعري جماعة من المشاهير كان لهم الباع الطويل في تحرر المذهب الذي ينتسبون إليه. إلا إنهم لم يكونوا على طريقة أبي الحسن الأشعري والمتقدمين من أصحابه في إثبات الصفات.
ومن كبار أولئك الرجال:
أبو بكر الباقلاني المتوفي سنة 403 هـ.
البيضاوي المتوفي سنة 701 هـ.
الشريف الجرجاني المتوفي سنة 816 هـ.
وكذا الإمام الجويني (الأب)، وهو أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين المتوفى سنة 438 هـ.
وكذا ابنه إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف المتوفى سنة 478 هـ. والجويني نسبة إلى بلدة في فارس تسمى " جوين" وقد سمى إمام الحرمين، لأنه مكث أربع سنوات ثم عرج على المدينة المنورة وكان يدرس فيهما ويناظر.(46/233)
ومن أولئك أيضا: الغزالي – أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الطوسي الملقب حجة الإسلام، توفى سنة 505 هـ وهو ينسب إلى طوس.
ومنهم: أبو الفتح محمد بن أبي القاسم عبد الكريم الشهرستاني ولد سنة 467 هـ وتوفى سنة 548 هـ.
ومنهم: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الطبرستاني، الرازي المولد، الملقب فخر الدين، المعروف بابن الخطيب، الفقيه الشافعي.
وأما قدماء الأشاعرة الذين كانوا على مذهب أبي الحسن الأشعري في إثبات صفات الله تعالي فمنهم: الباقلاني: أبو بكر محمد بن الطيب، والطبري: أبو الحسن الطبري، والباهلي: أبو عبد الله بن مجاهد، وهؤلاء مشوا على الطريقة السلفية في باب الصفات (1)، ولكن من جاء بعدهم ممن ينتسب إلى الأشعري تركوا طريقتهم وأولوا الصفات تأويلات باطلة، ومنهم من رجع أخيرا إلى مذهب السلف وذموا ما كانوا عليه من الانحراف وهم بعض من قدمنا أسماءهم فيما يذكر عنهم عند وفاتهم.
5 - موقف الأشاعرة من صفات الله تعالى
وقف الأشاعرة بالنسبة للإيمان بصفات الله تعالى موقفا مضطربا مملوءا بالتناقض، ولم يتمكنوا من الدخول في المذهب السلفي كاملا، إذ وافقوا السلف في جانب وخالفوهم في جانب آخر، ونفس المسلك هذا أيضا تم مع مذهب المعتزلة، فقد وافقوهم في جانب وخالفوهم في آخر.
ومن هنا وقفوا بين خصمين، فألزمهم السلف بإلزامات كثيرة تنقض ما ذهبوا إليه بالنسبة للإيمان بصفات الله تعالى، كما ألزمهم المعتزلة أيضا وشنعوا عليهم، ولو رضوا بمذهب الأشعري وساروا في طريقة تماما لما وجد أحد طريقا إلى ذمهم في باب صفات الله تعالى كما هو حالهم اليوم.
وموقف الأشاعرة في باب الصفات حاصله ما يلي:
ذهب الأشاعرة إلى تقسيم الصفات الإلهية إلى: صفات نفسية راجعة إلى الذات أي إلى وجود الله تعالى ذاته، وإلى صفات سلبية، واختاروا لها خمسة أقسام:(46/234)
وحدانية الله تعالى، والبقاء، والقدم، ومخالفته عز وجل للحوادث، وقيامه عز وجل بنفسه. وسموها سلبية، لأن كل صفة منها تسلب في إثباتها كل ما يضادها أو كل ما لا يليق بالله تعالى.
كما يقسمون الصفات كذلك إلى سبعة أقسام يسمونها " صفات المعاني " وهى: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، وهذه الصفات يثبتونها لله تعالى صفات ذاتية لا تنفك عن الذات يؤمنون بها كما يليق بالله تعالى. ويسمونها أحيانا الصفات الذاتية والوجودية.
وقد يجمع الأشاعرة تبعا للكلابية بين المتناقضات في صفات الله تعالى، فهم يقرون أنه لا يقال: إن صفات الله تعالى عين ذاته، ولا يقال: أنها غير ذاته، والذي حيرهم فيها هو أن الصفة للشيء ليست هي ذاته وليست هي غيره، لأنها لا تنفك.
وأقسام الصفات الثابتة لله تعالى هي كما يلي:
صفات ذاتية: وهى التي لا تنفك عن ذات الله تعالى، كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر.. الخ.
وصفات فعلية: وهى التي تتعلق بمشيئته وقدرته بمعنى إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها، كالاستواء على العرش والنزول والمجيء: إلى أخره.
وبعض الصفات تجمع الأمرين، فتكون ذاتية باعتبار، وفعلية باعتبار آخر، مثل صفة الكلام فهي ذاتية باعتبار أن الله تعالي لم يزل ولا يزال يتكلم لا تنفك عن ذاته هذه الصفة، وهى فعلية باعتبار أن الله يتكلم حسب مشيئته.
ومن جهة أخرى تنقسم الصفات الثابتة لله تعالى إلى:
صفات عقلية: ثبتت بالنص وبالعقل أيضا، كالعلم، والكلام، والسمع، والبصر، والإرادة، والبقاء، والحياة، والقدرة، والوجود، والوحدانية.
صفات خبرية: وهى التي ثبتت بالخبر – السمع – دون النظر إلى ثبوتها بالعقل، كالاستواء، والنزول، والوجه، واليدين.
وهذه الصفات تشمل: الصفات الفعلية الاختيارية، المتعلقة بمشيئة الله تعالى، كالنزول، والاستواء، والرضى، والغضب، والإتيان، والمجيء، والفرح والسخط.(46/235)
وهذه الصفات يقال لها: قديمة النوع، باعتبار أن الله تعالى لم يزل متصفا بها، حادثة الآحاد، باعتبار تجدد وقوعها.
وقد ذهبت الكلابية وتبعهم الأشعرية إلى نفي الصفات الفعلية عن الله تعالى ويؤولون ما ورد منها بزعم أنها لا تليق بالله تعالى، لإشعارها بالأعراض التي لا تقوم إلا بالجسم، ومع هذا فهم يثبتون له تعالى الصفات الذاتية اللازمة له. وأنكروا قيام الصفات الفعلية الاختيارية به، وأوهموا الناس أن الحامل لهم على هذا هو تنزيه الله تعالى عن قيام الحوادث به.
بخلاف قدماء الأشاعرة كالباقلاني: أبو بكر محمد بن الطيب، والطبري: أبو الحسن الطبري، والباهلي: أبو عبد الله بن مجاهد الذين كانوا يثبتون الصفات الخبرية على ظاهرها ويؤولونها، تبعا لأبي الحسن الأشعري وعلى طريقة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث.
وفى ترجمة العلماء لأبي الحسن الأشعري وبيان رجوعه إلى مذهب أهل السنة والجماعة من النصوص التي تثبت ذلك ما لا يخفي على طلاب العلم.
ولكن المتأخرين من الأشاعرة كالغزالي، والجويني، والرازي، والتفتازاني، والجرجاني – كانوا يذهبون إلى تأويل الصفات الخبرية ونفي معانيها الحقيقية وأنها مجازات، فالاستواء بمعنى الاستيلاء، واليد: القدرة أو النعمة، والنزول: نزول الملائكة، والوجه: الذات والعين والحفظ، وزعموا أن إثبات هذه الصفات على ظاهرها يؤدي إلى التشبيه والتجسيم، وتركوا ما قرره الأشعري في وجوب إثبات هذه الصفات كما يليق بجلال الله وعظمته. وهو أمر ينافي انتسابهم إليه وإلى أصحابه المتقدمين كالباقلاني وابن مجاهد والطبري الذين ساروا على طريقة شيخهم السلفي.(46/236)
وينبغي الحذر مما درج عليه بعض الكتاب من زعم أن الأشعري قد ترك المذهب السلفي ورجع عنه، وكون مذهبا وسطا ليس هو على طريقة المعتزلة ولا هو على طريقة أهل السنة أصحاب الحديث، وأن كتابه الإبانة كان على طريقة هؤلاء بينما اللمع هو آخر ما كتبه، وقد استقر عليه كما يزعم هؤلاء. تجد هذا القول عند الدكتور حمودة غرابة في كتابه " أبو الحسن الأشعري " وفى مقدمته لكتاب اللمع، كما تجده أيضا عند الدكتور عبد العزيز سيف نصر في رسالته " العقيدة الإسلامية بين التأويل والتفويض ". ولعلهما تأثرا بما قرره قبلهما زاهد الكوثري.
وقد رد عليهما الشيخ عثمان بن عبد الله آدم (1) ودفع تصورهما وأنهما أخطآ الحقيقة، ولم يطلعا على ما قرره علماء الاسم والحقائق التي أوردوها على رجوع الأشعري، وعلى أن كتابه الإبانة هو آخر ما كتب وآخر ما استقر عليه.
وحينما يذهب الأشاعرة إلى إثبات السبع الصفات، وهى: الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة – حينما يثبتون هذه الصفات كما يليق بالله تعالى من أنه حي بحياة وعليم بعلم وقدير بقدرة.. الخ، ثم يردون بقية الصفات الأخرى ويؤولونها تأويلات بعيدة عن حقيقتها إنما يسلكون مسلكا متناقضا لا مبرر له، إذ يقال لهم:
يلزمكم من إثبات الصفات السبع على ما يليق بالله أن تقولوا كذلك في بقية الصفات الخبرية، من الرحمة، والغضب، والفرح، والضحك، والمجيء، والنزول.. الخ، إنها ثابتة لله تعالى كما جاء في كتابه الكريم على ما يليق بالله تعالي دون أن يلحظ فيها المشابهة بخلقه، لا في علمه ولا في رحمته، فإن الذي يلحظ في إثبات صفة الفرح أو الرحمة بخلقه، يلزمه أن يلحظ المماثلة بخلقه في إثبات السمع والبصر والحياة أيضا، وإلا كان تفريقا بلا دليل، فيجب أن يثبتوا كل الصفات السمعية على حد سواء، وأن ينزهوا بعد ذلك في كل صفة.(46/237)
وأما إجابتهم لمن نازعهم وألزمهم بالإلزام السابق بأن تلك الصفات السبع دل عليها العقل بخلاف ما عداها فهو قول غير صحيح وحجة غير مقبولة، وهو قول في مقابلة النصوص، وتقديم العقل على النقل ليس بتسليم للنصوص ورضى بها وإذعانا لله تعالى فيها.
وإثبات الأشعرية لسبع صفات ونفي ما عداها بالتأويلات، جعلهم بين المعتزلة وأهل السنة " فلا للسلف اتبعوا ولا مع الجهمية بقوا " (2)، وقال شيخ الإسلام عن طرق الأشعرية:
" ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض، الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض، وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ – قانون مستقيم، فإذا قيل لهم: لم تأولتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جواب صحيح " (3) بل جوابهم إما أن يلجؤوا إلى التأويل الباطل، وإما أن يدعوا عدم العلم بمعانيها وتفويض ذلك، وكلاهما جواب باطل فإن التأويل الباطل مرفوض والتفويض في المعاني ليس من مذهب السلف.
كما أنهم وقعوا في التناقض حينما ينفقون بعض الصفات على أساس أن إثباتها يستلزم مشابهة الله بخلقه، لأن المخلوق هو الذي يوصف بتلك الصفات، ولكنهم لا يجعلون هذه قاعدة عامة، إذ ينقضونها بإثبات السبع الصفات على ما يليق بالله، حتى وإن وجد مفهوم الاشتراك فيها بين الله وبين خلقه فإن هذا الاشتراك لا يوجب المماثلة.
وقولهم: إن الاشتراك في تلك الصفات لا يوجب المماثلة كلام صحيح، لكنهم لا يجرونه في كل الصفات، فلزمهم التناقض والتفريق بين المتماثلات، من هنا ألزمهم المعتزلة أن ينفوا الصفات كلها، لأنها تدل على التشبيه فأجابهم الأشاعرة بأن إثبات تلك الصفات السبع إنما هو على وجه لا يستلزم المشابهة، فألزمهم أهل السنة أن يقولوا هذا القول في كل الصفات وهو ما يدل عليه العقل والشرع.(46/238)
وقد هدى الله السلف فآمنوا بكل ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فنفوا عنه كل ما نفاه وأثبتوا له كل ما أثبته، بلا تنطع ولا تأويلات باطلة، وقد علموا أن كل ما أخبر الله به فليس فيه نقص بأي وجه من الوجوه فهو أعلم بنفسه، وما جرى عليه السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم، من أن كل صفة وردت في القرآن لله تعالي فهي صفة كمال، وقولهم في كل صفة الجواب المأثور عن السلف: " هذه الصفة معلومة وكيفيتها مجهولة والسؤال عنها بدعة " توفيق ظاهر من الله تعالي لهم، فمن لم يرضى بما رضيه الله لنفسه فقد نازع الله تعالى وقال عليه بلا علم وسلك سبيل غير المؤمنين.
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الباب الخامس عشر
الماتريدية
وفيه المطالب الآتية:
1 - التعريف بمؤسس الماتريدية:
تنتسب هذه الطائفة إلى أحد علماء القرن الثالث الهجري وهو محمد بن محمد بن محمود المعروف بأي منصور الماتريدي، ولد في ما تريد وهى من بلدان سمرقند فيما وراء النهر، ولا يعرف على وجه اليقين سنة مولده، وقد توفى سنة 333 هـ على أرجح القوال (1).
... تلقى علوم الفقه الحنفي والكلام على أحد كبار علماء ذلك العصر وهو نصر بن يحيى البلخي المتوفى سنة 368 هـ، وغيره من كبار علماء الأحناف، كأبي نصر العياض وأبي بكر أحمد الجوزجاني وأبي سليمان الجوزجاني، حتى أصبح من كبار علماء الأحناف وقد تتلمذ عليه بعض المشاهير في علم الكلام.(46/239)
... لقد كان لأبي منصور مناظرات ومجادلات عديدة مع المعتزلة في الأمور التي خالفهم فيها، وقد اتحد في الهدف مع الأشعري في محاربة المعتزلة وكان معاصرا له، وأما في العقائد فكان على اتفاق مع ما قرره أبو حنيفة في الجملة، مع مخالفته في أمور وله مؤلفات كثيرة في مختلف الفنون، منها: بيان وهم المعتزلة تأويلات أهل السنة – الدرر في أصول الدين – الرد على تهذيب الكعبي في الجدل – عقيدة الماتريدية – كتاب التوحيد وإثبات الصفات – كتاب الجدل – مأخذ الشرائع في أصول الفقه – المقالات.
... وكان يلقب فيما وراء النهر بإمام السنة وبإمام الهدى (2)، وقد وقف في وجه المعتزلة الذين كانوا فيما وراء النهر إلا أنه كان قريبا منهم في النظر إلى العقل، ولم يغل فيه غلوهم، بل اعتبره مصدرا أخر إضافة إلى المصدر الأساسي وهو النقل، مع تقدم النقل على العقل عند الخلاف بينهما (3) إلا أنه يعتبر معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع وإن الله يعاقبه على عدم هذه المعرفة.
... وقد أوجز الشيخ أحمد عصام الكاتب عقيدة الماتريدي، من خلال كتاب الماتريدي في التوحيد المسمى "كتاب التوحيد " الذي حققه الدكتور فتح الله خلف عن نسخة مخطوطة يتيمة في مكتبة جامعة كمبردج بإنجلترا، وقد عرضه الدكتور المذكور في مجلة تراث الإنسانية المجلد 9 العدد 2، كما أن تحققه لكتاب التوحيد نشر في بيروت سنة 1970م.
... ثم قال أحمد عصام عن كتاب التوحيد للماتريدي بتحقيق الدكتور فتح الله خلف: " وسنعتمد عليه في كلامنا على عقائد الماتريدية، لأنه أفضل مصدر لهذه العقائد وأصدقها وأقربها، ولا عبرة بما فعله المتأخرون منهم ومن خطط الحابل بالنابل ".
... وأنا بدوري سوف أختصر أيضا ما ذكره الشيخ أحمد عصام بقصد الاختصار والإشارة إلى عقيدة الماتريدي، ومن أراد التوسع في هذا فليرجع إلى كتاب التوحيد المذكور أو لمجلة تراث الإنسانية.
2 - أهم آراء الماتريدي إجمالا:(46/240)
1- لا يرى الماتريدي مسوغا للتقليد، بل ذمة وأورد الأدلة العقلية والشرعية على فساده وعلى وجوب النظر والاستدلال.
2- يذهب في نظرية المعرفة إلى لزوم النظر والاستدلال، وأنه لا سبيل إلى العلم إلا بالنظر، وهو قريب من آراء المعتزلة والفلاسفة في هذا، ثم يذكر أدلة كثيرة على وجود الله، مستخدما أدلة المعتزلة والفلاسفة في حدوث الأجسام وأنها دليل على وجود الله.
3- يوافق في الاعتقاد في أسماء الله السلف، ويرى أن أسماء الله توقيفية، فلا نطلق على الله أي اسم إلا ما جاء به السمع، إلا أنه يؤخذ على الماتريدية أنهم لم يفرقوا بين باب الإخبار عن الله وبين باب التسمية فأدخلوا في أسمائه ما ليس منها كالصانع والقديم والشيء، والسلف يخالفونهم في هذا وقد عطل الماتريدية كثير من أسماء الله تعالى وأولوها.
4- يرى أن المؤمنين يرون ربهم والكفار لا يرونه، ويخالف الأشعري هنا في أن الماتريدي يرى أن الأدلة على إمكان رؤية الله تعالى عقلا غير ممكنة، بينما يستدل عليها أبو الحسن الأشعري بالعقل، إلا أنهم خالفوا السلف فنفوا المقابلة والجهة مطلقا، وذلك بسبب نفيهم عن الله علو الذات كما أن إثباتهم للرؤية ونفى الجهة والمقابلة فيه تناقض فإن الله تعالى يرى في جهة العلو.
5- هو أقرب ما يكون إلى السلف في سائر الصفات، فهو يثبت الاستواء على العرش وبقية الصفات دون تأويل لها ولا تشبيه، أي في الصفات التي تثبت عند الماتريدية بالعقل لكنهم يؤولون ما عداها، كما أنهم يعتقدون أن صفات الله لا هي هو ولا غيره وهو تناقض منهم.
6- في القضاء والقدر هو وسط بين الجبر والاختيار، فالإنسان فاعل مختار على الحقيقة لما يفعله ومكتسب له وهو خلق لله، حيث يخلق للإنسان عندما يريد الفعل قدرة يتم بها، ومن هنا يستحق الإنسان المدح أو الذم على هذا القصد، وهذه القدرة يقسمها إلى قسمين:
قدرة ممكنة: وهى ما يسميها: لسلامة الآلات وصحة الأسباب.(46/241)
وقدرة ميسرة، زائدة على القدرة الممكنة: وهى التي يقدر الإنسان بها على الفعل المكلف به مع يسر، تفضلا من الله تعالى.
يقول الماتريدي بخلق أفعال العباد، وهو يفرق بين تقدير المعاصي والشرور والقضاء بها وبين فعل المعاصي، فالأول من الله والثاني من العبد بقدرته واختياره وقصده. ويمنع أبو منصور من إضافة الشر إلى الله فلا يقال: رب في الأوراث والخبائث ولو أنه خالق كل شيء، وهذا الشق الأخير معروف عن السلف، أما تقسيمه القدرة وجعل العبد فاعلا باختياره وقصده وقدرته من وجه، ولو كان الله هو الفاعل من وجه آخر، فيه حيد عن مذهب السلف في ذلك، ونسبة الماتريدية الفعل إلى العبد يقصدون به أن الله لا يخلق فعل العبد إلا بعبد أن يريده العبد ويختاره فيصبح ذلك العمل كسبا له يجازي به حسب اختياره له وإرادته المستقلة له.
فى مسائل الإيمان: لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين، ولا يقول بخروج مرتكب الكبيرة عن الإسلام. ويرى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، دون الإقرار باللسان، ومن هنا يفترق الماتريدي عن السلف. وعنده لا يجوز الاستثناء في الإيمان، لأن الاستثناء يستعمل في موضع الشكوك والظنون. وهو كفر، وأهل السنة قالوا بجواز الاستثناء في الإيمان لأنه يقع على الأعمال لا على أصل الإيمان أو الشك في وجود الإيمان.
وبين الماتريدي والأشعري مسائل كثيرة اتفقوا فيها وأخرى اختلفوا فيها، فمما اختلفوا فيه (1):
مسألة القضاء والقدر: فقال الماتريدية: إن القدر هو تحديد الله أزلا كل شيء بحده الذي سيوجد به من نفع، وما يحيط به من زمان ومكان، والقضاء: الفعل عند التنفيذ.
وقال الأشاعرة: إن القضاء هو الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدر: تعلق تلك الإرادة بالأشياء في أوقاتها المخصوصة أي أن الأشاعرة يرون أن المحبة والرضى والإرادة بمعني واحد، بينما يرى الماتريدية أن الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبة.(46/242)
واختلفوا في أصل الإيمان، فذهب الماتريدية إلى أنه يجب على الناس معرفة ربهم، ولو لم يبعث فيهم رسولا بينما ذهب الأشعرية إلى أن هذه المعرفة واجبة بالشرع لا بالفعل كما تعتقد الماتريدية.
وذهب الأشاعرة إلى عدم وجوب الإيمان وعدم تحريم الكفر قبل بعثه الرسل.
اختلفوا في صفة الكلام، فترى الماتريدية أن كلام الله لا يسمع وإنما يسمع ما هو عبارة عنه بينما يرى الأشاعرة جواز سماع كلام الله تعالى.
كما اختلفوا في زيادة الإيمان ونقصانه وشرطه.. الخ.
واختلفوا في المتشابهات كما أسلفنا.
كما اختلفوا في النبوة هل يشترط فيها الذكورة؟ فجعلها الماتريدية شرطا، ونفى ذلك الأشاعرة عنها، واحتج هذا الفريق بقوله تعالي: ?وأوحينا إلى أم موسى ( (2)، ورد الفريق الأول بأن الإيحاء هنا بمعناه الواسع وهو الإلهام.
وهذه المسألة الأخيرة وهى نبوة النساء وعدمها مما وقع فيه الخلاف بين العلماء إلا أن الحق أن النبوة مختصة بالرجال، وليس هنا موضع بحث هذه القضية بالتفضيل، وأرجو أن يتم الله ما قمت به من دراسة حول المتنبئين وبيان خطرهم في الفكر والمجتمع، حيث بينت فيما يتعلق بنبوة النساء وعدمها أقوال العلماء والراجح منها.
اختلفوا في التكليف بما لا يطاق، فمنعه الماتريدية وجوزه الأشاعرة.
اختلفوا في الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالي فأثبتتها الماتريدية ونفتها الأشاعرة.
اختلفوا في التحسين والتقبيح، فقال به الماتريدية وأن العقل يدركهما، ومنع الأشاعرة ذلك، قالوا: إنما يتم التحسين والتقبيح بالشرع لا بالعقل.
اختلفوا في إيمان المقلد، فجوزته الماتريدية بينما منعه الأشاعرة واشترطوا أن يعرف المكلف كل مسألة بدليل قطعي عقلي (3).(46/243)
اختلفوا في معنى كسب العباد لأفعالهم، بعد اتفاقهم جميعا على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، فعند الماتريدية يجب التفريق بين المؤثر في أصل الفعل والمؤثر في صفة الفعل فا لمؤثر في صفة الفعل قدرة الله تعالى والمؤثر في صفة الفعل قدرة العبد وهو كسبه واختياره.
وعند الأشاعرة: إن أفعال العبد الاختيارية واقعة بقدرة الله وحدها وليس للعبد تأثير فيها، بل أن الله يوجد في العبد قدرة واختيارا يفعل بهما إذا لم يوجد مانع فالفعل مخلوق لله والعبد مكتسب له.
وأما الاختلاف بين الماتريدية والمعتزلة فهو:
اختلفوا في مصدر التلقي هل هو العقل أو النقل؟ فذهب المعتزل إلى أنه العقل، وتوسط الماتريدية فقالوا بالعقل فيما يتعلق بالإلهيات والنبوات وأما فيما يتعلق باليوم الآخر فمصدره السمع، كذا سموا هذه المسائل ونحوها بالسمعيات.
الأسماء: أسماء الله عند المعتزلة ثابتة، ولكن بلا دلالة على الصفات، فقالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر.. إلى آخره.
وعند الماتريدية هي ثابتة بدلالاتها على الصفات الثابتة عندهم إلا اسم "الله" فليس له دلالة على شيء من الصفات. وقولهم باطل لا معنى له.
الصفات: نفي المعتزلة جميع الصفات القائمة بذات الله تعالي.
بينما أثبت الماتريدية ثمان صفات: العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والتكوين.
القرآن: يعتقد المعتزلة أنه كلام الله محدث مخلوق. ويعتقد الماتريدية أنه كلام الله النفسي وأنه قديم أزلي غير مخلوق.
أفعال العباد. نفت المعتزلة خلق الله لها وإرادته لها، وإنما هي من العباد، وأثبتت الماتريدية أنها خلق لله تعالى. وكسب من العباد لها.
الاستطاعة: نفي المعتزلة أن تكون مع الفعل بل هي قبلة، بينما أثبتتها الماتريدية قبل الفعل ومع الفعل.
الرؤية: نفتها المعتزلة وأثبتتها الماتريدية.(46/244)
الجنة والنار: غير مخلوقتين ولا موجودتين الآن عند المعتزلة، بل تنشأ في يوم القيامة، وقالت الماتريدية بخلقهما الآن.
ينفي المعتزلة نعيم القبر وعذابه والميزان والصراط والحوض والشفاعة لأهل الكبائر. وأثبتت الماتريدية كل ذلك لورود السمع به.
نفت المعتزلة كرامات الأولياء وأثبتتها الماتريدية.
الإيمان عند المعتزلة قول واعتقاد وعمل، وعند الماتريدية هو التصديق بالقلب، ومنهم من زاد الإقرار باللسان.
مرتكب الكبيرة في منزله بين المنزلتين عند المعتزلة في الدنيا، وأما في الآخرة فهو في النار , وعند الماتريدية هو مؤمن كامل الإيمان مع أنه فاسق بمعاصية , وفي الآخر هو تحت المشيئة.
لا يصح إيمان المقلد عند المعتزلة، وذهب الماتريدية إلى صحته مع الإثم على ترك الاستدلال.
عند المعتزلة الإيمان يزيد وينقص، لإدخالهم الأعمال في مسمى الإيمان، وأما المسائل التي وافقت فيها الماتريدية المعتزلة فهى كما يلي:
القول بوجوب معرفة الله تعالى بالعقل.
الاستدلال على وجود الله بدليل الأعراض وحدوث الأجسام.
الاستدلال على وحدانية الله تعالى بدليل التمانع.
القول بعدم حجية خبر الآحاد في العقائد.
نفي الصفات الخبرية والاختيارية.
القول بعدم إمكان سماع كلام الله.
القول بالحكمة والتعليل في أفعال الله تعالي.
القول بالتحسين والتقبيح العقليين.
عدم جواز التكليف بما لا يطاق.
منع الاستثناء في الإيمان.
القول بأن معنى الإيمان والإسلام واحد (1)
وفيما سبق يتضح أن فرقة الماتريدية لم تنهج منهج السلف فيما يتعلق بالأمور الاعتقادية، وأن من وصفهم بأهل السنة أو العقدية السلفية فقد بالغ في ذلك وجانب الحكم الصحيح.(46/245)
... ولكى تتضح المقارنة بين عقيدة الماتريدية وبين العقيدة السلفية أحب أن تطلع أخي القارئ على هذا الملخص المفيد الذي تتضح به الفوارق بين عقيدة الماتريدية وبين عقيدة السلف بإيجاز، أكتفى به عن إطالة الردود لإيفائه بالغرض لموافقته القصد من تقديم هذه العجالة عن الماتريدية.
وقبل إيراد هذا الملخص إليك بيان الأسس والقواعد التي قام عليها مذهب الماتريدية:
مصدرهم في التلقي في الإلهيات والنبوات هو العقل.
معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع.
القول بالتحسين والتقبيح العقليين.
القول بالمجاز في اللغة والقرآن والحديث.
التأويل والتفويض.
القول بعدم حجية أحاديث الآحاد في العقائد.
وأما بالنسبة لآرائهم التي خالفوا فيها السلف فمن أهمها ما يلي:
خلاف الماتريدية في مفهوم توحيد الألوهية، إذ هو عندهم بمعنى أن الله واحد في ذاته لا قسم له ولا جزء له، واحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له. وأهل السنة يخالفونهم في هذا المفهوم لتوحيد الألوهية.
اعتمدت الماتريدية في إثبات وجود الله تعالي على دليل حدوث الأعراض والأجسام، وهى طريقة باطلة لا اعتبار لها عند السلف، وإنما هي طريقة غلاة الفلاسفة وأهل الكلام المذموم.
يستدل الماتريدية على وحدانية الله تعالى بقوله عز وجل: ?لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ( (2) وهو ما يسميه البعض بدليل التمانع، وقد خطأهم السلف في هذا المفهوم، مع إقرار السلف بأن دليل التمانع صحيح في دلالته على امتناع صدور العالم عن إلهين، لكن ليس هذا هو المقصود من الآية الكريمة.(46/246)
تثبت الماتريدية جميع الأسماء الحسنى لدلالة السمع عليها، إلا أنهم غلوا في الإثبات ومدلول السماء لعدم تفريقهم بين ما جاء في باب التسمية وبين ما جاء في باب الإخبار عن الله، فمدلول الاسم عندهم هو الذات وهذا خاص في اسم "الله" فقط، وأما ما عداه فمدلوله يؤخذ عندهم من الصفات التي أثبتوها فلم يقفوا على ما ثبت بالسمع فقط.
وقف الماتريديون في باب الصفات على إثبات بعض الصفات دون غيرها، فأثبتوا من الصفات: القدرة، العلم، الحياة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام، التكوين، وذلك لدلالة العقل عليها عندهم، وهم تحكم باطل، وقد ألزمهم السلف بإثبات ما نفوه بنفس الدليل الذي أثبتوا به تلك الصفات الثمانية.
نفت الماتريدية جميع الصفات الخبرية الثابتة بالكتاب والسنة، لأن في إثباتها – بزعمهم – مخالفة للعقل الذي يرى في إثباتها ما يدعو إلى وصف الله تعالي بالتشبيه والتجسيم.
ولقد دحض السلف هذا المفهوم الباطل والاعتقاد الخاطئ، وكذلك نفوا ثبوت الصفات الاختيارية لله تعالى التي هي صفات الفعل اللازمة لله تعالي، لأنها كذلك تؤدي إلى التشبيه والتجسيم، وقد أبطل السلف هذا المفهوم وفندوا شبههم.
يعتقد الماتريديون أن كلام الله تعالي معنى واحد قديم أزلي، ليس له تعلق بمشيئة الله تعالي وقدرته، وأنه ليس بحرف ولا صوت، بل هو كلام نفسي لا يسمع، بل المسموع منه إنما هو عبارة عنه، وهو اعتقاد باطل مخالف للكتاب والسنة ولما عليه السلف.
حصر الماتريديون الدليل على صدق الأنبياء في ظهور المعجزات على أيديهم، لأنها تفيد العلم اليقيني وحدها بزعمهم.
والسلف لا يختلفون في أن المعجزات دليل صحيح معتبر لصدق الأنبياء، ولكنهم يخالفونهم في حصر أدلة صدق الأنبياء في المعجزات فقط دون النظر إلى الأدلة الأخرى.(46/247)
يرى الماتريديون أن كل المسائل المتعلقة باليوم الآخر لا تعلم إلا بالسمع، والسلف يخالفونهم في هذا، ويقولون: إن تلك المسائل علمت بالسمع ودل عليها العقل أيضا.
أثبت الماتريديون رؤية الله تعالي، ولكنهم نفوا الجهة والمقابلة، وخالفهم السلف واعتبروا قول الماتريدية تناقضاً واضطراباً في مفهومهم للرؤية، ويؤدي إلى إثبات ما لا يمكن رؤيته، وإلى نفي جهة العلو المطلق الثابت لله تعالي.
اعتبر السلف ما ذهب إليه الماتريديون في خلق أفعال العباد اعتقادا خاطئا لما فيه من إثبات إرادة للعباد مستقلة – عن مشيئة الله تعالى، وأن خلق الله لأفعالهم إنما هو تبع لإرادتهم غير المخلوقة، والسلف يعتقدون أن لله تعالى وحده المشيئة وأن للعباد مشيئة لا تخرج عن مشيئة الله تعالى.
ذهبت الماتريدية إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وقال بعضهم: إنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان ومنعوا زيادته ونقصانه وحرموا الاستثناء فيه ومنعوا التفريق بين مفهوم الإيمان والإسلام.
وخالفهم السلف في كل ذلك فإن الإيمان عندهم هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان والعمل بالأركان وأنه يزيد وينقص ويجوز الاستثناء فيه لعدم جواز تزكية النفس. وأما الإسلام والإيمان فإنهما متلازمان، إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا كما هو الحال في مفهوم الفقير والمسكين ونحو ذلك.
13- يرى الماتريديون أن الفاسق مؤمن كامل الإيمان، بينما يرى السلف أنه مؤمن بإيمان فاسق بكبيرته، فلا يسلبون منه الإيمان ولا يثبتون له الكمال فيه. (1)
* * * * * * * * * * * * * * * * **
الباب السادس عشر
دراسة أهم المسائل التي اتفق عليها أهل الكلام
من الأشعرية والماتريدية والمعتزلة والجهمية
1 - تقديم العقل على النقل:(46/248)
من المساوئ التي ابتلى بها بعض المنتسبين إلى الإسلام تقديس العقل واعتماده مصدراً أعلى من كلام خالق العقل. وقد لبس عليهم إبليس فرأوا أنهم على صواب، وقويت في نفوسهم شبه الملاحدة أعداء الدين، فارتكبوا هذا الجرم الشنيع، ورأوا أنه إذا تعارض النقل والعقل في شيء فإن العقل هو المقدم، وذلك عند الجمهية والمعتزلة وجمهور الأشعارة المتأخرين، ظانين أنه يوجد بالفعل تعارض بين العقل السليم والنص الصحيح – حسب زعمهم – ولهم حجج في تقديم العقل على النقل وهى شبه لا تسلم لهم، ومنها:
أن العقل هو الأصل والأساس للنقل وإلا لم يرد النقل.
أن الدلالة العقلية قطعية بينما الدلالة النقلية ظنية.
أن معرفة الله تعالى لا تنال إلا بحجة العقل وهى أصل وما عداها فرع، وهذا الأصل إنما قام على العقل، فلو قدمنا النقل لكان من باب تقديم الفرع على الأصل فالعقل هو الأساس، فلو حكم باستحالة الشيء وحكم السمع بخلافه فيجب تأويل السمع، ليتوافق مع العقل، فإن هو الذي شهد بصدق الشرع ولم يعرف الشرع إلا بالعقل، فمن كذب العقل فقد كذب الشرع والعقل معاً سواء كان في الصفات أو في غيرها من الأخبار، وما ورد من آيات الصفات في القرآن الكريم ينبغي عرضها على العقل، فإذا عارضها وجب تأويلها لتوافق العقل أو تفويض عملها إلى الله.
إن صدق الأنبياء في إخبارهم عن الله لا يتوقف على النقل بل يتوقف على العقل، لأن النقل لا يقبل إلا أن يكون عن الأنبياء فلو توقف صدق الأنبياء على النقل للزم الدور.
ما ثبت بالتواتر وخالفه العقل إما أن يؤول أو يفوض، وما ثبت بأخبار الآحاد فإنه لا يقبل بأي حال في العقائد
الرد عليهم:(46/249)
مهما حاول دعاة تقديم العقل على النقل من سرد المبررات لقبول ذلك، فإن تلك المحاولات والاحتجاجات والجداول والخصومة، غير مقبولة عند من وفقه الله لمعرفة دينة، وابتعد عن الوساوس التي جاء بها علم الكلام، وهذه المسألة على بساطة الرد عليها قد أخذت حيزاً واسعاً من الجدال والخصومة بين المثبتين والنافين، إلا أنه يمكن إيجاز الرد عليهم فيما يلى:
هل يوجد بالفعل تعارض بين العقل السليم والنقل الصحيح؟
الجواب: لا يوجد تعارض بين العقل والنقل، فإن النقل وهى النصوص الشرعية إذا صحت من كتاب الله عز وجل أو من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يعارضها العقل السليم الخالي عن الشهوات والبدع، فإنه لا يمكن أن يحصل التعارض بين دليل عقلي قطعي وآخر نقلى قطعي، أما إذا كان الدليلان ظنيين فإنه يقدم الراجح منهما سواء كان عقلياً أو نقلياً، إن كان أحدهما ظنياً والآخر قطعياً، فإنه يقدم الدليل القطعي بغض النظر عن كونه نقلياً أو عقلياً، إذا القطعي هو الذي يمكن الاعتماد علية حتى وإن كان عقلياً، فالمزية إنما هي لكونه قطعياً لا لأجل لأنه عقلي.
وأما ما ذهبوا إليه من إسقاطهم أخبار الآحاد في العقد، فهو من المساوئ التي وقع فيها هؤلاء، كما زعموا أن المتواتر حتى وإن كان قطعي السند فهو غير قطعي الدلالة، وذلك لأن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين حسب مفهومهم (1).
وأخبار الآحاد – حسب زعمهم – لا تفيد العلم وهو من جملة أقوالهم البدعية العارية عن الأدلة الشرعية، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من أقوال علماء الأمة الذين يعتبر كلامهم في هذه القضية، ذلك أن الحق هو قبول خبر الآحاد في باب الاعتقاد وفى غيره مادام ثابتاً (2).
قال تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ( (3).(46/250)
ولولا أن خبر الواحد مقبول، لما توجه الأمر بالتثبت فيما يخبر به مما يحتاج إلى تثبيت خصوصاً إذا جاء من فاسق، ومعناه أنه إذا كان غير فاسق فإن خبره يقبل.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بخبر الواحد ويأمر بالاكتفاء به، حيث كان يرسل الشخص الواحد إلى مجموعة من الناس ويأمره بتبليغ ما يأمره به، ويطلب إلى الناس قبول ما يأمرهم به والانتهاء عما ينهاهم عنه.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً إلى اليمن وأمره بتعليمهم الدين وسائر شعائر الإسلام، وكان يرسل من أصحابه الواحد والاثنين أو الثلاثة أو أكثر – حسب ما يتيسر له – بغض النظر عن قضية خبر الآحاد التي ابتدعها أهل الكلام، وقد حصل ذلك منه في وقائع كثيرة، وعلى قبول خبر الآحاد جميع الأمة خلفاً وأعرض عن النصوص الشرعية من الجهمية والمعتزلة والرافضة والخوارج ومن سار عليهم طريقتهم.
وكان السلف من الصحابة فمن بعدهم، لا يشترطون لقبول رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل به، سوى عدالة الراوي وثقته وتقواه، وكانوا إذا روى الثقة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقوه بالقبول والعمل، ولم يخطر في أذهانهم
أنه خبر آحاد، وأن أخبار الآحاد غير مقبولة كما هي حجة من أراد رد النصوص وتعطيلها والتشويش على عقول عامة المسلمين.
وهنا أمر جدير بالذكر، وهو أن السلف حينما يقدمون النقل على العقل، ليس مقصودهم احتقار العقل وأنه لا يستفاد به المعرفة، بل يقدرون دور العقل في المعرفة والاهتداء به إلى الحق، ولكنهم لا يوصلونه إلى درجة التقديس التام وتقديمه على كلام الله عز وجل وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم.
فكل ما في القرآن الكريم وكل ما صح في السنة النبوية، لا يستجيز مسلم يؤمن بالله رباً، وبحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، أن يعارضه بعقلة أو باجتهادات العلماء، وهو يعلم ثبوت النص، اللهم إلا أن يكون من باب(46/251)
الاجتهاد وتنوع المفاهيم في معاني النصوص وتوجيهها، فإن الشخص حينئذ إن اجتهد فأصاب له أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر اجتهاده ونيته.
أما إذا قدم عقله فلاسفة اليونان، فعلية حينئذ إثمه وإثم من عمل بقوله، وحسن رد ما جاءت به الأنبياء واستبدال مفاهيم الفلاسفة السقيمة بها، التي يسميها بالأدلة والبراهين اليقينية، تهويلاً لأمرها ورفعاً لشأنها، ليتم له ما يريد من رد النصوص الشعرية وتأويلها – فعلية حينئذ إثمه وإثم من عمل بقوله.
إن الهداية لم تأتنا إلا عن طريق الوحي وعلى أيدي رسل الله الكرام، فبأي مسوغ نترك طريق الهداية ونرجع إلى تقديم العقل، فلو كان العقل يكفى للوصول إلى الحق مجرداً عن النقل، لما عاش هؤلاء المعرضون عن الله في متاهات الكفر والضلال، ولما احتجنا إلى الأنبياء، فمن الإجرام أن نترك طريق الهداية واضحاً مشرقاً، ثم نتعلل بتقديس العقل في مقابل نصوص الكتاب والسنة، فالعقل حد إذا تجاوزه صاحبه انقلب إلى الجهل والخزعبلات.
فمثلاً المشبهة حينما أبوة الوقف عند حدود الشرع، بحثوا وتعمقوا في الصفات إلى أن وصلوا دإلى تشبيه الله بخلقة تماماً، ووصفوه إنساناً واقفاً أمامهم، وظنوا أن عقولهم أوصلتهم إلى علم غزير، فهل ذلك صحيح؟ كلا.
وقابل هؤلاء نفاة الصفات فقد أوصلتهم عقولهم حينما تجاوزت الوقوف عند النصوص الشرعية إلى حد أن وصفوا ربهم بصفات، نتيجتها أن الله لا وجود له حتى وإن لم يصرحوا بنفي وجود الله لكن تلك الأوصاف السلبية لا نتيجة لها إلا هذه النتيجة، وظنوا أنهم اهتدوا بعقولهم إلى الوصول إلى الحق وزين لهم الشيطان ذلك.
فقارن بين مواقف هؤلاء ومواقف أهل الحق أهل السنة والجماعة، الذين يسيرون وراء النصوص مستعملين عقولهم إلى الحد الذي تنتهي عنده، وبالتالي فالقائد هو النص إلى أن يصلوا إلى غاية ما يريدون أو يطلب منهم.(46/252)
فأمنوا العثار واهتدوا إلى سواء السبيل، ورضوا بما جاء به كتاب ربهم وسنة نبيهم، وما كان علية سلفهم الكرام من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعلموا أن العقل الصحيح لا يعارض النقل الصحيح، فأراحوا أنفسهم عناء التأويلات والتكلفات التي ابتلى بها غيرهم، حين بحثوا كثيراً وأتبعوا أنفسهم طويلاً وخرجوا عن الحق الذي طلبوه بتلك التأويلات والتكلفات وهم لا يشعرون.
لأن السلف يعلمون أن النقل حينما جاء مخاطباً للعقل ومبيناً له الطريق الصحيح يعلمون أن بينهما توافقاً تاماً، فالخطاب إنما جاء لأهل العقول لا للمجانين ولا للحيوانات البهيمية، فكيف يتصور بعد ذلك أن العقل أعلى من النقل بحجة أن العقل هو الأصل وإلا لم يرد النص، فالنقل هو الموجه لمحل قابل للتوجيه وهو العقل، ولم تأت العقول لتوجه النقول في أي زمن من عمر البشر.
وزعمهم أن الدلالة النقلية ظنية بينما الدلالة العقلية قطعية (1)، هذا كلام اخترعوه وأرادوا أن يؤصلوه، وإلا فإن السلف من الصحابة فمن بعدهم لا يعرفون هذه المسالك، بل كانوا يعتبرونها من وساوس الشيطان ومن نقص الإيمان وزعمهم هذا هو مثل زعمهم أن صدق الأنبياء إنما يتوقف على العقل، ولو كان هذا صحيحاً لآمن قوم نوح وسائر أمم الأنبياء، إذا إن لهم عقولاً، ولما احتاجوا إلى سماع النقل منهم عن الله تعالى
والواقع خلاف ذلك فإن كلام الأنبياء وإخبارهم عن الله تعالى هو في حد ذاته الطريق إلى الإيمان بالأنبياء، فكل رسول كان يأتي لقومه ويقول لهم:
?إني رسول الله إليكم ( (2)، ثم يخبرهم عن الله تعالى ويقول لهم في أنفسهم قولاً بليغاً، دون التركيز على الأدلة العقلية، فهي تأتى عرضاً ويستفاد منها كثيراً، لكن ليست هي الدليل الوحيد على صدق الأنبياء، فدلائل صدقهم كثيرة جداً.
2-التأويل في مفاهيم الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة:(46/253)
لقد جرت التأويلات الفاسدة فتناً عظيمة على الإسلام والمسلمين، وأخرجت الكثير منهم عن عقيدتهم السليمة إلى عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، ولقد عبر عن بعض مضار التأويلات الفاسدة العلامة ابن أبى العز، في معرض رده على الذين يؤولون رؤية الله تعالى في قوله عز وجل: ?وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة ( (1)
فقال: ((وهى من أظهر الأدلة، وأما من أبى تحريفها بما يسميه تأويلاً، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل من تأويلها على أرباب التأويل، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص.
وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية! فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟، وكذا ما جرى في يوم الجمل وصفين ومقتل الحسين والحرة. وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد)) (2)
لقد كثر الجدال والخصام بين أهل السنة من جانب، وبين المخالفين لهم ممن تأثر بعلم الكلام والفلسفات من جانب آخر في قضية التأويل.
فما هو التأويل، وما المراد به عند هؤلاء الفرق من الأشعرية والماتريدية والمعتزلة وغيرهم ممن اقتحم التأويلات الفاسدة
حقيقة التأويل في أساس إطلاقه يشمل أمرين:
الأمر الأول: تطلق كلمة التأويل ويراد بها ما تؤول إليه حقيقة ذلك الشيء ومصيره وعاقبته.
الأمر الثاني: تطلق هذه الكلمة ويراد بها معرفة ذلك الشيء ومفهم تفسيره وبيانه، سواء وافق ظاهره الصواب أو خالفه، وكثير من المفسرين يستعمل كلمة التأويل بمعنى التفسير فيقول: تأويل هذه الآية كذا أي تفسيرها، فإن وافق الحق فهو مقبول وصحيح، وإن خالفه فهو باطل.(46/254)
وقد ورد ذكر كلمة التأويل في القرآن الكريم في عدة آيات، قال تعالى:
?ذلك خير وأحسن تأويلا ( (3) أي عاقبة التحاكم إلى الله ورسوله عند التنازع هو أحسن مآلاً وعاقبة، ومنه قوله تعالى: ?هل ينظرون إلا تأويله ( (4)، أي عاقبة تأويله، وجميع ما ورد في القرآن الكريم من معاني التأويل فهي تطلق بهذا المعنى.
وورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى (5) حيث روى سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ?قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم من تحت أرجلكم ((6)، فقال:
((أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد))، أي لم يأت وقت ظهور حقيقة العذاب ومصير المخاطبين وما تؤول إليه عاقبتهم.
وورد في السنة النبوية أيضاً استعمال التأويل بمعنى التفسير والمعرفة كما في دعائه صلى الله عليه وسلم لابن عباس بقولة: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) (7)، أي فهمه معرفة الدين.
وهذه المعاني للتأويل هي التي كانت معروفة عند السلف قبل ظهور أهل الكلام والفلسفات العقيمة، وقبل ظهور الخصام والجدال في معاني التأويل.
قال ابن القيم:
((وأما المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل:
صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره، وهذا هو الشائع في عرف المتأخرين من أهل الأصول والفقه، ولهذا يقولون: التأويل على خلاف الأصل والتأويل. وهذا التأويل هو الذي صنف في تسويغه وإبطاله من الجانبين، فصنف جماعة في تأويل آيات الصفات وأخبارها، كأبي بكر بن فورك وابن مهدى الطبري وغيرهما، وعارضهم آخرون فصنفوا في إبطال ذلك التأويل، كالقاضي أبى يعلى والشيخ موفق الدين بن قدامة، وهو الذي حكى عن غير واحد، إجماع السلف على عدم القول به)) (1)(46/255)
وقد بين ابن القيم رحمه الله انقسام التأويل إلى صحيح وباطل وأنه ينحصر في هذين القسمين فقال: ((وعلى هذا يبنى الكلام في الفصل الثاني، وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل.
وذكر أن كل ما ورد من الروايات عن الصحابة وفيها ذكر التأويل، أن المراد به حقيقة المعنى وما يئول إليه في الخارج أو المراد به التفسير، وذكر أمثلة كثيرة على هذا، وأن تأويلهم من جنس التأويل الذي يوافق الكتاب والسنة أو أن لهم وجهة نظر قوية لا تخرج عن الحق (1)
وأما التأويل الباطل فقد ذكر له عدة أنواع منها:
أحدها: ما لم يحتمله اللفظ بوضعه، كتأويل قوله صلى الله عليه وسلم: ((حتى يضع رب العزة عليها رجله)) (2) بأن الرجل جماعة من الناس، فإن هذا لا يعرف في شيء من لغة العرب ألبته.
الثاني: ما لم يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع، وإن احتمله مفرداً كتأويل قول
?لما خلقت بيدي ( (3) بالقدرة.
الثالث: ما لم يحتمله سياقه وتركيبة وإن احتمله في غير ذلك السياق، كتأويل قوله: ?هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ( (4) بأن إتيان بعض آياته التي هي أمره، وهذا يأباه السياق كل الإباء.
الرابع: ما لم يؤلف استعماله في ذلك المعنى في لغة المخاطب وإن ألف في الاصطلاح الحادث، وذكر أن هذا النوع لم يؤلف استعماله في لغة العرب وإن كان معهوداًَ في اصطلاح المتأخرين، ومثل لهذا بتأويل الجهمية والفلاسفة والمعتزلة لقول الله تعالى: ?ثم استوى على العرش ( (5) بأن المعنى أقبل على خلق العرش، فإن هذا لا يعرف في لغة العرب، بل ولا غيرها من الأمم، أن من أقبل على الشيء يقال: قد استوى عليه، فلا يقال لمن أقبل على الرجل: قد استوى عليه ولا لمن أقبل على الأكل: قد استوى على الطعام.(46/256)
الخامس: ما ألف استعماله في ذلك المعنى لكن في غير التركيب الذي ورد به النص، فيحمله المتأول في هذا التركيب الذي لا يحتمله على مجيئه في تركيب آخر يحتمله، وهذا من أقبح الغلط والتلبيس، ومثل لهذا بتأويل اليد بالنعمة، والنظر إلى الله بانتظار الثواب.
السادس: كل تأويل يعود على أصل النص بالإبطال فهو باطل، كتأويل
قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل)) (1)، بحمله على الأمة، فإن هذا التأويل مع شدة مخالفته لظاهر اللفظ يرجع على أصل النص بالإبطال وهو قولة: ((فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها)) ومهر الأمة إنما هو للسيد، فقالوا: نحمله على المكاتبة، وهذا يرجع على أصل النص بالإبطال من وجه آخر، فإنه أتى بأي الشرطية التي هي من أدوات العموم، وأكدها بما المقتضية تأكيد العموم، وأتى بالنكرة في سياق الشرط وهى تقتضي العموم، وعلق بطلان النكاح بالوصف المناسب له المقتضى لوجود الحكم بوجوده وهو نكاحها نفسها، ونبه على العلة المقتضية للبطلان وهي افتياتها على وليها، وأكد الحكم بالبطلان مرة بعد مرة ثلاث مرات، فحمله على صورة لا تقع في العالم إلا نادراً يرجع على مقصود النص بالإبطال (2) إلى آخر الأوجه التي ذكرها للتأويل الباطل.
وكان السلف يدركون الفرق بين التأويل بمعنى التفسير وفهم المراد من الكلام الذي هو باستطاعة الإنسان الوصول إليه – وهذا هو التأويل المقبول عند السلف – وبين التأويل بمعنى معرفة ما يؤول إليه المراد من الكلام سواء كان في الدنيا أو في الآخرة من الأمور الغيبية، الذي ليس باستطاعة الشخص معرفته إلا بعد ظهوره ووضوح حقيقته.
وأمثلة هذا النوع كثيرة يمثلها الإخبار بالمغيبات التي ستحدث في الدنيا أو في الآخرة، ويمثلها كذلك معرفة صفات الله عز وجل حقيقتها وكيفياتها.
وأهل السنة لا يتعدون هذه المفاهيم الواضحة المشرقة البعيدة عن التكليفات والتأويلات الباطلة.(46/257)
ولو وقف الخلف عند المكان الذي وقف فيه السلف لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ولكنهم تجاوزوا النصوص وقدموا عليها عقولهم ومفاهيمهم القاصرة وتأويلاتهم الباطلة، فجاءت خليطاً مشوهاً.
والتأويل في عرف هؤلاء المتأخرين يراد به: ((صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهرة تأويلاً على اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد الله تعالى بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلاً يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله ولا يعلمه المتأولون)) (3).
فالمتأخرون يريدون بالتأويل عدم إجراء النص على ظاهره والإتيان له بمعنى يحتمله، ليتوافق مع تأويلهم الذي حرفوه عن معناه الصحيح، وهذا هو التأويل الباطل.
وقد رفض السلف تأويل الخلف بالمعنى الذي قرره هؤلاء، لأنه تحريف للنصوص وإبعاد للمراد منها، خصوصاً وأن تلك النصوص ظاهرة الدلالة لا خفاء فيها ولا احتمال، فإن كل ما جاء في القرآن والسنة من الوضوح وتحديد المراد ما لا يحتمل التلاعب به ولا بمعاينة، لأنه نزل على قوم أدركوا المراد به وآمنوا به وأطمأنت قلوبهم، ولم يحتاجوا إلى التأويلات التي اخترعها زعماء التعطيل.
فإنه على حسب مفهومهم ما من نص إلا وهو يحتمل التأويل، وبالتالي فلا تتم الثقة بأي نص على ظاهره، فإذا ورد النص بقول: ?وجاء ربك ( (1)
قالوا: جاء أمره، وإذا ورد النص ?إن الله سميع بصير ( (2)، قالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر بل بذاته ورحمة الله إرادة الثواب، واليد النعمة.. إلى غير ذلك من تلك التأويلات التي ملئوا بها كتبهم، استناداً إلى أن العقل
هو الفاصل والمقدم على النقل، فلا حرج بعد ذلك أن تؤول نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف الذين يقتدي بهم
على حسب ما تراه العقول، فصار هؤلاء المؤولة أشر من المعطلة، قال ابن القيم رحمة الله: ((فصل في بيان أن التأويل شر من التعطيل)).(46/258)
وتحت هذا العنوان قال عن التأويل: ((فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها، فإن المعطل والمؤول قد اشتركا في نفى حقائق الأسماء والصفات، وامتاز المؤول بتلاعبه بالنصوص وإساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهرة الضلال والإضلال)) (3).
وقال ابن أبى العز:
((فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل أنه صرف اللفظ عن ظاهرة، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص وقالوا: نحن نتأول ما يخالف قولنا فسموا التحريف تأويلاً، تزييناً له وزخرفة ليقبل)) إلى أن قال:
((فمن التأويلات الفاسدة تأويل أدله الرؤية وأدلة العلو، وأنه لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً)) (4).
وما زعمه المؤولة من أن نصوص الصفات في القرآن والسنة لا تعرف إلا بالتأويل زعم مردود، إذا أريد أن معاني تلك الصفات معروفة، أما إذا أريد بأنها لا تعرف بمعنى أننا لا نعرف كيفيتها فهذا حق، ولكنهم لا يريدونه.
وعموما ً فكل تأويل يوافق دلالة الكتاب والسنة فهو مقبول وصحيح، وكل تأويل يخالفهما فهو تأويل فاسد فاتح لباب الزندقة، مهيئ للتفلت من قبول الشرع، ومسبب للحيرة والاضطراب، ويمثل علماء السلف للتأويل الصحيح بمسألة شفعة الجار في حديث ((الجار أحق بسقبه)) (5)، أي من حق الجار أن يشفع حق جاره ويكون أحق بشرائه من غيره، ولفظ الجار يشمل الجار الملاصق ويشمل أيضاً الشريك المقاسم على احتمال مرجوح.
لكن هذا الاحتمال المرجوح هو الصحيح المقبول، وذلك لموافقة السنة النبوية في الحديث الثابت وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
((فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)) (6) فثبت من الحديث أن المعنى المرجوع هو المراد، لنسخة ظاهر المعنى الراجح وهو الجار عموماً، وهذا ليس من التأويل المذموم في شيء بل هو من باب الجمع والترجيح.(46/259)
ومما ينبغى ملاحظته أن التأويل المذموم وإنما وجد حين ظهرت الفرق من خوارج ومعتزلة وشيعة وجهمية وباطنية وصوفية، حيث أراد هؤلاء أن يوجدوا لأفكارهم غطاء مقبولاً، فلم يجدوا أفضل من التستر بالتأويل، وإظهار أنه علم غزير توصلوا إليه، وهو في حقيقته نقلة إلى القول بأن للنصوص ظاهراً وباطناً وأن الظاهر غير مراد وأن الباطن هو المراد وهو بمنزلة اللب وتشويش مفاهيمهم بما أدخلوه من تلك المصطلحات الجوفاء، التي نرجو من الله عز وجل أن يبطلها ويعيد ذلك الصفاء الذي كان عليه سلف هذه الأمة الإسلامية فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها
وإذا رجع القارئ إلى ما كتبة الإمام ابن القيم في موضوع التأويل في كتابه الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة، فسيجد فيه من أنواع الجدال لأصحاب التأويلات الفاسدة ومن الفوائد ما لا يتسع البحث هنا لذكره.
فليرجع من أحب التوسع في دراسة قضية التأويل إلى هذا الكتاب والمكون من جزئين بعد تحقيقه (1)فلقد أزاح كل الشبهات التي يتعلق بها دعاة التأويل، وبين المضار التي جلبها على الإسلام والمسلمين، مع سعة المناقشة وعمقها وإفحام الخصوم ودخص كل ما يتعلقون به.
3 – جهل أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية بمعنى توحيد الألوهية:
التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
هذا هو تقسيم – أهل السنة والجماعة – لأنواع التوحيد، وهذه الأنواع كانت معروفة بالبداهة عند السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان حتى ولو لم يفصلوا هذا التفصيل في وقتهم.
فإنهم كانوا يعلمون أن توحيد الألوهية يتعلق بإفراد الله عز وجل بالعبادة والخضوع والإنابة وحده جل وعلا، والابتعاد عن الاشتراك مع الله آلهة أخرى.(46/260)
وأما توحيد الربوبية فهم يعلمون أن الله هو رب كل شيء وملكية، وهو خالق الخلق ورازقهم ومدبر أمورهم كلها، وان هذا النوع من التوحيد داخل في مضمون توحيد الألوهية إلا عند الخلف من المتكلمين الذين عكسوا الحقائق.
وأما توحيد الأسماء والصفات فلقد كانوا على معرفة بأن الله عز وجل من الصفات ما أخبر به عز وجل في كتابه الكريم وما أخبر به نبيه العظيم، يؤمنون أن الله تعالى له ذات لا تشبه الذوات وله صفات الخلق إلا مجرد الاشتراك في التسمية.
ودراسة هذه الأقسام وتفصيلها تفصيلاً كاملاً يحتاج إلى مجلدات، بل هو الحاصل بالفعل، فإن كتب علماء السنة تبلغ المئات في بيان هذه الأنواع والواجب على الناس تجاهها، وكيفية الإيمان بها، وغير ذلك مما لا يكاد يحصر إلا بالكلفة وليس الغرض هنا هو الخوض في ذكر كل تلك التفاصيل، وإنما الغرض هو بيان خطأ أهل الكلام في مفاهيمهم لتوحيد الألوهية الذي كان أكثر النزاع بين الأنبياء وأممهم فيه، بل وبين علماء السنة وغيرهم من علماء الطوائف الضالة.
فمن حقق توحيد الألوهية قولاً واعتقاداً فاز، ومن حاد عن الحق الواجب فيه كان ذلك أكبر دليل على خسارته وضلاله.
والمتكلمون حينما يقررون الكلام في التوحيد يقسمونه إلى ثلاثة أقسام، فيقولون: ((هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له))، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث وهو توحيد الفعال وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله، حتى يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع)) (2).(46/261)
هكذا يقرر المتكلمون أنواع التوحيد، فيجعلون توحيد الربوبية – الذي لم يوجد فيه نزاع بين الأنبياء وأممهم – هو أهم أقسام التوحيد وأوجبها معرفة، مع أن الله تعالى أخبر في كتابة الكريم أن كفار قريش وغيرهم عند بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كانوا يعرفون توحيد الربوبية ويعتقدون أن الله هو الخالق لكل شيء، فإذا وجه لأحدهم سؤال: من خلق السموات والأرض؟ فإنه على الفور يجيب: الله هو الذي خلقهما. وكانوا يعرفون أن معنى لا إله إلا الله نفى ألوهية أي كائن كان، لا أصنامهم ولا غيرها مع الله تعالى، ولهذا وقفوا في وجوه رسلهم شعارهم:
(أجعل الآلهة إلها واحداً ( (1)، فكانوا في فهمهم وهم على شركهم أحسن من فهم علماء الكلام – وهم يدعون الإسلام – حينما قرروا أن معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع والخلق والإيجاد إلا الله، وهو معنى باطل يرده كتاب الله وما جاء في سنة رسول الله عليه عامة أهل الحق، فإن معنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله وحده.
وهذه هي دعوة الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم كما قال تعالى:
?وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ( (2) وقال تعالى حاكياً عن دعوة الرسل لأممهم:
?وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( (3).
فالإله هو الذي يستحق العبادة والخضوع له وهذا هو التفسير الحق، وأما تفسير الإله بأنه القادر على الخلق فهو باطل، وأول ما يدل على بطلانه: أنه لو حقق شخص مفهوم هذا التوحيد، فأقر بأن الله هوالخالق الرازق المدبر لكي يشهد الشهادتين، معترفاً بأن الله هو الإله المستحق للعبادة لا يشرك به أحداً.(46/262)
والبشر كلهم يقرون بأن الله هو الرب الخالق، حتى الذين عاندوا وجحدوا الربوبية يعترفون في قرارة أنفسهم بانفراد الرب بخلق كل شيء، وما تقوله نفاة الصفاة، من أن الله واحد لا قسيم له، يريدون من وراء هذه العبارة إثبات ذات مجردة عن كل الصفات، التي يسمونها انقساماً للبارئ وتركيباً في ذاته، وبالتالي يلزم من ذلك – حسب أكاذيبهم – تعدد الآلهة، فتكون العين والسمع واليد وغير ذلك من الصفات آلهة معه وحينما تصوروا وقوع هذا المفهوم وشبهوا الله تعالى، ثم عطلوه عن صفاته بتلك الحجة الباطلة. وحينما جعلوا توحيد الألوهية نفس توحيد الربوبية استدلوا على ذلك بدليل التمانع فقالوا في تقريره: لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر يريد سكونه، أو كان أحدهما يريد أن يكون ذلك الجسم حياً والآخر يريد أن يكون ميتاً، أو غير ذلك من الأمور المتضادة، فإنه حينئذ إما أن تتحقق إرادتهما معاً، وهو مستحيل، إذ لا يمكن الجمع بين النقيضين لأمر واحد.
أو يتحقق إرادة واحد منهما ويمتنع تحقيق إرادة الآخر، فيكون هذا الآخر عاجزاً ليس بإله.
أو لا يمكن أن تتحقق إرادتهما معاً لعجز كل واحد عن قهر الآخر، فتسقط ألوهيتهما معاً.
وبهذا التقرير نتج عندهم أن الله هو وحده الخالق لكل شيء، وأنه رب كل شيء.
وهذا وإن كان حقاً أن الله هو رب كل شيء وخالقه، لكنه ليس هو مضمون توحيد الألوهية الذي هو بمعنى إفراد الله بالألوهية وحده لا شريك له، وإفراده أيضاً بالعبودية التي هي معنى الألوهية.(46/263)
وليس هو مضمون جحد أسماء الله وصفاته كما يزعمون حين يؤكدون نفيها وتعطيلها عن الله، ويسمون ذلك توحيدا، ويزعمون أن من أثبت لله الأسماء والصفات الواردة في كتاب الله وفى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مشبه ومجسم، وهم على حد قول القائل: ((رمتنى بدائها وانسلت))، فهم أهل التشبيه والتجسيم، كما هي سمة أهل التعطيل والإلحاد، وهم يسترون باطلهم بأوصاف لله تعالى مجملة، مثل قولهم: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له، ولا جزء له، ولا بعض له … إلخ.
فهو يحتمل معنى صواباً إذا كانوا يقصدون به أن الله واحد لا يجوز علية الانقسام ولا التجزؤ ولا التبعض، مع أنها ألفاظ مخترعة لم ترد في أي نص شرعي ويحتمل معنى باطلاً وهو نفى صفات الله تعالى تحت هذه الأوصاف وقد اتضح من إنكارهم وتعطيلهم لأسماء الله وصفاته، أنههم لا يريدون إلا هذا المعنى الموافق لتأويلاتهم التي يسمونها توحيداً، ويسمون من يردها مشبها ً ومجسماً وحشوياً.. الخ لأنه لم يقر بأن توحيد الربوبية هو غاية التوحيد ويستدل المؤولون من الخلف على دليل التمانع من القرآن الكريم بقول الله عز وجل: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( (1)
على اعتقادهم أن معنى الآية: لو كان في السموات والأرض إله يخلق غير الله عز وجل لفسدتا، فثبت أنه لا خالق إلا الله، وأن هذا هو توحيد الربوبية الذي بينه القرآن الكريم ودعا إلى تحقيقه وأنه هو دعوة الرسل. فهل أصابوا في هذا الفهم؟ الجواب: لا، وقد بينه ابن أبى العز رحمة الله فقال:
((وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: ?لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ((46/264)
لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن ودعت إليه الرسل عليهم السلام وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له(2) ثم قال: "فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية الذي يتضمن توحيد الربوبية)) (3)
فدليل التمانع قائم على أن الله هو خالق الخلق لا رب سواه، والخطأ إنما هو المتكلمين الذين جعلوه هو التوحيد الخالص، وقدموه على توحيد الألوهية استغناء به، مع إغفال توحيد الألوهية الذي خلق الله الجن والإنس لتحقيقه، وجعله احب شيء إليه،ة وبه يثيب وبه يعاقب.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله عن هذا التوحيد:
((وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والتعظيم وجميع أنواع العبادة، ولآجل هذا التوحيد خلقت الخليقة وأرسلت وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار..)) إلى أن قال: ((وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك في الله،كما هو أقوال من لم يدر ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من معاني الكتاب والحكمة)) (4).
ثم أورد السؤال الآتي وأجاب عنه وهو قوله: ((0 فإن قيل: قد بين معنى الإله والإلهية (5) فما الجواب عن قول من
قال بأن معنى الإله: القادر على الاختراع، ونحو هذه العبارة؟
قيل: الجواب من وجهين:
أحدهما: أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا باطلاً)).
وإشارته إلى ما تقدم، يريد ما ذكره من تفسير العلماء لمعنى الإله بالمعبود الذي يجب له وحده العبودية والذل والخضوع، ثم قال:(46/265)
((وهذا كثير جداً في كلام العلماء، وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود خلافاً لما يعتقده عباد القبور وأشباههم في معنى الإله، أنه الخالق أو القادر على الاختراع أو نحو هذه العبارات..))، إلى أن قال: ((ولو كان معناها ما زعمه هؤلاء الجهال لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبينهم نزاع، بل كانوا يبادرون إلى إجابته ويلبون دعوته، إذا يقول لهم: قولوا لا إله إلا الله بمعنى أنه لا قادر على الاختراع إلا الله فكانوا يقولون: سمعنا وأطعنا، قال الله تعالى: ?ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ( (1))) (2).
الثاني: على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للإله الحق، فإن اللازم له أن يكون خالقاً قادراً على الاختراع، ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق وإن سمى إلها، وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام، وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام، فإن هذا لا يقوله أحد، لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين (3).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رده على المفهوم الخاطئ لأهل تجاه المراد بالتوحيد: ((وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا اثبتوا ذلك فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد..))
إلى أن قال:
((فإذا فسر المفسر (الإله) بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد – ما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية – وهو الذي يقولونه عن أبى الحسن وأتباعه
لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع ذلك مشركين)) (4)
4 – تعطيل النصوص عن مدلولاتها:(46/266)
من الأمور الواضحة بعد عرض ما تقدم، أن كل الطوائف المخالفة لأهل السنة والجماعة لم يلتزموا بالمفاهيم الواضحة للنصوص، وإنما كان حالهم فيها مثل حال من يفسر الواضح حتى يجعله غامضاً، فهؤلاء تعمقوا – كما يظنون – في استخراج الحق الكامن خلف النصوص ثم خرجوا بعلم غزير لم يهتد إليه أحد قبلهم، لا الصحابة ولا من جاء بعدهم، بل لم يهتد إليه حتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وهم وإن لم يصرحوا بذلك، لكن عباراتهم ومواقفهم تدل على هذ1 دلالة لا تخفى على من عرف ألغازهم في كلامهم، والمصطلحات التي تستروا بها، لدس أفكارهم الضالة حيال التلاعب بالنصوص، وإظهارها بالمظهر الذي يريدونه.
وقد كانوا بحق أذكياء جدا في عرض شبهاتهم وتأويلاتهم، حيث جاءوا بزخرف من القول والدعاية، واختيار الأسماء المنفرة لما لا يريدونه، وإلقاء الأسماء التي ظاهرها يخدمهم ولها رونق وبريق، فانخدع بذلك كثير من عوام المسلمين، بل من طلاب العلم، وسموا أنفسهم بأحسن الأسماء، مثل: أهل التوحيد، أهل العدل، أهل الاستقامة، الفرقة الناجية، أهل السنة، محققين، حكماء. إلى غير ذلك من الألقاب التي اصبغوها على أنفسهم واتباعهم.
وبالتالي أطلقوا أسماء أخرى على أهل السنة والجماعة تنفر السمع عنهم وتجعله يمتلئ غيظا عليهم، كارها لمذهبهم وعقيدتهم الحنيفية، فأطلقوا عليهم ظلما وعدوانا: أهل التشبيه والتجسيم، الحشوية، خوارج، نوابت، وفى هذا يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته، حكاية عن معطل يحذر أصحابه من مذهب أهل السنة:
تسمع مقال مجسم حيوان
قد دان بالآثار والقرآن
أخذوا الظواهر ما اهتدوا لمعان
قالوا مشبهة مجسمة فلا قال أيضا
وقال أيضاً:
ومن العجائب أنهم قالوا لمن
أنتم بذا مثل الخوارج إنهم
وقال أيضا في تسميتهم لأهل السنة حشوية، أي من حشو الناس وسقطهم:(46/267)
بالوحي نمن اثر ومن قرآن
وفضلة في أمة الإنسان
رب العباد بداخل الأكوان
الرب ذو الملكوت والسلطان
حمن محوي بظرف مكان
ومن العجائب قولهم لمن اقتدى
حشوية يعنون حشوا في الوجود
ويظن جاهلهم بأنهم حشوا
إذ قولهم فوق العباد وفى السماء
ظن الحمير بأن في للظرف والر
أي ظن هؤلاء أن أهل السنة يقولون: إن الله في السماء، أي هي ظرف له وتحويه، وهو كلام باطل لا يقوله أهل السنة
وهناك اسم أخر يسمون به أهل السنة وهو: " النوابت "، أي نبتوا في الإسلام بأقوال بدعية بعد اختلاطهم بالأعاجم، بل وسموا أهل السنة: عابدي أوثان، لأنهم يقولون: إن ربهم في السماء وفوق العرش بذاته، والروافض أيضا يسمون أهل السنة – كذباً – " نواصب"، ومن الغرائب أنهم يسبون أهل السنة بما ينطبق عليهم هم، وفيهم يقول ابن القيم رحمه الله:
أولى ليدفع عنه فعل الجاني
ولذاك عند الغر يشتبهان
ومجسمين وعابدي أو ثان
وهم الروافض أخبث الحيوان
سموا بالنواصب شيعة الرحمن(1)
بالمعدوم فاجتمعت له الوصفان
حتى نفاه وذان تشبيهان
سماه تشبيها فيا إخوان
هذا الخبيث المخبث الشيطان
أم مثبت الأوصاف للرحمن
فرموهم بغيا بما الرامي به
يرمي البرئ بما جناه مباهتا
سموهم حشوية ونوابتا
وكذاك أعداء الرسول وصحبه
نصبوا العداوة للصحابة ثم
وكذا المعطل شبه الرحمن
وكذا شبه قوله بكلامنا
وأتي إلى وصف الرسول لربه
وبالله من أولى بهذا الاسم من
فمن المشبه بالحقيقة أنتم
والله عز وجل يعلم أن أهل السنة براء من تلك الألقاب الظالمة، فإن الذي يثبت لله ما أثبته لنفسه لا يجوز أن يسمي مشبها أو مجسما، والذي يقول: الله في السماء، أي في جهة العلو المطلق، وأن السماء ليست ظرفا له عز وجل، وإنما المقصود جهة العلو بغير تحديد مكان – لا يصح أن يسمى حشويا.(46/268)
والذي يأخذ بظواهر النصوص ويفهم معانيها فهما جيدا ويقول عن الكيفية: لا علم بها، لأن الله لم يخبرنا بذلك، لا يصح أن يسمي خارجيا يقف على ظواهر النصوص دون فهم لمعانيها.
والذي نبت على معرفة الحق وما جاء في كتاب الله وسنة نبيه لا يصح أن يسمي نابتا جديدا خارجا عن الحق.
والذى يحترم أهل البيت وينزلهم المنزلة التي تليق بهم فلا يرفعهم إلى مرتبة العصمة أو الألوهية، ولا ينزلهم عن قدرهم فيذم بعضهم ويمدح البعض الآخر، كالرافضة، لا يصح أن يسمى رافضيا.
إن تلك الأسماء كلها في إطلاقها على أهل الحق ظلم وكذب وزور، فهي في الحقيقة أسماء لأهل الباطل، لكن الجاني يسمى نفسه بريئا ويسمي البريء مجرما، والله عز وجل يفصل بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
إن تسلط علماء الخلف على النصوص وتحريفها عن معانيها الصحيحة لتوافق ما جاءوا به من عقائد ما أنزل الله بها من سلطان – أمر معلوم لطلاب العلم.
... فإن هؤلاء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تخبطات في فهم النصوص وبناء عقائدهم، إلا على لي أعناق النصوص وزخرف الأقاويل في تأويلها، وإيراد الشبهات الكثيرة تحت اسم الأدلة القاطعة والبراهين الواضحة، وهى أسماء تخفي وراءها خداعهم لمن يعرف ما يهدفون إليه، إحياء أفكار أساطين الملاحدة والفلاسفة من اليونانيين وغيرهم.
... وقد ذكرنا من خلال ما تقدم دراسته – بيان مذاهب الفرق الباطلة وأقوالهم المخالفة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ابتداء بالخوارج وانتهاء بهذه الفرق الكلامية أتباع الفلاسفة.
... ومجمل الاعتقاد فيما تقدم في باب الأسماء والصفات، هو أن نثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم له، وأن ننفي عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم على حسب ما يأتي:(46/269)
نثبت لله تعالى كل الأسماء الحسنى كما قال عز وجل: ?ولله الأسماء الحسنى فادعوه وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ( (1)
نثبت له كل الصفات الواردة في القرآن الكريم.
نثبت أن لله في كل صفة المثل الأعلى والأكمل.
الإيمان بكل ما جاء من صفات الله تعالي إلى التفصيل الذي ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية.
أن نثبت معاني كل أسماء الله وصفاته، ونتوقف عن الخوض في كيفياتها، لأن الله لم يخبرنا بذلك. وأن نردد في كل صفة عبارة السلف: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة ".
* * * * * * * * * * * * * * * * **
5- جدول مختصر لبيان صفات الله تعالى
وتأويل الخلف لها (وما من صفة من الصفات إلا وللسلف
دليل على ثبوتها لله تعالى) كما في الجدول الآتي
الصفحة
دليل ثبوتها
تعطيل الخلف لها
نفس الله
?كتب ربكم على نفسه الرحمة( ( ).
?ويحذركم الله نفسه ( ( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: " يقول تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي فإن ذكرني في ملأ خير منهم " إلى آخر الحديث ( ). فلله تعالى نفس لا تعرف كيفيتها، وليست كسائر النفس المركبة في أبدان المخلوقات.
زعموا أن الله لا يصح وصفه بذلك، وإنما أضاف النفس إليه مثل إضافة سائر الخلق إليه، وهو تعطيل لتلك النصوص وغيرها مما لم نورده هنا.
علم الله
?يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ( ( ).
?ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير( ( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مفاتح الغيب خمس: ?إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب إذا وما تدري نفس بأي أرض تموت ( ( ).(46/270)
لا يؤمنون بصفة العلم على أنها من صفات ذاته عز وجل مضافة إليه، ومن الغريب أنهم يقولون: إن الله هو العالم وينكرون أن لله علماً مضافاً إليه من صفات الذات " يعني أنهم يثبتون الاسم وينكرون الصفة التي يدل عليها، وهو تناقض، فإنه لا يعقل عالم بلا علم ".
الوجه لله تعالى: صفة ذاتية لله تعالى
?ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ( ( ).
?كل شيء هالك إلا وجهه ( ( )، ولله وجه لا تعلم كيفيته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر ( ). كله " الحديث. والسلف رحمهم الله يثبتون الوجه لله تعالى حقيقة مع تنزيهه عن مشابهة خلقه، ولا يلزم من المشاركة في التسمية الاتحاد في الذات فالله أعلى وأجل من ذلك.
نفوا أن يتصف الله بالوجه وأولوه بمعنى نفس الذات. أي ويبقي ذات ربك أو يبقى ثوابه أو هو بمعنى القبلة، أو هو كما تقول العرب: وجه الدار ووجه الكلام، وهذا تكذيب لله ورسوله وتأويل باطل لا مبرر له، وهو من تلاعب الشياطين بهؤلاء المعطلة النفاة، والسلف يؤمنون بأن لله تعالى وجهاً من غير تشبيه وجه يليق به، وهذا هو الحق الموافق لكتاب الله وسنة نبيه.
عين الله
{واصنع الفلك بأعيننا ووحينا}.
{ولتصنع على عيني}، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال "إنه أعور وإن الله ليس بأعور" وفى رواية أخرى ((أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية ( ).
لا يثبتون هذه الصفة ويؤولونها بحجة أنها مرة جاءت بلفظ الإفراد ومرة بلفظ التثنية متجاهلين أنها أسلوب من أساليب العرب في لغتهم. والسلف يثبتونها صفة ذاتية لله تعالى ولا يكيفونها، والخلف أولوها بمعنى حفظ الله أو العلم، وان الحديث فيه تنزيه الله عز وجل عن أن يكون له صفة تشبه صفات خلقه وهذا تأويل.
السمع والبصر
?لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ( ( ).(46/271)
?إننى معكما أسمع وأرى ( ( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما رفعوا أصواتهم بالتكبير: ((يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنه سميع قريب)) ( ).
وفى رواية: ((إن الذي تدعون هو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) ( ).
ينفون إثبات السمع والبصر على أنهما صفتان على حقيقيتان لله تعالى ويزعمون أن اثباتهما يقتضى تشبيه الله بخلقه، لأنه على حسب زعمهم لا يوجد خارج من يتصف بالسمع والبصر إلا المخلوقات، والسلف يثبتونهما صفتان حقيقيتان لله عز وجل من غير تكييف لهما تمشياً مع الأدلة.
اليدان
?ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ( ( ).
?بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ( ( ).
?يد الله فوق أيديهم ( ( )، والآيات والأحاديث في إثبات اليد واليدين لله عز وجل كثيرة جداً، من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل إلا الطيب. فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربى أحدكم قلوه حتى تكون مثل الجبل)) ( ). وفى رواية أبى هريرة رضي الله عنه: ((إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربى أحدكم فلوه أو قلوصه حتى مثل الجبل أو أعظم)) ( ).
وعن أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء الليل الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)) ( ).
نفوها وقالوا: إن اليد من صفات المخلوقين، وزعموا المخلوقين، وزعموا أن اليد النعمة واليدين النعمتان أو القوة.
والسلف يثبتونها صفة حقيقية ذاتية لله عز وجل لا تشبه أيادي ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك له صفات لا تشبه الصفات المخلوقة.
الأصبع(46/272)
عن عبد الله قال: جاء حبر من أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلائق على أصبع فيقول أنا الملك قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ( ) ( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء" ( ).
ذهب بعضهم إلى نفى ما جاء من النصوص في ما جاء من النصوص في إثبات الأصابع، وزعموا أن إثباتها إنما هو من أكاذيب اليهود، لأنهم من غلاة المشبهة وأن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان كراهة وبغضاً لذلك، وهذا رد سافر للنص، وكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يضحك عندما توجه ألفاظ الإهانة إلى الله تعالى.
وبعض هؤلاء لم يجد بداً من تصحيح الحديث، فذهب يؤول الأصابع إلى أنها بمعنى شيء يخلقه الله يحمل السماوات وكل ما ذكر في الحديث كما تحمل الأصابع الشيء الثقيل، إلى غير ذلك من التأويلات الباطلة التي يردها فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله، ومنهم الصحابة رواة الحديث
الرجل والقدم
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة" ( ). وفي رواية: "فيضع فيها رجله" ( ).(46/273)
أهل السنة يثبتون أن لله قدماً لصريح الحديث في إثبات الرجل والقدم لله عز وجل، ولا يعلم مقدار عظمة ذلك إلا هو سبحانه وتعالى، وتكلف القول في بيان كيفيتها أو الإقدام على نفيها من الباطل المنهي عنه.
وقد أول المعطلة ما ورد من إثبات القدم لله تعالى في الحديث بمعنى أن النار حين يضع فيها الجبار المتعالي على الله؛ تقول: قط قط، وهو تأويل بعيد لا تدل عليه النصوص ولا اللغة، وأول المعطلة الرجل إلى معنى الجماعة من الناس.
الساق
قال تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ } ( ). ورد لفظ الساق هنا منكراً، ومن هنا وقع خلاف بين علماء السلف هل الساق صفة ذاتية لله أم لها معنى آخر على قولين إلا أنه قد جاء حديث صحيح يفصل هذا النزاع وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه: "فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً، ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهراني جهنم" الحديث ( ).
للسلف وغيرهم مفاهيم مختلفة حول ثبوت صفة الساق لله، فيروى أن الساق هو الشدة، وقيل: الساق هو النور العظيم، وقيل: هو ما يقع للمؤمنين من لطف الله. فمن أثبته صفة لله تعالى فمستنده حديث أبي سعيد الخدري ومن نفاه عن الله ذهب إلى تلك التأويلات.
والحق هو إثبات الساق صفة لله تعالى بدون تكييف ولا تأويل؛ لثبوت ذلك في حديث أبي سعيد الخدري. وفي قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ}
الاستواء
استواء الله على عرشه كثرت أدلته من القرآن والسنة، قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}( )، وفي الحديث الصحيح أن زينب رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات"( ).(46/274)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه أن رحمتي سبقت غضبي" ( ).
نفوا الاستواء وزعموا أن معنى النصوص الواردة باستوائه أي بمعنى استيلائه على العرش، أو بمعنى الإقبال على خلق العرش وغيره، وهي تأويلات باطلة خلاف ما جاءت به النصوص الواضحة من كتاب الله وسنة نبيه، بل وخلاف ما عرف في اللغة العربية من أن الاستواء هو غير الاستيلاء، وأن الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة.
النزول والإتيان والمجيء
يوم القيامة
كل ليلة
1- النزول والمجيء والإتيان في يوم القيامة: قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ}( ) وقال تعالى: { وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا }( ).
ومن السنة: ما جاء في أحاديث القيامة وفصل القضاء بين العباد,وهي أحاديث كثيرة , منها قوله صلى الله عليه وسلم قال: "فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم , فيقولون: هل بينكم وبينه آية تعرفونه , فيقولون: الساق , فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن , ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة.." الحديث( ).
2- في الدنيا: ينزل ربنا كل ليلة كما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له" ( ).
لا يؤمنون بالنزول ولا المجيء ويؤولون ذلك إلى معنى نزول أمره أو نزول الملائكة أو نزول رحمته.
وهو تأويل باطل وتعطيل ظاهر للنصوص , والسلف يؤمنون بنزول الله عز وجل , وهو من الصفات العلية , ينزل ربنا تعالى نزولاً يليق به.
كل هذه الصفات الاختيارية لا يؤمن بها الخلف فلا يثبتون ما دل عليه كل نص.
الرضى,
الغضب,
الضحك.
الفرح,
السخط,
التعجب,
المحبة,
الكراهة,
الرحمة.(46/275)
هذه الصفات يؤمن بها السلف كما جاءت بها النصوص من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه على ما يليق بجلال الله وعظمته , وأدلتها على الترتيب: قال تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه}( ) وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم}( ) وفي الصحيح أن آخر رجل يدخل الجنة يتوسل إلى الله كلما قدمه درجة طلب أخرى , قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه فإذا ضحك منه قال له: أدخل الجنة " ( ).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه , فطلبها فلم يجدها , فنام تحت شجرة ينتظر الموت , فلما استيقظ إذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه , فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته"( ).
وقال تعالى:{ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه} ( ) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل" ( ).
وقال تعالى: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه }( ).
وقال تعالى: { ولكن كره الله انبعاثهم }( ) وقال تعالى:{ورحمتي وسعت كل شيء }( ).
بل جاءوا لها بمعان مختلفة عطلوا بها معاني تلك النصوص فالرضى عندهم إرادة الثواب أو العطاء أو الإنعام , والغضب إرادة الانتقام , والضحك إرادة الثواب أو الرضى , والفرح قبول التوبة وإرادة الثواب , ومحبة الله للعبد بمعنى إحسانه إليه وإنعامه , والرحمة إرادة الله الخير والنعم لعبده.
وكل تلك التأويلات باطلة ومخالفة للحق الذي قررته الشريعة الإسلامية , ولا يلزم من إثباتها أي محذور , وليس فيه أي تشبيه لله بخلقه , خصوصاً وقد مدح الله نفسه بها , ولا يتصور التشبيه إلا من لم يعرف الحق ولم يطلع على مذهب السلف , ذلك أنها صفات تليق بالله عز وجل وكما ل نعرف ذاته فكذلك لا نعرف كيفية صفاته.
الكلام صفة ذات وفعل(46/276)
قال تعالى: { فأجره حتى يسمع كلام الله }( ), عن ابن مسعود: "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم" الحديث( ).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء أن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض"( ).
لا يؤمنون بأن الله تعالى يتكلم متى يتكلم متى شاء ولا يثبتونها صفة لله تعالى , وأولوا النصوص الواردة بإثباتها وعطلوها عن مدلولاتها , ومن هنا زعموا أن القرآن الكريم مخلوق لم يتكلم به الله , وأن نسبة الكلام إلى الله مجاز , وهو قول الجهمية. أو هو معنى قائم بذات الله خلقه في غيره , وهو قول الماتريدية , أو أنه ألفاظ ومعان , فلألفاظ مخلوقة والمعاني قديمة قائمة بالنفس , وهو معنى واحد يختلف حسب التعبير به إن عبر عنه بالعربية صار قرآناً وإن عبر عنه بالعربية صار توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً.
ولا تعلق له بالمشيئة الإلهية وهذا قول الكلابية ومن تبعهم من الأشاعرة الذين لا سثبتون لله تعالى إلا كلاماً نفسياً لله قائماً بذاته من غير حرف ولا صوت.
أو أن القرآن متعلق بالمشيئة والقدرة , وأنه قائم بذات الرب إلا أنه حدث بعد أن لم يكن , وهذا قول الكرامية.
أو أن كل كلام طيباً أو خبيثاً هو كلام الله , وهذا قول الاتحادية , إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة.
ومذهب السلف أن الله يتكلم متى شاء بما شاء على وجه لا نعرف كيفيته , وأن نوع الكلام قديم وآحاده حادثة.
الرؤية الرؤية ليست من صفات الله تعالى , والغرض هو بيان تعطيل الخلف للنصوص
لا يختلف السلف في أن الله يرى بالأبصار في يوم القيامة , قال تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة }( ).(46/277)
وفي السنة: عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: " إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر لا تضمون في رؤيته, فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا "( ).
ينفي المخالفون رؤية الله في الدار الآخرة , ويزعمون أنها تؤدي إلى القول بأن الله مثل الحوادث وأنه متحيز في مكان , وزعموا أن قول الله: { وجوه يومئذ ناضرة } أي منتظرة لفضله ونعمه , وأن "لن" في قول الله تعالى لموسى: { لن تراني } على التأبيد , وهو كذب على اللغة وعلى الحق.
وأهل السنة يثبتون رؤية الله في الدار الآخرة يرونه بأبصارهم رؤية لا تعرف كيفيتها , بعيدة عن التشبيه وعن ما يتوهمه أهل التعطيل , وفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا خلاف مشهور بين الصحابة ومن جاء بعدهم.
العلو
علو الله أمر معلوم من الدين بالضرورة قال تعالى: { بل رفعه الله إليه }( ). وقال تعالى: { أأمنتم من في السماء }( ). عند أهل السنة كلمة السماء المراد بها مطلق العلو , وتكون "في" بمعنى "على"قال تعالى: { يخافون ربهم من فوقهم }( ).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية: "أين الله؟ قالت: في السماء "( ).
ينكر المعطلة صفة العلو , ويزعمون أن الله في كل مكان بذاته , وأولوا الفوقية أنها بمعنى فوقية القدر والعظمة , وهو تعطيل للنصوص ورد لها وجحد للحق الثابت
هذا وأسأل الله عز وجل أن يكون فيما تقدم ما ينفع وأن يجزل لي الأجر , فإنه يجزي على العمل الحقير الأجر الكثير , وكل ما أطمع فيه هو عفو الله وثوابه في جمع تلك المعلومات وكتابتها , وجمع شتات ما تفرق في كتب العلماء حول الطوائف المخالفة للحق الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(46/278)
وإنني مدين في نهاية هذا البحث بالشكر العظيم لله عز وجل أولاً , ثم لأصدقائي من مشائخ فضلاء وطلاب علم , وموظفين في مكتبات الجامعة الإسلامية وغيرها من تيسير كثير من المراجع التي لم تتوفر لدي واحتسابهم ذلك عند الله تعالى , ولم يرغبوا في ذكر أسمائهم أو الإشادة بهم ولهم في قلبي أعمق الود والإجلال.
أسأل الله لي ولهم ولكل طالب علم ولكل المسلمين عموماً الهداية والتوفيق.
... ... ... ...
وهو حسبنا ونعم الوكيل..
... ... ... وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. ...
* * * * * * * * * * * * * * * * **
ومن المراجع المفيدة في دراسة أقوال علماء أهل الكلام
والرد عليهم
- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.
- القصيدة النونية للإمام ابن القيم مع شرحها للهراس.
- الصواعق المنزلة لابن القيم مع تحقيقها للدكتور أحمد عطية الغامدي، والدكتور علي بن ناصر فقيهي.
- بيان تلبيس الجهمية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
- كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل لابن خزيمة.
- شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار.
- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم.
- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية لابن القيم.
- رد الإمام الدارمي على بشر المريسي لعثمان بن سعيد الدارمي.
- شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز.
- مقالات الإسلاميين واختلاف المصليين لأبي الحسن الأشعري.
- الفرق بين الفرق للبغدادي.
- الملل والنحل للشهر ستاني.
- الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم.
- الإبانة لأبي الحسن الأشعري.
- كتاب الإيمان لابن منده تحقيق الدكتور علي بن ناصر.
- المعتزلة عواد بن عبد الله المعتق.
- تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة.
- فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
- تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.(46/279)
- الصفات الإلهية للدكتور محمد أمان الجامي.
- أبو الحسن الأشعري للشيخ حماد الأنصاري.
- عقيدة التوحيد في فتح الباري شرح صحيح البخاري للشيخ أحمد عصام الكاتب.
- تاريخ الجهمية والمعتزلة للشيخ جمال الدين القاسمي.
- العصريون معتزلة اليوم يوسف كمال.
- المعتزلة بين الفكر والعمل علي الشابي / أبو لبابة حسين / عبد المجيد النجار.
- خلق أفعال العباد للإمام البخاري محمد بن إسماعيل.
- المواقف للعضد الإيجي.
- الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية.
- التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية للشيخ فالح بن مهدي آل مهدي.
- درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية.
- الصفات الخبرية بين الإثبات والتأويل للشيخ عثمان بن عبد الله آدم.
ومئات المراجع التي كتبها العلماء في دراستهم لهذه الفرق مما لا يخفي على طلاب العلم، وقد ذكرت فيما تقدم مراجع قديمة ومراجع عصرية.
وأرغب في نهاية دراسة هذه الفرق أن أتقدم بنصيحة إلى كل محب من طلاب العلم ألا يزهد عن كتابة المتأخرين، فإن فيها صفوة كثير من المعلومات لإطلاع هؤلاء على ما كتبه السابقون واستخلاص زبدة أفكارهم ثم تدوينها في كتاباتهم.
وليس من الإنصاف الإعراض عنها بحجة أنهم عالة على ما كتبه القدامى فهذا خطأ يفوتك فوائد قد تجتنيها بدون عناء مع أنه لا يبعد عن الصدق في أن علماء هذا العصر عالة في كثير من الأمور على ما كتبه القدامى لمعايشتهم الأحداث وصفاء عقولهم وإخلاصهم في نفع الناس.
ولكن هذا لا يمنع أن توجد فوائد قد لا نجدها في بعض كتابات القدامى، ومن قال بخطأ هذا فقد زعم انحصار فضل الله عز وجل على عباده، فإن الله تعالى هو الوهاب وهو الفتاح العليم. غفر الله لعلمائنا من تقدم منهم ومن تأخر، ونسأله عز وجل أن يلحقنا بهم صالحين غير خزايا ولا مفتونين.(46/280)
?ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم( (1).
* * * * * * * * * * * * * * * * **
فهرس
لمجلد الثالث
الباب العاشر
الصوفية
الفصل الأول: تمهيد في بيان انحراف الصوفية
الفصل الثاني: التعريف بالصوفية
في اللغة
في الاصطلاح
الفصل الثالث: العلاقة بين المتصوفة وأهل الصفة
الفصل الرابع: أسماء الصوفية وسبب تسميتهم بها، وبيان مفهوم الملامية أو الملامتية
الفصل الخامس: متى ظهر المذهب الصوفي
الفصل السادس: حقيقة التصوف
الفصل السابع: أقسام المتصوفة وذكر طرقهم، واختيار الطريقة التجانية نموذجا ودراستها دراسة شاملة من واقع كتبهم
الفصل الثامن: الخلوات الصوفية
الفصل التاسع: مغالطات لجنة جماعة الصوفية في مدينة ألورن
في نيجيريا
الفصل العاشر: كيفية الدخول في المذهب الصوفي
الفصل الحادي عشر: أصول الصوفية
الفصل الثاني عشر: إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للصوفية
عقيدتهم في الإله عز وجل
الحلول
وحدة الوجود
وحدة الشهود أو الفناء، وبيان العلاقة بين وحدة الوجود ووحدة الشهود
اعتقادهم في الرسول صلى الله عليه وسلم
الولاية وبيان بعض المصطلحات الصوفية
الفصل الثالث عشر: الكشف الصوفي
الفصل الرابع عشر: الشطحات الصوفية
الفصل الخامس عشر: التكاليف في نظر الصوفية
الفصل السادس عشر: الأذكار الصوفية
الفصل السابع عشر: بيان الوجد والرقص عند الصوفية
الفصل الثامن عشر: الكرامات وخوارق العادات عند الصوفية
الفصل التاسع عشر: زعماء الصوفية
بعض المراجع عن الصوفية
الباب الحادي عشر
المرجئة
تمهيد
الفصل الأول: التعريف بالإرجاء لغة واصطلاحا، وبيان أقوال العلماء في ذلك(46/281)
الفصل الثاني: الأساس الذي قام عليه مذهب المرجئة
الفصل الثالث: كيف نشأ الإرجاء وكيف تطور إلى مذهب
الفصل الرابع: أول من قال بالإرجاء وبيان أهم زعماء المرجئة
الفصل الخامس: أصول المرجئة
الفصل السادس: أقسام المرجئة
الفصل السابع: أدلة المرجئة لمذهبهم والرد عليها
الفصل الثامن: مذهب أهل السنة في تعريف الإيمان
الفصل التاسع: منزلة مذهب المرجئة عند السلف
أهم المراجع لهذه الفرقة
الباب الثاني عشر
الجهمية
الفصل الأول: التعريف بالجهمية وبمؤسسها
من هو الجهم بن صفوان
الفصل الثاني: نشأة الجهمية
الفصل الثالث: مصدر مقالة الجهمية
الفصل الرابع: ذكر أهم عقائد الجهمية إجمالا
إنكار الجهمية لجميع السماء والصفات
شبهاتهم والرد عليهم
قول الجهمية بالإرجاء والجبر
إنكار الجهمية الصراط
إنكار الجهمية للميزان
قول الجهمية بفناء الجنة والنار
الفصل الخامس: الحكم على الجهمية
الباب الثالث عشر
المعتزلة
الفصل الأول: نشأتهم
الفصل الثاني: أسماء المعتزلة وسبب تلك التسميات
الفصل الثالث: مشاهير المعتزلة القدرية الجهمية
الفصل الرابع: ذكر أهم عقائد المعتزلة إجمالا
الفصل الخامس: الأصول الخمسة للمعتزلة بيانها والرد عليها
الأصل الأول: التوحيد
الأصل الثاني: العدل – الصلاح والأصلح
الأصل الثالث: 1- الوعد والوعيد
2- الوعيد
الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين
الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
الباب الرابع عشر
الأشاعرة أو السبعية
ظهور الشاعرة
أبو الحسن الأشعري
عقيدة الأشعري
" عقيدته كما بينها في كتابه الإبانة "
أشهر زعماء الأشعرية
موقف الأشاعرة من صفات الله تعالي
الباب الخامس عشر
الماتريدية
التعريف بمؤسس الماتريدية
أهم آراء الماتريدي إجمالا
الباب السادس عشر(46/282)
دراسة أهم المسائل التي اتفق
عليها أهل الكلام من الأشعرية والماتريدية
والمعتزلة والجهمية وتشمل ما يأتي
تقديم العقل على النقل
التأويل في مفاهيم الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة
جهل أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية
بمعنى توحيد الألوهية
تعطيل النصوص عن مدلولاتها
جدول مختصر لبيان ثبوت صفات الله تعالي
وتأويل الخلف لها
نفس الله – علم الله
الوجه لله تعالى
عين الله تعالى
السمع والبصر
اليدان
الأصبع
الرجل والقدم
الساق
الاستواء
النزول والإتيان والمجيء
يوم القيامة
كل ليلة
الرضى – الغضب – الضحك – الفرح – السخط – التعجب – المحبة – الكراهة – الرحمة
الكلام
الرؤية
العلو
بعض المراجع(46/283)
بسم الله الرحمن الرحيم
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الطبعة الثانية
1428هـ ــــ 2007م
بِسْمِ اللهِ الرَّحمْن ِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد:
ففي غمرة الشعارات الجوفاء، والأسماء الكاذبة، يطلُّ علينا الغلاة في آل البيت، ومحرفو القرآن ولاعنو الصحابة وقاذفو أمهات المؤمنين برؤوسهم ليصوروا للعالم أنهم هم من يقود الأمة الإسلامية التي يلعنون سلفها الصالح ويتبرؤون منهم ليل نهار، ولقد أذهلنا حال كثير من المسلمين المنخدعين بحقيقة حزب الله الشيعي اللبناني، حتى وصل الأمر ببعض جهلة أهل السنة أنهم يدعون إلى تقبيل رأس حسن نصر الله، رئيس هذا الحزب وتتويجه وسامَ البطولة، ولا شك أن هذا من الجهل العظيم بحال هذا الحزب، ودوافعه، وعقيدة المنتمين إليه، وتاريخه الملطخ بدماء الأبرياء.
فرضي الله عن أمير المؤمنين الفاروق - عمر - حين قال: «إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا دخل في الإسلام من لا يعرف الجاهلية».
وفي هذه الأيام التي نرى فيها الإشادة ونسمع الثناء البالغ على الحزب ورئيسه نتذكر تلك الأيام التي خرج علينا فيها (الخميني) وأعلن تأسيسه للجمهورية (الإسلامية!) الإيرانية - زعموا -، فانخدع به خلق كثير من أهل السنة، بل وصل الحال عند بعضهم أن سافر إلى إيران لتهنئة الخميني بقيام تلك الدولة التي ظنوا أنها ستقيم دولة الإسلام، ولكن ضاعت أحلامهم وتبددت آمالهم عندما تبين لهم ولغيرهم أن هدف (الخميني) هو تأسيس دولة شيعية (طائفية) هدفها وغايتها نشر التشيع في العالم الإسلامي.(47/1)
ولا بدّ من إبرازِ أمرٍ مهم؛ وهو التنبيه على أنّ إسرائيل ليست إلا كياناً صهيونيّاً، وورماً خبيثاً في جسد أمّتنا الإسلامية، وإنّنا نفرح ونسعد بكلِّ ما يصيب الصهاينة من أذى وسوء وخسائر في أنفسهم وأموالهم، من أيّ أحدٍ كان.
فاليهود ليسوا إلا قتلة الأنبياء، وأعداء الرسل، ومن قرأ تاريخهم المظلم عَرَف مخازيهم وأعمالهم السوداء في الأمة، ولكن هذه المسلّمات لا تجعلنا نغفل عن الحقائق ونتغافل عن أهداف المدّ الفارسي الصفوي الشيعي في المنطقة، والذي بدأ من إيران إلى لبنان مروراً بالعراق الجريح، وذلك عن طريق المتاجرة الوهمية بورقة المقاومة الزائفة وقضيّة فلسطين.
لذلك عزمت فتوكلت على الله في كتابة عدة أسئلة حول هذا الحزب لأبيّن حقيقته وأكشف للمسلمين ما خفي منه، فاستعنت بالله ثم بما وجدت من حقائق على أرض الواقع بعد زيارتي إلى لبنان، وبما اطلعت عليه من كتب ووثائق.
كلّ ذلك معذرةً إلى الله وإبراء للذمة ونصحاً للأمة الذين خفي على أكثرهم شأن هذا الحزب، حتى افتتن به بعضهم.
نسأل الله أن يصلح شأن المسلمين، وأن يمنحهم الفقه في الدين ليستبينوا سبيل المجرمين، وأن يوفق قادتهم وعلماءهم إلى كل خير وصلاح، وأن ينصر السنة وأهلها ويقمع البدعة وأهلها، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وما توفيقي إلا بالله ..
وأصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمة للعالمين، نبيّنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
علي الصادق
Ali.alssadiq@hotmail.com
- ... - ... -
متى نشأ حزب الله الشيعي اللبناني؟
تأسَّس حزب الله الشيعي في لبنان عام 1982 م، ولكنه دخل معترك السياسة عام 1985 م.
وقد ولد هذا الحزب من رحم حركة أمل الشيعية اللبنانية المدعومة من إيران.(47/2)
وقد تسمى بدايةً باسم أمّه (حركة أمل الشيعية) فتسمّى بـ(أمل الإسلامية) رغبةً في توسيع نطاقه ليشمل الأمّة الإسلامية، لأن دور حركة أمل اقتصر على النطاق الشيعي السياسي اللبناني، وتكون (أمل الإسلامية) هي من يتولّى نشر التشيّع في لبنان والعالم الإسلامي، وأخذ صورة المناضل المقاوم الذي يحمل همّ الدفاع عن الأمّة وحماية مقدّساتها.
ونظراً لما اقترنت به (حركة أمل الشيعية) من أعمال وحشية وجرائم بشعة لا تخوّل وليدها (أمل الإسلامية) من استلام مهام الدفاع عن الأمة، وخشيةً من هذا فقد كُوّن حزبٌ جديد، وهو ما يُعرف اليوم بـ«حزب الله»(1).
وبعد تغيير الاسم؛ تُلمَّع الشخصيات ويصنع الإعلام أبطالاً وهميين لقتلة الأمس، وسفّاحي صبرا وشاتيلا، وبرج البراجنة، فكيف يكون هؤلاء هم المجاهدين الفاتحين اليوم!!
إنّها عملية درامية، ومسرحية يُراد ترويجها على الأمة وعلى البسطاء، الذين لا يفقهون الدين، ولا يعلمون العقيدة الصحيحة، ولا يقرؤون التاريخ، بل يحكمون على الناس من خلال وسائل الإعلام المضلّلة التي لا تبني الأمجاد على أسس علمية صحيحة ولا على حوادث وحقائق واقعية.
من هنا جاء الحزب ليلعب دوراً خطيراً في الأمة الإسلامية أعمّ وأشمل من دور أمه (أمل الشيعية)، التي اتخذت مسار الاهتمام بالطائفة الشيعية من ناحية سياسية بلباسٍ علماني(2).
- ... - ... -
من هو مؤسس حركة أمل وما هي أعمالها ؟
__________
(1) انظر كتاب: أمل والمخيمات الفلسطينية ص 181.
(2) هذا في الظاهر وذلك لأن الأحداث الأخيرة أثبتت مدى التلبّس بالطائفية الحاقدة والعصبية القذرة بما يُظهر أنّ حركة أمل وحزب الله وجهان لعملة واحدة، ألا وهي الحقد الرافضي الدفين على أهل السنة.(47/3)
مؤسس حركة أمل هو: موسى الصدر، إيراني الجنسية، من مواليد عام 1928 م، تخرَّج من جامعة طهران، ووصل إلى لبنان عام 1958 م، وقد حصل على الجنسية اللبنانية بعد أن منحه إياها فؤاد شهاب بموجب مرسوم جمهوري مع أنه إيراني ابن إيراني(1)!!
وهو تلميذ الخميني وتربطه أقوى الصلات به، فابن الخميني أحمد متزوج من بنت أخت موسى الصدر، وابن أخت الصدر مرتضى الطبطبائي متزوج من حفيدة الخميني.
لقد قام موسى الصدر بتأسيس منظمة مسلحة (أمل) في الجنوب وبيروت والبقاع، وكانت هذه المنظمة متعاونة مع القوات الوطنية.
وكان موسى الصدر الساعد الأيمن لأي مسؤول نصيري يدخل إلى لبنان، وحين دخل الجيش السوري النصيري إلى لبنان، استبدل موسى الصدر بوجهه الوطني الإسلامي، وجهاً باطنياً استعمارياً، وقام بالأدوار التالية باختصار:
1- أمر الضابط إبراهيم شاهين فانشقَّ عن الجيش العربي، وأسس طلائع الجيش اللبناني الموالية لسورية، كما انشق الرائد أحمد المعماري في شمال لبنان وانضمَّ إلى الجيش النصيري، وكان جيش لبنان العربي أكبر قوة ترهب الموارنة، فانهار لأنه ما كان يتوقع أن يأتيه الخطر من داخله، من إبراهيم شاهين وغيره.. وأمر الصدر منظمة (أمل) فتخلَّت عن القوات الوطنية وانضمَّ معظم عناصرها لجيش الغزاة، وبدأ الصدر بمهاجمة منظمة التحرير.
2- وفي 5/8/1976 م نقلت وكالة الأنباء الفرنسية أن الصدر دعا إلى اجتماع ضمّ أساقفة الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والموارنة، وعدداً من أعيان منطقة البقاع ونوّابها، وتم عقد الاجتماع في قاعدة رياق الجوية من أجل تشكيل حكومة محلية في المنطقة التي يسيطر عليها السوريون النصيريون.
__________
(1) أمل والمخيمات الفلسطينية ص 31.(47/4)
بدأ الصدر بمهاجمة منظمة التحرير كما نقلته وكالة الأنباء الفرنسية في تاريخ 12/8/1976 م، واتهم المنظمة بأنها تعمل على قلب النظم العربية الحاكمة، وعلى رأسها النظام اللبناني، ودعا الأنظمة إلى مواجهة الخطر الفلسطيني.
وكانت ضربة الصدر للفلسطينيين مؤلمة مما جعل ممثل المنظمة في القاهرة يصدر تصريحاً يندد فيه بمؤامرة الصدر على الشعب الفلسطيني وتآمره مع الموارنة والنظام السوري.
وما اكتفى موسى الصدر وشيعته بالتعاون مع حكام سوريا، وإنما أخذوا يطالبون بوقف العمل الفدائي وإخراج الفلسطينيين من الجنوب، ومن أجل ذلك وقعت صدامات، ونظّم الشيعة إضراباً عاماً في صيدا وطالبوا بإخراج المنظمات المسلحة من الجنوب.
وكان الصدر أول من طالب بقوات طوارئ دولية تتمركز في الجنوب، وزعم أن لبنان في هدنة مع إسرائيل، ولا يجوز أن يخرقها الفلسطينيون(1).
يقول ضابط إسرائيلي من المخابرات: «إن العلاقة بين إسرائيل والسكان اللبنانيين الشيعة غير مشروطة بوجود المنطقة الأمنية، ولذلك قامت إسرائيل برعاية العناصر الشيعية وخلقت معهم نوعاً من التفاهم للقضاء على التواجد الفلسطيني والذي هو امتداد للدعم الداخلي لحركتي حماس والجهاد»(2).
وأكثر الجهات التي كان الصدر يتعاون معها: النظام النصيري في سورية، ولقد استصدر مرسوماً حكومياً أصبح نصيريو الشمال اللبناني بموجبه شيعة، وعيَّن لهم مفتياً جعفرياً!! وعندما هلك والد حافظ الأسد استدعى الصدر، ولقنه الكلمات التي تلقَّن لموتاهم وهم في حالة النزع.
__________
(1) كتاب (أمل والمخيمات الفلسطينية) للمؤلف: عبدالله محمد الغريب، صفحة 31 - 34 بتصرّف.
(2) انظر (صحيفة معاريف) اليهودية في تاريخ 8/9/1997.(47/5)
وما من معركة خاضها جيش لبنان العربي والقوات اللبنانية الفلسطينية إلا ووجدوا ظهورهم مكشوفة أمام الشيعة، فمثلاً خاضوا معركة قرب بعلبك والهرمل فاتصل سليمان اليحفوفي المفتي الجعفري هناك بالجيش النصيري وسار أمامه حتى دخل بعلبك فاتحاً على أشلاء المسلمين.
وما اكتفى الصدر بهذا القدر من الأعمال القذرة بل أوعز إلى قيادة (أمل) بأن لا يقاوموا الموارنة في حي النبعة والشياح، وهذا يعني أنه سلَّم مناطق الشيعة في بيروت للموارنة، وتركهم يقتلون ويأسرون كيفما يشاؤون، وهو الذي كان يقول: السلاح زينة الرجال، وإنهم رجال التأثر، وإن ثورتهم لم تمت في رمال كربلاء(1).
وفي شهر رمضان المبارك من عام 1405 هـ أعلنت منظمة (أمل) الشيعية حرباً على سكان المخيمات الفلسطينية في بيروت.. واستخدموا في عدوانهم كل الأسلحة.. واستمر عدوانهم شهراً كاملاً، ولم يتوقف إلا بعد استجابة الفلسطينيين ورضوخهم لكل ما يريده الحاكم بأمره في دمشق - حافظ الأسد - ووكيل أعماله في بيروت نبيه بري.
كانت البداية أول ليلة في رمضان ليلة الاثنين 20/5/1985 م حيث اقتحمت ميليشيات (أمل) مخيمي صبرا وشاتيلا، وقامت باعتقال جميع العاملين في مستشفى غزة، وساقوهم مرفوعي الأيدي إلى مكتب (أمل) في أرض جلول، ومنعت القوات الشيعية الهلال والصليب الأحمر وسيارات الأجهزة الطبية من دخول المخيمات، وقطعوا إمدادات المياه والكهرباء عن المستشفيات الفلسطينية.
__________
(1) انظر: حزب الله من الحلم الأيديولوجي إلى الواقعية السياسية ص 155.(47/6)
وفي الساعة الخامسة من فجر الاثنين 20/5/1985 م بدأ مخيم صبرا يتعرض للقصف المركز بمدافع الهاون والأسلحة المباشرة من عيار 106 ملم، وفي الساعة السابعة من اليوم نفسه تعرض مخيم برج البراجنة لقصف عنيف بقذائف الهاون، وانطلقت حرب (أمل) المسعورة تحصد الرجال والنساء والأطفال، وأصدر نبيه بري أوامره لقادة اللواء السادس في الجيش اللبناني لخوض المعركة وليشارك قوات (أمل) في ذبح المسلمين السُّنة في لبنان، ولم تمضِ ساعات إلا واللواء السادس يشارك بكامل طاقاته في المعركة وقام بقصف مخيم برج البراجنة من عدة جهات.
ومن الجدير بالذكر أن أفراد اللواء السادس كلهم من الشيعة، وشاركت القوات الكتائبية بقصف المخيمات الفلسطينية بالقذائف المدفعية والصاروخية، وبادرت قيادة الجيش اللبناني ممثلة بميشيل عون ولأول مرة منذ شهر شباط 1984 م إلى إمداد اللواء السادس بالأسلحة والذخائر.
وفي 18/6/1985 م خرج الفلسطينيون من حرب المخيمات التي شنتها أمل، خرجوا من المخابئ بعد شهر كامل من الخوف والرعب والجوع الذي دفعهم إلى أكل القطط والكلاب، خرجوا ليشهدوا أطلال بيوتهم التي تهدم 90 % منها و 3100 ما بين قتيل وجريح و 15 ألفاً من المهجرين أي 40 % من سكان المخيمات.(47/7)
إن الفظائع التي ارتكبتها (أمل) بحق الفلسطينيين الآمنين في مخيماتهم(1) يندى لها الجبين، ويعجز القلم عن وصفها، أما وقد آن أوان كشف الأسرار.. فإليك بعضاً منها:
1- قتل المعاقين الفلسطينيين كما ذكر مراسل صحيفة ريبوبليكا الإيطالية وقال: إنها الفظاعة بعينها.
2- نسفوا أحد الملاجئ يوم 26/5/1985 م وكان يوجد فيه مئات الشيوخ والأطفال والنساء في عملية بربرية دنيئة.
3- قتل عدد من الفلسطينيين في مستشفيات بيروت، وقال مراسل صحيفة صندي تلغراف في 27/5/1985 م: إن مجموعة من الجثث الفلسطينية ذبح أصحابها من الأعناق.
4- ذبحوا ممرضة فلسطينية في مستشفى غزة؛ لأنها احتجت على قتل جريح أمامها.
__________
(1) ولم يصدر عن الخميني أيَّ استنكار لهذه المذابح، ولم يقم بأي دور في محاولة إيقاف مسلسل المجازر، بل ذهب له الشيخ أسعد بيوض التميمي ــــ رحمه الله ــــ ويرافقه غازي عبدالقادر الحسيني إلى إيران عام 1986 م من أجل أن يطلبوا من الخميني أن يتدخل لوقف المجازر الشيعية ضد الشعب الفلسطيني، ولكنّه رفض!، ثم ذهبوا إلى نائبه (منتظري) فأصدر فتوى تستنكر هذه المذابح، مما سبّب غضب الخميني عليه وجعلت ذلك أحد أسباب عزل (منتظري) عن نيابة الرئاسة!. [محمد أسعد بيوض، مقال: ماذا يجري في لبنان، موقع مفكرة الإسلام، 27/8/1427 هـ، 20/9/2006 م].
وقال الأستاذ فهمي هويدي:
الإمام الخميني التزم الصمت حيال قتال منظمة أمل للفلسطينيين في المخيّمات، وحينما خطب في الناس بعد صلاة العيد في تاريخ 20/ يونيو /1985 م لم يشر إلى موضوع الحرب على الفلسطينيين في المخيّمات!، وحينما سألت بعض المقرّبين منه، قالوا إن الإمام يمثّل عنصر التوازن بين مختلف تيارات القوى، وله حساباته وتوازناته الخاصّة!!. [فهمي هويدي، إيران من الداخل، ص 404 ].(47/8)
5- وذكرت وكالة (إسوشيتدبرس) عن اثنين من الشهود أن ميليشيات (أمل) جمعت العشرات من الجرحى والمدنيين خلال ثمانية أيام من القتال في المخيمات الثلاثة وقتلتهم.
6- وقال الشاهدان أنهما رأيا أفراد (أمل) واللواء السادس يقتلون أكثر من 45 فلسطينياً بينهم جرحى في مستشفى غزة وحوله.
7- وتصيح سيدة فلسطينية وهي تتفحص صف الجثث الطويل: «اليهود أفضل منهم!»، وأخرى تغطي بعضاً من وجهها وتبحث في قافلة القتلى عن شقيقها.. تستدير فجأة وتصرخ: إنه هو ولكن الديدان تنخر في جسده.. وجثث يرتع فيها الذباب.
8- وردد مقاتلو (أمل) في شوارع بيروت الغربية في مسيرات 2/6/1985 م احتفالاً بيوم النصر، بعد سقوط مخيم صبرا: لا إله إلا الله العرب أعداء الله(1). وقال مسلح من أمل إنه على استعداد للاستمرار في القتال مهما طال الزمن حتى يتم سحق الفلسطينيين في لبنان.
9- وذكرت وكالات الأنباء الكويتية في 4/6/1985 م والوطن في 3/6/1985 م أن قوات (أمل) اقترفت جريمة بشعة، حيث قامت باغتصاب 25 فتاة فلسطينية من أهالي مخيم صبرا وعلى مرأى من أهالي المخيم.
إذن، فحركة (أمل) كان من أهم نشاطاتها: القضاء على الوجود الفلسطيني السنّي الذي كان يريد أن يحرّر فلسطين من المحتلّين اليهود، ولا ندري عن سبب هذا النشاط شيئاً سوى أنَّ عقيدة الشيعة تحملهم على بغض أهل السُّنة، وتكفرهم، وتساويهم باليهود والنصارى، بل تجعلهم أشد كفراً.
ولذلك يقول توفيق المديني(2):
«إن البرنامج الضمني لحركة (أمل) هو القضاء على الوجود الفلسطيني المسلّح؛ باعتباره يشكّل تهديداً رئيسياً لأمن المجتمع الشيعي ويعطي مبرّراً لإسرائيل للقيام بهجماتها على قرى الجنوب اللبناني». انتهى.
__________
(1) جريدة الوطن الكويتية 3/6/1985 ، نقلاً عن: أمل والمخيمات الفلسطينية ص 99.
(2) في كتابه: أمل وحزب الله في حلبة المجابهات ص 81.(47/9)
وبعد دخول الجيش الاسرائيلي إلى لبنان وقضائه على الفصائل الفلسطينية بمشاركةٍ شيعية، قام الشيعة في جنوب لبنان باستقبال الجنود الإسرائيليين الصهاينة بالورود والأرز(1)!
ويقول أحد الزعماء من حزب أمل (حيدر الدايخ): «كنا نحمل السلاح في وجه إسرائيل، ولكن إسرائيل فتحت ذراعيها لنا، وأحبت مساعدتنا، لقد ساعدتنا إسرائيل على اقتلاع الإرهاب الفلسطيني الوهابي من الجنوب»(2)!
- ... - ... -
من هم الرؤساء المؤسسون
لحزب الله الشيعي على الأراضي اللبنانية؟
قرآن كريم قادة (أمل) هم قادة حزب الله:
سعت إيران إلى تأسيس حركة جديدة تسمى «حزب الله» على يد «محمد حسين فضل الله» والملقب بـ«خميني لبنان»، و«صبحي الطفيلي»، و«حسن نصر الله» و«إبراهيم الأمين» و«عباس موسوي» و«نعيم قاسم» و«زهير كنج» و«محمد يزبك» و«راغب حرب»(3).
__________
(1) كما قال ذلك صبحي الطفيلي في لقاء معه في جريدة الشرق الأوسط يوم الخميس 29 رجب 1424 هـ، 25 سبتمبر 2003 م، العدد 9067.
وأكّد هذا الأمر الأمين العام لحزب الله «حسن نصر الله» كما في كتاب: سجل النور، ص 227، الصادر عن الوحدة الإعلامية لحزب الله. [نقلاً عن: عراق بلا قيادة، عادل رؤوف، ص 266].
(2) لقاء صحفي مع حيدر أجرته مجلة الأسبوع العربي 24/10/1983م).
(3) انظر كتاب: حزب الله من الحلم الأيديولوجي إلى الواقعية السياسية لغسان العزي ص 32 ، وأمل والمخيمات الفلسطينية ص 179.(47/10)
وسرعان ما تفجر الوضع بين هؤلاء بسبب محاولة كل طرف بسط نفوذه على مناطق الشيعة في لبنان؛ فاقتتل الطرفان - حركة (أمل) وحزب الله - قتالاً شرساً، حتى تمكَّن «حزب الله» من بسط نفوذه على أغلب مناطق الجنوب، وازدادت شعبيته بين أبناء الشيعة بسبب ما يقدمه من خدمات اجتماعية كبيرة لأبناء الشيعة في المنطقة بمساعدات سخية من الدولة الإيرانية. وهذا الحزب «حزب الله» يعدُّ في زمننا الحاضر من أشد الفتن على أبناء السُّنة والجماعة في العالم، فظاهره جهاد أعداء الله من اليهود والنصارى، وحقيقته الدعوة إلى التشيع وتصدير الثورة الخمينية الإيرانية للعالم الإسلامي.
قرآن كريم حزب الله وحركة (أمل) يتلقّون التوجيه من الخارج:
لا نغالي إذا قلنا إن حزب الله هو حزب إيراني في لبنان، ففي البيان التأسيسي(1) للحزب، الذي جاء بعنوان «من نحن وما هي هويتنا؟» عرّف الحزب عن نفسه فقال: «... إننا أبناء أمّة حزب الله التي نصر الله طليعتها في إيران، وأسست من جديد نواة دولة الإسلام المركزيّة في العالم... نلتزم بأوامر قيادة واحدة حكيمة عادلة تتمثّل بالولي الفقيه الجامع للشرائط، وتتجسد حاضراً بالإمام المسدّد آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني دام ظلّه مفجّر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة..»، وقد عبّر إبراهيم الأمين (قيادي في الحزب) عن هذا التوجّه عام 1987 فقال: «نحن لا نقول إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران»(2).
قرآن كريم فمن هو حسن نصر الله وما حزب الله الذي ينتمي إليه وما علاقته بمنظمة (أمل) الشيعية؟
__________
(1) انظر ميثاق الحزب في كتاب: حزب الله رؤية مغايرة 226 وما بعدها.
(2) جريدة النهار 5/3/1987.(47/11)
حسن عبدالكريم نصر الله (خميني العرب) من مواليد 21 أغسطس 1960 م، عيِّن مسؤولاً عن حركة (أمل) في بلدة البازورية في قضاء صور، وسافر إلى النجف في العراق عام 1976 م لتحصيل العلم الديني الإمامي، وعيِّن مسؤولاً سياسياً في حركة (أمل) عن إقليم البقاع وعضواً في المكتب السياسي عام 1982 م، ثم ما لبث أن انفصل عن الحركة وانضم إلى حزب الله، وعيِّن مسؤولاً عن بيروت عام 1985 م(1)، ثم عضواً في القيادة المركزية وفي الهيئة التنفيذية للحزب عام 1987 م، واختير أميناً عاماً على أثر اغتيال الأمين العام السابق عباس الموسوي عام 1992 م مكملاً ولاية سلفه، ثم أعيد انتخابه مرتين عام 1993 - 1995 م(2).
قرآن كريم وأما صلة نصر الله بمنظمة (أمل) فهي على النحو التالي:
منظمة (أمل) - كما سبق - أنشأها موسى الصدر وله من الصلة الوثيقة بالخميني ما له.
في 8/10/1983 م، أعلن المفتي الجعفري عبدالأمير قبلان باسم المجلس الشيعي الأعلى ما يلي: «إن حركة (أمل) هي العمود الفقري للطائفة الشيعية، وإن ما تعلنه (أمل) نتمسك به كمجلس شيعي أعلى، ومن ثم فإن ما يعلنه المجلس الشيعي تتمسك به الحركة»(3).
وقد بايعت «حركة أمل» الزعيم الشيعي ( الخميني ) وأعلنته إماماً لها وللمسلمين في كل مكان(4)!
__________
(1) أين حسن نصر الله من تلك المذابح التي ارتكبتها (حركة أمل) في المخيّمات الفلسطينية، وأين حسن نصر الله من مذبحة صبرا وشاتيلا، وهو الذي ينادي في خطاباته الإعلامية بنُصرة الفلسطينيين ضد اليهود المعتدين!!
(2) وردت هذه الترجمة لنصر الله في مقدمة حواره مع (مجلة الشاهد السياسي، العدد 147 3/1/1999 م).
(3) مجلة المستقبل، عدد 346 ، تاريخ 8/10/1983 (نقلاً عن: أمل والمخيمات الفلسطينية ص 184).
(4) مجلة الايكونوميست، 4/5/1982 م.(47/12)
جاء هذا التأييد للحركة بعد الانشقاق الذي خرجت به «أمل الإسلامية» (حزب الله فيما بعد) وبعد الحضور الفعلي لـ«حزب الله» على أرض الصراع.
وكان حسين الموسوي وهو نائب رئيس حركة (أمل) قد أعلن عن انشقاقه عن منظمة أمل وأعلن «أمل الإسلامية» التي تحولت فيما بعد إلى حزب الله(1).
وبهذا يتضح أنه لم يكن هناك إبعاد كبير لـ«حركة أمل» بقدر ما هو زحزحة من الصورة «العسكرية» والمواجهة إلى الساحة « السياسية» واستبقاؤها لأدوار أخرى تتوافق والمتغيرات السياسية لإيران وملفاتها في لبنان..
هذا هو حزب الله الذي يتشدق به البعض من أهل السُّنة من الذين جهلوا حقيقة حسن نصر الله وعلاقاته الوطيدة مع من ذبح الفلسطينيين من أهل السُّنة.. حيث يزعم كذباً بأنه ينافح عن قضيتهم ويناصرهم..
إن قضية حسن نصر الله لا تحتاج إلى كثير بحث.. فهو شيعي جعفري ينتهج من شتم الصحابة ولعنهم ديناً وقربة إلى الله..
وقد صرّح الشيخُ يوسف القرضاوي في لقاءٍ معه أن «حسن نصر الله» شيعي متشدّد(2).
فعجباً لمن أيَّده ووقف بجانبه وهو من أشد أعداء الصحابة والمؤمنين..!
فكيف لهذا العدو المهدِّد لأمن إسرائيل يسرح ويمرح في طول البلاد وعرضها ويظهر على شاشات التلفزيون والفضائيات بل ويحدد أماكن الاجتماعات العامة مسبقاً ولا يُنال منه؟
__________
(1) انظر عن الانشقاق وأسبابه بين أمل وحزب الله في كتاب: حزب الله رؤية مغايرة ص 117 - 122، وكذلك كتاب: حزب الله من الحلم الإيديولوجي إلى الواقعية السياسية ص 23، 53 - 56.
(2) جريدة الوطن، عدد 2165، 3/9/2006 م، وتحدّث الشيخ يوسف القرضاوي في نفس اللقاء عن خطورة التمدد الشيعي في المنطقة وبالذات مصر، وحمّل المراجع الشيعية مسؤولية حمّام الدم والتطهير الطائفي والعرقي في العراق.(47/13)
فلا تغترَّ أخي المسلم بهذا الخبث الشيعي الذي يريد أن يمتلك قلوب المسلمين بشعارات وهمية، فتاريخ منظمة (أمل) الأسود شاهد على هذا الإجرام المنظَّم على أهل السُّنة.
وبعد هذه الأعمال والمخازي من حركة (أمل) الشيعية، والتي لا يمكن للناس أن يثقوا بها أو يقبلوا شيئاً منها؛ نتج منها هذا الحزب «حزب الله»، فكيف يمكن للمسلمين الصادقين أن يثقوا به؟!
وإن حصل بينهم قتال شرس وطاحن قبل سنوات، فهذا هو حال أهل الباطل وديدنهم منذ قديم الزمان، فقد قال الله تعالى عن أمثالهم - وهم اليهود -: { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وقُلُوبُهُمْ شَتَّى } [الحشر: 14 ]، وقال أيضاً: { وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ القِيامَةْ } [المائدة: 64 ]، وقال عن أمثالهم من النصارى: { فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ } [المائدة: 14 ].
- ... - ... -
ما هي عقيدة أتباع ومؤسسي
حزب الله الشيعي اللبناني؟
العقيدة الدينية لهذا الحزب وأنصاره هي التشيع، أو كما يسمون أنفسهم: شيعة جعفرية اثني عشرية يدينون بعقائد منحرفة من أبرزها:
قرآن كريم غلوهم في الأئمة:(47/14)
الرافضة يغلون في آل البيت ويدعون العصمة فيهم وأنهم يعلمون الغيب ويدَّعون أن الأئمة الاثني عشر إذا شاؤوا أن يعلموا علموا وأنهم يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم(1)، حتى وصل بهم الحال إلى تفضيل أئمتهم على سائر الأنبياء عليهم السلام إلا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما اعترف بذلك المجلسي في كتاب مرآة العقول(2)، وقالوا إن الأئمة يحيون الموتى(3)، بل تجاوز الأمر إلى قولهم أن علي بن أبي طالب هو الراجفة وهو الصاعقة وهو مفجر الأنهار ومورق الأشجار والعليم بذات الصدور وهو الأسماء الحسنى التي يدعى بها(4)، نعوذ بالله من هذه العقائد.
قرآن كريم عقيدتهم في القرآن الكريم:
__________
(1) انظر أصول الكافي للكليني 1/258.
(2) 2/290.
(3) انظر كتاب (مدينة المعاجز) لهاشم البحراني، فهو مليء بهذه الخرافات والعقائد المنحرفة.
(4) انظر كتاب (مشارق أنوار اليقين) لرجب البرسي، ص 268.(47/15)
يرى الشيعة أن القرآن وقع فيه التحريف من قِبل الصحابة(1)، وأنّه لم يجمع القرآن كلّه إلا الأئمة، وأنه ما جمعه وحفظه كما أنزل الله إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده(2)، وقالوا ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن ظاهره وباطنه غير الأوصياء(3)، بل وصل بهم الحال والعياذ بالله إلى القول أن القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - سبعة عشر ألف آية(4)، وقد اعترف عالمهم صدر الحكماء ورئيس العلماء نعمة الله الجزائري بهذه العقيدة فقال: روي في الأخبار أنهم عليهم السلام أمروا شيعتهم بقراءة هذا الموجود من القرآن في الصلاة وغيرها والعمل بأحكامه، حتى يظهر مولانا صاحب الزمان فيرتفع هذا القرآن من أيدي الناس إلى السماء ويخرج القرآن الذي ألفه أمير المؤمنين فيُقرأ ويعمل بأحكامه(5).
قرآن كريم عقيدتهم في العصمة والولاية:
__________
(1) وتمّ تأليف عدّة كتب شيعية في إثبات هذه العقيدة، ومن أشهر هذه الكتب: فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربّ الأرباب، لمحدّث الشيعة: الميرزا حسين النوري الطبرسي. وهذا غير الكتب الكثيرة والمعتمدة والتي احتوت على إثبات عقيدة وقوع التحريف في القرآن، ورغم تظاهر الشيعة بالبراءة من هذه العقيدة، فإننا لم نجد منهم أيَّ بيان في التحذير من هذا الكتاب ومؤلِّفه، ولم نرَ منهم أيَّ فتوى في تكفير من قال بتحريف القرآن الكريم، على الرغم من أنَّه الثقل الأكبر عند الشيعة، وفي المقابل فإنّهم لا يتورّعون في تكفير وتضليل والبراءة ممن ينكر ولاية علي بن أبي طالب والأئمة من بعده، وهم الثقل الأصغر عند الشيعة! فأي تناقض بعد هذا!
(2) انظر أصول الكافي للكليني 1/228.
(3) انظر أصول الكافي للكليني 1/258.
(4) انظر كتاب أصول الكافي للكليني 2/634، وقد صحّح المجلسي هذه الرواية في كتابه مرآة العقول 12/525.
(5) انظر كتاب الأنوار النعمانية 2/363.(47/16)
يعتقد الرافضة بعصمة وإمامة أئمتهم(1) الاثني عشر والقول بولايتهم وتكفير من خالفهم وعلى رأسهم الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين لأنهم كما تزعم رواياتهم قد كفروا وارتدوا بعد أن اغتصبوا الخلافة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، ولهذا يرون أن الولاية شرط لقبول العمل وأن بفقدانها لا يقبل عمل المسلم مهما كان، ولهذا عقد المجلسي باباً في كتابه بحار الأنوار بعنوان (لا تقبل الأعمال إلا بالولاية)(2).
قرآن كريم عقيدتهم في الصحابة وأمهات المؤمنين:
يعتقد الرافضة أن لعن الخلفاء الثلاثة (أبي بكر وعمر وعثمان) - رضي الله عنهم - من أعظم القربات عند الله كما يزعمون، كما يلعنون زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - (عائشة وحفصة)(3)- رضي الله عنهم -، كما يتهمون أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالفاحشة(4)، كما يتهمون عائشة وحفصة بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -(5)، وكذا يلعنون ويكفرون بقية الصحابة إلا سبعة أو عشرة منهم، ويرون أن الصحابة قد ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قرآن كريم عقيدتهم في من لم يكن شيعياً إثني عشرياً:
__________
(1) يقول شيخهم محمد رضا المظفر في كتابه عقائد الإمامية، ص 102: نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها.
(2) انظر 27/166، والكتاب المذكور يعتبر أحد المصادر الثمانية في الحديث عند الإثني عشرية.
(3) انظر دعاء صنمي قريش في كتاب إحقاق الحق لنور الله المرعشي التستري 1/337.
(4) راجع كتاب الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/165 لزين الدين العاملي النباطي البياضي.
(5) راجع كتاب (من قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -) لنجاح الطائي.(47/17)
الرافضة يكفرون جميع طوائف المسلمين بلا استثناء فقد ذكر عبدالله شبر في كتابه حق اليقين في معرفة أصول الدين اتفاق الإمامية على ذلك، فقال: قال الشيخ المفيد اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار، وقال في موضع أخر اتفقت الإمامية على أن أصحاب البدع كلهم كفار وأن على الإمام أن يستتيبهم عند التمكين بعد الدعوة لهم وإقامة البينات عليهم، فإن تابوا من بدعهم وصاروا إلى الصواب وإلا قتلهم لردتهم عن الإيمان، وإن مات أحدهم على ذلك فهو من أهل النار(1).
بل ذكر يوسف البحراني(2) أن المخالف لأهل الحق كافر فقال: إن المخالف لأهل الحق كافر فيجب أن يكون حكمه حكم الكفار.
بل حكم شيخهم محمد الشيرازي على جميع طوائف الشيعة غير الإثني عشرية بالكفر وشبههم بالنصارى فقال: وأما سائر أقسام الشيعة غير الاثني عشرية فقد دلت نصوص كثيرة على كفرهم ككثير من الأخبار المتقدمة الدالة على أن من جحد إماماً كان كمن قال: إن الله ثالث ثلاثة(3)، ويرون كفر بقية أهل الإسلام(4).
__________
(1) حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبدالله شبر 2/189.
(2) في كتابه: الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب، ص 85.
(3) موسوعة الفقه لمحمد الشيرازي (4/269)، وللمزيد حول تكفيرهم لبقية طوائف المسلمين انظر كتاب (الشيعة الإثنا عشرية وتكفيرهم لعموم المسمين) لعبدالله السلفي (الطبعة الثانية) فقد ذكر عشرات الروايات في تكفيرهم لطوائف المسلمين.
(4) راجع كتاب «الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب» ليوسف البحراني.
ولذلك قال حسن نصر الله في مجلة «الأمان» عدد 149 - 31/ آذار/ 1995 م: (لا نقبل أن تحسبوا الحركة الوهابية على الإسلام وعلى الصحوة الإسلامية) وهذا أحد خطابات التكفير التي يصرّح بها الشيعة الاثنا عشرية في تكفيرهم للمسلمين جميعاً.(47/18)
ويؤمنون بالتقية(1)، ويقولون بعقيدة الرجعة أي رجعة الأموات قبل القيامة(2).
والحاصل أن «حزب الله» حركة شيعية تتبنى نشر الثورة الخمينية وما يسمى بولاية الفقيه وتسعى إلى تصديرها للعالم الإسلامي، وقد استغلُّوا الأحداث التي تمرُّ بها المنطقة لصالح دعوتهم فاستخدموا شعارات براقة لاستمالة عواطف المسلمين في العالم الإسلامي.
قرآن كريم ما هي ولاية الفقيه التي يؤمن بها «حزب الله»؟
ولاية الفقيه، هي عقيدة دينية وبدعة سياسية شيعية، أسّسها زعيم الشيعة الخميني، وتعني هذه العقيدة أنّ الأحق بالزعامة ورئاسة الدولة هو الفقيه الديني الجامع لشروطٍ معيّنة، ويكون نائباً عن الإمام المعصوم المنتظر في ولايته على الأمّة، ولذلك لا يجوز استصدار أمر أو فعل شيء إلا بالرجوع للولي الديني الذي تختاره الأمّة ليكون مرشدها نيابةً عن الإمام المهدي المنتظر.
وحزب الله نشأ تحت ولاية الخميني، وسبق معنا وسيأتي أيضاً تصريح الحزب بأنه إيراني الجوهر ويتبع في الولاية الدينية مرشد الثورة الإيرانية الإمام الخميني، وخلفه من بعده: علي الخامنئي.
وهذه بعض المقتطفات من كتاب «الحكومة الإسلامية» والتي نظّر فيها الخميني مبدأ وعقيدة ولاية الفقيه:
1- «فالفقهاء اليوم هم الحجة على الناس كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - حجّة عليهم، وكل من يتخلف عن طاعتهم فإن الله يؤاخذه ويحاسبه على ذلك»(3)!
__________
(1) راجع كتاب «الأدلة الجلية على جواز التقية» لجواد القزويني.
(2) راجع كتاب «الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة» للعاملي، ص 64.
(3) كتاب الحكومة الإسلامية - طبعة مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني - الطبعة الرابعة - ص 109.(47/19)
2- «والله جعل الرسول وليّاً للمؤمنين جميعاً، ومن بعده كان الإمام - عليه السلام - وليّاً، ومعنى ولايتهما أن أوامرهما الشرعية نافذة في الجميع..، نفس هذه الولاية والحاكمية موجودة لدى الفقيه[!] بفارق واحد(1)؛ هو أن ولاية الفقيه على الفقهاء الآخرين لا تكون بحيث يستطيع عزلهم أو نصبهم(2)، لأن الفقهاء متساوون من ناحية الأهلية»(3).
3- «فإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيهٌ عالم عادل، فإنّه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي صلَّى الله عليه وآله منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا»(4).
يقول مرجعهم آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله:
«رأي الفقيه هو الرأي الذي يعطي للأشياء شرعيةً بصفته نائباً عن الإمام، والإمام هو نائب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فالإمام أولى بالمؤمنين من أنفسهم، والفقيه العادل هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم»(5).
__________
(1) هذا الفارق لذرّ الرماد في العيون، وإلا فإنّ حقيقة عقيدة ولاية الفقيه أنّها امتداد لولاية المعصومين - على حد زعمهم -، وستار للتسلّط باسم الدين.
(2) لو كان الخميني صادقاً فلماذا يقوم بعزل آية الله العظمى شريعتمداري، وقام بإسقاط الرتب الدينية والألقاب العلمية عنه! ولماذا قام بعزل آية الله العظمى نائب الخميني في ذلك الوقت: علي منتظري، وجعله رهين الإقامة الجبرية! هل لأنهم قاموا بالاعتراض على ولاية الفقيه ونبّهوا إلى ضرورة تقنينها وحصرها!؟
(3) كتاب «الحكومة الإسلامية» - طبعة مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني - الطبعة الرابعة - ص 73 - 74.
(4) كتاب «الحكومة الإسلامية» - طبعة مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني - الطبعة الرابعة - ص 72.
(5) ولاية الفقيه لمحمد حسين فضل الله ص 46 (نقلاً عن كتاب «حزب الله رؤية مغايرة» ص 61 ).(47/20)
إذن «فالواقع أن شرعية كل الأمور تنطلق من إمضاء الفقيه لها»(1).
- ... - ... -
من هي الجهة صاحبة المصلحة
والداعمة لحزب الله الشيعي؟
قامت إيران(2) بالتكفّل بجميع احتياجات هذا الحزب المالية، التي بلغت عام 1990 م ثلاثة ملايين دولار ونصف المليون حسب بعض التقديرات، وخمسين مليوناً عام 1991 م، وقُدِّرت بمائة وعشرين مليوناً في 1992 م، ومائة وستين مليوناً في عام 1993(3).
وتشير بعض المصادر إلى ارتفاع ميزانية حزب الله في عهد رفسنجاني إلى 280 مليون دولار(4). هذه الميزانيّة الكبيرة جعلت الحزب يهتم فقط بالأوامر التي تملى عليه دون التّدخل في نزاعات داخلية ضيّقة، وساعدته على توسيع قاعدته المقاتلة والشعبية، فاشترى ولاء الناس وحاجتهم وضمن ولاءهم وإخلاصهم له فهم منه وهو منهم، وقد «بلغت الأجرة الشهرية للمقاتل خمسة آلاف ليرة لبنانية(5)، وهي أعلى أجرة تقاضاها مقاتل في لبنان عام 1986 ، لدرجة أن مقاتلي (أمل) راحوا بهدف الكسب يهجرون صفوف الحركة للانخراط في حزب الله»(6).
__________
(1) المرجع السابق ص 24 (نقلاً عن كتاب «حزب الله رؤية مغايرة» ص 61 ).
(2) إيران التي تدعم حزب الله، هي التي تدعم «فيلق بدر» و«جيش المهدي» العراقيين، وهاتان المنظمتان هما من قتل أهل السنة وعلماءهم، واستولوا على مساجدهم في العراق.
(3) حزب الله من الداخل، أسرار وخفايا، زين محمود، مجلة «الشراع»، 14/8/1995 م، وانظر: د.وليد عبدالناصر، إيران دراسة عن الثورة والدولة، ص 83 (نقلاً عن: «حزب الله رؤية مغايرة» لعبدالمنعم شفيق ص 162).
(4) مجلة المجلة، العدد: 1013، 11/7/1999م . [نقلاً عن: «حزب الله رؤية مغايرة» لعبدالمنعم شفيق ص 162].
(5) وذلك في وقت قوة الليرة اللبنانية وارتفاعها.
(6) كتاب: الحروب السرية في لبنان. ص 271 ، وانظر: دولة حزب الله، ص 135 - 136.(47/21)
ومن الجدير بالذكر أن الحكومة الإيرانية - عن طريق حزب الله - قد تكفّلت بدفع كل الخسائر التي ستنتج عن الهجوم الإسرائيلي على لبنان في الحرب الأخيرة، وتعهّدت ببناء المنازل وما شابه ذلك.
وبالفعل فمنذ اليوم الأوّل؛ باشر حزب الله بدفع مبالغ للمتضرّرين في مناطق الشيعة كالضاحية الجنوبية لبيروت وغيرها، كدفعة أولى، من أجل استئجار منزلٍ وتأثيثه لكلِّ متضرّر، ريثما يتم بناء المنازل المدمّرة(1).
- ... - ... -
هل هناك أحزاب أو فروع لهذا الحزب
في العالم الإسلامي؟
هناك فروع لحزب الله في دول الخليج والجزيرة العربية كلها بنفس العقيدة وبنفس المنهج، ومنها:
حزب الله البحريني
مع بداية انتصار الثورة الشيعية في إيران، تأسّست عدة أحزاب في الخارج تابعة للنظام الإيراني، وذلك من أجل توسيع النفوذ الإيراني من خلال الشيعة في مختلف المناطق.
وفي البحرين تمّ التوجيه لهادي المدرسي بتكوين: الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين! ومقرّها: طهران.
وأصدرت في بدايتها بياناً تبيّن فيه أهدافها، وهي على النحو التالي:
1- إسقاط حكم آل خليفة.
2- إقامة نظام شيعي موافق للنظام الثوري الخميني في إيران.
3- تحقيق استقلال البلد عن مجلس التعاون الخليجي، وربطها بالجمهورية الإيرانية(2).
__________
(1) جاء في جريدة الحياة اللندنية أن حزب الله «دفع تعويضات بقيمة 12 ألف دولار لكل صاحب منزل دُمّر كمساعدة أولى ستضاف إليها مساعدة لإعادة الإعمار» 19/8/2006 م.
(2) انظرها في: الحركات والجماعات السياسية في البحرين، فلاح المديرس، ص 99 - 104.
الأحزاب والحركات والجماعات الإسلامية، 2/539، وفيه أنّ من الأهداف المرحلية للجبهة الإسلامية لتحرير البحرين: إسقاط حكم آل خليفة!. كما أعلنت ذلك في منشورها السابع ضمن مسيرة الثورة الإسلامية في البحرين.(47/22)
وكانت الجبهة تُصدر من إيران عدداً من المجلات من أمثال: «الشعب الثائر» و«الثورة الرسالة» وغيرها، وكان المسؤول عن الدائرة الإعلامية في الجبهة: عيسى مرهون.
وكان «الصندوق الحسيني الاجتماعي» أحد قواعد ومنطلقات هذه الجبهة.
وفي نهاية 1979 م قام الشيعة بتنسيق من الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين بتنظيم هذه المظاهرات التي وافقت مظاهرات شيعة السعودية في القطيف، وبعد أن تمّ تضييق الخناق، قامت الجبهة باغتيال أحد قادة المخابرات البحرينية، فقامت الحكومة بتضييق الخناق عليها واعتقال عدد من أعضاء الجبهة.
بعد ذلك أوقفت الجبهة عمل المظاهرات مؤقّتاً، وبدأت بالتحضير لعملية انقلابية قادمة، فقامت بتهريب الأسلحة إلى البحرين(1)، وفي ديسمبر من عام 1981 م قامت الجبهة بقيادة محمد تقي المدرسي بتنفيذ المحاولة الانقلابية على الحكم، وتم إفشال هذه العملية، وألقت الحكومة البحرينية القبض على 73 متّهماً باشر هذه العملية أو قام بمعاونة أصحابها.
وفي منتصف الثمانينات تم عقد اجتماع لقادة الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين مع المسؤولين في المخابرات الإيرانية، وتم الاتّفاق على إنشاء الجناح العسكري للجبهة تحت اسم: حزب الله - البحرين.
وفي بداية نشأة هذا الحزب، كُلِّف الشيخ محمد علي محفوظ - الأمين العام للجبهة الإسلامية لتحرير البحرين! - بتجنيد ثلاثة آلاف شيعي بحريني لحزب الله البحريني، وتدريبهم في إيران ولبنان(2)، وزعيم هذا الحزب هو (عبدالأمير الجمري)، وخلفه الآن (علي سلمان).
كما أنّ هادي المدرسي - زعيم الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين - يُعتبر المرشد والداعم لهذا الحزب، وكذلك محمد تقي المدرّسي، له دور كبير في الدعم اللوجستي والتنظيري لهذا الحزب.
__________
(1) تطور الحركة الوطنية والمعارضة في الجزيرة العربية، ص 13.
(2) انظر – مثلاً - في نشاط هذا الحزب وتحركاته: جريدة الأيام 15/6/1996 م.(47/23)
وبدأ هذا الحزب بالتخطيط والترتيب لإحداث الفتن والثورات في البلد والسيطرة على بعض المناطق والمرافق المهمّة.
وكان الهدف الأوّل لهذا الحزب، هو عمل انقلاب على النظام القائم بُغية إحلال نظام موافق وموالٍ للنظام الصفوي الشيعي في إيران، ويؤكّد ذلك ما صرّح به آية الله روحاني والذي قال: إن البحرين تابعة لإيران، وهي جزء من جمهورية إيران الإسلامية(1)!
ومن أبرز أعمال هذا الحزب؛ ما قام به في عام 1994 م من ثورات ومظاهرات وأعمال شغب، وكان يتسمّى بأسماء مختلفة؛ مثل: منظمة العمل المباشر، وحركة أحرار البحرين، ومنظمة الوطن السليب، إلا أنّها في الواقع ترجع لما يسمّى «حزب الله - البحرين».
وهذه الأسماء كلها انصهرت في الحزب الجديد المسمَّى: جمعية الوفاق الوطني الإسلامية، بقيادة (علي سلمان) مع الاهتمام بالجانب السياسي والإعلامي، وترك العمل العسكري والتنظيمي بيد الجناح العسكري للحزب والمسمّى (حزب الله - البحرين).
وقد كان هذا الحزب باسمه الآخر «حركة أحرار البحرين» يصدر نشرةً شهرية في مقرّه الأول في لندن باسم «صوت البحرين» يبيّن فيها مطالبه وأهدافه وأعماله، وينشر فيها أخباره، وكانت هذه الحركة تتلقى دعماً من بعض المنظمات الأجنبية والحاقدة، وفي أحد التقارير يُقدّر أحد مبالغ الدعم التي حصلوا عليها عن طريق منبرهم في لندن والذي كان يسمَّى (منبر البحارنة) إلى أكثر من 80 ألف دولار، ويحاول حزب الله - البحرين، أن يجعل النهج الذي ينتهجه عبر اسم: حركة أحرار البحرين، ذا مطالب سياسية إصلاحية حتى يتسنّى للجناح العسكري القيام بأدواره على الوجه المطلوب.
وأبرز المسؤولين في حركة أحرار البحرين: سعيد الشهابي، ومجيد العلوي، ومنصور الجمري.
__________
(1) الحركات والجماعات السياسية في البحرين، فلاح المديرس، ص 99 - 100.(47/24)
ثم شهدت البحرين عام 1996 م أحداثاً أخرى خطيرة من أعمال القتل والحرق والتخريب، قاموا بالترتيب لها في إيران ونفّذوها في البحرين.
ففي 14/ مارس/ 1996 م قام حزب الله البحريني بحرق مطعم في منطقة: سترة واديان، ليلقى سبعة آسيويين مصرعهم في مشهدٍ ينمّ عن حقدٍ أسود.
ثم قاموا في 21/ مارس/ 1996 م بإحراق «كراج» الزياني وأحرقوا السيارات الموجودة في المعرض.
ثم تنامى لديهم الحقد والبغض، فأحرقوا ودمّروا في تاريخ 6/ مايو/ 1996 م أكثر من تسعة محلات تجارية كبيرة، وتركوها أنقاضاً وأطلالاً.
كما قاموا بحرق وتدمير عدد من الفنادق والمدارس!، وكذلك بعض مولّدات الكهرباء العامة، وأجهزة الهاتف الثابتة في الشوارع(1). كما قاموا أيضاً بحرق بنك البحرين الإسلامي، والبنك البحريني الوطني، ومركز المعارض الدولي، وذلك بهدف شلّ الحركة الاقتصادية للدولة.
وخلال النصف الأول من هذه السنة كانت إذاعة طهران لا تفتأ تثير الفتن والبلابل وتدعو إلى التمرد على الدولة والطعن في شرعيتها وقراراتها.
ففي 13 /فبراير/ 1996 م أعلنت عن دعوة وقف الحركة التجارية لمدة يومين اعتباراً من الأحد القادم، وفي 15 /فبراير/ 1996 م دعت الإذاعة لعدم الاحتفال بعيد الفطر القادم!
كما دعت في 2/ مايو/ 1996 م مواطني البحرين إلى العصيان المدني، وعدم الاحتفال بعيد الأضحى(2)!
وبدأت تثير النفوس الحاقدة، فقالت الإذاعة يوم 22 /مارس/ 1996 م أن الحكومة البحرينية لن تستطيع الوقوف أمام مطالب الشعب البحريني(3)!
وهم بذلك يقصدون (مطالب الشيعة) بقلب نظام الحكم، وتحويله لدولة صفوية شيعية أخرى، على غرار دولة إيران.
__________
(1) ما ذنب المدارس ومولدات الكهرباء والهواتف!؟
(2) بينما لا تدعو إلى عدم الاحتفال بعيد الغدير، ولا عيد النيروز المجوسي، ولا تُوقف الاحتفال بمقتل عمر بن الخطاب على يد أبي لؤلؤة المجوسي، والذي يسمونه: فرحة الزهراء!.
(3) راجع الأرشيف الخاص بإذاعة طهران.(47/25)
ولهذا ما يدلّ عليه؛ فقد أعلنت صحيفة «الأنباء الكويتية»(1) أن (حزب الله الكويتي) قد قام بشراء وأخذ الأسلحة التي خلّفها الجيش العراقي في الكويت، وقام بتهريبها إلى (حزب الله البحريني).
وتقول الصحيفة: إن الأوامر التي صدرت من السلطات الإيرانية إلى (حزب الله البحريني) تضمّنت إتباع خطة طويلة المدى لتهريب الأسلحة إلى البحرين، بحيث لا تستطيع أجهزة الأمن البحرينية اكتشاف خيوطها مرة واحدة، وكذلك ضرورة أن يتم توزيعها على عدة مخابئ وفي أماكن متفرّقة.
وفي الاعتراف الذي قدّمه: علي أحمد كاظم المتقوي - أحد قادة تنظيم حزب الله البحريني - يقول فيه:
عقدنا اجتماعاً مع ضابط المخابرات الإيرانية أحمد شريفي، وفي هذا الاجتماع طَرح علينا فكرة لتهريب الأسلحة إلى البحرين عن طريق البحر.
كما أكّد هذا الأمر المتّهم جاسم حسن الخياط، وقال: إننا وضعنا خطة مع ضابط المخابرات الإيرانية أحمد شريفي لتهريب الأسلحة إلى البحرين.
وصرّح المتّهم: جاسم الخيّاط أن الهدف هو قلب نظام الحكم في البحرين بالقوة العسكرية، وإقامة حكومة شيعية موالية لإيران، وأوضح أيضاً أن أول دفعة أرسلت لمعسكر «كرج» في شمال طهران كانت عن طريق ضابط المخابرات الإيرانية العميد محمد رضى آل صادق، واللواء وحيدي.
وفي الجانب التعبوي التحريضي قام الخطيب: عباس علي أحمد حبيل بإلقاء خطب تحرّض على العنف وتدعو إلى الوقوف ضد الدولة، وقام بتشكيل مجموعات لتندرج تحت حزب الله - البحرين(2).
كما كان للمدعو: عبدالوهاب حسين دور كبير في هذا الحزب، حيث كان يلقي دروساً للحزب في كيفية التعامل مع رجال الأمن ومع المحقّقين، وكيفية مواجهة الأسئلة المحرجة، وطريقة التعبئة الجماهيرية والشحن الاجتماعي على الدولة.
__________
(1) 10/ يونيو/ 1996م.
(2) راجع اعترافات هؤلاء في إرشيف تلفزيون البحرين، والصحف البحرينية والعربية في ذلك الوقت.(47/26)
وكان الخطيب عباس حبيل يتلقّى الأوامر منه ومن الزعيم عبدالأمير الجمري عن طريق شخص اسمه: محمد الرياش.
وقد صرَّح وزير شؤون مجلس الوزراء والإعلام البحريني آنذاك، أن حزب الله في البحرين قد قام بمجموعة تدريبات في معسكرات الحرس الثوري في إيران - مثل معسكر «كرج» شمال طهران -، وبعد أن ظهر الضغط على إيران في ضلوعها في أحداث حزب الله البحريني، تم نقل المجموعات إلى معسكرات حزب الله في لبنان.
وكان التدريب العسكري يشتمل على الأسلحة، والمتفجرات، وألعاب الدفاع عن النفس، وكيفية جمع وتوصيل المعلومات، وجمع وتأمين الأوراق السرّية، وكيفية تزويرها(1).
وأبرز شخصيات «حزب الله - البحرين» الضالعة في أحداث 1996 م هم:
علي أحمد كاظم المتقوي - اللجنة المالية والمنسق مع المخابرات الإيرانية-، عادل الشعلة - لجنة التدريب العسكري -، خليل سلطان - اللجنة الإعلامية -، جاسم حسن منصور الخياط - اللجنة المخابراتية والأمنية -، محمد حبيب - شيخ بحريني مقيم في الكويت -، حسين أحمد المديفع، حسين يوسف علي، خليل إبراهيم عيسى الحايكي(2).
وتُقدّر قيمة المتلفات - على أقلّ التقديرات - التي قام بإتلافها وتخريبها «حزب الله - البحرين» إلى أكثر 658,224,15 دولار.
__________
(1) من تصريح وزير الداخلية الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة، وكذلك بقية الصحف البحرينية آنذاك.
(2) وقد تم القبض آنذاك على 44 متهماً ينتسبون إلى «حزب الله - البحرين».(47/27)
وبعد هذه الأحداث، ورغم التنازلات التي قدّمتها الحكومة البحرينية للشيعة ولقادة هذا الحزب (علي سلمان) و(عبدالأمير الجمري) وغيرهم من أمثال آية الله «محمد سند» من خطباء الحسينيات والشيوخ المعمّمين وقادة حزب الله البحريني؛ لا يزالون مستمرّين في مخطّطاتهم وتنفيذ أهدافهم، ومن آخر الأعمال المشينة لهذا الحزب، ما اكتشفته الحكومة البحرينية في شهر سبتمبر من عام 2006 م؛ إذ اكتشفت مخطّطاً إيرانياً لشراء عدد من الأراضي في مختلف مناطق البحرين، في محاولةٍ شيعيةٍ لتغيير التركيبة السكّانية وتوزيع حلفائها على جميع المناطق، والدعم غير المباشر للجهات والجمعيات الموالية لإيران(1).
بل كشفت التقارير الأمنية(2) عن إعادة تهيئة وتشكيل لـ«حزب الله - البحرين» وإقامة معسكرات تدريبية لعناصره في «ثكنة الإمام علي» قرب طهران.
وقد اجتمع «حزب الله» اللبناني ممثلاً بعدة شخصيات قيادية فيه، ومن بينهم: عكرم بركات وبين القوى الشيعية في البحرين، وذلك في دمشق، ثم في بيروت، ودار الحوارات حول خطة التحرك الشيعي وتنظيم العمل السياسي بهدف توسيع التغلغل الشيعي والنفوذ الإيراني في البحرين، وتعهّد «حسن نصر الله» بدعم القوى الشيعية في البحرين لمواصلة المشروع الذي يبغون الوصول له والعمل من أجله(3).
كما تمّ إقرار هدف توسيع النفوذ الاقتصادي، وتفعيل دور التجّار الشيعة، وذلك بدعمهم والشراكة معهم، للسيطرة على الاقتصاد، واحتكار بعض الأعمال لبعض المواد الأساسية لاستخدام ذلك كورقة ضغط للحصول على تنازلات جديدة!
__________
(1) موقع إيلاف 3/ سبتمبر/ 2006 م، صحيفة الأيام البحرينية 4/ سبتمبر/ 2006 م.
(2) مجلة الوطن العربي، عدد 1545، 11/10/2006 م.
(3) مجلة الوطن العربي، عدد 1543، 27/ سبتمبر /2006 م.(47/28)
كما تقوم الاستخبارات الإيرانية بدعم وتنشيط المشاركة الشيعية الإيجابية في الانتخابات النيابية، وحشد التأييد الشيعي لحصد غالبية المقاعد لفرض تشريعات تكون في صالح الطائفة الشيعية الموافقة لمصالح إيران ورغباتها في النفوذ الفارسي الصفوي على المستوى الخليجي والعربي(1).
- ... - ... -
حزب الله الحجاز
مع بداية قيام الثورة الخمينية في إيران وتولّيها للسلطة عام 1979 م، أوعز النظام الإيراني لأتباعه في السعودية، بالقيام بثورات ضد الحكومة السعودية القائمة، مما تسبّب هذا التحريض في قيام ما يسمّى ثورة الشيعة في القطيف عام 1400 هـ، حيث بدأت الشعارات والهتافات، مثل: «مبدؤنا حسيني، قائدنا خميني» «يسقط النظام السعودي» «يسقط فهد وخالد».
ومن خلال بروز الثورة الخمينية، والتواصل المنسجم بين إيران والقيادات الشيعية في السعودية، فقد عُهد إليهم بإنشاء منظّمة يكون مرشدها ومنظّرها هو الشيخ: حسن الصفّار، وتمت تسمية هذه المنظمة باسم:
منظمة الثورة الإسلامية لتحرير الجزيرة العربية(2).
وصارت تسمّى فيما بعد بمنظّمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية.
وكانت أهداف هذه المنظّمة تتلخّص في:
1- حماية الثورة الإيرانية في إيران وتمهيد تصديرها في العالم الإسلامي.
2- تحرير الجزيرة العربية! (السعودية) من الحكم الإسلامي السنّي، وإبدالها بحكومة شيعية موالية لإيران.
إذ ترى المنظّمة أن الحكم السعودي وبقية الأنظمة الخليجية: طاغوتية كافرة.
وتعتبر المنظّمة نفسها جزءاً من الثورة الخمينية الإيرانية، ولهذا يقول الشيخ حسن الصفار - مرشد ومنظّر المنظّمة -:
نطلب ونتوقّع من إيران أشياء كثيرة بحجم الأهداف التي رفعتها الثورة(3).
__________
(1) مجلة الوطن العربي، عدد 1546، 18/ أكتوبر /2006 م.
(2) الأحزاب والحركات والجماعات الإسلامية، 2/581.
(3) الأحزاب والحركات والجماعات الإسلامية، 2/588.(47/29)
وترى المنظّمة أنه لتحقيق ثورة إسلامية، فإنّ ذلك يتطلب ثلاثة شروط:
1- هجرة القيادة وأداء الدور المطلوب من الخارج، بحيث يتوفّر مكان أكثر حرّية، مع وجود منظّمات ومؤسّسات أجنبية تدعم هذه المنظمة لوجستيّاً ومعنوياًُ.
2- الحسم في الثورات الشيعية لا يأتي إلا بالسلاح.
3- بناء جبهات متعدّدة مساندة للمنظّمة وأهدافها.
وكان مركز المنظّمة إيران، واستقرّت فترة في دمشق، ثم استقرّت أخيراً في لندن.
وكانت تُصدر نشرتها المعروفة بـ«الثورة الإسلامية»، وذلك في الثمانينات الميلادية.
ونظراً لحساسية اسم المنظّمة واسم المجلّة، وأنّ الاسم هذا لا يخدم مصالحهم ولا يجعل لهم قبولاً في بعض الأوساط، فقد تقرّر تكتيكيّاً نهاية عام 1990 م وبداية 1991 م تغييرها من «منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية» إلى «الحركة الإصلاحية [الشيعية] في الجزيرة العربية».
وكذلك تمَّ إيقاف نشرة «الثورة الإسلامية»، وإبدالها بـ: «مجلة الجزيرة العربية».
كما قاموا بإنشاء «دار الصفا» لطباعة الكتب التي تقوم بالافتراء والتحريض ضد المجتمع السعودي، كما تقوم «دار الصفا» بدعم من المنظّمة بإصدار التقارير والمعلومات لإرسالها للمنظمات الغربية واليهودية، حيث كانت المنظّمة تحظى بعلاقات وثيقة مع البرلمانيين الغربيين.
وصدر من «مجلة الجزيرة العربية» قرابة الثلاثين عدد، بداية من يناير 1991 م حتى منتصف 1993 م، وكانت المجلّة تحظى بدعم غير محدود من المنظمات الأجنبية، والتي تريد الانتقام من النظام الإسلامي، وتريد خلخلة وزعزعة الأمن وإثارة البلابل في السعودية.
وكان رئيس تحرير المجلّة هو: حمزة الحسن، ومدير تحريرها: عبد الأمير موسى.(47/30)
ونظراً لأن من طرق تحصيل أهدافهم هو إنشاء جبهات متعدّدة لتحقيق مطالبهم، فقد أنشأت «منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية» لجنةً لحقوق الإنسان، وفضّلوا أن تكون بعيدةً عنهم، ومرتبطة بشكلٍ أكبر بالنظام الأمريكي، لتواجد كثير من المنظّمات الأمريكية واليهودية المرتبطة بالمنظّمة، فضلاً عن أن تكون جبهةً أخرى في مكان آخر.
فقاموا بإنشاء: «اللجنة الدولية لحقوق الإنسان في الخليج والجزيرة العربية»، وقد أصدرت اللجنة مجلة "Arabia moniter" الناطقة باللغة الانجليزية، والتي يتم كتابة التقارير المُشبعة بالتضخيم والمبالغة والافتراء، فضلاً عن التعبير عن أفكار وأيدلوجيا منظمة الثورة.
وكان يشرف على اللجنة في واشنطن: جعفر الشايب، كما يقوم بو خمسين في لندن، وصادق الجبران بإعانته في إدارة اللجنة، وكان «توفيق السيف» من العاملين الفاعلين في هذه اللجنة وهو الأمين العام للحركة الإصلاحية الشيعية.
وأبرز العاملين في الحركة الإصلاحية الشيعية في الجزيرة العربية (منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية) سابقاً هم:
1- حسن الصفّار. مؤسّس ومنظّر ومُرشد الحركة.
2- توفيق السيف. الأمين العام للحركة.
3- حمزة الحسن. رئيس تحرير مجلة «الجزيرة العربية».
4- ميرزا الخويلدي. المسؤول عن دار الصفا للنشر.
وغيرهم من أمثال: عادل سلمان، وحبيب إبراهيم، وفؤاد إبراهيم، ومحمد الحسين، وزكي الميلاد، وعيسى المزعل، وجعفر الشايب، وصادق الجبران، وفوزي السيف.
وفي عام 1993 م - 1994 م تم الاتفاق بين الحركة وبين الحكومة السعودية، وتسوية الأمر مع الاتفاق على إقفال مكاتب الحركة في الخارج وإغلاق المجلات الصادرة عنها، وإنهاء النشاط السياسي في الخارج، وقطع العلاقات القائمة بين الحركة وبين المنظمات اليهودية والأجنبية، والانخراط الهادئ والفاعل في المجتمع والمؤسّسات الحكومية.(47/31)
ونظراً لانكشاف الثورة الخمينية الإيرانية على حقيقتها، وأنها ليست إلا ثورة شعوبية تريد النفوذ السياسي في المنطقة، ولأن هؤلاء يمشون على مبدأ التقية في الدين والسياسة، فقد رجع هؤلاء إلى السعودية ليؤدّوا الدور المطلوب منهم في داخل الدولة، وبقي عدد منهم في الخارج ليكملوا ما بدأه إخوانهم، وليستمروا على ما انقطع عنه شيعتهم(1).
وهؤلاء لا يزالون ينفّذون مخطّطاتهم في الداخل، مع أنّ تمّ الاتفاق على إغلاق النشاط السياسي القائم على الطائفية والنفوذ العنصري.
ومن آخر أعمالهم؛ ما صرّح به حسن الصفار في احتفالٍ شيعي في منطقة القطيف في شهر أكتوبر من عام 2006 م من تهديد مبطّن إذا لم يُستجب للمطالب الشيعية ذات التوجّه الصفوي بإحداث انفجار في الداخل الشيعي، تلميحاً إلى ما قام به الشيعة عام 1400هـ، وأحداث مكّة عام 1407هـ وغيرها.
قرآن كريم الجناح العسكري «حزب الله الحجاز».
في المنتصف الثاني من الثمانينات (تقريباً عام 1987 م) تم إنشاء الجناح العسكري لمنظّمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية، واتّفق على تسميتها بحزب الله الحجاز(2)، وكان هذا الحزب يتولّى العمليات الإرهابية في السعودية، والتنسيق مع الحرس الثوري الإيراني لعمليات الإرهاب والفتنة في أيام الحج.
__________
(1) منهم بعض من وقّعوا على اتفاقية المصالحة، فضلاً عن آخرين لم يأتوا أصلاً لإكمال مشروعهم في الخارج بدعم من المنظمات الأجنبية واليهودية، ومن هؤلاء الموجودين في الخارج: علي آل أحمد، المتعاون مع المنظمات الأجنبية ضدّ كل ما هو متّصل بالشأن السعودي الإسلامي.
(2) تم تسميته بـ(الحجاز) لأن هؤلاء لايؤمنون بشرعية الدولة السعودية، ولأن إمامهم (الخميني) كان يطلق على السعودية اسم (الحجاز)، مع أنّ هذا الاسم ليس دقيقاً، خصوصاً وأن الحجازيين سنة، ويتبرؤون من الشيعة.(47/32)
وتمّ تشكيل هذا الحزب عن طريق الحرس الثوري الجمهوري الإيراني، بإشراف ضابط المخابرات الإيراني: أحمد شريفي، وتمّ تجنيد بعض الشيعة السعوديين الذين يدرسون في «قم» الإيرانية.
ونظراً لاختلاف التوجّهات والنزاع على المرجعية السياسية في السعودية، مع قيام مصادمات شخصية بين أطراف في «حزب الله الحجاز» و «منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية» فقد قرّر القادة المنسّقين في إيران بإشراف الضابط الإيراني: أحمد شريفي أن يتمّ التفريق بين الحزب وبين المنظّمة، مع إعطاء امتياز العمل العسكري لحزب الله الحجاز.
ففي حجّ عام 1407 هـ قام أفراد من حزب الله الحجاز بالتعاون مع الحرس الثوري الإيراني في مظاهرة كبيرة قصدوا منها قتل الحجاج وتدمير الممتلكات العامة، وإثارة الفتنة في المسجد الحرام والأماكن المقدّسة(1).
كما قاموا بالتعاون مع حزب الله الكويتي في استعمال الغازات السامة في نفق المعيصم في مكة المكرمة، مما تسبب في جرح وقتل المئات من حجاج بيت الله الحرام.
__________
(1) انظر في تورّط الحرس الثوري الجمهوري الإيراني في هذه الأحداث في كتاب: الحرس الثوري الإيراني، كينيث كاتزمان، ص 195.
وقد صرّح صاحب كتاب: الآثار النبوية، للمغربي، ص 11 ، بمشاركة شيعة السعودية إلى جانب الإيرانيين في هذه الأحداث.
وأيضاً صرّحت وأدانت جامعة الدول العربية أعمال النظام الإيراني في مكة المكرمة، وأعمال الشغب في حج 1407 هـ، وكذلك بقية التهديدات الإيرانية لدول الخليج والدول العربية، كما في: قرارات جامعة الدول العربية (ق 4695 - د.غ.ع - 25/8/1987 م).(47/33)
وفي تاريخ 9/2/1417 هـ الموافق 25/6/1996 م قام أفراد من حزب الله الحجاز بتفجير صهريج ضخم في مجمع سكني في مدينة الخبر، وذلك بإيقاف هذه الشاحنة عند المجمع، ثم الهروب في سيارة مرافقة، وبعد أربع دقائق انفجر الصهريج، ومن أبرز المنفذين لتلك العملية والمتعاونين: هاني الصايغ، ومصطفى القصاب، وجعفر الشويخات، وإبراهيم اليعقوب، وعلي الحوري، وعبدالكريم الناصر وأحمد المغسل - ويُعتبر المسؤول عن الجانب العسكري في الحزب، وقائد عملية تفجير مجمّع الخبر -، وحسين آل مغيص، وعبدالله الجراش، والشيخ سعيد البحار، والشيخ عبدالجليل السمين.
بعد عملية تفجير المجمّع السكني في الخبر، تمّ القبض على هاني الصايغ في كندا وتمّ تسليمه للسعودية عن طريق أمريكا، وهرب عبدالكريم الناصر، وأحمد المغسل وإبراهيم اليعقوب وعلي الحوري إلى إيران، كما تمّ تهريب الشويخات من سوريا بعد أن تمّ إعلان موته في أحد السجون السورية بعد يوم من القبض عليه في سوريا بدعوى انتحاره! ويُقال أنّه قتل فعلاً في السجن عن طريق المخابرات السورية بتوجيه من إيران ليتمّ إخفاء وإعدام أحد مصادر معلومات عملية تفجير مجمّع الخبر السكني.
وأبرز كوادر هذا الحزب: عبدالكريم حسين الناصر - يُعتبر أحد القادة في الحزب -.
وهناك أيضاً: فاضل العلوي، وعلي المرهون، ومصطفى المعلم، وصالح رمضان، الذين تم القبض عليهم قبل عملية تفجير الخبر، إذ كانوا ينوون القيام بهذه العملية، مما حدا بأحمد المغسل أن يوكل العملية لخليّة أخرى - التي ذُكرت سابقاً-.
ومن أبرز رموزهم وقادتهم: الشيخ جعفر علي المبارك، وعبدالكريم كاظم الحبيل، وهاشم الشخص(1)، وكان هؤلاء يُعتبرون المنظّرين والداعمين لهذا الحزب.
__________
(1) وهؤلاء الثلاثة كلهم حاصلين على لقب (حجة الإسلام والمسلمين) والذي يدل على بلوغ بداية الاجتهاد، وبلوغ مرتبة علمية كبيرة بين الشيعة.(47/34)
وهناك مجموعات أخرى تشكل البناء الكامل للتنظيم، وللعلم فإن أفراد هذا الحزب يتلقون تدريباتهم في إيران ولبنان من أجل العمل على تنفيذ مخطّطاتهم في إسقاط الحكومات الإسلامية، وبناء نظام وحكومة موالية لإيران(1)!
ونظراً للقبض على كثير من رموز هذا الحزب، ورجوع بعض رموز المعارضة الشيعية من «منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية» فقد تقرّر للحزب مواصلة العمل السياسي والإعلامي في الخارج، ولا يزال الحزب إلى الآن يقوم بإصدار النشرات التحريضية والدعوات الداعية للعنف ومقاومة الحكومة والإصرار على تحريرها من الحكومة السعودية(2)!، كما أنّ له موقعاً على الانترنت يقوم فيه بجمع ونشر إصداراته وإصدارات منظمة الثورة الإسلامية.
- ... - ... -
حزب الله (الكويتي)
نشأ (حزب الله - الكويت) في بداية الثمانينات، بعد نشأة حزب الله اللبناني، واتّخذ هذا الحزب أسماءً ومنظّمات وهمية، مثل: «طلائع تغيير النظام للجمهورية الكويتية» و «صوت الشعب الكويتي الحر» و «منظمة الجهاد الإسلامي» و «قوات المنظمة الثورية في الكويت»، وكلّها ترجع للحزب المسمَّى (حزب الله - الكويت)(3).
__________
(1) المعلومات الواردة تم استقاؤها من جريدة الرياض ، الثلاثاء 4 ذي القعدة 1426 هـ - 6 ديسمبر 2005 م - العدد 13679، وكتاب: الأحزاب والحركات والجماعات الإسلامية 2/581 - 601، وشبكة الانترنت، ومصادر أخرى.
(2) انظر مثلاً: بيان حزب الله الحجاز المؤرّخ في 9/3/2005 م.
(3) الحركة الشيعية في الكويت، د.فلاح المديرس، ص 30 - 31.(47/35)
وتأسَّس هذا الحزب الفرعي، بمجموعة من شيعة الكويت كانت تدرس في الحوزة الدينية في قم(1)، ويرتبط معظم أعضاء هذا الحزب بالحرس الثوري الجمهوري الإيراني، حيث كانوا يتلقّون تدريباتهم عن طريقه(2).
كما أنّهم كانوا يصدرون مجلة «النصر» والتي تُعبّر عن جزء من أفكار وأهداف (حزب الله - الكويت) عن طريق المركز الكويتي للإعلام الإسلامي! في طهران.
كما كانت هذه المجلّة تقوم بالدور التعبوي التحريضي لشيعة الكويت للقيام بما يخدم مصالحهم وأهدافهم، وتدعو للقيام بقلب نظام الحكم وإقامة نظام شيعي موالٍ لإيران.
وكان هذا الحزب يثير الفتن والقلاقل، ويقوم بالتفجير والاغتيال والاختطاف في الكويت، ليحاول السيطرة على البلد وتكوين دولة أخرى تدين بما تدين به إيران.
و«يُعد حزب الله - الكويت جزءاً لا يتجزأ من الحركة الشيعية الإيرانية بقيادة آية الله العظمى علي خامنئي، ويرى أن حكم آل صباح لا مكان له في الكويت»(3).
__________
(1) التجنيد الأول لغالب المنتسبين المؤسّسين لفروع حزب الله في دول الخليج يكون عبر مدينة «قم» عند ذهاب هؤلاء الشيعة للدراسة الدينية في الحوزة العلمية هناك.
(2) الحركة الشيعية في الكويت، د.فلاح المديرس، ص 31.
(3) مجلة السياسة الدولية-الصادرة عن صحيفة الإهرام، السنة 32، العدد 123، يناير 1996م.(47/36)
وأعمال هذا الحزب في الكويت كثيرة، ومنها: مباركة عملية الاغتيال التي نفّذها «حزب الدعوة»(1) الشيعي، وذلك في تاريخ 25/5/1985 م حينما كان الموكب الأميري لأمير الكويت متّجهاً لقصر السيف خارجًا من قصر دسمان، فأغلقت جميع الإشارات المرورية كي يسمح للموكب بالمرور، و تركت الفتحات الجانبية بين الإشارات المرورية مفتوحة مما كان يسمح لبعض السيارات بالمرور بجانب الموكب.
في هذه اللحظة، دخلت إحدى السيارات من الفتحة الجانبية، فقام الحرس بمحاولة إيقافها، ولكنّها انفجرت مما تسبّب في احتراق سيارة الحرس الأولى بمن فيها و هم محمد العنزي وهادي الشمري، ودفع الإنفجار سيارة الحرس الأخرى بشدة مما جعلها تصطدم بسيارة الأمير على الجانب الأيسر دافعة إياها بشدة ناحية الرصيف الأيمن للشارع و استقرت هناك، و ما لبثت إلا قليلا حتى بدأت النيران تأكل فيها.
وأيضاً في 12/ يوليو /1985 م قاموا بعملية تفجير في مقهيين شعبيين في مدينة الكويت، مخلّفة قتلى وجرحى من المدنيين.
وبتاريخ 29/ إبريل /1986 م أعلنت قوات الأمن الكويتية أنها أحبطت محاولة مجموعة مكونة من 12 شخصا لخطف طائرة من نوع 747 تابعة للخطوط الجوية الكويتية إلى جهة غير معلومة في شرق آسيا.
__________
(1) ورئيس هذا الحزب آنذاك هو: محمد باقر الحكيم، والذي تمّ اغتياله في العراق عام 2003 م، وهذا الرجل أصدر ذلك الحين فتوى بجواز قتل أمير الكويت، وأن قاتله سيكون شهيداً ويدخل الجنة!، ومن ساعد على عملية الاغتيال يكون في الجنة أيضاً.(47/37)
وفي الخامس من شهر إبريل من عام 1988م أصدر (علي أكبر محتشمي(1)) أمراً لقيادات (حزب الله) بخطف طائرة الخطوط الجوية الكويتية «الجابرية» القادمة من بانكوك وتوجه بها إلى مطار «مشهد» الإيراني، بقيادة اللبناني (عماد مغنية)(2)، والذي يعتبر الآن بمثابة رئيس الأركان في جيش حزب الله اللبناني(3).
__________
(1) كما صرّحت بذلك جريدة القبس الكويتية ذلك الوقت، عدد 5717.
(2) وقد أكّد الباحث الإيراني: د.مسعود أسد اللهي، في إطروحته الجامعية «الدكتوراه» أن الخاطفين هم من شيعة لبنان ويتبعون تنظيم (حزب الله). كتاب: الإسلاميون في مجتمع تعدّدي - حزب الله في لبنان نموذجاً، ص 252 - 254.
(3) وقد ذكرت صحيفة الشرق الأوسط يوم الجمعة 17 رجب 1427 هـ الموافق 11 أغسطس 2006 في العدد (10118) أنه في عام 2005 ، =عُهدت إلى (عماد مغنية) مسؤولية تنظيم العلاقات ما بين فصائل الشيعة المسلحة في جنوب العراق، ومن ثم تسلم مهمة المشرف الميداني على مراكز استخبارات الحرس الثوري في جنوب العراق. وفي العام نفسه 2005 ، توجه عماد إلى لبنان عبر سورية، برفقة بعض المسؤولين الإيرانيين هذه المرة تحت اسم (سيد مهدي هاشمي)، ايراني الجنسية حامل جواز سفر دبلوماسي.
وأوائل عام 2006 شوهد عماد فايز مغنية في البصرة بالعراق، ويقال إنه كان مسؤولا عن تنظيم سفر مقاتلي «جيش المهدي» إلى إيران، للمشاركة في دورات التدريب، وفي ابريل الماضي، تردد أن مغنية عاد إلى لبنان حيث تسلم مهمة رفيعة في جهاز استخبارات حزب الله، والقيادة الإيرانية تطلق عليه (الثعلب)، وزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله يطلق عليه لقب (الحاج)!(47/38)
ثم حاول الهبوط في بيروت، ولكن رُفضت مطالبهم، فانطلقوا إلى مطار لارنكا في قبرص، وتمَّ قتل الكويتيان عبدالله الخالدي وخالد أيوب بإطلاق الرصاص على رأسيهما ثم رميهما من الطائرة، وأخيراً توجهت الطائرة إلى الجزائر حيث أطلق سراح الخاطفين(1).
طلب حزب الله من الحكومة الكويتية حينذاك إطلاق بضعة عشر سجيناً ينفذون أحكاماً مختلفة بعد قيامهم في العام 1983 م بواسطة منظمة تابعة للحزب تدعى «الجهاد الإسلامي» بتفجيرات استهدفت،في يوم واحد، محطة الكهرباء الرئيسية، ومطار الكويت الدولي، والسفارتين الأميركية والفرنسية، ومجمعاً صناعياً نفطياً، ومجمعاً سكنياً، وبلغ عدد القتلى 7 أشخاص و 62 جريحا جميعهم من المدنيين والفنيين العاملين في المواقع النفطية والسكنية(2).
كما قاموا أيضاً في النصف الأول من عام 1983 م باختطاف طائرة كويتية وعلى متنها قرابة 500 راكب، وتوجّهوا بها إلى مطار مشهد في إيران.
وكان «حزب الله - الكويت» على صلات ببقية فروع هذا الحزب في منطقة الخليج، فبعد أن قام فرع الحزب في الكويت بجمع الأسلحة اللازمة وتخزين ما تبقّى من مخلفات الهجوم العراقي على الكويت، قام بنقل ما يحتاجه «حزب الله - البحرين» في أعماله الدامية عام 1996 م عن طريق التهريب، وقد أعلنت صحيفة «الأنباء الكويتية» أن (حزب الله الكويتي) قد قام بشراء وأخذ الأسلحة التي خلّفها الجيش العراقي في الكويت، وقام بتهريبها إلى (حزب الله البحريني)(3).
__________
(1) وانظر أيضاً حول أحداث قصة خطف الطائرة الجابرية:
مجلة الكويت - عدد 70 - يوليو 1988.
ومجلة المستقبل - عدد 582 - إبريل 1988.
(2) وانظر أيضاً حول أحداث شغب هذا الحزب في الكويت في كتاب: حزب الله من الحلم الإيديولوجي إلى الواقعية السياسية. ص 58 - 60.
(3) 10/يونيو/1996م.(47/39)
وفي التسعينات اتّخذ (حزب الله الكويتي) ستاراً آخر يُحاول فيه تحقيق أهدافه عن طريق المشاركة السياسية الفاعلة في الدولة وتمرير بعض مطالبه، فانبثق عنه (الائتلاف الإسلامي الوطني) بمنهج التقيّة السياسية ومهادنة ومداهنة السلطة، على حسب ما تقتضيه المتغيّرات السياسية بما لا يضرّ أهدافهم الاستراتيجية ومطالبهم.
ومن أبرز قادة هذا الحزب ومؤسّسيه: محمد باقر المهري، وعباس بن نخي، وعدنان عبدالصمد، والدكتور ناصر صرخوه، والدكتور عبدالمحسن جمال.
وقد بدأ النظام الإيراني الشيعي باستئناف العمل في هذا الفرع! فقد كشفت التقارير الأمنية(1) أن السيطرة الإيرانية على جنوب العراق - والذي أصبح معقلاً من معاقل الحرس الثوري والمخابرات الإيرانية - قد تحوّلت إلى قاعدة خلفية للتمدّد نحو الكويت وإثارة الاضطرابات في الكويت، كما كشفت هذه التقارير عن بناء المخابرات الإيرانية لشبكات تهريب أسلحة إلى الكويت، ولوحظت أيضاً عمليات تعبئة تحريضية لبعض الفئات الشيعية الكويتية الموالية لإيران.
كفى الله الكويت وسائر بلاد المسلمين شرَّ الشيعة.
- ... - ... -
حزب الله اليمني
كان هناك فرعٌ لهذا الحزب بهذا الاسم(2)، ونظراً لما ارتكبه حزب الله اللبناني وفروع هذا الحزب من جرائم واغتيالات، ورفض الشعب اليمني المسلم لمثل هذا الحزب وعقائده وأجندته الهادفة للاختراق الشيعي الاثني عشري للمجتمع، تمّ إبعاد هذا الاسم، واستبداله باسم آخر، ألا وهو (الشباب المؤمن) وذلك في التسعينات الميلادية(3)، وتمّ تجنيد عدد من الزيدية الذين تحوّلوا إلى (شيعة اثني عشرية) أو بقوا على مذهبهم الزيدي ولكن غُرّر بهم، ليكونوا أداةً وذراعاً للنفوذ الإيراني الاثني عشري في اليمن.
__________
(1) مجلة الوطن العربي، عدد 1545، 11/10/2006 م.
(2) الزهر والحجر، ص 130.
(3) تجد تفاصيل نشأة الحزب في كتاب: الحرب في صعدة، ص 26، الزهر والحجر 129.(47/40)
وعلى رأس هذا الهرم (حسين(1) بدر الدين الحوثي) وأبوه (بدر الدين(2) الحوثي) (3)، إذ إنّهم في الأصل من فِرقة: الجارودية(4) وقد انتقل الحوثي من الزيدية الجارودية إلى الجعفرية الاثني عشرية مبكراً، وأكّد ذلك بذهابه إلى إيران والنهل من معينها الصفوي.
وبعض من وقعوا تحت تأثير حملته، يؤرخون العام 1997 م كعامٍ للانتقال الفعلي من الهادوية الجارودية إلى الجعفرية الاثني عشرية(5).
__________
(1) قُتل في 10/9/2004 ، عن 46 عاماً.
(2) لا يزال على قيد الحياة، وعمره الآن 85 سنة.
(3) الشيعي القطيفي: حسن الصفار، يُعتبر أحد تلامذته، وقد نالَ منه إجازة وشهادة، وهذا الأمر مُثبت في السيرة الذاتية لحسن الصفار في موقعه على الانترنت (وتمّ حذفها لاحقاً تقيَّة بعد تطوّر الأحداث).
(4) وهي إحدى فِرق الزيدية، وفرقة الجارودية أقرب فرق الزيدية إلى الاثني عشرية؛ بل إن شيخ الشيعة: المفيد لم يدخل في التشيّع إلا الإمامية والجارودية «أوائل المقالات ص 39»، وهي ترفض الترضّي عن أبي بكرٍ وعمر، وتقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم نصَّ على عليّ بالإشارة والوصف، وأن الأمة ضلّت وكفرت بصرفها الأمر إلى غيره، وترفض الصحيحين والسنة النبوية التي نقلها الصحابة الكرام.
انظر: أصول مذهب الشيعة الاثني عشرية للقفاري 1/51، محمد عيظة شبيبة، مقال: الحوثي ومستقبل الفتنة المجهول، صحيفة الرشد، عدد 33، 25/4/2005 م.
(5) الزهر والحجر «التمرد الشيعي في اليمن» لعادل الأحمدي، ص 138.(47/41)
ولذلك قام علماء الزيدية في اليمن بالبراءة من الحوثي وحركته، في بيانٍ أسموه: بيان من علماء الزيدية، وردّوا عليه دعاويه، وحذّروا من ضلالاته التي لا تمتّ لأهل البيت والمذهب الزيدي بصلة(1).
ويرى الشيعة الإثنا عشرية أن للمهدي ثورات تمهيدية تكون سابقة لخروج المهدي المنتظر عندهم، ويؤكّد الباحث الشيعي الإيراني: علي الكوراني(2) أن قائد هذه الثورة من ذرّية زيد بن علي، وأنّ الروايات تذكر أن اسمه (حسن أو حسين)، ويخرج من اليمن من قرية يُقال لها: كرعة(3)، وهي كما يقول الكوراني قرب صعدة.
وفي هذا تلميح لثورة الحوثي ونصرتها بزعم تمهيدها لثورة إمامهم المهدي!
وتدور أفكار الحوثي وأطروحاته على الدعوة إلى الإمامة والترويج لفكرة الوصية والخروج على الحكّام، والبراءة من الصحابة عموماً، ومن الخلفاء الراشدين خصوصاً لأنهم أصل البلاء - كما يزعم! - ويدعو إلى نبذ علوم الشريعة لأنها مأخوذة من علماء أهل السنة(4).
ولذلك فقد قال بدر الدين الحوثي: (أنا عن نفسي أؤمن بتكفيرهم (أي: الصحابة) كونهم خالفوا رسول الله صلى الله عليه وآله)(5).
بل وقام بدر الدين الحوثي بإعلان وجوب قبض الخُمس وإعطائه له(6)، ومعلومٌ أن هذه الشعيرة إحدى مفردات المذهب الشيعي الاثني عشري.
__________
(1) انظر هذا البيان في: الزهر والحجر «التمرد الشيعي في اليمن» عادل الأحمدي، ص 253، 349 . ومن هؤلاء الموقّعين: القاضي أحمد الشامي، الأمين العام لحزب الحق، الذي كان الحوثي منضوياً تحته.
(2) في كتابه: عصر الظهور، ص 115 -120.
(3) انظر بحار الأنوار، للمجلسي، 52/380.
(4) كتاب الحرب في صعدة، للصنعاني، ص 16 - 17.
(5) كما نقل عنه ذلك أبو جعفر المبخوت (المتشيّع) في لقاء معه على الموقع الشيعي المسمَّى: المعصومين الأربعة عشر.
(6) الحرب في صعدة، ص 25.(47/42)
كما جلب له من الخارج (التربة الكربلائية) وصار يسجد عليها(1) إمعاناً في الاتباع التام للعقائد الاثني عشرية(2).
وقد كان هؤلاء - الحوثي وأبناؤه - ينضوون تحت (حزب الحق) وهو حزب سياسي زيدي، ولكن بعد ذلك، انفصل الحوثي عن هذا الحزب وأسّس تنظيم (الشباب المؤمن) وهو الذي كان يقوم بأحداث التمرّد والفتنة في منطقة صعدة شمال اليمن.
وتقوم إيران بدعم هذا الحوثي مالياً وفكرياً وعسكرياً، وذلك نظير تصدير الثورة الخمينية إلى اليمن(3).
وقد سبق أن قام الحوثي بالذهاب إلى لبنان لزيارة حزب الله، كما ذهب إلى إيران في التسعينات وأقام فيها حتى عاد إلى اليمن عقب وساطات عام 1997(4).
وبلغ الدعم الإيراني عن طريقة السفارة الإيرانية في صنعاء لحركة الحوثي وتنظيم الشباب المؤمن - في إحدى التقارير - إلى 42 مليون ريال يمني، مفرَّقةً بين دعم مباشر لتنظيم الحوثي، ودعم غير مباشر للمراكز التابعة للحوثي في صعدة(5).
وهذا الدعم غير الدعم الآخر الذي يأتيه من مؤسّسات شيعية، مثل مؤسسة أنصارين في قم الإيرانية، ومؤسسة الخوئي في لندن، ومؤسسة الثقلين في الكويت، ومؤسسات تابعة لحزب الله في لبنان، وغيرها من المؤسسات والجمعيات الشيعية(6).
__________
(1) الحرب في صعدة، ص 39.
(2) وللمزيد حول عقيدة الحوثي ومقولاته في كتبه، انظر: الحرب في صعدة، ص 65، و 133 وما بعدها، وأيضاً مقال: النبأ اليقين في كشف حقيقة حسين بدر الدين، موقع مفكرة الإسلام.
(3) الزهر والحجر «التمرد الشيعي في اليمن» لعادل الأحمدي، ص 134.
(4) الزهر والحجر «التمرد الشيعي في اليمن» لعادل الأحمدي، ص 135، الحرب في صعدة ص 10، ص 18.
(5) الزهر والحجر «التمرد الشيعي في اليمن» لعادل الأحمدي، ص 173.
(6) الزهر والحجر «التمرد الشيعي في اليمن» لعادل الأحمدي، ص 172.(47/43)
وقد أفاد مصدر مقرّب من الحكومة اليمنية بأن هناك شيعة سعوديين قاموا بدعم مالي للحوثي قبل وأثناء الأزمة(1).
ولذلك يتساءل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح عن مصدر هذا الدعم المالي الكبير للحوثي - في خطاب تلميحي إلى الدور الشيعي والإيراني في الدعم-، لأن مثل هذا الدعم والقوة المالية والعتاد العسكري لا يمكن أن يكون مصدره في اليمن.
أما بالنسبة للدعم العسكري، فقد كان يحضر أفراد من شيعة العراق ومن الحرس الثوري الإيراني للتدريب والإشراف على المناورات القتالية(2).
وقد ذكرت صحيفة «أخبار اليوم» في أحد أعدادها أن عدداً من أتباع الحوثي الذين استسلموا أثناء المواجهات أكّدوا قيامهم بالتدرب في معسكرات تابعة للحرس الثوري الإيراني مع عناصر فيلق بدر في العراق(3).
وقد قامت المحكمة اليمنية بإصدار حكم الإعدام على الجاسوس يحيى حسين الديلمي وذلك على إثر إدانته بتهمة التخابر مع إيران والتواصل بين إيران وتنظيم الحوثي(4) وفي هذا دليل على مدى التغلغل الإيراني الشيعي في اليمن، وهذا يعدُّ إعلاناً رسمياً من اليمن بالتدخل الإيراني في دعم الحوثي وفي تصعيد أحداث صعدة.
__________
(1) صحيفة الوطن القطرية 17/9/2004.
(2) الزهر والحجر «التمرد الشيعي في اليمن» لعادل الأحمدي، ص 176.
(3) مقال: تمرد الحوثي في اليمن، أنور قاسم الخضري - رئيس مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث، ورئيس تحرير صحيفة الرشد اليمنية -، التقرير الارتيادي الاستراتيجي الصادر عن مجلة البيان - الإصدار الثالث 1427 هـ - ص 391 - 419.
(4) جريدة الحياة اللندنية 30/ مايو /2005 م، وكذلك جريدة الوطن السعودية، عدد 1704 بتاريخ 30/ مايو/ 2005 م، وتمَّ العفو عنه وتخفيف الحكم الصادر عليه لاحقاً.(47/44)
وبدأ يُظهر الحوثي ولاءه لحزب الله اللبناني، وذلك بالثناء عليه، واعتباره المثل الأسنى، ووصل الأمر به إلى أن يرفع أعلام حزب الله اللبناني على بعض المراكز التابعة له، ورفعها أيضاً في المظاهرات(1).
وبسبب هذه العمالة للنظام الشيعي الإيراني، قامت الحوزة العلمية في النجف والحوزة العلمية في قم، بإصدار بيانين يتضمّنان الوقوف في صف حركة الحوثي والدفاع عنه، ويعترضون على أعمال الحكومة اليمنية التي تقوم بوقف هذا التمرد والتصدّي له، ويُطالبون بوجوب حرية حركة الشيعة الاثني عشرية في اليمن، وهذا يدل على التعاون الوثيق بين الحوزة العلمية والحركة الحوثية، خصوصاً وأنّنا لم نجد منهم بياناً في التصدّي لحملات التطهير العرقي والطائفي للسنة العرب في العراق، ولم نجد منهم بياناً حازماً في إيقاف حمّامات الدم التي يقوم بها جيش المهدي وفيلق بدر ضد أهل السنة في العراق(2).
- ... - ... -
ما هي الأهداف المعلنة وغير المعلنة
لتأسيس حزب الله في لبنان؟
__________
(1) مقال: تمرد الحوثي في اليمن، أنور قاسم الخضري، التقرير الارتيادي الاستراتيجي الصادر عن مجلة البيان الإصدار الثالث 1427 هـ ص 391 419.
وكذلك كتاب: الزهر والحجر، ص 138، 175، وكتاب: الحرب في صعدة، ص 12.
ومن تابع الإعلام المرئي حول أحداث صعدة، رآى هذه الأعلام مرفوعة.
(2) انظر بيان حوزة النجف وقم في كتاب الحرب في صعدة، ص 107 - 111، وكذلك في ملاحق كتاب: الزهر والحجر، ص 281، وانظر في نفس الكتاب أيضاً بيان علماء اليمن في الرد على بيانات النجف وقم، ص 305، وكذلك في كتاب الحرب في صعدة، 111 - 114.(47/45)
الأهداف المعلنة للحزب: أنه حركة مقاومة إسلامية ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان ورفع شعار تحرير المقدسات الإسلامية في فلسطين للتغرير بالمسلمين وصرف أنظارهم عن مخططات الحزب الخفية، ولاستمالة قلوبهم وتعاطفهم، وقد زادت شعبية هذا الحزب بين الناس بسبب ما قدَّمه من خدمات اجتماعية وإنسانية بدعم من حكومة إيران.
أما الأهداف غير المعلنة فهي: نشر التشيع في لبنان، والحفاظ على الوجود الشيعي الدائم في هذا البلد، والسيطرة على منافذ القوة فيه، وتهيئة موطئ قدم لإيران للتدخل في المنطقة متى تشاء لتحقيق مصالحها وأهدافها القومية والدينية.
وكذلك ضرب البنية التحتية للبنان، وجرّه إلى حرب ليتسنّى لهذا الحزب السيطرة على لبنان وهذا جزء من تصدير الثورة الإيرانية إلى العالم الإسلامي، ومن أجل إقامة دول الهلال الشيعي حسب ما يخططون ويسعون له، ولكن الله مبطلٌ كيد الكافرين.
- ... - ... -
ما علاقة حزب الله اللبناني بالخميني؟
ومن هو الخميني وما هي عقيدته؟
علاقة حزب الله بالخميني هي علاقة الروح بالجسد، فقد اتخذ حزب الله اللبناني من الخميني أسوة للسير على منهجه واتّباع طريقته في نشر التشيع وتصديره للعالم الإسلامي.
ويُعدّ الخميني المرشدَ الروحي والسياسي لتحرّكات الحزب وأعماله، وكلّف مجموعة من المسؤولين الإيرانيين بأن يطلعوه دائماً على تحرّكات العمل الشيعي في لبنان، وكلف مجلس الدفاع الأعلى(1) بمباشرة توجيه «حزب الله» ونقل أوامره وتوجيهاته - أي الخميني- إلى الحزب، ويتمّ تعيين قادة هذا الحزب مِن قبل الخميني(2).
__________
(1) المجلس الأعلى للدفاع يضم: علي الخامنئي، وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني، ومحسن وفائي. وهؤلاء يتنابون في مهمة الإشراف على الحزب وأعماله.
(2) مجلة الشراع، ملف عن حزب الله، 17/3/1986 م، ص 19. [نقلاً عن أمل وحزب الله، لتوفيق المديني، ص 140 - 141].(47/46)
وقد نشر موقع إيراني على الإنترنت نص الوكالة الشرعية النادرة التي كان الإمام الخميني الهالك منحها بصفته مرجعاً دينياً، لحسن نصر الله ليصبح وكيلاً عنه في لبنان، في المسائل الشرعية وجباية الحقوق الشرعية وصرفها في مواردها.
وقال موقع «بازتاب» الذي يصدره القائد العام السابق للحرس الثوري محسن رضائي: أن الخميني استقبل عام 1981 نصر الله عندما كان شاباً يافعاً عمره 21 عاماً، وبرفقته مجموعة من قياديي حركة أمل، وذلك في حسينية جماران شمال طهران.
وذكر الموقع أن الإمام الخميني أبلغ حسن نصر الله ومن معه بأنهم سيكونون قادرين إذا أرادوا، على إذلال القوى الكبرى في لبنان.
وفي ذلك الاجتماع، نقل الموقع أن الإمام الخميني منح نصر الله إجازة شرعية لتلقي أموال الخُمس والزكاة والكفارات والتصرف بالأمور الحسبية والشرعية حسبما يراه مناسباً في ترويح الشريعة المقدسة، وهو أمر لم يكن مألوفاً عن الخميني الذي كان يحتاط كثيراً في منح الإجازات لعلماء الدين الشيعة، وهذا ما يشير إلى ثقته البالغة بنصر الله..
وستجد في ملحقات الكتاب، النص العربي للإجازة والوكالة وتأريخها بالتقويم الهجري الشمسي الذي يستخدمه الإيرانيون حيث خاطب الإمام الخميني المعمم الشاب بـ: حجة الإسلام الحاج سيد حسن نصر الله، وهو لقب يدلّ على مكانة دينية رفيعة وتحصيل علمي كبير في الحوزة العلمية الشيعية.
وبعد هلاك الخميني أصبح مرشد الثورة الإيرانية: علي الخامنئي، هو الوليُّ الفقيه، الذي يرجع إليه «حزب الله» دينياً وسياسيّاً.
وقد عيّن مرشد الثورة الإيرانية الحالي: علي الخامنئي كُلًّا من الشيخ محمد يزبك - العضو في حزب الله -، والسيد حسن نصر الله (وكيلين شرعيين) عنه في لبنان في الأمور الحسبية والشرعية فيستلمان عنه الحقوق ويصرفانها في مصالح الشيعة ويعيّنان الوكلاء من قِبلهما(1).
__________
(1) جريدة السفير 18/5/1995 م.(47/47)
أما الخميني(1) فهو مؤسس فكرة (ولاية الفقيه) بحيث أن الفقيه المعتبر عندهم له الحق في القيام بما يقوم به الإمام الغائب في كل شيء عدا الجهاد الأكبر، علماً أن هذه الفكرة ليس لها أي مستند نصّي في دين الرافضة.
__________
(1) لقد ناصره بعض أهل السنة في بداية ثورته منخدعين بشعاراته الزائفة التي كان يطلقها في المنفى، وعندما قامت دولته أعلن الحرب على أهل السنة في إيران، وقتل كثيراً من علمائهم، ومن أبرزهم (أحمد مفتي زاده) الذي طالب ببناء مسجد لأهل السنة في طهران، فأدخله السجن حتى مات، علماً أن طهران هي العاصمة الوحيدة في العالم التي لا يوجد فيها مسجد لأهل السنة، وفي المقابل هناك بِيع لليهود، وكنائس للنصارى، ومعابد للمجوس الزرادتشية.
ثم إن الخميني الذي يُطلق على أمريكا في خطاباته: (الشيطان الأكبر)، قد تورّطت حكومته في فضيحة شراء أسلحة من أمريكا إبّان الحرب العراقية الإيرانية وهي ما يطلق عليها (إيران جيت) في عهد الرئيس الأمريكي ريغان.
وكذلك نشرت صحيفة (الصنداي تايمز - 26/7/1981 م) خريطة تحرك الطائرة الأرجنتينية التي نقلت الأسلحة من إسرائيل إلى إيران، كما أنّ جامعة الدول العربية قد أدانت في قراراتها الصادرة عنها هذا التعاون التسليحي بين إيران وإسرائيل، وأن هذا التعاون، وتهديد إيران لدول الخليج والدول العربية، يكشف زيف ادعاءات النظام الإيراني في تحرير القدس.
انظر: قرارات جامعة الدول العربية (ق 4715 - د.ع 88 - ج 3 - 22/9/1987 م.
وللمزيد حول العلاقات الإسرائيلية الإيرانية، وصفقات الأسلحة التي تمّت بينهم، راجع كتاب الشيخ محمد مال الله (موقف الشيعة من أهل السنة) ص 126 وما بعدها. وأيضاً: التعاون التسليحي الإيراني الصهيوني عرض وتحليل، من إعداد: منسي سلامة وحافظ عبدالإله.(47/48)
والخميني رافضي إمامي اثنا عشري يقول بتفضيل أئمة الشيعة على الأنبياء والرسل فهو القائل: «فإن للإمام مقاماً محموداً، ودرجة سامية، وخلافة تكوينية، تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون، وإن من ضروريات مذهبنا: أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرّب ولا نبي مرسل»(1).
والخميني يقول بوحدة الوجود فيقول: «لنا مع الله حالات هو نحن، ونحن هو، وهو هو، ونحن نحن»(2).
والخميني يعترض على قدر الله ويتبرأ من ربه جل وعلا، لأنه شاء بحكمته سبحانه أن يحكم عثمان ومعاوية ويزيد، فهذا الرب الذي شاء هذا الأمر - الخميني- يتبرأ منه ولا يريده والعياذ بالله فيقول: «نحن نعبد إلهاً نعرف أن أعماله ترتكز على أساس العقل ولا يعمل عملاً يخالف العقل، لا إلهاً يبني بناء شامخاً من التأله والعدالة والتدين، ثم يخربه بيده ويعطي الإمارة ليزيد ومعاوية وعثمان وأمثالهم من المهاجمين، ولا يحدد المطلوب من الناس بعد النبي إلى الأبد حتى لا يساعد في تأسيس بناء الظلم والجور»(3).
والخميني يعتقد أن صحائف الأعمال تعرض على مهدي الشيعة فيقول: «إن صحائف أعمالنا تعرض على الإمام صاحب الزمان (سلام الله عليه) مرتين في الأسبوع حسب الرواية»(4).
__________
(1) انظر كتابه «الحكومة الإسلامية» - طبعة مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني - الطبعة الرابعة - ص 75.
(2) انظر كتابه «شرح دعاء السحر» ص 103.
(3) انظر كتابه «كشف الأسرار» ص 116.
(4) انظر كتاب «المعاد في نظر الإمام الخميني» ص 368.(47/49)
والخميني اتّهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه «لم يوفق في دعوته»!! فقال: «فكل نبي من الأنبياء إنما جاء لإقامة العدل وكان هدفه هو تطبيقه في العالم لكنه لم ينجح، وحتى خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - الذي كان قد جاء لإصلاح البشر وتهذيبهم وتطبيق العدالة فإنه هو أيضاً لم يوفَّق، وإن من سينجح بكل معنى الكلمة ويطبق العدالة في جميع أرجاء العالم هو المهدي المنتظر»(1).
والخميني يطعن في خلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتهم أبا بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما بأنهما قد خالفا القرآن وأن الناس كانت تقبل منهم ذلك، أي أن الخميني قد كفر وضلَّل جميع الصحابة رضوان الله عليهم لأنهم قبلوا تلك المخالفات التي يدَّعيها، ونسي الخميني أن من جملة أولئك الناس (آل البيت) - رضي الله عنهم -!!(2).
والخميني يطعن في أهل السُّنة ويسمِّيهم: نواصب(3)
__________
(1) انظر كتاب «مختارات من أحاديث وخطابات الإمام الخميني» (2/42).
(2) انظر كتابه «كشف الأسرار» ص 122.
(3) النواصب هم من يعادي أهل البيت - رحمهم الله -، ولكنّ الشيعة يُطلقون وصف «الناصبي» على كلِّ من كان من أهل السنة، وقد اعترف بذلك شيخهم: حسين الدرازي في كتابه «المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية» ص 147 ، فقال:
(بل أخبارهم عليهم السلام تنادي بأن الناصب هو ما يقال له عندهم «سنياً»)، ثم قال المؤلف في الصفحة نفسها: (ولا كلام في أن المراد بالناصبة هم أهل التسنن).
وروى الصدوق في كتاب علل الشرائع بإسناد معتبر عن الصادق قال: (ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد رجلا يقول أنا أبغض محمد وآل محمد . لكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا).(47/50)
ويحكم بنجاستهم ويستبيح أموالهم، فيقول: «والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما اغتنم منهم، وتعلق الخمس به، بل الظاهر جواز أخذ ماله أين وجد وبأي نحو كان ووجوب إخراج خمسه»(1)، ويقول أيضاً: «وأما النواصب والخوارج لعنهما الله تعالى فهما نجسان من غير توقف»(2).
وطامات الخميني كثيرة جداً، وللمزيد راجع كتاب (الخميني والوجه الآخر) للدكتور زيد العيص وغيرها من الرسائل، أو زيارة موقع حقيقة الخميني على الإنترنت .(http://www.khomainy.com).
ما علاقة حزب الله اللبناني بإيران؟
تعتبر إيران هي الشريان لحزب الله وهي المركز الرئيس لحزب الله الذي يصدر عنه الأوامر.
و«يلعب حسن نصر الله دور صلة الوصل بين إيران وقواتها في لبنان»(3).
وفي إحدى المناسبات في تاريخ 5/3/1987 م قال الناطق باسم حزب الله في ذلك التاريخ إبراهيم الأمين: «نحن لا نقول إننا جزء من إيران، نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران»(4)، ويقول حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله: «إننا نرى في إيران الدولة التي تحكم بالإسلام والدولة التي تناصر المسلمين والعرب، وعلاقتنا بالنظام علاقة تعاون، ولنا صداقات مع أركانه ونتواصل معه، كما أن المرجعية الدينية هناك تشكل الغطاء الديني والشرعي لكفاحنا المسلح»(5).
ويقول الشيخ حسن طراد - إمام مسجد الإمام المهدي -:
«إن إيران ولبنان شعبٌ واحد، وبلدٌ واحد، وكما قال أحد العلماء الأعلام: إننا سندعم لبنان كما ندعم مقاطعاتنا الإيرانية سياسياً وعسكرياً»(6).
يقول إبراهيم الأمين:
__________
(1) انظر كتابه «تحرير الوسيلة» (1/318).
(2) انظر كتابه «تحرير الوسيلة» (1/107).
(3) أمل وحزب الله في حلبة المجابهات لتوفيق المديني ص 139.
(4) جريدة النهار 5/3/1987.
(5) مجلة المقاوم، عدد 27 ، ص 15 - 16. (نقلاً عن كتاب: حزب الله رؤية مغايرة، ص 32).
(6) جريدة النهار اللبنانية 11/12/1986 م.(47/51)
«نحن نعيش في غيبة الإمام المنتظر، فالقيادة في هذا العصر تتمثل في قيادة الفقهاء العدول.
هذه أهم خاصية من خصوصيات حزب الله التي تعلم ارتباط الشعب بالمرجع الفقيه العادل، فحزب الله على مستوى الحركة يتحرك في إطار القرارات الصادرة من المرجع»(1).
ويقول نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله اللبناني(2): «نشأت العلاقة بين حزب الله وإيران بسعي الحزب للاستفادة من هذه التجربة الجديدة في منطقتنا (يقصد قيام الخميني بتأسيس دولة ولاية الفقيه في إيران) ولتأمين النصير في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وقد نمت هذه العلاقة بسرعة وثقة وتراكمت إيجابياتها من اللحظة الأولى وذلك لأسباب عدة أهمها:
1- إيمان كل من الحزب وإيران بنظرية ولاية الفقيه، وأن الإمام الخميني هو القائد الولي الذي يترجمها في عصرنا الحديث مما أدى إلى الالتقاء في إطار القيادة العالمية الشرعية الواحدة.
2- اختيار إيران لنظام الجمهورية الإسلامية في الحكم وهو يلتقي مع المبادئ الإسلامية التي يؤمن بها حزب الله. فهو انسجام نظري في الخطوط العامة، لأن تفاصيل التطبيق تخضع للخصوصيات الموجودة في كل من لبنان وإيران.
3- الانسجام السياسي بما أنتجته إيران من رفض لهيمنة الاستكبار والحرص على الاستقلال ودعم حركات التحرر وخاصة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وهي الرؤيا التي يحملها حزب الله في أولوية مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وما تستلزمه من رفض لمشاريع الاستكبار.
إن إيران تمثل تجربة حيّه في التطبيق الإسلامي[!!] يراقبها ويتأملها كل مسلم ملتزم بالإسلام.... إلى قوله:
__________
(1) الحركات الإسلامية في لبنان، 146 - 147.
(2) في كتابه: (حزب الله .. المنهج .. التجربة .. المستقبل) ص 340.(47/52)
كما يمثل حزب الله تجربة رائدة في المقاومة وقد أحرز إعجاب إيران الدولة والشعب... إلى قوله: عندما حرر حزب الله جنوب لبنان والبقاع الغربي بدعم إيراني مؤثر فقد حقق هدفه الذي أعلنه وبذل الشهادة من أجله، وحققت إيران هدفها في رفض الاحتلال ونصرة المجاهدين، وهذا كسب لحزب الله ولبنان وكسب لإيران».انتهى
وحتى تعرف حقيقة إيران وحقيقة أكذوبة عداوتها لليهود، وأن الخطابات التي نسمعها في الهجوم على دولة إسرائيل هي في الحقيقة (ذر للرماد في العيون) انظر ماذا يقول الصحفي اليهودي (يوسي مليمان):
«في كل الأحوال فإن من غير المحتمل أن تقوم إسرائيل بهجوم على المفاعلات الإيرانية، وقد أكد عدد كبير من الخبراء تشكيكهم بأن إيران - بالرغم من حملاتها الكلامية - تعتبر إسرائيل عدواً لها. وإن الشيء الأكثر احتمالاً هو أن الرؤوس النووية الإيرانية هي موجهة للعرب»(1).
ومما يدل على ذلك أن حزب الله يفتقر إلى برنامج سياسي ورؤية فكرية واضحة مستقلة عن وجهة النظر الإيرانية ومراعية للخصوصيات العربية والإسلامية، وإلى تجربة سياسية تقليدية تملك تاريخاً وجذوراً محلية، وإلى بنية تنظيمية واضحة فيها آلية معروفة لاتخاذ القرار(2).
__________
(1) نقلاً عن لوس أنجلس تايمز ... جريدة الأنباء العدد (7931).
(2) قال ذلك د.غسان العزي أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، في كتابه: حزب الله من الحلم الإيديولوجي إلى الواقعية السياسية ص 9.(47/53)
فمنذ البداية لعبت إيران دوراً أساسياً في ولادة الحزب ونشأته، فالسيد حسين موسوي - العضو القيادي السابق في أمل، ومؤسس حزب الله - وصف اشتراك رئيس حركة (أمل) في (هيئة الإنقاذ) بأنه سلوك غير إسلامي(1)، وقال:
«إن هذا النعت - أي كونه غير إسلامي - يصدر عن قيادة إيران، لأن الذي يقرر ما هو إسلامي وما هو غير إسلامي هو الثورة الإسلامية التي أعلنا جميعاً في حركة (أمل) في المؤتمر الرابع للحركة في: مارس/آذار 1982 أننا جزء لا يتجزأ من الثورة الإسلامية»(2).
وما ذُكر يبيّن لنا كذب المدعو حسن نصر الله وتدليسه في المقابلة التي أجراها في جريدة الوسط بتاريخ 18/3/1996 م وقال فيها:
«إن تأسيس الحزب كان لبنانيّاً والقرار لبنانيّاً والإرادة لبنانية، أما الدور الإيراني أو السوري فقد جاء لاحقاً».
ومما يؤكّد أن حزب الله هو ابن إيران ما قاله الأمين العام السابق لحزب الله: صبحي الطفيلي في لقاء معه «إنّه كان في زيارة إلى الجمهورية الإيرانية واتفقوا على إنشاء مقاومة في لبنان، وبدأ الحزب عمله وأتى آلاف الإيرانيين ليقوموا بمهمة الدعم والتدريب لهذا الحزب»(3).
__________
(1) هذه إحدى الشماعات التي علقها الحزب في انشقاقه عن (أمه) حركة أمل الشيعية، ومما يؤكّد أنّ هذا غير صحيح ما صرّح به المفتي الشيعي عبدالأمير قبلان باسم المجلس الشيعي الأعلى: (إن حركة أمل هي العمود الفقري للطائفة الشيعية، وإن ما تعلنه أمل نتمسك به كمجلس شيعي أعلى، ومن ثم فإن ما يعلنه المجلس الشيعي تتمسك به الحركة) مجلة المستقبل، عدد 346، تاريخ 8/10/1983 (نقلاً عن: أمل والمخيمات الفلسطينية ص 184).
(2) انظر: (الحركات الإسلامية في لبنان) - ملف الشراع - بتاريخ 1984 - ص 222،223.
(3) لقاء مع صبحي الطفيلي في قناة الجزيرة 23/7/2003 م، وبإمكانك مشاهدة النص كاملاً على موقع القناة على الإنترنت.(47/54)
وقامت إيران بإرسال الحرس الثوري إلى لبنان للقيام بالتأسيس الفعلي لحزب الله، والمساعدة في تدريبه ودعمه، وكان عدد المُوفدين من الحرس الثوري الجمهوري 2000 شخص، كما قام الحرس الثوري الجمهوري الإيراني بدوره في نشر عقيدته في وادي البقاع اللبناني والمناطق التي يسيطر عليها الحزب، وأسّسوا المستشفيات والمدارس والجمعيات الخيرية(1).
كما يوجد مكتب خاص بحزب الله في طهران(2)، يقوم بنشر الرسائل والمنشورات التي تعرّف به وبأعماله وبرؤاه الخاصة، كما يقوم باستقبال الأوامر والقرارات التي تصدر من مصادر القرار في إيران.
وحزب الله يقرّر في كتبه «أن الولي الفقيه هو الذي يملك قرار الحرب أو السلم»(3).
لأنه «لا علاقة لموطن الولي الفقيه بسلطته» النافذة على الشيعة في مختلف دول العالم، «فالإمام الخميني كان يدير الدولة ويحدد التكليف السياسي! لعامة المسلمين الشيعة في البلدان المختلفة في معاداة الاستكبار»(4).
وهذا الكلام، يفسّر لنا انقياد الشيعة لأمر قائد الثورة الشيعية في إيران، وارتباطهم الوثيق به، وتنفيذهم لأجندته ومصالحه، خصوصاً من المنظمات والحركات التي تتبع الجمهورية الإيرانية بشكل مباشر، مثل حزب الله وفروعه، وغيره.
- ... - ... -
هل شارك حزب الله اللبناني إيران في حربها مع العراق؟
وهل شارك ضد انتفاضة الطلبة السُّنة في الأحواز؟
__________
(1) الحرس الثوري الإيراني، كينيث كاتزمان، ص 139، ص 192.
وأيضاً: الإسلاميون في مجتمع تعددي، د.مسعود أسد اللهي، ص 330.
(2) الإسلاميون في مجتمع تعددي، د.مسعود أسد اللهي، ص 36.
(3) كتاب: حزب الله، لنعيم قاسم - نائب الأمين العام لحزب الله -، ص 72.
(4) المصدر السابق، ص 75.(47/55)
خلال انتفاضة الطلبة في إيران عام 1999 م وما أعقبها من المواجهات الدامية التي حصلت بين رجال الأمن وأهالي مدينة الأحواز عاصمة محافظة خوزستان، تحدث أكثر من مصدر إضافة إلى قادة الطلبة والفاعليات العربية بالمدينة عن وجود المئات من العسكريين العرب بين صفوف قوات الأمن ووحدات الحرس التي تولت قمع انتفاضة الطلبة، وإخماد مسيرات العرب الإيرانيين.
والتفسير الوحيد الذي برز وقتها حول العرب المنخرطين في قوات الأمن الإيرانية وبعض وحدات الحرس الثوري، كان أنهم من رجال فيلق بدر الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.
غير أن لهجة بعض رجال الأمن القريبة من لهجة أهل لبنان وسورية أثارت تساؤلات حول جنسية هؤلاء، إلى أن صدرت قبل أيام تصريحات الرجل الذي يعتبر الأب الشرعي لحزب الله وهو علي أكبر محتشمي بور سفير إيران الأسبق لدى سورية ووزير الداخلية السابق والأمين العام للمؤتمر الدولي لدعم الانتفاضة في فلسطين، وهو الذي أخرج حزب الله في العام 1982 م من رحم حركة أمل. فقد كشف محتشمي عن مشاركة مقاتلي حزب الله جنباً إلى جنب مع رجال الحرس الثوري في الحرب الإيرانية العراقية.
وكان محتشمي بور يتحدث إلى صحيفة «شرق» الإيرانية يوم الأربعاء الماضي حول حزب الله والأحداث الأخيرة في لبنان، وفيما يلي أبرز ما جاء في حديث حجة الإسلام محتشمي بور أحد تلامذة الخميني يقول: «جزء من خبرة حزب الله يعود إلى التجارب المكتسبة في القتال وجزء آخر من التدريب.. إن حزب الله اكتسب خبرة قتالية عالية خلال الحرب الإيرانية - العراقية بحيث كان رجال الحزب يقاتلون ضمن صفوف قواتنا أو بشكل مباشر».(47/56)
ويتابع محتشمي بور حديثه عن مصادر قوة حزب الله قائلاً: «خلال السنوات الأخيرة تمكَّن حزب الله من تعزيز حضوره السياسي والعسكري في لبنان والمنطقة فضلاً عن ارتقاء مستوى تدريب مقاتليه وتوسع دائرة حضوره العسكري، ونرى اليوم أن مناطق شاسعة في بيروت والجنوب والبقاع حيث كان قادة الحزب يقيمون فيها فضلاً عن قواعد الحزب الصاروخية في جنوب لبنان قد دمرتها الطائرات الإسرائيلية ورغم ذلك فإن الحزب لا يزال قادراً على توجيه صاروخ بعد صاروخ باتجاه إسرائيل مما دفع بالصهاينة لاستدراج قواتهم البرية ودخول لبنان براً، غير أنهم يواجهون مقاومة شرسة في مثلث بنت جبيل ومارون الرأس وعيترون».
ووفقاً لمحتشمي فإن أكثر من 100 ألف شاب شيعي تلقوا تدريبات قتالية منذ تأسيس حزب الله في لبنان، بحيث كانت كل دورة تدريب تشمل 300 مقاتل ولحد الآن أقيمت دورات عدة في لبنان وإيران(1).
- ... - ... -
هل مارس حزب الله التقية
في خطاباته وسياساته الخارجية؟
حزب الله من أشد طوائف الشيعة الإمامية ممارسة للتقية مع أهل السُّنة.
__________
(1) من مقال لعلي نوري زاده، في صحيفة الشرق الأوسط في تاريخ 11/7/1427 هـ، الموافق 5/9/2006 م، العدد (10112) حيث جاء في عنوان الخبر: اعتراف علي أكبر محتشمي بور، سفير إيران الأسبق لدى سورية ووزير الداخلية السابق («حزب الله» قاتل مع الحرس الثوري في الحرب العراقية - الإيرانية وضد انتفاضة طلبة الأحواز).(47/57)
جاء في كتاب «الإمام المهدي ومفهوم الانتظار» لمؤلفه كاظم المصباح ص 240 : «فالعامل بالتقية مجاهد علوي، لكنه يجاهد بيقظة وحذر وبما يتسع له المجال، وليس قاعداً متخاذلاً، وتاركاً لواجباته ومسؤولياته كما يتصور السذج من المؤمنين، وليست التقية عملاً سرياً محضاً تجعل من الشيعة حزباً أو جمعية سياسية سرية معارضة تعمل بالخفاء، وإنما هي أسلوب للعمل بطريقة حزب الله وبصورة علنية تتناسب مع الظروف السياسية سعة وضيقاً..».
إلى قوله في الصفحة التالية:
«ولكن ربما يلجأ الخطيب والمبلغ الرسالي أحياناً إلى تبطين الكلام وترك الصراحة وعدم وضع النقاط على الحروف كما يفعل في الظروف الطبيعية إذا احتمل ترتب ضرر على ذلك».
أقول: الذي يتأمل كلام المؤلف الشيعي هذا يجد شهادته بأن حزب الله يطبق التقية في خطاباته (وشهد شاهدٌ من أهلها) وكم كنا نقول: لا تصدقوا حزب الله ولا تصدقوا خطابات زعيمه حسن نصر الله، لأن دين الرافضة دين باطني، فقد يقول الشيعي كلاماً في الظاهر كما اعترف شيخهم (كاظم المصباح) ولكنه يقصد شيئاً آخر أو يراوغ في عباراته كما يفعل حسن نصر الله أو حتى يترك الدخول في بعض الأمور (تقية) حتى لا يفتح على نفسه وحزبه باباً من أبواب الطعن، ولا تستغربوا فإن دين الإمامية يجيز للرافضي الكذب من باب التقية بل يجيز له الحلف بالله كاذباً إذا كان على وجه التقية؛ فقد جاء في كتاب «وسائل الشيعة»(1) عن سماعه عن أبي عبدالله قال: «إذا حلف الرجل تقية لم يضره إذا هو أكره واضطر إليه»، ولقد صدق الإمام الشافعي رحمه الله في وصف الرافضة عندما قال: «لم أر أحداً أشهد بالزور من الرافضة».
- ... - ... -
هل رفع حزب الله راية الجهاد في سبيل الله؟
__________
(1) للحر العاملي 16/136.(47/58)
حزب الله حريص على القتال في أرض لبنان فقط، وهو لا يتجاوز الحدود اللبنانية ولن يتجاوزها، يوالي كل لبناني مهما كانت عقيدته (نصراني ماروني أو درزي أو أي عقيدة كانت) بشرط أن يكون ذلك الشخص موافقاً للحزب في توجهاته، ومن كانت هذه توجهاته فلا يعتبر عمله عملاً إسلامياً جهادياً ولا يعتبر قتاله من أجل إعلاء كلمة الله، فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»(1).
قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله في شرحه للحديث: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» قال: المراد بكلمة الله هي دعوة الله إلى الإسلام(2).
قلت: والدعوة التي يقاتل من أجلها حزب الله هي إلى الحدود اللبنانية فقط، ولتكون عقيدة الرفض هي الأعلى (فهي لا تقاتل من أجل الأرض فحسب، بل للتمكين لعقيدة التشيّع والعمل على مدّ نفوذه). وإذا كان الحزب يعتبر عمله جهاداً في سبيل الله فلماذا لم يتحرك عندما قتل أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي رحمهما الله ولم يقصف اليهود ولو بصاروخ واحد!!
أليس الدفاع عن أرض فلسطين المحتلة أولى القبلتين أَولى من القتال في لبنان من أجل تحقيق الأطماع والأهداف السياسية الإيرانية السورية؟!
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم 2810؛ ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم 1904.
(2) انظر كتاب «فتح الباري شرح صحيح الإمام البخاري» لابن حجر العسقلاني رحمه الله (6/34).(47/59)
وها هو أمين عام الحزب حسن نصر الله، يعترف أن قتاله لليهود ليس من منطلق (عقدي)، فبعد أن انتهت الحرب الإسرائيلية على لبنان والتي دامت 34 يوماً، وبعد تدمير البنية التحتية للبنان بسبب مسرحية أسر الجنديين الإسرائيليين، قال أمين عام حزب الله (حسن نصر الله) في مقابلة تلفزيونية بثَّت يوم الأحد 27/7/2006 مع قناة New TV اللبنانية، قال:
«إنه لو علم بأن عملية أسر الجنديين الإسرائيليين كانت ستقود إلى الدمار الذي لحق بلبنان لما أمر بها، وأوضح أن القيادة في الحزب لم تتوقع ولو 1 % أن تؤدي عملية الأسر إلى هجوم عسكري بهذه السعة، «لأن عدواناً بهذا الحجم لم يحصل في تاريخ الحروب». وأكد أن حزب الله لا ينوي شن جولة ثانية من الحرب مع إسرائيل»(1). فكشف عن نفسه بهذا التصريح، وأنّه منهزمٌ وليس منتصراً، فهو بهذا يصفع صفعةً قوية قفا كل من صفًّق له وأُعجب به.
إنّ هذا هو منهج المذهب الشيعي؛ العمل فيما يخصّ مصلحته الذاتية، دون ما يخصّ مصالح الأمّة الإسلامية، بل يعمل على نسف هذه المصالح إن كانت تضرّ بمصلحته، ولذلك فقد قال د.علي عبدالباقي: «إنني لاحظت أن الأداء الشيعي، سواء في إيران أو العراق أو أفغانستان أو غيرها، كان أداءً طائفياً، لا ينطلق من منطلقات خدمة الأمة ومصالحها، وإنما ينطلق من مصالح ذاتية طائفية ضيّقة، حتى وإن كانت تتعارض مع مصالح الأمة»(2).
قرآن كريم هل يرى حزب الله الجهاد في سبيل الله؟
وهل كان حزب الله يسعى أو يطمح إلى تحرير أي أرض إسلامية كفلسطين أو غيرها من البلدان الإسلامية المحتلة؟
__________
(1) وانظر أيضاً هذا التصريح في جريدة الشرق الأوسط - عدد 10135 - تاريخ 28/8/2006 م.
(2) د.علي عبدالباقي، من مقالٍ له منشور في موقع مفكرة الإسلام، بعنوان: هل تكون حرب العصابات أملنا في هزيمة بني صهيون؟ 21/8/2006 م.(47/60)
الجهاد معطل عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية حتى يخرج مهديهم من غيبته الكبرى التي يعتقدون بها، لأنهم يرون - كما صرّحت رواياتهم - بأنَّ «كل راية ترفع قبل راية الإمام - أي المهدي - فصاحبها طاغوت»(1) يصالح اليهود والنصارى(2)، ويحكم بحكم آل داود - أي حكم اليهود -، ويهدم الكعبة، ويقاتل أهل السُّنة لأنهم هم أعداء الشيعة الإمامية كما تقول رواياتهم، ويخرج أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ويصلبهم ثم يحرقهم(3).
وقد أجاب نعيم قاسم(4) نائب الأمين العام لحزب الله عن هذه المسألة فقال: «وبما أن الجهاد العسكري الذي يتمثل بقتال العدو يرتبط بأبحاث هذا الكتاب مباشرة فسنركز بحثنا عليه.
يقسم الفقهاء الجهاد إلى قسمين:
1- الجهاد الابتدائي: وهو أن يبدأ المسلمون مواجهة الآخرين والدخول إلى أراضيهم لاعتبارات ليس لها علاقة باسترداد أرض أو التصدي لعدوان، فهذا مرتبط بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو الإمام المعصوم ولا يعتبر مطروحاً في زماننا مع غياب الإمام المهدي الغائب والمنتظر (عج).
2- الجهاد الدفاعي: وهو أن يدافع المسلمون عن الأرض والشعب وعن أنفسهم عندما يتعرضون لاعتداء أو احتلال، وهذا مشروع بل واجب».
ثم قال في ص 51: «لكن قرار الجهاد مرتبط بالولي الفقيه، الذي يشخص الحالة التي ينطبق عليها عنوان الجهاد الدفاعي، والذي يحدد قواعد المواجهة وضوابطها، فمسؤولية الدماء عظيمة ولا يمكن زج المقاتلين في أي معركة من دون الاستناد إلى ما ينسجم مع وجوب الجهاد فيها وما يحقق أهدافها».
__________
(1) كتاب الغيبة للنعماني، ص 70.
(2) هنا يبرز سؤال! لماذا إذا خرج مهدي الشيعة يُصالح اليهود والنصارى، ولا يحرّر بيت المقدس من اليهود الغاصبين!؟
(3) راجع كتاب «الغيبة» للنعماني.
(4) في كتابه (حزب الله.. المنهج.. التجربة.. المستقبل) ص 50.(47/61)
أقول: العبارات التي يطلقها الحزب وزعيمه حسن نصر الله في خطاباته المتلفزة والتي يؤكد فيها رغبة حزب الله اللبناني في تحرير الأقصى من اليهود مثل (يا أقصى قادمون) أو (زحفاً زحفاً نحو القدس) كلها عبارات (جوفاء) لا أصل لها، وليس أدلَّ على ذلك من قول حسن نصر الله مخاطباً الفلسطينيين في إحدى مقابلاته عندما سئل عن موقفه من أهل فلسطين، فقال: «إذا احتجتم إلينا فنحن معكم وكفى»!.
لأن عقيدة الإمامية هي: لا جهاد حتى يخرج المهدي (أي مهدي الشيعة الغائب).
وانظر أيها المسلم حتى الجهاد الدفاعي عندهم مرتبط بالولي الفقيه، فأفراد حزب الله لا يتخذون أي أمر ولا يفعلون أي فعل حتى يأذن لهم الولي الفقيه (الخامنئي) بجواز هذا العمل..! ثم تأمل الرواية الآتية، وبعدها ستعلم من هم الرافضة وهل هم بالفعل يجاهدون في سبيل الله؟
ففي الصحيفة السجادية الكاملة ص 16 ، عن أبي عبدالله - عليه السلام - قال: «ما خرج ولا يخرج منا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلماً أو ينعش حقاً إلا اصطلته البلية وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا».
وقد أشار حسن نصر الله في الخطاب الذي ألقاه في (بنت جبيل) عقب الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 م والذي حضره 100 ألف جنوبي، أشار حسن نصر الله إلى أن الحزب لن يشارك في أي عمل عسكري ضدّ إسرائيل لهدف تحرير القدس(1)!
ولذلك يقول الأمين العام لمجلس الأمن القومي حسن روحاني:
إنه في حال انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا في جنوب لبنان، لن يكون هناك مبرّر لمواصلة «حزب الله» عمليات المقاومة.
وعلل ذلك بقوله: «لأن حزب الله مقاومة تقتصر على الأراضي اللبنانية»(2).
والسؤال:
أين فلسطين التي سيحرّرها حزب الله من اليهود الغاصبين!
__________
(1) جريدة الأنباء، عدد 8630، 27/5/2000 م، نقلاً عن: حزب الله رؤية مغايرة 214.
(2) تصريحات أدلى بها حسن روحاني في مقابلة له في جريدة الحياة اللندنية، بتاريخ 18/1/2004 م.(47/62)
إذن.. فالمذهب الشيعي لا يشمل أيّ مشروعٍ جهادي يحمل فكرة المقاومة والدفاع عن الأراضي المحتلّة، وقد صرّح بذلك الرئيس الإيراني: محمود أحمدي نجاد حيث قال:
«إيران لا تمثّل تهديداً للدول الأجنبية، ولا حتى للنظام الصهيوني»(1)!!
هل هناك اتفاقيات سرية موقعة
بين حزب الله وإسرائيل؟
يقول ضابط إسرائيلي من المخابرات: «إن العلاقة بين إسرائيل والسكان اللبنانيين الشيعة غير مشروطة بوجود المنطقة الأمنية، ولذلك قامت إسرائيل برعاية العناصر الشيعية وخلقت معهم نوعاً من التفاهم للقضاء على التواجد الفلسطيني والذي هو امتداد للدعم الداخلي لحركتي حماس والجهاد»(2).
وهذا يؤكد على الاتفاقيات السرية التي وقعت بين حزب الله اللبناني وإسرائيل كما اعترف بذلك الأمين العام السابق لحزب الله صبحي الطفيلي(3) فقال:
«إن حزب الله هو حرس حدود لإسرائيل»(4).
وقال أيضاً صبحي الطفيلي:
__________
(1) انظر: جريدة الشرق الأوسط - العدد رقم 10134 تاريخ 27/8/2006، والعدد 10136 بتاريخ 29/8/2006 م، وكذلك وكالات الأنباء العالمية في نفس التاريخ.
(2) صحيفة معاريف اليهودية 8/9/1997.
(3) صبحي الطفيلي كان الأمين العام السابق لحزب الله، وانفصل عنهم بعدما رأى أن الحزب انصرف من أهدافه المعلنة في المقاومة إلى خدمة المصالح السورية والإيرانية، بل وأصبح حامياً وحارساً لحدود إسرائيل الشمالية، ويمنع أي مجاهد أو فدائي يريد الذهاب لإسرائيل عبر تلك الحدود.
(4) انظر: صحيفة الشرق الأوسط في تاريخ 29 رجب 1424 هـ ، الموافق: 25/9/2003 م العدد (9067) ، وكذلك لقاءه التلفزيوني في قناة new tv ضمن برنامج «بلارقيب» أواخر عام 2003.(47/63)
مع بداية التسعينات بدأت ملامح التغيير في السياسة الإيرانية.. بتفاهم تموز 1993 م، ثم بتفاهم نيسان 1996م ، والذي تم الاعتراف فيه وبحضور وزير خارجية إيران آنذاك، بأمن العدو اليهودي في فلسطين.. ومن ذلك الحين بدأ العدو الصهيوني يسعى إلى الانسحاب من لبنان على ضوء هذا التفاهم، لأن التفاهم يفرض على المقاومة أن تقف، تصل إلى الحدود وتقف.
ثم قال:
أريد أن أقول: إن النتيجة لتفاهم نيسان هو أن المقاومة تحولت من: مقاومة - هذه حقيقة(1) - إلى حرس حدود(2).
ولذلك فإسرائيل تحرص على النفوذ الشيعي في جنوب لبنان ليكون حامياً لها ممن يريد الهجوم على إسرائيل من الحدود الشمالية لها.
وقد جاء في صحيفة (الجروزاليم بوست) في عددها الصادر بتاريخ 23/5/1985:
«إنه لا ينبغي تجاهل تلاقي مصالح إسرائيل التي تقوم على أساس الرغبة المشتركة في الحفاظ على منطقة جنوب لبنان، وجعلها منطقة خالية من أي هجمات ضدّ إسرائيل.. إن الوقت حان لأن تعهد إسرائيل إلى (أمل) بهذه المهمّة»(3).
ويؤكّد هذا الأمر توفيق المديني فيقول:
«حركة (أمل) التزمت من جانبها بمنع رجال المنظمات الفلسطينية من التسلل إلى مناطق الجنوب للقيام بعمليات مسلحة ضد الجيش الإسرائيلي وضد مستوطنات الجليل في شمال فلسطين المحتلّة»(4).
وقد أكّد هذا الأمر الأمين العام السابق لحزب الله: صبحي الطفيلي، حيث يقول:
«من أراد أن يتثبّت - يعني من كون حزب الله أصبح حامياً لحدود إسرائيل كما سبق -، فباستطاعته أن يأخذ سلاحاً ويتوجّه إلى الحدود، ويحاول أن يقوم بعملية ضدّ العدو الصهيوني، لنرى كيف يتصرّف الرجال المسلحون هناك!
__________
(1) الكلام لا زال لصبحي الطفيلي.
(2) لقاؤه التلفزيوني في قناة new tv ضمن برنامج «بلا رقيب» - أواخر عام 2003 م.
(3) نقلاً عن كتاب «أمل والمخيّمات الفلسطينية» ص 162.
(4) كتاب «أمل وحزب الله في حلبة المجابهات» ص 83.(47/64)
لأن كثيرين ذهبوا إلى هناك، والآن هم موجودون في السجون!، اُعتقلوا على يد هؤلاء المسلحين»(1).
«فإسرائيل لم تكن تسعى إلى القضاء على حزب الله وتدميره، ليس لقدراته وقوته، ولكن لأنه حزبٌ منضبط، على الرغم من الانزعاج الذي يسبّبه في بعض الأحيان، إلا أن زوال حزب الله من جنوب إسرائيل كفيلٌ بصعود مقاومة سنّية بديلة، وهو أمرٌ لا تقبله إسرائيل. ومن أجمل ما قيل: أن من مصلحة إسرائيل بقاء حزب الله، ومن مصلحة حزب الله بقاء إسرائيل.
فالمشروع الشيعي - وإن كان مزعجاً للمشروع الصهيوني الأمريكي - إلا أنّه يبقى مشروعاً منضبطاً لا يرفض التعاون والتفاوض، بل قد يبادر إلى التعاون، مثلما حدث من إيران في أفغانستان والعراق، ومثلما حدث من حزب الله قديماً عندما عمل على إحباط هجمات المقاومة من جنوب لبنان.
أما المشروع السنيَّ للمقاومة، فهو مشروع مزعجٌ ولا يقبل التفاوض أو المساومة، والوقائع على ذلك كثيرة، بدءاً من طالبان في أفغانستان وانتهاءً بالمقاومة الفلسطينية، ومروراً بالمقاومة العراقية»(2).
لمن ولاء حزب الله؟
لا شك أن ولاء حزب الله الرافضي في المقام الأول هو لدولة إيران الرافضية(3)، ثم يأتي بعدهم النظام البعثي النصيري.
جاء في مجلّة «الراصد» مقال بعنوان (ولاء الشيعة لمن) يقول(4)
__________
(1) لقاء تلفزيوني مع صبحي الطفيلي في قناة new tv ضمن برنامج «بلا رقيب» أواخر عام 2003.
(2) من مقال لوليد نور في موقع مفكرة الإسلام، بعنوان: الوعد الصادق ينتهي بوهمٍ كاذب، بتاريخ: 17/8/2006 م، وانظر أيضاً: مقال ربيع الحافظ في مفكرة الإسلام، بعنوان: حزب الله والمساحات الخالية ــــ 26/8/2006 م.
(3) لقد قام حزب الله اللبناني بمساعدة الجيش الثوري الإيراني في قتل أهل السنة في منطقة الأحواز.
(4) مجلة الراصد، العدد 34، ربيع الثاني 1427 هـ، دراسة مميّزة بعنوان: ولاء الشيعة لمن؟، قمنا باقتباس الجزء الذي يتحدث عن حزب الله.
وبإمكانك مراجعة المقال كاملاً على موقع المجلة: http://www.alrased.net(47/65)
:
1- نشأ حزب الله في إيران بتأثير ولاية الخميني على الشيعة كافة، يقول نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم: «كان هناك مجموعة من المؤمنين... تفتحت أذهانهم على قاعدة عملية تركز على مسألة الولي الفقيه والانقياد له كقائد للأمة الإسلامية جمعاء، لا يفصل بين مجموعاتها وبلدانها أي فاصل... وذهبت هذه المجموعة المؤلفة من تسعة أشخاص إلى إيران ولقاء الإمام الخميني (قدس) وعرضت عليه وجهة نظرها في تأسيس وتكوين الحزب اللبناني، فأيد هذا الأمر وبارك هذه الخطوات»(1).
2- ذكرت مجلة «الشراع» بتاريخ 14/8/1995 (نقلاً عن حزب الله، د. غسان عزي ص 34) وجود عضوين إيرانيين في قيادة حزب الله!
3- كيف يستقيم أن يكون حسن نصر الله (وهو زعيم حزب لبناني وأحد زعماء الطائفة الشيعية في لبنان) وكيلاً لمرشد إيران الأعلى علي خامنئي، وقد نشرت له عدة صور يقبل فيها يد خامنئي، بالرغم من وجود مرجعيات لبنانية مثل محمد حسين فضل الله!!
فلو تنازع لبنان مع إيران كما يبدو في الأفق الآن فلمن سيكون ولاء نصر الله ومن ورائه الحزب والطائفة؟
4- لقد سبق في تاريخ (أمل) وحزب الله التحاكم إلى القيادة الإيرانية عند الاختلاف فيما بينهم(2).
5- أعلنت حركة (أمل) في المؤتمر الرابع في آذار 1982 أنها جزء لا يتجزأ من الثورة الإسلامية في إيران(3).
__________
(1) كتاب المقاومة في لبنان،أمين مصطفى، دار الهادي ص 425.
(2) دولة حزب الله، وضاح شرارة، ص 119.
(3) المصدر السابق.(47/66)
6- وبسبب تبعية حزب الله لولاية الفقيه، يقرر الباحث الإيراني د. مسعود أسد اللهي في كتابه «الإسلاميون في مجتمع تعددي» ص 321 ما يلي: «بما أن حاكمية الخميني كولي فقيه لا تنحصر بأرض أو حدود معينة فإن أي حدود مصطنعة وغير طبيعية تمنع عمل هذه الولاية، تعدُّ غير شرعية. لذا فإن حزب الله في لبنان يعمل كفرع من فروع حزب الله الواسعة الانتشار... الآراء المذكورة آنفاً توضح أن حزب الله كان مستعداً لإنجاز أي مهمة يأمر بها الولي الفقيه».
- ... - ... -
ما علاقة حزب الله اللبناني بأهل السُّنة
في العالم الإسلامي؟
حزب الله يعامل أهل السُّنة بالتقية كما بيَّنا، ولذلك استطاع عن طريق خطاباته المنمقة التي تحمل في طياتها عبارات (فلسطين) وتحرير (المسجد الأقصى) أن يخدع السامعين حتى يظن السامع لتلك الخطابات أنهم سائرون لتحرير بلاد المسلمين من يد العدو الصهيوني، وبسبب ذلك انخدعت بهم بعض القيادات الفلسطينية في حركة (حماس) و(الجهاد الإسلامي)، ولكن هذا الحزب اللبناني الإيراني الولاء لا يقبل لأحد أن يدخل معه تحت هذه الدعايات إلا بعد أن يقدم له التنازلات مثل الثناء على الخميني أو على النظام الإيراني حتى يستطيع أولئك المخدوعون من أهل السُّنة الحصول على بعض الفوائد الظاهرة لهم من حزب الله اللبناني، أما في بقية الدول الإسلامية فلا يوالي حزب الله اللبناني إلا الروافض من أبناء جلدتهم الذين يعيشون في إيران والعراق وبقية دول الخليج، وبعض السذج من أهل السُّنة ممن جهلوا تاريخ الرافضة وعقيدتهم في أهل السُّنة، نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين.
- ... - ...
ما هو وضع أهل السُّنة في لبنان
في ظل هيمنة حزب الله؟(47/67)
أهل السُّنة في لبنان يعيشون في ظلم واستبداد، بسبب تكالب الرافضة والنصيرية الذين يدعمون فرقة الأحباش التي تحارب أهل السُّنة وتشككهم في عقيدتهم، بالإضافة إلى تسلُّط حزب الله الرافضي المدعوم من إيران، فمثلاً يوزع الرافضة والأحباش والنصيرية كتبهم في لبنان بالآلاف مجاناً، وهي كتب تدعو إلى عقائدهم، بينما أهل السُّنة يخافون من طباعة الكتب العلمية التي تردُّ على تلك الفرق ويخافون من الاعتقال وأن تصادر كتبهم إذا بادروا ولو بالإشارة إلى عقيدة الرافضة، على نحو ما جرى من مصادرة كتاب «لله ثم للتاريخ»، والحكم بالسجن على من طبع ذلك الكتاب. ومثل ذلك ما وقع على المطبعة التي طبعت كتاب «صب العذاب على من سبَّ الأصحاب» للآلوسي، حيث هدد أصحابها إن أعادوا طباعته فإنهم سيحرقون المطبعة بكاملها.
بل إن أهل السُّنة في لبنان وبسبب تسلُّط هؤلاء عليهم أصبحوا كبش فداء، فلا يحصل عمل إرهابي أو تفجير أو غيره إلا ويُتَّهم أهل السُّنة ويحقق معهم بل وقد يسجنون سنوات بسبب بعض التهم غير الثابتة عليهم، كما هو مشاهد في لبنان - كان الله في عونهم -.
والدكتور محمد علي الجوزو مفتي جبل لبنان في مجلة «فجر الإسلام» يشتكي إلى الله من ظلم وتجبر حزب الله في استيلائه على مساجد السُّنة، فبعد أن تحدّث عن ما يسمّى انتصار حزب الله في جنوب لبنان يقول:
«هذا الانتصار على ما يبدو دفع بعض شباب حزب الله لمحاولة السيطرة على مساجد أهل السُّنة والجماعة في الجنوب وفي جبل لبنان، فقد تكررت المحاولات، وآخرها محاولة السيطرة على مسجد النبي يونس في الجية.(47/68)
وفي بلدة الجية يتعاون حزب الله مع حركة أمل، مع الشيخ عبدالأمير قبلان على اغتصاب أوقاف السُّنة، حيث أصدر المجلس الشيعي الأعلى قراراً بتأليف لجنة لأوقاف الشيعة في الجية، ثم ادعت هذه اللجنة على المديرية العامة للأوقاف الإسلامية السُّنية في بيروت بأنها صاحبة حق في أوقاف الجية، وهي عبارة عن أربعة عشر ألف متر مربع تقع على شاطئ البحر، وقد أقيم عليها مسجد النبي يونس ومدرسة رسمية تابعة لهذه الأوقاف ومدرسة ثانوية.. ومقابر..
والقضية تعرض أمام القضاء اللبناني، في الوقت الحاضر، حيث وضعت إشارة على هذه العقارات، ومن خلال هذه الإشارة يحاول المتعصبون من المنتمين إلى اللجنة الشيعية إيذاء أهل السُّنة في أوقافهم وفي مسجدهم، حيث كان أهل السُّنة يعملون على ترميم وبناء مسجدهم من جديد، فرفع هؤلاء قضية بحجة تخريب المسجد، وعملوا على إيقاف عمليات الترميم...
وهكذا تحولت القضية إلى قضية مذهبية لجأ فيها شيعة الجية إلى استفزاز أهل السُّنة والجماعة بوضع مكبرات الصوت على سطح المسجد وإعلان الأذان الذي يتضمن كلمة (وأن علياً بالحق ولي الله) لأول مرة في تلك البلدة، تجاوزوا حدود اللياقة والأدب في تناول مركز الإفتاء والأوقاف، وأخذوا يكيلون الألفاظ البذيئة ويعبرون عن مشاعر الحقد والكراهية بأسلوب سوقي يعمل على إثارة الفتنة والضغينة بين المسلمين..
ورغم تدخل عدة شخصيات مسؤولة كبيرة لإطفاء هذا الحريق، وسحب القضية، فإن اللجنة الشيعية ومن ورائها حزب الله وحركة أمل، والمجلس الشيعي الأعلى ممثلاً بالشيخ عبدالأمير قبلان يستمرون جميعاً في السير قدماً نحو استلاب حقوق السُّنة، وتزوير التاريخ، تنفيذاً لرغبات شباب طائش في الجية.(47/69)
صحيح أن مديرية الأوقاف الإسلامية السنية تملك جميع المستندات العقارية والتاريخية التي تثبت حقها التاريخي في تولي أوقاف النبي يونس في الجية، ولكن الأمر يتفاقم بسبب محاولات الاستفزاز الدائمة التي تحاول أن تثير المشكلات مع شباب الجية من أهل السُّنة والجماعة لسبب ولغير سبب؟!»(1).
وقد جرت محاولات عديدة للاستيلاء على بعض مساجد أهل السُّنة في لبنان، ونجحوا في الاستيلاء على بعضها، وليس مسجد (الجية) وحده، فقد استولوا على مسجد (الظاهر بيبرس) في بعلبك، بعد أن منعوا ترميمه، وأطلقوا عليه اسم (مسجد رأس الحسين)، كما استولوا على مسجد (علي بن أبي طالب) في منطقة المعشوق، قرب صور، وأطلقوا عليه اسم (مسجد الوحدة الإسلامية)، واستولوا على (مسجد الشبريحا) قرب صور، وسموه (مسجد الكاظم)، أما مسجد صور القديم (مسجد الفاروق عمر) فإنهم لا يتردّدون عن القول صراحةً في بعض مؤتمراتهم وفي أدبياتهم إنّه كان للشيعة، وإنّ أهل السُّنة استولوا عليه في ظل الخلافة العثمانية، وذلك من أجل تمهيد الاستيلاء عليه في المستقبل!.
وتجدر الإشارة إلى أنّهم ينفّذون مخطّطات خبيثة للسيطرة على أبرز المدن في لبنان، وتحويل طابعها من سني، إلى شيعي، وقد نجحوا في مدينة صور خلال أقلّ من قرن من الزمن، ويحاولون الآن في غيرها مثل صيدا وبيروت.
__________
(1) مجلة فجر الإسلام، لقاء مع محمد علي الجوزو – مفتي جبل لبنان -.(47/70)
كما نشير إلى دور النظام السوري في إضعاف أهل السُّنة والجماعة في لبنان، على مرأى ومسمع من الأنظمة العربية التي وقفت مكتوفة الأيدي إزاء هذا المخطّط، في الوقت الذي عمل فيه هذا النظام على تقوية الشيعة، فتمّ إمدادهم بالمال والسلاح، بينما تمّ ضرب أهل السُّنة بشكلٍ متتابع، بدءاً من ضرب الفلسطينيين وإجبارهم على الانكفاء داخل المخيّمات، مروراً بالقضاء على حركة المرابطين، وحركة التوحيد، وانتهاءً بالقضاء على التنظيم العسكري للجماعة الإسلامية، وتحويله إلى حزبٍ سياسي.
وماذا بعد؟!
هذا هو حزب الله الشيعي يقوم بالاستيلاء على مساجد السُّنة في لبنان، وللأسف فإن كثيراً من المغفلين من أبناء جلدتنا فرحوا بانتصارات حزب الله المزعومة واعتبروه فتحاً عظيماً للإسلام والمسلمين، وما علم هؤلاء المساكين أن هذا الحزب يخدم مخططات إيران الرافضية في بلاد المسلمين، وما حزب الله في لبنان إلا بوابة إيران إلى البلدان العربية، ومن يموِّل حزب الله غير قيادتهم في إيران؟
- ... - ... -
ما هو موقف حزب الله من الحكومة اللبنانية
وبقية الحكومات الإسلامية؟
جاء في كتاب (الغيبة) لمحمد النعماني(1):
عن مالك بن أعين الجهني، عن أبي جعفر الباقر - عليه السلام - أنه قال: «كل راية ترفع قبل قيام القائم - عليه السلام - صاحبها طاغوت».
وهناك رواية أخرى في كتاب «بحار الأنوار»(2) تقول:
عن الصادق - عليه السلام -: «يا مفضل كل بيعة قبل ظهور القائم - عليه السلام - فبيعته كفر ونفاق وخديعة، لعن الله المبايع لها والمبايع له».
فحزب الله لا يرى السمع والطاعة لأي حكومة كانت إلا أن تكون حكومة شيعية اثني عشرية، أما غيرها من الحكومات فلا سمع لها ولا طاعة إلا من باب التقية فقط.
__________
(1) ص 72.
(2) للمجلسي (53/8).(47/71)
فقد جاء في كتاب «وسائل الشيعة»(1) عن أبي عبدالله في - عليه السلام - رسالته إلى أصحابه قال: «وعليكم بمجاملة أهل الباطل، تحمّلوا الضيم منهم، وإيّاكم ومماظتهم(2)، دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام، فإنه لا بد لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم».
وذكر الحر العاملي(3)، باب: وجوب عشرة العامّة بالتقيّة، وعن أبي بصير قال: قال أبو جعفر:
«خالطوهم بالبرّانية، وخالفوهم بالجوانية، إذا كانت الأمارة صبيانية».
وفي المصدر نفسه أيضاً(4)، باب: وجوب طاعة السلطان تقية، وذكرَ عدّة أحاديث تدل على وجوب التقيّة مع السلاطين والتعامل معهم بخلاف ما يبطنون.
ولذلك فالمرجع الشيعي الشهير محمد حسين فضل الله يقول في جوابٍ له عن أحد الأسئلة الموجّهة إليه:
لم يكن هؤلاء الذين حكموا العالم الإسلامي في الماضي يحكمون باسم الإسلام، فنحن لا نعتقد على سبيل المثال أنّ الحكم العثماني كان عادلاً وحرّاً وإسلاميّاً(5).
وسبق معنا عند الحديث عن فروع حزب الله في دول الخليج موقف هذا الحزب من الحكومات فيها، وأنّها طاغوتية ويجب إسقاطها لإحلال نظام شيعي موالٍ للنظام الإيراني الصفوي.
- ... - ... -
لماذا انخدع كثير من أهل السُّنة
بحزب الله اللبناني وصدقوا أكاذيبه؟
أعتقد أن انخداع أهل السُّنة بحزب الله يعود إلى أمور كثيرة من أبرزها:
__________
(1) للحر العاملي (11/462).
(2) المماظة: شقة الخلق وفظاظته، ومظظته: لمته، وماظظته مماظة ومماظاً: شاورته ونازعته والخصم لازمته. راجع: أصول الكافي للكليني (2/109).
(3) في المصدر نفسه (11/470- 471).
(4) 11/471).
(5) قراءة في فكر زعيم دين لبناني، ضمن حلقات: الإسلام والكونجرس الأمريكي - أحمد خضر، مجلة المجتمع، عدد 953، ص 45.(47/72)
1- جهل كثير من أهل السُّنة بعقيدة الرافضة التي تغلو في الأئمة، وتقول بتحريف القرآن، وتكفّر كبار الصحابة وأمهات المؤمنين وتكفِّر جميع الطوائف الإسلامية إلا الشيعة الإمامية الاثني عشرية وهي الطائفة الناجية وما سواها في النار(1).
2- التقية؛ فحزب الله يجيد التقية والعمل بها بصورة ممتازة، وتعريف التقية عند الرافضة كما عرَّفها شيخهم المفيد بقوله: «كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين والدنيا».
وقال محمد العاملي المعروف عند الرافضة بالشهيد الأول في تعريف التقية: «التقية مجاملة الناس بما يعرفون، وترك ما ينكرون حذراً من غوائلهم»(2).
إنّ التقية من أهم العوامل التي جعلت كثيراً من أهل السُّنة يصدِّق تلك العبارات التي يطلقها حسن نصر الله في خطاباته المتلفزة في أنه سيحرر الأقصى، ولا يأتي خطاب إلا ويذكر فلسطين واليهود مما جعل أولئك يصدقون ما يقول!!
3- الإعلام، فإن له دوراً كبيراً في نقل الأحداث وتصوير الحزب بالصورة الرائعة؛ كيف لا! وهم يمتلكون قناة المنار الفضائية التي تلمّع في الحزب ورئيسه ليلاً ونهاراً، حتى صار حزب الله عند عوام الناس هو الحزب المجاهد في سبيل الله الذي جاء فقط من أجل طرد المحتل وتحرير بلاد المسلمين من اليهود، وصوَّر نفسه بصورة غير صورته الحقيقية التي هي تصدير الثورة الإيرانية الخمينية إلى لبنان والعالم الإسلامي.
- ... - ... -
هل حمل الشيعة
في يوم من الأيام لواء الدفاع عن الإسلام والمسلمين؟
__________
(1) للمزيد راجع كتاب «حتى لا ننخدع» لعبدالله الموصلي أثابه الله، ففيه الكفاية بإذن الله تعالى.
(2) انظر كتاب «التقية منهج إسلامي واع» ص 16 لمهدي العطار.(47/73)
الرافضة كانوا ولا زالوا معول هدم، وخنجراً في ظهر الأمة الإسلامية، وكان الصليبيون وما زالوا يراهنون عليهم إذا أرادوا إسقاط حكم في بلد إسلامي، ونحن نتحدى الرافضة مجتمعين أن يسمُّوا لنا قائداً شيعياً فتح بلداً من بلدان المسلمين!!.
قرآن كريم ما هي أبرز الخيانات التي قام بها الشيعة للأمة الإسلامية؟
من المسلّم به أن الرافضة لا يُعطون ولاءهم الديني إلا لمرجعيات (قم)، ولا يُعطون ولاءهم السياسي إلا لحكومة طهران، ومن سبر أقوال الساسة؛ تنبّه لذلك(1).
أما اليهود؛ فقد أعلنها شارون صريحةً في مذكراته بقوله:
«لم أر يوماً في الشيعة أعداء لإسرائيل على المدى البعيد»(2).
ولعلنا في هذا الكلام - نعني كلام شارون - نجد الإجابة بعدم تعقّب إسرائيل لقادة حزب الله على الطريقة التي تتعقّب بها قادة حركة حماس في كلّ مكان بالعالم، ومن أشهرها اغتيالهم للشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبدالعزيز الرنتيسي، ويحيى عياش، والمحاولة الفاشلة لاغتيال د.خالد مشعل وفّقه الله لما يحبّ ويرضى.
لن أطيل الكلام في هذا الموضوع بل سوف أكتفي بالإشارة إلى خيانات الشيعة، وسأذكر المصادر لمن أراد التوسع في هذا الباب:
1- خيانتهم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقد ذمهم رضي الله عنه وتبرأ من أفعالهم(3).
__________
(1) وأبرز تلك التصريحات، تصريح الرئيس المصري في حديثه لقناة العربية في تاريخ 8/4/2006 م، أن ولاء الشيعة لإيران وليس لحكومة أوطانهم.
وكذلك حذّر ملك الأردن الملك عبدالله العالمَ من قيام الهلال الشيعي عبر العراق وانتهاءً بحزب الله في لبنان.
وكذلك تصريح وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل الذي أبدى مخاوفه من تدخّل إيران في شؤون العراق.
(2) مذكرات شارون ص 583.
(3) راجع خطبته - رضي الله عنه - في ذم أصحابه في كتاب نهج البلاغة - ت: محمد عبده، ص 148، الخطبة رقم (69).(47/74)
2- خيانتهم للحسن بن علي - رضي الله عنه - عندما طعنه شيعته بخنجر في فخذه وسمَّوه مذلَّ المؤمنين(1).
3- خيانتهم للحسين بن علي - رضي الله عنه - عندما راسلوه وطلبوا منه الحضور للكوفة حتى يبايعوه ثم انقلبوا عليه وقتلوه(2)، وقد دعا عليهم الحسين بعد أن رأى خيانتهم له(3).
4- خيانة الوزير الشيعي علي بن يقطين في عهد هارون الرشيد فقد قتل خمس مائة رجل من أهل السُّنة حين هدم عليهم سقف الحبس فقتلهم كلهم(4).
5- الدولة الفاطمية وخياناتها في محو السُّنة ونشر التشيع(5).
6- قتل القرامطة للحجاج واستباحتهم لدماء وأموال الحجاج(6).
7- خيانات البويهيين وتسلُّطهم على أهل السُّنة(7).
8- خيانات الوزير مؤيد الدين أبي طالب محمد بن أحمد العلقمي الرافضي ودوره في دخول التتار لعاصمة الدولة العباسية بغداد(8).
9- وقوف الرافضة مع التتار عندما دخلوا دمشق وعملوا تحت ولايتهم(9).
__________
(1) راجع كتاب «بحار الأنوار» للمجلسي (44/24) ، وكتاب «دلائل الإمامة» للطبري ص 64.
(2) انظر راجع كتاب أعيان الشيعة لمحسن الأمين (1/32).
(3) راجع كتاب «الإرشاد» للمفيد (2/110، 111).
(4) راجع كتاب «الأنوار النعمانية» (2/308) لنعمة الله الجزائري.
(5) وهي كثيرةٌ جداً، وللمزيد راجع كتاب «خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية» ص 47، لعماد حسين.
(6) وللمزيد راجع كتاب «خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية» ص 63، لعماد حسين.
(7) وللمزيد راجع كتاب «خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية» ص 73، لعماد حسين.
(8) وللمزيد راجع «كتاب خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية» ص 81، لعماد حسين، وكذلك كتاب الشيخ سلمان العودة: دور الشيعة في سقوط بغداد على أيدي التتار.
(9) وللمزيد راجع كتاب «خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية» ص 92 ، لعماد حسين.(47/75)
10- طلب الرافضة من المسلمين الاستسلام لهولاكو وعدم قتاله بعدما دخل حلب وقتل منها خلقاً كثيراً(1).
11- خيانات نصير الدين الطوسي الرافضي ودوره في قتل أهل السُّنة والاستيلاء على أموالهم والقضاء على تراثهم الفكري(2).
12- خيانات الشيعة ومحاولتهم قتل الإمام المجاهد صلاح الدين رحمه الله(3)(4).
13- خيانات الشيعة لدولة السلاجقة السنية ومعاونة الصليبيين عليها(5).
14- خيانات الشيعة الاثني عشرية في لبنان (حركة «أمل» الشيعية) وتحالفهم مع الصليبيين(6).
15- إعاقة الدولة الصفوية للفتوحات العثمانية في أوروبا، وكذا اتفاقياتهم ومؤامراتهم الصفوية مع النصارى ضد الدولة العثمانية(7).
16- خيانات الشيعة الاثني عشرية في (دول الخليج) وتحالف الرافضة مع الصليبيين في العراق بتأييد من علمائهم ومراجعهم كالسيستاني والحكيم(8).
__________
(1) وللمزيد راجع كتاب «خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية» ص 97، لعماد حسين.
(2) وللمزيد راجع كتاب «خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية» ص 101، لعماد حسين.
(3) عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصلاح الدين الأيوبي رحمه الله اللذان شرّفهما الله بفتح بيت المقدس: كفّار عند الشيعة الإمامية!
(4) وللمزيد راجع كتاب «خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية» ص 109، لعماد حسين.
(5) وللمزيد راجع كتاب «خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية» ص 117، لعماد حسين.
(6) وللمزيد راجع كتاب «خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية» ص 145 ، لعماد حسين .
(7) وللمزيد راجع كتاب «الصفويون والدولة العثمانية» لعلوي بن حسن عطرجي.
(8) وللمزيد راجع كتاب «خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية» ص 167، لعماد حسين.(47/76)
وقد جاء في كتاب (عام قضيته في العراق) للسفير الأمريكي والحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر بعض الاعترافات الخطيرة حول دور علماء الشيعة الإمامية في مساعدة القوات الصليبية الأمريكية في احتلال العراق فقد قال(1): (لا يزال العديد من الشيعة يشعرون بالغضب لأن الأمريكيين لم يتدخلوا لوقف المجزرة، مع ذلك شجع القادة الشيعة بمن فيهم آية الله العظمى السيستاني أتباعهم على التعاون مع الائتلاف منذ التحرير ولا يمكننا المخاطرة بفقدان تعاونهم).
وذكر أيضاً عن عبدالعزيز الحكيم - قائد المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق - قوله(2): قال لي وهو يراقبني عن كثب من خلال نظارته الملونة قل لي يا سعادة السفير، أنت تقول إن ضباطاً سيقودون كتائب هذا الجيش الجديد، فمن سيكون هؤلاء الضباط؟
قلت: مستخدماً لقبه بالعربية: أعدك يا سيد بأن يكون قائد الكتيبة الأولى (شيعياً)، ثم قال.. وقد بر الائتلاف(3) بوعده).
وذكر أن السيستاني رجل متعاون مع القوات الأمريكية ولكنه لا يريد أن يجتمع مع أحد من القوات علناً، وأثنى على تواصله مع الأمريكان من خلال الوسطاء فقال(4): (في أعقاب التحرير على الفور، أعلن آية الله العظمى عبر قنوات خاصة بأنه لن يجتمع مع أحد من الائتلاف، ولم أضغط من أجل عقد اجتماع شخصي معه، وقد حلل (هيوم) وهو يفهم الإسلام والعالم العربي الوضع ببلاغة، لا يمكن أن يشاهد علنياً بأنه يتعاون مع القوى المحتلة ياجيري، فثمة أطياف لسنة 1920 وما صاحبها، وعليه أن يحمي جانبيه من المتهورين مثل مقتدى الصدر، لكن آية الله سيعمل معنا، فنحن نتقاسم الأهداف نفسها!!).
__________
(1) ص 75.
(2) ص 80.
(3) والكلام لا يزال لبريمر.
(4) ص 213.(47/77)
وحتى تعرف نفاق الرافضة وخداعهم للمسلمين فقد بين بول بريمر هذه الحقيقة بقوله(1): (فيما كانت وسائل الإعلام العربية والغربية تندب الانقسام المفترض بين آية الله السيستاني والائتلاف، كنت أنا وهو نتواصل بانتظام بشأن القضايا الحيوية من خلال الوسطاء طوال المدة التي قضاها الائتلاف في العراق.
وكان هيوم محقاً ففي أوائل الصيف، أرسل السيستاني إليَّ أنه لم يتخذ موقفه بسبب عدائه للائتلاف، بل إن آية الله يعتقد بأن تجنب الاتصال العام مع الائتلاف يتيح له أن يكون ذا فائدة أكبر في مساعينا المشتركة، وأنه قد يفقد بعض مصداقيته في أوساط المؤمنين إذا تعاون علناً مع مسؤولي الائتلاف كما يفعل العديد من الشيعة والسنة العلمانيين، بالإضافة إلى المتدنيين من رجال الدين الشيعة ذوي المراتب المتدنية).
أقول: وهل بعد هذا الخيانة من خيانة!
فهذا أكبر مرجع للرافضة في العالم يظهر للناس أنه يعارض وجود القوات الأمريكية، أما في الباطن فيراسلهم ويراسلونه بانتظام لأن هدفهم السيطرة على العراق وتقاسم ثرواته، وهذا ليس بغريب على الشيعة فقد فعل جدهم (ابن العلقمي) مثل ما فعل في هذا الزمان عبدالمجيد الخوئي ومحمد باقر الحكيم وعلي السيستاني بالعراق من التعاون مع المحتل وتسهيل مهمته في غزو بلاد المسلمين، والله المستعان..
- ... - ... -
ما هو دور إيران (الإسلامية!!)
في إسقاط الحكومة الأفغانية والحكومة العراقية
وتحالفها السري مع أمريكا؟
__________
(1) ص 214.(47/78)
مما لا شك فيه أن إيران هي الغائب الحاضر في الأحداث وقد لعبت دوراً مهماً في أحداث المنطقة مؤخراً ولا سيما في الملفين الأفغاني والعراقي قبل الحرب وبعدها، بل كانت المنسق الأول مع الأمريكان في مخطط احتلال أفغانستان والعراق ولم تألُ جهداً في تقديم كل ما تستطيع لتحقيق ذلك، والغاية واحدة من سقوط الدولتين؛ وهي: تحقيق مكاسب عنصرية وطائفية في كلتا الدولتين، وهذا أمر يعرفه الأمريكيون أنفسهم من أنه لولا إيران لم يمكن تحقيق الإنجاز السريع في إسقاط طالبان، كما عُبّر عن ذلك بمقولة: «لولاك يا أخا الفرس ما سقطت كابل ولا بغداد».
نعم لقد كسبت إيران مقابل خدماتها للقوات الأمريكية في العراق، وحصلت على نفوذ شيعي كبير في مجلس الحكم، الذي تم تعيينه من قبل سلطات الاحتلال، (لذلك كانت من أوائل الدول التي اعترفت بمجلس الحكم على الرغم من فقدانه للشرعية المطلوبة)، وتمّ تحييد منظمة (مجاهدي خلق) المعارضة وتغييبها عن ساحة الأحداث، وكذلك اللين الأمريكي في تعامله ولو في المرحلة الراهنة مع الملف النووي، ومحاولة ترتيب الأوراق من خلال لقاءات سرية بين الإيرانيين والأمريكيين لعودة الانسجام بينهما، والقول بأن إيران كان موقفها على الحياد في الحرب على العراق غير صحيح، لأن جميع المؤشرات تدل على أن الإيرانيين كانوا في غاية الرضى لغزو العراق لتحقيق مكاسبهم العنصرية والطائفية من خلال إسقاط النظام العراقي، على الرغم من تواجد القوات الأمريكية أو ما تسميه «الشيطان الأكبر» على حدودها مستقبلاً.
- ... - ... -
هل يتبنى حزب الله تصدير عقيدة الرافضة
ونشرها بين المسلمين؟(47/79)
لقد استطاع حزب الله اللبناني عن طريق قناة «المنار» - التي هي منبرٌ لنشر التشيُّع المبطن بالتقية - استطاع الحزب نشر معتقد الإمامية بين أهل السُّنة في العالم الإسلامي، فلا يُظهرون أي أمر يخدش مشاعر طوائف أهل السُّنة (تقية)، بل لا يتكلمون إلا عن وحدة المسلمين وقتال اليهود المحتلين، حتى زعيمهم حسن نصر الله كان يتجنب الخوض في المسائل الخلافية بين السُّنة والشيعة الإمامية، لأنه أظهر نفسه حاملَ لواء الدفاع عن لبنان وتحرير الأقصى من اليهود، فانخدع خلق كثير من أهل السُّنة وأصبحوا ينظرون إلى هذا الحزب على أنه هو المخلِّص لهم من دولة إسرائيل كما يتوهمون!!.
فاستغلَّ حزب الله تلك العمليات التي ينفذها والصواريخ التي كان يطلقها في الدفاع عن نفسه لنشر عقيدته، فأصبح قائدهم يترحم على الخميني وهو الذي قتل أهل السُّنة في إيران، ويدعو للسير على خطاه والتأسي بمنهجه، ويجدِّد البيعة للخامنئي المرشد للثورة الإيرانية بعد وفاة الخميني، حتى ظن كثير من أهل السُّنة أن الخميني والخامنئي ممن يناصرون الدين الإسلامي وأهله، ولذلك ترى صور الخميني والخامنئي في كل زاوية من زوايا حزب الله، بل قام الحزب بنشر كتبهم ومؤلفاتهم وطباعتها بطباعة فاخرة لتوزيعها على المسلمين في بقاع العالم.
حتى سمعنا عن تأثر بعض المهاجرين العرب الذين يقيمون في دول الغرب بحزب الله واعتقادهم أنه هو الذي يحمل لواء الدفاع عن بيضة الإسلام وطرد المعتدين، بل أعلن بعضهم ترفُّضه والعياذ بالله بسبب جهله بعقيدة الرافضة الباطنية.
- ... - ... -
هل سيبقى لبنان أسيراً لحزب الله
يصطلي بالصراع الإيراني الإسرائيلي على أرض لبنان؟
وضح هذه المسألة وضّاح شرارة، فقال:(47/80)
«كما كان لبنان ساحة مهمة لعمل الحركات الخمينية وكان على لبنان أن يصطلي بنار أرادت الحركة أن تستمر إلى تحقيق أهدافها، فهذا إبراهيم السيد الناطق السابق باسم حزب الله يقول: إن الأساس في لبنان بالنسبة إلينا أن يبقى ساحة وموقعاً للصراع مع (إسرائيل)، إن مصلحة الإسلام أن يكون لبنان كذلك»(1).
وعندما خطف الحزب الجنديين الإسرائيليين وصدق أتباع الحزب بتلك المسرحية وخرج لنا في قناة «المنار» اللبنانية (حسن نصر الله) في يوم الجمعة بتاريخ 14 يوليو 2006 م، وقال:
«من الآن فصاعداً أنتم أردتم حرباً مفتوحة فلتكن حرباً مفتوحة. أنتم أردتم، حكومتكم أرادت تغيير قواعد اللعبة فلتتغير إذاً قواعد اللعبة. أنتم لا تعرفون اليوم من تقاتلون، أنتم تقاتلون أبناء محمد وعلي والحسن والحسين وأهل بيت رسول الله وصحابة رسول الله. أنتم تقاتلون قوماً يملكون إيماناً لا يملكه أحد على وجه الكرة الأرضية. وأنتم اخترتم الحرب المفتوحة مع قوم يعتزون بتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم وأيضاً يملكون القدرة المادية والإمكانات والخبرة والعقل والهدوء والحلم والعزم والثبات والشجاعة. الأيام المقبلة بيننا وبينكم إن شاء الله».
وختم قائلاً: «أما للحكام العرب، لا أريد أن أسألكم عن تاريخكم، فقط كلمة مختصرة، نحن مغامرون، نحن في حزب الله مغامرون نعم، ولكننا مغامرون منذ عام 1982 م. لم نجرَّ إلى بلدنا سوى النصر والحرية والتحرير والشرف والكرامة والرأس المرفوع. هذا هو تاريخنا، هذه هي تجربتنا، هذه هي مغامراتنا».
__________
(1) كتاب: (دولة حزب الله) وضاح شرارة ص 336.(47/81)
وبعد أن دمر لبنان وأزهقت الأنفس بسبب تلك المسرحية التي قام بها الحزب والتي أعطت الضوء الأخضر للصهاينة في تدمير لبنان، وبعد أن أثقل لبنان بمليارات الدولارات قال نصر الله لقناة (New TV) اللبنانية في يوم الأحد 3/8/1427 هـ الموافق 27/8/2006، أنه لو علم بأن عملية أسر الجنديين الإسرائيليين كانت ستقود إلى الدمار الذي لحق بلبنان ما أمر بها.
وأوضح حسن نصر الله أن القيادة في الحزب لم تتوقع ولو 1 % أن تؤدي عملية الأسر إلى هجوم عسكري بهذه السعة، «لأن عدواناً بهذا الحجم لم يحصل في تاريخ الحروب». وأكد أن حزب الله لا ينوي شن جولة ثانية من الحرب مع إسرائيل.
والمحصلة النهاية بعد انتهاء تلك المسرحية هي ازدياد عدد الأسرى والقتلى اللبنانيين وسيطرة العدو الإسرائيلي على جنوب لبنان ومحاصرة لبنان جواً وبحراً!
فهل سيطالب اللبنانيون بمحاكمة زعيم الحزب بسبب تلك المصائب التي جرَّها على لبنان؟
ويا ليت شعري ما دور الحكومة اللبنانية التي يصدق عليها قول الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ... ... ولا يستأمرون وهم شهود
إذا كان أخطر قرار في الدولة؛ وهو إعلان الحرب على دولة أخرى يتم دون علمها، ولا يؤخذ رأيها فيه، وإيقاف الحرب يتم دون مشورتها!
فمن يحكم من!؟ ومن يرأس من!؟
وبأي نظم ودساتير يكون هذا!!؟
وما هو الدور المناط بالحكومة اللبنانية والذي يجب أن تفعله لشعبها ومواطنيها التي دمرت ممتلكاتهم وقتل أهاليهم ولحق الدمار ليشمل البنية التحتية للبنان وتدمير مقوماته الاقتصادية.
فهل سيحاسب المتسبب أو طائفته؟؟
إن أخشى ما نخشاه أن يحاسب هذا الحزب الحكومة أو أهل السنة في الجنوب أو المخيمات الفلسطينية في أي تهمة معلبة وجاهزة.
وثمة سؤال يطرح نفسه:
لماذا ترفض إسرائيل وأمريكا التفاوض مع حكومة حماس التي اختارها الشعب بمحض إرادته وهي حكومة رسمية شرعية!(47/82)
ويتفاوضون مع حزب الله! الذي يمثل دولة داخل الدولة، أو عصابة مافيا تختص في خطف جنديين إسرائيلين لتدك إسرائيلُ لبنانَ ومقومات لبنان، إذا أخذنا بالاعتبار أن (عباس الموسوي) سلف (حسن نصر الله) سبق وأن خطف جنديين إسرائليين في منتصف شهر شباط من عام 1986 م والذي أعقبه اجتياح إسرائيل للأراضي لبنانية(1) وألحق الدمار في لبنان ومقومات لبنان.
وإننا نرى بأن خطف جنديين إسرائيلين هو إعطاء إسرائيل مسوغ أو مبرر لتدمير لبنان متى ما أردت إسرائيل ذلك، ولا نستبعد أن تتكرر هذه العملية مرة أخرى من حسن نصر الله أو من غيره، إذا ترك الوضع لهذا الحزب على ما هو عليه.
وصدق من قال بأن من مصلحة إسرائيل بقاء حزب الله ومن مصلحة حزب الله بقاء إسرائيل!
أين حزب الله وأتباعه الشيعة الإمامية
من الغزو الصليبي للعراق؟
يقول دانييل سوبلمان:
«لم يُخفِ قادة حزب الله معارضتهم للحملة الأمريكية ولنظام صدام حسين، ولكنهم حافظوا على صمتهم بشكل شبه كامل.. ولم يعلُ صوتهم إلا عندما أعلنوا بأنهم لم يرسلوا أية مساعدات إلى العراق لطرد الغازين، وعندما ذكر من بغداد أن ستة مجاهدين من حزب الله تم اعتقالهم على الحدود السورية - العراقية سارع التنظيم للإعلان عن رفض رسمي»(2).
__________
(1) أمير القاقلة - السيرة الذاتية لسيد شهداء المقاومة الإسلامية السيد عباس الموسوي. تقديم/حسن نصر الله، للشيخ محمد علي خانون، ص 101.
(2) كتاب «قواعد جديدة للعبة: إسرائيل وحزب الله بعد الانسحاب من لبنان» في الصفحة الأخيرة من الكتاب.(47/83)
كما أعلنت المراجع الشيعية في اجتماع عقدوه بمنزل آية الله العظمى علي السيستاني في النجف معارضتهم القتال ضد الوجود الأمريكي في العراق(1). بل ذكرت صحيفة الوطن الكويتية أن حزب الله اللبناني أقام قواعداً له في العراق، وأرسل لها 90 مقاتلاً تسلّلوا للعراق عن طريق الأراضي السورية(2)، وذلك بهدف إيجاد الدعم اللوجستي ونقل الخبرات للمليشيات الشيعية من أمثال فيلق بدر، وجيش المهدي في كيفية توطين النفوذ الشيعي والسيطرة على مختلف المناطق وسحق الوجود السني وتصفيته(3).
وفي شهر أكتوبر من عام 2006 م، تم إرسال 35 قيادياً في جيش المهدي الشيعي العراقي، إلى حزب الله في لبنان بناءً على دعوة رسمية منه، وذلك بهدف التعاون العسكري وتطوير التدريب العسكري لهؤلاء وإعطائهم صورة كاملة لكيفية مقاتلة الجماعات السنية التي يرون أنها تُعيق إقامة الهلال الشيعي(4)!
أقول: شاهد أخي المسلم كيف عارضت مراجع الشيعة الإمامية قتال القوات الأمريكية رغم أنها قوات محتلة!!
ولنا أن نتساءل: هل القتال في لبنان يدخل الجنة والقتال في العراق يدخل النار؟
أليسَ العراق ولبنان بَلَدَين إسلاميّين؟
أم لأن المصالح الإيرانية والسورية تجيز القتال في لبنان فقط!!
هل تعلم ما هو الهدف الذي تحقق
من خطف الجنديين الإسرائيليين؟
__________
(1) صحيفة الوطن الكويتية في تاريخ 29/8/2004 م.
(2) جريدة الوطن الكويتية 29/11/2003 م نقلاً عن صحيفة ستاندرت.
(3) نسمع ونشاهد شيعة لبنان يسبّون ويلعنون أمريكا وإسرائيل، بينما نشاهد العلاقات الوطيدة والمتينة بين القوات الصليبية الأمريكية المحتلّة للعراق وعلماء الشيعة!، وكيف أصبح عوام شيعة العراق خدم وجنود للقوات المحتلّة. انظر الصور المرفقة في هذا الكتاب، والتي تبيّن التعاون الشيعي الأمريكي!
(4) موقع مفكرة الإسلام الإخباري، الأربعاء 3 شوال 1427 هـ - 25 أكتوبر 2006 م.(47/84)
أولاً: تم تخفيف الضغط على إيران بخصوص برنامجها النووي فقد التفت العالم بأسره يتابع ما يحصل للبنان ولشعب لبنان.
ثانياً: استفراد جيش المهدي ومنظمة بدر الرافضيتين بقتل أهل السُّنة في العراق بأبشع أنواع القتل، وتهجيرهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، ومصادرة مساجدهم، وكل ذلك بتغطية أمريكية وتأييد من مرجعهم الإيراني (علي السيستاني).
ثالثاً: محاولة إيصال رسالة إلى أمريكا بشأن الموضوع النووي، بأننا - أي إيران - نستطيع نقل الحرب من منطقة إيران والخليج، إلى منطقة إسرائيل ولبنان.
رابعاً: بعد خروج سوريا من لبنان، وانحسار نفوذها، وتنامي الوعي الوحدوي الوطني في لبنان، أرادت سوريا ومن ورائها إيران إيجاد طريقة لاسترجاع السيادة والتحكّم في مصالح لبنان، فقاموا باللعب بالورقة المزيّفة - سلاح مقاومة حزب الله - لخلط الأوراق لصالح النفوذ الإيراني الصفوي والسوري النصيري، خصوصاً بعد مطالبة العالَم والحكومة اللبنانية لحزب الله بنزع سلاحه والدخول ضمن الجيش اللبناني العام، وهذا يسبّب حرجاً للمصلحة الإيرانية، فقاموا بهذه العملية لإيجاد مبرّر لإبقاء السلاح في يد حزب الله بذريعة المقاومة(1)!
__________
(1) وقد صرّح وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط في 22/10/2006 م (انظر قناة الجزيرة وغيرها من المصادر الإخبارية)، بأن الهدف من خطف الجنديين هو إعاقة اتفاقية الطائف التي تنص على نزع سلاح حزب الله، وذلك بإبقائه تحت ذريعة المقاومة، وتنفيذاً لمصلحة أحد القوى الإقليمية - يقصد إيران -، خصوصاً - كما يقول أبو الغيط - أن مزارع شبعا وغيرها والتي يدندن حولها الحزب لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي!، ولم يستفد لبنان والحزب من هذا الخطف ومن هذه الحرب سوى الخسائر الفادحة وتدمير البنية التحتية.(47/85)
خامساً: خطف الأضواء عن المقاومة الفلسطينية؛ فبعد أن تورّط الشيعة باتّهامات التعاون والاتفاقية مع إسرائيل في شراء الأسلحة - فيما يُعرف بفضيحة: إيران جيت - وتورّطهم بالتعاون مع الشيطان الأكبر! في إسقاط حكومة طالبان، والتعاون مع المحتلّ الأمريكي في اعتلاء الشيعة الصفويين الطائفيين العنصريين للحكومة العراقية ودعمها المباشر للمليشيات الشيعية في تصفيتها للوجود السني والتطهير العرقي والتهجير الظالم؛ قامت بإشعال هذه الحرب حتى تكسب ورقة المقاومة ضدّ إسرائيل، وتستفيد لاحقاً في كسب الجماهير المسلمة السنّية في صراعات لاحقة لبسط النفوذ الصفوي الشيعي.
يقول الكاتب الفلسطيني غازي التوبة:
«المقصود من قتال (حزب الله) للعدو الصهيوني في لبنان هو: الدعاية والترويج لإيران والطائفة الشيعية على مستوى لبنان والعالم العربي والإسلامي من جهة، ومن أجل التغطية على جرائم إيران في العراق من جهة ثانية»(1).
- ... - ... -
هل نحن نحرم الجهاد في سبيل الله
ضد اليهود الغاصبين؟
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: والجهاد فرض على كفاية، إذا قام به قوم سقط عن الباقين(2)، قال تعالى: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } [التوبة: 122].
ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع:
1- إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام لقول الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً } [الأنفال: 45 ].
2- إذا نزل الكفار ببلد، تعيَّن على أهله قتالهم ودفعهم.
__________
(1) من مقال لغازي التوبة في جريدة الحياة - عدد 15848 - تاريخ 25/8/2006 - صفحة 19.
(2) انظر كتاب «المغني» لابن قدامة (13/6).(47/86)
3- إذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفير معهم، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [التوبة: 38 ].
ثم بيَّن ابن قدامة رحمه الله الشروط التي توجب الجهاد وهي سبعة شروط:
الإسلام، البلوغ، العقل، الحرية، والذكورية، والسلامة من الضرر، ووجوب النفقة.
قد يقول قائل: لماذا لا تتحدون مع الشيعة الإمامية لقتال اليهود؟
فنقول له: ومنذ متى اتحد الرافضة مع أهل السُّنة!!
وانظر إلى سيرة القائد المسلم الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى (صلاح الدين الأيوبي) رحمه الله، فقد قام هذا المجاهد المحنّك، والقائد المغوار بطرد الشيعة الإسماعيلية - الدولة العبيدية - من الحكم وجردهم من أمور الدولة وأبعدهم عن السلطة ثم توجَّه لقتال الصليبيين في بيت المقدس.
قرآن كريم إنّنا نفرح بقتل اليهود والنكاية فيهم، من أيِّ أحد كان، ولكن لا تنطلي علينا مسرحيات «حزب الله» وأكاذيبه وشعاراته التي يُطلقها للعوام والسذّج، فنحن نعلم أنّ هذا الحزب لم يقاتل إلا لتحقيق المصالح الإيرانية السورية في لبنان، وليسَ دفاعاً عن المقدّسات الإسلامية، ولا تحريراً لأرض بيت المقدس.
وهنا أسئلةٌ تطرح نفسها!
1- لماذا لم تتدخل الحكومة الإيرانية عسكرياً للقتال في لبنان إلى جانب شيعتها، بينما تهدّد بالتدخل العسكري إذا هاجمت إسرائيل الأراضي السورية!؟
2- لماذا يُطالب حزب الله بإطلاق الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية(1)، ولا يطالب بإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين (السُّنة) القابعين في السجون السورية بل لا يتحدث عنهم إطلاقاً؟!؟
__________
(1) كما في برنامج الحزب الانتخابي لعام 1992 م (انظر: حزب الله - نعيم قاسم - ص 394).(47/87)
3- لماذا منع الرئيس الإيراني (محمود أحمدي نجاد) المتطوعين الإيرانيين من الذهاب للقتال جنباً إلى جنب مع حزب الله(1)؟!.. علماً أنّه صاحب مقولة «يجب إزالة إسرائيل من الخارطة!».
4- لماذا حين قُتل زعيما حركة حماس: أحمد ياسين، وعبدالعزيز الرنتيسي - رحمهما الله - لم يطلق حزب الله صاروخاً واحداً، مع أنّ حركة حماس هي في قلب الحدث وفي أمس الحاجة للدعم والمناصرة والمؤازرة، خصوصاً أن الشعارات التي يردّدها حزب الله في كل خطاباته المتلفزة تنادي بتحرير بيت المقدس والدفاع عن فلسطين؟!
5- حزب الله قام باختطاف جنديين في سبيل تحقيق هدفين:
1) تحرير الأسرى.
2) تحرير الأرض (بحسب تصريحات نصر الله).
لكن الذي حصل أنه قد ازداد عدد الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل، ووضعت أراضٍ أخرى تحت قبضة اليونيفل، وازداد عدد الأسرى في سجون الاحتلال، فهل حقَّق نصر الله شيئاً غير النصر الإعلامي بفضل قناة المنار وغيرها؟
6- إذا كان حسن نصر الله وحزبه يشكِّلان خطراً على أمن إسرائيل كما يظن البعض، فلماذا لم يوضع رئيس هذا الحزب في قائمة المطلوبين؟
7- لماذا لم توضع مكافأة مالية لمن يقبض على سيدهم حسن نصر الله؟
8- لماذا لم تجمد أرصدة حزب الله مثل بقية الجماعات الإسلامية، والجمعيات الخيريّة؟
9- لقد سمعنا مراراً وتكراراً أن حزب الله لن يتوقف عن قتال اليهود حتى تعود (مزارع شبعا)، وها هو الآن يتوقف عن القتال رغم أن اليهود لم يخرجوا من باقي الأراضي اللبنانية.
10- لماذا لا نرى سيدهم (حسن نصر الله) يشارك المقاتلين في الميدان ويُقاسم أتباعه الحلوة والمرة كما يفعل القادة الشرفاء؟
11- لماذا لم يكن هناك ملاحقة لفلول الجيش الصهيوني المنهزم (كما يزعم الحزب) في داخل الأراضي الفلسطينية؟.
__________
(1) كما جاء في جريدة الرياض عدد 13916 الاثنين 6 رجب 1427 هـ/ 31 يوليو 2006م.(47/88)
12- لماذا يتدخل الحزب في نصرة إيران في الحرب العراقية وقمع أهل السُّنة في الأحواز ولا يتدخل في التصدي للأمريكان المغتصبين، ولا يفتي زعيمه وسيدهم حسن بقتل الجنود الأمريكان رغم أنهم محتلُّون للعراق التي فيها مراقد أئمته المعصومين ومزاراتهم!؟
- ... - ... -
صبحي الطفيلي الأمين العام الأسبق لـ«حزب الله» لـ«الشرق الأوسط»: إيران خطر على التشيع في العالم ورأس حربة المشروع الأميركي والمقاومة في لبنان «خطفت» وأصبحت حرس حدود لإسرائيل
بيروت: ثائر عباس
في مبنى «حسينية» قديم في بلدة بريتال (جنوب مدينة بعلبك) كان اللقاء مع الأمين العام السابق لـ«حزب الله» اللبناني الشيخ صبحي الطفيلي الذي غاب عن الأنظار منذ العام 1997 إثر سلسلة إشكالات ومشكلات مع «حزب الله» والدولة اللبنانية، وبعد «اختلاف في وجهات النظر» مع إيران دفع ثمنه خروجه من الحزب الذي كان أحد مؤسسيه وأول أمنائه العامين. وقد توِّجت هذه «الاختلافات» باشتباك قتل فيه أحد ضباط الجيش والنائب السابق الشيخ خضر طليس الذي كان يعتصم مع الطفيلي وعدد من أنصاره في حوزة دينية تابعة لـ«حزب الله» ليصبح بعدها الطفيلي مطلوباً للقضاء اللبناني وليشكل خلال ست سنوات قضاها «حاضراً غائباً» حالة غريبة نظرياً، لكنها طبيعية لبنانياً. فهو بقي طوال الفترة معروف المكان من أنصاره وأعدائه. ورغم بعض المضايقات التي تعرض لها، إلا أن أي محاولة لم تجر للقبض عليه.(47/89)
خلال فترة غيابه، كانت للشيخ الطفيلي طلات بين الحين والآخر، فتياره شارك بقوة في انتخابات العام 2000 في البقاع، كما كانت له طلة إعلامية في العام 2002 عبر تلفزيون «أم. تي. في» الذي أقفل لاحقاً. وهو يقول أنه اتهم - بسبب تلك المقابلة - بإنجاح مرشح المعارضة في الانتخابات الفرعية التي أجريت في قضاء المتن الشمالي، غبريال المر، الذي أبطلت نيابته لاحقاً. وقد دفع الطفيلي ثمناً لطلاته هذه متنقلاً في «إقامته الجبرية» من سيىء إلى أسوأ لجهة الأوضاع التي يعيشها، حتى انتهى به المطاف في مبنى الحسينية.
والشيخ الطفيلي شخصية لها وزنها في الشارع البقاعي كما لها تأثيرها الواضح. وهو المعروف بتشبثه، الذي يقارب العناد، بمواقفه. وهو اقتنع بالاطلالة عبر «الشرق الأوسط» لأن لديه «وجهة نظر» يريد الإدلاء بها بعدما «وصلت الأوضاع في المنطقة إلى ما وصلت إليه من تردٍّ». أما نحن فكنا نسعى للسبق الصحافي مع شخصية تمتلك الكثير من المعلومات عن الكثير من القضايا الشائكة التي عايشها أميناً عاماً لـ «حزب الله» الذي كان رأس الحربة في إخراج إسرائيل من الأراضي اللبنانية. ومع اختلاف «الرغبات» كان التقاء على الحوار الصحافي الذي شارك فيه مراسل «الشرق الأوسط» في البقاع حسين درويش وشمل عناوين محلية وإقليمية، أدلى فيها الشيخ صبحي الطفيلي بدلوه موجهاً انتقادات لاذعة للدور الإيراني الذي اعتبره «خطراً على الشيعة في لبنان والمنطقة».
قرآن كريم إذاً، تعتبر أن المقاومة انتهت؟
- وهل ذلك موضع نقاش؟ لقد بدأت نهاية هذه المقاومة مذ دخلت قيادتها في صفقات كتفاهم يوليو (تموز) 1994 وتفاهم أبريل (نيسان) 1996 الذي أسبغ حماية على المستوطنات الإسرائيلية وذلك بموافقة وزير خارجية إيران.(47/90)
لكن هذا التفاهم اعتبر انتصاراً للبنان لأنه حيَّد المدنيين اللبنانيين أيضاً واعترف بشرعية المقاومة، مع أن عمليات للمقاومة تحصل في مزارع شبعا بين الحين والآخر. هذا التفاهم الهدف الأساسي منه تحييد المقاومة وإدخالها في اتفاقات مع الإسرائيليين، كما أن العمليات الفولكلورية التي تحصل بين حين وآخر لا جدوى منها لأن الإسرائيلي مرتاح، وهل هناك فرق بين الإسرائيلي في مزارع شبعا والإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ هذا اعتراف بالاحتلال، أنا أرى أن الخيام (بلدة حدودية لبنانية) هي مثل عكا وحيفا. وما يؤلمني أن المقاومة التي عاهدني شبابها على الموت في سبيل تحرير الأراضي العربية المحتلة، تقف الآن حارس حدود للمستوطنات الإسرائيلية، ومن يحاول القيام بأي عمل ضد الإسرائيليين يلقون القبض عليه ويسام أنواع التعذيب في السجون.
قرآن كريم أي سجون؟
- لقد حدثت أكثر من حالة، وقد سلِّم الذين قاموا بمحاولاتهم إلى السلطات اللبنانية التي أخضعتهم للتحقيق والتصنيف.
قرآن كريم ألا توافق التفسيرات القائلة بأن المقاومة تتخذ هذا الإجراء لامتصاص الضغوط التي تواجه لبنان وسورية إقليمياً ودولياً من أجل وقف عملياتها؟
- أنا لست ضد تحيُّن الفرص، فهذا من الحكمة. لكن ما يحصل هو غير ذلك. أنت تقول بانتظار الفرصة. وأنا أقول إن انتظار وضع دولي مؤاتٍ ليس من الحكمة بشيء لأن هذه الضغوط لن تتوقف ولن يأتينا أي وقت مؤاتٍ. وأنا أوجه كلامي إلى أبنائي في المقاومة لأقول لهم: إن ما تفعلونه حرام وخدمة للعدو وخيانة للقضية. ألقوا سلاحكم وارحلوا أو تمرَّدوا وأطلقوا النار على عدوِّكم ولا تجعلوا أحداً يخدعكم تحت عنوان أي فتوى أو ولاية فقيه، فلا فقيه في الدنيا يأمرني بأن أخدم عدوِّي. أنا آسف كيف أن المقاومة التي صنعناها بدماء شهدائنا تُختطف وتحوَّل إلى خدمة أعدائنا.(47/91)
قرآن كريم متى كانت لحظة التحول في الموقف الإيراني حيالك، وهل كان لإيران دور في إبعادك عن مركز القرار في الحزب؟
- رغم كل ما حصل معي، كنت حريصاً على إبعاد وضعي الشخصي عن الوضع العام، كما لم أتناول إيران وشخصياتها القيادية رغم كل الأحداث الماضية والحالة الشخصية. كنت حريصاً على أن لا أدخل أي قضية عامة في إطار وضعي الشخصي. لكن بعد التحول الذي حصل في الموقف من المقاومة وتحوُّل إيران إلى منسق للشؤون الأميركية في المنطقة رأيت أن أخرج عن صمتي.
قرآن كريم نعود إلى لحظة التحول في ما يتعلق بالمشروع الذي كنتم تمثلونه في «حزب اللَّه» والذي يحمل عناوين عدة منها عدم المهادنة والمواقف الحادة، بالإضافة إلى ارتباط اسم الحزب في تلك الفترة بملفات خطيرة مثل خطف الرهائن وغيرها.
- الحديث عن ملف الرهائن الغربيين له وقته. ونحن نؤكد أن لا علاقة لنا به. أما في شأن التحول الذي تتحدث عنه فهو يتلخص بأمرين، الأول: أن هناك سياسة في إيران بدأت تبرز بعد رحيل الإمام الخميني، وكان واضحاً أن هذه السياسة ستصطدم بفهمنا للإسلام. والأمر الثاني: أن هناك أشخاصاً بطبيعتهم لا يحبون التزلف.
قرآن كريم تقصد أنت؟
- قلت مراراً للإيرانيين أنه عندما تصطدم مصلحتهم مع قناعتي سأغلِّب الأخيرة، ولن أكون أبداً عميلاً لإيران ولسياستها، أنا أخوكم وشريككم لا أكثر ولا أقل. لكن في كل العالم، الأقوياء لا يرغبون بالشركاء، بل يفضِّلون الضعفاء الذين يدينون لهم بالولاء الأعمى. أنا لا أحب أن يداس على قدمي لأتحرك في أي اتجاه. وهل من بين فقهاء المسلمين من يقول بجواز نصر وتأييد الظلم على الفقراء والمسلمين؟ ولهذا عندما لا تستطيع أن تتماشى مع النظام يصار إلى إبادتك بالقوة وبالوسائل المتاحة.
قرآن كريم لكن الحزب تميَّز بعدك بنغمة لبنانية.
- من يقول في لبنان أن إيران لا تتدخل كاذب. القرار ليس في بيروت وإنما في طهران.(47/92)
قرآن كريم حتى خلال ولايتك؟
- نعم، حتى خلال ولايتي كان لـ(القيادة) المركزية في إيران موقعها في القرار. لكن حينها كان هناك انسجام في المواقف والقرارات. ولم نكن نعتبر أن القرارات تملى علينا، بل هي قناعاتنا. وحين يأتي أمر من الإمام الخميني أو غيره ممن يعينهم يقول لنا: قاتلوا إسرائيل، فنحن لا نعتبره أمراً بل هو من قناعاتنا.
قرآن كريم هل كان رحيل الخميني بداية الفراق مع إيران؟
- لنقل: بداية التباين.
قرآن كريم وأين كان الموقف السوري حينها؟
- عندما وجد السوري أن إسرائيل غارقة في المستنقع اللبناني، أراد أن يحشرها، فمنع السلطة اللبنانية من إرسال الجيش إلى منطقة جزين التي انسحبت منها. وعندما انسحبت من الجنوب أبقى مزارع شبعا نقطة ضغط عليها، وكأن السوري يريد أن يلتف، ولو بطريقة متواضعة، على تفاهم أبريل (نيسان)، لكن الإيراني كانت له حسابات أخرى، وأذكر في حينه أن وزير الخارجية الإيراني أطلق تصريحات منسجمة مع الرغبة الأميركية بتهدئة الجبهة واضطر لاحقاً إلى سحبها.
قرآن كريم نلاحظ لديك عدم رضى عن الموقف الشيعي العراقي، فإلى ماذا تردُّ هذا الموقف؟
- الشارع الشيعي في العراق، مثل أي شارع آخر تتحكم به عوامل كثيرة قبل أن يتحكم به عقله. القرى والمدن الشيعية في جنوب لبنان استقبلت الإسرائيلي بالورود والأرزِّ جراء بعض الممارسات التي قامت بها فصائل فلسطينية، لكن هذه القرى نفسها بعد سنتين كانت في طليعة المقاومة. ولهذا أعتقد أن الوضع في الساحة الشيعية سيتحول بعد أمد غير طويل. لكن المشكلة في السياسيين، ذلك أن معظم التيارات الدينية السياسية منضوية تحت راية التيار الإيراني المتواطئ مع الأميركيين، وهو الذي يأمر القيادات السياسية الشيعية بقبول مجلس الحكم وأن تكون أعضاء فيه.
قرآن كريم ألا ترى تعارضاً في ما تتحدث به عن التواطؤ الإيراني وبين الضغوط التي تمارس أميركياً وغربياً على إيران؟(47/93)
- حتى لا نخدع أنفسنا، أقول: لا شك في أن هناك حواراً أميركياً - إيرانياً بدأ قبل غزو العراق، وأن وفداً من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية المؤيد لإيران زار واشنطن لهذه الغاية. والتيارات الإيرانية في العراق هي جزء من التركيبة التي تضعها الولايات المتحدة في العراق، حتى أن أحد كبار خطباء الجمعة في العاصمة الإيرانية قال في خطبة صلاة الجمعة أنه لولا إيران لغرقت أميركا في وحل أفغانستان. فالإيرانيون سهلوا للأميركيين دخول أفغانستان ويسهلون بقاءهم الآن. أما القول عن اعتقال سفير سابق هنا أو حديث عن سلاح نووي هناك فهو يدخل من باب السعي الأميركي لتحسين شروط التعاون الإيراني. التشيع يستخدم الآن في إيران لدعم المشروع الأميركي في أفغانستان. ومن هنا أقول لكل الشيعة في العالم أن ما يجري باسمهم لا علاقة له بهم، وهذه أعمال المتضرر الأكبر منها الإسلام والتشيع(1).
- ... - ... -
(احذروا) حسن نصر الله (وشيعته)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
يقول الله - عز وجل -: { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } [الأنعام: 153].
ويقول تبارك وتعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } [النساء: 115 ]. وحذَّر سبحانه من كتمان الحق ولبسه بالباطل لتضليل الناس فقال - عز وجل -: { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } [البقرة: 42 ].
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم أمرين لن تضلُّوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله».
__________
(1) تم اختصار المقابلة، وذلك بحذف الأسئلة التي ليس لها علاقة بموضوع كتابنا.(47/94)
وقال أيضاً: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يُصدَّق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة» قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلَّم في أمر العامة».
وهذه الآيات والأحاديث من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق.
والآيات والأحاديث الواردة في وجوب التمسك بما في كتاب الله - عز وجل - والسُّنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بفهم الصحابة - رضي الله عنهم - كثيرة ومتنوعة، تارةً بالأمر بالتمسك بهما والانطلاق منهما في الولاء والبراء والمواقف والموازين، وتارة بالتحذير من اتباع ما سواهما من آراء الرجال وأهل الأهواء والشبهات في الولاء والبراء والمواقف والموازين.
وإن ما يجري اليوم من أحداث في بلاد الشام، من قتال بين اليهود ومن يسمُّون أنفسهم حزب الله أو المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان؛ لهو من الفتن والابتلاءات التي يختبر الله - عز وجل - فيها عقائد المسلمين ومدى ارتباطهم بموازين الكتاب والسُّنة وبما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
ولقد سقط في هذه الفتنة فئام كثير من الناس، وغرَّهم ما يسمعونه أو يرونه من مواجهات عنيفة مع اليهود يتزعمها الرافضي (حسن نصر الله وشيعته)، وانخدع بذلك الذين يجهلون أو يتجاهلون حقيقة التوحيد والولاء والبراء في الإسلام وحقيقة عقيدة (حسن نصر الله وشيعته الرافضة).
ولأن الفتنة بهذا الحزب الرافضي الصفوي شديدة وكبيرة، كان لا بد لكل قادر من أهل العلم أن يتصدى لها ويكشف اللبس عن الأمة ويبيِّن حقيقة القوم وما يدعون له ويهدفون إليه، ورضي الله عن عمر بن الخطاب حين قال: لست بالخَبِّ ولا الخب يخدعني، أي: لست بالمخادع ولا يخدعني المخادع، ويعلِّق ابن القيم رحمه الله تعالى على هذه المقولة فيقول: «فكان عمر - رضي الله عنه - أورع من أن يَخدَع، وأعقل من أن يُخدع»(1).
__________
(1) الروح: 244.(47/95)
ولكي ندرك خطورة ما يجري في وسائل الإعلام الماكرة من تلبيس وتضليل تجاوز خطره شريحة العوام إلى كثير من المثقفين بل وبعض المتدينين والدعاة؛ نطلع على ما يجري اليوم من قلبٍ للحقائق فيما يتعلق بالجهاد والمجاهدين، حيث نرى من يصف المجاهدين الذين يتصدّون للكفرة الغزاة في بلاد الرافدين وأفغانستان والشيشان بأنهم إرهابيون ومفسدون!! بينما يرون القتال في جنوب لبنان بقيادة نصر الله الرافضي مقاومةً مشروعة وجهاداً في سبيل الله تعالى.. سبحانك هذا بهتان عظيم! وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق والذي منه: «إن وراءكم سنوات خداعات يصدَّق فيها الكاذب ويكذَّب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخوَّن فيها الأمين...» الحديث.
ولكشف ما يجري من تلبيس وفتنة على المسلمين بما يسمى حزب الله وأمينه الرافضي حسن نصر الله أسوق الوقفات التالية:
قرآن كريم الوقفة الأولى:
في ضوء الآيات والأحاديث التي سقتها آنفاً، يتبين لنا ضرورة أن يكون مصدر التلقِّي في الفهم والعقيدة والمواقف وتقويم الأفكار والرجال هو هذا الميزان والقسطاس المستقيم المستقى من كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، اللذان من تمسَّك بهما وجعلهما النور الذي يمشي به في الناس فلن يضلَّ أبداً، ولن تتقاذفه مضلات الفتن ذات اليمين وذات الشمال، وإني لأعجب من قوم معهم كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعمل الصحابة - رضي الله عنهم -.. كيف يتخلون عن ذلك كله ويستبدلون به العواطف وتلبيس الملبسين وأهواء الرجال؟!..
كالعيسِ في البيداء يقتلها الظما
والماءُ فوق ظهورها محمولُ(47/96)
والآن لنزن هذا الرجل المفتون وحزبه المغبون بميزان الكتاب والسُّنة ميزان التوحيد والشرك وميزان الهدى والضلال، لكي نعرفَ حقيقة هذا الرجل وحزبه.. هل هو على الحق الذي يحبه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ أم على الباطل الذي يدعو إليه الشيطان وحزبه؟! وبالتالي نعرف حقيقة جهاد هذا الرجل وحزبه وحقيقة عدائه لليهود.. هل هو في سبيل الله تعالى؟ أم في سبيل الطاغوت؟! فأقول وبالله التوفيق:
إن الله تعالى إنما أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - بهذا القرآن الكريم والنور المبين ليعبد الله وحده لا شريك له، وعقد على ذلك الولاء والبراء.. الولاء لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين الموحدين، والبراءة من الشرك والمشركين، وشرع الدعوة إلى التوحيد والتحذير والبراءة من الشرك، وأقام من أجل ذلك سوق الجهاد في سبيل الله تعالى، حتى لا تكون فتنة - أي شرك - ويكون الدين لله وحده لا شريك له.
فهل واقع ما يسمى «حزب الله» وأمينه (حسن نصر الله) هو ما دعا إليه القرآن وجاهد من أجله الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام؟!
إن الجواب عن هذا السؤال يتطلب معرفة عقيدة هذا الرجل وحزبه وانتمائهم وحقيقة أهدافهم فمن هو حسن نصر الله؟
ولد حسن نصر الله في 21/ أغسطس /1960 في لبنان.(47/97)
وسافر إلى النجف في العراق عام 1976 لتحصيل العلم الديني الجعفري، وعيِّن مسؤولاً سياسياً في حركة (أمل) عند إقليم البقاع، وعضواً في المكتب السياسي عام 1982 م ثم ما لبث أن انفصل عن الحركة وانضم إلى حزب الله وعيِّن مسؤولاً عن بيروت عام 1985 ثم عضواً في القيادة المركزية وفي الهيئة التنفيذية للحرب عام 1987 م، ثم اختير أميناً عاماً على إثر اغتيال الأمين العام السابق عباس الموسوي عام 1992 مكملاً ولاية سلفه، ثم أعيد انتخابه مرتين عام 1993 و 1995 م(1).
ومن هذه الترجمة المختصرة للرجل يتبين لنا أنه شيعي رافضي محترق، يدين بالمذهب الاثني عشري الجعفري السائد في إيران، ينصره ويدعو إليه، ولذا اشتهر بـ(خميني العرب) لأنه يريد إقامة دولة الرفض في بلاد العرب كما أقامها الخميني الهالك في بلاد الفرس، يقول مفتي جبل لبنان السني: «حزب الله بوابة إيران إلى البلدان العربية».
ويبقى التعريف بالرجل ناقصاً حتى نعرف أصول المذهب الاثني عشري الجعفري الذي يفتخر بالانتماء إليه والجهاد من أجل التبشير به ونشره..
يقوم هذا المذهب على أصول كفرية شركية لم تعد خافية على من له أدنى متابعة لكتب القوم في القديم والحديث، وكذلك من يتابع مواقعهم وما سجل عليهم من الوثائق المسموعة والمرئية في حسينياتهم ومناسباتهم السنوية، ومن أخطر أصول هذه النحلة التي ينتمي إليها حسن نصر الله وحزبه ما يلي:
1- اعتقادهم العصمة في أئمتهم الاثني عشر، وغلوهم فيهم حتى عبدوهم من دون الله، وصاروا يحجُّون إلى قبورهم ويطوفون بها ويستغيثون بمن فيها، ويعتقدون أنهم يعلمون الغيب وأن ذرات الكون خاضعة لتصرفهم كما صرح بذلك الخميني في «الحكومة الإسلامية».
__________
(1) وردت هذه الترجمة في مقدمة حواره مع مجلة الشاهد السياسي العدد 147 في 3/1/1999م.(47/98)
2- اعتقادهم بتحريف القرآن ونقصانه وأن القرآن الصحيح غائب مع مهديهم المنتظر، وسيخرج مع خروجه، وهم اليوم يقرؤون القرآن الذي بين أيدي المسلمين حتى يخرج قرآنهم وذلك بأمر من علمائهم وآياتهم.
وقد يقول قائل: إنهم ينفون ما ينسب إليهم من القول بتحريف القرآن فنقول: إن هذا مثبت في كتبهم والتي هي مرجعياتهم ككتاب «الكافي» للكليني وكتاب الطبرسي «فصل الخطاب» وهما إمامان معتبران عند الرافضة، فإذا كانوا ينفون ما ينسب إليهم فليصرحوا ببراءتهم ممن يقول بتحريف القرآن الوارد في هذين الكتابين وغيرهما، وليحكموا بكفر من قال بهذا.. وهذا ما لم ولن يقولوه.!
3- سب الصحابة - رضي الله عنهم - وتكفيرهم وخاصة سادتهم وشيوخهم كأبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما وكذلك زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسهم الصديقة عائشة رضي الله عنها حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث إنهم يكفِّرونها ويقذفونها بالزنا.. قاتلهم الله أنى يؤفكون!.
4- تولِّيهم في تاريخهم القديم والحديث لليهود والنصارى ومظاهرتهم لهم على أهل الإسلام، ومساعدة الغزاة لتمهيد الطريق لهم إلى غزو بلاد المسلمين، وما أخبار ابن العلقمي وممالأته للتتار في غزوهم للعراق بخافية على أحد، وكذلك ما قاموا ويقومون به في هذا الزمان من التعاون مع الغزاة الأمريكان في احتلال العراق وأفغانستان، وما زالوا عيوناً للغزاة وحماةً لهم ومظاهرين لهم في قتل أهل السُّنة وتصفيتهم.(47/99)
وهذه الأعمال والمعتقدات الآنفة الذكر لم تعد سراً ولا في طي الكتمان كما كانوا يخفون من قبل، بل إنها أصبحت مفضوحةً سواء باعترافهم أنفسهم، أو بما حُصل عليه من الوثائق الدامغة التي تدمغ تقيتهم وتبيِّن كذبهم.. هذا واقع الشيعة الرافضة الاثني عشرية التي ينتمي إليها (حسن نصر الله وحزبه المخذول)، فهل بقي عذر لمن انخدع واغترَّ بالشعارات الكاذبة التي يرفعها هذا الرجل وحزبه؟! وأنه يدافع عن الأمة! ويقاتل اليهود نيابة عنها! ويضرب عمق الدولة اليهودية! ويجاهد في سبيل الله!!..
إن هذا الرجل بهذه المعتقدات الشركية التآمرية لو تمكن - لا قدّر الله - فإنه سيقيم دولة الرفض والتشيع التي تقوم على الشرك الأكبر وسب الصحابة رضي الله عنهم وتكفير أهل السُّنة وبالتالي استئصالهم وإبادتهم كما هو الحاصل في العراق اليوم: { كيف وإن يطهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبكم وأكثرهم فاسقون } [التوبة: 8].
ومع ذلك يوجد في أبناء المسلمين من يثق به ويعوِّل عليه ويتمنى أن ينتصر!.. فمتى نفيق من غفلتنا يا قوم؟ ومتى يكون ميزاننا في الولاء والبراء والحب والبغض وفي تقويم المواقف والرجال هو كتاب ربنا - عز وجل -؟! ومتى نتخلص من موازين العواطف والشعارات الزائفة والدجل والتلبيس؟..!
قرآن كريم الوقفة الثانية:
يقول بعض الناس: إن هذا الرجل وحزبه هو الذي ثبت اليوم أمام اليهود بعد أن خنع الجميع دولاً وأحزاباً، وهو الآن يلحق ضرراً شديداً بالعدو باعتراف اليهود أنفسهم، فكيف نعاديه وهو يضرب عدو الأمة؟! ألا نفرح بإلحاق الضرر باليهود؟!. وهذه شبهة وفتنة لا شك، لكنها لا تنطلي إلا على من ينظر للأمر بنظرة سطحية وعاطفة متسرعة، متجاهلاً أصول القوم وعقائدهم وأهدافهم.
ولتفصيل الجواب على هذه الشبهة أقول وبالله التوفيق:(47/100)
أولاً: إن أي ضرر يلحق باليهود في رجاله وعتاده يفرحنا بلا شك، لكنه لا يغرُّنا وينسينا ثوابتنا، وننساق مع عواطفنا لنقول: إن من يضرب اليهود فهو أخونا وولينا!.. بل نفرِّق بين من يجاهد في سبيل الله تعالى ويريد نشر التوحيد والسُّنة كإخواننا المجاهدين في فلسطين فهذا نتولاه ونفرح بنصره، وأما من كان على غير التوحيد وعنده أهداف مبيَّتة، فلا نتولاه ولا ننصره، وإن كنا نفرح بضربه للعدو حتى يضعف، كما نفرح بضرب العدو له حتى لا يتمكن وينشر الشرك والرفض في الأرض، ولسان حالنا يقول: اللَّهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرج الموحِّدين من بينهم سالمين، وإذا قلنا: إننا نفرح بضرب العدو للرافضة؛ فإننا نقصد رموزهم ومواقعهم ولا نقصد العامة من المسلمين من الأطفال والنساء والأبرياء، فإن هذا يحزننا ولا يفرحنا.(47/101)
ثانياً: هناك مؤامرة كبيرة في المنطقة، ولعبة ماكرة تديرها إيران وسوريا اللتان تدعمان (حسن نصر الله وحزبه) وهما اللتان دفعتا به لهذه المواجهة، ومفاد هذه المؤامرة وملخصها: أن هناك مشروعاً صفوياً شعوبياً كبيراً يراد تنفيذه في المنطقة، وقد بدأ يأخذ مساراً تنفيذياً متسارعاً منذ بدء اجتياح العراق واحتلاله أمريكياً وصفوياً وصهيونياً، فقبل أشهر عدة أُعلن في دمشق عن انطلاق تحالف استراتيجي إيراني سوري ضمَّ إليه حزب الله وبعض الفصائل الفلسطينية، وتتواطأ معهم الحركات الشيعية العراقية من منطلق طائفي مذهبي، فتحول هذا التحالف المشبوه الجديد إلى مشروع سرطاني شديد الخبث، يفوق خطره على أمتنا الإسلامية خطرَ الكيان اليهودي نفسه، ولكي يكون لهذا المشروع الخبيث غطاء مقبول لدى شعوب المنطقة المسلمة، فلا بد من تسريع خطاه وتمكينه من اللعب بعواطف الجماهير المسلمة، وليس هناك أفضل من قضية فلسطين واللعب بها وعليها وفيها حتى تتوارى خلفه النوايا الحقيقية لأصحاب هذا المشروع الصفوي الخطير الذي مرَّ بنا أهم أصوله الاعتقادية الكفرية العدوانية آنفاً، وخلاصة أهداف هذا المشروع الخطير هو السيطرة على العالمين العربي والإسلامي بدءاً من إخضاع منطقة الهلال الخصيب (بلاد الشام والعراق) وذلك باجتياحها (ديموغرافياً) ومذهبياً وتبشيرياً صفوياً..
ثالثاً: أما لماذا جاءت هذه المواجهة بين (رافضة لبنان) واليهود في هذا الوقت فلعدة اعتبارات عند القوم أهمها:(47/102)
1- اشتداد عمليات التطهير الإجرامي العرقي والمذهبي، التي تقوم بها الميليشيات الصفوية العراقية في العراق، بما في ذلك عمليات إبادة وحشية ضد السكان الفلسطينيين، وعمليات تهجير لأهل السُّنة من جنوبي العراق «البصرة لم يبق فيها إلا 7 % من أهل السُّنة بينما كانوا أكثرية منذ عشرات السنين، ونسبتهم كانت 40 % قبيل الاحتلال الأمريكي»!.. فضلاً عن انكشاف زيف شعارات الرئيس الإيراني (نجاد) الداعية لإزالة إسرائيل من الوجود!.. وجهاد الشيطان الأكبر (أمريكا)!! في الوقت الذي أثبت أهل السُّنة أنهم هم المجاهدون الصادقون الذين يقاومون الغزاة في أفغانستان والعراق والشيشان، وكذلك المقاومة الفلسطينية وهي سنية بطبيعة الحال خطفت الأضواء بأنها الوحيدة في ساحة الصدام مع الكيان الصهيوني، وذلك بعد عملية (الوهم المتبدد) وخلال عدوان (أمطار الصيف).. إذ وصل الكيان الصهيوني إلى طريق مسدود لتحقيق أهدافه ضد الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة!.. وهذا كله أدى إلى فضح الرافضة الصفويين وأنهم عملاء للغزاة المحتلين وخطف الأضواء عنهم، فكان لا بد من عمل يعيد لهم اعتبارهم ويغطي على فضائحهم.
2- انكشاف تواطؤ حزب الله ضمن تواطؤ حليفه الإيراني.. مع الاحتلال الأميركي ضد المقاومة العراقية ودخول الحزب في لعبة تشجيع الميليشيات الصفوية العراقية وتدريبها، وهي نفس الميليشيات التي تقوم بعمليات إبادة الفلسطينيين وأهل السُّنة في العراق..!
3- بداية انتكاسات لحملات التشييع في سورية ولبنان، انعكاساً لانكشاف مواقف أركان الحلف الصفوي الشعوبي الداعم للصهاينة وللاحتلال الأميركي المرفوض شعبياً.. ثم بروز بوادر الاصطدام على النفوذ بين المشروعين: الأميركي، والفارسي الصفوي.. في العراق..!(47/103)
لذا كان لا بد من فعل يحرف الأضواء والأنظار عما يجري في العراق بحق أهل السُّنة والفلسطينيين على أيدي الصفويين الشعوبيين، ولا بد من خطف الأضواء من المقاومة الفلسطينية السنية التي كشفت عجز الجيش الصهيوني، ولا بد من استعادة الثقة بعمليات التبشير الشيعي في المنطقة، ولا بد من إعادة الاعتبار لأكذوبة (نجاد) بدعوته لإزالة إسرائيل ومقاومة الكيان الصهيوني، ولا بد من التغطية على تواطؤ حزب الله بالعمل ضد المقاومة العراقية، ولا بد من خلط الأوراق في لبنان لصالح الفوضى التي هدد بنشرها رئيس النظام السوري بشار الأسد.. لا بد من كل ذلك ولو على حساب لبنان.. كل لبنان.. الرسمي والشعبي.. ولو أدى العبث واللعب إلى تدميره..!
فلذلك.. ولتحقيق كل هذه الأهداف.. قام حزب الله - ثالث ثالوث المشروع الصفوي الفارسي - بعمليته أو مغامرته الأخيرة ضد الكيان الصهيوني!..(47/104)
هل نحن ضد عملية تنال من العدو الصهيوني؟!.. لا.. مطلقاً، نحن نفرح بكل عمل يؤذي الكيان الصهيوني الغاصب ويضعفه ويضع من هيبته!.. لكننا لا نقبل أن نُخدع ولا نقبل أن تندرج هذه العملية في مسلسل تحقيق أهداف المشروع الأخطر من المشروع الصهيوني في بلادنا، ولا نقبل أن يتاجر القائمون بهذه العملية بقضية فلسطين، في نفس الوقت الذي يذبحون فيه الفلسطينيين ويستبيحون أرواحهم ودماءهم وأعراضهم وأموالهم في بغداد.. ولا نقبل مطلقاً أن يعبث الصفويون بأمن سورية ولبنان في سبيل تحقيق أهدافهم الدنيئة.. ولا نقبل أبداً أن يتم تدمير لبنان وتقتيل أبنائه وأطفاله ونسائه، بتحريض واستفزاز يمارسه أصحاب المشروع الصفوي الفارسي وينفذه أصحاب المشروع الصهيوني.. ولا نقبل أن يقوم الصفويون الجدد بالترويج لأنفسهم زوراً وتزييفاً، بأنهم أصحاب مشروع مقاوم، بينما هم يمالئون المشروعين الأميركي والصهيوني على رؤوس الأشهاد وفي وضح النهار.. ولا نقبل في أي وقت من الأوقات أن تنحرف الأنظار عن جرائم الصفويين بحق أهلنا وشعبنا المسلم في العراق.. ولا نقبل أن تستخدم مثل هذه العمليات المشبوهة، في كسب الوقت لبناء القنبلة النووية الإيرانية الصفوية، التي ستستخدم لخدمة المشروع الشرير ضد العرب والمسلمين، وضد أوطانهم وثرواتهم وأموالهم وأعراضهم!..(47/105)
فتشوا في أوراق التاريخ كله، فلن تجدوا ما يفيد بأن إيران الفارسية قد دخلت حرباً أو معركة مع الصهاينة.. أو حتى مع (الشيطان الأكبر) أميركا؟!.. لن تجدوا في التاريخ حرفاً واحداً يفيد ذلك، بل سنجد أن إيران التي افتضح أمرها باستيراد السلاح الصهيوني والأميركي أثناء الحرب مع العراق (فضيحة إيران غيت).. هي نفسها إيران التي تقود الحلف الصفوي التوسعي الاستيطاني التبشيري الجديد، وهي نفسها إيران التي تمالئ أميركا وتعينها على استمرار احتلال العراق، وهي نفسها التي تستخدم حزب الله في استجرار تدمير لبنان وتهديد أمنه واستقراره، وهي نفسها التي ما تزال عينها على الخليج العربي، وهي نفسها التي تحتل الجزر الإماراتية العربية الثلاث، وهي نفسها التي تحول الحركات الفلسطينية إلى ورقة ولعبة تلعبها متى أرادت على حساب أمن المنطقة العربية والإسلامية كلها!
قرآن كريم الوقفة الثالثة:
وأخصص هذه الوقفة بما ندفع به الإحباط واليأس عن نفوسنا وعن المسلمين، وذلك بالقول بأنه وإن كانت الأحداث موجعة ومدلهمة لكن لعلها مؤذنة بانبلاج الصبح، وذلك لما نشهده من انفضاح مستمر ومتزايد لسبيل المجرمين والمنافقين، وبيان لموقف الموحدين وثباتهم وصدقهم، وهذا أمر حتمي يسبق نزول نصر الله تعالى.. أي أن محق الكافرين وتمكين المؤمنين الصادقين؛ لا بد أن يسبقه فترة ابتلاء وتمحيص يتميز فيها المؤمنون الصادقون عن الكافرين والمنافقين ومن في قلبه مرض، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وهذا هو الذي يحدث الآن، وقبل هذا التميز لا ينزل نصر الله - عز وجل -.
وشيء آخر يبث الأمل في النفوس ولا يجعلها في رعب وخوف من المجرمين وكيدهم ألا وهو قوله تعالى: { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون } [الأنفال: 36 ].(47/106)
ولعل في هذه الأحداث التي أراد الرافضة أن تخدم مشروعهم الصفوي التوسعي في المنطقة أن ينقلب الأمر عليهم، وتكون بداية النهاية لهم والسحق لمشروعهم الإجرامي الكبير، وسنة الله - عز وجل - أن البقاء للحق وأهله، والباطل ذاهب زاهق، قال سبحانه: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدفعه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون } [الأنبياء: 18 ].
وقال سبحانه: { كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } [الرعد: 17].
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الحق وأنصاره وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعزُّ فيه وليه ويذلُّ فيه عدوه ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، والحمد لله رب العالمين.
د. عبدالعزيز بن ناصر الجليل
التاريخ: 29/6/1427هـ
- ... - ... -
فلسطين فتحها عمر
ولن يحررها من يتخذ من لعن عمر عقيدة
تعيش الأمة المسلمة اليوم حروباً ثائرة وشروراً متطايرة، تشتت نظامها، وتشعب التئامها، حروب قذرة، يقودها قوم كفرة فجرة، لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.
فالأرض المباركة فلسطين الجريحة، تصبح وتمسي تحت مرارة الفادحة وصور المأساة، ومشاهد المعاناة، وصرخات الصغار، وصيحات التعذيب والحصار، ولوعات الثكالى، وآهات اليتامى.
تصبح وتمسي على صفوف الأكفان المتتالية، والجنائز المحمَّلة، والبيوتات المهدَّمة، والحرمات المنتهَكة.. أحداثُ جسام، تُدمي القلوب وتفطِّر الأكباد، ويقشعر لهولها الفؤاد.
وأرض دجلة والفرات، تشكو إلى الله حالها، فهي بين قطبي الرحى؛ ما بين صليبيين محتلِّين، ورافضة حاقدين، قد دُنست ديارها وهُدمت مساجدها وانتهكت حرماتها، واستبيح حماها، ورفعت في رباها رايات الصليب.
أحداثٌ تنادي المسلمين وتستنفرهم، تستصرخهم وتستنصرهم.
فهل من مجيب لهذا النداء؟!
وهل من مغيث لتلك الدماء والأشلاء؟!(47/107)
أحلَّ الكفر بالإسلام ضيماً ... ... ... يطول به على الدين النحيبُ
فحقٌّ ضائع وحمى مُباح ... ... ... وسيف قاطع ودم صبيبُ
وكم من مسلم أمسى سليباً ... ... ... ومسلمة لها حرم سليبُ
وكم من مسجد جعلوه ديراً ... ... ... على محرابه نُصب الصليبُ
أمور لو تأمَّلهنَّ طفل ... ... ... لثارَ في مفارقه المشيب
أتُسبى المسلمات بكلِّ ثغرٍ ... ... ... وعيش المسلمين إذاً يطيب
أما لله والإسلام حق ... ... ... يدافع عنه شُبانٌ وشيبُ؟
فقل لذوي البصائر حيثُ كانوا ... ... ... أجيبوا الله ويحكمو أجيبوا
في خضمِّ هذه الأحداث الدامية والمآسي المتتالية والفواجع النازلة يتطلع المسلمون لمخرَج من هذا الواقع الأليم، ولمنقذ ينتشل الأمة مما هي فيه من ذلة وهوان، ولقائد يقف في وجه الطغيان، ويوقف زحف الأعداء ونزيف الدماء.
وفي مثل هذه الظروف حين يدلهمُّ الخطب وتتوالى المحن، يشتبه الأمر على كثيرين فلا يميزون بين صديق وعدو، فيعظمون من حقُّه الإذلال ويخفضون من حقُّه الرفع، وحين ينبلج الصبح وتتضح الأمور يعضون أصابع الندم ولات ساعة مندم.
ولا ننسى قصيدة أحمد شوقي في تبجيل مصطفى كمال أتاتورك التي سماها تكليل أنقرة وعزل الآستانة أي تكليل الكمالية وعزل السلطان والخلافة، عندما ادَّعى أتاتورك الانتصار على اليونان في حربه التمثيلية ضدهم وأطلق أحمد شوقي أبياته المشهورة:
الله أكبر كم في الفتح من عجبِ ... ... يا خالد الترك جدِّد خالد العربِ
يومٌ كبدر فخيلُ الحق راقصة ... ... على الصعيد وخيل الله في السحب
ولكن أحمد شوقي أسقط في يده بعد ذلك عندما فوجئ بأن خالد الترك بدلاً من أن يجدد خالد العرب، بدد مجد الترك ومجد العرب.(47/108)
ومما يزيد الطين بلة أنه في مثل هذه الظروف يصغي الناس لكل ناعق ويتكلم في قضايا الأمة الكبار من ليس أهلاً لذلك فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ، بل ويسخر الناس من دعاة الحق المستنيرين بهدي الكتاب والسُّنة.
ومهما ادلهمت الفتن واختلطت الأمور ونشط دعاة الضلال فإن أهل الحق يجب عليهم أن يصدعوا بالحق وأن يقولوا ما يمليه عليهم دينهم مهما كان اغترار الناس بالباطل ودعاته ومؤيديه.
وقال تعالى: { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } [الأنعام: 55].
أي: نخبرك بمعالم التوحيد، ومعالم الرسالة، وأسس العقيدة، ليتبين لك الحق من الباطل والهدى من الضلال.
فلزاماً على كل داعية، وكل عالم وطالب علم أن يوضح للناس المشارب والمذاهب.
ولا شك أن ما يجري على أرض فلسطين ولبنان من اعتداء سافر من اليهود، لا يقرُّه شرع ولا عقل، ولا يرضى به ذو ضمير حي، ولكن مع ذلك لا بد أن تقال كلمة الحق ويحذر من دعاة الضلال، وممن يرفعون الشعارات البراقة التي يخفون وراءها الحقد الدفين والكفر البواح، مستغلِّين غياب أهل الحق عن القيام بما يجب عليهم.
ومن الخطأ في الفهم أن يظن ظانٌّ أن الإنسان حين يحذر من الرافضة وخطرهم أنه يؤيد اليهود أو يقف في صفهم، أو يرضى بما يحدث على أيديهم من سفك للدماء وأنهم لا يفرقون في حربهم بين طفل وشيخ وامرأة.
وأنه لا يكترث برؤية الشيوخ والنساء والأطفال تتطاير أشلاؤهم وتنتثر دماؤهم.
فهذا فهم خاطئ، لأن الإسلام دين الرحمة وقد حرم على أتباعه حين يخوضون حرباً مع أي عدو لهم أن يقتلوا أو يعتدوا على غير المحاربين.
روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين».(47/109)
وروى أبو داود عن رباح بن ربيع قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلاً فقال: «انظر علام اجتمع هؤلاء» فجاء فقال: على امرأة قتيل فقال: «ما كانت هذه لتقاتل» قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً فقال: «قل لخالد لا يقتلن امرأة ولا عسيفاً».
هذه هي تعاليم الإسلام السمحة التي تبيِّن أنه دين الرحمة حتى مع الأعداء.
فكفرهم بالله تعالى لا يحلُّ لنا أن نسفك دماءهم أو نظلمهم أو نعتدي عليهم بأي لون من ألوان الاعتداء، فلا يجوز قتل غير المحاربين المحادِّين لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الذين يصدّون عن سبيله ويؤذون أهل دينه.
والتحذير من حزب الله ومن الشيعة عموماً واجب على كل من عرف عقيدة التوحيد، وخصوصاً حين يغتر بهم كثير من المسلمين ممن لا يعرفون عقائدهم، وحين يدَّعون أنهم حماة الإسلام والمدافعون عنه وأنهم يحاربون من أجل عقيدة التوحيد ونصرة الدين، فيلتبس الحق بالباطل، ويغتر بشعاراتهم كثير من الدهماء، وربما أدى الأمر ببعض الجهال إلى تصحيح عقائدهم والثناء عليهم.
وحريٌّ بنا ونحن نعيش في هذا الوضع أن نتذكر أحد علماء الإسلام ممن كان له موقف مشهود مع أحد سلف الرافضة وهو الحاكم العبيدي (المعز) وكيف أن هذا العالم لم يغتر بالشعارات والخطب الرنانة والبطولات المزعومة فقال كلمة الحق ولم يداهن ولو كلَّفه ذلك حياته.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في ترجمة الحاكم العبيدي المعز، المدعي أنه فاطمي:
وحين نزل الإسكندرية تلقَّاه وجوه الناس، فخطبهم بها خطبة بليغة ادعى فيها: أنه ينصف المظلوم من الظالم، وافتخر فيها بنسبه، وأن الله قد رحم الأمة بهم، وهو مع ذلك متلبس بالرفض ظاهراً وباطناً.
كما قاله القاضي الباقلاني: إن مذهبهم الكفر المحض، واعتقادهم الرفض، وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره ووالاه، قبحهم الله وإياه.(47/110)
وقد أحضر إلى بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر النابلسي فقال له المعز: بلغني عنك أنك قلت: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة، ورميت المصريين (أي العبيديين) بسهم.
فقال: ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن قوله.
فقال: كيف قلت؟
قال: قلت: ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر. وقال: ولِمَ؟
قال: لأنكم غيَّرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم، فأمر بإشهاره في أول يوم، ثم ضرب في اليوم الثاني بالسياط ضرباً شديداً مبرحاً، ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات رحمه الله.
فكان يقال له: الشهيد، وإليه ينسب بنو الشهيد من أهل نابلس إلى اليوم، ولم تزل فيهم بقايا خير(1).
إن فلسطين قد فتحها عمر - رضي الله عنه - فهل يمكن أن تفتح ثانية على يد من يتخذ من لعن عمر - رضي الله عنه - عقيدة وديناً؟
أقول: كلا والله.
إن أرض فلسطين وغيرها لن يعيدها إلى حوزة الإسلام إلا أتباع عمر الذين يترضون عنه ويتلمسون هديه ويقتدون به.
أما أعداء الصحابة ومن يلعنون عمر فوالله الذي لا إله غيره لن يزيدوا الأمة إلا خبالاً ولن تجني منهم غير الحسرة والندامة، وسيكشرون عن أنيابهم حين يستتب لهم الأمر، وسيظهرون حقدهم ويصبُّون جام غضبهم على أهل السُّنة، فيستبيحون أرضهم وينتهكون عرضهم ويخرجونهم من ديارهم، كما يحدث الآن في العراق وإيران.
عندها يفيق النائمون ويندم المفرطون ولكن بعد فوات الأوان.
__________
(1) البداية والنهاية (11/322).(47/111)
ولذلك ينبغي لكل من عرف عقيدة التوحيد وآمن بما جاء في كتاب الله تعالى من الأمر بموالاة المؤمنين ومحادّة الكافرين، أن يتبرأ من حزب الله وألا يغتر به وبقيادته، مهما طبل له المطبلون، وأن يقول كما قال العالم أبو بكر النابلسي للمعز العبيدي: ينبغي أن نرمي حزب اللات بتسعة ثم نرمي اليهود بالعاشر.
د. محمد البراك
- ... - ... -
الخاتمة
هذا ما أردتُ جمعه وتدوينه في هذه العُجالة، عن الحزب المُسمَّى «حزب الله»، أرجو أن يكون فيها هدى لمن رام الهدى.
لو أرخيتُ العنان للقلم لصال وجال بذكر ضلالات هذا الحزب ومكرهم من كلام أهله، وفيما ذكرتُ غنية عمّا لم أذكر، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، ومن أراد المزيد عن هذا الحزب فسيجده في كتابات المنصفين، وأكثرها في الشبكة العنكبوتية.
أقول هذا لمن يريد الحقَّ ونفسه مطمئنة.
أمّا من أغمض بصره عن حقيقة هذا الحزب، ولم يرَ منه إلا جانبه الماكر في حرب اليهود المحتلِّين، وصفَّق له بيديه، وأشاد به بلسانه، فأقول له: يا هذا إنَّك إنما تدعو لإسقاط دولة يهود، وإحياء دولة هي أشد على الإسلام وأهل السنة خاصّة من دولة يهود هاتيك.
وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله زسلَّم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- ... - ... -
وللمزيد أنصح بمراجعة هذه الكتب لمعرفة
حقيقة الرافضة وتاريخهم الأسود
1- حقيقة المقاومة؛ المؤلف عبدالمنعم شفيق.
2- خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية؛ المؤلف عماد حسين.
3- أثر الحركات الباطنية في عرقلة الجهاد ضد الصليبيين؛ المؤلف يوسف الشيخ عيد.
4- وجاء دور المجوس؛ المؤلف عبدالله الغريب.
5- (أمل) والمخيمات الفلسطينية؛ المؤلف عبدالله الغريب.
6- أحوال أهل السُّنة في إيران؛ المؤلف عبدالله الغريب.
7- الخميني والوجه الآخر؛ المؤلف زيد العيص.(47/112)
8- الاعتداءات الباطنية على المقدسات الإسلامية؛ المؤلف كامل الدقس.
9- بروتوكولات آيات قم حول الحرمين؛ المؤلف عبدالله الغفاري.
10- الصفويون والدولة العثمانية؛ المؤلف علوي عطرجي.
11- الخمينية وريثة الحركات الحاقدة؛ المؤلف وليد الأعظمي.
12- حتى لا ننخدع؛ المؤلف عبدالله الموصلي.
- ... - ... -
الموضوع ... ... ... ... ... ... ... الصفحة
مقدمة ... .................................................... ... ... ... 5
متى نشأ حزب الله الشيعي اللبناني؟ .......................... ... ... 7
من هو مؤسس حركة (أمل) وما هي أعمالها؟ ................ ... ... 9
من هم الرؤساء المؤسسون لحزب الله الشيعي على
الأراضي اللبنانية؟ ............................................ ... ... 15
ما هي عقيدة أتباع ومؤسسي حزب الله الشيعي اللبناني؟.......... ... ... 19
من هي الجهة صاحبة المصلحة والداعمة لحزب الله الشيعي؟..... ... ... 25
هل هناك أحزاب أو فروع لهذا الحزب في العالم الإسلامي؟....... ... ... 27
حزب الله البحريني............................................... ... 27
حزب الله الحجاز................................................ ... ... 34
حزب الله (الكويتي)............................................. ... ... 40
حزب الله اليمني................................................ ... ... 44
ما هي الأهداف المعلنة وغير المعلنة لتأسيس حزب الله؟ ......... ... ... 49
ما علاقة حزب الله اللبناني بالخميني؟ ومن هو الخميني
وما هي عقيدته؟ ................................................ ... ... 50
ما علاقة حزب الله اللبناني بإيران؟ .............................. ... ... 54
هل شارك حزب الله اللبناني إيران في حربها مع العراق؟(47/113)
وهل شارك ضد انتفاضة الطلبة السنة في الأحواز؟ .............. ... ... 58
هل مارس حزب الله التقية في خطاباته وسياساته الخارجية؟ ..... ... ... 60
هل رفع حزب الله راية الجهاد في سبيل الله؟ .................... ... ... 62
هل هناك اتفاقيات سرية موقعة بين حزب الله وإسرائيل؟ ......... ... ... 66 ...
لمن ولاء حزب الله؟ ............................................. ... ... 69
ما علاقة حزب الله اللبناني بأهل السُّنة في العالم الإسلامي؟ ...... ... ... 71 ...
ما هو وضع أهل السُّنة في لبنان في ظل هيمنة حزب الله؟ ......... ... ... 72
ما هو موقف حزب الله من الحكومات اللبنانية وبقية
الحكومات الإسلامية؟ ............................................... ... ... 75
لماذا انخدع كثير من أهل السُّنة بحزب الله وصدقوا أكاذيبه؟ ......... ... ... 77
هل حمل الشيعة الإمامية الاثنا عشرية في يوم من الأيام لواء الدفاع
عن الإسلام والمسلمين؟............................................. ... ... 78
ما هو دور إيران (الإسلامية!) في إسقاط الحكومة الأفغانية
والحكومة العراقية وتحالفها السري مع أمريكا؟ .................... ... ... 83
هل يتبنى حزب الله تصدير عقيدة الرافضة ونشرها بين المسلمين؟.. ... ... 84
هل سيبقى لبنان أسيراً لحزب الله يصطلي بالصراع الإيراني
الإسرائيلي على أرض لبنان؟..................................... ... ... 85
أين حزب الله وأتباعهم من الشيعة الإمامية من الغزو الصليبي
للعراق؟.......................................................... ... ... 88
هل تعلم ما هو الهدف الذي تحقق من خطف الجنديين
الإسرائيليين؟.................................................... ... ... 90
هل نحن نحرم الجهاد في سبيل الله ضد اليهود الغاصبين؟....... ... ... 92(47/114)
وهنا أسئلة تطرح نفسها!........................................ ... ... 94
ملاحق الكتاب................................................... ... ... 96
تصريح الأمين العام السابق لحزب الله صبحي الطفيلي........... ... ... 97
احذروا حسن نصر الله وشيعته................................... ... ... 102
فلسطين فتحها عمر ولن يحررها من يتخذ من لعن عمر عقيدة ... ... ... 112 ...
وثائق مصورة .................................................. ... ... 117
الخاتمة ......................................................... ... ... 125
فهرس المحتويات ............................................... ... ... 127(47/115)
محاكم الثورة الاسلامية
مائة حكم اعدام في مائة دقيقة .
الخميني وراء الاعدامات ، ويقول لجلاد الثورة "قاتلوا ائمة الكفر".
تنمية الروح الشريرة في الحرس الثوري .
دس في التاريخ الاسلامي .
التقاء الخمينية واليهودية في تشويه عظمة الامام علي عليه السلام.
اعدام الفتيات والفتيان دون البلوغ القانوني وحتى الشرعي .
اعدام المرضى والجرحى والحوامل من النساء والشيوخ الذين تجاوزوا التسعين .
القراصنة يشغلون منصة القضاء .
فلسفة الخميني في محاكمه الثورية ، جئنا لنبقى بأي ثمن .
(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93))
محاكم الثورة الاسلامية
حدثني حسين الخميني حفيد الامام الخميني ان قاضي المحكمة الثورية في مدينة بندر عباس اصدر حكما بحق احد المتهمين الذين ساقه حظه التعيس إلى المحكمة تلك بتهمة الاخلال بامن البلاد بالنص التالي :
يحكم بالاعدام وتصادر امواله المنقولة وغير المنقولة .
تصادر اموال المنتسبين اليه من الدرجة الاولى .
تصادر اموال كل ذويه والمنتسبين اليه واقاربائه .
وهكذا افتى القاضي بمصادرة اموال اولاد ادم وحواء جميعا لانهم ينتمون إلى المحكوم عليه بحكم القرابة العامة التي تربط البشر بعضه بالبعض "كلنا من ادم وادم من تراب " كما قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم .(48/1)
لقد حمل الخميني الصغير صورة من حكم القاضي إلى الخميني الكبير ليعلم جده الانحدار الذي وصل اليه القضاء الاسلامي بفضل الجمهورية الاسلامية ، ولكن الخميني بعد ان اطلع على مضمون الحكم رمى الورقة جانبا وحوقل مرتين وانتهى كل شيء . وحدثني المحدث نفسه انه عندما ذهب بصحبة الخلخالي ( جلاد الثورة ) إلى كردستان لقمع الحركة الكردية ، اراد الشيخ الجلاد لدى وصوله إلى سنندح تنفيذ حكم الاعدام في ثلاثين شخصا من المسجونين فورا وقبل التثبت من اتهامهم وهوياتهم.
فقال له : اتق الله يا رجل ، كيف تقتل اناسا لم تعرف اسمائهم ؟ كيف باعمالهم ؟
فاجابه الشيخ الجلاد : لألقاء الرعب في نفوس الناس عامة .
وبعد الالحاح والرجاء والالتماس خفض الحاكم الجلاد عدد الثلاثين إلى عشرة ، ثم قتل العشرة جميعا في بضع دقائق ، وظهر فيما بعد انه كان بين المعدومين بلا جرم وذنب طفل عمره 13سنة وطبيب مجروح وامرأة معلمة ، ولما سمع الخميني بما فعل جلاده حوقل ثلاث مرات وانتهى كل شيء .(48/2)
ان المحاكم الثورية الاسلامية ارتكبت من الظلم بحق الامة الايرانية ما لم يرتكبه أي جيش غاز باعدائه الالداء ، ولكي يعلم العالم ان الامام الخميني بشخصه وراء الاعدامات بالجملة واراقة الدماء ، ووراء اعدام الشبان المراهقين والفتيات اللواتي لم يبلغن سن الرشد ، والشيوخ الذين بلغوا من السن عتيا . انقل هنا حديثا متواترا نقل من محمد الكيلاني رئيس المحاكم الثورية الاسلامية والذي اعدم من الشبان المجاهدين والشابات المجاهدات اكثر من الفين في غضون ثلاثة اشهر ، لقد ذهب الكيلاني إلى الخميني يطلب منه الموافقة بوقف احكام الاعدام في الشباب المراهقين وارسالهم إلى دار الاحداث لتأديبهم تربية تتلائم مع اهداف الثورة ، وترك الشيوخ رهن المحبس حتى يلاقوا حتفهم ، لأن الشباب على حد زعمه يمكن اصلاحهم والشيوخ هم على قاب قوسين او ادنى من الموت فلا داعي اذن لاراقة دمائهم ، فكان جواب الخميني " قاتلوا ائمة الكفر " ، وهكذا استمر الجلاد في تنفيذ اوامر سيده .(48/3)
واذكر هنا قصة اخرى تظهر بوضوح مدى تورط الامام في اراقة دماء المؤمنين ، لقد حدثت هذه القصة بعد نجاح الثورة باسبوع واحد وذلك عندما حكم الخلخالي ، الحاكم المنصوب من قبل مرشد الثورة على الجنرال نصيري رئيس السافاك وثلاثة من رفاقه من القواد العسكريين بالموت ، ولكن لم يجد القاضي من ينفذ احكامه ، وكلما طلب من هذا او ذاك تنفيذ الاحكام لم يستجب اليه احد بذريعة انه لم يسبق لأي من الزمرة المحاطة بالامام تنفيذ الاعدام بحق احد ، وعندما سمع الخميني بالخبر نهر الذين كانوا حوله وقال لهم " ايتوني برشاشة حتى اذهب بنفسي وانفذ في هؤلاء المجرمين الموت " ، وعندما سمع الحاضرين ان امامهم يريد ان يقوم بدور الجلاد ايقنوا ان الموت للمحكومين عقاب الهي يمليه الواجب الديني ، فسارع قوم من الحاضرين لاعدام المحكومين ، ونفذت الاحكام على سطح الغرفة التي كان يسكنها الامام في ( مدرسة الرفاه ) بطهران .
وبعد ثلاث سنوات من اللحظة التي لم يجد فيها حاكم الثورة شخصا واحدا يستطيع تنفيذ حكم الاعدام بمجرمين كبار مثل الجنرال نصيري وفاقه ، تفشت رائحة الدم وحب الاعدام وتطوع مئات من حرس الثورة لتنفيذ الاعدام بالجملة والافراد في البريء والمجرم على السواء واصبحت حياة الانسان ارخص شيء في ظل نظام الجمهورية الاسلامية ، حتى قال شاهد عيان " ان حرس الثورة الاسلامية بعد تنفيذ القتل والاعدام في مجموعات كبيرة يتباهون امام رؤسائهم بالاعداد الغفيرة التي ارسلوها إلى الجحيم حسب زعمهم " ، وهكذا شجع الامام مأموريه وتابعيه على ازهاق النفوس المحترمة ، ولقنهم بان في ذلك رضى الله ورسوله والمؤمنين .(48/4)
ان السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ، كيف استطاع الخميني والخمينيون تنمية الروح الشريرة والتعطش إلى الدماء في نفوس الناس ؟ فلم يكن من السهل في بلد اسلامي يأمر دينه بالعفو والسماحة والرحمة والرأفة بالمذنبين ، كيف وبالابرياء خلق هذه النفسية الشاذة التي لا تستقر ولا تهدأ الا بالاسراف في القتل . ان الكلام الذي يردده الخميني والخمينيون لاضفاء الشرعية على اراقة الدماء والقتل بالجملة هو الاستشهاد بسيرة الامام علي عليه السلام في الحروب التي خاضها بعد ان الت الخلافة اليه، وبما ان الشعب الايراني يوالي عليا عليه السلام ويراه اماما وقدوة له فلذلك اتخذ حبه لعلى وسذاجته في المقارنة بين الحق والباطل ، ذريعة لاضفاء الشرعية على اعمال الطغاة ، فكلما اراق الطغاة مزيدا من دماء المسلمين ، قالوا ، اليس الامام عليا قتل المنشقين والخارجين على حكمه ، واذا كان الامام علي يقتل المنشقين عليه بالجملة والاحاد ايام خلافته ، فلماذا لايقتل الخميني المنشقين على نظامه الذي هو امتداد لحكومة الامام علي عليه السلام ؟ لقد كانت ولا تزال لهذه الدعاية الاجرامية التي تريد النيل من سيرة امير المؤمنين عليه السلام وتشويه صورته النقية الطاهرة اثر كبير في نفسية القابضين على السلاح وتشجيعهم على القتل واراقة الدماء اسوة بالامام علي عليه السلام على زعم الشعوذة الحاكمة في رقاب المسلمين في ايران .(48/5)
وبما ان الاعلام الايراني هو في احتكار السلطة ، ويسير في نفس الخط والمسيرة ، ولا يستطيع احد التنفس ضد ما تدعيه السلطة والادلاء بكلام يغاير ارادة الحاكمين فيها ، فلذلك لم يستطع احد ان ينبري لدحض تلك المزاعم الكاذبة والدفاع عن الامام علي عليه السلام . ان هذا التشويه للحقائق وللتاريخ ولسيرة ابطال الاسلام وعظماء الانسانية ، واعطاء صورة قاتمة سوداء عن الصدر الاول الاسلامي ، يهز عرش الرحمن وطعن في امام المتقين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين ، ان من يكون له ادنى المام بتاريخ الاسلام وسيرة الرسول العظيم كما وردت في كتب السيرة والتاريخ ليعلم بوضوح ان الامام عليا خاض حروبا دفاعية بصحبة الرسول الكريم صلى الله عليه واله وسلم ضد المشركين الذين كانوا يداهمون المدينة المنورة مقر الرسالة والوحي للقضاء على الرسول ورسالته واصحابه ، وكان النبي وصحابته يدافعون عن انفسهم ورسالة السماء معا وقد استشهد في تلك الغزوات من خيرة صحابة الرسول ومن اعز اقربائه وذويه ، كما ان المشركين كانوا يتكبدون بدورهم خسائر كبيرة في الارواح ، والحرب كر وفر ، والمحارب يقتل او يقتل ما دام هو في ساحة الوغى ، اما الحروب التي خاضها الامام علي بعد ان آلت الخلافة اليه فقد كان هناك القاتل والمقتول في صفوف الامام وصفوف اصحاب الجمل والصفين والنهروان وبما ان الحروب التي خاضها الامام في ايام خلافته كانت مجابهة بين المسلمين المنشقين على الامام المفترض الطاعة وبين الامام القائم بالامر ، فلم تحدث المجابهة الا بعد ان كان الامام يتم عليهم الحجة مرة بعد المرة وكتب التاريخ كلها تحكى بصورة متواترة ان الامام لم يبدأ بالقتال في أي حرب خاضها ، وكان يردد دائما قبل ان يلتحم الطرفان " اللهم احقن دماء المسلمين " ثم كان يقرأ الآية الكريمة " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وانت خير الفاتحين " لقد روى البلاذري والشريف الرضي ان الامام عليا عليه(48/6)
السلام كان يوصي عسكره قبل لقاء العدو بصفين بالعبارات التالية :
" لاتقاتلوهم حتى يبداؤكم فانكم بحمد الله على حجة ".
" وترككم اياهم حتى يبدأوكم حجة اخرى لكم عليهم ".
" فاذا كانت الهزيمة باذن الله فلا تقتلوا مدبرا ".
" ولاتصيبوا معورا ".
" ولاتجهزوا على جريح " .
" ولا تهيجوا النساء باذى وان شتمن اعراضكم وسبين امرائكم " .
" ان كنا لنؤمر بالكف عنهن وانهن لمشركات " . (1)
ان من يمعن النظر بهذه الوصية ليعلم بوضوح كيف كانت سيرة الامام في قتال خصومه ، فمتى كان الامام علي يقتل المرأة والجريح والطفلة المراهقة كما فعل الخميني ؟ ومتى كانت لعلي محاكم الثورة التي حكمت بالاعدام على ثلاثة الاف بريء في 3 شهور ، وعشرين الف بريء في ظروف ثلاثة اعوام ؟ ومتى كانت لعلي سجون فيها ثلاثين الف سجين سياسي ؟ متى كان علي يصادر اموال الناس ؟ ومتى كان علي يكذب ؟ ومتى كان علي يأمر بالتجسس ؟ ومتى كان علي يقتل الاقليات القومية ؟ ومتى كان علي يعيش في كهف جمران بعيدا عن شعبه وامته ؟ واذا ظهر في الشرفة لبضع دقائق ليمنح الحاضرين البركه تم متى كان علي محاطا بعيون الكترونية شرقية وغربية ، وخمسمائة حارس مدربين للحماية من روسيا وكوريا ومتى كان علي سببا في حرب الاشقاء ويتعاون مع اليهود لقتل المسلمين والمسلمات وخراب بلاد الاسلام ؟
__________
(1) نهج البلاغة ج3 الصفحة 15 .(48/7)
ان المقارنة بين حكومة علي وحكومة الخميني هي المقارنة بين النور والظلمة ، والوجود والعدم ، والخير المحض والشر المطلق ، ولولا اننا نعيش في عصر لا زالت الاساطير تتحكم في عقول السذج من الناس لكنت امر على هذا السخف في التفكير والسقط من الكلام مرور الكرام ، ولكن ما الحيلة اذا كنت تخاطب قوما يعتقدون بالسلطة الالهية في الفقيه ، ويقارنون اسوأ انواع الحكومات في تاريخ الانسان بافضلها ، لقد استطاع الانسان بفضل التكنولوجيا والعلم ان يهبط على سطح القمر ، الامر الذي كان يعتبر خيالا ووهما في سابق الزمان ، الا ان الاوهام والاباطيل لا زالت تحكم عقول كثير من ابنائها ، وهناك عدم تكافؤ يدعو إلى الحزن والحيرة في مراتب الوعي الفكري لدى الانسان ، فالانسان الذي سخر الفضاء بعلمه وعبقريته لا زال هو اسير الاوهام والاساطير ، فهناك في الهند اربعمائة مليون انسان يقدسون البقرة وينحنون امامها اجلالا واكبارا وهي مظهر من مظاهر الالوهية عندهم . وعشرات الملايين في جنوب شرقي اسيا يعبدون التماسيح والضفادع والسلحفاة ، فلذلك لانستغرب ابدا اذا التقينا بفئة او شرذمة في ايران يقدسون الفقيه ويعتقدون بحلول السلطة الالهية فيه ، ويقارنون بين علي ومن لايساوي شسع نعله .
واعود مرة اخرى إلى حكومة علي عليه السلام واقول متى كان لعلي حرس الثورة يداهم البيوت في اناء الليل واطراف النهار ليقتاد الناس إلى ساحات الاعدام ؟ ومتى كان علي يقتل الناس لانهم قالوا(الموت لفلان )؟
ومتى كان علي يخدع الامة بوعوده الكاذبة ، ويقول السقط من الكلام ؟(48/8)
قيل لعلي عليه السلام ستغتالك الفئة الخارجة عليك وقد اغتالوا قبلك الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، اتخذ لنفسك حراسا ، فكان جوابه عليه السلام ، كفى بالموت حارسا وكان يخرج من داره وحيدا قبل طلوع الفجر ليؤم الناس في صلاة الفجر في جامع الكوفة حتى ان ضربه ابن ملجم المرادي بالسيف المسموم وهو في اثناء الصلوة ، وعندما ضربه ابن ملجم قال عليه السلام تلك الكلمة التي هزت الخافقين " فزت ورب الكعبة " ثم امر اهله بالعفو عن قاتله وهنا ادون نص الكلمة التي قالها الامام عليه السلام وهو في فراش الموت " انا بالامس صاحبكم واليوم عبرة لكم وغدا مفارقكم ، ان ابق فانا ولي دمي وان اعف فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة فاعفوا " هذه كانت سيرة علي وهو الحاكم المطلق عل نصف المعمورة في عصره أي بلاد يمتد طولها من اليمن إلى بخارى شرقا ، ومن الجزيرة حتى شمال افريقيا غربا .
واما اهتمام علي عليه السلام بشؤون المسلمين فقد يتجلى في كتاب بعثه إلى واليه في البصرة وهو حنيف بن قيس الانصاري وقد جاء ضمن ما كتبه الامام " ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ولكن هيهات ان يقودني هواي لتخير الاطعمة ولذائذها ولعل بمالمنجد او اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع . ااقنع من نفسي بان يقال امير المؤمنين ولا اشاركهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش ، او ابيت مبطانا وحولي بطون غرثي واكباد حرى او اكون كما قال القائل " وحسبك داء ان تبيت ببطنه وحولك اكباد تحن إلى القد . "(48/9)
هذا علي بن ابي طالب الذي يريد الخمينيون تشويه صورته الطاهرة بالصاق التهمم التي الصقها رواة اليهود في كتبهم به من قبل ، ورددها اليوم الخميني والخمينيون ليبرروا طغيانهم المخيف فوالله لقد جاءوا شيئا ادّا ، وهنا اسجل فقرات من كتاب الامام علي إلى مالك الاشتر حين ولاه مصرا ليكون درسا وعبرة لكل من يريد ان يعرف سياسة الامام علي عليه السلام في ادارة دفة الحكم والبلاد ، واطلب من الله ان يعين السذج الغفل من ابناء الشعب الايراني إلى التمييز بين الحق والباطل ويهديهم سواء السبيل :
يوصي الامام في ضمن كتاب يحوي واجبات الوالي نحو الرعية جاء فيه:
واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم .
ولا تكونن عليهم سبعا ضارا تغتنم اكلهم .
فالناس صنفان ، اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق . يفرط منهم الزلل ، وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على ايديهم في العمد والخطأ فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب ان يعطيك الله من عفوه وصفحه .
ولا تندمن على عفو ، ولا تبجحن بعقوبة .
الا ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده .
وليكن ابعد رعيتك منك وشنأهم عندك اطلبهم لمعائب الناس ، فان في الناس عيوبا الوالي احق من سترها ، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك .
اطلق عن الناس عقدة كل حقد .
ولا تعجل إلى تصديق ساع فان الساعي غاش وان تشبه بالناصحين .(48/10)
ونختم هذا الفصل باعطاء صورة عن المآسي التي ارتكبت وترتكب في محاكم الثورة الاسلامية ، فلاول مرة يحدث مثل هذا التناقض الصارخ في نظام دولة ترى نفسها دولة نموذجية في التاريخ مجلس للشورى وسجون ومحاكم ثورية ، ولست ادري كيف يمكن الجمع بين محاكم الثورة التي تمثل عصرا استثنائيا خاصا ، ومجلس الشورى الذي يحكي عن استقرار النظام ودولة المؤسسات ولكن الخمينيين والخميني نفسه ابعد الناس في درك هذه التناقضات ، ومهما يكن من امر فان هذه المحاكم منتشرة في انحاء البلاد طولا وعرضا وحتى القرى لم تسلم منها ، انها كالوباء القاتل تجد اثارها المشئومة في كل مدينة وقرية ، وان شئت قل في كل دار ومتجر ومصنع ومزرعة ومقام .
لقد اختار الخميني لرئاسة هذه المحاكم اناسا لبوسهم لبوس الدين ولكنهم والله ابعد الناس من الدين ، لم يراع فيهم العلم وشرائط القضاء والامانة والعفو وسداد الاخلاق ، كلما اشترط فيهم هو الوفاء المطلق لشخصه وتنفيذ اوامره ومأربه ، ولذلك وضعوا في دستورهم هذه العبارة " حب خميني حسنة لا تضر معها سيئة " وانطلاقا من هذا المضمون جرت وتجري المحاكمات الثورية على قدم وساق . فمن كان ضد الخميني يقتل ومن كان معه يطلق ولو كانت ذنوبه تعادل الجبال ، لقد اعدم هؤلاء الوحوش الكاسرة باسم القضاء الاسلامي رهطا كبيرا من الناس بلا ذنب ولاجرم ليستولوا على اموالهم وبيوتهم ومزارعهم ، وكانت المبررات التي اتخذوها اساسا لاحكامهم الجائرة اوهن من بيت العنكبوت ، وعندما يبلغ الخبر مسامع الخميني يبتسم ابتسامة المنتصر على عدوه ويبعث للقاضي برسالة شكر وثناء .
ان المحاكم الثورية الاسلامية في ايران منذ تأسيسها :
حكمت على ما يقارب من اربعين الف شخص بالاعدام ونفذ الحكم فيهم فورا .
حكمت على ما يتجاوز على خمس وعشرين الف شخصا بالحبس لفترات طويلة وقصيرة .(48/11)
صادرات اموال ما يقارب من خمس واربعين الف شخص : وكان حراس الثورة يذهبون إلى دور المحكومين تلفظ عوائلهم صغيرا وكبيرا نساءا ورجالا إلى خارج منازلهم ليفترشوا الارض ويلتحفوا السماء ، وكان يحل محلهم الحرس الثوري يتصرفون في الدار وما فيها تصرف المالك في ملكه .
حكمت هذه المحاكم على المرابي بالاعدام ، وعلى المرأة الحاملة بالرجم ، وعلى الطفل الصغير بالموت ، وعلى المريض بالشنق .
هذه المحاكم لم تسمح للمتهمين الاستنجاد بمحامي الدفاع واستئناف الحكم ولم يأخذ مرور الزمان بعين الاعتبار بذريعة ان الاسلام لا يعترف بهذه الاشياء .
ان تنفيذ حكم الاعدام في هذه المحاكم يجري فور صدور الحكم ليلا كان ام نهارا .
السن القانوني لقبول الموت في محاكم الثورة ، للفتيات 9 سنوات وللفتيان 15 سنة وهو سن البلوغ الشرعي .
لم يصدر الخميني العفو عن أي محكوم بالاعدام حتى الآن .
ولكي نعطي صورة واضحة عن مدى استهتار هذه المحاكم بكل القيم الانسانية وشرائع السماء والتي اصبحت اداة من ادوات الطغيان في ايران ، نذكر هنا ما تواترت إلى اسماع الناس من داخل تلك المحاكم :
ان احكام الاعدام التي يصدرها القضاة لم يبلغ المحكوم عليهم بها في ساحة المحكمة خشية من حدوث بلبلة ، وانما يؤمر الحرس الثوري الذي يقتاد المتهم خارج المحكمة بتنفيذها طي رسالة مغلقة يفتحها عندما يغادر ساحة القضاء ، وقد يزعم المحكوم بالاعدام عندما يقتاد إلى خارج المحكمة ان ساحته برئت فلذلك يقدم شكره الجزيل إلى القاضي وعدالته ورأفته ، وعندما يصل إلى الفناء الخارجي ينهال عليه رصاص حراس الثورة بغزارة ولم يسق حتى جرعة من الماء .(48/12)
بسم الله الرحمن الرحيم
مسيرة ركب الشيطان عبر تاريخ الإسلام
الزيدية
الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده و رسوله ، صلوات الله و سلامه عليه ..
و بعد :-
فإن من أكبر الفرق على الإطلاق وأكثرها انتشاراً ، هي فرقة الشيعة على تعدد طوائفها واختلاف نحلها ، بدءاً بالسبئية أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الذي كان رأساً في إذكاء نار الفتنة والدس بين صفوف المسلمين ، إلى الرافضة الاثنا عشرية في يومنا هذا ، حيث كانت و لا تزال هذه الفرق ، وبالاً و شراً على المسلمين على طول تاريخهم ، وفي جميع مراحل حياتهم ، و قد تأثر الشيعة في كثير من عقائدهم الباطلة بالعقائد اليهودية و الفارسية وغيرها .
و قد أخذ كثير من فرق الشيعة بالتمويه على الناس للدخول في فرقتهم ، مستغلين في ذلك حب الناس لآل البيت ، و مع مرور الزمن استطاع الشيطان أن يضل هذه الفرقة ضلالاً بعيداً ، و يغويهم عن الصراط المستقيم إغواءً عظيماً ، و صاروا أخطر على المسلمين من الخوارج .(49/1)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (2/477-482) :و هؤلاء الرافضة الشيعة إن لم يكونوا شراً من الخوارج المنصوصين ، فليس دونهم ... ، فإن أولئك إنما كفّروا عثمان وعلياً وأتباع عثمان وعلي فقط ، دون من قعد عن القتال أو مات قبل ذلك ، والرافضة كفرت أبابكر وعمر و عثمان وعامة المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين رضي الله عنهم و رضوا عنه ، وكفروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين ... ، ولهذا يكفرون أعلام الملة .. و يستحلون دماء من خرج عنهم و يسمون مذهبهم مذهب الجمهور .. و يرون أن كفرهم أغلظ من كفر اليهود والنصارى ؛ لأن أولئك عندهم كفار أصليوّن و هؤلاء مرتدون ، و كفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي ؛ و لهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين كما عاونوا التتار على المسلمين ، و كانوا من أعظم الأسباب في خروج جنكيز خان ملك الكفار إلى بلاد الإسلام ، و في قدوم هولاكو إلى بلاد العراق ، وهم مع هذا يعطلون المساجد التي أمر الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه ، فلا يقيمون فيها جمعة ولا جماعة ، و يبنون على القبور المكذوبة مساجد يتخذونها مشاهد ، حتى إن مشائخهم من يفضلها على حج البيت الذي أمر الله به و رسوله ، و وصف حالهم يطول .(49/2)
ومازال أمر هؤلاء الشيعة في زيادة حتى بلغ بطائفة القرامطة و هم من غلاتهم أن يروّعوا الآمنين من المسلمين في أنحاء عديدة من الدولة الإسلامية ويعيثوا في الأرض فساداً حتى آل بهم الحال إلى اجتياح البلد الحرام ، و هتكوا الحرمات ، و سفكوا دماء الحجيج ، و دفنوا القتلى في بئر زمزم ، و قلعوا باب الكعبة وأخذوا الحجر الأسود معهم ، حيث مكث عندهم اثنين وعشرين سنة من عام 317-339 هـ - ، وألحدوا في الحرم إلحاداً بالغاً عظيماً ، وقتلوا من العلماء والحفاظ خلقاً كثراً ، و من الناس من لا يحصيهم إلا الله ، وهابت الدولة جانبهم وكسروا جيوشها في عدة مواقع ، وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنع أنهم كفار زنادقة ، و قد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقية من أرض المغرب .
ثم ابتلي المسلمون حين ضعف أمر الخلافة بطائفة من الشيعة وهم البويهيون حيث استطاعوا أن يسيطروا على مقاليد الحكم في بغداد ، وأن يهينوا الخلفاء العباسيين الذي ليس بيدهم من الأمور شيء ، و قد أراد البيهويون نزع الخلافة من العباسيين وإعطائها لإخوانهم العبيديين بزعمهم أنهم من آل البيت ، ثم عدلوا عن ذلك . و قد لاقى أهل السنة في عهد بني بويه ، الكثير من المآسي والنكبات ، فكانت لا تمر سنة واحدة إلا و يحدث بين الرافضة وأهل السنة كثير من المصادمات والفتن ، حيث كان الرافضة في يوم عاشوراء من كل عام يفعلون بدعتهم الشنعاء و يغلقون الأسواق ، و تخرج نساؤهم حاسرات سافرات نائحات على الحسين و يلطمن وجوههن ، و يكتبون على أبواب المساجد لعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، كما يلعنون أبابكر و عمر وعثمان ، وكان الحكام البويهيون يأمرون بذلك ، و يذودون عن إخوانهم الرافضة ، و كان هؤلاء البويهيون على صلة بالقرامطة والعبيديون في مصر .(49/3)
واستطاع بنو حمدان وهم من الشيعة أيضاً أن يقيموا لهم دولة في حلب والموصل و ما جاورهما ، وإن كان لنبي حمدان في صد غارات الروم وجيوشهم ، فإن لهم من التشيع والتواطؤ مع القرامطة شيء عظيم . راجع البداية والنهاية (11/270) .
كما نجح العبيديون ينسبون زوراً و بهتاناً إلى فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في بسط سلطتهم على بلاد المغرب و مصر والشام ، و قد امتلأت البلاد رفضاً و سبأ للصحابة من بني بويه و بني حمدان و العبيديين ، و كل ملوك البلاد مصراً و عراقاً و و شاماً و خراسان وغير ذلك من البلاد كانوا رفضاً ، و كذلك الحجاز وغيره ، وغالب بلاد المغرب ، فكثر السب والتكفير منهم للصحابة . البداية والنهاية (11/247) .
و قد كان هؤلاء العبيديون أشر حالاً وأكثر وبالاً ، و قد حكم العلماء بكفرهم و فسوقهم و فجورهم وأنهم ملحدون ، زنادقة معطلون ، و للإسلام جاحدون ، قد عطلوا الحدود و أباحوا الفروج ، وأحلوا الخمر و سفكوا الدماء ، و سبّوا الأنبياء ولعنوا السلف وادعوا الربوبية . انظر : الوثيقة التي أصدرها العلماء في بغداد عام ( 402 هـ ) بشأن العبيديين ، في الكامل لابن الأثير (9/236) و البداية والنهاية (11/369) .
و قد استمرت هذه النبتة الرافضية الباطنية الخبيثة قريباً من ثلاثمائة سنة ، حتى زالت على يد الملك العادل الصالح السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ، و في عهد هذه الدولة الأسود استحوذ الفرنج على سواحل الشام وبلاد الشام كلها ، حتى بيت المقدس ، و لم يبق مع المسلمين سوى حلب و حمص وحماة و دمشق و بعض أعمالها ، و جميع السواحل مع الفرنج ، و النواقيس النصرانية والطقوس الإنجليزية تضرب في شواهق الحصون والقلاع . البداية والنهاية (11/256) و (13/219) .(49/4)
وقد استطاع الصليحيون أيضاً وهم من غلاة الشيعة أن يقيموا لهم دولة في اليمن استمرت قرابة القرن من الزمن ، حاولوا خلالها ضم الحجاز لهم وكانوا دعاة للعبيديين في مصر ، و كانوا أيضاً من غلاة الشيعة الذين يسعون إلى هدم العقيدة وتقويض شرائع الإسلام ، شأنهم في ذلك شأن القرامطة والعبيديين وغيرهم من طوائف الباطنية الأشرار .
والجدير بالذكر وهو مما يؤسف له حقاً ؛ أن هذه الدول أو أكثرها قام على أكتاف السنة ، ولو أن هؤلاء لم يساعدوا على قيامها ، أو لو أنهم قاوموها لانهارت بأقرب فرصة ، و لكن غفلة عوام السنة تجعلهم ألعوبة بيد أعدائهم ، يضربون بهم ، و يقيمون العروش على أكتافهم ، فقبائل كتامة لم تكن شيعية أو إسماعيلية قبل أن يتلاعب بهم أبو عبد الله الشيعي أحد المؤسسين للدولة العبيدية - ، وهم الذين أقاموا الدولة العبيدية ، والبيهيون حكموا بغداد عاصمة الخلافة ، و كان من العلماء والوزراء السنة من يعمل معهم و يساعدهم . انظر : أيعيد التاريخ نفسه ( ص 61 ) .
و في أثناء حكم هؤلاء الشيعة الروافض اشرأبت أعناق اليهود والنصارى وقويت شوكتهم وصاروا أكابر بعد أن كانوا صاغرين ، و وصل بعضهم إلى كراسي الوزارة ، وألحقوا بالمسلمين من المظالم ما الله به عليم و استطاع الصليبيون في عهدهم الأسود أن يستولوا على بيت المقدس دون أن يبذل واليها من قبل العبيديين أدنى مقاومة ، و لكن الله عز وجل أبطل مكر الشيعة وأوهن كيدهم ، و حل الخلل والضعف في دولهم و مكن لدينه وأظهره على دين الشيعة ومذهبهم ، و ذلك بظهور دولتين سنيتين قويتين ، و هم الغزنويون والسلاجقة .
فأما الغزنويون فقد أعادوا للجهاد قيمته و رفعوا رايته و وصلت فتوحاتهم إلى الهند وأحرقوا كتب العبيديين و رفضوا دعوتهم حين دعوهم وقتلوا داعيتهم ، و قتلوا من الباطنية خلقاً كثيراً . البداية والنهاية (12/30-32 ) .(49/5)
وأما السلاجقة فقد استطاعوا أن ينقضوا على البويهيين الرافضة في بغداد ، و يحرروا الخلافة العباسية من رقبتهم ، بعد أن وصل بهم الحال في آخر الأمر أن دعوا على المنابر لخليفة العبيديين ، وأرادوا أن يكون للشيعة كامل السلطان وعظيم الهيمنة على ديار الإسلام كلها ، و لكن الله فضحهم وسلبهم ملكهم و رد كيدهم في نحرهم ، وجعل تدميرهم في تدبيرهم ، بأن قيض الله لهذه الأمة من أظهر دينه وأعلى كلمته و هم السلاجقة الذين ردوا للخلافة اعتبارها و مكانتها ، وأبطلوا ما كان يفعله الروافض من السب للصحابة ومن البدع الشنيعة الأخرى ، و خرج التوقيع من ديوانهم بكفر من سب الصحابة وأظهر البدع . البداية والنهاية (12/86 ، 99 ) .
و نتيجة لغفلة المسلمين وتهاون خلفائهم ، تمكن الرافضي الخبيث ابن العلقمي من الوصول إلى وزارة الخلفية العباسي المستعصم بالله ، فكانت النتيجة لتلك الغفلة والثقة بأمثال ابن العلقمي من الروافض أن حل بالدولة الإسلامية والخلافة العباسية من الاجتياح الهمجي والاحتلال البربري من قبل هولاكو وجيشه من التتار المجرمين ، حيث قتل الخليفة و قتل من أهل بغداد ما يقدر في بعض الروايات بمليون و ثمانمائة ألف قتيل ، فيهم من العلماء والحفاظ والفقهاء والأمراء والأعيان الجم الغفير ، و كل ذلك كان بسبب ممالأة هذا الوزير الرافضي ومصانعته لهولاكو وقطعان التتار الهمج . البداية والنهاية (13/215) .(49/6)
و بعد ردح من الزمن تمكن الشيعة الصفويون من أن يقيموا لهم دولة قوية في فارس ، قامت بينها و بين الدولة العثمانية كثير من المصادمات العنيفة والحروب الضارية ، و قد عملت هذه الدولة الشيعية على نشر المذهب الشيعي في الأناضول ، و هي الموطن الأصلي للدولة العثمانية ، و لقي المذهب الشيعي استجابة واسعة بين رعايا الدولة و بخاصة في شرق الأناضول ، و لكن السلطان سليم الأول أحس بالخطر الشيعي القادم ، فجيش الجيوش و جند الأجناد واستطاع أن ينزل الهزيمة بالشاه إسماعيل ملك الصفويين ، و دخل عاصمتهم تبريز ، واستولى على كثير من الأقاليم التي كانت تحت يدهم ، و لكنه لم يقض عليهم تماماً بسبب انشغاله بالحروب والفتوحات في الشرق العربي الإسلامي . الدولة العثمانية دولة مفترى عليها (1/18-19 ) . ولا تزال طوائف الرافضة إلى يومنا هذا تسيطر على فارس وتعمل على نشر مذهبها في أنحاء العالم .
و هكذا كان هؤلاء الروافض الباطنية على تباين نحلهم واختلاف طوائفهم العدو الأكبر والخطر الأعظم على المسلمين ، وكانوا و مازاوا خنجراً مسموماً استعمله أعداء الإسلام من تتار و صليبيين و يهود من أجل هدم هذا الدين ، و قد رأيناهم حينما وصلوا إلى الحكم سرعان ما ألقوا بأقنعتهم المزيفة وكشفوا عن وجوههم الخبيثة ، وظهر ما كان مختفياً من الحقد والكراهية ضد المسلمين ، فاضطهدوهم و قتلوهم وعذبوهم ، و لولا أن الدين محفوظ من عند الله ، وأن الله يبعث له من يجدده و يظهره لاستطاع هؤلاء الأشرار القضاء على الإسلام ، وإبادة المسلمين نهائياً ، فالشيعة هي الفرقة الكبرى والشوكة المسمومة التي تولت كبر شق عصا المسلمين وتفريق كلمتهم ، وإضعاف أمرهم ، و كما قال شيخ الإسلام : فبهذا تبين أنهم شر من عامة أهل الأهواء و أحق بالقتال من الخوارج . مجموع الفتاوى (28/482) . بتصرف من كتاب : الانحرافات العقدية والعلمية (1/51-64) .(49/7)
و بعد هذا العرض السريع لأهم دول الشيعة و عن كيفية تكونها و الأحداث التي مرت بها الأمة الإسلامية في عهدهم ، منذ أن ظهرت فرقة السبئية إلى اليوم ، نصل من خلال ذلك إلى الحديث عن موضوع بحثنا وهو الحديث عن طائفة الزيدية .
يتكون البحث من مقدمة و خمسة مباحث وخاتمة :-
المقدمة : و هي عبارة عن تمهيد للموضوع ، أذكر فيه بشكل مختصر بداية ظهور التشيع وانتشاره في العالم الإسلامي ، ثم ذكر مباحث الموضع .
المبحث الأول : سيكون الحديث فيه عن تعريف التشيع و عن بدايته ومراحل تطوره ، مع ذكر أشهر الأسماء و الفرق التي عرف بها .
المبحث الثاني : ترجمة للإمام زيد بن علي رضي الله عنه ، مع الحديث عن سبب خروجه حتى مقتله و آرائه رضي الله عنه .
المبحث الثالث : التحقيق في صحة نسبة كتاب ( المجموع ) ، الموجود الآن عند الزيدية إلى زيد بن علي رضي الله عنه .
المبحث الرابع : الحديث عن طائفة الزيدية ، بداية ظهورها ، و مناطق نفوذها و انتشارها ، و الفرق التي تشعبت منها .
المبحث الخامس : الزيدية في التاريخ المعاصر ، موقفها من أهل السنة ، وموقف أهل السنة منها ، و الحكم عليها ..
الخاتمة : و فيها نتائج البحث .
و لا أعد هذا البحث في عداد البحوث ، ولا أذكره مصنفاً بين المصنفات ، فلم أرِدْ به وضعاً بين هذا ، أو ذلك ، و ما هو إلا ما تيسر من التقدير ، و تقدر من التيسير ، و حفظ لما نذكر ، و ذكر لما نحفظ ، و الله أسأل صدق النية و حسن القصد .
و بالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل .
المبحث الأول : تعريف التشيع و بداية ظهوره ومراحل تطوره مع ذكر أشهر الأسماء و الفرق التي عرف بها .
أولاً : تعريف التشيع :-(49/8)
التعريف اللغوي : الشيعة هي الفرقة من الناس ، كقوله تعالى{إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعاً لست منهم في شيء}[الأنعام/159] . أو فرقاً وأحزاباً كقوله تعالى{إن فرعون على في الأرض وجعل أهلا شيعاً}[القصص/4] ، و الشيعة أيضاً : قوم يرون رأي غيرهم ، و بمعنى الأتباع والأنصار ، و تشايع القوم : أي صاروا شيعاً ، والتشيع بمعنى : الأهواء المختلفة ، كقوله تعالى{أو يلبسكم شيعاً}[الأنعام/65] ، والتشيع بمعنى الإشاعة ، كقوله تعالى{إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} [النور/19] ، أي تفشوا الفاحشة . انظر : لسان الرب لابن منظور (8/189) و القاموس المحيط للفيروز آبادي (ص 949) و قاموس القرآن للدامغي (ص 271 ) .
قال الأزهري في تهذيب اللغة (3/61) : والشيعة أنصار الرجل وأتباعه ، و كل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة .
و قال الزبيدي في تاج العروس (5/405) : كل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ، و كل من عاون إنساناً وتحزب له فهو شيعة له ، وأصله من المشايعة و هي المطاوعة والمتابعة .
التعريف الاصطلاحي : اختلفت وجهات نظر العلماء في التعريف بحقيقة الشيعة ، ونوجز هنا أقولهم :-
قال ابن حزم : بأنهم من قال بأفضلية علي رضي الله عنه على سائر الصحابة رضوان الله عليهم ، وأحقيته بالإمامة ، و من ثَمّ ولده من بعده . الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/113) .
وقال ابن منظور : تطلق الشيعة في الأصل على من تولى علياً و بنيه و أقر بإمامتهم . و قال أيضاً : فالشيعة قوم يهوون هوى عترة النبي صلى الله عليه وسلم و يوالونهم .لسان العرب (8/189) .(49/9)
و قال الشهرستاني : و هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على الخصوص ، و قالوا بإمامته وخلافته نصاً و وصية إما جلياً وإما خفياً ، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده ، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره ، أو بتقية من عنده . الملل والنحل ، هامش الفصل في الملل والنحل لابن حزم (1/195) .
وقال الفيروز آبادي في القاموس المحيط (3/49) : و قد غلب هذا الاسم على كل من يتولى علياً وأهل بيته ، حتى صار اسماً لهم خاصة .
والتعريف الراجح والجامع إن شاء الله من كل ما تقدم هو : اسم لكل من فضل علياً على الخلفاء الراشدين قبله رضي الله عنهم ، ورأى أن أهل البيت أحق بالخلافة ، وأن خلافة غيرهم باطلة .
ثانياً : بداية التشيع :-
اختلف مؤرخو الفرق في تحديد بداية التشيع اختلافاً كثيراً بالنسبة لظهور الفرق الأخرى ، لأن عقائد الفرق وثيقة الاتصال بالأحداث التاريخية ، كعقيدة الخوارج ظهرت وقت التحكيم ، ولا يختلف فيه مؤرخ وباحث ، أما التشيع فقد كانت عدة حوادث تاريخية لها أثر بالغ في المذهب الشيعي .
فهناك أحداث تاريخية رُبط بينها و بين ظهور التشيع ، أما الشيعة فيرون أن التشيع بدأ من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد ذكر هذا الرأي كل من : محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه أصل الشيعة وأصولها (ص 118) ، و محمد حسين الزين في كتابه الشيعة في التاريخ ( ص 29-31 ) ، و هو ما ذكره النوبختي أيضاً في فرقه (ص 39) و هو ما أكده الخميني في عصرنا الحاضر في كتابه الحكومة الإسلامية (ص 136) ، بل ذهب حسن الشيرازي إلى القول : بأن الإسلام ليس سوى التشيع والتشيع ليس سوى الإسلام ، والإسلام والتشيع اسمان مترادفان لحقيقة واحدة أنزلها الله ، و بشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم . انظر : الشعائر الحسينية (ص 11 ) .(49/10)
و قولهم هذا ما هو إلا محاولة منهم لفك ارتباط عقيدتهم بأصول يهودية و فارسية . راجع : دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين لأحمد الجلي (ص 153) ، و فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام لغالب بن علي عواجي (1/172) .
و يرى آخرون أنه ظهر في آخر أيام عثمان رضي الله عنه و قوي في عهد علي . انظر : رسالة في الرد على الرافضة (ص 42) .
في حين يرى بعضهم أنه ظهر في معركة الجمل حين تواجه علي و طلحة والزبير ، و قد تزعم هذا القول ابن النديم حيث ادعى أن الذين ساروا مع علي واتبعوه سموا شيعة من ذلك الوقت . الفهرست (ص 249) .
و يرى آخرون أنه ظهر يوم معركة صفين ، و هو قول لبعض علماء الشيعة كأبو حمزة وأبو حاتم . انظر : الشيعة والتشيع ( ص 25) .
ويرى آخرون أنه بعد مقتل الحسين رضي الله عنه ، و هو قول كامل مصطفى الشيبي و هو شيعي ؛ حيث زعم أن التشيع بعد مقتل الحسين أصبح له طابع خاص . الصلة بين التصوف والتشيع ( ص 23) .
والذي يترجح أن التشيع قد ظهر في زمن عثمان رضي الله عنه ، لكنه لم يتخذ صورة عامة أو حزباً مستقلاً إلا بعد موقعة صفين وانقسام جيش علي رضي الله عنه إلى أتباع وخارجين ، بمعنى أن التشيع كحزب ظهر في صفين ، حين انشقت الخوارج وتحزبوا في النهروان ، فظهر في مقابلهم أتباع وأنصار علي . راجع : مقدمة رسالة في الرد على الرافضة للمقدسي (ص 41-42) .
و لما كانت كلمة الرفض مرادفة للتشيع في بعض الأحيان ، فلابد من أن أذكر بداية ظهور كلمة الرفض .
ومعنى الرافضة :-
الرفض في اللغة : يأتي بمعنى الترك ، يقال رفض يرفض رفضاً ، أي ترك ، وعرفهم أهل اللغة بقولهم : والروافض كل جند تركوا قائدهم . الصحاح للجوهري (3/1078) و القاموس المحيط (ص 344) ، و هذا هو معنى الرفض في اللغة .(49/11)
وأما تعريف الرفض في الاصطلاح : فإنه يطلق على تلك الطائفة ذات الأفكار والآراء الاعتقادية ، و الذين رفضوا خلافة الشيخين وأكثر الصحابة ، و زعموا أن الخلافة في علي و ذريته من بعده بنص من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن خلافة غيرهم باطلة .
سبب تسميتهم بالرافضة :-
أطلقت هذه التسمية على الرافضة لأسباب كثيرة :
1 - قيل : إنهم سموا رافضة لرفضهم إمامة زيد بن علي ، و تفرقهم عنه . البداية والنهاية (9/330) ، كما سيأتي .
2 - و قيل : سموا رافضة لرفضهم أكثر الصحابة ، و رفضهم لإمامة الشيخين . مقالات الأشعري (1/89) .
3 - و قيل : لرفضهم الدين . نفس المصدر .
و لعل الراجح هو الثاني ، ولا منافاة بينه و بين الأول ، لأنهم كانوا رافضة يرفضون الشيخين و قد رفضوا زيداً كذلك إذ لم يرض مذهبهم كما سيأتي
اتفق جمهور المحققين والباحثين أن إطلاق هذه التسمية يعود تاريخها إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، حينما خرج على هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم (ت 125 هـ ) الخليفة الأموي في سنة (121 هـ ) . انظر : منهاج السنة لابن تيمية (1/34-35 ) ، و رسالة في الرد على الرافضة (ص 66 ) .
لكن لا يعني هذا أنهم لم يكونوا موجودين قبل هذه الحادثة ، والذي يدل على أنهم وجدوا قبل انفصالهم عن زيد بن علي هو طلبهم الذي طلبوه من زيد بإعلان البراءة من الشيخين ، وأن يوافقهم على أهوائهم ، لكن زيداً خيّب آمالهم ، فانفضوا عنه .. و سبب ذلك يعود إلى تشبعهم بأفكار اليهودي الخبيث عبد الله بن سبأ ، وانحرافهم التام عن التشيع لأهل البيت الذي كان عبارة عن الحب والمناصرة .
ثالثاً : مراحل تطوره :-(49/12)
و بمعرفتنا لبداية التشيع والرفض لابد أن نعلم أنه لم يكن المتشيعون بنفس الدرجة في كل عصر ، وبالتالي يختلفون في مدى الغلو ، بمعنى أن تشيعهم لا يتجاوز تقديمهم علياً على عثمان رضي الله عنهما ، أما خلافة الشيخين رضي الله عنهما فإنهما مفضلين على غيرهما ، و هذا كان أول عهد التشيع ، فقد قيل لشريك بن عبد الله القاضي من أهل الكوفة ولي القضاء بها ، وكان عدلاً فاضلاً عابداً شديداً على أهل البدع ( ت 177 أو 178 ) التقريب لابن حجر (ترجمة 2787) : أنت من شيعة علي وأنت تفضل أبا بكر وعمر ، فقال : كل شيعة علي على هذا ، هو يقول أي علي رضي الله عنه على أعواد هذا المنبر : خير الأمة بعد نبيها أبو بكر ، ثم عمر ، أفكنا نكذبه و الله ما كان كذاباً . راجع : منهاج السنة (1/13) .
لذلك كان يكثر هذا في التابعين وتابعيهم من الدين والورع والصدق ، و لو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية ، و هذه مفسدة بينة ، أما الغالي في زمانهم فكان هو من تكلم في عثمان والزبير و طلحة ومعاوية و طائفة ممن حارب علياً رضي الله عنهم أجمعين ، وتعرض لسبهم . راجع : ميزان الاعتدال للذهبي (1/6) .
و لكن هذا الذي كان غال في زمانهم هو أمر هين في زمان من بعدهم ، فهناك غلو أعظم منه يتمثل في تقديم علي على الشيخين رضي الله عنهما ، ومع ذلك فإنهم يعتبرون خلافتهما ، و هؤلاء هم أتابع زيد بن علي كما سيأتي - إذا لم يتجاوزوا هذا القول .
ثم جاء غلو أعظم و بدعة أكبر و هو المتمثل في الرفض الكامل ، و هم الذين يحطون من قدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، والدعاء إلى ذلك ، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة . ميزان الاعتدال للذهبي (1/6)(49/13)
حيث بدأ التشيع بعد ذلك يأخذ جانب التطرف والخروج عن الحق ، وبدأ الرفض يظهر وبدأت أفكار ابن سبأ تؤتي ثمارها الشريرة ، فأخذ هؤلاء يظهرون الشر ، فيسبون الصحابة و يكفرونهم و يتبرؤون منهم ، و لم يستثنوا منهم إلا القليل كسلمان الفارسي وأبي ذر و المقداد وعمار بن ياسر و حذيفة ، و حكموا على كل من حضر ( غدير خم ) بالكفر والردة ؛ لعدم وفائهم بزعمهم ببيعة علي و تنفيذ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي في ذلك الحدث .
وأخيراً بلغ التشيع عند الغلاة إلى الخروج عن الإسلام ، حيث نادى هؤلاء بألوهية علي ، و قد تزعم هذه الطبقة ابن سبأ ، و وجد له آذاناً صاغية عند كثير من الجهال و من الحاقدين على الإسلام .
رابعاً : أشهر الأسماء التي عرف بها :-
1 - الشيعة : وهو أشهر اسم من أسمائهم ، و يشمل جميع فرقهم ، ولا خلاف بين العلماء في إطلاقه عليهم كاسم علم .
2 - الرافضة : و قد أطلقه عليهم بعض العلماء فجعله اسماً لجميع الشيعة .
3 - الزيدية : و هي تسمية لبعض الناس من أتباع زيد بن علي ، يطلقونها على جميع الشيعة . انظر : الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة (ص 146) .
و كل هذه الأسماء الثلاثة وردت من خلال كتابات بعض العلماء عن طائفة الشيعة ، واختيار كل منهم للاسم الذي يطلقه عليهم لا أن هذه التسميات بالاتفاق أو بهذا الترتيب .
والواقع أن إطلاق اسم الرافضة على عموم الشيعة بمن فيهم بعض فرقهم كالزيدية التي نشأت في نهاية القرن الأول للهجرة غير سديد ، لأن التسمية رافضة إنما أخذت من قول زيد بن علي لبعض الشيعة : رفضتموني ، فسموا رافضة ، و ليس معنى هذا أنهم لم يكونوا على عقيدة الرفض بل هم رافضة ، و لهذا طلبوا من زيد أن يكون رافضياً مثلهم فامتنع . لكن لم تجر هذه التسمية عليهم قبل ذلك ، ومعنى هذا أن الشيعة كان لهم وجود قبل زيد تحت أسماء أخرى كما سيأتي بيانه .(49/14)
و كذا إطلاق اسم الزيدية على جميع فرق الشيعة يرد عليه اعتراض ، فقد كانت الشيعة لهم وجود قبل زيد الذي تنسب إليه الزيدية متمثلاً في فرق السبئية والكيسانية ، ثم إن الزيدية لا تقول بكل مقالات الشيعة الغلاة ، بل بينهما خلافات حادة في كثير من الآراء ، وهو واضح من موقف زيد نفسه ، فلم يرفض زيد خلافة الشيخين ولم يسبهما .
و يتضح من هذا أن إطلاق اسم الشيعة على كل طوائف التشيع لا يرد عليه اعتراض إذا أريد به اسم علم ، بغض النظر عن صدق هذا الاسم عليهم أو عدم صدقه ، فقد يكون الاسم من المسلمين و صاحبه من الملحدين ، و قد يكون العكس ، فلا تأثير للأسماء في الحقيقة والواقع و هذا ينطبق على الزيدية في الوقت الحاضر كما سيأتي - . راجع : فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام (1/178-179) .
خامساً : أشهر فرق الشيعة :-
انقسمت الشيعة إلى فرق عديدة ، أوصلها بعض العلماء إلى ما يقارب سبعين فرقة . راجع مختصر التحفة الاثنى عشرية .
و بدارسة تلك الفرق يتضح أن منهم الغلاة الذين خرجوا عن الإسلام و هم يدّعون التشيع ، ومنهم دون ذلك ، و يمكن أن نقتصر على ذكر أشهر فرق الشيعة والتي كان لها دور بارز في العالم الإسلام وهي :
1 - السبئية . 2 - الكيسانية . 3 المختارية . 4 - الرافضة . 5 - الزيدية .
و سأعرف بهذه الفرق بصورة سريعة حتى نصل إلى موضوع البحث وهو الحديث عن فرقة الزيدية .(49/15)
1 السبئية : وهم أبتاع عبدالله بن سبأ اليهودي ، و هو أول من أسس التشيع على الغلو في أهل البيت ، و قد بدأ ينشر آراءه متظاهراً بالغيرة على الإسلام و مطالباً بإسقاط الخليفة إثر إسلامه المزعوم ، ثم دعا إلى التشيع لأهل البيت وإلى إثبات الوصية لعلي إذ أنه كما يزعم ما من نبي إلا وله وصي ، ثم زعم بعد ذلك أن علياً خير الأوصياء بحكم أنه وصي خير الأنبياء ، ثم دعا إلى القول بالرجعة ، ثم إلى القول بألوهية علي ، وأنه لم يقتل بل صعد إلى السماء ، إلى غير ذلك من أباطيله الكثيرة ، و رغم تفاهة هذه الدعاوى إلا أنها وجدت مؤيدين ومناصرين .
2 - الكيسانية : بدأ ظهور هذه الفرقة بعد مقتل علي رضي الله عنه وعرفوا بهذه التسمية واشتهروا بموالاتهم لمحمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية ، و ظهر تكونهم بعد تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنهما . مقالات القمي (ص 26 ) .
و قالوا بأن من خالف ابن الحنفية فهو مشرك كافر ، و قد اختلف في كيسان زعيم الكيسانية ، فقيل : إن كيسان رجل كان مولى لعلي بن أبي طالب ، و قيل : بل كان تلميذاً لمحمد بن الحنفية ، و قيل : بل هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب ، وقد كان يلقب بكيسان . وهذا غير صحيح ؛ لأن قيام الكيسانية كان قبل ظهور أمر المختار . راجع : الملل والنحل للشهرستاني (1/147) و مقالات القمي (ص 21) .
3 - المختارية : تنسب إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب ، و الواقع أن هذه الفرقة كانت في الأصل جزء من فرقة الكيسانية ، و حينما جاء المختار انضم إليه هؤلاء و كونوا بعد ذلك فرقة المختارية .
4 - الرافضة : و هم الذين رفضوا زيد بن علي وتفرقوا عنه ، و رفضوا أيضاً أكثر الصحابة وإمامة الشيخين . راجع : مقالات الأشعري (1/89) .
وهم الواجهة البارزة في عصرنا الحاضر للتشيع ، و قد تعددت فرق الروافض منها :-(49/16)
1 - المحمدية : وخلاصة أمر هذه الطائفة أنهم يعتقدون أن الإمام والمهدي المنتظر هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي المعروف بالنفس الزكية . انظر أخبار هذه الفرقة في الفرق بين الفرق (ص 240-242) .
2 - الاثنا عشرية : وهم القائمون اليوم في أكثر بقاع الأرض ، و سبب تسميتهم بهذا الاسم هو اعتقادهم بإمامة اثني عشر رجلاً من آل البيت ثبتت إمامتهم حسب زعمهم بنص النبي صلى الله عليه وسلم .
5 - الزيدية : و هم موضوع البحث و سيأتي الحديث عنهم بشيء من التفصيل .
المبحث الثاني : ترجمة زيد بن علي ، و سبب خروجه ومقتله رضي الله عنه و آرائه ..
تمهيد :-
بعد قتل الحسين بن علي رضي الله عنه ، ظهرت معظم الفرق التي تزعم التشيع ، بل وأخذت دعوى التشيع تتصاعد في الغلو ، و في أيام علي بن الحسين بن علي الملقب بزين العابدين ، طمع الشيعة في استجلابه إليهم ، غير أنه كان على ولاء تام و وفاء كامل لحكام بني أمية متجنباً لمن نازعهم ، بل إن يزيد بن معاوية و هو الخليفة كان يكرمه و يجلسه معه . راجع التشيع والشيعة (ص 204) .
و قد أنجب علي بن الحسين عدداً من الأولاد منهم :-
زيد بن علي بن الحسين ، و محمد بن علي بن الحسين المكنى بأبي جعفر الباقر ، و عمر بن علي بن الحسين وتسمية علي بن الحسين ابنه باسم عمر إفحام لكذب الشيعة فيما يدعون من كراهية علي لأبي بكر و لعمر ؛ حيث إنهم يجنبون أولادهم التسمية باسم خيار الصحابة - .
و قد اختلف الشيعة في أمر زيد بن علي و محمد بن علي أيهما أولى بالإمامة بعد أبيهما ؟(49/17)
فذهبت طائفة إلى أن الإمامة لزيد فسموا زيدية ، و هؤلاء يرتبون الأئمة ابتداءً بعلي بن أبي طالب ، ثم ابنه الحسن ثم الحسين ، ثم هي شورى بعد ذلك بين أولادهما كما ترى الجارودية ، وهي فرقة من غلاة الزيدية ، راجع المقالات والفرق (ص 18) ، ثم ابنه علي بن الحسين زين العابدين ، ثم ابنه زيد وهو صاحب هذا المذهب ثم ابنه يحيى بن زيد ، ثم ابنه عيسى بن زيد كما ترى الحصينية منهم ، كما قال القمي في المقالات والفرق (ص 74) - ، و بعد ذلك يشترطون في الإمام أن يخرج بسيفه سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين ، و ذهبت طائفة أخرى إلى أن الإمامة لمحمد بن علي بن الحسين المكنى بأبي جعفر الباقر ، انظر التشيع والشيعة (ص 204) .
أولاً : ترجمة زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه :-
هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، ولد سنة ( 80 هـ ) تقريباً ، و توفي سنة (122 هـ ) ، أمه أم ولد ، كانت أمة أهداها المختار إلى علي زين العابدين ، فأنجبت له زيداً .
كان زيد كما تذكر كتب التراجم : شخصية فذة ، صاحب علم و فقه وتقوى ، اتصل بواصل بن عطاء وأخذ عنه ، واتصل بأبي حنيفة وأخذ عنه ، وكان أبو حنيفة يميل إلى زيد ويتعصب له .
وبعض العلماء كالشهرستاني يصرح بتلمذة زيد لواصل بن عطاء ولأبي حنيفة ، لكن الأستاذ أبو زهرة يرى أنها ليست تلمذة بمعنى الكلمة ، وإنما كان اتصاله بزيد على سبيل المذاكرة لتساويهما في العمر ؛ إذ إن واصل بن عطاء و زيد بن علي ولدا في سنة ( 80 هـ ) ؛ و لكن هذا لا يمنع أن يتتلمذ و يتأثر زيد بواصل بن عطاء ، وأن يتتلمذ كذلك على أبي حنيفة ، فإن تأثر زيد بهما وتأثر الزيدية بعد ذلك بالمعتزلة والحنفية ظاهر على سبيل التلمذة لا المذاكرة التي يذهب إليها أبو زهرة ، و لهذا قيل : ( الزيدية معتزلة في الأصول ، حنفية في الفروع ) . راجع : فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام (1/199) .(49/18)
روى عن أبيه زين العابدين وأخيه الباقر وعروة بن الزبير و أبان بن عثمان بن عفان ، وعنه ابن أخيه جعفر بن محمد وشعبة و الأعمش و سعيد بن خثيم وابن أبي الزناد ، وغيرهم . راجع ترجمته في كل من الكتب التالية : سير أعلام النبلاء للذهبي (5/389-391) و تهذيب الكمال للمزي (10/95-98) و طبقات ابن سعد (5/325) و طبقات خليفة (ص 258) والتاريخ الكبير للبخاري (3/403) و شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (1/158-159) و في غيرها من كتب التاريخ كأنساب الأشراف للبلاذري و المنتظم لابن الجوزي ومرآة الزمان لسبط ابن الجوزي ونحوها من الكتب المستوعبة لتراجم الرجال .
ثانياً : سبب خروجه و مقتله رضي الله عنه :-
خرج زيد على الخليفة الأموي وأشهر السلاح في وجهه ، فما هو الدافع لزيد بن علي لهذا الخروج ؟(49/19)
حسب ما تذكر كتب المصادر : أن زيداً خرج على بني أمية منكراً للظلم والجور ، وبعضها يذكر أنه لم يكن يريد الخروج ، ولا طلب الخلافة ، و لكن حدث في تصرف هشام بن عبد الملك وعماله إهانات وإساءة لزيد لم يطق أن يعيش معها مسالماً لهشام بن عبد الملك ، و ذلك أن زيداً أحس أن والي المدينة من قبل هشام وهو خالد بن عبد الملك بن الحارث ، و والي هشام على العراق يوسف بن عمر الثقفي يتعمدان الإساءة له ، و ربما تصور أن ذلك بإيعاز من الخليفة نفسه ، فقرر أن يذهب للشام و يشرح أمره لهشام ليزيل ما فيه نفسه من تخوف أن يثور عليه زيد ، لكن حدث ما لم يكن في حسبانه ، فقد قابله الخليفة مقابلة غير لائقة به ، حاصلها : أن زيد وقف بباب هشام فلم يؤذن له بالدخول مدة ، فكتب له كتاباً يشرح أمره و يطلب الإذن فكتب هشام في أسفل الكتاب : ارجع إلى أميرك بالمدينة ، فعزم زيد على مقابلته وقال : والله لا أرجع إلى خالد أبداً ، و دار بينهما نقاش كان في نهايته أن خرج زيد متوجهاً إلى الكوفة . فجاءه أهلها و عاهدوه على نصرته ، ثم نكسوا على أعقابهم حين تراءى الجمعان ، جيش الخلافة و هؤلاء الأوباش ، و في هذا الموقف الحرج قام هؤلاء و سألوه ليأخذوا حجة في الهرب و لرداءة معتقدهم قالوا : له : إنا لننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر و عمر اللذين ظلما جدك علي بن أبي طالب ، فقال زيد دون نفاق - : إني لا أقول فيهما إلا خيراً ، و ما سمعت أبي يقول فيهما إلا خيراً ، و قد كانا وزيري جدي ، فلما سمعوا هذا الجواب تفرقوا عنه و رفضوه ، فقال لهم : رفضتموني ؟ - فسموا رافضة و بقي في شرذمة قليلة سرعان ما قضي عليهم ، و قتل زيد . انظر : الكامل لابن الأثير (5/229-235 و 242-247) و البداية والنهاية لابن كثير (9/329-330) و مروج الذهب للمسعودي (3/217-220) و مقاتل الطالبين للأصفهاني ( ص 86-102) . و يجب أن تدرك المبالغات التي ذكرها المسعودي(49/20)
والأصفهاني بناء على تشيعهما .
ثالثاً : آراء زيد بن علي رضي الله عنه :-
للشيعة عموماً آراء متضاربة متناقضة وأفكار تأثرت بجهات شتى من وثنية و مجوسية و يهودية و نصرانية إلا القليل منهم .
أما بالنسبة لزيد فإن آراءه كما ذكر علماء الفرق والمؤرخون نوجزها فيما يلي :
1 في السياسة : يرى زيد جواز ولاية المفضول ، أي إن الإمامة عنده ليست وراثة ، فإذا اقتضت المصلحة تقديم المفضول فلا بأس بذلك ، و كان مع تفضيله لعلي على أبي بكر يرى أن خلافة الشيخين خلافة صحيحة ، حيث يقول : ( كان علي بن أبي طالب أفضل الصحابة إلا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها ، وقاعدة دينية راعوها ، من تسكين ثائرة الفتنة ، و تطييب قلوب العامة ، فإن عهد الحرب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً ، و سيف أمير المؤمنين من دماء المشركين من قريش لم يجف بعد ، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي ، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد ، و كانت المصلحة أن يكون القيام بهذا الشان لمن عرفوا باللين والتودد والتقدم بالسن والسبق في الإسلام ، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ) . راجع كلامه في هذا الشأن في الملل والنحل للشهرستاني (1/155) .
و في كلامه هذا بعض الأمور التي فيها نظر ، فإن الصحابة ما كانوا ليحقدوا عليه أي على علي رضي الله عنه - قتل أقربائهم من المشركين ، وأما الشدة فإن عمر كان أشهر منه فيها ، و قد ولاه الصحابة أمرهم .(49/21)
2 - القول بعدم عصمة الأئمة أو وصايتهم من النبي صلى الله عليه وسلم ، كما تقول الإمامية و بعض فرق الزيدية ، فإن زعمهم عصمة الأئمة أو وصايتهم كان أساسه الاعتقاد الخاطئ أن تولي الأئمة كان من النبي صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتصرف إلى بوحي ، و من غير المعقول أن يختار الله و رسوله الأئمة ثم يجري عليهم الخطأ في أحكامهم و هم المرجع للدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
و لكن زيداً لم يلتفت إلى هذا القول الخاطئ والاعتقاد الباطل فيما قيل عنه . انظر : الإمام زيد لأبو زهرة (ص 191) ، و لكن الزيدية في عصرنا الحاضر يقولون بعصمتهم ، انظر : نصيحة الإخوان (ص 4) .
3 - لم يقل بالمهدي المنتظر ولا بالغائب المكتوم ، في حين زعمت الجارودية من الزيدية أن محمد بن عبد الله بن الحسن لم يمت ، وأنه يخرج و يغلب ، و فرقة أخرى زعمت أن محمد بن القاسم حي لم يمت ، وأنه يخرج و يغلب ، و فرقة قالت مثل ذلك في يحيى بن محمد صاحب الكوفة . انظر : مقالات الإسلاميين للأشعري (1/141) .
4 - حكم في مرتكب الكبيرة بأنه في منزلة بين المنزلتين تبعاً لرأي المعتزلة ، و قيل : إنه خالفهم في تخليده في النار ، و قال : لا يخلد في النار إلا غير المسلم . الإمام زيد لأبو زهرة (ص 204) .
و لكن الشعري في المقالات (1/149) ينقل عن فرق الزيدية القول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار ، كما تقول الخوارج والمعتزلة ، وأنهم مجمعون على ذلك .
5 - قال بالإيمان بالقضاء والقدر من الله تعالى ، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة ، و له قدرة واختيار بتمكين الله له ، و بها يحاسب فيثاب أو يعاقب كما يذكره عنه أبو زهرة في كتابه الإمام زيد (ص 208) . رغم أن الزيدية معتزلة في الأصول بسبب تلمذة زيد على واصل بن عطاء زعيم المعتزلة .(49/22)
6 - لم يقل بالبداء على الله ، و هو القول بحدوث حوادث جديدة متغيرة في علم الله على حسب ما يحدث - ، و هذا القول تزعمته الكيسانية وكثير من الروافض ، واعتقاده كفر ، و مذهب زيد أن علم الله تعالى أزلي قديم ، وأن كل شيء بتقديره سبحانه ، وأن من النقص في علم الله أن يغير إرادته لتغير علمه ، ولم يتأثر بعقائد الإمامية في هذا . الإمام زيد (ص 211) و مواقف الرافضة منه في مقالات الإسلاميين (1/113) .
7 - لم يقل بالرجعة المزعومة عند الشيعة ، و هي بدعة غريبة ، و هي أن كثير من العصاة سيرجعون إلى الدنيا و يجازون فيها قبل يوم القيامة ، و ينتصف أهل البيت ممن ظلموهم ، كما أنه يرجع أقوام آخرون لا عقاب عليهم لينظروا ما يحل بمن ظلم أهل البيت . مقالات الأشعري (1/144- 145) .
لكن هل استمر الزيدية على هذه المبادئ التي قيلت عن زيد ؟
الجواب : قطعاً لا ، فقد جاءت طوائف حرفت مذهب زيد ، و رفضوا خلافة الشيخين ، كما هو مذهب الجارودية و السليمانية ، و البترية أو الصالحية ، و النعيمية ، و اليعقوبية سيأتي الحديث عن هذه الفرق و معتقداتها - ، كما وأنهم قالوا بالرجعة ، وعصمة الأئمة وغير ذلك من الأقوال .
توقفنا في الحلقة الماضية عند الحديث عن زيد بن علي و عن أسباب خروجه و عن أهم آرائه ، واليوم إن شاء الله سوف يكون الحديث حول تحقيق نسبة بعض الكتب إلى زيد بن علي رحمه الله ..
المبحث الثالث : التحقيق في نسبة كتاب ( المجموع ) لزيد بن علي رضي الله عنه ..
طبع هذا المسند والذي يعرف أيضاً بالمجموع الفقهي مرتين في ميلانو بإيطاليا سنة (1919 م ) باعتناء غريفيني ، و صور بالأوفست مرات في بيروت و غيرها ، و طبع في مصر سنة (1340 هـ ) في ( 399 ) صفحة ، و كتب على غلافه : ( و هو ما رواه عن أبيه عن جده ، و يسمى بالمجموع الفقهي ، لذكره بعض المسائل الفقهية ، نفع الله به آمين ، جمعه عبد العزيز بن إسحاق البغدادي رحمه الله ) .(49/23)
و قام على طبعه عبد الواسع بن يحيى الواسعي، و قدم له مقدمة تعوزها الدقة ، و فيها أشياء باطلة ، و قرظ له بعض علماء الأزهر ، و هم : محمد بخيت المطيعي ، و عبد القادر بن أحمد بدران الدمشقي ، و عبد المعطي السقا ، و وضع طابعه في المقدمة سؤال و جوابه في الزيدية لبكر بن محمد عاشور الصدفي مفتي الديار المصرية آنذاك - ، و الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر آنذاك - .
و قد لام هؤلاء الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى ؛ فقال بصدد كلامه على هذا الكتاب : و مما يؤسف له أن يقرظه بعض أفاضل العلماء من شيوخنا علماء الأزهر ، غير متحرين معرفة ما فيه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا ناظرين إلى عاقبة وثوق العامة ممن لا يعرف الصحيح من السقيم بوجود توقيعاتهم على مدائح لهذه الأكاذيب ، و لله الأمر من قبل و من بعد . التعليق على المحلي (2/75) .
وتكلم هذا الكلام بصد تعليقه على قول ابن حزم : فإن قيل : فإنه قد روي من طريق زيد عن أبيه عن جده عن علي ؛ قلت : يا رسول الله ! أمسح على الجبائر ؟ قال : نعم ، امسح عليها . انظر نحوه في مطبوع مسند زيد ( ص 74-75) . قلنا أي الشيخ أحمد شاكر - : هذا خبر لا تحل روايته ؛ إلا على بيان سقوطه لأنه انفرد به أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي ، و هو مذكور بالكذب . أ هـ . المحلي (2/75) .
قال الشيخ أحمد شاكر معلقاً على كلام ابن حزم و قبل ما ذكرناه عنه آنفاً : أبو خالد هذا وضاع ، قال وكيع : كان في جوارنا يضع الحديث ، فلما فطن له ؛ تحول إلى واسط . و قال أحمد : يروي عن زيد عن آبائه أحاديث موضوعة ؛ يكذب . وقال ابن معين : كذاب غير ثقة ولا مأمون ، وأحاديثه التي يرويها هي التي عرفت باسم مسند زيد ، أو المجموع الفقهي . التعليق على الحلى (2/75) .(49/24)
فالعجب من قول ناشر هذا الكتاب (ص 1 ) عن هذا الكذاب : إن الأئمة من أهل البيت متفقون على الاحتجاج به والرواية عنه والاعتراف بفضله !! والأعجب منه أن السيد يحيى بن الحسين بن المؤيد بالله جمع رسالة في توثيق أبي خالد هذا ، كما قال الشوكاني في ترجمته في البدر الطالع (2/330) .
و لست هنا بصدد تفصيل كلام جهابذة الجرح والتعديل على أبي خالد هذا ، وإنما همي هنا الإشارة إلى أن هذا الكتاب مكذوب على الإمام زيد رحمه الله ، و لذا ؛ قال أحمد شاكر أيضاً في تقديمه لعمل محمد فؤاد عبد الباقي في القيام بمراجعة ترجمة مفتاح كنوز السنة ( ص : ع ) في معرض حديثه عن الأصول التي فهرسها د . أ . ي . فنسنك ما نصه : ( .. والكتاب الرابع عشر : المسند المنسوب لإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، المتوفى شهيداً سنة (122 هـ ) ، و هذا الكتاب عمدة في الفقه عند علماء الزيدية من الشيعة ، لو صحت نسبته إلى الإمام زيد عليه السلام ؛ لكان أقدم كتاب موجود من كتب الأئمة المتقدمين ؛ إلا أن الراوي له عن زيد رجل لا يوثق بشيء من روايته عند أئمة الحديث ، و هو أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي ، رماه العلماء بالكذب في الرواية ، قال الإمام أحمد بن حنبل في شأنه : كذاب يروي عن زيد بن علي عن آبائه أحاديث موضوعة ) . أ هـ .
ولا يفوتني في الختام أن أنبه على ما يلي :
أولاً : جامع هذا المسند كما على غلافه عبد العزيز بن إسحاق البغدادي ، قال عنه الناشر ( ص 13) : ( كان ثقة عالماً فاضلاً ، عارفاً بالفقه ) ، و قبل ذلك : ( و روى عنه .. ومحمد بن أبي الفوارس ) .(49/25)
قلت : أسند الخطيب في تاريخه (10/458-459) عن أبن أبي الفوارس هذا قوله في جامع هذا المسند ما نصه : ( كان البقال هذا أحد المتكلمين من الشيعة ، و له كتب مصنفه على مذهب الزيدية ، يجمع حديثاً كثيراً ) ، قال : ( و كان له مذهب خبيث ، و لم يكن في الرواية بذاك ،سمعت منه أجزاء فيها أحاديث رديّة ، و لذا ترجمه الذهبي في الميزان (2/623) و تاريخ الإسلام ( وفيات 351-380) ، وابن حجر في اللسان (4/25) و ترجمته مظلمة في هذه الكتب و غيرها .
ثانياً : الراوي لهذا المسند عن أبي خالد الواسطي الكذاب ، هو إبراهيم بن الزِّبرقان ، قال عنه ناشر هذا المسند ( ص 13) : ( وثقه ابن معين ، و روى عنه الحافظ أبو نعيم ) .
قلت : ولم يسلم من غمز .. قال عنه أبو حاتم في الجرح والتعديل (1/100) : ( يكتب حديثه ولا يحتج به ) .
ثالثاً : أما الراوي عن ابن الزبرقان ؛ فهو نصر بن مزاحم ، و هو رافضي جلد ، واتهمه أبو خيثمة بالكذب ، و رماه جميع من الجهابذة كما تراه في ترجمته في الميزان (4/253) و غيره .
رابعاً : ذكر الشوكاني في البدر الطالع (2/330) في ترجمة السيد يحيى بن الحسين بن الإمام المؤيد بالله محمد بن الإمام القاسم بن محمد الشهاري الزيدي ، أنه قد تصرف في هذا الكتاب ؛ فقال : ( و رأيت بخط السيد يحيى بن الحسين و هو ابن الإمام القاسم بن محمد أن صاحب الترجمة تواطأ هو وتلامذته على حذف أبواب من مجموع زيد بن علي ، و هو ما فيه ذكر الرفع والضم والتأمين و نحو ذلك ، ثم جعلوا نسخاً و بثوها في الناس ، و هذا أمر عظيم وجناية كبيرة ، و في ذلك دلالة على مزيد الجهل و فرط التعصب ، و هذه النسخ التي بثوها في الناس موجودة الآن ؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله ) . أ هـ .(49/26)
خامساً : قد سلك الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه الإمام زيد ( ص 233-275) مسلكاً غريباً في إثبات نسبة هذا الكتاب لإمام زيد ضارباً أقوال أئمة الجرح والتعديل عرض الحائط ، مع أن فيه نقولاً في عدم صحة هذا الكتاب عن علماء لم نذكرهم ، فاقتضى التنبيه والتنويه ، و الله الموفق .
و الخلاصة .. هذا الكتاب مكذوب و منحول على الإمام زيد والإسناد إليه مظلم ، و رجاله غير ثقاة ابتداءً من جامعه إلى الراوي له عنه . راجع : كتب حذر منها العلماء مشهر حسن سلمان (2/271-275) ، حيث أجاد في نقد هذا الكتاب وأفاد . وانظر أيضاً كتاب : المخرج من الفتنة للشخ مقبل بن هادي الوادعي ( ص 76) .
و إتماماً للفائدة أعرج على ذكر بعض الكتب والرسائل التي نسبت إلى زيد بن علي رضي الله عنه ، فمن هذه الكتب :-
كتاب : ( الوصية ) و في سنده من لا يعرف إلا الحافظ أحمد بن محمد بن سيعد بن عقدة ، و هو ضعيف .
كتاب : ( النير الجلي في قراءة زيد بن علي ) و هو كتاب في القراءة ، ألفه أبو حيان التوحيدي ، وأبو حيان هذا من زنادقة القرن الرابع ، واسمه علي بن محمد بن العباس البغدادي ، له ترجمة في سير أعلام النبلاء (17/119) ، قال عنه الذهبي : ( إنه ضال ملحد ، و ذكر عن بعضهم أنه كان كذاباً قدح في الشريعة وقال بالتعطيل ) ، و ذكر الذهبي عن أبي الفرج بن الجوزي أنه قال : ( زنادقة الإسلام ثلاثة : ابن الراوندي و أبو حيان التوحيدي ، وأبو العلاء المعري ، وأشدهم على الإسلام أبو حيان ؛ لأنهما صرحا و هو مجمج ولم يصرح .
كتاب : ( الرد على القدرية ) وكتاب : ( الرد على المرجئة ) و ليس لهما أسانيد .
كتاب : ( التفسير ) و هو من طريق عمرو بن خالد الواسطي ، و قد تقدم الحديث عن عمرو بن خالد هذا .(49/27)
وعلى كل فلم يثبت إلى زيد بن علي رحمه الله نسبة كتاب ، والذي ظهر لي أن الزيدية سرّق ، سرقوا الكلام على العقيدة من كتب المعتزلة ، أخرجها لهم من العراق القاضي جعفر بن أحمد بن عبدالسلام في القرن السادس ، و سرقوا الغلو في أهل البيت من الرافضة من العراق ، و سرقوا الفقه من كتب الحنفية .
أما في علم الحديث فقد قال علامة اليمن محمد بن إبراهيم بن الوزير في كتابه ( الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ) : ( أنه لا يجوز الرجوع إلى شيء من كتب الزيدية في علم الحديث ؛ لأن علم الحديث مبني على أصلين : أحدهما علم الرجال ، والآخر علم العلل ، و ليس للزيدية كتاب في هذين الفنين . راجع كتاب : المخرج من الفتنة للشيخ مقبل ( ص 76 77 ) .
المبحث الرابع : بداية ظهور الطائفة الزيدية و مناطق انتشارها و نفوذها والفرق التي تشعبت منها ..
بعد أن خرج زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه على الدولة الأموية ، التف حوله أوباش الكوفة و أعلنوا له الولاء ، بل ألحوا عليه في الخروج و وعدوه بالنصرة والمؤازرة كما ذكرنا في المبحث الثاني - .
و بعد أن دارت الحرب بين الذين خرجوا مع زيد ومع جيش الخلافة ، و تخاذل الكثير من أهل الكوفة عن نصرته و طلبهم منه أن يعطيهم رأيه في الشيخين أبي بكر و عمر رضي الله عنهما في تلك الظروف الحالكة ، و قوله تلك المقولة التي كان سبباً في اتخذ أهل الكوفة إياها ذريعة للهرب و خذلان زيد أنه لم يعلن البراءة من الشيخين بل ترحم عليهما و أثنى عليهما ، فلم ينل هذا الرد استحسان الشيعة جميعاً ففارقوه ، و حدث ما حدث و قتل زيد في تلك المعركة الغير متكافئة ، و كان ذلك في سنة (122 هـ ) . انظر : الطبري (7/180-181) و الكامل في التاريخ (5/242-243) .(49/28)
و كان مع زيد في تلك المعركة ابنه يحيى الذي استطاع الفرار إلى خراسان و لكن الجيوش الأموية طاردته حتى قتل بعد ثلاث سنوات من مقتل أبيه عام (125 هـ ) . الطبري (7/227-230) .
و رغم هذه النهاية المريرة لزيد وابنه يحيى ، فقد استمر الزيدية من وافق زيد في مقولته في الشيخين في الخروج ، فخرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي المعروف ( بالنفس الزكية ) بالمدينة ضد بني العباس و قتل في ( 14 / رمضان من عام (145 هـ ) . الكامل (5/529-550) .
كما خرج من بعده أي من بعد محمد النفس الزكية أخوه إبراهيم بالبصرة و قتل بها في ( 25 / ذي القعدة من نفس العام ) . المرجع نفسه (5/560-570) .
و خرج أيضاً الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي في خلافة الهادي و قتل عام (169 هـ ) . الكامل (6/90-94) ، و خرج يحيى بن عبد الله أخو محمد النفس الزكية أيام الهادي والرشيد . الكامل (6/125-126) .
واستطاع أحد أئمة الزيدية و يسمى الحسن بن زيد ، ويلقب بالحسن الأطروش ، أن يؤسس دولة زيدية في أرض الديلم جنوب بحر الخزر عام ( 250 هـ ) . انظر : تاريخ الفرق الزيدية (229-260 ) .(49/29)
كما استطاع الزيدية أيضاً من إقامة دولة لهم في أرض اليمن ، وأقامها الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين من ولد القاسم الرسي حفيد إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، و ذلك أن الهادي ذهب إلى اليمن عام ( 280 هـ ) و دعا إلى مذهبه هناك و لكن لم يجد عوناً من اليمنيين ، ثم عاد إلى اليمن ثانية عام (284 هـ ) و ذهب إلى صعدة و كان التوفيق حليفه ، فبويع بالإمامة و سعى إلى إقامة حكم إسلامي ، وعمل على جمع شمل الناس على كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، واستطاع إقامة العدل و إصلاح أمر الناس وإقامة حدود الله ، و دخل في حروب شديدة ضد القرامطة الإسماعيلية أكثر من سبع وعشرين سنة و توفي بصعدة عام ( 325 هـ ) . انظر : تاريخ اليمن السياسي (ص 174-177) . و بعدها استطاع الإسماعيلية من التغلب على اليمن وانتهت بذلك دولة الزيود في اليمن .
و بعد حوالي ألف عام من هذا التاريخ استطاع الزيدية استرداد اليمن مرة ثانية إذ قاد الإمام يحيى بن منصور بن حميد الدين ثورة ضد الأتراك عام ( 1322 هـ ) ، و استطاع أن يؤسس دولة زيدية استمرت حتى سبتمبر عام ( 1962 م ) حيث قامت الثورة اليمنية ، و انتهى بذلك حكم الزيود ، و لكن لا زالت اليمن معقل الزيود و مركز ثقلهم . انظر : بيان مذهب الباطنية و بطلانه ، مقدمة الناشر ( ص : و ، ز ) .
فرق الزيدية :-
قد خلف من بعد زيد جماعات متعددة التزم بعضها بالآراء التي نادى بها زيد ، و انحرف بعضها و مال عن تلك الآراء ، ويُذكر من هذه الجماعات أو الفرق : الجارودية ، و السليمانية ، والصالحية .(49/30)
أما الجارودية : فهم أتباع أبي الجارود زياد بن المنذر الكوفي ( ت 150 أو 160 هـ ) ، و قد وصف المحدثون أبا الجارود بأنه كذاب ليس بثقة و أنه كان رافضياً يضع الحديث في مثالب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و يروي في فضائل أهل البيت أشياء مالها أصول . انظر : تهذيب التهذيب لابن حجر (3/386-387) . قال عنه ابن حجر في التقريب (1/270) : رافضي ، كذبه يحيى بن معين .
و يبدو أن أبا الجارود قد وقع تحت تأثير الرافضة ومن ثم جاءت آراؤه فيها كثير من التطرف والانحراف ، فرغم قوله بأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي رضي الله عنه بالوصف دون التسمية ، ذهب إلى أن الناس قد قصّروا ، حيث لم يتعرفوا الوصف ولم يطلبوا الموصوف ، و نصبوا أبا بكر باختيارهم ، فكفروا بذلك . الملل والنحل للشهرستاني (1/157-158) .
وتطرفت جماعات من الجارودية أكثر من ذلك فقالت بغيبة الأئمة ونادت برجعتهم و ذهبوا إلى أن محمد بن عبد الله الإمام لم يتقل و هو بعد ( حي ) و سيخرج و يملأ الأرض عدلاً ، و زعمت طائفة أخرى من الجارودية أن علم ولد الحسن والحسين رضي الله عنهم كعلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فيحصل لهم العلم قبل التعلم فطرة و ضرورة . الملل والنحل (1/159) .
بل ردد بعضهم عبارات شبيهة بعبارات الرافضة في هذا الصدد فقالوا مثلاً : الحلال حلال آل محمد صلى الله عليه وسلم ، والحرام حرامهم والأحكام أحكامهم ، و عندهم جميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، كله كاملاً عند صغيرهم و كبيرهم ، الصغير منهم و الكبير في العلم سواء ، لا يفضل الكبير منهم الصغير . المقالات للقمي (ص 72) .(49/31)
أما السليمانية أو الجريرية : فهم أتباع سلميان بن جرير ، و قد ذهبوا إلى أن الإمامة شورى وأنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين ، وأنها قد تصلح في المفضول وإن كان الفاضل أفضل في كل حال ، كما يثبتون إمامة الشيخين : أبي بكر و عمر رضي الله عنهما . المقلات للأشعري (ص 68) .
لكن ذهبوا إلى أن الصحابة رضوان الله عليهم تركوا الأصلح بتركهم مبايعة علي لأنه أولاهم بذلك و ذلك خطأ ، و لكنه لا يوجب كفراً و لا فسقاً ، إذ أنه خطأ اجتهادي ، غير أن سليمان بن جرير ذهب إلى تكفير عثمان رضي الله عنه للأحداث التي أحدثها بزعمهم - ، كما أكفر عائشة والزبير و طلحة رضي الله عنهم ، بإقدامهم على قتال علي رضي الله عنه ، هذا في الوقت الذي رفض فيه آراء الرافضة في التقية والبداء . الملل والنحل للشهرستاني (1/159-160) والحور العين لنشوان الحميري ( ص 155) .
أما الصالحية : فهم أتباع الحسن بن صالح بن حي ، و هو كوفي ولد عام ( 100 هـ ) و توفي عام (160 هـ ) و خرّج له البخاري و مسلم في باب الأدب ووثقه الجمهور و قيل إنه ثقة فقيه عابد ، و لكنه رمي بالتشيع المعتدل - . التقريب ( 1/167) .
و قد ذهب الصالحية إلى مذهب السليمانية في الإمامة ، و لكنهم توقفوا في أمر عثمان والحكم عليه بالإيمان أو الكفر ، و قالوا إن الأخبار الواردة في حقه و كونه من المبشرين بالجنة توجب الحكم بصحة إسلامه وإيمانه و كونه من أهل الجنة ، بينما الأحداث التي أحدثها من استهتاره بتربية بني أمية و نبي مروان واستبداده بأمور لم توافق سيرة الصحابة توجب الحكم بكفره ، فقالوا إنا تحيرنا في أمره و توقفنا في حاله و وكلناه إلى أحكم الحاكمين . الملل والنحل (1/161) .(49/32)
و هناك فرق أخرى مثل : المخترعة ولم يذكر إلى من تنتسب ، و فرقة المطرفية أصحاب مطرف الشهابي ، و هي فرقة غالية ترى أن سب السلف ثوابه عظيم ، و هم أكثر أهل الزيدية غلواً في السب والأذى ، و هناك فرقة اليعقوبية أصحاب يعقوب . راجع هذه الفرق في كتاب : عقائد الثلاث و السبعين فرقة لأبي محمد اليمني (1/452-458) .
و قد وصف أبو زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الإسلامية (1/47) الزيدية بأنهم : ( أقرب فرق الشيعة إلى الجماعة الإسلامية ، وأكثر اعتدالاً ، و تشيعهم نحو الأئمة لم يتسم بالغلو ؛ بل اعتبروهم أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، واعتدلوا في مواقفهم تجاه الصحابة ، فلم يكفروهم و خصوصاً من بايعهم علي رضي الله عنه واعترف بإمامتهم ) .
هكذا قال عنهم ، والذي يظهر لي أن هذا الحكم غير صحيح على جميع الزيدية كما يظهر من آراء كل طائفة التي ذكرت - ، فإن بعض طوائفهم رافضة خلّص ، و هم الذي خرجوا عن مبادئ زيد وآرائه ، سواء كانوا متقدمين أو متأخرين .
فقد قسم أبو زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الإسلامية (1/52) الزيدية من حيث الاعتقاد إلى قسمين :-
1 المتقدمون منهم ، المتبعون لأقوال زيد ، و هؤلاء لا يعدون من الرافضة ، و يعترفون بإمامة الشيخين أبي بكر و عمر رضي الله عنهما .
2 - و قسم من المتأخرين منهم ، و هؤلاء يعدون من الرافضة ، و هم يرفضون إمامة الشيخين و يسبونهما و يكفرون من يرى خلافتهما .
و كلامه هذا فيه نظر ، كما سبق وأن بينا معتقدات كل طائفة من طوائف الزيدية المتقدمين .
المبحث الخامس : الزيدية في التاريخ المعاصر ، موقفها من أهل السنة ، وموقف أهل السنة منها ..
أولاً : الزيدية في التاريخ المعاصر ، و موقفها من أهل السنة ..(49/33)
لقد انقرضت فرق الزيدية المختلفة التي أشرنا إليها ، أو ذابت في فرق الشيعة الأخرى ، و ما بقي من الزيود الآن فهم متمسكون بآراء تلتقي بجملتها مع آراء المعتزلة وأصولهم ، والرافضة في معتقداتهم .
أما بالنسبة لموقفها من أهل السنة فإنه يمكننا أن نحكم عليهم من خلال الحديث عما لاقاه أهل السنة في اليمن خلال هذه الفترة ، وربطه مع عصر مؤلف كتاب عقائد الثلاث و السبعين فرقة : أبو محمد اليمني ، فهذا المؤلف كان موجوداً سنة ( 540 هـ ) ولم يعرف عن هذا المؤلف أكثر من هذا ، حيث بقي تاريخ ولادته و وفاته أو أي شيء يخص أو يتعلق به أو ما يشير إلى شخصه مجهولاً ، بل إن الذي يظهر من خلال ما عرف من عصره الذي عاش فيه في اليمن و هو عصر سيطرة الإسماعيلية على بلاد اليمن ، أنه تعمد إخفاء شخصيته ، حيث إن المؤلف كتب هذا الكتاب و فضح و كشف أباطيل الباطنية التي كانت تملأ كبتهم ، و كانوا يلبسون به على العوام وأشباه العوام ، و بما أنه كان يعيش تحت دولتهم و يصطلي بنار فتنتهم ، و يسمع و يرى ما يدعون إليه من الباطل والضلال ، فكشف من أمرهم ما لم يصل إليه غيره ولم يتمكن منه سواه ، و مرد ذلك كما قال : ( و ذلك أني خبير بهم جداً لقرب الدار من الدار ، و لكثرة ما قرأت من كتبهم الشنيعة و عرفت معناها و رموزاتها المؤدية إلى تعطيل الشريعة والمؤلفة في الأمور الوضعية .. ) ثم ذكر عدداً من كتبهم . ( عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/512-513) ، هذا و مثله كثير و سبب مقنع تمام الإقناع بضرورة إخفاء المصنف رحمه الله تعالى لشخصه والاكتفاء بكنيته التي من المؤكد أنه كذلك غير مشتهر بها ، بل إنه يحترس عند عزو بعض الأقوال لمعاصريه فلا يذكر أسماءهم ، و من أمثله ذلك قوله : ( وأخبرني من أعرفه بنسبه و باسمه في وقتنا هذا ) ثم ذكر قوله . عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/424) ، و قد كشف عن الإسماعيلية من الضلال والفساد ما لم يكشفه من سبقه بمثل عمله ، مع(49/34)
دقة في توخي الصواب والبعد عن الهوى ، قال رحمه الله تعالى : ( ولم أقل ذلك كذباً بسبب البغضة بيني و بينهم ، وإن كنت وإياهم كما قال الأول :
ولن يراجع قلبي حبهم أبداً وكنت من بغضهم مثل الذي ركنوا
وإنما الصدق أولى بالرجل من سواه ) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/512) .
فلو علم طواغيت الإسماعيلية عن شخص هذا الكاتب لركبوا الصعب والذلول في القضاء عليه ، كما هي سجيتهم ، و قد تحدث المؤلف رحمه الله عن الزيدية وأسهب في الحديث عن فرقهم و طوائفهم و معتقداتهم و كان مع كل طائفة يختم حديثه بقوله فالحذر منهم ، و كان في حديثه عن هذه الفرقة الزيدية ضمن حديثه عن الفرق التي يقال لهام الرافضية .
والآن نأتي للحديث عن الزيدية في العصر الحاضر ، ففي عام ( 1337 هـ ) عندما قرر الترك الجلاء على بلاد اليمن خشي الشوافع أهل السنة من سيطرة الزيدية على بلادهم .
يقول العبدلي مؤرخ حضرموت في كتابه هدية الزمن في أخبار ملوك لحج و عدن ( ص 263) : ( و لما تحقق اليمانيون الشافعية جلاء الأتراك عن البلاد اليمانية ذعروا ، و جاء كثير من أعيان اليمن الأسفل من مشايخهم و ساداتهم و زعمائهم إلى عدن يستفهمون عن مصيرهم فلم يوافق طلبهم هوى الباعة ، وأعرض عنهم الوكيل السياسي في عدن ، و عادوا خائبين ، و لم ينفعهم إخلاصهم للأتراك و جهادهم بالنفس والنفيس مع ( علي سعيد باشا ) نفعاً ، فلم يعنهم الأتراك على نبيل أمانيهم بل أعانوا الإمام عليهم .و حاول بعض الشافعية المقاومة فلم تتحد كلمتهم و ساق الإمام جيشاً من قبائل الزيدية و ضباط الأتراك على حبيش ؛ فنشبت معارك دموية استدامت ستة أشهر ثم هزمت جموع الشافعية وأذعن جميعهم لحكم الإمام والسيطرة الزيدية على كره منهم ) .
و في بلاد الضالع استمرت المعارك بين الزيدية والشوافع عامين كاملين كانت الحرب فيها سجالاً . نفس المصدر السابق ( ص 276) .(49/35)
وعندما قام الصلح بين الشيخ ( محمد صالح الأخرم ) من مشايخ الشافعية ومندوب الإمام ( يحيى ) لم يعد الشيخ محمد صالح إلى بلاده حتى وضع أعز أقاربه رهينة ، ولم تمض أشهر حتى ملأ السيد يحيى أمير جيش قعطبة السجون من أبناء الأشراف الردفانيين وغيرهم ، يسوقهم العريفة بالحبل والسوط مكبلين بالحديد كالمجرمين وأذاقوهم من سوء المعاملة والغطرسة مالا يتحمله الأحرار ، بل ما دونه حريق النار ، و لم ينج من سوء المعاملة حتى الشيخ محمد صالح الأخرم نفسه ؛ اعتقلوه في قعطبة سبعة أشهر ولم يرحموا ضعفه ولا شيخوخته ولم يتخلص إلا بعد أن افتدي نفسه وأتباعه بوافر المال و رهن خيرة الرجال . هدية الزمن (ص 277) .(49/36)
و في شهر ربيع الثاني من تلك السنة ( 1346 هـ ) ألقت الطيارات البريطانية على مدن اليمن منشوراً أنذرت فيه الزيود بأنه عند حدوث أي تعد جديد من العساكر الزيدية سيقابل بإلقاء القنابل ، و في شهر شعبان دخل جماعة من الزيدية إلى بلاد آل قطيب واختطفوا الشيخ ( مقبل عبد الله ) عم الشيخ آل قطيب والشيخ ( عبد النبي العلوي ) لا يجوز التمسي بهذا الاسم لأنه من باب التعبيد لغير الله عز وجل شيخ آل علي ، فأنذرت الطيارات أمير جيش قعطبة أن يرفع النساء والأطفال في ظرف ( 24 ) ساعة ، وابتدأ إلقاء القنابل بعد انتهاء تلك المدة فعلاً واستمرت ثلاثة أيام ، و في ( 25 ) رمضان أذاعت الطيارات المنشور الآتي ، و نصه : ( إلى أهل المذهب الشافعي في اليمن و في المحمية البريطانية ، بعد السلام ، لقد علمتم أنه بناء على انتهاك حرمة المحمية البريطانية من الأمام والزيود وتعديهم عليها ، أجبرنا على إلقاء القنابل على حامية الزيود ، وبما أن هذه الحاميات أقامت نفسها بينكم فلعلكم قاسيتم من تأثير هذه القذائف ما قاسيتم ، فذلكم ذنب الزيود لا ذنبنا ) . هدية الزمن (ص 283) . و لم يتمكن أمراء الشوافع من طرد الزيود من بعض المدن إلا بمساعدة الطائرات الإنجليزية . المصدر السابق (ص 286) .(49/37)
و هكذا وقع الشوافع ( السنة ) بين فكي كماشة ، حيث كان الزيود واضطهاداتهم من جانب ، والنيران الحامية التي كانت تمطر بها قراهم من قبل الطائرات الإنجليزية بسبب ملاحقة الزيود من جانب آخر . و ما من شك في أن الإنجليز قد افلحوا إلى حد كبير في استغلال العداء بين الشوافع ( السنة ) و الزيود في إضعاف الطائفتين ؛ لمزيد من تثبيت أقدامهم في المنطقة ، على أن ذلك لا يعفي الزيود الحانقين من تبعة قتالهم ومحاولتهم إخضاع الشوافع ( السنة ) واضطهادهم ، ولا غرابة من وقوف الشوافع ( السنة ) مع الدولة العثمانية السنية في وجه القوات الزيدية ، وعلى كل حال فمهما بلغت مظالم الأتراك فلا تعد شيئاً في مقابل الزيدية الشيعية .
و ما وقع من الزيود من ظلم و قتال وإخضاع للشوافع السنة منسجم تماماً مع ما آل إليه المذهب الزيدي عند المتأخرين من رفض و سب للصحابة رضوان الله عليهم ، و قد عانى علماء اليمن المتحررون من أغلال المذهب الزيدي كـ ( الصنعاني و الشوكاني ) وغيرهما من غلو هؤلاء الزيدية في الرفض و حنقهم على الصحابة و كتب السنة . راجع كتاب : الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين و آثارهما في حياة الأمة ، علي بن بخيت الزهراني (1/584-588) .
يقول الشيخ محمد أبو زهرة : ( و من بعد ذلك ضعف المذهب الزيدي ؛ والمذاهب الشيعية الأخرى قد غالبته ، أو طوته ، أو لقحته ببعض مبادئها ، و لذلك كان الذين حملوا اسم هذا المذهب من بعده لا يجوزون إمامة المفضول ، فأصبحوا يعدون من الرافضة ، و هم الذين يرفضون إمامة الشيخين أبي بكر و عمر رضي الله عنهما ، و بذلك ذهب من الزيدية الأولى ابرز خصائصها ) . تاريخ المذاهب الإسلامية (1/51) .(49/38)
وعلى كل فلا نطيل الكلام ، فحالهم في العقيدة معتزلة ، و ناهيك بعقيدة تنبذ كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعتمد على الفلسفة . و في الفقه على أبي حنيفة ، و قد قال بعضهم : إذا أردت أن توافق الحق فخالف أبا حنيفة . و في التشيع ينتهي بهم الحال إلى الرفض ، حتى قال بعضهم : ائتني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضياً كبيراً .
وقد سُؤل الشيخ مقبل بن هادي - حفظه الله - عنهم فقال : هم بعيدون عن السنة ، ثم ذكر مقولة : ائتني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضياً كبير . راجعها في : بغية الطالب الألمعي لفتاوى المحدث العلامة مقبل بن هادي الوادعي ( ص 1 ) .
و مما ينبغي أن يعلم أنهم أصبحوا ليسوا بزيدية كما يدّعون ، و لقد أحسن والد محمد بن إسماعيل الأمير إذ يقول :
يدعون أنهم زيدية وهم عن نهجه بمعزل .
و يقول إسحاق بن المتوكل مورداً إشكالاً على المذاهب الزيدية لا يستطاع حله :
أيها الأعلام من سادتنا ومصابيح دياجي المشكل
خبرونا هل لنا من مذهب يقتدى في القول أو في العمل
أم تركنا هملاً نرعى بلا سائم نقفوه نهج السبل
فإذا قلنا ليحيى قيل لا ههنا النص لزيد بن علي
و إذا قنا لزيد حكموا أن يحيى قوله النص الجلي
قرروا المذهب قولاً خارجاً عن نصوص الآل فالبحث وسل
ثم من ناظر أو جادل أو رام كشفاً لقذى لم ينجل
قدحوا في دينه واتخذوا عرضه مرمى سهام المنصل .
راجع كتاب : المخرج من الفتنة للشيخ مقبل بن هادي الوادعي ( ص 77-78) .(49/39)
وكم سمعنا و شاهدنا كيف كانوا أي الزيدية - يرحبون بالشيوعية خاصة بعد رحيل الاستعمار رحيل اسمي فقط ينضمون إلى صفوفه من أجل ضرب أهل السنة ، فخيبهم الله ، فلا سَلِمَ لهم دينهم و لم يستطع الشيوعيون أن يحققوا لهم ما وعدوهم به من ضرب أهل السنة ، و لقد صدق أبو محمد ابن حزم رحمه الله حيث يقول : ما نصر الله الإسلام بمبتدع . فلو رأيت المخذولين من أهل صعدة يوزعون نسيخة الضليل المبتدع أحمد بن زيني دحلان ( فتنة الوهابية ) ، بل لقد جمعوا كتب الطاعنين في السنة حتى ولو كان المؤلف نصرانياً أو علمانياً ، المهم أن يكون فيها طعن على السنة و أهلها ، فخيبهم الله .
وما يلاقيه شيخنا أبو عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله و باقي طلبة العلم في اليمن في الوقت الحالي من التضييق و محاولا القتل المستمرة ، من قبلهم و من إخوانهم الصوفية ، لعرفت مدى الحقد الذي يحمله هؤلاء الرافضة ، عليهم من الله ما يستحقون ، و صدق والله ابن حزم رحمه الله حين يقول : إن الله ابتلى الإسلام بالصوفية و الشيعة . و الأمر كما قال ابن حزم ، فإن هاتين الطائفتين باب فتنة ، و آلة لكل مناوئ للإسلام .
ثانياً : موقف أهل السنة من الشيعة عموماً و الزيدية خصوصاً والحكم عليهم ..
يسأل كثير من الدارسين عن حكم الشيعة .. هل هم كفار خارجون عن الملة ، أم هم في عداد الفرق الإسلامية ؟
و بغض النظر عن اختلاف وجهات نظر العلماء في الحكم عليهم ، و بغض النظر أيضاً عما يورده كل فريق من أدلة على ما يذهب إليه ، فإن الواقع يدل على أن الحكم على الشيعة أو غيرهم من الفرق بحكم واحد يحتاج إلى تفصيل ..
فأما بالنسبة للشيعة بخصوصهم فالذي اتضح لي :-(49/40)
1 - أن الشيعة ليسوا جميعاً على مبدأ واحد في غير دعوى التشيع ، فمنهم الغلاة الخارجون عن الملة بدون شك وهم أغلب الشيعة الموجودة اليوم في مختلف أنحاء العالم - ، و منهم من يصدق عليهم أنهم مبتدعون متفاوتون في ابتداعهم ، فبعضهم أقرب من البعض الآخر .
2 - أن التثبت من تكفير المعين أمر لابد منه ، إذ ليس كل من انتسب إلى طائفة خارجة عن مذهب السلف في بعض القضايا يحق تكفيره .
3 - ليس معنى التثبت في تكفير المعين أننا لا نطلق على الطائفة الخارجة عن الحق ألفاظ التبديع و التضليل والخروج عن الجماعة ؛ لأن ذلك الحكم خاص بتعيين الأفراد لا الجماعة عموماً ، خصوصاً من وجدنا نصاً فيهم ، كالخميني في وقتنا الحاضر .
و على هذا فالحكم العام على الشيعة أنهم ضلال فساق خارجون عن الحق ، هالكون مع الفرق التي أخبرت عنها الأحاديث ، حكم لا غبار عليه .
4 - اتضح أن الشيعة عندهم مبادئ ثابتة في كتبهم المعتمدة ، قررها رجالاتهم المعتبرون قدوة في مذاهبهم ، و من قال ولو ببعض تلك المبادئ فلا شك في خروجه عن الملة الإسلامية ، ومنها :-
أ - قولهم بتحريف القرآن ، وأنه وقع فيه الزيادة والنقص حين جمعه أفاضل الصحابة رضوان الله عليهم ، كما صرح بذلك الطبرسي في كتاب : ( فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب ) و في غيره من كتب الشيعة ، و انتظارهم أيضاً مصحف فاطمة كما يزعمون .
ب - غلوهم فيأئمتهم و تفضيلهم على سائر الأنبياء ، كما ملئت بذلك كتبهم القديمة ؛ مثل الكافي ، و ما كتبه الخميني في العصر الحديث .
جـ - غلوهم في بُغض الصحابة ممن شهد الله لهم بالفوز والنجاة ، كأبي بكر و عمر و عثمان وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها و حفصة و غيرهم رضي الله عنهم أجمعين ، وردهم شهادة أم المؤمنين رضي الله عنها ، و بقاؤهم على عداوتها وإفكهم عليها ، واعتبارها عدوة و ليست بأم ، و هذا حق ؛ فإنها ليست لمثل هؤلاء بأم ، فهي أم للمؤمنين فقط .(49/41)
د - قولهم بالبداء على الله تعالى ، و تنزه سبحانه و تعالى عن ذلك .
و مواقف أخرى يصل خلافهم فيها إلى سلب العقيدة الإسلامية من جذورها في كل قلب تشبع بها .
وأما من لم يقل بتلك المبادئ ، و كان له اعتقادات أخرى لا تخرجه عن الدين ، فإنه تقام عليه الحجة ثم يحكم عليه بعد ذلك حسب قبوله الحق أو رده له . راجع كتاب : فرق معصرة تنتسب إلى الإسلام و بيان موقف الإسلام منها ، للدكتور غالب بن علي عواجي (1/324-325) .
والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين .
الخاتمة ..
و في ختام هذا البحث أحمد الله أن وفقني إلى إتمامه و بيان ما فيه ، و قد تبين لنا من خلال ذلك كيف أن الانحراف عن الإسلام و عن المذهب الصحيح بدأ منذ وقت مبكر في تاريخ أمتنا الإسلامية .
كما وأننا قد عرفنا الحكم الشرعي في فرقة الزيدية و أبطلنا المقولة التي تنادي بأن الزيدية أقرب فرق الشيعة إلى أهل السنة على إطلاقه ، و بيننا تفصيل ذلك .
و قد أشرنا إلى خطأ بعض المؤرخين الذين تناولوا الحديث عن حياة زيد بن علي رحمه الله من نسبة بعض الكتب المزيفة والمزورة إليه ، و قد أشرنا إلى عدم صحة نسبة أي كتاب له رحمه الله .
و أخيراً و إن حاولت الكتابة وفق منهج المحدثين ، لا أدَّعي أنني متقن لهذا المنهج عالم بكوامنه ، بل أنا قليل البضاعة في هذا المجال ، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه .
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينفع بهذا البحث من اجتالته الشياطين عن الطريق الصحيح ، و يهدي الحيارى من دياجير التشيع و الرفض و يعيدهم إلى الطريق المستقيم .(49/42)
و على كل حال فهي محاولة مبتدئة مني تحتاج إلى تشجيع و نقد هادف بنّاء ، يوجهها نحو الأفضل مستقبلاً إن شاء الله تعالى ، فإن أصبت فمن الله وحده ، و له الشكر على ذلك ، و إن تكن الأخرى فمن نفسي و شيطاني ، و حسبي أن للمجتهد أجراً إذا أخطأ ، فأرجو أن لا يفوتني الأجر في كلتا الحالتين بإذن الله تعالى ، ولست بمستغنٍ عن أي ملاحظة تسد نقصاً هو من طبيعة عمل البشر ، ولنا لقاء آخر في حلقات أخرى ومع فرقة أخرى ومع مسيرة ركب الشيطان عبر تاريخ الإسلام .
أصلح الله أحوال المسلمين ووقاهم الشرور و الفتن ، و أسأله أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم .
اللهم لا تعذب لساناً يخبر عنك ، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدل عليك ، ولا قدماً تمشي إلى خدمة دينك ،
ولا يداً تكتب في سبيلك . اللهم آمين .
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . و صلى الله على سيدنا محمد .
وتقبلوا تحيات أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..(49/43)
مكارمة نجران
تأليف
الحسن المكرمي
المقدمة
الحمد لله الذي خلقنا ولم يتركنا هملاً، ودلنا على توحيده بأنواعه الثلاثة بقوله سبحانه: ( رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً( .
وأبان لنا سبب خلقنا فقال تعالى:( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون( فلا تصرف العبادة إلا لله ولا ركوع ولا سجود إلا له تعالى حيث قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وأفعلوا الخير لعلكم تفلحون ( وعلم عباده أن يقولوا : (إياك نعبد وإياك نستعين ( فلا يستعان إلا بالله فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه، والله قريب من عباده : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان( فلا يتخذ الشفعاء والوسطاء عنده في الدنيا، ولا تصرف العبادة لأحد بدعوى القربى والشفاعة لأن ذلك حال المشركين : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى (، ودين الله واضح ليس فيه خفاء ولا أسرار ولا أخذ للعهود والمواثيق على الكتمان قال تعالى :( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلاً فبئس ما يشترون ( وقال سبحانه : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعدما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (، والإسلام هو دين الحنيفية السمحة لا يزيغ عنها إلا هالك، وهي من السهولة بحيث أن الأعرابي يأتي إلى النبي ( وفي جلسة يكون داعياً إلى الله ومبشراً بهذا الدين، والله قد جعل لنا مرجعاً عند الاختلاف فقال سبحانه: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول(والرد إلى الله رد إلى القرآن والرد إلى الرسول ( رد له في حياته ولسنته الثابتة بعد مماته.(50/1)
أما المكارمة فقد لخص العلماء حالهم بأخصر عبارة فقالوا: " دعاتهم زنادقة وعوامهم رافضة"، دعاتهم زنادقة إذ اتخذوا موالات آل البيت ستاراً لبث سمومهم الإلحادية ، إذ ألحدوا في أسماء الله وصفاته وجحدوا أن يكون الله خالقاً- تعالى الله عما يقولون- ولما كان هذا الإلحاد لا تقبله أصحاب الفطر السليمة صبغوا مقولاتهم بصبغة فلسفية معقدة صعبة مستقاة من الفلسفة الافلاطونية والفيثاغورية ملبسين دينهم لباس الكتمان والألغاز الذي لا يصل إليه كل أحد إذ أن المكرمي أدخل في عقول أتباعه مبدأ التسليم بدون حجة، لأن عقولهم لا تقدر على إدراك العلم المكنون الذي يخفيه، فكان العامة متبعين له عن جهل في دينهم متأثرين بما أظهره من موالاة آل البيت وزهد في الدنيا مزعوم، وما أوعدهم من صكوك الغفران ودخول الجنان، فكانوا كأسراب القطا متبعين له بدون إعمال فكر، بل كانوا كالفراش يتهافتون على النار متخذين دين الرافضة منهجاً في العبادة، إذ أقرب القرب عندهم تلحيس الركب، وسب الأصحاب، والتوسل الشركي بأصحاب القبور، والتمرغ عند عتباتهم، في غفلة عجيبة، ولسان حالهم يقول: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (، وزاد الطين بلة أن جعل المكرمي تقديسه مرتبط بمشايخ القبائل فالطعن فيه طعن في القبيلة، والكلام فيه كلام في العرض. فأصبحت الحمية حمية جاهلية للعشيرة والقبيلة:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت
وإن ترشد غزية ارشد
لذا كانت هذه الرسالة موضحة وكاشفة حقائق دعاة المكارمة بالحجة والبرهان والنقل الصحيح من كتبهم ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ( سالكة طريق الدعاة الأول حيث قال لهم الناس (لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون (.(50/2)
اللهم أهد بهذه الرسالة قوماً ضالين، واجعلها ذخراً لي يوم الدين واغفر لي ولوالدي ولإخواني المسلمين أجمعين، وخص منهم من ساعدني في هذه الرسالة بمزيد فضل يا رب العالمين.
وادي نجران
الموقع الجغرافي: تقع منطقة نجران في الجزء الجنوبي من المملكة العربية السعودية في أرض منبسطة يتوسطها وادي نجران الذي يخترق المنطقة من غربها إلى شرقها، حيث يصب في رمال الربع الخالي فيما يسمى بـ"رملة يام".
أصل كلمة نجران و سبب تسمية الوادي به: نجران: بفتح أوله وسكون ثانيه.
والنجران في كلام العرب خشبة يدور عليها رتاج الباب، وانشدوا:
صببت الماء في النجران حتى
تركت الباب ليس له صرير
وسميت نجران بهذا الاسم نسبة إلى أول من نزلها وعمرها وهو: نجران بن زيدان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقد صار هذا الرجل إلى نجران لأنه رأى رؤيا فهالته فخرج رائداً حتى انتهى إلى وادٍ فنزل به فسمي الوادي به.
قرى نجران
قرى أهلها سنة:
زوروادعة
الخالدة "ظلما"
النقعة
المسماة
الوجيد
يدمه
قرى أهلها خليط بين السنة والإسماعيلية:
زور الحارث
الغيضة
القابل
العريسة
طلحام
مريطة
الجربة
الفيصلية
الصفاح
حما
قرى أهلها إسماعيلية:
الموفجة
ابا السعود
بن منجم
قطن
المجمع
زور العماري
رجلا
تصلال
العين والقرين
ثار
الصفا
الشرفة
بلاد بني سلمان
تريمة
الخضراء
الحضن
وادي ريمان
خباش
قابل منيف
ابو رشاش
شعب بران
المخباة
بدر الجنوب
الحصينية
عرقان
خشيوة
أبو غبار
الخانق
الحوشف
نعوان
سلوة
الاثايبة
هداده
أبا الطحين
حبونا
الفيصلية: هي عاصمة المنطقة الإدارية وهي مدينة حديثة، وبها الدوائر الحكومية.
يدمه: يتمركز فيها أهل السنة من اليامية ، وتقع في المنطقة الشمالية من الوادي.
خشيوة: هي مقر الدعوة الإسماعيلية في نجران وسكنى الداعي المطلق.
التركيبة السكانية في نجران(50/3)
يسكن منطقة نجران عدة قبائل وأسر مختلفة نذكر هنا أشهرها:
أولاً قبيلة يام:
ويرجع نسبها إلى يام بن أصبى بن رافع بن مالك بن جشم بن حبران بن نوف بن همدان بن مالك بن زيد أوسيلة بن ربيعة بن الخيار بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
ونسب يام معروف ومشهور ، يقول شاعرهم:
وأنى لكم أن تبلغوا مجد يأمنا
وأرحب حتى ينفد الترب ناقله
فهم أصل همدان الوثيق وفرعها
قديما وأعلى هضبها وأطاوله
وقد استوطنوا نجران من قديم ( كما سيأتي) فأصبحت بلادهم، وكان لهم من قبل جبل يام، ما بين بلاد نهم والجوف باليمن، وهو جبل واسع، قال الهمداني: " وهو بلاد يام القديمة". و تنقسم يام إلى قسمين: جشم يام، مذكر يام.
- جشم يام:
وشيخها ابن منيف: وتشمل:
- آل هندي ويدخل تحتهم: آل حسن، آل سليمان، بالحارث، آل منصور، آل مقاتل، آل حرث، آل ابو زيدة، آل جبر الربعة، الأشراف في هجرة هرفي، آل جبر.
- زبيد.
- ابن سليمان، وآل هتيلة بن علي، آل مشرف، وآل حابس، وآل سوران، وآل حوران.
- الصقور. 5- آل مصعب. 6- آل ريح. 7- آل جعران.
- مذكر يام:
وتنقسم إلى قسمين: 1- آل فاطمة. 2- مواجد.
1- آل فاطمة: وشيخها: جابر بن حسين أبو ساق. وتنقسم إلى :
1- آل سالم
2- آل شرية
3- آل مسعد
4- آل محامض
5- آل سليم
6- آل ذبيان
7- الزبادين
8- آل زمنانان
9-آل القفيلي
10- آل بشر
11- القشانين
12- الشركان
13- المكاييل
14-آل مخلص (بدو)
15- آل زابن (بدو)
16- آل معجبة (بدو)
17- آل راكة (بدو)
18-آل فطيح (بدو)
19- آل رشيد (بدو)
20- آل فهاد (بدو)
21- آل عرجاء (بدو)
22- آل سالم (بدو وحضر)
23- آل فروان (بدو وحضر)
24- آل سفران (بدو وحضر)
25- آل لبيد (بدو)
26- آل عمرو (بدو وحضر)
27- آل معمر (بدو)
28- آل زائد
29- آل شرار
30- آل دكمان
31- آل معيط (ويجمع الثلاثة الأخيرة اسم آل أبو غبار)(50/4)
32- آل سعد
33- آل فائد
34- آل خريث
35- آل طويل
36- ابن قنة
37- ابن حامد
2- مواجد: وشيخها: ابن نصيب وتنقسم إلى :
1-آل غانم
2- ابن الحزوبر
3- آل رزق (بدو وحضر)
4- آل علي بن سعيد
5- آل حسن المحمد
6- الدويلان
7-العطازة
8-آل بنيان
9- آل علي بن عامر ويجمع الثلاث الأخيرة آل عامر وهم (بدو وحضر).
10-آل حارث وفيهم آل بحري.
11- آل صليع بدو وحضر.
12-آل الخضراء.
13-آل هميم.
14- آل عباس
15- وادعة
16- آل قريع (بدو وحضر)
17- الهيسان (بدو وحضر)
18-آل رزق (بدو وحضر)
19- آل علي بن الأحسن
تنبيه:
شيخ شمل يام الآن هو شرفي بن جابر بن حسين آل جابر (ابو ساق) وسبب تسميتهم بأبوساق أن جابر والد شرفي كانت إحدى ساقية أكبر من الأخرى فسماه الملك عبدالعزيز "ابو ساق" وهكذا لصق هذا النعت بهم واصبحوا يلقبون به، حتى أن الكثير لا يعرفهم إلا به.
تنبيه آخر:
هذه الأفرع الكثيرة ليام ليست كلها أصل من يام، وإنما دخل معها بعض أفرع القبائل الأخرى بالتحالف فانتسبت إليها من الأشراف والمكارمة والكرب والصيعر ونحو ذلك.
ويشهد لذلك قول بن نصيب: حيث يزعم أن نسبه يعود إلى غير يام وإنما إلى الحارث بن كعب ذو العصم أحد جمرات العرب: (انظر البيان في تاريخ… نجران ص70).
تنبيه ثالث:
كان أهل السنة من اليامية من فخذ الوعلة تحت خاتم أبو ساق، فكانوا يحتاجون إليه عند مراجعاتهم، وكان أبو ساق يستغل هذا الأمر في الضغط عليهم وتشكيكهم في دينهم إلى أن شفع الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله عند ولاة الأمر فانفصل أهل السنة عن خاتم أبو ساق.
ثانياً: المكارمة:
من بطون حمير، وحمير هو: حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وكان منه ملوك اليمن من التبابعة ، وهو أول من وضع التاج على رأسه. وبعضهم دخل في يام. قال ابن خلدون في تاريخه (ج4 ص91): مكرم، بطن كان منه رؤساء عمان في القرن الخامس الهجري.(50/5)
ومن المكارمة: الحامدي، الحمادي، الفهد. والفهد من بني صلاح بن داود بن عبدالله بن عمرو بن علي بن صبيح بن حسن بن مكرم. وإلى الفهد ينتسب مكارمة نجران. والدعوة الإسماعيلية نسبت إليهم في نجران فكل إسماعيلي يسمى في نجران: "مكرمي" وإن كان من غيرهم.
والمكارمة قد تولوا الزعامة الدينية في المذهب الإسماعيلي في اليمن من قديم حيث ورد في أسماء الدعاة في حال الستر بعد انقضاء الدولة الصليحية الكثير منهم، وأشهرهم عماد الدين إدريس بن الحسن بن عبدالله بن علي بن محمد بن هاشم المكرمي (ت 872هـ) وقد اشتهر بتآليفه الكثيرة التي هي عمدة في المذهب منها كتاب " زهر المعاني وعيون الأخبار". واستمرت رئاسة الدعوة في أيديهم إلى أن تولاها الهنود (كما سيأتي) ثم عادت إليهم.
والمكارمة يعتبرون أنفسهم أعلى رتبة من اليامية لهذا لا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم حفاظاً على مكانتهم، وحتى لا تؤخذ منهم السيادة.
وللمكرمي السيادة على مشايخ القبائل من اليامية بحكم مركزه الديني، وقد جعل الطعن فيه طعن في القبيلة؛ لذا تجد مشايخ القبائل يحامون عنه كما يحامون عن أعراضهم.
ثالثا: بنو الحارث بن كعب:
ويرجع نسبهم إلى الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان يزيد بن عبدالمدان.
وأول من سكن نجران منهم يزيد بن الحارث؛ حيث زوجه عبدالمسيح بن دارس بن عدي بن معقل، ابنته دهيمة، فسكن نجران معهم وذلك في الجاهلية.
وفي العهد العباسي كانت إمرة نجران لهم لخؤولة آل عبدالمدان لآل العباس وخاصة السفاح والمهدي. فكان سلطان نجران في آل أبي الجود منهم إلى القرن السابع الهجري؛ حين ضعف ملكهم وغلبتهم يام على المنطقة، فدخلوا مع يام في أحلاف فانتسب بعضهم إلى يام، مثل ابن نصيب (كما سبق). ولا تزال لهم بقية قليلة في نجران إلى الآن يسمون آل الحارث أو بني الحارث.(50/6)
وهم خاملوا الذكر وكثير من قبائل يام تأنف الزواج منهم، لا لاشيء سوى أن ألوانهم تميل إلى السمرة. ورغم أنهم قبيلة مستقلة إلا أنهم يميلون إلى التحضر، وامتهان المهن البسيطة، التي لا زال يعزف عن امتهانها كثير من أبناء البادية، باعتبارها صنائع العبيد.
والسمرة في بني الحارث بن كعب منذ القدم. ففي الحديث الذي يٌروى عن النبي ( أنه حين وفد عليه بالمدينة وفد بني الحارث بن كعب، قال: "من هؤلاء الرجال الذين يشبهون رجال الهند" (الروض الأنف ج4 ص218).
رابعاً: الأشراف:
وهم: آل حسن، آل حسين، آل راكان، آل شايم، آل عبدالله، آل غالية، آل محسن، آل ياسين. قد دخلت في حلف مع يام.
خامساً: ولد عبدالله:
ويلتقون مع يام في همدان، ولها عدة فروع وشيخها ابن حيدر.
تعداد السكان السعوديين في الإمارات الرئيسية في منطقة نجران
مركز
سكان
مركز
سكان
مركز
سكان
مركز
سكان
سكان
مركز
نجران
73451
هويمل
108
رجلا
10997
المجمع
2236
أم الوهط
40
شعب بران
7737
الموفجة
5410
العريسة
18577
شرورة
34918
الحرشف
2368
شقة الكناور
145
الحضن
8943
الحصينية
4042
حبونا
7858
بئر عسكر
2473
بدر الجنوب
3644
الوديعة
3178
الخضراء
1173
الصفاح
1687
هدادة
1522
قلمة خجيم
89
تماني
675
الخرعاء
4512
الخانق
2766
عاكفة
1427
أبو ثامر
10255
الجربة
10012
خباش
2489
قطن
2083
حمى
1583
ثجر
1104
ثار
3542
يدمة
8768
الخالدة
268
المجموع
240581
الحياة الاجتماعية في نجران
1- العادات و التقاليد:(50/7)
- الشجاعة: اشتهرت قبيلة يام بالشجاعة والشكيمة و قوة البأس، حتى أنها كانت تدعى في الجاهلية "قتلة جبانتها "حيث كانت هي القبيلة الوحيدة التي تقتل الجبان من أفرادها، وفي الوقت الحاضر سماها الإنجليز" ألمان العرب"، هذه الشجاعة المفرطة جعلتهم يستغلونها كمصدر رزق لهم، فامتهنوا الغزو فاصبحوا يشنون الغارات على القبائل المجاورة، كقبائل وائلة ، والكرب، والصيعر ونحوها، وهم يقطعون المسافات الطويلة الشاقة من الصحراء في سبيل الكسب والغنيمة، ولما كانت المناطق التي يغزونها في الغالب صحراوية فقد كانوا يستخدمون طريقة ذكية في التزود من الماء حيث كانوا يصطحبون معهم ما يكفيهم من الماء ذهاباً وأوبة وفي ذهابهم يدفنون في الرمال عدداً كافياً من القرب الممتلئة بالماء، ويسمون مواضع دفنها "بالعرق" حتى إذا ما عادوا من الغزوة فائزين وأراد المسلوبون اللحاق بهم عجزوا عن تعقبهم مسافات طويلة بسبب قلة الماء بينما هم يجدون طلبهم من الماء فيما كانوا كنزوه قبل أن يذهبوا.
وكانوا إذا لم يجدوا من يغزونه غزا بعضهم بعضاً وكأنهم يمتثلون المثل القائل:" أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب".
فنشأ من هذا عدم استقرار في المنطقة حتى في البنيان تجدها متبعثرة وكل بيت يتألف من ستة إلى سبعة إلى عشر طبقات، وكلها مبنية بالطين بطريقة المداميك، وكل بيت من هذه البيوت يشبه الحصن فله سور منيع يضم البئر للاحتفاظ بالماء اطول مدة في حال الغزو.
هذه الشجاعة والغارات جعلت من حولهم من القبائل يتحينون الفرصة للانتقام منهم، ومما يستملح هنا ذكر ما توعد به محمد بن هادي شيخ قبيلة قحطان، حيث توعد قبيلة يام والمطران لما اشتهر عن هاتين القبيلتين من امتهان الغزو والغارات حيث قال:
لي لامة حدرتها من تهامة
وسلاحها صنع الفرنجي والأروام
لابد من يوم يثور زتامه
أما على مطران وإلا على يام(50/8)
فرد عليه راكان بن حثلين اليامي حيث قال:
يا راكب حر تشذر سنامه
نية جديد وزاد نيه من العام
ملفاك ابن هادي كبير العمامة
راعي البويضة اللي على الحرب عزام
اهديت لك نور السلف والجهامة
ابغيك ذخر في مقاديم الأيام
غديت أنا وياك مثل النعامة
جاها بلاها من ثقيلات الاقدام
ان كان تبغي سابق واسلامه
فلا تحدر بالجحادر على يام
حرم عليك النوط فكت بلامه
مادام فيها واحد من ضنى يام
- الكرم: وهي من العادات الحميدة التي اشتهرت بها العرب ومنها يام فهم يحرصون على إكرام الضيف ويتفاخرون بذلك، ومن الاكلات المشهورة عند يام "القعنون" وهي عبارة عن عصيدة ممزوجة بالسمن، واليامية لا يقدمون للضيف "رأس الخروف" لأنهم يعتبرون هذا إهانة له لأن الرأس لا يأكله إلا العبيد والخدم.
- الرفادة: وهي من العادات الحميدة أيضا التي لا تزال إلى اليوم، وهي مساعدة من ابتلي بدية ونحوها حيث يقوم الشخص المتحمل بطلب العون من القبائل ومعه بعض أفراد قبيلته ويطلبون المساعدة ويسمى الشخص الذي يطلب العون "مسترفد" ولا بد لكل قبيلة أن تساعده ولا ترده خائباً. وهذا المبلغ يعتبر كالدين في حق قبيلة المسترفد لو احتاجت القبائل الأخرى للرفادة.
- الفروق: لكل قبيلة "فروق" خاص وهو صندوق عائلي تجمع فيه مبالغ مقطوعة كل شهر أو سنة. وهي لمساعدة المحتاجين من القبيلة أو لإكرام ضيوف القبيلة.
- الفزعة: وهي من العادات المنتشرة لدى قبائل يام، وهي نجدة من طلب النجدة من القبائل، فإذا تعرض أحد افراد القبيلة لضرر فإنه يأخذ في التجول بين القبائل طلباً للنجدة بها فتلبي طلبه في الحال.(50/9)
- الختان: وهي من العادات الموجودة في نجران حيث يقوم بختن الولد شخص خبير وبعد أن يختن الولد يناول الولد " الرغلة" وهي قطعة اللحم الصغيرة التي قطعت منه، فيتناولها الولد بيده ويركض بها ودمه ينزف وهو يردد: "سلمت وهاتها يا أم الختين وأبشري بسلامته" ثم تطلق عيارات نارية، وبعد انتهاء الولد من ركضه يعود إلى الختان ليداوي جرحه ويوقف النزيف. وفي المساء تقام وليمة عشاء يدعى لها أفراد القبيلة ولا بد من حضور أخوال الختين حتى ولو كانوا في مكان بعيد ويقدم أفراد القبيلة عادة مبلغ من المال لوالد المختون تأكيداً على أنه اصبح ولداً للجميع.
2- السمات الشخصية لأفراد المكارمة:
يتميز المكارمة سواء كانوا من اليامية أو من غيرهم ممن يتمذهب بالمذهب الإسماعيلي بعدة سمات منها:
أ- يلبسون عمامة بيضاء على الرأس أو غترة بيضاء يلوون أطرافها على الرأس.
ب- يسبلون ثيابهم من تحت الكعبين ويرون ان هذا هو السنة.
ج- المتدين منهم يعفي لحيته ويحلقها من ناحية الوجنتين.
ويفضلون مخالفة أهل السنة والجماعة في الصفات والسمات العامة.
العبادات عند المكارمة
- الوضوء: وضوء المكارمة شبيه بوضوء أهل ا لسنة، إلا أنهم يتلفظون بالنية عند بدء الوضوء، ولهم عند غسل كل عضو دعاء خاص به، ففي صحيفة الصلاة وهي العمدة عندهم في العبادات يقول: "ويتمضمض بالماء ثلاث مرات ويقول في كل مرة: اللهم اسقني من كأس محمد نبيك" ص5. وهكذا لكل عضو دعاء مختلف. وهم لا يرون غسل القدمين عند الوضوء ويرون مسحها فقط موافقين في ذلك للرافضة، إلا أن المشاهد الآن عند العامة من المكارمة في نجران انهم يغسلون أرجلهم. وهم لا يرون المسح على الخفين والجوربين ولا الصلاة بهما.(50/10)
- الصلاة: صلاة المكارمة تشبه نوعاً ما صلاة أهل السنة في الظاهر إلا أنها تختلف في أمور منها: التلفظ بالنية عند إرادة كل صلاة- وبعد أن يكبر للصلاة يدعو بهذا الدعاء: " وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك امرت وأنا أول المسلمين على ملة ابراهيم ودين محمد وولاية علي وابرأ إليه من اعدائه الظالمين" ويقصدون بالظالمين صحابة رسول الله ( وخاصة الخلفاء الثلاثة الراشدين رضي الله عنهم الذين اغتصبوا –بزعمهم- الخلافة من علي رضي الله عنه وظلموه. وهم في صلاتهم سواء فرادى أو جماعة لا يقولون "آمين" لاسراً ولا جهراً، ويسدلون أيديهم في الصلاة ولا يضمونها على الصدر. ولكل واحد منهم سجادة يصلي عليها ويلاحظ على صلاتهم السرعة فهم لا يخشعون في صلاتهم ولا يطمئنون. ومن عاداتهم الغريبة أن أحدهم إذا اراد أن يصلي وضع كل ما معه من محفظة ومفاتيح وأوراق وساعة أمامه على طرف السجادة، وبعضهم ايضاً يضع سرواله!
وهم يجمعون بين صلاة الظهر والعصر جمع تقديم وكذلك المغرب والعشاء جمع تقديم دوماً ويعللون ذلك بأن الصلاة الأولى مثل دعوة محمد ( والأخرى مثل دعوة محمد بن إسماعيل وهو من أبناء سلالة محمد ( ودورهما واحد لذلك نجمع بينهما.
- الأذان والإقامة:
أذان المكارمة يختلف عن أذان أهل السنة إذ فيه زيادات وهو على النحو التالي:
الله أكبر ... ... الله أكبر ... ... الله أكبر ... ... الله أكبر
أشهد الا إله إلا الله ... ... ... ... ... ... أشهد الا إله إلا الله
أشهد أن محمداً رسول الله ... ... ... ... ... أشهد أن محمداً رسول الله
أشهد أن مولانا علياً ولي الله ... ... ... ... أشهد أن مولانا علياً ولي الله
حي على الصلاة ... ... ... ... ... ... حي على الصلاة
حي على الفلاح ... ... ... ... ... ... حي على الفلاح(50/11)
حي على خير العمل ... ... ... ... ... حي على خير العمل
محمد وعلي خير البشر وعترتهما خير العتر ... ...
محمد وعلي خير البشر وعترتهما خير العتر
الله أكبر ... ... ... ... ... الله أكبر
لا إله إلا الله ... ... ... ... لا إله إلا الله
وإقامة الصلاة عندهم بهذه الصيغة:
الله أكبر ... ... الله أكبر ... ... الله أكبر ...
أشهد الا إله إلا الله ... ... ... أشهد الا إله إلا الله
أشهد أن محمداً رسول الله ... ... أشهد أن محمداً رسول الله
حي على الصلاة ... ... ... حي على الصلاة
حي على الفلاح ... ... ... حي على الفلاح
حي على خير العمل ... ... حي على خير العمل
قد قامت الصلاة ... ... ... قد قامت الصلاة
الله أكبر ... ... ... ... الله أكبر
... ... لا إله إلا الله
- مساجد المكارمة وصلاة الجماعة: يحرص المكارمة على بناء المساجد في جوار مزارعهم ولكن الغريب في الأمر والملفت للانتباه أن أغلب مساجدهم لا تفرش وأنما يقتصرون على وجود عدد كبير من السجادات الفردية.
والصفوف في مساجد المكارمة مقسمة ففي الجامع الكبير في خشيوة يكون الصف الأول لأصحاب الهجرة" وهم من هاجر من حراز من المكارمة" ولا يحق لأحد غيرهم أن يقف فيه ويليهم في الصفوف صف التجار وأهل المناصب ثم عامة الناس، وأما المساجد التي لا يوجد فيها أهل الهجرة فإن التجار والأعيان مقدمون فيها.
وأما صلاة الجماعة فإنهم لا يصلونها إلا بوجود إمام معين من قبل الداعي المكرمي أو نائبه وهؤلاء الأئمة معروفون بهيئتهم المميزة المتمثلة بوجود خاتم فصه أسود على الخنصر في اليد اليمنى وذو ذقن مميز محلوق الوجنتين. فإذا لم يوجد هذا الامام فإنهم يؤدون الصلاة فرادى.
وهم لا يصلون مع السنة في مساجدهم أبداً وإن اضطروا كما في الحرمين فإنهم يصلون بنية الإفراد أو يعيدونها.(50/12)
- صلاة الجمعة: المكارمة لا يؤدون صلاة الجمعة، معللين ذلك بأن صلاة الجمعة لا تقام إلا بوجود إمام عادل تقي وكأنه لا يوجد فيهم تقي ولا عادل وهذا طعن صريح في داعيهم فإما أن يؤدي الجمعة أو يعترف بعدم عدله وتقواه. ونجعل أحد ممن منَّ الله عليه بالهداية منهم يصف لنا كيف يصلون ظهر يوم الجمعة فيقول: "أتينا إلى المسجد وإذا بالصف الأول التجار والناس في المسجد يتكلمون ويتحدثون ثم اقيمت الصلاة في تمام الساعة الواحدة وعشرين دقيقة ظهراً بينما كانت تقام صلاة الجمعة الساعة الثانية عشر والربع في مساجد السنة، فصلوا الظهر أربع ركعات جهراً ثم خطب الإمام خطبة عامية حتى أنه يقرأ القرآن بالعامية واسمه سيدي محسن والناس يتحدثون خلال خطبته ثم انتظر قليلاً في حدود سبع دقائق ثم أقيمت صلاة العصر وكان ذلك في حدود الساعة الثانية وخمسين دقيقة تقريباً ثم انتهينا وصف الجميع للسلام على الإمام وتقبيل يده وركبته".
الصلوات في المواسم:
الصلاة ليلة السابع عشر من رجب: ورد في كتاب صحيفة الصلاة الكبرى والذي تقدسه المكارمة صـ313: "أن ليلة السابع عشر من رجب لها فضل عظيم لأن في مصباحها بعث النبي ( والعامل فيها له أجر عشرين سنة يصلي فيها 22 ركعة يقرأ فيها 22 سورة من قصار المفصل".
صلاة ليلة الخامس عشر من شعبان: ورد في نفس الكتاب صـ318 "يصلي فيها 14 ركعة يقرأ في كل ركعة المعوذات 14 مرة وآية الكرسي.
صلاة الثامن عشر من شهر ذي الحجة: ورد في نفس الكتاب صـ449: "يصلى فيها ركعتين بعد زوال الشمس شكراً لله وتروى قصة تقول: قال مولانا جعفر الصادق: إن هذه الصلاة تعادل عند الله عز وجل مئة ألف حجة ومئة ألف عمرة وما سئل الله حاجة من حوائج الدنيا وحوائج الآخرة إلا قضيت له كائنة ما كانت الحاجة.(50/13)
الصلاة الغريبة ليلة الثالث والعشرين من رمضان: المكارمة يؤدون صلاة غريبة طويلة ليلة الثالث والعشرين من رمضان هذه صفتها: بعد أن يصلوا المغرب والعشاء جمع تقديم يقوم كل واحد منهم لوحده ويصلي ست ركعات أو ثمان صلاة الكفاية يسلم بعد كل ركعتين مثل صلاة أهل السنة ثم يصلي ثمان ركعات صلاة التهجد ثم يصلي اثنتي عشرة ركعة صلاة التسابيح وهذه الأخيرة لا تقرأ فيها الفاتحة ولا ما تيسر من القرآن وإنما يقال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمسة عشر مرة في القيام ومثلها في الركوع ومثلها في الرفع من الركوع ومثلها في السجود فالجلسة بين السجدتين وهكذا حتى تفرغ من كل ركعتين لوحدها فتسلم حتى تنتهي الاثنتا عشرة ركعة ثم تبدأ الطقوس الغريبة حيث يقولون ياعلياه سبعين مرة ويافاطمتاه مائة مرة وياحسناه مائة مرة وياحسيناه 997 مرة ثم البراءة من أعداء البيت وبعد ذلك ينبطحون على الأرض ويأخذون في التدحرج عرضاً في المسجد من أوله إلى آخره جيئةً وذهاباً عدة مرات ثم يسجد الواحد منهم ويضع خده الأيمن على الأرض ويقول يا علي ثم يضع خده الأيسر على الأرض ويقول يا فاطمة وهكذا في سرد لأئمتهم وبهذا تنتهي هذه الطقوس الغريبة، إلا أن المكرمي بعدما أصبحت هذه الصلاة مثار سخرية الآخرين اصدر تعليماته بإلغاء هذه الصلاة مؤقتاً وإن كنا سمعنا من الثقات أنها مازالت تؤدى في بعض المناطق.
فإذا كانت هذه العبادة مشروعة فلماذا تمنع وإذا كانت غير مشروعة فلما تؤدى إن هذا تناقض عجيب ودليل على أن الداعي المكرمي هو المشرع لهم وليس الله.
الصلاة على الميت ودفنه: يتشرف المكارمة بصلاة الداعي أو من ينيبه على المكرمي ويقدمون له نظير ذلك مالاً ويزيد المبلغ إذا نزل القبر ويزيد أكثر إذا أذن في القبر وأكثر إذا حفر اللحد.(50/14)
ومما يعتقدونه أن المعتدة لا يجوز لها أن ترى الرجال ولا يرونها من غير محارمها بل حتى الصبي من غير محارمها، فإذا رآها أحد ولو كان صبي فإنها تعيد العدة وهكذا.
ومن اعتقاداتهم أنه إذا توفي الميت قام أقاربه بذبح شاة يسمونها العقيقة ولا يكسرون من عظامها شيئاً، ثم بعد ذلك يقبرون عظامها وفرثها، ويعتقدون أن في ذلك الأجر العظيم.
- الصيام: المكارمة لا يعتمدون الرؤيا في دخول شهر رمضان وإنما يعتمدون على جدول الكبيسة (انظر صحيفة الصلاة الكبرى صـ686). والذي فيه أن أشهر السنة لا تتغير فشهر تام وشهر ناقص، وبهذا يكون رمضان دائماً تام، لذا فهم يصومون رمضان ثلاثين يوماً دوماً.
ومن الأيام التي تصام يوم الثامن عشر من ذي الحجة والذي يسمونه " عيد غديرخم" والذي تزعم الشيعة أنه اليوم الذي نصب فيه علي رضي الله عنه خليفة الرسول (.
- الحج: يعتمد المكارمة في الوقوف بعرفة على جدول الكبيسة لذا فهم في الغالب يتقدمون على المسلمين بيوم أو يتأخرون بيوم وذلك بحسب رؤية الهلال في كل شهر وتفاوت الأيام في ذلك.
هم بذلك يخالفون المسلمين: وكيف يقفون في عرفة قبل الناس بيوم ؟ انظر لأحدهم وهو يحدثنا عن ذلك بذكاء يحسد عليه! يقول:"اجتمعنا في اليوم الثامن قبل يوم عرفة وتجمهرنا في عرفات تحت قيادة الداعي المكرمي وقد أحاط بنا جمع من أهل السنة، وسألونا عما نعمل قبل الوقفة، فأجبناهم بقراءة أدعية مأثورة، فانصرفوا بعد سماع هذا الجواب الساذج، ثم انصرفنا إلى مزدلفة، وقضينا فيها ليلتنا جوار طريق الطائف الذي يسلكه الحجاج القادمون من هذه المدينة، وكلما سألنا الجمع السني القادم إلى عرفة عن سبب انصرافنا عنها أجبناهم بأنا قادمون من الطائف، وسننزل مكة، ثم نقدم منها إلى عرفة، وهكذا قضينا تلك الليلة، ثم عدنا إلى عرفة، وسرنا شركاء لعامة الحجيج. (انظر سلك الجواهر صـ82) فإذا لم يتمكنوا من الوقوف بحسب حسابهم فإنهم يقلبون الحج إلى عمرة.(50/15)
ولا يصح الحج إلا بصحبة الداعي المكرمي المطلق أو من ينيبه من الدعاة ومن حج بدون الداعي فحجه باطل.
مصادر الدخل لبيت المال
إن الأموال التي تصب في بيت مال المكرمي من كل حدب وصوب لهي أهم سبب في بقاء هذا المذهب، وذلك لأنها في تكدسها في يد المكرمي يستطيع بها تنفيذ خططه الدعوية و شراء الذمم، ولهذا السبب تجد المكرمي يدافع عن مذهبه بكل ما أوتى من قوة هو وحاشيته المستفيدة من بيت المال. لذا تفنن المكرمي في إيجاد مصادر الدخل لهذا البيت ومنها:
1-الخمس: وهو خمس ممتلكات المكارمة من رواتب أو عقار أو مدخرات أو تجارة أو أرصدة، بغير قيد الحول، وهذا مقرر في كتبهم (انظر القاضي النعمان في كتاب الهمة في آداب اتباع الائمة ص69) وهم بهذا يوافقون الرافضة الاثنى عشرية.
2-زكاة الأموال: وتقدر بـ "5%" ولكن اتباع المكرمي في نجران اشتكو من دفع "5%" له و"2.5%" للدولة، فأجاز لهم التخفيف إلى "2.5%" على اعتبار أن ما يدفع للدولة حق مغتصب. وهذه الزكاة لا يحق للاتباع ان يوزعوها على الفقراء بل لابد أن تسلم إلى المكرمي أو من ينوب عنه ليصرفها بمعرفته!.
3-الصلة: وهي تمثل الصلة بين الإمام والاتباع ونظراً لغيبة الإمام فإنها تدفع إلى الداعي المطلق المكرمي القائم مقامه وكلما دفع التابع أكثر زادت الصلة.
4-الفطرة: وهي زكاة عيد الفطر المعروفة ولكنها عند المكارمة لا تدفع من قوت البلد بل تدفع نقداً وهي تقدر بـ"15" ريال عن كل شخص ولا بد أن تسلم إلى المكرمي أو من ينيبه. ومن فعل خلاف ذلك فعليه أن يدفع فطرة جديدة مع كفارة نقض المخالفة.
5- النذر: وهو النذر المعروف في الشريعة الإسلامية، لكنه لا يقبل عند المكارمة إلا نقداً ويسلم بيد الداعي أو من ينوب عنه، وأفضل أوقات دفعه شهر رجب ورمضان ويوم غديرخم الموافق 18/12 من كل عام.(50/16)
6-نذر المقام : وهو نذر قربى لأحد القبور مثل قبر حاتم أبى الخيرات في حراز أو قبر الحسين أو قبور كربلاء والنجف في العراق أو قبر أبو طالب أو أم الرسول ( أو قبر الرسول ( في المدينة أ و غيرها من القبور. ويسلم النذر ومقداره (500) ريال إلى الداعي، والمكارمة يفعلونه سنوياً طلباً للبركة من صاحب القبر وبعد حرب الخليج ارتفعت قبور العراق إلى "3000" ريال وكيف يزور قبور العراق؟ يستخدم الطريقة التالية: يرسل المكرمي فاكس من نجران إلى الهند بأسماء طالبي النذر فيذهب أحد الهنود لزيارة القبور المنذور لها والدعاء عندها.
7-العق: هو أن تعق عن نفسك –أي تذبح عن نفسك- وفي السابق كان لا يقبل إلا ثور ومع تطور الزمن سمح بذبح الخروف، يذبح ولا يكسر منه أي عظم ويطبخ ويدعى له الناس، ويدفع معه مبلغ غير محدد ويسمى كفارة النفس، ويؤخذ من ورثة المتوفى إذا لم يعق عن نفسه، ويدفع للمكرمي ليتبارك الميت.
8-عقد الزواج: حيث يعقد المكرمي بين المتزوجين ويعطي الزوج المكرمي ما تجود به نفسه وإذا استقلها المكرمي تدخل أبو الزوج لدفع الباقي، مع دفع مبلغ آخر لتجديد العهد بين الزوجين. ويقدر هذا المبلغ بـ"2000" ريال.
9-التسليم: وهو أن يطلب من الداعي أو نائبه كتابة "بسم الله" على سجلاتهم التجارية تيمناً وبركة، وتجمع من هذا الفعل مبالغ كبيرة لأنه يفعل كل سنة وعند كل خسارة.
10-بدل الصلاة عن الميت: ويسأل أهل الميت قبل الصلاة عنه أسئلة كثيرة منها: هل الميت على العهد للائمة؟ هل الميت يؤمن بإمام العصر؟ هل الميت يكره الناصبة أعداء آل البيت؟ هل خرج من العهد وعاد؟ هل سبق وأن زار قبور الأئمة؟ وغير هذه الأسئلة كثير.
وكل موضع صلاة له تسعيرة فالصلاة في خشيوة في حدود "2000" ريال والصلاة في المدينة أو مكة في حدود "4000" ريال والصلاة في النجف وكربلاء في حدود "10000" ريال. وتؤدى قبل و بعد الوفاة إلا الصلاة في خشيوة بعد الوفاة فقط.(50/17)
11-الصلاة على الميت: وهو مبلغ يدفعه أهل الميت للمكرمي الذي صلى بهم ويزيد المبلغ إذا نزل القبر ويزيد أكثر إذا أذن في القبر ويزيد أ كثر إذا حفر اللحد.
12-كفارة ما بعد الموت: فإذا مات الرجل ذهب أقاربه إلى المكرمي وقدموا له مبلغاً من المال مقابل الفكوك من عذاب القبر ومبلغاً آخر مقابل العتق من النار وبعضهم يقدم تلك الاموال عن نفسه قبل الموت. وهذا المبلغ لا يقل عن "10000" ريال. وكلما كان المبلغ اكثر كلما كانت المغفرة أكبر.
...
... نجران عبر التاريخ(50/18)
كان أهل نجران في الجاهلية على دين العرب يعبدون الأوثان حتى دخلوا في المسيحية وذلك في حادثة الأخدود التي قصها الله علينا في القرآن العظيم وذلك في سورة البروج قال الله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود* النار ذات الوقود* إذ هم عليها قعود* وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود(. وتفصيل ذلك ما قصه النبي ( عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله ( قال:" كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلى غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه، وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه، فشكى ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس ، فرماها فقتلها، ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني،أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك، كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني. قال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله، فشفاه الله، فأتى الملك، فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال ربي. قال: ولك رب غيري؟! قال: ربي وربك الله. فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمة والأبرص، وتفعل وتفعل؟ فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله عز وجل. فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب،(50/19)
فجيء بالراهب، فقيل له: إرجع عن دينك، فابى، فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: أرجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام، فقيل له: أرجع عن دينك، فأبى فدفع إلى نفر من أصحابه، فقال :أذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه. فذهبوا به، فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفينهم بما شئت. فرجف بهم الجبل، فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: أذهبوا به فاحملوه في قرقور –سفينة صغيرة-، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به ، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي، حتى تفعل ما آمرك به. قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس فأمر بالأخدود بأفواه السكك، فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له اقتحم.
ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق". (رواه مسلم).(50/20)
واستمرت المسيحية في نجران ودب فيها ما دب في النصرانية من الفساد حتى إنهم بنوا كعبة في نجران عظموها مضاهاة للكعبة وسموها كعبة نجران بناها بنو عبدالمدان بن الديان الحارثي وكان فيها أساقفة معتمون وهم الذين جاءوا إلى النبي ( ودعاهم إلى المباهلة، وفيها يقول الأعشى وهو يخاطب ناقته:
وكعبة نجران حتم عليكِ
حتى تناخي بأبوابها
نزور يزيد وعبدالمسيح
وقيساً همو خير أربابها
وأرسل الرسول ( خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني الحارث بن كعب ليدعوهم إلى الإسلام فأسلموا وذلك في السنة العاشرة. وأقبل خالد رضي الله عنه ومعه وفد بني الحارث بن كعب وبايعوا الرسول ( ثم عادوا إلى بلادهم، وقد خرج فيما بعد من بقي على النصرانية من نجران بعد أن أمر بذلك الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن لا يبقى في جزيرة العرب دين آخر غير الإسلام، وذلك امتثالاً لأمر الرسول ( حيث أمر أن لا يبقى في جزيرة العرب دينان.(50/21)
ثم توالت الأحداث على منطقة نجران وضعف بنو الحارث بن كعب وبدأت بينهم وبين همدان حروب شديدة حتى اصلح بينهم الهادي الزيدي عام (284هـ) وبايعه القوم. إلا أن بنو الحارث أهل نجران تحركوا للإيقاع بالهادي فشن عليهم وأوقع بهم وهرب قائدهم ابن بسطام إلى شاكر وفر الباقون إلى جبل الأخدود وأمر الهادي بتعليق القتلى في الشجر منكسة رؤوسهم واستخلف عليهم محمد بن عبدالله العلوي وبسبب ضعف بنو الحارث بن كعب اخذت بطون عديدة من همدان تزحف على نجران ولكن ببطء بسبب قربها من حيث الموقع وضعف بني الحارث حتى أصبحت بنو يام الهمدانيين لهم تواجد في نجران في نهاية القرن الثالث وكان ليام قبل ذلك "جبل يام" ما بين بلاد نهم والجوف وهو جبل واسع، قال الهمداني وهو بلاد يام القديمة. إلا أن بنو الحارث الذين فروا إلى جبل الأخدود وهو من نجران تجمعوا وهاجموا نائب الامام الهادي وأبادوا حاميته واستقلوا بأمر بلادهم وذلك في سنة (295هـ) تحت سلطان آل أبي الجود من بني الحارث. ومنذ ذلك التاريخ اصبح أهل نجران لا يتأخرون عن الاشتراك في أي حرب بين جيرانهم مع من يوفر لهم العطاء كمرتزقة، فقد اشتركوا مع حسان بن عثمان بن يعفر ضد أبناء الإمام الهادي وإخرا جهم من صعدة سنة (322هـ) وفي آخر السنة نفسها يكونون في صف حفيد الهادي ضد المعارضين له ويهاجمون مع غيرهم مدينة صعدة، ودخلت المائة الرابعة والملك لبني ابي الجود بن عبدالمدان، واتصل فيهم وامتد إلى القرن السابع، وكان لليامية وجود معاصر آخر القرن الثالث وما بعده لبني أبي الجود في نجران معتنقين للمذهب الاسماعيلي، ثم بدأ يضعف جانب بنو عبدالمدان ويقوى جانب بنو يام في نجران إلى أن أصبحت الزعامة لهم في المنطقة وقد عقد بنو الحارث مع اليامية حلف فانتسب بعضهم إلى يام، وفي سنة (1135هـ) جاء الداعي محمد بن إسماعيل المكرمي إلى نجران هارباً من بلاد طيبة في اليمن بعد أن غُلبت طائفته فيها على يد الزيود و(50/22)
أراد الهروب إلى الهند عن طريق القنفذة إلا أن اتباعه في نجران طلبوا منه أن يأتي إليهم في حمايتهم، وأسس في نجران سيادة جديدة لطائفته من أبناء يام، ومن بعد ذلك نراهم يلعبون دورهم سياسياً وحربياً مع الشمال والجنوب وينصرون من يجزل لهم العطاء أو يطمعهم في الغنيمة فأصبحت مصدر رزقهم والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها:
- هجومهم على مدينة بيت الفقيه من أرض اليمن سنة (1142هـ). وسلبهم إياها وفي ذلك يقول الشاعر:
وهل نسي أحد بيت الفقيه وقد
صكت بأخبار يام فيه آذان
كم من عزيز أذلوه وكم جحفوا
ما لاً وكم سبيت خود وصبيان
- ومن ذلك غزوهم عسير عام (1199هـ).
- وكاتبهم الشريف حمود ليقفوا معه قبيل موقعة أبو عريش عام (1217هـ) مع الدولة السعودية فقالوا لابن أخيه: إن حركات جند نجد بطيئة، ونحن نسير إلى اليمن ننهب منه ما يقوينا على الحرب، ونعود قبل وصول جند نجد، وانصرفوا ينهبون، ولم يعودوا.
- حاول إمام صنعاء أن يستعين بهم ضد القوات السعودية التي دخلت تهامة اليمن، فاستدعى إليه عبدالله بن حسين بن نصيب اليامي وأغراه ببذل الأموال على أن يقود بطون يام إلى تهامة اليمن، لكن البطون اليامية الأخرى لم تستجيب لابن نصيب، ونقموا على إمام صنعاء، وخرجوا ينهبون في أرض اليمن.
- وحاول عامل الحديدة من قبل إمام صنعاء، صالح بن يحيى العلفي أن يستعين بهم ضد قوات الدولة السعودية بقيادة الشريف حمود، والتي كانت تزحف جنوباً صوب الحديدة، فحدثت معركة بينهم عند جبل باجل، أوائل رمضان (1220هـ)، وكان يقود يام كل من جابر بن مانع بن مذكور، من آل فاطمة، وعبدالله بن نصيب من المواجد، ثم أخذوا من عامل الحديدة أموالاً جزيلة وانصرفوا عائدين إلى نجران، ولم يستمروا معه.(50/23)
وبالنظر لكون يام تميل إلى الإغراءات المادية، فتثير فيها نزعة المغامرة ولأن حكام الدرعية لم يتعودوا بذل تلك الإغراءات، لذا كانت يام كثيراً ما تنحاز إلى جانب خصومهم. بمقابل كجنود مرتزقة لهم بالرغم من العداء المذهبي بينهم وبين الزيود، الذي يتلاشى مؤقتاً أمام ذلك الإغراء المادي، وكان منها أيضاً تعديات على عشيرة من قبيلة سنحان المجاورة لهم بجنوب عسير وهي ضمن رعايا الدولة السعودية، وأكبر من ذلك ما كانت تسببه هذه القبيلة من خطر على الدولة السعودية، حيث أنها في عام (1177هـ) هجم جماعة من يام على عشائر سبيع الذين دخلوا في عهد الأمير محمد بن سعود وطاعته وأوسعوهم قتلاً وسبياً، فلما بلغ ذلك الأمير عبدالعزيز بن محمد أسرع في اللحاق بالعشيرة الغازية فأدركهم في موضوع يقال له "قذلة" بين القويعية والنفود، وقاتلهم قتالاً عنيفاً، فقتل منهم خمسين رجلاً وأسر مائتين وأربعين وأخذ ما كان معهم من المال والسلاح. وانطلق الناجون من اليامية إلى نجران عند رئيسها الديني الحسن بن هبة الله المكرمي، وعرضوا عليه حالهم، وطلبوا منه أن يثأر لهم، واستجاب صاحب نجران لهؤلاء المستجيرين به، وجمع المقاتلة من عشيرة "يام" وغيرهم، وسار بهم قاصداً الدرعية، وصلت جموع المكرمي إلى الحائر وهو "حائر سبيع" بين الخرج والرياض في ربيع الثاني (1178هـ) فسار عبدالعزيز للقائهم بجيش كبير، وكان رجال هذا الجيش فيما يقول ابن غنام- معجبين بأنفسهم- ودارت معركة طويلة انهزم فيها جيش عبدالعزيز ، فقتل من رجاله نحو خمسمائة وأسر أكثر من مئتين، ورجع عبدالعزيز بمن نجا معه إلى الدرعية وتمت المصالحة بينهم على أن يطلقوا الأسرى من اليامية ويطلق المكرمي الأسرى من جند عبدالعزيز ورجع المكرمي إلى نجران، وفي ذلك قال شاعرهم:
يا بيض غني لحسن بن هبة
غنت له البيض وارجف له حمام اليمن(50/24)
وفي عام (1189هـ) أقبل اليامية بقيادة المكرمي ومعهم بعض الدواسر إلى الحاير فنشب بينهم وبين أهل الحاير قتال عنيف قتل من اليامية نحو أربعين رجل ,انتهى القتال بالصلح، ونظراً لعدم نجاحه في هذه المعركة اتجه منها إلى ضرماء وحاصرها ودخلوا في بعض نخيلها، فحاربهم أهل ضرماء حرباً شديدة وقتلوا من اليامية اعداداً كبيرة بين النخيل، فهرب اليامية ورجعوا إلى ديارهم منهزمين.
كل هذه الأحداث جعلت الإمام سعود يصدر أمره عام (1220هـ) إلى القائد عبدالوهاب أبو نقطة، بأن يقود قبائل عسير لتأديب يام، والعمل على إخضاعها، كما اصدر أوامره إلى فهاد بن شكبان أمير بيشة وإلى الدواسر تحت قيادة كل من ربيع بن زيد وابراهيم بن مبارك بن عبدالهادي رئيس الوداعين وإلى قبائل قحطان ووادعة الجنوب بأن تسير جموعهم تحت قيادة ابو نقطة إلى نجران فالتقت تلك الجموع التي تجاوز عددها ثلاثين ألفاً، مع جميع بطون يام وبادية نجران بالقرب من بلدة بدر الجنوب في نجران ووقع قتال شديد على مدى ثلاثة أيام قتل من الطرفين الكثير، وكان منهم إبراهيم بن مبارك رئيس الوداعين وإدريس بن حويل، واقام ابو نطقة في موضعه هذا حوالي شهرين ثم بنى فيه قصراً بما يشبه الحصن سمي "الثغر " في قرية حمضة وضيق عليهم إلى أن جاء وفد من أهل نجران إلى الدرعية ليبذلوا الطاعة والولاء ويؤدوا الزكاة إلى الإمام سعود، فكتب الإمام سعود لهم بذلك كتاباً فيه توضيح منهجهم وأنهم يدعون إلى كتاب الله وسنة رسوله وفيه موعظة بالتمسك بالدين إلا أن بعض بطون يام لم يدخلوا في الطاعة ضمن من دخلوا عام (1220هـ) بل اشتركوا في حرب عام (1224هـ) ضد الدولة السعودية ثم حدثت مهادنة بين الطرفين. بعد ذلك رجع اليامية إلى طريقتهم المعهودة من الغزو والسلب حيث توغل الياميين بقيادة المكرمي في أرض اليمن واخضعوا مناطق بداخلها لحكمهم عام (1229هـ) منها منطقة صعفان وحراز والحيمة غربي صنعاء واستمرت في يدهم(50/25)
إلى أن توجه أ حمد مختار باشا في أوائل سنة (1289هـ) إلى حراز وتوجه إلى المكرمي وقومه وهم رجال يام فأجلاهم عنها وقتل المكرمي وابنه.
وعلى كل فإن ولاء بعض البطون اليامية، استمر مبذولاً إلى أئمة الدولة السعودية الأولى والثانية لدخولهم في الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب وتركهم للمذهب الإسماعيلي كما سنبينه لاحقاً إن شاء الله.
وفي العهد العثماني أصبحت نجران غير خاضعة لجهة ما وإن كان أهلها يجاملون الأتراك مراعاة لمصالح طائفتهم الخاضعة للإدارة العثمانية في جهات حراز وغيرها وقنع الأتراك بانتمائهم الاسمي، تحت زعيمهم الإسماعيلي المكرمي.
وبعد جلاء الأتراك بعد أن سلموا للإمام يحيى اليمن وضمت الدولة السعودية في عهد الملك عبدالعزيز بلاد عسير والإمارة الادريسية وبذلك تلامست الحدود وبقيت نجران منطقة حياد مستقلة بأمر نفسها لا حكم لاحد الطرفين عليها وهي في نزاع قبلي مع قبائل الحكومتين.(50/26)
وأخذ كل طرف من الطرفين يهيئ الأسباب لاحتواء نجران ونشأت بينهما المفاوضات وأهل نجران إسماعيلية في عداء عقائدي مع كل الفرق المذهبية وخاصة مع الزيدية وعاشت نجران من سنة (1345هـ) إلى (1352هـ) مستفيدة ومحاولة محاولة غير ناجحة أن تكون محايدة بين الجهتين، وفي أوائل سنة (1352هـ) تراءى للإمام يحيى أن يدخل نجران فأنشأ فتنة داخلية في نجران وزحف بجيشه داخل نجران ونشب القتال بينهم وبين المكرمي وجيشه فسحق جيش المكرمي ففروا ملتجئين إلى الرياض، فدخلت قوات الإمام يحيى إلى مركز المكرمي بلدة الجمعة في بدر ودمرتها واخربت بيوت المكارمة ونبشت قبورهم فثارت حمية المكارمة فهجموا على الجند وأجلوهم عن بدر فاتجه المكرمي وجماعة معه إلى الملك عبدالعزيز بواسطة ابن مساعد عام (1353هـ) مجددين ولاءهم الذي سبق ، وتمركزت قوات الإمام يحيى في حصون وادي نجران فقط أما البادية ففي يد المقاومة فتغير موقف جند الإمام يحيى من الهجوم إلى الدفاع وعند اشتداد الأزمة بين المملكتين تقدمت سرية من الجيش السعودي ورابطت في أسفل وادي نجران مما أعطى أهل نجران دفعة معنوية فشنت الهجوم على قوات الإمام يحيى وأجلتهم عن نجران وانتهى القتال بقبول الإمام يحيى الانسحاب من نجران والاعتراف بالسيادة السعودية عليها وتحديد الحدود.
سبب دخول بعض الفروع من قبيلة يام في مذهب أهل السنة والجماعة
كان لطبيعة منطقة نجران الجغرافية المغلقة أثرا في انعزالها عن بقية المناطق المجاورة، واستقلالها في الطباع والعادات، بل والمذهب أيضا. فقد تبنت المذهب الإسماعيلي من أيام الدولة الصليحية المتمثل في قبيلة يام التي أصبح لها السيادة في المنطقة.(50/27)
وكانت يام بجميع بطونها على المذهب الإسماعيلي بقيادة الزعيم الديني المكرمي الذي يرجع اصله إلى حمير قحطان –كما اسلفنا- واستمرت على هذا المذهب حتى دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله. وقد أسلفنا القول في مبحث تاريخ نجران أن اليامية بقيادة الزعيم الديني المكرمي قد هاجموا الدعوة في وقعة الحاير التي سبقها القبض على جماعة من اليامية في منطقة "قذلة" (بين القويعية والنفود) على يد الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود. وكان من ضمن الأسرى الأمير مجحود زعيم آل عرجاء حيث قبض عليه وسجن في الدرعية. وفي أثناء أسره تأثر بالدعوة الإصلاحية السلفية ودخل في دعوة التوحيد – (وقد كان على المذهب الإسماعيلي) فقال في ذلك أبيات منها:
عبدالعزيز اسمع خلاص تعافيت
ولا تصدق ناقلين الوحاني
يا طول ماني مشرك ثم صليت
والحمد لله يوم ربي هداني
ويا طول ماني لأريش العين فزيت
واليوم فزت لصقعة الأذان
الوحاني: هي الضغائن والأحقاد. أريش العين: المرأة الجميلة. صقعة الأذان: أول الأذان.
وقد أخرج الأمير مجحود من السجن، وأصبح داعية للتوحيد، فقد أرسل معه بعض الدعاة من العلماء لدعوة قبيلة يام فنزل في المنطقة الشمالية من وادي نجران وهي منطقة (يدمه) فهدى الله على يديه ثلاثة من فروع قبيلة يام وهم: آل عرجاء وآل فهاد وآل رشيد. وبقي فرعان من فخذ الوعلة من قبيلة يام وهما آل فطيح آل مطلق، فأخذ مجحود يشن الغارات تتلوها الغارات على هذه الفروع ومن عداهم من أهل نجران رغبة في إسلامهم حتى توفي رحمه الله. وقد قال قبل وفاته هذا البيت من الشعر:
هني من مات في ديرة إسلام
إسلام يام لا بحي ولا مات(50/28)
وقد استمرت هذه الفروع الثلاثة من فروع يام على مذهب أهل السنة والجماعة إلى وقتنا الحاضر. وقد تأثر بهم بعض آل فطيح وبعض آل مطلق فدخلوا معهم في مذهب أهل السنة والجماعة. أما بقية بطون يام فلا تزال على المذهب الإسماعيلي إلا بعض الأفراد والمجموعات البسيطة ممن فتح الله على قلبه ونور بصيرته برؤية الحق.
أسأل الله أن يمن على من بقي من بطون يام بهدايته إنه سميع قريب مجيب. اللهم آمين.
...
... الإسماعيلية في أطوار التاريخ
تعتبر فرقة الإسماعيلية من غلاة الشيعة، ومن الحركات الباطنية التي اتخذت التشيع لآل البيت ستاراً لها تحاول من خلاله تحقيق مطا معها وأهدافها بغية تقويض الإسلام وهدم أركانه.
لذا كان لابد من الحديث أولا عن بدء التشيع بلمحة موجزة، ثم بعد ذلك نعرض لنشأة الإسماعيلية.
المراحل التي مر بها مفهوم التشيع:
كان مدلول التشيع في بدء الفتنة التي وقعت في عهد علي رضي الله عنه بمعنى المناصرة والوقوف إلى جانب علي رضي الله عنه ليأخذ حقه في الخلافة بعد الخليفة عثمان رضي الله عنه، وأن من نازعه فيها فهو مخطئ يجب رده إلى الصواب ولو بالقوة. وكان هؤلاء من شيعة علي رضي الله عنه بمعنى أنصاره وأعوانه. ومما يذكر لهم أنهم لم يكن فيهم من بغى على المخالفين لهم؛ فلم يكفروهم، ولم يعاملوهم معاملة الكفار، بل يعتقدون فيهم الإسلام، وأن الخلاف بينهم لم يتعد وجهات النظر في مسألة سياسية حول الخلافة.
ولم يقف الأمر عند ذلك المفهوم من الميل إلى علي رضي الله عنه ومناصرته، إذ انتقل نقلة أخرى تميزت بتفضيل علي رضي الله عنه على سائر الصحابة. وحين علم علي رضي الله عنه بذلك غضب وتوعد من يفضله على الشيخين بالتعزير، وإقامة حد الفرية عليه.(50/29)
ثم بدأ التشيع بعد ذلك يأخذ جانب الغلو أكثر، والخروج عن الحق، وبدأ الرفض يظهر، وبدأت أفكار ابن سبأ اليهودي تؤتي ثمارها الخبيثة، فأخذ هؤلاء يظهرون الشر، فيسبون الصحابة ويكفرونهم ويتبرؤون منهم، لزعمهم أن الصحابة اغتصبوا الخلافة من علي رضي الله عنه وأن الرسول ( قد نص عليه، وهذا محض افتراء وكذب، ولم يستثنوا من الصحابة إلا عدد قليل منهم. وكان ابن سبأ هو الذي تولى كبر هذه الدعوة الممقوتة الكافرة، وقد علم علي رضي الله عنه بذلك فنفاه إلى المدائن.
واستمرت هذه الدعوى الخبيثة بعد مقتل علي رضي الله عنه وانقسمت الشيعة إلى فرق عديدة أوصلها بعض العلماء إلى ما يقارب السبعين فرقة. ومن الطبيعي جداً أن يحصل الخلاف بين الشيعة شأنهم شأن بقية الفرق أهل الأهواء؛ فما داموا قد خرجوا عن الذي ارتضاه الله لعباده، واستندوا إلى عقولهم وأهوائهم فلا بد أن يقع الخلاف. وبما أن أساس الشيعة الذي قامت عليه هو القول بالنص على الإمامة كما يزعمون فقد أصبحت أيضا الإمامة هي سبب افتراق الشيعة إلى فرقة تكفر كل فرقة الأخرى، ومن ذلك الإسماعيلية كما سنرى.
نشأة الإسماعيلية:
تعود جذور هذه الفرقة إلى الشيعة الإمامية الاثنى عشرية في نشأتها. وتلتقي معها في القول بإمامة جعفر الصادق رحمه الله ومن قبله من الأئمة إلا أنه بعد وفاة جعفر سنة (147هـ) حصل انشقاق بين الشيعة، ففريق ساق الإمامة إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق، فسموا الموسوية الإمامية الاثنى عشرية، وفريق آخر ساق الإمامة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق فسمو بالإسماعيلية.
وكان إسماعيل هذا قد مات في حياة أبيه إلا أن الإسماعيلية قالت: إن الإمامة لا تكون إلا في الأعقاب، ولا ينبغي أن تنتقل إلى أخيه، فالإمام بعد إسماعيل ابنه محمد بن إسماعيل.(50/30)
وكان من الشخصيات المؤثرة في تأسيس المذهب الإسماعيلي شخصية أبو الخطاب محمد بن مقلاص الأسدي، الذي يعتبر من مؤسسي الفرق الباطنية، بل من أساتذتها. وقد سار أبو الخطاب في أفكار الغلو شوطاً كبيراً ورئيساً، فقد كان استاذاً للمفضل الجعفي الذي كان وراء محمد بن نصير في أفكاره الضالة التي أسس عليها فرقته النصيرية. وكان أستاذاً لإسماعيل بن جعفر ولابنه محمد، وزميلاً مخلصا لميمون القداح وابنه الذين عملوا بشكل فعال على انطلاقة الحركة الباطنية بثوبها الإسماعيلي، والتي انبثقت منها أكثر الحركات الباطنية الأ خرى كالقرامطة والدروز وغيرها، وهذا ما اعترفت به المصادر الإسماعيلية نفسها، فقد قال الداعي المشهور أبو حاتم الرازي المتوفى في القرن الرابع في كتابه الزينة: إن أبا الخطاب من مؤسسي المذهب الإسماعيلي. و في كتاب "أم الكتاب" (وهو من الكتب السرية المقدسة عند الإسماعيلية) :"إن مذهب الإسماعيلية هو المذهب الذي وضعه أبناء أبي الخطاب الذي قدم جسده قربانا لنجل الإمام الصادق". وكان لهذه العلاقة أثر على جعفر حيث غضب على المفضل بن عمر (أحد أتباع أبي الخطاب) حيث قال له: "يا كافر يا مشرك مالك ولابني؟ ما تريد إلى ابني؟ أتريد أن تقتله؟" (أنظر رجال الكشي الرافضي).
وهؤلاء الأتباع الذين التفوا حول إسماعيل هم الذين قالوا بإمامة إسماعيل بن جعفر وأسسوا طائفة الإسماعيلية، ومن هؤلاء ميمون القداح وابنه عبدالله.
إذاً الإسماعيلية هي وليدة الخطابية الذين لجأوا بعد أبي الخطاب إلى إسماعيل، وبعدة وفاة إسماعيل التفوا حول ابنه محمد وأوعزوا له بالدعوة إلى نفسه، ولكن محمد اضطر إلى مغادرة المدينة النبوية وذهب إلى خوزستان ثم إلى بلاد الديلم، ولم يسمع عنه شيئا بعد ذلك.(50/31)
ويدعي الإسماعيلية –وليس لهم في ذلك حجة- أن محمدا عاش في السر حاملا الدعوة التي توارثها أبناؤه من بعده للدعوة إليهم، وبالتالي صعب معرفة هؤلاء الأئمة، ونظراً لغموض هذه الفترة واستتار أئمتها –كما يزعمون- اضطربت آراء مؤرخي الإسماعيلية أنفسهم حولها، فهم مختلفون في أسماء هؤلاء الأئمة وفي عددهم أيضا، فبعضهم جعلهم ثلاثة، وقال البعض خمسة، وقال البعض سبعة، وهذا من أكبر الأدلة على بطلان هذه الدعوى.
إلا أن المتتبع لتاريخ الإسماعيلية يرى بجلاء الدور الخطير لميمون القداح الذي أدار دفة هذه المرحلة الحرجة من مراحل الإسماعيلية وهذا ما شهدت به كتب الإسماعيلية أنفسها، فهذا مصطفى غالب الإسماعيلي المعاصر يقول في كتابه الحركات الباطنية:" إن ميمون القداح كان فيلسوفاً وعالماً من أبلغ علماء عصره، ومن أعظم واضعي أسس الحركة الإسماعيلية، وعلى يده ويد أولاده وأحفاده ازدهرت هذه الحركة في دور الستر الأول.
وعن أساليب أسرة ميمون القداح في الدعوة إلى مذهبهم يقول المقريزي- والذي كان معاصر للدولة العبيدية- في خططه: "كان لميمون القداح هذا ابن يسمى عبدالله كان عالماً بالشرائع والسنن والمذاهب، وقد وضع سبع دعوات يتدرج الإنسان فيها حتى ينحل عن الأديان كلها ويصير معطلا إباحياً لا يرجو ثوابا ولا يخاف عقاباً، وكان يدعو إلى الإمام محمد بن إسماعيل حتى اشتهر وصار له دعاة، فجاء إلى البصرة، فعرف أمره ففر منها إلى سلمية في الشام فولد له بها إبن اسمه أحمد، فلما مات قام من بعده أبنه أحمد، وبعث بالحسين الأهوازي داعية إلى العراق فلقي أحمد بن الأشعث المعروف بقرمط في سواد الكوفة، ودعاه إلى مذهبه فأجابه، وإلى قرمط تنتسب القرامطة. وولد لأحمد الحسين ومحمد المعروف بابي الشلعلع، وولد بعد ذلك للحسين بن أحمد ابن اسمه سعيد فصار تحت حجر عمه بعد وفاة أبيه".(50/32)
أخذ أحمد في بث الدعاة وكان يرى أن اليمن والمغرب هما خير البلاد التي يمكن أن يستجيب أهلها. استدعى أحمد رجلا من أهل الكوفة يقال له أبو القاسم الحسن بن حوشب، وكان من الإمامية إلا أنه دخل في الدعوة الإسماعيلية، وأخذ أحمد يرصد من يرد إلى المشاهد المقدسة عندهم من أجل اختيار الدعاة ، فوقع اختياره على رجل من اليمن وهو علي بن الفضل من أهل جيشان، وهو من الشيعة الإمامية فاحتال على إدخاله في الدعوة الإسماعيلية فاستجاب وقبل.
ظهور الدعوة الإسماعيلية في اليمن:
بعث أحمد كل من ابن حوشب وعلي بن الفضل إلى اليمن، فلما وصلا اليمن أول سنة (268هـ) دخلاها من ميناء غليفقة، واستقر ابن حوشب في الجهة الغربية منها فيما يسمى بعدن لاعة من مقاطة حجة. أما علي بن الفضل فقد توجه فور وصوله إلى بلدة يافع، ومن أجل الوصول إلى الغاية المرجوة فقد أظهر الزهد والصلاح، وأخذا في نشر الدعوة، وحال بعد اليمن عن مركز الخلافة، ووعورة طرقها بالإضافة إلى اشتغال العباسيين في ذلك الوقت بثورة الزنج بين الخلافة والالتفات لليمن لإنقاذه من الدعوة الإسماعيلية.
نجح الحسن بن حوشب الذي تسمى بمنصور اليمن في إقامة الدعوة في اليمن، ولما تأكد الحسين بن أحمد في سلمية من تمكن الدعوة في اليمن أرسل أبا عبدالله الشيعي إلى اليمن ,وامره أن يمتثل طاعة ابن حوشب ويحذو حذوه.
وبعد أن تمكن ابن حوشب من نشر الدعوة في اليمن، وأخذ أبو عبدالله الشيعي تعاليم المذهب منه أرسله ابن حوشب إلى المغرب عن طريق الحجاج من قبيلة كتامة؛ حيث كانت المغرب أرضاً مهيأة لنصر المذهب فقد سبقه إليها ابو سفيان والحلواني وكان لدعوتهما قبول فكان أبو عبدالله صاحب البذر للأرض التي حرثاها، ولقيت دعوته نجاحاً كبيراً، وقضى على مجموعة الدول الإقليمية في بلاد المغرب.
أما علي بن الفضل فلاقى نجاحاً كبيراً على خصومه السنيين آل يعفر الحواليين، فاستولى على مناطقهم وضمها إلى منطقته.(50/33)
المراحل الأولية لظهور الدولة العبيدية (الفاطمية):
أمام هذه الانتصارات الكبرى التي أحرزها الاتجاه الإسماعيلي أرسل ابن حوشب إلى سعيد الذي اشتهر في سلمية بعد وفاة عمه وأبوه، وهو الذي تسمى فيما بعد بعبيد الله وتلقب بالمهدي، وهو سعيد بن الحسين بن أحمد بن عبدالله بن ميمون القداح. أرسل إليه ابن حوشب يخبره بأن بلاد اليمن أصبحت مهيأة لاستقباله لإقامة دولة المهدي فيها، وكانت المخاطر تحيط به في سلمية، والعباسيون يبحثون عنه، وأخذ ابو عبد الله الشيعي هو الآخر يلح على سعيد (المهدي) بالقدوم إليه في بلاد المغرب. وكان على سعيد أن يختار بين اليمن أو المغرب لإقامة دولته، والذي يبدو أن سعيد (المهدي) فضل بلاد المغرب على اليمن، وإن أظهر أنه يريد بلاد اليمن عند خروجه سراً من سلمية؛ لأن بلاد المغرب كانت أكثر أمانا لإقامة الدعوة الإسماعيلية بها؛ فأبو عبدالله الشيعي قضى على الأغالبة ممثلي الخلافة العباسية في بلاد المغرب. ولم يكتف بذلك بل قضى على الدولة الرستمية الاباضية أيضا، واستولى على دولة الخوارج الصفرية في سجلماسة، وضم إليه دولة الادارسة العلوية وعاصمتها فاس. يضاف إلى ذلك أن بلاد المغرب كانت بعيدة عن مركز الخلافة العباسية في بغداد، كما أن بلاد الأندلس كانت مقراً للدولة الأموية الثانية، وعلى ذلك فليس هناك أية قوة محلية يمكن أن تتعاون مع العباسين ضد الإسماعيلية هناك، أما بلاد اليمن فهي قريبة من بغداد العباسية ونفوذها الذي كان مسيطراً على الجزيرة العربية، وأيضا للاتجاه السني في اليمن وهم بنو زياد في تهامة وآل يعفر الحواليين في صنعاء فاتجه للمغرب.
أدى اتجاه سعيد (المهدي) إلى المغرب وعدم قصده اليمن إلى انشقاق داعيته الرئيس فيروز ومضى قاصدا اليمن.
خروج علي بن الفضل على الدعوة الإسماعيلية وأخذه بالمبدأ القرمطي:(50/34)
استقبل علي بن الفضل فيروز، ووجد في اتجاه سعيد إلى المغرب فرصة للاستقلال بملك اليمن، بينما فطن ابن حوشب إلى موقف فيروز عن طريق رسالة أرسلها له سعيد (المهدي) يخبره بانشقاق فيروز فسارع علي بن الفضل إلى الدعوة للاستقلال بملك اليمن، فنشب صراع عنيف بين ابن حوشب وعلي بن الفضل حيث كان ابن حوشب يدعو علي بن الفضل إلى الرجوع إلى الدعوة ، وكان علي بن الفضل يقول إن لي بأبي سعيد الجنابي القرمطي أسوة إذ دعى لنفسه، وأنت يا ابن حوشب إذا لم تنزل إلى طاعتي وتدخل بإجابتي نابذتك الحرب.
جهز على بن الفضل جيشاً من عشرة آلاف رجل حاصر بهم ابن حوشب في جبل "فائش"ثمانية اشهر، ولم يفك الحصار عنه إلا بعد أن قدم ابن حوشب ولداً من أولاده ليكون رهينة عند علي دلالة على خضوعه له، وكان ذلك في سنة (299هـ). وبعد أن أنهى حصاره لمنصور اليمن (ابن حوشب) انهمك علي بن الفضل بالمذيخرة عاصمة دولته للأخذ بمبدأ القرامطة من تحليل المحرمات وإباحة المحظورات، وعمل بالمذيخرة داراً واسعة يجمع فيها غالب أهل مذهبه رجالا ونساء متزينين متطيبين، ويوقد بينهم الشمع ساعة، ويتحادثون فيها بأطيب حديث وأطربه وأمجنه، ثم يطفئ الشمع، ويضع كل منهم يده على امرأة، فلا يترك الوقوع عليها وإن كانت من ذوات محارمه. ويذكر ابن الديبع أن علي بن الفضل عندما دخل مدينة الجند أدعى النبوة، وكان المؤذن يؤذن في مجلسه: "أشهد أن علي بن الفضل رسول الله" وأباح لأصحابه شرب الخمر وأنشد الأبيات المشهورة على منبر مدينة الجند التي يقول فيها:
خذي الدف يا هذه واضربي
وغني هزازيك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم
وهذا نبي بني يعرب
أحل البنات مع الأمهات
ومن فضله زاد حل الصبي
لكل نبي مضى شرعة
وهذي شريعة هذا النبي
فقد حط عنا فروض الصلاة
وحط الصيام فلا تتعب
إذا الناس صلوا فلا تنهضي
وإن صوَّموا فكلي واشربي(50/35)
ولا تطلبي السعي عند الصفا
ولا زورة القبر في يثرب
ولاتمنعي نفسك المعزبين
من الأقربين مع الأجنبي
فمن اين حللت للابعدين
وصرت محرمة للأب
أليس الغراس لمن أسّه
وسقاه في الزمن المجدب
وما الخمر إلا كماء السماء
حلال فقدست من مذهب
وله من الفضائع الكثير لم نذكرها خشية الإطالة.
انهمك علي بن الفضل في تحليل المحرمات وقد واجه مقاومة شديدة من زعماء القبائل اليمنية حتى سنة 303هـ، حيث دبر له أسعد ابن أبي يعفر الحوالي وأحد الأشراف الذي كان حاذقا بالطب مكيدة لقتله، فتسلل هذا الطبيب إلى المذيخرة عاصمة ابن الفضل، وذاعت شهرته هناك، فاستدعاه ليفصده، فدخل على علي بن الفضل فسلم عليه، وكان قد جعل كمية من السم في شعر رأسه، وامره ابن الفضل ان ينزع ثيابه ويلبس غيرها، وان يمص المبضع قبل استعماله ففعل كل ذلك، وابن الفضل ينظر إليه، ثم مسح المبضع برأسه فعلق به من السم حاجته ثم فصده، وخرج من ساعته، فأثر السم به وقتله. ولما علم أسعد بن ابي يعفر بذلك استنفر القبائل واتجه بهم نحو المذيخرة وحاصرها ورماها بالمنجنيق حتى نزلوا على حكمه، فتسلم المدينة، وقتل من القرامطة خلقاً كثيرا.
هذا وصف موجز لقصة علي بن الفضل القرمطي الذي خرج على الدعوة الإسماعيلية ودعى لنفسه، وقد روتها كتب التاريخ اليمني بأجمعها، وفي بعضها زيادات لم نأت بها خشية الإطالة.
دخول الدعوة الإسماعيلية في اليمن في طور الستر:
دخلت الدعوة الإسماعيلية بعد موت ابن حوشب في طور الستر في اليمن خاصة بعد دخول ابو الحسن بن منصور اليمن في مذهب أهل السنة ومحاربته الدعوة الإسماعيلية.(50/36)
ومن أهم دعاة الستر في هذه الفترة: عبدالله بن عباس الشاوري، ابن ابي الطفيل، جعفر بن أحمد بن عباس، هارون بن محمد بن رحيم، يوسف بن أحمد الأشج، سليمان الزواحي. وقد ظل هؤلاء الدعاة على التوالي ينشرون الدعوة سرا في اليمن إلى أن أعلنها علي بن محمد الصليحي سنة (439هـ) حسبما يأتي.
ظهور الدولة العبيدية (الفاطمية):
ونعود الآن إلى الدعوة في المغرب، فقد خرج إليها سعيد (المهدي) إلا أنه في طريقه إليها قبض عليه من قبل العباسين لكن أبو عبدالله الشيعي احتال في إخراجه من محبسه فتسمى سعيد حنيئذ بعبيد الله وتكنى بأبي محمد وتلقب بالمهدي، وزعم أنه إماما علويا من نسل محمد بن إسماعيل، بينما هو من نسل ميمون القداح. وعندما وصل إلى قبيلة كتامة سار أمامه ابو عبدالله الشيعي وهو يقول: هذا إمامكم، هذا إمام الحق، هذا هو المهدي. هذا وقد نهج دعاة عبيد الله المهدي أساليب عنيفة لإرغام الناس بالدخول في المذهب الإسماعيلي، فمن أجابهم أحسنوا إليه ومن أبى حبس أو قتل.
ومن جانب آخر أخذ في ترويج العقائد الإسماعيلية من سب الصحابة وبالغ في ذلك، ومن السماح للشعراء بمدحه بما هو كفر، فهذا الشاعر محمد البديل يقول للمهدي عندما أتى رقادة:
حل برقادة المسيح
حل بها آدم ونوح
حل بها أحمد المصطفى
حل بها الكبش والذبيح
حل بها ذو المعالي
وكل شيء سواه ريح
وأخذ في توطيد حكمه بالسيف والظلم حتى استقر له ذلك في المغرب. وعلى ذلك قال القاضي عياض :" اجمع العلماء بالقيروان أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة".
وقد تعاقب على الدعوة العبيدية (الفاطمية) عدد من الأئمة جاءوا على النحو التالي:(50/37)
عبيد الله المهدي (297-322), القائم بأمر الله ابو القاسم محمد (322-334)، المنصور بالله أبو الظاهر إسماعيل (334-341)، المعز لدين الله ابو تميم (341-365)، وفي عهده انتقلت الدولة العبيدية (الفاطمية) إلى مصر؛ حيث أرسل جيشاً بقيادة جوهر الصقلي الذي تمكن من اقتحامها سنة (358) فبنى فيها مدينة القاهرة، واتخذها عاصمة له، وبنى الجامع الأزهر الذي أتخذ مركزاً علمياً لقيادة الدعوة الإسماعيلية، ثم جاء العزيز بالله (365-386)، الحاكم بأمر الله (386-411)، وفي عهده أعلن أحد دعاة الإسماعيلية مذهبا انشق عنها سنة (408هـ)، نادى بألوهية الحاكم بأمر الله، وعرف هذا المذهب بالدرزية، ثم تولى بعد ذلك الظاهر أبو الحسن علي (411-427) ثم المستنصر بالله (427-487)، وقد انقسمت الإسماعيلية بعد وفاته سنة (487هـ) إلى فرقتين وكان هذا الانقسام من أخطر الانشقاقات التي حدثت داخل الإسماعيلية، إذ صار له انعكاس خطير على مجريات تاريخ الإسماعيلية وعقائدها. وقبل الحديث عن هذا الانقسام الخطير نعيد الزمن قليلاً وننتقل إلى اليمن لنرى ماذا حل بالدعوة الإسماعيلية بها.
الدعوة الإسماعيلية في اليمن في العهد العبيدي (الفاطمي) وظهور الدولة الصليحية:(50/38)
مرت الدعوة الفاطمية في اليمن منذ وفاة منصور اليمن بحالة من الضعف، مما أداها إلى الدخول في مرحلة الستر، فرجع بعض رجالها مثل أبي الحسن بن المنصور إلى مذهب أهل السنة، وفر بعض اتباعها خوفاً من رجال السنة إلى عمان، إلا أن طبيعة بلاد اليمن الجبلية الوعرة ساعدت على استمرار بعض الأفراد والجماعات على تمسكها بالدعوة رغم ما واجهوه من صعوبات متخذين الستر حصنا لهم. وقد سبق ان ذكرنا دعاة هذه المرحلة، وكان آخرهم الزواحي الذي كان يعاصر الظاهر والمستنصر من الحكام العبيديين، وكان الزواحي هذا من أهل حراز، وكان في وقته قاضي سني المذهب له طاعة في رجالها، وهو محمد بن علي الصليحي الهمداني –والد الداعي علي بن محمد الصليحي- فأخذ الزواحي يلاطفه ويلازمه حتى نجح في استمالة قلب ولده علي، وهو يومئذ دون البلوغ؛ لما رأى فيه من النجابة والذكاء فأخذ يعلمه المذهب الإسماعيلي، ولم يلبث الزواحي أن توفي بعد أن أوصى بكتبه إلى علي، فداوم المطالعة لها حتى أتقن المذهب.(50/39)
وعندما كبر الصليحي قام يحج دليلا بالناس، وأخذ في جمع الأتباع سراً خوفاً من النجاحيين السنيين، ويحاول ملاطفة الرئيس النجاحي إلى أن تحين الفرصة للخلاص منه، حتى تمكن من قتله على يد جارية حسناء أهداها إليه سنة (452هـ) فكانت هذه الحادثة بداية النزاع بين الصليحيين والنجاحيين. وكتب الصليحي إلى الإمام المستنصر بالله يستأذنه في إظهار الدعوة ومحاربة النجاحيين فأذن له، وأرسل إليه الرايات فبدأ بالسيطرة على مناطق اليمن ومع أن الصليحي كان همدانياً من بطن الاصلوح إلا أنه اصطدم في بدايات دولته، وهو يحاول بسط سلطته على البلاد ببطون همدان الكبرى ومنها يام التي كانت معروفة بالشجاعة وقوة البأس وبعض بطون حمير التي منها المكارمة إلا أن وطأته على همدان بالذات كانت بالغة الشدة، رمى من ورائها كسر شوكتها وإخضاعها تماماً لسيطرته وهكذا خاض معها ثلاث معارك آخرها وقعة (ضوف) والتي بعدها أعلنت همدان ومن ضمنها يام وبعض حمير ومن ضمنهم المكارمة الدخول في الدعوة الصليحية وتمذهبها بالمذهب الإسماعيلي، بل والدفاع عنه وبعد هذه الواقعة وبسرعة مذهلة سيطر الصليحي على جميع اليمن فقد أجمع المؤرخون على أنه لم تخرج سنة (455هـ) إلا والصليحي قد استولى على اليمن كله سهله ووعره، وأزال ملك النجاحيين، وأتخذ صنعاء عاصمة له.
ومع استقرار الأحوال للصليحي عمل على إعداد ابنه الأكبر محمد لينوب عنه إلا أنه مات في حياته فعين ابنه الأوسط "المكرم" خليفة له بعد أن أخذ الإذن من المستنصر وقام بتزويج ابنه من الحرة بنت أحمد.(50/40)
وكان ابنا الرئيس النجاحي المقتول وهما سعيد الأحول وجياش قد هربا بأتباعهما إلى دهلك إحدى جزر البحر الأحمر وعندما علما بعزم الصليحي على الحج دبرا حيلة لقتله؛ فتسللا إلى مخيم الصليحي الذي أقامه في طريقه إلى الحج فقتلاه سنة (459هـ) وأسرا من كان معه. وبعد ذلك نصب المكرم خلفاً لأبيه، وكان أول عمل قام به فك أسر أمه من النجاحيين.
وساعد على تثبيت أمر المكرم وصول القاضي لمك بن مالك قادما من القاهرة ومعه سجل تولية المكرم، رغم أن أمر الإمام يقضي بفصل الدولة عن الدعوة في اليمن، فيتفرغ المكرم للسلطة السياسية، ويترك للقاضي لمك الإشراف على أمر الدعوة، فاستقامت بهذا الدعوة في اليمن خاصة بعد القضاء على الثورات التي قام بها النجاحيون والأشراف.
ظل المكرم مقيماً في صنعاء حتى سنة (467هـ) حيث توفيت والدته فطلبت منه زوجته الحرة الانتقال من صنعاء إلى ذي جبلة فانتقلا إليها، وأصيب بها بمرض الفالج (الشلل) فصارت أمور دولته إلى زوجته السيدة الحرة، فعاشت في حراز بينما تولى أمر صنعاء عمران بن الفضل اليامي، وأبو السعود الصليحي، وجعلت على التعكر وأعمالها أبا البركات الحميري.(50/41)
لما استقر الأمر لعمران في صنعاء اراد مقابلة المكرم فمنع إلا أن يقابل السيدة ا لحرة قبله فأصابه لذلك كبر شديد، وأنشد قصيدة طويلة ذكر فيها سوابقه مع الداعي (علي الصليحي) والد المكرم وما بينهما من القرابة. وأدى ذلك إلى عزل عمران عن ولاية صنعاء. إلا أن عمران أخذ يجمع بني يام ومن أجابه من بني همدان الذي هو منها لعدم رضائه عن وجود السيدة الحرة على رأس السلطة السياسية، واعتمادها على سلطة الدعوة المتمثلة في القاضي لمك. فأدى ذلك إلى خروج صنعاء من أيدي الصليحيين وسيطرة الهمدانيين عليها. ورغم العداء الذي قام بين عمران وأتباعه والسيدة الحرة فإنه لما وجد النجاحيين يهددون السلطة الصليحية لم يتردد في محاربتهم في صفوف الصليحيين لتوافقه معهم في المذهب، وقتل في معركة الكظائم سنة (479هـ).
ظلت السيدة الحرة طوال فترة مرض زوجها تقوم بأمر المملكة، يعاضدها القاضي لمك وولده يحيى. وفي سنة (477هـ) توفي المكرم بعد أن أسند أمر الدعوة إلى الأمير سبأ بن أحمد المظفر الصليحي، فكتمت السيدة الحرة نبأ وفاة زوجها وكتبت إلى الإمام المستنصر بالنبأ، وطلبت منه أن يعهد بالأمر إلى ابنها علي المعروف بعبدالمستنصر –وكان صغيراً- فوافقها على ذلك فاستمرت السلطة في يد السيدة الحرة.لم يعش الطفل طويلاً، فما لبث أن توفي فأوجد فراغاً كبيراً في السلطة؛ فقامت السيدة الحرة بأمر الدعوة.
انقسام الإسماعيلية إلى : نزارية ومستعلية، وموقف الدعوة في اليمن منه:
كان أول انقسام مذهبي اصاب الدولة العبيدية هو الانقسام الذي حدث بعد وفاة الخليفة المتسنصر سنة 487هـ فقد أدى إلى إبعاد ابنه الأكبر نزار عن الخلافة، وتولية ابنه الاصغر أبي القاسم أحمد الذي لقب بالمستعلي. فانقسمت الإسماعيلية إلى فرقتين: إسماعيلية نزارية تعتقد إمامة نزار، وإسماعيلية مستعلية يرون صحة إمامة المستعلي.(50/42)
فقد كان للمستنصر أولاد ثلاثة هم: نزار وعبدالله وأحمد. وكان للمستنصر وزير يقال له: بدر الجمالي، وكان بيده تصريف أمور الدولة، وكان لهذا الوزير ابن يقال له الافضل فكان يعده ليخلفه لكبر سنه. وبعد وفاة المستنصر لحقه بدر الجمالي، فحرص الأفضل على الانفراد بسياسة الدولة فلجأ إلى تولية الابن الاصغر أحمد المستعلي الذي كان زوجاً لأخت الأفضل، ولما بينه وبين نزار من العداء المسبق. وهكذا نجد أن الوزراء العبيديين تلاعبوا بالعقيدة الإسماعيلية ولم يبالوا بها، فكانوا يعينون الإمام الذي يريدون ولو لم يكن الأكبر حسب العقيدة الإسماعيلية في الإمامة.
ولم تفلح المحاولات التي قام بها نزار للثورة في الإسكندرية حيث تصدى له الجند. واعترف جميع الإسماعيلية بإمامة المستعلي إلا إسماعيلية فارس بقيادة ا لحسن بن صباح.
قامت السيدة الحرة بمساعدة داعي الدعاة لمك بإظهار الدعوة في اليمن للإمام المستعلي. وفي سنة (495هـ) توفي الإمام المستعلي، وتولى ابنه الآمر بأحكام الله، وكان طفلاً صغيراً، وتولى أمر دولته الأفضل فقامت السيدة الحرة بالدعوة لهذا الطفل.
وقد أبدت السيدة الحرة عدم الطمأنينة لسياسة الدولة العبيدية؛ بسبب ما تراه من المفاسد فيها، وتحينت الفرص للإنفصال عن الدعوة العبيدية في مصر. وقد تأتت لها هذه الفرصة في اعقاب وفاة الإمام الآمر بأحكام الله.
دخول الدعوة الإسماعيلية في الستر:
أدت وفاة الخليفة العبيدي العاشر الآمر مقتولاً سنة (524هـ) على يد بعض النزارية إلى بدء تطور جديد في تاريخ الدعوة الإسماعيلية، كانت له آثار بعيدة المدى على تاريخ مصر العبيدية، وعلى تاريخ اليمن بوجه خاص.(50/43)
فقد توفي الآمر ولم يترك له خلفا على الراجح، وهو ما عليه أكثر المؤرخين، فتولى الأمر من بعده ابن عمه عبدالمجيد الذي تلقب فيما بعد بالحافظ لدين الله، إلا أن الإسماعيلية المستعلية ينكرون ذلك ويقولون: إنه ولد له ولد سماه الطيب، وجعل الإمامة فيه، واخبر السيدة الحرة بذلك، لكنهم لم يستطيعوا إثبات وجوده، ولا أين مكان مكوثة وقيامه بعدئذ. فعلى الآمر كانت نهاية الإمامة الإسماعيلية عند طائفة، لأنه لم يتول بعده إلا الكفلاء الأربعة: الحافظ عبدالمجيد، والظافر إسماعيل ابن الحافظ، والفائز عيسى بن الظافر، والعاضد عبدالله بن الحافظ، الذي قضى على حكمه صلاح الدين الأيوبي.
فهؤلاء لا يعدون من الأئمة الإسماعيلية على رأي جميع طوائفهم، ويعد عهدهم عهد الكفلاء. وعلى ذلك كان آخر الأئمة في دور الظهور هو الآمر بن المستعلي، وبه انتهى ذلك الدور وبدأ دور الستر مرة ثانية عند من يعتقد بولد الآمر الطيب ابي القاسم، وهؤلاء يسمون الطيبية المستعلية. أما النزارية فإنهم يعدون المستنصر آخر الأئمة في دور الظهور، ولا يؤمنون بإمامة المستعلي ولا الآمر ابنه.
ولما وصل خبر وفاة الإمام الآمر إلى دعاة اليمن قامت السيدة الحرة ومعها الداعي الذؤيب بن موسى الوادعي بأخذ البيعة والعهد للإمام المزعوم الطيب بن الآمر، وفي الوقت نفسه فصلت وظائف الدعوة نهائياً عن وظائف الدولة، وعينت الداعية الذؤيب بن موسى الوادعي أول داع مطلق ليقوم بالدعوة نيابة عن الإمام المستتر الطيب بن الآمر!!! وذلك في محاولة لمقاومة الإشراف العبيدي عليها. إلا أن الزريعيين الذين استقلوا بعدن استجابوا لعبدالمجيد فأطلق على زعيمهم سبأ لقب داعي وهو منصب سياسي لأن عبدالمجيد ليس من الأئمة. ونظراً للضعف الذي حل بالصليحيين في أعقاب وفاة الحرة آلت حصون وقلاع الصليحيين إلى الزريعيين.
نشر الدعوة الإسماعيلية في الهند:(50/44)
في عهد الدولة الصليحية أرسل القاضي لمك إلى القاهرة للاستئذان في بدء دعوة جديدة على الساحل الغربي للهند تشرف عليه دعوة اليمن، فتمت الموافقة على ذلك، فأرسل لمك داعيته عبدالله إلى الهند في سنة (460هـ) فنجحت دعوته هناك، وعين فيها رجلاً منهم هو غرس الدين مرزبان بن إسحاق إلا انه سرعان ما توفي، وكان قد خلف ابنين أكبرهما أسمه أحمد فكلف الابن الأكبر بالدعوة.
استمرت الدعوة المستعلية في اليمن تشرف على أتباعها في كجرات بالهند الذين عرفوا باسم "البهرة" نسبة إلى التجارة لاشتغالهم بها، وهم جماعة من الهندوس اعتنقوا الدعوة الإسماعيلية. وكلمة (بهرة) تعني التاجر باللغة الكجراتية الهندية.
الدعوة المستعلية الطيبية في اليمن في دور الستر:
بوفاة السيدة الحرة انفصلت الدولة عن الدعوة، وتفرغ الدعاة إلى أمور الدعوة، وابتعدوا عن مشاكل السياسة ,واصبح الداعي الذؤيب بن موسى أول داع مطلق في الدعوة الطيبية، إلا أنه لم يلبث أن توفي سنة (546هـ)، فقام مكانه الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي. ولما توفي الداعي إبراهيم الحامدي سنة (557هـ) نص على ابنه حاتم. وهكذا اصبحت الدعوة الطيبية منظمة دينية محضة، ولجأت إلى التستر خاصة بعد أن سيطر على اليمن علي بن مهدي، الذي ظلت له السلطة إلى أن فتح اليمن تورانشاه الايوبي، واصبح المذهب السني المذهب الغالب على اليمن، وخاصة فيما يسمى اليمن الأسفل.
انتقال رئاسة الدعوة الطيبية إلى الهند:(50/45)
استمرت الدعوة في التستر في اليمن حتى انتقال الدعوة الطيبية من الداعي الثالث والعشرين محمد بن عز الدين بن الحسن المكرمي إلى الداعي الرابع والعشرين يوسف نجم الدين بن سليمان الهندي (ت 974هـ) وذلك في سنة (946هـ)، حيث استطاع الهنود أن يحتكروا رئاسة الدعوة ومرتبة الداعي المطلق فترة من الزمن، وانتقلت من اليمن إلى الهند، وذلك في عهد الداعي المطلق جلال شمس الدين بن الحسن الذي استقر في ولاية أحمد أباد بكجرات بالهند.
انقسام المستعلية الطيبية إلى سليمانية وداؤودية:
في سنة (999هـ) وأثر وفاة داؤود عجب شاه الداعي السادس والعشرين في سلسلة دعاة دور الستر انتخب بهرة كجرات داؤود برهان الدين بن قطب شاه خلفا له، وعرف أتباعه بالداؤودية. بينما عارض اليمنيون ذلك وعاضدوا رجلا اسمه سليمان بن الحسن الهندي أدعى أنه خلف سابقه داؤود بن عجب شاه، وأنه نص عليه واختاره، وعهد إليه بالدعوة بوصية منه، وسمي أتباعه بالسليمانية.
استقر زعيم السليمانية سليمان بن الحسن الهندي في أحمد أباد بالهند، وبدا يتصارع مع خصمه اللدود داؤود بن قطب شاه.(50/46)
ولما توفي سليمان بن الحسن أوصى لابنه جعفر وهو لا يزال طفلا، وأوصى محمد بن الفهد المكرمي بكفالة وتربية هذا الطفل، ومات سليمان الهندي سنة (1050هـ) فانتقلت الدعوة السليمانية إلى اليمن، واحتضن محمد بن الفهد المكرمي جعفرا. ومات محمد بن الفهد المكرمي بعد أن كبر جعفر، استمر جعفر في الدعوة إلى أن مات، ثم تولى الدعوة من بعده أخوه علي الذي كان على دراية كبيرة بالمذهب، فألف كتبا كثيرة في المعتقد الإسماعيلي منها كتاب "إسعاف الطالب في جمع المطالب" وهو من الكتب المهمة عند المكارمة الآن. وانتقل بالدعوة مرة أخرى إلى الهند واستقر بأحمد اباد. وبعد وفاته سنة (1088هـ) كان قد نص على إبراهيم بن محمد الفهد المكرمي فرجعت الدعوة إلى اليمن في بلدة طيبة في أبناء وذرية محمد بن الفهد المكرمي، ولهم ممثلون في الهند في منطقة "بارودا". استمر إبراهيم في مركزه في طيبة من بلاد همدان في اليمن حتى توفي سنة (1094هـ)، وحين وفاته عهد بالدعوة إلى حفيده محمد بن إسماعيل بن إبراهيم.
انتقال رئاسة الدعوة السليمانية إلى نجران:
بعد أن استلم محمد الدعوة في طيبة حصل بينه وبين الزيود حرب هزم فيها، فخرج إلى القنفذة يريد الهرب إلى الهند، إلا أن الإسماعيلية اليامية في نجران دعوه ليكون بينهم، فحضر إلى بلاد نجران، وسكن بلدة بناها وأسماها الجمعة وهي الآن خراب. وبوصول الداعي محمد بن إسماعيل المكرمي إلى نجران تولى السلطتين الروحية والزمنية، وأيقظ النشاط الحربي في اليامية –وهم المعروفون بالغارات والغزوات-، واشتغلوا مرتزقة لمن يدفع لهم المال (وقد سبق ذكر ذلك في تاريخ نجران).
واستمرت قرية الجمعة مركزاً للمكرمي حتى سنة (1352هـ) حيث انتقل إلى "حبونة". وفي عام (1370هـ) انتقل إلى "خشيوة" وهي مقر الداعي المطلق إلى الآن.(50/47)
وأصبحت نجران موطن الفرقة السليمانية الطيبية المستعلية الإسماعيلية إلى اليوم، ولها أتباع في كل من اليمن في منطقة "حراز" التي يوجد فيها بالإضافة إلى السليمانية داؤودية وزيود وشوافع وفي الهند في بمباي وسورة وكجرات وأحمد اباد وبدرباغ وحيدرأباد . وقد اشتهروا بصناعة الزجاج إلا أن السليمانية في الهند أقل من الداؤودية.
افتراق فرقة المكارمة السليمانية الإسماعيلية إلى حسينية ومحسنية:
أصحبت نجران هي موطن داعي السليمانية، وكل داع يوصي عند وفاته بمن يخلفه. وفي عام (1413هـ) كان داعي السليمانية يسمى الحسين بن الحسن المكرمي، ونائبه يدعى محسن بن علي المكرمي وهو وكيله والمسؤول عن بيت المال.(50/48)
وكان محسن يعظم ويقدس لاعتقاد الأتباع أنه هو الخليفة لحسين. إلا أنه بعد وفاة الحسين وجدوا خلفه ورقة الوصية تنص على أن الخليفة بعده رجل يسمى الحسين بن إسماعيل المكرمي (وكان يسكن الطائف). وصارت هذه الوصية بمثابة الصاعقة على محسن لأنه بموجب تنفيذها سوف يواجه مستقبل غامض، وسيفقد منصبه ومكانته وتعظيمه من قبل الأتباع والأهم أيضا بيت المال، فرفض هذه الوصية، ,وأعلن خروجه على الحسين بن إسماعيل، ونصب نفسه داعياً مطلقاً للمكارمة الإسماعيلية. فانقسم المكارمة قسمين: قسم إنساق مع محسن، وقسم يؤيد الحسين بن إسماعيل. وذهب المؤيدون لحسين إلى الطائف وبشروه بانتقال الإمامة إليه فاستبشر، وجاؤوا به إلى نجران ليتسلم منصبه ويستقر في "خشيوة" المقر الرئيسي لمذهب الإسماعيلية المكارمة. عند ذلك لجأ محسن إلى استخدام السحر لصرف الحسين بن إسماعيل عن هذا المنصب وسكنى "خشيوة" فأثر السحر في نفس الحسين فكره "خشيوة"، وأصيب بمرض فقام أتباعه وعرضوا أمره على السحرة فكشفوا لهم السر بأن محسن هو الذي سحره. ولما اتهم محسن بذلك قام وفضح من كان قبله، وأن هذا المنصب لم يدرك إلا بالسحر من قبله، وأنها جادة مسلوكة من قبله في كل أدعياء المكارمة، فاستولى على "خشيوة" وبسط نفوذه على بيت المال. أما الحسين بن إسماعيل فقد استقر في "دحضة". واستمر أتباع الحسين بن إسماعيل في ممارسة الضغوط على محسن حتى شهر ذي القعدة من عام (1416هـ) حيث استطاع الحسين بن إسماعيل وأتباعه ان يستعيدوا المركز الرئيس للفرقة، والجامع الكبير وبيت المال، بعد أن تركها محسن وقد اختلس مبالغ ضخمة تقدر بعشرات الملايين من خزينة بيت المال. ولا يزال الخلاف قائماً بينهما إلى هذا اليوم. وبذلك تكون السليمانية قد افترقت إلى: الحسينية والمحسنية. والداعي الحالي وهو الحسين بن إسماعيل تعتبر نشأته غامضة. وهو إنسان عامي ولم يدرس دراسة نظامية حتى أتباعه لا يعرفون عنه شيء وكأن(50/49)
لسان حاله يقول:
خلت الديار فسدت غير مسود
ومن العجيب تفردي بالسؤدد
عقيدة المكارمة الإسماعيلية
إن للإسماعيلية عقائد خاصة يعتقدونها، أخذوها من الفلاسفة الملحدين، والفرق الضالة، وتأثروا –خاصة- بالفيثاغورية الحديثة، وبالافلاطونية الجديدة، التي عرفت وانتشرت في الأقطار الإسلامية منذ بدء الترجمة، وما بعدها. فأخذت هذه الفلسفة وصبغتها بالصبغة الإسلامية تدليساً وتلبيساً على العامة، بل إنها جعلت الفلسفة وسيلة لتقييم القرآن والسنة، فضلت وأضلت عن الصراط المستقيم.
وقبل أن ندخل في بيان العقائد يجب التنبيه إلى أن كتب الإسماعيلية تنقسم إلى قسمين: كتب الظاهر، وكتب الباطن أما كتب الظاهر فإنها كتبت للناس عامة سواء أكانوا إسماعيليين أم غيرهم، كي لا يطلع أحد على حقيقة المذهب وأفكاره وتعاليمه.(50/50)
وأما كتب الباطن والعقيدة التي يدينون بها، فلا يطلع عليها إلا الخاصة الذين جاوزوا المراحل التي وضعت لمعرفة داخل المعتنقين والمعتقدين، ولا يسمح لغير الخاصة أو غير المتعمقين والمختبرين والمجربين أن يطلعوا عليها وحتى هم أنفسهم لا يمكن أن يسمح لهم باقتناء مثل تلك الكتب وقراءتها إلا بعد أخذ العهود والمواثيق على ألا يعطوا أحداً هذه الكتب، ولا يخبر بما فيها. وانظر إلى الداعي الإسماعيلي حسين بن علي بن الوليد وهو يأخذ العهود والمواثيق بالكتمان في بداية كتابه "المبدأ والمعاد" الذي أرسله إلى أحد أخوانه المفسوح لهم بعد مقدمة طويلة قال: "وأنا آخذ عليك، وعلى كل من أذنت لك بإيقافه عليه عهد الله المسؤول المؤكد، وميثاقه المغلظ المشدد الذي أخذه على ملائكته المقربين، وأنبيائه المرسلين، وأئمة دينه الهادين، وحدودهم الراشدين، صلوات الله عليهم أجمعين، وإلا فأنت ومن وقف عليه براء منهم أجمعين، ألا نسخت منه حرفا ولا أقل ولا أكثر، ولا وقف عليه إلا أنت أو من أذنت له بالوقوف عليه، وأنك تعيد إلى هذه النسخة بعد أن تفرغ من قراءاتها، والله على ما نقول وكيل". وانظر أيضا مقدمة كتاب" مسائل مجموعة من الحقائق العالية"، وهو موجود تقريباً في كل كتاب سري باطني.
ولا زال دعاة الإسماعيلية يحاولون كتمان هذه الكتب، ومنهم دعاة المكارمة حيث إنك إذا أتيت إلى الداعي المكرمي تسأله عن العقيدة وعن الكتب التي تقرأها عن عقيدة المذهب –ولو كنت من أتباعه- تجده وبكل استغفال يمد إليك نسخة من كتاب "صحيفة الصلاة" الذي يحوي أحكام فقهية في كيفية الصلاة.
إلا أنه بعد إخراج المطابع للكتب الإسماعيلية الخاصة والعامة المحققة عن نسخ خطية لا يتطرق إليها الشك أسقط في ايدي دعاتهم، وظهر عوار مذهبهم، لأن من كانت فطرته سليمة يأبى أن يترك نور الكتابة والسنة ويذهب إلى غياهب ظلام الفلسفة.(50/51)
فلنرجع إلى موضوعنا فنقول إن الإسماعيلية ومنهم المكارمة لهم كتب ظاهرية، وكتب سرية. فالكتب السرية هي التي تبحث عن عقائد الإسماعيلية الخالصة التي يدينون بها، لأنها لم تكتب على المداراة والمماشاة والنفاق الذي طالما يسمونه باسم التقية، خلاف الكتب الظاهرية.
فلأجل ذلك كان اعتمادنا في بيان عقيدتهم على كتب الباطن أو الحقائق كما يسمونها أيضا.
عقيدتهم في الله
إن الإسماعيلية المكارمة يعتقدون بأن الله لا يوصف بوصف، ولا يسمى بإسم، مخالفين في ذلك صريح القرآن والسنة، بزعمهم أن ذلك تنزيه وتجريد. وانظر إلى الداعي الإسماعيلي إبراهيم الحامدي وهو يجرد الله من الاسم والصفة فيقول :"فلا يقال عليه حياً، ولا قادراً، ولا عالماً، ولا عاقلاً، ولا كاملاً، ولا تاماً ولا فاعلاً، لأنه مبدع الحي القادر العالم التام الكامل الفاعل، ولا يقال عنه ذات لأن كل ذات حاملة للصفات" (كنز الولد 13،14). وقال الداعي الإسماعيلي السليماني ضياء الدين: "الحمد لله المتعالي عن السماء والاسماء، والمتقدس أن يكون له تعالى حد أو رسم" (مزاج التسنيم: 5). ويقول الداعي الكرماني:"إنه تعالى لا ينال بصفة من الصفات" (راحة العقل 135) وهذه العقيدة متفق عليها بينهم.
ثم إنهم بعد نفي الأسماء والصفات عن الله تبارك وتعالى مع كونه –عندهم- لا موجود ولا معدوم فاحتاجوا إلى أن يخترعوا أو يختلقوا آلهة أخرى لإطلاق الأسماء والصفات التي ورد ذكرها في القرآن والسنة عليهم فقالوا: "إن جميع صفات الشرف والجلالة وما يعبر به في جميع اللغات من الإشارات بنعوت الإلهية فإنها واقعة على العقل الأول" (رسالة المبدأ والمعاد 101). وقال الكرماني: "إن اسم الآلهية لا يقع إلا على المبدع الأول" (راحة العقل 195).(50/52)
والعقل الأول أو المبدع الأول في اعتقاد الإسماعيلية هو الذي رمز له القرآن بالقلم في الآية الكريمة : (ن* والقلم وما يسطرون(، وهو الذي أبدع النفس الكلية التي رمز لها في القرآن أيضا باللوح المحفوظ، ووصفت بجميع الصفات التي للعقل الكلي، إلا أن العقل كان أسبق إلى توحيد الله فسمي بـ"السابق" وسميت النفس بـ"التالي"، وبواسطة العقل والنفس وجدت جميع المبدعات الروحانية والمخلوقات الجسمانية من جماد وحيوان ونبات وإنسان، وما في السماوات من نجوم وكواكب" (انظر الثائر الحميري لمصطفى غالب الإسماعيلي) ومن عقائد الإسماعيلية أن العقل الأول يماثله في العالم السفلي الناطق، كما يماثل العقل الثاني أو التالي الأساس (انظر راحة العقل للكرماني 356) وقال السجستاني: " منزلة الرسول في العالم الجسماني كمنزلة السابق في العالم الروحاني" (إثبات النبوءات 57).
وبناء على ذلك كل الأسماء والصفات التي أطلقت على الموجود الأول أو العقل الكلي أو السابق أو بقية العقول هي للناطق، والأساس، ولمن قام مقامها من الأئمة في العالم السفلي، أو حتى اسم الجلالة يقع عليه لأن كل خصائص العقل الأول جعلت للإمام (انظر مقدمة راحة العقل لمصطفى غالب الإسماعيلي 40). لأن من عقيدتهم أن الله أقام هذين العالمين " العلوي والسفلي" بعشرة حدود كاملة، خمسة حدود جسمانية، وخمسة حدود روحانية، فالحدود الجسمانية أو الارضية هم : النبي، والوصي، والإمام، والحجة، والداعي. ويقابل كلا منهم: السابق، والتالي، والجد، والفتح، والخيال. وهي ما أسموها بالحدود الروحانية (انظر الحركات الباطنية لمصطفى غالب الإسماعيلي 118،119).(50/53)
وعلى ذلك نقلوا –كذبا- عن محمد الباقر أنه قال: " ما قيل في الله فهو فينا، وما قيل فينا فهو في البلغاء من شيعتنا" (كنز الولد للحامدي 195). وأصرح من ذلك ما قاله الداعي جعفر بن منصور اليمن: "فكل قائم في عصره فهو اسم الله الذي يدعى به في ذلك العصر كما قال عز وجل: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها( (الكشف109). لذا قال الحامدي: "إن عليا هو الله الخالق البارئ المصور" (انظر كنز الولد 221). وذكر المؤيد الشيرازي بأن عليا رضي الله عنه قال وهو على منبره: "أنا الأول، وأنا الآخر، وأنا الظاهر، وأنا الباطن، وأنا بكل شيء عليم، وأنا الذي رفعت سماءها، وأنا الذي دحوت ارضها، وأنا الذي أنبت أشجارها، وأنا الذي أجريت أنهارها" (المجالس المؤيدية 147). يعني أن عليا هو الرب الحقيقي المتصف بصفاته، والمتحلي بنعوته، وكذلك الأئمة من ولده، لأنه يماثل العقل الثاني أو التالي أو اللوح المحفوظ، كما كان الرسول يماثل السابق، أو العقل الأول. نعم هذا ما يعتقدونه.
كما ذكر الداعي إدريس المكرمي نقلا عن علي أنه قال: "أنا اللوح المحفوظ… أنا أهلكت القرون، وأن ميتنا لم يمت وقتيلنا لم يقتل، ولا نلد ولا نولد" (زهر المعاني 76). وقال جعفر بن منصور اليمن مبينا الرب في قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة( يعني مشرقة (إلى ربها ناظرة( يعني أمير المؤمنين صلوات الله عليه" (الكشف 37).
هذا وان الألوهية ليست بمقتصرة على الناطق والاساس، أي على النبي والوصي حسب زعمهم، بل إن الأئمة كلهم من أولاد علي وآبائه يملكون اختيارات الألوهية، ويتحلون بأوصاف الربوبية. فنقلوا –كذباً- عن أبي الباقر جعفر أنه سئل عن صفة الرب فقال: "خمس كلمات: الله أحد، محمد الصمد، فاطمة لم تلد الحسن، ولم يلد الحسين، ولم يكن لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب كفو أحد". (الشموس الزاهرة حاتم إبراهيم 36). وأما عبدالمطلب فقد قالوا فيه:
وكان رب الوقت عبدالمطلب(50/54)
وهو الذي به المتم قد غلب
(القصيدة الصورية للداعي الصوري 56).
وقد قال علي بن سليمان المكرمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " أنه رب العرش العظيم، وأن أبيه هو النبأ العظيم" (حياة الأحرار مخطوطة 13).
فبناء على ما تقدم فإن الشيرازي الإسماعيلي لا يرى بأسا بإطلاق الابوة على الله المتعالي، ولا بإضافة النبوة إليه فيقول: " نقول في أقوالهم في المسيح: أنه ابن الله، والحواريين أنهم أبناء الله، فإنه لا روعة في هذا القول إلا عند أهل الجهل الذين لم يرتعوا في مراتع العلم" (المجالس المؤيدية 147،148).
النقد:
إن هذه الآراء مستقاة من الفلسفة الافلاطونية فهي قد جردت الله –تعالى عما يقولون- من كل صفة، وصرفتها إلى أول مبدع وهو العقل الأول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنهم لا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان. فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل؛ فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات، ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات… إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات. (الفتاوى ج3/7,8).
ولاشك أن قولهم هذا شرك في الاعتقاد والخلق، يخالف تماماً مفهوم الإسلام للوحدانية والتي أكدتها آيات القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون( (المؤمنون 91) وقوله تعالى: (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون( (النحل 51).
عقيدتهم في النبوة نوجزها في النقاط التالية(50/55)
1- النبوة مكتسبة، وأن الإنسان يستطيع أن يصبح نبياً بعد الارتياض والمجاهدة. حيث قالوا –بعد ذكر الصفات اللازمة من أجل اكتساب النبوة: "إذا اجتمعت هذه الخصال في واحد من البشر، في دور من أدوار القرانات في وقت من الزمان، فإن ذلك الشخص هو المبعوث وصاحب الزمان (رسائل إخوان الصفا ج4/129).
2- أنها فيض يفيض من أحد العقول العشرة. حيث قالوا: " إن الشريعة الإلهية جبلة روحانية تبدو من نفس جزئية في جسد بشري بقوة عقلية تفيض عليها من النفس الكلية" (رسائل إخوان الصفا ج4/129).
3- أن الرسول تعلم من بشر وليس من جبريل. لأن جبريل عند الإسماعيلية ليس بملك، بل هو عبارة عن أحد العقول العشرة، أو تعلم عن الخيال، أو البشر الذي يزعم الإسماعيلية أنه كان يعلم الرسول ( –نعوذ بالله من هذا الكفر-، فقالوا: "وكان العقل العاشر هو المحتجب لمحمد ( المؤيد له الناظر إليه المدد له بواسطة الجد والفتح والخيال عند كماله وبلوغه رتبة الحجابية، لأن كل ناطق ووصي وإمام لا بد له من التعليم والترقي رتبة رتبة كما قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً(، فكان محمد ( آخذا من أبي بن كعب في حال تعليمه ابتداء وهو المكنى عنه بجبرائيل" (الأنوار اللطيفة للداعي طاهر الحارثي 126،127). بل زادوا في الجرأة وقالوا: أن النبي ( لم يقمه على منصب النبوة، ولم يبعثه إلا أبو طالب (انظر الأنوار اللطيفة للحارثي 160،161). كما أنه لم يوح إليه، ولم يعلمه، ولم يفده ويبصره إلا أبي، وميسرة، وزيد بن حارثة، وعمرو بن نفيل، وبحيرة الراهب، مع حجة أبي طالب خديجة رضي الله عنها (انظر كنز الولد للحامدي210، والمجالس المستنصرية25، وأجزاء من العقائد الإسماعيلية للداعي إبراهيم 72) فمحمد صلوات الله عليه وسلامه في معتقدهم هو رسول الرب أي أبي طالب، وموحى إليه من قبل أبي وغيره، ومعلم من قبل خديجة –عياذا بالله-.(50/56)
4- أن القرآن ليس كلام الله، بل من كلام الرسول المركب من خطرات النفس. يقول السجستاني: "إن القبول قبولان: قبول سمع، وقبول وهم، فالقبول السمعي يكون بالكلام، والقبول الوهمي يكون بالخطرات، والكلام يكون من المتكلم في آلات الكلام، والخطرات من متفكر في خزائن العقل… فصح من هذه الجهة أن قبول الرسل قبول وهمي، يخطر في أفئدتهم وما أرسلوا به، ثم يؤدون إلى الأمم بلسانهم ولغتهم" (إثبات النبوءات147،148).
5- أن دعوة الرسول ( ، ومن سبق من الأنبياء كانت إلى علي، وهو مرسل الرسل، وكان يفضل محمداً (، بل كان مولى له، وهو عبده: نقل إبراهيم الحامدي عن جعفر بن منصور اليمن أنه قال: " إن الله لا يقبل توبة نبي، ولا اصطفاء وصي، ولا إمامة ولي، ولا عمل طاعة من عامل ولو تقطع في العبادة واجتهد إلا بولاية علي ابن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه. فمن أتى بغير ولاية علي… أسقطت نبوته… فكما أن الله واحد أحد، فرد صمد لا شريك معه في ملكه، ولا صاحبة ولا ولد، كذلك مولانا علي عليه السلام واحد في فضله، أحد فرد صمد لا شريك له فيه، وليس له كفوا أحد" (كنز الولد للحامدي 218). وقالوا: "وعلي هو الحائز لرتبة الظاهر والباطن" (المسائل المجموعة 130). وقالوا: "ومعلوم أن محمداً ( لم يحز إلا رتبة الظاهر فقط" وأكثر من ذلك: " أن محمداً كان مؤيداً بعلي" (المجالس المؤيدية للشيرازي). وقالوا عن علي: "إنه هو مجمع الأنبياء والأولياء والأئمة من أول الأدوار إلى قيامه (الأنوار اللطيفة 125،126). وهو الذي قال عنه الرسول –كما يكذبون عليه-: "علي أبو عترتي، وساتر عورتي، ومفرج كربتي، وغافر خطيئتي" "وإنه كان مولى رسول الله، والرسول عبده" (سرائر النطقاء لجعفر بن منصور اليمن 209 مخطوط). اللهم إني أعوذ بك من نقل هذه الكلمات الكفرية.
النقد: إن هذه العقائد مخالفة صريحة لنصوص القرآن وصريح السنة، مبنية على الكفر المحض.(50/57)
فالنبوة اصطفاء من الله، وليست اكتساب، قال تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس( (الحج 75) والقرآن كلام الله، قال تعالى: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي( (الأعراف 144). والله قد أوحى إلى جبريل بالوحي ليتنزل به على محمد (، ولم يتعلم النبي ( من البشر، قال تعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر( (النحل 103). فهم (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّا يؤفكون( (التوبة 30).
وعلي رضي الله عنه داخل في أمة محمد (، وتابع له، قال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً(. (الأحزاب 71). والرسول ( شاهد على الأمة قال تعالى: (ويكون الرسول عليكم شهيداً( (البقرة 143). ودعوة الرسول ( إلى توحيد الله وعبادته، قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون( (الأنبياء25).
وأخيراً نقول إن قولهم أن النبوة فيض، ما هو إلا استمداد من الفلسفة الأفلاطونية، وامتداد لقولهم في الألوهية.
عقيدتهم في الوصاية والإمامة
قولهم في الوصاية:
يعتقد بعض الإسماعيلية أن الوصي أفضل من النبي، والبعض الآخر يقول بالمساواة بينهما، ويقولون: بأن لكل نبي وصي، ولا يعدون الوصي إماماً، بل هو فوق الإمام، فالإمامة شيء، والوصاية شيء آخر.
ووصي رسول الله " هو علي، يقول الكرماني: "إن الوصي أول منصوص عليه من الحدود في الدورة والدعوة إلى التوحيد. فهو من حيث كونه كاملاً لا فرق بينه وبين الناطق" (راحة العقل ص216).
ولكن هناك من يعتقد من الإسماعيلية أن علياً افضل من النبي لأنه هو مقصود الدعوة ومرادها. قال جعفر بن منصور اليمن:" (وصدوا عن السبيل( يعني صدوا عن علي، وهو السبيل الذي لا تقبل العبادة إلا باتباعه" (الكشف 175).(50/58)
وأكثر من ذلك ما يروونه أن الرسول ( قد صدر عنه الذنوب بدليل قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر(، وأن علياً لم يصدر منه ذنب مطلقاً" (تأويل الزكاة لجعفر بن منصور اليمن ص 149 مخطوط). وقالوا: " ولاية علي حسنة لا يضر معها سيئة" (كنز الولد للحامدي ص221). وقالوا: "علي هو المبين مشكلات ما أتى به الرسول (" (الأزهار ص715). وقال الشيرازي: "لولا الوصي عليه السلام لما كان للمعارف الإلهية وجود". (المجالس المؤيدية 144).
قولهم في الإمامة:
ومختصره في النقاط التالية:
1/ أن الإمامة أصل من أصول الإسلام وأساسه، وأفضلها. قالوا: بني الإسلام على سبع دعائم: الولاية وهي أفضلها وبها وبالولي يوصل إلى معرفتها، والطهارة، والصلاة والزكاة، والصوم والحج، والجهاد. (دعائم الإسلام للقاضي النعمان ج1ص2، وتأويل الدعائم ج1ص51).
2/ الإمام مفروض الطاعة. قال المعز: "إن الله قد فضلنا، وشرفنا، واختصنا، واجتبانا، وافترض طاعتنا على جميع خلقه" (المجالس والمسايرات للقاضي النعمان ج19 ص420).
3/ ولا تخلو الارض من إمام أبداً، ظاهر أو مستور. قال الداعي حسن بن نوح: " إن الأرض لا تخلو طرفة عين من قائم بحق لهداية عباد الله، وخلقه، إما ظاهراً مشهوراً أو باطناً مستوراً" (الأزهار ص189).
4/ ولا يكون أحد إماما إلا من أولاد علي، الحسن والحسين، ثم في أولاد الحسين، لا في أولاد الحسن، ثم في أولاد إسماعيل، لا في أولاد أحد غيره. (انظر دعائم الإسلام ج1 ص28، والمصابيح في إثبات الإمامة للكرماني ص109).
5/ كل واحد منهم معصوم (المصابيح في إثبات الإمامة ص96،97، والمجالس والمسايرات ج7 ص183).
6/ يجب أن يكون الإمام منصوص عليه، ومعينا من قبل الله عز وجل. (المجالس والمسايرات ج7 ص183).(50/59)
7/ ويكون الإمام افضل ممن سبقه. قال النعمان: "لا يأتي إمام إلا أعطاه الله فضل الإمام الذي مضى قبله، وعلمه، وحكمته، وزاده مثل ستة أسباع ذلك" (المجالس والمسايرات).
8/ ولا يعترض على الإمام وإن أتى بالموبقات. قال النعمان: "أدبوا أنفسكم أيها المؤمنون، وانهوها عما تنكره من أفعال الأئمة… وسلموا كما أمركم الله تعالى بالتسليم لهم، واطيعوهم كما افترض الله عليكم طاعتهم، واحذروا خلافهم والاعتراض عليهم" (كتاب الهمة ص131).
9/ ولا يكون الإمام من لا عقب له. (المصابيح في إثبات الإمامة للكرماني ص131).
10/ ولا يكون أحدا إمام وأبوه حي. (تأويل الدعائم للنعمان ج2 ص106).
11/ والإمام يستطيع أن يتجسد في صورة أي شخص يشاء. (مسائل مجموعة من الحقائق العالية 120).
النقد:
إن غلوهم في الوصاية والإمامة بهذه الصورة أودى بهم في نهاية الأمر إلى تأليه الأئمة، فأصبحوا يخاطبون أئمتهم مخاطبة العبد لربه، ويصفونهم بأوصاف الإله القادر المختار، وأبيات ابن هاني الأندلسي مشهورة معروفة، وقد قالها في المعز الإسماعيلي ومنها:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
هذا الذي ترجى النجاة بحبه
وبه يحط الاصر والأوزار
هذا الذي تجدي شفاعته غدا
حقا وتخمد إن تراه النار
(ديوان ابن هاني ص365).(50/60)
بل نقلوا عن محمد الباقر –كذبا- أنه قال: " نحن الأئمة أولياء الله، لا يفتر علينا من علمه شيء لا في الأرض ولا في السماء نحن يد الله وجنبه، ونحن وجه الله وعينه وأينما نظر المؤمن يرانا، إن شئنا شاء الله" (الهفت الشريف تحقيق مصطفى غالب). وقال الكرماني: "كل منهم (أي الأئمة) في زمانه مقام الله بقيامه مقام النبي الذي هو القائم مقام الله" (راحة العقل ص577). وقال البدخشاني الإسماعيلي الفارسي: "إن ما ورد في القرآن (كل شيء هالك إلا وجهه( المقصود منه وجه الإمام (كتاب سي وشش صحيفة). وقال ضياء الدين الإسماعيلي: "(ومن يهن الله( يعني إمام كل زمان بمعاندة حجبه (فماله من مكرم( يعني في معاده، ثم قال: (إن الله) يعني صاحب كل عصر يفعل ما يشاء" (مزاج التسنيم ص246).
لذلك أصبحوا يصرفون نوعاً من أنواع العبادة، وهو السجود للإمام، يقول النعمان: "فينبغي لمن واجه الإمام عليه السلام أن يبدأ بالسلام عليه، ثم يقبل الأرض بين يديه" (الهمة في آداب اتباع الأئمة للنعمان ص 104).
وبعد غيبة الإمام اصبحت هذه العبادة تصرف للداعي (كما هو مشاهد ومثبت لإمام البهرة) إلى غير ذلك من الاستغاثات الشركية بالأئمة.
إن هذه العبارات الواضحة، والنصوص الصريحة، والأفعال القبيحة، دالة على أن الإله لدى الإسماعيلية إمام، والإمام إله، وهذا ما دل عليه ما نقلناه هنا، وفي مبحث اعتقادهم في الله. ولا يشك أحد في أن هذا كفر محض.
الاعتقاد بالتناسخ ونفي المعاد والجنة والنار(50/61)
إن الإسماعيلية يعتقدون بوجود دورات متعاقبة لهذا العالم في كل دور نبي ناطق ووصي وأئمة ستة، فإذا جاء السابع افتتح دوراً جديداً وصار ناطقاً. فاعتبروا آدم هو نوح، ونوح هو موسى، وموسى هو عيسى، وعيسى هو محمد. فجعلوا الأنبياء شخصا واحدا، وكذلك الأئمة يظهرون في كل دور بنفس ظهورهم في الدور الذي قبله، أي بمعنى آخر تفنى أجسامهم وتبقى أرواحهم تتعاقب على أجسام أخرى. (انظر الأنوار اللطيفة للداعي طاهر الحارثي ص113، وزهر المعاني لإدريس ص 74، وأجزاء من العقائد الإسماعيلية للداعي إبراهيم ص48، والمجالس والمسيرات للنعمان ص209،210).
وأما النعيم والعقاب فيقولون عنه: أن أرواح المؤمنين عندما تموت وتمتزج بالهيكل النوراني تعود بعدها إلى الارض بأجسام أخرى، وتدخل الدعوة من جديد إلى ان تصل إلى مرتبتها فيها قبل موتها. أما أرواح المعاندين فتدخل في أدوار متكررة من العذاب تتقمص في كل دورة سبعين قميصاً، أولها الرجس، وهي قميص البشر الذين لا يصلحون للمخاطبة، كالزنج والترك، وآخرها الوسخ، وهو ظهورها داخل المعدن والحجر. (الأنوار اللطيفة115).
وقالوا أيضا: لجهنم سبعة أبواب، معناه سبع دركات، الدرك الأول هو الزنج والبربر، والدرك الثاني يسمى العكس في قصص القردة والنسناس، والثالث في قصص السباع (مزاج التسنيم لضياء الدين ص109) لذا تجد العامة من المكارمة في نجران تعتقد بهذا التناسخ، فما أن يموت الميت منهم وتكون سيرته غير حسنة، ويظهر في الحي قط أو غراب أو بومة إلا ويقولون أن روح فلان حلت في هذا الحيوان أو الطائر، وهذا مشاهد بكثرة حتى اصبح من الأخبار المتواترة عنهم وخاصة العجائز والصغار منهم.
النقد:(50/62)
إن هذا القول هو عين ما يعتقده الهندوس الكفرة، وهو يفضي إلى إنكار الحياة الأخروية، قال تعالى: ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون( (المؤمنون 16). ، وقال سبحانه: (ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين( (الزمر 71)، وقال تعالى عن الجنة: (أعدت للمتقين( (آل عمران133)، وقال عن النار: (أعدت للكافرين( (آل عمران 131).
العقائد الإسماعيلية الأخرى التي وافقت بها الرافضة
1-الاعتقاد بتحريف القرآن:
يصرح القاضي النعمان بهذه العقيدة في كتابه "أساس التأويل" قائلا: "لما غاب رسول الله ستروا مرتبة أساسه صلوات الله عليه، وكتموا نص الرسول وبيعته التي بايعوه بغدير خم، واتبعوا إبليس وقابيل والسامري حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، وجلسوا مجلسه وتسموا باسمه وادعوا منزلته من الخلافة، وإمرة المؤمنين، وتعلقوا بالظاهر وصرفوه، فأقام الأساس صلوات الله عليه عليهم الحجة بالقرآن الذي نزل على محمد ( لما جمعه، وجاء به فقالوا حسبنا ما معنا من كتاب الله، ولا حاجة لنا إلى ما معك، فأخذه، وانصرف عنهم". ومن أمثلة التحريف ما ذكره جعفر بن منصور اليمن في كتابه (الكشف ص78) قال: "(وقد خاب من حمل ظلما( (ظلم آل محمد) هكذا نزلت هذه الآية" إضافة إلى ما يعتقده الإسماعيلية بأن القرآن الكريم من تأليف النبي (، يقول السجستاني: "ألف النبي كتابه القرآن مما استفاده من العالم الروحاني" (إثبات النبوءات ص157).
2- سب الصحابة:(50/63)
بقول جعفر بن منصور اليمن في تفسير قول الله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج( هم أبو بكر، وعمر، وعثمان (الكشف ص125). ويفسر الآية: (وكان الشيطان للإنسان خذولا( أي عمر لأبي بكر (الكشف ص30). وقال أيضا: "إن القائم يصلب أبا بكر وعمر" (الكشف 34). وإن كتاب (الكشف) لممتلىء من مثل هذا السباب والشتائم والتكفير. وأما القاضي النعمان فكفر ابا بكر وعمر رضي الله عنهما حيث قال:
كفر أبو بكر بنصبه عمر
وكفّره لما أتى عنه خبر
(الأرجوزة المختارة ص99).
ويقول الحامدي: "من الصحابة من أقروا بنبوة النبي ( وخالفوا عليا، فلم ينفعهم إقرارهم بالرسول" (كنز الولد ص99). أما ضياء الدين فيقول في قوله تعالى: (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض( : "هم : الثلاثة ومعاذ وعبيدة وسالم وعبدالرحمن ومعاوية وعمرو وطلحة والزبير... إنهم رأس الضلالة في كل دور من أدوار الستر (مزاج التسنيم ص 335).
3- التقية: يروون فيها الرواية المشهورة عند الرافضة وهي قول جعفر: "التقية ديني ودين آبائي…" (أسرار النطقاء ص92، والمجالس والمؤيدية ص403). وقالوا قال الأئمة: "اكتموا سرنا، ومن أذاع سرنا فقد جحد حقنا" (الكشف 3).
4-حكمهم على من خالفهم ومنهم أهل السنة: يقول السجستاني: "على جميع الوجوه الكفر لكم لازم" (الافتخار ص18). وقالوا: " أهل الباطل (أي المخالفون) أمثال الكلاب" (الكشف ص96). كما أن المؤيد الشيرازي سمى المسلمين الذين يخالفون ديانته بأولاد الزنا (ديوان المؤيد ص274). وقالوا: "الأضداد الثلاثة وتابعيهم لعنهم الله" (مسائل مجموعة ص117).
والرد على هذه الافتراءات: تجده في الكتب التي ردت على الرافضة لأن الإسماعيلية تابعون لهم فيها. ومن أفضل الكتب التي ردت على الرافضة كتاب "منهاج السنة" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكتاب أصول اعتقاد الشيعة الأثنى عشرية للدكتور/ ناصر القفاري حفظه الله.(50/64)
الإسماعيلية والتأويل الباطني
من الخصائص التي اختص بها الإسماعيلية، ويعدونها من مفاخرهم، هي تمسكهم بالتأويل الباطني قائلين: "إنه لا بد لكل محسوس من ظاهر وباطن، فالظاهر ما تقع الحواس عليه، وباطنه ما يحويه ويحيط العالم به بأنه فيه، وظاهره مشتمل عليه" (أساس التاويل ص28). مستدلين بقوله تعالى :( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ( (آل عمران 7). ونسبوا إلى الرسول ( –كذبا- أنه قال: ما نزلت عليّ من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن (أساس التأويل ص29،30، المجالس المؤيدية ج1 ص349).
وفرقوا بين الظاهر والباطن إلى حد أن قالوا: " إن الظاهر هو الشريعة، والباطن هو الحقيقة. وصاحب الشريعة هو الرسول محمد صلوات الله عليه، وصاحب الحقيقة هو الوصي علي بن أبي طالب" (الافتخار للسجستاني ص71). وهكذا جعلوا عليا رضي الله عنه شريكاً للرسول الله ( في نبوته وشريعته.
وكفروا كل من لا يؤمن بالباطن حيث قالوا: "من عمل بالباطن والظاهر فهو منا، ومن عمل بالظاهر دون الباطن، فالكلب خير منه، وليس منا" (الفترات والقراءات لجعفر بن منصور اليمن ص66، والرسالة المذهبة للنعمان ص38، والمجالس المستنصرية ص39).
النقد:
إنهم بهذه المقولة يطعنون صراحة في رسالة محمد (، حيث جعلوا الرسول ( مبلغاً للظاهر فقط؛ الذي يكون صاحبه كافراً إن لم يؤمن بالباطن. ويكون الرسول ( قدكتم بعض الرسالة، وهذا طعن صريح وكفر وردة. وبهذا صرحوا حيث قالوا: "الناطق (أي الرسول () نطق بالظاهر، وأعجم بالباطن فلم يفصح به" (الشواهد والبيان لجعفر بن منصور اليمن ص51). وايضا هم بذلك جعلوا عليا رضي الله عنه مبلغاً بالباطن فقط؛ فلا يأمر بالصلاة ولا بالزكاة ولا الحج وغيرها من العبادات لأنها من الظاهر. وبذلك صرحوا أيضا حيث يقولون: "الرسول ينطق بالظاهر، والأساس (أي علي رضي الله عنه) صامت عنه (أي عن الظاهر) مؤدٍ للباطن" (أساس التأويل للنعمان ص40،41).(50/65)
وإن كان الأمر كذلك فما معنى إذا أن الرسول ( أرسل إلى الناس كافة، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشير ونذير(.
وأيضا ما فائدة رسالة محمد ( بدون رسالة علي رضي الله عنه كما يزعمون.
وأخيرا نقول: إن جعلهم الدين هو الباطن ولا يقوم به إلا الأئمة بعد أخذ العهود والمواثيق مقتصرين على النجاة بمن تبعهم لهو صرف للناس عن شريعة محمد (، وإبعادهم عنها لأنها ليست منجيتهم يوم القيامة. وصرف الناس إلى الإتباع الأعمى للأئمة المزعومين والدعاة الكذابين بدعوى علم الباطن.
نماذج لتأويلاتهم الباطنية المضحكة:
1/ التأويل الباطني للشهادة قالوا: إن الشهادة مبنية على النفي والإثبات، الابتداء بالنفي والانتهاء إلى الإثبات. وكذلك الصليب خشبتان، خشبة ثابتة لذاتها وخشبة أخرى ليست لها ثبات إلا بثبات الأخرى. والشهادة أربع كلمات، وكذلك الصليب له أربعة أطراف، فالطرف الذي هو ثابت في الأرض، منزلته منزلة صاحب التأويل الذي تستقر عليه نفوس المرتادين، فالطرف الذي يقابله علواً في الجو منزلته منزلة صاحب التاييد الذي يستقر عليه نفسوس المؤيدين. والطرفان اللذان في الوسط يمنة ويسرة على التالي والناطق (الينابيع للسجستاني ص75،76).
2/ وقالوا عن الدعوة: "الماء مثله مثل العلم، وبيت الخلاء مثله مثل الدعوة فيها يتخلى من الكفر والشرك والنفاق" (تاويل الدعائم للنعمان ج ص84).
3/ وقالوا عن الوضوء: "هو البراءة من الأضداد الذين أدعوا الإمامة" (الافتخار للسجستاني ص110).
4/ وقالوا عن الصلاة: "هي الطاعة لأمير المؤمنين (أي علي) والأئمة الذين اصطفاهم الله من ولده" (الكشف لجعفر ص28).(50/66)
5/ وقالوا عن صفة الصلاة: إن التكبير بمعنى تلاوة العلم. ومعنى الركوع حد الأساس. ومعنى السجود حد الناطق لأن الأساس بمنزلة الأنثى، والناطق بمنزلة الذكر، وللذكر مثل حظ الأنثيين، فإذا كان الركوع مرة واحدة فالسجود مرتين. والتحميد بمعنى الحدود العلوية لأنه تمجيد لهم وهو جالس. والتسليم هو درجة الإجلال، أو تسليم المرء نفسه وماله إلى إمام عصره وزمانه (الرسالة المذهبة للنعمان ص34،35، والكشف لجعفر ص 128).
6/ وقالوا عن الزكاة: كذباً على علي رضي الله عنه إنه قال: إيتاء الزكاة هي الإقرار بالأئمة من ذريتي (زهر المعاني لإدريس المكرمي ص74).
7/وقالوا عن الصوم: الصوم هو الصمت بين أهل الظاهر، وكتمان الاسرار عنهم… وصوم شهر رمضان هو ستر مرتبة القائم… (ومن شهد منكم الشهر فليصمه( أي من أدرك زمان الإمام فليلزم الصمت (الافتخار للسجستاني ص126).
8/وقالوا في الحج: حج البيت هو قصد إمام الزمان مفترض الطاعة… والغرض من حج البيت معرفة الأئمة.. والمراد من الزاد والراحلة هو العلوم ودليل معرفة الإمام… والإحرام هواعتقاد معرفة الإمام… (انظر الافتخار للسجستاني).
الإسماعيلية ونسخ الشريعة الإسلامية
ينكر الإسماعيلية أن يكونوا قائلين بنسخ الشريعة لمن يتهمهم بذلك، مستخدمين في ذلك التقية في كتبهم الظاهرية. ولم يجرؤوا على ذلك إلا لظنهم بأن كتبهم الباطنية لاتصل إلى ايدي المخالفين لهم والمنكرين عليهم، وإلا فهذه حقيقة ثابتة ناصعة بأن الإسماعيلية يقولون برفع التكاليف العملية عن الذين نالوا رتبة الكمال، وأدركوا الحقائق، بل اكثر من ذلك يقولون بنسخ شريعة محمد (.
وإليك الشواهد من كتبهم:(50/67)
1- قالوا: " لما كان محمد بن إسماعيل عليهما السلام سابع الأئمة، وخاتم دور الأتماء، وكان كل سابع يقوم مقام الناطق إن أوجب الوقت ذلك كان ناطقاً، وإلا كان حافظاً لرتبته. وقد قيل إن شهادة رسول الله لمحمد بالرسالة إشارة بها إلى محمد بن إسماعيل صلوات الله عليهما. وذلك معنى تسليمه إليه" (مسائل مجموعة ص 99).
2- ويقولون أيضاً مكذبين للقرآن والسنة: " الرسالة مشتركة بين سبعة نفر، وهم :آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد، والقائم، صلوات الله عليهم" (إثبات النبوءات للسجستاني ص131).
3- ويقولون قاتلهم الله أكثر من ذلك: "أن كل خلف يكون أفضل من كل سلف. فنوح افضل من آدم، وإبراهيم أفضل من نوح، إلى ان تهيأ ظهور من هو أفضل من إبراهيم وهو موسى، ثم ظهر من هو أفضل من موسى وهو عيسى، إلى أن تهيأ ظهور من هو أفضل من عيسى وهو محمد إلى أن تهيأ ظهور من هو أفضل من محمد وهو القائم" (الإيضاح لأبي فراس ص43، وانظر كنز الولد للحامدي ص268-270).
وبعد هذا ننظر إلى الإسماعيلية ماذا يقصدون من نسخ شريعة محمد (:
قالوا:" وفي عصر القائم يظهر التأويل محضاً، والإمام الذي قبله يقول بظهر الشريعة وباطنها، ولم يكن عمل قبل آدم، كما لا يكون عمل بعد القائم" (تأويل سورة النساء لجعفر بن منصور اليمن ص60). وقالوا ايضاً: "إذا ظهر القائم عليه السلام، وتخلص المؤمنون من الستر والكتمان، وقدروا على كشف مذاهبهم، وجب رفع هذه الشريعة التي هي سمة الستر والكتمان" (إثبات النبوءات للسجستاني ص182). وفي تفصيل أكثر قالوا: "وأما الشرائع فتحط عنهم التكليفات، كالصلاة، والزكاة، الصوم، والحج، والجهاد، ويبقى معهم الشرائع العقليات التي هي عقد النكاح، والطلاق، والمواريث، والأملاك، ودفن الموتى، وغسلهم الأجساد بالماء، وما شاكل ذلك من الشرائع العقلية" (مسائل مجموعة ص10).
النقد:(50/68)
إن هذا القول كفر بإجماع المسلمين، لأنه إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومن أن محمداً ( خاتم النبيين والمرسلين، قال تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما ((الاحزاب40) وقال تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة 3)، وقال سبحانه: (إن الدين عند الله الإسلام( (آل عمران19) وقال الرسول محمد (: "أنا خاتم الأنبياء وأنتم آخر الأمم" (ابن ماجة والحاكم)، وقال (: "ختم بي الرسل" (البخاري ومسلم).
...
... فضائح المكارمة
إن ما سبق ذكره من عقائد القوم، وما فيها من كفر وزندقة يحرص الداعي المكرمي وخاصته على كتمانها حتى عن أتباعهم، لذا تجد عامة المكارمة ينكرون عليك إذا واجهتهم بهذه العقائد؛ لجهلهم بها، وهي ثابتة في كتبهم لا ينكرها إلا مكابر أو جاهل.
وإقامة للحجة، وإعذارا عند الله نورد هنا ما هو معروف ومتفق عليه بين المؤرخين من تاريخ الإسماعيلية، وايضا من افعال المكرمي مما لا يجهله أحد مما هو تناقض وضلال، وبذلك يتضح بطلان المذهب لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ وذلك نصحاً للجاهل من المكارمة، وقطعاً للطريق على الملبسين:
الفضيحة الأولى: بطلان النسب العبيدي (الفاطمي):
إن علماء الأنساب والتاريخ يجزمون بعدم صحة نسب عبيدالله المهدي إلى علي بن ابي طالب رضي الله عنه، ومنهم: علي بن حزم في جمهرة أنساب العرب (ص60)، والنسابة الشيعي جمال الدين أحمد في كتابه عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب (ص234)، والمؤرخ أبو العباس القلقشندي في نهاية الأرب (ص137). كل هؤلاء ابطلوا أن يكون من نسل محمد بن إسماعيل رجل أسمه عبيد الله.
أيضا ممن كذب ذلك محمد بن علي بن رزام المعاصر للإمام الخامس من العبيدين نقلاً عن الفهرست لابن النديم (ص264)، والقاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب كشف الأسرار (انظر النجوم الزاهرة ج4 ص75).(50/69)
بل وأجمع العلماء على بطلان النسب العبيدي ففي سنة (402هـ) صدر محضر من بغداد بتوقيعات كثير من الفقهاء والعلماء والقضاة والمحدثين بما فيهم فقهاء الشيعة والعلويين يثبتون فيه بطلان النسب العبيدي، وهذه الحادثة أجمعت على صحتها كلمة المؤرخين.
وحين دخول المعز لمصر ونقله للحكم العبيدي فيها أجتمع به جماعة من الأشراف فقالوا له إلى من ينتسب مولانا؟! فقال لهم المعز: سنعقد مجلساً ونجمعكم ونسرد إليكم نسبنا، فلما استقر المعز بالقصر جمع الناس في مجلس عام وجلس لهم وقال: هل بقي من رؤسائكم أحد؟ فقالوا: لم يبق معتبر. فسل سيفه وقال: هذا نسبي، ونثر عليهم ذهباً كثيراً وقال: هذا حسبي (وفيات الأعيان ج2 ص269).
ورغم كذب الإسماعيلية إلا أنهم لم يعتقدوا أن سعيد الملقب بعبيد الله المهدي من نسل علي بن أبي طالب. فهذا خطاب بن الحسن (ت سنة 533هـ) وهو من كبار الدعاة الإسماعيلية لم يعتقد أن سعيد (عبيد الله المهدي) من الأئمة من آل البيت حيث يقول: "ولما ظهر النور باليمن وبلاد المغرب سار ولي الله علي بن الحسين صلوات الله عليه وسلم يريد بلاد المغرب حتى كان في بعض الطريق اظهر الغيبة واستخلف حجته سعيد الملقب بالمهدي سلام الله عليه".
التعليق:
مع ثبوت بطلان النسب العبيدي يثبت تبع له بطلان إمامتهم، لأن من العقائد المتفق عليها عند الإسماعيلية، بل والشيعة قاطبة، أن الإمامة لا تكون إلا في نسل علي بن أبي طالب، ومن ثم أيضا بطلان المعتقد الإسماعيلي، لأن من عقيدتهم في الإمامة أنه لا يخلو عصر من إمام ولم يكن في عهد العبيدين أئمة إلا هم وقد ثبت بطلان دعواهم.
الفضيحة الثانية: التناقض في المذهب الإسماعيلي:
يزعم الإسماعيلية أنهم لم يأخذوا معتقدهم إلا من المعصومين ومن لازم هذه العصمة أن لا يوجد تناقض في المذهب الإسماعيلي إلا أن الناظر إلى معتقدهم يجده مجموعة تناقضات نورد بعضها للدلالة على بقيتها:
من مظاهر هذا التناقض:(50/70)
1- بعد وفاة جعفر جعل الإسماعيلية الإمامة لإسماعيل الابن الأكبر لجعفر ولو أنه مات في حياته، لقولهم إن النص لا يرجع القهقري، وبقيت الإمامة في عقبه، فهم يعتقدون أن النص لا ينتقل من أخ إلى أخ، ولكن نجد أن الأئمة المزعومين يناقضون هذا المعتقد فالمعز وهو الإمام الرابع في دور الظهور نقضه ورماه خلف ظهره (عندما مات ابنه عبدالله في حياته الذي جعل النص فيه أولاً)، فنقل النص إلى أخيه العزيز الابن الأصغر للمعز.
2- ومن عقائدهم أن الإمامة تكون في الولد الأكبر للإمام، إلا أنا نجد المعز وللمرة الثانية يخالف هذا المعتقد، إذ أن المؤرخين قاطبة من الإسماعيلية وغيرهم أجمعوا على أن الابن الأكبر للمعز هو تميم، لكنه حرمه الإمامة، وجعلها لعبدالله ثم للعزيز. وكذلك الإمام الثامن حرم نزار الأكبر وأعطاها للمستعلي الأصغر.
3- ومن عقائدهم أن الإمامة لا تكون إلا في الاعقاب وإلى مولود بعد والد ولكن الإمام السادس الحاكم بأمر الله خالف ذلك وجعل ولي عهده عبدالرحيم بن ألياس من بني عمومته.
4- ومن عقائدهم أن الإمام لا يكون إمام إلا بعد وفاة الذي قبله، إلا أن هذه العقيدة أيضا لم تراع عند تأسيس المذهب حيث جعلوا الإمامة في إسماعيل بن جعفر وأبوه حي.
5- ومن عقائدهم المشهورة أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. إلا أنهم خالفوا هذه العقيدة بقولهم إن الائمة الإسماعيلية في دور الستر لم يكن أحد يعرفهم إلا دعاتهم المقربون!!!
التعليق:
وهناك الكثير لمن تبصر في تاريخهم وسبر عقائدهم وصدق الشاعر حيث يقول:
اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر
ضل قوم ليس يدرون الخبر
وأخيراً نقول : قال الله تعالى: ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا (.(النساء 82)
الفضيحة الثالثة: استخدام دعاة المكارمة للسحر:(50/71)
وهذا مشهور بينهم، ومتداول وشائع عنهم، وما خلاف محسن وحسين، واستخدام كل واحد منهما للسحر، وإخبار محسن أن كل من تولى هذا المنصب إنما كان يستخدم السحر (كما ذكر ذلك في قسم التاريخ) إلا شاهد على تفشي هذا الأمر عندهم، ويشهد التاريخ لذلك، ففي سنة 902هـ امر السلطان عامر بن عبدالوهاب الطاهري بتقييد داعي إسماعيلي في اليمن اسمه سليمان بن حسن بمدينة تعز وأودعه دار الأدب، وكان يتحدث بما لا يعنيه من المغيبات والمستقبلات، وكان من دعاة الإسماعيلية، وأمر بإحضار كتبه وإتلافها فأتلفت (انظر النور السافر للعيدروس ص21). بل في كتبهم حث على التوسل بالشياطين، ففي أخص كتب المكارمة، وهو ( صحيفة الصلاة الكبرى ص622) يقولون بالحرف الواحد: "توسل بحق المقري والمغويشم وشمشم وبيشا وهيشا وبريشا- كبا كبا كبا- ينجلي ينجلي ينجلي" انتهى كلامهم. فهل هذه الخزعبلات إلا اسماء شياطين أو مردة.
التعليق:
إن استخدام دعاة المكارمة للسحر وهو كفر بنص القرآن، قال سبحانه: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر( ؛ لدليل أكيد على استخفاف هؤلاء الدعاة بالدين وعدم مبالاتهم بما هو كفر وشرك. فكيف يا مكرمي تأخذ دينك من كافر؟!
الفضيحة الرابعة: الفكاك من العذاب (صكوك الغفران):
عندما يموت أحد أتباع المكرمي يذهب اقاربه إلى المكرمي ويقدمون له مبلغاً من المال مقابل الفكوك من عذاب القبر، ومبلغاً آخر مقابل العتق من النار. وبعضهم يستعجل الأمر ويدفعها عن نفسه في حياته، وهذا مشاهد ومعروف من قبل الأتباع.
التعليق:(50/72)
إن هذا الصنيع مشابه لما يفعله قساوسة النصارى لأتباعهم والمسماة بصكوك الغفران، ويجمعهم الهدف المشترك مع المكرمي وهو ابتزاز أموال الجهال من الأتباع، وإن عملهم هذا لهو شرك أكبر لأنه استعانة بالمكرمي فيما لا يقدر عليه إلا الله، والله سبحانه وتعالى حث عباده أن يقولوا: (إياك نعبد وإياك نستعين( فمن استعان بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد أشرك قال تعالى عن الشرك: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( (النساء 48).
الفضيحة الخامسة: السجود والركوع للمخلوق:
وهو من الاعتقادات المتفق عليها في كتب الإسماعيلية؛ ففي كتاب الدستور للداعي شمس الدين أحمد الطيبي ص(71) قال: "أما المرشد فينبغي أن يكون قد بلغ في السن حد الاربعين، ولا يجوز لمن هو دون ذلك أن يفاتح أو يسلم على أحد من المواعظ والإرشاد والهداية إلى طريق الله تعالى…" إلى أن قال في (ص74) :"وإن على الطالب إذا حفظ ما ذكرناه أن يحضر مجلس الجماعة، فإذا تم ذلك يقوم النقيب بهم فيعيد البسملة، فإذا وصل إلى ذكر الإمام سجد وسجدوا، ثم إذا أتم البسملة ناوله النقيب قدحا من الماء… ويشرب الماء ويخر ساجداً بين يدي الجماعة ثم يؤتى بقدح لبن ويسجد (أي المريد) ويسجدون. ويكرر ذلك عدة مرات".(50/73)
وقال القاضي النعمان في كتاب "الهمة في آداب أتباع الأئمة" (ص104) :"فينبغي لمن واجه الإمام عليه السلام أن يبدأ بالسلام عليه، ثم يقبل الارض بين يديه، ويعتقد ذلك تعظيماً له، وتقرباً إلى الله" وبما أن الداعي المطلق يقوم مقام الإمام في حال غيبته فقد شاهدنا وشاهد الكثير الفيلم الوثائقي الذي حوى زيارة داعي البهرة محمد برهان الدين داعي فرقة الداؤودية لمنطقة حراز لزيارة قبر حاتم الخيرات في اليمن، وما قام به أتباعه من الهنود من تقديم السجود له سجوداً كاملاً كسجود الصلاة –نسأل الله العافية والسلامة- وهؤلاء شركاء المكارمة في المذهب، ومن الكتب نفسها يستقون معتقداتهم وعباداتهم إلا أن المكارمة لوجودهم في أرض العرب نجران وما عرف عن العرب من أنفة وعزة نفس لم يتجرأ هذا المكرمي من طلب السجود له، واستعاض عنه بالركوع؛ حيث يلزم أتباعه أن يقبّلوا ركبته، ولا يحصل التقبيل إلا بالانحناء المشابه للركوع.
التعليق:
قد أصدرت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية فتوى في حكم السجود لداعي البهرة ملخصها ما يلي: "إن السجود نوع من أنواع العبادة التي أمر الله بها لنفسه خاصة لعموم قوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل إمة رسول أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت( (النحل36). وقال تعالى: (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا( (النجم59). فإذا كان حال البهرة كما ذكر فسجودهم لكبيرهم عبادة وتأليه له، واتخاذه شريكاً مع الله، أو إلها من دون الله، وأمره إياهم بذلك، أو رضاه به يجعله طاغوتاً يدعو إلى عبادة نفسه فكلا الفريقين التابع والمتبوع كافر بالله خارج بذلك عن ملة الإسلام والعياذ بالله" انتهت الفتوى رقمها (2289).
والركوع مثل السجود كلها عبادة لا يجوز صرفها إلا لله، قال تعالى: (يا أيها الذين أمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ( (الحج77).
الفضيحة السادسة: سب الصحابة:(50/74)
قد ذكرنا في قسم الاعتقاد أن الإسماعيلية يشاركون الرافضة في سب صحابة رسول الله ( إلا سبعة فقط، وهذا الأمر ليس من الأمور السرية في المذهب الإسماعيلي ، بل هو منتشر بين عامة المكارمة فتجد السب والشتم لخير الأمة من الصحابة، بل تجد العامي من المكارمة إذا غضب وأراد ان يسب يقول عليك ما على أبي هريرة (أي من العذاب)، ويلقبون أهل السنة بـ"قوم عائشة" أو قوم أبو هريرة".
التعليق:
لاشك أن رمي الصحابة بالكفر والردة إلا نفر قليل لا يتجاوزون أصابع اليدين، وأنهم بدلوا دين الله وغيروه، لاشك أن هذا طعن في الدين لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول والصحابة هم الذين نقلوا لنا الدين، وأيضا هو تكذيب للقرآن قال تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ( (التوبة 100). فالله رضي عنهم واعد لهم الجنة، والله لا يخلف الميعاد. وقال تعالى عن زوجات النبي (: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم( (الاحزاب 6). فمن كفّر زوجات النبي ( فلسن له بأمهات لأنهن رضي الله عنهن أمهات للمؤمنين فقط، فهو أولى بالتكفير.
الفضيحة السابعة: المكارمة لا يصلون الجمعة أبداً:
وذلك بحجة أن الجمعة لا تقام إلا بوجود إمام عدل، ويقولون الآن لا يوجد إمام عدل فلا نقيمها.
التعليق:
إن المكارمة يهدمون مذهبهم بأنفهسم، فإن قولهم هذا ينفي العدالة عن داعيهم المطلق المكرمي، إذ هو ليس بعدل فكيف تأخذون دينكم من الفاسق لأن من ليس بعدل فهو فاسق، نسأل الله العافية والسلامة.
إن هذه الفضائح والمعلومة لدى كافة المكارمة خاصتهم وعامتهم لكافية لبيان بطلان مذهبهم لمن تجرد عن الأهواء وبحث عن الحق، فإن أهل الضلالة والأهواء يفضحون أنفسهم بأنفسهم بالتناقض والاضطراب. وصدق الشاعر حيث قال:
من أذن الله بفضيحته(50/75)
أغرى يديه بكشف عورته
ترتيب الدعوة لديهم وأسلوبها
استخدم الإسماعيلية ومنهم المكارمة أسلوبا فيه الكثير من المكر والدهاء لنشر مذهبهم، وقد قام على مبدأ اساس وهو التقية، فهم سنيون مع السنة شيعيون مع الشيعة، يهوديون مع اليهود… وهكذا.
ولجؤوا إلى ذلك من أجل إثارة الشكوك في معتقد من يدعونه لمذهبهم، ثم جذبه إلى مذهبهم بالطرق التي سنذكرها لاحقاً.
مراتب الدعوة:
1/ الإمام داعي الدعاة: وهو رأس الدعوة وممثل القيادة العليا.
2/ الحجة أو الباب: وهو نائب الإمام، ولديه اسرار الإمام، ومستودع أعماله.
3/ داع البلاغ: وهو المسؤول عن تبليغ الأوامر التي يرسلها داعي الدعاة إلى الاقاليم، ومسؤول عن سريتها وضمان وصولها.
4/ الداعي المطلق: له كافة الصلاحيات بالسفر إلى الأقاليم للدعوة. ويلحق به الجناح الأيمن والأيسر: وهما جناحان جزئيان، يقدما للداعي المطلق الخدمات أثناء جولاته للدعوة للمذهب.
5/ الداعي المأذون: مهنته أخذ الميثاق على المستجيبين للدعوة.
6/ الداعي المحصور: يعتبر مسؤولاً عن التبليغ في منطقة محصورة معينة، ويأخذ الميثاق على المستجيبين في منطقته. والداعي المأذون والمحصور هم المفسوح لهم بالمكاسرة والدعوة للمذهب بعد وصولهم إلى درجة عالية من الفلسفة والجدل. وأيضا يقومان بإمامة الناس في صلاة الجماعة والعيدين والجنازة، وجمع الزكاة لدفعها لمن هو أعلىمنه، وبقيادة جماعة محدودة في الحج لتعليمهم مناسكه.
7/ المكالب: وهو الجندي الأول من مريدي الدعوة. ووظيفته التجسس واستنشاق الأخبار المتعلقة بالدعوة.
8/ المستجيب: وهي أول مرتبة يصل إليها المنتسب حديثاً إلى الدعوة بعد أخذ الميثاق عليه. (انظر حياة الأحرار لعلي بن سليمان المكرمي ص 60 وما بعدها).(50/76)
وبعد غيبة الإمام المزعومة أصبح الداعي المطلق هو المسؤول الأول عن كل ما يتعلق بشؤون الدعوة، والمصدر الذي تستقي منه العلوم الباطنية، وهو القائم مقام الإمام، والدليل على وجوده.
وأما من الناحية العملية فكلما ابتعدت عن مركز الدعوة وهو "خشيوة" فإنه تقل سيطرة الدعاة، ويتولى أمور الدعوة بدلاً عنهم مشايخ القبائل.
الطرق والحيل التي يستعملها الباطنيون، ومنهم المكارمة لإغواء الناس:
1- التفرس: ومن شروطه القوة على التلبيس، ومعرفة حال المدعو، لذا منعوا إلقاء البذرة في الارض السبخة، والتكلم في بيت فيه سراج؛ بمعنى أن من لا أمل في إغوائه لا ينبغي أن يضيع الوقت معه، كما لا ينبغي محاولة نشر الدعوة في بلد فيه علماء.
2- التأنيس: والمراد به الوصول إلى قلب المدعو واستمالته بلطف الحديث، ويظهر له كل أمر يزيد في الأنس ويقرب بينهما.
3- التشكيك: وهي ان يسأل الداعي المدعو عن مسائل في أمور الدين، وهي مسائل يعجز المدعو عن الإجابة عنها لجهله، لأنهم يركزون دعوتهم على العوام. ومن أسئلتهم مثلا: لم أمر بالغسل من المني، والوضوء من البول والغائط وهما اغلظ منه نجاسه؟ ولم أمرت الحائض بقضاء الصوم دون الصلاة وهما واجبان على السواء؟ ولم كانت أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة؟ ولم بدأت بعض السور بحروف مقطعة؟ ولم رمي الجمار؟ ولم الطواف؟ … وهكذا ويعظمون أمرها، ويدّعون أن لكل ذلك جواباً لا يعرفه كل أحد.
4- التعليق: فإذا تعلق قلب المدعو بطلب الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، قالوا له: إننا لا نخبرك بشيء حتى تعطينا العهد والميثاق، فإن رضي بذلك نقلوه إلى الحيلة الخامسة.(50/77)
5- الربط: وهو ربط لسان المدعو بما يؤخذ عليه من العهود والمواثيق الغليظة في عدم إفشاء سر من اسرارهم. وأنه إذا فعل ذلك فقد استوجب لعنة الله وغضبه، وأنه مخلد في النار… إلخ. وفي أخذهم هذه المواثيق على الكتمان لدليل واضح على بطلان مذهبهم لأن الحق لا يتكتم عليه؛ قال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه( (آل عمران 187) وآيات كثيرة يحذر الله فيها من كتمان العلم.
6- التدليس: هو لجوء الداعي إلى التمويه وإغراء المدعو بأن الله جعل لكل شيء ظاهراً وباطناً، ويستدلون عليه بقوله تعالى: (وذروا ظاهر الاثم وباطنه( (الانعام 120)، ونصوص أخرى، ثم يقال له الظاهر قشور والباطن هو اللب، وأنه الآن قد وصل إلى العلم الباطن.
7- التأسيس: وهو تثبيت المعتقد الإسماعيلي في ذهن المدعو، والتأكد من استقراره في ذهنه.
8- الخلع أو السلخ: ويقصد به إقصاء المدعو عن معتقده السابق نهائيا.
الحكم عليهم
إن فيما سبق من عرض لعقائدهم وفضائحهم لكافي في الحكم عليهم بالكفر والزندقة والإلحاد، لذا اتفقت كلمة العلماء على تكفير الإسماعيلية الباطنية، وأنهم زنادقة ملحدين، ومن هؤلاء العلماء ما يلي:
بعض العلماء الذين كفروهم:
1/ قال القاضي عياض: أجمع العلماء بالقيروان أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة (انظر ترتيب المدارك ج4ص720)، وبني عبيد هم أئمة الإسماعيلية في حال الظهور.(50/78)
2/ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإنما ينكرون أن تكون هذه الاسماء حقيقة: النفاة من القرامطة الإسماعيلية الباطنية، ونحوهم من المتفلسفة، الذين ينفون عن الله الاسماء الحسنى. وهؤلاء الذين يسميهم المسلمون الملاحدة؛ لأنهم ألحدوا في اسماء الله وآياته، وقد قال الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون(، وقال تعالى: (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا(، وهؤلاء شر من المشركين الذين أخبر الله عنهم بقوله: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا(… فإن أولئك المشركين إنما أنكروا إسم الرحمن فقط، وهم لا ينكرون أسماء الله وصفاته، ولهذا كانوا عند المسلمين أكفر من اليهود والنصارى" (الفتاوى ج3 ص195 وما بعدها).
3/ وكذا كفرهم الديلمي في كتابه: "قواعد عقائد آل محمد".
4/ وإحسان إلهي ظهير في كتابه "الإسماعيلية".
5/ والبغدادي في كتابه "الفرق بين الفرق".
6/ وأبوحامد الغزالي في كتابه: "فضائح الباطنية".
7/ والإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كتابه: "مختصر سيرة الرسول".
كيف تدعو العامة من المكارمة
قبل الحديث في الكيفية التي تدعو بها العامي من المكارمة، يحسن بنا أن نبين الأسباب المانعة من قبول الحق من أجل أن تكون وسائل الدعوة وأساليبها مراعية لهذه الأسباب:
الأسباب المانعة لقبول الحق:(50/79)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه" هداية الحيارى" :"والأسباب المانعة من قبل الحق كثيرة جدا؛ فمنها: الجهل به، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئا عاداه وعادى أهله. فإن انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق ومعاداته له وحسده، كان المانع من القبول اقوى. فإن انضاف إلى ذلك الفه، وعاداته، ومرباه، على ما كان عليه آباؤه، ومن يحبه ويعظمه قوي المانع. فإن انضاف إلى ذلك توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه، وعزه، وشهواته، وأغراضه، قوي المانع من قبول الحق جدا. فإن انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته، وقومه، على نفسه وماله وجاهه، ازداد المانع قوة.
القواعد الهامة لدعوة العامة من المكارمة
1- العامة اسرع من غيرهم إلى الاستجابة للحق:
لكون الغالب منهم على الفطرة، ولم تفسد نفوسهم، فهم خالون من موانع القبول الموجودة في الرؤساء والمترفين، من حب الرئاسة، والتسلط، والأنفة من الانقياد للغير لكبرهم.
2- استخدام اللين في دعوتهم:
معلوم أن عامة المكارمة يغلب عليهم أنهم من الأعراب، وعرفوا بالأنفة، وإباء الضيم، وسلامة الفطرة، وسرعة الفهم فلم تكن تليق بهم الشدة والغلظة لأول وهلة، ولكنهم محتاجون إلى استنزال طائرهم في تبليغ الشريعة لهم، ليجتنبوا بذلك المكابرة؛ التي هي الحائل الوحيد بينهم وبين الإذعان للحق، ولنا في رسول الله ( الأسوة الحسنة في الرفق واللين، من ذلك ما رواه البخاري، وفيه: "أن النبي ( نزل تحت سمرة فعلق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة، فإذا رسول الله ( يدعونا، فجئنا، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله (: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: ما يمنعك مني؟ قلت له الله. فها هو ذا جالس، ثم لم يعاقبه الرسول (؟ وفي رواية ابن اسحاق أنه لما ولى قال: أنت خير مني، ثم أسلم بعد، واهتدى به خلق كثير.(50/80)
3- نفوس العامة مجبولة على النفرة ممن يجرحها ويقابلها بالتخطئة والنقد، لذا لا بد من ابراز الصفات الحميدة للقبيلة ومشايخها من أجل إستمالت القلوب لقبول الحق.
4- مناقشة العامة بما يعرفونه من كتبهم ومذهبهم بما هو ظاهر البطلان: حتى لا يظن في كلامك الافتراء عليهم عند عدم علمهم بما تقول.
5- ابراز نقاط الاتفاق مع المدعو، والاستدلال بها على نقاط الاختلاف: لانك إذا جعلت بينك وبين المدعو نقاط اتفاق أحس المدعو بقربه منك وارتاح لكلامك، وهذه طريقة ربانية ذكرها الله في كتابه، قال تعالى : (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون( (العنكبوت 46).
6- الاعتراف بالصواب من أقوال المدعو: وإظهار احترامه بالاستدلال بعباراته الصحيحة؛ وذلك لتقريب الفجوة لسماع الحق، والإذعان له.
7- الاستدلال على ضلاله بضلال شيخه المكرمي: ما دام موافقاً له، متعصبا لمنهجه، وذلك بذكر ما لشيخه من أخطاء بالدليل والحجة الواضحة.
8- الرد على الخصم بعباراته، وبيان لوازم قول الخصم وشناعتها: وتخييره بين الالتزام بها، أو الرجوع عن قوله. ومثال ذلك ما يعتقده الإسماعيلية من سلب الله سبحانه وتعالى الأسماء والصفات- تعالى الله عما يقولون- فيقولون: لا موجود ولا معدوم فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول فإنهم شبهوه بالممتنعات؛ إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات. فإما أن يلتزموا بلازم هذا القول أو يرجعوا عنه.
9- إذا كان المدعو معانداً فلا بأس بعد استنفاد اللين من استخدام القوة والإغلاظ بالقول بحسب حال المدعو.
قال الله تعالى: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم" (العنكبوت46).
ويكون ذلك بعدة أساليب منها:
- إظهار التعجب من فساد حجة الخصم لهز ثقته في نفسه.(50/81)
- تحجيم الخصم والتقليل من شأنه، لكسر غروره الذي منعه من قبول الحق.
- تحدي الخصم بالطلب منه أن يأتي بالأدلة الصحيحة على صحة مذهبه، مما يزرع الشك في اعتقاده وأدلته، ويحيي داعي الحق في قلبه.
وهذه القواعد وغيرها الكثير مفيدة لمن احتسب الدعوة عند الله وسعى في تطبيقها عملياً، والله يفتح عليه قواعد وطرق أخرى بحسب حال المدعو. وإننا في ذكرنا هنا أن الداعي يركز جهوده على العامة لا نغفل أهمية دعوة مشايخ القبائل الذين هم أيضا يعتبرون من العامة في المعتقد الإسماعيلي، وإن توجيه الدعوة إليهم لا بد فيه من مراعاة عدة أمور لما لهم من مكانة في عشيرتهم وقومهم، وهذه الأمور هي:
أمور يجب مراعاتها عند دعوة مشايخ القبائل:
1/ حاجة مشايخ القبائل للمدح، والثناء، والتقدير الاجتماعي؛ وذلك بمدحه بما فيه من خصال الخير والرجولة والقيادة والاهتمام بآرائه، لأن الإنسان بطبعه يحب من يحترمه، ويقدره ويثني عليه. ولما كان الداعية بحاجة إلى كسب محبة المدعو ليستجيب له كان لابد من مراعاة هذا الأمر.
2/ تجنب التوجيه بصيغة الأمر؛ لأن النفس جبلت على كراهة من يترفع عليها، وقد زخر القرآن الكريم بالأساليب غير المباشرة، وهي التي تؤدي الغرض نفسه، منها: قوله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق(، ونحو ذلك من الآيات.
3/ اخفاء دعوته وأن تكون خاصة بينك وبينه، حتى لا تأخذه العزة بالاثم عند أتباعه فيأبى الحق.
4/ المداراة وهي خفض الجناح، ولين الكلام، وترك الإغلاظ، وهي مندوب إليها، بعكس المداهنة لأن المداهنة هي الاقرار على الباطل وهي محرمة.
5/ إشعار المدعو من مشايخ القبائل بأن الاستجابة للحق لا تحرمه من منصبه وجاهه بل تزيده رفعة عند الله وجاه وهو الجاه الحقيقي، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.(50/82)
وإن في استجابة مشايخ القبائل للحق النفع العظيم إذ يدخل معهم اتباعهم وعشيرتهم ولنا في مجحود زعيم آل عرجاء كما سبق في قسم التاريخ خير دليل على أهمية دعوة مشايخ القبائل.
ما سبق ذكره يعتبر من الطرق العلمية المنهجية، وإليك بعض الطرق العملية في دعوتهم:
1- لابد من تركيز الدعوة في المنطقة البعيدة عن المكرمي مثل "يدمه-ثار-قطن" لجهلهم بالمذهب الإسماعيلي الذي ينتمون إليه اسمياً فقط، وذلك بكثرة المخالطة لهم ودعوتهم للصلاة في مساجد السنة واستماع المحاضرات الوعظية لاستجلاب قلوبهم، بدون التطرق للنقاش في المعتقد حتى لا تفتح باباً مغلقاً يجهلونه، فبعد مدة ستجد أن هذه الجموع تستجيب لك وتألف حديثك وتقبل ما تمليه عليها من عقائد صحيحة موافقة للفطرة.
2- استخدام مبدأ الإحسان إلى العامة من المكارمة بشيء من المباحات والهبات، فإن الإحسان يأسر القلوب، كما قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
3- نشر الشريط الإسلامي بين عامة المكارمة وخاصة الاشرطة التي تحتوي على تقرير العقيدة بأسلوب وعظي مؤثر، وبخاصة بين النساء.
4- ينبغي لمن اعطاه الله منصباً أن يوظفه في الدعوة إلى الله سواء من الرئيس لمرؤوسية أو المعلم لطلابه… ألخ، وذلك بحسن المعاملة والقدوة الحسنة وحسن الالتزام بالسنة، فإن القلوب مجبولة على الإقتداء بمن هو أعلى منها منصباً خاصة إذا كان الرئيس متحلياً بجميل الخصال وكريم الطباع.
5- تعليق قلوب الشباب من المكارمة بحب مجالسة الصالحين من أهل السنة وذلك بالرحلات الدعوية التي فيهاالكثير من المرح والتسلية لجذب القلوب، مثل المراكز الصيفية ورحلات الكشافة ونحوها.
تم بحمد الله،،،
قال الشاعر:
ياناظر الخط فاستغفر لمن كتبا
فقد كفتك يداه النسخ والتعبا
وقل إذا نظرت عيناك أحرفه
يارب فاغفرله وارزقه ما طلبا
من كل خيرٍ وبرٍ أنت تعلمه(50/83)
فأنت أكرم من اعطى ومن وهبا
1- جدول بترتيب الدعوة والدعاة عند الإسماعيلية
المثل
ممثوله من عالم الإبداع
ممثوله من عالم الأفلاك
الناطق
الأساس
الإمام
الباب
الحجة
داعي البلاغ
الداعي المطلق
الداعي المحصور
المأذون المطلق
المأذون المحصور
الموجود الأول أو المبدع الأول أو العقل الأول أو السابق
الموجود الثاني أو المبدع الثاني أو التالي
الموجود الثالث أو العقل الثالث
الموجود الرابع أو العقل الرابع
العقل الخامس
العقل السادس
العقل السابع
العقل الثامن
العقل التاسع
العقل العاشر
الفلك الأعلى
الفلك الثاني
فلك زحل
فلك المشتري
المريخ
الشمس
الزهرة
عطارد
القمر
ما دون الفلك من الطبائع
2- جدول بالدعاة الذين تولوا منصب "داعي مطلق" في اليمن في عهد الستر قبل الانقسام إلى سليمانية وداؤودية
اسم الداعي
تاريخ وفاته
ذؤيب بن موسى
ابراهيم بن الحسين الحامدي
حاتم بن إبراهيم الحامدي
علي بن حاتم
علي بن محمد بن الوليد
علي بن حنظلة الوادعي
أحمد المبارك
الحسين بن علي بن محمد بن الوليد
علي بن الحسين بن علي بن محمد
علي بن الحسين بن علي بن حنظله
إبراهيم بن الحسين بن علي بن محمد بن الوليد
محمد بن حاتم بن الحسين
علي شمس الدين بن ابراهيم بن الحسين
عبدالمطلب نجم الدين
عباس بن محمد بن حاتم
عبدالله فخر الدين بن علي المكرمي
حسن بدر الدين بن عبدالله المكرمي
علي شمس الدين بن عبدالله المكرمي
إدريس عماد الدين بن حسن المكرمي
حسن بن إدريس عماد الدين المكرمي
حسين حسام الدين بن إدريس المكرمي
علي شمس الدين بن الحسين المكرمي
محمد عز الدين بن الحسن المكرمي
يوسف نجم الدين بن سليمان الهندي
جلال شمس الدين بن الحسن الهندي
داؤود بن عجب شاه الهندي
546هـ
557هـ
596هـ
605هـ
612هـ
626هـ
627هـ
667هـ
682هـ
686هـ
729هـ
729هـ
746هـ
755هـ
779هـ
809هـ
821هـ
832هـ
872هـ
918هـ
933هـ
933هـ
946هـ
974هـ
975هـ
999هـ(50/84)
3- جدول بدعاة الداؤودية والسليمانية بعد الإنقسام
دعاة الداؤودية
تاريخ الوفاة
دعاة السليمانية
تاريخ الوفاة
داؤود برهان الدين
شيخ آدم صفي الدين
عبدالطيب زكي الدين
علي شمس الدين
قاسم زين الدين
قطب خان قطب الدين
بير خان شجاع الدين
اسماعيل بدر الدين
عبدالطيب زكي الدين
موسى كليم الدين
نور محمد نور الدين
اسماعيل بدر الدين
ابراهيم وجيه الدين
هبة الله المؤيد في الدين
عبدالطيب زكي الدين
يوسف نجم الدين
عبدالعلي سيف الدين
محمد عز الدين
طيب زين الدين
محمد بدر الدين
عبدالقادر نجم الدين
عبدالحسين حسام الدين
محمد إبراهيم الدين
عبدالله بدر الدين
طاهر سيف الدين
محمد برهان الدين
1021هـ
1030هـ
1041هـ
1042هـ
1054هـ
1056هـ
1065هـ
1085هـ
1110هـ
1122هـ
1130هـ
1150هـ
1168هـ
1193هـ
1200هـ
1213هـ
1232هـ
1236هـ
1252هـ
1256هـ
1302هـ
1308هـ
1323هـ
1333هـ
1385هـ
إلى الإن
سليمان بن الحسن الهندي
جعفر بن سليمان الهندي وكان.وصيه محمد بن الفهد المكرمي لصغر سنه
علي بن سليمان الهندي
ابراهيم بن محمد الفهد المكرمي
محمد بن اسماعيل المكرمي
هبة الله بن ابراهيم المكرمي
اسماعيل بن هبة الله المكرمي
الحسين بن هبة الله المكرمي
عبدالعلي بن الحسن المكرمي
عبدالله بن علي المكرمي
يوسف بن علي المكرمي
الحسين بن الحسين المكرمي
اسماعيل بن محمد المكرمي
الحسن بن محمد المكرمي
الحسن بن اسماعيل المكرمي
أحمد بن اسماعيل المكرمي
عبدالله بن علي المكرمي
علي بن هبة الله المكرمي
علي بن محسن المكرمي
غلام حسين الهندي
الشرفي الحسين المكرمي
علي بن الحسين أحمد المكرمي
حسين بن الحسن المكرمي
حسين بن اسماعيل المكرمي
وقد افترق عنه محسن
1005هـ
1050هـ
1088هـ
1094هـ
1129هـ
1160هـ
1184هـ
1189هـ
1195هـ
1225هـ
1234هـ
1241هـ
1256هـ
1262هـ
1289هـ
1306هـ
1323هـ
1331هـ
1355هـ
1357هـ
1358هـ
1396هـ
1413هـ
إلى الآن(50/85)