- غادر الرئيس اللبناني أمين الجميل قصر الرئاسة في بعبدا متوجهاً إلى دمشق لإجراء محادثات قمة – وهي التاسعة من نوعها – مع الأسد لبحث الأوضاع في لبنان وبخاصة في بيروت.
- وفي يوم الخميس 30 مايو تدخل الطرف الذي تجري لمصلحته كل هذه المعارك .. إذ اخترقت أسراب من الطائرات اليهودية جدار الصوت فوق المخيمات محدثة دوياً هائلاً .. وواصلت تحليقها بارتفاع منخفض فوق بيروت والجبل كي تتمتع برؤية عمليات التصفية، وتصور أمجاد عملائها، وتدخل مزيداً من الرعب إلى قلوب الأطفال والشيوخ والنساء في المخيمات المنكوبة.
- وفي اليوم نفسه سقط صاروخ من طراز [غراد] من الجبل على البيت المجاور لمنزل بري أدى إلى تدميره ومقتل شخصين.
سقوط مخيم صبرا:
استمرت المعارك بين كرّ وفر، وفي ضحى يوم الجمعة 31 مايو أعلنت أمل ومن غير مقدمات وقف إطلاق النار من طرف واحد .. ثم أعلنت جبهة الإنقاذ – بعد ذلك – موافقتها على وقف إطلاق النار.
فهل ارتوت أمل من دماء النساء والأطفال؟! لا، لم يكن الأمر كذلك .. وها هي الأسباب المريبة:
1- سقوط مخيم صبرا بعد صراع طويل، وكان سقوطه صباح يوم الجمعة 31 مايو، ولكن المقاتلين الفلسطينيين لم يتوقفوا، وإنما بقيت لهم جيوب داخل المخيم، وكان الهدف من وقف إطلاق النار إعطاء فرصة [لبلدوزرات] أمل واللواءين السادس والثامن، لتهديم ما تبقى على وجه الأرض من منازل ومرتفعات، ولكي تسوي جميع المنازل بالأرض – على حد تعبير نايف حواتمة -، فلا يبقى بعد ذلك حواجز يقف وراءها الفلسطينيون في الدفاع عن أنفسهم.
2- عاد الرئيس الكتائبي أمين الجميل يوم الجمعة 31 مايو من دمشق بعد يومين من المباحثات المكثفة في خمس جلسات .. وفي مطار دمشق أدلى الرئيس اللبناني بتصريح قال فيه: (إن القوات السورية ستساعد لبنان في وقف حربه الأهلية تمهيداً لإجراء إصلاحات سياسية ستزعج أكثر من طرف).(30/56)
وقال أيضاً: (سيتم بالتعاون ما بين القوات السورية والجيش اللبناني نزع سلاح جميع الميليشيات والمنظمات بما فيها الفلسطينيون، ووجود السلاح في المخيمات توطئة لحرب جديدة).
ومن الملاحظ أن رئيس النظام اللبناني زار نظيره النصيري في وقت كانت تسيل فيه دماء الفلسطينيين وهو المسؤول الأول في لبنان ومع ذلك لم يأسف للمجزرة وإنما زعم أن السلاح الفلسطيني توطئة لحرب جديدة فمتى انتهت حروب لبنان لتبدأ حرباً جديدة فض الله فاه، وكيف يكون السلاح الذي يدافع به الفلسطينيون عن أنفسهم توطئة لحرب جديدة؟! وسلاح الكتائب وأمل والدروز إذن توطئة لماذا؟!
أما قوله بأن الجيش السوري سيساعد لبنان وسيتم بالتعاون معه نزع سلاح جميع الميليشيات .. فيه دلالة على أن الجيش النصيري سيقوم بالمهمة التي عجزت إسرائيل والكتائب وأمل والدروز عن القيام بها.
أما قول الجميل بأنه وجيش الأسد سينزعون سلاح جميع الميليشيات فهو ليس أكثر من استهلاك محلي، ويزيد الأمر وضوحاً ما ذكرته صحيفة (الحقيقة) اللبنانية: (إن الجميل والأسد اتفقا على عودة القوات السورية إلى بيروت .. وذُكِرَ أن حشوداً سورية بدأت تتجمع في بحمدون، وعندما أعلن ناطق فلسطيني رفض اتفاق دمشق قامت أمل والجيش اللبناني بقصف مخيم شاتيلا بالصواريخ معلنة سقوط وقف إطلاق النار بعد ساعات من إعلانه.
3- بدأ في هذا اليوم مجلس الأمن الدولي بحث قضية حرب المخيمات بناء على طلب تقدمت به مصر، ولا بد أن تتخذ أمل موقفاً بقطع الطريق على طلب مصر.(30/57)
4- كان ممن ساعد على سقوط مخيم صبرا رغم استبسال المقاتلين في الدفاع عنه لمدة 12 يوماً توقف الدعم العسكري القادم من القوات الفلسطينية في الجبل، وكان هذا التوقف قد بدأ منذ بضعة أيام، لذلك فقد سهل هذا على أمل توجيه قصف مدفعي شديد وبكل العيارات على المخيم مما أدى إلى تدميره تماماً .. حتى إن المقاتلين الفلسطينيين اضطروا إلى استخدام السلاح الأبيض، لفك طوق أمل حولهم والانسحاب من المخيم.
وهكذا لم تعلن أمل عن وقف إطلاق النار إلا وهي تعلم أن هذا الوقف يخدمها.
وفي هذا اليوم تعرض مخيم عين الحلوة لقصف مدفعي من مناطق جبلية يسيطر عليها النصارى العملاء لإسرائيل بقيادة لحد.
وبعد هذا الإعلان عن وقف إطلاق النار، ورغم سقوطه بعد ساعات .. إلا أن المعركة خفت حدتها بعد ذلك، وإن لم تتوقف، ويظهر أن سبب ذلك محاولة نظام دمشق تطبيق اتفاق القمة، وقد صرح نبيه بري بذلك في مؤتمر صحفي يوم الأحد 2 يونيو 1985 قال فيه: (إن الوقت قد حان لدور سوري أكبر في شؤون لبنان .. وإن أمل مستعدة عند تولي قوات ردع سورية الأمن في لبنان لتسليم سلاحها مثل الفلسطينيين).
وتصريحه هذا لا يختلف عن تصريح آخر له طالب فيه بتسليم أمن المخيمات إلى قوات اللواء السادس اللبناني، واللواء السادس الرافضي لا يختلف عن أمل أو عن النظام النصيري الرافضي فكلهم وجوه لعملة واحدة.(30/58)
ومن جهة أخرى فإن المعارك انخفضت حدتها حتى نهاية يوم الاثنين 3 يونيو حيث تبين لنظام دمشق أن الفلسطينيين لم يذعنوا للأوامر الصادرة عن الأسد ولا بد من سحقهم حتى لا تقوم لهم قائمة ولهذا اشتدت المعارك بعد يوم الاثنين ورمت سوريا بثقلها فأقدمت على قتل عشرات من الفلسطينيين الذين خرجوا بمظاهرات في دمشق يوم الثلاثاء 4 يونيو احتجاجاً على تواطؤ سوريا مع أمل، كما تم اعتقال أكثر من 700 شخص، واحتلت السلطة مكاتب جبهة الإنقاذ وصادرت ممتلكاتها مع دفع بعض قادة الجبهة إلى التقارب مع المنظمة، حيث التقى كل من عزمي الخواجه [ممثل الجبهة الشعبية] ووليد مصطفى [ممثل الحزب الشيوعي] مع خليل الوزير نائب ياسر عرفات، وأصدروا في عمان – وللمرة الأولى – بياناً مشتركاً يدعو إلى تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية ويندد بأمل والجيش اللبناني ومن يساندهما!!
ولم تبلغ بهم الجرأة للحد الذي يمكنهم من التصريح بذكر اسم نظام دمشق.
وفي هذا اليوم عاد الفلسطينيون إلى قصف مواقع أمل من الجبل بعد توقف طويل.
محادثات دمشق الثانية:
اجتمع بري وجنبلاط وممثلين عن جبهة الإنقاذ في دمشق مع عبد الحليم خدام نائب الرئيس النصيري لبحث موضوع حرب المخيمات .. وفي اليوم نفسه الثلاثاء 4 يونيو صعدت أمل هجماتها على المخيمات، الأمر الذي دفع الجبهة إلى التهديد بالانسحاب من المفاوضات يوم الأربعاء ثم يوم الخميس، وكان نظام دمشق حريصاً على الوصول إلى حل قبل نهاية يوم الجمعة، موعد مؤتمر قمة وزراء الخارجية العرب الذي يعقد في تونس بناء على طلب منظمة التحرير .. ورغم التهديد والوعيد فقد انفض الاجتماع دون الوصول إلى حل، وربما كانت جبهة الإنقاذ هي التي انسحبت من الاجتماع تنفيذاً لتهديدها، أما النظام النصيري فقد زعم رسمياً أن الاجتماع تأجل بسبب عطلة نهاية الأسبوع – أي يوم الجمعة -.
وفي هذه الفترة الزمنية جدت أمور جديدة نوجزها فيما يلي:-(30/59)
- خاضت المنظمات السنيّة اللبنانية معارك خاطفة مع أمل في بيروت الغربية وصيدا.
- اختطف الحزب الاشتراكي الدرزي عنصرين من عناصر أمل يوم الأربعاء، واشتبك الدروز مع ميليشيات أمل عندما حاولت اقتحام مخيم مار إلياس الذي لجأ إليه مهجرو صبرا وشاتيلا.
- تلقى فلسطينيو المخيمات يوم الخميس والجمعة مساعدات عسكرية متعددة منها صواريخ دفاعية، وذخائر وإمدادات فضلاً عن المياه والمواد التموينية، ومولدات الكهرباء.
- هددت جبهة الإنقاذ بنقل المعارك إلى خارج المخيمات وذلك بمساعدة جهات وطنية لبنانية – وهي سنية على الأغلب -.
- نشبت اشتباكات في طرابلس بين الحزب الديمقراطي [وهو حزب نصيري] وحركة التوحيد الإسلامي، وهي حركة سنية، وجاءت هذه الاشتباكات بعد هدوء طويل .. واستمرت هذه المعارك إلى غاية يوم الاثنين حيث التقى ممثلون عن الحركتين بعد وساطة رشيد كرامي وتوصلوا إلى قرار بوقف إطلاق النار أصبح ساري المفعول يوم الأربعاء 12 يونيو.
عودة إلى المفاوضات:
الاثنين 10 يونيو وفي اليوم نفسه عادوا إلى اجتماع دمشق برعاية خدام جنبلاط وممثل عن أمل ويبدو أن هذا الاجتماع كان لحل الخلافات التي نشبت بين الدروز والشيعة، وبشكل أخص معركة يوم الثلاثاء 11 يونيو التي استمرت عشر ساعات متواصلة .. وتم الاتفاق بين الطرفين على أن يقوم الدروز بإجلاء الفلسطينيين من بيروت الغربية – الفاكهاني والمصيطبة – إلى منظمة الانتشار العسكري الدرزي في الجبل شرقي العاصمة .. الأمر الذي يبعد خطر مشاركتهم في الدفاع عن أهلهم وذويهم في المخيمات .. وفي هذا اليوم صرح جنبلاط أن تحالفه مع أمل تحالف مصيري، وأعلن عن رفضه لعودة الفلسطينيين إلى الوضع الذي كان سائداً قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م.(30/60)
ولم يخجل جنبلاط من قوله – يصف تحالفه مع بري – وأمثاله: (إنه تحالف وطني، وليس تحالفاً مذهبياً لأن كل تحالف طائفي في لبنان مهدد بالسقوط .. إنه تحالف وطني في مواجهة الكتائب وفي مواجهة النظام اللبناني والجيش اللبناني).
نقول بكل ثقة: إن جنبلاط يكذب ويعلم أنه يكذب، بل ويعلم أن الناس لا يصدقون مثل هذه الادعاءات .. فهل كان احتلاله لبيروت الغربية عملاً وطنياً في مواجهة الكتائب والنظام اللبناني، وهل كان قراره بعدم مواجهة الاحتياج الإسرائيلي عملاً وطنياً!!
وهل من المصادفة أن يكون جميع أعضاء الحزب التقدمي الاشتراكي من الدروز إلا أعداداً قليلة من غيرهم والشاذ لا حكم له!!؟. إن تحالف جنبلاط مع بري تحالف طائفي استعماري، وهما وكلاء لإسرائيلي في لبنان، ولهذا قاموا باحتلال بيروت الغربية، كما قاموا بشن حرب عدوانية ضد سكان المخيمات.
أما النظام اللبناني فوقف مع أمل في خندق واحد، وناب عنه اللواءان السادس والثامن، والصحفيون الذين يخاطبهم جنبلاط ليسوا جهلة أو مغفلين .. إنهم يتابعون الأمور ويعرفون العلاقات التي تربط دروز جنبلاط مع العدو الإسرائيلي.
عُقِد اجتماع دمشق للمرة الثالثة يوم السبت 15 يونيو، وفشلت المشاريع المطروحة للحل، ورافق فشل الاجتماع تصعيد عسكري من قبل أمل .. والذي زاد من غيظ بري وخدام أن خمسين مقاتلاً فلسطينياً تمكنوا من التسلل يوم الاثنين 10 مايو إلى مخيم شاتيلا، كما نجحت مجموعتان أخريان في نفس اليوم من احتلال مواقع في مخيم برج البراجنة.(30/61)
وما اكتفى نظام الأسد بما فعله في مخيمات لبنان وبأنصار عرفات، وإنما راح يبطش بعملائه من جبهة الإنقاذ، ففرضت الإقامة الجبرية على المدعو [ياسر عبد ربه] الأمين العام للجبهة، وصودرت جوازات سفر قيادات الجبهة، كما صودرت سيارات المنظمات، ومنعت السلطة مجلتي: الحرية، والهدف الناطقتين باسم الجبهة الديمقراطية، والجبهة الشعبية .. وهذا المنتظر من الأسد، بل وهذه عقوبة كل خائن.
تم التوقيع على اتفاق بين منظمة أمل وجبهة الإنقاذ الفلسطيني يوم الاثنين 17 يونيو، وصار معروفاً هذا الاتفاق باتفاق دمشق.
وجاء التوقيع على الاتفاق بعد ممارسة ضغوط شديدة على ممثل جبهة الإنقاذ وحققت أمل بعض أهدافها لكنها تعلمت دروساً لا تنسى ومن ذلك:
- كانت تنتظر مساعدة الدروز، ولكن قوم جنبلاط لم يقدموا لهم مساعدة فعالة.
- استطاع الفلسطينيون رغم قلة عددهم وتعاون دول الطوائف ضدهم أن يهزموا أمل في كثير من المعارك.
- أصبحت أمل معزولة في لبنان بل أصبحت أهداف الرافضة واضحة لكل ذي بصيرة في العالم الإسلامي.
- ولو طُلِبَ منا أن نلخص سير المعارك بكلمات قليلة لقلنا.
كان السُّنة من اللبنانيين والفلسطينيين طرفاً، وكان الرافضة والموارنة واليهود والنصيريون طرفاً آخر .. وكانت المعارك طاحنة ليس فيها رحمة ولا شفقة.
وشهد المسلمون في المخيمات شمس يوم الثلاثاء 18 يونيو بعد أن اعتادت عيونهم على ظلام الملاجئ التي لا يضيئها غير وميض الرصاص ولهيب الحرائق، واعتادت أنوفهم على استنشاق روائح الجثث العفنة.
خرج المسلمون الفلسطينيون من المخابئ بعد شهر كامل من الخوف والرعب والجوع دفعهم لأكل القطط والكلاب.
خرجوا من المخابئ ليشهدوا أطلال بيوتهم التي تهدم 90% منها كما تقول بعض الإحصائيات.
خرجوا من الملاجئ بالخسائر التالية [كما ذكرت كثير من وكالات الأنباء]:
3100 بين قتيل وجريح.
15 ألف من المهجرين أي 40% من سكان المخيمات.(30/62)
فهل يكون هذا آخر درس يتعلمه الفلسطينيون من حلفائهم؟!
وهل ينتبه الفلسطينيون إلى انحرافات قيادة منظمة التحرير؟! نرجو ذلك.
أما فظائع أمل فسنتحدث عنها في المبحث الثاني من هذا الفصل.
المبحث الثاني
صور من الفظائع التي ارتكبتها قوات أمل
الفظائع التي ارتكبتها أمل بحق الفلسطينيين الآمنين في مخيماتهم يندى لها الجبين عاراً، ويعجز مثل هذا القلم عن وصفها وتحديد حجمها لأن الرافضة حرصوا على ممارسة التعتيم الإعلامي على ما اقترفته أيديهم من جرائم، وهددوا الصحفيين من الاقتراب والتقاط الصور، وهذا الذي قصده مراسل [صنداي تايمز] بقوله: (إنه من الاستحالة نقل أخبار المجازر بدقة لأن حركة أمل تمنع المصورين من دخول المخيمات وبعضهم تلقى التهديد بالموت طعناً بالسكين. وقال الصحفي أيضاً: إنه في العادة يجري نشر أخبار المجازر بشكل واسع في الصحافة الدولية، ولكن الخوف والتهديدات وصلت إلى حد أن المصادر أصبحت تفتقر إلى أخبار المجازر وقد جرى سحب العديد من المراسلين خوفاً عليهم من الاختطاف والقتل، ومن تبقى منهم في لبنان يجدون صعوبة وخطورة في العمل)(1).
ولقد منعت حركة أمل واللواء السادس مراسل الصحف حتى بعد سقوط مخيم صبرا من الدخول، وحطموا الكاميرات والأفلام التي استطاع بعض الصحفيين التقاطها لآثار الدماء فقط فما بالك الجرائم الفظيعة التي صاحبت الأحداث(2).
ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية أنه بعد سقوط مخيم صبرا انتشرت مجموعات من الشيعة – في الجيش وحركة أمل – في حالة عصبية كل عشرة وعشرين متراً لمنع الصحفيين والمصورين من التقاط أية صورة(3).
__________
(1) خبر الصنداي تايمز نشرته الصحف العربية في 3 يونيو 1985م.
ومما يجدر ذكره أن خبر الصنداي تايمز وغيره ورد مفصلاً في الصفحات القادمة من هذا المبحث.
(2) الوطن الكويتية 27 مايو 1985م.
(3) 3 يونيو 1985م.(30/63)
والعدد الحقيقي للقتلى يصعب معرفته كما قال مراسل جريدة [هيرالدتريبيون](1). رغم ذلك استطاع بعض المراسلين نشر بعض الأخبار والصور الفظيعة التي تبيّن بشاعة الجريمة التي ارتكبها شارون الشيعية [نبيه بري] عليه من الله ما يستحق.
وقصارى القول: فإن ما سوف ننشره في هذا الفصل – على بشاعته – بعض من كل، وغيض من فيض.
ومن المؤسف أن معظم هذه الأخبار علمنا بها من الصحف والمراسلين الغربيين، ومما يزيد الطين بلّة أن الصحف العربية كانت تنقل عن الصحف الغربية .. وإذا كانت هذه النكبات والمصائب لا تحرك ضمائر أصحاب الصحف في بلادنا فلا أدري ماذا يحركها!!
وسوف أراعي في الحديث عن هذه الجرائم التسلسل الزمني والإيجاز.
فظاعة:
ذكرت صحيفة [ريبو بليكا] الإيطالية أن فلسطينياً من المعاقين لم يكن يستطيع السير منذ سنوات رفع يديه مستغيثاً في شاتيلا أمام عناصر أمل طالباً الرحمة .. وكان الرد عليه قتله بالمسدسات .. وقالت الصحيفة في تعليقها على الحادث: إنها الفظاعة بعينها(2).
ذبح من الأعناق:
قال مراسل صحيفة صنداي تلغراف في بيروت أن عدداً من الفلسطينيين قتلوا في مستشفيات بيروت، وأن مجموعة من الجثث الفلسطينية ذبح أصحابها من الأعناق(3).
الصحف البريطانية تحذر:(4)
حذرت الصحف البريطانية أمس من أن مئات الفلسطينيين تعرضوا للقتل على يد عناصر أمل في المخيمات الفلسطينية في بيروت.
__________
(1) 26 يونيو 1985م.
(2) 27 مايو 1985م.
(3) 27 مايو 1985م.
(4) يجب أن لا ننسى دعم الإعلام البريطاني للعدو الصهيوني، ووقوف بريطانيا في المحافل الدولية ضد الشعب الفلسطيني ومع ذلك فبشاعة الجريمة أنطقت الصحف البريطانية.(30/64)
وكشفت صحيفة الصنداي تايمز عن وجود أدلة تشير إلى وقوع عدد كبير من القتلى المدنيين في مخيمي صبرا وشاتيلا. وأشارت صحيفة صنداي تلغراف إلى المقاومة العنيفة للمقاتلين الفلسطينيين في مخيم برج البراجنة. ونقلت محطة التلفزيون البريطانية [بي. بي. سي] الليلة قبل الماضية خبر اختفاء 1500 فلسطيني في مراكز الاستجواب التابعة لأمل، وأعربت عن اعتقادها بأن عدداً من الفلسطينيين ربما قتلوا في المستشفيات في منطقة بيروت الغربية.
وقالت: إنه عثر في أحد المستشفيات على مجموعة من الجثث الفلسطينية ذبح أصحابها من الأعناق(1).
ونقلت (رويتر) عن مسؤولين في الصليب الأحمر الدولي أنهم مُنِعُوا من الدخول إلى المخيمين وأنهم منزعجون لأنهم مُنِعُوا كذلك من العناية بالجرحى(2).
ونعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الطبية إنعام قيس، التي قامت قوات أمل بتصفيتها وهي تقوم بواجبها الإنساني في إسعاف الجرحى والمصابين في مستشفى غزة(3).
وكشف ناطق فلسطيني النقاب عن قيام قوات أمل بنسف أحد الملاجئ يوم 26 مايو التي كان يتواجد فيها مئات الشيوخ والأطفال والنساء في عملية دنيئة تعبر عن البربرية الجديدة(4).
وذكرت شاهد عيان أنها رأت أحد أفراد الميليشيا يذبح بحرية بندقيته ممرضة فلسطينية في مستشفى غزة لأنها احتجت على قتل جريح أمامها!!، وذكرت الشاهد أنها رأت أفراد الميليشيا يقتلون فتاة صغيرة وقع شقيقها الجريح بعد أن طلبوا منها حمله خارج المستشفى فقالت: إنها لا تقوى على حمله فما كان منهم إلا أن أردوها قتيله(5).
__________
(1) كونا – وكالة الأنباء الكويتية – 27 مايو 1985م.
(2) 26 مايو 1985م.
(3) الوطن الكويتية 27 مايو 1985م.
(4) الوطن 27 مايو 1985م.
(5) الشرق الأوسط 28 مايو 1985م.(30/65)
وذكرت وكالة [اسوشيتدبرس] عن اثنين من الشهود أن ميليشيات أمل جمعت العشرات من الجرحى والمدنيين خلال ثمانية أيام من القتال في المخيمات الثلاثة وقتلتهم، وقال الشاهدان أنهما رأيا أفراد أمل واللواء السادس يقتلون أكثر من 45 فلسطينياً بينهم جرحى في مستشفى غزة وحوله، ومضى أحدهما يقول: (إنه رأى المقاتلين الفلسطينيين أنفسهم يقتلون رفاقهم الجرحى حتى لا يسقطوا في أيدي الميليشيات. وذكر شاهد عيان أن مجموعة من 15 رجلاً جريحاً نقلت إلى خارج المستشفى إلى مكان قريب من مسجد الإمام علي ( وهناك قتلهم سبعة أو ثمانية من المسلحين الشيعة، ووقفوا فوق أجسادهم، وأفرغوا فيهم خزائن رشاشاتهم، وبعد ذلك كان دور المجموعة الثانية وكانت تضم 25 شخصاً، وقد تم قتلهم خلف منزل قريب من المستشفى ثم قذفت جثثهم في خندق(1).
فتوى:
أصدرت القيادات الدينية – أي الإفتاء – فتوى بتجريم نهب أموال المسلمين بعد أن تردد أن مقاتلي [أمل] اللصوص يعتبرون أن ما يستولون عليه من ممتلكات الفلسطينيين هو من غنائم الحروب(2).
تعليق:
الصحفيون الذين نشروا هذا الخبر يظنون أن المقاتلين اللصوص من منظمة أمل تصرفوا مثل هذا التصرف بسبب حقدهم وانحرافهم .. ولكن الأمر أكثر عمقاً من ذلك .. إن الإمامية الذين يتزعمون الخميني اليوم يرون بأن أهل السُّنة من النواصب، والنواصب عندهم مارقون من الدين لأنهم يناصبون آل بيت رسول الله ( العداء.
__________
(1) 28 مايو 1985م.
(2) الوطن، 30 مايو 1985م.(30/66)
وقد كذبوا فأهل السُّنة يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بحب آل البيت ويبرأون من النواصب، ومن أراد مزيداً من الأدلة فليراجع أمهات كتبهم، وقد يفتي بعضهم بخلاف ذلك وهو يعلم أنه يخالف أصول دينهم لأن باب التقية عندهم واسع متعدد الأرجاء .. ولهذا فنحن نقرأ في الصحف قول عناصر أمل للفلسطينيين: يا زنادقة !!، بل وسمعت من شيعي خبيث رآني حزيناً على ما يجري في المخيمات فقال: هؤلاء زنادقة كفار، ثم استدرك قائلاً: إنهم عصاة، فرددت عليه مما يستحق.
بيان من جبهة الإنقاذ:
صدر عن جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني بيانات كثيرة خلال حرب المخيمات كان من أشهرها البيان الذي نشرته الصحف العربية في 30 مايو 1985م وقد ناشدت جبهة الإنقاذ في هذا البيان كافة الجمعيات والمؤسسات اللبنانية والعربية والإسلامية والعالمية التدخل لوقف ما يجري حول المخيمات الفلسطينية من مجازر بحق الشعب الفلسطيني من سكان المخيمات.
وجاء في البيان: إن المنازل جرفت والمساجد خربت وخزانات المياه فجرت والكهرباء والماء قطعت والمواد الغذائية نفذت، والجرحى دون أطباء أو أدوية، والشهداء في الشوارع بسبب حصار حركة أمل واللواء السادس والثامن ومن يساندهم في البرزة.
وأكد بيان الجبهة أن ما يجري في المخيمات حالياً لم يحدث له مثيل حتى أثناء الاجتياح الإسرائيلي لا لذنب ارتكبه الشعب الفلسطيني سوى الدفاع عن نفسه وعن حقه في الوجود.
وأهاب البيان بكافة المؤسسات الإنسانية في لبنان والعالم وكذلك المؤسسات الدينية والصليب الأحمر وكل الجمعيات الخيرية التدخل بإدخال المواد الغذائية والماء والدواء وإخراج الجرحى ودفن الشهداء والعمل على وقف المجزرة الرهيبة قبل فوات الأوان.
تعليق:(30/67)
ما جاء في البيان عن هدم المنازل والمساجد وقطع المواد الغذائية والأدوية .. ليس جديداً فلقد تحدثت عنه وكالات الأنباء العالمية، ويعلمه الصديق والعدو .. لكن الجديد في البيان قولهم: إن ما يجري في المخيمات حالياً لم يحدث له مثل حتى أثناء الاجتياح الإسرائيلي، وقالوا في بيان سابق نشرته الصحف في 27 مايو وقعه ناطق فلسطيني في دمشق: (إن القتلة البرابرة في قيادة أمل واصلوا حملات الإبادة والذبح ضد الجماهير الفلسطينية في بيروت تنفيذاً للمخطط الصهيوني الذي يقضي بشطب الوجود الفلسطيني من بيروت الذي عجز عنه شارون وعملاؤه).
ونحن نوافقهم فيما قالوه عن أمل ولكن من حقنا أن نسألهم: هل كان زعيم النظام النصيري في دمشق بعيداً عن هذا المخطط؟!
وإذا كانت أمل عميلة للنظام الصهيوني وتنفذ مخططاته في لبنان فما قولهم بمن كان حليفاً لها، ومن يعود إلى التعامل معها والإشادة بها وهو يعلم أنها عميلة؟!
وما هو الفرق بين دور إسرائيل والكتائب وأمل من جهة، وبين دور ما يسمى بجبهة الإنقاذ في مخيمي البداوي ونهر البارد، وفي البقاع؟! وهل يكون دماء الأطفال والنساء في المخيمات مباحاً إذا كان القتلة من أبناء فلسطين ويحركهم المجرم الأسد؟! ولنا عودة أخرى إلى هذا الموضوع إن شاء الله.
قولوا لأمل تتركنا في حالنا يا بني:
شاهد مراسل كونوا بعض النسوة اللواتي خرجن من مخيم صبرا وشاتيلا أمام مبنى مستشفى عكا على الطريق العام لمدخل صبرا الجنوبي، وقالت إحداهن: (أسفي على الشباب) متسائلة [هذه المعارك المفتعلة لصالح من ..؟؟].
وقالت ثانية: (نحن لسنا أعداء .. عدونا(1) المشترك واحد وهو إسرائيل .. وهدفنا تحرير أرضنا في فلسطين للعودة إلى ديارنا).
__________
(1) لقد بالغت المسكينة في حسن الظن، وأنصفت لو قالت: إن الفلسطينيين عدو مشترك لكل من إسرائيل وأمل.(30/68)
وقالت سيدة في حوالي الستين من عمرها: (يا بني .. قولوا لهم نحن لسنا ضدهم وإني متزوج من فتاة أخوها في حركة أمل، ونحن نحبه (1).. لكن لا نحب أحداً أن يعتدي علينا داخل مخيماتنا وسنظل هنا ندافع)(2).
اليهود لم يفعلوا هذا:
كان أزير الرصاص ودوي انفجارات القنابل يتردد في وسط بيروت أمس، بينما كانت النسوة الفلسطينيات المنكوبات ينتحبن وهن يبحثن عن أحبابهن الذين سقطوا ضحايا لحركة أمل واللواء السادس، في صف طويل من الجثث 840 جثة متعفنة .. منتفخة تنغلها الديدان صفت في نفس مقبرة شهداء شاتيلا .. كي تلحق بجثث أولئك الذين سقطوا شهداء بأيدي تختلف في المسميات وتتفق مع أيدي أمل والسادس في الإثم والجريمة.
تصيح سيدة فلسطينية وهي تتفحص صف الجثث الطويل: (اليهود أفضل منهم) وأخرى تغطي بعضاً من وجهها وتبحث في قافلة الشهداء عن شقيقها .. تستدير فجأة وتصرخ: (إنه هو، لكن الديدان تنغل في جسده) .. وتسقط على الأرض مغشيا عليها، أما القتلة من جنود اللواء السادس وأفراد أمل فيراقبون ولا يتكلمون .. وبعضهم يشارك في الدفن، القاتل يدفن القتيل).
جثث وجثث يرتع فيها الذباب من تحت الأغطية الشفافة الملفوفة بها، 84 جثة الدفعة الأولى من ضحايا مخيم شاتيلا الذي نسفته أمل على من فيه أخرجها الصليب الأحمر الدولي أمس الأول وعرضت للتعرف عليها قبل دفنها في قبر واحد.
فتاة لم تتجاوز العشرين من عمرها تنتحب وتصيح مشيرة إلى جثة منتفخة ملفوفة في بطانية خشنة تلطخها الدماء (هذا أخي) وتشير إلى جثة أخرى (وذلك أخي الثاني) ثم تشير إلى واحد من مسلحي أمل وتقول: (هم فعلوها).
__________
(1) لكنهم لا يحبونكم، وأنت من قطعان أهل السُّنة الضائعة.
(2) وكالة الأنباء الكويتية، ونسيت نقل تاريخ الخبر.(30/69)
أصغر الضحايا .. طفل لم يمهله الموت سوى بضعة شهور من حياة الفلسطيني .. جثته الصغيرة الطاهرة تكاد لا ترى من القماش الأبيض المتسخ الذي لفت فيه .. وكم في صبرا مثله من جثث .. هكذا يقول الصليب الأحمر(1).
أبي .. قل لهم أوقفوا القصف:
شرع الباقون على قيد الحياة في مخيم شاتيلا – أحد المخيمات الفلسطينية الثلاثة في بيروت – يسردون معاناتهم بعد 24 يوماً من الحصار الشرس المضروب حول المخيم.
لماذا لا تقل لهم أن يكفوا عن القصف يا أبي، قالها طفل في الرابعة من عمره لأبيه [أحد الطيبين في مخيم شاتيلا].
يقول الأب الطيب: (كنا في مسجد المخيم وكما هي نظرة كل طفل لأبيه من حيث القدرة على تحقيق أي شيء وجه إلى ولدي ذلك السؤال فأجبته بأن هذا ليس قصفاً وإنما نوع من اللهو، فضحك الطفل).
وفي 24 يونيو أقبل بلدوزر ليجتث المتاريس التي كانت مقامة على مداخل المخيم في رقعة طولها 100 م وعرضها 50 متراً قاوم فوقها ألف من الفلسطينيين، ووقف مقاتلون فلسطينيون وأفراد من ميليشيات حركة (أمل) والبنادق
الكلاشنكوف في أكتافهم يتبادلون الحديث في جوانب المخيم التي عمها الخراب والتي لم يعد بها بيت واحد سليم.
ويروي الطبيب أن عملية إخلاء الجرحى كانت حرباً لا رحمة فيها ولا هوادة، إذ أن هيئة الصليب الأحمر الدولي لم تتمكن من نقل الفوج الأول من المصابين ويبلغ عدده 57 شخصاً إلا في 19 يونيو أي بعد يومين من توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار في دمشق بين حركة (أمل) والمنظمات الفلسطينية.
وأكد الطبيب أن المسجد الذي تحول إلى مستوصف تعرض للقصف صبيحة اليوم الذي أعلن فيه نبيه بري أن المسجد لن يقصف.
__________
(1) جريدة الأنباء عن بيروت – آب -.(30/70)
لقد أصبت مبنى المسجد من ميع الجهات وفتحت القذائف فجوات كبيرة في الجدران، واستسلمت النسوة للبكاء على القبور في الدور الأرضي حيث دفن 47 فلسطينياً بينما دفن آخرون في البيوت وظل بعض القتلى من الفلسطينيين تحت الأنقاض واختفى عدد كبير منهم وقتلوا أو سجنوا.
وعندما أصبحت عمليات القصف تجري على فترات غير ثابتة أمكن نقل المصابين من المسجد إلى قاعة المناسبات وتم تفريقهم في المنازل حيث كان يختبئ الأطفال والنسوة.
وقال أحد مقاتلي منظمة (فتح): (كان لدينا مخزون من الطعام ومن الأرز والمعلبات إلا أن الماء كان شحيحاً وكان الصنبور الوحيد الذي يعمل موجوداً في شارع معرض للقصف فأصيب من جراء ذلك عدد كبير من النسوة في محاولاتهن جلب بعض الماء).
وقال أحد الجرحى في المستشفى العام في بيروت: (كان كل كوب من الماء يتكلف كوباً من الدم).
وكان فتيان وفتيات من حركة (فتح) يرابطون في منزل ذي أبواب حديدية وقد علقوا فوق صدورهم سلاسل تحمل صورة ياسر عرفات(1) .. قال هؤلاء: إن كل ما يدافعون به عن أنفسهم من سلاح هي بنادق الكلاشنكوف والصواريخ المضادة للدبابات وزجاجات مولوتوف الحارقة(2).
ونقل عن مسلح من أمل قوله: (إنكم مخطئون إذ ظننتم أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد. وأضاف أنه على استعداد للاستمرار في القتال مهما طال الزمن حتى يتم سحق الفلسطينيين في لبنان)(3).
شعار جديد:
(لا إله إلا الله والعرب أعداء الله).
شعار جديد رددته حركة أمل خلال مسيرات لمقاتليها في شوارع بيروت الغربية في 2 يونيو 1985 احتفالاً بيوم (النصر) بعد سقوط مخيم صبرا وموت الكثيرين داخله من الجوع وانعدام العناية الصحية وانتشار الأمراض فيه(4).
الكوليرا:
__________
(1) بئس من يقاتل من أجل عرفات.
(2) بيروت – أ. ف 25 يونيو 1985م.
(3) وكالة الأنباء الفرنسية 25 يونيو 1985م.
(4) الوطن الكويتية 3 يونيو 1985م.(30/71)
نسبت صحيفة السفير اللبنانية إلى ناطق باسم جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني القول أن اثنى عشر طفلاً وثلاث نساء فلسطينيات توفوا في مخيم شاتيلا بسبب وباء الكوليرا.
كما ذكرت وكالة الأنباء الفلسطينية أن وباء غير معروف انتشر في المخيم أدى إلى وفاة خمسة عشر طفلاً، وقالت: إن عشرات الجرحى في المخيم قد توفوا بسبب عدم توفر الأدوية والعلاج.
وتمكن الصليب الأحمر اللبناني من نقل 12 جريحاً من مخيم برج البراجنة قبل حلول الظلام في 2 يونيو كما نقل 40 جثة و40 جريحاً من صبرا في 2 يونيو.
وحاول الصليب الأحمر الدولي في 2 يونيو 1985 تسريع عملية إجلاء الجرحى من المخيمات في بيروت بعد أن حصل على ضمانات أمنية للقيام بثاني عملية إغاثة في يومين.
وقالت ناطقة باسم الصليب الأحمر الدولي: أن قافلة من ست سيارات إغاثة تقف على استعداد خارج برج البراجنة وأن الصليب الأحمر يأمل القيام (بعملية كبيرة).
وقد نقل الصليب الأحمر 64 جريحاً من هذا المخيم نصفهم كان في 1 يونيو، لكن أكثر من 100 جريح آخر لا يزالون في المخيم المحاصر منذ 14 يوماً.
وقالت ناطقة بلسان الصليب الأحمر أن 32 شخصاً بينهم طفلان نقلوا من مخيم برج البراجنة إلى مستشفيات في منطقة تقع إلى الجنوب من بيروت ويسيطر عليها الحزب التقدمي الاشتراكي، ذلك أن مستشفيات بيروت لا تعبر آمنة بالنسبة إلى الفلسطينيين.
وفي غضون ذلك أعلنت مصادر الصليب الاحمر في بيروت في 2 يونيو أنها تعمل جاهدة لنقل ستين جثة فلسطينية وجدت موضوعة في براد إحدى سيارات نقل اللحوم بالقرب من مستشفى الجامعة الأميركية إلى باحة مستشفى المقاصد الإسلامية ليتعرف عليها ذووها.(30/72)
وقالت المصادر أن الصليب الأحمر لم يسمح له بنقل 35 جثة فلسطينية في مستشفى غزة رغم النداءات المتكررة التي وجهتها منظمة الصليب الأحمر الدولي إلى المعنيين. وأضافت المصادر أن المنظمة في انتظار السماح لها بمواصلة إخلاء الجرحى من المدنيين في مخيم برج البراجنة.
اغتصاب:
تقارير الوكالات ذكرت في هذه الأثناء أن قوات أمل اقترفت أمس جريمة بشعة حيث قامت باغتصاب 25 فتاة فلسطينية من أهالي مخيم صبرا وعلى مرأى من أهالي المخيم(1).
تقرير للصحفي البريطاني ديفيد بلاندي نشرته الصنداي تايمز:
(قال (ديفيد بلاندي): إن الخسائر البشرية جسيمة، وإن حركة أمل رغم تفوقها في العدد والعدة ورغم انضمام اللواء السادس في الجيش اللبناني .. فشلت في تحقيق انتصار حاسم، وهناك تقارير تفيد بأنها تكبدت خسائر جسيمة في الأرواح تقدر بحوالي 400 قتيل وما يزيد عن الألف جريح، وأما بالنسبة لعدد الإصابات الفلسطينية فليس هناك أرقام دقيقة).
وقال شهود عيان في الأسبوع الماضي أن مخيمين من المخيمات الفلسطينية الثلاثة وهما صبرا وشاتيلا كانا عبارة عن أراضي قاحلة، إذ جرى تدمير المنازل بواسطة القصف المدفعي أو البلدوزرات وكذلك المواد المتفجرة. وهناك اعتقاد بأن المقاتلين الفلسطينيين يستخدمون شبكة واحدة من الأنفاق لإخفاء المقاتلين والرجال.
ولقد كان مخيما صبرا وشاتيلا اللذان شهدا مقتل 800 فلسطيني على أيدي الكتائبيين عام 1982م، مسرحاً لمجازر جديدة جرى خلالها قتل الجرحى في المستشفيات وكذلك الأسرى والمدنيين.
وقد نقلت (صنداي تايمز) وكذلك هذا الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي) في الأسبوع الماضي أخبار المذابح في المخيمات، إذ قام القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية بإذاعة تقرير حول المجازر التي ارتكبها رجال أمل، وعلى هذا الأساس قامت بسحب مراسليها الثلاثة خوفاً على حياتهم.
__________
(1) الوطن 3 يونيو 1985م. ووكالة الأنباء الكويتية ذكرت بعض هذه الأخبار في 4 يونيو.(30/73)
وفي أعقاب هذا التقرير وجهت المنظمة التي تطلق على نفسها اسم (الجهاد الإسلامي)(1) والتي أعلنت مسئوليتها في أكثر من مناسبة عن اختطاف أجانب في بيروت تهديداً للصحافة الأجنبية على تقاريرها (الزائفة). وقد احتج نبيه بري زعيم حركة أمل، لدى السفير البريطاني في بيروت على التحيز في نقل الأخبار في الصحف البريطانية.
ويقول (ديفيد بلاندي): إن (صنداي تايمز) تستطيع أن تؤكد حقيقة تقرير الأسبوع الماضي، وحقيقة أخرى هي أن العديد من عمليات القتل لم يشملها التقرير لأن شهود العيان كانوا خائفين على حياتهم، ووفق التقديرات المتوفرة لدى (صنداي تايمز) فإن عدد المدنيين من الفلسطينيين الذين قتلوا يتراوح ما بين 100 إلى 200 شخص.
إن أخبار القتال داخل المخيمات من الصعب، بل من الاستحالة نقلها بدقة لأن حركة أمل تمنع رجال الصحافة من دخول المخيمات. وقد تلقى أحد المراسلين الصحفيين الذي دخل المخيمات تهديداً بالقتل من أحد رجال ميليشيات أمل الذي قال له: (إذا ما حضرت إلى هنا فإنك ستطعن بالسكين حتى الموت).
وقد نشرت تلميحات حول المجازر في الصحافة اللبنانية، على الرغم من أن معظم المراسلين الصحفيين والآلاف من الناس علموا بأخبار هذه المجازر.
وقال مراسل محلي: (لو قمنا بنشرها فإننا سنتلقى القنابل عبر نوافذنا).
بشكل عام فإن الناس في بيروت يبدون عدم اكتراث، فالمجازر ارتكبها مقاتلوا المجموعات المتصارعة في معظم الأزمات التي شهدتها لبنان خلال السنوات العشر الأخيرة من الحرب الأهلية. إذ أصبحت المجازر سمة الحرب في لبنان.
وقال زعيم مسيحي متسائلاً: (ما هو الجديد في ذلك؟).
وأضاف قائلاً: (بالطبع حصلت مجازر فهناك الكثير من الدماء وحركة أمل).
__________
(1) ويزعمون بعد ذلك أن الأحزاب الشيعية الأخرى من لبنان ضد منظمة أمل!!(30/74)
ومضى (ديفيد) يقول في تقريره: إنه في العادة يجري نشر أخبار المجازر بشكل واسع في الصحافة الدولية ولكن الخوف والتهديدات وصلت الآن إلى حد أن المصادر أصبحت تفتقر إلى أخبار المجازر فقد جرى سحب العديد من المراسلين خوفاً عليهم من الاختطاف والقتل. ومن تبقى منهم في لبنان يجدون صعوبة وخطورة في العمل.
لقد كان بالإمكان نقل أخبار المجازر وعمليات القتل التي كان يرتكبها الإسرائيليون والسبب هو أن زعماء أمل كانوا يرحبون بالمراسلين ويشجعونهم على مشاهدة ونقل أخبار الأعمال الإسرائيلية. والآن وبعد أن أصبحت حركة أمل نفسها التي تفرض الرقابة الشديدة نتيجة أعمالها في المخيمات، فهي تحاول الحد من نشر أخبار المجازر.
ووصل الحد لدى المراسلين الصحفيين الذين يتزاحمون ويتنافسون على الحصول على الأخبار، إلى الدخول في تحالف غريب ومشاطرة مصادر المعلومات.
واتفقوا على نشر التقارير والقصص الصحفية في آن واحد حتى لا تجد صحيفة أو وكالة أنباء نفسها معزولة أو هدفاً للتهديدات والهجمات.
ولكن هذا التحالف انشق في الأسبوع الماضي حيث وجدت هيئة الإذاعة البريطانية (صنداي تايمز) أن لديهما سبقاً صحفياً. فقامت إحدى وكالات الأنباء بنقل قصص الأخبار وعزت هذه القصص ليس لمصادرها الخاصة بل إلى مصادر (صنداي تايمز) و(هيئة الإذاعة البريطانية).
وقامت وكالة أنباء أخرى بنقل هذه القصص إلى العرب وحجتها عن البيت في الشرق الأوسط خوفاً على موظفيها في بيروت. أما بقية الصحف والوكالات فإما أنها تجاهلت هذه القصص كلياً أو أنها قللت من شأنها.
وقال مراسل صحفي في بيروت: (يجب أن تكون واقعياً في بيروت أو ربما في دول أخرى في الشرق الأوسط فعلى سبيل المثال لو ارتكب الرئيس ريجان خطأ في أحد خطاباته فإننا نقوم بنقله أما لو ارتكب زعيم عربي الخطأ ذاته فإني سأمتنع عن نقله، إذ أنني لو قمت بذلك لحرمت من دخول عاصمة ذلك الزعيم).(30/75)
أن تكون واقعياً في بيروت يعني أن تواجه حقائق المجازر التي انكشفت بسالة. ومن بين القصص التي تروى وهي مؤكدة، قصة الشاب الفلسطيني المجروح وشقيقته التي تبلغ من العمر 13 سنة، وكان الشاب وشقيقته موجودين في الدور الأرضي من مستشفى مخيم صبرا عندما دخل عليهما جندي من اللواء السادس اللبناني وطلب من الفتاة الفلسطينية أن تخرج وشقيقها، وعندما رفضت قتلت هي وشقيقها.
وهناك أيضاً قصة الفلسطينيين الستة الذين أجبروا على الخروج من أحد أجنحة المستشفى وطلب منهم خلع ثيابهم وبدأ جنود اللواء السادس ورجال الميليشيات بالبحث عن آثار الحروق وعلامات على أكتافهم تثبت أنهم من المقاتلين، وبعدها نقل الرجال الستة إلى حفرة خارج المستشفى حيث قتلوا(1).
وهناك أيضاً حادثة الصبي المصاب بشظية الذي قتل لاعتقاد رجال الميليشيات أنه أصيب أثناء القتال.
وقال شاهد عيان أن الجنود، ورجال الميليشيات قاموا بعد ارتكاب هذه الأعمال بإلقاء القنابل والمتفجرات في (بدروم)(2) المستشفى. وقام الجنود باقتحام الملجأ الذي يختبئ به العاملون في المستشفيات حيث سمعت أصوات الرصاص والتفجيرات ليسود بعدها الصمت.
وهذه قصص بعض ما ارتكب من عمليات قتل. اهـ(3).
تقرير نشره (جون كيفنر) في صحيفة نيويورك تايمز:
يوم الأحد الموافق 23 يونيو 1985م كان مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين هادئاً بعد أن صمدت خطة السلام التي توسطت فيها سوريا في أعقاب شهر من القتال الذي حاولت خلاله ميليشيات حركة أمل سحق أي وجود مسلح للفلسطينيين في بيروت. لقد صمد برج البراجنة بعناد أكثر حتى من مخيمي صبرا وشاتيلا المجاورين على الحافة الجنوبية للمدينة.
__________
(1) معظم هذه الأخبار سبق ذكرها، لكن تقرير ديفيد يمتاز بالواقعية والشمولية.
(2) أي القبو أو ملجأ المستشفى.
(3) الصحف العربية نشرت تقرير ديفيد بلاندي بتاريخ 3 يونيو 1985م.(30/76)
وبينما دخلت حفنة من الصحفيين الأجانب المخيم لأول مرة منذ اندفع القتال في 19 مايو 1985م كانت مدينة الأكواخ خليط من المنازل المحطمة وقطع من الحكام مع السيارات والجدران التي فتح الرصاص فيها ثقوباً.
وبدأ المخيم تقريباً محطماً بصورة سيئة كما كان حوالي نهاية شهر أغسطس 1982م، بعد أسابيع من القصف خلال الغزو الإسرائيلي. مات المئات من الناس.
وهذه المرة على أيدي أخوة عرب، ولن يعرف أبداً الرقم بدقة، وكانت هناك قصص مثل قصة عائلة (لزيز) في المخيمات كلها.
وألقى خيط دقيق من الشمس من ثقب قذيفة ما يكفي من الضوء لإظهار البقعة الداكنة حيث كان دم لزيز (16 عاماً) قد انتشر على جدار ما كان بيتاً لها. ومن مكان ما من المنزل المبني من الطوب المشوي أخرجت صورة ملونة تظهر فتاة جميلة حواجبها سوداء في ثوب أبيض وهي تحمل أختاً أصغر منها في حضنها.
كانت مها لزيز تخبز الخبز المسطح المستدير الذي يعتبر من ضروريات الحياة مع أخواتها عندما ضربة صلية المورتر المنزل. وبعد خمسة أيام قالت هيام – والدتها – إن إحدى يدي ابنتها وجدت فوق كومة من البسط على الجدار وضعت للحماية.
صرخت الأم فجأة (كانت هذه هي الأقسى، حتى الإسرائيليين لم يفعلوا ذلك بنا، حتى الكتائب).
كانت هناك مرارة، في المخيمات، ليس فقط تجاه ميليشيات أمل بل وربما أكثر تجاه سوريا التي تعتبر على نطاق واسع قد خططت لحصار المخيم وساندته من أجل تحطيم نفوذ ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ولكي تعزز بالوكالة، سيطرتها على لبنان(1).
قال شاب يتكلم الإنجليزية ساعد كدليل للصحفيين خلال الدمار: (السبب الحقيقي لكل هذا هو أن سوريا لا تريد أن يكون للفلسطينيين أي استقلال).
__________
(1) المخطط يهدف إلى سحق مقاومة أهل السُّنة، وتشتيت شملهم، وليس المقصود ياسر عرفات، أو إبراهيم قليلات.(30/77)
وتطال المرارة الفصائل الفلسطينية المعارضة لعرفات التي توجد مقراتها الآن في دمشق والتي زال الوهم عنها بصورة متزايدة بالقبضة الصارمة للنظام السوري.
وفي المقابلات التي جرت مؤخراً في دمشق تحدثت مصادر فلسطينية عن شعورها بالإحباط والغضب، واشتكت من قيام السوريين بإغلاق جميع صحفهم وغيرها من المطبوعات ومصادرة سياراتهم، وسحب جوازات سفرهم، ومنع تصاريح السفر عن عدد من الفلسطينيين البارزين.
حتى سعيد موسى (العقيد أبو موسى) زعيم منظمة فتح المعارضة لعرفات أعيد من المطار هذا الشهر عندما حاول الذهاب إلى ليبيا كما قالت مصادر فلسطينية وقال مسؤول فلسطيني معارض لعرفات يلتزم بالخط الرسمي في العلن في جلسة خاصة: (مضيفونا ماذا أستطيع أن أقول. هذا زمن رديء جداً بالنسبة للفلسطينيين لن يسمحوا لنا بعمل أي شيء).
وعلى صعيد مباشر أكثر قامت الفصائل التي تساندها سوريا في التلال التي يديرها الدروز والمطلة على بيروت، بما في ذلك قوات أبي موسى وقوات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة – بقيادة أحمد جبريل وهو ضابط سابق في الجيش السوري يسير عادة في خط دمشق، قامت هذه القوات بقصف قوات أمل بالمدفعية والصواريخ، ومن الواضح أن هذا القصف وفر الهامش الذي مكن المقاتلين الفلسطينيين المسلحين بأسلحة خفيفة في المخيمات من الصمود.
قال مصدر فلسطيني في دمشق: (الخطأ الرئيسي كان الحط من قيمة المقاومة .. لقد ظنوا أنهم سيطهرون المقاومة خلال 24 ساعة أو نحو ذلك، وفي المقام الأول لم يدركوا المدى الذي ستلتقي فيه الفصائل معاً عندما تكون مهددة بصفتها فلسطينية).(30/78)
وبينما استمر القتال لمدة شهر أصبح محرجاً بصورة متزايدة لسوريا. فهو لم يوتر علاقات سوريا مع وكلائها الفلسطينيين فحسب لكنه وترّها أيضاً مع حلفائها الرئيسيين في المنطقة، إيران وليبيا(1)، اللتين انتقدتا علناً الهجوم على المخيمات، وتركتا سوريا معزولة في العالم العربي.
وتقول مصادر فلسطينية ولبنانية أن ضرورة إنقاذ ماء الوجه كانت إلى حد كبير السبب وراء اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه قبل ستة أيام في دمشق ووضعه نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام الذي تصارع مع الشؤون اللبنانية طيلة عقد من الزمن تقريباً.
وتكمن خلق اللغة المعقدة للبيان المكون من 13 بنداً، في النتيجة، هزيمة لقوات أمل الشيعية بقيادة نبيه بري(2).
أراد الشيعة تجريد الفلسطينيين من السلاح للحيلولة دون ظهور أي دولة فلسطينية ضمن دولة في بيروت الغربية مرة أخرى كما كان الحال قبل غزو 1982م والأسباب من شقين: فالشيعة الآن أولاً في حالة نهوض سياسي ويرغبون في السيطرة على بيروت الغربية، وهم ثانياً يخشون من أن عودة ظهور الفدائيين الفلسطينيين سوف يؤدي إلى انتقام سريع من إسرائيل وأنهم سوف يتحملون معظم المعاناة كما حدث قبل عام 1982م.
إن البند الرئيسي المنقذ لماء الوجه في الاتفاق يدعو المقاتلين في المخيمات إلى تسليم أسلحتهم الثقيلة. غير أنه لا توجد أي أسلحة ثقيلة – قطع المدفعية، أو المورتر، أو منصات إطلاق الصواريخ أو الدبابات – في المخيمات.
__________
(1) كثر الكلام في الآونة الأخيرة عن الخلاف السوري الإيراني، وليس للفلسطينيين والمخيمات أي علاقة بهذا الخلاف إن كان هناك خلاف حقاً، وسوف نتحدث عن هذه المسألة في فصل قادم إن شاء الله.
(2) البيان الآنف الذكر بعد هزيمة الفلسطينيين، ويبدو أن الكاتب تأثر بوجهة نظر الجبهة الفلسطينية العميلة لدمشق.(30/79)
وهكذا، وبصورة غير مباشرة، سوف يتمكن الفلسطينيون في المخيمات من الاحتفاظ ببنادقهم الهجومية وغيرها من الأسلحة الشخصية الخفيفة. وهذا يترك الوضع كما كان عليه قبل أن يبدأ الحصار.
إضافة إلى ذلك أعطى الاتفاق في النتيجة اعترافاً رسمياً بائتلاف الفصائل التي تدعمها سوريا المعروفة باسم جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني بينما لم تكن (أمل) تريد أي دور سياسي للفلسطينيين في لبنان. 25 يونيو 1985م نيويورك تايمز الأمريكية.
تعليق:
لم يبق للفلسطينيين أي دور في بنان، وجبهة ما يسمى بالإنقاذ في وضع لا يحسدون عليه، وسوف نشير إلى البيان وما تلاه من أحداث في الصفحات القادمة من هذا البحث.
وحسبنا من مقال (جون كيفنر) ما ذكره عن حال المخيمات بعد انتهاء القتال.
وقصارى القول: فهذه الفظائع التي ارتكبها الشيعة في المخيمات تذكرنا بتاريخهم الأسود الملطخ بالدماء، وتعيد لنا ذكريات التتار والصليبيين واليهود في القديم والحديث، ومن كان يجهل تاريخ الرافضة وأحقادهم الدفينة فعليه أن يعود إلى أمهات كتب التاريخ.
---
الفصل الرابع
المبحث الأول
مرحلة ما بعد حرب المخيمات
صرح العقيد أبو موسى زعيم المنشقين عن حركة فتح بأنه وفقاً لاتفاق دمشق – الذي أنهى حرب مخيمات بيروت – تعترف جميع الأطراف اللبنانية (بحق الثورة الفلسطينية في التواجد في لبنان والعمل ضد العدو الصهيوني انطلاقاً من جنوبي لبنان).
وأوضح أبو موسى في حديث أدلى به في طرابلس لمجموعة من الصحفيين الفرنسيين: أن البند الثاني الهام من الاتفاق يؤكد حق فلسطيني مخيمات اللاجئين في حيازة أسلحة شخصية خفيفة وقد حددها هذا البند كالآتي: (أي سلاح يمكن أن يستخدمه رجل أو رجلان على الأكثر أي قاذف آر. بي. جي. رشاش.(30/80)
وراح العقيد يفلسف هزيمته فقال عن موافقتهم على سحب الأسلحة الثقيلة منهم: (إن التسليح الثقيل الذي يستلزم استخدامه ثلاثة أشخاص على الأقل لا يجب تواجده في المخيمات وهو ليس موجوداً فيها على أية حال.
وطبقاً للمنطلق العسكري فإن الأسلحة الثقيلة لا يمكن استخدامها انطلاقاً من مناطق بعيدة عن الجبهة مثل بيروت ومن ثم ليس من الضروري أن نضعها في المخيمات).
ومن قوله: (وطبقاً للمنطق العسكري فإن الأسلحة الثقيلة لا يمكن استخدامها انطلاقاً من مناطق بعيدة عن الجبهة مثل بيروت) نفهم أن هذه الأسلحة سوف يستخدمها العقيد في الجنوب .. وهذا الذي دفع الصحفيين إلى طرح السؤال التالي عليه: (هل ستترك أمل الفلسطينيين يعملون انطلاقاً من جنوبي لبنان؟!).
فأكد العقيد تصميم منظمته على عدم استخدام المدفعية ذات المدى البعيد انطلاقاً من جنوبي لبنان ضد شمالي إسرائيل مثلما كان الحال قبل الغزو الإسرائيلي.
وقال أبو موسى: المسألة لا تتمثل في معرفة ما إذا كانت حركة أمل تريد أو لا تريد. فهذا الأسلوب لم يسفر في الماضي عن نتائج ونحن نرغب في إعادة النظر في هذا الأسلوب، ويجب أن ترتكز الثورة الفلسطينية على القيام بعمل عسكري في الأراضي المحتلة (حرب عصابات حقيقية) وليس مجرد قصف أو قصف مضاد)(1).
وتصريح أبو موسى يذكرني بما كان يتندر بذكره في تصريحاته الكثيرة عن أكاذيب ياسر عرفات، وكنت أصدقه [وهو الكاذب] لأن أكاذيب عرفات لا يشك بها كل من يعرفه عن كثب أو كل من يتابع تصريحاته، ولكن العقيد أصبح أكذب من قائده، ومن الأدلة على ذلك ما يلي:-
__________
(1) طرابلس – أ. ف. ب – [عن صحيفة الأنباء الكويتية بتاريخ 7 سبتمبر 1985م].(30/81)
- كان أبو موسى يندد بعرفات لأنه أصبح بعيداً عن ساحة المعركة، أما هو ومن معه فيرابطون في لبنان، ومنها سينطلقون إلى فلسطين، ولا يفوته الإشادة بالنظام النصيري والقوات الوطنية التقدمية في لبنان [أي الشيعة والدروز] .. وكان هذا دينه في كل تصريح.
- كان لأسلحتهم الثقيلة دور مهم في الدفاع عن المخيمات، وقد أصابوا أهدافاً مهمة وأربكوا القوات الغازية .. ولولا أن سخر الله مدافعهم لسحقت القوات الشيعية المخيمات خلال بضعة أيام، فأين هذا من قوله ليس من الضروري وجود أسلحة ثقيلة في المخيمات علماً بأن المخاطر لا تزال تهدد الفلسطينيين في المخيمات وغيرها؟!
- إذا كان شعار المرحلة القادمة عند العقيد أن تكون المقاومة داخل الأرض المحتلة فلماذا يبقى مع قواته في لبنان؟!
وكيف يكون عرفات خائناً لأنه يطرح هذا الشعار ولا يكون هو ومن معه كذلك؟!
لا نعتقد أنه مقتنع بهذا أو أنه غبي إلى هذا الحد .. إنه يعلم أهداف سوريا وماذا تريد من لبنان، وما هو الدور الذي أعدته له ولغيره من العملاء.
الاتفاق على شيء والممارسات شيء آخر:
ليس للعقيد وحده الذي يزعم بأن اتفاق دمشق حقق لهم انتصارات كثيرة، وإنما يردد هذه المقولة معظم قادة ما يسمى (بجبهة الإنقاذ).
ونحن لا نناقشهم في بنود الاتفاقية – رغم أنها لا تشرفهم وليس فيها ما يزعمون – لأنها لا تساوي عند النصيريين والشيعة ثمن الحبر الذي كتبت به، ولن نسألهم عما جرى وراء (الكواليس) لأننا نعلم بأنهم لا يَصْدُقُونْ.
سوف نستعرض مجريات الأمور التي تمت بعد الاتفاقية، وما كان هناك من أحد يجهل نوايا النصيريين والشيعة والدروز والنصارى واليهود في لبنان:-(30/82)
أولاً: تم سحب السلاح الثقيل والمتوسط من المخيمات، كما تم ضبط السلاح الخفيف، ودخلت عناصر من قوى الأمن الداخلي إلى داخل المخيمات وأصبحت الجهة المسؤولة عن أمن المخيمات، مع أن الغالبية العظمى من هذه العناصر من الشيعة والنصارى، وجملة القول فإن أطراف جبهة الإنقاذ نفذوا جميع الالتزامات التي يلزمهم بها الاتفاق.
ثانياً: أما الشيعة فلم ينفذوا الالتزامات التي يلزمهم بها الاتفاق .. وهذه أقوال وتصريحات أطراف جبهة الإنقاذ:-
- صرح عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - أبو الطيب - في 5 يوليو 1985م بما يلي: (جبهة الإنقاذ قد نفذت كل الالتزامات المطلوبة منها في شأن حرب المخيمات لكن حركة أمل واللواء السادس لم ينفذوا ما هو مطلوب منهما، فلم يفك الحصار عن المخيمات وما زالت حركة أمل تحتفظ بعدد كبير من المعتقلين الذين يجب أن يطلقوا فوراً).
- أكدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – نايف حواتمة – في بيان وزعته على الصحف في بيروت بتاريخ 28 يونيو 1985م أن حركة أمل لا تزال تحتجز مئات من الفلسطينيين من بينهم عشرات من المسئولين والكوادر.
ودعت الجبهة الديمقراطية في بيانها لجنة التنسيق المشتركة إلى تكثيف جهودها من أجل الإفراج عن جميع المعتقلين بلا استثناء والمعروف أنها اللجنة المكلفة بالإشراف على تنفيذ الاتفاق المبرم في 17 يونيو 1985م الحالي بين حركة أمل وجبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني.
وذكر بيان الجبهة الديمقراطية بأن إطلاق سراح المعتقلين يمثل بنداً من بنود اتفاق دمشق الذي تضمن 13 نقطة.
ثالثاً: نقلت وكالة الصحافة الفرنسية في 1 أغسطس 1985م أن وحدات من الجيش اللبناني بدأت تتسلم عدداً من الدبابات أرسلتها سوريا إلى حركة (أمل)، وكانت حركة أمل قد تسلمت في 31 يوليو 1985م في بيروت خمسين دبابة (تي 54) سوفيتية الصنع لتدعيم القوة العسكرية للحركة وبعض ألوية الجيش اللبناني.(30/83)
وذكر المصدر نفسه أن [22 دبابة] سلمت إلى اللواء السادس بينما سلمت عشر دبابات أخرى إلى الكتيبة 87 في الجيش التي انتشرت على الطريق الساحلي بين بيروت وصيدا.
وعلم من مصدر موثوق به أن خمسين دبابة جديدة ستسلمها سوريا في غضون الأسابيع القادمة إلى حركة (أمل). وسيتسلم الحزب التقدمي الاشتراكي عشرين دبابة من طراز [تي 54 و تي 55].
وعلم من مصدر موثوق به لدى الحزب التقدمي الاشتراكي أن الحزب لديه في الوقت الراهن نحو تسعين دبابة سوفيتية الصنع و110 سيارة مدرعة وعربات مجنزرة.
وبالإضافة إلى تسليم الدبابات فإن الاتفاق الذي أبرم في دمشق بين سوريا ونبيه بري رئيس حركة أمل ينص على تدريب بعض الميليشيات والكوادر العسكرية لميليشيا (أمل) وعُلِمَ من مصدر موثوق في بيروت أن ألفاً من أفراد ميليشيا أمل ذهبوا إلى سوريا بعد حرب المخيمات الفلسطينية في بيروت لمتابعة التدريب العسكري بموجب هذا الاتفاق(1).
إن سوريا التي تزعم بأنها ستنشر الأمن في ربوع لبنان، وسوف تقلم أظافر ملوك الطوائف هي التي ترمي بثقلها إلى جانب أمل الشيعة، ودروز جنبلاط، وكتائب حبيقة، وتقدم لهم كميات من الأسلحة لا تحلم بها بعض الجيوش العربية.
وكل منصف يعلم أن هذه الأسلحة لن تستخدم إلا ضد أهل السنة لأنهم وحدهم الجهة الوحيدة التي ستستمر في مقاومتها للاحتلال الصهيوني مهما طال الزمن.
ومن جهة أخرى فمما لا شك فيه أن فاتورة هذه الأسلحة مدفوعة سلفاً من قبل الدول العربية الغنية التي تصر على تقديم كل عون ومساعدات للطاغية الأسد رغم كل ما يقترفه من جرائم ومذابح فردية كانت أو جماعية.
ومن جهة ثالثة فهذه الأسلحة تقدم للشيعة وحلفائهم في الوقت نفسه الذي تم فيه سحب أسلحة الفلسطينيين المعتدى عليهم من قبل أمل واللواء السادس.
رابعاً: أمل قصفت المخيمات بالدبابات السورية:
__________
(1) صحيفة الشرق الأوسط في 2 أغسطس 1985م.(30/84)
نشرت وكالات الأنباء في 7 سبتمبر 1985م التقرير التالي: (ارتكبت حركة أمل مجزرة بشعة بحق 19 شخصاً من المدنيين الفلسطينيين قتلوا بطريقة وحشية في الضاحية الجنوبية من بيروت بالقرب من مخيم برج البراجنة المحاصر منذ يوم الثلاثاء الماضي. فيما دخلت الاشتباكات بين المدافعين عن المخيم وأمل يومها الرابع.
وذكر أن ميليشيا أمل استخدمت في القصف مدفعية الدبابات السوفيتية [تي 54] التي تسلمتها من سوريا منذ فترة(1).
وبينما قالت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في بيان أصدرته أمس أن أمل قتلت 19 شخصاً في (حارة حريك) على بعد كيلو مترين من المخيم.
ونشرت الجبهة أسماء 12 من هؤلاء الضحايا، بينما ادعت (أمل) بأن أحد عناصرها لقي شقيقه مصرعه في المعارك التي دارت في 5 سبتمبر 1985م فاقتحم المجمع السكني (روستون) وقتل أربعة رجال وامرأة.
وصرح عضو في الحزب القومي الاجتماعي السوري والذي يوجد مكتبه في نفس المجمع السكني بأنه أحصى 15 جثة بعد وقوع هذه المذبحة. مما دفع غسان سبلاني عضو المكتب السياسي لأمل للاعتراف بالمذبحة لكنه قال: إنه لا يعرف التفاصيل.
وذكر المسؤول في الحزب القومي أن ما يتراوح بين أربعين وخمسين من رجال الميليشيا الذين يتصرفون فيما يبدو دون أوامر قد دخلوا هذا المجمع السكني وأطلقوا النار في الهواء واستجوبوا السكان وأعدموا من اعترف بأنه فلسطيني.
وقبل ذلك بعشرة دقائق شاهد مراسل وكالة فرانس بريس شابين معصوبي العينين وقد انهال عليهما رجال ميليشيا أمل باللكمات وضربات العصي.
وكانت الجبهة الديمقراطية قد اتهمت ميليشيا (أمل) بقتل أربعة وأربعين مدنياً فلسطينياً ليلة أمس الأول على مشارف برج البراجنة.
__________
(1) تشترط الدول التي تبيع السلاح على الدولة التي تشتريه أن لا يستخدم ضد الجهة الفلانية مثلاً لو كان الاتحاد السوفيتي صديقاً للمنظمة بشقيها لكان له موقف ضد النظام السوري.(30/85)
في غضون ذلك قصفت أمل مخيم (برج البراجنة) بمدافع الدبابات السوفيتية في رابع يوم من القتال).
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل كان أطراف جبهة الإنقاذ يجهلون ما تدبره حركة أمل ضدهم؟!
يجيبنا على هذا السؤال جورج حبش في مؤتمر صحفي عقده في الكويت في 10 يونيو 1985م: (إن جبهة الإنقاذ أرسلت وفداً إلى لبنان قبل حوادث المخيمات، وكان يحمل مشروعاً مكتوباً قدمه لحركة أمل والجبهة الوطنية الديمقراطية اللبنانية، رسم من خلاله تصوراً للحقوق المدنية الفلسطينية في لبنان، كان المطلوب دراسة المشروع، لتجنب أي خطأ في العلاقة بين الطرفين .. وفي يوم الجمعة الذي سبق الحصار التقينا مع برّي، وأعربنا عن الرغبة في الحوار حول المشروع، جاءنا الرد بعد أيام؛ عن طريق تطويق المخيمات. لقد نادت أمل، بأنه لا قتال في جنوب لبنان، إلا ضمن استراتيجية عربية شاملة للتحرير) ا.هـ.
ونقلنا فيما مضى تصريحات أخرى تؤكد معرفة أطراف جبهة الإنقاذ لأبعاد المؤامرة التي يديرها بري ونظام دمشق بالتعاون مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية .. فكيف عادوا بعد هذا كله إلى التعاون مع الأسد وزبانيته، وكيف زعموا أن اتفاق دمشق حقق لهم كثيراً من الانتصارات؟!
المبحث الثاني
مجزرة طرابلس
الذين يراقبون الأحداث في لبنان كانوا يعلمون أن النظام النصيري المحرم وعملاءه سيرتكبون مجزرة في طرابلس الشام وسيحاولون هدم المدينة إن استطاعوا .. ولذلك أسباب كثيرة من أهمها ما يلي:-
1- دخل هذا النظام لبنان عام 1976م لإذلال أهل السُّنة، وكان معاركه ضدهم ابتداءً من مخيم تل الزعتر، ومروراً بمخيمات صيدا وانتهاءً بمحاولة تدمير مخيمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا في منتصف الشهر الخامس من عام 1985م.(30/86)
وكانت معاركه مع غير أهل السُّنة ليست أكثر من مناوشات يحسب لها النظام النصيري ألف حساب لأنه يعلم بأن إسرائيل مسؤولة عن حماية الموارنة والدروز، وإيران مسؤولة عن حماية الشيعة، ودخول جيش هذا النظام إلى لبنان جاء حسب اتفاقيات ومعاهدات لا يستطيع أن يتجاهلها بحال من الأحوال.
2- صدر عن قادة الجماعات الإسلامية في طرابلس تنديدات بمنظمة أمل ومن وراءها، وأعلنوا عن استعدادهم للقتال ذوداً عن المخيمات الفلسطينية.
ونظام دمشق الجبان يخشى من مثل هذا الموقف وترتعد فرائصه من صحوة أهل السُّنة في بلاد الشام، ومن قيام تنظيم يوحد شتاتهم ويضعهم أمام مسؤولياتهم التاريخية.
3- يرى الحاكم بأمره في دمشق أن طرابلس جزء لا يتجزءأ من سوريا تاريخياً، ومن ثم فالبقاع، وطرابلس وسائر مناطق الشمال تعد من الكانتون السوري المتفق عليه في تقسيم لبنان، وقد كانت إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية طرفاً في هذا الاتفاق مقابل سكوت نظام دمشق عن المطالبة بالجولان.
4- يخشى نظام دمشق من استمرار سيطرة قوات التوحيد الإسلامي على مرفأ طرابلس، وما يترتب على هذه السيطرة من مخاطر، كما يخشى من الأسلحة التي يمتلكها المسلمون السُّنة في طرابلس.
5- سيكون موقف النظام النصيري ضعيفاً في مؤتمر القمة العربي القادم كما أن موقفه سيكون ضعيفاً في الصفقات التي يعقدها مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية إذا كانت مدينة طرابلس ليست خاضعة تماماً لسيطرة نظام (الأسد).
لهذه الأسباب مجتمعة كان لا بد من معركة فاصلة لهذا النظام مع المسلمين السُّنة في طرابلس.(30/87)
ولهذه الأسباب حرك النظام عملاءه في حي (بعل محسن) النصيري، كما حرك الأحزاب العميلة: كالحزب السوري القومي المعروف بارتباطاته المشبوهة مع المخابرات الإسرائيلية والمخابرات البريطانية في السابق، والحزب الشيوعي اللبناني – النصارى الأرثوذكس -، ومنظمة حزب البعث [زعماؤها شيعة أمثال عاصم قنصوه وعبد الأمير عباس]، والحزب العربي الديمقراطي [نصيريو بعل محسن، وكانوا يطلقون على أنفسهم فرسان العرب].
وبشكل أكثر وضوحاً يمكننا القول: لقد حرك نظام دمشق عملاءه وأعوانه من الرافضة والنصارى بغية هدم مدينة طرابلس الفيحاء.
أما ما زعمه النظام النصيري عن أسباب الهجوم فتتلخص فيما يلي:
- إن جماعة التوحيد روعت المواطنين في مدينة طرابلس، ونشرت الذعر والفساد.
- فَتَحَ حكام طرابلس الجدد ميناء المدينة أمام أنصار عرفات، ويعملون معه من أجل مزيد من الاضطرابات والفتن في لبنان.
- حولوا المدينة إلى (كانتون) مستقل عن بقية الأراضي اللبنانية، ويقيسون الأمور بمقياس طائفي بغيض.
وهكذا فنحن في عصر التناقضات فالمفسد يتهم المصلحون بالفساد، والعميل المتآمر يزعم أنه وطني مخلص .. ومن قبل دعا المشركون على رسول الله ( لأنه فرق دينهم، وشتت جمعهم، وسألوا ربهم هلاكه في بدر .. فلا غرابة إذن أن يتهم حكام دمشق غيرهم بالعمالة والطائفية والفساد.
ونفّذ النصيريون في حي (بعل محسن) أوامر قيادتهم فأطلقوا قذائفهم ونيران أسلحتهم المتطورة على حي (التبانة) الذي يبعد عنهم بضعة أمتار ولا يفصله عنهم إلا شارع سوريا.
وكانت القوات السورية قد شددت من حصارها لمدينة طرابلس، واستقدمت تعزيزات عسكرية تتألف من أربعة آلاف جندي أحاطت بالمدينة من كل جانب من أجل شن هجوم خاطف.(30/88)
وحاصرت الطائرات الحربية السورية طريق البحر إلى مرفأ طرابلس، وأبلغت القوات النصيرية صيادي الأسماك بضرورة عدم النزول إلى البحر لممارسة أعمالهم، وأعلنت أنها لن تسمح لأي زورق بالخروج أو الدخول للمرفأ في الوقت الحاضر.
وشاهد مراسل (رويتر) جنوداً سوريين بملابس الميدان في 28 سبتمبر 1985م يقيمون مواقع جديدة ومرابض مدفعية جديدة، بينما يقوم عشرات من رجال الميليشيات اللبنانية اليسارية [على حد قول المراسل] في القرى المجاورة بإعداد التموينات والاستعدادات للمعركة.
وأكدت مصادر أمنية مستقلة [صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 1 أكتوبر 1985م] أن مدفعية الجيش السوري المشرفة على طرابلس والدبابات المرابطة فوقها تشترك بالقصف منذ الساعات الأولى لبدء الهجوم.
فكيف نصدق بعد هذا قول العميد غازي كنعان رئيس جهاز استخبارات القوات السورية: (إنه ليس صحيحاً أن الجنود السوريين يقومون بالقصف، إنها الأحزاب المهاجمة إذ لديها كل الأسلحة التي تحتاج إليها 1 أكتوبر 1985م).
بدأ القتال في 15 سبتمبر 1985م أي بعد مجزرة مخيمات بيروت الأخيرة التي استخدمت فيها الدبابات السورية بثمانية أيام.
وفي 27 سبتمبر أعلن العميد غازي كنعان إنهاء الوساطة السورية، وحمّل أطراف اللقاء الإسلامي مسؤولية تعثر المساعي(1).
__________
(1) أطراف اللقاء الإسلامي كانوا يطالبون بحوار مع الأحزاب من أجل عودتها إلى طرابلس، وكانوا يعربون عن استعدادهم لتسليم أسلحتهم إذا سلمت الأحزاب الأخرى في طرابلس وبيروت، ومسألة تعثر المساعي التي أعلن عنها العميد كنعان ذريعة افتعلها النظام لاحتلال طرابلس.(30/89)
وبعد ساعات قليلة من هذا الإعلان المفتعل شنت الأحزاب الآنفة الذكر هجوماً على المناطق الواقعة تحت سيطرة اللقاء الإسلامي، من ثلاثة محاور رئيسية في الشمال والشرق والجنوب .. وهذه الأحزاب مجتمعة أعجز من أن تتقدم خطوة واحدة في طرابلس لولا الجيش السوري وراجماته وصواريخه المتطورة التي كانت تدك المدينة من (الكورة) و (تربل).
استمرت المعارك العنيفة عشرين يوماً، وكتب مراسلون في وصفها: (إن طرابلس أصبحت تبدو في النهار كمدينة أشباح تغطيها أعمدة الدخان الأسود وتهزها انفجارات القذائف المدفعية والصاروخية. وفي الليل تصطبغ على المدينة من التلال المحيطة بها، وقالوا إن نصف سكان المدينة البالغ عددهم حوالي 700 ألف نسمة نزحوا عنها)(1).
لقد انهمر على المدينة أكثر من مليون صاروخ وقذيفة مما أدى إلى تدمير نصف مبانيها، كما تم تدمير معظم شوارعها، وخلت أفران المدينة من الخبز، وسياراتها من الوقود، وأحاطت النار بمداخلها البرية والبحرية، وانقطعت عن العالم هاتفياً ولاسلكياً.
وساهمت (القوات اللبنانية) في الحرب فمنعت نقل المحروقات إلى الشمال منذ 24 سبتمبر، كما قطعت الطحين عن طرابلس.
وتتبع الجناة المدنيين الهاربين من جحيم الحرب، ففي المدخل الجنوبي لمدينة طرابلس عند بلدة البحصاص تم العثور على 15 جثة مصابة بطلقات نارية.
__________
(1) من المؤكد أن الذين هربوا من طرابلس يزيد عددهم على 300 ألف نسمة، ولكن ليس هناك أرقام دقيقة عن عدد سكان المدينة، ولا عن عدد القتلى والجرحى، والخبر نشرته صحيفة القبس الكويتية.(30/90)
وبعد تدمير أكثر من نصف مباني وشوارع المدينة توصلت دمشق إلى هدنة غير معلنة لإتاحة المجال لدخول وفد رسمي إيراني إلى طرابلس لإجراء محادثات مع أطراف اللقاء الإسلامي .. وتم ذلك أثر اتصال هاتفي مطول بين الرئيس الإيراني علي خامئني والرئيسي النصيري حافظ الأسد، وعاد الوفد الإيراني إلى دمشق مصطحباً معه الشيخ سعيد شعبان، والمهندس عبد الله بابتي .. وتم الاتفاق على وقف إطلاق النار برعاية حافظ الأسد.
وقد وقع الاتفاق سعيد شعبان عن (اللقاء الإسلامي)، وجورج حاوي عن الحزب الشيوعي اللبناني، وعلي عيد عن الحزب العربي الديمقراطي، وعاصم قنصوه عن الحزب الحاكم في سوريا، وعصام محايري عن الحزب القومي السوري، وحسين حمدان عن حزب العمال الاشتراكي العربي.
ومن أهم بنود هذا الاتفاق:-
- وقف إطلاق النار اعتباراً من منتصف ليلة الخميس 14 أكتوبر 1985م.
- تشكيل هيئة تنسيق برئاسة رئيس الحكومة اللبنانية رشيد كرامي وعضوية الأطراف الموقعة للاتفاق.
- تشكل لجنة أمنية تضم ممثلين عن القوات السورية والجيش اللبناني وقوات الأمن الداخلي لمنع اقتناء السلاح الثقيل، وتسليم السلاح الفردي، وحصر الأسلحة المرخص بها لأعمال الحراسة وغيرها.
- إطلاق حرية العمل السياسي لجميع الأطراف، وإجراء لقاءات مصالحة، وعدم إجراء ملاحقات تتعلق بالأحداث الأخيرة.
وفي 6 أكتوبر 1985م بدأت القوات السورية باحتلال مدينة طرابلس، وقامت حركة التوحيد وحلفائها بسحب قواتهم من المواقع التي انتشرت فيها القوات السورية، ووجه رئيس حركة التوحيد الشيخ سعيد شعبان نداءً أذيع من (التلفزيون) والإذاعة المحلية اللبنانية ناشد فيها أنصاره في طرابلس الالتزام باتفاق دمشق وعدم التعرض للقوات السورية المنتشرة في المدينة.(30/91)
وقال الشيخ شعبان: (وعلى الجميع أن يتعاونوا مع الأخوة السوريين والقوات الداخلية وعدم التعرض لأي فريق من هذه القوات وفي أي موقع من المواقع .. وإني أعتبر هذا الالتزام عهداً عقدناه والعهد واجب التنفيذ ..).
وقامت أطراف اللقاء الإسلامي بتسليم أسلحتها الثقيلة في مستودعات يشرف عليها السوريون .. وكذلك فعلت الأحزاب الأخرى كما زعم ضابط سوري مسؤول.
موقف من الاتفاق:
القوات النصيرية طرف في معارك طرابلس وليست حكماً – كما زعمت -، وجيشها دخل المدينة فاتحاً مستعمراً، وسيكون قائد هذا الجيش حاكماً مستبداً لا يخضع لقانون أو عرف، وطرابلس عنده كحماة أو حلب .. وإذا أراد المسلمون الدفاع عن أنفسهم سيجدون أنفسهم عزلاً من السلاح ولا يستطيعون الفرار لأن العدو يحيط بهم من كل جانب .. ومن تاريخ النصيريين القريب والبعيد نعلم بأنهم لا يحترمون عهداً ولا ميثاقاً .. وخلال أيام من دخولهم إلى طرابلس بدأت صيحات الاحتجاج والاستنكار ترتفع هنا وهناك في أوساط المسلمين السُّنة، والشيخ سعيد شعبان يحذر الآن من المداهمات والاعتقالات التي تتعارض مع جوهر الاتفاق الذي وقع عليه. هذا في بداية الطريق فكيف يكون الأمر بعد حين من الزمن؟َ!
ومن جهة أخرى فقد دخلت الأحزاب المدينة بعقلية المنتصر، ولها ثارات عند أهل التوحيد، وإذا افترضنا جدلاً أنهم سلموا سلاحهم فسيكون من السهل جداً عليهم الحصول على السلاح، وسوف تلجأ القوات السورية إلى هذه الأحزاب وإلى أخوانهم في (بعل محسن) كلما أرادوا قتل مجموعة من الدعاة إلى الله، أو كلما أرادوا مزيداً من البحث والتنقيب عن المسلمين السوريين والفلسطينيين الذين فروا من ظلم دمشق وبطشه.(30/92)
وأخيراً سيكون من اليسير جداً على حكام دمشق وحلفائهم في طهران اختراق أطراف اللقاء الإسلامي لأنهم ليسوا جماعة واحدة، ولا ينطلقون من منهج وتصور واحد، وقد ندد سعيد شعبان ببعضهم أثناء حصار طرابلس .. وسيكون المسلمون السُّنة في الشمال في وضع لا يحسدون عليه بعد الاتفاق وإلى الله المشتكى من جهل الجاهلين وجلد الفاجرين.
اقفال الملف اللبناني
منذ بداية حرب المخيمات، رفع النظام النصيري شعاراً براقاً أسماه (إقفال الملف اللبناني).
ومن أجل إقفال الملف اللبناني لا بد من إقفال الملف الفلسطيني أولاً، وقامت منظمة أمل بدورها شر قيام، ثم جاء دور طرابلس، ونفذ هذا الدور النظام النصيري وأعوانه من الأحزاب الشيعية والنصيرية، وتوقفت اجتماعات (هيئة الحوار الثلاثي) في دمشق خلال حرب طرابلس، واستأنفت اجتماعاتها بعد انتهاء الحرب وما رافقها من دمار.
وتتألف هيئة الحوار من الأطراف التالية:
1- الدروز ويمثلهم وليد جنبلاط صاحب القرار المعروف بعدم مقاومة الاجتياح اليهودي للشوف عام 1982م، والذي منع منظمة التحرير من وضع مدفع واحد في مناطق الدروز، وأخيراً فإن وليد أقام علاقات وطيدة مع عدد من القادة اليهود، ومن شاء مزيداً من التفاصيل فليراجع الصحف التي صدرت في تلك الفترة، ومن جملتها المقابلات التي أجرتها بعض الصحف والمجلات مع الزعيم الدرزي.
2- الكتائب ويمثلهم (إيلي حبيقة) قائد القوات اللبنانية والمسؤول الأول عن مجازر صبرا وشاتيلا عام 1982م، وسفير الموارنة في مفاوضاتهم السرية والعلنية مع العدو الصهيوني.
3- الشيعة ويمثلهم نبيه بري [شارون الشيعة]، وجزار المخيمات .. وقد نشرنا فيما مضى من هذا الكتاب وفي الجزء الأول أخباراً كثيرة عن علاقاته وعلاقات منظمته مع اليهود.
أما مهندس هذا الحوار فهو صاحب بلاغ سقوط القنيطرة المعروف!!.(30/93)
والجديد في هذا الحوار شخصية (إيلي حبيقة)، وكان نظام دمشق يعلم أن الناس كل الناس سوف يستغربون وجوده في مثل هذه الاجتماعات، لهذا احتفظ عبد الحليم خدام بتعهدات التزم بها قائد القوات اللبنانية وكتبها بخط يده ومن أهمها: قطع العلاقة مع العدو الصهيوني، وإقامة علاقات سياسية وأمنية خاصة مع سوريا، وكان خدام يطلع عليها حلفاء سوريا لتأكيد مسيرة الحل القادم في لبنان(1).
ومما يجدر ذكره أن هيئة الحوار تمثل (كانتونات) طائفية مستقلة، ولا يسمح أي طرف في هذه الهيئة لأحد كائناً من كان أن يتدخل في شؤون دويلته .. ومع ذلك يسمون الأمور بغير مسمياتها وينادون بإلغاء الطائفية، ووحدة لبنان كجزء لا يتجزأ من الأمة العربية!!
ومن جهة ثانية فليس للمسلمين السُّنة من يمثلهم في هذا الحوار لأنهم نُكبوا في حرب لبنان، والغنائم لا توزع إلا على المنتصرين.
والذي نراه أن نظام دمشق لا يريد توحيد لبنان في دولة مستقلة، وقل إن شئت مثل ذلك عن الدروز والكتائب والشيعة.
ولو افترضنا أن (الأسد) يريد توحيد لبنان بالشكل الذي تتحدث عنه وسائل الإعلام السورية فهو ليس قادراً على تحقيق ذلك، لأن لإسرائيل نفوذاً واسعاً جداً في صفوف الدروز والموارنة الشيعة، وجيش لحد قد يتضاعف عدد أفراده وبشكل أخص إذا انضم إليه معارضو هذا الاتفاق من الموارنة وغيرهم، وقد تعود إسرائيل وتحتل جزءاً آخر من لبنان، ونظام دمشق لا يستطيع وحده الدخول في حرب مع إسرائيل.
والذين يعارضون (هيئة الحوار الثلاثي) كثير في لبنان، وسوف يستمر النظام في اتباع سياسة (فرق تسد)، وفي التعامل مع (كانتونات) غير معلنة رسمياً، وفي تسمية الأمور بغير مسمياتها، والله تعالى أعلم.
المبحث الثالث
الشيخ سعيد شعبان ماذا يريد ؟!
__________
(1) مجلة الشراع، العدد 188، بتاريخ 21 أكتوبر 1985م.(30/94)
ترددت الكلمة عن مواقف الشيخ سعيد شعبان المؤسفة، واستمر ترددي أكثر من سنتين، ومن أهم أسباب هذا التردد قناعتي المطلقة بأن الطغمة النصيرية الحاكمة في دمشق تفكر بهدم مدينة طرابلس المسلمة سواء كان الشيخ سعيد شعبان موجوداً أو غير موجود وذلك لأن طرابلس وحماة مدينتان مسلمتان تتميزان عن غيرهما من المدن الأخرى، وتجاوران جبال النصيرية، ويشعر قادة الجبل بأن دولتهم لن يكتب لها الحياة مع وجود هاتين المدينتين .. وقد فعلوا الذي فعلوا بمدينة أبي الفداء، وبقيت طرابلس تنتظر موعدها مع ألد أعداء الإسلام والمسلمين.
ومن جهة أخرى فإن من أصعب الأمور على نفسي نقد داعية من دعاة الإسلام، وأن تظهر هذه الكتابة في مرحلة عصيبة جداً نجح فيها أعداء الله في هدم أكثر من 50% من مباني طرابلس ومؤسساتها.
وأخيراً زال ترددي واقتنعت أنه لا بد من الكتابة، ولا يجوز لي أن أتجاوز في هذا المؤلف نقد مواقف وتصريحات الشيخ سعيد شعبان لأن المبادئ والتصورات أهم من الأشخاص واللافتات، ومن كانوا خيراً مني من الصحابة والتابعين نقدوا من كان خيراً منه .. وأخشى إذا سكت أن يشملني حديث رسول الله (: (من سُئِلَ عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)(1).
كما أخشى أن تقع الفتنة الكبرى ويتشيع المسلمون في طرابلس إذا استمر الشيخ في تبجيله وتعظيمه لآيات طهران وقم، ولا شك أن مثل هذه الفتنة أشد سوءاً من هدم نصف مباني المدينة.
ولن أتعرض فيما سأكتبه لسيرة الرجل وأموره الشخصية، وإنما سأتناول بالنقد موقفه من نظام الرافضة وثورتهم في إيران، وموقفه منهم ليس سراً من الأسرار فقد كتب وخطب وأجريت معه مقابلات صحفية كافية للحكم له أو عليه.
وسأعرض فيما يلي ملاحظاتي بشكل موجز ومرقم:
أولاً: تأييده لمنظمة التحرير :
قبل الحديث عن موقف أمير التوحيد من نظام طهران أود الإشارة لموقفه من منظمة التحرير عام 1982م.
__________
(1) أخرجه الأربعة وأحمد في مسنده والحاكم.(30/95)
سئل الشيخ في 21 أكتوبر 1985م عن موقف من عرفات فأجاب: (عرفات لا وجود له بيننا، لأننا لسنا مع عرفات ولسنا مع طريق عرفات، ولسنا خدماً لعرفات.
نحن خدم لهذا الدين، ولا يمكن أن نبيع قضيتنا لقضية يحملها عرفات وهي مصالحته لإسرائيل.
ومن أدلة الشيخ على أنه ليس مع عرفات قوله: (وأكبر دليل كما نقول بأن عرفات مع العراق ومع الأردن، ونحن لسنا مع هؤلاء، وعلاقتنا مع إيران وثيقة وأكيدة، وهذا يؤكد التناقض)(1).
يتحدث الشيخ عن موقفه من منظمة التحرير وزعيمها عام 1985م، ونحن سنتحدث عن موقفه منها عام 1982م، لقد نشأت حركة التوحيد الإسلامي في صيف عام 1982م، وقد فوجئت بنشئوها، كما فوجئت بقيادة الشيخ لها، فالشيخ لا يملك أي خبرة عن التنظيمات والأعمال العسكرية والسياسية، ومن جهة أخرى فحركة التوحيد تألفت من عدة تجمعات محلية، بعضها كان إسلامياً، وبعضها الآخر كان يسارياً أو شئت فقل كانوا قطاع طرق ثم تابوا إلى الله فجأة، ومع قناعتي الأكيدة بأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، وقد يمسي المرء كافراً ويصبح مؤمناً .. مع ذلك كله أقول: (إنني أخشى من توبة جماعة كلها .. فقد تاب القذافي فتاب عساكره(2) ثم ارتد فارتدت معه.
وقل مثل ذلك عن ضياء الحق الباكستاني، ومحمد جعفر نميري السوداني.
ونحن لا نقول للذين تابوا لِمَ تبتم؟! أو لا نصدقكم فيما تدعون .. لا نقول لهم مثل هذا القول كما أنه من الواجب علينا أن لا نتجاهل دور غيرهم من العلماء والدعاة، ونُكوِّن من هذا الخليط الجديد حركة تنظيمية عسكرية تزعم أنها من المسلمين، وبين عشية وضحاها يصبح قطاع الطرق علماء وقادة .. وهذا الذي فعله الشيخ سعيد شعبان غفر الله لنا وله.
__________
(1) مجلة الشراع، العدد 188، بتاريخ 21 أكتوبر 1985م.
(2) لا أقصد بقولي (عساكره) كل جندي في الجيش الليبي، وإنما أقصد كبار القادة والمسؤولين في النظام.(30/96)
أمر آخر يدعو إلى الشك والريبة أن هؤلاء الذين تابوا كانوا من أتباع منظمة التحرير الفلسطينية وكانت تقدم لهم المال والسلاح ليتسنى لها السيطرة على الشارع الإسلامي في دولة الطوائف، وجاءت هذه التوبة إبان حرب المخيمات وهي ظروف حرجة كان يمر بها ياسر عرفات، ونقول بكل وضوح وصراحة: (إن جاعة "جند الله" الإسلامية كانت وثيقة الصلة بمنظمة التحرير، وكانت تتلقى منها العون المادي والعسكري .. وتبعاً لذلك وقف أمير التوحيد إلى جانب ياسر عرفات في معركته ضد المنشقين عنه ومن وراءهم في دمشق، وفي معركة التوحيديين مع الأحزاب في طرابلس أيدتهم منظمة التحرير، واستمر هذا التعاون بعد رحيل عرفات ومن معه عن طرابلس وخُطب سعيد شعبان وتصريحاته في الصحف وصوره مع عرفات تؤكد كل ما ذكرناه.
وليس من المصلحة ذكر مزيد من الأدلة والبراهين، لأننا – يعلم الله – لا نبغي التشهير بأمير التوحيد ومن معه، ونكره إحراج الآخرين.
وكم يكون الشيخ سعيد منصفاً لو قال: (تعاونوا مع عرفات ومن معه أو وقفنا معهم في خندق واحد عام 1982م .. ثم أدركنا فيما بعد أننا تسرعنا في اتخاذ هذا الموقف .. ومن المؤسف أن قليلاً جداً من الدعاة في هذا العصر من يعترف بخطأه.
ثانياً: لمحات عن تعاونه مع إيران:
كان الشيخ سعيد شعبان في طليعة الذين زاروا إيران بعد الإطاحة بالشاه .. وعاد من طهران يحدث كل من رآه عن شخصية القائد الخميني الفذة، وتواضعه الجم، وزهده النادر، وحذّره من نظن فيهم الفضل والعلم من مثل هذا الموقف خلال إحدى زياراته لبلد عربي فرد عليهم ردوداً عاطفية ليس فيها علم ولا منطق، والتمست الأعذار للشيخ لأن الذين أعلم منه كانوا – بكل أسف – يجهلون معتقدات الرافضة وأصولهم، ويظنون أن خلافنا معهم لا يتعدى بعض الفروع، ومثل هذه الخلافات متوفرة بين مذاهب أهل السنة.(30/97)
ثم جاءني من يعرف الشيخ عن كثب فقال: (لقد تورط الشيخ سعيد شعبان مع الشيعة. فقلت له: ما هو دليلك على ما تقول؟!
فذكر لي أموراً لم أقتنع بها، وتمسك بموقفه من الشيخ كما تمسكت بموقفي ولم أقصر في نصحه وتحذيره من أهل الغلو.
ثم عاد صاحبي بعد حين من الزمن، وأبرز لي إخراج قيد نفوس صادر عن الأحوال المدنية في طرابلس الشام باسم ابن شقيق الشيخ، وفي القيد ما يؤكد أن مذهبه شيعي، وهذا يعني أن زوج شقيقة أمير التوحيد شيعي ابن شيعي. فقلت: لعل والد الشيخ هو المسؤول عن هذا الزواج.
فقال: ولكن ما هو رأيك بمن يزوج ابنته من شيعي في بلاد الشام؟!
قلت: أمر مستغرب وغير مألوف.
قال: ألا تعرف بأنني أحب الرجل، وبيني وبينه صحبة ومحبة؟!
قلت: بلى.
قال: مع ذلك أصبحت أشك بعلاقاته مع حكام إيران ومع شيعة لبنان، ومثل هذه الأمور أسمعها منه بالذات، ويتفوه بها معظم أعوانه ومساعديه.
ثم أصبح سعيد شعبان أميراً لطرابلس باستثناء حي (بعل محسن)، وتكررت زياراته لإيران، وتوقفت صلاته مع ما يسمى بـ (حزب الله) وأمل الإسلامية، والمسؤولين الإيرانيين الذين يترددون على لبنان أو المقيمين بها.
وكان حكام طهران يتوسطون بين أمير التوحيد، والإمبراطور النصيري، وعندما زار الرئيس الإيراني (خامنئ) دمشق استدعى شعبان وجمعة بحافظ الأسد وقيل أن العلاقات تحسنت بعض الشيء بين الطرفين، وإن كان للطاغوت النصيري موقف ثابت من أهل السنة، وله أطماع خاصة بشمال لندن، ولا تنفع عنده الوساطات في مثله هذا الأمر.(30/98)
واستغل الرافضة مواقف الشيخ سعيد شعبان المؤسفة وأمثاله فعملوا على أن يكون ورقة يتاجرون بها بين أهل السنة .. وبين يدي مقابلة أجرتها معه مجلة الثورة الإسلامية في عددها رقم 61. ومن يتأمل هذه المقابلة يلاحظ بأن المجلة قد أخذت من أمير طرابلس كل ما تريد، وأنه كان يتحدث بدون تحفظ، بل وكان يستعمل المصطلحات الشيعية السياسية كقوله على سبيل المثال لا الحصر: (الإعلام الاستكباري) وأكثر من مدح إيران والهجوم على دول الخليج، ولا يستغرب مثل هذا الهجوم لو كان الشيخ قد اعتاد عليه، أو لو كان لا يخدم مقاصد الشيعة.
ومن أجله أجرت المجلة معه مثل هذه المقابلة، ولم يذكر موقفاً سلبياً واحداً من مواقف النظام الإيراني، أو من مواقف الشيعة في لبنان .. فلم يذكر سوء معاملتهم لأهل السنة في إيران، ولم يسألهم عن أسرار تعاونهم مع النظام النصيري في دمشق، ولم يندد بتعامل كثير من قيادات الشيعة مع العدو الصهيوني في جنوب لبنان، لقد كان الشيعة يتكلمون على لسان أمير التوحيد في هذه المقابلة.
ثالثاً: الوساطة الإيرانية وتصريحات شعبان:
بعد دمار طرابلس واتفاقية دمشق أجرت مجلة الشراع في عددها رقم 188 بتاريخ 21 أكتوبر 1985م مقابلة مع الشيخ سعيد شعبان ننقل منها فيما يلي ما يتعلق بإيران:
سؤال: لماذا أنتم متهمون دائماً بالعلاقة مع عرفات؟
جواب: من أجل التبرير، كما برر الذئب قضيته لافتراس الحمل، ولكننا لسنا حملاناً إن شاء الله تعالى، وكل هذه التهم باطلة ولا أساس لها من الصحة وأكبر دليل كما نقول، بأن عرفات مع العراق ومع الأردن، ونحن لسنا مع هؤلاء، وعلاقتنا مع إيران وثيقة وأكيدة، وهذا يؤكد التناقض.
سؤال: ماذا جرى مع العلاقة الجيدة مع إيران؟(30/99)
جواب: إنهم مسلمون يحملن الإسلام ويرفعون راية الإسلام .. أعزوا الإسلام بثورتهم، وطردوا أميركا(1) وإسرائيل من بلادهم، ونحن نبارك ونكبر كل دولة تحارب أميركا وإسرائيل وتقطع العلاقة معها، يكفي أنهم أعلنوا إسلامية ثورتهم، ونحن نلتقي مع الإسلام.
سؤال: ألا تعتقدون أن الذي يفجر نفسه بحاجز إسرائيلي هو من طرد إسرائيل أو شارك بطرد إسرائيل؟
جواب: نحن نعتبر أن من فجر نفسه – لإخراج إسرائيل لا للدعاية الحزبية بل لدحر إسرائيل -، ومن دمر مركز (المارينز) في بيروت، ومواقع الفرنسيين، ومركز القوات الإسرائيلية في صور، هؤلاء هم الأبطال الذين لم تسجل أسماؤهم، هؤلاء الأتقياء الأخفياء، يضربون الضربات الموجعة من دون أن يقوموا بالضجيج الإعلامي.
سؤال: حركة التوحيد فيها من هم من خارج السنة؟
جواب: لا ليس يها .. ولكن لو دخل فيها من طوائف المسلمين لما مانعنا في ذلك، وفي حزب الله مثلاً في بيروت يوجد سُنَّة وشيعة، ونحن نعتبر حزب الله جزءاً منا، وأكبر دليل على ذلك أننا كنا في وفد واحد في مفاوضات دمشق بالأمس .. كان هناك حزب الله، وأمل الإسلامية وعناصر من السفارة الإيرانية يشكلون معنا وفداً واحداً لنؤكد للمسؤولين السوريين أننا في لبنان أمة واحدة.
سؤال: هل تعتقدون(2) أن ذلك ينجح في لبنان بعد هذه الحروب المذهبية؟
__________
(1) تحدثت في الكتاب الأول عن علاقة الثورة الإيرانية بالولايات المتحدة الأميركية .. ثم جاءت الوثائق والمذكرات والدراسات السياسية تؤكد صحة ما كتبته سنة 1979م. وتحدث العالم أجمع عن المساعدات التي تقدمها إسرائيل لنظام خميني في حربه ضد العراق، وإذا أحسنا الظن بالشيخ فهو لا يدري عن هذه الثورة ولا يعرف عنها إلا ما يسمعه من آيات قم.
(2) أي إقامة حكم إسلامي.(30/100)
جواب: هذا يخضع في الحقيقة للجهد الذي يبذل، إيران 40 مليون حكمها اليهود والأميركان، لكنها اليوم مستقلة، راعيها أب، والرعية كلهم يتعاونون على البر والتقوى وفيها مختلف الأديان، ومختلف الطوائف، وليس إلا الإسلام هو الذي وحدها.
إذن نحن نعتبر أن الإسلام هو القاسم المشترك الذي يعدل بين الجميع.
سؤال: لماذا تدخلت إيران برأيكم؟
جواب: لأنها مسلمة تحس بأوجاع المسلمين، والمسلمون كالجسد الواحد، إذا اشتكى عضو اشتكى الجسد كله) اهـ(1).
ولي على أقوال وتصريحات الشيخ سعيد شعبان الملاحظات التالية:
1- ما الذي قدمته إيران الخميني لطرابلس الشام في محنتها؟
فرغم متانة الروابط وقوة العلاقات التي تجمع بين إيران ونظام دمشق .. فقد تم الإعلان عن نجاح هذه الوساطة بعد هدم أكثر من نصف مباني المدينة وقتل وجرح الآلاف، وهروب معظم السكان.
وسئل مسؤول لجنة الوساطة: هل اختلاف وجهات النظر بينكم وبين سوريا يؤثر على العلاقات المتينة بين البلدين؟ فأجاب بالنفي القاطع لأن العلاقات بين البلدين أقوى من أن تؤثر فيها هذه الأحداث.
__________
(1) قال أمين الجماعة الإسلامية في مدينة طرابلس المهندس عبد الله بابتي: (.. وهنا لا نستطيع إلا أن نذكر بالخير الأخوة الذين توسطوا أثناء المعركة في حزب الله والثورة الإسلامية في إيران لأنهم الوحيدون الذين استجابوا وساهموا في الوصول إلى الحل السلمي الذي ظهر في اتفاق دمشق، رغم أن نداءنا كان موجهاً للجميع) عن مجلة (العالم) الشيعية العدد رقم 90 بتاريخ 2 نوفمبر 1985م.(30/101)
ومن جهة ثانية فقد فرض النظام النصيري شروطه كلها من خلال بنود الإتفاقية: كاحتلال قواته العسكرية لطرابلس وسحب السلاح منها .. وكانت أطراف اللقاء الإسلامي ترفض هذه الشروط بإصرار .. ومن مصلحة النظام السوري بعد تحقق هذه الشروط أن يوسط إيران حتى لا يتعرض لخسائر فادحة عند دخول قواته واحتلالها لأحياء المدينة .. ومن ثم فإن استمرار الجيش الغازي متعذر في طرابلس إذ وجد مقاومة مسلحة ومنظمة.
وقصارى القول فإن الوساطة لمصلحة النظامين: السوري والإيراني اللهم إلا إذا كان السوريون يشترطون قتل شعبان وأعوانه ثم تراجعوا عن هذا الشرط ولا نعتقد أن ذلك من مصلحتهم.
2- يزعم سعيد شعبان أن وفدهم في دمشق كان يضم(1) حزب الله الشيعي، وأمل – جناح الموسوي – وعناصر من السفارة الإيرانية!!
ومما لا شك فيه أن هذا الوفد العتيد تشكل بعد المذبحة التي ارتكبها الشيعة والنظام النصيري في المخيمات فماذا كان موقف أطراف هذا الوفد، وماذا قدموا للفلسطينيين!!
ومن جهة أخرى فقد قال الإيرانيون عن أنفسهم بأنهم وسطاء، وكذلك وصفتهم الدوائر السياسية والإعلامية في العالم .. فمن أين جاء أمير التوحيد بهذا الزعم؟!
ومن جهة ثالثة فقد قال مسؤول الوفد أن علاقة بلده مع سوريا أقوى من أن تهزها أحداث طرابلس، وسوريا النصيرية تذبح المسلمين في طرابلس .. ماذا تقول لسعيد شعبان بعد هذا كله؟!
3- يقول سعيد شعبان: ليس في حركة التوحيد من غير أهل السُّنة أحد: فنقول: (الشيعة لا يقبلون بغير قيادتهم، وأهل السُّنة – في نظرهم – كفار لأنهم نواصب، أما قوله: "وفي حزب الله مثلاً في بيروت سُنَّة وشيعة .. ونحن نعتبر حزب الله جزءاً منها، وهم يعتبرون أنفسهم جزءاً منا ...).
__________
(1) هناك جماعة من جماعات أهل السُنَّة في طرابلس اسمها (جند الله) وعمرها أكثر من عشر سنين، وهناك (حزب الله) وهو حزب شيعي بدأنا نسمع أخباراً عنه منذ حوالي خمس سنين، ويظن أن قيادته في بيروت.(30/102)
فنقول: في حزب الله سُنَّة لأنهم جهلة لا يفهمون عقيدتهم ولا يقرءون تاريخ أمتهم، وقد ابتلاهم الله بقيادة الشيخ سعيد شعبان وأمثاله.
وقد اطلعت على تصريحات زعماء الشيعة الذين يثني عليهم أمير التوحيد فوجدتها خبثاً ولؤماً، ومن الأمثلة على ذلك المقابلة التي أجرتها صحيفة القبس الكويتية في عددها الصادر بتاريخ 5 نوفمبر 1985م – مع محمد حسين فضل الله وهو من أبرز زعمائهم في لبنان. وقد سئل عن أحداث طرابلس فلم يقل عبارة واحدة في تأييد شعبان وحركته أو في التنديد بالجرائم التي ارتكبها النظام النصيري في طرابلس أو في المخيمات أو في حماة.
4- لم يجد سعيد شعبان مثالاً يقدمه على عدل الإسلام ومساواته بين الناس إلا إيران الخميني فكان مما قاله: (.. راعيها – أي إيران – أب، والرعية كلهم يتعاونون على البر والتقوى وفيها مختلف الأديان، ومختلف الطوائف، وليس إلا الإسلام هو الذي وحدها).
راعيها أب، والرعية كلهم يتعاونون على البر والتقوى!! ما هذا الهراء العجيب؟! وهل يسفك الأب دماء أبناءه؟! أفلا يقرأ سعيد شعبان أو يسمع؟!
ألم يقرأ ماذا فعل الخميني برعيته؟! ألم يسمع صيحات أهل السُنَّة في إيران، وعدد الذين قتلوا منهم، وماذا يجري للمعتقلين منهم في سجونهم؟!
إن كان سعيد شعبان صاحب هوى فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإن كان جاهلاً فمن المصائب العظام أن يقود أمتنا جهلة .. وإن كان مستعداً أن يعيد النظر بقناعاته فليقرأ كتابنا الأول وغيره من الكتب التي فضحت هؤلاء الباطنيين .. بل فليقرأ تاريخ طرابلس الشام – مدينته – ومصائبها مع الرافضة والنصيريين، وزيادة على ذلك كله فنحن مستعدون أن نجمعه مع أهل السنة الذين نكبهم نظام الطاغية خميني.
رابعاً: رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه:
وقع الشيخ سعيد شعبان في تناقضات كثيرة نختار منها ما يلي:(30/103)
1- نحن آخر أناس يسلمون سلاحهم .. قبل أن تسلم الكتائب وقوات جنبلاط ونبيه بري، لن نسلم لأننا لن نكون العلامة الفارقة، ولأننا نعيش في غابة من السلاح والوحوش. عن وكالة كونا 29 سبتمبر 1985م.
ثم أذاع بياناً بعد الاتفاقية وطالب أعوانه بتسليم السلاح، ولم تسلم الكتائب والقوات الدرزية وقوات أمل أسلحتها.
2- وفي 27 سبتمبر 1985م اتهم سوريا بالإعداد لمجزرة، وأنها تريد سيطرة القوات السورية على طرابلس، وفي 29 سبتمبر 1985م، أي بعد يومين وصف علاقة حركته بالمسؤولين السوريين بأنها طيبة .. ثم أخذ ينادي بسيطرة القوات السورية على طرابلس.
3- صدرت عنه تصريحات يهاجم فيها ياسر عرفات ومن معهن، وكانت قد صدرت عنه تصريحات أخرى على نقيض ذلك.
وعرفات هو عرفات في انحرافه وانتهازيته ودعوته إلى دولة علمانية في فلسطين المحتلة.
4- صدرت عنه تصريحات يهاجم فيها أطرافاً من اللقاء الإسلامي، ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن العميد غازي كنعان رئيس جهاز المخابرات العسكرية السورية العاملة في لبنان، أن الشيخ سعيد شعبان أبلغه أن في صفوف حركة التوحيد عناصر غير منضبطة لا ترغب في إيجاد حل لمشكلة طرابلس، أما هو فيريد التوصل إلى حل مع سوريا.
وإذا كان العميد كنعان قد افترى على شعبان كذباً فقد صدرت عن الأخير تصريحات نقلتها عدد من الصحف منها الشراع بتاريخ 21 أكتوبر 1985م وهاجم ناساً من أعوانه لأنهم كانوا لا يطيعون وكانوا معجبين بآرائهم، وارتكبوا مخالفات شرعية.
ولو لم تصدر مثل هذه التصريحات عن أمير التوحيد لكانت مثل هذه السلبيات متوقعة وغير مستغربة لأن البدايات الخاطئة تقود إلى نتائج خاطئة.
وبعد: لقد أخطأ الشيخ سعيد شعبان عندما وضع نفسه في موضع لا يقدر عليه، وليس أهلاً له، وأخطأ عندما راح يقول اليوم ما ينقضه غداً.(30/104)
وعليه أن يعيد النظر بجميع حساباته ويتق الله فيما يقوله ويفعله .. وكم نتمنى أن يتفاهم مع إخوانه أهل السُنَّة قبل التفاهم مع أهل الرفض والتقية والغدر وفي الإشارة ما يغني عن الكلم.
الفصل الخامس
المبحث الأول
الصدر والمجلس الشيعي الأعلى
ليست هذه المرة الأولى التي أكتب فيها عن شيعة لبنان وحركة أمل .. ففي كتابي الأول (وجاء دور المجوس)(1) تحدثت عن نشأة أمل، وعن تاريخ مؤسسها الرجل الغامض الإيراني موسى الصدر، وكيف منحه حكام لبنان النصارى – أقطاب النهج – الجنسية اللبنانية في وقت كانت تحجب فيه هذه الجنسية عن غير النصارى، وأمثال موسى الصدر من اللبنانيين الذين جدوا منذ عشرات السنين على أرضهم قبل ضمها إلى ما سمي (بدولة لبنان الكبير) إثر الاحتلال الفرنسي عام 1920م.
ونجح الصدر وأعوانه في عام 1969م شق المجلس الإسلامي الأعلى الذين يضم كل مسلمي لبنان وتأسيس (المجلس الشيعي الأعلى) الذي أصبح رئيسًا له.
__________
(1) راجع المبحث الثاني (ظاهرة الصدر والحرب اللبنانية) من كتابي الاول (وجاء دور المجوس) ص409، الذي انتهيت من تأليفه عام 1979م، بل وكتبت عن حركة أمل والصدر أشياء أخرى في أواسط السبعينات، وبكل أسف كان معظم أهل السنة يعتقدون أن الصدر من المعتدلين الشيعة، وكانوا يثنون عليه ويباركون خطواته ونشاطه.(30/105)
واستفاد الصدر من التناقضات التي تعج بها الساحة اللبنانية، فارتبط في بداية طريقه مع زعماء النصارى في لبنان – الشهاديين -، ثم تحالف مع منظمة التحرير الفلسطينية، ورفع شعار تحرير فلسطين، وقدمت له المنظمة مقابل ذلك المال والسلاح وقامت بتدريب عناصر أمل عند بداية تأسيسها .. وتنكر الصدر لوعوده وعهوده عندما وقع الصدام بين النظام النصيري من جهة ومنظمة التحرير الفلسطينية والقوات الوطنية اللبنانية من جهة أخرى، ولعل هذا الأمر من أهم الأسباب التي دعت النظام الليبي إلى قتله أو احتجازه في 31 أغسطس 1978م ومعه الشيخ محمد شحادة ويعقوب والصحفي الشيعي عباس بدر الدين صاحب وكالة أخبار لبنان.
وفي هذا الفصل سأعود من جديد إلى الحديث عن شيعة لبنان وحركة أمل وظاهرة الصدر لأعرض أدلة أخرى تؤكد صحة النتائج التي توصلت إليها قبل بضع سنين، وسوف أجيب على عدد من الأسئلة التي يكثر طرحها.
كلام مهم لكامل الأسعد:
كامل الأسعد أحد زعماء الشيعة التقليديين في لبنان، وقد ترأس المجلس النيابي اللبناني مدة طويلة من الزمن، وله في المجلس كتلة عدد أعضائها تسعة، وورث زعامة الطائفة عن أبيه، ونجح في تقديم خدمات جلى لأبناء طائفته .. وقد أجرت مجلة الحوادث اللبنانية مقابلة مع كامل الأسعد في عددها بتاريخ (3 يناير 1975م) تحدثت فيها عن خلافه مع موسى الصدر، وكان مما قاله:
(سأتحدث أولاً عن علاقاتي بالسيد موسى الصدر، هذه العلاقات مرت بثلاث مراحل: مرحلة العهد السابق – عهد الرئيس حلو -، ومرحلة الفترة الأولى من العهد الحالي، والمرحلة الأخيرة.(30/106)
ففي أثناء العهد السابق، الذي تلا العهد الشهابي، أبدى أقطاب النهج، الذين كانوا وراء مطالب إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، تحبيذهم لتعيين السيد موسى الصدر رئيسًا للمجلس. والسيد موسى الصدر يعرف والنواب الشيعة، أنه لو كانت كتلة الأعضاء التسعة التي انتمى إليها، لم تؤيد فكرة إنشاء هذا المجلس، لما كان أنشئ أصلاً، ولما أصبح السيد موسى الصدر رئيسه. ولكني وافقت على إنشاء المجلس وتعيين السيد موسى الصدر رئيسًا له، على الرغم من التحذيرات التي تلقيتها من عدد من الأصدقاء وعدة مصادر، بأن وراء هذا التعيين خطة لمحاربتي شخصيًا على صعيد الجنوب وعلى مستوى الطائفة الشيعية أيضًا.
وقد قبلت تلك المخاطرة لأني كنت مقتنعًا بأن تلك الفرصة المواتية لإنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لن تتكرر.
والجميع يذكر كيف كان السيد موسى الصدر، خلال تلك الفترة التي امتدت عدة سنوات، تابعًا للعهد ولزعمائه.
والجميع يذكر موقف العهد بإزاء الشيعة بوجه عام، وجنوب لبنان بوجه خاص. كانت هناك مؤامرة على الجنوب كل يوم: تجميد مشروع الليطاني، محاولات للتفرقة بين الفلسطينيين واللبناني، وإرهاب فكري ونفساني للمواطنين في كل ما يفعلون. واقتصرت حركة موسى الصدر وقئتذٍ على الدعوة إلى الإضراب.
ووجه نداء من بيروت داعيًا أهالي الجنوب إلى احتلال القصور في العاصمة.
ولا حاجة إلى إيضاح العواقب التي كانت تترتب على تلك الدعوة لو أن أهالي الجنوب هاجروا فعلاً إلى بيروت ليحتلوا القصور والشوارع، وتحولوا إلى لاجئين فعلاً في العاصمة.
والعجيب أنه في ذلك اليوم بالذات، أخذ التليفزيون، الذي هو مؤسسة حكومية رسمية، على عاتقه إذاعة نداء الإمام إلى التظاهرة).
ويتساءل كامل الأسعد فيقول: (والآن ماذا يريد السيد موسى الصدر؟!.
لقد عرض لائحة بالمطالب. وكان أهم مطلبين فيها:
1- تأمين العدالة للطائفة الشيعية بشأن الوظائف العامة.
2- تنفيذ مشروع الليطاني.(30/107)
المطلب الأول: تم تحقيقه خلال التعيينات الأخيرة، وأصبحت المناصب المعطاة لأبناء الطائفة الشيعية متناسبة وعددهم. أما فيما يتعلق بالمطلب الثاني [أي مشروع الليطاني] فقد كنا نحن، وليس هو، من لاحق المشروع من أجل تنفيذه. ولن نسمح أبدًا بأن يؤخر تنفيذه أكثر مما أخر.
فالاعتمادات متوافرة، والمسح الجوي للأرض ستتولاه إحدى الشركات أو الجيش.
وقد طرحت دراسة النفق الرئيسي والقناة في مناطق عامة، وحدد حزيران سنة 1975م موعدًا لبداية العمل فماذا يبقى من مطالب الإمام؟!.
التنقيب عن النفط؟ هل هناك نفط في الجنوب للتنقيب عنه؟).
وسئل الأسعد عن مدى قوة التيار الذي يمثله الصدر في لبنان، فأجاب بقوله: (إن قوته ليست مستمدة من مركزه كرجل دين. فلا يهم أن يعتمر العمة أم لا. إن قوته مصدرها المال الذي يبعث به المهاجرون إلى المجلس الشيعي الأعلى والمعونة المالية التي تقدمها الدولة إلى المجلس. فهو ينفق هذا المال في شراء الرجال واستقطابهم. وقوته تأتي أيضًا من قدرته على تجميع المعارضة في الجنوب وحشدها في عمل موحد ضدي كما فعلت عائلتا عسيران والزين عندما اتحدتا ضدي أثناء انتخابات النبطية.
إن هناك أكثر من علامة استفهام تدور حول الخطة التي ينفذها السيد موسى الصدر والأشخاص الذين يؤيدونه هنا وفي الخارج، وأبعاد هذه الخطة في لبنان والخارج). انتهى كلام الأسعد.
أقوال الأسعد في الميزان
1- ماذا يريد النصارى من إنشاء المجلس الشيعي الأعلى؟!
يقول الأسعد بأن أقطاب النهج النصارى كانوا وراء مطلب إنشاء المجلس الشيعي الأعلى!! وإنشاء هذا المجلي يعني شق الصف الإسلامي رسميًا لأول مرة في تاريخ لبنان الحديث.(30/108)
ويعترف الأسعد أيضًا بأن النصارى كانوا وراء تعيين موسى الصدر رئيسًا لهذا المجلس. ومما يجدر ذكره أن أقطاب النهج النصارى كانوا – ولا يزالون – من ألد أعداء الإسلامي والمسلمين، وكانوا يتعاونون مع الشيطان من أجل تمزيق الصف الإسلامي.. فكيف نجمع بين دعمهم لموسى الصدر وبين قول السذج من قيادات أهل السنة:
لقد كان الصدر مخلصًا، وكان من دعاة التقريب بين السنة والشيعة، وكانت له علاقات وثيقة مع علماء أهل السنة.
وكامل الأسعد – مع اعترافه بأن أقطاب النهج النصارى كانوا وراء هذا المجلس – لا يتبرأ من إنشاء المجلس الشيعي الأعلى وإنما يؤكد بأنه كان من الداعين له لأن في إنشائه مصلحة للطائفة، ومصالح الطائفة فوق خلافاته مع الصدر وغيره. وهذا هو مصدر القوة في تصريح رئيس المجلس النيابي اللبناني السابق.
2- تعاون الرافضة مع الموازنة:
ويقول الأسعد: (والجميع يذكر كيف كان السيد موسى الصدر، خلال تلك الفترة التي امتدت عدة سنوات، تابعًا للعهد ولزعمائه ..).
وقد صدق الأسعد فيما قالعه وردده مرات ومرات، ولكن هل كان الصدر نشازًا في تاريخ الشيعة الحديث؟!.
لا لم يكن نشازًا فالرئيس كامل الأسعد من المتعاونين مع الموازنة، وكذلك كان أبو أحمد الأسعد، وصبري حمادة في الشمال، وكاظم الخليل في الجنوب وكذلك كان غيرهم من زعماء ونواب الرافضة في لبنان.
ومن يقرأ التاريخ يدرك عمق الروابط بين الرافضة والموازنة، وبشكل أخص في الحروب الصليبية، وفي ظلال استعمار فرنسا لبلاد الشام.
وتكشفت لكل ذي بصيرة علاقات المحامي نبيه بري – تلميذ الصدر – مع الموازنة، ويقوم النظام النصيري في دمشق نيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بتوزيع الأدوار بين الشيعة والموازنة والدروز، وسوف يأتينا بالأخبار من لم نزود عن أبعاد المؤامرة وفضائح حركة أمل.
3- جنوب بيروت للشيعة أم للسنة؟!(30/109)
قال الأسعد: (إن الصدر وجه نداءً من بيروت داعيًا أهالي الجنوب إلى احتلال القصور في العاصمة.. والعجيب أنه في ذلك اليوم بالذات، أخذ التلفزيون، الذي هو مؤسسة حكومية رسمية، على عاتقه إذاعة نداء الإمام إلى التظاهر).
ونحن نختلف مع الأسعد في تفسيره لنداء الصدر، وإن كنا نشاركه في تعجبه من موقف السلطة اللبنانية.
والذي حدث أن عددًا كبيرًا جدًا من شيعة الجنوب قد احتلوا المباني والقصور .. ولكن في مناطق أهل السنة وفي ضواحي بيروت الجنوبية بالذات..
ومما ينبغي التأكيد عليه أن بيروت من مدن أهل السنة المشهورة، وغير السنة دخلاء على المدينة، وازدادت هجرة الشيعة إلى بيروت في الستينات، وسكنوا في ضواحي العاصمة الجنوبية بعدما نشأت فيها مؤسسات صناعية جديدة، وكان العمال الفلسطينيون قد سكنوا هذه المناطق بعد عام 1948م، كما سكنها العمال السوريون، وأطلق عليها فيما بعد (حزام البؤدس). وتتألف الضاحية الجنوبية من المناطق التالية:
الشياح، الغبيري، حارة حريك، بئر العبد، برج البراجنة، حي السلم، الليلكي، صحراء، الشويفات، الأوزاعي.
ويغلب على ظني أن استيطان الشيعة في بيروت في الستينات وقبها كان عفويًا، أما بعد الستينات فكانت أهدافهم واضحة، وكان موسى الصدر مهندس هذه الخطة ومن ورائه النهج النصراني، ومن الأدلة على ذلك أن العمال والموظفين القادمين من الجنوب والبقاع والشمال كانوا يبنون منازلهم في جنوب بيروت على أملاك الغير، وكان ذلك يحدث تحت سمع السلطة وبصرها، بل وكان أصحاب الأراضي من أهل السنة يطالبون الأجهزة المسئولة بوضع حدٍ لهذا العبث، ورغم ذلك فالسلطة تترك قطاع الطرق يفعلون ما يشاءون .. ولو كان هذا الذي يحدث في بيروت الشرقية أو في أي منطقة من مناطق النصارى لما صمت قادة الموازنة لحظة واحدة.(30/110)
وتضاعفت هجرة الشيعة خلال الحرب اللبنانية أضعافًا مضاعفة، واحتلوا المنازل والشقق والقصور كما أمرهم إمامهم، والسلطة تحرضهم وتشجعهم على مثل هذه الأفعال الشنيعة.
وهكذا قامت أحياء في الضاحية الجنوبية وكأنها أحياء متقطعة من بعلبك، أو أحياء أخرى وكأنها متقطعة من صور أو النبطية، وفي هذا الحي يقطن نبيه بري، وفي ذاك الحي حسين الحسيني رئيس المجلس النيابي وأمين عام منظمة أمل سابقًا، وفي الحي الثالث عبد الأمير قبلان المفتي الجعفري الممتاز.
ويضاف إلى ما سبق ذكره أن المغتربين الشيعة الذين يعملون في الخليج أو إفريقيا أو الأمريكتين راحوا يشترون الأراضي في بيروت، ويقيمون المؤسسات والمشاريع الاقتصادية في العاصمة، وأصبحوا من أصحاب الفاعليات الاقتصادية فيها.
وعندما سأل الصحفيون نبيه بري عن الأسباب التي دفعته إلى احتلال بيروت الغربية أجاب: (بيروت الغربية عاصمة لبنان وملك لجميع المواطنين وليست حكرًا على أهل السنة).
ومن المؤسف بعد هذا كله أن تصور أجهزة الإعلام المحلية والعالمية تصور جنوبي بيروت وكأنه ملك الشيعة منذ بضعة قرون، وتصور الفلسطينيين وكأنهم قطاع طرق مع أنهم أقدم من الشيعة في هذه الأحياء والمخيمات ولعبوا دورًا مهمًا في تطور مدينة بيروت بل في تطور لبنان كله.
حقاً إن الزحف الشيعي على بيروت يذكرني بالزحف النصيري على طرابلس والساحل السوري وحمص ودمشق، كما يذكرني بابتلاع إيران لشرقي الخليج العربي وابتلاع اليهود لفلسطين، والنصارى للأندلس وما أكثر المصائب والمآسي في عالمنا الإسلامي.
4- ما لم يصرح به الأسعد:
سئل الأسعد عن مدى قوة التيار الذي يمثله الصدر في لبنان. فأجاب: (.. إن قوة الصدر مصدرها المال الذي يبعث به المهاجرون إلى المجلس الشيعي الأعلى، والمعونة المالية التي تقدمها الدولة إلى المجلس)..(30/111)
وليس فيما قاله الأسعد جديد، وأنشطة الصدر ونفقات مؤسساته كانت تتجاوز مثل هذه المساعدات.. غير أن الأسعد يقترب من الحقيقة بعض الشيء في قوله: (إن هناك أكثر من علامة استفهام تدور حول الخطة التي ينفذها السيد موسى الصدر والأشخاص الذين يؤيدونه هنا وفي الخارج، وأبعاد هذه الخطة في لبنان والخارج). اهـ.
ولا أعتقد أن الأسعد لا يعلم أبعاد الخطة التي ينفذها الصدر ولا المصادر التي تموله فليبيا نشرت قليلاً عن هذه المساعدات [انظر كتابنا الأول ص454]، ونشرت الصحف بعد اختفاء الصدر شيئًا عن مقدار المساعدات التي قدمتها ليبيا لشيعة لبنان، ناهيكم عن مساعدات منظمة التحرير، وقادة الدولة اللبنانية من الموازنة، وقد نشرت صحف لبنان بعض أخبار هذه المساعدات عندما قام الصدر بتسليم حي النبعة للكتائب.
وقصارى القول لم يقل الأسعد كل ما عنده من معلومات عن الصدر رغم أهمية ما أفضى به.
المبحث الثاني
نظرات في مواقف قادة أمل وتصوراتهم
1- حركة أمل تدعو إلى العلمانية:
قال المحامي نبيه بري: (إن حركة أمل ليست حركة دينية، وميثاق الحركة الذي تمت صياغته في عام 1975م، من قبل 180 مثقفًا لبنانيًا، معظمهم من المسيحيين، يدعو إلى إلغاء النظام الطائفي في البلاد وإلى المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمييز.
ومؤسس الحركة الإمام موسى الصدر، لم يكف عن تكرار أنه تم تأسيس حركته للدفاع عن الطبقات المحرومة).
ووجهت الصحيفة إلى نبيه بري السؤال التالي: لكن بتأييدك لإقامة نظام حكم متحرر من الطابع الطائفي، ألا تخاطر بمواجهة ثورة من قبل زعمائكم الدينيين؟!(30/112)
فأجاب: (لا لأنهم لا يستطيعون أن يدعوا أنهم ملكيون أكثر من الملك، أو أنهم مسلمون أكثر من الإمام موسى الصدر .. وعندما ندعو إلى العلمانية فنحن نراعي حساسية المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وهذا لا يعني على سبيل المثال أننا سنفرض الزواج المدني.. ويجب أن يصدر قانون لمنح فرصة للزواج الديني أيضًا لجميع المواطنين..)(1).
وصدق بري فيما نسبه إلى موسى الصدر، قال الأخير في المهرجان الكبير الذي عقد في الأسبوع الأخير من شهر مارس 1975م: (لأننا نريد أن يبقى لبنان طنًا لجميع أبنائه، ولأننا أقسمنا اليمين أربع مرات بألا نهدأ طالما يوجد في لبنان محروم، شيعيًا كان أم غير شيعي، تصرفنا بحكمة ومرونة وحزم ودقة، وما قطعنا طلب الحوار لحظة واحدة ولا سحبنا يد التعاون ولا أغمضنا عين الواقعية خلال هذه المرحلة)(2).
وقد عدت إلى ميثاق أمل الذي وضعه الصدر وغيره من المثقفين فوجدت أنه ورد التأكيد فيه على أن حركة أمل ليست طائفية، ولا تهدف إلا تحقيق مكاسب فئوية، بل هي حركة المحرومين جميعًا .. وجاء الميثاق خاليًا من المعاني الإسلامية التي تدعو إلى وجوب تحكيم شريعة الله في لبنان.
وفي قوله بري [وميثاق الحركة الذي تمت صياغته في عام 1975م، من قبل 180 مثقفًا لبنانيًا، معظمهم من المسيحيين] دليل على أن نصارى لبنان كان لهم دور بارز في تأسيس حركة أمل كما كان لهم دور في تأسيس المجلس الشيعي الأعلى.
ومن جهة أخرى ففي صفوف أمل عناصر كثيرة ليست متدينة وعلى رأسهم أمينها العام نبيه بري، ورغم ذلك فحركة أمل طائفية شيعية، وهي ليست لجميع المحرومين كما زعم الصدر وأعوانه من قادة الحركة .. والسؤال الذي يفرض نفسه: كيف نجمع بين طائفية الحركة ووجود بعض العلمانيين في قيادتها؟!.
وقد أجبنا على هذا السؤال في موضعين من كتابنا الأول:
__________
(1) عن صحيفة القبس الكويتية تاريخ 23 مارس 1984م.
(2) راجع الصحف اللبنانية التي صدرت في هذا التاريخ.(30/113)
الموضع الأول في المبحث الأول من الباب الثالث (أصول لابد من معرفتها).
والموضع الثاني عند حديثي عن بازركان، وقطب زاده، وبني صدر.
وفي نهاية هذا الفصل سأعود إلى الجواب على هذا السؤال بشيء من الإيجاز إن شاء الله.
2- أمل والقضية الفلسطينية:
جاء في ميثاق أمل – أي دستور الحركة -: (6- فلسطين، الأرض المقدسة التي تعرضت، ولما تزل، لكل أنواع الظلم، هي في قلب حركتنا وعقلها، وأن السعي إلى تحريرها أول واجباتنا وأن الوقوف إلى جانب شعبها وصون مقاومته والتلاحم معها شرف الحركة وإيمانها، خصوصًا أن الصهيونية تشكل الخطر الفعلي والمستقبلي على لبنان، وعلى القيم التي نؤمن بها وعلى الإنسانية جمعاءٍ، وأنها ترى في لبنان – بتعايش الطوائف فيه – تحديًا دائمًا لها ومنافسًا قويًا لكيانها)(1).
وفي السادس من سبتمبر 1975م حدد الصدر أهداف حمل السلاح في قوله الذي نشرته الصحف: (إن على أبناء الطائفة أن يحملوا السلاح في مواجهة ثلاثة احتمالات هي: تصفية المقاومة، التقسيم، واحتلال الجنوب).
__________
(1) صدر الميثاق في أوائل عام 1975م، وجميع الناس في لبنان وغيرها كانوا يعلمون أهداف الكتائب من إثارة الفتن في لبنان، ومن جهة أخرى فالكتائب ومن ورائهم نصارى لبنان هم سبب الحرمان الذي ينادي الصدر بوضع حدٍ له فأين هذا التعايش الطائفي الذي يتحدث عنه الصدر؟!
ومن جهة ثالثة لا أدري كيف وثقت قيادة منظمة التحرير بأقوال الصدر وهي تعلم قوة دعم النصارى له، والنصارى كانوا يطالبون بخروج قوات المنظمة من لبنان؟!
ولماذا لا يصرح زعيم أمل بهذه القيم التي يؤمن بها فتراه يقول مرة (إن تراثنا العظيم في لبنان وفي الشرق كله) وأخرى ينطلق من الإيمان بالله وبالإنسان .. إنها شعارات غامضة كغموض الرجل متناقضة كتناقضه.(30/114)
وبعد مرور بضعة أشهر على هذا التصريح كان الصدر يهاجم منظمة التحرير ويتهمها بالعمل على قلب النظم العربية الحاكمة وفي طليعتها النظام اللبناني، ودعا الأنظمة العربية إلى مواجهة ما أسماه بالخطر الفلسطيني .. ولم يقف عند هذا الحد إنما تجاوزه بكل لؤم وخبث وناصر النظام النصيري ونصارى لبنان ضد المسلمين في لبنان(1).
وبعد قليل من الزمن تناسى الفلسطينيون غدر (أمل) وخيانتها، واعتبروا اختفاء الصدر عام 1978م مؤامرة إسرائيلية ضد زعيم وطني ناصر القضية الفلسطينية .. وراح قادة أمل يضللون الفلسطينيين من جديد، سئل النائب حسين الحسيني أمين عام حركة أمل في 18 فبراير 1980م عن علاقات أمل بمنظمة التحرير فأجاب: (الذين ينظرون إلى أوضاع الجنوب من بعيد، يراهنون على صدام جنوبي – فلسطيني لعدم توفر المعلومات الدقيقة والعميقة عن حقيقة الوضع، فالجنوبي قد أعطى القضية الفلسطينية كل ما عنده، حتى كاد أن يكون العربي الوحيد في كل هذا العالم العربي، وعطاء الجنوبي ينطلق من قناعته وتبنيه للقضية الفلسطينية سواء أكان هناك شعب فلسطيني ومقاومة فلسطينية أولم يكن فالجنوبي يعتقد بوجوب تحرير الأرض الفلسطينية المقدسة كما يعتقد بحتمية زوال إسرائيل، وهذا ما أكدته حركة أمل مرارًا بل أكثر من ذلك فإنه إذا كان في المقاومة الفلسطينية من يعتقد بإمكانية قيان وطن قومي فلسطيني على جزء من أرض فلسطين وهذا ما تسعى المحافل الدولية إليه، فإننا لا نعتقد بصواب هذا الرأي لأن أي صلح مع إسرائيل ومهما تعددت الجهات التي ترضى به، ليس من شأنه أن يبدل وصف الوجود الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية وطالما هناك استحالة تبديل الوصف فإن إسرائيل زائلة حتمًا، ولا يلزم العرب المسلمين أي توقيع مهما كانت أهمية الجهة التي توقع)(2).
__________
(1) انظر وجاء دور المجوس ص412.
(2) صحيفة الوطن 18 فبراير 1980م.(30/115)
وعندما أصبح المحامي نبيه بري أمينًا عامًا لحركة أمل ظن الفلسطينيون أنهم حققوا انتصارًا رائعًا في لبنان لأن بري – على حد زعمهم – وطني قومي تقدمي، وكتبوا عشرات المقالات في الثناء عليه والإشادة به، وراح بري من جهته يطلق التصريحات الثورية التي تندد بإسرائيل وعملائها في لبنان وتدعو إلى عمل وطني موحد.
سئل بري عن موقفه من القضية الفلسطينية فأجاب بما يلي: (جاء في الميثاق الأساسي لحركة أمل: على العنصر الذي سينضم لحركة أمل، أن يحفظ الشعب الفلسطيني، وأن يقدس مقاومة الشعب الفلسطيني، وأن يعتبر تحرير الأرض الفلسطينية واجبًا دينيًا وطنيًا عليه)(1).
ومما يجدر ذكره أن هذا التصريح جاء بعد معركة جرت بين حركة أمل ومنظمة فتح وسقط فيها عدد من القتلى والجرحى.
وعند الاجتياح الإسرائيلي للبنان صنعت منظمة التحرير من بري بطلاً، وكان في طليعة الذين ودعوا ياسر عرفات وزملائه عند مغادرتهم بيروت.
وبعد خروج المنظمة من بيروت بدأ نبيه بري يُعلن عن مواقف أخرى مناقضة للأولى ولم يذكر الأسباب التي دعته إلى تغيير مواقفه من القضية الفلسطينية ومن أصدقائه في منظمة التحرير ومن ذلك قوله:
(إن على القضية الفلسطينية تفهم الواقع الجديد وهم مضطرون اليوم لقبول كل ما يؤدي إلى التصفية النهائية لقضيتهم)(2).
ثم توالت تصريحات بري: فتحرير فلسطين قضية عربية وليست قضية لبنانية، ولا يجوز استخدام الجنوب لهذا الغرض، ومنظمة أمل مسئولة عن حفظ للأمن في الجنوب.
ولا يجوز تسلل الفلسطينيين المقاتلين إلى بيروت أو الجنوب لأنهم من أنصار ياسر عرفات العميل وداعية الاستسلام للعدو الصهيوني، وأصبح عرفات ذريعة لمنع كل فلسطيني مقاتل من العودة إلى بيروت والجنوب ولو كان من المنتسبين لما يسمى بجبهة الإنقاذ.
__________
(1) القبس بتاريخ 16 أبريل 1980م.
(2) مجلة الشراع 26 يوليو 1982م.(30/116)
ومن شاء من الفلسطينيين زيارة أهله وذويه في مخيمات بيروت عليه أن لا يحمل أسلحة، وأن يرتدي ملابس مدنية، ويحصل على تصريح من أمل يسمح له بموجبه في البقاء في العاصمة مدة تتراوح بين يومين وشهر .. ورغم كل القيود التي فرضتها أمل على الفلسطينيين في الجنوب فقد تم منع كبار قادة جبهة الإنقاذ من دخول بيروت أمثال (أبي صالح)، و(أبي موسى) وأحمد جبريل(1).
وكان العدوان على المخيمات وما رافقه من حقد ووحشية آخر مواقف بري وحركته التي تحدثنا عنا في هذا الكتاب.
3- التعاون اليهودي الشيعي:
تعاون الشيعة مع العدو الصهيوني في جنوب لبنان حقيقة ثابتة وليس أسطورة: اخترعها خصوم الرافضة.
لقد تحدثت الصحف ووكالات الأنباء المحلية والعالمية عن هذا التعاون، ولمسه المسلمون والنصارى في الجنوب لمس اليد، واعترف به الطوفان: الشيعي واليهودي. اعترف به اليهود عبر أجهزة الإعلام، واعترف به الشيعة من خلال تبادل الاتهامات فيما بينهم.
فزعيم منظمة أمل الإسلامية حسين الموسوي اتهم حركة أمل – بري – بالتعاون مع العدو الصهيوني، في خطاب ألقاه في يوم القدس في بعلبك يوم 19 يوليو 1982م(2).
وسئل نبيه بري عن الجيش الشيعي الذي أنشأه اليهود في الجنوب فأجاب: (محاولات إنشاء جيوش .. وخاصة [الجيش الشيعي] الذي هو أبعد ما يكون عن الإسلام والشيعة تحت ذريعة وجود القوات اللبنانية).
وسئل عن موقف حركته من هذا الجيش فأجاب: (سنقاوم ما يسمى بالجيش الشيعي وسنقاوم كل محاولة لإقامة كانتونات طائفية أو دويلات)(3).
__________
(1) جريدة القبس الكويتية بتاريخ 20 أكتوبر 1983م.
(2) صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 17 مارس 1984م الترجمة العربية.
(3) أدلى بهذا التصريح لصحيفة (ليبراسيون) الفرنسية في 30 يونيو 1982م.(30/117)
والصحيفة التي أجرت لقاءً مع بري كانت تعلم بأن الجيش الشيعي الجنوبي فصيلة من فصائل أمل كما صرح بذلك حسين الموسوي، وما كانت الصحيفة تنتظر من بري الاعتراف بتعاون حركته مع العدو الصهيوني، ولكنها أرادت تسليط الأضواء على المشكلة من كافة جوانبها .. وحسبنا هنا أن نبيه بري وحسين الموسوي لم ينكرا تعاون العدو الصهيوني مع الشيعة في الجنوب .. وإذا كان هذا التعاون قديمًا فسوف نذكر فيما يلي شواهد جرت بعد الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982م.
- نشرت مجلة (الأيكونومست) البريطانية في عددها الصادر في نهاية الشهر السابع من عام 1982م أن 2000 مقاتل من عناصر أمل الشيعية انضمت من قوات مليشيا سعد حداد، وتوقعت المجلة أن ينضم عدد أكبر منهم إلى الحرس الوطني) الذي ترعاه إسرائيل في جنوب لبنان.
- وقالت وكالة رويترز في تقرير لها من النبطية في 1 يوليو 1982م أن القوات الصهيونية.، التي احتلت البلدة سمحت لمنظمة أمل بأن تحتفظ المليشيات الخاصة التابعة لها، وبحمل جميع ما لديها من أسلحة.
وصرح أحد قادة مليشيا منظمة أمل ويدعى حسن مصطفى أن هذه الأسلحة ستستخدم في الدفاع عنا ضد الفلسطينيين.
وبعد أن أعلنت إسرائيل عن عزمها على الانسحاب من لبنان ضاعفت منظمة أمل من مطاردتها للقوات الفلسطينية في بيروت الغربية والجنوبية وفي جنوب لبنان، وكانت ادعاءات إسرائيل ضد منظمة التحرير تشبه ادعاءات أمل فهل تتم مثل هذه الأمور بشكل عفوي بين الطرفين؟!.
- تجيبنا على هذا السؤال صحيفة (الجروزاليم بوست) في عددها الصادر بتاريخ 23 مايو 1985م: (إنه لا ينبغي تجاهل تلاقي مصالح أمل وإسرائيل التي تقوم على أساس الرغبة المشتركة في الحفاظ على منطقة جنوب لبنان وجعلها منطقة آمنة خالية من أي هجمات ضد إسرائيل.
إن إسرائيل ترددت حتى الآن في تسليم أمل مهمة الحفاظ على الأمن والقانون على الحدود بين فلسطين ولبنان، وإن الوقت حان لأن تعهد إسرائيل إلى أمل بهذه المهمة).(30/118)
كما يجيبنا على هذا السؤال رئيس الاستخبارات العسكرية اليهودية – أهود براك – حيث يقول: (إنه على ثقة تامة من أن [أمل] ستكون الجبهة الوحيدة المهيمنة في منطقة الجنوب اللبناني، وأنها ستمنع رجال المنظمات والقوى الوطنية اللبنانية من التواجد في الجنوب والعمل ضد الأهداف الإسرائيلية)(1).
- ويجيبنا على السؤال أيضًا وزير الخارجية السويدي [بيير أوبيرت] الذي أكد في جنيف في24 يونيو 1985م أنه نقل رسالة من رئيس حركة أمل نبيه بري إلى القيادة الإسرائيلية.
ونسبت وكالة الأنباء الكويتية [لأوبيرت] قوله للصحفيين: إن تبادل الرسائل بين رئيس حركة أمل والقادة الإسرائيليين جرى يوم الجمعة الماضي – أي في 21 يونيو – إلا أنه رفض إعطاء تفاصيل أخرى(2).
- ونختم حديثنا عن التعاون بين العدو الصهيوني وحركة أمل بنقل فقرات من المقابلة التي أجرتها مجلة الأسبوع العربي في عددها 24 أكتوبر 1983م مع [حيدر الدايخ] أحد قادة حركة أمل في الجنوب.
قالت المجلة: وصلنا إلى معسكر حيدر الرايخ الذي أقيم عند مدخله حاجز كان يوقف السيارات ويدقق في الهويات، وكانت عناصره ترتدي الثياب العسكرية وتحمل أسلحة [الكلاشنكوف]، بعضهم لم يتجاوز العشرين من عمره، وبعضهم الآخر أطلق لحيته، فأدركت عندئذٍ أن هذه العناصر هي من أفراد الجيش الشيعي وأن إسرائيل هي التي تدربهم خصوصًا عندما شاهدت على بعد أمتار قليلة من المركز الذي نصبت فيه ست خيمات، [فيللا] فخمة يتمركز فيها الإسرائيليون بعد أن اتخذوها مقرًا لهم، وكان أحد الإسرائيليين بين الحين والآخر يرفع منظاره إلى عينيه ويحدق في الوجوه الباردة بفعل الأمطار المتساقطة، وإلى الجنوب معسكرًا آخر تابع للقوات الفرنسية كان أحد أفرادها هو الآخر يراقب بمنظاره جماعة [الدايخ] والإسرائيليين.
__________
(1) وكالات الأبناء في 6 يونيو 1985م.
(2) الوطن الكويتية بتاريخ 25 يونيو 1985م.(30/119)
اقتربنا من حيدر الدايخ، إنه شاب أشقر لم يتجاوز الأربعين من عمره يلبس الثياب العسكرية، ويضع في وسطه المزنر بالرصاص مسدسًا.
ويصف الصحفي [جوزف فرج] ثكنة الجيش الشيعي فيقول: (وفي وسطها رفع العلم اللبناني، بينما كان أحد العناصر يقوم بإصلاح إحدى السيارات العسكرية الموجودة في الثكنة إلى جانب عدد آخر منها، وقد كتب على إحداها قوات كربلاء، وسألنا حيدر عن سبب التسمية فقال: موقعة كربلاء لها مدلولات كثيرة بنظري. هي مأساة الإمام الحسين الذي اشتهر بمحاربة الظلم، ونحن نحارب الظلم، برأيي أن لبنان كله يمر بكربلاء حاليًا، لأن موقف لبنان مثل موقف الحسين بكربلاء، أعداء الإمام كثيرين والأصدقاء تخلوا عنه، هكذا لبنان، لذلك نسترشد بالإمام الحسين ونمشي على خطاه.
وسأل الصحفي خليل عيساوي – أحد عساكر الدايخ – عن سبب حمله السلاح، فأجاب: (إن سبب حملي السلاح يعود إلى المخاطر التي تتعرض لها الطائفة الشيعية وإلى التفتت الذي قد يعترضها في المستقبل).
وسأل الصحفي قائد الثكنة [حيدر الدايخ]: هل تعتبر أن تسميتكم الجيش الشيعي تعود إلى أن عناصركم هي من الطائفة الشيعية؟!.
الدايخ: نحن في منطقة شيعية، وجميع عناصري (أولاد الجنوب اللبناني) هم من الطائفة الشيعية، لكن هذا لا يعني أننا طائفيون، بل ليس لدينا أي بعد أو تفكير طائفي، يا أخي، إذا كنا شيعة، ماذا نفعل هل نغير هويتنا، هل نغير طائفتنا كي نرضي بعض الناس؟ نحن لا يمكن أن نتخلى عن هذه الهوية ولا يمكن أن ننكر بأننا إسلام.
الأسبوع العربي: ما رأيك بالتعليقات السياسية التي صدرت وتندد بإنشاء الجيش الشيعي في الجنوب؟!.(30/120)
الدايخ: أولاً نحن (مش قد السياسيين) ولا نعمل في السياسة، ولا نهتم بما يقال عنا من السياسيين، والتاريخ اللبناني سيحاسب وأعتقد أن حساب هؤلاء السياسيين سيكون عسيرًا لأنهم هم الذين أوصلونا إلى هذه الحالة المتردية، وليس الشعب اللبناني، واتفاقية القاهرة التي بموجبها منح الفلسطينيون أرضًا لبنانية من وقعها؟! إنهم هؤلاء السياسيون وليس أولاد الجنوب والشمال أو أولاد بيروت.
إذن لنترك التاريخ يحاسب الناس التي أخطأت بحق لبنان.
ويؤكد الدايخ مرة أخرى فيقول: (كل الناس تعلم والحكومة أيضًا بأننا نحمل السلاح منذ بداية الأحداث وخضنا المعارك ضد الإرهاب الفلسطيني وضد التجاوزات التي كانت تحصل في الجنوب).
ويثني على إسرائيل فيقول: (.. كنا نحمل السلاح قبل دخول إسرائيل إلى الجنوب، ومع ذلك فإنها فتحت لنا يدها وأحبت أن تساعدنا، فقامت باقتلاع الإرهاب الفلسطيني من الجنوب وغيره ولن نستطيع أن نرد لها الجميل ولن نطلب منها أي شيء لكي لا نكون عبئًا عليها).
وعن الرائد سعد حداد قال: (أحب أن أقول بأن الرائد سعد حداد هو إنسان لبناني يحمل الهوية اللبنانية ونكن له كل احترام وتقدير [ويا ريت كل الرواد في الجيش اللبناني مثل الرائد حداد] لأنهم لو عملوا عمل حداد لما كان بقى غريب على أرض لبنان. وأتساءل هل يعتبر عميلاً الإنسان الذي يحمي بلده، إذا كان هذا هو مفهوم العمالة فإنني أول عميل من أجل حماية وطني، العمالة تكون لأولئك الذين باعوا وطنهم للغرباء).
الأسبوع العربي: كيف تصف العلاقة بينكم وبين حركة أمل الشيعية؟!(30/121)
الدايخ: أنا كشيعي، أؤمن بأن حركة أمل هي الممثل الوحيد للطائفة الشيعية، وأؤمن بأن توجهات حركة أمل ليست توجهات طائفية. لأن الإمام موسى الصدر الذي أنشأها كان ينصر المحرومين، جميع المحرومين، وعلى أية حال، حركة أمل ليست حاجة إلى شهادة حسن سلوك من حيدر الدايخ أو غيره، إنما كشيعي أحاول أن أعبر عن رأيي في حركة أمل التي لها ظروفها في أن تقف المواقف التي تقفها حاليًا، ولكن عتبي على بعض المسئولين فيها الذين يصفوننا بأننا أناس عاطلون عن العمل، هوايتنا حمل السلاح والتعاون مع إسرائيل وخلق فتنة في الجنوب، وإنني آسف أن يكونوا نسوا ما فعله هؤلاء الشبان وحيدر الدايخ بالذات من أجل حركة (أمل) وهذا ليس بمنة لأننا أولاد طائفة واحدة وعلينا أن نساعد بعضنا البعض ونحترم بعضنا البعض، والأيام ستعطي كل إنسان حقه، علمًا بأن كل شبابي هم من حركة (أمل)، يجب أن تتوقف هذه المهاترات، ساعة يقولون عنا أننا مرتزقة أو منشقون عن (أمل) أو جيش شيعي، المهم قناعتنا التي لن تتغير نحن أولاد الجنوب الذين يدافعون عن وطنهم وحياتهم وأرزاقهم وإيماننا بأرضنا ووطننا ورئيسنا.
الأسبوع العربي: ما رأيك كانتون شيعي في الجنوب؟!
الدايخ: نحن كأولاد الجنوب لا نرضى عن الدولة بديلاً وشعارنا رفع الظلم والحرمان عن المواطنين، ونرفض أي كانتون على الأرض اللبنانية، إن كان شيعيًا أو درزيًا أو مارونيًا. انتهت الأقوال التي اخترناها من المقابلة الصحفية مع قائد الجيش الشيعي حيدر الدايخ.
وأول ما يلفت النظر ما زعمه (الدايخ) عن إقتدائه بالحسين ( الذي اشتهر بمحاربة الظلم .. ثم يشن هجومًا شديدًا على الفلسطينيين في عدة مواضع من المقابلة في الوقت نفسه الذي يطنب في الثناء على سعد حداد وعلى القوات الإسرائيلية .. إن الحسين ( بريء من هؤلاء الذين يحادون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادًا.(30/122)
نعم إن ابن بنت رسول الله ( بريء من هؤلاء العملاء المجرمين الذين يوالون أعداء الله اليهود.
ومن جهة أخرى فأقوال الدايخ لا تتعارض مع تصريحات بري وغيره من قادة أمل، فهو يزعم أن جيشه ليس شيعيًا، وأنهم ليسوا من دعاة الطائفية والكانتونات.. ويسعون من أجل عودة الشرعية وسعادة المحرومين والبائسين.
وعندما سئل المجرم دايخ عن أعداد أفراده أجاب بأن عدد النظاميين سيصبح 500 بعد انتهاء مدة الدورة .. وقال أيضًا: الجنوب كله سيهب إلى مناصرتنا إذا تعرضنا لأي مشكلة أمنية.
ومن جهة ثالثة فيقول الدايخ بكل وضوح وصراحة: إن كل شبابي هم من حركة أمل.
* * *
وإذن: لقد ثبت لكل منصف بعد هذه الشواهد التي عرضتها أن شيعة الجنوب وحركة أمل بالذات متورطون مع العدو الصهيوني، وليس في ذلك غرابة لأن تاريخهم يعيد نفسه.
4- أضواء على شخصية نبيه بري:
أصبح نبيه بري – فجأة – من أبرز الذين يصنعون القرار في لبنان المنكوب، واستحوذ أمين عام حركة أمل على اهتمام أجهزة الإعلام المحلية والعالمية.
فكيف أصبح بري زعيمًا لشيعة لبنان مع أنه ليس عالمًا كبيرًا من علمائهم ولا آية من آياتهم الصغرى أو الكبرى، كما أنه ليس نائبًا من نواب الشيعة أو ابن عائلة مشهورة، وفوق هذا وذاك فليس بري من القادة العسكريين الذين اكتووا بنار الحرب الطائفية في لبنان. لقد ولد في (سيراليون)، وعاش معظم سني عمره بعد تخرجه من الجامعة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن (ديترويت) جاء أو جيء به ليكون الرجل الأول في لبنان.(30/123)
لقد اطلعت على معظم ما كتبته الصحف ووكالات الأنباء عن شخصية نبيه بري، فزادني هذا الإطلاع شكًا به، وارتيابًا من الدور الذي يؤديه أن الدور المطلوب منه أن ينفذه، وكان الصحفيون المطلعون على كثير من خفايا الأمور يكتبون عن سيرة الرجل لكنهم يعترفون بأن شيئًا من الغموض يكتنف حياته .. وسوف أنقل فيما يلي تقريرًا كتبه الصحفي إبراهيم البرجاوي في مجلة التضامن الصادرة في لندن، وقد وجدت هذا التقرير من أوفى وأدق ما كتب عن بري.
يقول البرجاوي: (.. بري كغيره من شباب الشيعة بدأ في فترة شبابه الأولى يتطلع نحو الأحزاب العقائدية اليسارية التي استطاعت في الخمسينات والستينات استقطاب الطائفة الشيعية لما رفعت من شعارات تحقق تطلعات هذه الطائفة التي عاشت شظف الحرمان من التعليم والمراكز العليا في الدولة وحصر أبنائها في الأعمال اليدوية المضنية في المدن كعمال أو في القرى كمزارعين لأرض قاسية جرداء على الرغم من توافر خيرات المياه المجاورة التي لا تصلها إلا بمشاريع ري لم يرصد لها حكام البلاد الأموال اللازمة.
ومن قريته [تبنين] جاء نبيه بري مع عائلته إلى بيروت وتلقى في مدارسها العلم، وفي الصفوف الثانوية شده الأستاذ [إنعام الجندي] معلم اللغة العربية كما شد كثيرين غيره إلى مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي فانضوى تحت لوائه، وعرف فيه زملاءه الحزبيون منذ كان مناصرًا للحزب حماسته وشجاعته واقتحامه حلقات الحوار ما بين البعثيين والشيوعيين، أو البعثيين والسورييين القوميين والاجتماعيين، أو البعثيين وحزب التحرير الإسلامي، أو البعثيين وحركة القوميين العرب، التي كانت تصدر نشرة [الثأر] ويتزعمها جورج حبش، ووديع حداد ومحسن إبراهيم، ومحمد كشلى. وهذه الأحزاب كانت هي الوحيدة التي تستقطب الشبان المسلمين في الخمسينات والستينات.(30/124)
وكما في المناقشة، كان بري أيضًا في التظاهرة دائمًا في المقدمة يحب المواجهة ويتنطح للواجهة ويعشق الخطابة وهو فيها مميز وإن كان ذلك على حساب لغة سيبوبه. وفسر ذلك زملاءه ورفاقه بالحماسة.
وعلى هذا الأساس دعموه وعاضدوه ورشحوه رئيسًَا لاتحاد الطلاب الجامعيين ضد جميع ممثلي الأحزاب وذلك بعدما استطاع أن يفوز برئاسة لجنة طلاب الحقوق في الجامعة، وكان انتصاره انتصارًا للبعث والخط القومي إجمالاً ونكسة لليساريين واليمنيين ومنهم الشيوعيون والكتائبيون.
تخرج نبيه بري محاميًا وانكفأت أخباره وتردد أن حماسه قل بعدما واجه الحياة العملية مما أدى إلى ابتعاده عن النشاطات الحزبية والسياسية ثم قيل أنه سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبالتحديد إلى [ديترويت]، حيث تنزل جالية شيعية لبنانية كبيرة [حوالي 70 ألفًا] تعمل في شركات صناعة السيارات وهناك تعرف إلى فتاة لبنانية شيعية كانت قد حصلت على الجنسية الأمريكية بحكم طول إقامة عائلتها الثرية في البلاد وتزوج منها وأنجب ثلاثة أولاد، وبفعل هذا الزواج استطاع المحامي الشاب تكوين ثروة لا بأس بها يشاع حسب مصادر صحافية أمريكية رددتها مجلة [النهار العربي والدولي] اللبنانية أنها مكونة من بعض المحطات لبيع البنزين.(30/125)
ولما ترسخت زعامة بري على [أمل] وأصبح بحكمها أحد أعمدة السياسيين في لبنان، اضطر إلى تغيير إقامته ونقلها إلى ببيروت، وخالفته زوجته في ذلك فطلقها، ثم تزوج كريمة صاحب [دار الآداب للنشر] وهي من عائلة عاصي وأنجب أول أولاده منها بنتًا عمد إلى تسميتها [ميس] نسبة إلى بلدة [ميس الجبل] المجاورة لمسقط رأسه في بلدة [تنين]. ولكن نبيه بري كان يتردد دائمًا على بيروت، وعرف في وقت ما أنه كان مقربًُا من الرئيس كامل الأسعد الزعيم الشيعي الجنوبي المعروف نجل الزعيم الإقطاعي أحمد الأسعد، ثم كانت علاقة أعجب بالإمام موسى الصدر وقد تعود بري على مناداته بعبارة [مولانا] حتى أصبح ترديد هذه العبارة أثناء حديث بري مع أي كان عادة يأخذها عليه بعض منتقديه من أصدقائه.
ولاقى هذا الإعجاب عند الإمام الصدر تجاوبًا لما يتحلى به هذا الشاب من إقدام وحماسة وجرأة قد تصل أحيانًا إلى حد الوقاحة بالنسبة إلى خصومه، وقرب الإمام بري منه وضمه إلى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ثم إلى حركة (أمل)، وأصبح بري كظل الإمام لا يفارقه أبدًا.
وفي الحركة استطاع أن يكوكب حوله شبانًا مراهقين يشاركونه حماسته، وأعجبوا بقوة شخصيته.
ولاحظ أثرياء الشيعة من المغتربين هذه الصفات القيادية لدى المحامي الشاب فتقربوا منه، وكثرت دعواتهم له لزيارتهم في بلدان الاغتراب، وأملوا فيه تحقيق مصالحهم ومصالح الطائفة الشيعية والدفاع عنها، وما لاحظه هؤلاء لاحظه أيضًا الحكم اللبناني وأجهزته والمقاومة الفلسطينية وقيادتها والسوريون ومخابراتهم، وبدأ كل طرف من الأطراف الأربعة محاولة جذبه إليه.
وما بين هذه الأطراف الأربعة استطاع نبيه بري إتقان اللعب على الحبال فنال رضاها كلها مما حقق أحلامه في الزعامة والقيادة وهو على قناعة بأنه في ذلك إنما يخدم طائفته وخطه القومي ووطنه(1).
__________
(1) هناك تشابه كبير بين نبيه بري وياسر عرفات من هذا الجانب.(30/126)
وتبوأ بري قيادة [أملٍ] وكل طرف من الأطراف الأربعة يظنه له، وأغدقوا جميعًا عليه السلاح والدعم حتى قويت حركته وزعامته لها، وبدأ خلافه في بادئ الأمر مع الفلسطينيين، فقيل إنه على حق لأن تجاوزات بعضهم لا تحتمل، ولكن الفلسطينيين اتهموه بأنه (عميل) للمكتب الثاني اللبناني [جهاز المخابرات].
وفي الاجتياح الإسرائيلي حارب نبيه بري إسرائيل في بيروت وضواحيها، ولم يهاجمها في الجنوب، ووقف إلى جانب السوريين في كثير من المواقف كما عارضهم في كثير من المواقف(1) حتى أنه رفض الانضمام إلى جبهة الإنقاذ التي ألفتها سوريا من جنبلاط وفرنجية وكرامي لمحاربة الاتفاق مع إسرائيل المعروف باتفاق 17 أيار بل أكثر من ذلك زار الرئيس أمين الجميل في القصر الجمهوري وقال إن المعارضة يجب ألا تكون من خارج الحدود بل من داخل النظام.
وقيل إنه لم يكن معارضًا متحمسًا للاتفاق مع إسرائيل، وقيل أيضًا أنه وسط الرئيس صائب سلام حتى يقنع الرئيس الجميل بإشراكه في الحكم.
__________
(1) لا نوافق الصحفي في هذه المسألة، وكان بري على صلة قوية في هذه الفترة بسوريا وما يسمى بجبهة الإنقاذ.(30/127)
وقيل الكثير عن تقلبات تحالفاته السياسية وهو يفسر ذلك بأنه كان دائمًَا يبحث عن مصلحة طائفته، ثم بلاده، ولكنه كان دائمًا يحفظ خط الرجعة مع الجميع، ولا يقطع شعرة معاوية نهائيًا مع أحد، وتردد أنه على الرغم من علاقاته مع المقاومة الفلسطينية كان أحد القلائل الذين نالوا مساعدة مادية كبيرة من هذه المقاومة عندما ودع ياسر عرفات عند باخرة الترحيل في بيروت، وسياسته هذه بحفظ خط الرجعة كان أكثر ما يحرث علها في نهجه مع سوريا إلى أن وصل ليكون رجل سوريا الأول. وفي هذا استفاد كثيرًا عندما قطف ثمار انتفاضة السادس من شباط والتي لو لم يضرب جيش أمين الجميل الضاحية الجنوبية، لما قامت أو كانت). انتهى ما اخترناه من تقرير إبراهيم البرجاوي الذي نشرته التضامن في عددها الصادر بتاريخ 20 يوليو 1985م.
وكتبت الصحف والمجلات العربية كاملاً مماثًلا لما جاء في هذا التقرير ومن جهة ثانية فإن ممارسات بري على الساحة اللبنانية تؤكد صحة هذه المعلومات، وهو بعد ذلك لا يخفى أنه غير متدين، ومعظم الباطنيين كذلك وعلى كل حال هذه المعلومات – رغم خطورتها – لا تساوي شيئًا أمام المعلومات التي ذكرناها في هذا الفصل – وفي الفصول السابقة – من هذا الكتاب عنه وعنه حركته (أمل).
5- أمل على خطي الكتائب:
سلك قادة (أمل) الطريق نفسه الذي سلكه الكتائبيون قبل بداية الحرب اللبنانية وخلالها عندما سيطروا على مليشيات النصارى كلها بعد عدة معارك مع قوات فرنجي وقوات شمعون، ثم تحالفوا مع إسرائيل من جهة والنظام النصيري في دمشق من جهة أخرى، وسيطروا على مقاليد الأمور في لبنان – على المستوى الرسمي على الأقل -.
وقطع قادة (أمل) مسافة شاسعة في هذا الطريق المحفوف بالمخاطر والمفاجآت، وسوف أذكر على سبيل المثال لا الحصر أشهر المعارك التي خاضتها حركة أمل من أجل السيطرة على الساحة الإسلامية في لبنان:(30/128)
- تم تصفية عشرات الشباب الشيعة لأنهم رفضوا التخلي عن انتماءاتهم الحزبية المناهضة للطائفة.
- اشتبكت حركة أمل مع حزب البعث العربي الاشتراكي المؤيد للعراق في منطقة الشياح في 23 أبريل 1980م وفي 8 مايو 1980م.
وسقط في هذه المعارك عدد كبيرة من القتلى والجرحى، واستخدام الطرفان كافة أنواع الأسلحة.
- في 13 أبريل من عام 1980م اجتاحت قوات أمل الشيعية اثنتا عشرة قرية في الجنوب اللبناني، وخاضت معارك شرسة مع وحدات من الحزب الشيوعي، ووحدة من حزب البعث المؤيد للعراق، ووحدة من الاتحاد الاشتراكي العربي المؤيد لليبيا .. وفي الوقت نفسه هاجمت (أمل) منظمات حزبية يسارية ووطنية في بيروت، وحاولت استدراج الفلسطينيين لكن رئيس المنظمة ياسر عرفات ظل محايدًا، وسقط في هذه المعارك عدد غير قليل من القتلى والجرحى، ووقف المجلس الشيعي الأعلى إلى جانب أمل حيث صدر القتلى والجرحى، ووقف المجلس الشيعي الأعلى إلى جانب أمل حيث صدر بيان باسم نائب رئيس المجلس محمد مهدي شمس الدين يديه في منظمة التحرير والحركات اليسارية والوطنية لأنها اعتدت على طائفته على حد زعمه.
- هاجمت قوات حركة (أمل)، والقوات الدرزية – أي ما يسمى بالحزب التقدمي الاشتراكي – بيروت الغربية في أواخر عام 1983م، وقامت بتصفية تنظيم (المرابطون)، وتنظيم (كمال شاتيلا) الناصري، ونشرت القوات الدرزية والشيعية الذعر في سائر أنحاء بيروت الغربية.
- في عام 1983م وقعت معركة طاحنة بين قوات (أمل) والجيش اللبناني في الضاحية الجنوبية، وقد أسفر عن هذه المعركة خسائر فادحة في الأموال والأرواح، وانضم اللواء السادس الشيعي إلى قوات أمل.
- أما معارك (أمل) مع قوات منظمة التحرير فكانت لا تنقطع في الجنوب وبيروت والبقاع، وقد توجت هذه المعارك بمجزرة المخيمات التي تحدثنا عنها في الفصول السابقة.(30/129)
- خاضت حركة (أمل) معارك متعددة مع القوات الدرزية – الحزب التقدمي الاشتراكي – وكان آخر هذه المعارك (معركة الأعلام) في بيروت الغريبة التي كادت تتحول إلى كارثة لولا الضغوط التي مارستها سوريا على الطرفين.
وقصارى القول: فقد حاربت (أمل) جميع الأحزاب والحركات في لبنان، وأصبحت عدوة للجميع .. أما نبيه بري فقد أصبح زعيمًا لبنانيًا مرموقًا، ولكن هل نجح في السيطرة على الساحة الإسلامية، كما سيطر بشير الجميل على الساحة الصليبية؟!
وهل أصبح الناطق الرسمي باسم جميع المسلمين في لبنان؟!
لقد نجح بري بالتعاون مع سوريا النصيرية ومع الدروز في توجيه أشرس الضربات للمسلمين السنة، ومع ذلك فقد فشل في تحقيق حلمه الذي يحلم به أعني أن يكون ناطقًا رسميًا باسم جميع المسلمين، وحتى دمشق لا تقبل بهذا فهي تتعامل معه ومعه جنبلاط ولا تزال المخيمات وبيروت الغربية والدروز وصيدا سدودًَا في وجه بري وطموحاته، ولا ندري إن كان مصيره سيكون كمصير بشير الجميل؟!
المبحث الثالث
صراع مراكز القوى
أولاً – أطراف الصراع:
الصراع بين مراكز القوى داخل كل طائفة في لبنان ليس مستغربًا، ذلك لأن مصالح السياسيين تختلف باختلاف اتجاهاتهم وأهواءهم ..
والعقلية التي يفكر بها القادة السياسيون تتعارض مع العقلية التي يفكر بها رجال الدين .. وقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة – وبشكل أخص بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982م – عن صراع مراكز القوى داخل الطائفة الشيعية، وسارعت الصحف والمجلات ووكالات الأنباء إلى نشر ما يعرفون عن أسرار هذا الخلافات، كما سارع الصحفيون إلى إجراء مقابلات مع زعماء هذه الأطراف المتصارعة، وتحدث قادة هذه الأطراف عن أسباب خلافاتهم مع الآخرين، وسوف أعرض فيما يلي أهم هذه الأطراف والاتجاهات:
1- حلفاء الموازنة:(30/130)
1- في أوائل تشرين الأول من عام 1983م وقعت معركة بين الجيش اللبناني وحركة (أمل) في الضاحية الجنوبية، وتحدثت صحيفة (العمل) الناطقة باسم حزب الكتائب عن خلاف حاد بين نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ورئيس مجلس قيادة حركة (أمل) المحامي نبيه بري، ونقلت الصحيفة عن رئيس جمعية علماء الدين الشيعية، وعضو الهيئة الشرعية العامة في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ أحمد شوقي الأمين قوله:
(إذا كان موضوع المهجرين موضوعًا ذا أهمية يستحق كل عناية وإعطاءه قدرًا كبيرًا من الاهتمام والدراسة بالنسبة إلى حساسيته وخطورته، فقد أوليناه بالغ توجهنا وكذلك فعل فريق كبير من رجال الحكم والدين والسياسة والقانون، حيث طالبنا مرات عديدة بإعطائه الأولوية ووضع الدراسات الجادة والحلول المناسبة والملائمة لوضع المهجرين الصعب. كما طالبنا بحل هذا الموضوع حلاً سياسيًا وإنسانيًا حتى ولو اقتضى الأمر سن تشريع جديد له.
وأضاف: وبالطبع فإننا لا نرضى أن يكون هذا الموضوع الإنساني والوطني غطاء للمزايدات السياسية ولاتخاذ المواقف التجارية التي تتلاعب بعواطف الناس وأرزاقهم وأرواحهم لجني مكاسب وهمية وصفقات مالية على حساب الوطن والمواطنين.
وحسبنا هذه السنون العديدة التي خسرنا فيها كل شيء. وقد آن الأوان لنا أن نبدأ مسيرة الإنقاذ، مسيرة التعويض عما فات لبناء المواطن والوطن على أسس سليمة ومواقف أخلاقية مسئولة.(30/131)
وقال العلامة الأمين: أما التعرض للجيش من قبل بعض الفئات وضرب المؤسسات الرسمية، فهو موقف غير مسئول ويقتضي شجبه سواء كانت دوافعه وخلفياته مشبوهة، وإنها لكذلك، أو كانت كما يدعي المحرضون مجرد رد فعل، لأنها في كلتا الحالتين تصب في خانة عرقلة الجهود المبذولة لتحرير الوطن وتوحيد الطاقات، ودعم المؤسسة العسكرية كمواقف صلبة لإعادة بناء المؤسسات)(1).
ومن زعماء الشيعية وأحزابهم الذين صدرت عنهم بيانات ضد أمل (نبيه بري) في هذه المناسبة وغيرها من المناسبات:
- رئيس المجلس النيابي السابق وزعيم ما يسمى بالحزب الديموقراطي الاشتراكي (كامل الأسعد) الذي كان يعد من أبرز خصوم ورئيس المجلس الشيعي الأعلى موسى الصدر.
- النائب (كاظم الخليل) أحد أعمدة حزب كميل شمعون، وكان وزيرًا سابقًا وله نفوذ واسع في الجنوب وبشكل أخص في أوساط الشيعة، وطروحاته لا تختلف عن طروحات زعماء الموازنة.
- العائلات الإقطاعية المشهورة أمثال: آل عسيران، وآل الأسعد، وآل الزين، وآل حمادة.
- حركة (أمل) في الجنوب اللبناني، التي أُطلق عليها (الجيش الشيعي) والتي كانت تتعاون مع العدو الصهيوني وجيش سعد حداد، وتتعاطف مع كاظم الخليل، وقد تحدثنا عنها في الصفحات الماضية من هذا البحث.
2- رجال الدين الرسميون:
ويمثلهم الشيخ محمد مهدي شمس الدين نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، والشيخ عبد الأمير قبلان المفتي الجعفري الممتاز.
وهما طرفان في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في دار الفتوى، والذي يضم السنة والشيعة والدروز، وكان أول لقاء لزعماء هذه الطوائف قد تم في نهاية عام 1983م، وأجرت مجلة المستقبل – في عددها الصادر بتاريخ 15 أكتوبر 1983م – لقاءً مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وجهت إليه أسئلة كثيرة كان منها هذا السؤال:
__________
(1) انظر صحيفة العمل الكتائبية الصادرة بتاريخ 17 يوليو 1983م.(30/132)
المستقبل: سبق أن صدر عن مؤتمركم الإسلامي الذي عقدتموه في دار الفتوى ما سمي (بثوابت) المواقف الإسلامي. ولكن حتى الآن فإن هذا الموقف بثوابته لم يُعطِ الفعالية المطلوبة بالتأثير على مجرى التطورات؟!
شمس الدين: هذه الثوابت أوجدت حقيقة سياسية إسلامية كانت مفقودة، لم يكن هناك قبلها موقف إسلامي بل كان ثمة موقف لهذا السياسي أو ذاك أو موقف لهذه الطائفة أو تلك.
وأول إنجاز لهذا العمل أنه أوجد هذه الرؤيا التي حظيت باستجابة واسعة وعميقة في صفوف المسلمين جميعًا الشيعة والسنة. هذا الموقف لا أزال أوافق على أنه لم يغير حتى الآن شيئًا على الأرض، ولكنه غير بالتأكيد عناصر المواجهة السياسية على الأرض وأوجد حالة سياسية تجعل أي عمل وأي إجراء تحت أي شعار يهدد وحدة لبنان موضع الاتهام وموضع الحذر من المسلمين وتحملهم للوقوف في وجهه.
هذا الموقف الإسلامي القائم على (الثوابت) أوجد لأول مرة خطًا سياسيًا إسلاميًا يتجاوز الحالة الطائفية للمسلمين.. هذا الموقف ينمو الآن وستنشأ مؤسساته وأدواته التعبيرية ليكون قوة أساسية في تغيير المعادلات وفي صنع مصير لبنان لا باتجاه طائفي إسلامي وإنما باتجاه وطني بتجاوز الحالات الطائفية. وحينما قلت إن هناك فرصًا وآمالاً لإنقاذ الوضع ففي الحقيقة إن أحد أكبر المرتكزات هذا الموقف الإسلامي) اهـ.
ونشرت صحيفة القبس في عددها بتاريخ 7 فبراير 1983م ما يلي: (نقل راديو [صوت لبنان الكتائبي] أن المكتب الخاص لنائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى أعلن أنه منذر شهر إبريل الماضي لم تعد للقيادة الحالية لحركة أمل أي علاقة مع سماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين. وقد أبلغت القيادة الحالية لحركة أمل بهذا القرار في حينه.(30/133)
ورد بيان باسم رئيس مجلس قيادة حركة أمل المحامي نبيه بري بأن شرعية الحركة مستمدة من جماهيرها ومنهجية قائدها الإمام موسى الصدر وأن توجهات الحركة تصب في تحرير الوطن واستعادة سيادته مهيبة بالجميع في الظروف الراهنة الابتعاد عن الدخول في المشاحنات الخاصة).
وجملة القول: فتصريحات شمس الدين تختلف عن التصريحات الصادرة عن نبيه بري، فالأول ينطلق من شرعية النظام، وما أسماه ثوابت المؤتمر الإسلامي، ويزعم أنه ضد الهيمنة الطائفية وضد العنف والإرهاب، أما نبيه بري فيتظاهر بعداوته للموازنة، ويزعم أن حركته علمانية وطنية وليست دينية طائفية، ويمارس أبشع أنواع العنف والإرهاب، وله صلات وثيقة جدًا مع النظام النصيري في دمشق، أما شمس الدين فليس له مثل هذه الصلات ولا تصدر عنه تصريحات ضد سوريا أسد.
3- الحركات الموالية لإيران:
من أشهر هذه الحركات: حزب الله، وحركة (أمل) الإسلامية التي انشقت عن (أمل) نبيه بري.
وأبرز زعماء هذه الحركات: محمد حسين فضل الله، وصبحي الطفيلي، وحسن نصر الله، وإبراهيم أمين، وحسن نصر الله.
ويعد محمد حسين فضل الله الزعيم الروحي لهذه الحركات ويوصف بأنه خميني لبنان، أما إبراهيم أمين فهو المسئول السياسي في حزب الله، وحسين الموسوي زعيم أمل الإسلامية، وصبحي الطفيلي هو مرشد حزب الله في البقاع.
ولا أدري لماذا لا يتم دمج الحركتين في حركة واحدة لأنه لا خلاف بينهما ويبدو أن حزب الله أُعِدَ ليكون فخًا لأهل السنة من اللبنانيين والفلسطينيين، فظاهره جهاد أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وحقيقته احتواء من يخدعون شعارات الرافضة، أما (أمل) الإسلامية فهي خاصة بالشيعة.
ويعلن قادة هاتين الحركتين أنهم دعاة إلى حركة إسلامية عالمية ينتزعها إمامهم الخميني في طهران ولا يهمهم لبنان إلا من خلال اهتماماتهم الإسلامية ككل.(30/134)
والمصادر المصرفية اللبنانية تقول: إن إيران قدمت عام 1985م لهذه التنظيمات عبر مؤسسة أبناء الشهداء [30 مليون دولار] وهناك مساعدات يقدمها نظام خميني عبر المجلس الثوري للشيعة الدولية الذي يتبنى تمويل وتوجيه الحركات المؤيدة لإيران في العالم.
ومر معنا في الفصل السابق قول الشيخ سعيد شعبان: (وفي حزب الله مثلاً في بيروت يوجد سنة وشيعة، ونحن نعتبر حزب الله جزءًا منا، وأكبر دليل على ذلك أننا كنا في وفد واحد في مفاوضات دمشق .. كان هنالك حزب الله، وأمل الإسلامية وعناصر من السفارة الإيرانية يشكلون معنا وفدًا واحدًا لنؤكد للمسئولين السوريين أننا في لبنان أمة واحدة). وهذا من القرائن التي تدل على أن حزب الله فخ نصبه الرافضة لأهل السنة في لبنان، كما أشرت قبل قليل.
4- حركة (أمل):
تحدثنا عن حركة (أمل) في الصفحات الماضية من هذا الفصل وفي كتابنا الأول، وبينا كيف نشأت، ولماذا أطلق عليها موسى الصدر حركة المحرومين وزعم أنها ليست طائفين وإنما هي لجميع الفقراء والبائسين.
ولا يزال قادة هذه الحركة يمثلون دور الناطق الرسمي باسم الشيعة في لبنان، ومعظمهم شباب الطائفة يقاتلون في صفوف الحركة، أما زعيمها المحامي نبيه بري فهو أحد أعمدة الحكم في لبنان، وقد شارك في معظم المؤتمرات ابتداءً بمؤتمر الوفاق الوطني، ومرورًا بمؤتمر لوزان، وانتهاءًُ بمؤتمر اللجنة الثلاثي في دمشق الذي جمع بين بري وقائد القوات اللبنانية (إيلي حبيقة)، وكان مؤتمر الوفاق الوطني قد جمع بينه وبين بشير الجميل أثناء الاجتياح الإسرائيلي.
وقد قلب نبيه بري ظهر المجن لجميع حلفائه وأصدقائه في لبنا ماعدا النظام النصيري في دمشق فلا يزال ينفذ أوامرهم في لبنان دون تردد أو تذمر.
وقصارى القول فحركة أمل طرف من أطرف الشيعة المتصارعة بل هي أهم هذه الأطراف.
ثانيًا – حقيقة هذا الصراع:(30/135)
السذج والمغفلون أو أصحاب الأهواء والمنافع من أبناء السنة صدقوا المزاعم التي يروجها أعضاء حزب الله وحركة أمل الإسلامية عن موقف أسيادهم في طهران وقم من حركة (أمل) التي يتزعمها بري، ومن النظام النصيري في دمشق.. ويقول الذين ينتشرون هذه المزاعم: (إن حركة أمل التي يتزعمها بري حركة علمانية مشبوهة، وأتباعها في الجنوب كانوا يتعاونون مع العدو الصهيوني ومع جيش حداد ولحد..
كما أن قادتها في بيروت يتعاونون مع الكتائب ومع الأحزاب العلمانية الكافرة).
أما عن المخيمات وطرابلس فيقولون: (إن الحكومة الإسلامية في إيران اتخذت موقفًا حاسمًا، ولولا هذا الموقف لسحقت حركة أمل المخيمات، ولتم تدمير مدينة طرابلس على أيدي قوات الجيش السوري).
وفي طليعة الذين يرددون مثل هذه الأقاويل سعيد شعبان ومن نحا نحوه في لبنان.
أما أصحاب العقول من أبناء المسلمين الذين يعرفون كيد الرافضة في القديم والحديث فيسألون: هل صحيح أن هناك خلافات بين الرافضة في لبنان، وهل صحيح أن إيران الخميني أدانت عدوان أمل على المخيمات، وعدوان النظام النصيري على طرابلس الشام؟!.
ونحن من جهتنا مع أننا لا نستبعد وقوع خلافات بين الرافضة وذلك لأنه حتى الذين يدعون إلى الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله قد يختلفون فيكف لا يختلف الذين يدعون إلى الباطل والهوى؟!
ومع أن جوابنا على هذا السؤال لا يكون دقيقًا إذا ما قلنا: إننا نستبعد اختلافهم. أو: إنهم اختلفوا فعلاً. أو: إنهم لم يختلفوا.. ولكن الإجابة تتضح إذا ما تتبعنا الأمور التي يدعون أنهم اختلفوا عليها:
1- حركة (أمل) وآيات قم:(30/136)
إن الإيرانيين هم الذين أنشئوا حركة (أمل)، وكان من أبرزهم: الإمام موسى الصدر تلميذ الخميني وصهره، والدكتور مصطفى جمران وزير دفاع نظام خميني الذي أهلكه الله في حادث سقوط طائرة، ونائب رئيس وزراء نظام خميني الدكتور صادق الطبطائي ابن أخت موسى الصدر وصهر الخميني. وقادم أمل كلهم من تلامذة الصدر وأخص بالذكر:
نبيه بري، وحسين الحسيني قائدها السابق الذي استقال، وحسين الموسوي قائد (أمل) الإسلامية الذي انشق عن بري وليس بين هؤلاء من ينقد موسى الصدر أو يهاجمه، ولا يزال كل منهم يستمد شرعيته من أقوال الصدر وأفعاله وحتى الحديث عن علمانية حركة (أمل) فقد نسبه نبيه بري إلى الصدر، وقد صدق في ذلك.
وخاضت حركة (أمل) عدة معارك مع حزب البعث المؤيد للعراق نيابة عن نظام خميني، ونجحت أمل في القضاء على هذا الحزب في بيروت والجنوب والبقاع.
وفي الشهر الرابع من عام 1982م أعلنت حركة (أمل) عن مبايعتها للزعيم الإيراني آية الله خميني إمامًا للمسلمين في كل مكان(1).
وفي 9 سبتمبر 1985م تبادلت حركة أمل وحزب الله الاتهامات لأن أمل منعت وفود الحزب من الوصول إلى مدينة صور، وقد تم إلغاء هذا الاجتماع الذي كان سيعقد بمناسبة الذكرى السابعة لاختفاء الصدر.
ولم يصدر عن قادة حركة (أمل) ما ينقض بيعتهم لإمامهم الخميني .. قد يقولون: إن إيران قطعت علاقاتها مع الحركة، أو قد يصدر عنهم بيان ينددون فيه بتصريحات أدلى بها (خلخالي) عن اختفاء الصدر، أو قد يهاجمهم سفير إيران في بيروت بسبب موقف من المواقف.. لكن مثل هذه المواقف قد تحدث بين زعماء في حزب واحد ولا تتجاوز إطار الحزب ومؤسساته التنظيمية.
2- قواسم مشتركة:
هناك قواسم مشتركة ثابتة تجمع بين الأطراف المتصارعة.. ومن أشهرها:
__________
(1) مجلة (الإيكونوميست) البريطانية في 4 مايو 1982م الترجمة العربية.(30/137)
أ- التعاون مع سوريا: فحركة أمل خاضت معارك مع جميع الأحزاب والمنظمات في لبنان إلا النظام النصيري في دمشق لم تختلف معه ولم تتمرد عليه.. أما حزب الله وحركة (أمل) الإسلامية فعندما كان المنتسبون إلى هاتين الحركتين يخطفون طائرة أو مسئولاً كان نظام دمشق وحده القادر على التفاهم معهم .. بل لقد قدموا خدمات جلى لنظام دمشق، وازدادت الولايات المتحدة الأمريكية ثقة (بأسد) بسبب هذه الخدمات.. أما نظام طهران الذي يزعم بأنه إسلامي فلا يزال النظام النصيري في دمشق من أهم حلفائه وأعوانه في العالم.
ب- موقفهم من منظمة التحرير: رغم هذه الصراعات فأطراف الشيعة في لبنان، ونظام الآيات في قم، وأسد النصيرية .. هؤلاء جميعًا لهم موقف واضح من منظمة التحرير.
لأن عرفات يبحث عن حل سلمي مع العدو الصهيوني، ويبطشون بالفلسطينيين من الأطفال والنساء والشيوخ بسبب عرفات، وحتى ما يسمى بجبهة الإنقاذ لم تسلم من شرورهم بسبب عرفات رغم كل ما قدمته هذه الجبهة لأسد وللرافضة ضد أهلهم وذويهم.
ومما لا شك فيه أن الرافضة جميعًا يعلمون حقيقة أسد النصيرية ومفاوضاته مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ومن هذه البوابة دخل لبنان، فكيف يكون عندهم بطلاً وطنيًا، ويكون عرفات خائنًا مستسلمًا؟!.
3- الرافضة لا يصدقون:
نقلت صحيفة العمل الكتائبية في عددها الصادر بتاريخ 17يوليو 1983م استنكار المجلس الشيعي الأعلى لموقف أمل من الجيش اللبناني، ونقلت عن نائب رئيس المجلس الشيخ محمد مهدي شمس الدين قوله:
(إن المجلس قد شكل لجنة خاصة برئاسة المفتي الجعفري الممتاز الشيخ عبد الأمير قبلان، لمتابعة الاتصالات، واتخاذ التدابير التي تحول دون توظيف هذه المشكلة في غير إطارها الصحيح).
وفي 27 فبراير 1983م أعلن المكتب الخاص لنائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى أنه لم يعد للمجلس علاقة بحركة أمل.(30/138)
وفي 8 أكتوبر 1983م أعلن عبد الأمير قبلان – المفتي الجعفري الممتاز – باسم المجلس الشيعي الأعلى ما يلي: (إن حركة أمل هي العمود الفقري للطائفة الشيعية، وإن ما تعلنه (أمل) نتمسك به كمجلس إسلامي شيعي أعلى، وبالتالي فإن ما يعلنه المجلس الشيعي تتمسك به الحركة)(1).
ومما يجدر ذكره أن تصريح قبلان نسخ التصريحين السابقين لأنه جاء بعدهما .. وهذه هي أخلاق الرافضة ومواقفهم في القديم والحديث.
4- موقف الرافضة من أهل السنة واحدة رغم اختلاف فرقهم وتباين وجهات نظرهم:
ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:
- في عام 1981م دمر النظام النصيري الباطني في سورية معظم أحياء ومباني مدينة أبي الفداء وهدم أكثر مساجدها، وقتل عددًا كبيرًا من العلماء والدعاة إلى الله، وهتك أعراض المسلمين .. فما الذي فعله نظام خميني ومن على شاكلته في لبنان؟!.
هل أرسلوا قوات للدفاع عن مدينة حماة؟! هل قطع خميني علاقاته الدبلوماسية مع جزار سورية .. هل وقفت أجهزة إعلام طهران إلى جانب المسلمين في حماة المجاهدة؟!.
لم يفعل الخميني شيئًا من هذا، بل فعل نقيضه. لقد أعلن نظامه عن تأييد للمجرم حافظ الأسد ضد من أسماهم عملاء إسرائيل؟!.
- وفي شهر رمضان المبارك من عام 1405هـ أعلنت منظمة (أمل) الشيعية حربًا على سكان المخيمات الفلسطينية في بيروت .. واستخدموا في عدوانهم كافة أنواع الأسلحة، وقد عرضنا فيما مضى من هذا الكتاب صورًا من الفظائع التي ارتكبوها بحق الضعفاء والمحرومين من أبناء فلسطين ؟!
__________
(1) مجلة المستقبل العدد 346 بتاريخ 8 أكتوبر 1983م.(30/139)
لقد استمر عدوانهم شهرًا كاملاً، ولم يتوقف إلا بعد استجابة الفلسطينيين ورضوخهم لكل ما يريده الحاكم بأمره في دمشق – حافظ الأسد – ووكيل أعماله في بيروت – نبيه بري -، فأين الخميني وحزب الله وأمل الإسلامية مع أن ضحايا هذه المجازر: الشيوخ، والنساء، والأطفال، والمدنيون الآمنون، وليس ياسر عرفات وغيره من قادة منظمة التحرير؟!.
- وجاءت مجزرة طرابلس الشام بعد مذبحة المخيمات بثلاثة أشهر، وهدم أسد ونصيريو (بعل محسن) أكثر من نصف مؤسساته ومباني المدينة .. واستمرت معارك طرابلس أكثر من أسبوعين .. ثم جاءت وساطة الخميني .. ونجحت الوساطة ولكن متى ؟! نجحت بعد استسلام الشيخ سعيد شعبان ومن معه وقبولهم بجميع الشروط التي فرضها النظام النصيري.
فأين هذه المواقف المشرفة التي وقفها خميني وأتباعه من لبنان مع أهل السنة؟!.
ولو كان المعتدى عليهم من الشيعة لما قبل حزب الله ومؤيدوه بغير التدخل بديلاً، وهذا ليس افتراضًا نفترضه، ففي عام 1983م وقف حزب الله في خندق واحد مع (أمل) بري ضد الجيش اللبناني، بل ومن الذي يصدق أن قوات أمل واللواء السادس يتلقون أوامرهم من نبيه بري وحده، وليس لهم أية علاقة بحزب الله أو بأمل الإسلامية أو بإيران الخميني؟!.
من يصدق مثل هذه المزاعم فإنه لا يعرف شيئًا عن الرافضة وعلمائهم، ودور هؤلاء العلماء في صنع القرار.(30/140)
ومن الأمور الجديرة بالاعتبار والتأمل أن حزب الله وحركة (أمل) كانا على حافة الاصطدام لأسباب لا علاقة لها بأهل السنة ثم صدرت بيانات عن الطرفين تدعو إلى ضبط النفس والصبر حتى يضيق الصبر ذرعًا، وكل طرف كان يؤكد بأنه يخشى من الفتنة الكبرى أي القتال بين أبناء الطائفة(1) .. أما قتال الفلسطينيين في مخيماتهم، وقتال الآمنين في بيروت الغربية، وقتال سكان طرابلس .. هذا كله فتنة لأن المعتدى عليهم ليسوا مسلمين في نظر الرافضة.
5- لماذا يستغربون تعاون (أمل) مع الموازنة:
زعم قادة حزب الله وأمل الإسلامية أن من أهم أسباب اختلافهم مع حركة (أمل) تعاون هذه الحركة مع الموازنة عملاء العدو الصهيوني عليهم من الله ما يستحقون .. لقد كانوا يعملون مع موسى الصدر، وكان الصدر يتعاون مع الموازنة ومع النصارى بشكل عام، وكانوا يقدمون له المساعدات المادية والمعنوية، وهم الذين منحوه الجنسية وجعلوا منه زعيمًا .. فكيف يكون تعاون الصدر مع الموازنة مشروعًا ولا يعترضون عليه، ويكون تعاون نبيه بري غير مشروع، علمًا بأن الأخير حقق مكاسب للطائفة عجز الصدر عن تحقيقها.
أما ما قاله زعيم أمل الإسلامية حسين الموسوي عن تعاون عنصر (أمل) بري في الجنوب مع العدو الصهيوني فصحيح والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح:
لقد كان هذا التعاون منذ أواخر السبعينيات فلماذا سكت عنه الموسوي طوال هذه المدة ولم يستنكره إلا بعد اجتياح الإسرائيلي 1982م وبعد اختلافه مع بري؟!.
ومن جهة أخرى فالعالم كله يعلم تعاون نظام خميني في إيران مع نظام العدو الصهيوني، وأن الأخير قدم مساعدات عسكرية لإيران في حربها ضد العراق، فأين اعتراضات الموسوي واستنكاره لموقف أسياد في طهران وقم؟!.
__________
(1) كان ذلك في 3 سبتمبر 1985م في قرابة (حاروف)، والبيانات لم تصدر نتيجة مصالحة بين الطرفين، وإنما كل طرف أصدر البيان والتزم من جهته بالصبر.(30/141)
بل أين استنكاره لتعاون نظام خميني مع النظام العنصري في جنوب إفريقيا؟!.
المبحث الرابع
سياسة توزيع الأدوار
تبين لنا من خلال المبحث السابق أنه ليس بين أطراف الشيعة في لبنان خلافات: لا في الأصول والتصورات، ولا في التخطيط والغايات.
وليس بينهم من انتصر لأهل السنة الذين ظلموا واستباح أعداء الله دماءهم وأرواحهم.
ويبقى هناك تساؤل: كيف نفسر تبادل الاتهامات بينهم، ولماذا يقف بعضهم مع الإسلاميين من أهل السنة، وبعضهم مع الدروز وآخرون منهم مع الموازنة واليهود؟!.
يجيبنا على هذا التساؤل كاتب سبر غور لعبة الطوائف في بلاد الشام، وكشف كثيرًا من أسرارهم ومناوراتهم. قال الأستاذ محمد عبد الغني النواوي:
(إذا نظرنا إلى تركيبة الحكم في بلاد الشام منذ هدم الخلافة الإسلامية وحتى يومنا هذا، نرى مساهمة غير المسلمين في كل نظام، بل وسيطرتهم عليه في معظم الأحيان).
لقد تسلم مقاليد الحكم في سورية ضباط عسكريون، فكان معظمهم من غير المسلمين – اللهم إلا عهد أديب الشيشكلي – ثم توالت الانقلابات العسكرية فكان لغير المسلمين نصيب الأسد فيها، وبين الحين والحين كانت تأتي أنظمة ديموقراطية برلمانية، فإذا مركز الثقل فيها لغير المسلمين. وفي تعليل هذه الظاهرة نلاحظ التزام غير المسلمين بالخطة التالية:
يتسللون إلى قيادة كافة الأحزاب الجاهلية الحائدة عن منهج الله، ويقفون من النظام الحاكم مواقف مختلفة:
- فقسم منهم يؤيد النظام، ويشارك في اقتسام الغنائم.
- وقسم ثاني يعارض النظام القائم، وهؤلاء قلة، ويعرفون من أين تؤكل الكتف، أعني أنهم يعارضون من منطلق قوي ومن أحزاب وتنظيمات مرشحة لوراثة الحكم القائم.
- وقسم ثالث يصفقون لأي حكم ويدعمون أبناء طائفتهم، وهم أكثرية الطائفة.
وهذه الخطة حققت لغير المسلمين الفوائد التالية:
1- يجد كل نظام نفسه أسيرًا لغير المسلمين، فهم الذين يصفقون له، وبهم يبطش، ومنهم يستمد قوته وديمومته.(30/142)
2- يتوسط أبناء الطائفة المشاركون في النظم لأبناء طائفتهم من أقطاب الحكم المنهار فلا يصابون بأذى، وقد يعللون توسطهم بقولهم:
ليس من المصلحة إثارة حساسية الطائفة من أجل حفنة من الانتهازيين.
3- تشارك كل طائفة في قيادة الجيش وفي الوزارة ومختلف أجهزة الأمن والإعلام والتخطيط والتعليم والاقتصاد.
4- يستخدم غير المسلمين كل نظام في حرب الدعاة إلى الله، والتنكيل بهم ومتابعة أخبارهم .. ورغم العداوة الشديدة التي يكنها النصيريون للدروز فهم يعتمدون عليهم، وعلى النصارى في أجهزة الأمن والمخابرات المكلفة بتتبع الإسلاميين.
وفي حالات قليلة تصطدم طائفة من الطوائف مع النظام، فيهب لنجدتها معظم الأحزاب والطوائف الأخرى والشخصيات السياسية التي امتهنت النفاق، فيسقط النظام، ويتحول النظام الجديد إلى دمية بيد الطائفة المنتصرة، وما مثال أديب الشيشكلي عنا ببعيد.
وقد يظن السذج من الناس في بلادنا – وما أكثرهم – أن مثل هذه الأمور تتم مصادفة ومن غير تخطيط مسبق، غير أن تاريخ غير المسلمين وواقعهم يؤكدان أن لهم قيادة، وتتألف قيادة كل طائفة من رجال الدين ومن زعماء العائلات المشهورة فيها، وهذه القيادة مسئولة عن جميع أبناء الطائفة.
وقد مر معنا(1) عند حديثنا عن [الدروز] أن حسن الأطرش زعيم الجبل سنة 1936م، كان على صلة مع سلطان الأطرش المنفي في الأردن – الكرك – وكان لا يقطع أمرًا مهمًا دون أن يسأل ابن عمه ويأخذ رأيه فيه .. كما مر معنا أن الدروز ثاروا سنة 1925م من أجل إقدام الفرنسيين على نفي زعماء آل الأطرش [عبد الغفار وحمد ومتعب] رغم كونهم عملاء للفرنسيين، والذين قاد هذه الثورة ابن عمهم [سلطان]، وكانوا يتعاونون حينًا، ويفترقون حينًا آخر دون إراقة دماء أو دون أن يعلن أحدهما الحرب على الآخر.
__________
(1) تحدث المؤلف في كتابه (رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي) عن الدروز والنصيرية والموازنة، وأنصح كل مسلم بقراءة الكتاب.(30/143)
ويشاركنا الرأي الكاتب الدرزي [فؤاد الأطرش] فيقول عن توزيع الأدوار بين أبناء الطائفة:
(.. ومن الخطأ أن نحلل الموضوع تحليلاً خاصًا فنصفي على ثورة سلطان باشا صفة التقدمية، وعلى رسالة الأمير سليم صفة الرجعية، والحقيقة أن الرسالتين لهما معنى واحد هو الحفاظ على الدروز في مجتمع الحقد والكراهية .. وبهذا المعنى التوحيدي يمكننا أن نفهم اشتراكية كمال جنبلاط الذي جسد مبادئ التوحيد في أنظمة سياسية محاولاً إخضاع الفكر لتلك القوانين الروحية العامة).
وبناء اتفاق وجهة نظري [ الكلام لا يزال للنواوي] مع رأي أحد أبناء قادة الطائفة نذكر فيما يلي أبرز زعماء الدروز ودور كل منهم الذي مثله أو مازال يمثله:
- سلطان باشا الأطرش: قائد الثورية السورية، ورمز الوطنية والتضحية، والرجل الذي قدم كل ما يملك في سبيل استقلال بلاده، ولم يشارك غيره في اقتسام الغنائم بعد جلاء الفرنسيين عن البلاد.
وقد بينا فيما مضى زيف هذا الادعاء، وسلطنا الأضواء على ثورة سلطان المشبوهة.
- حسن الأطرش، مجيد أرسلان، فضل الله جربوع .. وهؤلاء من زعماء الأحزاب اليمنية الديمقراطية كحزب الشعب في سورية، والأحزاب النصرانية في لبنان.
- برز في الحركة الناصرية: جادو عز الدين، وفهد الشاعر، والأخير أصبح بعثيًا بعد إعدام زملائه الناصريين في 18 تموز عام 1936م.
- من أشهر الذين لعبوا دورًا مهمًا في جميع أجنحة حزب البعث: منصور بن سلطان الأطرش، شلبي العيسمي، حمود الشوفي، العقيد حميد عبيد [قائد القوات المسلحة التي فتكت بمدينة حماة عام 1964م]، والرائد سليم حاطوم [قائد القوات المسلحة التي هدمت جزءًا من مسجد بني أمية، وقتلت بعض المصلين فيه].
- الزعيم شوكت شقير الذي خلف الشيشكلي في تموز 1953، ثم أقيل من مصبه بتاريخ 8 حزيران 1956م.(30/144)
- كمال جنبلاط: زعيم دروز لبنان، وعميد الجبهة الوطنية التقدمية التي تضم كافة الأحزاب القومية واليسارية، ورئيس حزب اشتراكي علماني .. وهكذا صنع الدروز منه صنمًا في لبنان كما صنعوا من سلطان الأطرش صنمًا في سورية.
- الأمير عادل أرسلان: أحد أعمدة نظام الزعيم حسني الزعيم عام 1949م.
سليمان كنج: زعيم الدروز في الجولان، وجبر معدي داهش زعيم الدروز في فلسطين المحتلة، وشيخ عقل الدروز أمين طريف .. ويتعاون هؤلاء مع اليهود.
وهكذا يتعاون الدروز مع جميع الأنظمة اشتراكية كانت أو ديمقراطية، يهودية أو عسكرية .. والغاية عندهم كما وصفها فؤاد الأطرش: [الحفاظ على الدروز في مجتمع الأحقاد والكراهية].
ومغرق في الخطأ من اعتقد أن للدروز عقيدة غير العقيدة الطائفية.
وما قلناه عن الدروز ينطبق على بقية الطوائف، فجميع الأحزاب التي حكمت سورية منذ أيام الانتداب أسسها النصارى.
أما النصيريون فلقد انكشف أمرهم، وهتكت أسرارهم، ويكفينا ما ذكره الدكتور منيف الرزاز في تجربته المرة.
تحدث أمين عام حزب البعث السابق – الرزاز – عن زعماء الطائفة النصيرية في الحكم البعثي ووصمهم بالطائفية، والمراوغة، والانتهازية.
(.. ثم تقرر القيادة القطرية [أي القيادة التي كان يتزعمها صلاح شديد وحافظ أسد] إلقاء القبض على الحورانيين [أي جماعة أكرم الحوراني] وتتهمهم بشتى التهم، ومنها الاشتراك مع جهات أجنبية في تآمر العهد، وتنشر مقالات متتابعة في جريدة [الثورة] تهاجم فيها الحورانيين، وقيادة الحزب، وصلاح البيطار، وميشيل عفلق، وتبري القوميين السوريين من دم عدنان المالكي، وتهاجم اللقاء الثوري، وروح التقارب مع عبد الناصر، في حملة مسعورة محمومة ليس لها مثيل).(30/145)
وفي موضع آخر يتحدث عن استهتار حافظ أسد وإبراهيم ماخوس بالقيادة القومية، وفي موضع ثالث يتكلم عن محمد معمران وكيف كان ينتقد القيادة القطرية، ولكنه في الخفاء طائفي متعصب، يتفق مع جديد حينًا، وينافسه في زعامة الطائفة أحيانًا أخرى.
وقد اقتصرنا في هذا الكلام على كتاب [التجربة المرة] لأن مؤلفة يتكلم عن مرحلة كان فيها المسئول الأول عن حزب البعث، ومن موقع المسئولية يعترف – الرزاز – بأن الجناح النصيري في الحزب [الأسد، وجديد، وماخوس، وعمران] لم يكونوا في يوم من الأيام بعثيين، ولم تكن خلافاتهم إلا تمثيلاً وتضليلاً للآخرين.. لقد كانوا ومازالوا طائفيين اتخذوا من البعث سلمًا لتحقيق آمال وتطلعات قيادة الطائفة.
وبعد الإطاحة بالرزاز وسائر كبار أعضاء القيادة القومية أصبح الحكم نصيريًا طائفيًا، وكان نصيب أعضاء حزب البعث من التنكيل والتعذيب كنصيب الإسلاميين سواء بسواء.
ومن خلال مذكرات منيف الرزاز [التجربة المرة] يتبين لنا سخافة أعضاء القيادة القومية الذين هم من أصول سنية، فبعضهم كان نفعيًا انتهازيًا يمشي مع من يقدم له عرضًا أفضل، وبعضهم – أمين الحافظ – كان أحمقًا مغفلاً يتوهم أن هناك حزبًا وما عليه إلا أن يكون وفيًا مطيعًا لقيادة هذا الحزب.
إلا أن الرزاز لم يكشف التكتل الدرزي الذي كان يمثله: حاطوم وحمد عبيد وفهد الشاعر من العسكريين، ومنصور الأطرش وشبلي العيسمي وحمود الشوفي من المدنيين، كما أنه لم يكشف التكتل الصليبي الذي يمثله: الرزاز، وميشيل عفلق، وطارق حنا عزيز(1) .. الذين كانوا في القيادة القومية في تلك المرحلة.
__________
(1) أظن أن اسم أبيه ميخائيل وليس حنا، وطارق عزيز وزير خارجية العراق، وأحد أعمدة حزب البعث العفلقي.(30/146)
ولا يزال التكتلان: الدرزي والصليبي يلعبان دورًا مهمًُا في قيادة البعث – الجناح العراقي -، وسيأتي ذلك اليوم الذي يكشف فيه درر العيسمي كما كشف دور جديد أو الأسد وسيبقى [أمين الحافظ] وأمثاله خدامًا أمناء للطوائف المتسلطة على حزب البعث، إلا أن يتوبوا من الحزب وأفكاره ويدخلوا في دين الله).
انتهى كلام النواوي(1).
وهذا هو تفسيرنا للصراع القوى وتعدد الاتجاهات الشيعية في لبنان.. إنه من قبيل توزيع الأدوار الذي يخدم مصالح الطائفة، وهذا لا يعني أن يكون دور الشيعة صورة طبق الأصل عن دور الدروز أو النصيريين أو النصارى.
بري بين العلمانية والطائفية
لم يكن نبيه بري في يوم من أيام حياته داعية من دعاة الشيعة أو مرجعًا من مراجعهم، ولم يكن من الذين يصلون ويترددون على مساجد الشيعة وحسيناتهم.
وعلى نقيض ذلك فلقد كان من دعاة القومية والعلمانية، ومن الشباب المتحمس لأفكار وتصورات حزب البعث العربي الاشتراكي، ومن أخص صفاته الخلقية: الانتهازية، وتقديس الذات(2).
فكيف نجمع بين قيادته لجمهور الشيعة في لبنان وبين دعوته الصريحة إلى العلمانية؟!.
وجوابنا على هذا السؤال من الوجوه التالية:
الوجه الأول: الدعوة إلى الطائفية لا تعني بالتأكيد والتدين والالتزام بشيء من الخلق والفضيلة، وقادة الطوائف في بلاد الشام ليسوا أحسن حالاً من نبيه بري، ومن الأمثلة على ذلك: حافظ الأسد، وليد جنبلاط، بشير الجميل، كميل شمعون، سعد حداد، سليمان فرنجية .. فأين هؤلاء جميعًا من الأخلاق والمروءة والفضيلة؟!.
__________
(1) رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي – مؤامرة الدويلات الطائفية – ص 298-392.
(2) راجع في هذا الفصل (أضواء على شخصية نبيه بري) وما نقلناه عنه من تصريحات.(30/147)
الوجه الثاني: في قيادة الشيعة الإمامية الاثني عشرية في القديم والحديث كثير من النماذج المشابهة لنبيه بري .. وقد ذكرت في كتابي الأول أمثلة عن فساد أخلاق كثير من الآيات والمراجع .. وأشرت أيضًا إلى نوعية العناصر التي تعاون معها الخميني من أمثال: مهدي بازركان، وصادق قطب زاده، وأبو الحسن بني صدر، وصادب طبطائي، وأمير عباس انتظام، وغيرهم، وغيرهم.
ومن هؤلاء من كان مدمنًا على المخدرات، ومنهم من كانت له صلات مع الساقطات من النساء .. ومعظمهم عاش في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان بري أحد أصدقائهم خلال إقامته في (ديترويت)، ومن هناك جاءوا ليؤدوا أدوارًا مشبوهة في إيران ولبنان.
الوجه الثالث: قيادة نبيه بري للشيعة في لبنان في هذه المرحلة ضرورية جدًا، لأن الشيعة تحولوا فيها إلى وحوش كاسرة، وسفكوا دماء أهل السنة، ونشروا – بالتعاون مع النصيريين – الفساد والدمار في كل مكان في لبنان، وليس من مصلحة الشيعة في هذه المرحلة أن يتولى القيادة فيها مرجع من مراجعهم الدينية لأن مثل هذه الجرائم ستلصق عندئذٍ بقيادة الطائفة الدينية لا مفر، وليس برجل علماني لا دين له.. وقد تستمر الحاجة إلى نبيه بري إذا تأكد عندهم أن في بقائه مصلحة أكيدة للطائفة.
الوجه الرابع: لو افترضنا جدلاً أن خلاف حركة (أمل) مع إيران والخميني ومراجع الشيعة في لبنان صحيح .. وأن نبيه بري يعمل من أجل السيطرة الكاملة على الطائفة، لحكمنا على محاولاته بالفشل لأن الشيعة لا يطيعون إلا مراجعهم الدينية، وعلاقاتهم بالمراجع والحوزات العلمية والحسينيات علاقات حزبية تنظيمية .. ومن جهة أخرى فحركة (أمل) واجهت تحديات كثيرة، وخاضت معارك متعددة، ولم تعد الخلافات بين قادة الحركة سرًا من الأسرار، والهيمنة أصبحت للقادة العسكريين أمثال حسن هاشم، وعقل حمية، وعاكف حيدر، وداود وداود، وأوامر نبيه بري غير نافذة بل وليس لها أهمية عند معظم هؤلاء القادة.(30/148)
ومن جهة ثالثة فمراجع الشيعة في إيران ولبنان يعتمدون على حزب الله الذي تزداد قوته نموًا يومًا بعد يوم، ويعمل بصمت ومنهجية، ويعتمد أسلوب الخلايا السرية في التنظيم، وتنفق عليه إيران ملايين الدولارات.
وقصارى القول فشيعة لبنان قادرون على الإطاحة بنبيه بر، وأعوانه كما أطاحوا ببازركان وقطب زاده وكامل الأسعد ..
---
الفصل السادس
المبحث الأول
حوار مع صديق
خلال حصار جيش العدو الصهيوني لبيروت الغربية .. سألني أحد الشباب الذين يتابعون الأحداث ويحسنون فهمها. قال: (هل تغيّرت صورة عرفات ومساعديه في نظرك أم مازلت تقول: إنهم خونة وطلاب زعامة؟!).
قلت: كان موقفنا واحداً فهل تغيّر رأيك؟!.
قال: لا أدري كيف نجمع بين صمودهم وإصرارهم على القتال، رغم أنهم يقاتلون في غير أرضهم، ويواجهون أعداء وليس عدواً واحداً، وفوق ذلك كله فهم أقل عدداً وعتاداً .. مرة أخرى أقول لا أدري كيف نجمع بين موقفهم البطولي وبين ما نقوله عن خيانتهم؟!.
قلت: شعوبنا في مثل هذه الظروف تحكم العاطفة لا العقل، وتقع من جراء ذلك بتناقضات لا حصر لها .. وأضرب لك مثالين على ذلك:-
أ- فسادات مصر كانت تدور حوله الشكوك وتوضع أمام اسمه إشارات الاستفهام لاسيما وأنه جاء بعد هلاك جمال عبد الناصر، وكان من أوائل أفعاله الإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين سجنهم سلفه، واعتقال كبار المسؤولين في العهد السابق الذين أسماهم مراكز القوى.
وخاض السادات حرب رمضان فتحسنت صورته وأصبح في أعين الناس زعيماً وطنياً وبطلاً قومياً ثم زار السادات القدس وأعلن في [الكنيست الإِسرائيلي] استسلامه لليهود فأصبح خائناً مجرماً.
ب- وأسد سورية تكلم الناس الكثير الكثير عن خيانته عندما أعلن عنه سقوط القنيطرة قبل أن تطأها أقدام الغزاة الصهاينة، ثم أصبح بطلاً في حرب رمضان، وعاد الناس يتحدثون عن خيانته في مفاوضاته مع اليهود والأميركان، وفي ضربه للمخيمات.(30/149)
ومما لا يقبله عقل ولا منطق أن يكون الرجل خائناً ثم يصبح بطلاً مخلصاً ثم يعود خائناً وهكذا.
قال: ولكن عرفات لم يقترف ما اقترفه الأسد أو السادات، وهو محاصر الآن لا يأمن على نفسه؟!.
قلت: أفعال عرفات وأدواره ليست صورة طبق الأصل عن أفعال السادات أو الأسد .. واسمح لي أن أحدثك عما فعل:
قبل الاجتياح الإِسرائيلي للبنان كان عرفات يعلم أن هناك مؤامرة ضد الوجود الفلسطيني في لبنان، وأطراف هذه المؤامرة: إسرائيل، والنظام النصيري في سورية، والولايات المتحدة الأميركية، وطوائف لبنان من الموارنة والدروز والشيعة.
وكانت إسرائيل تهدد وتتوعد، وكانت جادة فيما تقول ورغم ذلك فقد قابل عرفات تهديدات إسرائيل بتهديدات عنترية تذكرنا بأقوال أحمد سعيد في إذاعة صوت العرب قبل الخامس من حزيران 1967م.
زعم عرفات أنه أعد لكلٍ شيء عدته، وأنه يملك أسلحة حديثة متطورة، وسوف يلقن إسرائيل درساً لن تنساه.
وكنا نعلم أن عرفات يكذب ويعلم أنه يكذب، فدول المواجهة العربية مجتمعة ليست – بكل أسف – في مستوى الجيش الصهيوني.
ومن جهة أخرى يعلم عرفات أنه سيواجه العدو الصهيوني بأرض لا يملكها .. ويعلم تمام العلم بأن شيعة الجنوب ودروز الشوف، وجيش حداد، وقوات بشير الجميل، وسوف تقف في خندق واحد مع العدو الصهيوني، ويعلم عرفات بأن أسد النقيطرة لن يخوض حرباً مع إسرائيل مع أجل عرفات والفلسطينيين.
واجتاح اليهود لبنان، وخلال زمن يسير جداً كان جيش العدو الصهيوني يحاصر بيروت ويطالب بإخراج المنظمة من لبنان والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: ما الذي دفع عرفات إلى اتخاذ مثل هذا الموقف؟!.
وجوابنا على ذلك: إن عرفات ومساعديه يعلمون بأن الشعب الفلسطيني قاتل ضد الحلول الاستسلامية، وسوف يسارع الفدائيون إلى تصفية القيادة التي تقبل باسترداد جزء من الأرض المغتصبة مقابل الصلح مع العدو الصهيوني.(30/150)
ومن جهة أخرى فالفلسطينيون منتشرون في عدد من البلدان العربية، ولا يستطيع عرفات أن يفرض عليهم قانون الأحكام العرفية كما يفعل الحكام المستبدون .. وإذن لن يستسلم الفلسطينيون إلا بعد هزائم متكررة، ونكبات متلاحقة، وهو يمثل دور من يرفض الحلول الاستسلامية(1).
قال محدثي الشباب: ولكن عرفات يعلم أنه قد يقتل في كل لحظة، فما الذي يدفعه لهذا الإِصرار؟!.
قلت: على رسلك يا أخي إن الأمور بخواتيمها، وأحسب أن عرفات سيخرج من بيروت بطلاً كما خرج من الأردن ومن حرب 1976م في لبنان، وسيدفع الفقراء والبائسون في المخيمات الفلسطينية ثمن هذه البطولة باهظاً!!.
__________
(1) سلك الحكام الثوريون العرب هذا المسلك منذ عام 1948م، وعرفات ينسج على منوالهم ويقتفي أثرهم. =
= وفي عام 1985م نشرت صحيفة [القبس] الكويتية كتاباً اسمه (عرفات إرهابي أم صانع سلام) للصحفي البريطاني (آلن هارت)، وفي هذا الكتاب حقائق مذهلة منها أن عرفات ومساعديه تبنوا الإِرهاب بعد المذابح التي تعرضوا لها في الأردن في أيلول عام 1970م، وكان الهدف من وراء ذلك تثبيت قيادتهم التي أصبحت في مهب الريح، وتفريغ الإِرهاب من مضمونه بعد أن يتم لهم احتواؤه والسيطرة الكاملة على المتحمسين له. ويقول قادة فتح للصحفي البريطاني:
لقد كان هذا السبيل الوحيد من أجل القضاء على الإِرهاب!!.
عليهم من الله ما يستحقون كيف يبيحون قتل الأبرياء وإراقة الدماء من أجل قضايا لا يؤمنون بها .. وفي هذا دليل لنا – ولو جاء متأخراً – على أنهم كانوا يقودون الشعب الفلسطيني في لبنان إلى مجزرة وهم يعلمون أنه لا طاقة لهم على مواجهة جيش العدم الصهيوني.
ومما يجدر ذكره أن الصحفي البريطاني (آلن هارت) صديق لهم وقد اعتمد فيما ذكره من معلومات خطيرة في كتابه على أقوال قادة فتح.(30/151)
ألم تقرأ أخبار تدخل الزعماء في كل مكان من العالم الذين يطالبون بخروج عرفات ومساعديه من بيروت دون أن يتعرض أحد منهم لأذى.
ويقول هؤلاء الزعماء: إن عرفات معتدل ومن دعاة السلام، وإذا قتل فسوف يكون البديل متطرفاً أو مجهولاً على الأقل، وأنت تعرف ما معنى: متطرف، والسلام، وإرهابي .. عن هؤلاء الزعماء، وأخص منهم زعماء العالم الغربي.
إن اليهود لا يجهلون مقر قيادة عرفات في بيروت الغربية التي تغص بالخونة والمتآمرين .. وقد التقى عرفات أثناء الحصار مع عدد من الأميركان كان من بينهم (فيليب حبيب)، وكان حبيب يتنقل بين بيروت وتل أبيب ودمشق فلماذا أحجم اليهود عن ضرب مقر عرفات، وهي التي اغتالت عدداً من الزعماء الفلسطينيين، كما اغتالت بعض الأنظمة العربية عدداً آخر من الزعماء الفلسطينيين .. هلي صحيح أن حساسية عرفات المفرطة كانت من أهم الأسباب في كشف المؤامرات وبقائه حياً رغم كثرة المؤامرات التي تعرض لها؟!.
صمت صاحبي فترة من الوقت .. ثم قال: والله لا أدري: ما سمعته منك مهم، وما أسمعه من الناس عن صمود عرفات لا أجد جواباً مقنعاً أراد به عليهم.
وما قاله صديقي الشاب تكرر بعد عدة أشهر عندما عاد عرفات إلى الشمال لبنان، وخاض معركة مع النظام النصيري وعملائه من قادة المنظمة كأبي صالح وأحمد جبريل.
في هذه المعارك مثّل عرفات دور الشيخ المسلم المجاهد لأنه كان محتاجاً إلى مساعدة جماعة التوحيد الإِسلامي في طرابلس، وخدع قائد المنظمة كثيراً من الدعاة الطيبين كما خدع غيرهم من قبل، وإن نسيت لا أنسى محاضرة ألقاها أستاذ جامعي من العاملين في الحقل الإِسلامي تحدث فيها عن قضية فلسطين، وطالب المسلمين بالتحرك لإِنقاذ إخوانهم الفلسطينيين من براثن أعداء الله في لبنان.(30/152)
إن الغريب في هذه المحاضرة ثناء المحاضر على ياسر عرفات والتماس الأعذار له، والأكثر غرابة أن المحاضر كان يتحدث في حفل جامعي كبير اجتمع فيه صفوة الشباب الإِسلامي!!.
لا أدري والله كيف تتحكم عواطفنا بعقولنا فنتناسى التاريخ والمنطق والدقة في فهم الواقع وفي الحكم عليه .. وعندما أفلس عرفات، ونبذه الأميركان والسوفيات والغرب وعملاؤهم في بلادنا، وجلس يندب حظه في تونس .. في هذه الظروف الحرجة تذكر زعيم المنظمة الإِسلاميين فاتصل بهم، ووجد من يتعاون معه، ويعلق آمالاً عريضة على هذا التعاون.
وأخشى أن يهلك عرفات فيصبح عند الناس داعية من دعاة الإِسلام لاسيما إن كان هلاكه على أيدي النصيريين أو الشيوعيين.
ومن أجل أن لا يُخدع الدعاة إلى الله مرة أخرى بياسر عرفات ومساعديه حرصت على كشف أساليبهم وبيان انحرافهم في هذا الفصل.
المبحث الثاني
عرفات يبحث عن دور
أثبت عرفات من خلال قيادته لمنظمة التحرير أنه انتهازي وليس من أصحاب المبادئ والمواقف الثابتة .. فهو يقول اليوم ما ينقض أفعاله بالأمس، ويتحالف بعد حين مع من كان من أشد الناس خصومة له، وليس من وراء هذا التحالف أي نفع لقضية فلسطين.
وإذا كانت الأدلة على ذلك كثيرة فسوف أختار منها ما يكشف أخلاقيات قائد المنظمة وتناقضاته، مع الحرص على تجنب الإِسهاب لأن لي كتابات غير قليلة في هذه المسألة:
1- من الشعارات التي كانت ترفعها فتح في سنواتها الأولى: (الكفاح المسلح الطريق الوحيد لتحرير فلسطين).
وقال عرفات للراهب الكاثوليكي (إبراهيم عياد): (إنني أعرف حق المعرفة أننا لا نستطيع حتى بالقتال استرداد فلسطين. علينا أن نحارب لنقول للعالم أن هناك شعباً فلسطينياً.
علينا أن نقاتل لكي نحرك ضمير شعوب العالم. فإذا أخفقنا في إقناع شعوب العالم بأن قضيتنا عادلة فإننا سنضيع وسننتهي)(1)[1]).
__________
(1) كتاب (عرفات إرهابي أم صانع سلام) عن القبس تاريخ 3 سبتمبر 1985م.(30/153)
فكيف ينقض في جلساته المغلقة ما يؤكده في نشرات منظمة فتح ورسائلها ومما يجدر ذكره أن حديثه مع الراهب الكاثوليكي كان في أوائل عام 1965م، أي في بداية الطريق.
2- كان عرفات ومساعدوه في قيادة فتح يعلمون أن الحكومة العربية ضد (الكفاح المسلح الفلسطيني)، وقد أصدرت القيادة العربية الموحدة توصيات تطالب فيها الدول العربية بعدم تشجيع الفدائيين وعدم إذاعة أية عمليات عسكرية لقوات العاصفة .. ومن شاء مزيداً من التفاصيل فليراجع مذكرات فتح ورسائلها(1)[2]).
ورغم موقف الأنظمة العربية من فتح كان عرفات يرسل الرسائل والمذكرات إلى الملوك والرؤساء، ويوسط لهم الأصدقاء من أجل أن يسمحوا له بالمثول بين أيديهم .. وعندما عُرِضت عليه رئاسة منظمة التحرير سارع إلى قبولها، ولم يعد الملوك والرؤساء عنده أعداء الكفاح المسلح، وأصبحت هوايته المفضلة زيارتهم والتوسط في حل خلافاتهم.
3- في عام 1975م بدأت اتصالات مشبوهة بين عرفات وبعض المنظمات والأحزاب اليهودية، وكان الدكتور عصام السرطاوي ممثلاً لعرفات في هذه الاتصالات، ومن الذين كانوا وسطاء بين الطرفين: الرئيس السنغالي (سنغور)، ورئيس ساحل العاج (فيليكس هوفي بوانييه) .. ورغم اغتيال عصام السرطاوي وسعيد حمامي فلقد استمرت الاتصالات بين الطرفين، وتحدثت كذلك عن هذه الاتصالات الصحفي البريطاني (آلن هارت) في كتابه (عرفات إرهابي أم صانع سلام)، وفي عام 1979م أثمرت وساطة (آلن هارت) السرية عن عدة لقاءات جرت بين زعماء المنظمة ومن بينهم ياسر عرفات – وزعماء إسرائيليون وصفوا بأنهم معتدلون(2).
__________
(1) انظر مذكرة فتح إلى المؤتمر الثالث عام 1965م.
(2) تحدثت الصحف العربية والعالمين عن الاتصالات الإِسرائيلية الفلسطينية في عام 1977م. واضطرت المنظمة إلى إصدار بيانات متناقضة، كان منها البيان الذي صدر بعد مقتل سعيد حمامي.(30/154)
4- عرفات ومساعدوه يتحدثون عن الولايات المتحدة الأميركية وكأنها الشيطان الرجيم .. ويؤكدون في تصريحاتهم أن قادة البيت الأبيض في واشنطن أكثر تطرفاً من اليهود .. غير أن كلامهم هذا للاستهلاك المحلي والمزايدات وسنكتفي هنا بذكر مثالين على ذلك:-
المثال الأول: ورد في مقال كتبه [هيرمان فريدريك إيلتيس] السفير الأمريكي السابق في مصر والمدير الحالي لمركز العلاقات الدولية في جامعة بوسطن: (إن إدانة إسرائيل لمنظمة التحرير الفلسطينية بالإِرهاب هو ادعاء لا معنى له سياسياً، فالمنظمة تضم في قيادتها قادة عقلانيين يتسمون بالمسؤولية ممن وقفوا إلى جانب عرفات، وممن يحدو بهم الاستعداد للتفاوض، إذا كانت مثل هذه المفاوضات يمكن أن تؤدي على الأقل إلى تحقيق المطالب الوطنية الفلسطينية.
والرئيس السابق (جيمي كارتر) أشار بأننا في الماضي تكلمنا مع منظمة التحرير الفلسطينية، وأنه بمساعدتها الناشطة تمكنا من إخلاء الرعايا الأمريكيين من بيروت في عام 1976م، وإننا كنا نتلقى بهدوء تحذيرات من قادتها المسؤولين خلال السنوات حول خطط المتطرفين لاغتيال السفراء الأمريكيين.
وكل هذا أظهر بأن منظمة التحرير الفلسطينية يمكن أن تتسم بالمسؤولية وبتقديم العون، وهذا أمر يجب عدم نسيانه بسهولة)(1).
إن المعلومات التي كشفها الأميركي السابق لم تكذب من قبل قادة المنظمة وتحدث عنا آخرون من المطلعين على خفايا الأمور ..
ومن حقنا أن نسأل عرفات ومساعديه:
- ما الذي يدفعكم إلى كشف خطط من أسماهم السفير بالمتطرفين؟!، ولماذا لا يكشف الأميركان لكم خطط الصهاينة ضدكم؟!.
- لا أدري كيف يدعم الأميركان العدو الصهيوني في كل ما يرتكبه من مجازر وحشية، وكيف يعمل عرفات ومساعدوه جواسيساً بالمجان ويكشفون خطط أعداء الأميركان في المنطقة؟!.
__________
(1) صحيفة الأنباء، تاريخ 25 أكتوبر 1985م.(30/155)
مما لا شك فيه أن عرفات كان يتطلع من وراء هذا النفاق إلى اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بمنظمته وهيهات ذلك.
المثال الثاني: يحدثنا صلاح خلف – عضو اللجنة المركزية – عن نتائج الاتصالات الأميركية الفلسطينية والتي لا ندري كم استمرت، ولا نعتقد أن صلاح خلف سوف يقول كل شيء:
(لقد مر ميرفي خلال مهمته بمرحلتين هامتين .. ففي مارس 1985م طالب أن يكون ممثلو الفلسطينيين في الوفد الأردني الفلسطيني المشترك غير معلنين ولا تسميهم المنظمة على أنهم ممثلين لها ولقد رفضنا بالإِجماع هذا العرض حيث كنا في اجتماع في بغداد – اجتماع مشترك للجنة المركزية لفتح واللجنة التنفيذية للمنظمة -.
وفي شهر حزيران عاد ميرفي مرة ثانية وقال بإمكانية مقابلة وفد أردني – فلسطيني مشترك، والفلسطينيون يتم تسميتهم من خلال المنظمة، وتعلن المنظمة ذلك، ويعلن الوفد نفسه أنه يمثل المنظمة.
والذي حصل للأسف أننا قدمنا الأسماء وبعد ذلك ثبت أن هناك شروطاً أميركية مازالت قائمة. وأوضح أن هذه الشروط لن تلغي الاتفاق الأردني – الفلسطيني، وإنما هناك إصرار أميركي على أربعة شروط .. أولاها الاعتراف بقراري مجلس الأمن رقمي 242 و 838، ثم إدانة الإِرهاب ويقصد بذلك النضال الفلسطيني المسلح، إضافة إلى الإِعتراف المسبق بإسرائيل، وأن يكون هناك مفاوضات مباشرة).
وقال صلاح خلف أيضاً: (إن الشرط الأميركي الأهم والذي لم يذكر هنا والذي لم يتحدث عنه أحد بعد، أنه وحتى بعد قبول الفلسطينيين لكل هذه الشروط فليس هناك أي تعهد أميركي بأن تنسحب إسرائيل من الضفة وغزة، وإنما يلتقي الإِسرائيليون بالمفاوضات المباشرة مع وفد أردني فيه بعض الفلسطينيين الذين لا ينتمون إلى منظمة التحرير الفلسطينية)(1).
__________
(1) ندوة صحفية عقدها صلاح خلف في تونس في 2 سبتمبر 1985م عن الصحف العربية.(30/156)
ليس فيما ذكره صلاح خلف عن موقف الولايات المتحدة الأميركية أية غرابة لأن سياسة الأميركان في هذه القضية ثابتة لم تتغير منذ عام 1948م، ولكن مواقف قادة المنظمة هي التي تتغير وتتناقض.
5- إن ارتباط حسين بن طلال مع الأميركان والانكليز ثابت ولا ينكره العاديين من الناس في بلادنا.
ومن جهة أخرى فمفاوضات الملك الأردني مع العدو الصهيوني لم تنقطع منذ عام 1976م، ومن أبرز الذين اجتمع بهم (موشى ديان) وزير الخارجية السابق، و(شمعون بيريز) رئيس الوزراء.
ومن جهة ثالثة فعداوة حسين بن طلال لمنظمة التحرير، وعداوة المنظمة له لا تحلها المجاملات والبيانات الكاذبة .. فأي مصلحة للفلسطينيين من اتفاقية عمان؟!.
لا أعتقد بأن الملك حسين سوف يوافق على تكليف ياسر عرفات ولو بتشكيل وزاره في الأردن.
إن كلاً منهما أراد أن يغدر بالآخر، فملك الأردن يريد تفويضاً غير مقيد من قيادة المنظمة، وعرفات يريد أي حل لقضية فلسطين، وعلى كل حال فالاتفاقية ماتت في مهدها وقبل أن ترى النور.
وعرفات ماض في سياسة الاستسلام. لقد أعلن في القاهرة – وليس في عمان كما يريد الملك حسين – إلغاء الكفاح المسلح .. ويعمل جاداً من أجل إقناع مساعديه ليعلنوا بالإِجماع الاعتراف بقراري مجلس الأمن رقمي 242 و 838 .. ولكن إسرائيل لا تعترف بهم، ولا تريد السلام .. وويل لعرفات ومساعديه من مشهد يوم عظيم.
المبحث الثالث
تحالف المنظمة مع الباطنيين(30/157)
1- أكد ياسر عرفات بأن الخلاف بين منظمة التحرير ونظام (أسد النصيري) قديم، وقال في مقابلة أجرتها معه مجلة التضامن في عددها الصادر بتاريخ 2 نوفمبر 1985م: (عندما كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع منع دخول القوات السورية إلى الأردن، ثم استولى على الحكم وأودع الدكتور نور الدين الأتاسي وصلاح جديد في السجن لأنهما أرسلا القوات السورية لنجدتنا في الأردن [يقصد عرفات في حوادث أيلول 1970م]، والواقع أن الخلاف معه سابق حتى لحوادث أيلول. إنني أُذَكِر من نسي أن الأسد يوم كان وزيراً للدفاع أصدر أمراً اشتمل على 21 نقطة كلها تقييد لحركتنا في سورية، بدءاً من منع تسلل عناصرنا ومقاتيلنا إلى الجولان، وانتهاء بمنعنا من وضع أي ملصق على الجدران في شوارع دمشق، وأذكر أنني ذهبت إليه في مكتبه وهو وزير للدفاع وناقشته في النقاط الواحدة والعشرين، ثم ذهبت وقابلت الأتاسي وصلاح جديد الذين طلبا مني نسيان هذا الأمر وكأنه لم يحدث أن صدرت النقاط، لذلك موقف حافظ العدائي من الثورة الفلسطينية ومن حركة فتح بوجه خاص هو موقف قديم ويسبق توليه الرئاسة)(1).
وتحدث عدد من قادة فتح(2) في مقابلاتهم، وما كتبه بعضهم من مقالات ومذكرات عن موقف النظام النصيري منهم عند بداية تأسيس فتح .. لقد تم اعتقالهم، واتهموا بعضهم بالإِجرام، ومنعوا من التسلل إلى فلسطين المحتلة عن طريق الجولان، وحاولوا اغتيال عرفات .. وما ذكره قادة فتح غيض من فيض، فآباء أسد وأجداده ضالعون في تآمرهم مع اليهود والنصارى في القديم والحديث.
__________
(1) مجلة التضامن التي في لندن، العدد 134 بتاريخ 2 نوفمبر 1985م، وسوف أختار عدة فقرات من هذه المقابلة لما لها من أهمية، ولأن عرفات كان يتحدث بصراحة غير معهودة عنه.
(2) انظر كتاب (عرفات إرهابي أم صانع سلام).(30/158)
وبعد حوادث أيلول عام 1970م تحالف عرفات ومساعدوه مع حافظ الأسد، رغم وقوف الأخير إلى جانب الملك حسين، وتأييده له فيما ارتكبه من مجازر ضد الشعب الفلسطيني .. وأصبح حافظ الأسد عند قادة المنظمة ومؤيديها قائداً للأمة العربية وأملهم في تحرير فلسطين، وازداد تأييدهم له بعد حرب رمضان عام 1973م، مع أن هذه الحرب لم تكن أهدافها مجهولة، وما كان حافظ الأسد يخفي كرهه للفلسطينيين.
وفي عام 1976م وقف جيش أسد في خندق واحد مع الكتائب واليهود، واستباحوا أرواح الفلسطينيين وأموالهم في المخيمات، وتناسى قادة المنظمة جرائم حافظ الأسد، وعادوا بعد عام واحد يجددون ولاءهم له، ويتحالفون معه ضمن جبهة الصمود وغيرها.
وفي عام 1982م اجتاحت إسرائيل لبنان وحاصرت بيروت والجيش النصيري الذي كان يرابط في لبنان لم يحرك ساكناً، بل لقد ثبت من خلال الوثائق والمذكرات التي نشرت، وأشرنا لبعضها فيما مضى من هذا الكتاب .. أقول لقد ثبت أن اجتياح إسرائيل كان مؤامرة وكان نظام أسد طرفاً فيها.
وعاد عرفات بعد حين إلى دمشق يحاول استرضاء قائد النظام النصيري .. لكن الأخير قام بما عجزت إسرائيل عنه. لقد نجح في شق فتح والمنظمة، وسخر عملاءه المجرمين فاستباحوا دماء الفلسطينيين في مخيمي البداوي ونهر البارد، وتم ذلك بعد طرد عرفات من دمشق وبعد اغتيال قائد قوات المنظمة (سعد صايل) ..
وحاول عرفات ومساعدوه حتى بعد طرد أسد له من دمشق استرضاءه، ولكن الطاغوت النصيري رفض قبول عرفات وإعادة العلاقات معه في أي حال من الأحوال.
عجيب أمر هذا العرفات في حديثه لمجلة التضمن [2 نوفمبر 1985م] هاجم جورج حبش لأن الأخير تراجع عما قاله عن نظام دمشق في الجزائر والكويت، وقال مخاطباً حبش: (ألم تكن أرض الله واسعة ف تعيشون فيها).(30/159)
ويقول هذا العرفات في نفس الحديث: (لقد أخطأنا بمقاطعة قمة عمان [1980م]، ولم يكن قرارنا في هذا الاتجاه صحيحاً، لكنها غلطة حصلت تحت التهديد السوري، يومها قال حافظ الأسد بالحرف: إما أن أحشد القوات ضد الأردن وإما أن أحشدها ضدكم).
ونحن نقول لهذا العرفات: (ألم تكن أرض الله واسعة فتعيشون فيها).
ما أكذب هذا الرجل!! فإن كان مضطراً لمقاطعة مؤتمر عمان بسب تهديد سورية فلماذا كان مساعدوه ينقدون هذا المؤتمر ويقولون عبر وسائل إعلامهم عن المؤتمر ما لم تقله سورية؟!.
ومن جهة أخرى ماذا صنع هذا المؤتمر وغيره من المؤتمرات لقضية فلسطين؟!.
وفي مقابلات عرفات الأخيرة صار يكثر من الحديث عن النظام الطائفي النصيري في سورية، وعن مؤامرة الكانتونات .. وما لا شك فيه أن النظام الطائفي النصيري يحكم سورية منذ أكثر من عشرين عاماً فلماذا كان عرفات صامتاً لا ينقد هذا النظام .. بل لماذا كان حليفاً له وهو يعلم أنها مؤامرة وأن أمريكا وراءها؟!.
أين كان صوت عرفات وأصوات مساعديه عندما أقدم النظام النصيري المجرم على هدم مدينة حماة؟!.
إن شعب حماة المسلم لم يقصر مرة واحدة في تأييد الفلسطينيين، بل وفي الجهاد عام 1948م، وكان الشيخ مروان حديد رحمه الله من المتحمسين للعمل الفدائي، وكان يدرب شباب حماة في معسكرات فتح في الأردن عام 1969م، 970م، وقام هؤلاء الشباب بعدة عمليات فدائية في فلسطين المحتلة .. ماذا قدم عرفات لأهل حماة في محنتهم؟!. يجيبنا على هذا السؤال عرفات نفسه:
التضامن: هنالك من يرجع الموقف الذي يتخذه الحكم السوري منكم سبب آخر وهو أنكم في فتح ساندتم حركة الأخوان المسلمين في عنفوان المواجهة بينها وبين نظام الرئيس حافظ الأسد، وأن المساندة اشتملت على تقديم سلاح وتدريب عناصر ..(30/160)
أبو عمار [مقاطعاً]: أتحدى أن يكون هنالك إثبات واحد ضدنا في هذا الخصوص، صحيح أن الاتهام طرح، وحصل أن المخابرات السورية قبضت على بعض عناصرنا وحققت معها في هذا الأمر، ولكن لم يثبت أي شيء على الإِطلاق، ولو ثبت علينا شيء في هذا الخصوص لكان النظام السوري [هرسنا هرساً].
ومما يجدر ذكره أن النظام النصيري كان يتحدى مشاعر المسلمين، ولم يتكن جرائمه في حماة وغيرها قاصرة على الأخوان المسلمين .. وياسر عرفات لا يجهل هذه الحقيقة، ورغم ذلكم يتحدى النظام النصيري أن يقدم دليلاً يثبت أن فتح ساندت يتامى وأرامل حماة وحلب وتدمر وادلب!!.
وكاتب هذه الأسطر يعلم بأن كثيراً من قادة فتح وقفوا مع الأسد في خندق واحد ضد المسلمين في سورية، ويعلم بأن عرفات ومن حوله ليسوا أهل مروءة ونخوة، ولا ينتظر منهم مساندة الدعاة إلى الله، وأتمنى أن يدرك ذلك الذين يحسنون الظن بعرفات!!.
3- قال عرفات [للتضامن في 2 نوفمبر 1985م عن أمل: (.. حركة أمل نحن الذين دربنا عناصرها، ونحن أول من مدها بالسلاح، بل أنا من أسماها أمل، لأن الإِمام موسى الصدر كان واقفاً معنا وضد من يشهر السلاح ضدنا ..).
أما قوله [لأن الإِمام موسى الصدر كان واقفاً معنا وضد من يشهر السلاح ضدنا] فليس صحيحاً على الإِطلاق، لأن خلافات الصدر معهم كانت معروفة وتعاونه مع النظام النصيري لا يجهله عرفات ومساعدوه، وكذلك لا يجهلون تآمره مع الكتائب وتسليم حي النبعة، وقد تحدثت عن الصدر في كتابي الأول وفي الفصل السابق من هذا الكتاب ما فيه الكفاية .. ولكن عرفات كذاب.(30/161)
وقوله بأن المنظمة أول من مد حركة أمل بالسلاح وغيره فهو اعترف منه – أي عرفات – بتآمره على قضية فلسطين لأنه تبني حركة مشبوهة يقودها خائن جيء به من إيران ليزعزع صف المسلمين وليمكن للصليبيين في لبنان .. ومن قبل اعتبر عرفات – عليه من الله ما يستحق – قضية اختفاء الصدر قضية الشعب الفلسطيني .. وقد صدر هذا التصريح بعد أن تكشفت أوراق الصدر وأدواره.
وعرفات تعاون مع ثوار الخميني، وكان في طليعة الذين زاروا طهران فور وصول الخميني إليها، وزعم أنه إمامه .. وأيدت منظمة التحرير إيران في حربها ضد العراق، وضلل عرفات شعبه فأصبحوا ينتظرون بفارغ الصبر سقوط بغداد لأن الخميني قال لهم: إن الطريق إلى القدس يمر من بغداد والكويت والرياض وعمان.
وأخيراً راح يقول: (صدمني هذا التوجه المعادي للعروبة، والذي أوجد تناقضاً مع العرب ومع جيران إيران من دور مبرر، وصدمني أيضاً وقوف الثورة الإِيرانية موقف المتفرج من حرب المخيمات ومن محاولة التصفية التي تعرضت لها أثناء حصار طرابلس، وقبل ذلك كله يصدمني في الثورة الإِيرانية إصرار قادتها على الاستمرار في القتال ضد العراق ..).
لقد جاء اعترافه متأخراً، ورغم عداوة شيعة لبنان وإيران لعرفات والمنظمة .. لم يقل عرفات ما يعرفه عن فضائحهم، وعن تعاونهم مع اليهود، ولعله ينتظر مبادرة منهم لتعود علاقاته معهم كما كانت.
3- وصف ياسر عرفات [التضامن 2 نوفمبر 1985م] كمال جنبلاط بأنه شهيد الشعب الفلسطيني، أفعبد كل ما فعله كمال جنبلاط بالفلسطينيين، وما فعله ابنه وليد من بعده، وما فعلته طائفته وحزبه يبقى شهيداً للشعب الفلسطيني؟!.
مسكين هذا الشعب الذي قد ابتلاه الله بقيادة عرفات وأمثاله!!.
المبحث الرابع
تحالف المنظمة مع الصليبيين(30/162)
سافر عرفات يرافقه خليل الوزير في آذار عام 1965م من الكويت إلى دير في بيروت وقابل الراهب الكاثوليكي (إبراهيم عياد) وحدثه عن الأسباب التي تجعله يعتقد أنه ليس أمام الفلسطينيين إلا القتال .. ويتحدث الراهب عن هذا اللقاء فيقول:
(سألني إذا كنت أوافق معه. قلت بكل مشاعري وجوانحي. ثم أخبرني آنذاك ما كان سراً كبيراً جداً. قال: إن فتح عندما بدأت عملياتها العسكرية لم يكن لديها سوى سبعة مقاتلين مدربين: عرفات نفسه وستة آخرون، ولم يكن لديهم سوى خمسة بنادق لهم جميعاً.
كذلك قال لي: (إنهم شرعوا دون أي مال. إذ أن صديقاً فتح شيكاً تعادل قيمته ألف جنيه استرليني، ولكن الصديق أبلغهم أنهم لا يستطيعون صرف الشيك لمدة شهرين أن ثلاثة لأنه لم يكن هنالك رصيد في حسابه!!).
عندما أبلغني عرفات القصة قلت له: (يبدو أنك بحاجة إلى مساعدة. فهل تريد مني أن أساعدك؟ وأذكر بكل جلاء رد عرفات: يا أبانا، كل ما أريده منك هو مباركتك. وهذا ما أعطيته – الكلام للراهب – له)(1).
ورغم ما عرف عن ياسر عرفات من نفاق ومداهنة فليس في مذكراته ومذكرات زملائه من قادة فتح ما يشير إلى أنهم زاروا عالماً من علماء الإسلام بداية تأسيسهم لفتح وطلبوا منه الدعاء والمباركة، مع أن معظم العلماء والدعاة أيدوا فتح ومدوا لها يد العون والمساعدة، والمنظمة قامت ابتداءً على سواعد المسلمين، وليس للنصارى أي دور إيجابي لا في نشأتها ولا في استمرارها.
__________
(1) كتاب (عرفات إرهابي أم صانع سلام)، وفي مجلة التضامن بتاريخ 2 نوفمبر 1985م أكد عرفات بأن اللقاء مع الراهب قد تم فعلاً، لكنه اعترض على أمور ليس منها طلب المباركة من الراهب.(30/163)
ونفاق عرفات للنصارى لم يتوقف عند حد طلب المباركة من القسيس إبراهيم عياد بل لقد أصبح للنصارى دور بارز في صنع القرار الفلسطيني .. ومن أشهر الأسماء التي شاركت في قيادة المنظمة: (جورج حبش، وديع حداد، نايف حواتمة، كمال ناصر، الخوري، المطران كابوتشي، وغيرهم وغيرهم).
والسؤال الذي يفرض نفسه: (ما الذي جنته المنظمة والشعب الفلسطيني من تحالف عرفات مع النصارى؟!).
وبكثير من الإِيجاز الذي يتناسب مع طبيعة هذا الفصل نقول: -
- النصارى الانكليز قدموا خدمات لا تحصى لليهود، وشجعوا هجرتهم من جميع بلاد العالم إلى فلسطين، وتبنوا إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين [وعد بلفور].
- نشطت كثير من الجمعيات النصرانية في فلسطين في الدعوة إلى هجرة اليهود إلى فلسطين، ونادوا بقيام مملكة لإِسرائيل .. وكانت هذه الجمعيات تعمل بالتنسيق مع دوائر الاستخبارات البريطانية من جهة ومع الوكالة اليهودية من جهة أخرى .. وكان الممول اليهودي [روتشيلد] يقدم مساعداته لجميع الإِرساليات التبشيرين في فلسطين كالبابوية، والبروتستانتية، والصهيونية(1).
- أعلن بولس السادس باب الفاتيكان تبرئة اليهود من دم المسيح – وهو حق أراد به باطلاً – وكذّب عقيدة قومه المخالفة لصريح القرآن الكريم، وعندما زار القدس في الأسبوع الأخير من شهر يناير عام 1965م قال مخاطباً اليهود: (إن الصراع الدامي بين المسيحية واليهودية قد انتهى).
- أسس النصارى تنظيماً كتائبياً آخر في الضفة الغربية من فلسطين المحتلة، وفي الضفة الشرقية أسموه (الجيش المريمي).
__________
(1) من شاء مزيداً من التفاصيل فليراجع كتاب (التبشير والاستعمار) وكتاب (مجمع الكراهية).(30/164)
وكان لهذا التنظيم جناح عسكري يقوده ضباط نصارى لهم مراكز قيادية في الجيش الأردني، وجناح سياسي يعمل من أجل السيطرة على القدس وما حولها، ويشتري أعضاء هذا التنظيم العقارات من المسلمين بأسعار باهظة كما فعل اليهود من قبل .. وقبل عام 1967م وضعت السلطات الأردنية يدها على المؤامرة والمتآمرين، وضبطت نشراتهم السرية ومستودعات الأسلحة التي يمتلكونها .. واكتفت أجهزة الأمن بتسريح بعض قادة هذا التنظيم من العسكريين واعتقال أفراد منهم.
- اعترف ياسر عرفات وبعض مساعديه في فتح بأن جورج حبش وحواتمة ووديع حداد كانوا طرفاً في مؤامرة أيلول عام 1970م .. وأنشطتهم التخريبية في الأردن لم تكن في صالح القضية الفلسطينية، ورغم ذلك لم تتخذ فتح ضدهم أي إجراء رادع.
وبعد عام 1982م تحالف جورج حبش ونايف حواتمة مع النظام النصيري وهما أول من يعرف بأن حافظ أسد من ألد أعداء الشعب الفلسطيني ومن المتآمرين على كفاح الشعب الفلسطيني .. وفوق ذلك كله فعرفات يلهث من أجل مصالحة حبش وحواتمة.
وبعد: هذه نبذة مختصرة عن نتائج تحالفات عرفات مع النصارى .. وليدلنا هو وزملاؤه عن زعيم نصراني وقف بصدق ضد الموارنة في لبنان وضد اعتداءاتهم على المخيمات الفلسطينية؟!.
ولا ندري لماذا وإلى متى تسلط فتح الأضواء على كابوتشي وأمثاله من جنود باب روما؟!.
المبحث الخامس
تحالف المنظمة مع السوفيات
زعم قادة منظمة التحرير منذ القديم أن الاتحاد السوفياتي مع العرب ضد إسرائيل، وصدّقهم الشعب الفلسطيني عندما قالوا له: (إن قادة الكرملين يقفون مع الشعوب المضطهدة في كفاحها ضد الاستعمار ويقدمون لها كل ما يقدرون عليه من دعم ومساعدة من أجل أن تتحرر من الظلم والطغيان والاستعمار، وهم – أي السوفيات – لا يريدون من وراء ما يبذلون جزاءً ولا شكوراً).(30/165)
وكان ثمن هذه الدعاية باهظاً جداً .. لقد ظن ضعاف النفوس من أبناء جلدتنا أن الشيوعيين سيحررون لنا فلسطين، وأن الذين يحاربون الشيوعية عملاء لأمريكا بل ولإِسرائيل .. وفي ظل هذه الأجواء المحمومة التي صنعتها قادة منظمة التحرير تسلل عدد من الشيوعيين ومؤيديهم إلى قيادتي منظمة التحرير وفتح، وقامت منظمات فلسطينية يسارية، وأصبح للشيوعيين دور مهم في صنع القرار الفلسطيني.
وكم حج عرفات إلى قبر لينين وطاف حوله!! وكم نافق للسوفييت .. ومن ذلك تأييده لغزو أفعانستان المسلمة ومحاولتهم إبادة هذا الشعب الطيب الذي يعد من أشد شعوب الأرض حماسة لقضية فلسطين!!.
ويتطلع ياسر عرفات إلى القادة السوفيات طالباً منهم تأييده ضد المنشقين عنه .. ولكن هيهات له ذلك، لقد قرروا خلعه ليكون البديل عنه مخلصاً لهم. ولتكون القيادة دمية بأيديهم يحركونها كما يشاءون. وقد بدأ قادة الكرملين يصرحون بذلك في محادثاتهم مع المسؤولين الفلسطينيين الذين زاروا موسكو بعد الانشقاق الذي وقع في قيادة المنظمة.
وبعد: آن لنا أن نتساءل: هل كان الشيوعيون السوفيات مع العرب ضد إسرائيل كما زعمت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية؟!.
إن الجواب على هذا السؤال ورد في عدد من المؤلفات التي نشرت بعد حرب 1948م، مع ذلك نحاول إيجازه فيما يلي:-
- ألغت ثورة أكتوبر الشيوعية عام 1917م كافة القوانين والقيود المفروضة على اليهود أيام القياصرة، لأن اليهود ساهموا في هذه الثورة، وكان عدد من القادة الشيوعيين يهود.
- شارك الاتحاد السوفيتي في إنشاء دولة إسرائيل عام 1948م، ووقف الشيوعيون العرب إلى جانب اليهود، وكانوا يعارضون مشروعية دفاع العرب عن حقوقهم في فلسطين عام 1948م، ووقعت مصادمات بين المواطنين والشيوعيين في عدد من العواصم العربية.
- وافق الاتحاد السوفياتي على قراري مجلس الأمن: 242 و 838 بعد حرب الخامس من حزيران عام 1967م.(30/166)
- إذا كانت الولاياة المتحدة الأميركية قدمت لإِسرائيل المال والسلاح، فالاتحاد السوفياتي قدم لها الغطاء البشري الذي يمكنها من إنجاح كافة المشاريع الإِسرائيلية العسكرية والاقتصادية.
ونورد فيما يلي الجدول التالي الذي يوضح أعداد المهاجرين وسنوات الهجرة وأعداد من وصل منهم إلى إسرائيل كما أعلنته جريدة يديعوت أحرونوت في 13 مارس 1981م.
المهاجرون السوفيت 1971م - 1980م
السنة
عدد المهاجرين
عدد الذين وصلوا إلى إسرائيل
1971
13.000
11.500
1972
32.000
31.652
1973
35.00
33.477
1974
30.000
20.000
1975
13.000
11.459
1976
14.383
14.000
1977
17.000
8.383
1978
29.000
12.000
1979
51.000
17.000
1980
21.000
12.542
ويكون عدد الذين هاجرون من الاتحاد السوفياتي من اليهود منذ عام 1971م إلى عام 1980م 383 و 255 أي أكثر من ربع مليون.
- نشرت صحيفة [لونوفيل أوبسر فاتور] التعليق الآتي:-
(أشارت أنباء واردة من إسرائيل إلى أن آلافاً من اليهود السوفيات [يقدر البعض عددهم بمائة ألف بينما يقدر الآخر أن عددهم نصف مليون] ينتظرون الحصول على سمة خروج من الأراضي السوفيتية ولا أحد يعرف متى ستفتح لهم الأبواب لهجرتهم خارج الاتحاد السوفيتي، كما لا يعرف أحد بعد الطريق الذي سيسلكونه للوصول إلى إسرائيل، فهل سيمر هؤلاء من وارسو كما يعتقد صحافيو التايمز؟ أو أنه سيتم تنظيم رحلات جوية مباشرة لتقلهم من الاتحاد السوفيتي إلى تل أبيب مباشرة.
والهدف كما نعلم هو منع اليهود السوفيات من المرور بفيينا حيث يفضل غالبيتهم التوجه إلى الولايات المتحدة بدلاً من التوجه إلى (أرض الميعاد) – على حد قول الصحيفة -، كما كانوا يفعلون منذ عشر سنوات، الأمر الذي أغضب الحكومة الإِسرائيلية.(30/167)
وإذا تمت عملية النقل عبر وارسو فهذا سيعني بأن عملية ذوبان الجليد بين إسرائيل من جهة ودول الكتلة الشيوعية من جهة أخرى قد بدأت من بولندا وهذا على أية حال لن يدهش أحداً نظراً لعملية التقارب بين البلدين التي بدأت قبل بضعة أشهر مضت.
وفي غضون ذلك تؤكد بعض الدوائر الوثيقة الاتصال بالحكومة الإِسرائيلية أنه تم إحراز تقدم كبير في المفاوضات الجارية حول السماح لليهود السوفيات بالهجرة إلى (أرض الميعاد). وتدور هذه المفاوضات على مستويات مختلفة. فهي تدور من ناحية في واشنطن بين دبلوماسيين إسرائيليين وسوفيت، وتدور من ناحية أخرى بين (ادغار برونجمان) رئيس المؤتمر اليهودي العالمي ومسؤولين سوفيات.
هذا وكان الرجل قد سلم شخصياً رسالتين من شمعون بيريز إلى الزعيم السوفيتي (ميخائيل جورباتشيف) وذلك في مناسبتين. لكن يبدو أن المفاوضات بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة بهذا الشأن هي الأهم، نظراً لأن المسألة لا تخص فقط اليهود السوفيات لكنها تخص مشكلة منطقة الشرق الأوسط برمتها.
وعلى أية حال يبدو أن الوقت سانح لتحقيق تقارب بين إسرائيل من جهة والاتحاد السوفيتي من جهة ثانية، وإذا كانت عملية عربات الجليد في العلاقات بين البلدين لم تتم بعد فإنها لا شك قد بدأت. وليس من الصدفة أن يكون الرئيس الإِسرائيلي (حاييم هيرتزوج) قد توجه أخيراً لحضور افتتاح مؤتمر الحزب الشيوعي الإِسرائيلي، وهذه هي المرة الأولى في تاريخ إسرائيل التي يحضر فيها رئيسها افتتاح مؤتمر الحزب الشيوعي في إسرائيل. وأعاد (خيرتزوج) إلى الأذهان الدور الذي لعبته موسكو في إنشاء الدولة اليهودية، ودعا إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.(30/168)
ورد عليه (ميخائيل ناشيف) الذي كان يمثل رسمياً الحزب الشيوعي السوفيتي في الاحتفال مشيراً إلى العلاقات (الطبيعية) التي كانت سائدة بين البلدين في السابق، وأعاد إلى الأذهان ما قاله (ميخائيل جورباتشيف): (لقد شاركنا في إنشاء دولة إسرائيل ونحن نعترف بسيادتها وحقها في العيش في سلام وأمان)(1).
وكل الدلائل تشير إلى أن القيادة السوفيتية الجديدة ترغب وبسرعة في القضاء على الاحتكار الذي فرضته الولايات المتحدة لنفسها للتحكم في عملية السلام بين إسرائيل والعرب. ويقال أن موسكو على استعداد من أجل تحقيق ذلك أن تدفع ثمناً ما أيضاً. وقد حدد الإِسرائيليون على ما يبدو هذا الثمن، وهو السماح بالهجرة المكثفة لليهود السوفيات إلى إسرائيل، واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وبالمقابل سيقبل شمعون بيريز اشتراكاً سوفيتياً في عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط وذلك ضمن إطار مظلة دولية لأية مفاوضات مباشرة بين العرب والإِسرائيليين في المستقبل.
ويدرك بيريز أن المشاركة السوفيتية مسألة مهمة بالنسبة لأية تسوية سلمية للنزاع العربي الإٍِسرائيلي). انتهى كلام صحيفة (لونوفيل أوبسر فاتور).
وقصارى القول فإن السوفيات ساعدوا إسرائيل بهجرة ربع مليون يهودي، ويستعدون الآن لإصدار قرار ينظم هجرة ربع مليون آخر من اليهود، فيكون المجموع نصف مليون .. فأية مساعدة أكبر من هذه المساعدة، وأي عون أهم من هذا العون؟!.
يقول (هليل اشكنازي) المدير العام لوزارة الجرة والاستيعاب الإِسرائيلي السابق:
(إنه يجب تأمين سبعين ألف مهاجر سنوياً إلى إسرائيل للحفاظ على نسبة 85% من اليهود فيها في مقابل 15% من العرب، لأن انخفاض الهجرة قد يؤدي إلى انفجار التوازن السكاني لصالح العرب) النهار 8 مارس 1974م.
__________
(1) عن القبس الكويتية العدد 233 بتاريخ 13 يناير 1986م.(30/169)
ومن غير السوفيات يقدم لإِسرائيل مثل هذه الخدمات التي تضمن لهم عدم الانفجار السكاني لصالح العرب.
ومن جهة أخرى يتحدث قادة المنظمة وغيرهم من اليساريين العرب عن الأسلحة السوفياتية، وعن دعم العرب في المحافل الدولية.
أما الأسلحة فتباع للمنظمة وللحكام العرب بالثمن الذي يريده السوفياتي، وتعد من الموارد الاقتصادية المهمة.
وأما دعم العرب في المحافل الدولية فيجري ضمن شروط اللعبة الدولية، ويعد من قبيل تبادل المصالح، لأن للسوفيات مصالح مهمة في دول الشرق الأوسط ..
وعلى كل حال فعرفات يعض أصابعه ندماً على تورطه مع السوفيات، وهو ليس أول ضحية من ضحاياهم.
المبحث السادس
الأباطرة
وجهت مجلة التضامن لياسر عرفات السؤال التالي: في إطار الانتقادات التي توجه إلى أسلوب عمل بعض مؤسسات المنظمة، تدور في مجالس الناس، فلسطينيون وعرب من أقطار مختلفة، انتقادات لمسؤولين في المنظمة لأن سلوكهم يتصف بالتعالي وليس بالثورية، على سبيل المثال هنالك بعض مدراء مكاتب منظمة التحرير الذين يتصرفون باستعلاء، والوصول إليك أنت يبدو أحياناً أسهل من الوصول إليهم، بل إن بعضهم صار يغضب إذا لم يلقبه المرء بقلب [سعادة السفير] بدل الأخ فلان؟.
أبو عمار: هؤلاء، أو هذا البعض الذي تتحدث عنهم، لي فيهم رأي، ومشهور عني قول أردده عنهم، ويشهد لي في ذلك الأخ الطيب عبد الرحمن أنا أسميهم الأباطرة، الأباطرة في الثورة، طبعاً ليس كل مدراء المكاتب.
وفي موضع آخر من المقابلة وصفهم عرفات بالقياصرة.
وتحدث في موضع ثالث في المقابلة التي أجرتها التضامن معه [في العدد رقم 134 تاريخ 2 نوفمبر 1985م] عن التجاوزات العسكرية التي ارتكبتها المنظمة في لبنان قبل الغزو الإِسرائيلي .. ولكن كعادته راح يهون من شأن هذه التجاوزات، ويلتمس الأعذار لجنده، وزعم أن قيادته لم تتدخل في شئون لبنان ولم ترتكب تجاوزات.(30/170)
ونشرت مجلة (درشبيغل) الألمانية تعليقاً مهماً عن منظمة التحرير هذا نصه: (من الناحية العسكرية فإن ياسر عرفات قد قضي عليه تماماً، ومن الناحية السياسية فإنه يشعر الآن بالتعب والإِرهاق، ولكن رغم كل ذلك فإن عرفات ما زال يملك روح الاستمرار في جهوده الرامية إلى إثبات الذات فلسطينياً وعربياً ودولياً من خلال من تبقى له من الأصدقاء معتمداً في ذلك على ضريبة الحرب التي يدفعها الفلسطينيون في كافة الأنحاء، والأموال التي تدخرها المنظمة في خزينتها).
أحد مسؤولي مكتب منظمة التحرير في روما يصف الحالة والوضع الراهن للمنظمة بالقول: (إن كبار المسؤولين الفلسطينيين يرون أن مستقبل المنظمة أصبح في مهب الريح نتيجة لسلسلة الهزات التي تعرضت لها في الآونة الأخيرة ويقولون إن الأزمات أصبحت تحيط بالبيت الفلسطيني من كل جانب، وإن الوضع أصبح خطيراً للغاية ما لم تحصل معجزة تحد من هذه الخطورة).
ويؤكد هؤلاء المسؤولين أن ما تعرضت له منظمة التحرير من ضربات متلاحقة ابتداءً من الغزو الإِسرائيلي للبنان وخروج المنظمة من لبنان، وقصف الطائرات المقاتلة الإِسرائيلية لمقر المنظمة الجديد في تونس وانتهاءً باعتراض الطائرات المقاتلة الأميركية التابعة لحاملة الطائرات الأميركية [سراتوغا] للطائرة المصرية التي كانت تقل خاطفي السفينة الإِيطالية [أشيل لورو] والزعيم الفلسطيني المتطرف أبو العباس بهدف اعتقاله ومحاكمته، كل هذه الضربات أدت إلى إنهاك المنظمة ورئيسها ياسر عرفات.(30/171)
وعلى الصعيد العربي، فإن الدور العربية التي كانت تمول المنظمة بالمال طوال السنوات الماضية تشك الآن في إمكانية تحقيق المنظمة لأهدافها السياسية في المستقبل المنظور، وأخذت تفكر في قطع المساعدات المالية عنها، وخاصة في أعقاب وصول الطائرات الإِسرائيلية إلى أقصى الشمال في ملاحقتها للفلسطينيين، كما أن هذه الدول العربية أخذت تبدي تخوفها من أن تتعرض هي الأخرى إلى اعتداءات إسرائيلية جديدة شبيهة بالاعتداء الذي وقع على تونس، ومن قبلها على العراق، حيث قصفت الطائرات الإِسرائيلية المفاعل النووي العراقي بالقرب من العاصمة بغداد قبل حوالي أربع سنوات.
وفي هذا الإِطار قال عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير جمال الصوراني في مقابلة مع صحيفة [العرب] القطرية: (إن الأموال التي تنفقها المنظمة تزيد عدة أضعاف عن الأموال الواردة إلى المنظمة من المساعدات العربية).
وهذا التصريح إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأموال التي تتلقاها المنظمة يذهب بعضها إلى جيوب بعض القيادات الفلسطينية الطفيلية التي تريد أن تغني عن طريق المساعدات التي تقدمها الدول العربية والضرائب التي يدفعها الفلسطينيون العاملون في الدول العربية للمنظمة.
ولهذا فإن قطاعات كبيرة من الفلسطينيين أخذت توجه الاتهامات للمنظمة بأنها تنتزع الأموال من الفلسطينيين ليس بهدف استثمارها للكفاح الفلسطيني ولاستمرار النضال ولمساعدة الأهل في الأراضي العربية المحتلة، التي ترزح تحت الاحتلال، وإنما لاستثمار هذه الأموال في تحقيق مآرب بعض القيادات الفلسطينية في المنظمة.(30/172)
ومن بين هؤلاء الذين ينقدون المنظمة ويوجهون الاتهامات واللوم لها رئيس بلدية بين لحم إلياس فريج الذي قال في أكثر من مناسبة: إن المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة هم أولى بالأموال الطائلة التي تنفقها المنظمة، لأن الأهل في الوطن المحتل هم الذين يواجهون قوات الاحتلال، وهم الذين يتعرضون يومياً لعمليات القهر والاعتقال.
وعندما كانت المنظمة في أوج قوتها وعندما كان ينظر إلى عرفات على أنه واحد من الزعماء العرب، وأخذ أصحاب النفوذ في البيت الفلسطيني والعربي، وجدت الدول العربية نفسها مضطرة إلى مواكبة هذا الشعور وهذا الاعتقاد، ولهذا قررت بعد أن وقع الرئيس المصري السابق أنور السدات معاهدة الصلح مع إسرائيل واتفاقيات [كامب ديفيد] برعاية الولايات المتحدة عام 1978م، وفي مؤتمر القمة العربي الذي عقد في بغداد الاعتراف على أنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، كما قررت زيادة المعونات المالية التي تقدمها إلى المنظمة إلى 300 مليون دولار سنوياً خلال الفترة الواقعة بين عامي 1979م، و1989م.
ونظراً لهذا المبالغ الطائلة التي كانت تتلقاها المنظمة فقد تم تشكيل صندوق فلسطيني يشرف عليه مباشرة ياسر عرفات. وبموجب القرار الذي اتخذه الزعماء العرب في قمة بغداد، فإن المنظمة كانت تحصل من السعودي 85.7 مليون دولار سنوياً، ومن الكويت وليبيا 47.1 مليون دولار، ومن العراق 44.6 مليون دولار، ومن الإمارات العربية المتحدة 21.4 مليون دولار، ومن قطر 19.8 مليون دولار سنوياً.
وفي [طبق] آخر تابع للمنظمة فإن الدول العربية تقدم ما قيمته 70 مليون دولار سنوياً لمساعدة الفلسطنيين الخاضعين للاختلال الإِسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين.(30/173)
ولكن ورغم كل تلك المساعدات فإن بعض القيادات الفلسطينية كانت تتهم بعض الدول العربية بالتقصير في مساعداتها. وعلى سبيل المثال فإن الرجل الثاني في حركة [فتح] الفدائية وعضو اللجنة المركزية للحركة صلاح خلف [أبو إياد] اتهم بعض الدول العربية بأنها تنفق أموالاً في دور غير عربية أكثر بكثير مما تنفقه على الأخوة الفلسطينيين والمعروف أن لمنظمة التحرير رؤوس أموال في كافة أنحاء العالم، وحتى في الولايات المتحدة وأوربا الغربية، كما أن لها حصصاً في عدد من البنوك العربية والعالمية ويعتقد مسؤول بنكي أردني بأن منظمة التحرير تمتلك حالياً في الأردن حوالي سبعين بالمائة من الاقتصاد الأردني فهي تمتلك مصانع لتركيب السيارات ومؤسسات لتصنيع وتعليب الفواكه، ولهذا فإن الأردن يعتمد اعتماداً كبيراً على رؤوس الأموال الفلسطينية في اقتصاده.
وحسب مزاعم إسرائيلية فإن الزعيم الفلسطيني أبو العباس يحصل شهرياً على مائة ألف دولار.
أما بالنسبة لمنظمة الصاعقة، فإن اغتيار زعيمها زهير محسن في الريفيرا الفرنسية حيث يمتلك هناك [فيللا] فخمة، له دلالته على مدى الغنى الذي كان يتمتع به قادة منظمة التحرير.
أما بالنسبة لوديع حداد الذي كان متخصصاً في تنفيذ عمليات فدائية داخل إسرائيل [هكذا زعمت درشبيغل] فقد ترك لشقيقته الوحيدة في عام 1978م ارثاً ضخماً مقداره 140 مليون دولار). اهـ.
تعليقات:
1- أليس عرفات ومساعده هم الذين اختاروا هؤلاء الذين أسماهم أباطرة وقياصرة؟!.
وما الحاجة إلى وجود هذه المكاتب في مختلف بلدان العالم؟!.
إنهم سفراء لحكومة المنفى التي يزعم عرفات بعدم جدواها .. والمنظمة انتهى دورها عندما لجأت إلى تأسيس هذه المكاتب وراحت تنفق عليها من الأموال التي تقدمها بعض الدول العربية للمنظمة.
وما قاله إلياس فريج صحيحاً [بغض النظر عن أهدافه ومقاصده] فالفلسطينيون في الأرض المحتلة وفي المخيمات أحق بهذه الأموال من الأباطرة.(30/174)
2- حقاً هناك شركات ومؤسسات في مختلف بلدان العالم تديرها فتح، وبعض المسؤولين تخلو عن عضويتهم في المنظمة، لكنهم لم يتخلوا عن إدارة هذه الشركات وأصبحت من أملاكهم الخاصة، وفتح لا تستطيع أن تتخذ أي إجراء لأن الشركة في ظاهرها وحسب القوانين ملك لمديرها وليس لمنظمة فتح.
3- كان عرفات مضطراً للاعتراف بتجاوزات وأخطاء جنده في لبنان .. لكنه زعم أن هذه التجاوزات كانت يسيرة، وغير مستغربة، وقد كذب عرفات كعادته فيما زعمه، ونحن في حديثنا عن تجاوزات منظمة التحرير لا نردد أقوال الموارنة ومن نحا نحوهم من أعداء الوجود الفلسطيني في لبنان، وإنما نشير لأهم الأمور التي كان يتحدث عنها المسلمون السنة في لبنان.
- إن جنود حواتمة وحبش وجبريل سلكوا الأسلوب نفسه الذي سلكوه في الأردن قبل مذبحة أيلول عام 1970م.
لقد روّعوا الآمنين، واعتدوا على النساء والشيوخ، ونشروا الرعب والإِرهاب، وكانوا ينفذون عن طريق هذه الأعمال الوحشية دورهم في المؤامرة ضد الشعب الفلسطيني.
وجند زهير محسن من منظمة الصاعقة كانوا لصوصاً وقطاع طرق، وقد تحدث عنهم كمال جنبلاط في مذكراته، كما تحدث عنهم غيره من السياسيين اللبنانيين والفلسطينيين ..
ولهذا فغير مستغربث أن يمتلك زهير محسن (فيللا) فخمة في الريفيرا الفرنسية.
- ولم يكن الجند في حركة فتح أحسن حالاً من غيرهم .. لقد سيطروا على عدد من الشقق المفروشة في بيروت وغيرها من المدن، وكانت هذه الشقق والمباني أوكاراً للدعارة والفجور .. وقد كلم أصدقاء وأعوان الشعب الفلسطيني ياسر عرفات ومساعديه عن هذه التجاوزات لكنهم كانوا بين مشارك للفاسقين في فسقهم أو بين عاجز عن وضع حدٍ لهذه الانحرافات.(30/175)
وكان [علي حسن سلامة] المسؤول الأول عن جهاز الأمن في فتح علماً من أعلام الفساد والفجور، وكان من المدمنين على شرب الخمرة، ويكفي أن زوجته كانت [جورجينا رزق] ملكة الجمال المعروفة .. وكان والده رحمه الله من المجاهدين الذين شاركوا في ثورة الشيخ عز الدين القسام رحمه الله، ثم انتهى ابنه إلى هذه النهاية وعاش جزءاً من حياته مع صليبية فاجرة حاقدة يطلعها على أدق أسرار حركة فتح.
واعترف الرجل الثاني في فتح صلاح خلف أن المخابرات الصهيونية استطاعت تجنيد [سكرتيرته] وأنها حاولت قتله عن طريق السم في الشاي الذي قدمته له في الصباح .. لكنها اعترفت قبل تنفيذ الجريمة [انظر كتاب عرفات إرهابي أم صانع سلام].
والمشكلة ليست في تنفيذ الجريمة من عدمه، وإنما المشكلة في قدرة المخابرات الإِسرائيلية على تجنيد مديرة مكتب الرجل الثاني في المنظمة.
ونجحت المخابرات الصهيونية في اغتيال عدد من زعماء المنظمة في لبنان وفي أوربا وفي بلدان أخرى .. وكانت الخمرة والمرأة من أهم الأسباب في نجاح المخابرات اليهودية.
لهذه الأسباب وغيرها أقول:
لقد دافعت في كتابي هذا عن الشعب الفلسطيني المظلوم في لبنان، ولم أكن أدافع عن عصابات فتح وحبش وحواتمة وجبريل وغيرهم من قطاع الطرق .. فقيادة هذه الحركات جزء لا يتجزأ من المؤامرة، وكان عرفات يبذر أموال المنظمة هنا وهناك، والفلسطينيون في المخيمات يعيشون حياة البؤس والفاقة والحرمان، ففي بيروت وحدها كان عرفات ينفق على أكثر من عشرين منظمة لبنانية يزعم قادتها أنهم من الشعب الفلسطيني، وعندما وقعت الواقعة هربوا إلى باريس ولندن يعربدون بالأموال التي جُمِعَتْ باسم الشعب الفلسطيني وتركوا أعداء الإِسلام يرتكبون أفظع المذابح في كل مدينة ومخيم يسكنه المسلمون السنة.
المبحث السابع
المنشقون(30/176)
بعد أن ولغ جند أمل بدماء الفلسطينيين في مخيامتهم البائسة .. وبعد أن كشفت أوراق الرافضة وهتكت أستارهم أمام البقية الباقية من المسلمين السنة الذين كانوا يحسنون الظن بهم .. بعد هذا كله صدر عن بعض قادة المنشقين عن قيادة عرفات التصريحات التالية:
- في 1 يوليو 1985م قال عضو لجنة التنسيق عن جبهة الإِنقاذ [أبو علي بسيسو] في مقابلة له مع مجلة [الأسبوع العربي]:
(الطائفة الشيعية حليفتنا الطبيعية بشكل عام .. وهي التي احتضنت جماهير شعبنا منذ عام 1948م. ولنلق نظرة سريعة حينما أرغم شعبنا على الخروج من فلسطين المحتلة، أين المخيمات الفلسطينية المتواجدة في لبنان؟!.
أليست جميعها – باستثناء مخيم – بين أبناء الطائفة الشيعية.
وقال: إن ياسر عرفات هو الذي ذبح الطائفة الشيعية يوم مارس سلطاته على جماهير شعبنا في لبنان كاملة.
وقال أيضاً: (إن أسلحتنا بأيدي جماهير شعبنا .. كانت وستبقى في المخيمات وبموافقة الأطراف اللبنانية كافة وعلى رأسهم الأخوة في حركة أمل. على أن أخذ هذه الخصوصية اللبنانية في عين الاعتبار، بأن يكون سلاحنا في أمرتها، وليس العكس، فنحن كقوي ثورية سلاحنا وأرواحنا بإمرة القوى الثورية اللبنانية). اهـ.
- ودافع أبو موسى عن الذين قاموا باغتيال كوادر موالية لياسر عرفات في مخيم عين الحلوة في صيدا وقال: (هؤلاء رموز موالية لعرفات ويشتبه في تعاونهم مع العدو وأعوانه مثل أبي عريضة الذين يلحقون الضرر بالشعب الفلسطيني .. غير أنه استدرك قائلاً: (ولكن جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني ترفض حالياً اللجوء إلى التصفيات) اهـ(1).
__________
(1) الأنباء في 7 سبتمبر 1985م.(30/177)
- صدر عن جبهة الإنقاذ الفلسطيني بياناً جاء فيه: (يؤكد المجتمعون(1) طلبهم إلى كل من عبد العزيز أبو فضة وراجي النجمة وسحسين الهيبي ومؤمن، رموز النهج العرفاتي المستسلم والمرتبط بالحلول الأميركية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية مغادرة صيدا والجنوب خلال أسبوع واحد من تاريخ صدور هذا البيان)(2).
وأعجب ما في هذه التصريحات ثناء [أبو علي بسيسو] على طائفة الشيعة .. ولا أدري كيف نجمع بين علمانية بسيسو ومناداته بإلغاء الطائفية وبين إعجابه الشديد بالشيعة؟!.
وبدلاً من استنكاره لجرائم أمل راح بسيسو يتحدث عما أسماه جرائم عرفات ضد الشيعة في لبنان، وعرفات لم يرتكب مثل هذه الجرائم، والشيعة لم يحتضنوا الشعب الفلسطيني كما زعم بسيسو.
مرة أخرى لا أدري كيف يتجرأ هؤلاء الخونة على قتل إخوانهم في عين الحلوة، وترديد أقوال عملاء إسرائيل وأميركا من النصيريين والرافضة .. والوقوع في مثل هذه التنقضات؟!.
ومهما قيل عن خيانة المنشقين وانحرافهم، لا بد من الاعتراف بأنهم رفاق طريق ياسر عرفات، وخاصة أصدقائه، ولا بد من الاعتراف أيضاً أن ياسر عرفات لم يفاجأ بمواقفهم ولا بمعارضتهم له ولمن هم على شاكلته .. ويفخر عرفات بأنه وقف طضد القرار القاضي بطرد أبي صالح من قيادة فتح قبل انشقاقه بزمن غير قصير، كما أنه يفخر بأنه كان قد أنقذ أحمد جبريل من القتل، مع أن جبريل كان معروفاً ارتباطه بالمخابرات السورية منذ بداية تأسيس فتح [مجلة التضامن 2 نوفمبر 1985م].
__________
(1) المجتمعون: جبهة الإنقاذ الفلسطيني ويمثلها أمين السر أبو ماهر اليماني، والجبهة الوطنية الديمقراطية اللبنانية.
(2) صحيفة الوطن الكويتية في 25 مايو 1985م.(30/178)
إذن كان عرفات ومساعدوه يعرفون اتجاهات زملاءهم في قيادي منظمة التحرير وفتح، ويزعم عرفات بأنه ديموقراطي، وقد ترك المجال مفتوحاً أمام الآخرين ليعبروا عن آرائهم بحرية كاملة .. ولكن الأمر ليس كذلك فعرفات أتقن اللعب على الحبال، وأحب أن يكون في فتح عدة اتجاهات، وهو يستفيد من الصراع بين هذه الاتجاهات، ويشعر كل طرف بحاجتهم إلى رعاية الزعيم الأوحد، ومن جهة أخرى ينافق لبعض الحكومات عن طريق عناصرها في فتح ومنظمة التحرير، فإذا أراد حاجة من الاتحاد السوفياتي أرسل إليهم عناصر شيوعية من فتح، وللعراق وسورية عناصر بعثية ولدول الخليج (آل الحسن)، وللملك حسين السائح وأمثاله، وللفاتيكان المطران كباوتشي وغيره من القسيسين .. وظن عرفات أنه عبقري وغيره أغبياء، وثبت أن غيره لا يقل ذكاء عنه، كما ثبت أن الأفكار والمبادئ أقوى وأشد رسوخاً من الجعجعة واللعب على الحبال، وانتهى عرفات كما انتهى من قبله أحمد القشيري ومن المؤسف أن المسلمين الفلسطينيين كانوا وحدهم الضحية لسياسة عرفات، وقد قادهم من نكبة إلى أخرى، ومن مجزرة إلى مجزرة أخرى، وكان حلفاؤه هم القتلة والجزارين.
المبحث الثامن
الموقف العربي
أسر الروم في حروبهم مع المعتصم – الخليفة العباسي – امرأة مسلمة وأودعوها في سجن من سجون عمورية .. وذات يوم وجه إليها السجّان كلمة نابية جرحت كرامتها فصاحت المرأة بأعلى صوتها (وامعتصماه)، فلطمها الجندي، وسخر منها ومن ندائها، وأين هي من المعتصم؟!.(30/179)
وشاء الله جلّ وعلا أن تقرع هذه الكلمة آذان المعتصم حيث نقلها له أحد الذين سمعوا الخبر .. فغضب الخليفة العباسي، وأمر بتجهيز الجيش، ثم سار به إلى عمورية، وهزم الجيش الروماني بعد معركة طاحنة على مشارف المدينة، وفتح الله على يديه عمورية، وتوجه إلى السجن فقتل الجندي الروماني، وأنقذ المرأة المظلومة .. وعندما مثلت بين يده قال لها: (لبيك نداؤك وامعتصماه .. لبيك نداؤك وامعتصماه .. كرها ثلاثاً).
وتمر الأيام التي وصفها الشاعر هاشم الرفاعي رحمه الله فقال:
وما فتئ الزمان يدور حتى
مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي
وقد كانوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر
سؤال الدهر أين المسلمونا
تمر الأيام، وينتصر حفنة من اليهود على سبعة جيوش عربية عام 1948م، نتيجة مؤامرة دبرتها الدول الكبرى، ونفذها الطواغيت العرب أمثال: جميل مردوم، وعبد الله بن الحسين، وفاروق .. وغيره من الذين زهدوا بالشهادة في سبيل الله وفقدوا النخوة والمروءة العربية ..، وقبلوا أن يكون الضابط الانجليزي (غلوب باشا) قائداً للقوات العربية .. وفر الفلسطينيون مذعورين من أرضهم وأوطانهم، فروا أمام مطاردة عصابات (الهاغانا) الظالمة.
ويتذكر شاعر الشام عمر أبو ريشة قصة المعتصم فقال في مظاهرة صاخبة يخاطب جميل مردم رئيس وزراء سورية:
رب وامعتصماه انطلقت
ملئ أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها
لم تلامس نخوة المعتصم
لا يلام الذئب في عدوانه
إن يك الراعي عدو الغنم
ويقال بأن هذه القصيدة التي تعد من عيون الشعر الحديث كانت سبباً في سقوط وزاره جميل مردم. فأين حكام اليوم من جميل مردم وأقرانه؟!.
- جميل مردم رئيس وزراء سورية عام 1948م كان يسمح بالمظاهرات، وكان يُشْتَم من قبل المتظاهرين ولا يسجن أو يقتل أحداً.(30/180)
أما حافظ الأسد حاكم سورية الأوحد منذ عام 1970م وحتى عام 1986م فلا يسمح بالمظاهرات اللهم إلا إذا كانت مؤيدة لجرائمه وبطشه، وقد حاول الفلسطينيون في مخيم اليرموك بدمشق أن يتظاهروا وينددوا بجرائم أمل، فقمعت المظاهرة بالحديد والنار، وتم تصفية عدد غير قليل من المتظاهرين، واعتقال الآخرين.
- جميل مردم كان يسمح للمتطوعين المجاهدين أن يمروا من سورية ليقاتلوا العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة .. أما حافظ الأسد وأقرانه فلا يستطيع أحد في البلاد العربية أن يطلب منهم السماح له بالدفاع عن الفلسطينيين في سورية أو الأردن أو لبنان أو فلسطين المحتلة.
- كان أهل الخير والمحسنون في عهد الخائن جميل مردم يوزعون المال والطعام على اللاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم، ولا يستطيع أهل الخير اليوم أن يوزعوا مثل ذلك على الفلسطينيين، وقد صادر نظام أسد جميع المؤن والمساعدات التي تبرع بها المحسنون في شبه الجزيرة العربية للمنكوبين المسلمين في لبنان.
- كانت الإذاعات العربية في عهد جميل مردم وأقرانه تتباكى على قضية فلسطين، وكان أكثر الطواغيت خيانة لا يجرؤ على ذكر مصالحة العدو الصهيوني .. أما اليوم فكلهم يلهثون وراء ما يسمى بالحل الأميركي أو الحل السوفياتي، وزيارات رسل البيت الأبيض لدول المواجهة تتصدر نشرات الأخبار العربية دون حياء ولا خجل.
وعلى نقيض ذلك فالجهات العليا في معظم الدول العربية منعت وسائل إعلامها من ذكر الأمور التالية:
أمل الشيعية، المسلمون السنة، النظام النصيري السوري، قوات الموارنة، الكتائب، قوات النصارى، الدروز.
وكانت تكتفي هذه الإِذاعات عند الحديث عن الحرب اللبنانية بقولها: القوات الوطنية، والقوات اللبنانية، وحركة أمل.
ومن أراد سماع بعض ما يجري في لبنان، كان يستمع إلى إذاعة صوت أمريكا أو إذاعة إسرائيل أو إحدى إذاعات الدول الغربية.(30/181)
- وجميل مردم رئيس وزراء سورية عام 1948م كان متهماً بقضية باخرة الأسلحة، ونتيجة لذلك سقطت حكومته وانتهى دوره .. لكنه رغم ذلك ما كان يستطيع أن يتخذ موقفاً ضد الشعب الفلسطيني، بل لقد كان الفلسطينيون في عهده يتمتعون بالحقوق نفسها التي يتمتع بها المواطنون السوريون. أما حافظ الأسد رئيس سورية الثوري وأحد أعمدة حزب البعث العربي الاشتراكي فهو صاحب بلاغ سقوط القنيطرة عام 1967م، وصاحب قرار فصل القوات، وهو الذي مكن إسرائيل من احتلال ما أسماه جيوياً جديدة عام 1973م.
وهو – أي حافظ الأسد – الذي أمر جيشه بدخول لبنان عام 1976م بحجة المحافظة على حقوق منظمة التحرير في لبنان .. ومن ذلك العام وحتى كتابة هذه الأسطر وهو يقتل ويبطش بالفلسطينيين، ولا أعرف أحداً في الدنيا نكتب المسلمون في فلسطين وسورية ولبنان مثله .. ومن أشهر الجرائم التي شارك فيها رئيس النظام النصيري: مجزرة تل الزعتر، وعين الحلوة، والبداوي، ونهر البارد، وصبرا، وشاتيلا، وبرج البراجنة.
ورغم كل ما اقترفته يده لا يزال رئيساً لسورية، وزعيماً عربياًيحسب له القادة العرب ألف حساب، كما أنه لا يزال ينادي بتحرير فلسطينويشن حملات شعواء ضد الذين ينادون بالحلول السلمية!!.
فأيهم أكثر خيانة وإجراماً جميل مردم أم حافظ أسد؟!.
أما الأنظمة العربية فلقد أيدت حافظ أسد في احتلال جيشه للبنان، وسكتت عن جرائمه وكمت أفواه المواطنين، ومنعت خطباء المساجد وأصحاب الأقلام من استنكار المجازر التي ارتكبها أسد في لبنان(1).
__________
(1) نقد بعض خطباء المساجد في بعض البلدان العربية نظام الأسد لأن العلاقات كانت متوترة بين نظام دمشق وهذه البلدان .. وعندما زال الجفاء مُنِعَ الخطباء من قول كلمة الحق.(30/182)
وفضلاً عن ذلك فقد التزمت الدول العربية الغنية بنفقات القوات النصيرية التي احتلت لبنان وأسمتها ظلماً وزوراً قوات الردع العربية .. كما التزمت هذه الدول بدعم الاقتصاد السوري، وأنقذت النظام من الانهيار والإِفلاس، ومن الجدير بالذكر أن هذا الدعم صاحب وصول حافظ الأسد إلى الحكم عام 1970م.
وتحتفظ معظم الأنظمة العربية بعلاقات متينة مع قادة الدروز والموارنة والنصيريين والرافضة .. وتقدم لهم مساعدات سنوية تزيد على ما تنفقه هذه الدول على المساجد ودور العلم الشرعية.
ونظام أسد ليس أول نظام عربي يسفك دماء الفلسطينيين .. لقد سبقه الملك حسين ففعل ما فعله في جرشٍ ومخيمات عمان .. واعترف بعض قادة فتح بأن جمال عبد الناصر كان شريكاً لملك الأردن في مجاز عام 1970م [انظر كتاب عرفات إرهابي أم صانع سلام].
وسبقه حزب البعث في مفاوضاته مع اليهود عام 1958م، وفيما نفذه من إعدامات في عامي 1963م و1964م .. وتوج نظام العفالقة في بغداد جرائمهم باغتيال عدد من قادة المنظمة في السبعينيات(1).
وقصارى القول فإن الأنظمة العربية كلها متورطة مع أسد في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني، لا فرق في ذلك بين اليمينية واليسارية منها أو بين التقدمية والرجعية .. وإذا كان هناك اختلاف فهو في الأدوار .. ولا نصدق بعد هذا أي زعيم عربي عندما يقول: إن هذا الجيش – يعني جيش بلده – درع للأمة العربية، وصخرة تتحطم عليها أطماع العدو الصهيوني.
لا نصدق مثل هذه الأقوال لأننا اختبرنا هذه الجيوش وتأكد عندنا بأنها أُعِدَتْ لحراسة النظام ضد الانقلابات والمؤامرات الداخلية، والناس في بلادنا خائفون مذعورون من مليشيا الزعيم وجواسيسه، وإذا فرضت إسرائيل الحرب على العرب يفر قادة هذه الجيوش ويتبعهم الجند وهم يرددون:
(الحزب أهم من الأرض).
__________
(1) انظر كتاب رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي، الجزء الأول، مؤامرة الدويلات الطائفية 381-388.(30/183)
والعجيب أن قادة الأنظمة الثورية اتخذوا من قضية فلسطين سلماً ومن الحرية شعاراً، ولا يزال في أمتنا من يصدق بأنهم خير من جميل مردم وعبد الله بن الحسين وفاروق!!.
المبحث التاسع
وهل بعد ذلك من نصر؟!
وفي الختام أذكر أخواني أبناء فلسطين بما يلي:
أولاً – لا تنسوا:
- لا تنسوا أن الجيش الإسلامي الذي ضم الصحابة رضي الله عنهم هو الذي فتح فلسطين وحررها من استعباد الرومان واستعمارهم.
- ولا تنسوا أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه منح النصارى حقوقاً ما كانوا يحلمون بها في ظل سيطرة الرومان.
- ولا تنسوا أن المسلم الكردي صلاح الدين الأيوبي فتح فلسطين وحررها من الاستعمار الصليبي الذي دام أكثر من مائتي عام .. وظنوا أن الميدان قد أقفر من أبطاله، وأنهم باقون في فلسطين أمد الدهر.
- ولا تنسوا أن داعية الإِسلام الشيخ عز الدين القسام خطيب مسجد حيفا هو الذي رفع راية الجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، وما كان عليه رحمة الله يشعر بأن سورية كيان وفلسطين كيان آخر، ولا كان يؤمن بهذه الحدود المصطنعة بين بلدان العالم الإِسلامي.
ويشار الله أن يكون الشيخ عز الدين القسام من مدينة [بانياس الساحل] لا تبعد كثيراً عن قرية الخائن حافظ الأسد [القرداحة].
ولا تنسوا دور الشيخ محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين الذي طاق بلدان العالم الإِسلامي داعياً إلى الجهاد في فلسطين، ومحذراً من المؤامرة التي يدبرها أعداء الله الإنجليز، فاستجاب لدعوته العلماء والدعاة إلى الله وفي طليعتهم (الأخوان المسلمون) الذين خاضوا حرب فلسطين عام 1948م، وضربوا أروع الأمثال في الفداء والتضحية، ودافعوا بكل شجاعة عن المسجد الأقصى، وقدموا عدداً غير قليل من الشهداء الشباب.(30/184)
- ولا تنسوا أن الدعاة إلى الله كانوا معكم فيما ابتلاكم به في الأردن وسورية ولبنان .. كانوا معكم في خنادقكم ومخيماتكم وفي العمل الفدائي داخل فلسطين المحتلة .. كانوا معكم في حين كان معظمكم ضدهم فيما ابتلاهم الله به في مصر وسورية.
أخواني أبناء فلسطين: عندما اعتدت حركة أمل والنظام النصيري على صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة في رمضان عام 1405هـ كنت في سفر، وشاهدت في سفري عدداً من المسلمين من جنوب شرق آسيا، وإفريقيا، وأوروبا .. لقد كانوا معكم في محنتكم، كانوا يبكون ويتمنون أن يسمح لهم بالوصول إلى لبنان ليدافعوا عن مخيماتكم.
ثانياً – ولا تنسوا:
- ولا تنسوا ما فعله الحسين بن طلال في جرش وفي مخيماتكم في عمان .. اذكروا جرائمه، ولا تنسوا أن جده الأول الحسين بن علي كان أول خائن عربي استخدمه الإنجليز واليهود من أجل هدم الخلافة الإِسلامية، وكان ابنه فيصل بن الحسين أول مسؤول عربي يتفاوض مع اليهود ويعدهم بوطن قومي لهم في فلسطين وابنه الآخر عبد الله بن الحسين كان صنيعة الإنجليز، وهم الذين منحوه إمارة شرقي الأردن ونصبوا الضابط الإنجليزي (غلوب باشا) قائداً لجيشه .. وهؤلاء يا أبناء فلسطين هم أبطال ما يسمى بالثورة العربية الكبرى ورواد القومية العربية!!.
- ولا تنسوا الشعارات التي كان يروجها جمال عبد الناصر، وكيف استغل قضية فلسطين أبشع استغلال، وصدقتموه عندما قال لكم: (إن الطريق إلى تحرير فلسطين يمر من العوام العربية).
وكيف استخدم كثيراً من شبابكم في تنفيذ مؤامراته ومعاركه في الأردن ولبنان وسورية والعراق واليمن وشبه الجزيرة العربية.
وأخيراً ماذا قدم عبد الناصر لقضية فلسطين؟!.(30/185)
لقد صنع أكبر هزيمة في تاريخ العرب الحديث، ووافق على مشروع روجرز – أي الاعتراف بحق اليهود في فلسطين كلها -، وأعطى الملك حسين الضوء الأخضر ليبطش بكم في أيلول من عام 1970م لأن أتباع جورج حبش(1) ونايف حواتمة تظاهروا ضده واستنكروا موافقته على مشروع روجورز .. وأخيراً فهو الذي اختار صديق السادات ليكون خليفته.
- ولا تنسوا تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي .. لقد كان أول حزب يفاوض اليهود عام 1958م، وهو الذي كان يقرع طبول الحرب ويزعم قادتهم أنهم سيلقون اليهود في البحر المتوسط ليكونوا طعاماً لحيتانه، وعندما وقعت الحرب هربوا من ساحة المعركة، وأصدروا بلاغ سقوط القنيطرة، ومن بعد ذلك منعوا الفدائيين من المرور من حدودهم إلى فلسطين المحتلة .. وأخيراً فعلوا في مخيماتكم ما عجزت إسرائيل عن فعله ..
اذكروا جيداً أن جميع أجنحة حزب البعث متورطون في المؤامرة لا فرق في ذلك بين عفلق والبيطار، أو بين جديد وزعّين، أو بين الأتاسي والبكر، أو بين صدام والأسد .. كلهم يستخدمون الحزب للطائفية أو العشائرية التي يؤمنون بها ويدعون إليها.
- ولا تنسوا ما فعله شيعة الخميني، ففي جنوب لبنان تحالفوا مع اليهود والنصارى وفي بيروت والبقاع والشمال تحالفوا مع الدروز والنصيريين والنصارى، وكنتم وإخوانكم من المسلمين السنة العدو المشترك لجميع هذه الأطراف المتحالفة.
لقد خدعكم عرفات وأعوانه عندما زعموا بأن الخميني إمام للمسلمين، وهو الذي سيحرر الأقصى وما حوله .. والخميني اليوم يتلقى الأسلحة من إسرائيل ويستخدمها في حربه ضد العراق .. واعترف عرفات أخيراً بأن موافق الخميني صدمته!!.
__________
(1) جورج حبش ونايف حواتمة كانوا ولا يزالون ينفذون الدور المطلوب منهم في المؤامرة.(30/186)
أخواني أبناء فلسطين: إن الخميني اليوم يعيد للأذهان أساليب عبد الناصر في استغلال الفلسطينيين وقضية فلسطين .. وقد تشيع بكل أسف بعض الفلسطينيين، وفي لبنان وغزة والضفة الغربية ناس من بني جلدتكم مازالوا يصدقون أقوال الخميني وشيعة فكونوا على حذر، واعلموا أن الرافضة حلفاء لليهود والنصارى منذ أيام عبد الله بن سبأ.
- ولا تنسوا تأييد الاتحاد السوفياتي لليهود عام 1948م، ولسماحهم لمئات الآلاف من اليهود بالهجرة من الاتحاد السوفياتي إلى فلسطين المحتلة.
وتذكروا جيداً مواقف الأحزاب الشيوعية العربية من قضية فلسطين، وآخرها موقفهم منكم في شمال لبنان، وتعاونهم مع النظام النصيري، ولا تصدقوا ما يقوله صلاح خلف وفاروق قدومي وغيرهما عن مواقف السوفيات.
واعلموا أن حافظ الأسد ما كان قادراً على فعل ما فعله بكم لولا تأييد السوفيات له.
ولا تنسوا دور الدروز في حرب 1948م وكيف وقفوا إلى جانب اليهود ضد المسلمين، ولا موقفهم في حرب 1967م .. وتذكروا كيف تخلى عنكم كمال جنبلاط ودروزه عام 1976م وهو الذي حاول أن يصعد على جماجمكم ليكون رئيس جمهورية لبنان .. ثم تذكروا جيداً ما فعله ابنه وليد بكم عند الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م .. وتذكروا أخيراً بأن الدروز هم الدروز في كل عصر ومصر.
- ولا تنسوا أخيراً عداوة النصارى لكم: في فلسطين المحتلة، وفي الأردن، وفي لبنان، وفي الفاتيكان، وسواء كانوا يساريين كعفلق وحبش وحواتمة وجورج حاوي، أو يمينيين، كريمون إدة، وبيار الجميل، وسليمان فرنجية .. لا تتجاهلوا تاريخ أمتكم، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا .. واذكروا قوله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء( [هود: 113].(30/187)
وقوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ( [الممتحنة: 22].
ثالثاً – عودوا إلى الله:
في لقاء المفتي الأسبق الشيخ محمد أمين الحسيني رحمه الله مع أبناء وطنه وجهوا إليه السؤال التقليدي التالي: (متى نعود إلى فلسطين).
فأجاب: عودوا إلى الله تعودوا إلى فلسطين!!.
فسخر سفهاؤهم من جواب المفتي، وراحوا يتساءلون: ما علاقة العودة إلى الله بالعودة إلى فلسطين؟!.
وهل أخرجنا من ديارنا وأوطاننا إلا الله؟! .. ودفعهم كرههم لما يدعوا إليه الشيخ الحسيني إلى الانخراط في الأحزاب والحركات القومية واليسارية: كحزب البعث العربي الإِشتراكي، والحركة الناصرية، وحركة القوميين العرب، والأحزاب الشيوعية العربية.
وبعد رحلة شاقة في مسيرة هذه الأحزاب القومية العلمانية دامت أكثر من ثلاثين عاماً ثبت بالأدلة الأكيدة أن قادة هذه الأحزاب متآمرون مخادعون .. وقد استغلوا كثيراً من أبناء فلسطين في معاركهم ضد خصومهم سواء كانوا من الدعاة إلى الله أو من غيرهم، وأخيراً فعلوا بالفلسطينيين ما عجز اليهود عن فعله.
وبعد هذه الرحلة الشاقة المضنية تذكر العقلاء من أبناء فلسطين قوله المفتي رحمه الله: عودوا إلى الله تعودوا إلى فلسطين.
أما والدة خالد الحسن – أحد قادة منظمة التحرير – فكانت تؤكد منذ بداية تأسيس فتح أن فلسطين لن يحررها إلا المجاهدون المسلمون الذين يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا.
ذكر أحد أبنائها القصة التالية:
كان زوجها – والد خالد الحسن – أحد المجاهدين الأشداء في ثورة الشيخ عز الدين القسام، وكانت زوجته تشاركه في آماله وآلامه، وتؤدي دورها المطلوب في معركة المصير .. وفرحت المرأة عندما سمعت أبناءها يتحدثون عن تأسيس فتح، وكانت تذكرهم بجهاد أبيهم، وتطلب منهم أن يرتسموا خطاه.(30/188)
واجتمع قادة فتح في بيت خالد، واستمر اجتماعهم طوال ليل ذلك اليوم، وكانت الأم ترصد حركات المجتمعين وأفعالهم، وكان الأبناء يستغربون من أمهم التصاقها بباب الحجرة التي تضم معظم قادة فتح .. وبعد أن انفض الاجتماع قالت الأم لأبنائها:
شتان شتان بين اجتماعكم واجتماعات أبيكم وأصحابه .. كانوا يقومون الليل صلاة وذكراً، وأنت ما سمعت منكم إلا العبث والكلام الفارغ .. وليست مواصفات الذين سيحررون فلسطين من العدو المغتصب!!.
ما أروع الفطرة السليمة، فهذه المرأة لم تجهد نفسها في البحث والتنظير، ولم تقرأ عشرات المؤلفات، بل لعلها أمية لا تقرأ ولا تكتب، ومع ذلك فإنها أدركت بفطرتها التي لم تلوثها الأفكار والاتجاهات الدخيلة الشاذة بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن النصر من الله وحده لا شريك له، وليس من واشنطن أو موسكو أو بكين، ومن يعتصم بالله ويأخذ بأسباب النصر لا تهزمه أساطيل الدول الكبرى ولا جيوشها وصواريخها:
(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ( [المجادلة: 21].
حقاً لقد كانت والدة خالد الحسن أبعد نظراً من أبنائها ومن معهم من قادة فتح، وأكثر منهم وعياً وعمقاً .. وتذكر أحد أبنائها نصيحة أمه بعد عقدين من الزمن، وبعد أن تعامل مع قادة المنظمة عن كثب وسبر أغوارهم، وأدرك أنهم أصحاب أهواء وطلاب زعامة، وأنهم يتاجرون بقضية فلسطين كغيرهم من الحكام العرب .. تذكر الإِبن نصيحة أمه فتخلى عن المنصب المرموق الذي كان يشغله في فتح، أما أخواه فتخلوا عن منهج أبيهم وغرقوا في أوحال السياسة.
رابعاً – انتهى دور عرفات:
انتهى دور عرفات بعد أن تخلى بعد أسياده، وفشلت تحالفاته، وانشق عنه رفاق دربه.(30/189)
ومع ذلك لا تزال بعض الأصوات تطالب باستمرار قيادته، وتلتمس له الأعذار .. لهؤلاء نقول: إذا كان عرفات غبياً وغير قادر على معرفة العدو من الصديق، فلا يجوز أن يقود الغبي أمة مجاهدة .. وإذا كان عرفات خبيثاً، وقد كان يعرف مخططات حلفائه، وتعاون معهم حرصاً على زعامته فهو خائن مجرم .. وفي كلا الحالتين يجب أن لا تستمر قيادته للشعب الفلسطيني.
يا أبناء فلسطين: ما هو المبرر لاستمرار قيادة هذا المجرم الذي قاد أمته من مجزرة إلى مجزرة ومن محنة إلى محنة أخرى؟!.
حكموا عقولكم ودعوا عنكم العواطف الفارغة ما الذي يجنيه الشعب الفلسطيني من تقارب عرفات مع الملك حسين أو مع حسنى مبارك؟!.
وماذا تنتظرون من الجزار أسد حتى يتذلل له عرفات، ويطلب منه العفو والمغفرة .. لو كان رئيس المنظمة وفياً لشعبه لما مد يده للمجرم أسد بعد مذابح عام 1976م، لكنه لم يكن وفياً ولا أميناً على دماء وأعراض المستضعفين في المخيمات الفلسطينية.
أي طريق مشبوه لم يسكه عرفات؟!، لقد فاوض اليهود منذ عام 1975م زاعماً أنهم من دعاة السلام ويعارضون نهج النظام الصهيوني، وحاول أن يكسب ود الأميركان، وهاجم المجاهدين المسلمين الأفغان نفاقاً للسوفيات، وبايع الخميني إماماً للمسلمين، ورفع شعار العلمانية، وكان ينفق أموال الشعب الفلسطيني على قطاع الطرق ورجال العصابات في بيروت وطرابلس وصيدا .. ولو كان يعلم بأن اليهود سينسحبون له عن (أريحا) ويسمحون له بإقامة دولة فلسطينية مستقلة فيها لفعل أكثر مما فعله السادات.
يقول بعض الفلسطينيين: إن البديل لعرفات قادة الانشقاق – أمثال أبي موسى وأبي صالح – وأحمد جبريل وجورج حبش ونايف حواتمة .. وهؤلاء ليسوا أحسن حالاً من عرفات ومساعديه.
قلت: المنشقون هم بطانة عرفات وأصدقائه، وقيادته المنحرفة جاءت بهم، وكان يعلم أهدافهم، ولم يختلف معهم على أهداف وتصورات، وإنما كان الخلاف شخصياً.(30/190)
ومن جهة أخرى فالقضية المطروحة ليست عرفات أو المنشقين، لقد ثبت فشل هذه القيادة بشقيها، ولم تعد مؤهلة لقيادة هذا الشعب المسلم الذي نهض من سبات نوم عميق، وكفر بالشرق والغرب، وعاد إلى كنف ربه يسأله النصر والغفران .. وعرفات ومن حوله يعلمون هذه الحقيقة، ويحاولون استقطاب هذه الجموع – داخل فلسطين المحتلة وخارجها – بأساليب ملتوية ليس هذا موضع الحديث عنها .. ولكن هيهات له ذلك، فلقد أفل نجمه، وانفض الناس من حوله.
والقيادة المرشحة لهذه المهمة هي القيادة التي لا تبغي علواً في الأرض ولا فساداً ولا توالي أعداء الله، ولا تضع الورود والرياحين على قبر لينين.
إنها القيادة آلت تستنفر جميع طاقات المسلمين المعطلة، وتعمل جاهدة من أجل توحيد جماعات وهيئات أهل السنة، فليس هناك أخطر على المسلمين من الفرقة والتناحر.
أجل إنها القيادة التي تتفهم مشكلات العصر، وتضع لها الحلول المناسبة من غ ير ما غلو ولا تسيب .. وتتق الله في كل قطرة دم من دماء المسلمين.
وهكذا كانت قيادة صلاح الدين الأيوبي وأستاذه عماد الدين زنكي عليهما رحمة الله ورضوانه.
ومن تقدير الله العجيب أن قيادة صلاح الدين هي التي حطمت دولة العبيدين في مصر، ودويلات الحشاشين والنصيرين والرافضة في بلاد الشام.
ما أشبه الليلة بالبارحة فالنصيريون في بلاد الشام، والرافضة في لبنان وإيران والعراق يذكروننا بسيرة أجدادهم مع الصليبيين والتتار ونرجوا الله أن يبعث في هذه الأمة رجلاً كصلاح الدين وما ذلك على الله بعزيز.
خامساً – رأي في عودة مصر:
مما لا شك فيه أن الرئيس المصري السابق – عليه من الله ما يستحق – ارتكب جريمة كبرى وخيانة عظمى يوم زار الكنيست الإِسرائيلي، وعانق القتلة المجرمين أمثال: بيغن، ودايان، وشارون، وبيريز، وأعقب هذه الزيارة التوقيع على معاهدة (كمب ديفيد)، وتبادل التمثيل الدبلوماسي مع العدو الصهيوني.(30/191)
وأعلن الحكام العرب من جهتهم في مؤتمر بغداد مصر سياسياً واقتصادياً، فزادت هذه المقاطعة من وقاحة فرعون مصر، فأعلن عما بنفسه من حقد وكراهية للعرب، وأصبح دمية تحركها الولايات المتحدة كما تشاء.
ولم تتغير أحوال مصر كثيراً بعد هلاك السادات لأن خلفاءه وجدوا أنفسهم في موقف حرج لا يحسدون عليه ولا يستطيعون منه فكاكاً.
والذين استفادوا من عزلة مصر فضلاً عن الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل: النظام النصيري في دمشق، ونظام الآيات في طهران، ونظام القذافي في طرابلس الغرب.
فنظام طهران لا يقبل اليوم أية وساطة من أجل إنهاء الحرب بينه وبين العراق، ويهدد باحتلال دول الخليج العربي.
ونظام دمشق النصيري تمكن من احتلال معظم لبنان تحت مظلة الجامعة العربية، وارتكب أسوأ المجازر ضد المسلمين السنة، وبشكل أخص الفلسطينيين منهم.
ونظام القذافي يحاول احتلال تونس والسودان، ومن جهة أخرى يحرك جماعة أبي نضال وغيرها من الجماعات الإِرهابية التي تعيد للأذهان أسلوب عبد الناصر، ومعاركه التي كان يفتعلها داخل البلدان العربية.
ومن جهة ثالثة ينسق هذا النظام مواقفه مع كل من سورية وإيران.
ولهذا يعارض الباطنيون في العالم العربي بشدة أية محاولة تهدف إلى عودة مصر إلى الصف العربي، لأن هذه العودة تقلل من أهميتهم وتضف شأنهم ..
ومن المؤسف أن أي حاكم عربي لا يستطيع كبح جماح أسد النصيرية الذي أصبح مرهوب الجانب بعد غياب مصر وانشغال العراق بالحرب.
ولا أدري ما هو المبرر في عدم عودة مصر إلى الصف العربي؟!.
إن جميع الحكام العرب يلهثون وراءا لحلول الاستسلامية مع العدو الصهيوني، لكنهم يخشون شعوبهم، ويفتقدون وقاحة السادات ولا أقول جرأته.
ليست المشكلة عندنا في هذا الحاكم أو ذاك إنما المشكلة في عزلة الشعب المصري المسلم، وما يعانيه من أزمات اقتصادية خانقة تنذر بأسوأ الكوارث.
سادساً – إن ربك لبالمرصاد:(30/192)
أخبرنا جلَّ وعلا أن أمماً طغت وبغت وأكثرت في الأرض الفساد، فأخذها الله سبحانه وتعالى من حيث لم تحتسب، وجعلها عبرة لمن يعتبر. قال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ.(. [الفجر: 6-14].
لقد ظن الذين سفكوا دماء الفلسطينيين في لبنان أنهم خالدون مخلدون في هذه الحياة .. فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر .. ومن أشهر هذه الأسماء:
- طوني بن سليمان فرنجية الذي كان يطمع أن يكون خليفة لأبيه في لبنان .. قُتِلَ في معركة مع حزب الكتائب الماروني، وكان حزن أبيه على قتله أعظم من أن يوصف.
- موسى الصدر زعيم الشيعة ومؤسس حركة أمل اختطفته مخابرات صديقه القذافي مع مرافقيه، ويقال بأنه تمت تصفيتهم.
- بشير بن بيار الجميل: رئيس جمهورية لبنان، وقائد القوات المارونية الذي كان يسمى بشارون لبنان .. قتله نصارى من الحزب القومي السوري الاجتماعي.
- كمال جنبلاط: الزعيم الدرزي الذي ورط الفلسطينيين في المعركة وتخلى عنهم .. قتله نصيريو حافظ الأسد.
- بيار الجميل: زعيم الكتائب، رده الله إلى أرذل العمر، وهلك بعد مقتل ابنه بشير، وبعد أن دب الخلاف بين قادة حزبه.
- سعد حداد: زعيم الدويلة المسيحية في الجنوب، وعميل إسرائيل، أهله الله بالسرطان.
ومن الذين يعيشون في رعب، ولا يأمنون على أرواحهم وأبنائهم، ويخشون حتى من الجند الذين يحرسونهم.
- طاغية سورية حافظ الأسد لقد نجا من الاغتيال بأعجوبة، وكاد يهلك بمرض القلب، ورأى بعينيه اختلاف الوارثين على تركته.(30/193)
- كميل شمعون: نجا من الاغتيال أكثر من مرة، وأباد الكتائبيون معظم قادة مليشياته، والغريب أن الذين يهددونه بالقتل أبناء جلدته الموارنة .. وفوق هذا وذاك فقد رده الله إلى أرذل العمر.
- تدور معارك طاحنة بين أطراف حزب الكتائب، أي بين إيليا حبيقة من جهة، وأمين الجميل وسمير جعجع من جهة أخرى، وكان ضحية هذه الاشتباكات مئات القتلى، ولا أظن أن هذا الخلاف سيحسم بصورة سليمة.
- جرت أكثر من محاولة لاغتيال وليد بن كمال جنبلاط، وكانت سورية إحدى هذه الجهات المتهمة باغتياله لأن شهر العسل بينه وبينها قارب الانتهاء.
- وجرت أكثر من محاولة لاغتيال زعيم حركة أمل نبيه بري .. وهناك جهات كثيرة – داخل الطائفة وخارجها – تطالب بدمه.
هذه بشائر في طريق النصر إن شاء الله، والله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وهلاك الظالمين لا يعني التثاقل إلى الأرض، وعدم الأخذ بأسباب النصر المادية والمعنوية.
من عادة الإِسلام ينصر عاملاً
ويسود المقدام والفعالا
ظلمته ألسنة تؤاخذه بكم
وظلمتموه مقصرين كسالا
إخواني أبناء فلسطين: لا تقنطوا من رحمة الله، ولا تيأسوا من نصره:
(قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ( [الحجر: 57].
واعلموا بأن الإِسلام لم ينهزم في معاركنا مع اليهود.
لقد انهزم القادة الملاحدة الذين يوجهون أشرس الضربات لدعاة الإِسلام.
وانهزمنا جميعاً لأننا قبلنا قيادة هؤلاء الطغاة لنا، وقاتلنا تحت الرايات الجاهلية التي يرفعونها.
وانهزمنا بذنوبنا، وكثرة معاصينا، وتفرق كلمتنا.
ثقوا يا أخوة بأن اليهود هم اليهود في كل زمان ومكان جبناً وهلعاً وضعفاً .. إنهم لا يقاتلون إلا إذا كانوا في قلاع حصينة أو في دبابات متينة. قال تعالى:(30/194)
(لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ( [الحشر: 14].
ولو كان المسلمون المجاهدون يملكون أرضاً لا تزيد مساحتها عن مساحة لبنان أو الأردن، وكانت هذه الأرض مجاورة لفلسطين المحتلة لانتصروا على اليهود بإذن الله.
لقد وعدنا الله بالنصر والتمكين عندما ننصر الله جلَّ وعلا في أخلاقنا وأفعالنا (إنا إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ( [غافر: 25].
(وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ( [الروم: 47].
---
الفهرس
الفهرس
الصفحة
الموضوع
أخي القارئ .......................................................
مقدمة .............................................................
الفصل الأول
المبحث الأول .................................................
من غير تعليق .....................................................
المبحث الثاني ................................................
فقرات مختارة من كتابي الأول: وجاء دور المجوس .................
أصول لا بد من معرفتها ............................................
الثورة الإيرانية ومنظمة التحرير ....................................
ظاهرة الصدر وثورة الخميني .......................................
الفصل الثاني
المبحث الأول
الاعتداءات على المخيمات التي سبقت مجازر أمل ..................
معارك أيلول سنة 1970م ..........................................
معارك 1976م وتل الزعتر .........................................(30/195)
تقرير لوكالة رويتر .................................................
عملية الليطاني ....................................................
الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م .............................
الموقف العربي .....................................................
مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982م ..................................
المبحث الثاني
شهود المذبحة .....................................................
تابع الفهرس
الصفحة
الموضوع
الشاهد الأول ......................................................
الشاهد الثاني .....................................................
الشاهد الثالث .....................................................
الشاهد الرابع ......................................................
الشاهد الخامس ...................................................
الشاهد السادس ....................................................
البداوي ونهر البارود ...............................................
الفصل الثالث
المبحث الأول
عدوان أمل على المخيمات الفلسطينية ..............................
وصف لسير المعارك ................................................
المبحث الثاني
صور من الفظائع التي ارتكبتها قوات أمل ..........................
تقرير للصحفي البريطاني ديفيد بلاندي نشرته الصنداي تايمز ......
تقرير نشره الصحفي (جون كيفنر) .................................
الفصل الرابع
المبحث الأول
مرحلة ما بعد حرب المخيمات .....................................
المبحث الثاني
مجزرة طرابلس ....................................................(30/196)
أقفال الملف اللبناني ...............................................
المبحث الثالث
تابع الفهرس
الصفحة
الموضوع
الشيخ سعيد شعبان ماذا يريد؟! ....................................
تأييد لمنظمة التحرير ...............................................
لمحات عن تعاونه مع إيران .......................................
الوساطة الإيرانية وتصريحات شعبان ...............................
رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه .....................................
الفصل الخامس
المبحث الأول
الصدر والمجلس الشيعي الأعلى ....................................
كلام مهم لكامل الأسعد ...........................................
أقوال الأسعد في الميزان ............................................
ماذا يريد النصارى من إنشاء المجلس الشيعي الأعلى ................
تعاون الرافضة مع الموارنة ..........................................
جنوب بيروت للشيعة أم للسُّنة ....................................
ما لم يصرح به الأسعد .............................................
المبحث الثاني
نظرات في مواقف قادة أمل وتصوراتهم ..............................
حركة أمل تدعو إلى العلمانية .......................................
أمل والقضية الفلسطينية ...........................................
التعاون اليهودي الشيعي ...........................................
أضواء على شخصية نبيه بري ......................................
أمل على خطي الكتائب ...........................................
المبحث الثالث
تابع الفهرس
الصفحة
الموضوع(30/197)
صراع مراكز القوى .................................................
أطراف الصراع ....................................................
حلفاء الموارنة ......................................................
رجال الدين الرسميون .............................................
الحركات الموالية لإيران ............................................
حركة أمل ........................................................
حقيقة هذا الصراع .................................................
حركة أمل وآيات قم ..............................................
قواسم مشتركة .....................................................
الرافضة لا يصدقون ................................................
موقف الرافضة من أهل السنة واحدة ...............................
لماذا يستغربون تعاون أمل مع الموارنة ...............................
المبحث الرابع
سياسة توزيع الأدوار ..............................................
بري بين العلمانية والطائفية .......................................
الفصل السادس
الفلسطينيون بين فكي الكماشة .....................................
المبحث الأول: حوار مع صديق ....................................
المبحث الثاني: عرفات يبحث عن دور ............................
المبحث الثالث: تحالف المنظمة مع الباطنيين ......................
المبحث الرابع: تحالف المنظمة مع الصليبيين ......................
المبحث الخامس: تحالف المنظمة مع السوفييت ....................
تابع الفهرس
الموضوع
الصفحة
المبحث السادس: الأباطرة ........................................(30/198)
تعليقات ..........................................................
المبحث السابع: المنشقون ..........................................
المبحث الثامن: الموقف العربي .....................................
المبحث التاسع: وهل بعد ذلك من نصر؟! .........................
لا تنسوا ...........................................................
عودوا إلى الله .....................................................
انتهى دور عرفات .................................................
رأي في عودة مصر .................................................
إن ربك لبالمرصاد ..................................................(30/199)
أهل السنة والجماعة في إيران - قبل ثورة الخميني وبعدها
منشورات المركز الإسلامي بلوشستان - باكستان
التمهيد
الفصل الأول: نبذة تاريخية عن إيران من بداية الفتح الإسلام إلى عصرنا الحاضر، وينقسم إلى:
1- فتح إيران منذ شروق نور الإسلام
2- إيران في عصور السنية
3- إيران بعد سقوط الخلافة العباسية
4- كيف تحول إيران من السنة إلى الشيعة وكيف تمت الأغلبية لهم
5- هناك اتجاهات لتاريخ إيران
الفصل الثاني: واقع أهل السنة قبل الثورة وبعدها وينقسم إلى:
1- جغرافيا مناطق أهل السنة
2- السنة قبل الثورة
3- السنة بعد الثورة
الخاتمة: نداء إلى مسلمي العالم
المراجع
قال أحد المستشرقين : " لولا الصفويون في إيران لكنّا اليوم في بلجيكا وفرنسا نقرأ القرآن كالجزائريين "
أهل السنة والجماعة في إيران
قبل ثورة الخميني وبعدها
واتخاذ تاريخية يجب على كل مسلم علمها
واتخاذ موقف محدد عن ما يجري لإخوانه هناك
بقلم : مهاجر من أحفاد سلمان الفارسي رضي الله عنه
من منشورات
المركز الإسلامي بلوشستان – باكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
التمهيد
وقد صح عن الرسول (ص) فيما رواه عنه أبو هريرة (ض) أنه قال: " لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من أهل فارس ".
أو قال : " من أبناء فارس " .
وفي رواية ثانية : " قال أبو هريرة: " كنا جلوسا عند النبي(ص) إذ نزلت عليه سورة الجمعة ، فلما قرأ (( وأخرين منهم لما لم يلحقوا بهم )) الجمعة الآية 3 ، قال رجل من هؤلاء : يا رسول الله ! فلم يراجعه النبي (ص)، حتى سأله مرّة ، أو مرّتين ، أو ثلاثا ، قال: وفينا سلمان الفارسي (ض)، قال: فوضع النبي(ص) يده على سلمان، ثم قال: " لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء "(1).
وهذا لفظ مسلم .
ولفظ الترمذي: " والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء " (2) .
ـــــــــــــــــــــ
(1) انظر: صحيح مسلم 16/100-101 مع شرح النووي .(31/1)
(2) انظر: سنن الترمذي 5/60،86، 382 وقد حسنه في موضع ، وضعفه في موضع آخر ، ورواية الترمذي وأحمد- مع ضعف أسانيده – تتقوى .
وفي رواية لأحمد بلفظ: لو كان العلم بالثريا لتناوله أناس من أبناء قارس (1) .
لا يخفى على حضراتكم أن لبلاد فارس بعد الفتح الإسلامي من زمن الخلفية الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عصر الصفويين إلى بداية القرن العاشر تاريخ مشرق وماضي يفتخر به كل مسلم حيث كان مركز العلم والعلماء وموطن المحدّثين والفقهاء والشعراء .
موطن الإمام مسلم والحاكم ابن عبد الله النيسابوري ، والإمام طبري، والإمام الغزالي، والإمام الفخر الرازي،والسرخسي والبيروني، والشهرستاني ، والفاربي، والترمذي، وأبو داود، والخليل ابن أحمد، وسيبويه وغيرهم من المحدّثين والمفسّرين والفقهاء والحكماء .
بل كانت – مدن المشرق خاصة – معظمها من المراكز الرئيسية لرواة الحديث، ولا سيما منطقة خراسان الواسعة التي كانت تشمل على: بست ، وهرات ، نسأ، بلخ ، بخاري، سمرقند، ومرو ، وجرجان ، نيسابور، سرخس ،، وأضف إلى ذلك: الري ( طهران) وطوس وغيرها .
فكانت هذه المدن دار وكان لأهلها اليد الطولى في
ــــــــــــــ
مجموع الطرق وتأييد برواية مسلم
(1) انظر: مسند أحمد 2/397-309420-422-469 وفي سنده شهر بن حوسب، وهو صدوق كثير الأوهام، ويحسن بمجموع الطرق، كما قلنا سابقا .
تدوين الحديث وعلومه، بل فاقوا وسبقوا غيرهم في جميع العالم الإسلامي بلا استثناء في القرن المذكور .
فلو استعرضنا المدونات في الحديث وعلومه، لرأينا أن معظم كتب السنة وكتب الرجال يعود الفضل في تأليفها إلى علماء هذه المناطق .
فصحيحا البخاري ومسلم – وهما أصح الكتب بعد كتاب الله – والسنن الأربع، وصحيحا ابن خزيمة وابن حبان، ومعاجم االطبراني وغيره ذلك من الكتب آثار أولئك الجهابذة العلماء، وفي هذا دليل واضح على سعة ثقافتهم العلمية التي انتشرت وعمت في تلك البلاد .(31/2)
وبهذه المناسبة وقبل الدخول في الموضع الأساسي أريد أن أعطي لمحة موجزة عن تاريخ إيران بعد شروق الإسلام، وسطح نوره فيها على مر العصور لنقف على حقائق تاريخية تحدد الفترة الزمنية لتقلب الأحوال فيها وتحول البلاد من السنة إلى الشيعة وها هي أمامكم .
ونقسّم الموضوع على فصلين، وخاتمة ، وفي كل فصل عدة مباحث، وهي:
الفصل الأول: نبذة تاريخية عن إيران من بداية الفتح الإسلامي إلى عصرنا الحاضر .
فتح إيران منذ شروق نور الإسلام .
2- إيران في عصور السنية .
3- إيران بعد سقوط الخلافة العباسية .
4- كيف تحولت إيران من السنة إلى الشيعة ، وكيف تمت الأغلبية لهم .
5- هناك اتجاهان لتاريخ إيران .
الفصل الثاني: واقع أهل السنة قبل الثورة وبعدها .
جغرافيا مناطق أهل السنة .
السنة قبل الثورة .
السنة بعد الثورة .
والذي ذكرناه استعراض سريع لما جرى من التحول التاريخي على أهل السنة، وندخل الآن فيما يمر على أهل السنة من أحوال الصعبة وعيشة مرّة لنبين الواقع التاريخي الحديث الذي يعيد الماضي الصفويين في ثوب جديد، وأشد مما كان .
1- فتح إيران منذ شروق نور الإسلام :
إيران( فارس) فيما مضى كانت دولة مسلمة، عرفت الإسلام منذ شروق شمسه على شبه الجزيرة العربية حين أرسل محمد بن عبد الله رسول الإسلام(ص) رسالة إلى كسرى فارس يدعوه فيها إلى الدخول في الإسلام، دين الله الحق، الذي رضيه لعباده أجمعين، لكن ملك فارس أبى واستكبر، وكان من الخاسرين .(31/3)
غير أن أشعة شمس الإسلام بدأت تتجه إلى إيران بعد وفاة الرسول (ص) فقد بدأ الفتح الإسلامي لهذه البلاد عام 13هـ في أواخر عهد خليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحقق المسلمون نصرا مبينا في موقعة نهاوند في عام 21هـ ، فسميت هذه الموقعة " فتح الفتوح "، لأن دولة الساسانيين لم تقم لها قائمة بعدها، فاستكمل المسلمون فتح سائر أرداء إيران في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وقبل يزردجرد الثالث آخر ملوك الساسانيين في عام 31هـ، فطويت صفحة الساسانيين وأصبحت إيران من ديار المسلمين .
وعاشت إيران في ظل الإسلام منذ شروق شمس الإسلام على جنباتها في عام 21هـ ، إلى عام 907هـ ، وهي سنية المذهبفي عصور الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسين وظلت سنية المذهب بعد سقوط الخلافة العباسية إلى اًن قامت للصفويين دولة فيها في عام 906 هـ ، ثم أعلن الصفويين فى عام 957 هـ المذهب الشيعي الإمامي مذهبا رسميا لدولتهم ، فأخذت إيران منذ ذالك التاريخ تصطبغ بالصبغة الشيعية، ولا تزال الصبغة الشيعية غالبة عليها إلى يومنا هذا .
2- إيران فى عصور السنية :(31/4)
غلبت الصبغة السنية على إيران المسلمة ما يقرب من تسعة قرون من الزمان – من عام 21 هـ إلى عام 907 هـ – لأن موقعة نهاوند الني سميت فتح الفتوح قد حدثت في عام 21 هـ ، وكانت موقعة حاسمة، لم تقم لدولة الساسانيين بعدها قائمة، فتحت بعدها أبواب إيران على مصاريعها أمام جند المسلمين، فأخذوا يسيطرون على الأقاليم الإيرانية المختلفة إقليما في أثر إقليم، حتى تمت للمجاهدين المسلمين السيطرة على جميع أنحاء إيران في سهولة ويسر، ودون مقاومة تذكر بعد أن تمزق جيش يزدجرد الثالث آخر ملوك كانت الساسانيين ، إلى خراسان ومنها إلى مرو في إقليم ة ما وراء النهر في محاولة يائسة لجميع الجند، وانتهى أمره بالقتل في عام 31 هـ، فبعد هذا العام نهاية فعلية لزوال الدولة الساسانية، وإن كانت هذه الدولة قد زالت زوالا حقيقيا بعد موقعة نهاوند في عام 21هـ . وظلت الصبغة السنية غالبة على إيران في ظل الإسلام طوال العصر العباسي من عام 132هـ إلى عام 656 هـ .
وقد ساعد انتقال الخلافة إلى العباسييَن على ازدياد نفوذ الإيرانيين في الدولة العباسية منذ بدايتها، فقد احتل الإيرانيون منصب الوزارة في هذا الدولة أكثر من نصف قرن من الزمان -من عام 32 ا هـ إلى عام 187 هـ - أي منذ عهد السفاح أول خليفة العباسيين إلى عهد هارون الرشيد خامس خلفاءهم .
وفي عام 205 هـ أراد الخليفة المأمون أن يكافئ قائده طاهر بن الحسين على انتصاره على أخيه الأمين ، فأسند إليه أمر خراسان فانتهز طاهر هذه الفرصة، فأسس دولة سماها الدولة الطاهرية ظلت حاكمة أكثر من خمسين عاما في إقليم خراسان من عام 355 هـ إلى عام 359 هـ .(31/5)
وهكذا ظهرت نزعهَ الاستغلال إع عن العرب في إيران منذ أوائل القرن الثالث الهجري، وازدادت بعد ذلك في عهود الدوالة التي خلفت الدولة الطاهرية كالدولة الصفارية والدولة السامانية ، والدولة الغزنوية، ولكن الصبغة السنية ضلت غالبة على مظاهرالنشاط البشري في إيرإن طوال حكم العباسيين.
وفي عام 259 هـ أقام يعقوب بن الليث الصفاري دولة جديدة في خراسان وسماها الدولة الصفارية ضلت تحكم بواسطة أبناءه وأحفاده من بعده إلى عام 279 هـ .
وفي عام 279هـ بدأ الصراع بين معسكر الصفاري ومعسكر الساماني إلى أن انتهى به انتصار السامانيين وانتزاعهم السيطرة على شرق إيران وتأسيس دولة جديدة عرفت باسم الدولة السامانية ظل حكامها ممثلين في إسماعيل الساماني مؤسس الدولة وأبناءه وأحفاده يحكمون هذه المنطقة الشرقية التي تضم خراسان وما وراء النهر، أكثر من قرن من الزمان من عام 279هـ إلى عام 389هـ (1) .
وقد وصلت الدولة السامية إلى أوج قوتها في عصر نصر ابن أحمد الساماني فسيطرت على أقاليم ما وراء النهر، وخراسان ، وسجستان ، وطبرستان ، والري، وكرمان ، وعلى رغم أن السامانيين أحيوا كثيرا من مظاهر الحضارة الإيرانية القديمة ، فإنهم عليهم، وكانوا يتبعون المذهب السني مما جعل علماء ما وراء النهر يشدون أزرهم ويناحرونهم .
ومن ناحية أخرى قالم السامانيون بحروب في تركستان وانتصروت فيها وبذلك دخل من الأتراك في دولة السامانية، وعلى مرور الزمن تمكنوا من إسقاط الدولة السامانية ، فبدأ عصر جديد، هو عصر نفوذ العناصر التركية في إيران الإسلامية واتخذ الأتراك
ـــــــــــــــ
(1) ص : 35 .
يكونون دولة قوية كان لها شأن في التاريخ الإسلامي عامة، وفي تاريخ إيران خاصة، وهو عصربلغت فيه الصبغة السنبة أزهى درجاتها في إيران (1) .(31/6)
وقد أخذ الخلفاء العباسيون يستعينون بالأتراك منذ عهد الخليفة العباسي المعتصم ابن المأمون – من عام 218هـ إلى عام 227هـ – لأن المعتصم كانت أمة تركية، ومع هذا كان تابعا للخليفة العباسي، وقد شاهد إيران دور العزنويين، وفي العصر السلطان محمود الغزنوي ، وهو المشهورين لشجاعته وكثرة فتوحاته وانتصاراته ، كما كان شاهدا قويا على ازدهار الحضارة الإسلامية ذات الصبغة السنية .
وقد شاهد إيران بعد عصر الغزنوي من بعد هزيمة السلطان محمود الغزنوي من سلطان محمود الغزنوي بداية عصر السلاجقة في عام 429هـ بقيام دولتهم في إقليم خراسان ، وكانت الدولة السلجوقية ذات صبغة سنية شديدة الوضوح، لأن سلاطين السلاجقة كانوا شديد التمسك بالمذهب السني ، وكانوا يعدون أنفسهم جنودا للخلافة العباسية المخلصين .
وبعد عصر السلاجقة تمكنت دولة الخوارزمية في عام 590هـ .
ــــــــــــــــ
(1) ص : 42 .
وفي هذا العصر ظهرت فيه الصبغة السنية في جميع مظاهر الحضارية الإيرانية،وقد ظلت الصبغة السنية غالبة على المسلمين في إيران بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد في عام 656هـ .
إيران بعد سقوط خلافة العباسيين
كان سقوط دولة السلاجقة في إيران والعراق في عام 590هـ (1194هـ) بداية النهاية بالنسبة للخلافة العباسية في بغداد، فقد صادف سقوط السلاجقة ظهور المغول وبروز حرصهم على العالم الإسلامي السني . المغوليون كانوا من القبائل التركية الوثنية المقيمة في وسط آسيا أول سلاطينهم ( تموجين) جنكيز خان ووصل المغول إلى حدود الدولة الخوارزمية في عام 599هـ .(31/7)
وفي عام 656هـ حاصرهم شهرا، وقتل الخليفة المعتصم بالله أحد الخلفاء العباسيين السنيين فأصبح المغول يسيطرون على إيران والعراق سيطرة عامة، واستقر المغول في إيران وأخذوا مدينة السلطانية عاصمة لدولتهم في إيران، وعلى رغم وثنية المغول ، فإن الصبغة الإسلامية السنية ظلت سائدة واضحة في إيران بعد سقوط دولة الخلافة العباسية السنية بل إن قوة الحضارة الإسلامية المستقرة في إيران لم تلبث أن أثرت فيهم فبدأوا يغيرون من عاداتهم وأخلاقهم ويلبسون أنماطا جديدة من الملابس ويؤمنون بمعتقدات دينية تخالف ما اعتادوا عليه في حياتهم القبلية الوثنية .
ووجد المغول بعد استقرارهم في إيران أنهم محتاجين إلى موظفين من الإيرانيين في المناصب الإدارية المختلفة مما يسّر للإيرانيين الوصول إلى المناصب الإدارية الرفيعة في الدولة المغولية، فظلت الصبغة الإسلامية السنية واضحة في مظاهر النشاط البشري في إيران في العصر المغولي، حتى سمى تكودار أخ أبا خان – في قيادة المغول – اسمع أحمد ، وكان ذلك في عام 680هـ بعد مرور أقل من ربع قرن على سقوط الدولة الخلافة العباسية السنية على أيدي المغول الذين غلبوا عسكريا ولكنهم غلبوا حضاريا وتركوا وثنيتهم ودخلوا في الإسلام دين الحق وصاروا من جنوده المدافعين عنه والمحامين لحضارة المسلمين .(31/8)
وقد ظهر التيموريون في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري بقيادة تيمور وتمكنوا من الاستيلاء على أقاليم خرسان، ومازندران وسجستان ، ثم لم يلبثوا أن بسطوا سيطرتهم على أجزاء إيران وهاجموا العراق والشام، واتخذ تيمور مدينة سمرقند عاصمة الدولة وتمكن على جزء من التركستان وجزء من الهند ، وبقيت الصبغة السنية ظاهرة غالبة في إيران في ظل الدولة التيمورية، ولكن مع الأسف بعد وفاة مؤسسها تيمور في عام 807هـ كثرت المنازعات بين أبناءه وأحفاده إلى أن تسبب التفكك في البيت التيموري، بقطع أجزاء الدولة التيمورية ، فتمكنت قبائل القره فيوئلو من الاستيلاء على إقليم آذربيجان في عام 811هـ ، واتسع نفوذ هذه البائل حتى بلغ بغداد . وهؤلاء كانوا يحكمون على الإقليم الغربي من إيران بينما كان أبناء تيمور يحكمون الإقليم الشرقي في إيران ، وظلوا يحكمون هذا الإقليم حتى عام 911هـ.
وكانت الصبغة السنية هي الغالبة الواضحة في إيران على رغم من سقوط الخلافة العباسية – فظلت ظاهرة أثناء غلبة المغول والتيموريون ومن بعدهم إلى طوال قرنين ونصف من الزمان بعد سقوط دولة الخلافة ، فلم تتغير صبغتها إلا بعد قيام الدولة الصفوية الشيعية في عام 906هـ ، وإعلانها المذهب الشيعي الإمامي مذهبا رسميا في إيران في عام 907هـ ، فاتخذ تاريخ إيران وحضارتها الإسلامية اتجاها جديدا منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا .(31/9)
كيف تحولت إيران من السنة إلى الشيعة ؟ وكيف تمت الأغلبية لهم ؟ هل سألتم يوما عما الذي جعل الشعب الإيراني شيعة؟ ولأكثر من ألف سنة كانت أرضا إسلامية مثلها في ذلك مثل جميع الأقطار الأخرى ، ولكن قبل حوالي خمسة قرون كانت هناك قصة مؤلمة غيرت مصير الإيرانيين جيلا بعد جيل : نعم ظلت إيران ما يقرب من تسعة قرون من الزمان تتبع مذهب أهل السنة والجماعة من سقوط الدولة العباسية آخر دول الخلافة السنية ، فكانت الصبغة السنية ظاهرة فيها ، وواضحة في جميع ألوان النشاط البشرى لأهلها غير أن بعض القبائل التركية الساكنة في منطقة آذربيجان بعد سقوط الخلافة العباسية اعتنقت المذهب الشيعي الإمامي مثل قبائل القزلباشية وجنحت إلى التصوف، وكانت تتبع فرقة صوفية تسمى الفرقة الصفوية ، نسبة إلى مؤسسها صفي الدين الأردبيلي ، وكان إسماعيل الصفوي أحد أحفاد صفي الدين يراس بعده الفرقة ، فكانت قبائل القزلباشية تابعة له تحت أمره .
وقد استطاع إسماعيل الصفوي أن يدخل مدينة تبريز وينتصر على أهلها في عام 906هـ ، ويعلن قيام دولة جديدة سميت بالدولة الصفوية نسبة إلى جدّه الأكبر، فكانت هذه الدولة أول دولة شيعة إمامية تقوم بصبغة رسمية ، وتبسط نفوذها على سائر الأراضي الإيرانية وبعد عام 906هـ ، يعتبر بداية حقيقية لقيام الدولة الصفوية الشيعية ، فقد جلس إسماعيل الصفوي على العرش في مدينة تبريز ، واتخذ لقب الشاه أي الملك كما اتخذ هذه المدينة عاصمة لدولة الصفويين الشيعية .(31/10)
أول عمل قام به إسماعيل الصفوي أن أعلن المذهب الشيعي الإمامي مذهب رسميا للدولة الصفوية في عام 907هـ لعموم إيران، وفعل كل ما في وسعه من قبل وتذبيح يفوق الوصف من أجل تنفيذ هذه الرغبة، ومن أسوأ ما قام به في أثناء حكمه أن أرسل مجموعة من المشاغبين ليدوروا بين الأحياء والأزقة، يقوموا بشتم الخفاء الراشدين، ولقد أطلق على تلك المجاميع أسم (برائت جويان ) المتبرئون من الخفاء الراشدين ، وعند ما يقوم أولئك بشتم أبي بكر وعمر وعثمان وينبغي على كل سامع أن يردد العبارة التالية زد ولا تنقص أما الذي يمتنع عن تزداد العبارة، فيقومون بتقطيعه بما يملكون من سيوف وحرب ولم يكن أمام أهل فارس من جراء هذه الأعمال التعسفية إلا الهروب بدينهم ، أو قبول مذهب التشيع مكرهين (1) .
وأدت أفعال الشاه إسماعيل هذه إلى غضب الخليفة العثماني السلطان سليم الأول الذي قاد نشوب الحرب بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية ، وفي النهاية تمكن السلطان سليم الأول من فتح مدينة تبريز، ولكنه بعد أن خرج منها سقطت مرة أخرى بأيدي الصفويين الذين قاموا الفور بارتكاب مجازر جماعية مروعة اقتلعت أهل السنة في تلك المدينة تماما ، وأصبحت تبريز مدينة شيعية بكامل ، حيث إنه قتل في يوم واحد 140 ألف من أهل السنة والجماعة .
ـــــــــــــــــــ
(1) تشهد أكثر كتب التاريخ المعاصر الأساتذة جامعة طهران بذلك الوقائع ذبح أهل السنة وعلماءها في أردبيل خاصة وإيران عامة .(31/11)
أما السلطان سليم فرد على تلك المجزرة بمجزرة مثلها ضد القزلباش الغلاة في جزيرة أناطولى ، واستمر أحفاد إسماعيل على نفس الطريقة، وبعد ذلك سقطت الصفوية على يد محمود أشرف الأفغاني بعد أن حكمت عمرا طويلا، ثم جاء به بعده سلالات أخرى مثل الأسرة الزندية والفجرية والبهلوية ( أسرة رضا شاه )، وفي الوقت الحاضر الخمينية، وكل هذه السلالات والأسر تقوم بالسير على نفس طريق الأسرة الصفوية ، وفي كل يوم يتلقى ما بقى من أهل السنة ضربة جديدة التي آخرها السيطرة على موارد أرزاق أهل السنة وأسباب معيشتهم في المناطق المحاذية للخليج مما اضطر أولئك إلى الهروب إلى الدول العربية المجاورة .
أما النظام الإيراني فقد تلقى هذه الهروب برحابة صدر وراحة تامة، وقامت على الفور بإسكان الشيعة الوافدين من خوزستان في المدن والقرى التي هجرها أهلها من السنة ، فأضيفت هذه المناطق إلى المناطق الشيعية التي كان غير موجودة أصلا، وإذا نظرنا اليوم إلى خارطة إيران، فإننا نرى بأن أهل السنة يقطنون في المناطق الحدودية، وهذا أصدق دليل على أن جميع المناطق المركزية داخل إيران تحولوا إلى مذهب التشيع بسبب ألم وجور سلاطين الذين تعاقبوا على حكم إيران ، ومع أن إيران قبل الأسرة الصفوية لم يكن فيها سوى أرع مدن كان أهلها يتبعون مذهب التشيع، وهي آوه، وكاشان ، سبزوار ، قم .(31/12)
وأما مؤرخو الشيعة فيدعون كذبا بأن الإيرانيين جميعا تقبلوا مذهب الشيعة بمحض إرادتهم وأحيانا يلجئون إلى بعض المصادر الموثوقة ، ويقطعون منها بعض الروايات التي لم يقطع بصحتها الإثبات، ومن هذا القبيل ما جاء في تاريخ ابن الأثير ( بعد أن استشهد زيد بن علي قال لولده: بأن يذهب إلى خراسان، لأن الناس هناك يناصرونه )، أو ما جاء في مروج الذهب للمسعودي، وهو رجل متهم بالتشيع( عندما استشهد يحيى بن زيد أطلق الناس امسه على أولادهم )، ويستدل الشيعة من هذه الروايات بأن الإيرانيين كانوا شيعة قبل مجئ الصفويين، وعكس ذلك فإنما هو متهم بالتشيع.
وهذا الادعاء مردود لعدة أسباب منها:
1- لم يكن خلاف زيد بن علي مع الأمويين خلافا عقديا ومذهبيا إنما كان خلافا سياسيا مبنيا على أساس الظلم أحد الطرفين للطرف الآخر .
2- لنفترض أن مذهب أن أهل خراسان كانوا يناصرون زيدا، فهذا لا يثبت أن مذهب الإيرانيين الحالي التشيع يرجع إلى أكثر من 1300 ، لأن الإيرانيين لم يعترفوا بإمامة زيد بن علي ، بل يعترفون بإمامة أخيه محمد بالباقر ، ومن جانب آخر لم يوجبوا طاعة أوامر وفتاوى كل من زيد وانته يحيى ، ولهذا فإن خروج يزد وابنه ، لا علافة له بتشيع إيران .
3- ومن جانب آخر فإن أكثر أهل خراسان اليوم هم من أهل السنة ، فالقسم الواقع منه في أفغانستان والاتحاد السوفيتي كلهم من أهل السنة ، أما القسم الوقع في إيران ، فعلى رغم من مرور 400 سنة على أساليب الظلم والتعسف الشيعي ، فلا يزال قسم منهم من أهل السنة، وبناء على هذا ، فإن الادعاء بأن أهل خراسان هم شيعة منذ القرن الأول ، فإنما هو كذب محض .(31/13)
4- أن توزع أهل السنة على المناطق الحدودية هو أصدق دليل أن إيران تحولت إلى مذهب الشيعة بقوة السيف، لأن المناطق المركزية اصبح شيعية إذ كان يسهل على الحكام إذ كان يسهل الفرار على تلك المناطق لقربهم من الحدود، وبعدهم عن مركز الدولة، أما في الوقت الحار، فإن نظام الخميني استطاع أن يسيطر على المناطق الحدودية ومنافذها ، ولهذا نرى أن سكان المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية يحاولون الهروب على شكل مجاميع إلى باكستان والأقطار العربية الأمر الذي يؤدي إلى استيلاء الشيعة على مناطقهم .
أما ظهور الشيعة في إيران ، فإنه كان ضربة قاصمة لجميع الأقطار الإسلامية، وإذا نظرنا إلى الخارطة، فإننا نشاهد أن الطريق الوحيد لربط العالم الإسلامي بغربه هو إيران ، وعند ما قطع هذا الطريق بواسطة الشيعية أدى ذلك إلى فصل الغرب عن المشرق ، عندما نطالع التاريخ نرى بأن هذا الانفصار أدى إلى تساقط تركستان بيد الصين ،وتاجكستان ، وبخاري ، وسمرقند بيد روسيا ،والهند بيد بريطانيا ، ثم بيد الهنود وتقريبا في عموم الشرق الإسلامي لم يسلم من الاستعمار إلا أفغانستان ، كما أن هذا الفصل هو السبب في سقوط البلدان الإسلامية بأيدي الصليبية ، وانهيار الخلافة العثمانية إلى أن وصل الأمر إلى سقوط فلسطين بأيدي اليهود، حدث هذا بسبب قطع صلة بين الشرق والغرب الإسلامي بتشيع إيران ، فهل ينتبه المسلمون ومتى (1) .
5- هناك اتجاهات لتاريخ إيران
الاتجاه الأول :
فقد غلبت على إيران الصبغة السنية ، وفي هذا الاتجاه سار تاريخ إيران منذ الفتح الإسلامي إلى دولة الصفوية في إيران في عام 906هـ أي ما يقارب من تسعة قرون من الزمان ، وقد كان لهذه الغلبة أثر واضح في توجيه مظاهر النشاط البشري في إيران وفي رسم سياستها الخارجية ، في تمديد صلاتها بالدول الإسلامية، وغير الإسلامية التي جاورتها أو اتصلت بها .
ـــــــــــــــــ(31/14)
(1) قال أحد المستشرقين: لولا الصفويون في إيران لكنّا اليوم في فرنسا وبلجيكا وأوروبا نقرأ القرآن كالجزائريين .
وأحداث التاريخ الإسلامي – قديما وحديثا – خير شاهد على صحة ما نقول، فقد ساهمت إيران في بناء صرح الحضارة الإسلامية الراقية حيث كانت الصبغة السنية غالبة على النشاط البشري فيها فكان كثيرا من علماء المسلمون في مختلف العلوم الفنون من الإيرانيين وساهم مجاهدو الإيرانيين في نشر الإسلام في ربع آسيا، فأوصلوا نور الإسلام إلى شعوب التركستان وآسيا الصغرى والهند والشرق الأقصى ،وحتى وصل المسلمون إلى حدود الصين .
الاتجاه الثاني :
فقد علبت على إيران الصبغة الشيعية ، وفي هذا الاتجاه سار تاريخ الإيرانيين منذ قيام الدولة الصفوية الشيعية في عام 906هـ، ثم إعلانها المذهب الشيعي الإمامي مذهبا رسميا لإيران في عام 907هـ أي منذ خمسة قرون من الزمان ،وحتى الآن ، وقد كان لغلبة الصبغة الشيعية على إيران أثر في تضعيف الجبهة الإسلامية، لأن المذهبية بين الشيعة في غيرا، ، وأهل السنة بزعامة الدولة العثمانية ،أدت إلى استعمال نيران الحرب بين المعسكرين السني بقيادة العثمانيين والمعسكر الشيعي بقيادة الصفويين وتبادل الطرفان النصر والهزيمة،واستمرت الحروب بين السنة والشيعة أكثر من قرنين من الزمان ، فأدت إلى إنهاء قوى المعسكرين ، وتمكن للمستعمرين من الغرب النصراني باحتلال أكثر ديار المسلمين حتى يمكن القول بأن الخلافات المذهبية بين السنة والشيعة ساهمت في إيجاد كثير من المشاكل التي تعرف الآن بمشاكل الشرق الأوسط .
جغرافية مناطق أهل السنة
1- تركمن صحراء :
تقع في شمال إيران من بحر قزوين ( ديرياي خزر) إلى الحدود الجنوبية في الحدود السوفيتي السابق في الحدود التركمنستان الحالية .
2- خراسان :
تقع في شمال شرقي إيران التي تصل من ناحية الشمال في حدود تركمنستان ( السوفيتي السابق ) ومن ناحية الشرق في حدود أفغانستان .(31/15)
3- بلوشستان :
التي تقع في جنور شرقي إيران من عند خراسان إلى بحر عمان تصل من حدود أفغانستان وباكستان .
4- منطقة طوالش وعنبران :
في غرب بحر قزوين على الحدود السوفياتي .
5- كردستان :
في غرب إيران من مدينة قصر شيرين إلى حدود تركيا .
6- بندر عباس ( هرمز كان ) :
التي تقع في سواحل الخليج العربي وبحر عمان .
7-فارس ، مناطق عوض ، كله دار ،خونخ ، بيش ، بستك، جناح ، وغيره من مناطق لارستان .
8- بوشهر( خوزمستان): الواقع على حدود العراق والخليج العربي .
9- ضواحي خلخال التابع لمحافظة أردبيل :
مناطق أهل السنة كلها تقع في الحدود من جميع جوانب إيران، وفي داخل إيران الأغلبية للشيعة ، كما يحكى التاريخ عن جور وظلم الشاه إسماعيل الصفوي ،ودعما لحكمهم الباغي قام الصفويون بحركة جادة عامة لنقل أهل السنة ( الذين كانوا يشكلون أغلبية المسلمين في إيران في ذلك الحين ) إلى التشيع بأي وسيلة حتى ولو احتاج الأمر إلى شتى صور التعذيب وسفك دماء الألوف، وخير شاهد على هذا أن باغي التاريخ إسماعيل الصفوي قتل في يوم واحد 140 ألف من أهل السنة والجماعة،وحتى الآن يذكر أهل السنة في منطقة خراسان جيلا عن جيل على سبيل القصص المرّة أن حكومة صفوي الشيعي قتل العلماء ، وهدم المساجد ،وحرق الكتب حتى إنه أمر بأن يرمى من مآذن مساجد ( ومدرسة خردجرد في منطقة خواف من خراسان) سبعون (70) عالما ، وطالب علم يوميا ما يعتبرفون به في كتبهم التاريخية الموجودة حاليا في جامعة الطهران ، مرت هذه وأثبتت الوقائع أن الإسلام هو أقوى من الظالمين (( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)) .
2- السنة قبل الثورة(31/16)
لا شك أن السنة قبل الثورة لم يكن لهم من الحقوق ما للشيعة، ولم يكن لهم المزايا التي للشيعة سواء في الجانب السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي ، ولأجل ذلك ترى أهل السنة دون الشيعة بكثير من ذاك العهد حتى الآن ، وزاد الطين بلة بعد الثورة إلا أنهم في زمن الشاه – قبل الثورة – كانوا يتمتعون بحرية البيان في عقيدتهم ، ومزاولة جميع النشاطات من بناء المساجد والمدارس وإلقاء المحاضرات، وطباعة الكتب في خارج البلاد ،ولكن في نطاق المذهب .
وكان محذورا وممنوعا باتا التعرض من الشيعة لمذهب السنة أو السنة للشيعة، وأذكر أن رجلا من الشيعة وزع كتابا في مساس لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فمسكه بعض الغيورين من أهل السنة وضربوه ضربا موجعا ثم قبضت عليه الحكومة وأدخلته السجن ، فمن هنا كان لهم حرية تامة في نشر المذهب السني وتوعيه الناس، وفي بيان التوحيد، ورد الشرك الذي صار محذورا الآن ، ويعتبر الداعي التوحيد ،ورد الشرك وهابيا ، ويقبض عليه فورا ، كما كان أن أهل السنة كانوا يتمتعون بالأمن والأمان في أموالهم ، وأعراضهم، ودماءهم قبل الثورة .
وكانوا يتمتعون أسوة بالشيعة في الحصول على المواد الغذائية وغيرها بسهولة ويسر ، ودون تعب،وقد صار الآن كل هذه المواد بيد الحكومة لا بد من الانقياد والخضوع أمامها للحصول على المواد المعيشية كلها، والفرق كبير بين قبل الثورة وبعدها، نسأل الله أن يفرج عنهم هذه المحنة .
السنة بعد الثورة(31/17)
يعد نجاح الثورة الإيرانية ( الشيعية ) المسماة بالإسلامية سر بذلك شعب إيران جميعا ،ومن بينهم شعب أهل السنة،وذلك لما سعوا بأن الحكومة الجديدة حكومة إسلامية أساسها العدل وإبادة الظلم، رجاء أن يصلوا إلى حقوقهم الضائعة في حكومة الشاه التي ذاقوها منها مرارة الظلم والطغيان، وظنوا أنه قد آن أوان وصولهم إلى مطالبهم لكثرة ما كانوا يسمعون من الجهات الإعلامية بالشعارات الفضفاضة الخالية عن الحقيقة بتسوية الشيعة والسنة، ويأتيهم أسوة وأخوة لا فرق بينهما وسرعان ما تأثروا بهذه النعرات الجافة كثير من الشعب من أهل السنة واغتر كثير من زعماء أهل السنة في العالم ولم يخص حين إلا وقد اكتشف خوار النعرات السابقة والدعاوي الكاذبة لكثير من الناس داخل إيران وخارجها ،والآن بعد مرور خمس عشرة سنة من ثورة الرافضة المسماة بالإسلامية ما زال أهل السنة يعانون من الجور والطغيان والاعتداء على حرماتهم وممتلكاتهم مما لم يعانوا مثله في التاريخ من قبل قط إلا في العهد الصفوي ،ولكن مع الأسف الشديد لم يجدوا من إخوانهم من يلبي نداءهم عما يعانون من الظلم والجور، ويبلغ للعالم ما يعمله الطغاة والمعتدين عليهم من إلقاء القبض على من له شعور وإحساس وحماس بدينه وشعبه وحقوقهم وإدخاله في السجون والحكومة تحاول أن تغطي كلما يجري على أهل السنة من الظلم والجور الاعتداء عليهم بجميع الوسائل الإعلامية، فمن هنا خفيت أحوال أهل السنة على إخوانهم المسلمين في العالم .(31/18)
والآن قد آن الأوان أن تنكشف الحقائق للعالم، وأن لا يخفى على المسلمين تمييز الحق على الباطل،و ليست المضايقة على أهل السنة في العقيدة فحسب، بل في جميع الشؤون الثقافية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية وغيرها وهم يريدون بذلك إبادة واستئصال أهل السنة من إيران، ومن العالم كله إن استطاعوا وهذا ما يتمناه الزعماء ومراجع التقليد الشيعة في إيران كما أعلن في أوائل الثورة في الإذاعة والتلفاز بأننا عازمين بأن نجعل الدولة الإيرانية حكومة شيعية محضة، ويعنون بذلك القضاء على أهل السنة ، أما باختيارهم مذهب الشيعة أو يترك البلاد كما فعل أسلافهم في العهد الصفوي مع أهل السنة، وهو المخطط الآن وبدء التنفيذ الفعلي لذلك، والقصد من وراء ذلك الوصول الى الدّول المجاورة بإصدار ثورتهم الشيعية البغيضة حيث يحسبون سكان هذه المناطق سدا منيعا لأغراضهم الخبيثة، والآن نضع أمام إخواننا المسلمين في العالم حقائق ثابتة عن الظلم الاعتداء والمضايقة على إخوانهم أهل السمنة في إيران ونوضحها كالآتي :
أولا: محاولة القضاء على عقيدة أهل السنة:
ولاشك أنهم في شعاراته في جميع وسائل الإعلام ينشرون الخير بأن الشيعة والسنة متساويات وهم إخوة ، ومقتضى ذلك أن لأهل السنة ما للشيعة في جميع المجالات وبينما الأمر خلاف ذلك .
فهم أحرار في نشر عقائدهم وجميع شؤونهم ، وليس لأهل السنة شئ من ذلك بل الحكومة الشيعية تسعى أن ينقاد أهل السنة لمذهب الشيعة .
وذلك لأنهم يدركون بأن حرية نشر العقيدة السنية تترادف بطلان عقيدة الشيعة لمعرفة زعماء مذهب الشيعة معرفة جيدة بأن حرية النشر لعقيدة أهل السنة تكشف للناس في العالم فساد عقيدتهم وأفكارهم ومخططاتهم ضد أهل السنة .(31/19)
وحتى الآن ما زالوا يتكلمون في خارج إيران عن حرية أهل السنة في البيان والعقائد ووجود التسوية والاتحاد وعدم الفرق بين أهل السنة والشيعة، وهذا كله دجل وهم من وراء الستار يخططون وسائل وطرق استئصال وإبادة أهل السنة ، (( وهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين )) .
ونوضح الآن بعضا من دسائسهم ومكائدهم :
أ- منعهم أئمة الجوامع لأهل السنة من حرية بيان عقائدهم على المنابر يوم الجمعة بينما لأئمة الرافضة حرية تامة في مذهبهم بل والتعدي على عقائد أهل السنة وذلك حيث إنهم عينوا موظفين من المخابرات والمباحث ، فمن هنا لا يقدر الخطيب الخروج عن دائرة ما يريدون ، وقرّروا حضور علماء الشيعة جوامع أهل السنة يوم الجمعة لإلقاء الخطب حسب ما يريدون عن سياسة الحكومة وعقائد شيعية .
وليس لأهل السنة إلا إلقاء الخطب العربية أو نصائح عامة لا مساس لها بالعقيدة،و إذا خرج الإمام عن حدوده المقرّر من قبلهم لاتهموه بأنه وهابي يريد نشر الوهابية وبهذا الاتهام قبضوا على عدد كثير من العلماء وأدخلوهم في جحيم السجون ، وأعدموا عشرات من العلماء البارزين،وقبضوا على آلاف من العلماء والشباب من بداية الثورة إلى الآن، وكان فيهم :
1- الشيخ العلامة أحمد مفتي زادة ( من محافظة كردستان) وذلك لجريمة مطالبته حقوق أهل السنة وجمع شملهم، وتوفى رحمه الله تعالى بعد التنكيل والتعذيب وذلك بعد عشر سنوات قضاها دخل السجن .
2- الشيخ الدكتور أحمد ميرين البلوشي لكون المذكور أنهى دراسته من الابتدائي إلى مرحلة الدكتوراه في المملكة العربية السعودية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة باسم أنه وهابي ينشر فكرة الوهابية،ولما لوحظ من قبله نشاط في الدعوة وبيان عقيدة الصحيحة السنية،وكان في أشد السجن والتعذيب حكموا عليه حبس (15 عشر) سنة .(31/20)
3- الشيخ محي الدين من عاصمة خراسان: حيث اعتقل قبل سنوات دون أن يقدم إلى محكمة أو يوجه إليه تهمة إلا أنه كان يرأس مدرسة دينية في خراسان وتأخذه الغيرة على اعتقادات أهل السنة واتهمته الدولة بالوهابية يريد الفرقة بين الشيعة والسنة وبعد سنتين في السجون الخميني نفوه إلى محافظة اصفهان لسبع سنوات، والآن منفي في بلوشستان .
4- والأستاذ إبراهيم صفي زاده خريج جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية بالرياض قبل ثلاث سنوات اتهموه بأنه وهابي وضربوه سبعين جلدة في وسط السوق، وأدخلوه في السجن، وحكموا عليه سبع سنوات في السجن، وقد أطلق سراحه أخيرا بعد التعهد على أن لا يتكلم عن الدين .
5- الشيخ نظر محمد البلوشي وهو كان عضوا في البرلمان ومندوبا لإحدى مناطق بلوشسان الإيرانية وكان الشيخ سنتين في أشد التعذيب في سجون الخميني، وأخذ منه اعترافا زورا وجبرا بأنه جاسوس من قبل العراق وإسرائيل يعمل لهم في إيران رغم أه عالم من العلماء البارزين لأهل السنة معروف لدى الناس،وقد هاجر الشيخ أخيرا إلى باكستان فارا بدينه .
6- الشيخ المجاهد دوست محمد البلوشي الذى يبلغ من عمره أكثر من ثمانين سنة، قبض عليه لدفاعه عن صحابة رسول اللّه (ص) في رسائل عدة وبعد أن قضى سنتين في أشد التعذيب في سجون الخميني نفوه إلى محافظة اصفهان ، و بعد سنة أطلقوه، والآن يعيش تحت الحراسة، ممنوع الخروج من البلد إلا بإذن خاص .
7- والشيخ السيد عبد الباعث القتالي إمام وخطيب في بندر خمير في السّاحل حد كثر من ثلاث سنوات لأنه أعلن به رؤية هلال عيد الفطر بدون إذن الحكومة واتهم بأنه عميل للوهابيين ومتابعهم فى الفطر.
8- الشيخ المجاهد مولوي إبراهيم دامني من علماء بلوشستان سجِن لأكثر من ثلاث مرات وفي المرة الأخيرة أعطوه سجن خمس عشرة سنة لأنه تجرأ أن يجيب على وساوس وتهم كتاب ( ثم اهتديت) للتيجاني الشيعي ولم يزل مسجونا في مشهد .(31/21)
9- الشيخ عبد المجيد من مدرسي المعهد الديني في زاهدان بدون أي جريمة .
10- الشيخ محمد قاسم من مدرسي المعد الديني في زهادان بدون أي جريمة .
11- الشيخ أحمد ناروئي من مدرسي المعهد الديني في زاهدان بدون أي جرمية .
ومولانا عبد الله قهستاني ، ومولانا عبد الغني شيخ جامي ومولانا سيد أحمد الحسيني ومولانا عبد الباقي شيراني ومولانا جوانشير داودي ومولانا غلام سرور بريزي ومولانا سيد محمد موسوي ومولانا نور الدين نيك كردار ومولانا عبد اللطيف وآخرين من منطق مختلفة لا نعرف أسماءهم ،وقد أطلق عن بعض وبقى الأكثر في السجن بدون أي جريمة إلا أنهم يريدون التمسك بعقيدتهم الصحيحة والتجنب عن الخرافات والبدعات التي تريدها الآيات أن تنشرها .
وكذلك كثير من العلماء الجيدين وشباب السنة يعيشون في سجون الخميني لا جريمة لهم إلا أنهم من مظلومي السنة المتمسكين بعقيدة السنة ويدافعون عن الحق وحقوقهم ومعتقدات السنة .
كل ذلك والعالم الإسلامي ساكت لا يتكلم بشئ وحتى منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان وغيرهم ساكتون كالمتفرجين فمن للمسلمين في إيران يا زعماء وقادة المسلمين ويا أهل الخير انقذوا إخوانكم لأن بقاءهم أمان للعالم العربي والإسلامي حيث إن حكام إيران يريدون التسلل إلى العالم الإسلامي والعربي عن طريق هذه المناطق الحدودية التي كصمام أمان للأمة الإسلامية .
(ب) مرحلة أخرى ذهب ضحيتها المئات من شباب أهل السنة في كردستان ووصل الأمر إلى أنهم اصبحوا ينفذون الإعدامات بتهمة الوهابية ، ولقد قامت الدولة الخمينية بإعدام العلماء البارزين الذين كانوا في سجون الخميني وكذلك الذين مسكوهم بتهم واهية ومن تبعهم .
1- الأخ الفاضل ناصر سبحاني من العلماء الجيدين والبارزين للسنة ( من كردستان إيران) الذي أعدم في كردستان في شهر رمضان .(31/22)
2- الأخ الفاضل عبد الحق من خريجي جامعة أبي بكر الإسلامي من كراتشي ( باكستان) بعد سنة في أشد التعذيب في سجن الخميني حكموا عليه بالإعدام ، بأن وهابي يأخذ ريالات السعودي ويعمل لنشر الوهابية .
3- الأخ عبد الوهاب صديقي خراسان من العلماء الذين تخرج قبل سنوات من جامعة الأشرفية من لاهور ( باكستان) بعد سنة في سجن الخميني حكموا عليه بالإعدام .
4- والدكتور مظفريان إمام الجمعة لأهل السنة في شيراز قتل بتهم واهية وإنه عميل أمريكا وأغلقوا الجامع وحولوه إلى دكان الأشرطة وأفلام التابع لحرس الثورة ولم يزل بيدهم .
5- الشيخ الفاضل العالم المجاه الأستاذ محمد صالح ضيائي خطيب المسجد الجامع في بندر عباس ومسؤول المعهد الديني في بندر عباس وعوض ( فارس) قبل بأبشع صورة تحت التعذيب ورمى جثمانه الطاهر على الطريق العراء .
6- المولوي شير محمد براهوتي من بلوشستان زابل أتهم بأنه تاجر المحدرات وأنه يساعد الأشرار وليس له جريمة إلا أنه عالم يخدم ويرشد الناس في سيستان .
وأما المقتولين والمحرومين من الشباب المثقفين سواء كان في كردستان أو خراسان أو بلوشستان خاصة فتجاوزوا المئات ويتهمون بأنهم قطاع طرق ومروجوا المخدرات أو ينبذوا بالوهابية والعجيب أن الذين يتاجرون المخدرات هم من أقرب الناس إلى الحكام وهم جواسيسهم وحتى إن الحكومة إذا أعطت أمان أي واحد من بائع المخدرات يطلب منه أن يسلم مجموعة هائلة من المخدرات حتى ولو اشترى هذا الشخص من خارج البلد والحكومة تبيع هذه المخدرات خارج البلد عن طريق عملاء خاصة لها، أعاذنا الله من هذه الأساليب الشيطانية .
طريق إلقاء المحاضرات وتنظيم الدروس
في مناطق أهل السنة :(31/23)
في الدوائر الحكومية بين الموظفين من أهل السنة من قبل علماء وزعماء الشيعة يتناولون عقائد الشيعة ، الجرح لعقائد أهل السنة والنيل من الصحابة عموما – رضي الله عنهم – بالسب والشتم ومهاجمة كبار الصحابة وكبار شخصيات أهل السنة من أئمة المذاهب والمحدثين منهم بعد زوجات الرسول (ص) كعائشة الصديقة وحفصة رضي الله تعالى عنهما والخلفاء الثلاثة ( أبي بكر وعمر وعثمان ) رضي الله عنهم والأمير معاوية خصوصا .
عدم السماح لأهل السنة ببناء المساجد والمدارس :
من الحقائق المعلومة أن أهل السنة محرومون من بناء المساجد في مناطق أكثريتها شيعة ، مثل العاصمة طهران واصفهان ويزد وشيراز وغيرها من المدن الكبيرة مع أنه يوجد في طهران حوالي نصف مليون من أهل السنة ليس لهم مسجد واحد يصلون فيه ، ولا مركز يجتمعون فيه بينما توجد كنائس وبيع وبيوت النار لليهود والنصارى وهم بالعكس يبنون لهم مساجد ومراكز ومدارس وحسينيات في مناطق السنة وفي قرى لا يوجد من الشيعة إلا عدد من الموظفين في الدوائر الحكومية والآن قرّرت الحكومة الإيرانية بعد السماح ببناء أي مسجد في طهران وفي مشهد .
هدم المساجد والمدارس الدينية السنية :
وصل بهم الأمر إلى هدم المساجد والمدارس في بعض المدن، مثل منطقة بلوشستان مدرسة ومسجد للشيخ قادر بخش البلوشي ومسجد للسنة في منطقة كيلان في هشت بر مسجد في كتارك جابهار بلوشستان .
مسجد في مشهد : الواقع في شارع 17 شهر يور، ومسجد الجامع شيخ فيض في شارع خسروي في مشهد في محافظة خراسان، وحولوه إلى حديقة لأبناء الصفويين كل هذا بتهم مختلفة: أما إنه مسجد ضرار، أو بني بغير إذن من الحكومة، أو إمام المسجد وهابي، أو مكروا بتوسيع الشوارع كل هذا تقوي شوكة الشيعة وتضعف من معنويات أهل السنة ، ويقلص نشاطهم ويسد الحركة والنشاط أمام عقيدتهم ( والله المستعان ) .
اختصاص جميع وسائل الإعلام لنشر مذهبهم وعقيدتهم :(31/24)
جميع الإمكانيات مسخرة لعلمائهم يستغلونها كما يريدون، وأما أهل السنة فليس لهم في ذلك أي حظ على سبيل المثال في منطقة بلوشستان ليس لأهل السنة برامج في الإذاعة من أربع وعشرين ساعة إلا ساعة واحدة والمفروض أنها تختص لنشر الأفكار والعقائد السنية بينما مع الأسف تستغل للمدح والثناء على الحكومة وزعماءها .
وأما في خراسان وهرمز وكردستان ليس لأهل السنة ولا برنامج في الإذاعة مع أن الحكومة إيران قرّرت لمهاجري الشيعة من الأفغان ساعتين تختص لهم بلغتين الفارسية والبشتو، ومع الأسف أهل السنة في خراسان محرومون عن هذا كليا .
(ط) نشاط المراكز التعليمية ودورها في نشر العقائد والأفكار الشيعية :
تستغل الحكومة عن طريق المدارس من الإبتدائية إلى العالية تنشئة الأطفال وأبناء أهل السنة على أفكار وعقائد شيعية وترغيبهم بها ، وتنفيرهم عن معظم الصحابة علنا ويربونهم بكراهيتهم لهم، وذلك عن طريق مدرسين شيعيين وتوزيع كتب ألفت في مذهبهم تتضمن النيل من الصحابة وانتقادهم وانتقاصهم كثيرا بأساليب القصص المختلفة ضدهم .
فشعب هذا حاله وقد سدت أمامه جميع السبل والطرق فما ذا يتصور أن يكون مصيره ومآله (( والله غالب على أمره))، وهذا قليل من كثير .
حرمان أهل السنة من شؤونهم الثقافية والإجتماعية لا شك أن أهل السنة محرومون عن حقوقهم الثقافية والاجتماعية بجانب حرمانهم من حرية العقيدة، كما سبق ، فعلى (- - - ) (1) في العالم أن لا يصدقوا دعاوي الحكومات الإيرانية الكاذبة لحرية
ــــــــــــــ
(1) وقعت هنا بياض في النسخ الموجودة المطبوعة عندي .
أهل السنة،وعليهم أن يتبعوا الحقائق لبعرفوا معاناتهم واضطهادهم، وها نحن نذكر بعض الحقائق المهمة التي تثبت على كذب دعوى الحكومة وتثبت حرمان أهل السنة من جميع حقوقهم، ومنها حقوقهم الثقافية والإجتماعية ومن ذلك :(31/25)
( أ ) اختصاص المراكز العلمية ودور النشر والمطابع والمكتبات التجارية لكتب الشيعة لا يسمح لأهل السنة بشئ من ذلك فمن هنا تجد أن لكتب المطبوعة في إيران كلها كتب شيعية باستثناء كتب معدودة على الأصابع طبعت بعد مشاكل كثيرة ومازال عدد من الكتب لعلماء أهل السنة أرادوا الإذن لنشرها مرهونة عند الحكومة، ولم تسمح نشرها أو طبعها ، ومن هنا يضطر بعض علماء أهل السنة لنشر كتبهم وطبعها في باكستان ومن نتائجها ذلك أن شباب أهل السنة لا يجدون أمامهم في المكتبات الثقافية إلا كتب الرافضة وأفكارهم ، ويضطرون على رغم كرههم أن يقرأوا هذه الكتب أو يلجأوا إلى أفكار أخرى منحرفة،وهذا غاية ما يتمناه الرافضة .
(ب) اختصاص وزارة الإرشاد والتبليغات لنشر أفكار وعقائد الشيعة:
وهذه الوزراة تحظى لأكبر دعم من الحكومة، ومن عملاء تكثيف الجهود لنشر وترويج مذهب الشيعة في العالم عن طريق طبع ونشر الكتب بلغات العالم الحية، وهي تتجاوز أربعين لغة، وطبعت في حدود ثلاثين كتابا ورسالة حتى الآن، وتوزع مجانا عن طريق الملحق الثقافي الإيراني وعن طريق بعثات تبعثها الوزارة، وعن طريق البريد بعناوين الأشخاص بارزين ، وعن طريق ابتعاث أشخاص للدعوة ونشر مذهبهم على نفقة الوزراة المكورة،وفي طي هذه الكتب توضع مضامين وأفكار بشكل لا ينتبه إلا الأذكياء ومن لهم خلفية عن هؤلاء القوم، وليس لأهل السنة أدنى حظ من الاستفادة لنشر كتاب أو جولات تخدم مذهبهم وعقيدتهم فلا يجدون أمامهم إلا منشورات القوم – الرافضة- والله حسيبهم .
(جـ) الجو التعليمي :(31/26)
تتولى الرافضة نظام التعليم في المراحل كلها من الابتدائية إلى الجامعات،والمناهج كلها من وضعها وإن كان هناك في المناطق السنية وضعوا في المناهج اسما رسالة اسم " فقه أهل السنة" لدفع الشبهات وحجة بأن المناهج في المناطق السنية تشمل كتبهم وجميع النشاطات والدورات والمحضرات والجلسات والدروس ووسائل الإعلام تحاول ترويج ونشر العقائد الرافضة وتأثر أبناء السنة ، ولا تسمع حديثا إلا عن مذهب الرافضة وأفكارهم كما أنهم شكلوا فصولا لا دراسية للكبار ورجالا ونساء بعنوان نحو الأمية فلا تسمع فيها إلا ترويج أهدافهم المطلوبة وتحقيقها من وراء الستر كما خصصوا مراكز ومكتبات خاصة في جميع مدن أهل السنة تحتوي على كتب ثقافية شيعية محضة للمطالعة ولتشويق الطلاب بقراءة هذه الكتب ومطالعتها ، ثم يهدون من الكتب ما يرون في ذلك من مصلحة لهم .
(د) كما أنهم يستغلون المناسبات الزمنية والمراسم المذهبية الخاصة بهم مثل أسبوع الوحدة ويوم نجاح الانقلاب وأيام الأعياد والجلسات الأخرى التي تتولى الدولة الإشراف عليها، وتدعوا الشخصيات والأعيان البارزين من الداخل والخارج ويجبر أهل السنة من الموظفين والعلماء والأعيان بالمشاركة معهم في هذه المناسبات والمراسم بادعاء أن الشيعة والسنة متكافئون متعاونون بينما اشتراك أهل السنة ليس إلا قهرا وجبرا وتحت تهديد وتخويف
ثالثا : الوضع الاقتصادي لأهل السنة :
ولم يكن لأه السنة أي تقدم اقتصادي في عهد "الشاه" وبعد السلطة الجديدة علقوا بعض الآمال في الحكومة الجديدة التي كانت تدعى العدل والمساواة، ولكن سرعان ما انكشفت حقائق هذه الدعايات الفارغة من الحقيقة وتخيبوا ولم ينالوا خيرا ، بل رجعوا إلى أسوأ مما كانوا عليه في عهد "الشاه" والسر في ذلك أنهم لا يريدون أن يتقوى شعب أهل السنة اقتصاديا وفكريا وثقافيا مخافة أن تكون لهم قوة وشوكة تزعزع خصومهم وتقره ضدهم .(31/27)
ومن المعلوم أن أكثر شباب أهل السنة الإمكانيات لديهم في استمرارهم في التعليم وتشديد الحومة في شرائط قبولهم يتخلفون عن التعليم ولا سيما عن الالتحاق بالثانوية والجامعات وبذلك يكون مستواهم دون مستوى شباب الشيعة فهم يتولّون المناصب المهمة وشباب أهل السنة يحرمون من ذلك .
(جـ) عدم التعاون مع مزارعي أهل السنة والفلاحين منهم بينما الشيعة يحظون بكل الإمكانيات والتشجيعات من الحكومة .
(د) ومن المعلوم أن الأشياء المعيشية والاقتصادية كانت متوفرة في متناول الجميع في عهد " الشاه " ولكمن بعد تولى الثورة الحكم تغيرت الأوضاع فسيطرت الدولة على جميع المواد الغذائية وغيرها، ولا يمكن الحصول عليها إلا بالبطاقة الخاصة حسب عدد أفراد الأسرة ، فهذا يكلف رب الأسرة أن يقف في الصف لكل شئ مستقلا حيث إن كل الأشياء لا تتوفر في مكان واحد، بل موزعة على عدة جهات فيقف أحدهم في السيرة لشراء الزيت مثلا، وآخر منها لشراء الخبز وثالث لشراء اللحم، وهكذا يعيش الناس في محنة شديدة والهدف من وراء ذلك جعل الناس مجبورين للإذعان للحكومة على رغم أنفسهم ومنقادين لها رضوا بذلك أم أبوا ، وهذا يعرض النساء والبنات عند عدم وجود الرجال للوقوف في الصف للحصول على لقمة عيش ، والله المستعان (1) .
رابعا : الوضع السياسي لأهل السنة :
لا بد لبروز أي قوم في الناحية السياسية أن يكون متقدما في النواحي السابقة الذكر يعني الناحية الثقافية والاقتصادية ، وكلما تقدم في هذه النواحي تفوق وأثبت وجوده السياسي في العالم، وكلما تأخر عن النواحي السابق الذكر تخلف في الجانب السياسي، فالتقدم السياسي وتثبته في قوم ما منوط بمقدار تعمقه الثقافي وتقدمه الاقتصادي والاجتماعي .
وقد علمنا بأن شعب أهل السنة قد حرموا من معظم حقوقهم الثقافية والاقتصادية والسياسية كذلك ، كما سيأتي ولاستحكام الحياة السياسية في أي قوم لا بد من تغشي المراحل الآتية :(31/28)
( أ ) أن يكون الشعب من المرحلة التعليمية والثقافية متقدما ومتفوقا بحيث يستطيع إدارة حياته الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والعقائدية والفكرية وتخلفه الثقافي يجعله جاهلا حتى عن عقيدته وأفكاره الصحيحة في مذهبه مع أن بقاء أي شعب مرهون في حفظ عقيدته، ولا يتحقق ذلك إلا بالعلوم والمعرفة بها .
(ب) حاجته في استحكام سياسته إلى قوى بشرة من الشباب ومع الأسف قد حرم أهل السنة لسياسة الحكومة ومخططاتها
ـــــــــــــــــ
(1) وفي السنة الأخيرة ألغو البطاقة بعد الأشياء ولكن جعلوا سعرهم اضعاف ما كان ولا يمكن الحصول إلا الأثرياء ، وكذلك زادوا في سعر البترول وألغوا البطاقة .
لتمزيق قوى أله السنة، وتمزيقها على مبدأ المثل المشهور( فرق تسد) فاستعمال هذه السياسة لانقسام أهل السنة وإحياء الضغائن بين القبائل وتسليح كل قبيلة ضد أخرى، وهكذا تهييج الشباب ضد العلماء والأعيان، ثم توجهت الحكومة بضد الشباب باتهامات مختلفة، حتى اضطر عدد كبير الهرب واللجوء إلى باكستان ومن ثم إلى دول أوربا ولجأ عدد كبير منهم إلى أحضان الحكومة حيث لم يجدوا بدا غير هذا وقسم منهم بقى هكذا بدون عمل فابتلى بشرب المسكرات والمخدرات وبذلك نجحت الرافضة في تحطيم قوى أهل السنة، ومن هنا في ظروف كهذه ليس بوسعهم استعادة وجودهم السياسي في الوقت الراهن، وليس ذلك على الله بعزيز .(31/29)
(جـ) وجود التعاون والتكاتف بين الشعب والتماسك فيما بينهم ، ونبذ الخلاف والشقاق والفرقة، فقد اغتصبت هذه الحقوق من أهل السنة عكس الشيعة، حيث إنهم يتمتعون بجميع الإمكانيات السياسية والثقافية والاقتصادية، حيث استطاعوا إبراز شخصيتهم ووجودهم في العالم الإسلامي وغيره، ومن هنا ازداد الضغط على أهل السنة يوما بعد يوم، وليس لهم لأجل ذلك أدنى حركة سياسية للرقابة الشديدة عليهم ، ومنع الحركات السياسية لأهل السنة منعا باتا، ألقوا القبض على أبرز شخصيات أهل السنة ممن رأوا فيهم هذا الشعور والإحساس ولمسوا منهم النشاط السياسي كما سبق ذكر بعضهم .
(د) وجود الكفاءة الاقتصادية وأهل السنة كما يسبق ذكره حرموا من حقوقهم الاقتصادية .
البرلمان الإيراني وحرمان أهل السنة من العضوية فيه إلا أفرادا قليلين تريدهم الحكومة .
معلوم أن البرلمان يتشكل من أكثر من ثلاثمائة مقعد على تقدير كل مائتي ألف لهم نائب وأحد ينتخبونه من بينهم وعلى هذا فأهل السنة على أقل التقدير تقريبا في البرلمان، وقد حرموا من ذلك ولا يوجد لهم إلا اثنا عشر نائبا، وليس لهم أي وزن في البرلمان بل ويستغلون وجودهم لأهدافهم السياسية بما ينافي مصالح أهل السنة ويعرض حقوقهم لمزيد من الحظر والضياع .
والشخص الذي يقول الحق ويطالب الحقوق لا يمكن أن يستمر أكثر من مرّة واحدة ، وثم يتابع هذا الشخص للقضاء عليه وتعذيبه وإهانته كما فعلوا مع الشيخ العلامة نظر محمد البلوشي الذي ألقى القبض عليه، وأدخل في أقوى السجون .
(و) الإحصائية السكانية لا تظهر عدد المسلمون السنة في إيران لذلك من الصعب معرفة نسبة أهل السنة في إيران إلا أن هذا معروف عند السنة ليست بأقل من (14) مليون نسمة في إيران يعني 35 في المائة .(31/30)
(جـ) أن نسبة أهل السنة في الوظائف الحكومة تكاد تكون معدومة، وليس هذا فقط، بل يشغل الوظائف والمناصب الرسمية الرفيعة أفراد من طائفة الشيعة، حتى في أماكن الأغلبية السنية، فهذا الأمر الذين يتولد من جراءه الشعور باليأس والحرمان لدى أهل السنة .
(ط) تجري عملية إسكان الشيعة في الأقاليم التي يشمل أهل السنة فيها الأغلبية ، وذلك بهدف تغيير الطابع السكان لتلك الأقاليم.
وأبدى بعض زعماء أهل السنة مخاوفتهم من أن إقليمي كردستان وبلوشستان تفقدان أهميتها كمناطق أهل السنة خلال عشر سنوات القادمة إذا استمر الوضع كذلك .
وهذا التخطيط يساوي تخطيط اليهود في فلسطين .
(ملاحظة) مع كل ما ذكرنا من التنكيل والتعذيب والحرمان السياسي والثقافي والديني لأهل السنة إلا أن أهل السنة يزداد تمسكهم بمذهبهم أكثر فأكثر، وبدأوا يحسّون بالخطر المحيط بهم ويعرفون الأساليب الشيطانية الخدّاعة للآيات .
وعكس ذلك تماما الشيعة حيث تزداد بعدا عن المذهب يوم بعد يوم حتى إن كثيرا منهم تحولت إلى السنة أو ركنوا إلى إلحاء وذلك لأجل الضغوط والخداع الديني التي يشاهدها جمهرة (- - - ) وبدأوا بعرفون أن مذهب الشيعة كمذهب لا أساس له وكلها وليدة الزمان وليس لها منهم معين، فلو حصل لأهل السنة مجال للدعوة واهتماما من جانب إخوانهم في العالم لتغيرت هذه المناطق إلى ما كان عليها أسلافنا قبل مجيئ الصفويين ، وليس ذلك على بعزيز .
الخاتمة
نداء إلى مسلمي العالم
إلى من المشتكي ؟
لو حصل اليوم للشيعة في أي بلد في العالم أخف ضغط لأقامت دولة إيران الدنيا وكل الشيعة في العالم للقيام بالمظاهرات وأعمال الشغب (1) .
ولكن مع الأسف زعماء الدول الإسلامية يختارون الصمت عما يجري ويفضلّون السكوت حتى عن التهديدات التي يطلقها الانتفاش الشيعي وانتفاخ دولتهم .
وفي وقت كنا ننتظر أن يتدخلوا المناصرتنا وكنا ننتظر أن يدافعوا عنا ، ولو عشر ما يدافع حكام إيران عن شيعة الإحساء(31/31)
ـــــــــــــــ
(1) كما شاهدناه وسمعناه في باكستان وهند العراق والسعودية مع أن الشيعة في هذه البلاد هي التي تثير الفتن والارهاب والمناصب الرئيسية بيدهم في أكثر البلدان ما عدا السعودية فيما نعرف . أو شيعة العراق أو شيعة كويت أو شيعة باكستان .
وا أسفا ! للنصارى دولتهم التي تدافع عنهم وتناصرهم وتؤازرهم، وللشيوعيين دولهم ، ولليهود دولتهم وللشيعة دولتهم أما المسلمون فلا بواكي لهم وحكومات العالم الإسلامي لو أخذتهم الغيرة على حرمات الله ومقدسات الإسلام لأوقفوا زحف النصرانية واليهودية والشيوعية والشيعة التي تكتسح العالم الإسلامي ، فهل لا يؤمنون بأن الإسلام سيعود إن عاد أهله إليه أم يلتذون بالسكوت عن ما يجري ظنا منهم أنهم في مأمن منها … لا والله إن خطر الشيعة زاحف نحوهم ولا يوقفه إلا أحفاد مغيرة بن شعبة وربعي بن عامر رضي الله عنهم حاملي المصحف والسيف معا والقرآن الكريم حبب إلينا اللقاء وكره إلينا سكوت الأغبياء .
وهذه هي أحوالنا وأوضاعنا نعرضها على إخواننا المسلمين في العالم وننادي زعماء المسلمين في العالم والسياسيين الذين يدعون حماية الحقوق البشرية ويدافعون عن المستضعفين والمقبورين في العالم، يبدون نحوهم أسفهم وشعورهم وتعاطفهم أن ينهضوا بمطالبة الحكومة الإيرانية بمنح أهل السنة كامل حقوقهم وأن لا تلتفوا إلى دعاوي الحكومة العارية عن الحقيقة .
فنطالب من إخواننا أن يدافعوا عن إخوانهم أهل السنة وعبادة حقوقهم كاملا في جميع المجالات .
ها نحن أوصلنا أصوات إخواننا وأخوتنا المكبوتة في سجن إيران الكبير إلى أسماعكم معذورة إلى ربنا، فلمسألة كفر، وإيمان، وشرك، وتوحيد،ولا عذر بعد العلم اللهم فاشهد، وما علينا إلا البلاغ المبين (( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين )) .
نسألك اللهم أن تهيئ من عندك فرجا ومخرجا، إنك على كل شئ قدير .
مراجع هذا الكتاب(31/32)
1- أحوال أهل السنة في إيران د . عبد الله الغريب ط: دارالوفاء ، المنصورة رقم – 1 .
2- إيران في ظل الإسلام في العصور السنية والشيعية د . عبد المنعم حسنين .
3- مجلة الفاروق، تصدر عن الجامعة الفاروقية من كراتشي باكستان، العدد الثالث عشر، السابع عشر والثالث العشرون.
4- مجلة خراسان العدد الأول ، السنة الأولى محرم .
5- كتب التاريخ المعاصر الأستاتذة جامعة طهران .
6- ما شاهدناه وعرفناه جيلا عن جيل حيث إن أهل مكة أدرى بشعابها .
موقع فيصل نور(31/33)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين وبعد؛ فإن النظام هو أساس الحضارة وسبب المدنية وعنوان الارتقاء فإذا ما ساد أمة بدأت تسير في طريق النهوض وتتدرج في سلم الارتفاع، وإذا ما غاب عن أمة فإن ما بنته يمحى، وما أقامته يندثر، وما أشادته يزول، إذ أن غياب النظام يجعل الكثيرين يتنطحون لتسلم السلطة وسواء أكانوا أهلاً لها أم غير أهل وسواء أكانوا أخيارًا أم أشرارًا، وهذا ما يجعل الفوضى تعم؛ إذ أن لكل جماعته وعصبيته أو قبيلته وعشيرته وبخاصة في المناطق التي تنتشر فيها الحياة القبلية أو تسود فيها التجمعات العصبية، فتتخاصم الجماعات وتتناحر حتى يظفر إحداها بالسلطة وإذا ما حصلت عليها واستقر لها من الأمر شيء لم تلبث أن تتقوى القبائل الأخرى وتعمل جاهدة على انتزاع الأمر فيقع القتال وهكذا يبقى على الدوام.
ثم إن الاستفادة من الجند أو قوة الأسر الكبيرة أو شدة العصبية التي تعتمد على الجنس أو المذاهب قد جعل الأمر يستقر بيد من يعتمد على هذا أو ذاك، ولما كان للشر قوة ولعدم الخوف من الله خشية ورهبة وكان اللذين يتحكمون أيام الفوضى أو يستغلونها لتسلطهم هم من هؤلاء، كان الذعر ونشر الخوف وافتراق الكلمة بين الناس وهذا بدوره ما يزيد المتسلطين تمكنًا, وبذا يموت الطموح وينعدم الأمل ويسود اليأس ويقل العلم ويعم الجهل.
يتقرب من المتسلطين الجهلة الذين يلتقون معهم في صفة والذين لا حظ لهم أيام العلم مما جعلهم يضيفون إلى الجهل النقمة ويصبحون بطانة وخدمًا.(32/1)
يتقرب أهل الشر الذين يجدون في الفوضى مرتعًا وعند أهلها مركزًا فيتسلطون على الناس، ويعيثون في الأرض الفساد، ويحققون لغرائزهم شهواتها، ولنفوسهم رغباتها لذا يصفقون لنظام الفوضى وهو يشتريهم بما يحقق لهم، فيمشون على هواه وحسبما يتطلب, وكل منهما يجمع المال بوسائل شتى وطرق مختلفة ... حتى يصبح غنيًا، ويظن بنفسه أنه كبيرًا .
وإضافة إلى هذا يتقرب العامة، الذين لا معرفة لهم, من الطغاة ويقبلون ما يزخرفونه لهم من قول، ويصدقون ما في دعايتهم من طلاء، لذا كانوا القاعدة الأساسية للمتشدقين ونواة جماعتهم التي تدعمهم، وقد يرفعون سادتهم إلى فوق مستوى البشر، وبخاصة الشباب الذين تغريهم العظمة المدعاة والقوة ولو كانت كاذبة والدعاية ولو كانت فارغة والتعالي والكبرياء وإبداء المركز وإظهار الشخصية . لهذا كله كان الرعاع وشبابهم أول الذين يرون الزعامة المصطنعة أمل الأمة وهي شقائها وأساس انهيارها.
ولقد حرص الأعداء في كل زمن على سيادة الفوضى, حتى إذا تسلمت قوة غاشمة الأمر, أو سلموها أخذت بالظلم والضغط ليستتب لها الأمر وتتمكن، فتُسكت الألسن وتُكم الأفواه فيكثر على الأبواب الضعفاء وأصحاب المصالح والأهواء, ويزداد العامة المصدقين والأشرار المصفقين والشباب المتخلفين فيُرفعون ويُستغلون، ويكونون السند والدعم، وتمتد أيديهم إلى أموال الناس وأعراضهم، ويسكت السادة؛ لأن لهم من وراء ذلك غاية أقل ما يقال فيها أنها تُرضي الأعداء ....وتسير البلاد نحو الهاوية والضعف. خزائنها فارغة -وهي الغنية- وقد امتدت إليها الأيدي ونقلتها، وقوتها هزيلة وقد زالت روحها المعنوية، وأبناؤها فرقًا وقد عصف بهم التسلط والتعصب، وصغر أهل الرأي بعد أن أذلتهم الضغائن، وعلمائها في حجر محجور أو ....(32/2)
ومع هذا فالدعاية واسعة، والمغرورون كثير يتغنون بما يُطلب منهم ويرددون الدعاية وإن كان ما فيها لشديد الفراغ .... وهي غشاء حبة سليم أنهى لبها السوس . لا يراها حبة إلا البسطاء ... وينصرف الشباب عن العلم؛ إذ يرون ألا حظ لهم بأخذه, وإنما بالتملق والنفاق فيسلكون الطريق ويركبون الدرب، ويتأخر العلم ويعم التقليد لسادة السادة .... وتضعف الناحية العلمية وتصبح بحاجة إلى كل شيء من غير البلاد التي تقيم عليها.
هذا الذي مرت به كثير من البلدان ومنها إيران التي سادها النظام الإسلامي بعد الفتح وكانت حضارة رائعة متميزة نبعت من عقيدة الشعب, ولا تزال بعض آثارها قائمة في الأفنية والعمران وفي ذكريات الناس بعض الأمثلة من العدل والمساواة. فالحضارة تقوم أركانها على المعاني الإنسانية لتكون حضارة، أما التي تقوم على البطش والظلم فليست بحضارة ولو طاولت عنان السماء .... ثم غاب النظام الإسلامي بظهور العصبية وتنازعت الأسر واختلفت القبائل وتتالت الدول فسادت الفوضى.... وأصبحت القوة هي السبيل الوحيد لتسلم الأمر.... وغاب مع النظام العلم والمعاني الإنسانية... وأصبح بالإمكان سيادة هوى الحاكم ومذهبه ورأيه وفكرته وهذا ما كان واستمر، ورسخ مع الزمن واستقر فكانت إيران دولة تختلف عن المحيط الذي يجاورها والوسط الذي نشأت فيه, وإن كانت لا تزال ضمن الفكرة العامة والخط العريض فيمكن الالتقاء بالهدف والعمل المشترك إذا أمكن الاحتضان والتوجيه الصحيح.
إن إيران لتحبوا اليوم نحو بناء القوة وقد حكمت دعاتها ولكن هذه القوة المادية التي تسعى وراءها وتنشدها لتعدَّ في بلدها قعيدة ودون أركان؛ إذ أنها لا تنظر إلى المعاني الإنسانية التي يجب أن تحويها الحضارة, ولا تعتمد على عقيدة الشعب ركيزة لها, ولا تلتفت إلى المكان الذي تقع فيه لترتفع سواعد متكاتفة لإقامة صرح حضارة متميزة بناء ة قوية.(32/3)
نرجو من الله الكريم أن يلهم الشعب الإيراني لهذا العمل وأن يلهم المسئولين ليسيروا خطوات أوسع مع محيطهم بعد أن غيروا شيئًا من الماضي نحو قضية فلسطين وأن يلهمنا السعي جادين لحملهم على ذلك ...... إنه هو القوي العزيز...
والله وحده نسأل التوفيق وسداد الخطى وهو نعم المولى ونعم النصير.
... غرة محرم1395 هـ
15 كانون الثاني 1975م
مع التاريخ
نعتقد أن الإنسان الأول عندما انطلق من الجزيرة العربية إنما كانت وجهته نحو الشمال الشرقي حيث قطن بلاد الرافدين، ومنها انتقل إلى إيران وبلاد القفقاس.
سكن الإنسان إيران منذ القديم، وقد جاءها من جنوبي العراق جماعة من السومريين شكلت السكان الأصليين وإن كانوا قد ذابوا في الهجرات الأخرى إليها، وبخاصة الآرية التي قسمت على شكل موجات من الشمال، موطنهم الأصلي، وكان من أهمها: البارثيون والبكتريون وقد أقاموا في الشمال الشرقي، والميديون وقد استقروا في الشمال، والعيلاميون الذين سكنوا الجنوب الغربي، والفرس الذين سكنوا الإقليم الذي عرف بهم أو هم قد نسبوا إليه وهو فارس.
قامت دولة ميدية في الشمال مركزها (أكبتانا) مكان همدان الحالية تقريبًا، واصطدمت هذه الدولة مع الآشوريين الذين يجاورونها من ناحية الغرب، ووقعت حروب طاحنة بين الطرفين، وكان الآشوريون أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار مما دفع الميديين للاتفاق مع البابليين ومحاربة الآشوريين معًا، فقضوا عليهم عام 1234 ق. هـ ولكن هذا الاتفاق لم يلبث أن فصمت عراه بعد زوال العدو المشترك.
وفي هذه الحقبة من التاريخ ظهر زرادشت(1)[1]) الذي انتشرت آراؤه في إيران وأضحت عقيدة.(32/4)
أسس كورش الدولة الإخمينية في فارس عام 1181ق. هـ واعتنق الديانة الزرادشتية، وفرضها وبدأ في التوسع في الاتجاهات كلها، فضم ميديا إليه ووصلت جحافله إلى شواطئ البحر المتوسط وقضى على بابل، وتوغل في الشرق وفي آسيا الوسطى، وقتل أخيرًا عام 1151ق. هـ وخلفه ابنه قمبيز الذي فتح مصر عام 1147ق. هـ ثم تولى أمر الفرس دارا الأول.
قام النزاع بين الفرس والإغريق واستمر ردحًا طويلاً من الزمن، انتصر الفرس على عدوهم في بداية الأمر، وانتهى باحتلال الإغريق بلاد فارس أيام الاسكندر المقدوني عام 953ق. هـ، وبعد نهاية الاسكندر خضعت فارس لخلفائه السلوقيين في أنطاكية .
قامت في شمال إيران دولة (بارثية) تمتد على رقعة واسعة من الأرض، كما قامت دولة أخرى فارسية في الجنوب تشغل مساحة أصغر، ولكن استطاع (أزدشير)أحد أمرائها من آل ساسان أن يوسع نفوذه فضم إليه الدولة البارثية عام369، وأعاد الديانة الزرداشية وعبادة النار إلى إيران . وفي هذه المدة ظهر ماني(1)[2]) واتهم بالزندقة فأعدم عام 346ق. هـ.
عاد الصراع من جديد بين الفرس والرومان الذين ورثوا الإغريق, وكانت الحروب سجالاً بين الطرفين، ومن أشهر حكام آل ساسان كسرى أنو شروان (خسروا بن قباد أنو شروان ) الذي احتل أنطاكية، ووقَّع معاهدة مع البيزنطيين عام 555م، ثم احتل اليمن عام 53 ق. هـ.
لم تنج أرض العرب من الصراع الدائر بين الفرس والروم فإضافة إلى مناطق نفوذهما في الشمال, شمل الصراع الجنوب؛ إذ طلب الرومان من أنصارهم وأبناء عقيدتهم الأحباش احتلال اليمن لتأمين الطرق البحرية لهم ولزيادة نفوذهم هناك ففعلوا , وأسرع الفرس خصوم الرومان لتلبية طلب مساعدة سكان اليمن بقيادة سيف بن ذي يزن –النعمان بن قيس- فأعانوهم على طرد الأحباش ولكنهم أقاموا مكانهم، وبعثوا عاملاً لهم على اليمن يدير أمرها من قبلهم.(32/5)
وظهر الإسلام، وقويت شوكته في المدينة، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتب إلى الملوك فلما وصل كتابه إلى كسرى ملك الفرس مزق الكتاب, وأرسل إلى عامله في اليمن أن يكفيه أمر هذا الرجل الذي ظهر في أرضه والذي يدعوه إلى دينه.
أرسل عامل الفرس على اليمن وفدًا إلى المدينة ليأتيه بالخبر، فرجع إليه بالحق المبين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر الوفد بمقتل كسرى. فلما عاد الوفد ومعه خبر قتل كسرى ثم تأكد الخبر للعامل أسلم ومن معه من أمراء الفرس في اليمن.
قبض رسول الله بعد أن دانت الجزيرة للإسلام ولكنها ارتدت وامتنعت عن دفع الزكاة ما عدا المدينة ومكة والطائف، فجرد لها الخليفة الصديق الجيوش التي أعادها إلى حظيرة الإسلام، فكانت القاعدة الأساسية له وكان أبناؤها القاعدة الصلبة لجيوش الفتح.
تحركت الجيوش الإسلامية إلى الجهات كافة تدعو إلى الإسلام وتنشره. ولم تكن هذه الجيوش مثل التي يحدثنا عنها التاريخ أو التي نعرفها تقاتل حقدًا أو ثأرًا أو استعمارًا وغنمًا، تقاتل دون قانون، وتهجم بلا شريعة، تباغت وتفاجئ، تدب الذعر وتمعن في القتل ليخشاها الناس وتحصل على النصر, فالمهم هوه النصر لا شيء سواه، وإذا تم يكون الويل لمن أصابتهم الهزيمة، فمدنهم مباحة للجند ونسائهم حل للغزاة، وأموالهم نهبًا بأيدي القادمين، أما المسلمون فلم يدخلوا حربًا إلا بعد أن يعرضوا على أعدائهم أمرًا من ثلاثة: الإسلام أو الجزية أو القتال, ولم يبدءوا بالقتال إلا بعد إنذار وإعلام, ولم يُسيِّر المسلمون الأوائل جيشًا إلا بعد وصية بتقوى الله وعدم الغدر وعدم التمثيل بالقتلى وعدم قتل الذين لا يقاتلون من النساء والولدان والشيوخ الكبار، ثم عرض الدعوة على الذين يحاربونهم.(32/6)
عن بريدة(1)[3]) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله -عز وجل- ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: " اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغفلوا(2)[4]) ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا, وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال(أو خلال) فأيهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم, ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم, ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين, فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين, ولا يكون لهم في الغنيمة ولا الفيء
شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم ولكن اجعل ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم, وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟" (3)[5]) .
فكان المسلمون لا يبدءون بحرب حتى يدعوا أعداءهم إلى قبول أحد هذه الأمور: الإسلام أو الجزية أو القتال.(32/7)
ولما نزل سعد بن أبي وقاص القادسية (1)[6]) أثناء الفتوحات الإسلامية بعث جماعة من السادات منهم النعمان بن مقرن (2)[7]) وفرات بن حيان (3)[8]) وحنظلة بن الربيع التميمي (4)[9])، وعطارد بن حاجب (5)[10])، والأشعث بن قيس (6)[11]) والمغيرة بن شعبة (7)[12]) وعمرو بن معدي كرب (8)[13]) يدعون رستم (9)[14]) إلى الله -عز وجل-، فقال لهم رستم: ما أقدمكم؟ فقالوا: جئنا لوعود الله إيانا، أخذ بلادكم وسبي نسائكم وأبنائكم وأخذ أموالكم فنحن على يقين من ذلك (10)[15]) .
ولما تواجه الجيشان بعث رستم إلى سعد أن يبعث إليه برجل عاقل عالم بما أسأله عنه، فبعث إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فلما قدم عليه جعل رستم يقول له: إنكم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا, فقال له المغيرة: إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله إلينا رسولاً وقال له: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني فأنا منتقم بهم منهم، واجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين بي، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز فقال له رستم: فما هو؟ فقال: أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله، فقال: ما أحسن هذا وأي شيء أيضًا؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله. قال: وحسن أيضًا، وأي شيء أيضًا؟ قال: والناس بنو آدم فهم إخوة لأب وأم، قال: وحسن أيضًا، ثم قال رستم: أرأيت إن دخلنا في دينكم أترجعون عن بلادنا؟ قال: أي والله لا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة، قال: وحسن أيضًا، قال: ولما خرج المغيرة من عنده ذاكر رستم رؤساء قومه في الإسلام فأنفوا وأبوا أن يدخلوا فيه.(32/8)
قالوا: ثم بعث إليه سعد رسولاً آخر يطلبه وهو ربعي ابن عامر (1)[16]) فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك. فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا، حتى تفضي إلى موعود الله، قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي. فقال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تأخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ قال: نعم، كم أحب إليكم؟ يوما أو يومين؟ قال: لا، بل نكاتب أهل رأينا، ورؤساء قومنا، فقال: ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل(2)[17]).(32/9)
كما بعث سعد طائفة من أصحابه إلى كسرى يدعونه إلى الله قبل الوقعة فاستأذنوا على كسرى فأذن لهم، وخرج أهل البلد ينظرون إلى أشكالهم وأرديتهم على عواتقهم وسياطهم بأيديهم، والنعال في أرجلهم، وخيولهم الضعيفة، وخبطها الأرض بأرجلها، وجعلوا يتعجبون منها غاية العجب كيف مثل هؤلاء يقهرون جيوشهم مع كثرة عَددها وعُددها، ولما استأذنوا على الملك يزدجرد أذن لهم وأجلسهم بين يديه، وكان متكبرًا قليل الأدب، ثم جعل يسألهم عن ملابسهم هذه ما اسمها؟ عن الأردية والنعال، والسياط ثم كلما قالوا له شيئًا من ذلك تفاءل فرد الله فأله على رأسه، ثم قال لهم: ما الذي أقدمكم هذه البلاد؟ أظننتم أنا لما تشاغلنا بأنفسنا اجترأتم علينا؟ فقال له النعمان بن مقرن: إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين فرقة تقاربه وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينهد إلى من خالفه من العرب ويبدأ بهم، ففعل فدخلوا معه جميعًا على وجهين مكروه عليه فاغتبط، وطائع إياه فازداد، فعرفنا جميعًا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، وأمرنا أن نبدأ بما يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا وهو دين الإسلام حسن الحسن وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزية فإن أبيتم فالمناجزة. وإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم، وإن أتيتمونا بالجزية قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم، قال: فتكلم يزدجرد فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، لا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان(32/10)
عددكم كثر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكًا يرفق بكم، فأسكت القوم فقام المغيرة بن شعبة فقال: أيها الملك إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف الأشراف، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا له جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك، فجاوبني فأكون أنا الذي أبلغك ويشهدون على ذلك، إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضًا، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه، وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك فبعث الله إلينا رجلاً معروفًا نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته خير بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو نفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحكمنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد، أول ترب له كان الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئًا إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله، فقال لنا: إن ربكم يقول: أنا الله وحدي لا شريك لي كنت إذا لم يكن شيء وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء وإلي يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي أنجيكم بها بعد الموت من عذابي، ولأدخلكم على داري دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا فله(32/11)
ما لكم وعليه وما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه.
فاختر إن شئت الجزية وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف أو تسلم فتنجي نفسك. فقال يزدجرد: أتستقبلني بمثل هذا؟ فقال: ما استقبلت من كلمني ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به. فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي (1)[18]).
وكانت معركة القادسية وانتصر المسلمون فيها انتصارًا عظيمًا وهزم الفرس هزيمة منكرة، وما رد شاردهم حتى وصل إلى نهاوند (2)[19])، ولجأ أكثرهم إلى المدائن (3)[20]) ولحقهم المسلمون إلى أبوابها، ثم اقتحموها عليهم وكان الفرس قد غادروها، فلم يجد المسلمون فيها أحدًا بل أخذ كسرى أهله وما قدروا عليه من الأموال والأمتعة، ودخل سعد القصر الأبيض وهو يتلوا: ( كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قومًا آخرين (وسكن سعد القصر واتخذ الإيوان مصلى.
اعتصم يزدجرد بمدينة حلوان (4)[21]) فأرسل له سعد بناءً على أوامر الخليفة عمر بن الخطاب بن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص (5)[22])، فسار إليه وأجلاه عن المنطقة واحتلها المسلمون.(32/12)
وفي الوقت نفسه هرب الهرمزان (1)[23]) من معركة القادسية وسار إلى الأهواز حيث غلب عليها، ولكن المسلمين ساروا وراءه وفتحت المنطقة صلحًا ووافق سيدنا عمر على الصلح ولكن يزدجرد كان يحرض الفرس على قتال المسلمين وهذا ما شجع ودفع الهرمزان إلى نقض الصلح فسار إليه المسلمون بقيادة أبي سبرة بن أبي رهم (2)[24]) ففتح المنطقة ثانية، وأسر الهرمزان فأرسله إلى الخليفة عمر بن الخطاب ومعه الأحنف بن قيس (3)[25]) وأنس بن مالك (4)[26]) فسأل عمر رضي الله عنه الوفد قائلا: لعل المسلمين يؤذون أهل الذمة، فلهذا ينتقضون بكم، وكان يشير إلى انتقاض الهرمزان بعد الصلح الذي عقده مع المسلمين، فقال الأحنف: يا أمير المؤمنين! إنك نهيتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم، ولا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئًا بعد شيء إلا بانبعاثهم، وإن ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبه حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم، حتى نزيله عن فارس ونخرجه من مملكته وعز أمته، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويضربوا جأشًا، فقال عمر: صدقتني والله، وشرحت لي الأمر عن حق، وأذن في الانسياح في بلاد فارس(5)[27]).
خاف أمراء الفرس على كيانهم فكتبوا إلى يزدجرج ليكون على رأس وحدتهم وليعمل من جانبه على دعمهم فكتب بدوره إلى الأمصار يشجع أهل فارس ويحثهم على التكاتف والتضامن والثبات، فبعث إلى كل أمير من هذه الأمصار، واجتمعوا في نهاوند، حتى بلغ عددهم 150 ألفًا اجتمعوا بإمرة الفيرزان (6)[28])، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أمر المسلمين بالانسياح في بلاد فارس.(32/13)
أخبر سعد بن أبي وقاص عمر بن الخطاب بهذا الحشد العظيم، فقرر عمر أن يسير بنفسه لمعالجة هذا الخطر الداهم ولكن أصحاب الرأي وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه نصحوه أن يبقى في المدينة، ويرسل قائدًا يعتمد عليه ليفرق شمل القوات الفارسية (1)[29]) فقال عمر رضي الله عنه: (( أشيروا علي برجل أوليه ذلك النفر وليكن عراقيًا )) فقالوا: أنت أعلم بجندك، وقد وفدوا عليك. فقال: والله لأولين أمرهم رجلاً يكون أول الأسنة إذا لقيها غدًا، وهو النعمان بن مقرن، فقالوا: هو لها. فكتب عمر إليه: (( بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مقرن، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد: فإنه بلغني أن جموعًا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرًا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلهم غيضة فإن رجلاً من المسلمين أحب إلي من مائة ألف دينار والسلام عليك )) (2)[30]).
سار النعمان إليهم، فتحصن الفرس بمدينة نهاوند، وحاصرهم المسلمون، فأرسل النعمان القعقاع بن عمرو التميمي (3)[31]) على رأس الخيل فأنشب القتال، فلما خرج الفرس من خنادقهم وحصونهم تراجع القعقاع أمامهم، فظن الأعاجم أن انسحاب العرب كان لضعف فقاموا بمطاردة العرب المنسحبين.
كان المسلمون على تعبئتهم، وقد أمر النعمان جيشه أن يثبتوا في أماكنهم ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم.. وأقبل الفرس عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراح.(32/14)
وانتظر النعمان حتى تم خروج قوات الفرس من حصونهم.. ثم ركب فرسه وسار في الناس ووقف على كل راية يذكرهم ويحرضهم ويمنيهم الظفر ثم قال لهم: إني مكبر ثلاثًا، فإذا كبرت التكبيرة الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ، فإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه، وليتأهب للنهوض، فإذا كبرت الثالثة فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معي، اللهم أعز دينك وانصر عبادك واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك.
وهكذا استدرج النعمان أعداءه إلى حرب في العراء خارج حصونهم وخنادقهم، حتى إذا سنحت له الفرصة حمل وحمل معه الناس، فاقتتلوا بالسيوف قتالاً شديدًا, مما جعل ساحة المعركة تزخر بالدماء والأشلاء، فزلق فرس النعمان في الدماء وصرع، وقيل به أصابه سهم في خاصرته فقتله، فسجاه أخوه نعيم (1)[32]) بثوبه وأخذ اللواء من يده، ودفعه إلى حذيفة بن اليمان (2)[33]) حسب وصية النعمان، وأخفى نعيم استشهاد أخيه عن الناس حتى لا تضعف معنوياتهم، فلما أظلم الليل انهزم الفرس، وطاردهم المسلمون، فلم ينج منهم إلا الشريد، وحتى وصلوا في مطاردتهم إلى مدينة همدان حيث استأمنهم أميرها.
وجعل المسلمون يسألون عن أميرهم النعمان فقال لهم أخوه معقل: هذا أميركم اليوم قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة.
ودخل المسلمون نهاوند، وكانت معركة حاسمة، أطلق عليها المسلمون اسم فتح الفتوح، وكان ذلك عام 21هـ الموافق 643م.
بعد فتح نهاوند قرر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يدفع قوات المسلمين إلى اتجاه فارس جميعها، فعقد سبعة ألوية لسبعة قادة عهد إليهم بالانسياح في أرض فارس كلها، ومن ضمنها ما يعرف اليوم بإيران.
تحرك الجيش الأول بقيادة عاصم بن عمرو التميمي (3)[34]) نحو سجستان فوصل إليها وفتحها، وهي تقع اليوم في بلاد الأفغان وبذا فقد ضم الأراضي التي في طريقه إلى الدولة الإسلامية.(32/15)
وسار الجيش الثاني بإمرة الأحنف بن قيس وكانت وجهته بلاد خراسان (1)[35]) فافتتحها وهي القسم الشمالي الشرقي من فارس.
وسار الجيش الثالث بقيادة سويد بن مقرن (2)[36]) نحو طبرستان (3)[37]) ففتحها وفتح جرجان، أرسله إليها أخوه نعيم بعد فتح مدينة الري (4)[38]) التي أقام بها وذلك كله بناءً على أوامر وتوجيهات الخليفة عمر رضي الله عنه.
وسار الجيش الرابع نحو أذربيجان (5)[39]) بقيادة عتبة بن فرقد (6)[40]) الذي سار إليها من حلوان وبكير بن عبد الله الليثي (7)[41]) الذي سار إليها من العراق من الموصل، ففتح بكير أذربيجان، وأمده عمر بسماك بن خرشة الأنصاري (8)[42]) على رأس قوة من المجاهدين، جاءت من الري بعد فتحها.
وسار بكير نحو باب الأبواب (9)[43]) فوجد إمامها سراقة بن عمرو (10)[44]) فاشتركا في فتها، وكان سراقة هو الأمير كما جاء حبيب بن مسلمة (11)[45]) من الجزيرة بإمرة الخليفة للمشاركة في الفتح.
وعندما فتحت مدينة باب الأبواب وجه سارقة القادة إلى مختلف الجهات لفتح تلك البقاع.
تحرك الجيش الخامس نحو كرمان (12)[46]) بقيادة سهيل بن عدي الخزرجي (13)[47])، وكانت مهمته في طريقه من البصرة نحو هدفه أن يشاغل قوات الفرس ويقطع مساعدتها وإمداداتها لأهل نهاوند، فلما تم النصر للمسلمين في نهاوند تابع مهمته فانتصر على الفرس وفتح كرمان، ولما انتهى من عملياته الحربية فيها توجه نحو مكران مددًا للمسلمين الذين يقاتلون هناك عام 23هـ.
وسار الجيش السادس نحو مكران (14)[48]) بقيادة الحكم بن عمير التغلبي (15)[49]) وقد استطاع فتحها بمعاونة الإمدادات التي جاءته من كرمان بقيادة سهيل بن عدي، وذلك عام 23 هـ.(32/16)
أما اللواء السابع فكان لواء اصطخر (1)[50]) ويقوده عثمان بن أبي العاص الثقفي (2)[51])، وإن كان إقليم فارس قد تعددت القيادات في فتحه، وحمل الرايات عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- وكذا بالنسبة إلى إقليم الجبال وإن كانت نهاوند هي القاعدة الأساسية له ثم مدينة الري وقد فتحتا مع همدان منذ البداية، أما منطقة الأهواز فتعد تتمة للسهل العراقي، وإن كانت النواحي الطبيعية لا علاقة لها، ولا قيمة لها لانتشار الأمم، إذ كانت العراق تعد المركز الرئيسي للفرس وإيوان كسرى كان في المدائن، وقد فتحت الأهواز للمرة الثانية عام 17 هـ، وذلك قبل معركة نهاوند التي حدثت عام 21 هـ، والتي انساح المسلمون إثرها في بلاد الفرس.
وهكذا تم فتح الأراضي التي تقع ضمن إيران اليوم كلها ولم تنته حياة الخليفة الراشدي الثاني بعد، وإذا كانت بعض المناطق قد نقضت عهدها بعد وفاة عمر إلا أن إخضاعها لم يتطلب جهدًا كبيًرا ولا وقتًا طويلاً، إذ ما لبثت أن عادت إلى عهدها، واستقرت الأوضاع فيها تابعة الحكم الجديد، فأصبحت ضمن حوزة الدولة الإسلامية وبصورة نهائية.(32/17)
والأمر الذي يلفت الانتباه إنما هو تقدم هذه الفتوحات بهذا الشكل السريع الواسع والذي لم يكن ليتم بهذه الصورة لو كان وضع المسلمين بغير هذا الوضع الذي كانوا هم فيه، إذ لم يكونوا ليفكروا بالدنيا إلا بمقدار ما تبلغهم الآخرة، فكانوا يقبلون على القتال بإقدام قوي، إقدام الذين يطلبون الموت ليحصلوا عليه فينالوا الشهادة، أو ينتزعون منه الحياة فيعيشوا أعزاء، وقد تخلصوا من طواغيت الأرض، ودفنوا ظلمهم واستعبادهم للبشر، هذا الإقدام كانت تنقطع له قلوب الأبطال من الأعداء، فيولون الأدبار، ويتشتت شملهم، فكم من رجل دخل صفوف أعدائه وهم ألوف وظل يقاتل حتى يخرج من الطرف الآخر، ولا يفتر لسانه عن ذكر الله، لا يبالي أصيب أم بقي حيًا بل ربما كانت إصابته هي المطلوبة لديه، وما هذا الإقدام إلا للحصول على الشهادة، كما لم تكن عندهم تلك الحساسية وتلك التعقيدات المعروفة اليوم، فأيهم تولى الأمر أطاعه الآخرون وقاتلوا تحت لوائه، دون أن تكون رتب يتولى أعلاها القيادة وإن لم تكن له المؤهلات لها، لقد كان يتولى الرجل وقد يكون أصغر القوم سنًا، أو أدناهم أسرة أو أحدثهم جهادًا، وربما كان اليوم قائدًا فإذا به في الغد جندي تحت إمرة أحد جنوده بالأمس لا يرى في ذلك غضاضة ولا إهانة ما دام لا يقاتل إلا الله، وسواء عنده أكان جنديًا أم قائدًا، بل وربما كانت الجندية أحب إلى نفسه من القيادة التي لها مسئولياتها، وكان بعضهم يحب الجندية أكثر لأنه لا يريد ذكرًا ولا شهرة ولا معرفة ولا أن يرضي حاكمًا، ولا ينال منحة ولا أعطية ولا أوسمة فهو لا يقاتل من أجل هذا كله، وإنما يقاتل ليصل إلى الجنة دون أي شيء آخر، ولتكون كلمة الله هي العليا، فكم من قائد طلب الالتحاق بالجندية وترك مسئوليات القيادة.(32/18)
وكم من أمير رجا أن يبعد عن مركز الإمارة ويسير إلى ساحات القتال، حيث هناك ميدان عمله؟ وكم من مسلم وجد عندما حضرته الوفاة أنه قد ضاعت عليه فرص الشهادة في سبيل الله؟ كما أن الخليفة لم يكن ليتبع الطرق التي تسمى اليوم بالرسميات وكذا بقية الأفراد، فلا يخاطب الجند عن طريق القيادات، ولا تحدث الحساسيات التي تقع اليوم بل لا يفكر فيها أحد، فقد يرسل الكتب إلى الجند مباشرة ويوليهم الإمارة فيطيع الجندي الأمير الجديد، وينفذ القائد الجندي الجديد، دون أي اعتراض أو شعور بامتعاض.
وكان الخليفة يسأل عن كل جندي، ويعرف حركات كل واحد، وجهاد كل فرد، وإقدام كل مسلم، فهو وإن كان يعيش على بعد آلاف الأميال من ساحات القتال إلا أنه كأنه على مقربة منها يقود المعركة بنفسه ويراها كأنه يشرف عليها من عل أو يتنقل بين أفراد الكتيبة.
وقيمة كل مسلم عنده لا تقدر بثمن، ولا يمكن أن توصف فهو الأخ في الحياة والساعد الأيمن في الجهاد والابن في السلم والرفيق في الآخرة، إضافة إلى هذا كله فهو المسئول عنه يحاسب عليه، وبهذه المسئولية وحسب القيام بها ينال الجنة وهي أسمى الأماني وغاية كل مسلم، بهذا السلوك وبهذه الطريقة تمت الفتوحات، ودانت فارس للإسلام، وانحنت رءوس العالم أمام الحق من قبل به، وأمام القوة من أبى.
دخل الفرس في الإسلام جميعًا ولكن الإسلام لم يدخل قلوبهم جميعًا، دخل أكثرهم مؤمنين في حين دخل أقلهم اتقاء يتحين الفرص ليؤدي دوره في تحطيم الدولة الإسلامية الناشئة العظيمة، التي ضمت أراضيهم إلى أراضيها وقد أخذتهم العزة بالإثم وهالهم زوال الطاغوت وانتهاء عبادة النار، وعلى الرغم أن هؤلاء كانوا قلة إلا أن دورهم كان كبيرًا؛ لأنهم من أصحاب الحركة ويزينون للناس أعمالهم ويدخلون عليهم بشعارات خاصة يستطيعون أن يجذبوا بعضهم نحوها وبخاصة أنهم يحملون اسم الإسلام، وقد ضلوا في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.(32/19)
بدا أثر هذه القلة في مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد أبي لؤلؤة المجوسي الأصل الرومي الدار، وهو غلام المغيرة بن شعبة، وعمر قائم يصلي في المحراب صلاة الصبح، واتهم مع أبي لؤلؤة الهرمزان الذي كان قائد منطقة الأهواز وأميرها، وقد أسره أبو سبرة بعد أن نقض العهد، وحمله إلى المدينة أسيرًا للأحنف بن قيس وأنس بن مالك، كما مر معنا.
وكان أثرهم الآخر والأهم عندما حدثت الفتنة في صفوف المسلمين فانحازت هذه القلة إلى جانب، لا حبًا فيه حقيقة، ولا تأييدًا له ونصرًا، وإنما زيادة في الفرقة والشقاق وحبًا في التفرقة والخلاف، وإذا كان كثير من المسلمين في بقية البقاع بل جلها يرون ما هو قريب من هذا الرأي لما يرون في هذا الجانب من الأحقية والأهلية ولماضيه من الدعوة وخدمته لها لا غير ذلك، ويرون أن الخلاف كان في وجهات النظر ولكل رأيه،وهو على جانب كبير من الصواب، وكلاهما صحابي جليل، ولكن هذا الرأي لا يوفق عليه الغلاة من الفرس.
ولما اشتد ساعد بني أمية، وتمكنوا من الأمر، وقامت الدعوة السرية لآل البيت والمطالبة بالحكم وإزاحة بني أمية عنه كانت فارس مقر هذه الدعوة ومنبتها لا حبًا في آل البيت أيضًا، وإنما محاولة لتهديم أركان الدولة، إذ تبين عندما نجحت الدعوة وآل الأمر إلى العباسيين أن مساعدة الفرس لم تكن إلا لمآرب خاصة وأغراض شخصية، ومصالح محددة وغايات مرسومة، وكانت هناك دوافع أخرى رأسها العصبية وفيها حنين إلى الماضي البعيد، وكانت نتيجة ذلك أن قتل أهم دعاة الأمس هو أبو سلمة الخلال (1)[52]) وأعقبه الداعية الثاني والقائد العباسي أبو مسلم الخراساني(2)[53]).(32/20)
لم يكن الشيعة حتى ذلك الوقت سوى جماعة من المسلمين تدعو إلى أن يكون الحاكم من أسرة علي بن أبي طالب، لما لهذه الأسرة من محبة عند المسلمين جميعًا لقرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لسيدنا علي من جهاد في سبيل الدعوة و... وهذا سر حمل هذه الدعوة إذ تلقى تأييدًا من قبل المسلمين كافة، ولم يكن المسلمون من وجهة النظر العلمية أو التشريعية ليفرقوا بين شخص له هوى مع هذا الفرع الحاكم أو ذاك المطالب ما دام المصدر التشريعي واحدًا فكان جعفر الصادق (1)[54]) أستاذ مالك بن أنس (2)[55]) وأبي حنيفة النعمان (3)[56]).
كان التشيع ظاهريًا عند قليل من الفرس ويحمل في الحقيقة الدعوة إلى العصبية الفارسية، وقد لوث أصحاب هذا التشيع من الفرس دعوتهم بالأفكار الفارسية وعقائدها وما لحق بها من آثار هندية وإغريقية، وذلك نتيجة تعصبهم لها ودعوتهم إليها سرًا، وبدأ التشيع يتميز تدريجيًا عن الفكر الديني الصافي، وبدأت زاوية الانفراج بالاتساع مع الزمن بين أهل السنة والشيعة حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، هذا مع العلم أن أهل السنة جميعًا يعطون سيدنا عليا حقه من التقدير الصحيح والمحبة الصادقة والاحترام الحقيقي دون مغالاة في ذلك غلوًا يرفعه عن مستوى البشر ويجعل منه ومن أحفاده أئمة معصومين.
لقد فشلت فكرة التشيع في تسلم بعض غلاتها الحكم؛ لأن الذين كان بيدهم الأمر كانوا أقوياء سواء كانوا من الأمويين أم من العباسيين الأوائل، وهذا ما جعلهم يتجهون إلى العصبية علنًا مع المحافظة على اسم الإسلام الذي شاب أفكار أتباعه ما شابهم لما يحملون من أفكار غريبة عنه، والحرص على هذا الاحتفاظ إنما كان لأن أكثرية الشعب مسلم، فإن شذ بعضهم فإن دعوتهم لن يكون لها اتباع بل إنهم سيقتلون على أنهم مرتدون، ولكن بإظهار الإسلام يمكن أن يسيروا بالعامة إلى حيث يشاءون بهم نحو فكرتهم.(32/21)
وفي هذا الوقت ظهرت الفرق الباطنية التي انفرجت عندها زاوية الانحراف عن الإسلام لدرجة لا يمكن أن يلتقي الضلعان فيها بل أوشكا أن يكونا خطأ واحدًا بقوتين متنافرتين.
إذن فالحكم الإسلامي الجامع لم يطل إذ بزغ قرن العصبية، وقامت الدعوة إليها، وبينما كان الإسلام يجمع الأمة كرجل واحد بدأت العصبية تجزئها، فتفرقت وتقطعت أوصالها، وما استحكمت العصبية في أمة إلا فرقتها فرقًا، ومزقتها مزقًا، وجزأتها قطعًا، وما تفرقت أمة إلا ذلت وما أصاب الذل أمة إلا سطا عليها أكثر أهل الأرض شرًا وأقلهم قدرًا، وأحطهم أمرًا.
أسس طاهر بن الحسين (1)[57]) الدولة الطاهرية في مرو (2)[58]) ونيسابور (3)[59]) مستفيدًا من العصبية الفارسية، واستمر حكم هذه الدولة حتى عام 259هـ وكانت الدولة الطاهرية بداية الانفصال والاستقلال الإقليمي، إذ ظهر العلويون في منطقة طبرستان عام 250 هـ وحكموها، وبنوا ساج في أذربيجان بعد عام 277 هـ وكان مركزهم مراغة (4)[60])، كما ظهرت الدولة الصفارية في سجستان عام 253 هـ وامتد حكمها إلى خراسان عام 255 هـ، وإلى شرقي إيران كله، ثم جاء بنو زيار على طبرستان مكان العلويين، وتوسع حكم الساميين (5)[61]) وامتد نفوذ الغزنونيين (6)[62]) على خراسان، وحكم البويهيون (7)[63]) المنطقة وكان مركزهم مدينة شيراز، وبنو حسنويه منطقة كردستان، وأخيرًا جاء السلاجقة (8)[64]) عام 447 هـ فدانت لهم المنطقة.(32/22)
هذه العصبيات لم يكن لها أي مبرر، ولم يكن لها أي وجود لولا الأطماع الشخصية من الحكام التي نادوا بها ليسندوا بها حكمهم، وليختلفوا بها عن الآخرين، فإذا لم يختلفوا بها عن الآخرين فلا داعي لوجودهم، وأسرع الحكام آنذاك في إحياء لغات محلية اندثرت ولهجات إقليمية زالت منذ أن جاء الإسلام وحلت لغة العرب، وأغدق هؤلاء الحكام على الشعراء الأموال الكثيرة، ونال العلماء أعطيات كبيرة لقاء ما كتبوه في لغاتهم الخاصة، وظهرت مراكز كثيرة للحضارة تريد كلها أن تضاهي مدينة بغداد مركز الخلافة الإسلامية.
وانهارت الدويلات الواحدة تلو الأخرى؛ لأنه لم يكن لها مقومات الدولة، فكلها تعتمد على العصبية، فلا يكاد الأمر يستقر لها حتى تقوم غيرها، ولا تكاد تطمئن حتى تضمحل وتزول، فالحكم كان يعتمد على قبائل صغيرة أحيانا، فقامت في كل ناحية دويلة، واستبد في كل ناحية أمير، وحكم في كل مدينة سلطان ينافس الآخرين، يعلو عليهم تارة، ويخضع لغيره أحيانًا.
هذا التفكك الذي أوجدته العصبية لم يعد بالإمكان التغلب عليه، فقد انقلب الحكم إلى نزعات محلية وعصبيات موضعية، وصارت المنطقة هدفًا لغير ساكنيها ومطمعًا لغير أهلها.
ثم سيطر الغوريون (1)[65]) على المنطقة الشرقية من إيران على كرمان ومكران، كما أن الدولة الخوارزمية (2)[66]) قد أخضعت أكثر إيران لها، وكان للحشاشين (3)[67]) دور وكان مركزهم قلعة الموت (4)[68]).(32/23)
ثم جاء المغول من الشرق بقيادة جنكيز خان الذي قدم من غربي الصين واجتاح بلاد تركستان، وقضى على الدولة الخوارزمية، واستمر هذا التقدم بعد جنكيز خان (1)[69]) حتى وصل المغول إلى سواحل بحر البلطيق في أوربا، كما أزال حفيده هولاكو (2)[70]) الدولة العباسية في بغداد واستمر في تقدمه نحو الغرب، إلا أنهم هزموا في معركة عين جالوت في فلسطين عام 658 هـ أمام المماليك الذين حلت دولتهم محل الدولة الأيوبية، وقد استقر المغول في البلاد التي فتحوها، وتأثروا بسكانها وحضارتهم فاعتنق الإسلام من كان في غربي آسيا.
حكمت الأسرة الإيلخانية المغولية بلاد إيران وتولى الأمر بعد هولاكو ابنه أباقا (3)[71]) ثم أخذ الحكم أخوه تكودار (4)[72]) واعتنق الإسلام وتسمى باسم أحمد إلا أن أمره لم يطل كثيرًا؛ إذ قام عليه ابن أخيه أرغون (5)[73]) بن أباقا فقتله واضطهد المسلمين، وصرفهم من المناصب التي كانوا يشغلونها كافة، وقد تحالف مع الأرمن والصليبيين ضد بركة خان (6)[74]) أمير الأسرة الذهبية المغولية (7)[75]) وضد الظاهر بيبرس(8)[76] الحاكم المملوكي في مصر.
وبعد آرغون حكم أخوه كيخاتو (9)[77]) ثم تولى الأمر غازان (10)[78]) بن أرغون، وقد بقي في حروبه ضد المماليك رغم اعتناقه الإسلام، وحكم بعده أخوه أولجاتيو الذي شب على النصرانية، ثم اعتنق الإسلام، وعرف باسم محمد خدابنده، وهو الذي عمر على نشر المذهب الشيعي في منطقة حكمه، ومن بعده أصبح الإسلام الدين السائد في دولة إيلخانات الفرس.
وبعد أولجايتو تجزأت الدولة الإيلخانية وحكمت إيران عدة أسر حتى اجتاح المنطقة تيمور لنك عام 784 هـ، فدانت إيران لحكمه حتى عام 814 هـ، ثم حصل النزاع على أرضها بين خلفاء تيمور والتركمان واستمر هذا النزاع حتى عام 906 هـ حيث ظهر الصفويون على المسرح.(32/24)
قام الصفيون بالأمر، ويعد إسماعيل الصفوي مؤسس هذه الدولة وهو من زعماء الشيعة في أردبيل (1)[79]) إحدى مدن أذربيجان، وقد عملت هذه الأسرة على نشر المذهب الشيعي ومنذ ذلك الوقت أصبح المذهب السائد في إيران، وهو الرسمي للدولة.
وفي هذا الوقت الذي ظهر فيه الصفويون كان البرتغاليون يلتفون حول أفريقية ويدخلون المحيط الهندي، وقد استغلوا قيام دولة شيعية وسط جو غير شيعي، فاتصلوا بها، وحصلوا على بعض التسهيلات، وفي عام 913 هـ كانت بأيديهم جزيرتا هرمز وقسم، وهذا ما جعل العثمانيين يحولون وجهتهم من أوربا نحو الشرق، فقد هالتهم حركة الصفويين وصعب عليهم هذا الاتصال بين الأوربيين الذين يحاربونهم والصفويين الذي يشتركون معهم في الحدود الشرقية.
ووقعت الصدامات بين الطرفين واستطاع العثمانيون إحراز النصر في جالديران عام 920 هـ، ودخول تبريز عاصمة الصفويين واحتلال أجزاء من إيران تعادل مساحتها5 %من المساحة العامة. ونقل الصفويون عاصمتهم إلى أصفهان أيام الشاة عباس الصفوي الذي يعد من أشهر الحكام الصفويين وقد امتدت مدة حكمه من 996 – 1039 هـ حيث ازدهرت البلاد وجاءت البعثات السياسية إلى مركز حكمه في أصفهان، كما تأسست مراكز تجارية أوربية على سواحل الخليج العربي، وقد اجتهد في تحويل الحج من مكة إلى مشهد، حيث سار على الأقدام من أصفهان إلى مشهد حيث يرقد الإمام علي الرضا (2)[80]) وهو الإمام الثامن عند الشيعة الاثنا عشرية.(32/25)
ثم ضعف الصفويون وانتهى حمكهم عام 1149 هـ، فقام الأفشار (1)[81]) يحكمون البلاد ومن أشهر ملوكهم نادر شاه (2)[82]) الذي غزا أفغانستان وتوغل إلى الهند وهاجم الدولة المغولية فيها كما استولى على بخارى وعاد إلى أصفهان متوجًا بالنصر ومعه ثروة عظيمة حملها من الهند، وأثمن ما فيها عرش الطاوس الذي كان يجلس عليه سلاطين الدولة المغولية الهندية، ولم يدم حكمه طويلاً إذ قتله بعض أتباعه عام 1163 هـ فتجزأت الدولة التي أسسها إذ استقلت بلاد الأفغان، وأعلنت جورجيا استقلالها أيضًا وأخذت الدولة العثمانية جزءًا من أذربيجان، وسيطرت روسيا على بخارى وسمرقمند.
وبعد مقتل نادر شاه جاءت مدة من الاضطرابات والفوضى وتنازع العرش رجال من القبائل المختلفة ثم استقر الحكم في القبيلة القاجارية التي نقلت العاصمة من أصفهان إلى طهران، وكان أول ملوكها أقا محمد 1193- 1212هـ واستمر حكم القاجار حتى عام 1344 هـ.
كانت إيران خلال حكم الأسرة القاجارية مسرحًا للمنافسة السياسية بين كل من إنكلترا وروسيا، إذ زاد الضغط الروسي على إيران فجرت حرب بين الطرفين استولت روسيا على أثرها على جورجيا (3)[83]) كما حصل نزاع بين إيران وأفغانستان بشأن منطقة هراة، واضطرت إيران أن تتنازل عن هراة للأفغان لموقف إنكلترا ونتيجة معاهدة عقدت في باريس عام 1274 هـ.
عدت إنكلترا أن تهديد روسيا لإيران مقدمة لتهديدها للهند، وقد سبب هذا خلافًا سياسيًا داخليًا بين الذين يميلون إلى هذا الطرف والذين يؤيدون ذاك الجانب، وتدهور الوضع، واستدانت الحكومة الإيرانية كثيرًا من القروض، وساد البذخ والترف في القصر، وحصلت إنكلترا على العديد من الامتيازات منها خطوط البرق التي تصل الهند إيران تركيا، ومد السكك الحديدية، واستثمار الثروات المعدنية، وحصلت روسيا على امتيازات في الشمال، وقبلت غيران تشكيل فرقة خاصة من القازاق الإيرانيين ويدربهم ضباط من الروس.(32/26)
قامت ثورة في البلاد ضد هذا الاستبداد ونقمة على البذخ والترف، وإظهارًا بعدم الرضا على التدخل الأجنبي، واضطر الشاه إلى الرضوخ، فمنح للبلاد دستورًا، واجتمع أول مجلس نيابي في السنة نفسها التي قامت فيها الثورة وهي عام 1325 هـ، ورغم هذا التنازل والرضوخ من قبل الشاة إلا أن الفوضى استمرت حتى نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1333هـ.
إلا أن النظام الدستوري قد اصطدم بعدة صعوبات أولها: الاتفاقية التي تمت بين روسيا والإنكليز، والتي قسمت إيران إلى ثلاث مناطق:
1- منطقة نفوذ إنكليزية.
2- منطقة نفوذ روسية.
3- منطقة محايدة في الوسط.
كما تعهدت كل من روسيا وإنكلترا بألا تنافس إحداهما الأخرى في الميدانين السياسي والتجاري، ومع ذلك فكلتاهما يعترف باستقلال إيران، وقد كانت هذه المعاهدة عام 1326هـ.
وقد حاول محمد علي شاء إلغاء الدستور بمعاونة روسيا إذ استخدم فرقة القازاق الفارسية، التي يقودها ضباط روس لتنفيذ محاولته والتي تكونت عام 1297هـ أيام ناصر الدين شاه، إلا أن المحاولة باءت بالفشل وتنازل الشاة عن العرش، ولكن الرأي العام قد نقم على الروس، وكانت إنكلترا تهادن روسيا على حساب إيران؛ خوفًا من خطر حرب تشنها ألمانيا، وإنكلترا وروسيا هما الدولتان صاحبتا النفوذ في البلاد، وهكذا استمر الضغط الروسي يتزايد على إيران حتى قامت الحرب العالمية الأولى.
قامت الحرب العالمية الأولى وكانت بلاد إيران ميدانًا للصدام بين الألمان والأتراك من جهة والروس والإنكليز من جهة ثانية، وعندما انتهت الحرب كانت البلاد في حالة انهيار عسكري وسياسي، وأسرعت إنكلترا لعقد معاهدة مع إيران عام 1338 هـ، وإن كانت هذه المعاهدة قد اعترفت باستقلال إيران ظاهرًا إلا أنها في الواقع قد قيدتها بقيود جعلتها فيها تحت الحماية الإنكليزية (1)[84]).(32/27)
أما الروس الذين كانوا في وضع غير حسن بعد قيام الثورة الشيوعية وحركات الانفصال والتمرد التي قامت في كل مكان فقد رغبوا أن يحسنوا علاقتهم بجوارهم حتى لا يلقى الانفصاليون أي تأييد منهم, وحتى لا يلقى الناقمون على الشيوعيين أية مساعدة وهذا ما جعلهم يتنازلون عن ديونهم وامتيازاتهم التي كانت لهم وإن كانوا قد احتفظوا بالمصايد في بحر الخزر.
رضي الشاه بالمعاهدة التي فرضتها إنكلترا، وبقيت موافقة المجلس النيابي حتى يتم التصديق عليها، في هذه الأثناء اتصل الحزب الوطني بفرقة القازاق الإيرانية، وطلب من رضا بهلوي الذي كان ضابطًا فيها حسم الموقف.
تحرك رضا بهلوي عام 1340، بفرقته العسكرية وغير الحكومة في طهران، ونصب نفسه وزيرًا للدفاع وقائدًا أعلى للجيش ثم بعد ذلك رئيس للوزراء، وألغى المعاهدة الإنكليزية، وفي عام 1344هـ قرر المجلس النيابي إقصاء أحمد شاه قاجار عن الحكم, وفي العام نفسه تقرر وضع رضا بهلوي على عرش إيران باسم رضا شاه.
سار رضا شاه على نهج كمال أتاتورك، وقد أقر في السنوات الأولى من حكمه النظام والأمن وألغى الامتيازات الأجنبية والاتفاق مع شركة النفط الإنكليزية، وعقد اتفاقًا جديدًا معها حصل فيه على شروط أفضل من السابق واستولى على أموال الوقف، وأخضع القبائل، وعمل على توطين البدو، وافتتح المدارس وأنشئت جامعة طهران 1354هـ، وألغى الحجاب ودعا إلى خروج النساء إلى الشوارع سافرات، كل هذه الأعمال فرضها ودعا إليها بقوة وانقلب الحكم إلى نظام استبدادي رغم أنه احتفظ بالمجلس النيابي كواجهة، كما أنه أصبح يملك مساحات شاسعة من الأرض.(32/28)
اندلعت الحرب العالمية الثانية والناس في إيران على كره كبير للشاه، وكانت حكومته موالية للألمان وفي البلاد يوجد عدد كبير من الخبراء الألمان، فطلب الإنكليز والروس من الشاه إقصاء هؤلاء الألمان من إيران باعتبارهم مصدر خطر كبير للحلفاء، وأيدت الولايات المتحدة الأمريكية هذا الطلب، ولكن الشاه رفض ذلك، فدخلت القوات الإنكليزية البلاد من الجنوب والروسية من الشمال، وأيدت الولايات المتحدة هذا التدخل، واضطر الشاه للتنازل عن العرش لابنه محمد رضا وكان عمره آنذاك 23 عامًا بعد أن رأى الجيش الروسي يتقدم باتجاه طهران بقصد تأمين الارتباط مع الحلفاء، ثم قطعت الحكومة الإيرانية علاقتها مع دول المحور.
وفي عام 1361 هـ عقدت روسيا وانكلترا معاهدة مع إيران تعهدتا فيها باحترام وحدة البلاد واستقلالها وحمايتها من كل اعتداء، وفي الوقت نفسه تعهدت إيران بتقديم التسهيلات غير العسكرية للحلفاء، وسحبت القوات الروسية والإنكليزية من البلاد الإيرانية.
وفي عام 1362 هـ أعلنت إيران الحرب على دول المحور وتعهدت كل من الولايات المتحدة وروسيا وإنكلترا بتقديم المساعدة الاقتصادية، وبالمحافظة على استقلال أراضيها وذلك في تصريح طهران على لسان كل من روزفلت وستالين وتشرشل والواقع أن إيران لم تكن مستقلة أثناء الحرب العالمية الثانية بل كانت مجزأة إلى منطقتي احتلال إنكليزية وأمريكية في الجنوب وروسية في الشمال، ويفصل بينهما خط عرض طهران.
ساءت العلاقات بين إيران وروسيا بعد الحرب؛ لأن الإيرانيين قد رفضوا طلب الروس بالبحث عن النفط في شمال إيران، وهذا ما حدا بالروس إلى دعم حزب توده ومطالبته بالاستقلال في أذربيجان. كما أنهم منعوا قوات الأمن الإيرانية من دخول أذربيجان الفارسية حيث ترابط القوات الروسية.(32/29)
وفي 1365 هـ صفا الجو بين إيران وروسيا فأعلن عن اتفاق نفطي بين الدولتين وانسحبت روسيا من شمال إيران ولكن يظهر أن هذا الاتفاق كان مؤقتًا للقضاء على الحركات الانفصالية التي يدعو إليها حزب توده بدعم من روسيا.
وأمام هذه الحركات أقال رئيس الوزراء من وزارته أعضاء حزب توده وأرسل قطاعات من الجيش إلى أذربيجان قضت على التمرد.
رفضت الحكومة الاتفاقية النفطية كما رفضها المجلس النيابي عندما عرضت عليه، وهذا ما أثار الروس إذ عدو هذا الرفض عملاً عدائيًا.
وفي عام 1367هـ جرت مفاوضات بين الحكومة التي يرأسها الجنرال رازمارا وشركة الزيت الإنكليزية الإيرانية بقصد تعديل شروط الاستثمار، مما اضطر رئيس الحكومة إلى سحبها، وكان يتزعم المعارضة محمد مصدق ويلقى تأييدًا من الوطنيين والمتطرفين والمتدينين.
وفي 1370 هـ أغتيل رئيس الحكومة رازمارا ثم أعقبه اغتيال وزير المعارف مما جعل المجلس النيابي يقرر تأميم صناعة النفط، وتسلم محمد مصدق رئاسة الوزراء فألغى الامتيازات النفطية الإنكليزية.
سحبت إنكلترا موظفيها وخبراءها من إيران وحاصرت الموانئ، ورفعت القضية إلى محكمة العدل الدولية، فكان الحكم لصالح إيران،وحاول تشرشل وترومان التوسط ولكن مصدق لم يستمع إلى أي وسيط، ثم قطع علاقاته مع بريطانية.
اختلف الشاه مع مصدق، وحل رئيس الحكومة مجلسي النواب والشيوخ، وهذا ما سهل للشاه أن يعين رئيس وزراء جديد هو الجنرال زاهدي، فلم يعد بإمكان مصدق سحب الثقة؛ لأن المجلس النيابي غير موجود.
سافر الشاه برحلة إلى أوربا مع
مع الجغرافية(32/30)
إيران هضبة عالية ترتفع بين سهول دجلة والفرات في الغرب وسهول السند وجبال هندكوش في الشرق وبين سهول تركستان وبحر الخزر في الشمال وشواطئ الخليج العربي وبحر العرب في الجنوب، وتحف الجبال بهذه الهضبة من الجهات جميعها، ففي الغرب تمتد جبال زاغروس باتجاه الجنوب الشرقي وهي تصل بين هضبة أرمينية وجبال كردستان في الشمال الغربي وتستمر بلا انقطاع حتى هضبة بلوخستان في أراضي باكستان، وعندما تنحرف في وسطها بازدياد نحو الشرق يتكون سهل الأهواز الذي هو تتمة لبلاد الرافدين، وتكون هذه الجبال على شكل سلاسل تحصر بينها أودية تقوم فيها الزراعة وتنتهي فيها الأودية المنحدرة من الجبال.
وتمتد في الشمال جبال البورز التي تبدأ من عقدة أرمينية في الغرب أيضًا، وتشكل قوسًا حول بحر الخزر، وتوجد فيها أعلى مرتفعات إيران ممثلة في جبل دامافند شمال شرقي طهران الذي يصل ارتفاعه إلى 5601 م، وتميل هذه الجبال بشدة نحو بحر الخزر، وبشكل وئيد نحو الداخل.
وفي الشمال الشرقي وحتى الجنوب الشرقي توجد سلاسل قليلة الارتفاع متقطعة تفصلها عن الأمصار المجاورة لها أشهرها جبال كوبيت التي تفصلها عن بلاد التركمان, وإن كان خط الحدود بين إيران وجاراتها من جهة الشرق يمر في منطقة منخفضة شرقي هذه السلاسل تجري فيها المياه, أو تؤول إليها الوديان فتشكل بحيرات ومستنقعات أو شطوط ورامات أو تكون سهولاً قليلة تقوم عليها بعض الزراعات مثل منطقة سيستان بين إيران وبلاد الأفغان.
وتبقى المناطق الداخلية بقاعًا صحراوية قد تنساب إليها بعض السيول في بعض سنوات الخير أهمها صحراء لوط في الجزء الجنوبي وصحراء الكافر في القسم الشمالي.(32/31)
أما السهول فهي ضيقة المساحة في إيران وأشهرها سهل الأهواز الذي هو تتمة لسهول العراق ويرويه نهر قارون وفروعه، ثم السهول الساحلية سواء التي تشرف منها على بحر الخزر في الشمال أم التي تشرف على خليجي عمان والعربي، وهي ضيقة عمومًا، وإن كانت تتسع أحيانًا عند مصبات بعض الأنهار، ثم هناك بعض الأودية التي توجد بين السلاسل الجبلية فقد تتسع وتشكل بعض البقاع السهلية وتقوم فيها الزراعة وبخاصة عندما تكون المنطقة ملتقى لعدد من المجاري المائية، كما توجد في الشرق منطقة سيستان التي هي تتمة للمنطقة نفسها التي توجد في بلاد الأفغان.
تقع إيران بين خطي عرض 25 –40 شمالاً تقريبًا فهي بذلك تقع في معظم أقسامها ضمن إقليم البحر الأبيض المتوسط، أما الجزء الجنوبي 25-30 فيقع ضمن المنطقة الصحراوية ولا يستفيد من قربه من مياه البحر سوى الرطوبة وبعض الأمطار كما لا يستفيد من الرياح الموسمية إلا قليلاً؛ حيث تحجبها عنه جزيرة العرب وبخاصة مرتفعات عمان، ولكن إيران لا تستفيد أيضًا من موقعها هذا لبعدها عن البحر الأبيض المتوسط أولاً ولأن الجبال تحف بها من الجهات جميعها، وهذا ما يجعل وسطها صحراء قاحلة وجبالها لا تتلقى إلا كمية قليلة من الأمطار رغم ارتفاعها.
ومناخ إيران إذن قاري فهو حار وجاف في الصيف وإن كانت الجبال تمتاز باعتدال في الحرارة لارتفاعها، أما الشتاء فبارد جدًا في الأنحاء كلها خلا الأودية المحمية والمناطق الساحلية وبخاصة السواحل الجنوبية، وتتساقط الأمطار في هذا الفصل حيث تتبع إقليم البحر الأبيض المتوسط، ومع هذا نلاحظ بعض المناطق التي تتمتع ببعض الصفات الخاصة مثل:(32/32)
1- منطقة بحر الخزر: وهي المنطقة المحصورة بين الجبال ومياه البحر، وهي دافئة لأن ارتفاعها قليل وقد ينخفض دون سطح البحر، ويندر أن يحدث الصقيع هنا في الشتاء، كما يندر أن ترتفع درجة الحرارة في الصيف عن 32 درجة مئوية، ولكن الرطوبة شديدة، وتكثر الأمطار وتتوزع على مدار السنة، وإن كانت تتناقص من الغرب إلى الشرق فهي تصل إلى 1500 مم في الغرب ولا تزيد على 500 في الشرق ولكنها تتزايد على السفوح الجبلية حتى تصل إلى 2500 مم سنويًا.
وبسبب هذه الأمطار الغزيرة تنمو الغابات النفضية مثل البلوط والدردار، وهي التي تسقط أوراقها في فصل الشتاء وقد قطعت أجزاء من هذه الغابات وزرع مكانها.
2- منطقة الخليج العربي: وهي منطقة حارة رطبة لموقعها وقربها من مياه البحر وتزيد درجة الحرارة في الصيف على 45 درجة مئوية، وتتلقى السفوح أمطارًا تصل إلى 300 مم أكثرها في شهر كانون الأول.
3- المنطقة الجبلية: وهي لارتفاعها معتدلة في الصيف وباردة جدًا في الشتاء، وتتلقى كمية لا بأس بها من الأمطار معظمها في فصل الشتاء وتزيد على 1000 مم، والأودية بينها دافئة تسير إليها المياه وتقوم فيها الزراعة، وترتفع فيها حرارة الصيف، وتنمو عليها نباتات البحر الأبيض المتوسط.
4- الهضبة: وهي الجزء المحاط بالمرتفعات، وهي ذات مناخ قاري فهي حارة في الصيف وباردة في الشتاء، والمدى الحراري فيها كبير، ففي منطقة خراسان تصل درجة حرارة الصيف إلى 40 درجة مئوية وتنخفض في الشتاء إلى –12ْ.(32/33)
ومصدر المطر الوحيد أو الثلج إنما هو الانخفاضات الجوية التي تتحرك نحو الشرق من منطقة البحر الأبيض المتوسط، وتتركز شمالي فارس بصفة خاصة فتسقط على مدينة مشهد 225 مم فقط، وذلك لأن هذه الانخفاضات تعترضها هضبة أرمينية وجبال القوقاز في الشمال وجبال زاغروس في الغرب، وبذلك تصبح الهضبة في ظل المطر ولا ينالها منه شيء يذكر، ويقبع خط المطر 250 مم عند جبال زاغروس والبورز والكوبيت، ويعين هذا الخط حدود منطقة القمح الذي يعتمد على المطر، كما تقوم بالقرب من هذا الخط مناطق الرعي التي تتجول فيها القبائل الرعوية، ويبدأ تهطال المطر من شهر تشرين الثاني ويستمر حتى نهاية آذار، ويكثر تهطال الثلج في الشتاء.
والأنهار على كثرتها لا يوجد بينها نهر طويل، كما لا يوجد بينها نهر يصلح للملاحة سوى نهر قارون الذي يرفد شط العرب حيث يجري في منطقة سهلية مما يجعل انحداره قليلا ومجراه متسعا وهذا ما يخوله لأن يكون صالحا للملاحة.
والأنهار في إيران ذات ثلاثة اتجاهات فمنها ما يتجه نحو بحر الخزر ليصب فيه، ومنها ما ينحدر نحو الخليج العربي وخليج عمان، ومنها ما يسير نحو الداخل ليصب في بحيرات داخلية غالبًا ما تكون مالحة وتفيض الأنهار في الشتاء والربيع وتقل مياهها في الصيف والخريف حتى تبقى خيطًا من الماء رفيعًا وأحيانًا أخرى تجف تمامًا حتى موسم المطر الثاني.
الأنهار التي تصب في بحر الخزر: وهي قصيرة ذات مجرى جبلي وأهمها:
1- نهر صافيد الذي يعد أطول أنهار إيران ويبلغ طوله 1000 كم، وينحدر من جبال البورز، ويقل انحداره في سهل جيلان، ويصب شرقي مدينة رشت.
2- نهر جرجان الذي ينحدر من جبال كوبيت ويجري شمال جبال البورز متجهًا نحو الغرب ليصب في البحر شمال ميناء بندر شاه.
3- نهر أتراك الذي يشكل الحدود بين إيران وبلاد التركمان في بعض أجزائه ويكون مصبه شمالي الحدود الإيرانية.(32/34)
4- نهر أراس الذي يشكل الحدود بين إيران وبلاد أذربيجان السوفيتية، ويصب في البحر شمال الحدود الإيرانية وترفده أنهار من الأراضي الإيرانية.
الأنهار التي تصب في الخليج العربي وأشهرها:
1- نهر قارون: ويبلغ طوله 850 كم، وتنفتح عليه عدة روافد من بين سلاسل جبار زاغروس، أثناء أخذها اتجاه الشرق، ويمد رافده ديز رأسه نحو الشمال منثنيًا في مجراه حتى قرب مدينة الأرك سلطان أباد, ويروي هذا النهر سهول الأهواز مع روافده ويصب في شط العرب عند مدينة خور رامشهر، شمال عبدان وشرق البصرة.
2- نهر جاراهي: ويشبه نهر قارون حيث يروي معه الأهواز، ويتلقى المياه من السفوح الغربية لجبال زاغروس ويصب شرق مصب شط العرب عند ميناء بندر شابور في منطقة مستنقعية.
3- نهر الكرخة: ويتلقى المياه من السلاسل الغربية لجبال زاغروس، وتنفتح عليه أوديتها التي بينها، ويأخذ مياه المناطق الوسطى، ويمد رأسه حتى قرب مدينة همدان, وتقع مدينة كرمنشاه على أحد روافده، وينتهي في منطقة مستنقعية على الحدود بين العراق وإيران شمال غربي الأهواز وقد تصل مياهه إلى نهر دجلة.
4- نهر ديالي: الذي يأخذ مياهه من غربي مدينتي همدان وكرمنشاه ويدخل العراق، ويرفد نهر دجلة جنوبي بغداد.
5- نهر الزاب الصغير الذي يرفد دجلة أيضًا بين الموصل وسامراء.
الأنهار الداخلية: أهمها:
1- نهر زنده: وهو أطول الأنهار الداخلية، وأكثرها فائدة، وتقع مدينة أصفهان عليه، وتنتهي في بحيرة الغافقانة.
2- نهر زارينا: الذي يصب في جنوبي بحيرة أرومية وتأتيه مياه منطقة كردستان.
3- نهر طلخة: وتقع عليه مدينة تبريز ويصب في بحيرة أرومية أيضًا.
4- نهر كور الذي يصب في بحيرة باخيتكان، وتقع شيراز على مقربة منه.
5- نهر حليل الذي يصب في شط جازمورين.(32/35)
6- نهر بامبور وتأتي مياهه أيضًا إلى شط جازمورين.
7- نهر قم التي تقع عليه مدينة قم جنوبي طهران، ويصب في حاووظ السلطان.
8- نهر مشهد كاشاف، الذي تقع عليه مدينة مشهد ويرفد نهر هاري القادم من أفغانستان والذي يشكل الحدود بين إيران وأفغانستان، ويتجه شمالاً ليشكل الحدود بين إيران وبلاد التركمان ثم يغيض في رمال بلاد التركمان، ويعرف باسم قادزهن حيث يمر من مدينة تحمل الاسم نفسه.
وهناك أنهار كثيرة وصغيرة كلها سيول تجري فيها المياه إثر زخات المطر الشديدة، كما تكثر الشطوط والرامات التي تؤول إليها هذه الجداول السيلية.
البحيرات: إن أهم البحيرات في إيران هي بحيرة أرومية، التي تقع في الشمال الغربي في أذربيجان، يبلغ طولها 130 كم، وأقصى عرض إنما هو 50 كم، وفيها بعض الجزر الصغيرة أكبرها شاهي التي يبلغ طولها 9 كم وعرضها 3 كم، ولا يزيد عمق هذه البحيرة على 21 م، وتسير بعض الزوارق فيها.
أما البحيرات الأخرى فهي فصلية تتكون عقب فصل الأمطار، وهي مالحة جميعها، ومنها حاووظ السلطان الكائنة بين طهران وقم، ويبلغ طولها 20 كم، وعرضها 15 كم، وتكون مغطاة بالملح، وبحيرة هامون في منطقة سيستان بين إيران وأفغانستان والتي يصب فيها نهر هيرماند.
ثم هناك بحيرة باختيكان التي هي أهم بحيرات منطقة فارس ومع ذلك فهي ذات أعماق قليلة وملوحةكبيرة.
البحار: تشرف من جهة الشمال على بحر الخزر الذي تبلغ مساحته 335.000 كم2، ويبلغ طوله 1870 كم وعرضه 330 – 791 كم، ومياهه أقل ملوحة من ملوحة المحيطات، كما أن سطحه ينخفض عن سطح بقية البحار بـ 29 مترًا، إذ أنه بحر مغلق لا يتصل بباقي البحار.
أما الخليج العربي فيمتد من مضيق هرمز حتى مصب نهر قارون بطول 800 كم وعرض يتراوح بين 180 – 250 كم ولا يزيد طول مضيق هرمز على 53 كم، وتبلغ مساحته 250 ألف كم 2، ويتراوح عمق المياه بحدود 100 م وأعمقها قرب المضيق.(32/36)
وبحر عمان الذي يتصل بالمحيط الهندي، ويتدخل بين إيران وجزيرة العرب باتجاه مضيق هرمز.
مع السكان
تبلع مساحة إيران 1.650.000 كيلو متر مربع، ويقيم على أرضها حسب إحصاء 1399 هجرية 38.662.000 نسمة وبهذا تبلغ الكثافة 24 شخصًا في كل كيلو متر واحد، وهي كثافة منخفضة نظرًا لاتساع الصحاري التي تشمل أكثر المناطق الداخلية، ولكثرة الجبال التي تحيط بالبلاد،ولقلة السهول المحصورة في الأودية بين الجبال والمناطق التي تسيح فيها السيول إضافة إلى سهلي الأهواز حول نهر قارون وهو تتمة لسهول العراق وسهل جيلان في الشمال على شواطئ بحر الخزر عند مصب نهر صافيد.
وتختلف الكثافة من منطقة إلى أخرى حسب المناخ وإمكانية قيام الزراعة، أو وجود بعض الثروات التي تستدعي السكان للعمل فيها والصناعة، وأكثر المناطق ازدحامًا بالسكان حول طهران حيث تضم المدينة وحدها 1/3 المصانع إضافة إلى المناخ المناسب، ثم تأتي المناطق الواقعة على شواطئ بحر الخزر مثل جيلان وأذربيجان الشرقية ومازانداران، ويلي ذلك منقطة الأهواز حيث السهول والثروة النفطية وأذربيجان الغربية، ومنطقة أصفهان وشمالي خراسان ومنقطة سيستان وهي مناطق تقوم فيها الزراعات المختلفة إضافة إلى أودية جبال زاغروس، أما الجهات الأخرى من البلاد فهي قليلة الكثافة، ويكاد يخلو بعضها من السكان.
تقسم إيران إلى 14 إقليم (أوستان) ويقسم كل إقليم إلى عدد من المحافظات شهرستان وتضم كل محافظة عددًا من الأقسام الإدارية التي هي أصغر منها، والأقاليم هي:
1- الإقليم المركزي ... ... ومركزه ... ... ... طهران
2- إقليم جيلان ... ... ومركزه ... ... ... رشت
3- إقليم مازانداران ... ... ومركزه ... ... ... ساري
4- إقليم أذربيجان الشرقية ... ... ومركزه ... ... تبريز
5- إقليم أذربيجان الغربية ... ... ومركزه ... ... رضاية
6- إقليم كردسان ... ... ومركزه ... ... ... سانانداج(32/37)
7- إقليم همدان ... ... ومركزه ... ... ... كرمنشاه
ويضم إقليم كرمنشاه
8- إقليم خوزستان ... ... ومركزه ... ... ... الأهواز
9- إقليم أصفهان ... ... ومركزه ... ... ... أصفهان،
ويضم يزد
10-إقليم فارس ... ... ومركزه ... ... ... ... شيراز
11- إقليم خراسان ... ... ومركزه ... ... ... مشهد
12- إقليم كرمان ... ... ومركزه ... ... ... ... كرمان، ويضم إقليم بلوخستان وسيستان الذي مركزه زاهيدان
13- إقليم وجزر الخليج العربي ... ... ومركزه ... ... بوشهر
14- إقليم وجزر خليج عمان ... ... ومركزه ... ... بندر عباس
ويتوزع السكان على الأقاليم بالشكل التالي:
المقاطعة المركزية ... ... ويبلغ عدد السكان ... 7.925.000 نسمة
جيلان ... ... ويبلغ عدد السكان ... 2.600.000نسمة
مازنداران ... ... ويبلغ عدد السكان ... 2.895.000نسمة
أذربيجان الشرقية ... ... ويبلغ عدد السكان ... 2.383.000نسمة
أذربيجان الغربية ... ... ويبلغ عدد السكان ... 1.793.000نسمة
كردستان ... ... ويبلغ عدد السكان ... 2.540.000نسمة
كرمنشاه ... ... ويبلغ عدد السكان ... 1.250.000نسمة
خوزستان ... ... ويبلغ عدد السكان ... 2.540.000نسمة
فارس ... ... ويبلغ عدد السكان ... 2.270.000نسمة
كرمان ... ... ويبلغ عدد السكان ... 1.133.000نسمة
خراسان ... ... ويبلغ عدد السكان ... 3.915.000نسمة
أصفهان ... ... ويبلغ عدد السكان ... 2.440.000نسمة
الأقاليم الجنوبية ... ... ويبلغ عدد السكان ... 1.141.000نسمة
ــــــــــ
... ... ... ... ... ... 33.379.000نسمة
أما الأقاليم الصغرى التي تتبع غيرها:
همدان ... ... ويبلغ عدد السكان ... 1.350.000نسمة
بلوخستان وسيستان ... ويبلغ عدد السكان ... 0.743.000نسمة(32/38)
سيمنان ... ... ويبلغ عدد السكان ... 0.290.000نسمة
عيسلام ... ... ويبلغ عدد السكان ... 0.290.000نسمة
لارستان ... ... ويبلغ عدد السكان ... 1.000.000نسمة
بختاري وشاهار محل ... ويبلغ عدد السكان ... 0.440.000نسمة
أحميدي ... ... ويبلغ عدد السكان ... 0.240.000نسمة
ـــــــــ
مجموع السكان الحاضر ... ... ... ... ... 38.872.000نسمة
القبائل ... ... ... ... ... ... 0.810.000نسمة
ـــــــــ
... ... ... ... 38.682.000نسمة
يحكم إيران منذ عام 1363 هـ الشاه محمد رضا (1)[1]) وهي مملكة دستورية منذ عام 1325 هـ وحتى 1399 هـ وهو رأس السلطة التنفيذية التي يرأسها رئيس يختاره الشاه، وهو بدوره يختار الوزراء الذين يتعاون معهم.
أما السلطة التشريعية فتتألف من مجلسين هما:
أ - المجلس الوطني: وينتخب أعضاؤه من قبل الشعب لمدة 4 سنوات، ويبلغ عدد الأعضاء 219 عضوًا.
ب - مجلس الشيوخ: ويتألف من 60 عضوًا، يعين الشاه نصفهم وينتخب النصف الثاني انتخابًا على مرحلتين وتتطلب مشروعات قوانين السلطة التشريعية، موافقة الشاه لتصبح سارية المفعول.
__________
(1) محمد رضا: ولد عام 1338 هـ، وتولى الحكم 1363 هـ، تزوج مرتين ولم ينجب أولادًا، فتزوج للمرة الثالثة ابنة أحد الضباط، وهي فرح ديبا فأنجبت له أكبر أبنائه هو رضا بهلوي، وقد ولد عام 1380 هـ، وله ابن آخر وابنتان، وهم علي رضا، وفرح وليلى.(32/39)
ويحكم إيران اليوم حزب إيران الجديدة ويرأسه عباس هويدا رئيس مجلس الوزراء السابق وقد تشكل هذا الحزب حديثًا،وقد شكل الوزارة عباس هويدا لأول مرة عام 1387 هـ ثم عد لها عام 1389 هـ ثم أعاد تشكيلها للمرة الثالثة عام 1391 هـ إثر الانتخابات التي فاز فيها حزبه بالأكثرية وقد كانت نتيجة هذه الانتخابات على الشكل التالي:
الحزب ... ... ... ... المجلس الوطني ... ... مجلس الشيوخ
إيران الجديدة ... ... ... ... 179 ... ... ... 48
الشعب ماردوم ... ... ... ... 032 ... ... ... 11
عموم إيران ... ... ... ... ... 005 ... ... ... -
مستقل ... ... ... ... ... 001 ... ... ... 1
مقعد شاغر ... ... ... ... ... 2 ... ... ... -
المجموع ... ... ... ... ... 219 ... ... ... 60
وهناك حزب توده المحظور، وله قوته في شمالي غربي البلاد وبخاصة في كردستان وأذربيجان، وهو ذو ميول متأثرة بالروس.
وقد عدل الدستور ثلاث مرات في سنة 1344، 1368، 1377، وكان يطلق على البلاد اسم فارس، ثم استبدل باسم إيران واليوم يمكن استعمال الاسمين.
يبلغ عدد سكان إيران حسب إحصاء 1399 هجرية 38.660.000 نسمة، وتختلف أجناسهم، وإن كان يطغى عليهم العنصر الإيراني، وتتباين لغاتهم وأن كانت تسود الفارسية، وتتنوع العقائد وإن كان يعم الإسلام.
الأجناس:
يشكل الإيرانيون 63 % ويبلغ عددهم ... 24.420.000 نسمة
ويشكل الأتراك 20 % ويبلغ عددهم ... 7.820.000نسمة
يشكل العرب 7 % ويبلغ عددهم ... 2.700.000نسمة
يشكل الأكراد 6 % ويبلغ عددهم ... 2.316.000نسمة
يشكل البالوخ 2 % ... ويبلغ عددهم ... 0772.000 نسمة
ويشكل جماعات أخرى2% ويبلغ عددهم 634.000 نسمة
ـــــــ ـــــــــــ
... ... 100% ... ... ... 38.660.000نسمة(32/40)
يؤلف الإيرانيون أكثر سكان المناطق الوسطى من الشمال حتى الجنوب بينما يعيش الأتراك في المناطق الشمالية الغربية، في أذربيجان والجهات الشمالية الشرقية في خراسان حيث يوجد التركمان، ويسكن العرب الأجزاء الجنوبية الغربية والأهواز، ويقطن الأكراد كردستان وإقليم اللور، أما البالوخ فيقيمون في الجنوب الشرقي على حدود باكستان.
اللغات: اللغة الفارسية هي اللغة الرسمية، وتكتب بأحرف عربية، وإضافة اللغة الرسمية توجد لغات للمجموعات الثانية مثل:
اللغة التركية: وتنتشر في الشمال الغربي في أذربيجان والشمال الشرقي لدى التركمان وعند قبائل القاشقاي في جبال زاغروس، وهذه القبائل منتنقلة بين الأودية والمرتفعات.
واللغة العربية: وتنتشر في الجنوب الغربي ولدى القبائل العربية المتنقلة أيضًا إضافة إلى أنها لغة المدارس الدينية، ولا تصح الصلاة وتلاوة القرآن إلا بها.
واللغة الكردية: وهي لغة محلية تتكلم بها القبائل الكردية واللور.
وللبالوخ لغتهم المحلية وكذا لكل جماعة من المجموعات السكانية كالأرمن والآشوريين وغيرهم.
الدين: يشكل المسلمون أكثر من 98 % من مجموع السكان والباقي هم جماعات متعددة ذات عدد محدود منهم:
1- النصارى الأرمن ويصل عددهم إلى 100.000 نسمة ويسكنون المدن الكبرى طهران وتبريز وأصفهان.
2- اليهود ويصل عددهم إلى 45.000 نسمة، ويسكنون المدن الكبرى وبخاصة طهران.
3- النساطرة (1)[2]) ويصل عددهم إلى 25.000 نسمة، وهم نصارى أصحاب كنيسة خاصة.
__________
(1) النساطرة: نسبة إلى نسطوريوس الذي قال بوجود طبيعتين منفصلتين للسيد المسيح مخالفًا في ذلك رأي الكنيسة البيزنطية لذا اعتبر كافرًا وأعدم عام 191 ق. هـ، واستقر أتباعه بعد موته في فارس ولهم كنيسة خاصة.(32/41)
4- الزرادشت (1)[3]) ويصل عددهم إلى 12.000 نسمة، ويقيمون في يزد وكرمان.
__________
(1) الزرادشتية: نسبة إلى زرادشت وهو فيلسوف إيراني، عاش في القرن الثالث عشر ق. هـ، يقول بوجود إلهين أحدهما للخير وهو أهورامازدا وآخر للشر وهو أهريمان، والشمس ترمز لإله الخير، وقد بقيت ديانتهم بعد الإسلام إذ عامل المسلمون المجوس معاملة خاصة، ومن عاداتهم الغريبة أنهم لا يدفنون موتاهم وإنما يتركونها في أبراج مكشوفة معرضة للطير.(32/42)
5- البهائيون (1)[4]) ومركزهم طهران.
وينتمي المسلمون إلى مذهبين هما:
الشيعة ويشكلون 64 %.
السنة ويشكلون 36%
ــــــــ
... ... ... 100% من المسلمين.
__________
(1) البهائية: دعوة من الدعوات المتكررة التي قامت تبغي القضاء على الإسلام مستغلة الجنس وغيره من المغريات للوصول إلى غايتها، ومدعومة من كل أعداء الإسلام في العالم من صليبيين وملحدين حسب الرأي تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم؛ لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها وأن الأفكار الباطنية تبلورت أيام المأمون على أيدي فلول المجوسية المنهزمة وتشعبت إلى فرق تعددت بها السبل تربطها غاية واحدة هي القضاء على الإسلام وشريعته الخالدة، ومن هذه الدعوات كانت الخرمية وكانت القرمطية و... ثم كانت البهائية. ادعى علي محمد رضا الشيرازي المولود عام 1235 للهجرة أنه المهدي المنتظر في شيراز عام 1260 هـ، وقد نفذ فيه حكم الإعدام عام 1265 هـ وكان قد ادعى أنه الباب وعرفت جماعته بالبابية، وقام من بعده الميزرا حسين علي المازندراني فادعى أنه الموعود الحقيقي والمسيح المنتظر وأن الباب لم يكن إلا مبشرًا به، وسجن فتدخلت السفارات الروسية والبريطانية لإخراجه، فأخرج ونفي إلى بغداد عام 1269 هـ، ثم نفي إلى تركيا،ومات في منفاه، ودفن في عكا، وهو الذي عرف باسم البهاء، كانت روسيا من خلف هذه الدعوة إذ تدخلت لإنقاذ حياة الباب من الإعدام ولكن سبق أن نفذ فيه كما تدخلت لإخراج البهاء من السجن، وأقامت معبدين للبابيين في باكو وعشق آباد، كما أن اليهود قد أوعزوا لمن يعيش منهم في إيران بالانضمام لهذه الدعوة باسم وحدة الأديان والإنسانية وأخيرًا وقعت البابية والبهائية في أحضان الإنكليز.(32/43)
والشيعة هو المذهب الرسمي للدولة وقد انتشر قديمًا لأسباب سياسية، ثم أصبح مذهبًا خاصًا ولأصحابه عقائد معينة (1)[5])، وإن كانوا يتبعون مذهب الإمام جعفر الصادق -رضي الله عنه- وهو من أهل العلم والتقوى، لذا يسمون بالجعافرة أو يقال لهم: الاثنى عشرية؛ حيث يعتقدون بعصمة 12 إمامًا من سلالة علي بن أبي طالب من زوجه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عمل على نشر المذهب الشيعي أولجايتو محمد خدا بنده، ثم الصفويون وجعلوه المذهب الرسمي للدولة، وحاول نادر شاه إعادة مذهب أهل السنة والإيرانيون يتبعون هذا المذهب الشيعي.
أما السنة فتسود لدى الأتراك في الغرب والتركمان في الشمال الشرقي والأكراد واللور والعرب والبالوخ.
التعليم: صدر قانون بإلزامية التعليم عام 1362 للهجرة وتعم المدارس الابتدائية كل ناحية من نواحي البلاد، وكذا المتوسطة ثم الثانوية ويتوسع التعليم باستمرار.
وقد أسست في طهران جامعة عام 1354 وتضم مختلف الكليات والأقسام.
وأقيمت جامعة في تبريز أيضًا عام 1367.
وأنشئت كليات مستقلة عام 1368 في كل من أصفهان وشيراز ومشهد.
وبنيت كلية للطب في مدينة الأهواز.
وتوجد في عبادان كلية للبتروكيمياء.
وللثقافة الفرنسية أثر كبير على إيران، وقد كانت تدرس اللغة الفرنسية كلغة ثانية في معظم المدارس ولكن حلت الآن محلها الإنكليزية.
وقد كان في إيران عدد من المدارس الأجنبية يزيد على الخمسين مدرسة، ويتبع أغلبها البعثات التبشيرية، ولكن أقفلت في أواخر عهد رضا شاه.
__________
(1) يعتقدون بعصمة أئمتهم، ويقول بعضهم: إن الأئمة يعرفون زيادات من القرآن الكريم.(32/44)
تشغل القبائل مساحات واسعة، وتنتقل وراء الحيوانات إلى مواطن الماء ومنابت الكلأ في الصحارى، فهي تنتقل في الربيع باتجاه الشرق وتعود في الصيف إلى الغرب لتقترب من المياه، أما في المناطق الجبلية فتعيش في فصل الشتاء في الأودية تنعم بالدفء، وتعود في الصيف إلى المرتفعات.
ولهذه القبائل دور هام في الحياة العامة، وقد كانت تتسلم الحكم في فترات من الزمن عندما تسمح لها الظروف مثل القاجار، الذين حكموا البلاد قبل الأسرة الحاكمة اليوم، ومن القبائل المعروفة الآن القاشقائية التي هي من أصل تركي، ومنازلها في الجنوب الغربي من فارس، وقد انتقلت إلى هذه المواطن في القرن الثامن الهجري، ويزيد عدد أفرادها على 200 ألف نسمة، وتتكلم اللغة التركية، ويعرف زعيمها باسم خان، وله مسكن كبير في مدنية شيراز.
وقد كان لهذه القبيلة دور كبير في المنطقة وصولة حتى كان الخان يجمع الضرائب، ومن القبائل المهمة أيضًا البختياري ولزعيمها أيضًا بيت كبير في أصفهان، وأهمية في الحياة السياسية، وقد سعت الحكومة لاستقرار القبائل وعملت على الحد من نفوذهم.
أما الفلاحون فيقيمون في القرى، ويقضون وقتهم في العمل الزراعي، وتعمل النساء في صناعة السجاد، ويلتقي الفلاحون في أوقات فراغهم يشربون الشاي ويستمعون إلى الأخبار وقراءة القصص، وكانت القرية تبنى من الآجر واللبن، وتحمى بأسوار ذات منافذ وأبواب تغلق ليلاً، وتكون البيوتات ذات فناء داخلي تطل عليه الغرف والحجرات بينما تسد تمامًا عن الشوارع والطرقات، وقد تكون لها حديقة فيها الأشجار والأزهار، وفي جانب من الفناء يخصص مكان للحيوانات، كما يوجد وسط الفناء حوض مائي، ويبنى عادة على شكل جناحين متصلين بباب أما أحدهم فيعرف باسم بيرون وهو الخاص بالرجال، والثاني يسمى أندرون وتختص به النساء.(32/45)
وفي وسط القرية ساحة واسعة يقام فيها السوق، كما يوجد المسجد بالقرب منها، وفي كل قرية حمام عام يستحم فيه السكان وغالبًا ما يكون في الصباح للرجال، ومساء للنساء.
وتصل إلى القرية قناة ماء توزع وتتفرع إلى البيوتات وإلى الحمام ولا تستغني قرية عن هذه القناة، وقد تصل إليه من مسافة بعيدة.
أما المدن فكثيرة وأكثرها ذات ماض وتاريخ فاصطخر عاصمة الدولة الأخمينية وسوزا عاصمة الساسانيين، وأصفهان عاصمة السلاجقة، وتبريز عاصمة الصفويين في البداية قبل أن ينقلوا عاصمتهم إلى أصفهان، كما أنها مركز المغول.
والأقسام القديمة من المدن كلها ذات أسواق مغطاة بالقباب المبنية من الآجر اتقاء من برد الشتاء وحر الصيف، كما لها أسوار عالية ذات بوابات مزين بعضها بالقيشاني كمدينة طهران، وفيها الحمامات العامة، وتكثر فيها المقاهي ومحلات شرب الشاي، وإن البناء الحديث قد أزال كثيرًا من معالم المدن القديمة بشق الشوارع وإقامة الأبنية الحديثة، وأشهر المدن اليوم:
طهران: وهي العاصمة ويصل عدد سكانها إلى ثلاثة ملايين نسمة، وقامت بالقرب منها معامل للحديد والذخيرة بل إن طهران تضم 1/3(ثلث) المعامل المقامة في إيران كلها.
ويصطاف سكانها في جبل دامافاند.
تبريز: وهي ثاني مدن إيران ويزيد عدد سكانها على النصف مليون، وتقع على ارتفاع 1600 م عن سطح البحر, وتشتهر بالصناعة منذ أيام السلطان العثماني سليم إذ نقل إليها بعد أن فتحها 3000 عامل من أكثر الصناع مهارة وذلك عام 920 للهجرة، وأشهر صناعتها للسجاد الذي ينسب إليها.
كما كانت مركزًا للسلاجقة والمغول وقد أنشأ فيها رشيد الدين وزير غازان ضاحية عرفت باسم الرشيدي، وكذلك كانت عاصمة الصفويين قبل أن يدخلها العثمانيون، وقد نقل الصفويون بعدئذٍ عاصمتهم إلى أصفهان.(32/46)
أصفهان: عاصمة السلاجقة، وفيها أهم آثارهم، ومنها المسجد الجامع الذي بني في عهد نظام الملك وزير السلطان ملكشاه، ويقرب عدد سكانها من نصف مليون نسمة.
مشهد: أكبر مدن خراسان ويقرب سكانها من نصف مليون، ويحج إليها الشيعة حيث فيها ضريح الإمام الثامن علي الرضا وعليه قبة عالية مذهبة ترى من بعيد ومنارتان مذهبة أطرافهما، كما فيها ضريح هارون الرشيد، ويسمى الحاج إلى هذه المدينة باسم مشهدي.
همدان: وهي مكان اكبتانا عاصمة الدولة الميدية القديمة وعاش فيها ابن سينا الطبيب المعروف.
شيراز: وتقع على ارتفاع 1500م.
كما تشتهر كل من عبادان والأهواز ونيسابور، وقم حيث يقيم الرئيس الأعلى للشيعة ويعرف باسم المجتهد الأكبر، ويعد ممثلاً للإمام الغائب محمد المهدي، كما فيها ضريح فاطمة أخت الإمام علي الرضا وهي من الأماكن التي يسعى إليها الشيعة.
الأعياد: إضافة إلى الأعياد الإسلامية المعروفة التي لا يوجد غيرها في الإسلام وهي عيد الفطر بعد الانتهاء من شهر رمضان أي في الأول من شهر شوال وعيد الأضحى في العاشر من ذي الحجة، يحتفل الشيعة بأعياد ميلاد علي بن أبي طالب وابنه الحسين وعلي الرضا الإمام الثامن.
ومن الأعياد الوطنية في إيران عيد النيروز الذي يقع في 21 آذار حيث يبدأ فصل الربيع كما تبدأ السنة الفارسية.
ومن العادات الجاهلية المتبعة الاحتفال بآخر يوم أربعاء من كل عام ويخاطبون فيه النار، وكذلك يعدون اليوم الثالث عشر من بداية العام يوم نحس يخرجون فيه من البيوت ليخرجون منها النحس.
وبصورة عامة فإن للجهل والخرافات سلطان كبير على حياة العوام.
وقد كان زواج المتعة شائعًا في إيران وبخاصة في مشهد حيث يذهب الحاج إلى ضريح الإمام علي الرضا ويبقون هناك مدة طويلة قد تصل إلى السنة فيتزوجون خلال هذه المدة كما تذهب النساء العاقرات بغية أن تعافى وتنجب، ولكن الحكومة الحاضرة قد حرمت هذا الزواج وجدت في منعه.
---
مع الاقتصاد(32/47)
الزراعة
رغم امتداد الجبال واتساع الصحارى في إيران وقلة الأرض الصالحة للزراعة وقلة الأنهار أيضًا فإنها تعتمد على الزراعة اعتمادًا كبيرًا، ويعمل بالزراعة عدد غير قليل، وتقوم الدولة بتنفيذ المشروعات الكثيرة من أجل الري وتوسعة الأرض المزروعة.
تتوزع الأرض في إيران على النحو التالي:
30.2 % أراض قابلة للزراعة.
0.7 % مراع ومروج.
10.9 % غابات.
58.2 % جبال وصحارى.
ولكن الأرض القابلة للزراعة لا يزرع إلا ثلثها فعلاً والباقي وهو الثلثان أي 20 % من مساحة البلاد فيبقى بورًا، ولقلة المياه نجد أن الأراضي المزروعة يعتمد ثلثها فقط على الري والباقي على المطر، وبهذا تكون الأرض القابلة للزراعة موزعة على الشكل التالي:
20 % أراض بور.
03.2 % يعتمد على الري.
07 % يعتمد على المطر.
ــــــــــ
30.2 % من مساحة إيران الكلية يصلح للزراعة،
وكانت تعاني الزراعة مشكلة أخرى وهي: الملكية الواسعة إذ كان يملك الشاه أراضي خوزستان وسيستان بصفة شخصية كما أن الأمراء وأفراد الأسرة الحاكمة والمتنفذون يملكون مساحات واسعة، هذا بالإضافة إلى أملاك الدولة التي تعادل 10% من مساحة البلاد، ثم أملاك الوقف، ومجموع هذه الملكيات الثلاث تعادل 70 % من المساحة العامة، وما بقي وهو 30 % فهو يتملكه الشعب، ورغم الإصلاحات التي قامت عام 1383 هـ إلا أن الشعب لا يزال يئن من وطأة هذه الملكية، كما أن الدولة تتأثر بذلك أشد التأثر؛ لأن الإنتاج في الملكيات الواسعة يكون ضئيلاً لأن العمل لا يشرف عليه صاحب الأرض بنفسه وإنما الوكلاء أو يكون العمل بالأجرة، أو الآجار وليس من يعمل بنفسه كمن يعمل لغيره.
وقد قامت في البلاد مشروعات واسعة من أجل توسعة الأرض الزراعية فبنيت السدود على الأنهار، لتخزين المياه وقت الفيضان، وتنظيم جريان الأنهار ثم الإفادة في توليد الكهرباء، رغم غنى البلاد بالنفط، وأهم هذه السدود هي:(32/48)
1- سد الأمير الكبير: على نهر كاراج (1)[1])، ويقع السد غربي طهران على مسافة 63 كم منها، ويمدها بمياه الشرب كما يستفاد منه في توليد الكهرباء، وهو أول سد في تاريخ إيران الحديث، ويروي 21 ألف هكتار من الأرض، ويبلغ طوله 390 م، ويعطي 29 ألف كيلو واط ساعي سنويًا.
2- سد الإمبراطورة فرح: على نهر صافيد، وقد ابتدأ العمل فيه عام 1382 هـ، وهو من السدود العالية المعروفة في العالم وتعمل عليه خمس منوبات، ويروي مساحة 240 ألف هكتار، ويبلغ طوله 425م، ويعطي 88 ألف كيلو واط ساعي سنويًا.
3- سد فرحناز: على نهر جارود (2)[2]) شمال شرقي طهران على بعد 46 كم منها، ويبلغ طوله 450 م، ويروي مساحة من الأرض تقدر بـ 31 ألف هكتار، ويعطي 45 ألف كيلو واط ساعي سنويًا.
4- سد الشاه محمد رضا: في الأهواز على نهر ديز أحد روافد نهر قارون، ويبلغ طوله 212 م، ويروي مساحة من الأرض تقدر بـ 125 ألف هكتار.
5- سد شاهناز قرب همدان على بعد 9 كيلو مترات منها، ويمدها بمياه الشرب، ويبلغ طوله 286 م، ويروي مساحة من الأرض تزيد على 20 ألف هكتار، ولا يستفاد من هذا السد في الكهرباء.
6- سد الشاه إسماعيل قرب أصفهان ويمدها بالشرب، ويروي مساحة من الأرض تزيد على 45 ألف هكتار، وقد بدئ بهذا السد عام 1390هـ.
7- سد نهر أراس، وقد بدئ عام 1387 هـ بالاتفاق مع الاتحاد السوفيتي، واستمر فيه خمس سنوات ويروي 22 ألف هكتار في إيران إضافة إلى ما يروي في جمهورية أذربيجان السوفيتية التي تخضع للسيطرة الروسية.
__________
(1) نهر كاراج: يتبع من جنوبي مدينة طهران، ويلتف حولها من جهة الغرب ويصب في بحر الخزر.
(2) نهر جارود: ينبع من جنوبي طهران، ويشكل قوسًا حول المدينة من جهة الشرق ثم يلتقي بنهر كاراج ويصبان معًا في البحر وقد شكلا نهرًا واحدًا.(32/49)
هذا إضافة على مشروعات أخرى أقل منها أهمية، كما يجب ألا ننسى القنوات الكثيرة التي تنتشر في أنحاء البلاد وتنقل المياه من المناطق الجبلية التي تغطى بالثلوج إلى المناطق الجافة، ويزيد طول هذه القنوات على 320 كم للقناة الواحدة منها، وكلها حفرت باليد وبشكل ضيق تدل على مهارة الصنع، وهي قديمة العهد تعود إلى العصر الإسلامي.
وبعد تنفيذ هذه المشروعات الحيوية أصبحت الأراضي الزراعة التي تعتمد على الري تعادل 7.5 % من المساحة العامة،
وأهم المزروعات:
1- القمح: إن القمح يشغل ما يقرب من 60 % من الأرض التي تزرع سنويًا، ويختلف المردود من منطقة إلى أخرى، وأحسن المناطق إنتاجًا يعطي الهكتار طنًا واحدًا من القمح ويزرع في المناطق كلها حول خط يمتد من كرمان إلى يزد فأصفهان فالشمال الشرقي، فالمناطق التي تقع في غربي هذا الخط وشماله وجنوبه تزرع القمح وبخاصة في أودية زاغروس وحول مدنية تبريز، وقد وصل إنتاج إيران من القمح إلى 4.900.000 طن.
2- الشعير: ويزرع في المناطق الفقيرة والسفوح الباردة والتي لا تكفي حرارتها وخصوبتها لزراعة القمح؛ لأن الشعير لا يحتاج إلى حرارة مرتفعة وتربة غنية مثل التي يحتاجها القمح، وقد وصل إنتاج إيران من الشعير إلى 1.600.000 طن.
3- الأرز, وقد توسعت زراعته بسبب مشروعات الري وبخاصة في جيلان التي تقدم نصف الإنتاج، كما يزرع في إقليم مازانداران وبعض الأجزاء البسيطة في الأهواز وعلى سواحل الخليج العربي، وقد ازداد المردود حتى وصل في جيلان إلى 2.5 طن بالهكتار الواحد، وقد تطور الإنتاج بسرعة حسب الجدول التالي:
1385 هـ ... ... ... ... 500.000 طن.
1386 هـ ... ... ... ... 600.000 طن
1387 هـ ... ... ... ... 750.000 طن
1388 هـ ... ... ... ... 830.000 طن
ومن المحتمل أن يكون قد وصل الآن إلى مليون طن.(32/50)
4- القطن: وأهم مناطق زراعته حول أصفهان، وقد ازداد الإنتاج ازديادًا كبيرًا حسب الجدول التالي:
1385 هـ ... ... ... ... 150.000 طن.
1386 هـ ... ... ... ... 110.000 طن.
1388 هـ ... ... ... ... 480.000 طن.
وبهذا أصبحت إيران من الدول المصدرة للقطن، وتحتل مرتبة عالمية، وقد وصلت إلى مستوى الإنتاج المصري.
5- الشاي: وهي المشروب الشعبي، وكانت قبل الحرب العالمية الثانية تزرع في مناطق محدودة، ولكن بعدها، قررت الحكومة توسعة هذه الزراعة لتستغني عن الاستيراد فتطورت زراعتها وتطور معها الإنتاج حسب الجدول التالي:
1370 هـ ... ... ... 9.000 طن
1381 هـ ... ... ... 48.000 طن
1388هـ ... ... ... ... ... 64.000 طن
وستبدأ إيران بتصدير الشاي بدءًا من عام 1395 هـ، وأهم مناطق الزراعة سواحل بحر الخزر.
6- الشوندر السكري: وأهم مناطق زراعته خوزستان في الجنوب الغربي من البلاد، وتسعى الحكومة لتوسعة هذه الزراعة لإنتاج السكر، وقد شملت الخطة الخمسية التي بدأت عام 1386 والتي ستنتهي عام 1391 زيادة الأراضي التي تزرع هذه الغلة، ويزيد إنتاج إيران اليوم على 10.000 طن.
7- التبغ: ويزرع في السفوح الجبلية في البورز وزاغروس وقد وصل الإنتاج عام 1388 هـ إلى 13.314 طن.
8- النخيل: ويزرع في منطقة الأهواز حيث تشبه المنطقة جنوبي العراق بل هي تتمة لها, كما يزرع على سواحل الخليج وبعض جهات سهل جيلان حول رشت قرب سواحل بحر الخزر والواحات، ويبلغ إنتاج إيران من التمر 125.000 طن، ويبلغ عدد أشجار النخيل فيها 12 مليون شجرة.
9- الفواكه: وأهمها المشمش والعنب والتفاح والكمثرى فيزرع المشمش في الأودية ومناطق المياه، والعنب على السفوح، والتفاح في المرتفعات.(32/51)
10- الجوت: ويزرع في إقليم مازانداران, ويزرع الزيتون في الشمال الغربي، وقصب السكر في الأهواز وجيلان، ومنعت الدولة زراعة الأفيون وكانت تحتكرها.
11- الغابات: تشغل الغابات مساحة تقدر بـ 10.9 % من المساحة الكلية لإيران، وأهمها ما كان على جبال البورز وأشهر أشجارها الدردار والبلوط، ثم مرتفعات زاغروس حيث تنتشر غابة البحر الأبيض المتوسط من صنوبر وأرز وشوح وعرعر وزيتون بري.
12- صيد السمك: تقوم بصيد السمك شركة حكومية تحتكر هذه المهنة والسمك في بحر الخزر من نوع الكافيار، وهي شركة إيرانية خالصة بعد عام 1372 هـ وكانت من قبل روسية إيرانية، ويزيد الإنتاج على 7000 طن سنويًا كما تأسست شركة إيرانية يابانية للصيد في الشواطئ الجنوبية ويزيد الإنتاج الإيراني في الجنوب على 2000 طن سنويًا، ويزيد الإنتاج على الاستهلاك، وتصدر إيران كميات قليلة تصل إلى 200 طن.
13- تربية الحيوانات: للحيوانات في إيران أهمية كبيرة وليست بسبب اللحوم والألبان فحسب بل بسبب الأصواف؛ حيث تعتمد عليها صناعة السجاد التي تشتهر بها إيران.
وعندما عملت الحكومة على استقرار البدو أثر ذلك على تربية الحيوانات، وقل الصوف، وهذا ما دعا الحكومة إلى إعادة النظر في قراراتها بهذا الشأن، وتقدر الثروة الحيوانية بالأعداد التالية:
الأغنام ... ... ... ... 32.000.000 رأس.
الماعز ... ... ... ... ... 15.000.000 رأس.
الأبقار ... ... ... ... 06.000.000 رأس
الحمير ... ... ... ... ... 02.500.000رأس
الخيول ... ... ... ... ... 00.650.000 رأس
الثروة المعدنية
لم تسمح أرض إيران بعد بصورة جيدة، وربما ظهرت فيها معادن جديدة وبكميات كبيرة بعد عملية المسح وإجراء الدراسات العلمية، وحتى الآن فإن ما فيها من ثروات ليدل على غناها، وأهم ما عرف فيها حتى الآن:(32/52)
الحديد: يوجد فلز الحديد في كرمان وسيمنان وأصفهان وأناراك وقم ويقدر الإنتاج بـ 3500 طن سنويًا، ويمكن أن يزداد الإنتاج بصورة سريعة، كما توجد أكاسيد الحديد في هرمز وجزيرة قسم وجزر الخليج العربي البقية.
النحاس: ويوجد في زنجان وأناراك وأصفهان وهمدان ويقدر الإنتاج بـ 12.000 طن سنويًا.
الكروم: ويوجد في مشهد وشيراز، وتقدم إيران 104 ألف طن في العام.
التوتياء: وتوجد في صحراء الكافر وأصفهان.
الرصاص: وتعطي 90 ألف طن ويوجد قريبًا من مناجم التوتياء أو ممزوجًا معها.
هذا إضافة إلى الملح الذي تقدر كميته السنوية بـ 245 ألف طن، ومعادن أخرى مثل القصدير وغيرها من الأورانيوم في كرمان والفضة في بندر عباس وسيمنان والذهب والألومنيوم، وإن كانت بكميات قليلة.
مصادر الطاقة: يعد النفط أهم ثروة في إيران، وقد أعطت الحكومة أول امتياز للتنقيب عن النفط عام 1320 هـ، وأول بئر أنتجت النفط عام 1327 وبذلك تكون إيران أول بلد منتج للنفط في المنطقة وقد وصل هذا الإنتاج عام 1369 إلى30 مليون طن، إلا أنه عاد فانخفض بسبب التأميم أيام محمد مصدق، ولكن عندما حصل الاتفاق بين الاتحاد العالمي للشركات والشركة الوطنية ثم أضيف إلى هذا الاتحاد 9 شركات أخرى وكلها تمثل المصالح النفطية للشركات الأمريكية والإنكليزية والهولندية والفرنسية، وقد حصلت شركة النفط الإنكليزية الإيرانية على 40 % من الأسهم، عاد الإنتاج فارتفع.
كذلك حصلت شركة بان أميركان على التنقيب عن النفط في مياه الخليج العربي وذلك عام 1376هـ وفي العام التالي 1377 حصلت الشركة الإيرانية الإيطالية على الترخيص نفسه، وقد ارتفع الإنتاج فوصل عام
1370 ... إلى ... ... 50 مليون طن
1367 ... إلى ... ... 129.3 مليون طن
1368 ... إلى ... ... 141.8 مليون طن
1390 ... إلى ... ... 172 مليون طن
1392 ... إلى ... ... 260 مليون طن(32/53)
وهكذا تحتل إيران المرتبة الثانية في إنتاج النفط في المنطقة بعد المملكة العربية السعودية التي وصل إنتاجها 304 مليون طن سنويًا.
وقد اكتشفت الشركة الوطنية مكامن النفط في منطقة قم، كما يوجد قرب الحدود العراقية في منطقة نفط شاه ويكرر في كرمنشاه، وأن معظم مكامن النفط توجد في الأهواز عند إقدام جبال زاغروس الغربية أو في المحدبات الأولى لتلك الالتواءات الكبيرة التي تؤلف جبال زاغروس وأهم المكامن هي: لالي، مسجد سليمان، ميدان نفطون، نفط صافيد، نفط غل، آغا جاري، بازانان، شام زيدون، كاش مساران، وقد ظهر النفط أيضًا في مياه الخليج العربي بالقرب من جزيرة داريوس.
الغاز الطبيعي: إن إيران من الدول الغنية بالغاز الطبيعي الذي يعلو مكامن النفط، وتصدر إيران كميات كبيرة منه إلى الاتحاد السوفيتي ضمن أنابيب يبلغ طولها 1100 كم تجتاز السلاسل الجبلية، حيث تسير الأنابيب إلى الشرق ثم تتجه شمالاً فتمر غربي أصفهان وغربي قم وطهران وقزوين ورشت وتساير سواحل بحر الخزر، ثم تدخل جمهورية أذربيجان السوفيتية التي تتبع روسيا.
الكهربا: وتؤخذ من النفط، والمصادر المائية، وقد كان إنتاج الكهرباء عام1381 1.100 مليون كيلو واط ساعي سنويًا، ولكن ازدادت هذه الكمية بعد تنفيذ المشروعات المائية المختلفة التي سبق أن ذكرناها.
الفحم: توجد في إيران كميات قليلة من الفحم موزعة في عدة مناطق أهمها ما كان في إقليم طهران ثم في خراسان وأذربيجان ومازانداران وسيمنان، وينقل الفحم إلى أصفهان حيث يقوم معمل للفولاذ هناك.
الصناعة
لم يكن في إيران قبل عام 1353 إلا صناعات يدوية ثم تطورت الصناعة وأصبحت آلية، وازدادت وتنوعت وأهمها اليوم:
الصناعات المعدنية وتتركز في طهران؛ حيث توجد الثروات المعدنية واليد العاملة الخبيرة، وتضم مدينة طهران وحدها1/3 (ثلث) المصانع في البلاد كافة إضافة إلى ذلك يوجد معمل للفولاذ في مدينة أصفهان.(32/54)
وتتركز صناعات المنسوجات من قطنية وصوفية في منطقة أصفهان.
وتتركز الصناعة النفطية في الأهواز، وفي ميناء عبدان توجد أكبر مصفاة للنفط في العالم؛ إذ تستطيع تكرير 25 مليون طن في العام.
ثم هناك المنسوجات الحريرية والجوت، وتشتهر إيران بخاصة في صناعة السجاد وكل المدن الإيرانية تعرف بهذه الصناعة وأشهر الأصناف الذي ينسب إلى مدينة تبريز.
وهناك صناعة السكر إذ تنتج إيران منه 150.000 طن سنويًا، والكبريت والأسمنت، وتحتكر الحكومة صناعة البترول، وصيد السمك والتبغ والسكك الحديدية.
المواصلات: الطرق المعبدة كثيرة.. ولكن المهم الخطوط الحديدية التي يبلغ طولها 3800 كم، وتصل الخليج العربي ببحر قزوين، فيلتقي في الأهواز خطان من سواحل الخليج العربي أحدهما من خور رامشهر والثاني من بندر شاهبور، ويتابع الخط طريقه عبر سلاسل زاغروس فيمر بمدينة أراك ثم قم، ومن ثم يتابع الخط طريقه إلى طهران.
يخرج من طهران خط إلى قزوين فتبريز ومن هناك يذهب خط إلى تركيا وآخر إلى الاتحاد السوفيتي.
ومن طهران يخرج خط أيضًا يتفرع بعد مسافة إلى فرعين أحدهما يذهب إلى جرجان والآخر إلى مشهد.
ومن قم يذهب خط إلى يزد وكرمان وسيصل إلى زاهيدان.
وتتصل أصفهان بالخط الرئيسي بفرعين:
المواصلات البحرية: هناك موانئ للنفط هي عبدان وبندر شاهبور.
أما الموانئ التجارية على الخليج العربي فهي: خور رامشهر، وبندر عباس، وبندر بوشهر.
أما على بحر الخزر فهناك بندر شاه وبندر بهلوي.
المواصلات الجوية: تملك الحكومة شركة الخطوط الجوية الإيرانية الوطنية،وتقوم هذه الشركة بالخدمة بين أكثر من 15 مدينة إيرانية.
---
مشكلات إيران(32/55)
1- في الخليج العربي: أرادت إيران أن تتبع سياسة توسعية في منطقة الخليج العربي، فبدأت نفوذها إلى بعض الجهات وبخاصة الكويت والبحرين وصار ينتقل عدد من الإيرانيين إلى هاتين المنطقتين، إلا أن الكويت قد انتبهت إلى هذا المخطط فوقفت في وجه هذا التوسع.
وعندما قررت إنكلترا الانسحاب من المنطقة رغبت إيران في أن تخلفها في السيطرة وتطلعت في ضم البحرين إليها، ولكن الاستفتاء الذي جرى دل على الرغبة في البقاء على الحالة الراهنة، وأعلن قيام دولة البحرين، واضطرت إيران للاعتراف بهذا الاستقلال، وكانت بين الدولتين علاقات سياسية، ولكنها عادت فاحتلت ثلاث جزر في الخليج العربي وهي: طنب الكبرى وطنب الصغرى، وأبو موسى والأخيرة منها تنتج النفط، ولقد كان لهذا الاحتلال صداه الكبير في البلاد العربية كافة، فقطعت العراق علاقاتها السياسية مع إيران، وصحبت ليبيا أرصدتها من المصارف الإنكليزية، وأممت شركة النفط الإنكليزية في ليبيا،ورفضت إمارة رأس الخيمة الانضمام إلى اتحاد الإمارت العربية إلا إذا قطعت الدولة الجديدة علاقاتها مع إيران ولكن عادت وانضمت إلى الاتحاد عام 1392هـ.
ولم تغير إيران سياستها في الخليج العربي.
2- مع العراق:
ترى العراق أن سهل الأهواز إن هو إلا امتداد طبيعي للسهول العراقية، كما أنه من الناحية البشرية تعيش فيه قبائل عربية، ولذا يجب أن يكون ضمن أرض العراق، وقد أطلق عليه اسم عربستان، وقد قامت حركات في داخل المنطقة تؤيد وجهة النظر العربية وتطالب بالانفصال عن إيران، ولكن إيران لا يمكنها أن تتنازل عن هذا الجزء الحيوي بالنسبة لها وبخاصة أن النفط الذي هو عماد ثروتها يغزر في هذا الجزء بل إن معظمه يستثمر منها، ولم تنته هذه المشكلة رغم عدم ظهورها في الوقت الحاضر.
كما وقع الخلاف بين الدولتين حول مجرى شط العرب.(32/56)
يتألف شط العرب من التقاء نهري دجلة والفرات، ويبلغ طوله من التقائهما عند بلدة القرنة إلى مصبه في الخليج العربي عند بلدة الفاو ما يقرب من 180 كم، ويبلغ عرض مجراه بين 1-2 كم، ونصف هذه المسافة تقريبًا يجري شط العرب في العراق والنصف الثاني يصبح حدًا فاصلاً بين العراق وإيران بدءًا من خور رامشهر التي تقع شرق مدينة البصرة بـ 30 كم حيث يرفده نهر قارون، وفي الوقت نفسه يخرج منه فرع يدعى (خور بهمانشير) وبين الفرعين توجد أرض واسعة تعرف باسم جزيرة (عبدان)، وتوجد عدة جزر في مجرى شط العرب، وهو صالح للملاحة وتدخله السفن حتى مدينة البصرة، وتنتهي الخطوط الحديدية العراقية في البصرة, وتنتقل البضائع بعدئذٍ إلى الطرق المائية أما أنابيب النفط فتصل حتى الفاو بل إلى نهاية خور العميا جنوب الفاو وداخل مياه الخليج العربي.
أما الخطوط الحديدية الإيرانية فتصل إلى خور رامشهر وتنتقل البضائع بعدها إلى الطرق المائية، أما أنابيب البترول فتنتهي في عبدان وينقل النفط بعدئذٍ إلى ناقلات تمخر مياه شط العرب.
تعد العراق الضفة الشرقية للمجرى الرئيسي لشط العرب هو خط الحدود بين الدولتين وهو ما كان قائمًا يوم كانت الدولة العثمانية هي صاحبة الأمر، ولم يكن ذلك لتهتم به إيران كثيرًا، فلما ظهر النفط وأصبحت السيطرة للإنكليز حكام العراق من جهة وأصحاب الشركة المستثمرة للنفط في إيران عدلوا الحدود وسمحوا لإيران بالملاحة في شط العرب في منطقتين من عبدان، فلما زاد الإنتاج النفطي بدأت إيران تنقله ضمن شط العرب دون معارضة من قبل الحكومات العراقية التي كانت وقتذاك، وعدت إيران أن منتصف مجرى المياه هو الحدود التي تفصل الدولتين أي أن الملاحة من حصتهما معًا.(32/57)
وعندما تأزمت العلاقة بين الدولتين بدأت العراق تطالب بحقها في الإشراف والسيطرة على المياه والملاحة في شط العرب، ولكن إيران لا يمكن أن تخضع لمطالب العراق، وإن كانت على حق؛ إذ إن نفطها ينقل معظمه عن هذه الطريق، ويكرر أكثره في عبدان.
ولا تزال المشكلة قائمة، وتطفو على السطح كلما توترت العلاقة بين الدولتين، وما أكثرها وبخاصة بسبب المشكلة الكردية القائمة في الشمال، والخلافات التي تقوم على الحدود.
3- المشكلة الكردية: الأكراد قبائل جبلية تعيش في المنطقة التي تشتمل بعض أجزاء من شمالي إيران والعراق، وشرقي تركيا، كما تعيش جماعات منها في شمالي شرقي سوريا، وجنوبي بلاد القفقاس التي تخضع للسيطرة الروسية والتي تقع في جمهوريتي أذربيجان وأرمينية السوفيتيتين.
تدين هذه القبائل كلها بالإسلام، ويمتهن معظمها الرعي حيث ينتقل الرعاة إلى الجبال في الربيع ويهبطون إلى الأودية في الشتاء، وتتكلم لغة خاصة بها.
يبلغ عدد الأكراد اليوم ما يقرب 5.500.000 نسمة، يوزعون في المناطق السياسية على النحو التالي:
تركيا ويسكنها من الأكراد 2.420.000 وتبلغ النسبة من مجموع الأكراد 45 %.
إيران ويسكنها من الأكراد 1.650.000 وتبلغ النسبة من مجموع الأكراد30%.
العراق ويسكنها من الأكراد 1.030.000 وتبلغ النسبة من مجموع الأكراد18%
أذربيجان ويسكنها من الأكراد 0.275.000 وتبلغ النسبة من مجموع الأكراد 50 %.
سوريا ويسكنها من الأكراد 0.125.000 وتبلغ النسبة من مجموع الأكراد 02%
ــــــــــــــ
5.500.000نسمة 100%.(32/58)
احتل الروس أثناء الحرب العالمية الثانية شمالي إيران، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها تلكأ الجيش الروسي في الانسحاب من إيران، وكان يحرض أثناء هذا الاحتلال الأقليات على الانفصال، وكان نتيجة ذلك أن قام حزب توده الإيراني بثورة في شمالي إيران الذي يحتله الروس، واستطاع إسقاط الحكم الإيراني في تبريز وإقامة جمهورية أذربيجان الإيرانية المستقلة، وقد حمى الجيش الروسي المتمردين، ومنع القوات الإيرانية من الوصول إلى تبريز والقضاء على الحكومة الانفصالية.
كما أعلن الأكراد قيام حكومة كردية في ماها أباد، وكانت في الواقع تحت الحماية السوفيتية، وإن لم تكن شيوعية إلا أنها تدين بالولاء لموسكو، وكان هناك تحالف بين هذه الحكومة وحكومة تبريز.
وبعد انسحاب الجيش الروسي من الأراضي الإيرانية استطاعت قوات طهران أن تعيد الأمن للمنطقة وأن تقضي على حكومة تبريز، ثم على حكومة ماها أباد، وكانت قد عاشت الأولى عامًا كاملاً واستمرت الثانية تسعة أشهر فقط.
ولم يكن هذا الانسحاب الروسي، والسماح للإيرانيين بالوصول إلى تبريز وماها أباد لولا أن وقعت إيران معاهدة سخية مع الاتحاد السوفيتي يشتركان بموجبها باستثمار النفط في شمالي إيران، ويكون نصيب الروس 51% من الإنتاج ونصيب إيران 49% منه.(32/59)
إن هذه الحكومة الكردية المؤقتة التي قامت في منطقة كردستان الإيرانية والتي عدت هذا نصرًا كبيرًا وسط محيط ينادي بالقومية، وإن الدعاية الكبيرة للثقافة الكردية والمنشورات التي توزعها الحكومة الروسية والتي تصل إلى الأكراد جميعًا في كل مكان يوجدون فيه، والدعوة القومية في كل مكان رغم أنهم يشتركون معهم بالإسلام، وإن الخلاف الشديد بينهم وبين جيرانهم الأرمن الذي يدينون بالنصرانية ولهم دولة خاصة بهم، كما أن الصراع الدولي ومحاولة الاستفادة منهم في الضغط على الحكومات التي يعيشون في أراضيها، وخوفًا من وقوعهم تحت تأثير الشيوعية وهذا ما جعل التعاطف معهم أو عليهم في كثير من الأحيان، هذه الأمور مجتمعة تجعلهم يتوثبون للحركة في كل وقت، وبخاصة إذا لاحظنا تأييد الحركة الشيوعية لهم ولانفصالهم، وهي منبعثة في إيران كلها وإذا لاحظنا أيضًا اتجاه إيران السياسي الذي هو أقرب للرأسمالية وهذا ما يقوي حزب توده ويقوي الأكراد ويجعل إيران تخشاهم في كل لحظة، وقد قام الأكراد بثورة عام 1370 هـ وكان الشيوعيون من ورائها، ويجب أن نضع في اعتبارنا الأرض الجبلية المنيعة التي يعيشون فيها والتي يحتمون في حصونها إذا ما داهمهم الخطر, ثم سهولة الانتقال إلى أراضي الدول المجاورة لهم والتي يحيا فيها إخوانهم ثم طبيعتهم الجبلية القاسية، كل هذا يجعل إمكانية الثورة قائمة كلما قسا عليهم الحكم أو لم يحصلوا على ما يريدون من مطالب.
ولما قامت الثورة في إيران عام 1399 هـ وتبنت النظام الإسلامي خفت هذه المشكلات كلها وإن كان قد نتج غيرها، فالأكراد والتركمان وجدوا في المذهب الذي تتبناه الدولة عبئًا كبيرًا عليهم، ولربما كان هذا مجرد إثارة خلاف تتبناه الدولة المعادية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي الذي يجاور إيران في المنطقتين: الكردية والتركمانية والذي يضم في أراضيه مجموعات كبيرة تلتقي بالجنس مع هاتين الفئتين.(32/60)
والمشكلة الثانية تطبيق النظام الإسلامي الذي تحاربه الدول كلها وبخاصة الكبرى منها وعملاؤها في المنطقة فلا بد من أن يضعوا العقبات في وجهه، ويثيروا الشكوك، ويتبنى ذلك أصحاب الأهواء والمصالح.
ثم هناك مشكلة التركة الثقيلة التي بلغها النظام البائد من فوضى ومفاسد وعلاقات مشبوهة لكبار الموظفين، ويجب التخلص منها تدريجيًا.
الخاتمة
إيران إحدى دول المجموعة الآفرو آسيوية كما أنها إحدى الدول الإسلامية، فهي من الناحية السياسية ذات ارتباطات وثيقة بنا ومصالح مشتركة تشدها نحونا إضافة إلى أنها تقع وسط مجتمع إسلامي.
ونحن إذ نخشى على عقيدة بقية الشعب من الزيغ والانحراف؛ نتيجة التوجيه والتعليم الذي يعتمد على أسس معينة وقواعد خاصة, وعلينا واجب مهم وهو حماية هذه العقيدة والعمل على بقائها ورسوخها إلا أننا في الوقت نفسه نشعر أن علينا واجبًا آخر وهو المحافظة على العلاقات القائمة بيننا؛ خوفًا من إفادة الخصوم هذه الخلافات المذهبية الموجوة؛ إذ ركز الاستعمار على هذه الناحية منذ أن وجدت ومنذ أن وصل هو إلى هذه المنطقة إذ اتصل البرتغاليون كما رأينا بالصفويين وأنشأوا علاقات قوية بينهما، وكانت جزيرتا هرمز وقسم بأيدي البرتغاليين، وهذا ما حدا بالعثمانيين إلى أن يوقفوا كل نشاط لهم في أوربا ويتجهوا نحو الشرق لضرب الصفويين خوفًا من الحلف المرتقب بين الصفويين والبرتغاليين، ثم دخلوا البلاد العربية، وكان لذلك آثاره إذ فرضوا على البلاد نوعًا من العزلة والجمود خوفًا من أن تقع بأيدي الأوربيين الذين قاموا آنذاك يحاربون العالم الإسلامي ويحتلون أجزاءه وقد ساعدهم ضعفه وتفرقته ونهوضهم هم.
والأمر الطبيعي أن يحاول كل عدو أن يتصل بمن يعيش وسط محيط يخالفه ولو بأقل الأمور فيركز على هذه النقطة ويحاول أن يوسع الهوى ويزيد في الشقة.(32/61)
وإن أكبر أملنا ألا يستطيع عدو أن يفعل الآن هذا بعد أن أدرك الشعب خطورة الأمر وعرف رغبة الخصم.
وإن إيران مهما غربت لتبقى أقرب إلينا مما يدين به الغرب، ومهما شرقت لألصق بنا مما ينكره الشرق فالأصل واحد والمرجع واحد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفهرس
المقدمة 3
مع التاريخ 9
مع الجغرافية 69
مع السكان 83
مع الاقتصاد 101
مشكلات إيران 118
الخاتمة 126(32/62)
تصدير الثورة
المباديء الستة عشر التي يريد الخميني تصديرها .
فلسفة الثورة الخمينية .
التكرار واللايعني .
الخمينية قبرت .
الارهاب لازال قائما .
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104))
تصدير الثورة
لقد وجهت إلى الخميني عبر خطاب اذاعي هذا السؤال :
ماهي العبقريات التي تريد تصديرها إلى العالم ؟
الفوضى والدمار الشامل في كل شؤون البلاد .
اعدام الفتيات المراهقات والشباب الذين لم يبلغوا سن الحلم .
اعدام الشيوخ الذين تجاوزوا الثمانين او بلغوا التسعين .
اعدام النساء الحوامل .
الحرب الاهلية .
الحرب مع الجيران وقتل الاخوة المسلمين .
قتل الشعب من ابناء القوميات المختلفة بالالاف .
الانهيار الاقتصادي في كل مرافق الحياة .
المحاكم الثورية التي تحكم بالاعدام 100شخص في 100دقيقة .
خمسة انواع سجون وخمسة انواع محاكم وخمسة انواع قوى تنفيذية .
ثلاثون الف سجين سياسي .
اربعة ملايين عاطل عن العمل .
ثلاثة ملايين منكوبي الحرب .
التضخم بمعدل 400 في المائة في خلال سنتين .
اغلاق الجامعات لمدة غير معلومة .
انهيار عملة البلاد إلى 500 في المائة من سعرها الرسمي .
ثم اضفت قائلا : لا اعتقد انه توجد مقبرة من المقابر الدّراسة في العالم تقبل بتصدير ثورتك اليها فانها تكدر حتى صفو الاموات ، كيف وبالاحياء .
لقد شهد العام ثورتان عملاقتان في تاريخه الجديث غيرت مجرى التاريخ الانساني احدهما الثورة الفرنسية التي استلهمت اصولها من النظام الديمقراطي الانكليزي 1781 – 1791 واسقطت ملوكا وتيجانا واغرقت اوربا في ثورات اهلية استمرت سنوات طوال وادت في اخر المطاف إلى الديمقراطية التي تتمتع بها بلاد كثيرة في اوربا .(33/1)
والثورة العملاقة الثانية هي الثورة البلشفية التي اسقطت النظام القيصري في روسيا ، ثم اجتاحت العالم شرقا وغربا فبلغت تخوم الصين في اقصى الشرق وبلغت مشارف نهر الراين في ادنى الغرب واكثر من ثلثي العالم يحكمهم النظام الشيوعي في الوقت الراهن ، ولكل من الديمقراطية والشيوعية مبادئها ومزاياها الخاصة بها وقد الفت مئات الكتب في فلسفة كل من النظامين الحاكمين على المجتمع البشري ، واليوم يسمع العالم ولاول مرة ثورة جديدة تسمى بالخمينية ، يدعي الخمينيون انها ستجتاح العالم في غضون بضع سنوات ، وهذه الثورة تتمثل في النظام الحاكم في ايران وما تصدر عنه من شر ونكر وبلاء ومحنة على منطقة الشرق الاوسط بكاملها ولا تحتاج الثورة هذه إلى كتب فلسفية تؤلف عنها ولا إلى دعاة يدعون اليها ، فالنكبات العظيمة التي حلت بايران في ظل النظام الثوري تحكي عن مغزى تلك الثورة التي تنتظر الزمرة الخمينية بسطها على العالم باقل من بضع سنوات ، ان مايريد الخمينيون بسطه على العالم هو النازية والفاشية في تعابير الدين وقيم السماء ينفذها حراس الثورة الاسلامية بدلا من كستابو النظام الهتلري ورجال في لبوس الدين بدلا من اس اس الامام ادولف هتلر ، لقد استطاعت النازية والفاشية قبل الخمينية ان تسيطر على مرافق الحياة في المانيا وايطاليا ولكنها لم تستطع ان تصدرها خارج حدودها ، واذا كان هتلر وموسوليني لم يستطيعا بسط سلطانهما على خارج حدودهما وورائهما شعبان عملاقان معبئان بكل الطاقات اللازمة لتصدير النازية والفاشية فهل يستطيع شيخ عجوز بلغ من السن عتبا وحوله اقزام وشراذم من سفلة المجتمع ، ان يرغموا امة الاسلام لقبول مبادئهم الهدامة التي ستقبر قبل ان تجد إلى النور سبيلا .(33/2)
ان من يمعن النظر في ثلاثة الاف خطاب اذاعي وتلفزي القاه مرشد الثورة الايرانية منذ استيلائه على الحكم حتى الان والتي طبعت في عشر مجلدات ضخمة يعرف ان الهذيان وسخف القول كيف وجد إلى عقول الامة سبيلا واصبح اللايعني شيئا في نظر امة لها من الحضارة 25 قرنا.
ماذا قال الخميني في هذه المجلدات العشرة ؟ وكيف ملاء النفوس بهذا الفراغ الفكري المطلق ؟ انه معجزة الرجل . بل معجزة القرن . ان يتخبط انسان في القول ويهذي ما استطاع إلى الهذيان سبيلا ، ولكنه في الوقت نفسه متربع على منصة الارشاد وله زمرة تاتمر بامره وتنتهي بنهيه . ان من يقرأ تلك المجلدات الضخمة التي تحتوي على خطب الخميني يعرف جيدا ماذا اعنيه وماذا اقوله ، فهذه المجلدات الضخمة تحتوي على تعابير مكررة ركيكة باللغة الفارسية وفيها جمل ملحونة بالعربية ، وفي مجموعها تكرار لاسم الاسلام مائة الف مرة .
وتكرار لجملة دم الشهداء 50 الف مرة .
وتكرار لعبارة الشيطان الاكبر 30 الف مرة .
وتكرار لعبارة لا شرقية ولا غربية 20 الف مرة .
وتكرار لاسم محمد رضا بهلوي 10 آلاف مرة .
وشتائم وسباب على اعداء الثورة الاسلامية 5 آلاف مرة .
ثم لاشيء ولا شيء ولا شيء بل سخف في المنطوق والمفهوم معا .
وهنا اكرر القول مرة اخرى واقول بصراحة بالغة ان على المصلحين من رجال الاسلام ان لاتشغل افكارهم تصدير الثورة الخمينية فانها اوهن من بيت العنكبوت ، ولكن الخطر المحدق بالاسلام هي الخمينية كمدرسة ارهابية دينية لها انصارها منذ قديم الزمان ، وسنفرد لهذا الخطر المبين فصلا خاصا في هذا التأليف بعون الله وحوله وقوته .(33/3)
حقيقة إنتصار
حزب الله
للشيخ
محمد سرور زين العابدين
المرحلة التي سبقت تأسيس حزب الله 1
انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي(1)[1]، والذي جاء قبل موعده المحدد، كان مناسبة استثمرها قادة الطائفة الشيعية من العرب والعجم استثماراً نادر المثال، لاسيما وأن القوم يعرفون كيف يستغلون مثل هذه المناسبات.
لقد دعوا إلى مهرجانات خطابية في كل دولة ومدينة، بل في كل حي من الأحياء، ومن أهم ما قيل بهذه المناسبة: الحديث الذي أدلى به الأمين العام لحزب الله اللبناني لإحدى الفضائيات العربية التي يستمع إليها عشرات الملايين من الناطقين بالعربية، ويبدو أن نصر الله قد أعد حديثه إعداداً جيداً، وعرف كيف يدغدغ عواطف المستمعين، كما عرف كيف يغمز من قناة الآخرين، والآخرون بالتأكيد ليسوا من أبناء طائفته.
تفاعل الناس،كل الناس مع القائد المنتصر، وأسبغوا عليه ألقاباً وأوصافاً ما سمع بمثلها صلاح الدين بطل حطين، ومحرر القدس من رجس الصليبيين، وأقول: ما سمع بمثلها صلاح الدين مع علمي بأن الشيعة يكرهونه غاية الكره، لكنني لا أعرف أن عندهم بطلاً مثل صلاح الدين أو أقل لنشبه نصر الله به، وذلك لأن للقوم موقفاً سلبياً من الجهاد كله ليس هذا موضع الحديث عنه، وإن كان طلاب العلم من السنة والشيعة يعرفونه.
ولا أعدو الحقيقة عندما أقول: لا أعرف حدثاً معاصراً أيده الحكام والمحكومون من الأوربيين الشرقيين والغربيين، والعرب، واليهود كهذا الحدث، ولكل فلسفته في هذا الشأن:
فاليهود تخلصوا من ورطة كلفتهم عدداً كبيراً من الضحايا، كما كلفتهم بلايين الدولارات.
والأوربيون - على مختلف دولهم - يحرصون على استقلال لبنان، ولا يتم هذا الاستقلال إلا إذا خرجت القوات العسكرية التي احتلته، ولهذا فهم يطالبون بخروج القوات العسكرية السورية بعد الإسرائيلية.(34/1)
وأجهزة إعلام الحكومات العربية بالغت في نفاقها لحكومتي سورية ولبنان اللتين تدعمان حزب الله.
وأحزاب الشيطان وأعوانه وجدوا في هذا الحدث مادة خصبة للهجوم المسف على دعاة وجماعات أهل السنة.. هؤلاء - على حد زعمهم - الذين لا يعرفون إلا ترويع الآمنين، والتآمر على سلامة المواطنين، وإثارة النعرات الطائفية، وزرع الخوف والإرهاب في كل مكان تطؤه أقدامهم.
وكثير من الجماعات والهيئات الإسلامية السنية، أقاموا المهرجانات والاحتفالات في قليل من الدول التي تسمح بمثل هذا النوع من الأنشطة، وأرسلوا برقيات التأييد والتهنئة لقادة حزب الله مشفوعة بأسمى آيات التبجيل والتعظيم .. وإن تعجب فاعجب لقول أحد قادة هذه الجماعات لحسن نصر الله: إنك مجدد هذا العصر، وآخر يقول: إنك قدوة لشباب الإسلام .. يحدث هذا وملايين الناس يستمعون، وحق لأتباع هؤلاء القادة الذين ابتليت بهم أمتنا في آخر هذا الزمان أن يقولوا:
هذا والله هو الإسلام [الشيعي] وهؤلاء هم الرجال والقادة والعلماء!! ترى ألم يتعظ أصحابنا من تسرعهم في تأييد ثورة الخميني، لاسيما وأن كلاً منهم ناله طعنات من غدر الشيعة بهم، ووقوفهم إلى جانب أعدائهم، وفي جلساتهم المغلقة يقولون الكثير ويشكون بمرارة مما يجعلنا نشعر أحياناً أنه لا فرق بين مواقفنا ومواقفهم، لكنهم لا يقولون شيئاً يغضب الشيعة في العلن، ويا ليت حظنا عندهم مثل حظ الشيعة.
اعتدنا في مثل هذه الساعات الحرجة أن يضيق أصحابنا ذرعاً من حوارنا معهم، ويردون علينا قائلين:
هل تريدون منا أن نقول: لا، لم يقاتل الشيعة في جنوب لبنان، ولم يقدموا ضحايا، وبالتالي: لم ينتصروا، ولم يرغموا الجيش الإسرائيلي على مغادرة لبنان قبل الموعد المقرر؟!.(34/2)
مهلاً يا إخواننا: إننا ما أردنا ولا نريد بخس الناس حقوقهم، وندرك جيداً أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نقول الحق كما أمرنا بالعدل في أمورنا كلها، وحاشا لله أن ننكر بأن حزب الله قاتل العدو الصهيوني، وألحق به ضربات موجعة، وكسر كبرياءه وغطرسته، وحرم المواطنين اليهود في شمال فلسطين الأمن والأمان طيلة عقد ونصف من عمر الزمن.
وإذا كنا نعترف بقتال حزب الله للجيش الإسرائيلي المحتل، فإننا نريد أن نضع هذا القتال في إطاره الصحيح دون زيادة ولا نقصان، وفصله عن هذا الإطار تشويه لتاريخنا الحديث، ومسخ للحقيقة، واستهتار بعقول أبناء أمتنا، ومن أجل وضع الأمور في إطارها الصحيح دعونا نبدأ القصة من أولها:
- منذ أن أذن الله لنا بالجهاد سلَّ سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم - سيوفهم وانطلقوا في مختلف أرجاء الأرض ينشدون إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، وكان فتح فلسطين على يد الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه من ثمار هذا الجهاد المبارك.
وعرف المسلمون طوال مراحل التاريخ كيف يحافظون على المسجد الأقصى، وليس بيننا من يجهل سيرة البطل صلاح الدين الأيوبي، الذي استطاع تحرير الأقصى من رجس الصليبيين بعد استعمار نكد دام مائة عام، والرافضة من أشد أمم الأرض كرهاً لهذين القائدين العظيمين: عمرو بن العاص، وصلاح الدين الأيوبي.
- بعد الحرب الكونية الأولى دخلنا في صراع مرير مع الإنكليز الذين احتلوا فلسطين واستعمروها، ومع اليهود الذين سهلَّ لهم الإنكليز أمر إقامة وطن قومي لهم في أرضنا المباركة.(34/3)
كان علماؤنا الأفاضل يقودون الأمة في مسيرة جهادها التي أخذت أشكالاً مختلفة، ونذكر من بين هذه الأسماء: الشيخ الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى، ورئيس الهيئة العربية العليا، والشيخ كامل القصاب، والشيخ عز الدين القسام، ثم الشيخ حسن البنا، والشيخ مصطفى السباعي، والشيخ أمجد الزهاوي، والشيخ محمد محمود الصواف رحمهم الله وأسكنهم فسيح جنانه.
- ولا نعرف للشيعة مشاركة في هذا الجهاد المبارك، بل ومن المؤسف أن شيوخهم في هذه المراحل كانوا مشغولين بتأليف الكتب التي يتهجمون بها على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويسّفون في شتم أبي هريرة رضي الله عنه، وأقرب مثال على ذلك ما كتبه علامتهم في جبل عامل عبد الحسين شرف الدين، أما إيران الشاه فكانت على علاقة وثيقة مع إسرائيل، ومعظم آيات الشيعة كانوا من المؤيدين للشاه.
أستثني من ذلك مشاركة علامتهم في العراق - كاشف الغطاء - وربما أسماء قليلة غيره في المؤتمرات التي صارت تعقد في الخمسينيات من أجل فلسطين، وهذه المشاركة شيء آخر غير الجهاد.
- التجأ عدد كبير من الفلسطينيين إلى لبنان بعد الهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية في عام 1948، واستوطنت الغالبية العظمى منهم في بيروت وجنوب لبنان، ثم تضاعف هذا العدد بعد حرب أيلول 1970 بين منظمة التحرير والجيش الأردني، وانتقال عدد كبير من أعضاء المنظمة إلى لبنان، وما كانت لبنان لتقبل هؤلاء الوافدين الجدد لولا ضغط دول الجامعة العربية من جهة، وتعاطف أهل السنة حكاماً ومحكومين داخل لبنان من جهة أخرى.(34/4)
- تزايدت العمليات الفدائية التي تنطلق من الجنوب اللبناني ضد العدو الصهيوني بعد عام 1970، ولم تكن معدومة قبل هذا التاريخ، وكان الجانب النصراني في لبنان ضد العمل الفدائي، ومن الأدلة على ذلك استقالة رئيس الوزراء رشيد كرامي (24 نيسان 1969) احتجاجاً على اشتباكات الجيش المدعوم من رئيس الجمهورية شارل الحلو مع منظمة التحرير، وفي 23/11/1969 جرى توقيع اتفاق القاهرة بين العماد أميل البستاني قائد الجيش اللبناني وياسر عرفات رئيس منظمة التحرير. وقد أجاز هذا الاتفاق لمنظمة التحرير استخدام منطقة العرقوب لشن حرب عصابات ضد إسرائيل.
وجملة القول كانت العلاقات بين الجيش وقوات الأمن اللبنانية من جهة، ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى دائمة التوتر، لكنها لم تكن كذلك مع معظم رؤساء الوزارات اللبنانية.
- مما يجدر ذكره أن قوة منظمة التحرير تتمثل بحركة فتح، وحركة فتح لم تكن شيئاً لولا دعم الإسلاميين لها، ومعظم الذين شاركوا في إنشائها كانوا من الإخوان المسلمين أو من اتجاهات إسلامية أخرى، ونذكر من بينهم: خليل الوزير، آل الحسن [خالد، وعلي، وهاني]، محمد يوسف النجار، توفيق النتشة.
وإذا كان الفساد قد نخر عقول وقلوب قادة فتح إلا من رحم ربي منهم، وهم قليل، ففي قواعدهم رجال صالحون قُتِلَ كثير منهم بعمليات فدائية، ومن جهة أخرى فقد قبلت فتح أن تكون غطاء لجناح إسلامي(1)[2] يعمل بشيء من الاستقلالية، وكان وجود هذا الجناح في الجنوب اللبناني سبباً من أسباب توتر العلاقات، بين فتح ونظام الحكم في دمشق، الذي كان يتهم هذا الجناح بتنفيذ عمليات ضد النظام النصيري.
وخلاصة القول: فقد كان أهل السنة داخل لبنان وخارجه يتعاطفون ويتعاونون مع منظمة التحرير، ويُعتَبرونَ عمقاً لها، أما غير أهل السنة فيمد يده إليهم عندما تكون له مصلحة، وينأى بنفسه عنهم عندما تكون لهم معه مصلحة.(34/5)
- فتحت منظمة التحرير صدرها للشيعة في جنوب لبنان، وكان لها صلات وثيقة مع رئيس المجلس الشيعي الأعلى موسى الصدر، والصدر مواطن إيراني أرسله مدير الأمن العام الإيراني الجنرال بختيار إلى لبنان بمهمة ظاهرها ديني دعوي مع أنه لا يعد من علماء الشيعة، وباطنها سياسي طائفي، والذين انتدبوه لهذا الغرض سهلوا له طريق الوصول إلى القصر الجمهوري، وإقامة علاقات مريبة مع رئيس الجمهورية فؤاد شهاب وبطانته [أقطاب النهج]، وخلال فترة قصيرة تمكن الصدر من الحصول على الجنسية اللبنانية بموجب مرسوم جمهوري، وأنشأ عدداً كبيراً من المدارس والنوادي والجمعيات والحسينيات، في سائر أنحاء مناطق الشيعة، وجعلها مركزاً لأنشطته.
وفي عام 1969 أنشأ الصدر المجلس الشيعي الأعلى، وأصبح رئيساً له، وكان ذلك بعد وصوله بعشر سنين، وكان للسنة والشيعة مجلس واحد قبل هذا التاريخ [1969].
وفي عام 1973 شكل الصدر منظمة أمل، واسمها قبل الاختصار "أفواج المقاومة اللبنانية"، وما كانت هذه المنظمة لتنشأ لولا احتضان منظمة فتح لها، وفتح مراكزها لتدريب الشيعة المنتمين إليها.
وفي هذا العام 1973 ساءت علاقة الصدر مع أجهزة الأمن الإيراني، فانتقل إلى صفوف المعارضة، وأخذ أصدقاؤه في فتح يدربون أتباع الخميني، وكان مصطفى شمران مسؤولاً عن هذه الأنشطة، ويساعده الدكتور صادق الطبطبائي، وصادق قطب زاده، وعباس زاني "أبو شريف"، ومعظمهم تولوا مناصب وزارية أيام حكام الخميني(1)[3].
قصارى القول: الإيرانيون الشيعة الوافدون إلى لبنان هم الذين أسسوا حركة أمل، وما نبيه بري إلاّ تلميذ ضمه أستاذه مصطفى جمران إلى تنظيمه الذي أسسه في "كاليفورنيا" عام 1966 وسماه "رابطة الطلبة المسلمين"(2)[4]، ولم يكن للأستاذ وتلميذه قبل هذا التاريخ توجهات إسلامية.(34/6)
وأغرت حركة أمل منظمة فتح فقدمت خدمات جلى لثوار الخميني قبل وصولهم إلى الحكم، وبعد توليهم الحكم سارعت أمل إلى مبايعة الخميني إماماً للمسلمين، ثم جددت هذه البيعة عام 1982(1)[5]، أما منظمة فتح فما كانت تدري أنها تستميت في تدريب ومساعدة قاتليها...
(2)[1] - شهر أيار من عام 2000 م.
(3)[2]- كانوا يسمون: حركة الجهاد الإسلامي، وليس لهم علاقة بالجماعات التي تسمى بهذا الاسم في الوطن العربي، وقدم هؤلاء الإخوة بطولات منقطعة النظير عند الاجتياح اليهودي للبنان عام 1982 م.
(4)[3] - من المصادر التي اعتمدت عليها: وجاء دور المجوس، الجزء الأول، وكتاب إيران في ربع قرن للدكتور موسى الموسوي وهو إيراني شيعي وخبير بأمر القوم، وكتاب الحروب السرية في لبنان لأنطوان بصبوص وآني لوران.
(5)[4] - الحروب السرية في لبنان، ص: 264
(6)[5] - أمل والمخيمات الفلسطينية.
المرحلة التي سبقت تأسيس الحزب 2
المؤامرة:
قلت فيما مضى: تفاعل أهل السنة في لبنان مع منظمة فتح تفاعلاً كبيراً، وكل من كان يزور لبنان، ويتفقد مدنه وقراه ومخيماته لابد وأن يلمس آثار هذا التفاعل في خطب العلماء ودروسهم، وعلى ألسنة الطلبة في معاهدهم وجامعاتهم، وفي تصريحات السياسيين [من المنتسبين للسنة] رغم اختلاف ميولهم.
قد يقال لأحدهم: أما ترى انحياز قادة منظمة التحرير للاتجاه اليساري العلماني، فيجيبك: بلى، ولكن فتح(7)[1] تختلف عن المنظمات الأخرى التي لا تشكل ثقلاً في القرار الفلسطيني، ومن جهة أخرى فقضية فلسطين عندنا فوق كل اعتبار.(34/7)
أما غير أهل السنة فمواقفهم كانت عدائية، وإن كانت أساليبهم مختلفة، فمنهم من ركب موجة الجبهة الوطنية [ومنظمة التحرير عضو في هذه الجبهة] ثم انقض عليها أو تخلى عنها في أحرج الأوقات، ومن الأمثلة على ذلك: دروز جنبلاط، وشيعة موسى الصدر، ومنهم من جاهر بعداوته منذ البداية، وحاولت فتح أن تستميلهم ففشلت، ومثالنا على ذلك نصارى لبنان وبالأخص الموارنة.. وما زالت الاحتكاكات تتطور بينهم وبين المنظمة إلى أن وصلت الأمور إلى حرب أهلية بعد مجزرة "عين الرمانة" في 13/4/1975 م.
وفي 5/6/1976 دخلت القوات السورية إلى لبنان، وكان أسد يوهم كل طرف من أطراف الصراع في لبنان بأن هذا التدخل لمصلحته، كما كان يردد داخل سورية بأنه ما غامر ولا تدخل إلا لإنقاذ المقاومة الفلسطينية، ففي خطاب ألقاه بدمشق في 20/7/1976 في اجتماع مجلس المحافظين قال:
"في يوم من الأيام انهارت جبهة المقاومة [الفلسطينية] والأحزاب الوطنية، وأرسلوا إلينا الصرخات ونداءات الاستغاثة.. إلى أن يقول: وتبين لنا أن الجهد السياسي وتقديم السلاح لم ينقذ الموقف، إذاً ليس أمامنا إلا أن نتدخل بشكل مباشر. كنا أمام خيارين آنذاك: إما ألاّ نتدخل فتسقط المقاومة في لبنان، وإما أن نتدخل فننقذ المقاومة، ونتعرض لاحتمال الحرب مع إسرائيل.. ثم قال: إنه تدخل تحت عنوان جيش التحرير الفلسطيني، وتبعته قوات من الجيش السوري"(1)[2].
هل تدخل الأسد لإنقاذ المقاومة الفلسطينية والوطنية؟، وهل هو من أصحاب المغامرات الذين يتدخلون ولو أدى هذا التدخل إلى حرب مع إسرائيل؟.
حافظ أسد ضابط طيار، والطيار دقيق في حساباته، ومن جهة أخرى فالذين يعرفونه يؤكدون بأنه ليس من أصحاب المغامرات، وليس وارداً البتة أن يزج بنفسه في حرب مع إسرائيل بسبب حفنة من المشاغبين الفلسطينيين.(34/8)
وهو في مسألة تدخله في لبنان، لم يتدخل إلا بعد مضي أكثر من عام على حرب دموية مدمرة، وبعد حصوله على تفويض من جامعة الدول العربية، بل قدمت له هذه الدول مساعدات مغرية مقابل قبوله التدخل في لبنان، ومن جهة أخرى، فقد طالبت جهات لبنانية كثيرة بتدخله، وفي مقدمة هؤلاء: السلطة، والموارنة، والشيعة، وآخرون غيرهم.
ومع ذلك لم يغامر أسد لأن إسرائيل لم تأذن له:
صرح وزير حرب إسرائيل شمعون بيريز لصحيفة معاريف [8/1/1976] بأن إسرائيل لن تبقى مكتوفة الأيدي، في حال حدوث أي تدخل سوري في لبنان. وجاء التدخل الأمريكي بعد هذا التصريح:
نقلت وكالة اليونايتدبرس من واشنطن [يوم 27/1/1976] ما يلي:
"إن وزارة الخارجية الأمريكية أكدت بأنها تقوم بنقل الرسائل من الكيان الصهيوني إلى سورية، حول الوضع في الجنوب اللبناني، وقال فردريك براون المتحدث باسم الوزارة في تصريح للصحفيين: إننا على اتصال مع حكومات سورية وإسرائيل ولبنان، وإننا نراقب الوضع عن كثب. واعترفت الصحف الإسرائيلية بأن اتصالات من هذا النوع قد جرت، وأوضحت أن سورية أكدت لمسؤولين أمريكيين، أن وجود قواتها في الجنوب إنما يستهدف المقاومة واليساريين اللبنانيين".
وتحدث كيسنجر أمام لجنة الاعتمادات بالكونغرس فقال:
"إن الولايات المتحدة تلعب دوراً رئيسياً في لبنان، وإننا شجعنا المبادرة السورية هناك، إن الوضع يسير لصالحنا ويمكن رؤية خطوط تسوية".
وبمثل هذا القول، قال المتحدث بلسان البيت الأبيض [رونالد نيسين]، والمتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية.
وتغير الموقف الإسرائيلي بعد الدور الذي لعبه المسؤولون الأمريكان بين كل من سورية ولبنان وإسرائيل، والذي لا نعلم عنه إلا القليل، فوزير الحرب - بيريز - الذي كان يعارض التدخل أصدر تصريحاً لوكالات الأنباء في 2/6/1976 قال فيه:
"التدخل السوري موجه ضد ياسر عرفات وحلفائه، والقوات السورية دخلت الشمال والوسط وليس الجنوب".(34/9)
وقال موشيه دايان:
"إن على إسرائيل أن تظل في موقف المراقب حتى لو غزت القوات السورية بيروت واخترقت الخط الأحمر، لأن غزو القوات السورية للبنان، ليس عملاً موجهاً ضد أمن إسرائيل" [وكالة الصحافة الفرنسية 5/6/1976].
وأعلن رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين في تصريح نقلته إذاعتهم:
"إن إسرائيل لا تجد سبباً يدعوها لمنع الجيش السوري من التوغل في لبنان. فهذا الجيش يهاجم الفلسطينيين، وتدخلنا عندئذٍ سيكون بمثابة تقديم المساعدة للفلسطينيين، ويجب علينا ألا نزعج القوات السورية أثناء قتلها للفلسطينيين فهي تقوم بمهمة لا تخفى نتائجها الحسنة بالنسبة لنا".
إسرائيل لا تلقي القول على عواهنه عندما تقول على لسان وزير دفاعها: إن هدفنا هو نفس هدف دمشق بالنسبة للمسألة اللبنانية، وأوربا وأمريكا لا يوافقون على التدخل السوري إلا إذا قامت الأدلة القطعية عندهم التي تؤكد أنه ضد منظمة التحرير ولمصلحة النصارى.
أما نصارى لبنان، فالنصيريون حلفاء لهم منذ القديم، وكان هذا الحلف يبرز بشكل واضح عندما يكون المسلمون في حالة ضعف، فبعد الحرب العالمية الأولى كان النصيريون يطالبون بالانضمام إلى لبنان لأنهم لا يثقون بالمسلمين، وجاء الرفض من بعض أطراف حلفائهم الموارنة ومن فرنسا التي خشيت من الإنكليز وحلفائهم في سورية ولبنان [الدروز، وبعض النصارى كالبروتستنت، وبعض المسلمين المثقفين ثقافة غربية إنجليزية]. ورغم بقاء جبال النصيرية ضمن سورية، فقد بقيت علاقات وثيقة بين العوائل المارونية والعوائل النصيرية، وكانت فرنسا مرجع الطرفين.(34/10)
وإذا كانت العلاقات بين الموارنة والنصيريين قديمة، وترعاها فرنسا وسيدة الجميع أمريكا (!!)، فليس من المستغرب أن يطلب زعماء الموارنة من النظام النصيري بدمشق التدخل ضد منظمة التحرير والقوى الوطنية، ففي 9/8/1976 أعلنت وكالات الأنباء الخبر التالي: "وصل كميل شمعون زعيم الوطنيين الأحرار وزير الداخلية اللبناني إلى دمشق على متن طائرة هيلكوبتر للتباحث مع حلفائه السوريين، ولتنسيق العمل العسكري في لبنان ضد المقاومة والقوات التقدمية، وأعلن شمعون أنه يثق ثقة كاملة بالرئيس السوري، أما بيار الجميل فقد صرح في بيروت أن سورية هي الدولة الوحيدة التي يمكنها أن تفرض السلام في لبنان". وهناك تصريحات كثيرة صادرة عن الموارنة سبقت هذا التصريح وتؤدي نفس المعنى، ومن جهة أخرى فإن المبعوث الأمريكي الذي كان ينسق ما بين دمشق وإسرائيل كان يلتقي بزعماء الموارنة، فيطلعهم على ما يجري، ويستمع إلى وجهة نظرهم وينقلها إلى الأطراف المعنية.
لننتقل إلى الحديث عما جرى على أرض الواقع بلبنان بعد التدخل السوري لنرى:
هل دخلت قوات أسد إلى لبنان لإنقاذ المقاومة من الهلاك والهزيمة الماحقة كما كان يدعي أمام المواطنين في سورية وفي بعض المحافل العربية، أم كان يريد تنفيذ المخطط الذي جاءت تصريحات اليهود والأمريكان والموارنة لتفضحه؟!، وسأتوخى الإيجاز قدر الاستطاعة، كما سأتوخى تغطية الأحداث منذ دخول القوات السورية، وحتى خروج المقاومة الفلسطينية والوطنية من لبنان.
- شق نظام أسد منظمة التحرير، فمنظمة الصاعقة وجهت بنادقها إلى صدور رفاقهم في منظمة التحرير، ثم شق فتح، ثم الجبهة الشعبية – جورج حبش -.(34/11)
- شق الحركة الوطنية، فخرجت منها حركة أمل ومنظمة البعث وآخرون، وحسب تدبير مسبق أوعز موسى الصدر لضباط الشيعة العاملين في صفوف جيش لبنان العربي، فانفصلوا عنه، وكان انفصالهم وهم الذين يتولون مسؤوليات مهمة فيه ويعرفون أدق أسراره، ضربة قاتلة لهذا الجيش الذي كان يُعد أملاً من آمال الحركة الوطنية، وكان قد تمكن قبل دخول القوات السورية من السيطرة على معظم الأراضي والمواقع اللبنانية.
- انتصرت القوات السورية الغازية على القوات الوطنية والفلسطينية في كل من البقاع، وعكار، وجبل وصيدا، وفرضت الحصار المحكم على كل من البر والبحر والجو، ومنعت الأسلحة والمؤن من الوصول إلى قوات الحركة الوطنية.
- وقعت معارك بين الدروز والموارنة، وبين الشيعة والموارنة، لكنها كانت قليلة، ولها أسبابها، أما العدو المشترك طوال هذه الحرب فهم أهل السنة اللبنانيون والفلسطينيون، وتناوب على حربهم: اليهود، القوات النصيرية، الموارنة، أمل بدعم قوي من الشيعة، الدروز، وكانت بعض هذه القوى تتعاون وتنسق فيما بينها، وقد يكون هذا التنسيق علنياً ميدانياً، وقد يكون غير مباشر عن طريق وسيط آخر، وأقوى الوسطاء وأكثرهم فاعلية الأمريكان عن طريق مبعوثهم الدائم في المنطقة. وهذه هي لغة الأرقام:
- انفرد الموارنة باحتلال وتدمير المخيمات التالية: الكرنتينا، جسر الباشا، برج حمود، وكانوا يتلقون الدعم من إسرائيل، ومن الجيش اللبناني.
- انفردت القوات النصيرية باحتلال البقاع، وعكار، والجبل، وصيدا [كما رأينا فيما مضى]، وما كان ذلك ممكناً لولا انشقاق الشيعة وعملاء النظام السوري عن المقاومة والحركة الوطنية.(34/12)
- دفع النظام النصيري عملاءه الفلسطينيين أمثال المنشقين من فتح وأحمد جبريل لمواجهة إخوانهم في مخيمي البداوي ونهر البارد، فسقط المخيمان في نهاية عام 1983، وكانت الخسائر في الأموال والأرواح فادحة، كما أن عملاء سورية كانوا واجهة وستاراً للقوات السورية الغازية.
- حاصرت قوات الموارنة مخيم تل الزعتر في أواخر حزيران من عام 1976، وثبت سكان المخيم ثباتاً مشرفاً، وسقط المخيم في 14/8/1976، وكانت القوات الإسرائيلية والنصيرية متورطة في هذه المجزرة، أما القوات الإسرائيلية فقد كُشف النقاب عن تورط وزير الدفاع شمعون بيريز في جلسة من جلسات الكنيست الإسرائيلية، أما تورط القوات السورية فتحدث عنه ضباط عرب كانوا مشاركين فيما سمي بقوات الردع العربية. قال الملازم محمد خليل من القوات الليبية:
"إنها مؤامرة تستهدف المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية في لبنان، وكما نرى بأعيننا تفاصيل المعركة سياسياً وعسكرياً نقول: إن الذين ينفذونها كثيرون، وإن النظام السوري متورط فيها". [ولينظر من شاء شهادة آخرين في كتاب أمل والمخيمات الفلسطينية، ص: 43].
- شاركت في الهجوم على طرابلس في الأسبوع الأخير من الشهر التاسع عام 1985 كل من القوات الآتية: القوات النصيرية، ميليشيا النصيريين في حي [بعل محسن] أو الحزب العربي الديموقراطي، الحزب السوري القومي، الحزب الشيوعي، منظمة حزب البعث، وساهمت القوات اللبنانية في هذه الحرب إذ منعت نقل المحروقات والطحين إلى طرابلس، وسقطت المدينة في 6/10/1985 بعد معارك دامية.
- مذبحة صبرا وشاتيلا: جاءت بعد مقتل بشير الجميل، وإذا كان قاتله نصراني وقومي سوري، وسورية أسد هي المحرض، فما علاقة فلسطينيي صبرا وشاتيلا حتى يتعرضوا لانتقام القوات اللبنانية؟!.(34/13)
كانت هذه القوات تقتل الشباب والشيوخ والأطفال، وكانت القوات اليهودية تحميها، وهذا ما شهد به العالم، وشهدت به معارضة حكومة بيغن، وعلى إثرها أبعد شارون عن وزارة الحرب.
هاجمت قوات أمل مخيمي صبرا وشاتيلا، وارتكبت فيهما مجازر أبشع من التي ارتكبها اليهود والقوات اللبنانية، فحتى المرضى في مستشفى غزة لم يسلموا من المجزرة، ومما زاد من هول المذبحة وبشاعتها، انضمام اللواء السادس في الجيش اللبناني لحركة أمل لأن أفراده وقيادته من الشيعة، وليقرأ من شاء الفظائع التي ارتكبتها قوات أمل في صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة في كتاب أمل والمخيمات الفلسطينية، ص: 89 - 109.
قام القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية بإذاعة تقرير حول المجازر التي ارتكبتها قوات أمل، وبعد نشر هذا التقرير وجهت المنظمة التي تطلق على نفسها اسم "الجهاد الإسلامي" تهديداً لمراسلي الصحف الأجنبية، فاضطرت هيئة الإذاعة البريطانية إلى سحب مراسليها الثلاثة خوفاً على حياتهم.
ومنظمة "الجهاد الإسلامي" ستار كان حزب الله يتوارى خلفه عند بداية تأسيسه، وهذا ما سوف نتحدث عنه إن شاء الله في الحلقة القادمة.
* * *
لقد شهد العالم أجمع (عربه وعجمه) أن هدف القوات السورية والقوات الإسرائيلية من دخول لبنان إخراج المقاومة، وكانت هذه القوات تنسق فيما بينها في اجتماعات سرية أو عن طريق وسيط، فليبيا بذلت جهداً مضنياً من أجل إنقاذ المقاومة، ومكث رئيس وزرائها عبد السلام جلود وقتاً طويلاً يتنقل بين دمشق ولبنان محاولاً التوسط، وحل الخلاف بطريقة سلمية، لكنه وجد أبواب دمشق مغلقة، وها هو ورئيسه يتحدثان عما توصلا إليه من نتائج:(34/14)
قال معمر القذافي: "ليبيا تقف إلى جانب المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وتعارض التدخل العسكري السوري في لبنان، لقد حذّرنا سورية من تصرفها هذا، وإذا كانت سورية تريد السلام الآن على حساب الفلسطينيين، وتريد تصفية المقاومة الفلسطينية، فلا يمكننا أن نلزم الصمت، ونعتقد أن من الخيانة الوطنية محاولة تصفية المقاومة الفلسطينية، وإننا نأمل أن تعيد سورية النظر في موقفها".
وقال عبد السلام جلود: "هناك مؤامرة عربية ودولية ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية في لبنان، وقد وقع الاختيار على النظام السوري لتنفيذ هذه المؤامرة".
وهذه الشهادة جاءت من نظام صديق وحليف لسورية في تلك المرحلة، وهناك جهات عربية وإعلامية أخرى هاجمت النظام السوري واتهمته بتنفيذ مخطط مشبوه ضد القضية الفلسطينية.
وفي 8/9/1976 نشرت التايم اللندنية مقالاً تحت عنوان: إسرائيل تشارك في حرب لبنان سراً جاء فيه:
"إن التفاهم غير المعلن بين إسرائيل والنظام السوري، بسحب قواته العسكرية المتواجدة في الجبهة، ونقلها تدريجياً إلى لبنان وإلى الحدود مع العراق".
وأضافت المجلة: "إن هذه التدابير قد وضعت الإسرائيليين في الجانب الذي يقف فيه النظام السوري بعد تدخله الفعلي إلى جانب قوى اليمين، والذي يتحدد بالأساس، بتصفية الفدائيين الفلسطينيين، تمهيداً لفرض تسوية سلمية لمشكلة الشرق الأوسط، وتقوم إسرائيل بفرض حصار يجري على عدة موانئ لبنانية يسيطر عليها الوطنيون وخاصة مينائي صيدا وصور لمنع وصول الأسلحة إلى الوطنيين والمقاومة. لقد استطاعت إسرائيل بعملها هذا الحصول على سيطرة فعلية، على شريط من الأرض جنوب لبنان يمتد حتى نهر الليطاني.(34/15)
"وقالت المجلة: إن عدداً من أركان النظام السوري الحاكم حضروا الاجتماع الموسع الأخير، بين شمعون بيريز والقوى اليمينية في جونية، حيث شجع المباحثات بيريز، على إمضاء ليلة على سفينة الشحن التي أقلته إلى لبنان".
كان التدخل الإسرائيلي سرياً في لبنان عام 1976، ثم بدأ يميل شيئاً فشيئاً إلى العلنية حتى جاء الاجتياح الإسرائيلي إلى لبنان في: 4/6/1982، وفرضت القوات الإسرائيلية حصاراً على بيروت الغربية لم تشهده من قبل، وما رفعوا الحصار حتى خرجت المقاومة من لبنان، وعندما كان بعض الفلسطينيين [الذين احتفظوا بعلاقات لا بأس بها مع أسد ونظامه] يطلبون من أسد التدخل لرفع الحصار عنهم، كان يقول لهم: "إنه ليس هناك كيان فلسطيني، وليس هناك شعب فلسطيني، بل سورية وأنتم جزء من الشعب السوري، وفلسطين جزء لا يتجزأ من سورية، وإذن نحن المسؤولون الممثلون الحقيقيون للشعب الفلسطيني" [هذه وصيتي لكمال جنبلاط، ص: 105].
أما ما قاله أسد لمبعوث عرفات: "أريد أن تهلكوا جميعاً لأنكم أوباش".
ثمة سؤال لا نشعر أننا أعطينا الموضوع حقه دون الإجابة عليه: هل كانت خسائر أهل السنة قاصرة على خروج المقاومة، وعلى المذابح التي تعرض لها الفلسطينيون في مخيماتهم؟!.
لا، ليس الأمر كذلك، فالدبابات النصيرية التي كانت تجوب شوارع صيدا تحصد أرواح المدنيين، وتقصف واجهات المحلات التجارية، وتوقع خسائر مذهلة في مبنى المستشفى الكائن في ضاحية من ضواحي صيدا الجنوبية، أقول: إن المعتدين يعلمون أن صيدا لبنانية وليست فلسطينية، ومعظم سكانها من السنة.
وطرابلس التي استباحها النظام النصيري لبنانية سنية وليست فلسطينية، وكذلك بيروت الغربية التي اقتصر حصار إسرائيل عليها وحدها، دون أن يتعرض سكان بيروت الشرقية لأي أذى.(34/16)
وبينما كانت بيروت الغربية تضمد الجراحات التي خلفها الحصار اليهودي، وتظن أن الغمة قد فُرِجَتْ إذ بها تفاجأ باجتياح قوات أمل وقوات جنبلاط لحماها، ويرتكب الغزاة الجدد من الفظائع التي لم يرتكبها اليهود من قبل، ثم يقع صراع بين طرفي الغزاة أيهم يسيطر على مساحة أكبر وأهم.
ولم يسلم كبار العلماء من طغيان النظام النصيري حيث أقدمت قواتهم على اغتيال مفتي لبنان رحمه الله، مع أن الرجل كان مسالماً، ثم اغتالت الشيخ صبحي الصالح وهو الرجل الثاني في المؤسسة الإسلامية السنية، وجدير بالذكر أن الشيخين الفاضلين ليس لهما أدنى صلة بالسلاح وحملته، لكنه الحقد الباطني ضد أهل السنة.
ومع خروج المقاومة الفلسطينية أجبروا القوات اللبنانية السنية [وإن كان قادة هذه القوات ليسوا من السنة في شيء] على مغادرة لبنان: كالمرابطين، وجماعة شاكر البرجاوي، وغيرهم وغيرهم.. وهناك مئات إن لم أقل آلاف من شباب أهل السنة المتمسكين بدينهم، العاملين من أجل رفع راية الإسلام، استطاعوا الفرار من لبنان هائمين على وجوههم لا يدرون أين يضعون عصا التسيار، ومن لم يحالفه الحظ في الهروب، كان مصيره السجن، وما أكثر السجون في سورية، وما أشد بشاعتها.
وبخروج القوات السنية من الفلسطينيين واللبنانيين، طُوي شعار تحرير فلسطين، كل فلسطين من البحر وحتى النهر، ورفعت كل دولة عربية تحرير ما احتلته إسرائيل عام 1967 م، وأُغلِقَ بابُ الجهاد بوجوهنا، ولكن إلى حين إن شاء الله، فإيماننا بانتصارنا على اليهود، وتحرير قدسنا قوي لا تهزه العواصف، ولا توهنه نوائب الدهر.(34/17)
إننا لا نستغرب غدر الموارنة، ولا خبث وكيد الباطنيين، لكننا نستغرب ضحالة فكر وعلم المغفلين من أهل السنة الذين يفصلون الحدث عن ماضيه، ويصفقون للذين قد قتلوا بالأمس أطفالهم، وبقروا بطون أخواتهم، وتناسوا تعاون هؤلاء!! مع اليهود، ووقوفهم صفاً وحداً يتزعمه الأمريكان، هدفه منعنا من الجهاد، بل تشويه صورة الجهاد، وتسمية الأمور بغير مسمياتها.
ما زال في جعبتنا شيء نقوله لهؤلاء المغفلين من أهل السنة، وسيكون حديثنا في الحلقة القادمة عن حزب الله الشيعي: كيف ولماذا نشأ؟!، ومن الذين صنعوه، وما هي حقيقة الانتصار الذي حققه، والله الهادي إلى سواء السبيل...
(1)[1] - ليست هذه قناعتي، وأنا أعرض ما كان يقوله الناس.
(2)[2] - المسلمون في لبنان، محاضر اجتماعات قمة عرمون خلال الحرب الأهلية، للشيخ حسن خالد رحمه الله، دار الكندي، بيروت: 1978.
خلاصة ما سبق
1- لم تنقطع مقاومة أهل السنة [مؤمنهم وفاسقهم] لأطماع اليهود في مختلف السنوات التي تلت الحرب الكونية الأولى، وكان علماؤنا يقودوننا في ميادين التضحية والفداء، كما كان شبابنا وشيوخنا يتسابقون إلى حمل السلاح، وبذل المال والمهج والأرواح في سبيل الله.
2 - إخراج المقاومة من لبنان كان نتيجة مؤامرة شارك في تنفيذها والتخطيط لها داخلياً: الشيعة، والموارنة، والدروز، وخارجياً كل من: أمريكا، وإسرائيل، وسورية الأسد، وفرنسا، وعملاء هذه الأنظمة داخل لبنان، ومما يجدر ذكره أن القوات النصيرية دخلت لبنان بتفويض من معظم الدول العربية.
3 - لم تقتصر المؤامرة على إخراج المقاومين الفلسطينيين وحدهم، وإنما شملت أهل السنة من فلسطينيين ولبنانيين وجنسيات أخرى، ولم يفرق المتآمرون بين المؤمن والفاسق من السنيين، كما أن الإخراج لم يكن بطرق سلمية، وإنما بحرب مدمرة وغير متكافئة، وكان من آثار هذا الدمار قتل علمائنا وأطفالنا ونسائنا وشيوخنا العجز.(34/18)
4 - اختفى شعار تحرير فلسطين، كل فلسطين ولو بشكل تدريجي بعد إخراج المقاومة السنية من لبنان، واستبدل بتحرير جنوب لبنان، أما العرب في غير لبنان، فرفعوا شعار تحرير القدس والضفة الغربية والجولان.
ملحوظتان:
الأولى: شكا بعض الإخوة من طول هذه الحلقة - أي الأولى - وقالوا: من يصبر على قراءتها فقد لا يصبر على قراءة الحلقة التي تليها، وأضافوا: أما كان من الأفضل اختصار هاتين الحلقتين ببضع صفحات وفي عدد واحد؟!.
وإنني إذ أشكر هؤلاء الإخوة الأفاضل على ما بذلوه من جهد في قراءتهم للحلقة الأولى، فإنني أعتذر إليهم عن عدم قدرتي على تنفيذ رغبتهم لأسباب متعددة:
منها: أن هذا الموضوع شائك، ومتعدد المداخل، ويكثر فيه الجدل، ومن جهة أخرى فهذا الذي كتبته قد راعيت فيه الاختصار قدر الاستطاعة.
ومنها: أن الذين كانوا يلحّون علينا في السؤال عن انتصار حزب الله معظمهم من الشباب، وهذا يعني أن بعضهم ما كان قد ولد عندما وقعت الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، وبعضهم الآخر ما كان قد بلغ سن التمييز.
ومنها: كثرة المغفلين من أبناء جلدتنا الذين يَفْصِلونَ انتصار حزب الله عن إطاره العام، ويعتبرونه فتحاً عظيماً للإسلام والمسلمين، ويستغربون ما نكتبه في هذا المجال.. هؤلاء - وبغض النظر عن نواياهم - يخدمون مخططات الرافضة في بلادنا.
وإذا كان القارئ يبذل جهداً مضنياً في القراءة، فهل فكر بالجهد الذي أبذله في تحضير المادة، ثم في كتابتها؟!، ولو كنت أرى أنه من الممكن جمع الموضوع كله ببضع صفحات لما أرهقت نفسي وأرهقت القراء معي.. وعلى كل حال فهذا هو قدرنا نحن الذين نعيش في عصر المختصرات والوجبات السريعة.(34/19)
الثانية: كنت قد توسعت في الكتابة عن بعض هذه المعلومات التي وردت في هذا البحث، ولهذا فقد آثرت عدم ذكر المصادر في كثير من الأخبار التي عرضتها، لأن ذكر المصادر يزيد من عدد الصفحات، ويدعو إلى الملل، ولكنني والحمد لله أحتفظ بتوثيق كل خبر ذكرته.
نشوء حزب الله المرحلة الأولى
مع إطلالة عام 1982 م كانت حركة أمل الشيعية التي تأسست عام 1973 قد أدت الدور المطلوب منها، واستنفدت أغراضها، ولم تعد صالحة في عهد الخميني وثورته الإسلامية، ويعود ذلك لأسباب كثيرة أهمها:
1 - ارتباط مؤسس هذه الحركة - موسى الصدر - بأنظمة مشبوهة: منها: نظام شاه إيران ومخابرات [السافاك]. ومن المعروف أن هذه المخابرات هي التي أرسلته عام 1958 إلى لبنان، لتجميع صفوف الشيعة، ومقاومة المد الناصري في لبنان وبقية الدول العربية. ومنها: ارتباطه مع نظام النهج في لبنان [فؤاد شهاب] الذي منحه الجنسية، كما منحه أيضاً ترخيصاً بإنشاء المجلس الشيعي الأعلى، وكان هدف الطرفين: النهج والصدر إضعاف شوكة أهل السنة في لبنان. ومنها: صلاته المتينة مع نظام القذافي الذي كان يقدم له مساعدات مالية مغرية، وكانت هذه المساعدات سبباً في إقدام القذافي على قتله، لأنه - أي القذافي - شعر أن الصدر تمرد عليه، ووقف في خندق المعادين للقوى الوطنية في لبنان.
2 - لم تعد حركة أمل مقبولة خارج إطار معظم الشيعة في لبنان، وخاصة بعد تحالفها مع قوات النظام النصيري، وبعد أن تبيّن للجميع أنها كانت تنسق مع القوات الغازية قبل دخولها إلى لبنان [كما رأينا في الحلقة الماضية].
3 - انتقال قيادة الحركة بعد غياب موسى الصدر إلى أشخاص، لا يعدون من علماء الشيعة مثل: حسين الحسيني، ونبيه بري، وزاد الطين بلة أن الأخير - بري - صار يدعو صراحة إلى علمانية الحركة، ويريد أن يكون الارتباط بإيران وآياتها محدوداً، وليس فيه تبعية مطلقة.(34/20)
إن حركة أمل، وإن كانت شيعية في شكلها ومضمونها، وحققت للطائفة إنجازات كبيرة على جميع المستويات، وقدمت لثوار الخميني خدمات جلى.. مع كل هذه الاعتبارات فقد أصبحت مرفوضة عند أهل السنة وبعض الشيعة، وعند معظم الحركات الوطنية، وليس من مصلحة إيران أن تتبنى ورقة محروقة، لأن طموحاتها في لبنان واسعة وتحتاج إلى ترتيب جديد.
هذه الطموحات الجديدة يحدثنا عنها حجة الإسلام فخر روحاني - سفير إيران في لبنان - في مقابلة أجرتها معه صحيفة اطلاعات الإيرانية في نهاية الشهر الأول من عام 1984، يقول روحاني عن لبنان:
"لبنان يشبه الآن إيران عام 1977، ولو نراقب ونعمل بدقة وصبر، فإنه إن شاء الله سيجيء إلى أحضاننا، وبسبب موقع لبنان وهو قلب المنطقة، وأحد أهم المراكز العالمية، فإنه عندما يأتي لبنان إلى أحضان الجمهورية الإسلامية، فسوف يتبعه الباقون".
ويضيف قائلاً:
"لقد تمكنا عن طريق سفارتنا في بيروت من توحيد آراء السنة والشيعة حول الجمهورية الإسلامية والإمام الخميني، والآن غالبية خطباء السنة يمتدحون(1)[1] الإمام الخميني في خطبهم".
"وسئل عن نبيه بري فقال: إنه عضو في السي، آي، إيه [المخابرات الأمريكية]، وكان انتخابه رئيساً لمنظمة أمل بحماية السفارة الأمريكية.
ويتابع حديثه عن أمل:
"أمريكا تدعم عملاءها مباشرة أو عن طريق التابعين لها، وإلا فكيف يمكن تفسير قيام الجزائر بدفع خمسين مليون دولار لمنظمة أمل؟ ما هي علاقة الجزائر؟ بلد سني(2)[2] في شمال أفريقيا يقوم بدعم الشيعة في لبنان، ظاهرة فريدة وحسنة.. ولكن أنا أعرف بأن أمريكا وراء دعم الجزائر للشيعة" اهـ.
ونقلت صحيفة النهار اللبنانية [11/1/1984] عن السفير نفسه - روحاني - قوله: "لبنان يشكل خير أمل لتصدير الثورة الإسلامية".(34/21)
قلت: حجة الإسلام فخر روحاني من السفراء المعدودين في إيران، وقد أدلى بهذه التصريحات بعد انتهاء عمله في لبنان، ولكنه كان يعني ما يقول، وعندما سألت إطلاعات رئيس الوزراء في تلك الفترة "مير حسين موسوي" عن هذه التصريحات أيدها، وأشاد بسعة معلومات روحاني، وعمق خبرته في الشأن اللبناني، أما وزارة الخارجية فكانت طبيعة عملها تقتضي مجاملة الحكومة اللبنانية وعدم الاصطدام معها، ومثل هذه التناقضات محسوبة وكثيرة بين أوساط المسؤولين الإيرانيين.
* * *
وإذا كان لبنان بوابة إيران إلى البلدان العربية.. وإذا كان هذا الحزب الجديد سيكلف بمهمات أكبر من حجم لبنان.. وإذا كان الحزب الجديد لن يتمكن من منافسة منظمة أمل إلا إذا كان مدعوماً دعماً قوياً من إيران.. إذن لابد وأن يتولى الخميني بالذات هذه المهمة، وهذا الذي حدث:
منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982 بدأت قوات الحرس الثوري الإيراني تتسلل إلى لبنان عن طريق سورية وبالتنسيق معها، وأقامت هذه القوات مخيمين لتدريب الشيعة: الأول في الزبداني، وهي بلدة سورية على حدودها مع لبنان، والثاني في بعلبك اللبنانية، وكانت القوات السورية تشارك في التدريب، وفي تنظيم دخول قوات الحرس الثوري إلى لبنان بدون تأشيرة، وهل يستطيع الأمن اللبناني محاسبة السوريين عن مثل هذه الأمور؟!.
ولابد لنا هنا من تسجيل الملحوظات التالية:(34/22)
كان المسلمون العرب من أهل فلسطين، والجزيرة العربية، ومصر، وبلاد الشام، والمغرب العربي يسعون من أجل دخول لبنان، والانضمام إلى القوات التي تدافع عن بيروت الغربية، وعن الجنوب المحتل.. كان هؤلاء الأحرار يطرقون جميع الأبواب، وهم لا يريدون غير إغاثة أطفال المسلمين ونسائهم، وغير الموت في ساحة الوغى، وكان النظام النصيري لا يسمح لأي من هؤلاء بمجرد المرور من سورية إلى لبنان.. أخبرونا بالله عليكم أيها المغفلون من أبناء قومنا: لماذا يغلق هذا النظام الخبيث الأبواب بوجه كل ما هو سني، ويفتحها على مصراعيها أمام كل ما هو شيعي؟!.. أجيبوا أيها المعجبون بحزب الله، وبكل ما هو شيعي خميني:
لماذا يرفض هذا النظام اللحية السنية ويقبلها إذا كانت شيعية؟!.
على هامش "المؤتمر الأول للمستضعفين" اجتمع الخميني بعدد من علماء ودعاة الشيعة الذين شاركوا في هذا المؤتمر، وكان من بينهم: محمد حسين فضل الله، صبحي الطفيلي، وممثل حركة أمل في طهران إبراهيم أمين، وتدارس معهم الخطوات الأولى اللازمة من أجل إنشاء هذا الحزب الجديد.
عاد الوفد إلى لبنان، وكثَّف من اتصالاته مع وجهاء وعلماء الطائفة الذين لم يشاركوا في لقاء طهران، ثم تكرر لقاؤهم بالخميني، ووضعوا وإياه الخطوط العريضة لحزب الله. يقول أحمد الموسوي في مقال له بمجلة الشراع: "من أنتم.. حزب الله (2)":
"ثم استكملت الخطوط التنظيمية الأولى باختيار هيئة قيادية للحزب ضمت 12 عضواً هم: عباس الموسوي، صبحي الطفيلي، حسين الموسوي، حسن نصر الله، حسين خليل، إبراهيم أمين، راغب حرب، محمد يزبك، نعيم قاسم، علي كوراني، محمد رعد، محمد فنيش.(34/23)
ولم يكن هؤلاء وحدهم نواة التأسيس لحزب الله، إنما كان معهم عشرات من الكوادر والشخصيات الإسلامية الأخرى من حركة أمل، وحزب الدعوة، وقوى ومجموعات تبلورت شخصيتها الإسلامية السياسية مع الثورة الإسلامية وقائدها الإمام الخميني، وكوادر أمنية أخرى ما زالت أسماؤها طي الكتمان".
فمن هذه الشخصيات التي بقيت أسماؤها طي الكتمان، ولم يعلن عنها؟!، تقول كثير من المصادر المختصة: كان من بين هذه الأسماء رئيس المجلس الشيعي الأعلى محمد مهدي شمس الدين، ومحمد حسين فضل الله، ولقد جاء في كتاب الحروب السرية في لبنان: "يتولى الخميني أعلى المسؤوليات في لبنان، ونظراً لبعده عن لبنان، يفوض صلاحياته التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى نائبه محمد مهدي شمس الدين الذي يرأس لجنة ولاية الفقيه"، وهناك أسماء أخرى يحافظون على سريتها، ويحرصون على عدم ارتباطها العلني بحزب الله، ومن الأمثلة على ذلك الأسماء التي كانت تحمّلها أجهزة المخابرات العربية والغربية مسؤولية الأعمال الإرهابية كخطف الرهائن والطائرات.
وهناك أنصار للحزب في أوساط أهل السنة مثل الشيخ سعيد شعبان وحركته - التوحيد - وتجمع العلماء، ومنظمة الجهاد الفلسطينية، حتى أن بعض هؤلاء كان يتهم بالتشيع.
ومركز قيادة الحزب الفعلية لا الشكلية هي السفارة الإيرانية، ومن الأطراف التي كانت تشارك في اجتماعات قيادة الحزب وفي اتخاذ القرارات، سفير إيران السابق في دمشق - محتشمي - وقائد الحرس الثوري في لبنان.
حزب الله اللبناني عضو في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، الذي تأسس في طهران عام 1981، أما بقية الأعضاء فهم: الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، ومنظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، حزب الدعوة العراقي، وحركة العمل الإسلامي العراقية، وحركة أمل الإسلامية - حسين الموسوي - وهذه الحركة جزء من حزب الله، أما المحافظة على اسم آخر فكان من قبيل التقية.(34/24)
ويجتمع أعضاء المجلس الأعلى للثورة الإسلامية اجتماعات دورية في طهران، وبحوزتهم عدد من معسكرات التدريب موزعة بين إيران وسورية ولبنان، ففي إيران لهم أربعة معسكرات، وفي سورية اثنان: معسكر السيدة زينب، ومعسكر الزبداني، وفي لبنان: معسكر الشيخ عبد الله، ومعسكر الدركي، وكلاهما في بعلبك.
فنحن إذن أمام تنظيم عالمي يرعاه الخميني أو من يمثله، والمنظمات التي يتألف منها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية تؤدي مهمة مزدوجة: الأولى محلية، والثانية عالمية، والقيادة طهران الآيات(1)[3].
وخلال أشهر قليلة، وُلِدَ وترعرع في لبنان حزب يعتبر من أكبر وأغنى الأحزاب اللبنانية على الإطلاق بما فيها حزب الكتائب الذي مضى على تأسيسه أكثر من خمسين عاماً.. كيف حدث ذلك؟!.
الذين يثيرون مثل هذا السؤال يعرفون الجهود المضنية التي يبذلها كل من أراد أن يشكل حزباً سياسياً، فهو من جهة لابد له من صياغة مبادئ مقنعة لهذا الحزب، ومن جهة أخرى لابد له من إقناع الناس بجدوى هذه المبادئ، وقدرتها على منافسة الأحزاب الأخرى، وقد يمر عقد أو عقدين، دون أن يتطور هذا الحزب، ويحتل مكان الصدارة في ميادين الأنشطة السياسية.
لكن هؤلاء الذين يثيرون مثل هذا السؤال يجهلون أن الإمامية - الاثني عشرية - هم أقرب ما يكونون إلى الحزب، فمراجعهم من الآيات يتولون مركز قيادة الطائفة، والمتمسكون بدينهم من أبناء الطائفة هم قاعدة هذا الحزب، وحتى غير المتمسكين بدينهم لبعضهم دور داخل هذا التنظيم، أما المناهج والأهداف، والتستر خلف شعارات براقة تستقطب الجماهير [التقية]، فللقوم باع طويل في هذا المجال، وخبرة عريقة عمرها هو عمر التاريخ الإسلامي.(34/25)
وعندما جاءت الأوامر والتعليمات من آية الله روح الله الخميني، قال معظم شيعة لبنان سمعاً وطاعة للإمام وحكومته، فكم نتمنى أن يفهم المنظرون الفلاسفة من أصحابنا معلومات كافية عن عقائد الشيعة وآياتهم وطبيعة تكوينهم.. وكم نتمنى أن يدركوا أهمية المرجعية في نشأة وتطور الطوائف والأحزاب والجماعات، ولو أدركوا ذلك لوفروا على أنفسهم هذه الأوقات والجهود التي يهدرونها، وجعلوا القضية الأولى في مسيرتهم الدعوية هي قضية المرجعية.
أما التمويل المادي لحزب الله فقد تكفلت به قيادتهم في إيران، ويقول المختصون بالشأن الإيراني أن هذه المساعدات بلغت في بداية رئاسة رفسنجاني الثانية حوالي [280 مليون دولار]، وهذا غير السلاح والعتاد الحربي الذي كان يشحن لهم عن طريق سورية، ومن الأرقام الأخرى التي تذكر [12 مليون] في الشهر، ويقول علي نوري زاده: بلغت المساعدات عام 1993 [160 مليون]، وجاء في كتاب الحروب السرية:
"بلغت الأجرة الشهرية للمقاتل خمسة آلاف ليرة لبنانية، وهي أعلى أجرة تقاضاها مقاتل في لبنان عام 1986، لدرجة أن مقاتلي أمل راحوا بهدف الكسب يهجرون صفوف الحركة للانخراط في حزب الله، وهذا الأخير يجني موارده أيضاً من الزكاة ومن ابتزاز الأموال من التجار المسيحيين أو من الذين لا يلتزمون بالتعاليم الإسلامية [الحلاقون والخياطون وأصحاب الملاهي] وكذلك من خطف الرهائن، فضلاً عن ذلك جاء في تقرير دبلوماسي فرنسي أن حزب الله في البقاع قد استولى على الأراضي المسيحية فيها لنشر زراعة الخشخاش"(1)[4].
فعلى الذين يحلو لهم أن يقارنوا ما بين حزب الله والأحزاب السنية الإيرانية أن يضعوا في حسبانهم تركيبة الطائفة الشيعية من جهة، وحجم الدعم الذي كانت إيران تقدمه لفرعهم في لبنان، ومن الأمثلة على ذلك أن عدد الخبراء والمدربين الإيرانيين الذين كانوا يتولون رعاية تنظيم شؤون حزب الله في لبنان يزيد عن الألفين.(34/26)
أما أحزاب أهل السنة، فلا تلقى من الحكومات العربية إلا الكبت والاضطهاد والتنكيل، وحرمانهم من الأنشطة الإعلامية والسياسية والاقتصادية والثقافية، والمساعدات التي تقدمها هذه الأنظمة تكون من نصيب الجهات التي تحاد الله ورسوله والذين آمنوا، فأين هذا من ذاك؟!.. إننا لو نظرنا إلى الجانبين: الاقتصادي والاجتماعي في حزب الله لوجدنا أنفسنا أمام دولة وليس أمام حزب: فمن المؤسسات التعليمية إلى المؤسسات الصحية، إلى مؤسسات البناء والتجارة، وغير ذلك كثير.
تأكد عندنا فيما مضى أن حزب الله مؤسسة إيرانية في ثوب لبناني، وهذا يعني أنه لابد لنا من استعراض الأوضاع العامة في إيران لنتعرف من خلالها على أهداف هذا الحزب في مرحلته الأولى.
كانت إيران في عام 1982 [وهو العام الذي تأسس فيه الحزب] تخوض حرباً شرسة مع العراق، وكانت الكفة قد بدأت تميل لمصلحة العراق، ولم يكن ذلك متوقعاً، لأن عدد سكان إيران ثلاثة أمثال عدد سكان العراق، ونسبة الشيعة العراقيين تتجاوز 40% قليلاً، وكثير من هؤلاء سيكونون "طابوراً خامساً" لمصلحة إيران، وكان شاه إيران قد ترك للآيات جيشاً قوياً، وأسلحة متطورة.
إيران كانت تعتقد أن العراق ما كان ليتفوق عليها لولا الدعم المادي الذي كان يتلقاه من دول الخليج، وبشكل خاص من السعودية والكويت، وهذا الاعتقاد صحيح لأن دول الخليج كانت مهددة من إيران التي رفعت شعار تصدير الثورة منذ تولي الآيات زمام الحكم، وكانت تدافع عن نفسها من خلال المساعدات التي تقدمها للعراق.
وكان العراق يتلقى الدعم العسكري - أعني الأسلحة وقطع الغيار - من فرنسا بالدرجة الأولى، ثم من أمريكا، وكان للسعودية دور في إقناع الأمريكان بتقديم هذا الدعم لأن الخليج مهدد بالسقوط إن انتصرت إيران على العراق.(34/27)
الأمريكان والفرنسيون كانوا يدعون الحياد في هذه الحرب، وادعاؤهم هذا ليس صحيحاً، فقد كانوا معنيين باستمرار هذه الحرب، لأن في استمرارها: إنعاشاً لاقتصادهم، واستنزافاً لثروات البلدين وبلدان دول الخليج، وضماناً لتفوق جيش ربيبتهم إسرائيل، لكنهم أيضاً معنيون - بدافع من مصالحهم - بحفظ أمن الخليج، وعدم سيطرة الإيرانيين عليه.
وإذن: فإن أهداف الحزب في مرحلته الأولى لن تتجاوز ما يلي:
1 - قيام جمهورية إسلامية في لبنان، ولولا تصدير الثورة لما وقعت حرب إيران مع العراق، وإن ادعى الإيرانيون بأن العراق هي التي بدأت هذه الحرب.
2 - توجيه ضربات موجعة لكل من الدول الآتية: أمريكا، فرنسا، السعودية، الكويت.
أما تصدير الثورة إلى لبنان، فلقد مر معنا فيما مضى مقابلة حجة الإسلام فخر روحاني سفير إيران في بيروت، وقوله الذي نقلته عنه النهار: "لبنان يشكل خير أمل لتصدير الثورة الإسلامية".
وما كان قادة الحزب يخفون هذا الهدف، ففي كانون الثاني من عام 1986 راحوا يعدون في طهران، دستور الجمهورية الإسلامية المقبلة [على كل لبنان أو على جزء منه]، وقد شارك في إعداده [63 شخصية] ومنهم من هو منسوب لأهل السنة، ومما جاء في هذا الدستور:
"ينبغي تأليف حكومة إسلامية في لبنان كشرط لازم لوضع حدٍ للحرب الداخلية فيه"، ومما هو جدير بالذكر أن الخميني هو المرجع لهذه الدولة، وهو عندهم ظل الله في الأرض كلها.
قيل لأحد قادة الحزب - إبراهيم الأمين -: أنتم جزء من إيران، فكان رده: "نحن لا نقول: إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران" [جريدة النهار: 5 - 3/1987].(34/28)
وبعد تفجير مقري المارينز ووحدة المظليين الفرنسيين أُرسِلَتْ البرقيات التالية للخميني: "حزب الله وجه مع تجمع العلماء المسلمين في 29/10/1983 برقيات إلى الإمام الخميني ومجلس الدفاع الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، أشادوا فيها بالانتصارات التي يحققها المسلمون، ومما جاء في البرقيات:
"إن شعبكم المسلم في لبنان والمرتبط بولايتكم يرفع إلى مقامكم أسمى التبريكات والتهاني لمناسبة انتصار حماة الإسلام.. نرفع إليكم التهاني ببركة حركتكم الشعبية المتصاعدة في لبنان وفي بيروت حيث الضربة الحيدرية والخمينية لمقري قيادتي القوات الأمريكية والفرنسية"(1)[5].
فالحركة في لبنان للخميني، والشعب المسلم مرتبط بولايته، والضربة حيدرية وخمينية، وهذه هي العقلية التي كان يفكر بها ما يسمى بتجمع العلماء، إذ لا حل عندهم وعند حزب الله إلا بقيام جمهورية لبنانية إسلامية على غرار إيران.
هذا عن تصدير الثورة، أما الحديث عن أهم العمليات فنوجزه فيما يلي:
1 - اختطاف "دافيد دودج" رئيس الجامعة الأمريكية بالوكالة، في تموز 1982، وكان أول رهينة غربية، وقد نقل إلى دمشق، ومنها جرى نقله جواً إلى طهران حيث وضع بسجن انفرادي بالقرب من مطار مهراباد.
2 - في 17/3/1983 أعلنت منظمة تطلق على نفسها اسم "الجهاد الإسلامي" عن هجومها على دوريتين: إيطالية وأمريكية، وأوقعت في صفوفهما ثلاثة عشر جريحاً.
3 - وفي 18/4/1983 أعلنت المنظمة - الجهاد - مسؤوليتها عن الاعتداء على السفارة الأمريكية بواسطة سيارة مفخخة، وكانت محصلة هذا الاعتداء: 63 قتيلاً، والجدير بالذكر أن حزب الله كان قد أصدر عام 1986 طابعاً بريدياً بمناسبة تحقيق هذا النصر على "الشيطان الأكبر"، وجرى توزيعه عن طريق رسائلهم التي يرسلونها من بيروت الغربية إلى كل مكان في العالم.(34/29)
4 - وفي 23/11/1983 اقتحمت سيارتان انتحاريتان مبنيين يضمان جنود القوة المتعددة الجنسية فسقط 241 قتيلاً من البحارة الأمريكيين و 58 مظلياً فرنسياً عدا عشرات الجرحى.
5 - أعلنت منظمة الجهاد الإسلامي في كانون الثاني 1984 مصرع رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت "مالكوم كير".
6 - في 12/12/1983 هزت الكويت سبعة انفجارات: ثلاثة منها وقعت في مصالح أمريكية، وثلاثة أخرى في مؤسسات كويتية هي: الشعيبة الصناعية، ومبنى المراقبة والتحكم الآلي التابع لوزارة الكهرباء والماء، وبرج المراقبة في مطار الكويت الدولي، والانفجار السابع أمام مقر السفارة الفرنسية في حي الجابرية السكني.
7 - وفي عام 1985 تعرض الأمير الشيخ جابر الأحمد لمحاولة اغتيال عندما اعترضت الموكب سيارة مفخخة في عملية انتحارية لم يكتب لها النجاح، ونجا الأمير من الموت بأعجوبة.
وفي هذه والتي قبلها ألقت السلطات الكويتية القبض على الجناة، وكانوا خليطاً من العراقيين والكويتيين واللبنانيين.
8 - وفي 11/3/1983 اختطف الحزب طائرة كويتية وعلى متنها [500 راكباً]، وأجبروها على التوجه إلى مطار مشهد الإيراني، واحتجزوا في لبنان رهينتين وهما [جان لوي نورماندان، وروجيه أوك] من الجنسية الفرنسية.
9 - ابتدعوا في حجهم ما أسموه "مسيرة الوحدة" والبراءة من الشيطان، والحج لا يحتمل مثل هذه المظاهرات الصاخبة، فما كان من السلطات السعودية إلا التصدي لهذه الفتنة التي افتعلها الرافضة وبلغت قمتها في عام 1987، ومما ضاعف من استعدادات السعودية اكتشافها أسلحة خفيفة أثناء تفتيش أمتعة الحجاج الإيرانيين، وهكذا حولوا موسم الحج إلى ساحة حرب، ففي عام 1987 سقط عشرات القتلى، وامتلأت مستشفيات ومستوصفات مكة بالجرحى.
* * *(34/30)
هذه بعض الأعمال الإرهابية التي نفذها حزب الله في المرحلة الأولى التي أعقبت تأسيسه، وكانت البيانات التي تصدر بعد كل عملية تنسب إلى: منظمة الجهاد الإسلامي، أو منظمة العدالة الثورية، أو المقهورون في الأرض، وكلها أسماء وهمية ليس لها أصل، يقول صبحي الطفيلي الأمين العام الأسبق لحزب الله:
"تضم الجهاد الإسلامي كل الذين يريدون التستر خلف اسم ما دون الإعلان عن هويتهم"، ومن جهة أخرى فقد كان الغرب والشرق يعلم أن حزب الله هو الذي ينفذ هذه العمليات نيابة عن إيران، وكانت بعض الدول الغربية تضطر إلى التفاوض مع إيران بشكل سري، من أجل إطلاق سراح المخطوفين، ولعل كثير من المتابعين ما زالوا يذكرون فضيحة "إيران غيت" التي كشفها جناح آية الله حسين المنتظري عن طريق مجلة الشراع اللبنانية، وتعرض صاحبها لمحاولة اغتيال بسبب نشره لأسرار هذه الصفقة بين إيران - الثورة الإسلامية - وبين الشيطان الأكبر.
إيران كانت تدعي أن الأمريكان هم العدو رقم (1) للإسلام والمسلمين، وأنه لا مجال لأي لقاء أو تفاهم أو حوار بينهما، وأمريكا التي تتشدد في مقاطعة إيران زعيمة الإرهاب في العالم، ثم يكتشف العالم قضية الطائرة الأمريكية التي هبطت في مطار طهران، وهي محملة بقطع الغيار، وعلى متنها وفد من كبار المسؤولين في البيت الأبيض، أرسلهم الرئيس الأسبق "ريغان" للتفاوض مع نظرائهم من مساعدي الخميني.
استطاعت إيران أن تحل كثيراً من مشاكلها مع الغرب مستخدمة في ذلك قضية الرهائن، أما سورية، فلقد قدمت خدمات نادرة للأمريكيين والفرنسيين، وكان لها الفضل (!!) في إطلاق بعض الرهائن، ومما لا شك فيه أن الغربيين يحترمون مواطنيهم، ويحرصون على سلامتهم وكرامتهم، ولهذا السبب فقد اقتنع الأمريكان بأهمية عودة القوات السورية إلى بيروت، وقد عادت بالفعل، وأغلق ملف الرهائن.(34/31)
ولسائل أن يسأل: ما هي علاقة حزب الله بالأعمال الإرهابية التي وقعت في الكويت وفي السعودية؟!.
الجواب: حزب الله العضو الأهم في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وهذا المجلس هو الذي كان ينظم العمليات الإرهابية في الجزيرة وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، وفي جميع هذه العمليات كان يجري اعتقال لبنانيين من أعضاء الحزب، ومن جهة ثانية (وهذا هو الأهم) فقد كان يجري تدريب المنظمات الشيعية الإرهابية في لبنان، وكان حزب الله ينظم عمليات تهريب الأسلحة والمتفجرات إلى إخوانهم في الجزيرة العربية، ففي عام 1987 اكتشف حكام الخليج (12) ألف قطعة سلاح بين بنادق كلاشينكوف، وقواذف صواريخ آر بي جي، ورشاشات ثقيلة ومتوسطة، واحتجت كل من السعودية والكويت والإمارات عند حافظ الأسد لأن بعض ضباط أمنه كانوا متورطين مع حزب الله في هذه العملية.. والذي أعلمه أن آخر عمليات تهريب أسلحة من لبنان إلى المنظمات الشيعية في الخليج كان قبل عملية تفير القاعدة الأمريكية في الخبر [25-6-1996] بأيام قليلة.
ولسائل أن يسأل: ما هي علاقة حزب الله بالأعمال الإرهابية التي وقعت في الكويت وفي السعودية؟!.(34/32)
الجواب: حزب الله العضو الأهم في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وهذا المجلس هو الذي كان ينظم العمليات الإرهابية في الجزيرة وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، وفي جميع هذه العمليات كان يجري اعتقال لبنانيين من أعضاء الحزب، ومن جهة ثانية (وهذا هو الأهم) فقد كان يجري تدريب المنظمات الشيعية الإرهابية في لبنان، وكان حزب الله ينظم عمليات تهريب الأسلحة والمتفجرات إلى إخوانهم في الجزيرة العربية، ففي عام 1987 اكتشف حكام الخليج (12) ألف قطعة سلاح بين بنادق كلاشينكوف، وقواذف صواريخ آر بي جي، ورشاشات ثقيلة ومتوسطة، واحتجت كل من السعودية والكويت والإمارات عند حافظ الأسد لأن بعض ضباط أمنه كانوا متورطين مع حزب الله في هذه العملية.. والذي أعلمه أن آخر عمليات تهريب أسلحة من لبنان إلى المنظمات الشيعية في الخليج كان قبل عملية تفير القاعدة الأمريكية في الخبر [25-6-1996] بأيام قليلة.
آخر عمليات تهريب أسلحة من لبنان إلى المنظمات الشيعية في الخليج كان قبل عملية تفير القاعدة الأمريكية في الخبر [25-6-1996] بأيام قليلة.
(1)[1] - وقد صدق في قوله هذا.
(2)[2] - لينظر المتعالمون من أبناء قومنا إلى قول هذا السفير: "وإلا فكيف يمكن تفسير قيام الجزائر بدفع خمسين مليون دولار لمنظمة أمل؟ ما هي علاقة الجزائر بلد سني في شمال أفريقيا يقوم بدعم الشيعة في لبنان؟". إنه تفكير طائفي متزمت يجري في دماء الشيعة، وكل موقف يقفونه لابد وأن ينطلقوا فيه من هذا المنطلق. أسأل الله تعالى أن يشرح صدور أبناء قومنا للحق، وأن يهدهم سواء السبيل.
(3)[3] - عن مجلة "جون أفريك" الفرنسية، العدد الصادر في منتصف فبراير 1984.
(4)[4] - الحروب السرية، مصدر سابق، ومجلة المجلة، العدد: 1013، تاريخ 11 - 17/7/1999.
(5)[5] - انظر كتاب السراب، مركز الوحدة الإسلامية للدراسات والتوثيق، ص: 157، وجريدة النهار: 30/10/1983(34/33)
نشوء حزب الله المرحلة الثانية
جدت أمور مهمة على الساحتين اللبنانية والعربية، من أهمها:
1 - أنهى المؤتمر اللبناني الذي عُقد في مدينة الطائف السعودية، حالة الفوضى، وعادت الدولة لتبسط نفوذها على الأرضي اللبنانية غير الخاضعة للاحتلال.
2 - وافقت إيران الخميني على إنهاء حربها مع العراق، وهذا يعني خروجها من هذه الحرب مهزومة.
3 - اجتاحت القوات العراقية دولة الكويت، واعتبرتها محافظة من محافظات العراق، ووضع هذا الاحتلال العالم على حافة حرب لا يعلم نتائجها إلا الله سبحانه وتعالى.
احتلال النظام العراقي للكويت، وتهديده لبقية دول الخليج حقق لإيران انتصارات ما كانت تحلم بها، وكان من أفضلها تنازل صدام عن الانتصارات التي حققها والتي من أجلها قامت الحرب، وتقديمها طواعية لإيران، أما الأمريكان وحلفاؤهم، فقد باتوا يخشون من تحالف إيران مع العراق، ولا يرجون من إيران إلا وقوفها على الحياد.
ولم يكن حزب الله راضياً عن مؤتمر الطائف لأنه قطع الطريق على قيام جمهوريتهم الإسلامية في لبنان، ولهذا فلقد عمت مظاهراتهم التي تهاجم السعودية والوهابية مختلف المدن التي ينتشرون فيها، وإذا كانت السعودية قد ضغطت على الفرقاء اللبنانيين من أجل نجاح المؤتمر، فما علاقة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته التوحيدية الإصلاحية؟!.
أجل، لابد أن يبرز الحقد الرافضي الباطني على ألسنة القوم، وعلى جميع مواقفهم وأفعالهم، وما تخفي صدورهم أعظم وأخطر.
إذن: لابد وأن يكون الهدف الجديد متناسباً مع ما جد من أمور مهمة، كما لابد وأن تشارك أطراف ثلاثة في رسمه: إيران وسورية والحزب.(34/34)
فسورية التي تحتل معظم الأراضي اللبنانية من مصلحتها أن تحارب إسرائيل بقوات حزب الله، لتجبرها على الانسحاب من الجولان، وعقد معاهدة سلام معها، ومن مصلحتها أيضاً أن لا تعود قوات المجاهدين السنة إلى جنوب لبنان، لأن عودتها تشكل خطراً على النظام النصيري في دمشق، وفضلاً عن هذا وذاك، فإن دعم حزب الله يضمن عودة القوات السورية إلى بيروت، التي أجبرت على الابتعاد عنها بعد اجتياح قوات الصهاينة لبيروت وجنوب لبنان.
وإيران لا تزال تصر على تصدير الثورة، لكنها سلكت طريقاً آخر يختلف عما كان عليه الحال بأيام الخميني، فأسلوب المواجهة الذي اتبعه إمامهم فشل وعاد عليهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، أما الأسلوب الجديد الذي سلكه رفسنجاني فليس فيه أي استفزاز للعرب، وعلى العكس فإنه يعتمد على الشعارات التي يفتقدها جمهورنا، ومن هنا جاءت دعوتهم إلى تحرير فلسطين والمقدسات الإسلامية، ورفع راية الجهاد في سبيل الله، ومساعدة الهيئات والجماعات السنية التي ترفع هذا الشعار، وبالتالي لا تستطيع الحكومات العربية والأجنبية تجاهل إيران ودورها في معاهدات السلام العربية الإسرائيلية، وسيبقى لبنان بوابة إيران إلى البلدان العربية، وسيبقى حزب الله الجهة الوحيدة المنتدبة من أجل تحقيق أهداف إيران وطموحاتها.(34/35)
حصر حزب الله جل اهتماماته بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وعادت سورية إلى بيروت كما كانت وأشد، ومن الصلاحيات الجديدة والمتعسفة التي مارسها النظام نزع سلاح الأحزاب والميليشيات إلا سلاح حزب الله، وإغلاق فضائيات الأحزاب إلا "تلفاز حزب الله"، ومنعت الجماعات الإسلامية السنية والأحزاب الوطنية من الجهاد في الجنوب اللبناني، وكانت هذه الجماعات قد أدت دوراً مهماً في مقاومة الاحتلال، وأوقعت خسائر فادحة في جيش العدو المحتل، وقدمت عدداً كبيراً من الشهداء، فلماذا يمنعون من الجهاد في سبيل الله؟! ألأنهم من أهل السنة، ولكن نظام أسد يزعم بأنه غير طائفي، وقادة حزب الله وزعماؤهم في طهران يدعون أن ثورتهم لجميع المسلمين، وكثير من الذين كانوا يجاهدون هم ممن يحسنون الظن بالآيات وحزبهم المدلل. هل أدركوا تعصب أصحابهم الطائفي، أم إن المحب لمن يحب مطيع؟!.
أجرت مجلة "فلسطين المسلمة" مقابلة مع نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، وكان مما سألته:
أعلنتم قبل فترة عن تأسيس السرايا اللبنانية لمواجهة الاحتلال لتوسيع المقاومة الشعبية للاحتلال، فما هو تقييمكم لنجاح هذه الفكرة؟.
فكان مما جاء في جوابه: "أطلقنا هذه الفكرة بعد جو إشاعة البعض في أننا نحتكر المقاومة، ولا نعطي فرصة للآخرين في الوقت الذي نعتبر فيه أن الساحة مفتوحة للمقاومة، فلسنا نمنع أحداً من الانتقال من موقع لموقع لمقاتلة الإسرائيليين، لكن بعض العاجزين أصبحوا يردون السبب لنا..".
مقابلة نعيم لفلسطين المسلمة كانت في شهر نيسان من عام 1999، وإعلان حزب الله عن تشكيل هذه السرايا كان في عام 1998، أي بعد سيطرتهم التامة على مختلف مناطق ومدن الجنوب، ومن جهة أخرى فقد كان الحزب يتصرف وكأنه دولة، ولهذا فقد خصص جهازاً لتدريب المتطوعين، وبعد التدريب يحدد للمتطوع نطاق عمله، ومن هذا المنطلق فهو الذي يحدد قبول هذا ورفض ذاك.(34/36)
هذه العملية الدعائية أعلن عنها الحزب قبل عامين فقط - 1998 - وكان المنع قائماً قبل هذا الوقت، ومنذ عدة سنين، وليسأل من شاء أصدقاء حزب الله من أهل السنة: كأعضاء جبهة العلماء، وحركة التوحيد، والجماعة الإسلامية، بل وليسأل من شاء منظمات ما يسمى بالمعارضة الفلسطينية التي انشقت عن عرفات، وتبعت أسد النصيرية بطل الصمود والتصدي.
وبلغ دعم إيران للحزب أوجه في هذه المرحلة، جاء في تقرير وجهه أحد الدبلوماسيين الأوربيين إلى حكومته في مطلع صيف 1986، وكشف فيه أبعاد اللعبة السورية، ما يلي:
"تقوم طائرات الشحن الإيرانية من طراز بوينغ 747 بالإقلاع والهبوط ثلاث مرات في الأسبوع، على طرف مدرج مطار دمشق، ناقلة حمولات غامضة، فالبضائع التي تفرغ عبارة عن أسلحة خفيفة مرسلة إلى [حراس الثورة] الذين يشرفون على تدريب أتباع حزب الله في معسكر زبداني بالقرب من دمشق، أو في المعسكرات الكائنة في منطقة بعلبك. أما البضائع المحملة فهي مدافع هاون وصواريخ مضادة للطيران من طراز سات. كذلك يحفل ميناء اللاذقية بنشاط من هذا النوع"(1)[1].
وهذا الدعم الذي كان حزب الله يتلقاه من سورية وصنيعتها - الحكومة اللبنانية - ومن إيران، لا يمنعنا من القول: لقد قاتل الحزب قوات الاحتلال الصهيوني قتالاً ضارياً، وكان القادة نماذج حية لجنود الحزب، فالأمين العام الأسبق عباس الموسوي، قتل وهو يتفقد المواقع في فبراير 1992، والأمين العام الحالي حسن نصر الله فقد ابنه في إحدى المعارك، وأثبت الحزب أنه من حيث التدريب والإعداد في مستوى المهمة التي انتدب لها. ومما يجدر ذكره أن النجاحات التي حققها من أجل تحرير الجنوب جعلت الناس ينسون أو يتناسون أعماله الإرهابية التي كانت في وقتها حديث العالم كله، ومع تحسين صورته في أعين الناس فقد تحسنت صورة إيران.
حقيقة وحجم هذا الانتصار(34/37)
يقول الكاتب اليهودي (آريه ناؤور) [معاريف: 26/5/2000]: "عندما بدأت حرب لبنان سميت [حملة سلامة الجليل] وكان يفترض بالحملة أن تستغرق 48 ساعة، على عمق 40 كيلومتراً، وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن لمجموعة من كبار الضباط على مشارف بيروت: أنتم تعرفون جيداً أنني ما كنت سأصادق على حملة تنطوي على عدد كبير من الإصابات تزيد على بضع عشرات من جانبنا، وبعد وقت قصير من ذلك ارتفع عدد ضحايانا إلى 500، فأغلق بيغن على نفسه في بيته ولم يجد ما يواسيه، ولشهامته لم يتهم أحداً، وفي آخر مرة يظهر فيها أمام مركز الليكود قال: إنه يجري في لبنان مأساة، ومنذئذٍ ارتفع عدد ضحايانا ضعفين وأكثر..".
هذه هي مسألة اجتياح إسرائيل للأراضي اللبنانية.. وهذه هي أهداف حملة سلامة الجليل، فبشير الجميل أراد من وراء هذه الحملة إخراج منظمة التحرير وقوات الجيش السوري من لبنان، وبيغن أراد عقد اتفاقية سلام مع لبنان تنهي حالة الحرب. جاء في افتتاحية صحيفة ها آرتس الإسرائيلية في منتصف حزيران: لا تحولوا عملية السلام من أجل الجليل إلى سلام من أجل لبنان.
صُدِمَ بيغن من موقف بشير الجميل بعد انتخابه رئيساً للجمهورية، لقد اعتذر عن عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل لأن الوقت غير مناسب، ووعد بالعمل من أجل تهيئة الأجواء التي تسمح بذلك، وصُدِمَ أكثر من موقف الزعيم الماروني بيار الجميل - والد بشير الجميل - الذي أكد تمسكه بالموقف العربي العام.
تعارضت المصالح الإسرائيلية مع المصالح المارونية، وسقطت نظرية الزعيم اليهودي "بن غوريون" الذي كان ينادي بدولة مارونية في لبنان تتحالف مع إسرائيل ضد الإسلام السني العربي، وبعد أن فقدت إسرائيل أي أمل بالموارنة، فقد راحت تبحث عن مخرج لها من ورطتها منذ عام 1982.(34/38)
نعود إلى الحديث عن قتلى اليهود الذين بلغوا [500]، كما يقول الكاتب اليهودي [آريه ناؤور] فمن هؤلاء الذين أوقعوا بجيش الغزاة هذا العدد الكبير؟!.
حزب الله لم يكن قد ظهر إلى الوجود عام 1982، وحركة أمل كانت تقف في الطرف المعادي للذين أحسنوا إليها - منظمة التحرير -، فلم يبق إلا أهل السنة من الفلسطينيين واللبنانيين، وما كانت القوات النصيرية بقادرة على منعهم لأنها قابعة على الحدود السورية اللبنانية.
وإذن: فلقد مضى اليهود عام 1982 يبحثون عن مخرج، ولهذا لم نستغرب أن يعلن باراك عن تعهده بالانسحاب من لبنان فور فوزه بالانتخابات الإسرائيلية، ووعد أن يكون ذلك بعد عام واحد، أما لماذا كان الانسحاب قبل شهرين من الموعد المحدد؛ فالذي أراه أن حافظ الأسد كان يعلق آمالاً عريضة على جبهة حزب الله مع إسرائيل، وإذا طالبت حكومة باراك المسؤولين اللبنانيين بتنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة كان الرد السوري واللبناني: الانسحاب من لبنان والجولان صفقة واحدة لا تتجزأ، وبعد تكرار هذا الرد، أرادت حكومة باراك سلب سورية هذه الورقة الوحيدة التي تستخدمها في الضغط على إسرائيل، وجاء اتخاذ هذا القرار بعد فشل مفاوضات واشنطن، وفشل لقاء الأسد مع كلينتون في سويسرا.
فوجئت سورية بقرار الانسحاب، وحاولت استغلال عدم انسحاب إسرائيل من مزرعة "شبعا"، فجاءت التهديدات الإسرائيلية بأنها ستعتبر سورية مسؤولة عن أي هجوم يشنه حزب الله بعد الانسحاب، وستهاجم البنية العسكرية السورية في لبنان، وأنها ستضرب الجسور المقامة على طريق دمشق بيروت السريع، ومنشآت سورية رئيسية في بيروت ووادي البقاع [عن رويتر 24/5/2000].(34/39)
فما كان من الزعيم النصيري الهالك إلا التراجع، ورفع شعاره المعهود [كن أرنباً عند اللزوم]، وسكت الجميع عن مزرعة "شبعا" ويقدر سكان هذه المنطقة بحوالي (70 ألفاً) وهم من أهل السنة.. ثم تغيرت المواقف، وصارت أجهزة إعلام حزب الله وكل من حكومة: لبنان وسورية وإيران، تتغنى بهذا النصر الكاسح الذي حققه الحزب، وقال نصر الله فيما قاله: إن عصر الهزائم العربية قد انتهى، وعاد السكان إلى قراهم. وتولى حزب الله حفظ الأمن في الجنوب فلم تطلق حتى رصاصة واحدة باتجاه الجليل.
* * *
هذه هي حقيقة هذا الانتصار الذي حققه حزب الله ومن يقف وراءه.. وهذه صفحات موجزة تحكي المأساة التي صنعها الثنائي الإيراني النصيري في لبنان.. وهذه هي مأساة أهل السنة في هذا البلد المنكوب المحتل.
وهناك أمور لم تعط حقها من الدراسة، ويلح الإخوة اللبنانيون في السؤال عنها:
منها: هل يتطلع حزب الله لإقامة دويلة في الجنوب والبقاع؟، وهل مقابلة الأمين العام للأمم المتحدة لحسن نصر الله تدخل في هذا الإطار؟، وهل قيام الحزب بمهمة حفظ الأمن في الجنوب، وتصريح رئيس الدولة بقرار حكومته الذي ينص على عدم إرسال قوات الجيش لحفظ حدود لبنان وسيادته.. هل هذا وغيره اعتراف بدور جديد للحزب؟!.
ومنها: لماذا الضغط الشديد على جماعات ودعاة أهل السنة: إن مجرد طباعة كتاب أو تداوله يعتبر جريمة لأن في ذلك إثارة نعرات طائفية، لكن الشيء نفسه لا يعتبر جريمة، ولا يعاقب فاعله، ولا يحال إلى محكمة إن كان شيعياً.
ومنها: مَنْ وراء جماعة الأحباش، ولماذا ازدهرت هذه الجماعة في ظل الاحتلال السوري للبنان مع أن أهل السنة كلهم متفقون على دور هذه الجماعة التخريبي الهدام؟.(34/40)
بسم الله الرحمن الرحيم
خيانات الشيعة
وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية
إعداد
عماد علي عبد السميع حسين
دكتوراه في الدعوة والثقافة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير
"بدأت دراستي بالدعوة إلى التقريب بين السنة والشيعة بتوجيه من أستاذي الجليل الشيخ محمد المدني، على أن التشيع مذهب خامس بعد أربعة أهل السنة؛ غير أنني عندما بدأت البحث واطلعت على مراجعهم الأصلية وجدتُ الأمر يختلف تمامًا عمَّا سمعت.. فدراستي إذن بدأت بتوجيه من الشيخ المدني من أجل التقريب، ولكن الدراسة العلمية لها طابعها الذي لا يخضع للأهواء والرغبات".
أ.د/ علي أحمد السالوس - أستاذ الفقه وأصوله
"إن استحالة التقريب بين طوائف المسلمين وبين فرق الشيعة هي بسبب مخالفتهم لسائر المسلمين في الأصول، كما اعترف به وأعلنه النصير الطوسي، وأقره عليه نعمة الله الموسوي الخونساري ويقره كل شيعي، وإذا كان هذا في زمن النصير الطوسي فهو في زمن باقر المجلسي الآن أشد وأفظع".
الشيخ محب الدين الخطيب "الخطوط العريضة"
"ليس أدل على خداع دعوى التقريب من سوء حال أهل السنة في إيران؛ فلو صدقوا في دعواهم لقاربوا بين صفوف الشعب الإيراني سنة وشيعة".
انظر ناصر الدين الهاشمي "موقف أهل السنة في إيران"
"لقد عشت مع شيعة العراق وإيران والسعودية ولبنان ثماني سنوات محاورًا ومناقشًا، وقد اتضح لي على وجه اليقين أنهم صورة طبق الأصل من كتبهم السوداء المنحرفة".
د/ أحمد الأفغاني "سراب في إيران"
"فُتَحتْ دار للتقريب بين السنة والشيعة في القاهرة منذ أربعة عقود، لكنهم رفضوا أن تُفتَح دور مماثلة في مراكزهم العلمية كالنجف وقُم وغيرها لأنهم إنما يريدون تقريبنا إلى دينهم".
انظر د/ مصطفى السباعي "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي"
مقدمة(35/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا}.
أما بعد؛
فإن الأمانة من أكرم الخصال التي حث عليها الإسلام، والخيانة من أرذل الخصال التي حذر منها ونهى عنها.
قال تعالى في الأمناء: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}، وقال في الخائنين: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ}، {وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}.
وأفحش ما تكون الخيانة: الخيانة العامة، وهي التي تحدث عنها الفقهاء بتعبير "الخيانة العظمى"، وهي الخيانة المتعلقة بأمر الدين والمتعلقة بأمر الأمة، وتكون بالممالأة والمعاونة تارة، وبالجاسوسية وإفشاء الأسرار العامة للأمة تارة أخرى، وبالتخاذل عن نصرة الأمة مع القدرة على نصرتها.. وغير ذلك.
وأحكام الخيانة العظمى مفصلة في كتب الفقه الإسلامي بتوسع؛ إذا كانت الأمانة عندنا هي الدين "لا إيمان لمن لا أمانة له" فإن الخيانة والغدر والمخادعة عند الشيعة هي الدين، فالتقية التي يعتقدها الشيعة توصلهم إلى أَزِمَّة القيادة وأماكن التأثير في كثير من الأماكن؛ فيتمكنون من خيانتهم وتنفيذ مؤامراتهم.(35/2)
إن الأمر جد خطير يا أهل السنة، فلا يغرنكم ما نطنطن به من شعار "المليار مسلم"؛ فإن هذا المليار الذي لا وزن له ولا ثقل ذبابة لو قلبت في سر تفككه وعدم توحده على هذا النحو، لاتضح لك شيء من الحقيقة، ولعلك تصحو من الحلم الذي تحيطك فيه ورود الغفلة وأزهارها الخادعة، هذا المليار مزقته النحل والمذاهب الباطنية التي لا تعتمد الكتاب والسنة وفهم سلف المؤمنين كأساس لفهمها.
فالعراق - مثلاً - نسبة الشيعة فيها قرابة النصف أو أكثر، والكويت فيها عدد كبير من الشيعة وهم أصحاب النفوذ والجاه، وسلطنة عمان خوارج إباضية، واليمن للفكر الشيعي فيها انتشار واسع، وكذلك البحرين في منطقة هجر التي كانت مقر الشيعة القرامطة قديمًا، والمغرب وريثة (الأدارسة والأغالبة والعبيديين) لا زال الفكر الشيعي له انتشاره فيها.. وأفغانستان وباكستان، ثم رأس الأفعى إيران وهكذا، ومن بقي لا يدين بمذهب من هذه المذاهب إما أن تجده في أحضان العلمانية أو الاشتراكية الشيوعية، وتسمع منهم كلمات الإلحاد صراحة كالذي يقول في حزب البعث:
"إن لم يكن لي خالق لقلت البعث خالقي!!!"
فكم يكون أهل السنة الطائفة المنصورة في وسط هذا الغثاء؟
إنهم برغم كل هذا قوة لا يستهان بها إذا ما استيقظوا من سباتهم وغفلتهم وانخداعهم بمن حولهم.
فكثير من أهل السنة لا يدري من معه ومن عليه، ومن عدوه ومن صديقه، وبحسن نية أو ببلاهة(1) قد يصادق من يحد له السكين في كل يوم ويحفر له القبر، ويراه وليًّا حميمًا!!.
__________
(1) السنة تعلم من يتبعها بحق الكياسة والفطنة والحكمة.(35/3)
كما أود بعد هذا العرض السريع للتفرق المذهبي في صفوف المليار مسلم أن أقول: كفى من الوهم والمخادعة حول ما يسمى محاولات تقريب هذه المذاهب وجمع شملها، ذلك أنه وإن كان توحد المسلمين هو الأمنية التي نعلق عليها الآمال - بعد الله تعالى - في رفع المذلة والمهانة عن واقعنا إلا أن هذه اللملمة ثبت فشلها في كل محاولة، فأهل كل مذهب - وخصوصًا الشيعة - لا يدعون إلى تقارب الآراء وإنما يدعون إلى تقريب أهل السنة إلى مذهبهم تصريحًا أو تلميحًا(1).
ومن هنا لا بد من إيقاظ أهل السنة الذين هم دائمًا حملة لواء الإسلام في كل زمان والمنافحين عنه والغرابين عن حياضه.
إيقاظهم بأن يحرصوا على عدم تبديد الجهود في مسألة التقريب بين السنة والشيعة، بل لا بد أن يحرصوا على بذل أقصى الجهود في التقريب بين أهل السنة أنفسهم؛ فبينهم من الاختلافات - وإن كانت فرعية - ما يستوجب جهدًا جبارًا من كل المخلصين.
ولا أدعي لنفسي أنني أول من وجه رسالة الإنذار(2) ) إلى المسلمين (أهل السنة)، ولكن حسبي أنني أريد أن تُكْشَفُ الحقيقة فيسعد بها طالبوها، وأن يتعرى الباطل فيرى الناس - حتى أتباعه - قباحة مظهره وشناعة مخبره.
__________
(1) ولقد صرح الخميني في كتابه "الحكومة الإسلامية" وهو يتحدث عن الوحدة الإسلامية أنه ينظر إليها من خلال مذهبه أي أن يتشيع الناس، ويستشهد على هذا بقول منسوب إلى فاطمة الزهراء رضي الله عنها: "طاعتنا نظامًا للملة وإمامتنا أمانًا من الفرقة" (ص35).
(2) جدير بالذكر أن غير واحد من علماء السنة المعاصرين ممن وجهوا رسالات الإنذار لأهل السنة ظلوا دهرًا طويلاً ينادون بالتقريب، حتى حصلت لهم مواقف شخصية مع الشيعة فعرفوا حقيقتهم، على حد قول القائل: "من ذاق عرف"، "وليس راء كمن سمع"، ومن أشهر هؤلاء الدكتور/ مصطفى السباعي، والعلامة رشيد رضا ، والدكتور/ عبد المنعم النمر.. وغيرهم.(35/4)
وفي هذا البحث حاولت أن أوجه رسالة الإنذار لسد ثغرة خطيرة، وهي ثغرة الخيانة والغدر التي دائمًا تكون السبب في هزيمة الأمة الإسلامية وانتكاسها؛ فحاولت استقصاء طرف من خيانات الشيعة في القديم والحديث؛ لعل القارئ الكريم يدرك معي بعض الحقائق الغائبة وراء الأحداث العجيبة التي تحدث، كالذي سمعناه وسمعه العالم كله عن المقاومة العنيفة في بغداد وصمود أهلها واستعصائها على القوات الأمريكية والبريطانية، وما هي إلا ليلة يسفر صبحها عن سقوط بغداد واختفاء الجيش العراقي كأن لم يكن له أثر، وبعدها بأيام يشكل لصوص الحرية - الأمريكان - حكومة، ويأتي من يرأسها على دباباتهم ووسط حراساتهم؛ فإذا هو شيعي، ولكن الله كان له بالمرصاد.
وكان منهجي في هذا البحث أنني لم أعول على ذكر العقائد الشيعية، ولا اختلافاتنا معهم في الأصول والفروع، أو غير ذلك، فهذه جزئيات أثرى جانب البحث فيها علماء أجلاء. فقط ذكرت بعض العقائد التي لها علاقة بمسألة الخيانة والتي تعتبر بمثابة المحرك للقوم وراء خياناتهم.
كما أنبه على أن الشيعة فرقة تفرقت عنها نحو عشرين فرقة، منها ما اندثر ومنها ما بقي إلى الآن، ومنهم المعتدلون وهم قلة، ومنهم الغلاة وهم كثرة، والشيعة الخونة الذين نقصدهم في هذا البحث هم الغلاة، أمثال الشيعة الاثنى عشرية - وهم أكثر شيعة اليوم انتشارا - والشيعة الإسماعيلية والعلويين أو النصيريين.
وقد مضيت أقلب في كتب التاريخ فهو سجل أحداث الأمة، أقتطف بعض الأمثلة على خيانات الشيعة سواء لأهل البيت أنفسهم الذين يزعمون حبهم ويعادون الناس من أجلهم، أو خياناتهم أيام التتار أو الصليبيين، أو حتى في العصر الحديث.
وأرجو الله تعالى أن ينفع بهذه الصفحات؛ فيفتح بها قلوبًا غُلْفًا وآذانًا صُمًا وأعيُنًا عُمْيًا، وأن يجعل هذا العمل المتواضع القاصر خالصًا لوجه الله الكريم سبحانه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم(35/5)
كتبه الفقير إلى عفو الرحمن
عماد علي عبد السميع حسين
غفر الله له ولوالديه والمسلمين
المبحث الأول
عقائد وراء خيانات الشيعة
لا أريد في هذا الفصل أن أسرد عقائد الشيعة في الإمامة، أو في سب الصحابة، أو في القرآن الكريم.. أو غير ذلك، لأن هذه العقائد مفصلة في أبحاث كثيرة، ركزت على الجانب العقدي عند الشيعة، وإنما أريد هنا ذكر بعض العقائد التي تتعلق بجانب الخيانة، وأصبح جليًّا أن هذه العقائد كانت بمثابة المحرك للشيعة في كل خياناتهم، ولا شك في أن أعمال الإنسان التي تصدر منه نتيجة اعتقاد انطوى عليه قلبه تصبح لديه بمثابة الدين الذي يدين به ويتعبد، ومن ثَم يكون شديد التمسك بها متفان في تنفيذها.
ومن هنا سترى - فيما يلي - أن خيانات الشيعة لأهل السنة يَعُدُّونَها من الدين، بل من القربات التي ترضي الله تعالى.
1) كفر من لا يؤمن بولاية الأئمة الاثنى عشر:
لقد نصت كتب الشيعة ومراجعهم على أن الإمامة أصل من أصول الدين، وأن من أنكرها أو أنكر أحد الأئمة فهو كافر.
وقد نقل صاحب كتاب حقيقة الشيعة طرفًا من أقوال أئمة الشيعة في تقرير هذا الاعتقاد، أسوق لك بعضه:
يقول رئيس محدثيهم محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق في رسالة الاعتقادات (ص103 - ط مركز نشر الكتاب - إيران 1370) ما نصه:".. واعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من بعده - عليهم السلام - أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء، واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحدًا ممن بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله"، وينقل حديثًا منسوبًا إلى الإمام الصادق أنه قال: "المنكر لآخرنا كالمنكر لأولنا".(35/6)
وينسب أيضًا إلى النبي - صلى الله عليه وآله - أنه قال: "الأئمة من بعدي اثنا عشر؛ أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وآخرهم القائم، طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي، من أنكر واحدًا منهم فقد أنكرني".
"وأقوال الصدوق هذه وأحاديثه نقلها عنه علامتهم محمد باقر المجلسي في بحار الأنوار 27/61 - 62"(1).
ويقول علامتهم على الإطلاق جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي.. في كتابه الألفين في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص13 ط3 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت 1982: "الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من نبي حي، بخلاف الإمام لما سيأتي. وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص، وإلى هذا أشار الصادق عليه السلام بقوله عن منكر الإمامة أصلاً ورأسًا وهو شرهم".
ويقول شيخهم ومحدثهم يوسف البحراني في موسوعته المعتمدة عند الشيعة: "الحدائق الناضرة في أحكام العزة الطاهرة 18/153 دار الأضواء - بيروت - لبنان": "وليت شعري أي فرق بين من كفر بالله سبحانه وتعالى ورسوله، وبين من كفر بالأئمة عليهم السلام مع ثبوت كون الإمامة من أصول الدين".
ويقول الملا محمد باقر المجلسي والذي يلقبونه بالعلم العلامة الحجة فخر الأمة في بحار الأنوار 23/390: "اعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام وفضَّل عليهم غيرهم يدل أنهم مخلدون في النار".
ويقول شيخهم محمد حسن النجفي في جواهر الكلام 6/62 ط دار إحياء التراث العربي - بيروت: "والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا.. كالمحكي عن الفاضل محمد صالح في شرح أصول الكافي بل والشريف القاضي نور الله في إحقاق الحق من الحكم بكفر منكري الولاية لأنها أصل من أصول الدين".
__________
(1) عبد الله الموصلي: حقيقة الشيعة (ص 36) ط دار الإيمان الإسكندرية الطبعة الثانية 2002.(35/7)
" هذا ونقل شيخهم محسن الطباطبائي الملقب بالحكيم كفر من خالفهم بلا خلاف بينهم في كتابه مستمسك العروة الوثقى 1/392 ط3 مطبعة الآداب - النجف 1970" (1).
ويقول آية الله الشيخ عبد الله الماقاني الملقب عندهم بالعلامة الثاني في تنقيح المقال (1/208 باب الفوائد - ط النجف 1952): "وغاية ما يستفاد من الأخبار جريان حكم الكافر والمشرك في الآخرة على من لم يكن اثنى عشري"(2).
وقال آيتهم العظمى ومرجعهم أبو القاسم الخوئي في كتابه مصباح الفقاهة في المعاملات (2/11 ط دار الهادي - بيروت):"..بل لا شبهة في كفرهم - أي المخالفين - لأن إنكار الولاية والأئمة حتى الواحد منهم والاعتقاد بخلافة غيرهم وبالعقائد الخرافية كالجبر ونحوه يوجب الكفر والزندقة وتدل عليه الأخبار المتواترة الظاهرة في كفر منكر الولاية.. أنه لا أخوة ولا عصمة بيننا وبين المخالفين".
ويقول شيخهم محمد حسن النجفي وهو يعلن بصراحة عداء الشيعة الشديد لأهل السنة، وذلك في موسوعته الفقهية المتداولة بين الشيعة "جواهر الكلام في شرائع الإسلام" 22/62: "ومعلوم أن الله تعالى عقد الأخوة بين المؤمنين بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، دون غيرهم، وكيف يُتَصَوَّر الأخوة بين المؤمن وبين المخالف بعد تواتر الروايات وتضافر الآيات في وجوب معاداتهم والبراءة منهم"(3).
__________
(1) حقيقة الشيعة (ص37، 38) بتصريف يسير.
(2) المرجع السابق (ص38).
(3) حقيقة الشيعة (ص 41، 42، 43).(35/8)
ويقول علامتهم السيد عبد الله شبر الذي يلقب عندهم بالسيد الأعظم والعماد الأقوم علامة العلماء وتاج الفقهاء رئيس الملة والدين، جامع المعقول والمنقول، مهذب الفروع والأصول، في كتابه "حق اليقين في معرفة أصول الدين" (2/188 - طبع بيروت): "وأما سائر المخالفين ممن لم ينصب ولم يعاند ولم يتعصب فالذي عليه جملة من الأئمة كالسيد المرتضى أنهم كفار في الدنيا والآخرة والذي عليه الأكثر الأشهر أنهم كفار مخلدون في النار في الآخرة"(1).
ومن هذه الأقوال السابقة ترى أن اعتقاد الشيعة بكفر أهل السنة هو الذي يبرر لهم عداءهم وخياناتهم لأهل السنة واستباحة دمائهم وأموالهم كما سيأتي.
2) اعتقاد الشيعة بأن أهل السنة أعداء لأهل البيت:
ومن أخطر الاعتقادات التي تؤجج نار الخيانة في قلوب الشيعة اعتقادهم بأن أهل السنة أعداء لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يكرهونهم ويبغضونهم وينتقصونهم، فأهل السنة هم الأعداء بل ألد الأعداء، ولذلك يسمونهم النواصب أي الذين ينصبون العداء لأهل البيت!
وهاك بعض أقوال شيوخهم ومحدثيهم وفقهائهم التي تبين لهم أن العدو الحقيقي لهم هم أهل السنة لا غير:
يقول شيخهم وعالمهم ومحققهم ومدققهم حسين بن الشيخ محمد آل عصفور الدرازي البحراني الشيعي في كتابه "المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية" (ص147 طبع بيروت): "بل أخبارهم عليهم السلام تنادي بأن الناصب هو ما يقال له عندهم سُنيًّا.. ولا كلام في أن المراد بالناصبة هم أهل التسنن".
ويقول الشيخ الشيعي علي آل محسن في كتابه "كشف الحقائق" - ط دار الصفوة - بيروت (ص249): "وأما النواصب من علماء أهل السنة فكثيرون أيضًا منهم ابن تيمية وابن كثير الدمشقي وابن الجوزي وشمس الدين الذهبي وابن حزم الأندلسي وغيرهم"(2).
__________
(1) المرجع السابق (ص 42).
(2) حقيقة الشيعة (ص46).(35/9)
وذكر العلامة الشيعي محسن المعلم في كتابه (النصب والنواصب) ط دار الهادي - بيروت في الباب الخامس، الفصل الثالث (ص259) تحت عنوان: "النواصب في العباد أكثر من مائتي ناصب - على حد زعمه - وذكر منهم: "عمر بن الخطاب، وأبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأم المؤمنين عائشة، وأنس بن مالك، وحسان بن ثابت، والزبير بن العوام، وسعيد بن المسيب، وسعد بن أبي الوقاص، وطلحة بن عبيد الله، والإمام الأوزاعي، والإمام مالك، وأبو موسى الأشعري، وعروة بن الزبير، والإمام الذهبي، والإمام البخاري، والزهري، والمغيرة بن شعبة، وأبو بكر الباقلاني، والشيخ حامد الفقي رئيس أنصار السنة المحمدية في مصر، ومحمد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، ومحمود شكري الآلوسي.. وغيرهم كثير".
فلا أدري من بقي من أهل السنة لم يدخله الشيعة في عداد الأعداء النواصب.
ويقول الدكتور الشيعي/محمد التيجاني(1) في كتابه "الشيعة هم أهل السنة" ط مؤسسة الفجر في لندن وبيروت ص79: "وبما أن أهل الحديث هم أنفسهم أهل السنة والجماعة فثبت بالدليل الذي لا ريب فيه أن السنة المقصودة عندهم هي بغض علي بن أبي طالب ولعنه، والبراءة منه فهي النصب".
ويقول في صفحة 161: "وغني عن التعريف أن مذهب النواصب هو مذهب أهل السنة والجماعة".
ويقول في صفحة 163: "وبعد هذا العرض يتبين لنا بوضوح بأن النواصب الذين عادوا عليًّا عليه السلام وحاربوا أهل البيت عليهم السلام هم الذين سموا أنفسهم بأهل السنة والجماعة".
ويقول في صفحة 295: "وإذا شئنا التوسع في البحث لقلنا بأن أهل السنة والجماعة هم الذين حاربوا أهل البيت النبوي بقيادة الأمويين والعباسيين".
__________
(1) أو الجاني كما سماه الشيخ/ عثمان محمد الخميس.(35/10)
عقد التيجاني في نفس الكتاب فصلاً بعنوان: "عداوة أهل السنة لأهل البيت تكشف عن هويتهم" وقال في صفحة 159 منه: "إن الباحث يقف مبهوتًا عندما تصدمه حقيقة أهل السنة والجماعة ويعرف بأنهم كانوا أعداء العترة الطاهرة يقتدون بمن حاربهم ولعنهم وعمل على قتلهم ومحو آثارهم".
ثم يقول في صفحة 164: "تمعن في خفايا هذا الفصل فإنك ستعرف خفايا أهل السنة والجماعة إلى أي مدى وصل بهم الحقد على عترة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتركوا شيئًا إلا وحرفوه".
ويقول في صفحة 299: "وبعد نظرة وجيزة إلى عقائد أهل السنة والجماعة وإلى كتبهم وإلى سلوكهم التاريخي تجاه أهل البيت؛ تدرك بدون غموض أنهم اختاروا الجانب المعاكس والمعادي لأهل البيت عليهم السلام، وأنهم أشهروا سيوفهم لقتالهم وسخروا أقلامهم لانتقاصهم والنيل منهم ولرفع شأن أعدائهم"(1).
وهذا غيض من فيض من الأقوال التي تبين اعتقاد الشيعة في عداء أهل السنة لآل البيت، ولسنا هنا في معرض الدفاع لنبين أن أهل السنة لا يبغضون أهل البيت، وإنما يبغضون الذين يبغضون ويسيئون إلى آل بيت رسول الله، ويتقولون عليهم، وينسبون إليهم الكذب.
وسترى فيما سنعرض بعد خيانات الشيعة بناء على هذا الاعتقاد؛ كلما خان الشيعي خيانة أو دبر مكيدة لأهل السنة فإنه يعتبر ذلك من حسناته وصالح عمله؛ لأنه ينتصر لآل البيت من مبغضيهم وأعدائهم.
3) اعتقاد الشيعة في حل دماء أموال أهل السنة ونجاستهم:
إن الدماء وقتل الأنفس من أهم القضايا التي عالجتها الشريعة الإسلامية بحكمة وشمول، وبينت حرمة الدم خصوصًا إذا كان هذا الدم سيُراق عن طريق الغدر حتى ولو كان هذا الدم دم كافر بالله - عز وجل -، قال صلى الله عليه وسلم: "من أمن كافرًا على دمه ثم غدر به فأنا من القاتل بريء ولو كان مسلما"(2).
__________
(1) انظر هذه الأقوال في كتاب حقيقة الشيعة (ص48- 50).
(2) الحديث رواه.(35/11)
ولكن برغم هذا فإن الشيعة يستحلون دماء وأموال أهل السنة، ويفتي علماؤهم بذلك، روى شيخهم محمد بن علي بن بابويه القمي والملقب عندهم بالصدوق وبرئيس المحدثين في كتابه "علل الشرئع" (ص601 طبع النجف) عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في قتل الناصب - أي السني-؟ قال: "حلال الدم، ولكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطًا أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل، قلت فما ترى في ماله؟ قال: توه ما قدرت عليه".
وقد ذكر هذه الرواية الخبيثة شيخهم الحر العاملي في وسائل الشيعة (18/463) والسيد نعمة الله الجزائري في الأنوار النعمانية (2/307) إذ قال: "جواز قتلهم - أي النواصب - واستباحة أموالهم"(1).
وأما إباحة أموال أهل السنة فيروي محدثوا الشيعة وشيوخهم عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "خذ مال الناصب حيث ما وجدته وادفع إلينا الخمس"، أخرج هذه الرواية شيخ طائفتهم أبو جعفر الطوسي في تهذيب الأحكام(4/122) والفيض الكاشاني في الوافي (6/43 ط دار الكتب الإسلامية بطهران)، ونقل هذا الخبر شيخهم الدرازي البحراني في المحاسن النفسانية (ص167)، ووصفه بأنه مستفيض، وبمضمون هذا الخبر أفتى مرجعهم الكبير روح الله الخميني في تحرير الوسيلة(1/352) بقوله: "والأقوى إلحاق النواصب بأهل الحرب في إباحة ما اُغْتُنِم منهم وتعلق الخمس به، بل الظاهر جواز أخذ ماله أين وجد وبأي نحو كان ووجوب إخراج خمسه".
ونقل هذه الرواية أيضًا محسن المعلم في كتابه (النصب والنواصب) - ط دار الهادي - بيروت (ص615) يستدل بها على جواز أخذ مال أهل السنة لأنهم نواصب في نظره(2).
__________
(1) حقيقة الشيعة (ص53).
(2) حقيقة الشيعة (ص59).(35/12)
ويقول فقيههم الشيخ يوسف البحراني في كتابه الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة (12/323، 324) ما نصه: "إن إطلاق المسلم على الناصب وأنه لا يجوز أخذ ماله من حيث الإسلام خلاف ما عليه الطائفة المحقة سلفًا وخلفًا من الحكم بكفر الناصب ونجاسته وجواز أخذ ماله بل قتله".
ويقول البحراني - أيضًا - في موضع آخر (10 - 360): "وإلى هذا القول ذهب أبو صلاح وابن إدريس وسلار، وهو الحق الظاهر من الأخبار لاستفاضتها وتكاثرها بكفر المخالف ونصبه وشركه وحل ماله ودمه كما بسطنا عليه الكلام بما لا يحوم حوله شبهة النقض والإبرام في كتاب الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب عليه من المطالب"(1).
وأما عن نجاسة أهل السنة في اعتقاد الشيعة فيقول مرجعهم المرزا حسن الحائري الإحقاقي في كتابه أحكام الشيعة (1/137 مكتبة جعفر الصادق - الكويت): "النجاسات: وهي اثنا عشر، وعد الكفار منها، ثم عد النواصب من أقسام الكفار".
ويقول شيخهم نعمة الله الجزائري في كتاب الأنوار النعمانية (2/306 ط الأعلمي - بيروت): "وأما الناصب وأحواله، فهو يتم ببيان أمرين: الأول: في بيان معنى الناصب الذي ورد في الأخبار أنه نجس، وأنه أشر من اليهودي والنصراني والمجوسي، وأنه نجس بإجماع علماء الإمامية رضوان الله عليهم"(2).
__________
(1) المرجع السابق (ص60).
(2) حقيقة الشيعة (ص64- 56) بتصرف يسير.(35/13)
وبناء على هذه الروايات الخبيثة التي كونت اعتقاد الشيعة في كفر أهل السنة واستباحة دمائهم وأموالهم، والحكم بنجاستهم سترى العجب - فيما بعد - حينما نقلب صفحات التاريخ نفتش عن خيانات الشيعة، فالشيعي الذي يقرأ في عقائده وأحكامه أنه مأمور بقتل السني ولكن يستحسن أن يغرقه في الماء أو يقلب عليه حائطًا حتى لا يدع دليلاً يشهد به عليه كما يقول فقهاؤهم - إذا وجد فرصة يتحالف فيها ولو مع الشيطان لقتل النواصب (أهل السنة) فإنه سيراها فرصة ذهبية ولن يتوانى، فلا بأس أن يتحالف مع شياطين التتار أو شياطين الصليبيين أو شياطين الأمريكان والإنجليز.
4) اعتقاد الشيعة في حرمة الجهاد قبل ظهور المهدي:
وهذا الاعتقاد الخطير هو الذي يزيد موقف الشيعة وضوحًا عندما تحل الكوارث بالأمة الإسلامية وتراهم يقفون موقف المتفرج، ثم المتحالف مع الأعداء ليأمن الشيعة من ناحية، ولينكلوا بالسنة من ناحية أخرى.
ولم يسجل التاريخ للشيعة جهادًا ضد الكفار، إلا أن يكون ضد أهل السنة عن طريق الخيانات التي يفعلونها في القديم والحديث.
وتزخر كتب الشيعة بالعديد من المرويات التي تبني هذا الاعتقاد عندهم، ومن ذلك: روى ثقتهم في الحديث محمد بن يعقوب الكليني في الكافي (8/295) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كل راية ترفع قبل قيام القائم - أي الإمام الثاني عشر - فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل"، وذكر هذه الرواية شيخهم الحر العاملي في وسائل الشيعة (11/37).
وروى محدثهم الطبرسي في مستدرك الوسائل (2/248 ط دار الكتب الإسلامية بطهران) عن أبي جعفر عليه السلام قال: "مَثَلُ من خرج منا أهل البيت قبل قيام القائم عليه السلام مثل فرخ طار ووقع من وكره فتلاعب به الصبيان".(35/14)
وفي الصحيفة السجادية الكاملة (ص 16 ط د الحوراء - بيروت) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما خرج ولا يخرج منا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلمًا أو ينعش حقًا إلا اصطلته البلية وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا"(1).
بل إنهم يذمون أهل السنة لأنهم يجاهدون، روى الملا محسن الملقب بالكاشاني في الوافي (9/15) والحر في وسائل الشيعة (11/21) ومحمد حسن النجفي في جواهر الكلام (21/40): عن عبد الله بن سنان قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك ما تقول في هؤلاء الذين يقتلون في هذه الثغور؟ قال فقال: الويل؛ يتعجلون قتلة في الدنيا وقتلة في الآخرة، والله ما الشهيد إلا شيعتنا ولو ماتوا على فرشهم"(2).
المبحث الثاني
خيانات الشيعة لآل البيت
إن الخائن لا يلوي على شيء، ولا يفرق مع من يكون خائنًا، ومع من يكون أمينًا، فإن الخيانة داء إذا خالط دماء الإنسان فإنه يجعله خائنًا ولو مع أقرب الناس إليه.
والشيعة الذين غالوا في حب آل البيت وعلى رأسهم علي بن أبي طالب ثبتت خيانتهم لهم منذ اللحظات الأولى لظهور التشيع إبَّان الفتن التي ثارت ثائرتها بين الصحابيين الجليلين علي ومعاوية رضوان الله عليهما.
خيانتهم لعلي بن أبي طالب:
فقد كان أكثر شيعة(3) علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أهل العراق وعلى وجه الخصوص أهل الكوفة والبصرة، وعندما عزم علي على الخروج بهم إلى أهل الشام بعد القضاء على فتنة الخوارج خذلوه، وكانوا وعدوه بنصرته والخروج معه، ولكنهم تخاذلوا عنه وقالوا:
__________
(1) حقيقة الشيعة (ص 170).
(2) المرجع السابق (ص 172).
(3) لا نستطيع أن نقول إن شيعة علي في هذا الوقت كانوا كلهم غلاة، بل كان فيهم أفاضل أخيار، ولكن لا ننسى أنه كان بينهم السبأمة أتباع عبد الله بن سبأ الذي غالى في علي حتى ألهه وعكف على إشعال الثورة والفتنة، واتخذ من حبه لآل البيت النبوي ستارًا ينفذ منه لبث سمومه اليهودية لعنه الله.(35/15)
"يا أمير المؤمنين لقد نفدت نبالنا وكلَّت سيوفنا، ونصلت أسنة رماحنا فارجع بنا فلنستعد بأحسن عدتنا... فأدرك علي أن عزائمهم هي التي كلت ووهنت وليس سيوفهم، فقد بدأوا يتسللون من معسكره عائدين إلى بيوتهم دون علمه، حتى أصبح المعسكر خاليًا، فلما رأى ذلك دخل الكوفة وانكسر عليه رأيه في المسير"(1).
"وأدرك الإمام علي أن هؤلاء القوم لا يمكن أن تنتصر بهم قضية مهما كانت عادلة ولم يستطع أن يكتم هذا الضيق فقال لهم: ما أنتم إلا أسود الشرى في الدعة وثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس وما أنتم لي بثقة... وما أنتم بركب يصال بكم، ولا ذي عز يعتصم إليه، لعمر الله لبئس حشاش الحرب أنتم، إنكم تكادون ولا تكيدون وتنتقص أطرافكم ولا تتحاشون.."(2).
والعجيب أن شيعة علي من أهل العراق لم يتقاعسوا عن المسير معه لحرب الشام فقط، وإنما جبنوا وتثاقلوا عن الدفاع عن بلادهم، فقد هاجمت جيوش معاوية عين التمر وغيرها من أطراف العراق، فلم يذعنوا لأمر علي بالنهوض للدفاع عنها حتى قال لهم أمير المؤمنين علي:
"يا أهل الكوفة كلما سمعتم بمنسر(3) من مناسر أهل الشام انجحر كل امرئ منكم في بيته وأغلق بابه انجحار الضب في جحره والضبع في وجارها، المغرور من عررنمون ولمن فازكم فاز بالسهم الأخيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاء، إنا لله وإنا إليه راجعون"(4).
خيانتهم للحسن بن علي:
__________
(1) انظر تاريخ الطبري: تاريخ الأمم والملوك (5/89، 90) - وابن الأثير: الكامل في التاريخ (3/ 349).
(2) انظر تاريخ الطبري (5/90)، العالم الإسلامي في العصر الأموي (ص91).
(3) المنسر هي القطعة من الجيش تكون أمامه.
(4) انظر تاريخ الطبير ( 5/135) والعالم الإسلامي في العصر الأموي (ص96).(35/16)
ولما قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبويع ابنه الحسن رضي الله عنه بالخلافة لم يكن يؤمن بجدوى حرب معاوية وخصوصًا أن شيعته خذلوا أباه من قبل، ولكن عاد شيعتهم من أهل العراق يطالبون الحسن بالخروج لقتال معاوية وأهل الشام فأظهر الحسن حنكة كبيرة دلت على سعة أفقه، فهو لم يشأ أن يواجه أهل العراق من البداية بميله إلى مصالحة معاوية وتسليم الأمر له حقنًا لدماء المسلمين، لأنه يعرف خفة أهل العراق وتهورهم، فأراد أن يقيم من مسلكهم الدليل على صدق نظرته فيهم، وعلى سلامة ما اتجه إليه، فوافقهم على المسير لحرب معاوية وعبأ جيشه وبعث قيس بن عبادة في مقدمته على رأس اثني عشر ألفا، وسار هو خلفه فلما وصلت تلك الأخبار إلى معاوية وتحرك هو أيضًا بجيشه ونزل مسكن، وبينما الحسن في المدائن إذ نادى منادي من أهل العراق أن قيسًا قد قتل، فسرت الفوضى في الجيش وعات إلى أهل العراق طبيعتهم في عدم الثبات، فاعتدوا على سرادق الحسن ونهبوا متاعه حتى أنهم نازعوه بساطًا كان تحته، وطعنوه وجرحوه.. وهنا فكر أحد شيعة العراق وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي في أمر خطير وهو أن يُوثق الحسن بن علي ويسلمه طمعًا في الغنى والشرف، فقد جاء عمه سعد بن مسعود الثقفي(1) وكان وليًّا على المدائن من قبل علي، فقال له: هل لك في الغنى والشرف؟ قال: وما ذاك؟ قال: توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية، فقال له عمه: عليك لعنة الله، أثب على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوثقه بئس الرجل أنت(2).
__________
(1) هذا هو المختار بين أبي عبيد الثقفي الذي خرج على الدولة الأموية وادعى أنه من شيعة آل البيت وجعل يطالب بدم الحسين، وما كان ذلك منه إلا نفاقًا وستارًا يخفي خلفه مطامعه الشخصية في الملك.
(2) أنظر تاريخ الطبري (5/159)، العالم الإسلامي في العصر الأموي (ص101).(35/17)
بل إن الحسن رضي الله عنه كان يقول: "أرى معاوية خيرًا لي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي وأخذوا مالي والله لأن آخذ من معاوية ما أحقن به دمي في أهلي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني؛ فيضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوا بي إليه سلما، والله لأن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير"(1).
خيانتهم للحسين بن علي:
بعد وفاة معاوية رضي الله عنه سنة 60هـ توالت رسائل ورسل أهل العراق على الحسين بن علي رضي الله عنهما تفيض حماسة وعطفًا وقالوا له: إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة(2) مع الوالي فأقدم علينا(3).
وتحت إلحاحهم قرر الحسين إرسال ابن عمه مسلم بن عقيل ليستطلع الموقف فخرج مسلم في شوال سنة 60هـ.
وما أن علم بوصوله أهل العراق حتى جاءوه فأخذ منهم البيعة للحسين، فقيل بايعه اثني عشر ألفا، ثم أرسل إلى الحسين ببيعة أهل الكوفة وأن الأمر على ما يرام(4).
__________
(1) انظر الاحتجاج للطبرسي (ص 148).
(2) قال الدكتور موسى الموسوي (شيعي) ( أن الأكثرية من فقهاء الشيعة اجتهدوا أمام النص الصريح وقالوا بالخيار بين صلاة ظهر الجمعة، وأضافوا أن شرط إقامة الجمعة حضور الإمام الذي هو المهدي، ففي عصر غيبة الأئمة تسقط الجمعة من الوجوب العيني، ويكون للمسلمين الخيار في الإيتان بها أو بصلاة الظهر، وقالت فئة أخرى من فقهائنا بحرمة صلاة الجمعة في غيبة الإمام ويقوم مقامها صلاة الظهر..) انظر الشيعة والتصحيح (ص127).
(3) انظر: تاريخ الطبري (5/347).
(4) المرجع السابق (5/ 348).(35/18)
وللأسف خدع الحسين رضي الله عنه بهم، وسار إليهم بعد أن حذره كثير من المقربين إليه من الخروج لما يعرفون من خيانة شيعة العراق، حتى قال له ابن عباس رضي الله عنهما: "أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوهم، فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر، وعماله تجبى بلادهم فإنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك، ويخذلوك، وأن يستنفروا إليك فيكونون أشد الناس عليك.."(1).
وبالفعل ظهر غدر شيعة أهل الكوفة برغم مراسلاتهم للحسين حتى قبل أن يصل إليهم فإن الوالي الأموي عبيد الله بن زياد لما علم بأمر مسلم بن عقيل، وما يأخذ من البيعة للحسين جاء فقتله وقتل مضيفه هانئ بن عروة المرادي، كل ذلك وشيعة الكوفة لم يتحرك لهم ساكن، بل تنكروا لوعودهم للحسين رضي الله عنه واشترى بن زياد زممهم بالأموال(2).
فلما خرج الحسين رضي الله عنه وكان في أهله وقلة من أصحابه عددهم نحو سبعين رجلاً، وبعد مراسلات وعروض(3)، تدخل ابن زياد في إفسادها دار القتال فقتل الحسين رضي الله عنه وقتل سائر أصحابه، وكان آخر كلامه قبل أن يسلم الروح: "اللهم أحكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا"(4).
__________
(1) الكامل في التاريخ (4/37).
(2) انظر المسعودي: مروج الذهب (3/67) وما بعدها، العالم الإسلامي في العصر الأموي (ص473).
(3) كان الحسين - رحمه الله - قد عرض عرضًا جيدًا قال فيه: "إما أن تدعوني فأنصرف من حيث جئت، وإما تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني بالحق فالحق باثغور" ، وهذا عين الحكمة من الحسين رضي الله عنه لحقن الدماء، ولكن الشيطان عبيد الله بن زياد رفض إلا أن يسلم الحسين نفسه أسيرًا، فرأى الحسين الموت عنده أهون من ذلك، فكان ما كان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(4) انظر: تاريخ الطبري (5/ 389).(35/19)
بل دعاؤه عليهم مشهور حيث قال قبل استشهاده: "اللهم إن متعتهم ففرقهم فرقًا واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبدًا، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا فقتلونا"(1).
أرأيت سوء صنيع القوم، وكيف كان غدرهم وخيانتهم حتى بآل البيت الذين زعموا حبهم واتخذوه ذريعة في عداءهم لكل من عادوا.
وهل بعد خيانتهم لآل البيت يستبعد خيانتهم للأمة عامة، فهم منذ اللحظات الأولى يجبنون عن الحرب ويبيعون ذممهم بالأموال، ويفكرون في الخيانة في مقابل الغنى والشرف، ولو كان الثمن هو تسليم واحد من أكابر آل البيت كما فكر المختار الثقفي أن يسلم الحسن بن علي للأمويين.
علمًا بأننا للإنصاف لا بد أن نقرر أن شيعة الصدر الأول في أيام علي والحسن والحسين رضوان الله عليهم كان من بينهم فضلاء أخيار كبعض نفر من الصحابة رضوان الله عليهم وهؤلاء نربأ بهم عن الخيانة، ومعاذ الله أن نصف أحدًا منهم بها، وإنما مواقف هؤلاء الفضلاء كانت قائمة على الاجتهاد أخطأوا أو أصابوا.
وتشيَّع أكثر الناس يومئذ يدور في فلك الحب لعلي رضي الله عنه وآل بيته بناء على مرويات سمعها الناس في الوصاة بحب هذه العترة الطاهرة، ولكن لم تكن هناك مبادئ مقررة للتشيع كالتقية والرجعة وغير ذلك.. اللهم إلا أن يكون عند نفر من الغلاة الذين ترأسهم عبد الله بن سبأ وقالوا بألوهية علي رضي الله عنه، لكن بعد ذلك جدَّت أمور شكلت فكر الشيعة وجعلت تقفز به في الانحراف من ميدان إلى ميدان، وتدخلت عناصر مغرضة مجوسية ويهودية وغير ذلك وتسترت بالإسلام ثم بالتشيع، وجعلت تسعى لنقض عرى الإسلام عروة بعد عروة.
__________
(1) انظر الإرشاد (ص241). انظر إعلام الورى للطبرسي (ص 949).(35/20)
ولعل من أوفي وأعمق الدراسات الحديثة التي بينت الصلة بين التشيع وبين هذه العناصر المغرضة هي دراسة بعنوان "وجاء دور المجوس" للأستاذ عبدالله محمد الغريب، كشف فيها بالأدلة العملية زيف كثير ممن ادعوا التشيع ولعبوا بورقة حب آل البيت، ولكنهم في حقيقة أمرهم يعملون على إحياء الأفكار المجوسية وعقائدها من ذرادشتية ومانوية ومزدكية..
وغير ذلك من النحل الباطنية التي تقوم بقدم العالم وإنكار الخالق والبعث وغير ذلك من الترهات.
فمن سنعرض بعد ذلك خيانتهم من الشيعة كالإسماعيلية والاثنى عشرية والقرامطة والبويهية والفاطميين، وغير ذلك لم يكونوا في الحقيقة ينتسبون إلى آل البيت ولا حتى بصلة الحب، وإنما هم خونة أعداء للإسلام عمومًا وليس لأهل السنة فقط.
المبحث الثالث
خيانة الوزير الشيعي علي بن يقطين في عهد هارون الرشيد
وهذه واحدة من خيانات الشيعة للدولة العباسية التي أحسنت إليهم كثيرًا حتى وصل بعضهم إلى أعلى المناصب فيها كالوزارة، وصدق القائل
إن أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وخيانة علي بن يقطين نقلها رواة الشيعة أنفسهم، كالعالم الشيعي الملقب بصدر الحكماء ورئيس العلماء نعمة الله الجزائري في كتابه المعروف (الأنوار النعمانية 2/308 طبع تبريز إيران)، ومحسن المعلم في كتابه "النصب والنواصب ص622 ط دار الهادي / بيروت" ونصها: "وفي الروايات أن علي بن يقطين وهو وزير هارون الرشيد قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين، وكان من خواص الشيعة، فأمر غلمانه وهدموا سقف الحبس على المحبوسين فماتوا كلهم وكانوا خمسمائة رجل تقريبًا، فأرادوا الخلاص من تبعات دمائهم فأرسل إلى الإمام مولانا الكاظم فكتب عليه السلام إلى جواب كتابه، بأنك لو كنت تقدمت إلى قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم، وحيث إنك لم تتقدم إليَّ فَكَفِر عن كل رجل قتلته منهم بتيس والتيس خير منه"(1).
__________
(1) حقيقة الشيعة (ص55).(35/21)
وقد ذكروا هذه الرواية يستدلون بها على جواز قتل النواصب (أهل السنة) أرأيت إلى هذه الدية القيمة "تيس من المعزي، والتيس خير من الناصب"، وما كان ليكلفه دية إلا أنه قتلهم دون استصدار فتوى منه بقتلهم!!
المبحث الرابع
خليفة عباسي يتشيع وتثبت خيانته
الخلافة ليس كلمة هينة وإنما هي بمثابة صمام الأمان للأمة، وهي بمثابة الخيط الذي تنتظم فيه حبات العقد، فإذا قطع هذا الخيط انفرط عقد الأمة، وللأسف فإن بعض الخلفاء العباسيين كان قد يتحول من مذهب أهل السنة إلى مذاهب أخرى فمثلاً الخليفة المأمون الذي اعتنق مذهب المعتزلة بفعل الشيطان أحمد بن أبي دؤاد وزيره، وفعل ما فعل في امتحان الناس بمحنة خلق القرآن.
وتشيع الخليفة الناصر لدين الله بفعل بعض وزرائه الروافض قال عنه ابن كثير رحمه الله: "الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله.. العباسي.. كان قبيح السيرة في رعيته ظالمًا لهم، فخرب في أيام العراق وتفرق أهله في البلاد، وكان يفعل الشيء وضده.. وكان اعتنق المذهب الشيعي.. ويقال كان بينه وبين التتر مراسلات حتى أطمعهم في البلاد، وهذه طامة كبرى يصغر عندها كل ذنب عظيم"(1).
المبحث الخامس
الدولة الفاطمية وخياناتها في محو السنة نشر التشيع
__________
(1) البداية والنهاية (13/ 106، 107) بتصريف.(35/22)
لقد بذلت الدولة الفاطمية جهودًا خبيثة في محو السنة ونشر التشيع، وكانت خطتها المتبعة أنه في حال غياب الدولة توزع الدعاة سرًا ليقوموا بالدعوة إلى مذهب الإسماعيلية(1) الشيعي، وفي حالة أن تكون لهم دولة فإنهم يجعلون الدين الرسمي للدولة هو المذهب الشيعي.
وعندما بدأ الفاطميون دعوتهم في بلاد المغرب، وجدوا أن التشيع كان منتشرًا هناك، لأن دولة الأدارسة التي أقامها إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب سنة 172هـ هي في الأصل دولة علوية شيعية، فمن ثم أصبحت بلاد المغرب صالحة للدعوة الإسماعيلية، فانتشر التشيع واعتنقه كثير من البربر، حتى إن أكثر وزراء الأغالبة (في تونس) كانوا على المذهب الشيعي، وكان من أبرز الدعاة للفاطميين في تلك البلاد رجل يقال له أبو عبد الله الشيعي من بلاد اليمن، له من ضروب الحيل ما لا يحصى(2).
ولم يكتف أبو عبد الله الشيعي بنشر الدعوة للفاطميين في بلاد المغرب، بل أخذ يعمل على بسط نفوذهم في شمال إفريقية فوقعت في يده عدة مدن، وأعلن الفاطميون قيام دولتهم سنة 296هـ إثر انتصارهم على الأغالبة في موقعة الأربس(3).
ورأى الفاطميون بعد أن أمتد نفوذهم في بلاد المغرب، أن هذه البلاد لا تصلح لتكون مركزًا لدولتهم، ففضلاً عن ضعف مواردها كان يسودها الاضطراب من حين لآخر، لذلك اتجهت أنظارهم إلى مصر لوفرة ثرواتها وقربها من بلاد المشرق الأمر الذي يجعلها صالحة لإقامة دولة مستقلة تنافس العباسيين(4).
__________
(1) الإسماعيلية: وتسمى الإمامية الإسماعيلية، وهم الذين يقولون بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وكان أكبر أولاد أبيه جعفر. وهناك الإمامية الموسوية وهم الذين قالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق وهم الاثنى عشرية. وكلا الأماميتين خبيث.
(2) انظر: المقريزي/ اتعاظ الحنفا (ص75- 77).
(3) حسن إبراهيم/ تاريخ الدولة الفاطمية (ص50، 51).
(4) د/ جمال الدين سرور/ الدولة الفاطمية في مصر (ص59).(35/23)
وقد وجه الفاطميون أكثر من حملة للاستيلاء على مصر بدءًا من 301- وحتى 350هـ وفي سنة 358هـ عهد الخليفة الفاطمي إلى جوهر الصقلي كتابًا بالأمان وفيه: "... أن يظل المصريون على مذهبهم أي لا يلزمون بالتحول إلى المذهب الشيعي، وأن يجري الأذان والصلاة وصيام شهر رمضان وفطره والزكاة والحج والجهاد على ما ورد في كتاب الله ورسوله"(1).
ولم يكن كتاب جوهر لأهل مصر إلى مجرد مهادنة، وعندما وصل الخليفة المعز لدين الله الفاطمي إلى القاهرة في سنة 362هـ ركز اهتمامه في تحويل المصريين إلى المذهب الشيعي، واتبعت الخلافة الفاطمية في ذاك عدة طرق منها: إسناد المناصب العليا وخاصة القضاء إلى الشيعيين، واتخاذ المساجد الكبيرة مراكز للدعاية الفاطمية، كالجامع الأزهر وجامع عمرو ومسجد أحمد بن طولون( )، كذلك أمعن الشيعة الفاطميون في إظهارهم شعائرهم المخالفة لشعائر أهل السنة، الآذان بحي على خير العمل، والاحتفال بيوم العاشر من المحرم الذي قتل فيه الحسين بكربلاء(2).
وكان الفاطميون لا يقتصرون في تهييج أهل السنة على إقامة الشعائر الشيعية بل كانوا يرغمون أهل السنة ويعتدون عليهم ليشاركوهم طقوسهم.
قال المقريزي: "وفي العاشر من المحرم سنة 363هـ سار جماعة من المصريين الشيعيين والمغاربة في موكبهم ينوحون ويبكون على الحسين، وصاروا يعتدون على كل من لم يشاركهم في مظاهر الأسى والحزن مما أدى إلى تعطيل حركة الأسواق وقيام القلائل"(3).
__________
(1) المقريزي: اتعاظ الحنفا (ص148).
(2) القلقشندي / صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (3/483).
(3) المقريزي: الخطط والآثار (1/389).(35/24)
ولما آلت الخلافة إلى العزيز سنة 365هـ عني كأبيه المعز بنشر المذهب الشيعي وحتم على القضاة أن يصدروا أحكامهم وفق المذهب الشيعي كما قصر المناصب الهامة على الشيعيين، وأصبح لزامًا على الموظفين السنيين الذين تقلدوا بعض المناصب الصغيرة أن يسيروا طبقًا لأحكام المذهب الإسماعيلي، وإذا ما ثبت على أحدهم التقصير في مراعاتها عزل عن وظيفته، وكان ذلك مما دفع الكثيرين من الموظفين السنيين إلى اعتناق المذهب الفاطمي(1).
ولما قبض الحاكم بأمر الله زمام الأمور عمد إلى إصدار كثير من الأوامر والقوانين المبنية على التعصب الشديد للمذهب الفاطمي، فأمر في سنة 395هـ بنقش سب الصحابة على جدران المساجد وفي الأسواق والشوارع والدروب وصدرت الأوامر إلى العمال في البلاد المصرية بمراعاة ذلك(2).
ومن الأسماء الشيعية الشهيرة في العصر الفاطمي وزير الخليفة الفاطمي المستنصر الذي كان يسمى بدر الجمالي، وكان مغاليًا في مذهب الشيعة فأظهر روح العداء والكراهة إزاء أهل السنة فجدد ما كان من أوامر بلعن الصحابة وإضافة عبارة حي على خير العمل للآذان... وغير ذلك(3).
وبرغم ما فعلت الخلافة الفاطمية من محاولات للقضاء على أهل السنة ومذهبهم إلا أن المذهب السني ظل محتفظًا بقوته رغم تحول بعض المصريين إلى المذهب الفاطمي.
ولم يؤثر أن الخلافة الفاطمية قامت بغزو أو عمليات عسكرية ضد الفرنجة لتوطيد أركان الإسلام، بل الثابت تاريخيًّا أنهم كانوا حربًا على أهل الإسلام سلمًا على أعدائه، فهم يضيقون الخناق على أهل السنة ويجيشون الجيوش لإرغامهم على التشيع، بينما هم مع الفرنجة سلم لهم، بل يستنجدون بهم على أهل السنة وغير ذلك.
الفاطميون يمالئون الفرنجة ويكتبون إليهم:
__________
(1) المقريزي: اتعاظ الحنفا (ص198).
(2) المقريزي: الخطط والآثار (2/486).
(3) أبو المحاسن ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة (5/120) بتصرف.(35/25)
ومن خيانات الفاطميين وتواطؤهم مع الفرنجة ما ذكره المقريزي في الخطط والآثار من أن صلاح الدين الأيوبي لما تولى وزارة العاضد الفاطمي – وكان قد ولاه لصغر سنه وضعفه كما ظن به – قوى نفوذه في مصر وأخذت سلطة العاضد في الضعف، حتى ثقلت وطأة صلاح الدين على أهل القصر الفاطمي، وتجلى استبداده بأمر الدولة وإضعاف الخلافة الفاطمية، حنق عليه رجال القصر ودبروا له المكائد، وقد أتفق رأيهم على مكاتبة الفرنجة ودعوتهم إلى مصر فإذا ما خرج صلاح الدين إلى لقائهم قبضوا على من بقي من أصحابه بالقاهرة، وانضموا إلى الفرنجة في محاربتهم والقضاء عليه(1).
وفعلاً جاء الفرنجة إلى مصر وحاصروا دمياط في سنة 565هـ، وضيقوا على أهلها وقتلوا أمما كثيرة، جاءوا إليها من البر والبحر رجاء أن يملكوا الديار المصرية وخوفًا من استيلاء المسلمين على القدس، وأرسل إلى عمه نور الدين محمود بدمشق، يستنجده فأمده، وبعث صلاح الدين جيشًا بقيادة ابن أخيه وخاله شهاب الدين وأمدهما بالسلاح والذخائر، واضطروهم للبقاء في القاهرة خشية أن يقوم رجال القصر الفاطمي وجند السودان الناقمين بتدبير المؤامرات ضده(2).
وكان من فضل الله أن رد كيد الفرنجة والشيعة الفاطميين الذين كاتبوهم ففشلت هذه الحملة، وانصرف الفرنجة عن دمياط، وذلك لما تسرب إليهم من قلق من جراء ما عانوه في سبيل تموين قواتهم، وكما وقع الخلاف بين قوادهم على الخطة التي يتبعونها في مهاجمة المدينة، فضلاً عن ذلك بلغهم أن نور الدين محمود قد غزا بلادهم وهاجم حصن الكرك وغيره من نواحيهم وقتل خلقًا من رجالهم، وسبي كثيرًا من نسائهم وأطفالهم وغنم من أموالهم(3).
__________
(1) المقريزي: الخطط والآثار (2/2).
(2) انظر ابن كثير: البداية والنهاية (12: 260).
(3) البداية والنهاية (12/260)، حسن الحبشي/ نور الدين والصليبيون (ص147) وما بعدها.(35/26)
وهكذا دائمًا في كل خيانة يحدثونها يجعلون الأمة الإسلامية بين شقي الرحى، بين عدو خارجي وعدو داخلي، فاللهم انتقم من الخونة ولو كانوا من أهل السنة.
ومن خيانات الفاطميين:
أنه لما ضعفت دولتهم في أيام العاضد وصارت الأمور إلى الوزراء، وتنافس شاور وضرغام، فكر شاور في أن يثبت ملكه ويقوي نفوذه، فاستعان بنور الدين محمود؛ فأعانه ولما خلا له الجو لم يف له بما وعد، بل أرسل إلى أملريك ملك الفرنجة في بيت المقدس يستمده، ويخوفه من نور الدين محمود إن ملك الديار المصرية، فسارع إلى إجابة طلبه، وأرسل له حملة أرغمت نور الدين على العودة بجيشه إلى الشام، ولكن سرعان ما عاود نور الدين المحاولة في عام 562 هـ، فاستنجد شاور بالفرنجة مرة ثانية وكاتبهم، وجاءت جيوشهم خشية أن يستولي نور الدين على مصر ويضمها إلى بلاد الشام فيهدد مركزهم في بيت المقدس.
ولما وصلت عساكر الفرنجة إلى مصر انضمت جيوش شاور والمصريين إليها والتقت بجيوش نور الدين بمكان يعرف بالبابين (قرب إلمنيا) فكان النصر حليف عسكر نور الدين محمود، ثم سار بعدها إلى الإسكندرية، وكانت الجيوش الصليبية تحاصرها من البحر وجيوش شارو وفرنجة بيت المقدس من البر، ولم يكن لدى صلاح الدين - القائد من قبل نور الدين - من الجند ما يمكنه من رفع الحصار عنها، فاستنجد بأسد الدين شيركوه فسارع إلى نجدته، ولم يلبث الفرنجة وشيعة شاور إلى أن طلبوا الصلح من صلاح الدين فأجابهم إليه شريطة ألا يقيم الفرنجة في البلاد المصرية.(35/27)
غير أن الفرنجة لم تغادر مصر عملاً بهذا الصلح بل عقدت مع شاور معاهدة كان من أهم شروطها كما يقول ابن واصل: "أن يكون لهم بالقاهرة شحنة صليبية - أي حامية - وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين محمود عن إنفاذ عسكره إليهم. وكما اتفق الطرفان على أن يكون للصليبيين مائة ألف دينار سنويًّا من دخل مصر"(1).
وما أن ذهب الفرنجة في هذا العام حتى عادوا مرة أخرى عام 564هـ.
قال ابن كثير فيها: "طغت الفرنج بالديار المصرية وذلك أنهم جعلوا شاور شحنة لهم بها، وتحكموا في أموالها ومساكنها أفواجًا أفواجًا، ولم يبق شيء من أن يستحوذوا عليها ويخرجوا منها أهلها من المسلمين وقد سكنها أكثر شجعانهم فلما سمع الفرنج بذلك أتوا من كل فج وناحية في صحبة ملك عسقلان في جحافل هائلة، فأول ما أخذوا مدينة بلبيس وقتلوا من أهلها خلقًا وأسروا آخرين ونزلوا بها وتركوا أثقالهم موئلاً لهم، ثم تحركوا نحو القاهرة.. فأمر الوزير شاور رجاله بإشعال النار فيها على أن يخرج منها أهلها؛ فهلكت للناس أموال كثيرة، وأنفس، وشاعت الفوضى، واستمرت النيران أربعة وخمسين يومًا، عندئذ بعث العاضد الفاطمي إلى نور الدين بشعور نسائه يقول: أدركني واستنقذ نسائي من الفرنج، والتزم له بثلث خراج مصر، فشرع نور الدين في تجهيز الجيوش لتسييرها إلى مصر، فلما أحس شاور بوصول جيوش نور الدين، أرسل إلى ملك الفرنج يقول: قد عرفت محبتي ومودتي لكم، ولكن العاضد لا يوافقني على تسليم البلد، فاعتذر لهم وصالحهم على ألف ألف دينار وعجل لهم من ذلك ثمانمائة ألف ليرجعوا؛ فانتشروا راجعين خوفًا من عساكر نور الدين وطمعًا في العودة إليها مرة أخرى، وشرع شاور في مطالبة الناس بالذهب الذي صالح به الفرنج وتحصيله وضيق على الناس..."(2).
__________
(1) ابن واصل/ مفرج الكروب بني في أخبار بني أيوب (ص152).
(2) البداية والنهاية 12/255.(35/28)
أفرأيت كل هذه المحن التي جلبتها خيانات الرافضة الخبيثة، تستدعي الفرنجة وتقيم لها حاميات، وتنهب أموال البلاد وخيراتها، وتفتك بأعراضها، وتحرق وتدمر وتخرب، وتشترط لنفسها جزء من دخل البلاد.
أليس هذا يشبه إلى حد كبير خياناتهم في العراق، في المرة الأخيرة، كاتبوا الأمريكيين، قاتلوا في صفوفهم، أقاموا قواعدهم، قووا مراكزهم، ونهبوا خيرات البلاد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم انتقم من الخونة ولو كانوا من أهل السنة.
ومن خيانات الفاطميين:
ما حدث في سنة 562هـ لما أقبلت جحافل الفرنج إلى الديار المصرية وبلغ ذلك أسد الدين شيركوه فاستأذن الملك نور الدين محمود في الذهاب إليها - وكان كثير الحنق على الوزير شاور الفاطمي - فأذن له فسار ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب..
ولما بلغ الوزير شاور قدوم أسد الدين والجيش معه بعث إلى الفرنج فجاؤا من كل فج إليه، وبلغ أسد الدين ذلك من شأنهم وأن معهم ألف فارس، فاستشار من معه من الأمراء فكلهم أشار عليه بالرجوع إلى نور الدين إلا أميرًا واحدًا يقال له شرف الدين برغش فإنه قال من خاف القتل والأسر فليقعد في بيته عند زوجته، ومن أكل أموال الناس فلا يسلم بلادهم على العدو، وقال مثل ذلك ابن أخيه صلاح الدين، فعزم الله لهم فساروا نحو الفرنج فاقتتلوا قتالاً عظيمًا، فقتلوا من الفرنج مقتلة عظيمة وهزموهم.. ولله الحمد(1).
التعاون مع الفرنجة لانتزاع الإسكندرية من يد صلاح الدين:
__________
(1) البداية والنهاية (12/252).(35/29)
إن أسد الدين شيركوه لما كان قد أظفره الله بالفرنجة في الوقعة السابقة بمصر برغم خيانة الخونة، رأى أن يفتح الإسكندرية، ففتحها واستناب عليها ابن أخيه صلاح الدين، ثم توجه إلى الصعيد فملكه، وعندئذ اتفق الفاطميون مع الفرنجة على حصار الإسكندرية لانتزاعها من يد صلاح الدين في أثناء غياب أسد الدين شيركوه، فامتنع فيها صلاح الدين أشد الامتناع، ولكن ضاقت عليهم الأقوات والحال جدًّا فسار إليهم أسد الدين شيركوه فصالحه الوزير شاور عن الإسكندرية بخمسين ألف دينار، فأجابه إلى ذلك وخرج منها وسلمها للمصريين ثم عاد إلى الشام، وقرر شاور للفرنجة على مصر في كل سنة مائة ألف دينار وأن يكون لهم شحنة بالقاهرة(1).
خيانة الطواشي مؤتمن الخلافة الفاطمية بمصر:
لما كانت الفرنجة قد طغت بالديار المصرية عندما جعل لهم الوزير الفاطمي شاور شحنة بالقاهرة، وتحكموا في البلاد والعباد، حتى استنجد الخليفة الفاطمي العاضد بنور الدين محمود أن ينقذه ونساءه من أيدي الفرنجة - وكان الفاطميون هم الدين مكنوا لهم(2) - وكاتب شاور الفرنجة وصالحهم على مال جزيل، ثم جاءت جيوش نور الدين بقيادة أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين واستقر لهم ملك الديار المصرية.
__________
(1) البداية والنهاية (12/252، 253).
(2) وهنا يصدق فيهم قول القائل "كم من كلب عض يد صاحبه" و " إن الله لينتقم بالظالم من الظالم ثم يهلكهم جميعًا".(35/30)
وهنا قام الطواشي مؤتمن الخلافة الفاطمية بالكتابة من دار الخلافة بمصر إلى الفرنجة ليقدموا إلى الديار المصرية ليخرجوا منها الجيوش الإسلامية الشامية ولكن حامل الكتاب لقيه في الطريق من أنكر حاله، فحمله إلى صلاح الدين فقرره، فأخرج الكتاب وانكشفت المؤامرة، فأمر بقتل الطواشي، فثار له خدم القصر من السودان، فكانوا نحو خمسين ألفا، وقاتلوا جيش صلاح الدين بين القصرين فهزمهم صلاح الدين وأخرجهم من القاهرة وقتل منهم خلقا(1).
بين المعز الفاطمي والإمام أبو بكر النابلسي(2):
إن الشيعة برغم ما يتظاهر به بعض ولاتهم وحكامهم من الورع والصلاح وإنصاف المظلوم...
إلا أنهم في كثير من الأحيان ما تنكشف الحقائق عن مخادع كاذب لا يرقب في المؤمنين إلا ولا ذمة.
وأشد ما تكون هذه النكاية بالعلماء من أهل السنة.
قال ابن كثير رحمه الله في ترجمة المعز الفاطمي:".. كان يدعي إنصاف المظلوم من الظالم، ويفتخر بنسبه وأن الله رحم الأمة بهم، وهو مع ذلك متلبس بالرفض ظاهرًا وباطنًا، كما قال القاضي الباقلاني: إن مذهبهم الكفر المحض، واعتقادهم الرفض، وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره ووالاه قبحهم الله وإياه.
وقد أحضر بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبوبكر النابلسي، فقال له المعز بلغني عنك أنك قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين - أي الفاطميين - بسهم؟
فقال النابلسي: ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن قوله، فقال له كيف قلت؟ قال قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر، قال: ولم؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم.
__________
(1) البداية والنهاية (12/257، 258).
(2) هو أحد أئمة أهل السنة الأثبات وهو من أهل نابلس.(35/31)
فأمر بإشهاره في أول يوم، ثم ضرب في الثاني بالسياط ضربًا شديدًا مبرحًا، ثم أمر بسلخه - وهو حي - وفي اليوم الثالث، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات. رحمه الله فكان يقال له الشهيد، وإليه ينسب بنو الشهيد من نابلس إلى اليوم"(1).
فما أكرم الثبات على الحق، وما أجمل العيش على السنة والموت عليها ولو أن يسلخ الجلد عن اللحم، ونحن لا نعجب مما فعل هذا الرافضي الخبيث قبحه الله، فمجرد أن يكون اسم النابلسي أبوبكر فهذا كاف في إثارة حفيظة هذا الرافضي الخبيث، فهو يكره أبوبكر ومن يحب أبا بكر رضي الله عنه.
تأملات وعبر وتقريرات حول نهاية الدولة الفاطمية:
إن من سنة الله في الخلق دفع الناس بعضهم ببعض، ولولا ذلك لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين.
فالدولة الفاطمية ملكت 280 سنة وكسرا، ولكنهم صاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها، وكان أول من ملك منهم المهدي، وكان من سلمية حدادًا اسمه عبيد وكان يهوديًّا فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبد الله وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال عن نفسه إنه المهدي...
وآخر خلفائهم العاضد بن يوسف بن المستنصر بن الحاكم، قال عنه ابن كثير: "كانت سيرته مذمومة، وكان شيعيًّا خبيثًا، لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة..".
ولما توفي وزال ملك الفاطميين استبشر الناس وانشد العماد الكاتب:
توفي العاضد الدعي فما ... ... يفتح ذو بدعة بمصر فما
وعصر فرعونها انقضى وغدا ... ... يوسفها في الأمور متحكما
قد طفئت جمرة الغواة وقد داخ ... ... من الشرك كل ما اضطرما
وصار شمل الصلاح ملتئما ... ... بها وعقد السداد منتظما
لما غدا مشعر شار بني الـ ... ... عباس حقا والباطل اكتتما
وبات داعي التوحيد منتظرا ... ... ومن دعاة الشرك منتقما
__________
(1) البداية والنهاية (11/284).(35/32)
وارتكس الجاهلون في ظلم ... ... لما أضاءت منابر العلما
وعاد بالمستضيء معتليا ... ... بناء حق بعد ما كان منهدما
أعيدت الدولة التي اضطهدت ... وانتصر الدين بعدما اهتضما
واهتز عطف الإسلام من جلل ... ... وافتر ثغر الإسلام وابتسما
واستبشرت أوجه الهدى فرحا ... ... فليقرع الكفر سنته ندما(1)
"وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالا، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بأكمله، حتى أخذوا القدس ونابلس، وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس وأنطاكية، وجميع ما والي ذلك إلى بلاد إياس وسيس واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين... وبلاد شتى، وقتلوا من المسلمين خلقًا وأمما لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان مما لا يحد ولا يوصف وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها، وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف... وحين زالت أيامهم - يعني الفاطميين - وانتقض إبرامهم أعاد الله عز وجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته"(2).
وهكذا كل خائن لا يؤسف على هلاكه، ولا يحزن لفواته، بل هلاكه راحة للعباد وزواله أمان للبلاد.
وقد صنف غير واحد من الأئمة القدامى في الطعن في نسب الفاطميين وأنهم أدعياء كذبة، لا ينتمون إلى آل البيت، ولا بأدنى صلة، وإنما كانوا ينسبون إلى عبيد وكان اسمه سعيدًا، وكان يهوديًّا حدادا بسلمية بالمغرب.
__________
(1) البداية والنهاية (12/265).
(2) المرجع السابق(12/267).(35/33)
وقد أفرد أبو شامة المؤرخ صاحب الروضتين كتابًا سماه "كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد" وكتب الإمام الباقلاني كتابًا سماه "كشف الأسرار وهتك الأستار"، بين فيه فضائحهم وقبائحهم، ومما قاله الباقلاني عنهم: "هم قوم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض"(1).
وما أحسن ما قاله بعض الشعراء يمدح بني أيوب على ما فعلوه من إزالة الحكم الفاطمي من مصر:
أبدتم من بلى دولة الكفر من ... بني عبيد بمصر إن هذا هو الفضل
زنادقة شيعة باطنية مجوس يسرون ... ... وما في الصالحين لهم أصل
كفرا يظهرون تشيعا ... ... ليستروا سابور عمهم الجهل(2)
فلله الحمد والمنة أن تحولت الديار المصرية من ديار الشيعة إلى ديار السنة، وأسكن الله صلاح الدين ورجاله بما مهدوا للسنة أعلى درجات الجنة، وحفظ الله مصر من الرفض الخبيث، وجعلها مهدًا للسنة والحديث، وأزال عنها كل غمة، وقيض من رجالها لدينه أعلى الرجال همة.
المبحث السادس
خيانة القرامطة
القرامطة تدعي النسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وكانت بداية ظهورهم في عام 278هـ، في عهد الخليفة العباسي المعتضد أحمد بن الموفق طلحة(3).
وقد ملك القرامطة الإحساء والبحرين وعمان وبلاد الشام وحاولوا ملك مصر ففشلوا، واستمرت دولتهم حتى سنة 466هـ حيث قضى عليها عبيد الله بن علي محمد عبد القيسي بمساعدة ملك شاه السلجوقي(4).
__________
(1) المرجع السابق (11/346).
(2) المرجع السابق ( 12/268).
(3) ابن الأثير: الكامل في التاريخ (6/ 363).
(4) انظر عبد الله محمد الغريب: وجاء دور المجوس (1/ 70، 71)، "علمًا بأن القضاء على القرامطة من الناحية العقائدية، فقد اختلطت بفرق باطنية كالنصيرية والدرزية ولا تزال بعض هذه الأفكار موجودة إلى الآن في بعض بلاد الشام وإيران والهند والقطيف ونجران".(35/34)
وأخذت القرامطة تناوئ الدولة العباسية وتحاول الفتك بها، وخاضت ضدها حروبًا كثيرة، تارة وسعت بالخيانة، وتارة أخرى أحاطوا بالخلفاء العباسيين الذين كانوا قد بلغوا من الضعف مبلغًا، حتى لم تكن لهم سلطة فعلية، وتجرأت القرامطة على أشرف البقاع؛ الحرم المكي، وسرقوا الحجر الأسود من الكعبة، وأخذوه إلى بلادهم، وأضعفوا الخلفاء، حتى إنه في خلافة الراضي بالله محمد ابن المقتدر العباسي استولى الروم على عامة الثغور، وقدمت عساكر المعز لدين الله أبي تميم الفاطمي إلى مصر، وانقطعت الدعوة العباسية من مصر والشام(1).
ومن خيانات القرامطة:
ما فعلوه في سنة 294هـ، من تعرضهم للحجاج أثناء رجوعهم من مكة بعد أداء المناسك فلقوا القافلة الأولى فقاتلوهم قتالاً شديدًا، فلما رأى القرامطة شدة القافلة في القتال، قال: هل فيكم نائب السلطان؟ فقالوا: ما معنا أحد، فقالوا: فلسنا نريدكم، فاطمأنوا وساروا فلما ساروا، أوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم.
وتعقبوا قوافل الحجيج قافلة قافلة يعملون فيهم السيف، فقتلوهم عن آخرهم، وجمعوا القتلى كالتل، وأرسلوا خلف الفارين من الحجيج من يبذل لهم الأمان فعندما رجعوا قتلوهم عن آخرهم، وكان نساء القرامطة يطفن بين القتلى يعرضن عليهم الماء، فمن كلمهن قتلنه، فقيل إن عدد القتلى بلغ في هذه الحادثة عشرين ألفا، وهم في كل ذلك يغورون الآبار، ويفسدون ماءها بالجيف والتراب والحجارة، وبلغ من ما نهبوه من الحجيج ألفي ألفي دينار(2).
خيانة أخرى للقرامطة:
__________
(1) السلوك (1/17- 19).
(2) ابن الأثير: الكامل في التاريخ (6/ 432، 433).(35/35)
وفي سنة 312هـ سار أبو طاهر الشيعي القرمطي في عسكر عظيم ليلقى الحجيج في رجوعهم من مكة، فأوقع بقافلة تقدمت معظم الحجاج، وكان فيها خلق كثير من أهل بغداد، فنهبهم، واتصل الخبر إلى باقي الحجيج، ولكن دونما فائدة فقد باغتهم القرامطة أيضًا، فأوقعوا بهم وأخذوا دوابهم، وما أرادوا من الأمتعة والأموال والنساء والصبيان، وقتلوا من قتلوا وترك الباقون في أماكنهم منهكين فمات أكثرهم جوعًا وعطشا من حر الشمس، وانقلبت بغداد واجتمع حرم المنكوبين إلى حرم المأخذوين، وجعلنا ينادين القرمطي الصغير أبو طاهر قتل المسلمين في طريق مكة، والقرمطي الكبير ابن الفرات قتل المسلمين ببغداد، وكانت صورة فظيعة شنيعة وكسر العامة منابر الجوامع وسودوا المحاريب يوم الجمعة، وجاء بن الفرات الوزير الرافضي القرمطي إلى المقتدر الخليفة العباسي ليأخذ رأيه فيما يفعله، فانبسط لسان المقتدر على ابن الفرات، وقال له: الساعة تقول لي أي شيء نصنع، وما هو الرأي؟ بعد أن زعزعت أركان الدولة وعرضتها للزوال بالميل مع كل عدو يظهر ومكاتبته ومهادنته وإبعادك رجالي إلى الرقة وهم سيوف الدولة، فمن يدفع الآن؟ ومن الذي سلم الناس إلى القرمطي غيرك، لما يجمع بينكما من التشيع والرفض، ولما توجه الخليفة المقتدر إلى الكوفة ليلقى القرامطة قام المحسن ابن الوزير ابن الفرات الشيعي بقتل كل من كان محبوسًا عنده من المصادرين لأنه كان قد أخذ منهم أموالاً، ولما يوصلها إلى المقتدر، فخاف أن يقروا عليه(1).
وهكذا ترى الخيانة الرافضية الخبيثة، مع ضيوف الله وحجاج بيته الحرام، قتل وسلب ونهب واغتصاب، تجويع وتعطيش، ومثل هذا خيانة الإيرانيين في إحداث بعض التفجيرات في الحرم المكي أثناء أداء المناسك في عام.
وما هذا إلا لأن القوم لا يرون لمكة حرمة، ولا لكعبتها، وإنما عندهم أن أرض كربلاء أفضل من أرض مكة والمشهد الحسيني أفضل من الكعبة.
__________
(1) انظر المرجع السابق (7/ 312) بتصريف.(35/36)
وإليك بعض أقوالهم من كتبهم في هذا:
سئل آياتهم العظمى محمد الحسيني الشيرازي في كتابه الفقه والعقائد ص 370 توزيع مكتبة جنان القدير - الكويت: "يقال إن أرض كربلاء أفضل من أرض مكة، والسجدة على التربة الحسينية أفضل من السجدة على أرض الحرم فهل هذا صحيح؟ فأجاب الشيرازي: نعم".
وهذا أيضًا آياتهم وعلامتهم السيد العباسي الحسيني الكاشاني يعنون في كتابه مصابيح الجنان ص 360ط رقم 59 دار الفقه، إيران عنوانًا باسم: "أفضيلة كربلاء على سائر البقاع"، فقال: وأما أفضلية كربلاء على سائر البقاع حتى الكعبة فلا شك في أن أرض كربلاء أقدس بقعة في الإسلام، وقد أعطيت حسب النصوص الواردة أكثر مما أعطيت أي أرض أو بقعة أخرى من المزية والشرف فكانت أرض الله المقدسة المباركة، وأرض الله الخاضعة المتواضعة وأرض الله التي في تربتها الشفاء، فإن هذه المزايا وأمثالها التي اجتمعت لكربلاء لم تجتمع لأي بقعة من بقاع الأرض حتى الكعبة (1).
كما أنهم يرون الذين يحجون البيت الحرام لا حرمة لهم لأنهم يفضلون زيارة قبر الحسين ويرونها تعدل حجة:
ففي كتاب كامل الزيارات لأبي القاسم جعفر ابن محمد الشيعي ط دار السرور - بيروت 1997 عقد أبوابًا كاملة بخصوص هذه المسألة:
الباب (63): إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل عمرة.
الباب (64): إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل حجة.
الباب (65): إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل حجة وعمرة.
الباب (60): إن زيارة الحسين والأئمة تعدل زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الباب (59): من زار الحسين عليه السلام كمن زار الله في عرشه(2).
جولة سريعة في التاريخ مع خيانات الشيعة القرامطة:
__________
(1) حقيقة الشيعة ( ص143، 144).
(2) حقيقة الشيعة (ص 140).(35/37)
سنقلب سريعًا في سجلات التاريخ من كتابي البداية والنهاية، والكامل في التاريخ، نشير إشارات إلى خيانات القرامطة وعياثهم بالفساد في الأرض وتعقب أهل السنة والخروج على دولتهم ممثلة في الخلافة العباسية.
"وفيها - 311هـ - قصد أبو طاهر القرمطي البصرة فوصلها ليلاً في ألف وسبعمائة رجل فوضع السيف في أهل البصرة وهرب الناس إلى الكلأ وحاربوا القرامطة عشرة أيام فظفر بهم القرامطة وقتلوا خلقًا كثيرًا، وطرح الناس أنفسهم في الماء فغرق أكثرهم وأقام أبو طاهر سبعة عشر يومًا يحمل من البصرة ما يقدر عليه من المال والأمتعة والنساء والصبيان ثم انصرف"(1).
"وفي سنة 312هـ دخل أبو طاهر القرمطي الكوفة.. فخرج إليه واليها جعفر بن ورقاء الشيباني فقاتله واجتمع له أمداد من هنا وهناك، ولكن ظفر بهم القرامطة، وتبعوهم إلى باب الكوفة فانهزم عسكر الخليفة، وأقام أبو طاهر ستة أيام يدخل البلد نهارًا ثم يخرج فيبيت في عسكره، وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال والثياب وغير ذلك"(2).
"وفي سنة 315هـ خرج القرامطة نحو الكوفة أيضًا وكانوا ألفًا وخمسمائة، وقيل كانوا ألفين وسبعمائة، وسيَّر لهم الخليفة العباسي جيشًا كثيفًا نحو سنة آلاف سوى الغلمان، ودارت بينهم وقائع في واسط والأنبار.. وكانت سجالاً وقتل فيها من عسكر الخليفة عدد كثير وانهزموا... وأصاب الناس الزعر من القرامطة فخرج ناس بأموالهم من بغداد لما سمعوا بتوجه القرامطة إليها"(3).
__________
(1) البداية والنهاية (11/147). الكامل في التاريخ (7/15).
(2) الكامل في التاريخ (7/22، 23).
(3) الكامل في التاريخ (7/31- 33) بإيجاز.(35/38)
" وفي سنة 316هـ عاث أبو طاهر القرمطي في الأرض فسادا، فدخل الرحبة وقتل من أهلها خلقًا، وطلب منه أهل قرقيسيا الأمان، فأمنهم وبعث سرياه إلى ما حولها من الأعراب فقتل منهم خلقًا حتى صار الناس إذا سمعوا بذكره يهربون من سماع اسمه، وفرض على العراب إتاوة يحملونها إلى هجر - مقر القرامطة - كل سنة؛ عن كل رأس دينارين وعاث في نواحي الموصل فسادًا وفي سنجار ونواحيها، وخرب تلك الديار وقتل وسلب ونهب.. ولما رأى الوزير علي بن عيسى ما يفعله القرامطة في بلاد الإسلام وليس له دافع استعفى من الوزارة لضعف الخليفة وجيشه وعزل نفسه.."(1).
" وفي سنة 317هـ خرج القرامطة إلى مكة في يوم التروية فقاتلوا الحجيج في رحاب مكة وشعابها، وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة والرجال تصرع حوله والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام.. وكان الحجيج يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة، فلا يجدي ذلك عنهم شيئا، بل يقتلون وهم متعلقون بها.. ولما قضى القرمطي اللعين أبو طاهر أمره وفعل ما فعل بالحجيج؛ أمر بردم بئر زمزم بإلقاء القتلى فيها وهدم قبتها، وأمر بخلع الكعبة ونزع كسوتها عنها وشققها بين أصحابه.. ثم أمر رجلاً من رجاله بأن يقلع الحجر الأسود، فجاء رجل فضربه بمثقل كان في يده وقال أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟
ثم قلع الحجر الأسود، وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة، حتى ردوه في سنة 339هـ فإنا لله وإنا إليه راجعون"(2).
بعد هذه الجولة السريعة في فترة زمنية لا تتجاوز الست سنوات بحثًا عن خيانات الشيعة القرامطة:
__________
(1) البداية والنهاية (11/157، 158).
(2) البداية والنهاية (11/160، 161)، والكامل في التاريخ (7/53، 54).(35/39)
أرأيت كيف كانت خيانتهم وإفسادهم في الأرض في ديار المسلمين؟
أرأيت كيف كان ذكرهم يثير الزعر والهلع في قلوب الناس؟
أرأيت كيف كانت فعالهم في حجاج بيت الله الحرام.. فعالاً ما فعلها أهل الجاهلية الأولى، الذين كان الرجل منهم إذا رأى قاتل أبيه في الحرم ما اجترئ على أن يسل سيفه في غمده، فضلاً عن أن يقتل ما تعلق بأستار الكعبة ولاذ بالبيت.
إنها فعالاً ما تمكن من مثلها أبرهة النصراني، وما قبلت الحيوانات الأعجمية - الفيلة - أن ترتكبها، فكلما وجهت نحو البيت المشرف لتناله بسوء أعرضت ونأت، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن أجل أن تعرف خطر خيانة الشيعة أذكر لك حادثًا جللا عظيمًا يبين لك أن الشيعة لا يجاهدون الكفار بل نكايتهم في أهل السنة، يقاتلونهم ويمالؤن عليهم، ويترتب على هذا اجتراء أعداء الملة على أهل الإسلام ودياره ذلك الحدث هو: "أنه في نفس العام الذي أفسد فيه القرامطة وقاموا بالخروج على الخلافة العباسية سنة 315هـ، والذي ذكرناه آنفًا حدث أن جاءت الروم إلى ديار المسلمين، ودخلوا بلدة يقال لها سميساط وقاتلوا أهلها وغنموا جميع ما فيها، وضربوا بالناقوس في الجوامع أوقات الصلاة"(1).
فهل هؤلاء القوم يتصلون من قريب أو بعيد بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إنهم والله كفار زنادقة، تستروا بالإسلام ورفعوا دعاية حب آل البيت، وفعلوا بالإسلام والمسلمين ما فعلوا.
المبحث السابع
خيانات البويهيين
__________
(1) الكامل في التاريخ (7/31)، البداية والنهاية (11/154، 155).(35/40)
والبويهيون ينتسبون إلى رجل من الديلم(1) يقال له بويه، وكنيته أبو شجاع، كان له أولاد ثلاثة "أبو الحسن علي ولقب عماد الدولة" و "أبو علي الحسن ولقب بركن الدولة" و "أبو الحسين أحمد ولقب بمعز الدولة" وكان الثلاثة قوادًا في جيش ابن كالي صاحب إقليم الديلم في هذا الوقت عندما خرج على الخلافة العباسية؛ فاستولى على عدة أقاليم كأصبهان، وأرَّجان وشيراز.. وغيرها فعظم شأن بني بويه حتى صارت لهم أمور الديلم وما والاه من الأقاليم، وكان خليفة الوقت الراضي بالله محمد بن المقتدر العباسي له وزير شيعي يسمى أبو علي محمد بن علي بن مقلة، أخذ يخطط ويدبر لإزالة الخليفة العباسي والتمكين لبني بويه المتشيعين، فأخذ يكتب للبويهيين يطمعهم في بغداد دار الخلافة، ويصف لهم الحال الذي عليه الخليفة من الضعف، حتى قدم معز الدولة بن بويه إلى بغداد واستولى عليها سنة 334هـ، ويومها قال الوزير أبو علي محمد بن علي بن مقلة " إنني أزلت دولة بين العباس وأسلمتها إلى الديلم لأني كاتبت الديلم وقت إنفاذي إلى أصبهان، وأطمعتهم في سرير الملك ببغداد، فإني اجتنيت ثمرة ذلك في حياتي".
__________
(1) الديلم: إقليم جبلي يقع في الجنوب الغربي من بحر قزوين،ويحده في شماله جيلان، وفي شرقه طبرستان، وفي غربه أذربيجان وفي جنوبه جهات قزوين: انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير (8/97).(35/41)
وكان لما ملك معز الدولة بغداد خلع الخليفة، ونهب الديلم دار الخلافة حتى لم يبق شيء، وأقام الفضل بن المقتدر العباسي خليفة، ولم يجعل له أمرًا ولا نهيًا ولا رأيا، ولا مكنه من إقامة وزير، بل صارت الوزارة إليه - أي لمعز الدولة بن بويه - يستوزر لنفسه وشنع على بني العباس بأنهم غصبوا الخلافة وأخذوها من مستحقيها وأراد معز الدولة إبطال دعوة بني العباس وإقامة دعوة المعز لدين الله الفاطمي.. وبعث نوابه فتسلموا العراق ولم يبق بيد الخليفة منه شيء البتة إلا ما أقطعه مما لا يقوم ببعض حاجته(1).
وفي سنة 352هـ أمر البويهيون بإغلاق الأسواق في اليوم العاشر من المحرم، وعطلوا البيع ونصبوا القباب في الأسواق، وعلقت عليها المسوح وخرج النساء منتشرات الشعور يلطمن في الأسواق، وأقيمت النائحة على الحسين بن عليّ، وتكرر ذلك طيلة حكم الديالمة ببغداد، والتي استمرت نحو مائة وثلاث سنين، وأصبحت هذه الفعلة تقليدًا دينيًا عند الجعفرية الإمامية الاثنى عشرية، ولم يمكن لأهل السنة منع ذلك لكثرة الشيعة وظهورهم وكون السلطان معهم، وكذلك ابتدع معز الدولة بن بويه الاحتفال بعيد يقال له عيد الغدير، فأمر في العاشر من ذي الحجة بإظهار الزينة في بغداد، وأن تفتح الأسواق بالليل كما في الأعياد وأن تضرب الدبابات والبوقات وأن تشعل النيران في أبواب الأمراء وعند الشرط.. فكان وقتًا عجيبًا مشهودًا، وبدعة شنيعة ظاهرة ومنكرة(2).
__________
(1) انظر السلوك لمعرفة دول الملوك ( 1/25- 27).
(2) البداية والنهاية ( 11/243) بتصريف.(35/42)
وفي هذه الآونة التي كان يلهو فيها الشيعة البويهيون ويلعبون ويضعفون سلطان السُّنة كان الروم ينتهكون حرم الديار الإسلامية، قال ابن كثير رحمه الله وهو يتحدث عن أحد ملوك الروم في هذا العصر الذي فشت خيانات البويهيين فيه، واسمه نقفور، وجعل يصف الحال المزري الذي وصلت إليه الديار الإسلامية من الذلة والمهانة قال: "كان هذا الملعون - أن نقفور الرومي - من أغلظ الملوك قلبًا وأشدهم كفرُا، وأقواهم بأسًا، وأحدَّهم شوكة، وأكثرهم قتلاً وقتالاً للمسلمين في زمانه، استحوذ في أيامه لعنه الله على كثير من السواحل، وأكثرها انتزعها من أيدي المسلمين قسرًا، واستمرت في يده قهرًا، وأضيفت إلى مملكة الروم قدرًا، وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان، وظهور البدعة الشنيعة فيهم، وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم، وفشوا البدع فيهم وكثرة الرفض والتشيع منهم، وقهر أهل السنة بينهم، فلهذا أديل عليهم أعداء الإسلام فانتزعوا ما بأيديهم من البلاد مع الخوف الشديد، ونكد العيش والفرار من بلاد إلى بلاد فلا يبيتون ليلة إلى في خوف من قوارع الأعداء، وطوارق الشرور المترادفة، فالله المستعان.
وقد ورد - نقفور - هذا حلب في مائتي ألف مقاتل بغتة في سنة 351هـ وجال فيها جولة ففر من بين يديه صاحبها سيف الدولة، ففتحها اللعين عنوة، وقتل من أهلها من الرجال والنساء ما لا يعلمه إلا الله.."
وبالغ في الاجتهاد في قتال الإسلام وأهله، وجد في التشمير. فالحكم لله العلي الكبير، وقد كان - لعنه الله - لا يدخل في بلد إلا قتل المقاتلة وبقية الرجال وسبي النساء والأطفال، وجعل جامعها اصطبلاً لخيوله وكسر منبرها، واستنكث مأذنتها بخيله ورجله وطبوله..(35/43)
وكان هذا اللعين - أعني نقفور - قد أرسل قصيدة إلى الخليفة العباسي المطيع لله، نظمها له بعض كتابه مما كان خذله الله وأذله وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة وصرفه عن الإسلام وأصله، يفتخر فيها هذا اللعين، ويتعرض لسب الإسلام والمسلمين، ويتوعد فيها أهل حوزة الإسلام بأنه سيملكها كلها حتى الحرمين الشريفين عما قريب من الأعوام.. ويزعم أن ينتصر لدين المسيح عليه السلام، ويعرض فيها بجناب الرسول عليه من ربه التحية والإكرام ودوام الصلاة مدى الأيام"(1).
" وفي سنة 353هـ عملت الرافضة عزاء الحسين كما تقدم فاقتتل الروافض وأهل السنة قتالاً شديدًا وانتهبت الأموال.. في نفس العام جاء ملك الروم نقفور إلى طرطوس وأذنة والمصيصة وقتل من أهلها نحو خمسة عشر ألفا وعاث فيها الفساد"(2).
"وفي سنة 354هـ في عاشر المحرم منها عملت الشيعة مأتمهم وبدعتهم وغلقت الأسواق وخرجت النساء نائحات سافرات - كما تقدم - واقتتلوا مع أهل السنة قتالاً شديدًا.. وفي شهر رجب منها جاء ملك الروم بجيش كثيف إلى المصيصة فأخذها قسرًا وقتل من أهلها خلقًا، واستاق بقيتهم معه أسارى وكانوا قريبًا من مائتي ألف إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم جاء إلى طرسوس، فسأل أهلها منه الأمان فأمنهم بالجلاء عنها والانتقال منها واتخذ مسجدها الأعظم اصطبلا لخيوله وحرق المنبر ونقل قناديله إلى كنائس بلده، وتنصر بعض أهلها معه لعنه الله.."(3).
__________
(1) البداية والنهاية (114/243، 244).
(2) المرجع السابق (11/253).
(3) البداية والنهاية (11/254، 255).(35/44)
" وفي عاشر المحرم من سنة 361هـ عملت الروافض بدعتهم، وفي المحرم منها - أي نفس الشهر - أغارت الروم على الجزيرة وديار بكر فقتلوا خلقًا من أهل الرها، وصاروا في البلاد كذلك يقتلون ويأسرون ويغنمون إلى أن وصلوا نصيبين ففعلوا ذلك ولم يغني عن تلك النواحي متوليها شيئًا، ولا دافع عنهم، ولا له قوة، فعند ذلك ذهب أهل الجزيرة إلى بغداد وأرادوا أن يدخلوا على الخليفة المطيع لله وغيره يستنصرونه ويستصرخونه، فرثى لهم أهل بغداد، وجاءوا معهم إلى الخليفة فلم يمكنهم ذلك، وكان بختيار بن معز الدولة البويهي - الشيعي الرافضي - مشغولاً بالصيد فذهبت الرسل إليه فبعث الحاجب يستنفر الناس، فتجهز خلق من العامة.. ولكن وقعت بينهم فتنة شديدة بين الروافض وأهل السنة، وأحرق أهل السنة دور الروافض في الكرخ وقالوا: الشر كله منكم.. وأرسل بختيار البوهي إلى الخليفة يطلب منه أموالاً يستعين بها على هذا الغزوة فبعث إليه يقول: لو كان الخراج يجيء إلي لدفعت منه ما يحتاج المسلمون إليه - وذلك أن الخليفة كان في غاية الضعف - ولكن أن تصرف منه في وجوه ليس بالمسلمين إليها ضرورة، وأما أنا فليس عندي شيء أرسله إليك، فترددت الرسل بينهما وأغلظ بختيار للخليفة في الكلام وتهدده، فاحتاج الخليفة أن يحصل شيئًا فباع بعض ثياب بدنه وشيئًا من أثاث بيته ونقض بعض سقوف داره، وحصل له أربعمائة درهم فصرفها بختيار في مصالح نفسه وأبطل تلك الغزوة، فنقم الناس للخليفة، وساءهم ما فعل به ابن بويه الرافضي من أخذه مال الخليفة، وتركه الجهاد، فلا جزاه الله خيرًا.."(1).
المبحث الثامن
خيانات الوزير مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد العلقمي الشيعي
في دخول التتار بغداد
__________
(1) البداية والنهاية (11/271، 272) بتصريف يسير.(35/45)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى - في أحداث سنة 642هـ: "وفيها استوزر الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين أبا طالب محمد بن علي بن محمد العلقمي المشئوم على نفسه وعلى أهل بغداد الذي لم يعصم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة؛ فإنه هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو قبحه الله وإياهم"(1).
وقال ابن كثير أيضًا في أحداث 656هـ والتي جاء فيها الطوفان التتاري إلى بغداد دار الخلافة العباسية: "استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار هولاكو خان وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفًا على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى.. وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب..
__________
(1) البداية والنهاية (13/164).(35/46)
وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها، وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل.. وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب.. أن هولاكو خان لما كان أول بروزه من همدان متوجهًا إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سَنِيَة ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم، فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك، وقالوا: إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير فأرسل شيئًا من الهدايا فاحتقرها هولاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه، ولا بالا به حتى أزف قدومه ووصل بغداد بجنوده الكثير الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية الضعف ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم بقية الجيش، فكلهم كانوا قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله من آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة، حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار - أي ابن العلقمي - فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع به السلطان هولاكو خان لعنه الله، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان،(35/47)
فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسًا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت، وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هو ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد في صحبته خوجة نصير الدين الطوسي(1) والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئًا كثيرًا من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفسية، وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عامًا أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة.
__________
(1) وهذا رافضي خبيث، سنفرد فصلاً للكلام على بعض خياناته.(35/48)
فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله، ويقال: إن الذي أشار بقتله هو الوزير ابن العلقمي والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وكان النصير وزيرًا لشمس الشموس ولأبيه قبله علاء الدين بن جلال الدين، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزير ذلك، فقتلوه رفسًا وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه.. فباؤا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده.. ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ، والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ وكمنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة.. وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانًا بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم، وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر والأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبقى سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار وطمعهم في البلاد وسهل عليهم ذلك وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم(35/49)
ضعف الرجال، وذلك كله طمعًا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة، وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين والله غالب على أمره"(1).
وكان الوزير ابن العلقمي الرافضي الخائن شديد الحنق على العلماء من أهل السنة، حتى أنه كان يتشفى بقتلهم، ومن أبرزهم في ذلك الوقت الشيخ محي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي وهو وأولاده الثلاثة "عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم" وأكابر الدولة واحدًا واحدًا، وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة فيذهب به إلى مقبرة الغلال فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم وعَلَمهم بها وعليها(2).
تقديرات ضحايا هذه الخيانة الشيعية:
قال ابن كثير رحمه الله: "وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الواقعة، فقيل ثمانمائة ألف وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون"(3).
"القتلى في الطرقات كأنها التلال، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو، وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون"(4).
بعد عرض تفاصيل هذه الخيانة الرافضية أحب أن أقرر أمرين:
__________
(1) البداية والنهاية (13/200ـ 202).
(2) انظر البداية والنهاية (13/203).
(3) السابق (13/202).
(4) السابق (13/203).(35/50)
الأول: لا نستطيع أن نقول إلا أن حال الخليفة العباسي في ذلك الوقت كان في غاية السوء، وفساد الرأي والتدبير، قال ابن كثير رحمه الله: "ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد، وكما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصار، فإنه خرج عن بني العباس.. دول حتى لم يبق مع الخليفة إلا بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات"(1).
الثاني: العجب كل العجب من أمر هذا الوزير الرافضي كيف فعل ما فعل برغم تسامح الخليفة السني العباسي من استوزاره له في حين أن الشيعة متى صارت لهم دولة فإنهم لا يمكنون أهل السنة من الوصول إلى أي مناصب قيادية وهذا أمر مضطرد حتى الآن عندهم؛ ففي إيران المعاصرة يحكي الأستاذ ناصر الدين الهاشمي في بيان موقف أهل السنة في إيران، وهو يبين الأمور التي يمنع منها السنة هناك مثل بناء المساجد في المدن الكبيرة، ومنع طبع كتبهم، والإفتاء لهم بمذهبهم.
قال: "وأهل السنة ممنوعون من العمل في الإدارات الحكومية حيث لا يوظف منهم ولو من حملة شهادات الدكتوراه، لا بالوظائف المهمة ولا غير المهمة، ناهيك عن القلة القليلة الباقية من النظام السابق في الإدارات الحكومية وذلك بعد تطهير واسع بعد الثورة"(2).
كلام حول الدافع في خيانة ابن العلقمي:
قال ابن كثير رحمه الله في أحداث 655هـ: "وفيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنهبت الكرخ ودور الرافضة حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي وكان ذلك من أقوى الأسباب في ممالأته للتتار"(3).
__________
(1) السابق (13/205).
(2) أ/ ناصر الدين الهاشمي: موقف أهل السنة في إيران (ص11) بدون طبعة.
(3) البداية والنهاية (13/196).(35/51)
وقد يكون هذا بعض الدافع، ولكن الحقيقي لخيانة هذا الرافضي الخبيث هو ما يكنه من عقائد، وقد بينا في البداية أنهم لا يرون إقامة الجهاد إلا بحضور المهدي "وهو إمامهم الثاني عشر" روي الكليني صاحب الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل" وذكر هذه الرواية أيضًا شيخهم الحر العاملي في وسائل الشيعة.
وفي الصحيفة السجادية الكاملة: "عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما خرج ولا يخرج منا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلمًا أو ينعش حقًا إلا اصطلته البلية، وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشبعتنا".
وروى محدثهم النوري الطبرسي في مستدرك الوسائل: "عن أبي جرف عليه السلام قال: مثل من خرج منا أهل البيت قبل قيام القائم عليه السلام مثل فرخ طار ووقع من وكره فتلاعبت به الصبيان"(1).
فهل كان يرجى من هؤلاء أن يعلنوا الجهاد ضد التتار أو غيرهم وهم يروننا كفارًا، ومهديهم لم يخرج؟
المبحث التاسع
خيانة الشيعة عند دخول التتار إلى بلاد الشام (658 هـ)
جاء التتار إلى بلاد الشام في عام 658هـ صحبه ملكهم هولاكو خان وجاوزا الفرات على جسور عملوها، ووصلوا إلى حلب في ثاني صفر من هذه السنة، فحاصروها سبعة أيام ثم افتتحوها بالأمان ثم غدروا بأهلها، وقتلوا منهم خلقًا لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ونهبوا الأموال، وسبوا النساء والأطفال، وجرى عليهم قريبًا مما جرى على أهل بغداد.
__________
(1) عبد الله الموصلي: حقيقة الشيعة "ص170، 171ط".(35/52)
ولما سقطت حلب أرسل صاحب حماة بمفاتيحها إلى هولاكو خان فاستناب عليها رجل يقال له خسروشاه، فخرب أسوارها كمدينة حلب، ثم أرسل هولاكو قائده كتبغا إلى دمشق فأخذوها سريعًا بلا مصانعة ولا مدافعة واستناب عليها رجلا منهم يقال له إيل سيان وكان معظمًا لدين النصارى، فاجتمع به قسوسهم وأساقفتهم فعظمهم جدًّا وزار كنائسهم فصارت لهم دولة وصولة بسببه، وذهب طائفة من النصارى إلى هولاكو وأخذوا معهم هدايا وتحف، وقدموا من عنده ومعهم فرمان أمان من جهته فدخلوا من باب توما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس وهم ينادون بشعارهم، ويقولون ظهر الدين الصحيح دين المسيح ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أواني خمر لا يمرون بمسجد إلا رشوا عنده خمرًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون(1).
ومما يدل على خيانة الروافض - هنا أن هولاكو لما أتم تدمير دمشق وبلاد الشام أرسل تقليدًا بولاية القضاء على جميع المدائن الشام والجزيرة والموصل وماردين والأكراد للقاضي كمال الدين عمر بن بدر التفليسي الشيعي، ويدل على تآمر الشيعة أيضًا أنه لما ظفر المسلمون على التتار في واقعة عين جالوت بقيادة الملك المظفر قطز عوّل أهل الشام على الانتقام من الخونة من النصارى الذين استغلوا الفرصة وفعلوا ما فعلوا ومن الشيعة الذين مالئوا التتار وصانعوهم على أموال المسلمين وقتل العامة.
وشيخهم الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، قال عنه ابن كثير رحمه الله: "شيخًا رافضيًّا كان مصانعًا للتتار على أموال المسلمين، وكان خبيث الطوية، مشرقيًا ممالئًا لهم على أموال المسلمين قبحه الله، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين"(2).
__________
(1) البداية والنهاية (13/218،219) بتصريف وإيجاز.
(2) البداية والنهاية (13/221) بتصريف.(35/53)
ومن طريف ما يذكر ويدلل على أن أهل السنة لم يكونوا بغاة ظالمين في الانتقام من النصارى والشيعة بعد ظفرهم بالتتار بحمد الله، أن طائفة منهم همت أن تعاقب اليهود، فقيل لهم أنه لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان(1).
فالله أكبر على السنة وأهلها، لا خيانة ولا ظلم ولا تعدي، وإن عاقبوا قومًا فبمثل ما عوقبوا به، وإن اعتدوا على قوم فبمثل ما اعتُدي به عليهم.
وسبحان الله الذي جعل الجزاء من جنس العمل، فإن هؤلاء الخونة كان الله تعالى ينتقم منهم بأيدي من خانوا من أجلهم ومالؤهم حتى أن ابن كثير يذكر أن هولاكو ملك التتار استحضر الزين الحافظي وهو سليمان بن عامر العقرباني، وقال له: ثبت عندي خيانتك، وقد كان هذا المغتر لما قدم التتار مع هولاكو دمشق وغيرها مالأ على المسلمين وآذاهم ودل على عوراتهم، فسلطه الله عليه بأنواع العقوبات، ومن أعان ظالمًا سلطه عليه(2).
المبحث العاشر
خيانة الشيعة في بلاد حلب (657 هـ)
لما دخل التتار حلب وقتلوا منها خلقًا كثيرًا، وسلبوا ونهبوا وسبوا كتب الملك الناصر صاحب حلب إلى الملك المغيث صاحب الكرك وإلى الملك المظفر قطز في مصر يطلب منهما نجدة وكانت نفسه قد ضعفت وخارت، وعظم خوف العساكر من هولاكو، وظهرت الشيعة بتيارها الانهزامي، فقال الأمير الشيعي زين الدين الحافظي يعظم شأن هولاكو، ويشير بعدم القتال ووجوب الدخول في طاعة هولاكو، فصاح به الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وضربه وسبه وقال: أنتم سبب هلاك المسلمين(3).
المبحث الحادي عشر
خيانات نصير الدين الطوسي
__________
(1) السابق: نفس الموضوع.
(2) انظر البداية والنهاية (13/244).
(3) أحمد بن علي المقريزي/ السلوك لمعرفة دولة الملوك (1/419) ط لجنة التأليف والترجمة والنشر الطبعة الثانية 1957م تحقيق محمد مصطفى زيادة - بتصريف.(35/54)
نصير الدين الطوسي هذا كان معاصرًا للوزير ابن العلقمي، وكان شيعيًّا رافضيًّا خبيثًا مثله، تعددت خياناته؛ فكانت ما بين إعانة على قتل أهل السنة وأخذ أموالهم والقضاء على تراثهم الفكري.
أما خيانته في الإعانة على قتل أهل السنة فثابت مستفيض، قال ابن كثير رحمه الله: "الخواجا نصير الدين الطوسي وزر لأصحاب قلاع الألموت من الإسماعيلية، ثم وزر لهولاكو، وكان معه في واقعة بغداد"(1).
وقال في موضوع آخر: "كان النصير وزيرًا لشمس الشموس ولأبيه قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينسبون إلى نزار بن المستنصر العبيدي، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة - أي في واقعة بغداد 656هـ - هون عليه الوزير - الطوسي - ذلك فقتلوه رفسا، وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه وأشار الطوسي بقتل جماعة كبيرة - من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء وأولي الحل والعقد - مع الخليفة فباء بآثامهم"(2).
والشيعة الملاعين يمتدحون ما فعله الطوسي من الخيانة، ويترحمون عليه ويرونه نصرًا حقيقيًّا للإسلام، فمثلاً:
__________
(1) البداية والنهاية (13/267)، وانظر شذرات الذهب (5/340) ط دار الأوقاف - بيروت.
(2) السابق (13/201) بتصرف.(35/55)
يقول علامتهم محمد باقر الموسى في روضات الجنات في ترجمة الطوسي (1/300، 301): "هو المحقق المتكلم الحكيم المتجبر الجليل.. ومن جملة أمره المشهور المعروف المنقول حكاية استيزاره للسلطان المحتشم في محروسة إيران هولاكو خان بن تولي جنكيز خان من عظماء سلاطين التتارية، وأتراك المغول ومجيئه في موكب السلطان مؤيد مع كمال الاستعداد إلى دار السلام بغداد؛ لإرشاد العباد وإصلاح البلاد، وقطع دابر سلسلة البغي والفساد، وإخماد دائرة الجور والإلباس بإبداد دائرة ملك بني العباس، وإيقاع القتل العام في أتباع أولئك الطغاة إلى أن سال من دمائهم الأقذار كأمثال الأنهار فانهار بها في ماء دجلة، ومنها إلى نار جهنم دار البوار، ومحل الأشقياء والأشرار"(1).
فيا سبحان الله! الخيانة إرشاد للعباد وإصلاح للبلاد!!
وصدق ربنا - عز وجل - فيما قاله في مثل هؤلاء الخونة المفسدين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11: 12).
وقد امتدح الخميني نصر الدين الطوسي وبارك خيانته هذه واعتبرها نصرًا حقيقيًّا للإسلام، قال في كتابه الحكومة الإسلامية:"..وإذا كانت ظروف التقية تلزم أحدًا منا بالدخول في ركب السلاطين فهنا يجب الامتناع عن ذلك حتى لو أدى الامتناع إلى قتله إلا أن يكون في دخوله الشكلي نصر حقيقي للإسلام والمسلمين مثل دخول علي بن يقطين، ونصير الدين الطوسي رحمهما الله"(2).
ويقول أيضًا عنه: "ويشعر الناس بالخسارة أيضًا بفقدان الخواجة نصير الدين الطوسي وأمثاله ممن قدموا خدمات جليلة للإسلام"(3).
وهكذا عندما تنتكس الموازين تصبح خيانة الإسلام والمسلمين خدمات جليلة للإسلام والمسلمين!!.
__________
(1) حقيقة الشيعة (ص54).
(2) الخميني: الحكومة الإسلامية (ص142) ط الرابعة
(3) السابق: (ص128).(35/56)
ألا لعنة الله على من لم يقيموا الوزن بالقسط وأخسروا الميزان.
وتعدت خيانة الطوسي الخيانة في القتل إلى نوع خطير من الخيانة إنه خيانة الأمة الإسلامية في حضارتها، في تراثها وفكرها وثقافتها.
فإن الطوسي نظرًا لأنه كان له معرفة بالعلوم وخصوصًا علم الكلام والفلسفة والمنطق.. فطن أن توجيه هذه الضربة القاصمة للأمة الإسلامية في تراثها الحضاري والفكري فسعى في إهلاك المؤلفات وإتلافها وسرقتها واستبقاء الفلاسفة والمنجمين.
قال ابن كثير رحمه الله: "وفي سنة 657هـ(1) عمل الخواجة نصير الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة ونقل إليها شيئًا كثيرًا من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد، وعمل دارًا للحكمة ورتب فيها الفلاسفة، ورتب لكل واحد في اليوم والليلة ثلاثة دراهم"(2).
__________
(1) أي بعد دخول التتار بغداد، وأصبح هذا الكلب متصرفًا في البلاد.
(2) البداية والنهاية ( 13/315).(35/57)
وقال ابن القيم رحمه الله: "ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد، وزير الملاحدة النصير الطوسي وزير هولاكو شفا نفسه من أتباع الرسول الكريم - وأهل دينه، فعرضهم على السيف، حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين والسحرة، ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه، ونصر في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الرب جل جلاله من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إله يعبد ألبته، واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن، فلم يقدر على ذلك، فقال هي قرآن الخواص، وذاك قرآن العوام، ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين فلم يتم له الأمر وتعلم السحر في آخر الأمر، فكان ساحرًا يعبد الأصنام، وصارع محمد الشهرستاني ابن سينا في كتابه سماه المصارعة أبطل فيه قوله بقدم العالم وإنكار المعاد ونَفْي علم الرب تعالى وقدرته وخلقه للعالم، فقام له نصير الإلحاد وقعد، ونقضه بكتاب سماه مصارعة المصارعة.. وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"(1).
__________
(1) ابن القيم: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/263) ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة.(35/58)
وقال الشيخ محب الدين الخطيب: "النصير الطوسي. جاء في طليعة موكب السفاح هولاكو، وأشرف معه على إباحة الذبح العام في رقاب المسلمين والمسلمات، أطفالاً وشيوخًا، ورضي بتغريق كتب العلم الإسلامية في دجلة، حتى بقيت مياهها تجري سوداء أيامًا وليالي من مداد الكتب المخطوطة التي ذهب بها نفائس التراث الإسلامي من تاريخ وأدب ولغة وشعر وحكمة، فضلاً عن العلوم الشرعية ومصنفات أئمة السلف من الرعيل الأول، التي كانت لا تزال موجودة بكثرة إلى ذلك الحين، وقد تلف مع ما تلف من أمثالها في تلك الكارثة الثقافية التي لم يسبق لها نظير"(1).
ولقد لفتت هذه الخيانة الحضارية والثقافية نظري إلى أمر هام وهو أننا حين نقرأ في كتب تراجم الرجال أو الكتب التي عنيت بتسجيل أسماء الكتب(2) نسمع عن عشرات ومئات من المصنفات الضخام، ولكن نفاجأ بأنه لم يصل إلينا منها إلا القليل، فندرك أن مثل هذه الخيانة الحضارية الثقافية كانت وراء ضياع كثير من هذه المؤلفات القيمة، حتى جاء الاستعمار الحديث فسرق عشرات الموسوعات العلمية من تراث هذه الأمة ونقلها إلى بلاده، ومن يدري لعل أيدي الخيانة الشيعية هي التي فعلت بتراث الأمة حديثًا ما فعلته قديمًا.
جدير بالذكر أنه في الحرب الأخيرة على العراق لما جاء التتار الجد بقيادة "هولاكو بوش" بغداد نتيجة الخيانة وسادت الفوضى في البلاد عمد الشيعة إلى أماكن السجلات والوثائق فنهبوها عن آخرها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
المبحث الثاني عشر
خيانات الشيعة ومحاولاتهم الفتك بصلاح الدين الأيوبي
__________
(1) محب الدين الخطيب: الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الاثنى عشرية (ص47،48) ط المركز الإسلامي للإعلام والنشر.
(2) من أهم هذه الكتب "كشف الظنون لحاجي خليفة - والفهرست لابن النديم".(35/59)
لم ينس الشيعة أن صلاح الدين الأيوبي هو الذي أزل دولتهم الفاطمية في مصر ومهد للسنة من جديد، لذلك حاولوا مرارًا الفتك به لإقامة الدولة الفاطمية من جديد، واستعانوا في هذه المؤامرات بالفرنج وكاتبوهم.
يقول المقريزي في السلوك: "وفيها - أي سنة 569هـ - اجتمع طائفة من أهل القاهرة على إقامة رجل من أولاد العاضد - آخر خليفة فاطمي بمصر - وأن يفتكوا بصلاح الدين وكاتبوا الفرنج؛ ومنهم القاضي المفضل ضياء الدين نصر الله بن عبد الله بن كامل القاضي، والشريف الجليس، ونجاح الحمامي، والفقيه عمارة بن علي اليماني، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي الأعز سلامة العوريس متولي ديوان النظر ثم القضاء، وداعي الدعاة عبد الجابر بن إسماعيل بن عبد القوي، والواعظ زين الدين بن نجا، فوشى ابن نجا بخبرهم إلى السلطان، وسأله أن ينعم عليه بجميع ما لابن كامل الداعي من الدور والموجود كله، فأجيب إلى ذلك؛ فأحيط بهم وشنقوا.. وتتبع - أي صلاح الدين - من له هوى في الدولة الفاطمية، فقتل كثيرًا وأسر كثيرًا، ونودي بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر، وزاجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد، وقبض على رجل يقال له قديد بالإسكندرية من دعاة الفاطميين يوم الأحد خامس عشر من رمضان"(1).
وبرغم قتل الخائنين المتآمرين إلا أن الفرنجة جاءوا حسب المكاتبة.
__________
(1) السلوك لمعرفة دولة الملوك (1/53، 54).(35/60)
قال المقريزي: "وفيها نزل أسطول الفرنج(1) بصقلية على ثغر الإسكندرية لأربع بقين من ذي الحجة بغتة وكان الذي جهز هذا الأسطول غاليالم بن رجار متملك صقلية ولي بعد أبيه في سنة 560هـ.. ولما أرسى هذا الأسطور على البر أنزلوا من طرائدهم ألفًا وخمسمائة فرس، وكانت عدتهم ثلاثين ألف مقاتل، ما بين فارس وراجل وعدة السفن التي تحمل آلات الحرب، والحصار ست سفن والتي تحمل الأزواد والرجال أربعين مركبًا فكانوا نحو الخمسين ألف راجل، ونزلوا على البر مما يلي المنارة، وحملوا على المسلمين حتى أوصلوهم إلى السور، وقتل من المسلمين سبعة، وزحفت مراكب الفرنج إلى الميناء، وكان بها مركب المسلمين فغرقوا منها، وغلبوا على البر وخيموا به، فأصبح لهم على البر ثلاثمائة خيمة، وزحفوا لحصار البلد، ونصبوا ثلاث دبابات بكباشها وثلاثة مجانيق كبار تضرب بحجارة سود عظيمة، وكان السلطان - صلاح الدين - على فاقوس، فبلغه الخبر ثالث يوم نزول الفرنج؛ فشرع في تجهيز العساكر وفتحت الأبواب وهاجم المسلمون الفرنج وحرقوا الدبابات، وأيدهم الله بنصره.. وقتل كثير من الفرنج، وغنم المسلمون من الآلات والأمتعة والأسلحة ما لا يُقدر على مثله إلا بعناء، وأقلع باقي الفرنج في مستهل سنة سبعين"(2).
__________
(1) قال د/ محمد مصطفى زيادة في تعليقه على السلوك: "وهذه الحملة البحرية كانت دليلاً للمؤمراة الثورية التي قام بتدبيرها عمارة اليمني، وقد تقدم أن المتآمرين كاتبوا الفرنج - ولم كن حاكم صقلية يعلم بما حاق بالمتآمرين، فبعث مراكبه حسب الاتفاق المبيت معهم (10/55).
(2) السلوك لمعرفة دول الملوك (1/55/56).(35/61)
أرأيت كم حجم الخيانة ومقدارها لولا أن مَنَّ الله على صلاح الدين ورجاله ونصرهم،وبالطبع كما قال المقريزي بعد عناء وأرواح ودماء أسيلت، وما هذا إلا بفعل الشيعة. ولم تكد تمضي هذه السنة 569هـ وتدخل سنة 570هـ حتى دبر الشيعة خيانة أخرى لإقامة الدولة الفاطمية والفتك بصلاح الدين.
قال المقريزي:".. وفيها جمع كنز الدولة والي أسوان العرب والسودان وقصد القاهرة يريد إعادة الدولة الفاطمية، وأنفق في جموعه أموالاً جزيلة، وانضم إليه جماعة ممن يهوى هواهم، فقتل عدة من أمراء صلاح الدين، وخرج في قرية طود رجل يعرف بعباس بن شادي، وأخذ بلاد قوص، وانتهب أموالها؛ فجهز السلطان صلاح الدين أخاه الملك العادل في جيش كثيف ومعه الخطير مهذب بن مماتي فسار وأوقع بشادي وبدد جموعه وقتله.
ثم سار فلقيه كنز الدولة بناحية طود، وكانت بينهما حروب فر منها كنز الدولة بعد ما قتل أكثر عسكره، ثم قتل كنز الدولة في سابع صفر، وقدم العادل إلى القاهرة..."(1).
ولم تكن هذه الخيانة مجرد مؤامرة للفتك بصلاح الدين السني الذي أزال دولة الشيعة في مصر، وإنما ترتب عليها أن استفحل خطر الفرنجة في بلاد الشام، وعندما عزم السلطان صلاح الدين على التوجه إليهم كان من أهم معوقاته خيانة الشيعة له في داخل سلطنته بمصر.
قال ابن كثير رحمه الله: "استهلت سنة 570هـ والسلطان الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب قد عزم على الدخول إلى بلاد الشام لأجل حفظه من الفرنج، ولكن دهمه أمر شغله عنه، وذلك أن الفرنج قدموا إلى الساحل المصري في أسطول لم يسمع بمثله في كثرة المراكب وآلات الحرب والحصار والمقاتلة..
__________
(1) المرجع السابق (1/57، 58).(35/62)
ومما عوق الملك الناصر عن الشام أيضًا رجلاً يعرف بالكنز سماه بعضهم عباس بن شادي، وكان من مقدمي الديار المصرية والدولة الفاطمية، كان قد استند إلى بلد يقال له أسوان، وجعل يجمع عليه الناس فاجتمع عليه خلق كثير من الرعاع من الحاضرة والغربان وكان يزعم أنه سيعيد الدولة الفاطمية ويدحض الأتابكة التركية.."(1).
ولما تمهدت البلاد، ولم يبقى فيها رأس من الدولة العبيدية - الفاطمية - برز صلاح الدين في الجيوش التركية قاصدًا البلاد الشامية، وذلك حين مات سلطانها نور الدين محمود بن زنكي، وأخيف سكانها، وتضعضعت أركانها، واختلف حكامها.. وقصده جمع شملها، والإحسان إلى أهلها، ونصرة الإسلام، ودفع الطغام، وإظهار القرآن، وإخفاء سائر الأديان، وتكسير الصلبان، في رضى الرحمن، وإرغام الشيطان.. فدخل دمشق وجاءه أعيان البلد للسلام عليه فرأوا منه غاية الإحسان.. ثم نهض إلى حلب مسرعًا لما فيها من التخبيط والتخليط، واستناب على دمشق أخاه طغتكين بن أيوب الملقب بسيف الإسلام، فلما اجتاز حمص أخذ ربضها، ولم يشتغل بقلعتها، ثم سار إلى حماه فتسلمها من صاحبها عز الدين بن جبريل، وسأله أن يكون سفيره بينه وبين الحلبيين؛ فأجابه إلى ذلك، فسار إليهم، فحذرهم باسم صلاح الدين؛ فلم يلتفتوا إليه، بل أمروا بسجنه واعتقاله، فأبطأ الجواب على السلطان؛ فبعث إليهم كتابًا يلومهم فيه على ما هم فيه من الاختلاف وعدم الائتلاف.. وذكرهم بأيامه وأيام أبيه وعمه في خدمة نور الدين في المواقف المحمودة التي يشهد بها أهل الدين، ثم سار إلى حلب فنزل على جبل جوشن"(2).
__________
(1) البداية والنهاية (12/287، 288).
(2) البداية والنهاية (12/288، 289).(35/63)
"وهنا نزغ الشيطان الإنسي في قبل ابن الملك نور الدين محمود أن يحرض أهل حلب على قتال صلاح الدين وذلك بإشارة من الأمراء المقدمين، فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته، على كل أحد، وشرط عليه الروافض منهم أن يعاد الآذان بحي على خير العمل. وأن يذكر في الأسواق، وأن يكون لهم في الجامع الجانب الشرقي، وأن يذكر أسماء الأئمة الاثنى عشر بين يدي الجنائز، وأن يكبروا على الجنازة خمسًا، وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف بن أبي المكارم حمزة الحسيني، فأجيبوا إلى ذلك كله، فأذن بالجامع وسائر البلد بحي على خير العمل وعجز أهالي البلد عن مقاومة الناصر، وأعملوا في كيده كل خاطر؛ فأرسلوا أولاًً إلى شيبان صاحب الحسبة، فأرسل نفرًا من أصحابه إلى الناصر ليقتلوه؛ فلم يظفر منه بشيء؛ بل قتلوا بعض الأمراء ثم ظهر عليهم فقتلوا عن آخرهم فراسلوا عند ذلك القومص صاحب طرابلس الفرنجي ووعدوه بأموال جزيلة إن هو رحل عنهم الناصر وكان هذا القومص قد أسره نور الدين وهو معتقل عنده مدة عشر سنين، ثم افتدى نفسه.. وكان لا ينساها لنور الدين.."(1).
"وفي سنة 571هـ في رابع عشر ذي الحجة، وثب عدة من الإسماعيلية على السلطان صلاح الدين فظفر بهم بعدما جرحوا عدة أمراء والخواص.."(2).
__________
(1) البداية والنهاية (12/289)..
(2) السلوك لمعرفة دول الملوك (1/61).(35/64)
وفي سنة 573هـ لما خرج السلطان صلاح الدين من القاهرة لجهاد الفرنجة فتوجه إلى عسقلان فسبي وغنم وقتل وأسر، ومضى إلى الرملة وأشرف عليهم الفرنج، وقدمهم البرنس أرناط صاحب الكرك في جموع كثيرة فانهزم المسلمون وثبت السلطان في طائفة فقاتل قتالاً شديدًا، واستشهد جماعة وأخذ الفرنج أثقال المسلمين، فمر بهم في مسيرهم إلى القاهرة من العناء ما لا يوصف ومات منهم، ومن داوبهم كثير، وأسر الفرنج جماعة منهم الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري، ودخل السلطان إلى القاهرة فحلف لا تضرب له نوبة حتى يكسر الفرنج وقطع أخباز جماعة من الأكراد، من أجل أنهم كانوا السبب في هذه الكسرة(1).
"وفي سنة 584هـ ثار اثنا عشر رجلاً من الشيعة في الليل ينادون: يال علي! يال علي! وسلكوا الدروب وهم ينادون كذلك ظنًا منهم أن رعية البلد يلبون دعوتهم، ويقومون في إعادة الدولة الفاطمية فيخرجون من في الحبوس ويملكون البلد فلما لم يجبهم أحد تفرقوا"(2).
هذه بعض النماذج لخيانات الشيعة ومحاولاتهم الفتك بالملك الناصر - ناصر السنة - صلاح الدين رحمه الله، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
المبحث الثالث عشر
خيانات الشيعة لدولة السلاجقة السنية
ومعاونة الصليبيين عليها
لما زالت دولة بني بويه (الشيعية) وبادت، جاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلاجقة الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم، ويرفعون قدرهم. والله المحمود أبدًا على طول المدى(3) وقاموا بنصرة السنة، وإخماد الرفض وأهله، ولكن هذه الدولة السنية لم تسلم من خيانات الشيعة وغدرهم.
__________
(1) المرجع السابق (1/64، 65) بتصرف.
(2) المرجع السابق (1/101).
(3) ابن كثير: البداية والنهاية (12/ 68، 69).(35/65)
ففي سنة 450هـ جاء البساسيري الرافض الخبيث بجيوش إلى بغداد مقر السلطان السلجوقي طغرلبك - وكان غائبًا عنها - ومعه الرايات البيض المصرية، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها اسم المستنصر بالله الفاطمي، فتلقاه أهل الكرخ الرافضة، وسألوه أن يجتاز من عندهم، فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الزوايا فخيم بها والناس إذ ذاك في مجاعة شديدة.. ونهب أهل الكرخ الروافض دور أهل السنة بالبصرة وتملك أكثر السجلات والكتب الحكمية، بعد ما نهب دار قاضي القضاة الدامغاني، وبيعت للعطارين، وأعادت الروافض الآذان بحي على خير العمل في نواحي بغداد، وخطب ببغداد للمستنصر بالله العبيدي، وضربت له السكة وحوصرت دار الخلافة، ثم نهبت والروافض في غاية السرور.. وانتقم البساسيري من أعيان أهل السنة ببغداد فأخذ الوزير ابن المسلمة الملقب برئيس الرؤساء وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة، وأركب جملاً أحمر وطيف به البلد وخلفه من يصفعه بقطعة من جلد، وحين مر على الكرخ - دور الرافضة - نثروا عليه خلقان المداسات، وبصقوا في وجهه، ولعنوه وسبوه.. ثم لما فرغوا من التطوف به جيء به إلى المعسكر؛ فألبس جلد ثور بقرنيه وعلق بكلوب في شدقيه، ورفع إلى الخشبة فجعل يضرب إلى آخر النهار؛ فمات رحمه الله وكان آخر كلامه "الحمد الله الذي أحياني سعيدًا، وأماتني شهيدًا"(1).
وقد أصبحت بلاد الشام مسرحًا للمنازعات بين السلاجقة "الذين هم من أهل السنة" والفاطميين "الشيعة" مما أدى إلى تفكك وحدة المسلمين ومهد الطريق أمام الصليبين لغزو بلاد الشام في يسر وسهولة، حيث وصلوا إلى أطرافها في سنة 490هـ.
__________
(1) البداية والنهاية (12/76- 79) بتصرف وإيجاز.(35/66)
وتبرز هنا خيانات الفاطميين فقد أرسل بدر الجمالي وزير المستعلي - الفاطمي الشيعي - سنة 490هـ سفارة من قبله إلى قادة الحملة الصليبية الأولى تحمل عرضًا خلاصته أن يتعاون الطرفان للقضاء على السلاجقة في بلاد الشام، وأن تقسم البلاد بينهما بحيث يكون القسم الشمالي من الشام للصليبيين في حين يحتفظ الفاطميون بفلسطين.
ولما كان هدف الصليبيين هو السيطرة على بيت المقدس فقد كان ردهم غامضًا واكتفوا ببث شعور الطمأنينة في نفوس الفاطميين واكتشفوا بذلك ضعف المسلمين وتفككهم.
ولما قام الأمير "كربوق" صاحب الموصل - من قبل السلاجقة بتجهيز قوة لمنع سقوط أنطاكية بيد الصليبيين وقف الفاطميون موقف المتفرج، ولم يكتفوا بذلك بل استغلوا هذه الفرصة فسيروا جيشًا إلى بيت المقدس الذي كان بيد السلاجقة وحاصروه، ونصبوا عليه أكثر من أربعين منجنيقًا حتى تهدمت أسواره وسيطروا عليه(1).
واستغل زعماء الشيعة الإسماعيلية الخلاف بين بعض السلاطين السلاجقة في نحو سنة 488هـ، وتقربوا من رضوان بن تاج الدولة تتش الذي كان على بلاد الشام، وحصلوا عنده على مكانة مرموقة فتشيع لآرائهم، ولم يعبأ بما أحرزه الصليبيون من انتصارات واستيلاء على بعض بلاد الإسلام في آسيا الصغرى(2) فقد استولوا على أنطاكية سنة 491هـ ثم سيطروا على المعرة عام 492هـ ثم واصلوا سيرهم إلى جبل لبنان؛ فقتلوا من به من المسلمين، ثم نزلوا إلى حمص فهادنهم صاحبها على مال يدفعه.
__________
(1) د/ أنس أحمد كرزون: نور الدين محمود زنكي القائد المجاهد (9-11) بتصرف - دار ابن حزم - بيروت 1995م.
(2) انظر: مسفر الغامدي: الجهاد ضد الصليبيين (ص51) نقلاً عن زبدة الحلب (2/145).(35/67)
قال ابن كثير رحمه الله: "في جمادى الأولى سنة 491هـ ملك الفرنجة أنطاكية بعد حصار شديد بمواطأة بعض المستحفظين على الأبراج وهرب صاحبها.. ولما بلغ الخبر الأمير كربوق صاحب الموصل جمع عساكر كثيرة واجتمع عليه دقاق صاحب دمشق وجناح الدولة صاحب حمص وغيرهما، وسار إلى الفرنج فالتقوا معهم بأرض أنطاكية فهزمهم الفرنج، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وأخذوا منهم أموالاً جزيلة.. ثم صارت الفرنج إلى معرة النعمان؛ فأخذوها بعد حصار ولا حول ولا قوة إلا بالله"(1).
ضياع بيت المقدس بسبب خيانات الشيعة:
"وفي سنة 492هـ أخذت الفرنج بيت المقدس ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل؛ وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار؛ وعلوا ما علوا تتبيرًا،.. وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستغثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه.. وخرج أعيان الفقهاء يحرضون الناس والملوك على الجهاد فلم يفد ذلك شيئًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون"(2).
وأنشد بعضهم يصور الموقف المهين:
مزجنا دمانا بالدموع السواجم ... ... فلم يبق منا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دمع يريقه ... ... إذا الحرب شيت نارها بالصوارم
فأيها بني الإسلام إن وراءكم ... ... وقائع يلحقن الذي بالمناصم
وكيف تنام العين ملء جفونه ... ... على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان وأنتم ... ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
ومنها قوله:
وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة ... تظل لها الوالدان شيب القوادم
وتلك حروب من يغيب عن غمارها ... ليسلم يقرع بعدها هاش نادم
سللن بأيدي المشركين قواضبا ... ستغمد منهم في الكلي والجماجم
__________
(1) البداية والنهاية (12/155).
(2) البداية والنهاية 12/156.(35/68)
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا ... رماحهم والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفًا من الردى ... ولا يحسبون العار ضربة لازم
أيرضى صناديد الأعاريب بالأذى ... ويغضي على ذل كماة الأعاجم
فليتهموا إذ لم يذودوا حمية ... ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا في الأجر إذ حمس الوغى ... فهلا أتوه رغبة في المغانم(1)
ومن أجل أن تعلم أن ضياع بيت المقدس كانت نتيجة لخيانات الشيعة وما يحدثونه من قلاقل واضطراب يحول دون استتباب الأمور.
اسمع ما يقوله ابن كثير رحمه الله تعالى: "في سنة 494هـ عظم خطب الباطنية - الشيعة - بأصبهان نواحيها فقتل السلطان منهم خلقًا كثيرًا وأبيحت ديارهم للعامة، ونودي فيهم أن كل من قدرتم عليه فاقتلوه وخذوا ماله، وكان قد استحوذوا على قلاع كثيرة، وأول قلعة ملكوها في سنة 483هـ، وكان الذي ملكها الحسن بن صباح أحد دعاتهم.. كان يذكر في دعوته أشياء من أخبار أهل البيت وأقاويل الرافضة الضلال، وأنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم ورسوله، ثم يقول فإذا كانت الخوارج تقاتل بني أمية لعلي، فأنت أحق أن تقاتل في نصرة إمامك علي بن أبي طالب.. وقد تهدده قبل ذلك السلطان ملكشاه، وأرسل إليه بفتاوى العلماء في أمره؛ فلما قرأ الكتاب بحضرة رسول السلطان قال لمن حوله من الشباب: إني أريد أن أرسل منكم رسولاً إلى مولاه فاشرأبت وجوه الحاضرين، ثم قال لشاب منهم: اقتل نفسك؛ فأخرج سكينًا فقتل نفسه، وقال لآخر منهم ألق نفسك من هذا الموضع فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل؛ فتقطع ثم قال لرسول السلطان هذا هو الجواب"(2).
__________
(1) الأبيات كلها: من البداية والنهاية (12/156،157).
(2) البداية والنهاية (12/166، 167) بتصرف.(35/69)
"يعني أنه في قوم شديدو البأس والنكاية مع طاعتهم له أشد الطاعة، وفي سنة 500هـ حاصر السلطان محمد بن ملكشاه قلاعًا كثيرة من حصون الباطنية فافتتح منها أماكن كثيرة، وقتل منهم خلقًا، واشتد القتال معهم في قلعة حصينة في رأس جبل منيع بأصبهان كان قد بناها السلطان ملكشاه ثم استحوذ عليها رجل من الباطنية يقال له أحمد بن عبد الله بن عطاء، فتعب المسلمون بسبب ذلك، فحاصرها ابنه السلطان محمد سنة حتى افتتحها وسلخ هذا الرجل وحشى جلده تبنًا وقطع رأسه وطاف به في الأقاليم"(1).
حصار قلعة من قلاع الباطنية يستهلك من جهد المسلمين سنة كاملة والمسجد الأقصى أسير في أيدي الفرنجة؟ إنهم كالخنجر في الظهر.
وفي نفس السنة سعى رضوان الذي تشيع لآراء الإسماعيلية إلى التصدي لزعيم سلاجقة الروم (قلج أرسلان) وهزمه وهو يحاول قتال الصليبيين حول الرها، ولم يكتف بهذا بل انضم إلى الصليبيين ضد الأمير جاولي صاحب حلب سنة 501هـ.
ولم يقدر الصليبيون هذا الموقف من رضوان بل حاصروا حلب سنة 504هـ وضيقوا على أهلها حتى أكلوا الميتات وورق الشجر، وفرضوا على رضوان مبلغًا كبيرًا يحمله إليهم(2).
حتى أنه إذا حدث وحقق سلاطين المسلمين - من أهل السنة - نصرًا على الفرنجة؛ فإن هذا النصر كان يحزن الشيعة لأنهم يرون فيه قوة لجناب السنة وإلى ذاكرة التاريخ نضرب مثالاً على ذلك:
__________
(1) البداية والنهاية (12/166، 167) بتصرف.
(2) مسفر الغامدي: الجهاد ضد الصليبيين (ص45) نقلاً عن زبدة الحلب (2/153).(35/70)
قال أبو الفدا رحمه الله تعالى: "وفي سنة 505هـ بعث السلطان غياث الدين بن محمد بن ملكشاه السلجوقي جيشًا كثيفًا صحبه الأمير مودود بن زنكي صاحب الموصل في جملة أمراء ونواب منهم صاحب تبريز وصاحب مراغة، وصاحب ماردين، وعلى الجميع مودود صاحب الموصل لقتال الفرنجة بالشام؛ فانتزعوا من الفرنجة حصونًا كثيرة، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا ولله الحمد، ولما دخلوا دمشق دخل الأمير مودود إلى جامعها ليصلي فيه فجاءه باطني في زي سائل فطلب منه شيئًا فأعطاه فلما اقترب منه ضربه في فؤاده فمات في ساعته، ووجد رجل أعمى في سطح الجامع ببغداد معه سكين مسموم فقيل إنه كان يريد قتل الخليفة.."(1).
خيانات الشيعة للسلطان جلال الدين بن خوارزم شاه:
كان جلال الدين بن خوارزم شاه من أكبر السلاطين السلاجقة وكان على مذهب السنة.
قال ابن كثير في أحداث سنة 624هـ: "فيها كانت عامة أهل تفليس الكرج، فجاؤا إليهم فدخلوها فقتلوا العامة والخاصة ونهبوا سبوا وخربوا وأحرقوا، وخرجوا على حمية، وبلغ ذلك السلطان جلال الدين فسافر سريعًا ليدركهم فلم يدركهم، وفيها قتلت الإسماعيلية أميرًا كبيرًا من نواب جلال الدين بن خوارزم شاه، فسار إلى بلادهم فقتل منهم خلقًا كثيرًا وخرب مدينتهم وسبي زراريهم ونهب أمواهم، وقد كانوا قبحهم الله من أكبر العون على المسلمين لما قدم التتار إلى الناس وكانوا أضر على الناس منهم"(2).
خيانة البدر لؤلؤ الشيعي صاحب الموصل في أواخر سنة 656هـ:
__________
(1) البداية والنهاية (12/173).
(2) البداية والنهاية (13/173).(35/71)
كان بدر الدين لؤلؤ هذا أرمينيا اشتراه رجل خياط، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود الأتاباكي صاحب الموصل وكان مليح الصورة فحظى عنده وتقدم في دولته إلى أن صارت الكلمة دائرة عليه، والوفود من سائر جهات ملكهم إليه، ثم إنه قتل أولاد أستاذه واحدًا بعد واحد إلى أن لم يبقى أحد منهم؛ وصفت له الأمور فاستقل هو بالملك وكان في كل سنة يبعث إلى مشهد علي قنديلاً من ذهب زنته ألف دينار، وهذا دليل على تشيعه، وكان ذا همة عالية شديد الدهاء والمكر بعيد الغور.
ثم إنه لما انفصل هولاكو عن بغداد بعد الوقعة الفظيعة سار بدر الدين لؤلؤ لخدمته وطاعته وحمل معه الهدايا والتحف(1).
وما هذا إلا خيانة لأمانة الجهاد العظمى.
وبعد:
فهذه بعض نماذج لخيانات الشيعة للدولة السلجوقية، وإضعاف جانبها لأنها كانت على مذهب أهل السنة، نرى فيها الدروس والعبر، ليعتبر من اغتر بحال الروافض وهو يدرس التاريخ لا يعرف شيئًا من مذاهب الدول ونحل الأمم، ولا يفرق بين من هدم الإسلام وسعى في تقويض أركانه وبين من نصره فأعلاه وشيد أركانه.
المبحث الرابع عشر
أحد ملوك التتار يعتنق مذهب الروافض
لقد كان من فضل الله تعالى أن كثيرًا من التتار الذين جاءوا كالوحوش هداهم الله لدين الإسلام، ولكن الأفاعي من الروافض كانوا يسعون لضم من يستطيعون منهم إلى مذهبهم؛ وقد نجح الشيخ جمال الدين بن مطهر الحلي تلميذ نصير الطوسي - في ضم ملك التتار خربندا محمد أرغون بن ابغابن هولاكو ملك العراق وخراسان إلى مذهب الروافض؛ وأقام شعائره في بلاده ولم يزل على الرفض حتى مات، وجرت في أيامه فتن كبار ومصائب عظام بين الروافض وأهل السنة.
__________
(1) البداية والنهاية (13/214) بتصرف.(35/72)
ثم ولي المُلك من بعده ولده أبو سعيد في سنة 716هـ فلعب به بعض الناس في أول دولته، ثم عدل إلى العدل إقامة السنة؛ فأمر بإقامة الخطبة بالترضي عن الشيخين أولاً ثم عثمان ثم علي - رضي الله عنهم - ففرح الناس بذلك وسكنت الفتن والشرر والقتال الذي كان بين أهل تلك البلاد، كان والده خربندا قد جهز في حياته جيشًا كثيفًا من الروافض وجمع أموالاً عظيمة ليمد بها صاحب مكة الأمير حميصة بن أبي تمي لينصر الروافض، ويقيم الرفض في بلاد الحجاز؛ فأبطل أبو سعيد ذلك كله.. وأخذ الأموال فاستفتى شيخ الإسلام ابن تيمية فأفتى بأنها تصرف في المصالح التي يعود نفعها على المسلمين؛ لأنها كانت معدة لعناد الحق ونصرة أهل البدعة على أهل السنة(1).
أرأيت كيف أن القوم لا يضيعون فرصة تسنح لهم في نشر مذهبهم والقضاء على مذهب أهل السنة إلا واهتبلوها.
المبحث الخامس عشر
من خيانات الشيعة النصيرية
النصيرية فرقة من فرق الشيعة الغالية، أسسها رجل ضال يقال له محمد بن نصير، كان ينتمي إلى الشيعة الاثنى عشرية، ثم خالفهم فأسس فرقة وحده واتخذ من مدينة سامراء مقرًا له، وظل المرجع الأعلى للمذهب النصيري إلى أن هلك سنة 260هـ، وكان قد ادعى النبوة وأن الذي أرسله هو أبو الحسن علي بن أبي طالب(2).
وأكثر انتشار النصيرية في بلاد الشام، ولهم اعتقادات فاسدة فهم يؤلهون عليًّا، ويقولون: محمد متصل بعلي ليلاً منفصل عنه نهارًا، وعلي خلق محمدًا، ومحمد خلق سلمان الفارسي، وسلمان خلق الخمسة الذين بيدهم مقاليد السموات والأرض؛ وهم: المقداد: رب الناس وخالقهم الموكل بالرعود والصواعق والزلازل.
وأبو ذر: الموكل بدوران الكواكب والنجوم.
وعبد الله بن رواحه: الموكل بالرياح وقبض أرواح البشر.
__________
(1) البداية والنهاية (14/77، 78) بتصرف.
(2) انظر أبي الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين (ص15)، البغدادي: الفرق بين الفرق (ص252).(35/73)
وعثمان بن مظعون: الموكل بالمعدة وحرارة الجسم وأمراض الإنسان.
وقنبر بن ذاذان: الموكل بنفخ الأرواح في الأجسام.
ويحتج النصيريون لهذه العقيدة بأن الإله يحل في الأجسام متى شاء(1)، ويعتبر النصيريون كغيرهم من فرق الشيعة الغالية سب الصحابة من الفروض الدينية لأنهم هم الذين اغتصبوا حق العلويين في الخلافة(2).
ولا يؤمن النصيريون بالبعث والحساب، ويقولون بتناسخ الأرواح ويستحلون الخمر والزنا وسائر المحرمات(3).
والنصيريون يسمون أنفسهم بالعلويين، ويكرهون اسم النصيريين، ولهم عداء للإسلام والمسلمين تاريخه طويل تمثل في ثورات وخروج على الخلفاء المسلمين تارة، وفي التعاون مع أعداء المسلمين من الخارج تارة أخرى، سواء في القديم أو الحديث.
وللعلم هم في سوريا على وجه الخصوص في عصرنا هذا لهم سطوة وسلطان ونفوذ واسع في سائر الدوائر سواء الإعلامية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
فإلى معرفة شيء من خيانات النصيريين...
ومن خيانات النصيريين:
__________
(1) انظر: د/ مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب ص 307، 308.
(2) انظر: د/ سليمان الحلبي: طائفة النصيرية (ص95) ط المطبعة السلطية - القاهرة.
(3) انظر: فاروق الدملوجي: الألوهية في المعتقدات الإسلامية (ص115) - ط بغداد كتاب "الهفت الشريف" "ص64" حققه د/ مصطفى غالب النصيري/ وهو من أهم كتب النصيريين.(35/74)
في سنة 696هـ تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام فخاف الناس من ذلك خوفًا شديدًا، ولكن خرج جيش من دمشق للقاء التتار، فالتقيا عند وادي سليمة؛ فكسر التتار المسلمين؛ وولي السلطان قازان هاربًا، وقتل جماعة من الأمراء وغيرهم من العوام خلق كثير.. واقتربت التتار من البلد، وكثر العبث بالفساد في ظاهر البلد، ثم فرضت أموال كثيرة على البلد موزعة على أهل الأسواق كل سوق بحسبه من المال، ثم عمل التتار المجانيق ليرموا بها القلعة.. وحل الفزع بالناس، فلزموا بيوتهم، وكان لا يرى بالطرقات أحد إلا القليل، والجامع لا يصلى فيه أحد إلا اليسير، ويوم الجمعة لا يتكامل فيه إلا الصف الأول، وما بعده إلا بجهد جهيد، ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعًا ويظن أنه لا يعود إلى أهله.. وكان ذلك بتواطأ النصيريين مع التتار وعلى رأسهم يومئذ الشريف القمي محمد بن أحمد بن القاسم المرتضي العلوي والأصيل بن نصير الطوسي والذي قبض ثم هذه الخيانة مائة ألف درهم..(1).
وانظر كيف يتسمى الخائن شريفًا علويًّا، وما هو إلا خسيس سفلي.
وفي حين كان هذا العلوي (النصيري) يخون كان رجال أهل السنة وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية ينفخون روح الإيمان في الأمة، ويخرجون للجهاد بأنفسهم حتى أنه في هذه الواقعة السالفة عندما حاصر التتار قلعة دمشق، وطلب السلطان من نائب القلعة تسليمها إلى التتار، امتنع النائب لأن شيخ الإسلام ابن تيمية قد قال له لا تسلمها ولو لم يبق فيها إلا حجر واحد، وكان ذلك في مصلحة المسلمين، فإن الله عز وجل حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزًا لأهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة حتى ينزل بها عيسى بن مريم عليه السلام(2).
__________
(1) البداية والنهاية (14/ 906) بتصرف واختصار.
(2) البداية والنهاية (14/8).(35/75)
وشاء الله تعالى أن تتحرك العساكر من الديار المصرية لنصرة أهل الشام فلما سمع التتار انشمروا عنها.. وعرفت جماعة ممن كانوا يلوذون بالتتر ويؤذون المسلمين وشنق منهم طائفة وسمر آخرون وكحل بعضهم وقطعت ألسن وجرت أمور كثيرة، ثم سار نائب السلطة في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان "وهي الجبال التي كان يسكنها العلويين وعرفت بعد باسمهم".
وخرج شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة لتقال أهل تلك الناحية بسبب فساد نيتهم، وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتار وهربوا حن اجتازوا بلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم وأخذوا أسلحتهم وخيولهم، وقتلوا كثيرًا منهم، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ ابن تيمية فاستتابهم وبين للكثيرين منهم الصواب وجعل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوا من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالاً كثيرة يحملونها إلى بيت المال..(1).
أرأيت كيف كانت خيانة هؤلاء العلويين؟ إنهم لم يهبوا مع الجيش الشامي لقتال التتار والمدافعة عن البلد، وحفظ جناب الأمة.
ولا حتى قبعوا في جبالهم دون أن يعينوا على المسلمين ويدلوا على عوراتهم، ولا حتى آووا من فر إليهم من عساكر المسلمين بل سلبوهم ونهبوهم وقتلوا أكثرهم.. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن خياناتهم:
__________
(1) المرجع السابق.(35/76)
في سنة 705هـ كمن الجيش التتاري لجيش حلب فقتلوا منهم خلقًا من الأعيان وغيرهم، وكثر النوح ببلاد حلب بسب ذلك.. ولما كان قد ثبت خيانة العلويين الذين يسكنون بلاد الجرد سار إليهم نائب السلطنة بمن بقى معه من الجيوش الشامية، وكان قد تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة لغزوهم، فنصرهم الله عليهم وأبادوا كثيرًا منهم، ومن فرقهم الضالة، ووطئوا أراضي كثيرة من بلادهم.. وقد حصل بسبب شهود الشيخ ابن تيمية هذه الغزوة خير كثير، وأبان الشيخ علمًا وشجاعة في هذه الغزوة(1).
ومن خيانات النصيريين:
__________
(1) البداية والنهاية (14/35) بتصرف.(35/77)
قال ابن كثير رحمه الله: "وفي سنة 717هـ خرجت النصيرية عن الطاعة، وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله، وتارة يدعى علي بن أبي طالب فاطر السموات والأرض - تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا - وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله صاحب البلاد، وخرج يكفر المسلمين، وأن النصيرية على الحق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيريين الضلال، وعين لكل إنسان منهم مائة ألف وبلادًا كثيرة ونيابات، وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقًا من أهلها، وخرجوا منها يقولون: لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان، وسبوا الشيخين، وصاح أهل البلد "وا إسلاماه وا سلطاناه وا أميراه"، لم يكن لهم يومئذ ناصر ولا منجد، وجعلوا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل، فجمع هذا الضال الأموال فقسمها على أصحابه وأتباعه قبحهم الله أجمعين، وقال لهم لم يبق للمسلمين ذكر ولا دولة ولو لم يبق معي سوى عشرة نفر لملكنا البلاد كلها، ونادى في تلك البلاد أن المقاسمة بالعشر لا غير ليرغب فيه، وأمر أصحابه بخراب المساجد واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن أسروه من المسلمين: قل لا إله إلا علي، واسجد لإلهك المهدي الذي يحي ويميت حتى يحقن دمك، ويكتب لك فرمان، وتجهزوا وعملوا أمورًا عظيمة جدًّا، فجردت إليهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا.. وقتل المهدي أصلهم، ويوم القيامة يكون مقدمهم إلى عذاب السعير"(1).
ومن خيانات النصيريين:
نقتطف هذه المرة بعض صور الخيانة من أهم كتب النصيريين وهو كتاب (تاريخ العلويين) لمؤلفه النصيري (محمد أمين غالب الطويل).
__________
(1) البداية والنهاية (14/83،84).(35/78)
ومما يثير العجب أن هذا النصيري يسمى الخيانة وسيلة ويبررها في كتابه السابق فيقول: "ولما كان لا بد للضعيف المظلوم من التوسل بالخيانة لكي يحافظ على حقوقه أو يستردها - وهذا أمر طبيعي يساق إليه كل إنسان - كان العلويون كلما غصب السنيون أموالهم وحقوقهم يتوسلون بغدر السنيين عند سنوح الفرصة"(1).
وقد سنحت الفرصة عندما جاء التتار إلى بغداد(2)، يقول صاحب تاريخ العلويين: "جاء تيمور لنك بجيوش لا يعرف مقدارها واستولى على بغداد وحلب والشام في سنة 822 - 823هـ، ويدعى أن تيمور لنك كان نصيريًا محضًا من جهة العقيدة، إذ توجد له أشعار دينية موافقة لآداب الطريقة الجنبلانية (النصيرية) وأسباب دخوله في الطريقة هو ذهاب النصيري (السيد بركة) من خراسان إلى الأمير (تيمور) وهو في بلدة بلخ".
ثم يقول: "وداوم تيمور لنك في الاستيلاء على البلاد وشيخه السيد بركة يبشره بدوام فتوحاته، حتى جاء إلى بغداد وأخذها من يد السلطان أحمد.. واستولى على الموصل عام 896هـ، وبنى بها مراقد الأنبياء جرجيس ويونس عليهما السلام.. وجاء للرها واغتسل بمحل النبي إبراهيم. ثم جاء لماردين وأعطاها الأمان.. ثم استولى على ديار بكر وعنتاب التي التجأ أميرها إلى حلب"(3).
ثم يقول: "وكان نائب حلب هو الأمير العلوي (النصيري) تمور طاش والذي اتصل بتيمور لنك خفية، واتفق معه على أن يدهم تيمور لنك حلب.. فهاجمها بالفعل ودخلها عنوة.. فأمعن في القتل والنهب والتعذيب مدة طويلة حتى أنشأ من رؤوس البشر تلة عظيمة، وقد قتل جميع القواد المدافعين عن المدينة.. وانحصرت المصائب بالسنيين فقط!!".
__________
(1) تاريخ العلويين (ص407) ط بيروت - الطبعة الأولى.
(2) هذا الاجتياح التتاري غير الذي كان في سنة 656هـ على يد هولاكو خان.
(3) انظر تاريخ العلويين (ص334) وما بعدها.(35/79)
ثم يقول: "ثم سافر تيمورلنك إلى الشام وقبل سفره جاءت إليه العلوية (النصيرية) درة الصدف بنت سعد الأنصار، ومعها أربعون بنتًا بكرًا من العلويين، وهن ينحن ويبكين ويطلبن الانتقام لأهل البيت وبناتهم اللاتي جيء بهن سبايا للشام... وسعد الأنصار هذا من رجال الملك الظاهر، وهو مدفون بحلب وله قبر فوقه قبه، فوعدها تيمور بأخذ الثأر ومشت البنات العلويات مع تيمور وهو ينحن ويبكين وينشدن الأناشيد المتضمنة للتحريض على الأخذ بالثأر.. فكان ذلك سببًا في نزول أفدح المصائب التي لم يسمع بمثلها بأهل الشام".
ثم يقول: "ولم ينج من بطش تيمورلنك بالشام إلا عائلة من المسيحيين. وأمر تيمورلنك بقتل أهل السنة.. واستثناء العلويين (النصيريين) وبعد الشام ذهب تيمور لبغداد وقتل بها تسعين ألفا.."(1).
هذه بعض خيانتهم في مرحلة الغزو التتاري، أما في الهجمة الصليبية على العالم الإسلامية فإن الصليبيين لم يدخلوا إلى بلاد المسلمين إلا عن طريقهم، ومن مناطق سكناهم - في الغالب - في طرسوس وإنطاكية وغيرها من مناطق نفوذهم.. بل إن مدينة إنطاكية سقطت في يد الصليبيين بفعل الاتفاق الذي وقع بين الزعيم النصيري فيروز وبين قائد الصليبيين بوهموند(2).
ومن خيانات النصيريين في العصر الحديث:
إن خيانات النصيريين في العصر الحديث أكثر من أن تحصى، فهم دائمًا يتقربون من الاستعمار ويتعاونون معه في مقابل الحصول على بعض المكاسب، فعلى سبيل المثال:
تعاون النصيريون مع الاحتلال الفرنسي أثناء انتدابه على سوريا، وكانوا خير عون لهم على الدولة العثمانية - دولة الخلافة يومئذ - وفي مقابل هذا منح الفرنسيون النصيريون مجموعة من الأراضي نعمت بشبه الاستقلال هي التي سميت بجبال العلويين.
__________
(1) تاريخ العلويين (ص34- 339).
(2) انظر: تاريخ العلويين (ص293).(35/80)
وقد فاحت رائحة هذه الخيانة من خلال كلام النصيريين أنفسهم وهم يعترفون بالجميل لفرنسا، وما كان جميلاً، بل ثمن خيانة.
قال محمد أمين غالب النصيري: "إن الأتراك هم الذين حرموا هذه الطائفة من ذلك الاسم - العلويين - وأطلقوا عليهم اسم النصيريين.. نسبة إلى الجبال التي يسكنونها نكاية بهم واحتقارًا لهم، إلا أن الفرنسيين أعادوا لهم هذا الاسم الذي حرموا منه أكثر من 412سنة أثناء انتدابهم على سوريا.. إذ صدر أمر من القومسيرية العليا في بيروت بتاريخ 1/9/1920م بتسمية جبال النصيريين بأراضي العلويين المستقلة"(1).
ومن أشهر رؤوس الخونة النصيريين في العصر الحديث رجل يقال له سلمان المرشد من قرية جوبة برغال شرقي مدينة اللاذقية بسوريا.. وكان هذا الرجل قد ادعى الألوهية فآمن به واتبعه كثير من النصيريين..
وقد مثل الدور تمثيلاً جيدًا، فكان يلبس ثيابًا فيها أزرار كهربية ويحمل في جيبه بطارية صغيرة متصلة بالأزرار فإذا أوصل التيار شعت الأنوار من الأزرار فيخر له أنصاره ساجدين.
ومن الطريف أن المستشار الفرنسي الذي كان وراء هذه الألوهية المزيفة كان يسجد مع الساجدين.. ويخاطب سلمان المرشد بقوله يا إلهي(2).
وقد استماله الفرنسيون واستخدموه وجعلوا للعلويين نظامًا خاصًا.. فقويت شوكته وتلقب برئيس الشعب العلوي الجبدري الغساني، وعين قضاة وسن القوانين وفرض الضرائب على القرى التابعة له.. وشكل فرقًا خاصة للدفاع سماهم الفدائيين.. وللتعاون الوثيق بينه وبين الاحتلال الفرنسي عندما جلا الفرنسيون عن سوريا تركوا لهذا النصيري وأتباعه من الأسلحة ما أغراهم بالعصيان فجردت الحكومة السورية آنذاك قوة فتكت ببعض أتباعه واعتقلته مع آخرين، ثم أعدم شنقًا في دمشق عام 1946(3).
__________
(1) تاريخ العلويين (ص391).
(2) انظر: إسلام بلا مذاهب (ص309).
(3) انظر: خير الدين الزركلي: الإعلام (3/170).(35/81)
ومنهم النصيري الخبيث يوسف ياسين والذي طالما سعى في محاربة الدولة العثمانية بخطبه وأشعاره بل وسلاحه.
قال الدكتور سليمان الحلبي: "لما احتل الإنكليز فلسطين عام 1918م تطوع يوسف ياسين بالفرقة التي شكلها الإنكليز للعمل مع لورنس والملك عبد الله بالحجاز لمحاربة الأتراك باسم الجيش العربي، فكان يوسف ياسين يخطب في الأندية وفي الشباب بالقدس داعيًا إلى الجهاد ضد الأتراك.
وقد نشرت جريدة الكواكب الصادرة في 3/9/1918 بالقاهرة لمراسلها بالقدس واصفًا لحفلة أقيمت في النادي العربي لحث الشباب على التطوع في ذك الجيش، فقال المراسل: وقف الشاب يوسف ياسين وتكلم بصفته جنديًّا في الجيش العربي ثم أنشد قائلاً:
سنأخذ هذا الحق بالسيف والقنا ... شيب وشبان على ضُمر بلق
وقد أخذ الإنجليز فلسطين فعلاً، ولكن بالخديعة لا بالسيف ولا بالقنا ولا بالضمر البلق ثم أعطوها لليهود وأقاموا لهم فيها دولة.."(1).
ناهيك عن خيانتهم للأمة الإسلامية بوقوفهم إلى جانب المارونيين النصارى في كثير من الأحداث سواء في سوريا أو لبنان(2).
وفي سجلات وزارة الخارجية الفرنسية (رقم 3547 وتاريخها 15/6/1936) وثيقة خطيرة تتضمن عريضة رفعها زعماء الطائفة النصيرية في سوريا إلى رئيس الوزراء الفرنسي يلتمسون فيها عدم جلاء فرنسا عن سوريا، ويشيدون باليهود الذين جاءوا إلى فلسطين ويؤلبون فرنسا ضد المسلمين،ووقع على الوثيقة: سليمان الأسد، ومحمد سليمان الأحمد، ومحمود أغا حديد، وعزيز أغا هواش، وسليمان المرشد، ومحمد بك جنيد، وفيما يلي نص الوثيقة نورده لأهميته:
"دولة ليون بلوم، رئيس الحكومة الفرنسية:
__________
(1) طائفة النصيرية (ص114، 115).
(2) المرجع السابق (ص109).(35/82)
إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله سنة فسنة بكثير من الغيرة والتضحيات الكبيرة في النفوس هو شعب يختلف في معتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم "السني" ولم يحدث في يوم من الأيام أن خضع لسلطة من التدخل، وإننا نلمس اليوم كيف أن مواطني دمشق يرغمون اليهود القاطنين بين ظهرانيهم على عدم إرسال المواد الغذائية لإخوانهم اليهود المنكوبين في فلسطين، وإن هؤلاء اليهود الطيبين الذين جاءوا إلى العرب المسلمين بالحضارة والسلام ونثروا على أرض فلسطين الذهب والرخاء ولم يوقعوا الأذى بأحد، ولم يأخذوا شيئًا بالقوة ومع ذلك أعلن المسلمون (السنيون) ضدهم الحرب المقدسة بالرغم من وجود إنكلترا في فلسطين وفرنسا في سوريه، إنا نقدر نبل الشعور الذي يحملكم على الدفاع عن الشعب السوري ورغبته في تحقيق استقلاله،ولكن سوريا لا تزال بعيده عن الهدف الشريف خاضعة لروح الإقطاعية الدينية للمسلمين (السنة) وكسر الشعب العلوي الذي مثله الموقعون على هذه المذكرة نستصرخ حكومة فرنسا ضمانًا لحريته واستقلاله ويضع بين يديها مصيره ومستقبله، وهو واثق أنه لا بد واجد لديهم سندًا قويًّا لشعب علوي صديق قدم لفرنسا خدمات عظيمة"(1).
__________
(1) د/ محمد أحمد الخطيب: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي (ص335) ط عالم الكتب للنشر والتوزيع، الرياض - الطبعة الثانية (1406هـ - 1986).(35/83)
ولم تكن الشيعة النصيرية تكف عن التآمر ضد الدولة العثمانية في محاولة إزالتها فقد ساهم الزعيم النصيري (الشيخ: صالح العلوي) في إسقاط الدولة العثمانية عندما قام بقطع الطريق الذي يصل طرطوس بحماه، فكانت خسائر الأتراك كبيرة نتيجة قطع الطريق عليهم، وقام بعقد اتفاقية مع كمال أتاتورك عام 1920 وبعد ثورة مشبوهة ضد الفرنسيين استسلم صالح العلي فعفا عنه الفرنسيون على عكس ما كانوا يفعلونه مع المجاهدين المسلمين.(1).
وهكذا كان تاريخهم يشهد بخيانتهم وممالأتهم المستمرة لأعداء الإسلام في الظاهر والباطن.
المبحث السادس عشر
من خيانات الشيعة الاثنى عشرية في لبنان
بالتحالف مع النصيريين
شيعة لبنان اثنى عشرية رافضية خبيثة، وهم كسلفهم في الخيانة والبغض لأهل السنة، وما شاع خبره في التاريخ الحديث بالحرب الأهلية في لبنان لم يكن إلا مسلسلاً دمويًّا تضافرت فيه أكثر من جهة، النظام السوري النصيري والشيعة الاثنى عشرية في مليشيات أمل وجيش لبنان، ويجمع كل هؤلاء عداؤهم لأهل السنة.
"بدأت الحرب الأهلية في لبنان بحادث الأتوبيس في عين الرمانة في 13/4/1975 ووجد الفلسطينيون الذي يسكنون المخيمات أنفسهم طرفًا في هذه الحرب.. وتدخلت القوات السورية النصيرية بجيش قوامه 30ألف جندي وخاضت معارك طاحنة تحالف معها أثناءها الشيعة ممثلين في حركة أمل وبعض لواءات الجيش اللبناني ومعهم الموارنة النصارى..
وبدأوا بحصار تل الزعتر.. وكان حصار التجويع ومنع رغيف الخبز، ومنع الأدوية مع القصف الرهيب المتوالي على المخيمات الفلسطينية.. فانطلقوا كالوحوش الكاسرة داخل المخيم يذبحون الأطفال والشيوخ، ويبقرون البطون، ويهتكون أعراض الحرائر.. وسوريا النصيرية تغطي جو هذه المذابح بستار فض الحرب الأهلية..
__________
(1) أ/ محمد عبد الغني النواوي: مؤامرات الدويلات الطائفية (ص263) الطبعة الأولى 1403هـ - 1983.(35/84)
حتى أنه انهالت عليها المساعدات من الأنظمة العربية تتعهد بتغطية نفقات القوات السورية العاملة في لبنان.. وتم تدمير مخيم تل الزعتر بأكمله"(1).
ثم كان الاتجاه إلى مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين خارج صيدا، ويعتبر أكبر مخيم في لبنان؛ إذ كان يقطنه حوالي 45 ألف شخص نصفهم من اللبنانيين الفقراء، ويضم المخيم ملاجئ كثيرة تحت الأرض كان السكان يستخدمونها تفاديًا للغارات الجوية الإسرائيلية.. وبدأ القصف العام حتى في المستشفى الذي دمر فيه جناحين التجأ المرضى إليها أثناء القصف(2).
فهل هذا من فض الحرب الأهلية؟ أم أنه مخطط رافضي خبيث، تنفذ حلقاته وتوزع أدواره بدهاء وخبث، وبالطبع أنكرت القوات النصيرية مسئوليتها عن ما حدث ونسبته إلى اشتباك كان بين الفدائيين.
__________
(1) عبد الله محمد الغريب: وجاء دور المجوس (2/42- 44) بتصرف.
(2) المرجع السابق (ص46).(35/85)
"ونمضي بعجلة الزمان سريعًا فإن التقليب في هذه الجراح لا يزيدنا إلا توجعًا وهمًا، لنصل إلى عام 1982 عندما حصل الاجتياح الإسرائيلي للبنان بحوالي 20 ألف جندي، اكتسحت جنوب لبنان بسرعة خاطفة، ثم واصلت سيرها نحو بيروت العاصمة، وهناك استقبلتها المارونية بحفاوة بالغة وأمدتها بالعون والنصيحة.. وقصفت القوات الإسرائيلية بيروت الغربية - بيروت السنة - برًا وبحرًا وجوًا، ومنع الماء والغذاء والدواء عن المسلمين السنة في بيروت الغربية، ومن الأمثلة على القصف الرهيب الذي تعرضت له بيروت الغربية ما حدث في يوم الأحد 1/8/1982 حيث استمر القصف الإسرائيلي برًا وبحرًا وجوًا مدة أربع عشرة ساعة متواصلة سقطت خلالها 180 ألف قذيفة، أي بمعدل ما يزيد على 214 قذيفة في الدقيقة الواحدة، وتكرر مثل هذا القصف يومي الثالث والرابع ثم العاشر والثاني عشر من الشهر نفسه، لقد هدمت المنازل وروع الأطفال، وقتل الشيوخ.. وامتزجت دماء المسلمين اللبنانيين بدماء المسلمين الفلسطينيين وبعد هذا أخذ الشيعة الروافض والدروز والعلمانيين يطالبون منظمة التحرير الفلسطينية بالخروج من بيروت بل من لبنان كلها.. وقد حدث"(1).
"وقد وقف النظام النصيري السوري من هذا الاجتياح موقف المتفرج.. بل أعلنها صراحة: إن القوات السورية دخلت إلى لبنان لأداء مهمة محددة هي إنهاء الحرب الأهلية.. ولم تذهب لتحارب إسرائيل من هناك"(2).
" وكذلك كان موقف الشيعة الروافض في لبنان فقد باركوا هذا النصر، لأن إسرائيل حققت لهم حلمهم في طرد الفلسطينيين من جنوب لبنان، وكانت إذاعات العدو الصهيوني تنقل تصريحات أعيانهم في تأييد إسرائيل"(3).
__________
(1) أنظر: وجاء دور المجوس (2/49).
(2) المرجع السابق (2/50).
(3) المرجع السابق (2/52).(35/86)
وجملة القول: فإن إسرائيل خاضت حربًا ضروسًا مع المسلمين السنة وحدهم.. وهذا ما أكدته صحيفة الأنباء الكويتية الصادرة بتاريخ 30/4/1985 تحت عنوان "الإسرائيليون جردوا المنظمات السنية من السلاح وحدها.. لقد حصر الإسرائيليون عملية التجريد من الأسلحة بالفلسطينيين أولاً ثم بالسنيين من اللبنانيين دون سواهم.. أما الدروز ومليشيات حركة أمل والمارونيون لم يحدث لهم أي تجريد.. فأدركت القيادات الإسلامية السنية أنها في مواجهة استراتيجية أوسع مما كان يرى بالعين المجردة، استراتيجية ترتكز على النظرية الإسرائيلية التي تسوي بين السني اللبناني والفلسطيني المقيم في لبنان، فالمناطق السنية كانت وستبقى الأرض الخصبة لنمو المقاومة الفلسطينية"(1).
من خيانات حركة أمل الشيعية:
حركة أمل هذه حركة مسلحة نشأت في لبنان، وهي شديدة النكاية ليس في العدو الصهيوني، بل في سكان المخيمات الفلسطينية وبيروت الغربية، وذلك لأنهم سنيون.. وتتلقى حركة أمل دعمها المالي من النظام النصيري في سوريا ومن النظام الاثنى عشري في إيران.
وقد قامت حركة أمل بعمل عدة مجازر في أهل السنة، ربما لم يرتكب العدو الصهيوني مثلها.
__________
(1) المرجع السابق (2/52، 53).(35/87)
"ففي ليلة الاثنين 20/5/1982، اقتحمت مليشيات أمل مخيمي صابرا وشاتيلا، واعتقلوا جميع العاملين بمستشفى غزة.. وبدأ القصف المركز بمدافع الهاون والأسلحة المباشرة، وامتد فشمل مخيم برج البراجنة.. وانطلقت حرب أمل المسعورة تحصد الرجال والنساء والأطفال.. وكانت أمل في وضع متميز لأنها قادرة على الكر والفر، وهي التي كانت تفرض المعركة متى أرادت، أما المقاتلون الفلسطينيون فكانوا يدافعون عن أنفسهم ولا يملكون التراجع عن مواقعهم.. ورغم ذلك فقد عجزت حركة أمل عن الصمود أمام المقاتلين الفلسطينيين فترة طويلة.. وهنا أصدر المجرم المحترف الشيعي نبيه بري أوامره لقادة اللواء السادس في الجيش اللبناني لخوض المعركة وليشارك قوات أمل في ذبح المسلمين السنة في لبنان، ولم تمض ساعات إلا واللواء السادس يشارك بكامل طاقاته في المعركة.. جدير بالذكر أن أفراد اللواء السادس كلهم من طائفة الشيعة، وقد خاض هذا اللواء معارك شرسة ضد المسلمين السنة في بيروت الغربية قبل ذلك"(1).
وجرت عدة محاولات لوقف إطلاق النار ولكن دونما جدوى، لأن زعماء حركة أمل الشيعية كانوا مراوغين يعطون الوعود بوقف إطلاق النار ولا يصدرون هذه الأوامر لمليشيات الحركة..
__________
(1) وجاء دور المجوس (2/74).(35/88)
واستمرت الحرب تشتد حينًا وتخف حينًا آخر.. ورغم وقوف اللواء السادس مع حركة أمل في خندق واحد لم تستطع أمل أن تحسم المعركة لصالحها.. فتدخل اللواء الثامن من الجيش اللبناني إلى جانب حركة أمل ضد الفلسطينيين.. وطوق جيش النظام النصيري مخيم الخليل الفلسطيني في منطقة البقاع، وقام باعتقال عدد من شباب المخيم.. وتدخل الطرف الذي تجري لمصلحته كل هذه المعارك إذ اخترقت أسراب من الطائرات اليهودية الأجواء فوق المخيمات محدثة دويًّا هائلاً. وواصلت تحليقها بانخفاض فوق بيروت والجبل كي تتمتع برؤية عمليات التصفية،وتصور أمجاد عملائها، وتدخل مزيدًا من الرعب في قلوب الأطفال والشيوخ والنساء في المخيمات المنكوبة"(1).
صحف العالم تتحدث عن فظائع شيعة أمل:
وقد تحدثت صحف العالم عن بشاعة ما ارتكبته حركة أمل وأعوانها في حق سكان بيروت الغربية ومخيمات الفلسطينيين فمن ذلك:
يقول مراسل صحيفة (صنداي تايمز): "إنه من الاستحالة نقل أخبار المجازر بدقة لأن حركة أمل تمنع المصورين من دخول المخيمات، وبعضهم تلقى تهديدًا بالموت.. وقد جرى سحب العديد من المراسلين خوفًا عليهم من الاختطاف والقتل، ومن تبقى منهم في لبنان يجدون صعوبة في العمل.."(2).
وقالت صحيفة الوطن الكويتية: "لقد منعت حركة أمل واللواء السادس مراسلي الصحف حتى بعد سقوط مخيم صبرا من الدخول وحطموا الكاميرات والأفلام التي استطاع بعض الصحفيين التقاطها لآثار الدماء فقط، فما بالك بالجرائم التي صاحبت الأحداث".
__________
(1) وجاء دور المجوس (2/74- 81) باختصار.
(2) صندي تايمز: بتاريخ 3/6/1985 نقلاً عن وجاء دور المجوس (2/89).(35/89)
وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية: "أنه بعد سقوط مخيم صبرا انتشرت مجموعات من الشيعة في الجيش وحركة أمل في حالة عصبية كل عشر وعشرين مترًا لمنع الصحفيين والمصورين من التقاط أيًّة صور. وذكرت صحيفة صنداي تايمز أيضًا أن عددًا من الفلسطينيين قتلوا في مستشفيات بيروت، وأن مجموعة من الجثث الفلسطينية ذبح أصحابها من الأعناق".
وذكرت وكالة (اسو شيتدبرس): "عن اثنين من الشهود أن مليشيات أمل جمع العشرات من الجرحى والمدنيين خلال ثمانية أيام من القتال في المخيمات الثلاثة وقتلتهم.. وكان من بينهم نحو 45 من الجرحى في مستشفى غزة.. وذكرت صحيفة (ريبوبليكا) الإيطالية أن فلسطينيًا من المعاقين لم يكن يستطيع السير منذ سنوات رفع يديه مستغيثًا في شتيلا أمام عناصر حركة أمل طالبًا الرحمة.. وكان الرد عليه قتله بالرصاص.. وقالت الصحيفة في تعليقها على الحادث: إنها الفظاعة بعينها"(1).
وشاهد مراسل (كونا): "بعض النسوة خرجن من مخيم صابرا وشاتيلا أمام مبنى مستشفى عكا على الطريق العام لمدخل صبرا الجنوبي، وقالت إحداهن: أسفي على الشباب. هذه المعارك المفتعلة لصالح من؟ وقالت الثانية: نحن لسنا أعداء، عدونا المشترك واحد وهو إسرائيل، وهدفنا تحرير أرضنا فلسطين للعودة إلى ديارنا"(2).
ولقد بالغت هذه المسكينة في إحسانها الظن بالشيعة حين قالت ولسنا أعداء، وربما لها عذر فهي كغيرها من كثير من أهل السنة الضائعين الذين لا يعرفون العدو من الصديق.
__________
(1) وجاء دور المجوس (2/90 - 92) بإيجاز.
(2) وجاء دور المجوس (2/95).(35/90)
وفي تقرير طويل نشره (جون كيفنز) في صحيفة نيويورك تايمز جاء فيه: "دخل مجموعة من الصحفيين إلى مخيم برج البراجنة.. فبدا المخيم تقريبًا محطمًا بصورة سيئة للغاية.. حتى أن بعض الفلسطينيين ذكروا أن إسرائيل لم تفعل بهم ما فعلته بهم حركة أمل.. لقد كانت هناك مرارة في المخيمات ليس فقط تجاه مليشيات أمل بل وربما أكثر تجاه سوريا التي تعتبر على نطاق واسع قد خططت لحصار المخيم وساندته من أجل تحطيم نفوذ ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ولكي تعزز بالوكالة سيطرتها على لبنان"(1).
وهذا غيض من فيض، وقليل من كثير من تقارير عالمية تابعت الأحداث في حين غفل عنها أو تغافل كثير من المسلمين السنة، ولا زالوا ينادون بالتقريب ويخدعون بتقية القوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
تعاون الشيعة مع اليهود حقيقة لا وهم:
قال الأستاذ عبد الله محمد الغريب: "تعاون الشيعة مع العدو الصهيوني في جنوب لبنان حقيقة ثابتة وليس أسطورة اخترعها خصوم الرافضة، فلقد تحدثت الصحف ووكالات الأنباء المحلية والعالمية عن هذا التعاون ولمسه المسلمون والنصارى في الجنوب لمس اليد واعترف به الطرفان الشيعي واليهودي".
__________
(1) المرجع السابق (2/105، 106) ولم يكن المخطط السوري النصيري يهدف إلا إلى سحق مقاومة أهل السنة وليس المقصود عرفات أو غيره.(35/91)
قالت وكالة رويتر في تقرير لها من النبطية في 1/7/1982: "إن القوات الصهيونية التي احتلت البلد سمحت لمنظمة أمل بأن تحتفظ بالمليشيات الخاصة التابعة لها وبحمل جميع ما لديها من أسلحة. وصرح أحد قادة مليشيات منظمة أمل ويدعى حسن مصطفى أن هذه الأسلحة ستستخدم في الدفاع عنا ضد الفلسطينيين، وبعد أن أعلنت إسرائيل عن عزمها الانسحاب من لبنان ضاعفت منظمة أمل من مطاردتها للقوات الفلسطينية في بيروت الغربية والجنوبية، وفي جنوب لبنان، وكانت ادعاءات إسرائيل ضد منظمة التحرير الفلسطينية تشبه ادعاءات أمل، فهل تتم مثل هذه الأمور بشكل عفوي بين الطرفين؟".
تجيبنا على هذا السؤال صحيفة (الجروزاليم بوست) في عدد لها بتاريخ 23/5/1985: "إنه لا ينبغي تجاهل تلاقي مصالح أمل وإسرائيل، التي تقوم على أساس الرغبة المشتركة في الحفاظ على منطقة جنوب لبنان وجعلها منطقة آمنة خالية من أي هجمات ضد إسرائيل.. إن إسرائيل ترددت حتى الآن في تسليم أمل مهمة الحفاظ على الأمن والقانون على الحدود بين فلسطين ولبنان، وإن الوقت قد حان لأن تعهد إسرائيل إلى أمل بهذه المهمة". كما يجيبنا على هذا السؤال رئيس الاستخبارات العسكرية اليهودية إيهود براك حيث يقول: "إنني على ثقة تامة من أن أمل ستكون الجبهة الوحيدة المهيمنة في منطقة الجنوب اللبناني، وأنها ستمنع رجال المنظمات والقوى الوطنية اللبنانية من التواجد في الجنوب والعمل ضد الأهداف الإسرائيلية".
ويجيبنا على السؤال - أيضًا - وزير الخارجية السويدي (بيير أوبيرت) الذي أكد في جنيف في 24/6/1985 أنه نقل رسالة من رئيس حركة أمل نبيه بري إلى القيادة الإسرائيلية.. إلا أنه رفض إعطاء تفاصيل عن الرسالة..(1).
__________
(1) وجاء دور المجوس (2/160- 162) بإيجاز.(35/92)
وفي تقرير نشرته مجلة الأسبوع العربي بتاريخ 24/10/1983عن مقابلة أجرتها المجلة مع حيد الدايخ أحد قادة أمل في الجنوب جاء فيه: "وصلنا إلى معسكر حيدر الدايخ.. وكانت عناصره ترتدي الثياب العسكرية وتحمل الأسلحة.. بعضهم لم يتجاوز العشرين وبعضهم أطلق لحيته فأدركنا عندئذ أن هذه العناصر من أفراد الجيش الشيعي، وأن إسرائيل هي التي تدربهم، خصوصًا عندما شاهدنا على بعد أمتار قليلة من المعسكر (فيلا) يتمركز فيها الإسرائيليون.. وكان أحد الإسرائيليين بين الحين والآخر يرفع منظاره إلى عينيه ويحدق في الوجوه..
اقتربنا من حيدر الدايخ في وسط المعسكر، وقد رفع العالم اللبناني وقد كتبت بعض السيارات (قوات كربلاء) وسألنا حيدر عن سبب التسمية فقال: موقعة كربلاء لها مدلولات كثيرة في نظري، هي مأساة الإمام الحسين الذي حارب الظلم، ونحن نحارب الظلم، وفي رأي أن لبنان كله يمر بكربلاء حاليًا، لأن موقف لبنان مثل موقف الحسين بكربلاء، كان أعداء الإمام كثيرين والأصدقاء تخلوا عنه، وهكذا لبنان، لذلك نسترشد بالإمام الحسين ونمشي على خطاه.
وسألنا: أحد عساكر الدايخ عن سبب حمله السلاح فأجاب: إن السبب في حملي السلاح يعود إلى المخاطر التي تتعرض لها الطائفة الشيعية وإلى التفتت الذي قد يعترضها في المستقبل.
وسألنا حيدر الدايخ: هل تعتبر أن تسميتكم الجيش الشيعي تعود إلى أن عناصركم من الطائفة الشيعية؟ فقال: نحن في منطقة شيعية وجميع عناصري (أولاد الجنوب اللبناني) هم من الطائفة الشيعية، لكن هذا لا يعني أننا طائفيون، بل ليس لدينا أي بعد أو تفكير طائفي، يا أخي إذا كنا شيعة ماذا نفعل؟ هل نغير هويتنا؟ هل نغير طائفتنا كي نرضي بعض الناس؟ نحن لا يمكن أن نتخلى عن هذه الهوية، ولا يمكن أن نكر بأننا إسلام.(35/93)
ثم يمضي الدايخ في حديثه: "كل الناس تعلم والحكومة أيضًا بأننا نحمل السلاح منذ بداية الأحداث، وخضنا المعارك ضد الإرهاب الفلسطيني وضد التجاوزات التي كانت تحدث في الجنوب".
ثم يثني على إسرائيل فيقول: "كنا نحمل السلاح قبل دخول إسرائيل إلى الجنوب، ومع ذلك فإنها فتحت لنا يدها وأحبت أن تساعدنا فقامت باقتلاع الإرهاب الفلسطيني من الجنوب وغيرها ولن نستطيع أن نرد لها الجميل ولن نطلب منها أي شيء لكي لا نكون عبئًا عليها"(1).
وأرجو بعد نقل هذه الدلائل على خيانة القوم وتعاونهم مع العدو الصهيوني أن يفيق كل مسلم يرى بعض الفصائل الشيعية في لبنان كحزب الله وهي تحارب إسرائيل فيخدع بمواقفها، إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد دفاع قومي أو وطني تتأجج ناره وتخمد حسب تقلبات السياسة، فمتى غضبت عليهم إسرائيل حصل التصادم، ومتى رضيت أخمدت النار، وفي الأمر من الخفايا ما سينكشف إن شاء الله ربما لنا، وربما لأجيال من بعدنا.
المبحث السابع عشر
من خيانات الشيعة الدروز
الدروز هي طائفة من الطوائف التي انشقت عن المذهب الإسماعيلي الفاطمي فهي تعد من غلاة الشيعة الإسماعيلية، وهي تنسب إلى أبي محمد الدرزي من أهل موالاته الحاكم بأمر الله الفاطمي..
ولهم معتقدات كفرية، أقبحها الاعتقاد في ألوهية الحاكم بأمر الله.
ومبنى هذه العقيدة أن الدرزي كان قد صنف كتابًا للحاكم ذكر فيه أن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب وانتقلت روح علي إلى أبي الحاكم ثم انتقلت إلى الحاكم وساعده الدرزي على ادعاء الربوبية.. ويعتقدون بنسخ الشريعة الإسلامية وأنها منسوخة بشريعتهم التي ابتدعوها... ويعتقدون في تناسخ الأرواح وانتقالها إلى الأحياء في صورة الإنسان والحيوان.. وينكرون الجنة والنار والثواب والعقاب الأخريين..
__________
(1) وجاء دور المجوس (2/163- 165).(35/94)
ويبغضون أهل كل الأديان خصوصًا المسلمين السنة ويستبيحون دماءهم وأموالهم.. وغير ذلك من العقائد الكفرية الباطلة(1).
ويتمركز أكثر الدروز الآن في لبنان وهم محيرون للغاية في طبيعة عقيدتهم، هل لازالوا يقولون بألوهية الحاكم أم لا؟
فيرى بعض الباحثين أنهم لا زالوا يؤمنون بطبيعة الحاكم الإلهية، ويرى البعض أنهم تخلو عن بعض هذه المعتقدات لكن السرية الشديدة هي التي تصعّب مسألة الحكم عليهم(2) ولكن تاريخ القوم ولو في العصر الحديث فقط مليء بالخيانات التي كان لها أعظم الأثر في تعريض الأمة للهزائم والانكسارات.
فقد قاموا بعدة ثورات متلاحقة تسببت في زعزعة الأمن، وإرباك الدولة العثمانية واستنفاد كثير من الطاقات البشرية والمادية في سبيل القضاء عليها.
ولما سير محمد علي باشا جيشًا لاحتلال بلاد الشام بقيادة ابنة إبراهيم بعد أن شق عصا الطاعة على الدولة العثمانية عام 1247هـ كان الدروز من الموالين له والمناوئين للدولة العثمانية.
وكان الأمير بشير الشهابي (المتوفي 1266هـ) أمير الدروز وجنوده يقاتلون جنبًا إلى جنب مع جيش محمد علي وقد غدت مهمة إبراهيم باشا بن محمد علي قائد الحملة المصرية بفضل تعاون الأمير بشير مهمة سهلة، فتمكن من الاستيلاء على دمشق وهزم الجيش التركي (العثماني) في حمص، وغير جبال طورس وأوغل في قلب بلاد الأتراك، وكاد ينزل الضربة القاضية برجل أوربا المريض لكن بريطانيا والنمسا وروسيا اضطرته إلى الانسحاب.
__________
(1) القلقشندي: صبح الأعشى (13/248) ط الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، والنجوم الزاهرة (4/176) ودكتور محمد كامل حسين طائفة الدروز تاريخها وعقائدها (ص86- 127) ط دار المعارف بمصر 1962م.
(2) انظر: د/فتحي الزغبي: غلاة الشيعة (ص216) وما بعدها - الطبعة الأولى 1998م.(35/95)
وقد حرص الدروز على استغلال كل فرصة مناسبة من أجل إقامة دولة درزية ولأجل ذلك هاجروا إلى جبل حوران الذي سمي ذلك بجبل الدروز بعد أن تمكنوا من طرد أهله المسلمين واستقلوا به تمامًا(1).
ولم يكف الدروز في هذه المرحلة عن مناوشة المسلمين والنصارى من أهل القرى والبادية وقتالهم، بل قد قاموا في غضون ذلك بمذابح مروعة كالتي وقعت في عام 1298هـ حين هجموا على قريتي الكرك وأم ولد، وذبحوا سكانهما عن بكرة أبيهم، ولم يبقوا حتى على الأطفال الرضع، وقد حاولت الدولة العثمانية تأديبهم أكثر من مرة؛ لكنها فشلت وتراجعت أمام ضغوط الإنكليز.
وحين احتل الفرنسيون مصر عام 1213هـ بقيادة نابليون الذي توجه بعد إخضاعها إلى بلاد الشام، وبينما كان محاصرًا لعكا بعث الرسالة الآتية: "مخيم عكا 20 آزار 1798م إلى بشير: "بعد السيطرة على مصر دخلت صحراء سيناء.. فأتيت إلى العريش ثم إلى غزة ثم إلى يافا بعد أن التقيت بجيوش الجزار وسحقتها، ومنذ يومين وصلت إلى عكا وأنا أحاصره الآن.
وأسرع إلى إعلامك بكل ذلك لأنك لا شك في أنك تفرح لهزائم هذا الطاغية (يعني الجزار) الذي سبب الكثير من الذعر للإنسانية عامة وللدروز الأباة بشكل خاص، ورغبتي المخلصة هي أن أقيم للدروز استقلالهم وأعطيهم مدينة بيروت ذات المرفأ كمركز تجاري لهم.
لذلك فإني أرغب في أن تأتي شخصيًّا أو ترسل حالاً من يمتلك لرسم خطة للتغلب على عدونا المشترك، ويمكنك أن تذيع في جميع القرى الدرزية أن كل من يأتي لنا بالمؤن وخاصة الخمر سيكافأ بسخاء"(2).
__________
(1) انظر: الانحراف العقدية والعلمية (1/ 575، 576) وفيليب حتى: تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين (2/ 341) ط دار الثقافة بيروت 1959، ترجمة د/ كمال اليازجي.
(2) أ/ محمد عبد الغني النواوي: رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي (ص31)، والانحرافات العقيدية والعلمية (1/576، 577).(35/96)
ويقول الكابتن (بورون): "إن الأمير بشير لم يجب على رسالة نابليون ولكن قوة من الدروز والموارنة انضمتا إلى جيش نابليون الذي كان يحاول إخضاع عكا في آذار 1799، أتت قوة من الخيالة الدروز والموارنة لنجدة نابليون الذي كان يحاول إخضاع عكا.. ثم يقول إن الدروز والموارنة آزروا نابليون، وإن الأمير بشير أمده بالقادة والمستشارين، وإن فارس بك الأطرش قال له: إن جده إسماعيل كان يملك عدة رسائل بإمضاء نابليون موجهة إلى والده إسماعيل، ولكن هذه الأوراق أتى عليها حريق شب في المنزل".
ومنذ تاريخ 25/7/1920 وحتى 17/4/1946 والمسلمون يقاومون الاستعمار الفرنسي بكل ما يملكون من قوة مادية كانت أو معنوية..
غير أن الدروز كان لهم موقف في جبلهم، لقد رحبوا بالغزاة المحتلين، وقدموا لهم كل ما يقدرون عليه من دعم أو مساعدة، واطمأن الفرنسيون إليهم وأمنوا مكرهم ومن ذلك أنه حينما دخل الفرنسيون دمشق بعد معركة ميسلون سنة 1338هـ - 1920م اتخذ القائد الفرنسي (غورو) حرسه الخاص من الدروز بمعرفة متعب الأطرش، مما يدل على الثقة الكاملة التي أولاها الفرنسيون هؤلاء، الفرنسيون أجروا اتصالاتهم ورفعوا عريضة للمسئول الفرنسي يطلبون الاستقلال وهذه مقدمة عريضتهم:
"لحضرة رئيس البعثة الإفرنسي في دمشق الأفخم:
بناء على بلاغاتكم المتكررة للرؤساء الروحيين، لنا الشرف أن نقدم لسيادتكم بالنيابة عن الشعب الدرزي في جبل حوران برنامج الاستقلال المدرج أعلاه الذي يطلبه الشعب لكي تتكرموا بتقديمه لحضرة صاحب الفخامة المندوب السامي؛ راجين أن يتوسل بالتصديق عليه من قبل حكومة الجمهورية الإفرنسية المعظمة، واقبلوا فائق احترامنا".
وفي 24 تشرين الأول عام 1922م أصدر الجنرال غورو وقراره رقم 1641 بإعطاء جبل حوران استقلاله باسم دولة جبل الدروز المستقلة(1).
__________
(1) راجع هذه المراسلات في: "رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي (ص36- 49).(35/97)
{قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
المبحث الثامن عشر
من خيانات الشيعة في بلاد الهند
قال الدكتور علي بن بخيت الزهراني: "وفي بلاد الهند كان هؤلاء الشيعة ظهيرًا لأعداء الإسلام والمسلمين من الوثنيين الهندوس والسيخ والمستعمرين الإنجليز نكاية في أهل السنة..
واستمرارًا على نفس الطريقة الآثمة في مناصرة الكافرين فمن ذلك أنه كان يوجد في بلدة أجودهيا مسجد كبير من أبنية السلطان بابر وكان الهنادك يعتقدونها أرضًا مقدسة فلما انقرضت الدولة التيمورية غصبوا المسجد وجعلوه جزءًا لمعبدهم وكان ذلك عام 1273هـ، فقدم الشيخ غلام حسين الأودي، ومن معه من المسلمين لاستخلاص المسجد من أيديهم فقتلوه وحرقوا المصاحف.
فلما سمع ذلك الشيخ أمير على الأميتهوري دخل لكهنؤ وحرض الولاة وكانوا من الشيعة لاستعادة المسجد، ولكن الوزير الشيعي (تقي على) كان مرتشيًا والديوان وثنيا، فطفقا يدفعان عن الكفار، ولكن الأمير على خرج إلى أجودهيا ليأخذ بثأر المسلمين وينتزع المسجد من أيديهم فمنعه الوزير الذكور واستفتى العلماء في ذلك وخلع عليهم ثيابًا فأفتوه بأنه لا يجوز الخروج، وكان واجد على شاه أمير تلك الناحية مغبون العقل والدين مشغولاً بالملاهي والمنكرات فحشد الوزير الجند وأمر بالغارة على أمير علي ومن كان معه من المسلمين فلما كاد يصل إلى أجودهيا أغارت عليه العساكر الشاهانية فاستشهد الشيخ ومن معه من المسلمين"(1).
__________
(1) د/ على بن بخيت الزهراني: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين (1/581، 582) دار طيبة مكة المكرمة - الطبعة الثانية 1418هـ - 1998م نقلاً عن نزهة الخواطر وبهجة السامع والناظر (7/82).(35/98)
وللعلم فإن في أوائل القرن الثالث عشر الهجري قد شهدت الهند نشاطًا شيعيًا ملحوظًا، حيث أقام أحد علمائهم ويدعي دلدار على النصير آبادي المتوفي سنة 1235هـ، وأدى الاجتهاد وأقام الجماعة في الجمع والأعياد.. وكانت الشيعة الأمامية في عصره متفرقين في بلاد الهند ليست لهم دعوة إلى مذهبهم وما كانت لهم جامعة تجمعهم، وقد بذل جهده في إحقاق مذهبه وإبطال غيره من المذاهب.. حتى كاد يعم مذهبه في بلاد أوده وتتشيع كل الفرق(1).
وهكذا يسعى الروافض ليس في نشر مذهبهم الخبيث فحسب، وإنما في التواطؤ مع الهندوس - عباد البقر - في هدم مساجد المسلمين السنة وتحويلها إلى معابد يصلون فيها للأبقار!!
المبحث التاسع عشر
وقفات مع بعض خيانات الشيعة
في البلاد العربية في العصر الحديث
تعتبر إيران بمثابة الأم الراعية لكل الشيعة وخصوصًا الاثنى عشرية في كل مكان والشيعة أينما توزعوا فإنهم يدينون بالولاء لإيران أكثر من ولاءهم للأرض التي يعيشون فيها.
وحكومات إيران ترى في دول الخليج العربي امتدادًا لأرض الإمبراطورية الفارسية القديمة، ولها فيها أطماع تزايدت بعد ظهور النفط في دول الخليج العربي، فجعلت الحكومات الإيرانية تتخذ من شيعة هذه البلاد مثار قلاقل لهذه البلاد وتكأة تعتمد عليها في تنفيذ بعض مآربها. وعندما قامت ثورة الخميني لقيت تأييدًا حافلاً من الشيعة في كافة الأنحاء واعتبرها الشيعة الشرارة الأولى التي ستفجر كل المنطقة.
ففي البحرين:
__________
(1) المرجع السابق (1/583) بتصرف.(35/99)
"ولم تمضي إلا فترة وجيزة حتى أعلنت إيران عن نواياها وصرح مسئول رسمي بالمطالبة بضم البحرين إلى إيران وبعض جزر في الكويت وغير ذلك.. وادعى أن نحو 85? من سكان البحرين هم من الشيعة، وهم مضطهدون وعلى رأسهم رجال الدين الشيعة، وخصوصًا من أسموه حجة الإسلام سيد هادي المدرسي الممثل الخاص في البحرين لآية الله الخميني.. وأذاع راديو طهران في 30/8/1979 نداء للسلطة في البحرين بالإفراج عن سيد هادي المدرسي"(1).
وعلى أثر هذا قام نحو اثنى عشر زعيمًا شيعيًّا في البحرين بتفجير الثورة في أنحاء البلاد وقاموا بأحداث شغب واسع النطاق.
وكان المدرسي هذا إيراني أصلاً توطن في البحرين لتنفيذ هذه الأغراض الشيعية الرافضية.
وقد ساعد على تعميق الفجوة بين السنة والشيعة من جراء خطبه وتصريحاته المتطرفة، والتي فيها دائمًا نزعة التحيز والولاء لإيران مع النقمة على أهل السنة وخصوصًا الحاكمين في البحرين(2).
وفي الكويت:
"حدثت أعمال شغب كهذه، حيث قام المدعو أحمد عباس المهري (من عائلة المهري وهم شيعة إيرانيون) بعقد ندوات في مساجد الشيعة، وأخذ يثير قضايا سياسية مثل قضايا الإسكان وإنصاف الشيعة..
وتجاوب معه الشيعة في الكويت بأثرها.. وصدرت الأوامر من الخميني بتسمية المهري الممثل الخاص للخميني في الكويت والمسئول علن صلاة الجمعة فيها..
وتوالت التصريحات في طهران تارة تعرب عن قلقها من المضايقات التي تعرض لها ممثل الخميني وشيعته وتارة تهدد بالتدخل..
والذي جعل اللهجة الإيرانية شديدة في أحداث الكويت هو أن أحمد عباس المهري هذا كان صهرًا للخميني(3).
وفي السعودية:
__________
(1) انظر: وجاء دور المجوس (1/350).
(2) انظر: ريتشارد هرير دكمجيان: الأصولية في العالم العربي (ص213، 214) ط دار الوفاء - المنصورة.
(3) انظر: وجاء دور المجوس (1/351، 352).(35/100)
حيث يوجد في المنطقة الشرقية تجمعات من الشيعة الاثنى عشرية تعتبر سكانيًا امتدادًا للأغلبية الشيعية في إيران والعراق، وقد شهدت المنطقة الشرقية منذ أن استولى الملك عبد العزيز آل سعود عليها عام 1913م معارضات من حين لآخر للحكم السعودي قام بها الموطنون الشيعة.
وفي عام 1925 أنشئت جمعية شعبية بقيادة محمد الحبشي لتعبر عن المطالب المحلية وسرعان ما اعتبرتها الحكومة غير قانونية وحين اكتشف النفط، أصبح للمنطقة الشرقية أهمية جديدة حيث عمل كثيرون من المواطنين الشيعة في صناعة النفط، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها نظم هؤلاء العمال الشيعة عماليا، وأظهروا استياء متزايدًا قبل الحكومة والجالية الأميركية الكبيرة، وفي عام 1948 وصلت القلاقل الشيعية إلى حد الانفجار في مظاهرات واسعة النطاق وفوضى في منطقة القطيف بقيادة محمد بن حسنين الهراج، وقد تم بسهولة سحق المتمردين الذين كانوا يطالبون بالانفصال عن المملكة، وفي عام 1949 اكتشفت الحكومة وجود جماعة ثورية في القطيف تحت اسم جمعية تعليمية، حلت الجمعية، ومات أحد زعمائها في السجن، وقد امتدت هذه الحركة إلى جبيل حتى تم سحقها في عام 1950، وفي الوقت نفسه كانت هناك مظاهرات عمالية كبيرة خلال 1944، 1949، 1953 احتجاجًا على ظروف العمل، وفي سنة 1970 أحدثت الشيعة قلاقل كبيرة في القطيف - أيضًا - فأرسلت الحكومة الحرس الوطني لاحتواء الاضطرابات، وفي عام 1978 حدث انفجار آخر وتظاهرات أدت إلى اعتقالات وخسائر واسعة النطاق.. وقد تزامنت الاضطرابات الواسعة في القطيف أواخر 1979م مع أيام الحداد الديني الشيعي (عاشوراء) وكان ذلك في أعقاب الثورة الإيرانية، وفي الواقع أن هذا كان بدعوة من آية الله الخميني لشيعة المنطقة الشرقية تضمنت الدعوة إلى الثورة(1).
__________
(1) الأصولية في العالم العربي (ص203، 204).(35/101)
هذا وقد مر بنا الكلام على خيانات الشيعة في سوريا وفي لبنان، وإضافة إلى ذلك فإن الشيعة في لبنان عندما أعلن الخميني ثورته في إيران قامت بإعلان مبايعتها على أنه إمام المسلمين في كل مكان(1).
وهكذا حينما وجدوا فولاءهم ليس للبلد الذي يعيشون على أرضه ويأكلون خيره أو للدين الذي ينتسبون إليها وإنما ولاءهم لإيران ولسياستها الاثنى عشرية المنهورة في أكثر المواقف.
وفي اليمن:
يقول القاضي حسين بن أحمد العرشي متحدثًا عن الباطنية - أي الشيعة - وأثرهم في زعزعة الأمن وإثارة الثورات في بلاد اليمن: "اعلم أن الباطنية أخزاهم الله تعالى أضر على الإسلام من عبدة الأوثان، وسموا بها لأنهم يبطنون الكفر ويتظاهرون بالإسلام، ويختفون حتى تمكنهم الوثبة وإظهار الكفر، وهم ملاحدة بالإجماع، ويسمون بالإسماعيلية؛ لأنهم ينسبون أئمتهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق وبالعبيدية لدعائهم إلى عبيد الله بن ميمون القداح.. والآن يسمون شيعة لكونهم مظهرين أن أئمتهم من أولاد الرسول حين عرفوا أنهم لا يستقيم لهم إمالة الحق والدخول إلى دهليز المفر إلا بإظهار المحبة والتشيع ولهم قضايا شنيعة وأعمال فظيعة كالإباحية، وغيرها، وينكرون القرآن والنبوة والجنة والنار.. وتراهم إذا وجدوا لأنفسهم قوة أظهروا أمرهم وأعلنوا كفرهم، فإن غلبوا ولم تساعدهم الأيام كمنوا كما تمكن الحية في جحرها، وهم مع ذلك يؤملون الهجوم والوثبة وأن ينهشوا عباد الله.. ولا ينبغي لذي معرفة وقوة أن يعرف منهم أحدًا يقتدر عليه فيتركه وشأنه فإنهم أهلكهم الله تعالى شياطين الأرض"(2).
__________
(1) وجاء دور المجوس (2/1982) عن جريدة الايكونو ميست البريطانية.
(2) بلوغ المرام شرح مسك الختام فيمن تولى ملك اليمن من ملك وإمام (ص21) مطبعة التبريز - القاهرة 1939م.(35/102)
وحتى الشيعة الزيدية في اليمن كانوا يضطهدون أهل السنة هناك حيث كانوا يسيطرون على مقاليد الحكم في ظل الدولة العثمانية، ولما أراد الترك الجلاء عن بلاد اليمين عام 1337هـ، خشي أهل السنة من سيطرة الزيدية على بلادهم.. وحاول بعض أهل السنة المقاومة فلم تتحد كلمتهم، وباغتهم إمام الزيدية في اليمن آنذاك بجيش من قبائل الزيدية ودارت معارك طاحنة استمرت ستة أشهر، ثم هزمت جموع أهل السنة وأذعن جميعهم لحكم الإمام وسيطرة الزيدية..
وفي بلاد الضالع استمرت المعارك بين الزيدية والسنة عامين كاملين كانت الحرب فيها سجالا(1).
وكم عذبوا وآذوا وقتلوا من علماء السنة في اليمن كما فعلوا بالشيخ محمد صالح الأخرم، حيث اعتقلوه وهو في شيخوخته، واختطفوا الشيخ مقبل بن عبد الله وقتلوا العلامة محمد بن علي العمراني الصنعاني أحد تلامذة الإمام الشوكاني المشهورين(2).
ولعل أحدًا من أهل السنة لا يخدع ويردد أن الزيدية أقرب فرق الشيعة من أهل السنة والجماعة - حيث تتصف بالاعتدال والقصد والابتعاد عن التطرف والغلو - بعدما ذكرنا.
ومن أراد المزيد فليراجع كتاب هدية الزمان في أخبار ملوك الحج وعدن لمؤلفه (العبدلي مؤرخ حضرموت).
ولعل ذلك هو الذي حدا بالشيخ محمد أبي زهرة إلى أن يقول: "وضعف المذهب الزيدي فقد غالبته المذاهب الشيعية الأخرى أو طوته أو لقحته ببعض مبادئها ولذلك كان الذين حملوا اسم هذا المذهب من بعد لا يجوزون إمامة المفضول فأصبحوا يعدون من الرافضة، وهم الذين يرفضون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وبذلك ذهب من الزيدية الأولى أبرز خصائصها"(3).
__________
(1) انظر الانحرافات العقدية والعلمية (1/584، 585).
(2) المرجع السابق (1/586).
(3) انظر: الشيخ/ محمد أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية 1/51.(35/103)
ومن طريف ما يذكر في قتالات الشيعة الزيدية وأهل السنة في اليمن ما قاله الشيخ الدفتردار: "حدثني صديق قضى في اليمن ردحًا من الزمن، وشاهد ثورات الزيدية الشافعية وقد انتدب ليدرس بواعثها وأسبابها، فإذا هو يسقط على الحقيقة إذا وجد وقد الفتن من جهل أعشار الشيوخ بمثل القرآن العليا، وقد سمع حديثًا يدور بين شيخين كانا في نظره - كما يقول - أمثل من يعرف هناك، لما يجد بينهما من مودة على اختلاف فرعيهما، وكم كان يتمنى أن تنتقل هذه المودة إلى أتباعهما المساكين المختلفين، سمعهما يتساران بالحديث التالي:
قال الشيخ الشافعي: ألا يجدر بنا أن نفهمهم أنهم أخوة يسكنون وطنًا واحدًا وتظلهم سماء واحدة ويجمع كلمتم وحي واحد واعتصموا بحبل الله جميعًا فكم من نساء رملت، وأسر تداعت وإثم ذلك راجع إلينا.
قال الشيخ الزيدي الشيعي: دعهم دعهم فهم أهل لكل شقاق وشتات لأنهم لا يحملون لنا المودة ولا يعطوننا ما نستحقه من أجر؛ فإذا فهموا أن الوحي يجمعهم اكتفوا بأحدنا.
قال الشيخ الشافعي: ولكن كيف نلقى الله وحالنا معهم ما تعلم من فتن وتمزيق وخلاف.
قال الشيخ الزيدي: لا! لا! لا تمزيق ولا خلاف، هم المسئولون عن تمزيق أنفسهم ومالنا من أثر إلا أننا تركناهم على حالهم وسرنا مع أهوائهم.
قال الشيخ الشافعي: بل نحن المسئولون أمام الله والإنسانية والحكومة لو كانت تدري، أما علمت أن رسول الله هدم مسجدًا شيده المنافقون إرصادًا لتمزيق الكلمة وفتنة للناس عن الهدى، أجل هدمه وهو مسجد!! فكيف حالنا ونحن الذين أغرينا بينهم العداوة والبغضاء؟
قال الشيخ الزيدي: هل تعتقد لو تركناهم على حالهم يجتمعون؟
قال الشيخ الشافعي: طبعًا طبعًا يجتمعون فهذه الحيوانات تسير مجتمعه فهل يكون الإنسان أقل من الحيوانات عقلاً وفكرًا ونفسًا وضميرًا؟(35/104)
قال الشيخ الزيدي: وكيف تعيش إذا اجتمعوا؟ محال أن نفهمهم الحقيقة فإذا ذلك المبعوث يظهر فجأة بينهما قائلاً: لعيشكما وهم مجتمعون أرغد وأوسع من عيشكما وهم مختلفون لأن لحوم البشر لا تغذي الأحشاء يا أخباث(1).
وهذا الحوار يدلك على أن أئمة الشيعة يرون في إحاطة أنفسهم بهالة من السرية والتقديس سبيل للتكسب والتعيش الرغيد والسلطنة والجاه، فلا إله إلا الله.
وفي العراق:
الجرح الغائر في أعماق الأمة الإسلامية والذي لم يندمل بعد هناك شيعة ولاءها لإيران، وقد كان الخميني يستخدمهم كأداة تخريبية في العراق في أكثر الأحيان.
وخيانة الشيعة في العراق للأنظمة المتعاقبة في حكمها ترجع إلى شعورهم بالاضطهاد ونقمتهم على حكامهم من أهل السنة وولائهم المتزايد نحو شيعة إيران.
"فالشيعة في العراق اليوم يعتقدون أن نسبتهم أكثر من 70? ومع ذلك فهم محرومون مضطهدون.. وعلى شيعة العراق أن يتحرروا من القيادة السنة التي تتحكم بهم منذ عصور طويلة(2) كما أن وجود المدن الثلاثة المقدسة عند الشيعة (النجف - كربلاء - الكاظمية) وبها المزارات جعل شيعة العراق يتطلعون إلى التأييد العام في الشيعة في كل مكان إذا هم أعلنوا الثورة"(3).
__________
(1) الإسلام بين السنة والشيعة: هاشم الدفتردار المدني، ومحمد علي الزغبي (ص 129، 130) ط مطبعة الإنصاف - بيروت 1950م.
(2) وجاء دور المجوس (1/364) بتصرف.
(3) الأصولية في العالم العربي (ص183) بتصرف.(35/105)
وفعلاً استغل الشيعة ذكرى الأربعين للحسين في 5/2/1977 فأطلقوا شرارة الثورة، وقاموا بمظاهرات وحوادث شغب شملت معظم المدن في جنوب العراق، ويبدو أن الأمر كان أكبر من مجرد مظاهرة واضطراب، فلقد كان الشيعة يوزعون نشرات دورية في العراق والخليج تحت عنوان (العراق الحر) (صوت الشعب المضطهد) وفي هذه النشرات كانوا ينادون بالثورة على حكام بغداد، ومن يقرأ هذه النشرات يعلم أنها شيعية لأول وهلة فهم إذا أرادوا وصف ظلم حكام بغداد شبهوهم بهارون الرشيد أو بحكام العصر الأموي وبعد حوادث النجف وكربلاء أسس الشيعة ما يسمى بالجبهة الوطنية الإسلامية في العراق، وأصدروا كتيبًا تحت عنوان برنامج الجبهة الوطنية الإسلامية في 22/2/1977 أي بعد الحوادث بأسبوعين(1)..
وقد نظرت حكومة العراق إلى هذا الحزب في ضوء التشجيع الواضح من الخميني للنضالية الشيعية على اعتباره طابورًا خامسًا يهدف إلى توحيد العراق وإيران.. فقامت الحكومة العراقية بعمليات قمع واسعة النطاق.. ووجهت تهمة الخيانة بالتخطيط لإقامة دولة شيعية في العراق إلى بعض زعماء الشيعة وقامت بإعدامهم وكان على رأسهم باقر الصدر وأخته بنت الهدى، وتم إعدامهم في أبريل 1980(2).
وبرغم ما حاول النظام العراقي فيما بعد إتباع سياسة الاسترضاء، فقام بإنفاق مبالغ كبيرة في إعمار المساجد والمراكز الدينية الشيعية في العراق، وإعطاء الحوافز للقادة والأفراد الشيعيين، بل أعلن صدام حسين رئيس النظام أنه من نسل الحسين بن علي، وأعلن ميلاد علي بن أبي طالب عيدًا قوميًّا.. وبرغم ذلك كله فإن كبار أئمة الشيعة رفضوا التعاون مع البعث(3).
وظلت روح التذمر موجودة تتحين الفرص من آن لآخر للفتك بهؤلاء الحكام.
حول خيانة الشيعة في الحرب الأمريكية على العراق:
__________
(1) وجاء دور المجوس (1/366، 367) بتصرف.
(2) الأصولية في العالم العربي ( ص185) بتصرف.
(3) المرجع السابق (ص189).(35/106)
لم تزل روح التذمر والسخط موجودة عند الشيعة في العراق فهي لا تبرح صدروهم، ومع طلعة كل شمس كانوا يتطلعون إلى إعلان دولة الشيعة في العراق أو التوحيد مع أم الشيعة إيران، وهذا لا يكون إلا بالإطاحة بالنظام الحاكم والتخلص من قيوده.
وبمجرد ما واتتهم الفرصة عندما أعلنت أميركا وبريطانيا الحرب على العراق بحجة محاربة الإرهاب وإحلال الديمقراطية.. وجد الشيعة لهم متنفسًا للتخلص من نظام صدام حسين.
وظهرت خيانتهم في أنهم لم يشاركوا في المقاومات التي قام بها سواء الجيش أو الشعب العراقي ضد هذا العدو الغازي، ووقفوا موقف المتفرج، ومن يدري لعلهم أعانوا العدو الصليبي وأمدوه بما استطاعوا من المعلومات كما فعل ابن العلقمي والطوسي.. قديمًا أيام التتار.
وعندما سقطت بغداد خرج الشيعة في الشوارع كالكلاب المسعورة يخطفون وينهبون ويخربون حتى المستشفيات.. وكل هذا في ظل نظام حماية سادتهم الأمريكيين..
واستغل العدو الأمريكي هذه المناظر التي أحدثها الشيعة في العراق في إظهار نفسه بدور المنقذ المخلص لهذا الشعب المضطهد..
والواقع أننا في الوقت الحالي أمام مشكلة معلوماتية يعرف منها حقيقة الأمر تفصيلاً، وذلك لما اكتنف هذه الحرب من غموض، ولكن يومًا سنكشف إن شاء الله هذا الغموض، إما لنا وإما لأجيال بعدنا ليؤكد الحقيقة التي لا تستبعد على القوم وهي تآمرهم وخيانتهم.
ومن بعض المقتطفات الإخبارية يمكن أن نرى كيف أن الشيعة كانوا متطلعين إلى زوال النظام العراقي وإحلال نظام شيعي محله أو تكون فيه أغلبية شيعية.
والطريف في هذا ما أعلن عن عودة كثير من القادة الشيعيين الذي كانوا قد نفاهم نظام صدام لإحداثهم الشغب وإشعال الثورة في البلاد وتركيزهم بعد العودة على المطالبة بأن تضم الحكومة الجديدة الانتقالية التي أزمعت أمريكا تشكيلها أكبر عدد من رجال الحوزة الدينية الشيعية.(35/107)
نشرت جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 12/7/2003 بأن محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية (شيعي) عاد إلى العراق وعندما طرحت أمريكا تشكيل مجلس مؤقت لإدارة العراق اشترط ضم أكبر عدد ممكن من الشيعة للمجلس ليشكلوا غالبية مريحة من الأعضاء، على أن توضع صيغة مكتوبة تنص على صلاحيات المجلس التنفيذية كضمان لعدم التراجع.. وأن يتولى رئاسة المجلس الجديد مسعود البرزاني (شيعي).
وفي ذات الجريدة في نفس العدد: "ذكرت أن الإمام المهدي مدرسي من أبرز علماء الشيعية العراقيين قد عاد إلى بغداد في يوم 11/7/2003 بعد غياب 30سنة قضاها في المنفى.. ألقى مدرسي خطبة أمام أنصاره بمسجد الكاظمية في شمال بغداد طالب فيه بضرورة تنصيب حكومة منتخبة بالعراق بأسرع وقت ممكن وأكد أن حقوق الأقليات في العراق سوف تكون مكفولة إذا وصلت إلى السلطة حكومة تمثل غالبية أبناء الشعب".
أرأيت كيف ينظر الشيعة إلى السنة على أنهم أقلية، ويدعي أن حقوقهم ستكون مكفولة عند تشكيل حكومة غالبيتها من الشيعة!!
وفي نفس العدد: "ذكر تومي فرانكس القائد السابق للقيادة المركزية الأمريكية أن هناك عناصر إيرانية تنشط في العراق وتحاول التأثير على مجريات الأحداث وأوضح أن هناك رجال دين مدعومين من إيران يشاركون في الحوار السياسي في إطار الطائفة الشيعية كما أن أجهزة المخابرات الإيرانية تنشط في الجنوب العراقي لكن دون تقديم أي دعم عسكري ضد الجنود الأمريكيين".
إنهم ينشطون لجني ثمار الخيانة، ولا يعترضون على العدو الأمريكي!!(35/108)
وفي جريدة الأهرام - أيضًا - بتاريخ 22/6/2003 ذكرت أن حشدًا كبيرًا من الشيعة في العراق شكلوا مظاهرة سلمية توجهوا بها إلى مقر القيادة الأمريكية البريطانية، وقدم ممثلون عنهم عريضة يطالبون فيها بسرعة تشكيل حكومة عراقية وبإقامة مجالس محلية وحكومية تحت إشراف الحوزة الدينية الشيعية.. ونظم المظاهرة أنصار مقتدى الصدر نجل الإمام آية الله محمد صادق الصدر الذي اغتيل في عام 1995 في النجف.
وفي جريدة الأهرام - أيضًا - بتاريخ 16/5/ 2003 ذكرت أنه تظاهر نحو 500 عراقي في بغداد للمطالبة بإقامة حكومة إسلامية وأعلنوا رفضهم قيام أي حكومة علمانية تشكلها الولايات المتحدة وطالب المتظاهرون الذين يمثلون الحوزة الشيعية في مدينة النجف بمنع العراقيين حريتهم في اختيار حكومتهم.(35/109)
وفي جريدة الأسبوع المصرية بتاريخ 7/4/2003 تحت عنوان: "قادة المعارضة العراقية عملاء مباشرون لإسرائيل" ذكرت أنه عندما أطلقت أمريكا ما أسمته إعادة ترتيب العراق روجت دوائر صهيونية عديدة في أمريكا وإسرائيل على حد سواء لاسم (أحمد الجلبي) أحد قادة المعارضة العراقية الواقعين المعترفين بالكيان الصهيوني وإمكانية تعاونه مع هذا الكيان في وقت لاحق في مرحلة ما بعد إعادة ترتيب العراق.. وكان جلبي في إشارة واضحة تبين موقفه من الكيان الصهيوني قد قال في لقاء صحفي نشرته صحيفة (هاآرتس العبرية) من المفضل ألا يقترب منا القادة الإسرائيليون وألا يبحثون عن اتصال.. مضيفًا: عليهم ألا يسارعوا إلينا عندما نكون في السلطة - وهذا لتمويه وصرف الأعين عن علاقته بالكيان الصهيوني - وأحمد جلبي أحد قادة المعارضة الشيعة يعتبر من وجهة نظر الصهاينة أحد أهم المعارضين المعروفين على الساحة الدولية منذ عام 1991؛ خاصة بعد فشل التمرد الشيعي في ذلك العام والذي نفي على أثره.. علمًا بأنه قد قام بزيارات سرية لإسرائيل عدة مرات التقى فيها بعدد من المسئولين الصهاينة، من أبرزهم (افرايم هاليفي) رئيس المؤسسة الأمنية الإسرائيلية المسماة مجلس الأمن القومي والرئيس السابق لجهاز المخابرات الإسرائيلية الموساد، وليس أحمد جلبي فقط هو من يصارع في هذا المجال.. فهناك غيره كثير على هذه الشاكلة أغلبهم يرى نفسه أحق المتآمرين للحصول على أكبر قدر من الغنائم وأهمها كرسي الحكم.
منهم ذلك المعارض الذي يسكن واشنطن (نجيب صالحي) أحد الضباط الكبار في الجيش العراقي قبل أن يفر إلى الولايات المتحدة ليخدم بكل ما أوتي من قوة أعداء العراق.(35/110)
ومنهم - كما جاء في إحدى المجلات البحثية التي يصدرها مركز الدراسات الإسرائيلية عن الحالمين بالحكم في بغداد - الشريف علي بن الحسين من سلالة العائلة الحاكمة التي حكمت العراق قبل الإطاحة بالملكية وإبعادها عن الحكم.. وهو يعتقد أن على العراق العودة إلى النظام الملكي.
ومنهم: سعيد صلاح جفعر يقول عنه الإسرائيليون إنه الصديق المخلص لدولة إسرائيل: "أن والد سعيد قد خدمات جليلة لليهود يوم أن كان وزيرًا للداخلية بالعراق. ولولا مساعدته لما نجحت حملة تهجير اليهود، ويضيف أن سعيد ورث حب إسرائيل واليهود عن أبيه، وقد هرب إلى لندن ليعمل على توحيد قوى المعارضة العراقية وانتخب رئيسًا لبرلمان المنفى خاصة بعد دعم الولايات المتحدة له.
وسعيد صالحي هذا له علاقات قوية جدًّا مع قادة يهود العالم خاصة داخل أمريكا وبريطانيا وإسرائيل ذلك إلى جانب دعمهم المالي السري كي يستميل أكبر عدد من المعارضة العراقية لصالح إسرائيل".
وفي جريدة الأخبار المصرية بتاريخ 13/7/2003 تحت عنوان: "الشيعة يطالبون أمريكا بتعويضهم عن عقود الاضطهاد تحت حكم صدام": "ذكرت الصحيفة أنه في انعقاد أول جلسة لمجلس الحكم الانتقالي والذي مثل الشيعة فيه 13 ممثلاً والسنة 5، والأكراد5، وتركماني1، ومسيحي1، وطالب رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق محمد باقر الحكيم قوات الاحتلال الأمريكي بتعويض الشيعة عن عقود الاضطهاد، وكان قد صرح لوكالة رويتر بأن شيعة العراق قد ينقلبون ضد قوات الاحتلال إذا لم يحصلوا على تعويض سياسي مناسب عن عقود الاضطهاد التي عانوا خلالها في ظل الحكم السابق".
إن القوم لا يهمهم إلا الصالح الشخصي لهم فقط، فهم يعلونها صراحة بأنهم لم يعترضوا على الاحتلال إلا إذا لم يلبوا مطالبهم ويقوم بتعويضهم عما أسموه الاضطهاد السياسي، واعتقد أنه سيفعل لأن العدو ماهر في شراء ذمم الخونة.(35/111)
وفي حين يطالب الشيعة بتعويض عن الاضطهاد السياسي في العقود الماضية كما زعموا(1) يقاوم أهل السنة الاحتلال الأمريكي البريطاني ويبذلون دمائهم في سبيل الله عز وجل.
وفي تقرير إخباري لجريدة الأخبار بتاريخ 13/7/2003 نشرت صورة لجمع كبير من الناس في مسجد وهو يتبرعون بدمائهم للجرحى المقاومين وكان التعليق تحتها: "المسلمون السنة في العراق يتبرعون بدمائهم بعد صلاة الجمعة في جامع عبد القادر الجيلاني في بغداد / الصورة للأخبار من أ.ف.ب".
وهكذا لو قلبت في وابل الأخبار والنشرات التي وتصدر عن الأوضاع في العراق لما أعجزك أن تقف على خيانات الشيعة في العراق والتعامل مع كل الأعداء اليهود والصليبيين ظنًا منهم بأنهم هم الذين سيعيدون الحكم للحوزة الشيعية ويعاونوهم في تأسيس دولة شيعية.
ولكن بإذن الله ستظل المقاومة - مقاومة أهل السنة - حتى يرحل الغزاة أو يهلكون ساعتها ستنكشف خيانات الخائنين أكثر وأكثر، طال الأمد في تحقيق هذا الهدف أو قصر، والرجاء في الله وحده فهو المستعان.
المبحث العشرين
الشيعة يرون تحول السنيين إلى النصرانية
أهون من بقائهم على السنة
لقد بلغت الخيانة الشيعية ذروتها، وهي تسعى في مواجهة أهل السنة أن يفكر أحد الحكام الإيرانيين في استدعاء حملات تنصيرية وعقد اتفاق معها لتنصير المسلمين السنيين من الأكراد.
__________
(1) لم يكن هذا اضطهادًا، وإنما كان ردًا على خيانتهم وشغبهم الذي لا ينتهي.(35/112)
قالت الدكتورة أمال السبكي في كتابها تاريخ إيران السياسي: "من الأشياء المريبة حقًا في السياسة التبشيرية الأمريكية أن يتم عقد اتفاق مع حكومات كل من إيران والعراق وتركيا في أدنبرة 1910 ينص صراحة على حق الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في القيام بالتبشير للديانة المسيحية بين شعب الأكراد المسلمين في الأقطار الإسلامية الثلاث.. وقد جددت الحكومية الإيرانية في عهد الشاه رضا بهلوي الاتفاق سنة 1928، وكان قصد الشاه الإيراني تحقيق أهداف عدة منها:
أولاً: التخلص من الكثافة السكانية الكردية التي تقطن بأذربيجان بإيران منذ مئات السنيين، والتي كثيرًا ما عاونت تركيا السنية ضد إيران للتخلص من الظلم الواقع عليهم.
ثانيًا: كسر شوكتهم بتحويل الكثير منهم إلى المسيحية بعد أن تغير موقف الحكومة التركية عن تأييدهم بعد ثورة كمال أتاتورك في الربع الأول من القرن العشرين.
ثالثًا: تذويب الهوية الكردية (السنية) في القومية الإيرانية لإحكام السيطرة عليهم، والحيلولة دون التئام شمل القومية الكردية مع نظائرها في العراق وتركيا وسوريا"(1).
عجبًا تفكير هؤلاء الخونة:
أيرضى علي بن أبي طالب أو أحد من آل البيت بارتداد واحد عن الإسلام إلى النصرانية أو غيرها؟
ثم هم يرون الأكراد (وهم سنيون) أنهم لو تحولوا إلى النصرانية لخفت حدتهم، ولأمنوا شرهم.
وهذا ليس مجرد سياسة بل عقيدة عند القوم، وأن الناصبي (السني) أشد كفرًا من النصراني واليهودي، ولذلك يرى أئمتهم جواز الصدقة على الذمي وعدم جوازها على السني.
يقول آيتهم الخميني: "ويعتبر في المتصدق عليه في الصدقة المندوبة الفقر لا الإيمان والإسلام، فتجوز على الغني الذمي والمخالف إن كان أجنبيين نعم، ولا تجوز على الناصب ولا على الحربي وإن كان قريبين"(2).
__________
(1) د/أمال السبكي: تاريخ إيران السياسي (ص115،116) سلسلة عالم المعرفة عدد رقم (250).
(2) الخميني، تحرير الوسيلة (1/91).(35/113)
وهذا يعني أن هذا الفعل وهو الاتفاق مع حملات التنصير بين الأكراد لم يكن نظرة خاصة بالشاة رضا بهلوي الذي ثار الخميني ضده، وإنما هي نظرة الخميني أيضًا وعموم الشيعة الرافضة الغالية.
المبحث الحادي والعشرين
على أسوار بغداد(1)
مسرحية فصل واحد... قصة السقوط في الماضي والحاضر:
الزمان: 656هـ
المكان: دار الخلافة في بغداد.
المنظر: قصر الخليفة المستعصم حيث تظهر سدة الخليفة وخلفها يقف حارسان صارمان تتوزع النمارق المصفوفة والستائر المذهبة في مداخل الإيوان.
المشهد: ابن العلقمي - الوزير - في ردائه الأسود وعمامته السوداء يذرع الإيوان وكأنه يفكر في شيء ما، فجأة يدخل عليه أحدهم مسرعًا، تبدوا عليه آثار الفزع.
الرجل: ابن العلقمي.. يا ابن العلقمي.. أنجدنا..أغثنا!
العلقمي: ماذا وراءك يا رجل؟
الرجل: لقد وقعت فتنة بين أهل السنة والشيعة.. يا سيدي.
العلقمي: (يهرش ذقنه): ماذا!! وهل وقعت أخيرًا.
الرجل: وقعت، لقد تجالدوا حتى بالسيوف.
العلقمي: وعلى من كانت الدائرة؟
الرجل: علينا يا سيدي.
العلقمي (ممسكًا بالرجل): ويحك ماذا تقول؟
الرجل: إنها الحقيقية.. لقد قتل كثير من الشيعة.. ونُهِبوا.
العلقمي: قتلوا!! ونهبوا!!
الرجل (متلعثما): و..و..
العلقمي: وماذا بعد؟ انطق.. ويلك
الرجل: وبعضهم من أقاربك.. وخاصتك.. يا سيدي.
العلقمي (مغضبًا): الويل لهم الويل.
الرجل: والرأي يا سيدي.. ماذا سنفعل الآن؟
العلقمي: حسنًا.. عليكم بالصبر وأنا أكفيكم أهل السنة.. هيا بنا (يخرجان)
(يدخل الخليفة ويعتلي عرشه)
المستعصم (محدثًا نفسه): أين ذهب هذا الوزير.. أين؟!
(يدخل ابن العلقمي)
العلقمي: السلام على مولانا الخليفة ورحمة الله وبركاته.
المستعصم: وعليكم السلام. أين كنت يا رجل؟
العلقمي: كنت أتفقد أحوال رعيتكم يا موالاي.
__________
(1) أ/ محمد علي بدوي: مجلة البيان عدد (189) جمادى الأولى 1424هـ، يوليو 2003(ص27، 28).(35/114)
المستعصم: هه.. وكيف أحوال رعايانا؟
العلقمي: على ما نحب.. يأكلون ويشربون.. ولكن يشكرون يا مولاي.
المستعصم: إذن دعنا نأكل ونشرب ونطرب نحن أيضًا.. عليّ بالقيان والجواري الحسان.
العلقمي: حظيتكم (عرفه).. في طريقها إليكم يا مولاي.
المستعصم: آه يا عرفة.. يا له من صوت ناعم وقد سالم..
العلقمي: ها.. ها.. (يضحك).. و..و.. لكن هناك أمر يحول بينك وبينهم يا مولاي.
المستعصم: بيني وبينها!! ماذا تقصد؟!
العلقمي: أقصد قلة المال.. قلة المال تمنعنا من جلب المزيد من الجواري يا مولاي.
المستعصم: ويلك.. وبيت المال أين ذهب؟!
العلقمي: لقد فني المال.. أو كاد.. والسبب جيشكم يا مولاي.
المستعصم: جيشنا!!
العلقمي: أقصد أعداد العساكر كبيرة.. وكثيرة جدًّا.
المستعصم: كبيرة!!
العلقمي: فلو قللنا هذا العدد.. لاستطعنا أن نوفر المال.. وأن نستقدم الجواري لمولاي.
المستعصم: أوه.. إنك تزعجني بهذا الكلام.. (يستعدد للخروج).. افعل ما تراه مناسبًا. وأرسل إليّ الجواري في مخدعي. (يخرج)
العلقمي: أمر مولاي.. ها.. ها.. أمر مولاي (يصفق بيديه فيظهر أحد أعوانه من الخلف).
الرجل: أمرك يا سيدي.
العلقمي: اذهب بهذه الرسالة إلى هولاكو.. وأخبره أن الطريق سالكة (يناوله الرسالة).
الرجل: أمرك سيدي (يخرج)
العلقمي (في خبث): ها.. ها.. لقد دنت ساعتكم.. وحانت نهايتكم.. يابني العباس! (يخرج)
(ضوضاء، أصوات مختلطة، صراخ، عويل، وقع خيول قادمة، يدخل الخليفة فزعًا).
المستعصم: ابن العلقمي.. أين أنت يا ابن العلقمي؟
(للحارس) علي به فورًا.
(يدخل ابن العلقمي مسرعًا)
العلقمي: نعم.. نعم يا مولاي.. ماذا حدث؟
المستعصم: التتار.. التتار قادمون.. إنهم يزحفون على المدينة كالمرض الأسود.
العلقمي: وهل وصلوا؟!
المستعصم: إنهم يرشقوننا بالنبال.. لقد قتلوا مولاتي (عرفة) بين يدي.. قتلوها.
العلقمي: (للحارس) شددوا الحراسة حول القصر، وزيدوا في الاحتراز.(35/115)
المستعصم: ألم تذهب إليهم.. ألم تتفاوض معهم؟!
العلقمي: بلى لقد فعلت.. يا مولاي.
المستعصم: وبماذا أجابوك؟ أجب.. انطق.
العلقمي: لقد رضوا بالمصالحة.
المستعصم: نصالحهم.. إنهم كالأفعى السامة.. كيف نضع أيدينا في حجر الأفعى.. كيف؟!
العلقمي: مولاي.. ليس لدينا خيار آخر.. نصالحهم الآن، ثم نتقوى ونعيد الكرة عليهم.. والحرب سجال.. يوم لك.. ويوم عليك.
المستعصم: وما هي شروطهم؟!
العلقمي: نصف خراج بغداد.. و..
المستعصم: وماذا هناك بعد..؟
العلقمي: وأن تخرج إليهم بحاشيتك ورجال دولتك.
المستعصم: حاشيتي ورجال دولتي!!
العلقمي: والعلماء والقضاة.. نعم..
المستعصم: ولماذا كل هؤلاء؟
العلقمي: ليحضروا عقد الصلح يا مولاي.. الرجل يريد الضمان..
المستعصم: القضاة.. الفقهاء.. إن في الأمر لمكرًا.. لا.. لن أخرج إليهم.
العلقمي: مولاي إن لم تخرج إليهم.. جاءوا إليك.. (يشير إلى رقبته).
المستعصم (مذعورًا): ح.. ح.. حسنًا سأخرج.. اذهب واجمع رجال الدولة وسآتي حالاً.
العلقمي: حالاً.. يا مولاي!
(المستعصم وقد بدا مذهولاً يحدث نفسه)
المستعصم: آه.. أخرج إليهم.. إن نفسي تحدثني أن شيئًا سيقع.. رباه.. رباه..
صوت:
بغداد ماذا أرى في حالك الظلم ... ... نجمًا يلوح لنا أم لفحة الحمم؟
بغداد أين زمان العز في بلد ... ... كان السلام به أسمى من العلم؟
بغداد أين السحاب المزن إذا حكمت ... يد الرشيد بعدل الله في الأمم؟
أين الجحافل يا بغداد عن زمن ... تخاذل العرب عن أفعال معتصم؟
المستعصم (باحثًأ عن مصدر الصوت): من.. من هناك؟.. أين أنت؟.. أين أنت؟
(يظهر شبح أبيض كسا البياض شعره وثيابه، وعلى ثوبه تبدو بقعة سوداء)
التاريخ: أنا التاريخ.. أنا تاريخكم المجيد.. أنا من سيحفظ لكم هذه المأساة وسيرويها للأجيال من بعدكم..
المستعصم: مأساة!! وأي مأساة؟(35/116)
التاريخ: انظر إلى هذه البقع السوداء إنها مآسي الإسلام والمسلمين..وهنا.. ستكون مأساتكم.. (يشير إلى ثوبه).
المستعصم: مأساتنا؟
التاريخ: مأساة بغداد القادمة.. التي سيبتلعها الطوفان.. الطوفان القادم أيها الخليفة..
المستعصم (صارخا): لا.. بغداد.. دار السلام.. حاضرة الرشيد.. أرض الجمال.. ودار الجلال.. سليلة المجد.. وقرة العين.. أغنية الزمان... وحديث الركبان.. سيبتلعها الطوفان.. لا أكاد أصدق.. لا.. (يجثو على ركبه).
التاريخ: ابك مثل النساء ملكًا مضاعًا.. لم تحافظ عليه مثل الرجال.
المستعصم: وماذا أصنع أيها التاريخ وليس لدي من خيار..؟ لقد خذلني العرب والمسلمون.. سمحوا للعدوا أن يستخدم أرضهم لضربي.. حتى صاحب الموصل فعل ذلك خوفًا على نفسه.
(يدخل ابن العلقمي مسرعًا)
العلقمي: مولاي.. الموكب في انتظارك.. يا مولاي..
المستعصم: حسنًا هيا بنا.. (يخرجان).
(ترتفع أصوات الصراخ والاستغاثات، صليل السيوف والقهقهات الشيطانية)
التاريخ (قبالة الجمهور): لقد بدأت المأساة.. سجل يا تاريخ.. واشهد يا زمن.. سجل مأساة إخواننا في بغداد واشهد يا زمن. (يخرج).
صوت:
حان الوداع يا بغداد قد نحرت ... ... رجولة القوم في ميدان منتقم
حان الوداع وعذر القوم أنهم ... لا يقدرون على الأرماح والحمم
هذا الوداع فموتي خير عاصمة ... مذبوحة.. ربما ماتت بلا ألم
الخاتمة
نسأل الله حسنها في الأمر كله
الحمد لله مذلل الصعاب، خالق البحر العباب، جعل التذكرة نافعة لأولي الألباب، والصلاة والسلام على خير البرية الذي عم نوره الأرض فأضاءها كالقمر لا كالشهاب، ونال من رحمته كل شيء حتى أمة الكلاب(1) وعلى كل الآل والأصحاب، صلاة وسلامًا تنال ثوابها إلى يوم فصل الخطاب.
وبعد...
__________
(1) وفي الحديث عند البخاري".. لولا أن تبيد أمة لأمرت بالكلاب فقتلت".(35/117)
فهكذا مضينا في جولة مع التاريخ، نستقرأ أحداثه ونسجل شهادته، ونتتبع مسألة خيانة الشيعة الغالية؛ فوجدناها من الكثرة بحيث لا نستطيع إحصاءها، فضربنا أمثلة واقتطفنا من سجلات التاريخ قطوفا، وكيف نستطيع إحصاء خياناتهم والخيانة في دمائهم وعروقهم، وهي لهم كالماء والهواء، ففي كل يوم لهم خيانات، وما ذكرناه من أمثلة ليس إلا بعض ما ذاع أمره واشتهر خبره، وخرج من حيز السر إلى العلانية، وأما ما يتواصون بكتمانه فالله أعلم بكثرته.. وما كان هذا البحث إلا بمثانة نداء حتى لا يخدع - أو يبقى على خداعه - أحد من أهل السنة؛ وليعرف أن القوم هم سبب انتكاسات الأمة قديمًا وحديثًا في أكثر الأحسان، وليفيق من ينادي بالتقريب، وليعلم أن القوم لا يريدون من مؤتمرات الدعوة إلى التقريب إلا تقريب السنة إلى التشيع، ولعل من طريف ما يذكر أنه في مؤتمر التقريب المنعقد بالقاهرة في الفترة من 8 - 11 ربيع الأولى 1422هـ قام أحد علماء الشيعة وهو يتحدث عن التقريب فاقترح أن تنزع مصر الحد عن المذاهب الإسلامية التي تعتمد نفسه الأصول والمعتقدات(1)، بمعنى أن يقترح نشر المذهب الشيعي في مصر زعمًا بأنه لا يخالف المذاهب الأربعة السنية في الأصول - وهذا كذب - فالشاهد أن الأمر جد خطير وواضح في ذات الوقت، فأهدافهم من التقريب لا تعدو هدفين: الأول: تحذير أهل السنة وتنييمهم(2). والثاني: تشييع أهل السنة.
__________
(1) مجلة منبر الإسلام (ص119، 120) عدد جمادى الأولى 1422هـ - أغسطس 2001م.
(2) وهذا وفق مبدأ التقية الذي يدينون به.(35/118)
وأظن أن بعد كل هذا لا يصح لأحد ممن يأخذون الأمور بالعاطفة لا بالعقل والحكمة والنظر في عواقب الأمور - أن يقول بإمكان التقارب مع من خانوا الله ورسوله، وانتهكوا حرمة الرعيل الأول - الذين نصر الله بهم الإسلام، وقدموا للدين والأمة خدمات جليلة لا ينكرها عليهم إلا جاحد - كيف التقارب مع من لم يرقبوا في المؤمنين إلا ولا ذمة، إن أَرضونا أرضونا بأفواههم، ولكن تأبي قلوبهم؟ كيف التقارب مع من تحالفوا مع شياطين الإنس والجن قديمًا وحديثًا لإذلال أهل السنة، وكم خسرت الأمة الإسلامية وانتكست بسبب غدر القوم وخيانتهم ولم يعد هناك وقت لما يسميه بعض سذج أهل السنة - (حسن الظن) فإننا أمام قوم يتربصون بنا الدوائر، وأظن حتى الذين يدعون إلى حسن النية وإحسان الظن بالشيعة لم يعد خافيا عليهم ضلالات القوم وخيانتهم، فليقرءوا عن أطماع الشيعة في بلاد الخليج، بل في بلاد الحجاز، بل في مصر على وجه الخصوص التي يرونها مهد الدولة الفاطمية التي أسهمت بأكبر نصيب في تحقيق أمجاد الشيعة، وجعلت دولة موحدة من المغرب إلى مصر.
وقد يقول قائل: إن هذا يعني الالتفات إلى خطر الشيعة الغالية والغفلة عن خطر الصليبية والصهيونية.. وغير ذلك؟
والجواب على هذا: لا.
لأن المسلم المفترض أنه كيس فطن، حذر متيقظ لكل ما يراد به، مستعد لكل جبهة، وقد يكون في آن واحد وكم خاضت الدولة الإسلامية قديمًا حروبًا فيها عدة جبهات متصلة في آن واحد فلم تشغلهم جبهة عن جبهة ولا عدو عن عدو.
وأخيرًا أذكر بأن هذا البحث البسيط ما كان إلا من باب ما قاله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "الكلام في أهل البدع أحب إلي من بعض النوافل" فكشفهم وفضحهم حتى لا يغرروا بالمسلمين هو بإذن الله من القرب.(35/119)
ومن قبيل ما حكاه الإمام البزار عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: "ولقد أكثر رحمه الله من التصنيف في الأصول فسألته عن سبب ذلك، والتمست منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته؛ ليكون عمدة في الإفتاء، فقال لي ما معناه:
الفروع أمرها قريب ومن قلد المسلم فيها أحد العلماء المقلدين جاز له العمل ما لم يتيقن خطأه.
وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء.. قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال وبان لي أن كثيرًا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المحمدية الظاهرة العلية على كل دين.. فلما رأيت الأمر كذلك بان لي أنه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم وقطع حججهم وأباطيلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم ويزيف دلائهم ذبًا عن الملة الحنيفة والسنة الصحيحة الجليلة"(1).
والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به كل المسلمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.
كتبه الفقير إلى عفو الرحمن
عماد علي عبد السميع حسين
غفر الله له ولوالديه والمسلمين
21 / جمادى الآخر / 1424هـ
موقع فيصل نور
__________
(1) الحافظ عمر بن علي البزار: الأعلام العليا في مناقب ابن تيمية (ص35، 36) ط المكتب الإسلامي - بيروت 1396هـ.(35/120)
خيانات الشيعة
وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية
إعداد الأخ الدكتور
عماد علي عبد السميع حسين
دكتوراه في الدعوة والثقافة الإسلامية
حقوق الطبع محفوظة
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير
"بدأت دراستي بالدعوة إلى التقريب بين السنة والشيعة بتوجيه من أستاذي الجليل الشيخ محمد المدني، على أن التشيع مذهب خامس بعد أربعة أهل السنة؛ غير أنني عندما بدأت البحث واطلعت على مراجعهم الأصلية وجدتُ الأمر يختلف تمامًا عمَّا سمعت.. فدراستي إذن بدأت بتوجيه من الشيخ المدني من أجل التقريب، ولكن الدراسة العلمية لها طابعها الذي لا يخضع للأهواء والرغبات".
أ.د/ علي أحمد السالوس – أستاذ الفقه وأصوله
"إن استحالة التقريب بين طوائف المسلمين وبين فرق الشيعة هي بسبب مخالفتهم لسائر المسلمين في الأصول، كما اعترف به وأعلنه النصير الطوسي، وأقره عليه نعمة الله الموسوي الخونساري ويقره كل شيعي، وإذا كان هذا في زمن النصير الطوسي فهو في زمن باقر المجلسي الآن أشد وأفظع" .
الشيخ محب الدين الخطيب "الخطوط العريضة"
"ليس أدل على خداع دعوى التقريب من سوء حال أهل السنة في إيران؛ فلو صدقوا في دعواهم لقاربوا بين صفوف الشعب الإيراني سنة وشيعة" .
انظر ناصر الدين الهاشمي "موقف أهل السنة في إيران"
"لقد عشت مع شيعة العراق وإيران والسعودية ولبنان ثماني سنوات محاورًا ومناقشًا، وقد اتضح لي على وجه اليقين أنهم صورة طبق الأصل من كتبهم السوداء المنحرفة".
د/ أحمد الأفغاني "سراب في إيران"
"فُتَحتْ دار للتقريب بين السنة والشيعة في القاهرة منذ أربعة عقود، لكنهم رفضوا أن تُفتَح دور مماثلة في مراكزهم العلمية كالنجف وقُم وغيرها لأنهم إنما يريدون تقريبنا إلى دينهم".
انظر د/ مصطفى السباعي "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي"
مقدمة(36/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }
[آل عمران: 102].
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [ النساء: 1] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا } [الأحزاب: 70].
أما بعد،،
فإن الأمانة من أكرم الخصال التي حث عليها الإسلام، والخيانة من أرذل الخصال التي حذر منها ونهى عنها.
قال تعالى في الأمناء: { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } ، وقال في الخائنين: { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } ، { وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } .
وأفحش ما تكون الخيانة: الخيانة العامة، وهي التي تحدث عنها الفقهاء بتعبير "الخيانة العظمى"، وهي الخيانة المتعلقة بأمر الدين والمتعلقة بأمر الأمة، وتكون بالممالأة والمعاونة تارة، وبالجاسوسية وإفشاء الأسرار العامة للأمة تارة أخرى، وبالتخاذل عن نصرة الأمة مع القدرة على نصرتها.. وغير ذلك.(36/2)
وأحكام الخيانة العظمى مفصلة في كتب الفقه الإسلامي بتوسع؛ إذا كانت الأمانة عندنا هي الدين "لا إيمان لمن لا أمانة له" فإن الخيانة والغدر والمخادعة عند الشيعة هي الدين، فالتقية التي يعتقدها الشيعة توصلهم إلى أَزِمَّة القيادة وأماكن التأثير في كثير من الأماكن؛ فيتمكنون من خيانتهم وتنفيذ مؤامراتهم.
إن الأمر جد خطير يا أهل السنة، فلا يغرنكم ما نطنطن به من شعار "المليار مسلم"؛ فإن هذا المليار الذي لا وزن له ولا ثقل ذبابة لو قلبت في سر تفككه وعدم توحده على هذا النحو، لاتضح لك شيء من الحقيقة، ولعلك تصحو من الحلم الذي تحيطك فيه ورود الغفلة وأزهارها الخادعة، هذا المليار مزقته النحل والمذاهب الباطنية التي لا تعتمد الكتاب والسنة وفهم سلف المؤمنين كأساس لفهمها.
فالعراق – مثلاً - نسبة الشيعة فيها قرابة النصف أو أكثر، والكويت فيها عدد كبير من الشيعة وهم أصحاب النفوذ والجاه، وسلطنة عمان خوارج إباضية، واليمن للفكر الشيعي فيها انتشار واسع، وكذلك البحرين في منطقة هجر التي كانت مقر الشيعة القرامطة قديمًا، والمغرب وريثة (الأدارسة والأغالبة والعبيديين) لا زال الفكر الشيعي له انتشاره فيها.. وأفغانستان وباكستان، ثم رأس الأفعى إيران وهكذا، ومن بقي لا يدين بمذهب من هذه المذاهب إما أن تجده في أحضان العلمانية أو الاشتراكية الشيوعية، وتسمع منهم كلمات الإلحاد صراحة كالذي يقول في حزب البعث:
"إن لم يكن لي خالق لقلت البعث خالقي!!!"
فكم يكون أهل السنة الطائفة المنصورة في وسط هذا الغثاء؟
إنهم برغم كل هذا قوة لا يستهان بها إذا ما استيقظوا من سباتهم وغفلتهم وانخداعهم بمن حولهم.
فكثير من أهل السنة لا يدري من معه ومن عليه، ومن عدوه ومن صديقه، وبحسن نية أو ببلاهة(1) قد يصادق من يحد له السكين في كل يوم ويحفر له القبر، ويراه وليًّا حميمًا!!.
__________
(1) السنة تعلم من يتبعها بحق الكياسة والفطنة والحكمة.(36/3)
كما أود بعد هذا العرض السريع للتفرق المذهبي في صفوف المليار مسلم أن أقول: كفى من الوهم والمخادعة حول ما يسمى محاولات تقريب هذه المذاهب وجمع شملها، ذلك أنه وإن كان توحد المسلمين هو الأمنية التي نعلق عليها الآمال – بعد الله تعالى – في رفع المذلة والمهانة عن واقعنا إلا أن هذه اللملمة ثبت فشلها في كل محاولة، فأهل كل مذهب - وخصوصًا الشيعة – لا يدعون إلى تقارب الآراء وإنما يدعون إلى تقريب أهل السنة إلى مذهبهم تصريحًا أو تلميحًا(1) .
ومن هنا لا بد من إيقاظ أهل السنة الذين هم دائمًا حملة لواء الإسلام في كل زمان والمنافحين عنه والغرابين عن حياضه.
إيقاظهم بأن يحرصوا على عدم تبديد الجهود في مسألة التقريب بين السنة والشيعة، بل لا بد أن يحرصوا على بذل أقصى الجهود في التقريب بين أهل السنة أنفسهم؛ فبينهم من الاختلافات – وإن كانت فرعية – ما يستوجب جهدًا جبارًا من كل المخلصين.
ولا أدعي لنفسي أنني أول من وجه رسالة الإنذار(2) ) إلى المسلمين (أهل السنة)، ولكن حسبي أنني أريد أن تُكْشَفُ الحقيقة فيسعد بها طالبوها، وأن يتعرى الباطل فيرى الناس – حتى أتباعه – قباحة مظهره وشناعة مخبره.
__________
(1) ولقد صرح الخميني في كتابه "الحكومة الإسلامية" وهو يتحدث عن الوحدة الإسلامية أنه ينظر إليها من خلال مذهبه أي أن يتشيع الناس، ويستشهد على هذا بقول منسوب إلى فاطمة الزهراء رضي الله عنها: "طاعتنا نظامًا للملة وإمامتنا أمانًا من الفرقة" (ص35).
(2) جدير بالذكر أن غير واحد من علماء السنة المعاصرين ممن وجهوا رسالات الإنذار لأهل السنة ظلوا دهرًا طويلاً ينادون بالتقريب، حتى حصلت لهم مواقف شخصية مع الشيعة فعرفوا حقيقتهم، على حد قول القائل: "من ذاق عرف"، "وليس راء كمن سمع"، ومن أشهر هؤلاء الدكتور/ مصطفى السباعي، والعلامة رشيد رضا ، والدكتور/ عبد المنعم النمر.. وغيرهم.(36/4)
وفي هذا البحث حاولت أن أوجه رسالة الإنذار لسد ثغرة خطيرة، وهي ثغرة الخيانة والغدر التي دائمًا تكون السبب في هزيمة الأمة الإسلامية وانتكاسها؛ فحاولت استقصاء طرف من خيانات الشيعة في القديم والحديث؛ لعل القارئ الكريم يدرك معي بعض الحقائق الغائبة وراء الأحداث العجيبة التي تحدث، كالذي سمعناه وسمعه العالم كله عن المقاومة العنيفة في بغداد وصمود أهلها واستعصائها على القوات الأمريكية والبريطانية، وما هي إلا ليلة يسفر صبحها عن سقوط بغداد واختفاء الجيش العراقي كأن لم يكن له أثر، وبعدها بأيام يشكل لصوص الحرية – الأمريكان- حكومة، ويأتي من يرأسها على دباباتهم ووسط حراساتهم؛ فإذا هو شيعي، ولكن الله كان له بالمرصاد.
وكان منهجي في هذا البحث أنني لم أعول على ذكر العقائد الشيعية، ولا اختلافاتنا معهم في الأصول والفروع، أو غير ذلك، فهذه جزئيات أثرى جانب البحث فيها علماء أجلاء. فقط ذكرت بعض العقائد التي لها علاقة بمسألة الخيانة والتي تعتبر بمثابة المحرك للقوم وراء خياناتهم.
كما أنبه على أن الشيعة فرقة تفرقت عنها نحو عشرين فرقة، منها ما اندثر ومنها ما بقي إلى الآن، ومنهم المعتدلون وهم قلة، ومنهم الغلاة وهم كثرة، والشيعة الخونة الذين نقصدهم في هذا البحث هم الغلاة، أمثال الشيعة الاثنى عشرية – وهم أكثر شيعة اليوم انتشارا - والشيعة الإسماعيلية والعلويين أو النصيريين.
وقد مضيت أقلب في كتب التاريخ فهو سجل أحداث الأمة، أقتطف بعض الأمثلة على خيانات الشيعة سواء لأهل البيت أنفسهم الذين يزعمون حبهم ويعادون الناس من أجلهم، أو خياناتهم أيام التتار أو الصليبيين، أو حتى في العصر الحديث.
وأرجو الله تعالى أن ينفع بهذه الصفحات؛ فيفتح بها قلوبًا غُلْفًا وآذانًا صُمًا وأعيُنًا عُمْيًا، وأن يجعل هذا العمل المتواضع القاصر خالصًا لوجه الله الكريم سبحانه. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(36/5)
كتبه الفقير إلى عفو الرحمن
عماد علي عبد السميع حسين
غفر الله له ولوالديه والمسلمين
المبحث الأول
عقائد وراء خيانات الشيعة
المبحث الأول
عقائد وراء خيانات الشيعة
لا أريد في هذا الفصل أن أسرد عقائد الشيعة في الإمامة، أو في سب الصحابة، أو في القرآن الكريم.. أو غير ذلك، لأن هذه العقائد مفصلة في أبحاث كثيرة، ركزت على الجانب العقدي عند الشيعة، وإنما أريد هنا ذكر بعض العقائد التي تتعلق بجانب الخيانة، وأصبح جليًّا أن هذه العقائد كانت بمثابة المحرك للشيعة في كل خياناتهم، ولا شك في أن أعمال الإنسان التي تصدر منه نتيجة اعتقاد انطوى عليه قلبه تصبح لديه بمثابة الدين الذي يدين به ويتعبد، ومن ثَم يكون شديد التمسك بها متفان في تنفيذها.
ومن هنا سترى – فيما يلي – أن خيانات الشيعة لأهل السنة يَعُدُّونَها من الدين، بل من القربات التي ترضي الله تعالى.
(1) كفر من لا يؤمن بولاية الأئمة الاثنى عشر:
لقد نصت كتب الشيعة ومراجعهم على أن الإمامة أصل من أصول الدين، وأن من أنكرها أو أنكر أحد الأئمة فهو كافر.
وقد نقل صاحب كتاب حقيقة الشيعة طرفًا من أقوال أئمة الشيعة في تقرير هذا الاعتقاد، أسوق لك بعضه:
يقول رئيس محدثيهم محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق في رسالة الاعتقادات (ص103- ط مركز نشر الكتاب – إيران 1370) ما نصه:(36/6)
".. واعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من بعده – عليهم السلام – أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء، واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحدًا ممن بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله"، وينقل حديثًا منسوبًا إلى الإمام الصادق أنه قال: " المنكر لآخرنا كالمنكر لأولنا" .
وينسب أيضًا إلى النبي – صلى الله عليه وآله – أنه قال:
"الأئمة من بعدي اثنا عشر؛ أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وآخرهم القائم، طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي، من أنكر واحدًا منهم فقد أنكرني".
"وأقوال الصدوق هذه وأحاديثه نقلها عنه علامتهم محمد باقر المجلسي في بحار الأنوار 27/61-62"(1) .
"ويقول علامتهم على الإطلاق جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي.. في كتابه الألفين في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص13 ط3 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت 1982: "الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من نبي حي، بخلاف الإمام لما سيأتي. وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص، وإلى هذا أشار الصادق عليه السلام بقوله عن منكر الإمامة أصلاً ورأسًا وهو شرهم".
ويقول شيخهم ومحدثهم يوسف البحراني في موسوعته المعتمدة عند الشيعة: "الحدائق الناضرة في أحكام العزة الطاهرة 18/153 دار الأضواء – بيروت – لبنان" : "وليت شعري أي فرق بين من كفر بالله سبحانه وتعالى ورسوله، وبين من كفر بالأئمة عليهم السلام مع ثبوت كون الإمامة من أصول الدين".
__________
(1) عبد الله الموصلي: حقيقة الشيعة (ص 36) ط دار الإيمان الإسكندرية الطبعة الثانية 2002.(36/7)
ويقول الملا محمد باقر المجلسي والذي يلقبونه بالعلم العلامة الحجة فخر الأمة في بحار الأنوار 23/390: "اعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام وفضَّل عليهم غيرهم يدل أنهم مخلدون في النار".
ويقول شيخهم محمد حسن النجفي في جواهر الكلام 6/62 ط دار إحياء التراث العربي – بيروت: " والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا .. كالمحكي عن الفاضل محمد صالح في شرح أصول الكافي بل والشريف القاضي نور الله في إحقاق الحق من الحكم بكفر منكري الولاية لأنها أصل من أصول الدين" .
" هذا ونقل شيخهم محسن الطباطبائي الملقب بالحكيم كفر من خالفهم بلا خلاف بينهم في كتابه مستمسك العروة الوثقى 1/392 ط3 مطبعة الآداب – النجف 1970" (1) .
ويقول آية الله الشيخ/ عبد الله الماقاني الملقب عندهم بالعلامة الثاني في تنقيح المقال (1/208 باب الفوائد – ط النجف 1952): "وغاية ما يستفاد من الأخبار جريان حكم الكافر والمشرك في الآخرة على من لم يكن اثنى عشري"(2).
وقال آيتهم العظمى ومرجعهم أبو القاسم الخوئي في كتابه مصباح الفقاهة في المعاملات (2/11 ط دار الهادي- بيروت): "..بل لا شبهة في كفرهم – أي المخالفين – لأن إنكار الولاية والأئمة حتى الواحد منهم والاعتقاد بخلافة غيرهم وبالعقائد الخرافية كالجبر ونحوه يوجب الكفر والزندقة وتدل عليه الأخبار المتواترة الظاهرة في كفر منكر الولاية.. أنه لا أخوة ولا عصمة بيننا وبين المخالفين" .
__________
(1) حقيقة الشيعة (ص37، 38) بتصريف يسير.
(2) المرجع السابق (ص38).(36/8)
ويقول شيخهم محمد حسن النجفي وهو يعلن بصراحة عداء الشيعة الشديد لأهل السنة، وذلك في موسوعته الفقهية المتداولة بين الشيعة "جواهر الكلام في شرائع الإسلام" 22/62: "ومعلوم أن الله تعالى عقد الأخوة بين المؤمنين بقوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10]، دون غيرهم، وكيف يُتَصَوَّر الأخوة بين المؤمن وبين المخالف بعد تواتر الروايات وتضافر الآيات في وجوب معاداتهم والبراءة منهم"(1) .
ويقول علامتهم السيد عبد الله شبر الذي يلقب عندهم بالسيد الأعظم والعماد الأقوم علامة العلماء وتاج الفقهاء رئيس الملة والدين، جامع المعقول والمنقول، مهذب الفروع والأصول، في كتابه "حق اليقين في معرفة أصول الدين" (2/188- طبع بيروت): " وأما سائر المخالفين ممن لم ينصب ولم يعاند ولم يتعصب فالذي عليه جملة من الأئمة كالسيد المرتضى أنهم كفار في الدنيا والآخرة والذي عليه الأكثر الأشهر أنهم كفار مخلدون في النار في الآخرة"(2) .
ومن هذه الأقوال السابقة ترى أن اعتقاد الشيعة بكفر أهل السنة هو الذي يبرر لهم عداءهم وخياناتهم لأهل السنة واستباحة دمائهم وأموالهم كما سيأتي.
(2) اعتقاد الشيعة بأن أهل السنة أعداء لأهل البيت:
ومن أخطر الاعتقادات التي تؤجج نار الخيانة في قلوب الشيعة اعتقادهم بأن أهل السنة أعداء لأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يكرهونهم ويبغضونهم وينتقصونهم، فأهل السنة هم الأعداء بل ألد الأعداء، ولذلك يسمونهم النواصب أي الذين ينصبون العداء لأهل البيت!
وهاك بعض أقوال شيوخهم ومحدثيهم وفقهائهم التي تبين لهم أن العدو الحقيقي لهم هم أهل السنة لا غير:
يقول شيخهم وعالمهم ومحققهم ومدققهم حسين بن الشيخ محمد آل عصفور الدرازي البحراني الشيعي في كتابه "المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية" (ص147 طبع بيروت):
__________
(1) حقيقة الشيعة (ص 41، 42، 43).
(2) المرجع السابق (ص 42).(36/9)
" بل أخبارهم عليهم السلام تنادي بأن الناصب هو ما يقال له عندهم سُنيًّا.. ولا كلام في أن المراد بالناصبة هم أهل التسنن" .
ويقول الشيخ الشيعي علي آل محسن في كتابه "كشف الحقائق" - ط دار الصفوة – بيروت (ص249): "وأما النواصب من علماء أهل السنة فكثيرون أيضًا منهم ابن تيمية وابن كثير الدمشقي وابن الجوزي وشمس الدين الذهبي وابن حزم الأندلسي وغيرهم"(1) .
وذكر العلامة الشيعي محسن المعلم في كتابه (النصب والنواصب) ط دار الهادي – بيروت في الباب الخامس، الفصل الثالث (ص259) تحت عنوان: "النواصب في العباد أكثر من مائتي ناصب – على حد زعمه – وذكر منهم:
"عمر بن الخطاب، وأبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأم المؤمنين عائشة، وأنس بن مالك، وحسان بن ثابت، والزبير بن العوام، وسعيد بن المسيب، وسعد بن أبي الوقاص، وطلحة بن عبيد الله، والإمام الأوزاعي، والإمام مالك، وأبو موسى الأشعري، وعروة بن الزبير، والإمام الذهبي، والإمام البخاري، والزهري، والمغيرة بن شعبة، وأبو بكر الباقلاني، والشيخ حامد الفقي رئيس أنصار السنة المحمدية في مصر، ومحمد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، ومحمود شكري الآلوسي.. وغيرهم كثير".
فلا أدري من بقي من أهل السنة لم يدخله الشيعة في عداد الأعداء النواصب.
ويقول الدكتور الشيعي/محمد التيجاني(2) في كتابه "الشيعة هم أهل السنة" ط مؤسسة الفجر في لندن وبيروت ص79: "وبما أن أهل الحديث هم أنفسهم أهل السنة والجماعة فثبت بالدليل الذي لا ريب فيه أن السنة المقصودة عندهم هي بغض علي بن أبي طالب ولعنه، والبراءة منه فهي النصب".
ويقول في صفحة 161: "وغني عن التعريف أن مذهب النواصب هو مذهب أهل السنة والجماعة".
__________
(1) حقيقة الشيعة (ص46).
(2) أو الجاني كما سماه الشيخ/ عثمان محمد الخميس.(36/10)
ويقول في صفحة 163: "وبعد هذا العرض يتبين لنا بوضوح بأن النواصب الذين عادوا عليًّا عليه السلام وحاربوا أهل البيت عليهم السلام هم الذين سموا أنفسهم بأهل السنة والجماعة".
ويقول في صفحة 295: " وإذا شئنا التوسع في البحث لقلنا بأن أهل السنة والجماعة هم الذين حاربوا أهل البيت النبوي بقيادة الأمويين والعباسيين" .
عقد التيجاني في نفس الكتاب فصلاً بعنوان: "عداوة أهل السنة لأهل البيت تكشف عن هويتهم" وقال في صفحة 159 منه: "إن الباحث يقف مبهوتًا عندما تصدمه حقيقة أهل السنة والجماعة ويعرف بأنهم كانوا أعداء العترة الطاهرة يقتدون بمن حاربهم ولعنهم وعمل على قتلهم ومحو آثارهم".
ثم يقول في صفحة 164: "تمعن في خفايا هذا الفصل فإنك ستعرف خفايا أهل السنة والجماعة إلى أي مدى وصل بهم الحقد على عترة النبي- صلى الله عليه وسلم - فلم يتركوا شيئًا إلا وحرفوه" .
ويقول في صفحة 299: "وبعد نظرة وجيزة إلى عقائد أهل السنة والجماعة وإلى كتبهم وإلى سلوكهم التاريخي تجاه أهل البيت؛ تدرك بدون غموض أنهم اختاروا الجانب المعاكس والمعادي لأهل البيت عليهم السلام، وأنهم أشهروا سيوفهم لقتالهم وسخروا أقلامهم لانتقاصهم والنيل منهم ولرفع شأن أعدائهم"(1) .
وهذا غيض من فيض من الأقوال التي تبين اعتقاد الشيعة في عداء أهل السنة لآل البيت، ولسنا هنا في معرض الدفاع لنبين أن أهل السنة لا يبغضون أهل البيت، وإنما يبغضون الذين يبغضون ويسيئون إلى آل بيت رسول الله، ويتقولون عليهم، وينسبون إليهم الكذب.
وسترى فيما سنعرض بعد خيانات الشيعة بناء على هذا الاعتقاد؛ كلما خان الشيعي خيانة أو دبر مكيدة لأهل السنة فإنه يعتبر ذلك من حسناته وصالح عمله؛ لأنه ينتصر لآل البيت من مبغضيهم وأعدائهم.
(3) اعتقاد الشيعة في حل دماء أموال أهل السنة ونجاستهم:
__________
(1) انظر هذه الأقوال في كتاب حقيقة الشيعة (ص48- 50).(36/11)
إن الدماء وقتل الأنفس من أهم القضايا التي عالجتها الشريعة الإسلامية بحكمة وشمول، وبينت حرمة الدم خصوصًا إذا كان هذا الدم سيُراق عن طريق الغدر حتى ولو كان هذا الدم دم كافر بالله – عز وجل –، قال- صلى الله عليه وسلم - : "من أمن كافرًا على دمه ثم غدر به فأنا من القاتل بريء ولو كان مسلما"(1) .
ولكن برغم هذا فإن الشيعة يستحلون دماء وأموال أهل السنة، ويفتي علماؤهم بذلك، روى شيخهم محمد بن علي بن بابويه القمي والملقب عندهم بالصدوق وبرئيس المحدثين في كتابه "علل الشرئع" (ص601 طبع النجف) عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في قتل الناصب – أي السني- ؟ قال: "حلال الدم، ولكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطًا أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل، قلت فما ترى في ماله؟ قال: توه ما قدرت عليه".
وقد ذكر هذه الرواية الخبيثة شيخهم الحر العاملي في وسائل الشيعة (18/463) والسيد نعمة الله الجزائري في الأنوار النعمانية (2/307) إذ قال: "جواز قتلهم – أي النواصب – واستباحة أموالهم"(2) .
وأما إباحة أموال أهل السنة فيروي محدثوا الشيعة وشيوخهم عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "خذ مال الناصب حيث ما وجدته وادفع إلينا الخمس"، أخرج هذه الرواية شيخ طائفتهم أبو جعفر الطوسي في تهذيب الأحكام(4/122) والفيض الكاشاني في الوافي (6/43 ط دار الكتب الإسلامية بطهران)، ونقل هذا الخبر شيخهم الدرازي البحراني في المحاسن النفسانية (ص167)، ووصفه بأنه مستفيض، وبمضمون هذا الخبر أفتى مرجعهم الكبير روح الله الخميني في تحرير الوسيلة(1/352) بقوله: "والأقوى إلحاق النواصب بأهل الحرب في إباحة ما اُغْتُنِم منهم وتعلق الخمس به، بل الظاهر جواز أخذ ماله أين وجد وبأي نحو كان ووجوب إخراج خمسه".
__________
(1) الحديث رواه.
(2) حقيقة الشيعة (ص53).(36/12)
ونقل هذه الرواية أيضًا محسن المعلم في كتابه (النصب والنواصب) - ط دار الهادي – بيروت (ص615) يستدل بها على جواز أخذ مال أهل السنة لأنهم نواصب في نظره(1) .
ويقول فقيههم الشيخ/ يوسف البحراني في كتابه الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة (12/323 ، 324) ما نصه: "إن إطلاق المسلم على الناصب وأنه لا يجوز أخذ ماله من حيث الإسلام خلاف ما عليه الطائفة المحقة سلفًا وخلفًا من الحكم بكفر الناصب ونجاسته وجواز أخذ ماله بل قتله" .
ويقول البحراني – أيضًا – في موضع آخر (10-360): "وإلى هذا القول ذهب أبو صلاح وابن إدريس وسلار، وهو الحق الظاهر من الأخبار لاستفاضتها وتكاثرها بكفر المخالف ونصبه وشركه وحل ماله ودمه كما بسطنا عليه الكلام بما لا يحوم حوله شبهة النقض والإبرام في كتاب الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب عليه من المطالب"(2) .
وأما عن نجاسة أهل السنة في اعتقاد الشيعة فيقول مرجعهم المرزا حسن الحائري الإحقاقي في كتابه أحكام الشيعة (1/137 مكتبة جعفر الصادق - الكويت) : "النجاسات: وهي اثنا عشر، وعد الكفار منها، ثم عد النواصب من أقسام الكفار".
ويقول شيخهم نعمة الله الجزائري في كتاب الأنوار النعمانية (2/306 ط الأعلمي – بيروت): "وأما الناصب وأحواله، فهو يتم ببيان أمرين: الأول: في بيان معنى الناصب الذي ورد في الأخبار أنه نجس، وأنه أشر من اليهودي والنصراني والمجوسي، وأنه نجس بإجماع علماء الإمامية رضوان الله عليهم"(3).
__________
(1) حقيقة الشيعة (ص59).
(2) المرجع السابق (ص60).
(3) حقيقة الشيعة (ص64- 56) بتصرف يسير.(36/13)
وبناء على هذه الروايات الخبيثة التي كونت اعتقاد الشيعة في كفر أهل السنة واستباحة دمائهم وأموالهم، والحكم بنجاستهم سترى العجب – فيما بعد – حينما نقلب صفحات التاريخ نفتش عن خيانات الشيعة، فالشيعي الذي يقرأ في عقائده وأحكامه أنه مأمور بقتل السني ولكن يستحسن أن يغرقه في الماء أو يقلب عليه حائطًا حتى لا يدع دليلاً يشهد به عليه كما يقول فقهاؤهم – إذا وجد فرصة يتحالف فيها ولو مع الشيطان لقتل النواصب (أهل السنة) فإنه سيراها فرصة ذهبية ولن يتوانى، فلا بأس أن يتحالف مع شياطين التتار أو شياطين الصليبيين أو شياطين الأمريكان والإنجليز.
(4) اعتقاد الشيعة في حرمة الجهاد قبل ظهور المهدي:
وهذا الاعتقاد الخطير هو الذي يزيد موقف الشيعة وضوحًا عندما تحل الكوارث بالأمة الإسلامية وتراهم يقفون موقف المتفرج، ثم المتحالف مع الأعداء ليأمن الشيعة من ناحية، ولينكلوا بالسنة من ناحية أخرى.
ولم يسجل التاريخ للشيعة جهادًا ضد الكفار، إلا أن يكون ضد أهل السنة عن طريق الخيانات التي يفعلونها في القديم والحديث.
وتزخر كتب الشيعة بالعديد من المرويات التي تبني هذا الاعتقاد عندهم، ومن ذلك: روى ثقتهم في الحديث محمد بن يعقوب الكليني في الكافي (8/295) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كل راية ترفع قبل قيام القائم- أي الإمام الثاني عشر – فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل"، وذكر هذه الرواية شيخهم الحر العاملي في وسائل الشيعة (11/37).
وروى محدثهم الطبرسي في مستدرك الوسائل (2/248 ط دار الكتب الإسلامية بطهران) عن أبي جعفر عليه السلام قال: "مَثَلُ من خرج منا أهل البيت قبل قيام القائم عليه السلام مثل فرخ طار ووقع من وكره فتلاعب به الصبيان" .(36/14)
وفي الصحيفة السجادية الكاملة (ص 16 ط د الحوراء – بيروت) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما خرج ولا يخرج منا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلمًا أو ينعش حقًا إلا اصطلته البلية وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا"(1) .
بل إنهم يذمون أهل السنة لأنهم يجاهدون، روى الملا محسن الملقب بالكاشاني في الوافي (9/15) والحر في وسائل الشيعة (11/21) ومحمد حسن النجفي في جواهر الكلام (21/40): عن عبد الله بن سنان قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك ما تقول في هؤلاء الذين يقتلون في هذه الثغور؟ قال فقال: الويل؛ يتعجلون قتلة في الدنيا وقتلة في الآخرة، والله ما الشهيد إلا شيعتنا ولو ماتوا على فرشهم"(2) .
المبحث الثاني
خيانات الشيعة لآل البيت
المبحث الثاني
خيانات الشيعة لآل البيت
إن الخائن لا يلوي على شيء، ولا يفرق مع من يكون خائنًا، ومع من يكون أمينًا، فإن الخيانة داء إذا خالط دماء الإنسان فإنه يجعله خائنًا ولو مع أقرب الناس إليه.
والشيعة الذين غالوا في حب آل البيت وعلى رأسهم علي بن أبي طالب ثبتت خيانتهم لهم منذ اللحظات الأولى لظهور التشيع إبَّان الفتن التي ثارت ثائرتها بين الصحابيين الجليلين علي ومعاوية رضوان الله عليهما.
خيانتهم لعلي بن أبي طالب:
__________
(1) حقيقة الشيعة (ص 170).
(2) المرجع السابق (ص 172).(36/15)
فقد كان أكثر شيعة(1) علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من أهل العراق وعلى وجه الخصوص أهل الكوفة والبصرة، وعندما عزم علي على الخروج بهم إلى أهل الشام بعد القضاء على فتنة الخوارج خذلوه، وكانوا وعدوه بنصرته والخروج معه، ولكنهم تخاذلوا عنه وقالوا:
"يا أمير المؤمنين لقد نفدت نبالنا وكلَّت سيوفنا، ونصلت أسنة رماحنا فارجع بنا فلنستعد بأحسن عدتنا... فأدرك علي أن عزائمهم هي التي كلت ووهنت وليس سيوفهم، فقد بدأوا يتسللون من معسكره عائدين إلى بيوتهم دون علمه، حتى أصبح المعسكر خاليًا، فلما رأى ذلك دخل الكوفة وانكسر عليه رأيه في المسير"(2) .
"وأدرك الإمام علي أن هؤلاء القوم لا يمكن أن تنتصر بهم قضية مهما كانت عادلة ولم يستطع أن يكتم هذا الضيق فقال لهم: ما أنتم إلا أسود الشرى في الدعة وثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس وما أنتم لي بثقة... وما أنتم بركب يصال بكم، ولا ذي عز يعتصم إليه، لعمر الله لبئس حشاش الحرب أنتم، إنكم تكادون ولا تكيدون وتنتقص أطرافكم ولا تتحاشون.."(3)
والعجيب أن شيعة علي من أهل العراق لم يتقاعسوا عن المسير معه لحرب الشام فقط، وإنما جبنوا وتثاقلوا عن الدفاع عن بلادهم، فقد هاجمت جيوش معاوية عين التمر وغيرها من أطراف العراق، فلم يذعنوا لأمر علي بالنهوض للدفاع عنها حتى قال لهم أمير المؤمنين علي:
__________
(1) لا نستطيع أن نقول إن شيعة علي في هذا الوقت كانوا كلهم غلاة، بل كان فيهم أفاضل أخيار، ولكن لا ننسى أنه كان بينهم السبأمة أتباع عبد الله بن سبأ الذي غالى في علي حتى ألهه وعكف على إشعال الثورة والفتنة، واتخذ من حبه لآل البيت النبوي ستارًا ينفذ منه لبث سمومه اليهودية لعنه الله.
(2) انظر تاريخ الطبري: تاريخ الأمم والملوك (5/89، 90) – وابن الأثير: الكامل في التاريخ (3/ 349).
(3) انظر تاريخ الطبري (5/90)، العالم الإسلامي في العصر الأموي (ص91) .(36/16)
"يا أهل الكوفة كلما سمعتم بمنسر(1) من مناسر أهل الشام انجحر كل امرئ منكم في بيته وأغلق بابه انجحار الضب في جحره والضبع في وجارها، المغرور من عررنمون ولمن فازكم فاز بالسهم الأخيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاء، إنا لله وإنا إليه راجعون"(2) .
خيانتهم للحسن بن علي:
__________
(1) المنسر هي القطعة من الجيش تكون أمامه.
(2) انظر تاريخ الطبير ( 5/135) والعالم الإسلامي في العصر الأموي (ص96).(36/17)
ولما قتل علي بن أبي طالب- رضي الله عنه -، وبويع ابنه الحسن- رضي الله عنه - بالخلافة لم يكن يؤمن بجدوى حرب معاوية وخصوصًا أن شيعته خذلوا أباه من قبل، ولكن عاد شيعتهم من أهل العراق يطالبون الحسن بالخروج لقتال معاوية وأهل الشام فأظهر الحسن حنكة كبيرة دلت على سعة أفقه، فهو لم يشأ أن يواجه أهل العراق من البداية بميله إلى مصالحة معاوية وتسليم الأمر له حقنًا لدماء المسلمين، لأنه يعرف خفة أهل العراق وتهورهم، فأراد أن يقيم من مسلكهم الدليل على صدق نظرته فيهم، وعلى سلامة ما اتجه إليه، فوافقهم على المسير لحرب معاوية وعبأ جيشه وبعث قيس بن عبادة في مقدمته على رأس اثني عشر ألفا، وسار هو خلفه فلما وصلت تلك الأخبار إلى معاوية وتحرك هو أيضًا بجيشه ونزل مسكن، وبينما الحسن في المدائن إذ نادى منادي من أهل العراق أن قيسًا قد قتل، فسرت الفوضى في الجيش وعات إلى أهل العراق طبيعتهم في عدم الثبات، فاعتدوا على سرادق الحسن ونهبوا متاعه حتى أنهم نازعوه بساطًا كان تحته، وطعنوه وجرحوه.. وهنا فكر أحد شيعة العراق وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي في أمر خطير وهو أن يُوثق الحسن بن علي ويسلمه طمعًا في الغنى والشرف، فقد جاء عمه سعد بن مسعود الثقفي(1) وكان وليًّا على المدائن من قبل علي، فقال له: هل لك في الغنى والشرف؟ قال: وما ذاك؟ قال: توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية، فقال له عمه: عليك لعنة الله، أثب على ابن بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأوثقه بئس الرجل أنت(2).
__________
(1) هذا هو المختار بين أبي عبيد الثقفي الذي خرج على الدولة الأموية وادعى أنه من شيعة آل البيت وجعل يطالب بدم الحسين، وما كان ذلك منه إلا نفاقًا وستارًا يخفي خلفه مطامعه الشخصية في الملك.
(2) أنظر تاريخ الطبري (5/159)، العالم الإسلامي في العصر الأموي (ص101).(36/18)
بل إن الحسن - رضي الله عنه - كان يقول: "أرى معاوية خيرًا لي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي وأخذوا مالي والله لأن آخذ من معاوية ما أحقن به دمي في أهلي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني؛ فيضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوا بي إليه سلما، والله لأن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير"(1) .
خيانتهم للحسين بن علي:
بعد وفاة معاوية- رضي الله عنه - سنة 60هـ توالت رسائل ورسل أهل العراق على الحسين بن علي- رضي الله عنه - تفيض حماسة وعطفًا وقالوا له: إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة(2) مع الوالي فأقدم علينا(3) .
وتحت إلحاحهم قرر الحسين إرسال ابن عمه مسلم بن عقيل ليستطلع الموقف فخرج مسلم في شوال سنة 60هـ.
وما أن علم بوصوله أهل العراق حتى جاءوه فأخذ منهم البيعة للحسين، فقيل بايعه اثني عشر ألفا، ثم أرسل إلى الحسين ببيعة أهل الكوفة وأن الأمر على ما يرام(4) .
__________
(1) انظر الاحتجاج للطبرسي (ص 148).
(2) قال الدكتور موسى الموسوي (شيعي) ( أن الأكثرية من فقهاء الشيعة اجتهدوا أمام النص الصريح وقالوا بالخيار بين صلاة ظهر الجمعة، وأضافوا أن شرط إقامة الجمعة حضور الإمام الذي هو المهدي، ففي عصر غيبة الأئمة تسقط الجمعة من الوجوب العيني، ويكون للمسلمين الخيار في الإيتان بها أو بصلاة الظهر، وقالت فئة أخرى من فقهائنا بحرمة صلاة الجمعة في غيبة الإمام ويقوم مقامها صلاة الظهر..) انظر الشيعة والتصحيح (ص127).
(3) انظر: تاريخ الطبري (5/347).
(4) المرجع السابق (5/ 348).(36/19)
وللأسف خدع الحسين- رضي الله عنه - بهم، وسار إليهم بعد أن حذره كثير من المقربين إليه من الخروج لما يعرفون من خيانة شيعة العراق، حتى قال له ابن عباس- رضي الله عنه -: "أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوهم، فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر، وعماله تجبى بلادهم فإنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك، ويخذلوك، وأن يستنفروا إليك فيكونون أشد الناس عليك.."(1) .
وبالفعل ظهر غدر شيعة أهل الكوفة برغم مراسلاتهم للحسين حتى قبل أن يصل إليهم فإن الوالي الأموي عبيد الله بن زياد لما علم بأمر مسلم بن عقيل، وما يأخذ من البيعة للحسين جاء فقتله وقتل مضيفه هانئ بن عروة المرادي، كل ذلك وشيعة الكوفة لم يتحرك لهم ساكن، بل تنكروا لوعودهم للحسين- رضي الله عنه - واشترى بن زياد زممهم بالأموال(2) .
فلما خرج الحسين- رضي الله عنه - وكان في أهله وقلة من أصحابه عددهم نحو سبعين رجلاً، وبعد مراسلات وعروض(3)، تدخل ابن زياد في إفسادها دار القتال فقتل الحسين- رضي الله عنه - وقتل سائر أصحابه، وكان آخر كلامه قبل أن يسلم الروح: "اللهم أحكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا"(4) .
__________
(1) الكامل في التاريخ (4/37).
(2) انظر المسعودي: مروج الذهب (3/67) وما بعدها، العالم الإسلامي في العصر الأموي (ص473).
(3) كان الحسين – رحمه الله – قد عرض عرضًا جيدًا قال فيه: " إما أن تدعوني فأنصرف من حيث جئت، وإما تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني بالحق فالحق باثغور" ، وهذا عين الحكمة من الحسين - رضي الله عنه - لحقن الدماء، ولكن الشيطان عبيد الله بن زياد رفض إلا أن يسلم الحسين نفسه أسيرًا، فرأى الحسين الموت عنده أهون من ذلك، فكان ما كان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
(4) انظر: تاريخ الطبري (5/ 389).(36/20)
بل دعاؤه عليهم مشهور حيث قال قبل استشهاده: "اللهم إن متعتهم ففرقهم فرقًا واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبدًا، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا فقتلونا"(1) .
أرأيت سوء صنيع القوم، وكيف كان غدرهم وخيانتهم حتى بآل البيت الذين زعموا حبهم واتخذوه ذريعة في عداءهم لكل من عادوا.
وهل بعد خيانتهم لآل البيت يستبعد خيانتهم للأمة عامة، فهم منذ اللحظات الأولى يجبنون عن الحرب ويبيعون ذممهم بالأموال، ويفكرون في الخيانة في مقابل الغنى والشرف، ولو كان الثمن هو تسليم واحد من أكابر آل البيت كما فكر المختار الثقفي أن يسلم الحسن بن علي للأمويين.
علمًا بأننا للإنصاف لا بد أن نقرر أن شيعة الصدر الأول في أيام علي والحسن والحسين – رضوان الله عليهم – كان من بينهم فضلاء أخيار كبعض نفر من الصحابة – رضوان الله عليهم – وهؤلاء نربأ بهم عن الخيانة، ومعاذ الله أن نصف أحدًا منهم بها، وإنما مواقف هؤلاء الفضلاء كانت قائمة على الاجتهاد أخطأوا أو أصابوا.
وتشيَّع أكثر الناس يومئذ يدور في فلك الحب لعلي- رضي الله عنه - وآل بيته بناء على مرويات سمعها الناس في الوصاة بحب هذه العترة الطاهرة، ولكن لم تكن هناك مبادئ مقررة للتشيع كالتقية والرجعة وغير ذلك.. اللهم إلا أن يكون عند نفر من الغلاة الذين ترأسهم عبد الله بن سبأ وقالوا بألوهية علي- رضي الله عنه -، لكن بعد ذلك جدَّت أمور شكلت فكر الشيعة وجعلت تقفز به في الانحراف من ميدان إلى ميدان، وتدخلت عناصر مغرضة مجوسية ويهودية وغير ذلك وتسترت بالإسلام ثم بالتشيع، وجعلت تسعى لنقض عرى الإسلام عروة بعد عروة.
__________
(1) انظر الإرشاد (ص241). انظر إعلام الورى للطبرسي (ص 949).(36/21)
ولعل من أوفي وأعمق الدراسات الحديثة التي بينت الصلة بين التشيع وبين هذه العناصر المغرضة هي دراسة بعنوان "وجاء دور المجوس" للأستاذ/ عبدالله محمد الغريب، كشف فيها بالأدلة العملية زيف كثير ممن ادعوا التشيع ولعبوا بورقة حب آل البيت، ولكنهم في حقيقة أمرهم يعملون على إحياء الأفكار المجوسية وعقائدها من ذرادشتية ومانوية ومزدكية..
وغير ذلك من النحل الباطنية التي تقوم بقدم العالم وإنكار الخالق والبعث وغير ذلك من الترهات.
فمن سنعرض بعد ذلك خيانتهم من الشيعة كالإسماعيلية والاثنى عشرية والقرامطة والبويهية والفاطميين، وغير ذلك لم يكونوا في الحقيقة ينتسبون إلى آل البيت ولا حتى بصلة الحب، وإنما هم خونة أعداء للإسلام عمومًا وليس لأهل السنة فقط.
المبحث الثالث
خيانة الوزير الشيعي علي بن يقطين
في عهد هارون الرشيد
المبحث الثالث
خيانة الوزير الشيعي علي بن يقطين
في عهد هارون الرشيد
وهذه واحدة من خيانات الشيعة للدولة العباسية التي أحسنت إليهم كثيرًا حتى وصل بعضهم إلى أعلى المناصب فيها كالوزارة، وصدق القائل
إن أنت أكرمت الكريم ملكته ... ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وخيانة علي بن يقطين نقلها رواة الشيعة أنفسهم، كالعالم الشيعي الملقب بصدر الحكماء ورئيس العلماء نعمة الله الجزائري في كتابه المعروف (الأنوار النعمانية 2/308 طبع تبريز إيران)، ومحسن المعلم في كتابه "النصب والنواصب ص622 ط دار الهادي – بيروت" ونصها:(36/22)
"وفي الروايات أن علي بن يقطين وهو وزير هارون الرشيد قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين، وكان من خواص الشيعة، فأمر غلمانه وهدموا سقف الحبس على المحبوسين فماتوا كلهم وكانوا خمسمائة رجل تقريبًا، فأرادوا الخلاص من تبعات دمائهم فأرسل إلى الإمام مولانا الكاظم فكتب عليه السلام إلى جواب كتابه، بأنك لو كنت تقدمت إلى قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم، وحيث إنك لم تتقدم إليَّ فَكَفِر عن كل رجل قتلته منهم بتيس والتيس خير منه"(1) .
وقد ذكروا هذه الرواية يستدلون بها على جواز قتل النواصب (أهل السنة) أرأيت إلى هذه الدية القيمة "تيس من المعزي، والتيس خير من الناصب"، وما كان ليكلفه دية إلا أنه قتلهم دون استصدار فتوى منه بقتلهم!!.
المبحث الرابع
خليفة عباسي يتشيع وتثبت خيانته
المبحث الرابع
خليفة عباسي يتشيع وتثبت خيانته
الخلافة ليس كلمة هينة وإنما هي بمثابة صمام الأمان للأمة، وهي بمثابة الخيط الذي تنتظم فيه حبات العقد، فإذا قطع هذا الخيط انفرط عقد الأمة، وللأسف فإن بعض الخلفاء العباسيين كان قد يتحول من مذهب أهل السنة إلى مذاهب أخرى فمثلاً الخليفة المأمون الذي اعتنق مذهب المعتزلة بفعل الشيطان أحمد بن أبي دؤاد وزيره، وفعل ما فعل في امتحان الناس بمحنة خلق القرآن.
وتشيع الخليفة الناصر لدين الله بفعل بعض وزرائه الروافض قال عنه ابن كثير رحمه الله:
__________
(1) حقيقة الشيعة (ص55).(36/23)
"الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله .. العباسي .. كان قبيح السيرة في رعيته ظالمًا لهم، فخرب في أيام العراق وتفرق أهله في البلاد، وكان يفعل الشيء وضده.. وكان اعتنق المذهب الشيعي.. ويقال كان بينه وبين التتر مراسلات حتى أطمعهم في البلاد، وهذه طامة كبرى يصغر عندها كل ذنب عظيم"(1) .
المبحث الخامس
الدولة الفاطمية وخياناتها
في محو السنة ونشر التشيع
المبحث الخامس
الدولة الفاطمية وخياناتها
في محو السنة نشر التشيع
لقد بذلت الدولة الفاطمية جهودًا خبيثة في محو السنة ونشر التشيع، وكانت خطتها المتبعة أنه في حال غياب الدولة توزع الدعاة سرًا ليقوموا بالدعوة إلى مذهب الإسماعيلية(2) الشيعي، وفي حالة أن تكون لهم دولة فإنهم يجعلون الدين الرسمي للدولة هو المذهب الشيعي.
وعندما بدأ الفاطميون دعوتهم في بلاد المغرب، وجدوا أن التشيع كان منتشرًا هناك، لأن دولة الأدارسة التي أقامها إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب سنة 172هـ هي في الأصل دولة علوية شيعية، فمن ثم أصبحت بلاد المغرب صالحة للدعوة الإسماعيلية، فانتشر التشيع واعتنقه كثير من البربر، حتى إن أكثر وزراء الأغالبة (في تونس) كانوا على المذهب الشيعي، وكان من أبرز الدعاة للفاطميين في تلك البلاد رجل يقال له أبو عبد الله الشيعي من بلاد اليمن، له من ضروب الحيل ما لا يحصى(3) .
__________
(1) البداية والنهاية (13/ 106، 107) بتصريف.
(2) الإسماعيلية: وتسمى الإمامية الإسماعيلية، وهم الذين يقولون بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وكان أكبر أولاد أبيه جعفر. وهناك الإمامية الموسوية وهم الذين قالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق وهم الاثنى عشرية. وكلا الأماميتين خبيث.
(3) انظر: المقريزي/ اتعاظ الحنفا (ص75- 77).(36/24)
ولم يكتف أبو عبد الله الشيعي بنشر الدعوة للفاطميين في بلاد المغرب، بل أخذ يعمل على بسط نفوذهم في شمال إفريقية فوقعت في يده عدة مدن، وأعلن الفاطميون قيام دولتهم سنة 296هـ إثر انتصارهم على الأغالبة في موقعة الأربس(1) .
ورأى الفاطميون بعد أن أمتد نفوذهم في بلاد المغرب، أن هذه البلاد لا تصلح لتكون مركزًا لدولتهم، ففضلاً عن ضعف مواردها كان يسودها الاضطراب من حين لآخر، لذلك اتجهت أنظارهم إلى مصر لوفرة ثرواتها وقربها من بلاد المشرق الأمر الذي يجعلها صالحة لإقامة دولة مستقلة تنافس العباسيين(2) .
وقد وجه الفاطميون أكثر من حملة للاستيلاء على مصر بدءًا من 301- وحتى 350هـ وفي سنة 358هـ عهد الخليفة الفاطمي إلى جوهر الصقلي كتابًا بالأمان وفيه:
"... أن يظل المصريون على مذهبهم أي لا يلزمون بالتحول إلى المذهب الشيعي، وأن يجري الأذان والصلاة وصيام شهر رمضان وفطره والزكاة والحج والجهاد على ما ورد في كتاب الله ورسوله"(3) .
ولم يكن كتاب جوهر لأهل مصر إلى مجرد مهادنة، وعندما وصل الخليفة المعز لدين الله الفاطمي إلى القاهرة في سنة 362هـ ركز اهتمامه في تحويل المصريين إلى المذهب الشيعي، واتبعت الخلافة الفاطمية في ذاك عدة طرق منها: إسناد المناصب العليا وخاصة القضاء إلى الشيعيين، واتخاذ المساجد الكبيرة مراكز للدعاية الفاطمية، كالجامع الأزهر وجامع عمرو ومسجد أحمد بن طولون(4)، كذلك أمعن الشيعة الفاطميون في إظهارهم شعائرهم المخالفة لشعائر أهل السنة، الآذان بحي على خير العمل، والاحتفال بيوم العاشر من المحرم الذي قتل فيه الحسين بكربلاء(5) .
__________
(1) حسن إبراهيم/ تاريخ الدولة الفاطمية (ص50، 51).
(2) د/ جمال الدين سرور/ الدولة الفاطمية في مصر (ص59).
(3) المقريزي: اتعاظ الحنفا (ص148).
(4) القلقشندي / صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (3/483).
(5) المقريزي : الخطط والآثار (1/389).(36/25)
وكان الفاطميون لا يقتصرون في تهييج أهل السنة على إقامة الشعائر الشيعية بل كانوا يرغمون أهل السنة ويعتدون عليهم ليشاركوهم طقوسهم.
قال المقريزي:
"وفي العاشر من المحرم سنة 363هـ سار جماعة من المصريين الشيعيين والمغاربة في موكبهم ينوحون ويبكون على الحسين، وصاروا يعتدون على كل من لم يشاركهم في مظاهر الأسى والحزن مما أدى إلى تعطيل حركة الأسواق وقيام القلائل"(1) .
ولما آلت الخلافة إلى العزيز سنة 365هـ عني كأبيه المعز بنشر المذهب الشيعي وحتم على القضاة أن يصدروا أحكامهم وفق المذهب الشيعي كما قصر المناصب الهامة على الشيعيين، وأصبح لزامًا على الموظفين السنيين الذين تقلدوا بعض المناصب الصغيرة أن يسيروا طبقًا لأحكام المذهب الإسماعيلي، وإذا ما ثبت على أحدهم التقصير في مراعاتها عزل عن وظيفته، وكان ذلك مما دفع الكثيرين من الموظفين السنيين إلى اعتناق المذهب الفاطمي.(2)
ولما قبض الحاكم بأمر الله زمام الأمور عمد إلى إصدار كثير من الأوامر والقوانين المبنية على التعصب الشديد للمذهب الفاطمي، فأمر في سنة 395هـ بنقش سب الصحابة على جدران المساجد وفي الأسواق والشوارع والدروب وصدرت الأوامر إلى العمال في البلاد المصرية بمراعاة ذلك(3) .
ومن الأسماء الشيعية الشهيرة في العصر الفاطمي وزير الخليفة الفاطمي المستنصر الذي كان يسمى بدر الجمالي، وكان مغاليًا في مذهب الشيعة فأظهر روح العداء والكراهة إزاء أهل السنة فجدد ما كان من أوامر بلعن الصحابة وإضافة عبارة حي على خير العمل للآذان – وغير ذلك(4) .
__________
(1) المقريزي : اتعاظ الحنفا (ص198).
(2) المقريزي : الخطط والآثار (2/486).
(3) ابن خلكان، وفيات الأعيان (2/166).
(4) أبو المحاسن ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة (5/120) بتصرف.(36/26)
وبرغم ما فعلت الخلافة الفاطمية من محاولات للقضاء على أهل السنة ومذهبهم إلا أن المذهب السني ظل محتفظًا بقوته رغم تحول بعض المصريين إلى المذهب الفاطمي.
ولم يؤثر أن الخلافة الفاطمية قامت بغزو أو عمليات عسكرية ضد الفرنجة لتوطيد أركان الإسلام، بل الثابت تاريخيًّا أنهم كانوا حربًا على أهل الإسلام سلمًا على أعدائه، فهم يضيقون الخناق على أهل السنة ويجيشون الجيوش لإرغامهم على التشيع، بينما هم مع الفرنجة سلم لهم، بل يستنجدون بهم على أهل السنة وغير ذلك.
الفاطميون يمالئون الفرنجة ويكتبون إليهم:
ومن خيانات الفاطميين وتواطؤهم مع الفرنجة ما ذكره المقريزي في الخطط والآثار من أن صلاح الدين الأيوبي لما تولى وزارة العاضد الفاطمي – وكان قد ولاه لصغر سنه وضعفه كما ظن به – قوى نفوذه في مصر وأخذت سلطة العاضد في الضعف، حتى ثقلت وطأة صلاح الدين على أهل القصر الفاطمي، وتجلى استبداده بأمر الدولة وإضعاف الخلافة الفاطمية، حنق عليه رجال القصر ودبروا له المكائد، وقد أتفق رأيهم على مكاتبة الفرنجة ودعوتهم إلى مصر فإذا ما خرج صلاح الدين إلى لقائهم قبضوا على من بقي من أصحابه بالقاهرة، وانضموا إلى الفرنجة في محاربتهم والقضاء عليه.(1)
وفعلاً جاء الفرنجة إلى مصر وحاصروا دمياط في سنة 565هـ، وضيقوا على أهلها وقتلوا أمما كثيرة، جاءوا إليها من البر والبحر رجاء أن يملكوا الديار المصرية وخوفًا من استيلاء المسلمين على القدس، وأرسل إلى عمه نور الدين محمود بدمشق، يستنجده فأمده، وبعث صلاح الدين جيشًا بقيادة ابن أخيه وخاله شهاب الدين وأمدهما بالسلاح والذخائر، واضطروهم للبقاء في القاهرة خشية أن يقوم رجال القصر الفاطمي وجند السودان الناقمين بتدبير المؤامرات ضده.(2)
__________
(1) المقريزي: الخطط والآثار (2/2).
(2) انظر ابن كثير : البداية والنهاية (12: 260).(36/27)
وكان من فضل الله أن رد كيد الفرنجة والشيعة الفاطميين الذين كاتبوهم ففشلت هذه الحملة، وانصرف الفرنجة عن دمياط، وذلك لما تسرب إليهم من قلق من جراء ما عانوه في سبيل تموين قواتهم، وكما وقع الخلاف بين قوادهم على الخطة التي يتبعونها في مهاجمة المدينة، فضلاً عن ذلك بلغهم أن نور الدين محمود قد غزا بلادهم وهاجم حصن الكرك وغيره من نواحيهم وقتل خلقًا من رجالهم، وسبي كثيرًا من نسائهم وأطفالهم وغنم من أموالهم.(1)
وهكذا دائمًا في كل خيانة يحدثونها يجعلون الأمة الإسلامية بين شقي الرحى، بين عدو خارجي وعدو داخلي، فاللهم انتقم من الخونة ولو كانوا من أهل السنة.
ومن خيانات الفاطميين:
أنه لما ضعفت دولتهم في أيام العاضد وصارت الأمور إلى الوزراء، وتنافس شاور وضرغام، فكر شاور في أن يثبت ملكه ويقوي نفوذه، فاستعان بنور الدين محمود؛ فأعانه ولما خلا له الجو لم يف له بما وعد، بل أرسل إلى أملريك ملك الفرنجة في بيت المقدس يستمده، ويخوفه من نور الدين محمود إن ملك الديار المصرية، فسارع إلى إجابة طلبه، وأرسل له حملة أرغمت نور الدين على العودة بجيشه إلى الشام، ولكن سرعان ما عاود نور الدين المحاولة في عام 562هـ، فاستنجد شاور بالفرنجة مرة ثانية وكاتبهم، وجاءت جيوشهم خشية أن يستولي نور الدين على مصر ويضمها إلى بلاد الشام فيهدد مركزهم في بيت المقدس.
__________
(1) البداية والنهاية (12/260)، حسن الحبشي/ نور الدين والصليبيون (ص147) وما بعدها.(36/28)
ولما وصلت عساكر الفرنجة إلى مصر انضمت جيوش شاور والمصريين إليها والتقت بجيوش نور الدين بمكان يعرف بالبابين (قرب إلمنيا) فكان النصر حليف عسكر نور الدين محمود، ثم سار بعدها إلى الإسكندرية، وكانت الجيوش الصليبية تحاصرها من البحر وجيوش شارو وفرنجة بيت المقدس من البر، ولم يكن لدى صلاح الدين – القائد من قبل نور الدين – من الجند ما يمكنه من رفع الحصار عنها، فاستنجد بأسد الدين شيركوه فسارع إلى نجدته، ولم يلبث الفرنجة وشيعة شاور إلى أن طلبوا الصلح من صلاح الدين فأجابهم إليه شريطة ألا يقيم الفرنجة في البلاد المصرية.
غير أن الفرنجة لم تغادر مصر عملاً بهذا الصلح بل عقدت مع شاور معاهدة كان من أهم شروطها كما يقول ابن واصل:
"أن يكون لهم بالقاهرة شحنة صليبية – أي حامية – وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين محمود عن إنفاذ عسكره إليهم. وكما اتفق الطرفان على أن يكون للصليبيين مائة ألف دينار سنويًّا من دخل مصر"(1) .
وما أن ذهب الفرنجة في هذا العام حتى عادوا مرة أخرى عام 564هـ.
__________
(1) ابن واصل/ مفرج الكروب بني في أخبار بني أيوب (ص152).(36/29)
قال ابن كثير فيها: طغت الفرنج بالديار المصرية وذلك أنهم جعلوا شاور شحنة لهم بها، وتحكموا في أموالها ومساكنها أفواجًا أفواجًا، ولم يبق شيء من أن يستحوذوا عليها ويخرجوا منها أهلها من المسلمين وقد سكنها أكثر شجعانهم فلما سمع الفرنج بذلك أتوا من كل فج وناحية في صحبة ملك عسقلان في جحافل هائلة، فأول ما أخذوا مدينة بلبيس وقتلوا من أهلها خلقًا وأسروا آخرين ونزلوا بها وتركوا أثقالهم موئلاً لهم، ثم تحركوا نحو القاهرة.. فأمر الوزير شاور رجاله بإشعال النار فيها على أن يخرج منها أهلها؛ فهلكت للناس أموال كثيرة، وأنفس، وشاعت الفوضى، واستمرت النيران أربعة وخمسين يومًا، عندئذ بعث العاضد الفاطمي إلى نور الدين بشعور نسائه يقول: أدركني واستنقذ نسائي من الفرنج، والتزم له بثلث خراج مصر، فشرع نور الدين في تجهيز الجيوش لتسييرها إلى مصر، فلما أحس شاور بوصول جيوش نور الدين، أرسل إلى ملك الفرنج يقول: قد عرفت محبتي ومودتي لكم، ولكن العاضد لا يوافقني على تسليم البلد، فاعتذر لهم وصالحهم على ألف ألف دينار وعجل لهم من ذلك ثمانمائة ألف ليرجعوا؛ فانتشروا راجعين خوفًا من عساكر نور الدين وطمعًا في العودة إليها مرة أخرى، وشرع شاور في مطالبة الناس بالذهب الذي صالح به الفرنج وتحصيله وضيق على الناس..(1) .
أفرأيت كل هذه المحن التي جلبتها خيانات الرافضة الخبيثة، تستدعي الفرنجة وتقيم لها حاميات، وتنهب أموال البلاد وخيراتها، وتفتك بأعراضها، وتحرق وتدمر وتخرب، وتشترط لنفسها جزء من دخل البلاد.
أليس هذا يشبه إلى حد كبير خياناتهم في العراق، في المرة الأخيرة، كاتبوا الأمريكيين، قاتلوا في صفوفهم، أقاموا قواعدهم، قووا مراكزهم، ونهبوا خيرات البلاد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم انتقم من الخونة ولو كانوا من أهل السنة.
ومن خيانات الفاطميين:
__________
(1) البداية والنهاية 12/255.(36/30)
ما حدث في سنة 562هـ لما أقبلت جحافل الفرنج إلى الديار المصرية وبلغ ذلك أسد الدين شيركوه فاستأذن الملك نور الدين محمود في الذهاب إليها – وكان كثير الحنق على الوزير شاور الفاطمي – فأذن له فسار ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب..
ولما بلغ الوزير شاور قدوم أسد الدين والجيش معه بعث إلى الفرنج فجاؤا من كل فج إليه، وبلغ أسد الدين ذلك من شأنهم وأن معهم ألف فارس، فاستشار من معه من الأمراء فكلهم أشار عليه بالرجوع إلى نور الدين إلا أميرًا واحدًا يقال له شرف الدين برغش فإنه قال من خاف القتل والأسر فليقعد في بيته عند زوجته، ومن أكل أموال الناس فلا يسلم بلادهم على العدو، وقال مثل ذلك ابن أخيه صلاح الدين، فعزم الله لهم فساروا نحو الفرنج فاقتتلوا قتالاً عظيمًا، فقتلوا من الفرنج مقتلة عظيمة وهزموهم.. ولله الحمد(1) .
التعاون مع الفرنجة لانتزاع الإسكندرية من يد صلاح الدين:
إن أسد الدين شيركوه لما كان قد أظفره الله بالفرنجة في الوقعة السابقة بمصر برغم خيانة الخونة، رأى أن يفتح الإسكندرية، ففتحها واستناب عليها ابن أخيه صلاح الدين، ثم توجه إلى الصعيد فملكه، وعندئذ اتفق الفاطميون مع الفرنجة على حصار الإسكندرية لانتزاعها من يد صلاح الدين في أثناء غياب أسد الدين شيركوه، فامتنع فيها صلاح الدين أشد الامتناع، ولكن ضاقت عليهم الأقوات والحال جدًّا فسار إليهم أسد الدين شيركوه فصالحه الوزير شاور عن الإسكندرية بخمسين ألف دينار، فأجابه إلى ذلك وخرج منها وسلمها للمصريين ثم عاد إلى الشام، وقرر شاور للفرنجة على مصر في كل سنة مائة ألف دينار وأن يكون لهم شحنة بالقاهرة(2) .
خيانة الطواشي مؤتمن الخلافة الفاطمية بمصر:
__________
(1) البداية والنهاية (12/252).
(2) البداية والنهاية (12/252، 253).(36/31)
لما كانت الفرنجة قد طغت بالديار المصرية عندما جعل لهم الوزير الفاطمي شاور شحنة بالقاهرة، وتحكموا في البلاد والعباد، حتى استنجد الخليفة الفاطمي العاضد بنور الدين محمود أن ينقذه ونساءه من أيدي الفرنجة – وكان الفاطميون هم الدين مكنوا لهم(1) – وكاتب شاور الفرنجة وصالحهم على مال جزيل، ثم جاءت جيوش نور الدين بقيادة أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين واستقر لهم ملك الديار المصرية.
وهنا قام الطواشي مؤتمن الخلافة الفاطمية بالكتابة من دار الخلافة بمصر إلى الفرنجة ليقدموا إلى الديار المصرية ليخرجوا منها الجيوش الإسلامية الشامية ولكن حامل الكتاب لقيه في الطريق من أنكر حاله، فحمله إلى صلاح الدين فقرره، فأخرج الكتاب وانكشفت المؤامرة، فأمر بقتل الطواشي، فثار له خدم القصر من السودان، فكانوا نحو خمسين ألفا، وقاتلوا جيش صلاح الدين بين القصرين فهزمهم صلاح الدين وأخرجهم من القاهرة وقتل منهم خلقا(2) .
بين المعز الفاطمي والإمام أبو بكر النابلسي(3) :
إن الشيعة برغم ما يتظاهر به بعض ولاتهم وحكامهم من الورع والصلاح وإنصاف المظلوم...
إلا أنهم في كثير من الأحيان ما تنكشف الحقائق عن مخادع كاذب لا يرقب في المؤمنين إلا ولا ذمة.
وأشد ما تكون هذه النكاية بالعلماء من أهل السنة.
قال ابن كثير – رحمه الله – في ترجمة المعز الفاطمي:
".. كان يدعي إنصاف المظلوم من الظالم، ويفتخر بنسبه وأن الله رحم الأمة بهم، وهو مع ذلك متلبس بالرفض ظاهرًا وباطنًا، كما قال القاضي الباقلاني: إن مذهبهم الكفر المحض، واعتقادهم الرفض، وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره ووالاه قبحهم الله وإياه.
__________
(1) وهنا يصدق فيهم قول القائل "كم من كلب عض يد صاحبه" و " إن الله لينتقم بالظالم من الظالم ثم يهلكهم جميعًا" .
(2) البداية والنهاية (12/257، 258).
(3) هو أحد أئمة أهل السنة الأثبات وهو من أهل نابلس.(36/32)
وقد أحضر بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبوبكر النابلسي، فقال له المعز بلغني عنك أنك قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين – أي الفاطميين – بسهم؟
فقال النابلسي: ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن قوله، فقال له كيف قلت؟ قال قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر، قال: ولم؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم.
فأمر بإشهاره في أول يوم، ثم ضرب في الثاني بالسياط ضربًا شديدًا مبرحًا، ثم أمر بسلخه - وهو حي – وفي اليوم الثالث، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات. رحمه الله فكان يقال له الشهيد، وإليه ينسب بنو الشهيد من نابلس إلى اليوم"(1) .
فما أكرم الثبات على الحق، وما أجمل العيش على السنة والموت عليها ولو أن يسلخ الجلد عن اللحم، ونحن لا نعجب مما فعل هذا الرافضي الخبيث قبحه الله، فمجرد أن يكون اسم النابلسي أبوبكر فهذا كاف في إثارة حفيظة هذا الرافضي الخبيث، فهو يكره أبوبكر ومن يحب أبا بكر- رضي الله عنه -.
تأملات وعبر وتقريرات حول نهاية الدولة الفاطمية:
إن من سنة الله في الخلق دفع الناس بعضهم ببعض، ولولا ذلك لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين.
فالدولة الفاطمية ملكت 280سنة وكسرا، ولكنهم صاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها، وكان أول من ملك منهم المهدي، وكان من سلمية حدادًا اسمه عبيد وكان يهوديًّا فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبد الله وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال عن نفسه إنه المهدي...
وآخر خلفائهم العاضد بن يوسف بن المستنصر بن الحاكم، قال عنه ابن كثير: " كانت سيرته مذمومة، وكان شيعيًّا خبيثًا، لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة.." .
__________
(1) البداية والنهاية (11/284).(36/33)
ولما توفي وزال ملك الفاطميين استبشر الناس وانشد العماد الكاتب:
توفي العاضد الدعي فما
وعصر فرعونها انقضى وغدا
قد طفئت جمرة الغواة وقد داخ
وصار شمل الصلاح ملتئما
لما غدا مشعر شار بني الـ
وبات داعي التوحيد منتظرا
وارتكس الجاهلون في ظلم
وعاد بالمستضيء معتليا
أعيدت الدولة التي اضطهدت
واهتز عطف الإسلام من جلل
واستبشرت أوجه الهدى فرحا
يفتح ذو بدعة بمصر فما
يوسفها في الأمور متحكما
من الشرك كل ما اضطرما
بها وعقد السداد منتظما
عباس حقا والباطل اكتتما
ومن دعاة الشرك منتقما
لما أضاءت منابر العلما
بناء حق بعد ما كان منهدما
وانتصر الدين بعدما اهتضما
وافتر ثغر الإسلام وابتسما
فليقرع الكفر سنته ندما(1)
"وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالا، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بأكمله، حتى أخذوا القدس ونابلس، وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس وأنطاكية، وجميع ما والي ذلك إلى بلاد إياس وسيس واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين... وبلاد شتى، وقتلوا من المسلمين خلقًا وأمما لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان مما لا يحد ولا يوصف وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها، وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف...
وحين زالت أيامهم – يعني الفاطميين – وانتقض إبرامهم أعاد الله عز وجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته"(2) .
__________
(1) البداية والنهاية (12/265).
(2) المرجع السابق(12/267).(36/34)
وهكذا كل خائن لا يؤسف على هلاكه، ولا يحزن لفواته، بل هلاكه راحة للعباد وزواله أمان للبلاد.
وقد صنف غير واحد من الأئمة القدامى في الطعن في نسب الفاطميين وأنهم أدعياء كذبة، لا ينتمون إلى آل البيت، ولا بأدنى صلة، وإنما كانوا ينسبون إلى عبيد وكان اسمه سعيدًا، وكان يهوديًّا حدادا بسلمية بالمغرب.
وقد أفرد أبو شامة المؤرخ صاحب الروضتين كتابًا سماه "كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد" وكتب الإمام الباقلاني كتابًا سماه "كشف الأسرار وهتك الأستار"، بين فيه فضائحهم وقبائحهم، ومما قاله الباقلاني عنهم: "هم قوم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض"(1) .
وما أحسن ما قاله بعض الشعراء يمدح بني أيوب على ما فعلوه من إزالة الحكم الفاطمي من مصر:
أبدتم من بلى دولة الكفر من
زنادقة شيعة باطنية مجوس يسرون
كفرا يظهرون تشيعا
بني عبيد بمصر إن هذا هو الفضل
وما في الصالحين لهم أصل
ليستروا سابور عمهم الجهل(2)
فلله الحمد والمنة أن تحولت الديار المصرية من ديار الشيعة إلى ديار السنة، وأسكن الله صلاح الدين ورجاله بما مهدوا للسنة أعلى درجات الجنة، وحفظ الله مصر من الرفض الخبيث، وجعلها مهدًا للسنة والحديث، وأزال عنها كل غمة، وقيض من رجالها لدينه أعلى الرجال همة.
المبحث السادس
خيانة القرامطة
المبحث السادس
خيانة القرامطة
القرامطة تدعي النسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وكانت بداية ظهورهم في عام 278هـ، في عهد الخليفة العباسي المعتضد أحمد بن الموفق طلحة(3) .
__________
(1) المرجع السابق (11/346).
(2) المرجع السابق ( 12/268).
(3) ابن الأثير: الكامل في التاريخ (6/ 363).(36/35)
وقد ملك القرامطة الإحساء والبحرين وعمان وبلاد الشام وحاولوا ملك مصر ففشلوا، واستمرت دولتهم حتى سنة 466هـ حيث قضى عليها عبيد الله بن علي محمد عبد القيسي بمساعدة ملك شاه السلجوقي(1) .
وأخذت القرامطة تناوئ الدولة العباسية وتحاول الفتك بها، وخاضت ضدها حروبًا كثيرة، تارة وسعت بالخيانة، وتارة أخرى أحاطوا بالخلفاء العباسيين الذين كانوا قد بلغوا من الضعف مبلغًا، حتى لم تكن لهم سلطة فعلية، وتجرأت القرامطة على أشرف البقاع؛ الحرم المكي، وسرقوا الحجر الأسود من الكعبة، وأخذوه إلى بلادهم، وأضعفوا الخلفاء، حتى إنه في خلافة الراضي بالله محمد ابن المقتدر العباسي استولى الروم على عامة الثغور، وقدمت عساكر المعز لدين الله أبي تميم الفاطمي إلى مصر، وانقطعت الدعوة العباسية من مصر والشام(2) .
ومن خيانات القرامطة:
ما فعلوه في سنة 294هـ، من تعرضهم للحجاج أثناء رجوعهم من مكة بعد أداء المناسك فلقوا القافلة الأولى فقاتلوهم قتالاً شديدًا، فلما رأى القرامطة شدة القافلة في القتال، قال: هل فيكم نائب السلطان؟ فقالوا: ما معنا أحد، فقالوا: فلسنا نريدكم، فاطمأنوا وساروا فلما ساروا، أوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم.
__________
(1) انظر عبد الله محمد الغريب: وجاء دور المجوس (1/ 70، 71)، "علمًا بأن القضاء على القرامطة من الناحية العقائدية، فقد اختلطت بفرق باطنية كالنصيرية والدرزية ولا تزال بعض هذه الأفكار موجودة إلى الآن في بعض بلاد الشام وإيران والهند والقطيف ونجران" .
(2) السلوك (1/17- 19).(36/36)
وتعقبوا قوافل الحجيج قافلة قافلة يعملون فيهم السيف، فقتلوهم عن آخرهم، وجمعوا القتلى كالتل، وأرسلوا خلف الفارين من الحجيج من يبذل لهم الأمان فعندما رجعوا قتلوهم عن آخرهم، وكان نساء القرامطة يطفن بين القتلى يعرضن عليهم الماء، فمن كلمهن قتلنه، فقيل إن عدد القتلى بلغ في هذه الحادثة عشرين ألفا، وهم في كل ذلك يغورون الآبار، ويفسدون ماءها بالجيف والتراب والحجارة، وبلغ من ما نهبوه من الحجيج ألفي ألفي دينار(1).
خيانة أخرى للقرامطة:
__________
(1) ابن الأثير: الكامل في التاريخ (6/ 432، 433).(36/37)
وفي سنة 312هـ سار أبو طاهر الشيعي القرمطي في عسكر عظيم ليلقى الحجيج في رجوعهم من مكة، فأوقع بقافلة تقدمت معظم الحجاج، وكان فيها خلق كثير من أهل بغداد، فنهبهم، واتصل الخبر إلى باقي الحجيج، ولكن دونما فائدة فقد باغتهم القرامطة أيضًا، فأوقعوا بهم وأخذوا دوابهم، وما أرادوا من الأمتعة والأموال والنساء والصبيان، وقتلوا من قتلوا وترك الباقون في أماكنهم منهكين فمات أكثرهم جوعًا وعطشا من حر الشمس، وانقلبت بغداد واجتمع حرم المنكوبين إلى حرم المأخذوين، وجعلنا ينادين القرمطي الصغير أبو طاهر قتل المسلمين في طريق مكة، والقرمطي الكبير ابن الفرات قتل المسلمين ببغداد، وكانت صورة فظيعة شنيعة وكسر العامة منابر الجوامع وسودوا المحاريب يوم الجمعة، وجاء بن الفرات الوزير الرافضي القرمطي إلى المقتدر الخليفة العباسي ليأخذ رأيه فيما يفعله، فانبسط لسان المقتدر على ابن الفرات، وقال له: الساعة تقول لي أي شيء نصنع، وما هو الرأي؟ بعد أن زعزعت أركان الدولة وعرضتها للزوال بالميل مع كل عدو يظهر ومكاتبته ومهادنته وإبعادك رجالي إلى الرقة وهم سيوف الدولة، فمن يدفع الآن؟ ومن الذي سلم الناس إلى القرمطي غيرك، لما يجمع بينكما من التشيع والرفض، ولما توجه الخليفة المقتدر إلى الكوفة ليلقى القرامطة قام المحسن ابن الوزير ابن الفرات الشيعي بقتل كل من كان محبوسًا عنده من المصادرين لأنه كان قد أخذ منهم أموالاً، ولما يوصلها إلى المقتدر، فخاف أن يقروا عليه(1) .
وهكذا ترى الخيانة الرافضية الخبيثة، مع ضيوف الله وحجاج بيته الحرام، قتل وسلب ونهب واغتصاب، تجويع وتعطيش، ومثل هذا خيانة الإيرانيين في إحداث بعض التفجيرات في الحرم المكي أثناء أداء المناسك في عام.
وما هذا إلا لأن القوم لا يرون لمكة حرمة، ولا لكعبتها، وإنما عندهم أن أرض كربلاء أفضل من أرض مكة والمشهد الحسيني أفضل من الكعبة.
__________
(1) انظر المرجع السابق (7/ 312) بتصريف.(36/38)
وإليك بعض أقوالهم من كتبهم في هذا:
سئل آياتهم العظمى محمد الحسيني الشيرازي في كتابه الفقه والعقائد ص 370 توزيع مكتبة جنان القدير – الكويت:
" يقال إن أرض كربلاء أفضل من أرض مكة، والسجدة على التربة الحسينية أفضل من السجدة على أرض الحرم فهل هذا صحيح؟
فأجاب الشيرازي: نعم.
وهذا أيضًا آياتهم وعلامتهم السيد العباسي الحسيني الكاشاني يعنون في كتابه مصابيح الجنان ص 360ط رقم 59 دار الفقه ، إيران عنوانًا باسم: "أفضيلة كربلاء على سائر البقاع"، فقال: وأما أفضلية كربلاء على سائر البقاع حتى الكعبة فلا شك في أن أرض كربلاء أقدس بقعة في الإسلام، وقد أعطيت حسب النصوص الواردة أكثر مما أعطيت أي أرض أو بقعة أخرى من المزية والشرف فكانت أرض الله المقدسة المباركة، وأرض الله الخاضعة المتواضعة وأرض الله التي في تربتها الشفاء، فإن هذه المزايا وأمثالها التي اجتمعت لكربلاء لم تجتمع لأي بقعة من بقاع الأرض حتى الكعبة (1) .
كما أنهم يرون الذين يحجون البيت الحرام لا حرمة لهم لأنهم يفضلون زيارة قبر الحسين ويرونها تعدل حجة:
ففي كتاب كامل الزيارات لأبي القاسم جعفر ابن محمد الشيعي ط دار السرور – بيروت 1997 عقد أبوابًا كاملة بخصوص هذه المسألة:
الباب (63): إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل عمرة.
الباب (64): إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل حجة.
الباب (65): إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل حجة وعمرة.
الباب (60): إن زيارة الحسين والأئمة تعدل زيارة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الباب (59): من زار الحسين عليه السلام كمن زار الله في عرشه(2) .
جولة سريعة في التاريخ مع خيانات الشيعة القرامطة:
__________
(1) حقيقة الشيعة ( ص143، 144).
(2) حقيقة الشيعة (ص 140).(36/39)
سنقلب سريعًا في سجلات التاريخ من كتابي البداية والنهاية، والكامل في التاريخ، نشير إشارات إلى خيانات القرامطة وعياثهم بالفساد في الأرض وتعقب أهل السنة والخروج على دولتهم ممثلة في الخلافة العباسية.
"وفيها – 311هـ - قصد أبو طاهر القرمطي البصرة فوصلها ليلاً في ألف وسبعمائة رجل فوضع السيف في أهل البصرة وهرب الناس إلى الكلأ وحاربوا القرامطة عشرة أيام فظفر بهم القرامطة وقتلوا خلقًا كثيرًا، وطرح الناس أنفسهم في الماء فغرق أكثرهم وأقام أبو طاهر سبعة عشر يومًا يحمل من البصرة ما يقدر عليه من المال والأمتعة والنساء والصبيان ثم انصرف"(1) .
"وفي سنة 312هـ دخل أبو طاهر القرمطي الكوفة.. فخرج إليه واليها جعفر بن ورقاء الشيباني فقاتله واجتمع له أمداد من هنا وهناك، ولكن ظفر بهم القرامطة، وتبعوهم إلى باب الكوفة فانهزم عسكر الخليفة، وأقام أبو طاهر ستة أيام يدخل البلد نهارًا ثم يخرج فيبيت في عسكره، وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال والثياب وغير ذلك"(2) .
"وفي سنة 315هـ خرج القرامطة نحو الكوفة أيضًا وكانوا ألفًا وخمسمائة، وقيل كانوا ألفين وسبعمائة، وسيَّر لهم الخليفة العباسي جيشًا كثيفًا نحو سنة آلاف سوى الغلمان، ودارت بينهم وقائع في واسط والأنبار.. وكانت سجالاً وقتل فيها من عسكر الخليفة عدد كثير وانهزموا..
وأصاب الناس الزعر من القرامطة فخرج ناس بأموالهم من بغداد لما سمعوا بتوجه القرامطة إليها"(3) .
__________
(1) البداية والنهاية (11/147). الكامل في التاريخ (7/15).
(2) الكامل في التاريخ (7/22، 23).
(3) الكامل في التاريخ (7/31- 33) بإيجاز.(36/40)
" وفي سنة 316هـ عاث أبو طاهر القرمطي في الأرض فسادا، فدخل الرحبة وقتل من أهلها خلقًا، وطلب منه أهل قرقيسيا الأمان، فأمنهم وبعث سرياه إلى ما حولها من الأعراب فقتل منهم خلقًا حتى صار الناس إذا سمعوا بذكره يهربون من سماع اسمه، وفرض على العراب إتاوة يحملونها إلى هجر – مقر القرامطة – كل سنة؛ عن كل رأس دينارين وعاث في نواحي الموصل فسادًا وفي سنجار ونواحيها، وخرب تلك الديار وقتل وسلب ونهب.. ولما رأى الوزير علي بن عيسى ما يفعله القرامطة في بلاد الإسلام وليس له دافع استعفى من الوزارة لضعف الخليفة وجيشه وعزل نفسه.."(1) .
" وفي سنة 317هـ خرج القرامطة إلى مكة في يوم التروية فقاتلوا الحجيج في رحاب مكة وشعابها، وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة والرجال تصرع حوله والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام.. وكان الحجيج يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة، فلا يجدي ذلك عنهم شيئا، بل يقتلون وهم متعلقون بها.. ولما قضى القرمطي اللعين أبو طاهر أمره وفعل ما فعل بالحجيج؛ أمر بردم بئر زمزم بإلقاء القتلى فيها وهدم قبتها، وأمر بخلع الكعبة ونزع كسوتها عنها وشققها بين أصحابه.. ثم أمر رجلاً من رجاله بأن يقلع الحجر الأسود، فجاء رجل فضربه بمثقل كان في يده وقال أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟
ثم قلع الحجر الأسود، وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة، حتى ردوه في سنة 339هـ فإنا لله وإنا إليه راجعون"(2).
بعد هذه الجولة السريعة في فترة زمنية لا تتجاوز الست سنوات بحثًا عن خيانات الشيعة القرامطة:
__________
(1) البداية والنهاية (11/157، 158).
(2) البداية والنهاية (11/160، 161)، والكامل في التاريخ (7/53، 54).(36/41)
أرأيت كيف كانت خيانتهم وإفسادهم في الأرض في ديار المسلمين؟
أرأيت كيف كان ذكرهم يثير الزعر والهلع في قلوب الناس؟
أرأيت كيف كانت فعالهم في حجاج بيت الله الحرام.. فعالاً ما فعلها أهل الجاهلية الأولى، الذين كان الرجل منهم إذا رأى قاتل أبيه في الحرم ما اجترئ على أن يسل سيفه في غمده، فضلاً عن أن يقتل ما تعلق بأستار الكعبة ولاذ بالبيت.
إنها فعالاً ما تمكن من مثلها أبرهة النصراني، وما قبلت الحيوانات الأعجمية – الفيلة – أن ترتكبها، فكلما وجهت نحو البيت المشرف لتناله بسوء أعرضت ونأت، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن أجل أن تعرف خطر خيانة الشيعة أذكر لك حادثًا جللا عظيمًا يبين لك أن الشيعة لا يجاهدون الكفار بل نكايتهم في أهل السنة، يقاتلونهم ويمالؤن عليهم، ويترتب على هذا اجتراء أعداء الملة على أهل الإسلام ودياره ذلك الحدث هو:
" أنه في نفس العام الذي أفسد فيه القرامطة وقاموا بالخروج على الخلافة العباسية سنة 315هـ، والذي ذكرناه آنفًا حدث أن جاءت الروم إلى ديار المسلمين، ودخلوا بلدة يقال لها سميساط وقاتلوا أهلها وغنموا جميع ما فيها، وضربوا بالناقوس في الجوامع أوقات الصلاة"(1) .
فهل هؤلاء القوم يتصلون من قريب أو بعيد بآل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
إنهم والله كفار زنادقة، تستروا بالإسلام ورفعوا دعاية حب آل البيت، وفعلوا بالإسلام والمسلمين ما فعلوا.
المبحث السابع
خيانات البويهيين
المبحث السابع
خيانات البويهيين
__________
(1) الكامل في التاريخ (7/31)، البداية والنهاية (11/154، 155).(36/42)
والبويهيون ينتسبون إلى رجل من الديلم(1) يقال له بويه، وكنيته أبو شجاع، كان له أولاد ثلاثة "أبو الحسن علي ولقب عماد الدولة" و "أبو علي الحسن ولقب بركن الدولة" و "أبو الحسين أحمد ولقب بمعز الدولة" وكان الثلاثة قوادًا في جيش ابن كالي صاحب إقليم الديلم في هذا الوقت عندما خرج على الخلافة العباسية؛ فاستولى على عدة أقاليم كأصبهان، وأرَّجان وشيراز.. وغيرها فعظم شأن بني بويه حتى صارت لهم أمور الديلم وما والاه من الأقاليم، وكان خليفة الوقت الراضي بالله محمد بن المقتدر العباسي له وزير شيعي يسمى أبو علي محمد بن علي بن مقلة، أخذ يخطط ويدبر لإزالة الخليفة العباسي والتمكين لبني بويه المتشيعين، فأخذ يكتب للبويهيين يطمعهم في بغداد دار الخلافة، ويصف لهم الحال الذي عليه الخليفة من الضعف، حتى قدم معز الدولة بن بويه إلى بغداد واستولى عليها سنة 334هـ، ويومها قال الوزير أبو علي محمد بن علي بن مقلة " إنني أزلت دولة بين العباس وأسلمتها إلى الديلم لأني كاتبت الديلم وقت إنفاذي إلى أصبهان، وأطمعتهم في سرير الملك ببغداد، فإني اجتنيت ثمرة ذلك في حياتي" ..
__________
(1) الديلم: إقليم جبلي يقع في الجنوب الغربي من بحر قزوين،ويحده في شماله جيلان، وفي شرقه طبرستان، وفي غربه أذربيجان وفي جنوبه جهات قزوين: انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير (8/97).(36/43)
وكان لما ملك معز الدولة بغداد خلع الخليفة، ونهب الديلم دار الخلافة حتى لم يبق شيء، وأقام الفضل بن المقتدر العباسي خليفة، ولم يجعل له أمرًا ولا نهيًا ولا رأيا، ولا مكنه من إقامة وزير، بل صارت الوزارة إليه – أي لمعز الدولة بن بويه- يستوزر لنفسه وشنع على بني العباس بأنهم غصبوا الخلافة وأخذوها من مستحقيها وأراد معز الدولة إبطال دعوة بني العباس وإقامة دعوة المعز لدين الله الفاطمي.. وبعث نوابه فتسلموا العراق ولم يبق بيد الخليفة منه شيء البتة إلا ما أقطعه مما لا يقوم ببعض حاجته(1) .
وفي سنة 352هـ أمر البويهيون بإغلاق الأسواق في اليوم العاشر من المحرم، وعطلوا البيع ونصبوا القباب في الأسواق، وعلقت عليها المسوح وخرج النساء منتشرات الشعور يلطمن في الأسواق، وأقيمت النائحة على الحسين بن عليّ، وتكرر ذلك طيلة حكم الديالمة ببغداد، والتي استمرت نحو مائة وثلاث سنين، وأصبحت هذه الفعلة تقليدًا دينيًا عند الجعفرية الإمامية الاثنى عشرية، ولم يمكن لأهل السنة منع ذلك لكثرة الشيعة وظهورهم وكون السلطان معهم، وكذلك ابتدع معز الدولة بن بويه الاحتفال بعيد يقال له عيد الغدير، فأمر في العاشر من ذي الحجة بإظهار الزينة في بغداد، وأن تفتح الأسواق بالليل كما في الأعياد وأن تضرب الدبابات والبوقات وأن تشعل النيران في أبواب الأمراء وعند الشرط.. فكان وقتًا عجيبًا مشهودًا، وبدعة شنيعة ظاهرة ومنكرة(2) .
وفي هذه الآونة التي كان يلهو فيها الشيعة البويهيون ويلعبون ويضعفون سلطان السُّنة كان الروم ينتهكون حرم الديار الإسلامية، قال ابن كثير – رحمه الله – وهو يتحدث عن أحد ملوك الروم في هذا العصر الذي فشت خيانات البويهيين فيه، واسمه نقفور، وجعل يصف الحال المزري الذي وصلت إليه الديار الإسلامية من الذلة والمهانة قال:
__________
(1) انظر السلوك لمعرفة دول الملوك ( 1/25- 27).
(2) البداية والنهاية ( 11/243) بتصريف.(36/44)
"كان هذا الملعون – أن نقفور الرومي – من أغلظ الملوك قلبًا وأشدهم كفرُا، وأقواهم بأسًا، وأحدَّهم شوكة، وأكثرهم قتلاً وقتالاً للمسلمين في زمانه، استحوذ في أيامه لعنه الله على كثير من السواحل، وأكثرها انتزعها من أيدي المسلمين قسرًا، واستمرت في يده قهرًا، وأضيفت إلى مملكة الروم قدرًا، وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان، وظهور البدعة الشنيعة فيهم، وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم، وفشوا البدع فيهم وكثرة الرفض والتشيع منهم، وقهر أهل السنة بينهم، فلهذا أديل عليهم أعداء الإسلام فانتزعوا ما بأيديهم من البلاد مع الخوف الشديد، ونكد العيش والفرار من بلاد إلى بلاد فلا يبيتون ليلة إلى في خوف من قوارع الأعداء، وطوارق الشرور المترادفة، فالله المستعان.
وقد ورد – نقفور – هذا حلب في مائتي ألف مقاتل بغتة في سنة 351هـ وجال فيها جولة ففر من بين يديه صاحبها سيف الدولة، ففتحها اللعين عنوة، وقتل من أهلها من الرجال والنساء ما لا يعلمه إلا الله.."
وبالغ في الاجتهاد في قتال الإسلام وأهله، وجد في التشمير. فالحكم لله العلي الكبير، وقد كان - لعنه الله - لا يدخل في بلد إلا قتل المقاتلة وبقية الرجال وسبي النساء والأطفال، وجعل جامعها اصطبلاً لخيوله وكسر منبرها، واستنكث مأذنتها بخيله ورجله وطبوله..
وكان هذا اللعين – أعني نقفور – قد أرسل قصيدة إلى الخليفة العباسي المطيع لله، نظمها له بعض كتابه مما كان خذله الله وأذله وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة وصرفه عن الإسلام وأصله، يفتخر فيها هذا اللعين، ويتعرض لسب الإسلام والمسلمين، ويتوعد فيها أهل حوزة الإسلام بأنه سيملكها كلها حتى الحرمين الشريفين عما قريب من الأعوام.. ويزعم أن ينتصر لدين المسيح عليه السلام، ويعرض فيها بجناب الرسول عليه من ربه التحية والإكرام ودوام الصلاة مدى الأيام"(1) .
__________
(1) البداية والنهاية (114/243، 244).(36/45)
" وفي سنة 353هـ عملت الرافضة عزاء الحسين كما تقدم فاقتتل الروافض وأهل السنة قتالاً شديدًا وانتهبت الأموال .. في نفس العام جاء ملك الروم نقفور إلى طرطوس وأذنة والمصيصة وقتل من أهلها نحو خمسة عشر ألفا وعاث فيها الفساد"(1) .
"وفي سنة 354هـ في عاشر المحرم منها عملت الشيعة مأتمهم وبدعتهم وغلقت الأسواق وخرجت النساء نائحات سافرات – كما تقدم – واقتتلوا مع أهل السنة قتالاً شديدًا .. وفي شهر رجب منها جاء ملك الروم بجيش كثيف إلى المصيصة فأخذها قسرًا وقتل من أهلها خلقًا، واستاق بقيتهم معه أسارى وكانوا قريبًا من مائتي ألف إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم جاء إلى طرسوس، فسأل أهلها منه الأمان فأمنهم بالجلاء عنها والانتقال منها واتخذ مسجدها الأعظم اصطبلا لخيوله وحرق المنبر ونقل قناديله إلى كنائس بلده، وتنصر بعض أهلها معه لعنه الله.."(2) .
" وفي عاشر المحرم من سنة 361هـ عملت الروافض بدعتهم، وفي المحرم منها – أي نفس الشهر – أغارت الروم على الجزيرة وديار بكر فقتلوا خلقًا من أهل الرها، وصاروا في البلاد كذلك يقتلون ويأسرون ويغنمون إلى أن وصلوا نصيبين ففعلوا ذلك ولم يغني عن تلك النواحي متوليها شيئًا، ولا دافع عنهم، ولا له قوة، فعند ذلك ذهب أهل الجزيرة إلى بغداد وأرادوا أن يدخلوا على الخليفة المطيع لله وغيره يستنصرونه ويستصرخونه، فرثى لهم أهل بغداد، وجاءوا معهم إلى الخليفة فلم يمكنهم ذلك، وكان بختيار بن معز الدولة البويهي – الشيعي الرافضي – مشغولاً بالصيد فذهبت الرسل إليه فبعث الحاجب يستنفر الناس، فتجهز خلق من العامة.. ولكن وقعت بينهم فتنة شديدة بين الروافض وأهل السنة، وأحرق أهل السنة دور الروافض في الكرخ وقالوا:
__________
(1) المرجع السابق (11/253).
(2) البداية والنهاية (11/254، 255).(36/46)
الشر كله منكم.. وأرسل بختيار البوهي إلى الخليفة يطلب منه أموالاً يستعين بها على هذا الغزوة فبعث إليه يقول: لو كان الخراج يجيء إلي لدفعت منه ما يحتاج المسلمون إليه – وذلك أن الخليفة كان في غاية الضعف – ولكن أن تصرف منه في وجوه ليس بالمسلمين إليها ضرورة، وأما أنا فليس عندي شيء أرسله إليك، فترددت الرسل بينهما وأغلظ بختيار للخليفة في الكلام وتهدده، فاحتاج الخليفة أن يحصل شيئًا فباع بعض ثياب بدنه وشيئًا من أثاث بيته ونقض بعض سقوف داره، وحصل له أربعمائة درهم فصرفها بختيار في مصالح نفسه وأبطل تلك الغزوة، فنقم الناس للخليفة، وساءهم ما فعل به ابن بويه الرافضي من أخذه مال الخليفة، وتركه الجهاد، فلا جزاه الله خيرًا.."(1) .
المبحث الثامن
خيانات الوزير مؤيد الدين أبا طالب
محمد بن أحمد العلقمي الشيعي
في دخول التتار بغداد
المبحث الثامن
خيانات الوزير مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد العلقمي الشيعي في دخول التتار بغداد
قال ابن كثير رحمه الله تعالى – في أحداث سنة 642هـ:
"وفيها استوزر الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين أبا طالب محمد بن علي بن محمد العلقمي المشئوم على نفسه وعلى أهل بغداد الذي لم يعصم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة؛ فإنه هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو قبحه الله وإياهم"(2).
وقال ابن كثير أيضًا في أحداث 656هـ والتي جاء فيها الطوفان التتاري إلى بغداد دار الخلافة العباسية:
__________
(1) البداية والنهاية (11/271، 272) بتصريف يسير.
(2) البداية والنهاية (13/164).(36/47)
"استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار هولاكو خان وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفًا على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى.. وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب..
وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها، وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل.. وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب.. أن هولاكو خان لما كان أول بروزه من همدان متوجهًا إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سَنِيَة ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم، فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك، وقالوا: إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير فأرسل شيئًا من الهدايا فاحتقرها هولاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه، ولا بالا به حتى أزف قدومه ووصل بغداد بجنوده الكثير الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية الضعف ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم بقية الجيش، فكلهم كانوا قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله من آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة، حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار – أي(36/48)
ابن العلقمي – فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع به السلطان هولاكو خان لعنه الله، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسًا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت، وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هو ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد في صحبته خوجة نصير الدين الطوسي(1) والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئًا كثيرًا من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفسية، وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عامًا أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة.
__________
(1) وهذا رافضي خبيث، سنفرد فصلاً للكلام على بعض خياناته.(36/49)
فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله، ويقال: إن الذي أشار بقتله هو الوزير ابن العلقمي والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وكان النصير وزيرًا لشمس الشموس ولأبيه قبله علاء الدين بن جلال الدين، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزير ذلك، فقتلوه رفسًا وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه.. فباؤا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده.. ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ، والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ وكمنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة.. وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانًا بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم، وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر والأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبقى سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار وطمعهم في البلاد وسهل عليهم ذلك وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم(36/50)
ضعف الرجال، وذلك كله طمعًا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة، وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين والله غالب على أمره"(1) .
وكان الوزير ابن العلقمي الرافضي الخائن شديد الحنق على العلماء من أهل السنة، حتى أنه كان يتشفى بقتلهم، ومن أبرزهم في ذلك الوقت الشيخ محي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي وهو وأولاده الثلاثة "عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم" وأكابر الدولة واحدًا واحدًا، وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة فيذهب به إلى مقبرة الغلال فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم وعَلَمهم بها وعليها(2).
تقديرات ضحايا هذه الخيانة الشيعية:
قال ابن كثير رحمه الله: " وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الواقعة، فقيل ثمانمائة ألف وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون"(3) .
"القتلى في الطرقات كأنها التلال، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو، وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون"(4) .
بعد عرض تفاصيل هذه الخيانة الرافضية أحب أن أقرر أمرين:
__________
(1) البداية والنهاية (13/200ـ 202).
(2) انظر البداية والنهاية (13/203).
(3) السابق (13/202).
(4) السابق (13/203).(36/51)
الأول: لا نستطيع أن نقول إلا أن حال الخليفة العباسي في ذلك الوقت كان في غاية السوء، وفساد الرأي والتدبير، قال ابن كثير رحمه الله : "ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد، وكما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصار، فإنه خرج عن بني العباس.. دول حتى لم يبق مع الخليفة إلا بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات"(1).
الثاني: العجب كل العجب من أمر هذا الوزير الرافضي كيف فعل ما فعل برغم تسامح الخليفة السني العباسي من استوزاره له في حين أن الشيعة متى صارت لهم دولة فإنهم لا يمكنون أهل السنة من الوصول إلى أي مناصب قيادية وهذا أمر مضطرد حتى الآن عندهم؛ ففي إيران المعاصرة يحكي الأستاذ ناصر الدين الهاشمي في بيان موقف أهل السنة في إيران، وهو يبين الأمور التي يمنع منها السنة هناك مثل بناء المساجد في المدن الكبيرة، ومنع طبع كتبهم، والإفتاء لهم بمذهبهم.
قال: "وأهل السنة ممنوعون من العمل في الإدارات الحكومية حيث لا يوظف منهم ولو من حملة شهادات الدكتوراه، لا بالوظائف المهمة ولا غير المهمة، ناهيك عن القلة القليلة الباقية من النظام السابق في الإدارات الحكومية وذلك بعد تطهير واسع بعد الثورة"(2) .
كلام حول الدافع في خيانة ابن العلقمي:
قال ابن كثير رحمه الله في أحداث 655هـ: " وفيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنهبت الكرخ ودور الرافضة حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي وكان ذلك من أقوى الأسباب في ممالأته للتتار"(3) .
__________
(1) السابق (13/205).
(2) أ/ ناصر الدين الهاشمي: موقف أهل السنة في إيران (ص11) بدون طبعة.
(3) البداية والنهاية (13/196).(36/52)
وقد يكون هذا بعض الدافع، ولكن الحقيقي لخيانة هذا الرافضي الخبيث هو ما يكنه من عقائد، وقد بينا في البداية أنهم لا يرون إقامة الجهاد إلا بحضور المهدي "وهو إمامهم الثاني عشر" روي الكليني صاحب الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
"كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل" وذكر هذه الرواية أيضًا شيخهم الحر العاملي في وسائل الشيعة.
وفي الصحيفة السجادية الكاملة: "عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما خرج ولا يخرج منا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلمًا أو ينعش حقًا إلا اصطلته البلية، وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشبعتنا".
وروى محدثهم النوري الطبرسي في مستدرك الوسائل: " عن أبي جرف عليه السلام قال: مثل من خرج منا أهل البيت قبل قيام القائم عليه السلام مثل فرخ طار ووقع من وكره فتلاعبت به الصبيان"(1) .
فهل كان يرجى من هؤلاء أن يعلنوا الجهاد ضد التتار أو غيرهم وهم يروننا كفارًا، ومهديهم لم يخرج؟
المبحث التاسع
خيانة الشيعة عند دخول التتار
إلى بلاد الشام (658هـ)
المبحث التاسع
خيانة الشيعة عند دخول التتار إلى بلاد الشام (658هـ)
جاء التتار إلى بلاد الشام في عام 658هـ صحبه ملكهم هولاكو خان وجاوزا الفرات على جسور عملوها، ووصلوا إلى حلب في ثاني صفر من هذه السنة، فحاصروها سبعة أيام ثم افتتحوها بالأمان ثم غدروا بأهلها، وقتلوا منهم خلقًا لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ونهبوا الأموال، وسبوا النساء والأطفال، وجرى عليهم قريبًا مما جرى على أهل بغداد.
__________
(1) عبد الله الموصلي: حقيقة الشيعة "ص170، 171ط".(36/53)
ولما سقطت حلب أرسل صاحب حماة بمفاتيحها إلى هولاكو خان فاستناب عليها رجل يقال له خسروشاه، فخرب أسوارها كمدينة حلب، ثم أرسل هولاكو قائده كتبغا إلى دمشق فأخذوها سريعًا بلا مصانعة ولا مدافعة واستناب عليها رجلا منهم يقال له إيل سيان وكان معظمًا لدين النصارى، فاجتمع به قسوسهم وأساقفتهم فعظمهم جدًّا وزار كنائسهم فصارت لهم دولة وصولة بسببه، وذهب طائفة من النصارى إلى هولاكو وأخذوا معهم هدايا وتحف، وقدموا من عنده ومعهم فرمان أمان من جهته فدخلوا من باب توما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس وهم ينادون بشعارهم، ويقولون ظهر الدين الصحيح دين المسيح ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أواني خمر لا يمرون بمسجد إلا رشوا عنده خمرًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون(1) .
ومما يدل على خيانة الروافض – هنا أن هولاكو لما أتم تدمير دمشق وبلاد الشام أرسل تقليدًا بولاية القضاء على جميع المدائن الشام والجزيرة والموصل وماردين والأكراد للقاضي كمال الدين عمر بن بدر التفليسي الشيعي، ويدل على تآمر الشيعة أيضًا أنه لما ظفر المسلمون على التتار في واقعة عين جالوت بقيادة الملك المظفر قطز عوّل أهل الشام على الانتقام من الخونة من النصارى الذين استغلوا الفرصة وفعلوا ما فعلوا ومن الشيعة الذين مالئوا التتار وصانعوهم على أموال المسلمين وقتل العامة وشيخهم الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، قال عنه ابن كثير رحمه الله:
" شيخًا رافضيًّا كان مصانعًا للتتار على أموال المسلمين، وكان خبيث الطوية، مشرقيًا ممالئًا لهم على أموال المسلمين قبحه الله، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين"(2) .
__________
(1) البداية والنهاية (13/218،219) بتصريف وإيجاز.
(2) البداية والنهاية (13/221) بتصريف.(36/54)
ومن طريف ما يذكر ويدلل على أن أهل السنة لم يكونوا بغاة ظالمين في الانتقام من النصارى والشيعة بعد ظفرهم بالتتار بحمد الله، أن طائفة منهم همت أن تعاقب اليهود، فقيل لهم أنه لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان(1) .
فالله أكبر على السنة وأهلها، لا خيانة ولا ظلم ولا تعدي، وإن عاقبوا قومًا فبمثل ما عوقبوا به، وإن اعتدوا على قوم فبمثل ما اعتُدي به عليهم.
وسبحان الله الذي جعل الجزاء من جنس العمل، فإن هؤلاء الخونة كان الله تعالى ينتقم منهم بأيدي من خانوا من أجلهم ومالؤهم حتى أن ابن كثير يذكر أن هولاكو ملك التتار استحضر الزين الحافظي وهو سليمان بن عامر العقرباني، وقال له: ثبت عندي خيانتك، وقد كان هذا المغتر لما قدم التتار مع هولاكو دمشق وغيرها مالأ على المسلمين وآذاهم ودل على عوراتهم، فسلطه الله عليه بأنواع العقوبات، ومن أعان ظالمًا سلطه عليه(2) .
المبحث العاشر
خيانة الشيعة في بلاد حلب 657هـ
المبحث العاشر
خيانة الشيعة في بلاد حلب 657هـ
لما دخل التتار حلب وقتلوا منها خلقًا كثيرًا، وسلبوا ونهبوا وسبوا كتب الملك الناصر صاحب حلب إلى الملك المغيث صاحب الكرك وإلى الملك المظفر قطز في مصر يطلب منهما نجدة وكانت نفسه قد ضعفت وخارت، وعظم خوف العساكر من هولاكو، وظهرت الشيعة بتيارها الانهزامي، فقال الأمير الشيعي زين الدين الحافظي يعظم شأن هولاكو، ويشير بعدم القتال ووجوب الدخول في طاعة هولاكو، فصاح به الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وضربه وسبه وقال: أنتم سبب هلاك المسلمين(3).
المبحث الحادي عشر
__________
(1) السابق: نفس الموضوع.
(2) انظر البداية والنهاية (13/244).
(3) أحمد بن علي المقريزي/ السلوك لمعرفة دولة الملوك (1/419) ط لجنة التأليف والترجمة والنشر الطبعة الثانية 1957م تحقيق محمد مصطفى زيادة – بتصريف.(36/55)
خيانات نصير الدين الطوسي
المبحث الحادي عشر
خيانات نصير الدين الطوسي
نصير الدين الطوسي هذا كان معاصرًا للوزير ابن العلقمي، وكان شيعيًّا رافضيًّا خبيثًا مثله، تعددت خياناته؛ فكانت ما بين إعانة على قتل أهل السنة وأخذ أموالهم والقضاء على تراثهم الفكري.
أما خيانته في الإعانة على قتل أهل السنة فثابت مستفيض، قال ابن كثير رحمه الله:
"الخواجا نصير الدين الطوسي وزر لأصحاب قلاع الألموت من الإسماعيلية، ثم وزر لهولاكو، وكان معه في واقعة بغداد"(1) .
وقال في موضوع آخر: "كان النصير وزيرًا لشمس الشموس ولأبيه قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينسبون إلى نزار بن المستنصر العبيدي، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة – أي في واقعة بغداد 656هـ - هون عليه الوزير – الطوسي – ذلك فقتلوه رفسا، وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه وأشار الطوسي بقتل جماعة كبيرة – من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء وأولي الحل والعقد – مع الخليفة فباء بآثامهم"(2) .
والشيعة الملاعين يمتدحون ما فعله الطوسي من الخيانة، ويترحمون عليه ويرونه نصرًا حقيقيًّا للإسلام، فمثلاً:
__________
(1) البداية والنهاية (13/267)، وانظر شذرات الذهب (5/340) ط دار الأوقاف – بيروت.
(2) السابق (13/201) بتصرف.(36/56)
يقول علامتهم محمد باقر الموسى في روضات الجنات في ترجمة الطوسي (1/300، 301): " هو المحقق المتكلم الحكيم المتجبر الجليل.. ومن جملة أمره المشهور المعروف المنقول حكاية استيزاره للسلطان المحتشم في محروسة إيران هولاكو خان بن تولي جنكيز خان من عظماء سلاطين التتارية، وأتراك المغول ومجيئه في موكب السلطان مؤيد مع كمال الاستعداد إلى دار السلام بغداد؛ لإرشاد العباد وإصلاح البلاد، وقطع دابر سلسلة البغي والفساد، وإخماد دائرة الجور والإلباس بإبداد دائرة ملك بني العباس، وإيقاع القتل العام في أتباع أولئك الطغاة إلى أن سال من دمائهم الأقذار كأمثال الأنهار فانهار بها في ماء دجلة، ومنها إلى نار جهنم دار البوار، ومحل الأشقياء والأشرار"(1) .
فيا سبحان الله! الخيانة إرشاد للعباد وإصلاح للبلاد!!
وصدق ربنا – عز وجل – فيما قاله في مثل هؤلاء الخونة المفسدين:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } (البقرة: 11: 12).
وقد امتدح الخميني نصر الدين الطوسي وبارك خيانته هذه واعتبرها نصرًا حقيقيًّا للإسلام، قال في كتابه الحكومة الإسلامية:
"..وإذا كانت ظروف التقية تلزم أحدًا منا بالدخول في ركب السلاطين فهنا يجب الامتناع عن ذلك حتى لو أدى الامتناع إلى قتله إلا أن يكون في دخوله الشكلي نصر حقيقي للإسلام والمسلمين مثل دخول علي بن يقطين، ونصير الدين الطوسي رحمهما الله"(2) .
ويقول أيضًا عنه: " ويشعر الناس بالخسارة أيضًا بفقدان الخواجة نصير الدين الطوسي وأمثاله ممن قدموا خدمات جليلة للإسلام"(3) .
وهكذا عندما تنتكس الموازين تصبح خيانة الإسلام والمسلمين خدمات جليلة للإسلام والمسلمين!!.
__________
(1) حقيقة الشيعة (ص54).
(2) الخميني : الحكومة الإسلامية (ص142) ط الرابعة
(3) السابق: (ص128).(36/57)
ألا لعنة الله على من لم يقيموا الوزن بالقسط وأخسروا الميزان.
وتعدت خيانة الطوسي الخيانة في القتل إلى نوع خطير من الخيانة إنه خيانة الأمة الإسلامية في حضارتها، في تراثها وفكرها وثقافتها.
فإن الطوسي نظرًا لأنه كان له معرفة بالعلوم وخصوصًا علم الكلام والفلسفة والمنطق.. فطن أن توجيه هذه الضربة القاصمة للأمة الإسلامية في تراثها الحضاري والفكري فسعى في إهلاك المؤلفات وإتلافها وسرقتها واستبقاء الفلاسفة والمنجمين.
قال ابن كثير رحمه الله:
"وفي سنة 657هـ(1) عمل الخواجة نصير الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة ونقل إليها شيئًا كثيرًا من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد، وعمل دارًا للحكمة ورتب فيها الفلاسفة، ورتب لكل واحد في اليوم والليلة ثلاثة دراهم"(2) .
وقال ابن القيم رحمه الله:
__________
(1) أي بعد دخول التتار بغداد، وأصبح هذا الكلب متصرفًا في البلاد.
(2) البداية والنهاية ( 13/315).(36/58)
"ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد، وزير الملاحدة النصير الطوسي وزير هولاكو شفا نفسه من أتباع الرسول الكريم – وأهل دينه، فعرضهم على السيف، حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين والسحرة، ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه، ونصر في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الرب جل جلاله من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إله يعبد ألبته، واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن، فلم يقدر على ذلك، فقال هي قرآن الخواص، وذاك قرآن العوام، ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين فلم يتم له الأمر وتعلم السحر في آخر الأمر، فكان ساحرًا يعبد الأصنام، وصارع محمد الشهرستاني ابن سينا في كتابه سماه المصارعة أبطل فيه قوله بقدم العالم وإنكار المعاد ونَفْي علم الرب تعالى وقدرته وخلقه للعالم، فقام له نصير الإلحاد وقعد، ونقضه بكتاب سماه مصارعة المصارعة.. وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"(1) .
وقال الشيخ محب الدين الخطيب:
__________
(1) ابن القيم: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/263) ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة.(36/59)
" النصير الطوسي . جاء في طليعة موكب السفاح هولاكو، وأشرف معه على إباحة الذبح العام في رقاب المسلمين والمسلمات، أطفالاً وشيوخًا، ورضي بتغريق كتب العلم الإسلامية في دجلة، حتى بقيت مياهها تجري سوداء أيامًا وليالي من مداد الكتب المخطوطة التي ذهب بها نفائس التراث الإسلامي من تاريخ وأدب ولغة وشعر وحكمة، فضلاً عن العلوم الشرعية ومصنفات أئمة السلف من الرعيل الأول، التي كانت لا تزال موجودة بكثرة إلى ذلك الحين، وقد تلف مع ما تلف من أمثالها في تلك الكارثة الثقافية التي لم يسبق لها نظير"(1) .
ولقد لفتت هذه الخيانة الحضارية والثقافية نظري إلى أمر هام وهو أننا حين نقرأ في كتب تراجم الرجال أو الكتب التي عنيت بتسجيل أسماء الكتب(2) نسمع عن عشرات ومئات من المصنفات الضخام، ولكن نفاجأ بأنه لم يصل إلينا منها إلا القليل، فندرك أن مثل هذه الخيانة الحضارية الثقافية كانت وراء ضياع كثير من هذه المؤلفات القيمة، حتى جاء الاستعمار الحديث فسرق عشرات الموسوعات العلمية من تراث هذه الأمة ونقلها إلى بلاده، ومن يدري لعل أيدي الخيانة الشيعية هي التي فعلت بتراث الأمة حديثًا ما فعلته قديمًا.
جدير بالذكر أنه في الحرب الأخيرة على العراق لما جاء التتار الجد بقيادة "هولاكو بوش" بغداد نتيجة الخيانة وسادت الفوضى في البلاد عمد الشيعة إلى أماكن السجلات والوثائق فنهبوها عن آخرها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
__________
(1) محب الدين الخطيب: الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الاثنى عشرية (ص47،48) ط المركز الإسلامي للإعلام والنشر.
(2) من أهم هذه الكتب "كشف الظنون لحاجي خليفة – والفهرست لابن النديم" .(36/60)
المبحث الثاني عشر
خيانات الشيعة ومحاولاتهم الفتك
بصلاح الدين الأيوبي
المبحث الثاني عشر
خيانات الشيعة ومحاولاتهم الفتك بصلاح الدين الأيوبي
لم ينس الشيعة أن صلاح الدين الأيوبي هو الذي أزل دولتهم الفاطمية في مصر ومهد للسنة من جديد، لذلك حاولوا مرارًا الفتك به لإقامة الدولة الفاطمية من جديد، واستعانوا في هذه المؤامرات بالفرنج وكاتبوهم.
يقول المقريزي في السلوك:
"وفيها – أي سنة 569هـ - اجتمع طائفة من أهل القاهرة على إقامة رجل من أولاد العاضد – آخر خليفة فاطمي بمصر – وأن يفتكوا بصلاح الدين وكاتبوا الفرنج؛ ومنهم القاضي المفضل ضياء الدين نصر الله بن عبد الله بن كامل القاضي، والشريف الجليس، ونجاح الحمامي، والفقيه عمارة بن علي اليماني، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي الأعز سلامة العوريس متولي ديوان النظر ثم القضاء، وداعي الدعاة عبد الجابر بن إسماعيل بن عبد القوي، والواعظ زين الدين بن نجا، فوشى ابن نجا بخبرهم إلى السلطان، وسأله أن ينعم عليه بجميع ما لابن كامل الداعي من الدور والموجود كله، فأجيب إلى ذلك؛ فأحيط بهم وشنقوا.. وتتبع – أي صلاح الدين – من له هوى في الدولة الفاطمية، فقتل كثيرًا وأسر كثيرًا، ونودي بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر، وزاجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد، وقبض على رجل يقال له قديد بالإسكندرية من دعاة الفاطميين يوم الأحد خامس عشر من رمضان"(1).
وبرغم قتل الخائنين المتآمرين إلا أن الفرنجة جاءوا حسب المكاتبة.
قال المقريزي:
__________
(1) السلوك لمعرفة دولة الملوك (1/53، 54).(37/1)
" وفيها نزل أسطول الفرنج(1) بصقلية على ثغر الإسكندرية لأربع بقين من ذي الحجة بغتة وكان الذي جهز هذا الأسطول غاليالم بن رجار متملك صقلية ولي بعد أبيه في سنة 560هـ.. ولما أرسى هذا الأسطور على البر أنزلوا من طرائدهم ألفًا وخمسمائة فرس، وكانت عدتهم ثلاثين ألف مقاتل، ما بين فارس وراجل وعدة السفن التي تحمل آلات الحرب، والحصار ست سفن والتي تحمل الأزواد والرجال أربعين مركبًا فكانوا نحو الخمسين ألف راجل، ونزلوا على البر مما يلي المنارة، وحملوا على المسلمين حتى أوصلوهم إلى السور، وقتل من المسلمين سبعة، وزحفت مراكب الفرنج إلى الميناء، وكان بها مركب المسلمين فغرقوا منها، وغلبوا على البر وخيموا به، فأصبح لهم على البر ثلاثمائة خيمة، وزحفوا لحصار البلد، ونصبوا ثلاث دبابات بكباشها وثلاثة مجانيق كبار تضرب بحجارة سود عظيمة، وكان السلطان – صلاح الدين – على فاقوس، فبلغه الخبر ثالث يوم نزول الفرنج؛ فشرع في تجهيز العساكر وفتحت الأبواب وهاجم المسلمون الفرنج وحرقوا الدبابات، وأيدهم الله بنصره.. وقتل كثير من الفرنج، وغنم المسلمون من الآلات والأمتعة والأسلحة ما لا يُقدر على مثله إلا بعناء، وأقلع باقي الفرنج في مستهل سنة سبعين"(2) .
أرأيت كم حجم الخيانة ومقدارها لولا أن مَنَّ الله على صلاح الدين ورجاله ونصرهم،وبالطبع كما قال المقريزي بعد عناء وأرواح ودماء أسيلت، وما هذا إلا بفعل الشيعة.
ولم تكد تمضي هذه السنة 569هـ وتدخل سنة 570هـ حتى دبر الشيعة خيانة أخرى لإقامة الدولة الفاطمية والفتك بصلاح الدين.
__________
(1) قال د/ محمد مصطفى زيادة في تعليقه على السلوك: "وهذه الحملة البحرية كانت دليلاً للمؤمراة الثورية التي قام بتدبيرها عمارة اليمني، وقد تقدم أن المتآمرين كاتبوا الفرنج – ولم كن حاكم صقلية يعلم بما حاق بالمتآمرين، فبعث مراكبه حسب الاتفاق المبيت معهم (10/55).
(2) السلوك لمعرفة دول الملوك (1/55/56).(37/2)
قال المقريزي:
".. وفيها جمع كنز الدولة والي أسوان العرب والسودان وقصد القاهرة يريد إعادة الدولة الفاطمية، وأنفق في جموعه أموالاً جزيلة، وانضم إليه جماعة ممن يهوى هواهم، فقتل عدة من أمراء صلاح الدين، وخرج في قرية طود رجل يعرف بعباس بن شادي، وأخذ بلاد قوص، وانتهب أموالها؛ فجهز السلطان صلاح الدين أخاه الملك العادل في جيش كثيف ومعه الخطير مهذب بن مماتي فسار وأوقع بشادي وبدد جموعه وقتله.
ثم سار فلقيه كنز الدولة بناحية طود، وكانت بينهما حروب فر منها كنز الدولة بعد ما قتل أكثر عسكره، ثم قتل كنز الدولة في سابع صفر، وقدم العادل إلى القاهرة..."(1) .
ولم تكن هذه الخيانة مجرد مؤامرة للفتك بصلاح الدين السني الذي أزال دولة الشيعة في مصر، وإنما ترتب عليها أن استفحل خطر الفرنجة في بلاد الشام، وعندما عزم السلطان صلاح الدين على التوجه إليهم كان من أهم معوقاته خيانة الشيعة له في داخل سلطنته بمصر.
قال ابن كثير رحمه الله:
"استهلت سنة 570هـ والسلطان الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب قد عزم على الدخول إلى بلاد الشام لأجل حفظه من الفرنج، ولكن دهمه أمر شغله عنه، وذلك أن الفرنج قدموا إلى الساحل المصري في أسطول لم يسمع بمثله في كثرة المراكب وآلات الحرب والحصار والمقاتلة..
ومما عوق الملك الناصر عن الشام أيضًا رجلاً يعرف بالكنز سماه بعضهم عباس بن شادي، وكان من مقدمي الديار المصرية والدولة الفاطمية، كان قد استند إلى بلد يقال له أسوان، وجعل يجمع عليه الناس فاجتمع عليه خلق كثير من الرعاع من الحاضرة والغربان وكان يزعم أنه سيعيد الدولة الفاطمية ويدحض الأتابكة التركية.."(2) .
__________
(1) المرجع السابق (1/57، 58).
(2) البداية والنهاية (12/287، 288).(37/3)
ولما تمهدت البلاد، ولم يبقى فيها رأس من الدولة العبيدية – الفاطمية – برز صلاح الدين في الجيوش التركية قاصدًا البلاد الشامية، وذلك حين مات سلطانها نور الدين محمود بن زنكي، وأخيف سكانها، وتضعضعت أركانها، واختلف حكامها.. وقصده جمع شملها، والإحسان إلى أهلها، ونصرة الإسلام، ودفع الطغام، وإظهار القرآن، وإخفاء سائر الأديان، وتكسير الصلبان، في رضى الرحمن، وإرغام الشيطان.. فدخل دمشق وجاءه أعيان البلد للسلام عليه فرأوا منه غاية الإحسان.. ثم نهض إلى حلب مسرعًا لما فيها من التخبيط والتخليط، واستناب على دمشق أخاه طغتكين بن أيوب الملقب بسيف الإسلام، فلما اجتاز حمص أخذ ربضها، ولم يشتغل بقلعتها، ثم سار إلى حماه فتسلمها من صاحبها عز الدين بن جبريل، وسأله أن يكون سفيره بينه وبين الحلبيين؛ فأجابه إلى ذلك، فسار إليهم، فحذرهم باسم صلاح الدين؛ فلم يلتفتوا إليه، بل أمروا بسجنه واعتقاله، فأبطأ الجواب على السلطان؛ فبعث إليهم كتابًا يلومهم فيه على ما هم فيه من الاختلاف وعدم الائتلاف.. وذكرهم بأيامه وأيام أبيه وعمه في خدمة نور الدين في المواقف المحمودة التي يشهد بها أهل الدين، ثم سار إلى حلب فنزل على جبل جوشن"(1) .
__________
(1) البداية والنهاية (12/288، 289).(37/4)
"وهنا نزغ الشيطان الإنسي في قبل ابن الملك نور الدين محمود أن يحرض أهل حلب على قتال صلاح الدين وذلك بإشارة من الأمراء المقدمين، فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته، على كل أحد، وشرط عليه الروافض منهم أن يعاد الآذان بحي على خير العمل. وأن يذكر في الأسواق، وأن يكون لهم في الجامع الجانب الشرقي، وأن يذكر أسماء الأئمة الاثنى عشر بين يدي الجنائز، وأن يكبروا على الجنازة خمسًا، وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف بن أبي المكارم حمزة الحسيني، فأجيبوا إلى ذلك كله، فأذن بالجامع وسائر البلد بحي على خير العمل وعجز أهالي البلد عن مقاومة الناصر، وأعملوا في كيده كل خاطر؛ فأرسلوا أولاًً إلى شيبان صاحب الحسبة، فأرسل نفرًا من أصحابه إلى الناصر ليقتلوه؛ فلم يظفر منه بشيء؛ بل قتلوا بعض الأمراء ثم ظهر عليهم فقتلوا عن آخرهم فراسلوا عند ذلك القومص صاحب طرابلس الفرنجي ووعدوه بأموال جزيلة إن هو رحل عنهم الناصر وكان هذا القومص قد أسره نور الدين وهو معتقل عنده مدة عشر سنين، ثم افتدى نفسه.. وكان لا ينساها لنور الدين.."(1) .
" وفي سنة 571هـ في رابع عشر ذي الحجة، وثب عدة من الإسماعيلية على السلطان صلاح الدين فظفر بهم بعدما جرحوا عدة أمراء والخواص.."(2).
__________
(1) البداية والنهاية (12/289). .
(2) السلوك لمعرفة دول الملوك (1/61).(37/5)
وفي سنة 573هـ لما خرج السلطان صلاح الدين من القاهرة لجهاد الفرنجة فتوجه إلى عسقلان فسبي وغنم وقتل وأسر، ومضى إلى الرملة وأشرف عليهم الفرنج، وقدمهم البرنس أرناط صاحب الكرك في جموع كثيرة فانهزم المسلمون وثبت السلطان في طائفة فقاتل قتالاً شديدًا، واستشهد جماعة وأخذ الفرنج أثقال المسلمين، فمر بهم في مسيرهم إلى القاهرة من العناء ما لا يوصف ومات منهم، ومن داوبهم كثير، وأسر الفرنج جماعة منهم الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري، ودخل السلطان إلى القاهرة فحلف لا تضرب له نوبة حتى يكسر الفرنج وقطع أخباز جماعة من الأكراد، من أجل أنهم كانوا السبب في هذه الكسرة(1) .
"وفي سنة 584هـ ثار اثنا عشر رجلاً من الشيعة في الليل ينادون: يال علي! يال علي! وسلكوا الدروب وهم ينادون كذلك ظنًا منهم أن رعية البلد يلبون دعوتهم، ويقومون في إعادة الدولة الفاطمية فيخرجون من في الحبوس ويملكون البلد فلما لم يجبهم أحد تفرقوا"(2) .
هذه بعض النماذج لخيانات الشيعة ومحاولاتهم الفتك بالملك الناصر – ناصر السنة – صلاح الدين رحمه الله، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
المبحث الثالث عشر
خيانات الشيعة لدولة السلاجقة السنية ومعاونة الصليبيين عليها
المبحث الثالث عشر
خيانات الشيعة لدولة السلاجقة السنية ومعاونة الصليبيين عليها
لما زالت دولة بني بويه (الشيعية) وبادت، جاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلاجقة الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم، ويرفعون قدرهم. والله المحمود أبدًا على طول المدى(3) وقاموا بنصرة السنة، وإخماد الرفض وأهله، ولكن هذه الدولة السنية لم تسلم من خيانات الشيعة وغدرهم.
__________
(1) المرجع السابق (1/64، 65) بتصرف.
(2) المرجع السابق (1/101).
(3) ابن كثير: البداية والنهاية (12/ 68، 69).(37/6)
ففي سنة 450هـ جاء البساسيري الرافض الخبيث بجيوش إلى بغداد مقر السلطان السلجوقي طغرلبك – وكان غائبًا عنها – ومعه الرايات البيض المصرية، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها اسم المستنصر بالله الفاطمي، فتلقاه أهل الكرخ الرافضة، وسألوه أن يجتاز من عندهم، فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الزوايا فخيم بها والناس إذ ذاك في مجاعة شديدة.. ونهب أهل الكرخ الروافض دور أهل السنة بالبصرة وتملك أكثر السجلات والكتب الحكمية، بعد ما نهب دار قاضي القضاة الدامغاني، وبيعت للعطارين، وأعادت الروافض الآذان بحي على خير العمل في نواحي بغداد، وخطب ببغداد للمستنصر بالله العبيدي، وضربت له السكة وحوصرت دار الخلافة، ثم نهبت والروافض في غاية السرور.. وانتقم البساسيري من أعيان أهل السنة ببغداد فأخذ الوزير ابن المسلمة الملقب برئيس الرؤساء وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة، وأركب جملاً أحمر وطيف به البلد وخلفه من يصفعه بقطعة من جلد، وحين مر على الكرخ – دور الرافضة – نثروا عليه خلقان المداسات، وبصقوا في وجهه، ولعنوه وسبوه.. ثم لما فرغوا من التطوف به جيء به إلى المعسكر؛ فألبس جلد ثور بقرنيه وعلق بكلوب في شدقيه، ورفع إلى الخشبة فجعل يضرب إلى آخر النهار؛ فمات رحمه الله وكان آخر كلامه "الحمد الله الذي أحياني سعيدًا، وأماتني شهيدًا"(1) .
وقد أصبحت بلاد الشام مسرحًا للمنازعات بين السلاجقة "الذين هم من أهل السنة" والفاطميين "الشيعة" مما أدى إلى تفكك وحدة المسلمين ومهد الطريق أمام الصليبين لغزو بلاد الشام في يسر وسهولة، حيث وصلوا إلى أطرافها في سنة 490هـ.
__________
(1) البداية والنهاية (12/76- 79) بتصرف وإيجاز.(37/7)
وتبرز هنا خيانات الفاطميين فقد أرسل بدر الجمالي وزير المستعلي – الفاطمي الشيعي – سنة 490هـ سفارة من قبله إلى قادة الحملة الصليبية الأولى تحمل عرضًا خلاصته أن يتعاون الطرفان للقضاء على السلاجقة في بلاد الشام، وأن تقسم البلاد بينهما بحيث يكون القسم الشمالي من الشام للصليبيين في حين يحتفظ الفاطميون بفلسطين.
ولما كان هدف الصليبيين هو السيطرة على بيت المقدس فقد كان ردهم غامضًا واكتفوا ببث شعور الطمأنينة في نفوس الفاطميين واكتشفوا بذلك ضعف المسلمين وتفككهم.
ولما قام الأمير "كربوق" صاحب الموصل – من قبل السلاجقة بتجهيز قوة لمنع سقوط أنطاكية بيد الصليبيين وقف الفاطميون موقف المتفرج، ولم يكتفوا بذلك بل استغلوا هذه الفرصة فسيروا جيشًا إلى بيت المقدس الذي كان بيد السلاجقة وحاصروه، ونصبوا عليه أكثر من أربعين منجنيقًا حتى تهدمت أسواره وسيطروا عليه(1).
واستغل زعماء الشيعة الإسماعيلية الخلاف بين بعض السلاطين السلاجقة في نحو سنة 488هـ، وتقربوا من رضوان بن تاج الدولة تتش الذي كان على بلاد الشام، وحصلوا عنده على مكانة مرموقة فتشيع لآرائهم، ولم يعبأ بما أحرزه الصليبيون من انتصارات واستيلاء على بعض بلاد الإسلام في آسيا الصغرى(2) فقد استولوا على أنطاكية سنة 491هـ ثم سيطروا على المعرة عام 492هـ ثم واصلوا سيرهم إلى جبل لبنان؛ فقتلوا من به من المسلمين، ثم نزلوا إلى حمص فهادنهم صاحبها على مال يدفعه.
قال ابن كثير رحمه الله:
__________
(1) د/ أنس أحمد كرزون: نور الدين محمود زنكي القائد المجاهد (9-11) بتصرف – دار ابن حزم – بيروت 1995م.
(2) انظر: مسفر الغامدي : الجهاد ضد الصليبيين (ص51) نقلاً عن زبدة الحلب (2/145).(37/8)
"في جمادى الأولى سنة 491هـ ملك الفرنجة أنطاكية بعد حصار شديد بمواطأة بعض المستحفظين على الأبراج وهرب صاحبها.. ولما بلغ الخبر الأمير كربوق صاحب الموصل جمع عساكر كثيرة واجتمع عليه دقاق صاحب دمشق وجناح الدولة صاحب حمص وغيرهما، وسار إلى الفرنج فالتقوا معهم بأرض أنطاكية فهزمهم الفرنج، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وأخذوا منهم أموالاً جزيلة.. ثم صارت الفرنج إلى معرة النعمان؛ فأخذوها بعد حصار ولا حول ولا قوة إلا بالله"(1) .
ضياع بيت المقدس بسبب خيانات الشيعة:
"وفي سنة 492هـ أخذت الفرنج بيت المقدس ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل؛ وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار؛ وعلوا ما علوا تتبيرًا، .. وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستغثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه.. وخرج أعيان الفقهاء يحرضون الناس والملوك على الجهاد فلم يفد ذلك شيئًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون"(2) .
وأنشد بعضهم يصور الموقف المهين:
مزجنا دمانا بالدموع السواجم وشر سلاح المرء دمع يريقه فأيها بني الإسلام إن وراءكم وكيف تنام العين ملء جفونه وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم تسومهم الروم الهوان وأنتم
فلم يبق منا عرضة للمراجم
إذا الحرب شيت نارها بالصوارم
وقائع يلحقن الذي بالمناصم
على هفوات أيقظت كل نائم
ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
ومنها قوله:
__________
(1) البداية والنهاية (12/155).
(2) البداية والنهاية 12/156.(37/9)
وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة
وتلك حروب من يغيب عن غمارها
سللن بأيدي المشركين قواضبا
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا
ويجتنبون النار خوفًا من الردى
أيرضى صناديد الأعاريب بالأذى
فليتهموا إذ لم يذودوا حمية
وإن زهدوا في الأجر إذ حمس الوغى
تظل لها الوالدان شيب القوادم
ليسلم يقرع بعدها هاش نادم
ستغمد منهم في الكلي والجماجم
رماحهم والدين واهي الدعائم
ولا يحسبون العار ضربة لازم
ويغضي على ذل كماة الأعاجم
عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
فهلا أتوه رغبة في المغانم(1)
ومن أجل أن تعلم أن ضياع بيت المقدس كانت نتيجة لخيانات الشيعة وما يحدثونه من قلاقل واضطراب يحول دون استتباب الأمور؛ اسمع ما يقوله ابن كثير رحمه الله تعالى:
في سنة 494هـ عظم خطب الباطنية – الشيعة – بأصبهان نواحيها فقتل السلطان منهم خلقًا كثيرًا وأبيحت ديارهم للعامة، ونودي فيهم أن كل من قدرتم عليه فاقتلوه وخذوا ماله، وكان قد استحوذوا على قلاع كثيرة، وأول قلعة ملكوها في سنة 483هـ، وكان الذي ملكها الحسن بن صباح أحد دعاتهم.. كان يذكر في دعوته أشياء من أخبار أهل البيت وأقاويل الرافضة الضلال، وأنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم ورسوله، ثم يقول فإذا كانت الخوارج تقاتل بني أمية لعلي، فأنت أحق أن تقاتل في نصرة إمامك علي بن أبي طالب.. وقد تهدده قبل ذلك السلطان ملكشاه، وأرسل إليه بفتاوى العلماء في أمره؛ فلما قرأ الكتاب بحضرة رسول السلطان قال لمن حوله من الشباب: إني أريد أن أرسل منكم رسولاً إلى مولاه فاشرأبت وجوه الحاضرين، ثم قال لشاب منهم: اقتل نفسك؛ فأخرج سكينًا فقتل نفسه، وقال لآخر منهم ألق نفسك من هذا الموضع فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل؛ فتقطع ثم قال لرسول السلطان هذا هو الجواب"(2) .
__________
(1) الأبيات كلها: من البداية والنهاية (12/156،157).
(2) البداية والنهاية (12/166، 167) بتصرف.(37/10)
"يعني أنه في قوم شديدو البأس والنكاية مع طاعتهم له أشد الطاعة، وفي سنة 500هـ حاصر السلطان محمد بن ملكشاه قلاعًا كثيرة من حصون الباطنية فافتتح منها أماكن كثيرة، وقتل منهم خلقًا، واشتد القتال معهم في قلعة حصينة في رأس جبل منيع بأصبهان كان قد بناها السلطان ملكشاه ثم استحوذ عليها رجل من الباطنية يقال له أحمد بن عبد الله بن عطاء، فتعب المسلمون بسبب ذلك، فحاصرها ابنه السلطان محمد سنة حتى افتتحها وسلخ هذا الرجل وحشى جلده تبنًا وقطع رأسه وطاف به في الأقاليم"(1) .
حصار قلعة من قلاع الباطنية يستهلك من جهد المسلمين سنة كاملة والمسجد الأقصى أسير في أيدي الفرنجة؟ إنهم كالخنجر في الظهر.
وفي نفس السنة سعى رضوان الذي تشيع لآراء الإسماعيلية إلى التصدي لزعيم سلاجقة الروم (قلج أرسلان) وهزمه وهو يحاول قتال الصليبيين حول الرها، ولم يكتف بهذا بل انضم إلى الصليبيين ضد الأمير جاولي صاحب حلب سنة 501هـ.
ولم يقدر الصليبيون هذا الموقف من رضوان بل حاصروا حلب سنة 504هـ وضيقوا على أهلها حتى أكلوا الميتات وورق الشجر، وفرضوا على رضوان مبلغًا كبيرًا يحمله إليهم(2) .
حتى أنه إذا حدث وحقق سلاطين المسلمين – من أهل السنة – نصرًا على الفرنجة؛ فإن هذا النصر كان يحزن الشيعة لأنهم يرون فيه قوة لجناب السنة وإلى ذاكرة التاريخ نضرب مثالاً على ذلك:
قال أبو الفدا رحمه الله تعالى:
__________
(1) البداية والنهاية (12/166، 167) بتصرف.
(2) مسفر الغامدي: الجهاد ضد الصليبيين (ص45) نقلاً عن زبدة الحلب (2/153).(37/11)
"وفي سنة 505هـ بعث السلطان غياث الدين بن محمد بن ملكشاه السلجوقي جيشًا كثيفًا صحبه الأمير مودود بن زنكي صاحب الموصل في جملة أمراء ونواب منهم صاحب تبريز وصاحب مراغة، وصاحب ماردين، وعلى الجميع مودود صاحب الموصل لقتال الفرنجة بالشام؛ فانتزعوا من الفرنجة حصونًا كثيرة، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا ولله الحمد، ولما دخلوا دمشق دخل الأمير مودود إلى جامعها ليصلي فيه فجاءه باطني في زي سائل فطلب منه شيئًا فأعطاه فلما اقترب منه ضربه في فؤاده فمات في ساعته، ووجد رجل أعمى في سطح الجامع ببغداد معه سكين مسموم فقيل إنه كان يريد قتل الخليفة.."(1) .
خيانات الشيعة للسلطان جلال الدين بن خوارزم شاه:
كان جلال الدين بن خوارزم شاه من أكبر السلاطين السلاجقة وكان على مذهب السنة.
قال ابن كثير في أحداث سنة 624هـ:
"فيها كانت عامة أهل تفليس الكرج، فجاؤا إليهم فدخلوها فقتلوا العامة والخاصة ونهبوا سبوا وخربوا وأحرقوا، وخرجوا على حمية، وبلغ ذلك السلطان جلال الدين فسافر سريعًا ليدركهم فلم يدركهم، وفيها قتلت الإسماعيلية أميرًا كبيرًا من نواب جلال الدين بن خوارزم شاه، فسار إلى بلادهم فقتل منهم خلقًا كثيرًا وخرب مدينتهم وسبي زراريهم ونهب أمواهم، وقد كانوا قبحهم الله من أكبر العون على المسلمين لما قدم التتار إلى الناس وكانوا أضر على الناس منهم"(2) .
خيانة البدر لؤلؤ الشيعي صاحب الموصل في أواخر سنة 656هـ:
__________
(1) البداية والنهاية (12/173).
(2) البداية والنهاية (13/173).(37/12)
كان بدر الدين لؤلؤ هذا أرمينيا اشتراه رجل خياط، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود الأتاباكي صاحب الموصل وكان مليح الصورة فحظى عنده وتقدم في دولته إلى أن صارت الكلمة دائرة عليه، والوفود من سائر جهات ملكهم إليه، ثم إنه قتل أولاد أستاذه واحدًا بعد واحد إلى أن لم يبقى أحد منهم؛ وصفت له الأمور فاستقل هو بالملك وكان في كل سنة يبعث إلى مشهد علي قنديلاً من ذهب زنته ألف دينار، وهذا دليل على تشيعه، وكان ذا همة عالية شديد الدهاء والمكر بعيد الغور.
ثم إنه لما انفصل هولاكو عن بغداد بعد الوقعة الفظيعة سار بدر الدين لؤلؤ لخدمته وطاعته وحمل معه الهدايا والتحف(1) " .
وما هذا إلا خيانة لأمانة الجهاد العظمى.
وبعد: فهذه بعض نماذج لخيانات الشيعة للدولة السلجوقية، وإضعاف جانبها لأنها كانت على مذهب أهل السنة، نرى فيها الدروس والعبر، ليعتبر من اغتر بحال الروافض وهو يدرس التاريخ لا يعرف شيئًا من مذاهب الدول ونحل الأمم، ولا يفرق بين من هدم الإسلام وسعى في تقويض أركانه وبين من نصره فأعلاه وشيد أركانه.
المبحث الرابع عشر
أحد ملوك التتار
يعتنق مذهب الروافض
المبحث الرابع عشر
أحد ملوك التتار يعتنق مذهب الروافض
لقد كان من فضل الله تعالى أن كثيرًا من التتار الذين جاءوا كالوحوش هداهم الله لدين الإسلام، ولكن الأفاعي من الروافض كانوا يسعون لضم من يستطيعون منهم إلى مذهبهم؛ وقد نجح الشيخ/ جمال الدين بن مطهر الحلي تلميذ نصير الطوسي – في ضم ملك التتار خربندا محمد أرغون بن ابغابن هولاكو ملك العراق وخراسان إلى مذهب الروافض؛ وأقام شعائره في بلاده ولم يزل على الرفض حتى مات، وجرت في أيامه فتن كبار ومصائب عظام بين الروافض وأهل السنة.
__________
(1) البداية والنهاية (13/214) بتصرف.(37/13)
ثم ولي المُلك من بعده ولده أبو سعيد في سنة 716هـ فلعب به بعض الناس في أول دولته، ثم عدل إلى العدل إقامة السنة؛ فأمر بإقامة الخطبة بالترضي عن الشيخين أولاً ثم عثمان ثم علي – رضي الله عنهم – ففرح الناس بذلك وسكنت الفتن والشرر والقتال الذي كان بين أهل تلك البلاد، كان والده خربندا قد جهز في حياته جيشًا كثيفًا من الروافض وجمع أموالاً عظيمة ليمد بها صاحب مكة الأمير حميصة بن أبي تمي لينصر الروافض، ويقيم الرفض في بلاد الحجاز؛ فأبطل أبو سعيد ذلك كله.. وأخذ الأموال فاستفتى شيخ الإسلام ابن تيمية فأفتى بأنها تصرف في المصالح التي يعود نفعها على المسلمين؛ لأنها كانت معدة لعناد الحق ونصرة أهل البدعة على أهل السنة(1) .
أرأيت كيف أن القوم لا يضيعون فرصة تسنح لهم في نشر مذهبهم والقضاء على مذهب أهل السنة إلا واهتبلوها.
المبحث الخامس عشر
من خيانات الشيعة النصيرية
المبحث الخامس عشر
من خيانات الشيعة النصيرية
النصيرية فرقة من فرق الشيعة الغالية، أسسها رجل ضال يقال له محمد بن نصير، كان ينتمي إلى الشيعة الاثنى عشرية، ثم خالفهم فأسس فرقة وحده واتخذ من مدينة سامراء مقرًا له، وظل المرجع الأعلى للمذهب النصيري إلى أن هلك سنة 260هـ، وكان قد ادعى النبوة وأن الذي أرسله هو أبو الحسن علي بن أبي طالب(2) .
وأكثر انتشار النصيرية في بلاد الشام، ولهم اعتقادات فاسدة فهم يؤلهون عليًّا، ويقولون: محمد متصل بعلي ليلاً منفصل عنه نهارًا، وعلي خلق محمدًا، ومحمد خلق سلمان الفارسي، وسلمان خلق الخمسة الذين بيدهم مقاليد السموات والأرض؛ وهم: المقداد : رب الناس وخالقهم الموكل بالرعود والصواعق والزلازل.
__________
(1) البداية والنهاية (14/77، 78) بتصرف.
(2) انظر أبي الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين (ص15)، البغدادي: الفرق بين الفرق (ص252).(37/14)
وأبو ذر: الموكل بدوران الكواكب والنجوم.
وعبد الله بن رواحه: الموكل بالرياح وقبض أرواح البشر.
وعثمان بن مظعون: الموكل بالمعدة وحرارة الجسم وأمراض الإنسان.
وقنبر بن ذاذان: الموكل بنفخ الأرواح في الأجسام.
ويحتج النصيريون لهذه العقيدة بأن الإله يحل في الأجسام متى شاء(1)، ويعتبر النصيريون كغيرهم من فرق الشيعة الغالية سب الصحابة من الفروض الدينية لأنهم هم الذين اغتصبوا حق العلويين في الخلافة(2) .
ولا يؤمن النصيريون بالبعث والحساب، ويقولون بتناسخ الأرواح ويستحلون الخمر والزنا وسائر المحرمات(3) .
والنصيريون يسمون أنفسهم بالعلويين، ويكرهون اسم النصيريين، ولهم عداء للإسلام والمسلمين تاريخه طويل تمثل في ثورات وخروج على الخلفاء المسلمين تارة، وفي التعاون مع أعداء المسلمين من الخارج تارة أخرى، سواء في القديم أو الحديث.
وللعلم هم في سوريا على وجه الخصوص في عصرنا هذا لهم سطوة وسلطان ونفوذ واسع في سائر الدوائر سواء الإعلامية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
فإلى معرفة شيء من خيانات النصيريين
ومن خيانات النصيريين:
__________
(1) انظر: د/ مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب ص 307، 308.
(2) انظر: د/ سليمان الحلبي: طائفة النصيرية (ص95) ط المطبعة السلطية – القاهرة.
(3) انظر: فاروق الدملوجي: الألوهية في المعتقدات الإسلامية (ص115) – ط بغداد كتاب "الهفت الشريف" "ص64" حققه د/ مصطفى غالب النصيري/ وهو من أهم كتب النصيريين.(37/15)
في سنة 696هـ تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام فخاف الناس من ذلك خوفًا شديدًا، ولكن خرج جيش من دمشق للقاء التتار، فالتقيا عند وادي سليمة؛ فكسر التتار المسلمين؛ وولي السلطان قازان هاربًا، وقتل جماعة من الأمراء وغيرهم من العوام خلق كثير.. واقتربت التتار من البلد، وكثر العبث بالفساد في ظاهر البلد، ثم فرضت أموال كثيرة على البلد موزعة على أهل الأسواق كل سوق بحسبه من المال، ثم عمل التتار المجانيق ليرموا بها القلعة.. وحل الفزع بالناس، فلزموا بيوتهم، وكان لا يرى بالطرقات أحد إلا القليل، والجامع لا يصلى فيه أحد إلا اليسير، ويوم الجمعة لا يتكامل فيه إلا الصف الأول، وما بعده إلا بجهد جهيد، ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعًا ويظن أنه لا يعود إلى أهله.. وكان ذلك بتواطأ النصيريين مع التتار وعلى رأسهم يومئذ الشريف القمي محمد بن أحمد بن القاسم المرتضي العلوي والأصيل بن نصير الطوسي والذي قبض ثم هذه الخيانة مائة ألف درهم..(1) .
وانظر كيف يتسمى الخائن شريفًا علويًّا، وما هو إلا خسيس سفلي.
وفي حين كان هذا العلوي (النصيري) يخون كان رجال أهل السنة وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية ينفخون روح الإيمان في الأمة، ويخرجون للجهاد بأنفسهم حتى أنه في هذه الواقعة السالفة عندما حاصر التتار قلعة دمشق، وطلب السلطان من نائب القلعة تسليمها إلى التتار، امتنع النائب لأن شيخ الإسلام ابن تيمية قد قال له لا تسلمها ولو لم يبق فيها إلا حجر واحد، وكان ذلك في مصلحة المسلمين، فإن الله عز وجل حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزًا لأهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة حتى ينزل بها عيسى بن مريم عليه السلام(2) .
__________
(1) البداية والنهاية (14/ 906) بتصرف واختصار.
(2) البداية والنهاية (14/8).(37/16)
وشاء الله تعالى أن تتحرك العساكر من الديار المصرية لنصرة أهل الشام فلما سمع التتار انشمروا عنها.. وعرفت جماعة ممن كانوا يلوذون بالتتر ويؤذون المسلمين وشنق منهم طائفة وسمر آخرون وكحل بعضهم وقطعت ألسن وجرت أمور كثيرة، ثم سار نائب السلطة في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان "وهي الجبال التي كان يسكنها العلويين وعرفت بعد باسمهم".
وخرج شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة لتقال أهل تلك الناحية بسبب فساد نيتهم، وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتار وهربوا حن اجتازوا بلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم وأخذوا أسلحتهم وخيولهم، وقتلوا كثيرًا منهم، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ ابن تيمية فاستتابهم وبين للكثيرين منهم الصواب وجعل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوا من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالاً كثيرة يحملونها إلى بيت المال..(1) .
أرأيت كيف كانت خيانة هؤلاء العلويين؟ إنهم لم يهبوا مع الجيش الشامي لقتال التتار والمدافعة عن البلد، وحفظ جناب الأمة.
ولا حتى قبعوا في جبالهم دون أن يعينوا على المسلمين ويدلوا على عوراتهم، ولا حتى آووا من فر إليهم من عساكر المسلمين بل سلبوهم ونهبوهم وقتلوا أكثرهم.. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن خياناتهم:
__________
(1) المرجع السابق.(37/17)
في سنة 705هـ كمن الجيش التتاري لجيش حلب فقتلوا منهم خلقًا من الأعيان وغيرهم، وكثر النوح ببلاد حلب بسب ذلك.. ولما كان قد ثبت خيانة العلويين الذين يسكنون بلاد الجرد سار إليهم نائب السلطنة بمن بقى معه من الجيوش الشامية، وكان قد تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة لغزوهم، فنصرهم الله عليهم وأبادوا كثيرًا منهم، ومن فرقهم الضالة، ووطئوا أراضي كثيرة من بلادهم.. وقد حصل بسبب شهود الشيخ ابن تيمية هذه الغزوة خير كثير، وأبان الشيخ علمًا وشجاعة في هذه الغزوة(1) .
ومن خيانات النصيريين:
قال ابن كثير رحمه الله:
__________
(1) البداية والنهاية (14/35) بتصرف.(37/18)
"وفي سنة 717هـ خرجت النصيرية عن الطاعة، وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله، وتارة يدعى علي بن أبي طالب فاطر السموات والأرض – تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا – وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله صاحب البلاد، وخرج يكفر المسلمين، وأن النصيرية على الحق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيريين الضلال، وعين لكل إنسان منهم مائة ألف وبلادًا كثيرة ونيابات، وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقًا من أهلها، وخرجوا منها يقولون: لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان، وسبوا الشيخين، وصاح أهل البلد "وا إسلاماه وا سلطاناه وا أميراه" ، لم يكن لهم يومئذ ناصر ولا منجد، وجعلوا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل، فجمع هذا الضال الأموال فقسمها على أصحابه وأتباعه قبحهم الله أجمعين، وقال لهم لم يبق للمسلمين ذكر ولا دولة ولو لم يبق معي سوى عشرة نفر لملكنا البلاد كلها، ونادى في تلك البلاد أن المقاسمة بالعشر لا غير ليرغب فيه، وأمر أصحابه بخراب المساجد واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن أسروه من المسلمين: قل لا إله إلا علي، واسجد لإلهك المهدي الذي يحي ويميت حتى يحقن دمك، ويكتب لك فرمان، وتجهزوا وعملوا أمورًا عظيمة جدًّا، فجردت إليهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا.. وقتل المهدي أصلهم، ويوم القيامة يكون مقدمهم إلى عذاب السعير"(1) .
ومن خيانات النصيريين:
نقتطف هذه المرة بعض صور الخيانة من أهم كتب النصيريين وهو كتاب (تاريخ العلويين) لمؤلفه النصيري (محمد أمين غالب الطويل).
ومما يثير العجب أن هذا النصيري يسمى الخيانة وسيلة ويبررها في كتابه السابق فيقول:
__________
(1) البداية والنهاية (14/83،84).(37/19)
"ولما كان لا بد للضعيف المظلوم من التوسل بالخيانة لكي يحافظ على حقوقه أو يستردها – وهذا أمر طبيعي يساق إليه كل إنسان – كان العلويون كلما غصب السنيون أموالهم وحقوقهم يتوسلون بغدر السنيين عند سنوح الفرصة"(1) .
وقد سنحت الفرصة عندما جاء التتار إلى بغداد(2)، يقول صاحب تاريخ العلويين: "جاء تيمور لنك بجيوش لا يعرف مقدارها واستولى على بغداد وحلب والشام في سنة 822-823هـ، ويدعى أن تيمور لنك كان نصيريًا محضًا من جهة العقيدة، إذ توجد له أشعار دينية موافقة لآداب الطريقة الجنبلانية (النصيرية) وأسباب دخوله في الطريقة هو ذهاب النصيري (السيد بركة) من خراسان إلى الأمير (تيمور) وهو في بلدة بلخ".
ثم يقول: "وداوم تيمور لنك في الاستيلاء على البلاد وشيخه السيد بركة يبشره بدوام فتوحاته، حتى جاء إلى بغداد وأخذها من يد السلطان أحمد.. واستولى على الموصل عام 896هـ، وبنى بها مراقد الأنبياء جرجيس ويونس عليهما السلام.. وجاء للرها واغتسل بمحل النبي إبراهيم.
ثم جاء لماردين وأعطاها الأمان.. ثم استولى على ديار بكر وعنتاب التي التجأ أميرها إلى حلب"(3) .
ثم يقول: " وكان نائب حلب هو الأمير العلوي (النصيري) تمور طاش والذي اتصل بتيمور لنك خفية، واتفق معه على أن يدهم تيمور لنك حلب.. فهاجمها بالفعل ودخلها عنوة.. فأمعن في القتل والنهب والتعذيب مدة طويلة حتى أنشأ من رؤوس البشر تلة عظيمة، وقد قتل جميع القواد المدافعين عن المدينة.. وانحصرت المصائب بالسنيين فقط!!" .
__________
(1) تاريخ العلويين (ص407) ط بيروت – الطبعة الأولى.
(2) هذا الاجتياح التتاري غير الذي كان في سنة 656هـ على يد هولاكو خان.
(3) انظر تاريخ العلويين (ص334) وما بعدها.(37/20)
ثم يقول: "ثم سافر تيمورلنك إلى الشام وقبل سفره جاءت إليه العلوية (النصيرية) درة الصدف بنت سعد الأنصار، ومعها أربعون بنتًا بكرًا من العلويين، وهن ينحن ويبكين ويطلبن الانتقام لأهل البيت وبناتهم اللاتي جيء بهن سبايا للشام..
وسعد الأنصار هذا من رجال الملك الظاهر، وهو مدفون بحلب وله قبر فوقه قبه، فوعدها تيمور بأخذ الثأر ومشت البنات العلويات مع تيمور وهو ينحن ويبكين وينشدن الأناشيد المتضمنة للتحريض على الأخذ بالثأر.. فكان ذلك سببًا في نزول أفدح المصائب التي لم يسمع بمثلها بأهل الشام".
ثم يقول: "ولم ينج من بطش تيمورلنك بالشام إلا عائلة من المسيحيين. وأمر تيمورلنك بقتل أهل السنة.. واستثناء العلويين (النصيريين) وبعد الشام ذهب تيمور لبغداد وقتل بها تسعين ألفا.."(1) .
هذه بعض خيانتهم في مرحلة الغزو التتاري، أما في الهجمة الصليبية على العالم الإسلامية فإن الصليبيين لم يدخلوا إلى بلاد المسلمين إلا عن طريقهم، ومن مناطق سكناهم – في الغالب- في طرسوس وإنطاكية وغيرها من مناطق نفوذهم.. بل إن مدينة إنطاكية سقطت في يد الصليبيين بفعل الاتفاق الذي وقع بين الزعيم النصيري فيروز وبين قائد الصليبيين بوهموند(2) .
ومن خيانات النصيريين في العصر الحديث:
إن خيانات النصيريين في العصر الحديث أكثر من أن تحصى، فهم دائمًا يتقربون من الاستعمار ويتعاونون معه في مقابل الحصول على بعض المكاسب، فعلى سبيل المثال:
تعاون النصيريون مع الاحتلال الفرنسي أثناء انتدابه على سوريا، وكانوا خير عون لهم على الدولة العثمانية – دولة الخلافة يومئذ – وفي مقابل هذا منح الفرنسيون النصيريون مجموعة من الأراضي نعمت بشبه الاستقلال هي التي سميت بجبال العلويين.
__________
(1) تاريخ العلويين (ص34- 339).
(2) انظر : تاريخ العلويين (ص293).(37/21)
وقد فاحت رائحة هذه الخيانة من خلال كلام النصيريين أنفسهم وهم يعترفون بالجميل لفرنسا، وما كان جميلاً، بل ثمن خيانة.
قال محمد أمين غالب النصيري:
"إن الأتراك هم الذين حرموا هذه الطائفة من ذلك الاسم – العلويين – وأطلقوا عليهم اسم النصيريين .. نسبة إلى الجبال التي يسكنونها نكاية بهم واحتقارًا لهم، إلا أن الفرنسيين أعادوا لهم هذا الاسم الذي حرموا منه أكثر من 412سنة أثناء انتدابهم على سوريا.. إذ صدر أمر من القومسيرية العليا في بيروت بتاريخ 1/9/1920م بتسمية جبال النصيريين بأراضي العلويين المستقلة"(1) .
ومن أشهر رؤوس الخونة النصيريين في العصر الحديث رجل يقال له سلمان المرشد من قرية جوبة برغال شرقي مدينة اللاذقية بسوريا.. وكان هذا الرجل قد ادعى الألوهية فآمن به واتبعه كثير من النصيريين..
وقد مثل الدور تمثيلاً جيدًا، فكان يلبس ثيابًا فيها أزرار كهربية ويحمل في جيبه بطارية صغيرة متصلة بالأزرار فإذا أوصل التيار شعت الأنوار من الأزرار فيخر له أنصاره ساجدين.
ومن الطريف أن المستشار الفرنسي الذي كان وراء هذه الألوهية المزيفة كان يسجد مع الساجدين.. ويخاطب سلمان المرشد بقوله يا إلهي(2) .
وقد استماله الفرنسيون واستخدموه وجعلوا للعلويين نظامًا خاصًا.. فقويت شوكته وتلقب برئيس الشعب العلوي الجبدري الغساني، وعين قضاة وسن القوانين وفرض الضرائب على القرى التابعة له.. وشكل فرقًا خاصة للدفاع سماهم الفدائيين.. وللتعاون الوثيق بينه وبين الاحتلال الفرنسي عندما جلا الفرنسيون عن سوريا تركوا لهذا النصيري وأتباعه من الأسلحة ما أغراهم بالعصيان فجردت الحكومة السورية آنذاك قوة فتكت ببعض أتباعه واعتقلته مع آخرين، ثم أعدم شنقًا في دمشق عام 1946(3) .
__________
(1) تاريخ العلويين (ص391).
(2) انظر: إسلام بلا مذاهب (ص309).
(3) انظر: خير الدين الزركلي : الإعلام (3/170).(37/22)
ومنهم النصيري الخبيث يوسف ياسين والذي طالما سعى في محاربة الدولة العثمانية بخطبه وأشعاره بل وسلاحه.
قال الدكتور سليمان الحلبي:
"لما احتل الإنكليز فلسطين عام 1918م تطوع يوسف ياسين بالفرقة التي شكلها الإنكليز للعمل مع لورنس والملك عبد الله بالحجاز لمحاربة الأتراك باسم الجيش العربي، فكان يوسف ياسين يخطب في الأندية وفي الشباب بالقدس داعيًا إلى الجهاد ضد الأتراك.
وقد نشرت جريدة الكواكب الصادرة في 3/9/1918 بالقاهرة لمراسلها بالقدس واصفًا لحفلة أقيمت في النادي العربي لحث الشباب على التطوع في ذك الجيش، فقال المراسل: وقف الشاب يوسف ياسين وتكلم بصفته جنديًّا في الجيش العربي ثم أنشد قائلاً :
سنأخذ هذا الحق بالسيف والقنا ... ... شيب وشبان على ضُمر بلق
وقد أخذ الإنجليز فلسطين فعلاً، ولكن بالخديعة لا بالسيف ولا بالقنا ولا بالضمر البلق ثم أعطوها لليهود وأقاموا لهم فيها دولة.."(1) .
ناهيك عن خيانتهم للأمة الإسلامية بوقوفهم إلى جانب المارونيين النصارى في كثير من الأحداث سواء في سوريا أو لبنان(2) .
وفي سجلات وزارة الخارجية الفرنسية (رقم 3547 وتاريخها 15/6/1936) وثيقة خطيرة تتضمن عريضة رفعها زعماء الطائفة النصيرية في سوريا إلى رئيس الوزراء الفرنسي يلتمسون فيها عدم جلاء فرنسا عن سوريا، ويشيدون باليهود الذين جاءوا إلى فلسطين ويؤلبون فرنسا ضد المسلمين،ووقع على الوثيقة: سليمان الأسد، ومحمد سليمان الأحمد، ومحمود أغا حديد، وعزيز أغا هواش، وسليمان المرشد، ومحمد بك جنيد، وفيما يلي نص الوثيقة نورده لأهميته:
"دولة ليون بلوم، رئيس الحكومة الفرنسية:
__________
(1) طائفة النصيرية (ص114، 115).
(2) المرجع السابق (ص109).(37/23)
إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله سنة فسنة بكثير من الغيرة والتضحيات الكبيرة في النفوس هو شعب يختلف في معتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم "السني" ولم يحدث في يوم من الأيام أن خضع لسلطة من التدخل، وإننا نلمس اليوم كيف أن مواطني دمشق يرغمون اليهود القاطنين بين ظهرانيهم على عدم إرسال المواد الغذائية لإخوانهم اليهود المنكوبين في فلسطين، وإن هؤلاء اليهود الطيبين الذين جاءوا إلى العرب المسلمين بالحضارة والسلام ونثروا على أرض فلسطين الذهب والرخاء ولم يوقعوا الأذى بأحد، ولم يأخذوا شيئًا بالقوة ومع ذلك أعلن المسلمون (السنيون) ضدهم الحرب المقدسة بالرغم من وجود إنكلترا في فلسطين وفرنسا في سوريه، إنا نقدر نبل الشعور الذي يحملكم على الدفاع عن الشعب السوري ورغبته في تحقيق استقلاله،ولكن سوريا لا تزال بعيده عن الهدف الشريف خاضعة لروح الإقطاعية الدينية للمسلمين (السنة) وكسر الشعب العلوي الذي مثله الموقعون على هذه المذكرة نستصرخ حكومة فرنسا ضمانًا لحريته واستقلاله ويضع بين يديها مصيره ومستقبله، وهو واثق أنه لا بد واجد لديهم سندًا قويًّا لشعب علوي صديق قدم لفرنسا خدمات عظيمة"(1) .
__________
(1) د/ محمد أحمد الخطيب: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي (ص335) ط عالم الكتب للنشر والتوزيع، الرياض – الطبعة الثانية (1406هـ - 1986).(37/24)
ولم تكن الشيعة النصيرية تكف عن التآمر ضد الدولة العثمانية في محاولة إزالتها فقد ساهم الزعيم النصيري (الشيخ: صالح العلوي) في إسقاط الدولة العثمانية عندما قام بقطع الطريق الذي يصل طرطوس بحماه، فكانت خسائر الأتراك كبيرة نتيجة قطع الطريق عليهم، وقام بعقد اتفاقية مع كمال أتاتورك عام 1920 وبعد ثورة مشبوهة ضد الفرنسيين استسلم صالح العلي فعفا عنه الفرنسيون على عكس ما كانوا يفعلونه مع المجاهدين المسلمين.(1) .
وهكذا كان تاريخهم يشهد بخيانتهم وممالأتهم المستمرة لأعداء الإسلام في الظاهر والباطن.
المبحث السادس عشر
من خيانات الشيعة الاثنى عشرية
في لبنان بالتحالف مع النصيريين
المبحث السادس عشر
من خيانات الشيعة الاثنى عشرية
في لبنان بالتحالف مع النصيريين
شيعة لبنان اثنى عشرية رافضية خبيثة، وهم كسلفهم في الخيانة والبغض لأهل السنة، وما شاع خبره في التاريخ الحديث بالحرب الأهلية في لبنان لم يكن إلا مسلسلاً دمويًّا تضافرت فيه أكثر من جهة، النظام السوري النصيري والشيعة الاثنى عشرية في مليشيات أمل وجيش لبنان، ويجمع كل هؤلاء عداؤهم لأهل السنة.
"بدأت الحرب الأهلية في لبنان بحادث الأتوبيس في عين الرمانة في 13/4/1975 ووجد الفلسطينيون الذي يسكنون المخيمات أنفسهم طرفًا في هذه الحرب.. وتدخلت القوات السورية النصيرية بجيش قوامه 30ألف جندي وخاضت معارك طاحنة تحالف معها أثناءها الشيعة ممثلين في حركة أمل وبعض لواءات الجيش اللبناني ومعهم الموارنة النصارى..
__________
(1) أ/ محمد عبد الغني النواوي: مؤامرات الدويلات الطائفية (ص263) الطبعة الأولى 1403هـ - 1983.(37/25)
وبدأوا بحصار تل الزعتر.. وكان حصار التجويع ومنع رغيف الخبز، ومنع الأدوية مع القصف الرهيب المتوالي على المخيمات الفلسطينية.. فانطلقوا كالوحوش الكاسرة داخل المخيم يذبحون الأطفال والشيوخ، ويبقرون البطون، ويهتكون أعراض الحرائر.. وسوريا النصيرية تغطي جو هذه المذابح بستار فض الحرب الأهلية..
حتى أنه انهالت عليها المساعدات من الأنظمة العربية تتعهد بتغطية نفقات القوات السورية العاملة في لبنان.. وتم تدمير مخيم تل الزعتر بأكمله"(1) .
ثم كان الاتجاه إلى مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين خارج صيدا، ويعتبر أكبر مخيم في لبنان؛ إذ كان يقطنه حوالي 45 ألف شخص نصفهم من اللبنانيين الفقراء، ويضم المخيم ملاجئ كثيرة تحت الأرض كان السكان يستخدمونها تفاديًا للغارات الجوية الإسرائيلية.. وبدأ القصف العام حتى في المستشفى الذي دمر فيه جناحين التجأ المرضى إليها أثناء القصف(2) .
فهل هذا من فض الحرب الأهلية؟ أم أنه مخطط رافضي خبيث، تنفذ حلقاته وتوزع أدواره بدهاء وخبث، وبالطبع أنكرت القوات النصيرية مسئوليتها عن ما حدث ونسبته إلى اشتباك كان بين الفدائيين.
__________
(1) عبد الله محمد الغريب: وجاء دور المجوس (2/42- 44) بتصرف.
(2) المرجع السابق (ص46).(37/26)
"ونمضي بعجلة الزمان سريعًا فإن التقليب في هذه الجراح لا يزيدنا إلا توجعًا وهمًا، لنصل إلى عام 1982 عندما حصل الاجتياح الإسرائيلي للبنان بحوالي 20 ألف جندي، اكتسحت جنوب لبنان بسرعة خاطفة، ثم واصلت سيرها نحو بيروت العاصمة، وهناك استقبلتها المارونية بحفاوة بالغة وأمدتها بالعون والنصيحة.. وقصفت القوات الإسرائيلية بيروت الغربية – بيروت السنة- برًا وبحرًا وجوًا ، ومنع الماء والغذاء والدواء عن المسلمين السنة في بيروت الغربية، ومن الأمثلة على القصف الرهيب الذي تعرضت له بيروت الغربية ما حدث في يوم الأحد 1/8/1982 حيث استمر القصف الإسرائيلي برًا وبحرًا وجوًا مدة أربع عشرة ساعة متواصلة سقطت خلالها 180 ألف قذيفة، أي بمعدل ما يزيد على 214 قذيفة في الدقيقة الواحدة، وتكرر مثل هذا القصف يومي الثالث والرابع ثم العاشر والثاني عشر من الشهر نفسه، لقد هدمت المنازل وروع الأطفال، وقتل الشيوخ.. وامتزجت دماء المسلمين اللبنانيين بدماء المسلمين الفلسطينيين وبعد هذا أخذ الشيعة الروافض والدروز والعلمانيين يطالبون منظمة التحرير الفلسطينية بالخروج من بيروت بل من لبنان كلها.. وقد حدث"(1) .
"وقد وقف النظام النصيري السوري من هذا الاجتياح موقف المتفرج.. بل أعلنها صراحة: إن القوات السورية دخلت إلى لبنان لأداء مهمة محددة هي إنهاء الحرب الأهلية.. ولم تذهب لتحارب إسرائيل من هناك"(2) .
" وكذلك كان موقف الشيعة الروافض في لبنان فقد باركوا هذا النصر، لأن إسرائيل حققت لهم حلمهم في طرد الفلسطينيين من جنوب لبنان، وكانت إذاعات العدو الصهيوني تنقل تصريحات أعيانهم في تأييد إسرائيل"(3) .
__________
(1) أنظر: وجاء دور المجوس (2/49).
(2) المرجع السابق (2/50).
(3) المرجع السابق (2/52).(37/27)
وجملة القول: فإن إسرائيل خاضت حربًا ضروسًا مع المسلمين السنة وحدهم.. وهذا ما أكدته صحيفة الأنباء الكويتية الصادرة بتاريخ 30/4/1985 تحت عنوان "الإسرائيليون جردوا المنظمات السنية من السلاح وحدها.. لقد حصر الإسرائيليون عملية التجريد من الأسلحة بالفلسطينيين أولاً ثم بالسنيين من اللبنانيين دون سواهم.. أما الدروز ومليشيات حركة أمل والمارونيون لم يحدث لهم أي تجريد.. فأدركت القيادات الإسلامية السنية أنها في مواجهة استراتيجية أوسع مما كان يرى بالعين المجردة، استراتيجية ترتكز على النظرية الإسرائيلية التي تسوي بين السني اللبناني والفلسطيني المقيم في لبنان، فالمناطق السنية كانت وستبقى الأرض الخصبة لنمو المقاومة الفلسطينية"(1) .
من خيانات حركة أمل الشيعية:
حركة أمل هذه حركة مسلحة نشأت في لبنان، وهي شديدة النكاية ليس في العدو الصهيوني، بل في سكان المخيمات الفلسطينية وبيروت الغربية، وذلك لأنهم سنيون.. وتتلقى حركة أمل دعمها المالي من النظام النصيري في سوريا ومن النظام الاثنى عشري في إيران.
وقد قامت حركة أمل بعمل عدة مجازر في أهل السنة، ربما لم يرتكب العدو الصهيوني مثلها.
__________
(1) المرجع السابق (2/52، 53).(37/28)
"ففي ليلة الاثنين 20/5/1982، اقتحمت مليشيات أمل مخيمي صابرا وشاتيلا، واعتقلوا جميع العاملين بمستشفى غزة.. وبدأ القصف المركز بمدافع الهاون والأسلحة المباشرة، وامتد فشمل مخيم برج البراجنة.. وانطلقت حرب أمل المسعورة تحصد الرجال والنساء والأطفال.. وكانت أمل في وضع متميز لأنها قادرة على الكر والفر، وهي التي كانت تفرض المعركة متى أرادت، أما المقاتلون الفلسطينيون فكانوا يدافعون عن أنفسهم ولا يملكون التراجع عن مواقعهم.. ورغم ذلك فقد عجزت حركة أمل عن الصمود أمام المقاتلين الفلسطينيين فترة طويلة.. وهنا أصدر المجرم المحترف الشيعي نبيه بري أوامره لقادة اللواء السادس في الجيش اللبناني لخوض المعركة وليشارك قوات أمل في ذبح المسلمين السنة في لبنان، ولم تمض ساعات إلا واللواء السادس يشارك بكامل طاقاته في المعركة.. جدير بالذكر أن أفراد اللواء السادس كلهم من طائفة الشيعة، وقد خاض هذا اللواء معارك شرسة ضد المسلمين السنة في بيروت الغربية قبل ذلك"(1) .
وجرت عدة محاولات لوقف إطلاق النار ولكن دونما جدوى، لأن زعماء حركة أمل الشيعية كانوا مراوغين يعطون الوعود بوقف إطلاق النار ولا يصدرون هذه الأوامر لمليشيات الحركة..
__________
(1) وجاء دور المجوس (2/74).(37/29)
واستمرت الحرب تشتد حينًا وتخف حينًا آخر.. ورغم وقوف اللواء السادس مع حركة أمل في خندق واحد لم تستطع أمل أن تحسم المعركة لصالحها.. فتدخل اللواء الثامن من الجيش اللبناني إلى جانب حركة أمل ضد الفلسطينيين .. وطوق جيش النظام النصيري مخيم الخليل الفلسطيني في منطقة البقاع، وقام باعتقال عدد من شباب المخيم.. وتدخل الطرف الذي تجري لمصلحته كل هذه المعارك إذ اخترقت أسراب من الطائرات اليهودية الأجواء فوق المخيمات محدثة دويًّا هائلاً . وواصلت تحليقها بانخفاض فوق بيروت والجبل كي تتمتع برؤية عمليات التصفية،وتصور أمجاد عملائها، وتدخل مزيدًا من الرعب في قلوب الأطفال والشيوخ والنساء في المخيمات المنكوبة"(1) .
صحف العالم تتحدث عن فظائع شيعة أمل:
وقد تحدثت صحف العالم عن بشاعة ما ارتكبته حركة أمل وأعوانها في حق سكان بيروت الغربية ومخيمات الفلسطينيين فمن ذلك:
يقول مراسل صحيفة (صنداي تايمز): " إنه من الاستحالة نقل أخبار المجازر بدقة لأن حركة أمل تمنع المصورين من دخول المخيمات، وبعضهم تلقى تهديدًا بالموت.. وقد جرى سحب العديد من المراسلين خوفًا عليهم من الاختطاف والقتل، ومن تبقى منهم في لبنان يجدون صعوبة في العمل.."(2) .
وقالت صحيفة الوطن الكويتية: "لقد منعت حركة أمل واللواء السادس مراسلي الصحف حتى بعد سقوط مخيم صبرا من الدخول وحطموا الكاميرات والأفلام التي استطاع بعض الصحفيين التقاطها لآثار الدماء فقط، فما بالك بالجرائم التي صاحبت الأحداث".
__________
(1) وجاء دور المجوس (2/74- 81) باختصار.
(2) صندي تايمز: بتاريخ 3/6/1985 نقلاً عن وجاء دور المجوس (2/89).(37/30)
وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية: " أنه بعد سقوط مخيم صبرا انتشرت مجموعات من الشيعة في الجيش وحركة أمل في حالة عصبية كل عشر وعشرين مترًا لمنع الصحفيين والمصورين من التقاط أيًّة صور. وذكرت صحيفة صنداي تايمز أيضًا أن عددًا من الفلسطينيين قتلوا في مستشفيات بيروت، وأن مجموعة من الجثث الفلسطينية ذبح أصحابها من الأعناق".
وذكرت وكالة (اسو شيتدبرس): "عن اثنين من الشهود أن مليشيات أمل جمع العشرات من الجرحى والمدنيين خلال ثمانية أيام من القتال في المخيمات الثلاثة وقتلتهم.. وكان من بينهم نحو 45 من الجرحى في مستشفى غزة.. وذكرت صحيفة (ريبوبليكا) الإيطالية أن فلسطينيًا من المعاقين لم يكن يستطيع السير منذ سنوات رفع يديه مستغيثًا في شتيلا أمام عناصر حركة أمل طالبًا الرحمة.. وكان الرد عليه قتله بالرصاص.. وقالت الصحيفة في تعليقها على الحادث: إنها الفظاعة بعينها"(1) .
وشاهد مراسل (كونا) : "بعض النسوة خرجن من مخيم صابرا وشاتيلا أمام مبنى مستشفى عكا على الطريق العام لمدخل صبرا الجنوبي، وقالت إحداهن: أسفي على الشباب. هذه المعارك المفتعلة لصالح من؟ وقالت الثانية: نحن لسنا أعداء، عدونا المشترك واحد وهو إسرائيل، وهدفنا تحرير أرضنا فلسطين للعودة إلى ديارنا"(2) .
ولقد بالغت هذه المسكينة في إحسانها الظن بالشيعة حين قالت ولسنا أعداء، وربما لها عذر فهي كغيرها من كثير من أهل السنة الضائعين الذين لا يعرفون العدو من الصديق.
وفي تقرير طويل نشره (جون كيفنز) في صحيفة نيويورك تايمز جاء فيه:
__________
(1) وجاء دور المجوس (2/90 – 92) بإيجاز.
(2) وجاء دور المجوس (2/95).(37/31)
"دخل مجموعة من الصحفيين إلى مخيم برج البراجنة.. فبدا المخيم تقريبًا محطمًا بصورة سيئة للغاية.. حتى أن بعض الفلسطينيين ذكروا أن إسرائيل لم تفعل بهم ما فعلته بهم حركة أمل.. لقد كانت هناك مرارة في المخيمات ليس فقط تجاه مليشيات أمل بل وربما أكثر تجاه سوريا التي تعتبر على نطاق واسع قد خططت لحصار المخيم وساندته من أجل تحطيم نفوذ ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ولكي تعزز بالوكالة سيطرتها على لبنان"(1) .
وهذا غيض من فيض، وقليل من كثير من تقارير عالمية تابعت الأحداث في حين غفل عنها أو تغافل كثير من المسلمين السنة، ولا زالوا ينادون بالتقريب ويخدعون بتقية القوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
تعاون الشيعة مع اليهود حقيقة لا وهم:
قال الأستاذ/ عبد الله محمد الغريب: "تعاون الشيعة مع العدو الصهيوني في جنوب لبنان حقيقة ثابتة وليس أسطورة اخترعها خصوم الرافضة، فلقد تحدثت الصحف ووكالات الأنباء المحلية والعالمية عن هذا التعاون ولمسه المسلمون والنصارى في الجنوب لمس اليد واعترف به الطرفان الشيعي واليهودي".
قالت وكالة رويتر في تقرير لها من النبطية في 1/7/1982: "إن القوات الصهيونية التي احتلت البلد سمحت لمنظمة أمل بأن تحتفظ بالمليشيات الخاصة التابعة لها وبحمل جميع ما لديها من أسلحة. وصرح أحد قادة مليشيات منظمة أمل ويدعى حسن مصطفى أن هذه الأسلحة ستستخدم في الدفاع عنا ضد الفلسطينيين، وبعد أن أعلنت إسرائيل عن عزمها الانسحاب من لبنان ضاعفت منظمة أمل من مطاردتها للقوات الفلسطينية في بيروت الغربية والجنوبية، وفي جنوب لبنان، وكانت ادعاءات إسرائيل ضد منظمة التحرير الفلسطينية تشبه ادعاءات أمل، فهل تتم مثل هذه الأمور بشكل عفوي بين الطرفين؟ ".
__________
(1) المرجع السابق (2/105، 106) ولم يكن المخطط السوري النصيري يهدف إلا إلى سحق مقاومة أهل السنة وليس المقصود عرفات أو غيره.(37/32)
تجيبنا على هذا السؤال صحيفة (الجروزاليم بوست) في عدد لها بتاريخ 23/5/1985: " إنه لا ينبغي تجاهل تلاقي مصالح أمل وإسرائيل، التي تقوم على أساس الرغبة المشتركة في الحفاظ على منطقة جنوب لبنان وجعلها منطقة آمنة خالية من أي هجمات ضد إسرائيل.. إن إسرائيل ترددت حتى الآن في تسليم أمل مهمة الحفاظ على الأمن والقانون على الحدود بين فلسطين ولبنان، وإن الوقت قد حان لأن تعهد إسرائيل إلى أمل بهذه المهمة". كما يجيبنا على هذا السؤال رئيس الاستخبارات العسكرية اليهودية إيهود براك حيث يقول: " إنني على ثقة تامة من أن أمل ستكون الجبهة الوحيدة المهيمنة في منطقة الجنوب اللبناني، وأنها ستمنع رجال المنظمات والقوى الوطنية اللبنانية من التواجد في الجنوب والعمل ضد الأهداف الإسرائيلية".
ويجيبنا على السؤال – أيضًا- وزير الخارجية السويدي (بيير أوبيرت) الذي أكد في جنيف في 24/6/1985 أنه نقل رسالة من رئيس حركة أمل نبيه بري إلى القيادة الإسرائيلية.. إلا أنه رفض إعطاء تفاصيل عن الرسالة..(1) .
وفي تقرير نشرته مجلة الأسبوع العربي بتاريخ 24/10/1983عن مقابلة أجرتها المجلة مع حيد الدايخ أحد قادة أمل في الجنوب جاء فيه:
"وصلنا إلى معسكر حيدر الدايخ.. وكانت عناصره ترتدي الثياب العسكرية وتحمل الأسلحة.. بعضهم لم يتجاوز العشرين وبعضهم أطلق لحيته فأدركنا عندئذ أن هذه العناصر من أفراد الجيش الشيعي، وأن إسرائيل هي التي تدربهم، خصوصًا عندما شاهدنا على بعد أمتار قليلة من المعسكر (فيلا) يتمركز فيها الإسرائيليون .. وكان أحد الإسرائيليين بين الحين والآخر يرفع منظاره إلى عينيه ويحدق في الوجوه..
__________
(1) وجاء دور المجوس (2/160- 162) بإيجاز.(37/33)
اقتربنا من حيدر الدايخ في وسط المعسكر، وقد رفع العالم اللبناني وقد كتبت بعض السيارات (قوات كربلاء) وسألنا حيدر عن سبب التسمية فقال: موقعة كربلاء لها مدلولات كثيرة في نظري، هي مأساة الإمام الحسين الذي حارب الظلم، ونحن نحارب الظلم، وفي رأي أن لبنان كله يمر بكربلاء حاليًا، لأن موقف لبنان مثل موقف الحسين بكربلاء، كان أعداء الإمام كثيرين والأصدقاء تخلوا عنه، وهكذا لبنان، لذلك نسترشد بالإمام الحسين ونمشي على خطاه.
وسألنا: أحد عساكر الدايخ عن سبب حمله السلاح فأجاب: إن السبب في حملي السلاح يعود إلى المخاطر التي تتعرض لها الطائفة الشيعية وإلى التفتت الذي قد يعترضها في المستقبل.
وسألنا حيدر الدايخ: هل تعتبر أن تسميتكم الجيش الشيعي تعود إلى أن عناصركم من الطائفة الشيعية؟ فقال: نحن في منطقة شيعية وجميع عناصري (أولاد الجنوب اللبناني) هم من الطائفة الشيعية، لكن هذا لا يعني أننا طائفيون، بل ليس لدينا أي بعد أو تفكير طائفي، يا أخي إذا كنا شيعة ماذا نفعل ؟ هل نغير هويتنا؟ هل نغير طائفتنا كي نرضي بعض الناس؟ نحن لا يمكن أن نتخلى عن هذه الهوية، ولا يمكن أن نكر بأننا إسلام.
ثم يمضي الدايخ في حديثه: " كل الناس تعلم والحكومة أيضًا بأننا نحمل السلاح منذ بداية الأحداث، وخضنا المعارك ضد الإرهاب الفلسطيني وضد التجاوزات التي كانت تحدث في الجنوب".
ثم يثني على إسرائيل فيقول: " كنا نحمل السلاح قبل دخول إسرائيل إلى الجنوب، ومع ذلك فإنها فتحت لنا يدها وأحبت أن تساعدنا فقامت باقتلاع الإرهاب الفلسطيني من الجنوب وغيرها ولن نستطيع أن نرد لها الجميل ولن نطلب منها أي شيء لكي لا نكون عبئًا عليها"(1) .
__________
(1) وجاء دور المجوس (2/163- 165).(37/34)
وأرجو بعد نقل هذه الدلائل على خيانة القوم وتعاونهم مع العدو الصهيوني أن يفيق كل مسلم يرى بعض الفصائل الشيعية في لبنان كحزب الله وهي تحارب إسرائيل فيخدع بمواقفها، إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد دفاع قومي أو وطني تتأجج ناره وتخمد حسب تقلبات السياسة، فمتى غضبت عليهم إسرائيل حصل التصادم، ومتى رضيت أخمدت النار، وفي الأمر من الخفايا ما سينكشف إن شاء الله ربما لنا، وربما لأجيال من بعدنا.
المبحث السابع عشر
من خيانات الشيعة الدروز
المبحث السابع
من خيانات الشيعة الدروز
الدروز هي طائفة من الطوائف التي انشقت عن المذهب الإسماعيلي الفاطمي فهي تعد من غلاة الشيعة الإسماعيلية، وهي تنسب إلى أبي محمد الدرزي من أهل موالاته الحاكم بأمر الله الفاطمي.. ولهم معتقدات كفرية أقبحها الاعتقاد في ألوهية الحاكم بأمر الله.
ومبنى هذه العقيدة أن الدرزي كان قد صنف كتابًا للحاكم ذكر فيه أن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب وانتقلت روح علي إلى أبي الحاكم ثم انتقلت إلى الحاكم وساعده الدرزي على ادعاء الربوبية.. ويعتقدون بنسخ الشريعة الإسلامية وأنها منسوخة بشريعتهم التي ابتدعوها... ويعتقدون في تناسخ الأرواح وانتقالها إلى الأحياء في صورة الإنسان والحيوان.. وينكرون الجنة والنار والثواب والعقاب الأخريين..
ويبغضون أهل كل الأديان خصوصًا المسلمين السنة ويستبيحون دماءهم وأموالهم.. وغير ذلك من العقائد الكفرية الباطلة(1) .
ويتمركز أكثر الدروز الآن في لبنان وهم محيرون للغاية في طبيعة عقيدتهم، هل لازالوا يقولون بألوهية الحاكم أم لا؟
__________
(1) القلقشندي : صبح الأعشى (13/248) ط الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، والنجوم الزاهرة (4/176) ودكتور محمد كامل حسين طائفة الدروز تاريخها وعقائدها (ص86- 127) ط دار المعارف بمصر 1962م.(37/35)
فيرى بعض الباحثين أنهم لا زالوا يؤمنون بطبيعة الحاكم الإلهية، ويرى البعض أنهم تخلو عن بعض هذه المعتقدات لكن السرية الشديدة هي التي تصعّب مسألة الحكم عليهم(1) ولكن تاريخ القوم ولو في العصر الحديث فقط مليء بالخيانات التي كان لها أعظم الأثر في تعريض الأمة للهزائم والانكسارات.
فقد قاموا بعدة ثورات متلاحقة تسببت في زعزعة الأمن، وإرباك الدولة العثمانية واستنفاد كثير من الطاقات البشرية والمادية في سبيل القضاء عليها.
ولما سير محمد علي باشا جيشًا لاحتلال بلاد الشام بقيادة ابنة إبراهيم بعد أن شق عصا الطاعة على الدولة العثمانية عام 1247هـ كان الدروز من الموالين له والمناوئين للدولة العثمانية.
وكان الأمير بشير الشهابي (المتوفي 1266هـ) أمير الدروز وجنوده يقاتلون جنبًا إلى جنب مع جيش محمد علي وقد غدت مهمة إبراهيم باشا بن محمد علي قائد الحملة المصرية بفضل تعاون الأمير بشير مهمة سهلة، فتمكن من الاستيلاء على دمشق وهزم الجيش التركي (العثماني) في حمص، وغير جبال طورس وأوغل في قلب بلاد الأتراك، وكاد ينزل الضربة القاضية برجل أوربا المريض لكن بريطانيا والنمسا وروسيا اضطرته إلى الانسحاب.
وقد حرص الدروز على استغلال كل فرصة مناسبة من أجل إقامة دولة درزية ولأجل ذلك هاجروا إلى جبل حوران الذي سمي ذلك بجبل الدروز بعد أن تمكنوا من طرد أهله المسلمين واستقلوا به تمامًا(2).
__________
(1) انظر: د/فتحي الزغبي: غلاة الشيعة (ص216) وما بعدها – الطبعة الأولى 1998م.
(2) انظر: الانحراف العقدية والعلمية (1/ 575، 576) وفيليب حتى: تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين (2/ 341) ط دار الثقافة بيروت 1959، ترجمة د/ كمال اليازجي.(37/36)
ولم يكف الدروز في هذه المرحلة عن مناوشة المسلمين والنصارى من أهل القرى والبادية وقتالهم، بل قد قاموا في غضون ذلك بمذابح مروعة كالتي وقعت في عام 1298هـ حين هجموا على قريتي الكرك وأم ولد، وذبحوا سكانهما عن بكرة أبيهم، ولم يبقوا حتى على الأطفال الرضع، وقد حاولت الدولة العثمانية تأديبهم أكثر من مرة؛ لكنها فشلت وتراجعت أمام ضغوط الإنكليز.
وحين احتل الفرنسيون مصر عام 1213هـ بقيادة نابليون الذي توجه بعد إخضاعها إلى بلاد الشام، وبينما كان محاصرًا لعكا بعث الرسالة الآتية:
"مخيم عكا 20 آزار 1798م إلى بشير: "بعد السيطرة على مصر دخلت صحراء سيناء .. فأتيت إلى العريش ثم إلى غزة ثم إلى يافا بعد أن التقيت بجيوش الجزار وسحقتها، ومنذ يومين وصلت إلى عكا وأنا أحاصره الآن.
وأسرع إلى إعلامك بكل ذلك لأنك لا شك في أنك تفرح لهزائم هذا الطاغية (يعني الجزار) الذي سبب الكثير من الذعر للإنسانية عامة وللدروز الأباة بشكل خاص، ورغبتي المخلصة هي أن أقيم للدروز استقلالهم وأعطيهم مدينة بيروت ذات المرفأ كمركز تجاري لهم.
لذلك فإني أرغب في أن تأتي شخصيًّا أو ترسل حالاً من يمتلك لرسم خطة للتغلب على عدونا المشترك، ويمكنك أن تذيع في جميع القرى الدرزية أن كل من يأتي لنا بالمؤن وخاصة الخمر سيكافأ بسخاء"(1) .
__________
(1) أ/ محمد عبد الغني النواوي: رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي (ص31)، والانحرافات العقيدية والعلمية (1/576، 577).(37/37)
ويقول الكابتن (بورون): "إن الأمير بشير لم يجب على رسالة نابليون ولكن قوة من الدروز والموارنة انضمتا إلى جيش نابليون الذي كان يحاول إخضاع عكا في آذار 1799، أتت قوة من الخيالة الدروز والموارنة لنجدة نابليون الذي كان يحاول إخضاع عكا.. ثم يقول إن الدروز والموارنة آزروا نابليون، وإن الأمير بشير أمده بالقادة والمستشارين، وإن فارس بك الأطرش قال له: إن جده إسماعيل كان يملك عدة رسائل بإمضاء نابليون موجهة إلى والده إسماعيل، ولكن هذه الأوراق أتى عليها حريق شب في المنزل".
ومنذ تاريخ 25/7/1920 وحتى 17/4/1946 والمسلمون يقاومون الاستعمار الفرنسي بكل ما يملكون من قوة مادية كانت أو معنوية.. غير أن الدروز كان لهم موقف في جبلهم، لقد رحبوا بالغزاة المحتلين، وقدموا لهم كل ما يقدرون عليه من دعم أو مساعدة، واطمأن الفرنسيون إليهم وأمنوا مكرهم ومن ذلك أنه حينما دخل الفرنسيون دمشق بعد معركة ميسلون سنة 1338هـ - 1920م اتخذ القائد الفرنسي (غورو) حرسه الخاص من الدروز بمعرفة متعب الأطرش، مما يدل على الثقة الكاملة التي أولاها الفرنسيون هؤلاء، الفرنسيون أجروا اتصالاتهم ورفعوا عريضة للمسئول الفرنسي يطلبون الاستقلال وهذه مقدمة عريضتهم:
"لحضرة رئيس البعثة الإفرنسي في دمشق الأفخم: بناء على بلاغاتكم المتكررة للرؤساء الروحيين، لنا الشرف أن نقدم لسيادتكم بالنيابة عن الشعب الدرزي في جبل حوران برنامج الاستقلال المدرج أعلاه الذي يطلبه الشعب لكي تتكرموا بتقديمه لحضرة صاحب الفخامة المندوب السامي؛ راجين أن يتوسل بالتصديق عليه من قبل حكومة الجمهورية الإفرنسية المعظمة، واقبلوا فائق احترامنا" .
وفي 24تشرين الأول عام 1922م أصدر الجنرال غورو وقراره رقم 1641 بإعطاء جبل حوران استقلاله باسم دولة جبل الدروز المستقلة(1) .
__________
(1) راجع هذه المراسلات في: "رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي (ص36- 49).(37/38)
قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } .
المبحث الثامن عشر
من خيانات الشيعة في بلاد الهند
المبحث الثامن عشر
من خيانات الشيعة في بلاد الهند
قال الدكتور/ علي بن بخيت الزهراني:
"وفي بلاد الهند كان هؤلاء الشيعة ظهيرًا لأعداء الإسلام والمسلمين من الوثنيين الهندوس والسيخ والمستعمرين الإنجليز نكاية في أهل السنة..
واستمرارًا على نفس الطريقة الآثمة في مناصرة الكافرين فمن ذلك أنه كان يوجد في بلدة أجودهيا مسجد كبير من أبنية السلطان بابر وكان الهنادك يعتقدونها أرضًا مقدسة فلما انقرضت الدولة التيمورية غصبوا المسجد وجعلوه جزءًا لمعبدهم وكان ذلك عام 1273هـ، فقدم الشيخ/ غلام حسين الأودي، ومن معه من المسلمين لاستخلاص المسجد من أيديهم فقتلوه وحرقوا المصاحف.
فلما سمع ذلك الشيخ أمير على الأميتهوري دخل لكهنؤ وحرض الولاة وكانوا من الشيعة لاستعادة المسجد، ولكن الوزير الشيعي (تقي على) كان مرتشيًا والديوان وثنيا، فطفقا يدفعان عن الكفار، ولكن الأمير على خرج إلى أجودهيا ليأخذ بثأر المسلمين وينتزع المسجد من أيديهم فمنعه الوزير الذكور واستفتى العلماء في ذلك وخلع عليهم ثيابًا فأفتوه بأنه لا يجوز الخروج، وكان واجد على شاه أمير تلك الناحية مغبون العقل والدين مشغولاً بالملاهي والمنكرات فحشد الوزير الجند وأمر بالغارة على أمير علي ومن كان معه من المسلمين فلما كاد يصل إلى أجودهيا أغارت عليه العساكر الشاهانية فاستشهد الشيخ ومن معه من المسلمين"(1) .
__________
(1) د/ على بن بخيت الزهراني: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين (1/581، 582) دار طيبة مكة المكرمة – الطبعة الثانية 1418هـ - 1998م نقلاً عن نزهة الخواطر وبهجة السامع والناظر (7/82).(37/39)
وللعلم فإن في أوائل القرن الثالث عشر الهجري قد شهدت الهند نشاطًا شيعيًا ملحوظًا، حيث أقام أحد علمائهم ويدعي دلدار على النصير آبادي المتوفي سنة 1235هـ، وأدى الاجتهاد وأقام الجماعة في الجمع والأعياد.. وكانت الشيعة الأمامية في عصره متفرقين في بلاد الهند ليست لهم دعوة إلى مذهبهم وما كانت لهم جامعة تجمعهم، وقد بذل جهده في إحقاق مذهبه وإبطال غيره من المذاهب.. حتى كاد يعم مذهبه في بلاد أوده وتتشيع كل الفرق(1) .
وهكذا يسعى الروافض ليس في نشر مذهبهم الخبيث فحسب، وإنما في التواطؤ مع الهندوس – عباد البقر – في هدم مساجد المسلمين السنة وتحويلها إلى معابد يصلون فيها للأبقار!!
المبحث التاسع عشر
وقفات مع بعض خيانات الشيعة
في البلاد العربية في العصر الحديث
المبحث التاسع عشر
وقفات مع بعض خيانات الشيعة في البلاد العربية في العصر الحديث
تعتبر إيران بمثابة الأم الراعية لكل الشيعة وخصوصًا الاثنى عشرية في كل مكان والشيعة أينما توزعوا فإنهم يدينون بالولاء لإيران أكثر من ولاءهم للأرض التي يعيشون فيها.
وحكومات إيران ترى في دول الخليج العربي امتدادًا لأرض الإمبراطورية الفارسية القديمة، ولها فيها أطماع تزايدت بعد ظهور النفط في دول الخليج العربي، فجعلت الحكومات الإيرانية تتخذ من شيعة هذه البلاد مثار قلاقل لهذه البلاد وتكأة تعتمد عليها في تنفيذ بعض مآربها. وعندما قامت ثورة الخميني لقيت تأييدًا حافلاً من الشيعة في كافة الأنحاء واعتبرها الشيعة الشرارة الأولى التي ستفجر كل المنطقة.
ففي البحرين:
__________
(1) المرجع السابق (1/583) بتصرف.(37/40)
"ولم تمضي إلا فترة وجيزة حتى أعلنت إيران عن نواياها وصرح مسئول رسمي بالمطالبة بضم البحرين إلى إيران وبعض جزر في الكويت وغير ذلك.. وادعى أن نحو 85? من سكان البحرين هم من الشيعة، وهم مضطهدون وعلى رأسهم رجال الدين الشيعة، وخصوصًا من أسموه حجة الإسلام سيد هادي المدرسي الممثل الخاص في البحرين لآية الله الخميني .. وأذاع راديو طهران في 30/8/1979 نداء للسلطة في البحرين بالإفراج عن سيد هادي المدرسي"(1).
وعلى أثر هذا قام نحو اثنى عشر زعيمًا شيعيًّا في البحرين بتفجير الثورة في أنحاء البلاد وقاموا بأحداث شغب واسع النطاق.
وكان المدرسي هذا إيراني أصلاً توطن في البحرين لتنفيذ هذه الأغراض الشيعية الرافضية.
وقد ساعد على تعميق الفجوة بين السنة والشيعة من جراء خطبه وتصريحاته المتطرفة، والتي فيها دائمًا نزعة التحيز والولاء لإيران مع النقمة على أهل السنة وخصوصًا الحاكمين في البحرين(2) .
وفي الكويت:
"حدثت أعمال شغب كهذه، حيث قام المدعو أحمد عباس المهري (من عائلة المهري وهم شيعة إيرانيون) بعقد ندوات في مساجد الشيعة، وأخذ يثير قضايا سياسية مثل قضايا الإسكان وإنصاف الشيعة..
وتجاوب معه الشيعة في الكويت بأثرها.. وصدرت الأوامر من الخميني بتسمية المهري الممثل الخاص للخميني في الكويت والمسئول علن صلاة الجمعة فيها..
وتوالت التصريحات في طهران تارة تعرب عن قلقها من المضايقات التي تعرض لها ممثل الخميني وشيعته وتارة تهدد بالتدخل..
والذي جعل اللهجة الإيرانية شديدة في أحداث الكويت هو أن أحمد عباس المهري هذا كان صهرًا للخميني(3) .
وفي السعودية:
__________
(1) انظر: وجاء دور المجوس (1/350).
(2) انظر: ريتشارد هرير دكمجيان: الأصولية في العالم العربي (ص213، 214) ط دار الوفاء – المنصورة.
(3) انظر: وجاء دور المجوس (1/351، 352).(37/41)
حيث يوجد في المنطقة الشرقية تجمعات من الشيعة الاثنى عشرية تعتبر سكانيًا امتدادًا للأغلبية الشيعية في إيران والعراق، وقد شهدت المنطقة الشرقية منذ أن استولى الملك عبد العزيز آل سعود عليها عام 1913م معارضات من حين لآخر للحكم السعودي قام بها الموطنون الشيعة.
وفي عام 1925 أنشئت جمعية شعبية بقيادة محمد الحبشي لتعبر عن المطالب المحلية وسرعان ما اعتبرتها الحكومة غير قانونية وحين اكتشف النفط، أصبح للمنطقة الشرقية أهمية جديدة حيث عمل كثيرون من المواطنين الشيعة في صناعة النفط، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها نظم هؤلاء العمال الشيعة عماليا، وأظهروا استياء متزايدًا قبل الحكومة والجالية الأميركية الكبيرة، وفي عام 1948 وصلت القلاقل الشيعية إلى حد الانفجار في مظاهرات واسعة النطاق وفوضى في منطقة القطيف بقيادة محمد بن حسنين الهراج، وقد تم بسهولة سحق المتمردين الذين كانوا يطالبون بالانفصال عن المملكة، وفي عام 1949 اكتشفت الحكومة وجود جماعة ثورية في القطيف تحت اسم جمعية تعليمية، حلت الجمعية، ومات أحد زعمائها في السجن، وقد امتدت هذه الحركة إلى جبيل حتى تم سحقها في عام 1950، وفي الوقت نفسه كانت هناك مظاهرات عمالية كبيرة خلال 1944، 1949، 1953 احتجاجًا على ظروف العمل، وفي سنة 1970 أحدثت الشيعة قلاقل كبيرة في القطيف – أيضًا- فأرسلت الحكومة الحرس الوطني لاحتواء الاضطرابات، وفي عام 1978 حدث انفجار آخر وتظاهرات أدت إلى اعتقالات وخسائر واسعة النطاق.. وقد تزامنت الاضطرابات الواسعة في القطيف أواخر 1979م مع أيام الحداد الديني الشيعي (عاشوراء) وكان ذلك في أعقاب الثورة الإيرانية، وفي الواقع أن هذا كان بدعوة من آية الله الخميني لشيعة المنطقة الشرقية تضمنت الدعوة إلى الثورة(1) .
__________
(1) الأصولية في العالم العربي (ص203، 204).(37/42)
هذا وقد مر بنا الكلام على خيانات الشيعة في سوريا وفي لبنان، وإضافة إلى ذلك فإن الشيعة في لبنان عندما أعلن الخميني ثورته في إيران قامت بإعلان مبايعتها على أنه إمام المسلمين في كل مكان(1) .
وهكذا حينما وجدوا فولاءهم ليس للبلد الذي يعيشون على أرضه ويأكلون خيره أو للدين الذي ينتسبون إليها وإنما ولاءهم لإيران ولسياستها الاثنى عشرية المنهورة في أكثر المواقف.
وفي اليمن:
يقول القاضي حسين بن أحمد العرشي متحدثًا عن الباطنية – أي الشيعة – وأثرهم في زعزعة الأمن وإثارة الثورات في بلاد اليمن:
"اعلم أن الباطنية أخزاهم الله تعالى أضر على الإسلام من عبدة الأوثان، وسموا بها لأنهم يبطنون الكفر ويتظاهرون بالإسلام، ويختفون حتى تمكنهم الوثبة وإظهار الكفر، وهم ملاحدة بالإجماع، ويسمون بالإسماعيلية؛ لأنهم ينسبون أئمتهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق وبالعبيدية لدعائهم إلى عبيد الله بن ميمون القداح.. والآن يسمون شيعة لكونهم مظهرين أن أئمتهم من أولاد الرسول حين عرفوا أنهم لا يستقيم لهم إمالة الحق والدخول إلى دهليز المفر إلا بإظهار المحبة والتشيع ولهم قضايا شنيعة وأعمال فظيعة كالإباحية، وغيرها، وينكرون القرآن والنبوة والجنة والنار.. وتراهم إذا وجدوا لأنفسهم قوة أظهروا أمرهم وأعلنوا كفرهم، فإن غلبوا ولم تساعدهم الأيام كمنوا كما تمكن الحية في جحرها، وهم مع ذلك يؤملون الهجوم والوثبة وأن ينهشوا عباد الله.. ولا ينبغي لذي معرفة وقوة أن يعرف منهم أحدًا يقتدر عليه فيتركه وشأنه فإنهم أهلكهم الله تعالى شياطين الأرض"(2) .
__________
(1) وجاء دور المجوس (2/1982) عن جريدة الايكونو ميست البريطانية.
(2) بلوغ المرام شرح مسك الختام فيمن تولى ملك اليمن من ملك وإمام (ص21) مطبعة التبريز – القاهرة 1939م.(37/43)
وحتى الشيعة الزيدية في اليمن كانوا يضطهدون أهل السنة هناك حيث كانوا يسيطرون على مقاليد الحكم في ظل الدولة العثمانية، ولما أراد الترك الجلاء عن بلاد اليمين عام 1337هـ، خشي أهل السنة من سيطرة الزيدية على بلادهم.. وحاول بعض أهل السنة المقاومة فلم تتحد كلمتهم، وباغتهم إمام الزيدية في اليمن آنذاك بجيش من قبائل الزيدية ودارت معارك طاحنة استمرت ستة أشهر، ثم هزمت جموع أهل السنة وأذعن جميعهم لحكم الإمام وسيطرة الزيدية..
وفي بلاد الضالع استمرت المعارك بين الزيدية والسنة عامين كاملين كانت الحرب فيها سجالا(1) .
وكم عذبوا وآذوا وقتلوا من علماء السنة في اليمن كما فعلوا بالشيخ محمد صالح الأخرم، حيث اعتقلوه وهو في شيخوخته، واختطفوا الشيخ مقبل بن عبد الله وقتلوا العلامة محمد بن علي العمراني الصنعاني أحد تلامذة الإمام الشوكاني المشهورين(2) .
ولعل أحدًا من أهل السنة لا يخدع ويردد أن الزيدية أقرب فرق الشيعة من أهل السنة والجماعة – حيث تتصف بالاعتدال والقصد والابتعاد عن التطرف والغلو – بعدما ذكرنا.
ومن أراد المزيد فليراجع كتاب هدية الزمان في أخبار ملوك الحج وعدن لمؤلفه (العبدلي مؤرخ حضرموت) .
ولعل ذلك هو الذي حدا بالشيخ محمد أبي زهرة إلى أن يقول:
"وضعف المذهب الزيدي فقد غالبته المذاهب الشيعية الأخرى أو طوته أو لقحته ببعض مبادئها ولذلك كان الذين حملوا اسم هذا المذهب من بعد لا يجوزون إمامة المفضول فأصبحوا يعدون من الرافضة، وهم الذين يرفضون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وبذلك ذهب من الزيدية الأولى أبرز خصائصها"(3) .
ومن طريف ما يذكر في قتالات الشيعة الزيدية وأهل السنة في اليمن ما قاله الشيخ الدفتردار:
__________
(1) انظر الانحرافات العقدية والعلمية (1/584، 585).
(2) المرجع السابق (1/586).
(3) انظر: الشيخ/ محمد أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية 1/51.(37/44)
"حدثني صديق قضى في اليمن ردحًا من الزمن، وشاهد ثورات الزيدية الشافعية وقد انتدب ليدرس بواعثها وأسبابها، فإذا هو يسقط على الحقيقة إذا وجد وقد الفتن من جهل أعشار الشيوخ بمثل القرآن العليا، وقد سمع حديثًا يدور بين شيخين كانا في نظره – كما يقول – أمثل من يعرف هناك، لما يجد بينهما من مودة على اختلاف فرعيهما، وكم كان يتمنى أن تنتقل هذه المودة إلى أتباعهما المساكين المختلفين، سمعهما يتساران بالحديث التالي:
قال الشيخ الشافعي:
ألا يجدر بنا أن نفهمهم أنهم أخوة يسكنون وطنًا واحدًا وتظلهم سماء واحدة ويجمع كلمتم وحي واحد واعتصموا بحبل الله جميعًا فكم من نساء رملت، وأسر تداعت وإثم ذلك راجع إلينا.
قال الشيخ الزيدي الشيعي:
دعهم دعهم فهم أهل لكل شقاق وشتات لأنهم لا يحملون لنا المودة ولا يعطوننا ما نستحقه من أجر؛ فإذا فهموا أن الوحي يجمعهم اكتفوا بأحدنا.
قال الشيخ الشافعي:
ولكن كيف نلقى الله وحالنا معهم ما تعلم من فتن وتمزيق وخلاف.
قال الشيخ الزيدي:
لا لا لا تمزيق ولا خلاف، هم المسئولون عن تمزيق أنفسهم ومالنا من أثر إلا أننا تركناهم على حالهم وسرنا مع أهوائهم.
قال الشيخ الشافعي:
بل نحن المسئولون أمام الله والإنسانية والحكومة لو كانت تدري، أما علمت أن رسول الله هدم مسجدًا شيده المنافقون إرصادًا لتمزيق الكلمة وفتنة للناس عن الهدى، أجل هدمه وهو مسجد!! فكيف حالنا ونحن الذين أغرينا بينهم العداوة والبغضاء؟
قال الشيخ الزيدي:
هل تعتقد لو تركناهم على حالهم يجتمعون؟
قال الشيخ الشافعي:
طبعًا طبعًا يجتمعون فهذه الحيوانات تسير مجتمعه فهل يكون الإنسان أقل من الحيوانات عقلاً وفكرًا ونفسًا وضميرًا؟
قال الشيخ الزيدي:
وكيف تعيش إذا اجتمعوا؟ محال أن نفهمهم الحقيقة فإذا ذلك المبعوث يظهر فجأة بينهما قائلاً :(37/45)
لعيشكما وهم مجتمعون أرغد وأوسع من عيشكما وهم مختلفون لأن لحوم البشر لا تغذي الأحشاء يا أخباث(1) .
وهذا الحوار يدلك على أن أئمة الشيعة يرون في إحاطة أنفسهم بهالة من السرية والتقديس سبيل للتكسب والتعيش الرغيد والسلطنة والجاه، فلا إله إلا الله.
وفي العراق:
الجرح الغائر في أعماق الأمة الإسلامية والذي لم يندمل بعد هناك شيعة ولاءها لإيران، وقد كان الخميني يستخدمهم كأداة تخريبية في العراق في أكثر الأحيان.
وخيانة الشيعة في العراق للأنظمة المتعاقبة في حكمها ترجع إلى شعورهم بالاضطهاد ونقمتهم على حكامهم من أهل السنة وولائهم المتزايد نحو شيعة إيران.
"فالشيعة في العراق اليوم يعتقدون أن نسبتهم أكثر من 70? ومع ذلك فهم محرومون مضطهدون.. وعلى شيعة العراق أن يتحرروا من القيادة السنة التي تتحكم بهم منذ عصور طويلة(2) كما أن وجود المدن الثلاثة المقدسة عند الشيعة (النجف – كربلاء – الكاظمية) وبها المزارات جعل شيعة العراق يتطلعون إلى التأييد العام في الشيعة في كل مكان إذا هم أعلنوا الثورة"(3) .
__________
(1) الإسلام بين السنة والشيعة: هاشم الدفتردار المدني، ومحمد علي الزغبي (ص 129، 130) ط مطبعة الإنصاف – بيروت 1950م.
(2) وجاء دور المجوس (1/364) بتصرف.
(3) الأصولية في العالم العربي (ص183) بتصرف.(37/46)
وفعلاً استغل الشيعة ذكرى الأربعين للحسين في 5/2/1977 فأطلقوا شرارة الثورة، وقاموا بمظاهرات وحوادث شغب شملت معظم المدن في جنوب العراق، ويبدو أن الأمر كان أكبر من مجرد مظاهرة واضطراب، فلقد كان الشيعة يوزعون نشرات دورية في العراق والخليج تحت عنوان (العراق الحر) (صوت الشعب المضطهد) وفي هذه النشرات كانوا ينادون بالثورة على حكام بغداد، ومن يقرأ هذه النشرات يعلم أنها شيعية لأول وهلة فهم إذا أرادوا وصف ظلم حكام بغداد شبهوهم بهارون الرشيد أو بحكام العصر الأموي وبعد حوادث النجف وكربلاء أسس الشيعة ما يسمى بالجبهة الوطنية الإسلامية في العراق، وأصدروا كتيبًا تحت عنوان برنامج الجبهة الوطنية الإسلامية في 22/2/1977 أي بعد الحوادث بأسبوعين(1) ..
وقد نظرت حكومة العراق إلى هذا الحزب في ضوء التشجيع الواضح من الخميني للنضالية الشيعية على اعتباره طابورًا خامسًا يهدف إلى توحيد العراق وإيران.. فقامت الحكومة العراقية بعمليات قمع واسعة النطاق.. ووجهت تهمة الخيانة بالتخطيط لإقامة دولة شيعية في العراق إلى بعض زعماء الشيعة وقامت بإعدامهم وكان على رأسهم باقر الصدر وأخته بنت الهدى، وتم إعدامهم في أبريل 1980(2) .
وبرغم ما حاول النظام العراقي فيما بعد إتباع سياسة الاسترضاء، فقام بإنفاق مبالغ كبيرة في إعمار المساجد والمراكز الدينية الشيعية في العراق، وإعطاء الحوافز للقادة والأفراد الشيعيين، بل أعلن صدام حسين رئيس النظام أنه من نسل الحسين بن علي، وأعلن ميلاد علي بن أبي طالب عيدًا قوميًّا.. وبرغم ذلك كله فإن كبار أئمة الشيعة رفضوا التعاون مع البعث(3) .
وظلت روح التذمر موجودة تتحين الفرص من آن لآخر للفتك بهؤلاء الحكام.
حول خيانة الشيعة في الحرب الأمريكية على العراق:
__________
(1) وجاء دور المجوس (1/366، 367) بتصرف.
(2) الأصولية في العالم العربي ( ص185) بتصرف.
(3) المرجع السابق (ص189).(37/47)
لم تزل روح التذمر والسخط موجودة عند الشيعة في العراق فهي لا تبرح صدروهم، ومع طلعة كل شمس كانوا يتطلعون إلى إعلان دولة الشيعة في العراق أو التوحيد مع أم الشيعة إيران، وهذا لا يكون إلا بالإطاحة بالنظام الحاكم والتخلص من قيوده.
وبمجرد ما واتتهم الفرصة عندما أعلنت أميركا وبريطانيا الحرب على العراق بحجة محاربة الإرهاب وإحلال الديمقراطية.. وجد الشيعة لهم متنفسًا للتخلص من نظام صدام حسين.
وظهرت خيانتهم في أنهم لم يشاركوا في المقاومات التي قام بها سواء الجيش أو الشعب العراقي ضد هذا العدو الغازي، ووقفوا موقف المتفرج، ومن يدري لعلهم أعانوا العدو الصليبي وأمدوه بما استطاعوا من المعلومات كما فعل ابن العلقمي والطوسي.. قديمًا أيام التتار.
وعندما سقطت بغداد خرج الشيعة في الشوارع كالكلاب المسعورة يخطفون وينهبون ويخربون حتى المستشفيات.. وكل هذا في ظل نظام حماية سادتهم الأمريكيين..
واستغل العدو الأمريكي هذه المناظر التي أحدثها الشيعة في العراق في إظهار نفسه بدور المنقذ المخلص لهذا الشعب المضطهد..
والواقع أننا في الوقت الحالي أمام مشكلة معلوماتية يعرف منها حقيقة الأمر تفصيلاً، وذلك لما اكتنف هذه الحرب من غموض، ولكن يومًا سنكشف إن شاء الله هذا الغموض، إما لنا وإما لأجيال بعدنا ليؤكد الحقيقة التي لا تستبعد على القوم وهي تآمرهم وخيانتهم.
ومن بعض المقتطفات الإخبارية يمكن أن نرى كيف أن الشيعة كانوا متطلعين إلى زوال النظام العراقي وإحلال نظام شيعي محله أو تكون فيه أغلبية شيعية.
والطريف في هذا ما أعلن عن عودة كثير من القادة الشيعيين الذي كانوا قد نفاهم نظام صدام لإحداثهم الشغب وإشعال الثورة في البلاد وتركيزهم بعد العودة على المطالبة بأن تضم الحكومة الجديدة الانتقالية التي أزمعت أمريكا تشكيلها أكبر عدد من رجال الحوزة الدينية الشيعية.(37/48)
نشرت جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 12/7/2003 بأن محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية (شيعي) عاد إلى العراق وعندما طرحت أمريكا تشكيل مجلس مؤقت لإدارة العراق اشترط ضم أكبر عدد ممكن من الشيعة للمجلس ليشكلوا غالبية مريحة من الأعضاء، على أن توضع صيغة مكتوبة تنص على صلاحيات المجلس التنفيذية كضمان لعدم التراجع.. وأن يتولى رئاسة المجلس الجديد مسعود البرزاني (شيعي).
وفي ذات الجريدة في نفس العدد:
"ذكرت أن الإمام المهدي مدرسي من أبرز علماء الشيعية العراقيين قد عاد إلى بغداد في يوم 11/7/2003 بعد غياب 30سنة قضاها في المنفى.. ألقى مدرسي خطبة أمام أنصاره بمسجد الكاظمية في شمال بغداد طالب فيه بضرورة تنصيب حكومة منتخبة بالعراق بأسرع وقت ممكن وأكد أن حقوق الأقليات في العراق سوف تكون مكفولة إذا وصلت إلى السلطة حكومة تمثل غالبية أبناء الشعب".
أرأيت كيف ينظر الشيعة إلى السنة على أنهم أقلية، ويدعي أن حقوقهم ستكون مكفولة عند تشكيل حكومة غالبيتها من الشيعة!!
وفي نفس العدد: "ذكر تومي فرانكس القائد السابق للقيادة المركزية الأمريكية أن هناك عناصر إيرانية تنشط في العراق وتحاول التأثير على مجريات الأحداث وأوضح أن هناك رجال دين مدعومين من إيران يشاركون في الحوار السياسي في إطار الطائفة الشيعية كما أن أجهزة المخابرات الإيرانية تنشط في الجنوب العراقي لكن دون تقديم أي دعم عسكري ضد الجنود الأمريكيين".
إنهم ينشطون لجني ثمار الخيانة، ولا يعترضون على العدو الأمريكي!!(37/49)
وفي جريدة الأهرام – أيضًا- بتاريخ 22/6/2003 ذكرت أن حشدًا كبيرًا من الشيعة في العراق شكلوا مظاهرة سلمية توجهوا بها إلى مقر القيادة الأمريكية البريطانية، وقدم ممثلون عنهم عريضة يطالبون فيها بسرعة تشكيل حكومة عراقية وبإقامة مجالس محلية وحكومية تحت إشراف الحوزة الدينية الشيعية.. ونظم المظاهرة أنصار مقتدى الصدر نجل الإمام آية الله محمد صادق الصدر الذي اغتيل في عام 1995 في النجف.
وفي جريدة الأهرام – أيضًا – بتاريخ 16/5/ 2003 ذكرت أنه تظاهر نحو 500 عراقي في بغداد للمطالبة بإقامة حكومة إسلامية وأعلنوا رفضهم قيام أي حكومة علمانية تشكلها الولايات المتحدة وطالب المتظاهرون الذين يمثلون الحوزة الشيعية في مدينة النجف بمنع العراقيين حريتهم في اختيار حكومتهم.(37/50)
وفي جريدة الأسبوع المصرية بتاريخ 7/4/2003 تحت عنوان: "قادة المعارضة العراقية عملاء مباشرون لإسرائيل" ذكرت أنه عندما أطلقت أمريكا ما أسمته إعادة ترتيب العراق روجت دوائر صهيونية عديدة في أمريكا وإسرائيل على حد سواء لاسم (أحمد الجلبي) أحد قادة المعارضة العراقية الواقعين المعترفين بالكيان الصهيوني وإمكانية تعاونه مع هذا الكيان في وقت لاحق في مرحلة ما بعد إعادة ترتيب العراق.. وكان جلبي في إشارة واضحة تبين موقفه من الكيان الصهيوني قد قال في لقاء صحفي نشرته صحيفة (هاآرتس العبرية) من المفضل ألا يقترب منا القادة الإسرائيليون وألا يبحثون عن اتصال.. مضيفًا: عليهم ألا يسارعوا إلينا عندما نكون في السلطة- وهذا لتمويه وصرف الأعين عن علاقته بالكيان الصهيوني – وأحمد جلبي أحد قادة المعارضة الشيعة يعتبر من وجهة نظر الصهاينة أحد أهم المعارضين المعروفين على الساحة الدولية منذ عام 1991؛ خاصة بعد فشل التمرد الشيعي في ذلك العام والذي نفي على أثره.. علمًا بأنه قد قام بزيارات سرية لإسرائيل عدة مرات التقى فيها بعدد من المسئولين الصهاينة، من أبرزهم (افرايم هاليفي) رئيس المؤسسة الأمنية الإسرائيلية المسماة مجلس الأمن القومي والرئيس السابق لجهاز المخابرات الإسرائيلية الموساد، وليس أحمد جلبي فقط هو من يصارع في هذا المجال.. فهناك غيره كثير على هذه الشاكلة أغلبهم يرى نفسه أحق المتآمرين للحصول على أكبر قدر من الغنائم وأهمها كرسي الحكم.
منهم ذلك المعارض الذي يسكن واشنطن (نجيب صالحي) أحد الضباط الكبار في الجيش العراقي قبل أن يفر إلى الولايات المتحدة ليخدم بكل ما أوتي من قوة أعداء العراق.(37/51)
ومنهم – كما جاء في إحدى المجلات البحثية التي يصدرها مركز الدراسات الإسرائيلية عن الحالمين بالحكم في بغداد – الشريف علي بن الحسين من سلالة العائلة الحاكمة التي حكمت العراق قبل الإطاحة بالملكية وإبعادها عن الحكم.. وهو يعتقد أن على العراق العودة إلى النظام الملكي.
ومنهم: سعيد صلاح جفعر يقول عنه الإسرائيليون إنه الصديق المخلص لدولة إسرائيل: "أن والد سعيد قد خدمات جليلة لليهود يوم أن كان وزيرًا للداخلية بالعراق. ولولا مساعدته لما نجحت حملة تهجير اليهود، ويضيف أن سعيد ورث حب إسرائيل واليهود عن أبيه، وقد هرب إلى لندن ليعمل على توحيد قوى المعارضة العراقية وانتخب رئيسًا لبرلمان المنفى خاصة بعد دعم الولايات المتحدة له.
وسعيد صالحي هذا له علاقات قوية جدًّا مع قادة يهود العالم خاصة داخل أمريكا وبريطانيا وإسرائيل ذلك إلى جانب دعمهم المالي السري كي يستميل أكبر عدد من المعارضة العراقية لصالح إسرائيل".
وفي جريدة الأخبار المصرية بتاريخ 13/7/2003 تحت عنوان: "الشيعة يطالبون أمريكا بتعويضهم عن عقود الاضطهاد تحت حكم صدام" : "ذكرت الصحيفة أنه في انعقاد أول جلسة لمجلس الحكم الانتقالي والذي مثل الشيعة فيه 13 ممثلاً والسنة 5، والأكراد5، وتركماني1، ومسيحي1، وطالب رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق محمد باقر الحكيم قوات الاحتلال الأمريكي بتعويض الشيعة عن عقود الاضطهاد، وكان قد صرح لوكالة رويتر بأن شيعة العراق قد ينقلبون ضد قوات الاحتلال إذا لم يحصلوا على تعويض سياسي مناسب عن عقود الاضطهاد التي عانوا خلالها في ظل الحكم السابق".
إن القوم لا يهمهم إلا الصالح الشخصي لهم فقط، فهم يعلونها صراحة بأنهم لم يعترضوا على الاحتلال إلا إذا لم يلبوا مطالبهم ويقوم بتعويضهم عما أسموه الاضطهاد السياسي، واعتقد أنه سيفعل لأن العدو ماهر في شراء ذمم الخونة.(37/52)
وفي حين يطالب الشيعة بتعويض عن الاضطهاد السياسي في العقود الماضية كما زعموا(1) يقاوم أهل السنة الاحتلال الأمريكي البريطاني ويبذلون دمائهم في سبيل الله عز وجل.
وفي تقرير إخباري لجريدة الأخبار بتاريخ 13/7/2003 نشرت صورة لجمع كبير من الناس في مسجد وهو يتبرعون بدمائهم للجرحى المقاومين وكان التعليق تحتها:
"المسلمون السنة في العراق يتبرعون بدمائهم بعد صلاة الجمعة في جامع عبد القادر الجيلاني في بغداد – الصورة للأخبار من أ.ف.ب".
وهكذا لو قلبت في وابل الأخبار والنشرات التي وتصدر عن الأوضاع في العراق لما أعجزك أن تقف على خيانات الشيعة في العراق والتعامل مع كل الأعداء اليهود والصليبيين ظنًا منهم بأنهم هم الذين سيعيدون الحكم للحوزة الشيعية ويعاونوهم في تأسيس دولة شيعية.
ولكن بإذن الله ستظل المقاومة – مقاومة أهل السنة – حتى يرحل الغزاة أو يهلكون ساعتها ستنكشف خيانات الخائنين أكثر وأكثر، طال الأمد في تحقيق هذا الهدف أو قصر، والرجاء في الله وحده فهو المستعان.
المبحث العشرين
الشيعة يرون تحول السنيين إلى النصرانية أهون من بقائهم على السنة
المبحث العشرين
الشيعة يرون تحول السنيين إلى النصرانية أهون من بقائهم على السنة
لقد بلغت الخيانة الشيعية ذروتها، وهي تسعى في مواجهة أهل السنة أن يفكر أحد الحكام الإيرانيين في استدعاء حملات تنصيرية وعقد اتفاق معها لتنصير المسلمين السنيين من الأكراد.
قالت الدكتورة/ أمال السبكي في كتابها تاريخ إيران السياسي:
__________
(1) لم يكن هذا اضطهادًا، وإنما كان ردًا على خيانتهم وشغبهم الذي لا ينتهي .(37/53)
"من الأشياء المريبة حقًا في السياسة التبشيرية الأمريكية أن يتم عقد اتفاق مع حكومات كل من إيران والعراق وتركيا في أدنبرة 1910 ينص صراحة على حق الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في القيام بالتبشير للديانة المسيحية بين شعب الأكراد المسلمين في الأقطار الإسلامية الثلاث.. وقد جددت الحكومية الإيرانية في عهد الشاه رضا بهلوي الاتفاق سنة 1928، وكان قصد الشاه الإيراني تحقيق أهداف عدة منها:
أولاً: التخلص من الكثافة السكانية الكردية التي تقطن بأذربيجان بإيران منذ مئات السنيين، والتي كثيرًا ما عاونت تركيا السنية ضد إيران للتخلص من الظلم الواقع عليهم.
ثانيًا : كسر شوكتهم بتحويل الكثير منهم إلى المسيحية بعد أن تغير موقف الحكومة التركية عن تأييدهم بعد ثورة كمال أتاتورك في الربع الأول من القرن العشرين.
ثالثًا: تذويب الهوية الكردية (السنية) في القومية الإيرانية لإحكام السيطرة عليهم، والحيلولة دون التئام شمل القومية الكردية مع نظائرها في العراق وتركيا وسوريا"(1) .
عجبًا تفكير هؤلاء الخونة:
أيرضى علي بن أبي طالب أو أحد من آل البيت بارتداد واحد عن الإسلام إلى النصرانية أو غيرها؟
ثم هم يرون الأكراد (وهم سنيون) أنهم لو تحولوا إلى النصرانية لخفت حدتهم، ولأمنوا شرهم.
وهذا ليس مجرد سياسة بل عقيدة عند القوم، وأن الناصبي (السني) أشد كفرًا من النصراني واليهودي، ولذلك يرى أئمتهم جواز الصدقة على الذمي وعدم جوازها على السني.
يقول آيتهم الخميني:
"ويعتبر في المتصدق عليه في الصدقة المندوبة الفقر لا الإيمان والإسلام، فتجوز على الغني الذمي والمخالف إن كان أجنبيين نعم، ولا تجوز على الناصب ولا على الحربي وإن كان قريبين"(2) .
__________
(1) د/أمال السبكي : تاريخ إيران السياسي (ص115،116) سلسلة عالم المعرفة عدد رقم (250).
(2) الخميني، تحرير الوسيلة (1/91).(37/54)
وهذا يعني أن هذا الفعل وهو الاتفاق مع حملات التنصير بين الأكراد لم يكن نظرة خاصة بالشاة رضا بهلوي الذي ثار الخميني ضده، وإنما هي نظرة الخميني أيضًا وعموم الشيعة الرافضة الغالية.
المبحث الحادي والعشرين
على أسوار بغداد
المبحث الحادي والعشرين
على أسوار بغداد(1)
مسرحية فصل واحد – قصة السقوط في الماضي والحاضر
الزمان: 656هـ
المكان: دار الخلافة في بغداد.
المنظر: قصر الخليفة المستعصم حيث تظهر سدة الخليفة وخلفها يقف حارسان صارمان تتوزع النمارق المصفوفة والستائر المذهبة في مداخل الإيوان.
المشهد: ابن العلقمي – الوزير – في ردائه الأسود وعمامته السوداء يذرع الإيوان وكأنه يفكر في شيء ما، فجأة يدخل عليه أحدهم مسرعًا، تبدوا عليه آثار الفزع.
الرجل: ابن العلقمي.. يا ابن العلقمي.. أنجدنا..أغثنا!
العلقمي: ماذا وراءك يا رجل؟
الرجل: لقد وقعت فتنة بين أهل السنة والشيعة.. يا سيدي.
العلقمي: (يهرش ذقنه): ماذا!! وهل وقعت أخيرًا.
الرجل: وقعت، لقد تجالدوا حتى بالسيوف.
العلقمي: وعلى من كانت الدائرة؟
الرجل: علينا يا سيدي.
العلقمي (ممسكًا بالرجل): ويحك ماذا تقول؟
الرجل: إنها الحقيقية .. لقد قتل كثير من الشيعة.. ونُهِبوا.
العلقمي: قتلوا!! ونهبوا!!
الرجل (متلعثما): و..و..
العلقمي: وماذا بعد؟ انطق.. ويلك
الرجل: وبعضهم من أقاربك.. وخاصتك.. يا سيدي.
العلقمي (مغضبًا): الويل لهم الويل.
الرجل: والرأي يا سيدي.. ماذا سنفعل الآن؟
العلقمي: حسنًا .. عليكم بالصبر وأنا أكفيكم أهل السنة .. هيا بنا (يخرجان)
(يدخل الخليفة ويعتلي عرشه)
المستعصم (محدثًا نفسه): أين ذهب هذا الوزير.. أين؟!
(يدخل ابن العلقمي)
العلقمي: السلام على مولانا الخليفة ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) أ/ محمد علي بدوي: مجلة البيان عدد (189) جمادى الأولى 1424هـ، يوليو 2003(ص27، 28).(37/55)
المستعصم: وعليكم السلام. أين كنت يا رجل؟
العلقمي: كنت أتفقد أحوال رعيتكم يا موالاي.
المستعصم: هه.. وكيف أحوال رعايانا؟
العلقمي: على ما نحب.. يأكلون ويشربون.. ولكن يشكرون يا مولاي.
المستعصم: إذن دعنا نأكل ونشرب ونطرب نحن أيضًا.. عليّ بالقيان والجواري الحسان.
العلقمي: حظيتكم (عرفه) .. في طريقها إليكم يا مولاي.
المستعصم: آه يا عرفة.. يا له من صوت ناعم وقد سالم..
العلقمي: ها.. ها.. (يضحك).. و..و.. لكن هناك أمر يحول بينك وبينهم يا مولاي.
المستعصم: بيني وبينها!! ماذا تقصد؟!
العلقمي: أقصد قلة المال.. قلة المال تمنعنا من جلب المزيد من الجواري يا مولاي.
المستعصم: ويلك.. وبيت المال أين ذهب؟!
العلقمي: لقد فني المال.. أو كاد.. والسبب جيشكم يا مولاي.
المستعصم: جيشنا!!
العلقمي: أقصد أعداد العساكر كبيرة.. وكثيرة جدًّا.
المستعصم: كبيرة!!
العلقمي: فلو قللنا هذا العدد.. لاستطعنا أن نوفر المال.. وأن نستقدم الجواري لمولاي.
المستعصم: أوه.. إنك تزعجني بهذا الكلام.. (يستعدد للخروج).. افعل ما تراه مناسبًا. وأرسل إليّ الجواري في مخدعي. (يخرج)
العلقمي: أمر مولاي.. ها.. ها.. أمر مولاي (يصفق بيديه فيظهر أحد أعوانه من الخلف).
الرجل: أمرك يا سيدي.
العلقمي: اذهب بهذه الرسالة إلى هولاكو.. وأخبره أن الطريق سالكة (يناوله الرسالة).
الرجل: أمرك سيدي (يخرج)
العلقمي (في خبث): ها.. ها.. لقد دنت ساعتكم.. وحانت نهايتكم.. يابني العباس! (يخرج)
(ضوضاء، أصوات مختلطة، صراخ، عويل، وقع خيول قادمة، يدخل الخليفة فزعًا) .
المستعصم: ابن العلقمي.. أين أنت يا ابن العلقمي؟
(للحارس) علي به فورًا.
(يدخل ابن العلقمي مسرعًا)
العلقمي: نعم .. نعم يا مولاي.. ماذا حدث؟
المستعصم: التتار.. التتار قادمون.. إنهم يزحفون على المدينة كالمرض الأسود.
العلقمي: وهل وصلوا ؟!(37/56)
المستعصم: إنهم يرشقوننا بالنبال.. لقد قتلوا مولاتي (عرفة) بين يدي.. قتلوها.
العلقمي: (للحارس) شددوا الحراسة حول القصر، وزيدوا في الاحتراز.
المستعصم: ألم تذهب إليهم.. ألم تتفاوض معهم؟!
العلقمي: بلى لقد فعلت.. يا مولاي.
المستعصم: وبماذا أجابوك؟ أجب .. انطق.
العلقمي: لقد رضوا بالمصالحة.
المستعصم: نصالحهم.. إنهم كالأفعى السامة.. كيف نضع أيدينا في حجر الأفعى.. كيف؟!
العلقمي: مولاي.. ليس لدينا خيار آخر.. نصالحهم الآن، ثم نتقوى ونعيد الكرة عليهم.. والحرب سجال.. يوم لك.. ويوم عليك.
المستعصم: وما هي شروطهم؟!
العلقمي: نصف خراج بغداد.. و..
المستعصم: وماذا هناك بعد..؟
العلقمي: وأن تخرج إليهم بحاشيتك ورجال دولتك.
المستعصم: حاشيتي ورجال دولتي!!
العلقمي: والعلماء والقضاة.. نعم..
المستعصم: ولماذا كل هؤلاء؟
العلقمي: ليحضروا عقد الصلح يا مولاي.. الرجل يريد الضمان..
المستعصم: القضاة.. الفقهاء.. إن في الأمر لمكرًا.. لا .. لن أخرج إليهم.
العلقمي: مولاي إن لم تخرج إليهم.. جاءوا إليك.. (يشير إلى رقبته).
المستعصم (مذعورًا): ح.. ح.. حسنًا سأخرج.. اذهب واجمع رجال الدولة وسآتي حالاً.
العلقمي: حالاً.. يا مولاي!
(المستعصم وقد بدا مذهولاً يحدث نفسه)
المستعصم: آه.. أخرج إليهم.. إن نفسي تحدثني أن شيئًا سيقع.. رباه.. رباه..
صوت:
بغداد ماذا أرى في حالك الظلم
بغداد أين زمان العز في بلد
بغداد أين السحاب المزن إذا حكمت
أين الجحافل يا بغداد عن زمن
نجمًا يلوح لنا أم لفحة الحمم؟
كان السلام به أسمى من العلم؟
يد الرشيد بعدل الله في الأمم؟
تخاذل العرب عن أفعال معتصم؟
المستعصم (باحثًأ عن مصدر الصوت): من .. من هناك؟ .. أين أنت؟.. أين أنت؟
(يظهر شبح أبيض كسا البياض شعره وثيابه، وعلى ثوبه تبدو بقعة سوداء)(37/57)
التاريخ: أنا التاريخ.. أنا تاريخكم المجيد.. أنا من سيحفظ لكم هذه المأساة وسيرويها للأجيال من بعدكم..
المستعصم: مأساة!! وأي مأساة؟
التاريخ: انظر إلى هذه البقع السوداء إنها مآسي الإسلام والمسلمين..وهنا.. ستكون مأساتكم.. (يشير إلى ثوبه).
المستعصم: مأساتنا؟
التاريخ: مأساة بغداد القادمة.. التي سيبتلعها الطوفان.. الطوفان القادم أيها الخليفة..
المستعصم (صارخا): لا .. بغداد.. دار السلام.. حاضرة الرشيد.. أرض الجمال.. ودار الجلال.. سليلة المجد.. وقرة العين.. أغنية الزمان... وحديث الركبان.. سيبتلعها الطوفان.. لا أكاد أصدق.. لا .. (يجثو على ركبه).
التاريخ: ابك مثل النساء ملكًا مضاعًا.. لم تحافظ عليه مثل الرجال.
المستعصم: وماذا أصنع أيها التاريخ وليس لدي من خيار..؟ لقد خذلني العرب والمسلمون.. سمحوا للعدوا أن يستخدم أرضهم لضربي.. حتى صاحب الموصل فعل ذلك خوفًا على نفسه.
(يدخل ابن العلقمي مسرعًا)
العلقمي: مولاي.. الموكب في انتظارك.. يا مولاي..
المستعصم: حسنًا هيا بنا.. (يخرجان).
(ترتفع أصوات الصراخ والاستغاثات، صليل السيوف والقهقهات الشيطانية)
التاريخ (قبالة الجمهور) : لقد بدأت المأساة.. سجل يا تاريخ.. واشهد يا زمن.. سجل مأساة إخواننا في بغداد واشهد يا زمن. (يخرج).
صوت:
حان الوداع يا بغداد قد نحرت
حان الوداع وعذر القوم أنهم
هذا الوداع فموتي خير عاصمة
رجولة القوم في ميدان منتقم
لا يقدرون على الأرماح والحمم
مذبوحة .. ربما ماتت بلا ألم
الخاتمة
نسأل الله حسنها في الأمر كله(37/58)
الحمد لله مذلل الصعاب، خالق البحر العباب، جعل التذكرة نافعة لأولي الألباب، والصلاة والسلام على خير البرية الذي عم نوره الأرض فأضاءها كالقمر لا كالشهاب، ونال من رحمته كل شيء حتى أمة الكلاب(1) وعلى كل الآل والأصحاب، صلاة وسلامًا تنال ثوابها إلى يوم فصل الخطاب.
وبعد،،
فهكذا مضينا في جولة مع التاريخ، نستقرأ أحداثه ونسجل شهادته، ونتتبع مسألة خيانة الشيعة الغالية؛ فوجدناها من الكثرة بحيث لا نستطيع إحصاءها، فضربنا أمثلة واقتطفنا من سجلات التاريخ قطوفا، وكيف نستطيع إحصاء خياناتهم والخيانة في دمائهم وعروقهم، وهي لهم كالماء والهواء، ففي كل يوم لهم خيانات، وما ذكرناه من أمثلة ليس إلا بعض ما ذاع أمره واشتهر خبره، وخرج من حيز السر إلى العلانية، وأما ما يتواصون بكتمانه فالله أعلم بكثرته.. وما كان هذا البحث إلا بمثانة نداء حتى لا يخدع – أو يبقى على خداعه – أحد من أهل السنة؛ وليعرف أن القوم هم سبب انتكاسات الأمة قديمًا وحديثًا في أكثر الأحسان، وليفيق من ينادي بالتقريب، وليعلم أن القوم لا يريدون من مؤتمرات الدعوة إلى التقريب إلا تقريب السنة إلى التشيع، ولعل من طريف ما يذكر أنه في مؤتمر التقريب المنعقد بالقاهرة في الفترة من 8-11 ربيع الأولى 1422هـ قام أحد علماء الشيعة وهو يتحدث عن التقريب فاقترح أن تنزع مصر الحد عن المذاهب الإسلامية التي تعتمد نفسه الأصول والمعتقدات(2)، بمعنى أن يقترح نشر المذهب الشيعي في مصر زعمًا بأنه لا يخالف المذاهب الأربعة السنية في الأصول – وهذا كذب – فالشاهد أن الأمر جد خطير وواضح في ذات الوقت، فأهدافهم من التقريب لا تعدو هدفين: الأول: تحذير أهل السنة وتنييمهم(3) . والثاني: تشييع
__________
(1) وفي الحديث عند البخاري ".. لولا أن تبيد أمة لأمرت بالكلاب فقتلت".
(2) مجلة منبر الإسلام (ص119، 120) عدد جمادى الأولى 1422هـ - أغسطس 2001م.
(3) وهذا وفق مبدأ التقية الذي يدينون به.(37/59)
أهل السنة.
وأظن أن بعد كل هذا لا يصح لأحد ممن يأخذون الأمور بالعاطفة لا بالعقل والحكمة والنظر في عواقب الأمور – أن يقول بإمكان التقارب مع من خانوا الله ورسوله، وانتهكوا حرمة الرعيل الأول – الذين نصر الله بهم الإسلام، وقدموا للدين والأمة خدمات جليلة لا ينكرها عليهم إلا جاحد – كيف التقارب مع من لم يرقبوا في المؤمنين إلا ولا ذمة، إن أَرضونا أرضونا بأفواههم، ولكن تأبي قلوبهم؟ كيف التقارب مع من تحالفوا مع شياطين الإنس والجن قديمًا وحديثًا لإذلال أهل السنة، وكم خسرت الأمة الإسلامية وانتكست بسبب غدر القوم وخيانتهم ولم يعد هناك وقت لما يسميه بعض سذج أهل السنة – (حسن الظن) فإننا أمام قوم يتربصون بنا الدوائر، وأظن حتى الذين يدعون إلى حسن النية وإحسان الظن بالشيعة لم يعد خافيا عليهم ضلالات القوم وخيانتهم، فليقرءوا عن أطماع الشيعة في بلاد الخليج، بل في بلاد الحجاز، بل في مصر على وجه الخصوص التي يرونها مهد الدولة الفاطمية التي أسهمت بأكبر نصيب في تحقيق أمجاد الشيعة، وجعلت دولة موحدة من المغرب إلى مصر.
وقد يقول قائل: إن هذا يعني الالتفات إلى خطر الشيعة الغالية والغفلة عن خطر الصليبية والصهيونية.. وغير ذلك؟
والجواب على هذا: لا.
لأن المسلم المفترض أنه كيس فطن، حذر متيقظ لكل ما يراد به، مستعد لكل جبهة، وقد يكون في آن واحد وكم خاضت الدولة الإسلامية قديمًا حروبًا فيها عدة جبهات متصلة في آن واحد فلم تشغلهم جبهة عن جبهة ولا عدو عن عدو.
وأخيرًا أذكر بأن هذا البحث البسيط ما كان إلا من باب ما قاله الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله - :
"الكلام في أهل البدع أحب إلي من بعض النوافل" فكشفهم وفضحهم حتى لا يغرروا بالمسلمين هو بإذن الله من القرب.
ومن قبيل ما حكاه الإمام البزار عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال:(37/60)
"ولقد أكثر رحمه الله من التصنيف في الأصول فسألته عن سبب ذلك، والتمست منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته؛ ليكون عمدة في الإفتاء، فقال لي ما معناه:
"الفروع أمرها قريب ومن قلد المسلم فيها أحد العلماء المقلدين جاز له العمل ما لم يتيقن خطأه.
وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء.. قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال وبان لي أن كثيرًا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المحمدية الظاهرة العلية على كل دين.. فلما رأيت الأمر كذلك بان لي أنه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم وقطع حججهم وأباطيلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم ويزيف دلائهم ذبًا عن الملة الحنيفة والسنة الصحيحة الجليلة"(1).
والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به كل المسلمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.
كتبه الفقير إلى عفو الرحمن
عماد علي عبد السميع حسين
غفر الله له ولوالديه والمسلمين
21جمادى الآخر 1424هـ
19/8/2003
__________
(1) الحافظ عمر بن علي البزار: الأعلام العليا في مناقب ابن تيمية (ص35، 36) ط المكتب الإسلامي – بيروت 1396هـ .(37/61)
رجال الشيعة في الميزان
عبدالرحمن الزرعي
السنة عند الرافضة وأهل السنة :
هي عندنا ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من فعل أو قول أو تقرير فلا معصوم بعد النبي عندنا. أما الشيعة فيرون أنها ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم والاثني عشر إماما يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليهم وأنهم معصومون لا ينطقون عن الهوى وقد في كتاب ( الكافي ) أن هؤلاء الأئمة يعلمون جميع العلوم التي ؟إلى الملائكة والأنبياء والرسل ، وباب أن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنم لا يموتون إلا باختيارهم وباب إن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وانه لا يخفى عليهم شئ و باب إن الأئمة يعرفون جميع الكتب على اختلاف ألسنتها وغير ذلك من الأمور والمعتقدات التي تتنافى مع الإسلام وتعاليمه ولكي تتضح لك عقيدتهم في أئمتهم ننقل لك قول أحد جهابذتهم وهو الشيخ محمد رضا المظفر الذي يقول : (اعتقد إن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوما ً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سن الطفولة إلى الموت عمدا ً أو سهوا ً كما يجب أن يكون معصوما ً من السهو والخطأ والنسيان 00)
ويقول محمد رضا المظفر :
( أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات عن طريق النبي أو الإمام من قبله وإذا استجد شئ لابد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها الله فيه فإن توجه إلى شئ وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقي لا يخطئ فيه ولا يشتبه ولا يحتاج في كل ذلك إلى البراهين العقلية ولا إلى تلقينات المعلمين وإن كان علمه قابلا للزيادة والنقصان ).
ويتحفني هذا الشيعي الامامي الاثنا عشري بقوله :(38/1)
( إن قوة الإلهام عند الإمام التي تسمى بالقوة القدسية يبلغ الكما في أعلى درجاته فيكون في صفاء نفسه القدسية على استعداد لتلقي المعلومات في كل وقت وفي كل حالة فمتى توجه إلى شئ من الأشياء أراد معرفته استطاع علمه بتلك القوة القدسية الالهاميه بلا توقف ولا ترتيب مقدمات ولا تلقين معلم وتتجلى في نفسه المعلومات كما تتجلى المرئيات في المرآة الصافية 000) .
بل ذهب الرافضة إلى أضل من هذا الضلال فقد أخرج ثقتهم في الحديث محمد بن يعقوب الكليني في الأصول من الكافي (ج 1 ص 196 الطبعة الرابعة ) عن أبي عبد الله عليه السلام قال :( ما جاء به علي عليه السلام آخذ به وما نهى عنه انتهي عنه .) .
وأخرج الكليني في الأصول من الكافي ( ج1 ص197 ) عن أبي عبد الله عليه السام قال : يا سليمان ما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام يؤخذ به وما نهى عنه ينتهى عنه000 وقال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : أنا قسيم الله بين الجنة والنار وأنا الفاروق الأكبر وأنا صاحب الحصاد الميسم ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح بمثل ما أقرت لمحمد صلى الله عليه وآله 000) .
ثم جاء شيخهم محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد فاخرج لهم روايات مفادها أن الله ناجى عليا والعياذ بالله .
ومن هذا كله يتضح لك جليا ً أن لأئمتهم حق التشريع فما نسبوه لهم من روايات لها حكم نصوص الكتاب والسنة لعصمتهم عند الشيعة .
فتصل بهذا إلى أن التشيع يتصادم مع قوله عز وجل :( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) .(38/2)
فالقوة القدسية التي تجعل إمامهم على استعداد لتلقي المعلومات ما هي إلا من اختلاق العقلية الشيعية عقلية التعصب والخرافات والسخافات فأحكام الدين قد اكتملت بنص القرآن فمن ادعى بأن هناك أحكاما سيأتي بها من ولد بعد هذه الآية بسنين كما يدعون في أئمتهم فقد أدخل في دين الإسلام ما ليس منه وخالف ما علم بالضرورة عند المسلمين .
أما العصمة التي يدعون فباطلة من وجهين :
(الأول) : بطلان بآية التطهير لدخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بصريح هذه الآية .
فإن احتجوا بحديث الكساء فجوابنا : إن حديث الكساء شمل ثلاثة من الإثني عشر المعصومين فما دليلكم على شمول باقي الاثني عشر ؟ وما الذي يمنع دخول آل جعفر ؟ وآل عقيل ؟ وآل عباس؟ .
( وعلى قول بأنها منحصرة في الخمسة كيف تتعداهم إلى غيرهم من باقي الاثني عشر ؟ولماذا لم تشمل أئمة الزيدية مثلا ؟ أو الإسماعيلية أو باقي فرق الشيعة التي تجاوزت السبعين ؟ ) وهل لديكم دليل في ان الآية تشمل الخمسة (أي النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم )وباقي أثني عشركم دون غيرهم ؟ هذا السؤال لم ولن يستطيعوا إجابته إلى يوم يبعثون .
( الثاني) : واقع الأئمة ينفي عصمتهم ونحن هنا نلزمهم بما جاء في مراجعهم وكتبهم الموثوقة فهذا ثقتهم محمد بن يعقوب الكليني يروي في الأصول من الكافي ( ج1 ص65 ) بسنده عن زراره بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال ـ أي زراره ـ : سألته عن مسألة فأجابني ثم جاء رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ثم جاء رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف وأجاب صاحبي فلما خرج الرجلان قلت : يا بن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت صاحبه فقال : يا زراره هذا خير لنا ولكم ) .(38/3)
وأخرج في الأصول من الكافي (ج1 ص 65 ) بسنده عن منصور بن حازم قال : قلت لابي عبد الله عليه السلام : ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني منها بالجواب ثم يجيئك غيري فتجيبه عنها بجواب آخر ؟ فقال : إنما نجيب الناس على الزيادة والنقصان .
واخرج : في الفروع من الكافي ( ج 6 ص 207 ـ 208 ) من طريقين عن ابان بن تغلب والحلبي واللفظ الأول قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : كان أبي يقول يفتي في ومن بني أمية ان ما قتل البازي والصقر فهو حلال وكان يتقيهم وأنا لا أتقيهم وهو حرام ما قتل ).
أقول : اين هذا من رواية الكليني في الأصول من الكافي ( ج 2 ص373 )عن الباقر نفسه (الذي أحله زمن الأمويين ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من أرضى سلطانا لسخط الله خرج من دين الله ) . روت الشيعة أيضا قال أبو عبد الله عليه السلام : لا تسجد إلا على الأرض أو ما أنبتته الأرض إلا القطن والكتان .
ثم نجدهم يروون عن الحسين بن علي بن كيسان أنه قال :كتبت إلى أبي الحسن الثالث أسأل عن السجود على القطن والكتان من غير تقية ولا ضرورة فكتب إلي : ذلك جائز .
أقول : ولم يستطيعوا إسقاط إحدى الروايتين ومذهب الشيعة اليوم لا يجيز السجود على القطن ولا الكتان مع إن الرواية الثانية التي تبيحه جاءت من طريقين مع انهم رووا وأيضا عن الصادق انه قال :( السجود على الأرض فريضة و على غير ذلك سنة ) .
ورووا عن ياسر الخادم انه قال : مر بي أبو الحين عليه السلام وأنا أصلي على الطبري وقد ألقيت عليه أسجد عليه فقال لي :( مالك لا تسجد عليه أليس هو من نبات الأرض) .
أن مذهبهم أسس على الخرافات والتناقضات والأكاذيب والأباطيل والأهواء والمكائد للإسلام وأهله .
هذه هي عصمة أئمتهم التي يدعون أهل السنة للاعتقاد بها وبهذه السخافات يباهلون أهل السنة وينادون أهل السنة للاعتراف بمذهبهم .(38/4)
روى ثقتهم الكليني في الفروع من الكافي ( ج7 ص 87- 88 ) بسنده عن عبد الله بن محرز قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى إلي وهلك وترك أبنه فقال : ( أعط الابنة النصف واترك للموالي النصف فرجعت فقال أصحابنا قالوا ليس للموالي شئ و إنما اتقاك فقال : لا والله ما اتقيتك ولكني خفت عليك أن تؤخذ بالنصف فان كنت لا تخاف فادفع النصف الآخر إلى الابنة فإن الله سيؤدي عنك ) وأخرج في الفروع في الكافي (ج 7 ص 86 ) من طريق سلمه بن محرز قصة مشابهة لهذه الحادثة .
وأخرج أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي في فرق الشيعة ( ص52 طبع سنة 1931 ) (عن عمر بن رباح انه سأل جعفر عليه السلام عن مسألة فأجابه فيها بجواب ثم عاد إليه في عام آخر فسأله عن تلك المسألة بعينها فأجابه فيها بخلاف الجواب الأول فقال لأبي جعفر : هذا خلاف ما أجبتني في هذه المسألة العام الماضي فقال له :إن جوابنا خرج على التقية فشكك في أمره وإمامته فلقي رجلا من أصحاب أبي جعفر يقال له محمد بن قيس فقال له : إني سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني فيها بجواب ثم سألته عنها في عام آخر فأجابني فيها بخلاف جوابه الأول فقلت له : لم فعلت ذلك ؟ فقال فعلته للتقية وقد علم الله إني ما سألته عنها إلا وأنا صحيح العزم على التدين بما يفتيني به وقبوله في العمل به فال وجه لاتقائه إياي وهذه حالي فقال له محمد بن قيس : فلعله حضرك من اتقاه فقال ما حضر مجلسه في واحدة من المسألتين غيري ولكن جوابيه جميعا خرجا على وجه التخبت ولم يحفظ ما أجابه في العام الماضي فيجيب بمثله فرجع عن إمامته وقال : لا يكون إمامي من يفتي بالباطل000) .(38/5)
نخرج من هذا النقاش إلى بطلان عصمت غير الأنبياء فلا معصوم في هذه الأمة غير نبيها المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم الذي نص الكتاب على عصمته بقوله عز وجل :( وما ينطق عن الهوى إن هو ألا وحي يوحى 00 الآية) فمن ادعى غير ذلك فقد ضل وأضل وأدخل
في الإسلام ما ليس فيه .
كتب الحديث عن الشيعة
لهم في الحديث والفقه كتب مهمة جدا هي :
(1) الكافي تأليف محمد بن يعقوب الكليني :
قال فيه محمد صادق الصدر : ( أول الكتب الأربعة تأليفا ومؤلفه ثقة الإسلام حمد بن يعقوب بن اسحق الكليني أكثر علماء الامامية في عصره 000) .
وقال فيه: (00 ويحكى ان الكافي عرض على المهدي ع فقال عنه كاف لشيعتنا 000)
ثم يمدح الكتاب فيقول : ( 000ويعتبر كتابه هذا عند الشيعة أوثق الكتب الأربعة لذكره تمام سلسلة السند بينه وبين المعصوم مما لم يجد نظيره في الكتب الأخرى ) .
ويقول عبد الحسين شرف الموسوي عن الكتب الأربعة :
(هي الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه وهي متواترة ومضامينها مقطوع بصحتها والكافي أقدمها وأعظمها وأحسنها وأتقنها )
(2) من لا يحضره الفقيه :
لشيخهم أبي جعفر الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي المتوفي سنة 381 هـ قال السيد محمد صادق الصدر : هذا المصدر الثاني للشيعة ثم أثنى على مؤلفه بقوله : ( 000 لقد بلغ شيخنا الصدوق في عصره منزلة سامية دونها كل منزلة وكان أول من لقب بالصدوق حتى صار له من الألقاب الخاصة يتبادر منه عند الإطلاق وقد اكتسب هذا اللقب لمزيد تثبته في الرواية وشدة حفظه وضبطه 000) .
(3) التهذيب :
لشيخ طائفتهم أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي المتوفي سنة 460 هـ وهذا الكتاب هو المصدر الثالث للشيعة قالوا عن هذا الكتاب : ( 000 إنه كاف للفقيه فيما يبتغيه من روايات الأحكام عمن سواه في الغالب ولا يغني عنه غيره ) .
(4) الاستبصار :
للطوسي أيضا وهو رابع كتبهم .(38/6)
وعن الكتب الأربعة قال السيد محمد صادق الصدر :
(والذي يجدر بالمطالعة أن يقف عليه هو إن الشيعة وإن كانت مجمعة على اعتبار الكتب الأربعة وقائله بصحة كل ما فيها من روايات غير إنها لا تطلق عليها اسم الصحاح كما فعل ذلك إخوانهم أهل السنة إذ إن الصحيح عندهم باصطلاح أهل الحديث ما كان سلسلة رجال الحديث كلهم إماميون وعدول ومع هذا اللحاظ لا يمكننا أن نعبر عن الكتب الأربعة بالصحاح لأن فيها الصحيح وفيها الحسن وفيها الموثق ) .
من قول هذا الشيعي نلاحظ :
(1) إن هذه الكتب خالية عندهم من الضعيف والموضوع بدليل ان أحاديثها تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي الصحيح والحسن والموثق على حد قول الصدر .
(2) أن الشيعة أهل أهواء ونزعات خبيثة فان رأوا حديثا صحيحا رواته أماميون ومخالفا لأهوائهم حملوه على التقية .
وإن رأوا حديثا آخر موثقا ومخالفا لمذهبهم قالوا :إن رواته من العامة وان كان موثقا وموافقا لأهوائهم أخذوا به .
(3) إن الكافي الذي يرون انه أوثق كتبهم وأتقنها وأحسنها محشو بالروايات التي تفيد وقوع التحريف في القرآن وكذلك الروايات التي تغلو الأئمة .
ولهم كتب أخرى لا تقل أهمية عن الكتب الأربعة منها :
عيون الأخبار - معاني الأخبار- إكمال الدين - الخصال - الأمالي - التوحيد - ثواب الأعمال – عقاب الأعمال - علل الشرايع . وكلها للصدوق صاحب من لا يحضره الفقيه . بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار – الإرشاد – الاختصاص - أوائل المقالات – كلها لشيخهم محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد .
المجالس والأخبار لشيخ الطائفة الطوسي ولهم كتب شاملة للكتب الأربعة ككتاب ( الوافي ) لمحسن الفيض الفيض الكاشاني شمل أربعة الكتب .
(وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشيعة ) لمحمد بن الحسن الحر العاملي يشمل الكتب الأربعة وغيرها .(38/7)
(مستدرك الوسائل ) لمحمد تقي النوري الطبرسي صاحب كتاب ( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب).
الجرح والتعديل عندهم
لهم في هذا العلم كتب تترجم لرجالهم من الرواة وهم أقصر باعا وأقل علما من أهل السنة في هذا المجال بل أنهم أقل من أن يقاسوا بأهل السنة في هذا العلم .
وأهم كتبه عندهم :
(1) كتاب الرجال لثقتهم وجليلهم أبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي ويعرف هذا الكتاب برجال الكشي والموجود من هذا الكتاب ليس الأصل فالموجود هو ما أختاره الطوسي من أصل هذا الكتاب وسماه اختيار معرفة الرجال .
وعلى كل فأن هذا أهم وأقدم كتبهم في الجرح والتعديل وعمدتها في هذا العلم الناقص المضطرب عندهم و مؤلفه قالوا فيه : إنه ثقة عين بصير بالأخبار والرجال حسن الاعتقاد .
(2) كتاب الرجال للثقة المعتمد – عندهم - أحمد بن محمد بن علي النجاشي ويعرف برجال النجاشي وبقول النجاشي عند التعارض مرجح على من سواه .
(3) كتاب الرجال لشيخ طائفتهم محمد بن الحسن الطوسي ويعرف برجال الطوسي .
(4) الفهرست للطوسي أيضا .
وهناك كتابان مهمان :
( الأول ) الرجال للأبي جعفر أحمد بن أبي عبد الله البرقي .
(الثاني ) الضعفاء لأحمد بن الحسين بن عبيد الله الغضائري وهذا الكتاب وضع أكثر ثقاتهم في قفص الاتهام ووصمهم بالكذب تارة والوضع والغلو تارة أخرى فأخذوا يشككون في نسبة هذا الكتاب إلى صاحبه ومع هذا : يأخذون توثيقه اذا وثق من يرضونه ويرفضون طعنه فيمن لا يستحق الطعن عندهم .
ينقسم الحديث عندهم إلى أربعة أقسام :
(1) الصحيح : و هو ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات .
(2) الحسن : وهو ما أتصل سنده إلى المعصوم بإمامي ممدوح مدحا مقبولا معتدا به .
وتثبت الوثاقة والحسن عندهم بأمور أربعة :
( ا ) نص أحد المعصومين .(38/8)
( ب ) نص أحد أعلامهم المتقدمين كالبرقي وابن قولوية والكشي والصدوق والمفيد والنجاشي وأحزابهم .
( ج ) أن ينص أحد أعلامهم المتأخرين كشيخهم منتجب الدين وابن شهر آشوب .
( د ) دعوى الإجماع من قبل الأقدمين .
(3) الموثق : وهو على ما ذكر المامقاني ما أتصل سنده إلى المعصوم ممن نص الأصحاب على توثيقه مع فساد عقيدته بأن كان من أحد الفرق المخالفة للإمامية وإن كان من الشيعة مع تحقق ذلك في جميع رواة طريقه أو بعضهم مع كون الباقين من رجال الصحيح .
(4) الضعيف : وهو عندهم ما لم تجتمع فيه شروط أحد الأقسام السابقة بأن أشتمل طريقه على مجروح بالفسق ونحوه أو على مجهول الحال أو ما دون ذلك كالوضاع .
نعود إلى كتب الرجال عندهم فنقول إن لهم كتبا متأخرة شملت الكتب الرجالية القديمة عندهم مثل ( تنقيح المقال ) للشيخ عبد الله المامقاني وهو أكمل وأتم كتبهم في التراجم . (مجمع الرجال ) للمولى زكي الدين القهباني وهو يشمل كتب التراجم الأربعة إضافة إلى كتاب الضعفاء للغضائري .
( قاموس الرجال ) لحمد تقي التستري و(جامع الرواة ) لمحمد علي الأردبيلي (معجم رجال الحديث )لأبي القاسم الخوئي .
لقد تبين لي بعد البحث والتنقيب أن الرافضة بحق أكذب الطوائف المنتسبة إلأى الإسلام وقد أكد علماؤهم المتأخرون هذه الحقيقة أي تعمدهم الكذب والتضلي فمن ضمن كتبهم الكثيرة التي سقطت في يدي كتاب بعنوان (نقض الصواعق المحرقة )تأليف أمير محمد كاظم القزويني قال هذا المؤلف : ( وقت تواترت عنه ص انه قال للحسين :هذا إمام ابن إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم 000)وبعد أن أورد الحديث قال ص 154 الطبعة الثانية من الكتاب المذكور : ( وقد أعترف ابن تيمية في ص 210 من منهاجه من جزئه الرابع بصحته وتواتره 00) .(38/9)
ونحن نقول : إن هذا القول من أعظم الكذب والافتراء على الله ورسوله فابن تيميه لم يعترف بصحة هذا الحديث بل حكم بوضعه وانه مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي منهاج السنة ج4 ص210 رد هذا الحديث من أثني عشر وجها فعندما زعم ابن المطهر الرافضي ان الشيعة توارثت هذا الحديث في البلاد المتباعدة خلفا عن سلف رد عليه ابن تيمية رحمه الله بقوله : ( أهل السنة وعلماؤهم أضعاف أضعاف الشيعة كلهم يعلمون أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم علما يقينا لا يخالطه الريب ويباهلون الشيعة على ذلك 000) .
هذا هو حكم ابن تيمية على هذا الحديث بأنه كذب على رسول الله صلة الله عليه وسلم فأين اعتراف ابن تيميه الذي يدعيه هذا الرافضي أين ؟!! .
و كذب الشيعة وضلالهم وتدليسهم أكثر من أن يحصى فقد وقعت بيدي رسالة بعنوان ( المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء )لعبد الحجسين شرف الموسوي الرافضي لجأ فيها إلى المراوغة والتضليل وكتم الحقيقة فقد أورد (ص12) ما رواه ابن ماجه عن طريق أبي اسحاق عن أبي حية قال : رأيت عليا توضأ فغسل قدميه إلى الكعبين ثم قال : أردت أن أريكم طهور نبيكم صلى الله عليه وسلم ونقل الرافضي قول السندي ( هذا رد بليغ على الشيعة القائلين بالمسح على الرجلين حيث الغسل من رواية علي ) ثم تعقبه الرافضي بقوله : (هذا كلامه بلفظه عفا الله عنه أما الإمام ابن ماجه وسائر علماء الجمهور فأنهم يعلمون سقوط هذا الحديث بسقوط سنده من عدة جهات :
(1) إن إباحية راوي هذا الحديث نكره من أبهم النكرات وقد أورده الذهبي في الكني من ميزانه فنص على انه لا يعرف 000
(2) إن هذا الحديث تفرد به أبو اسحاق وقد شاخ ونسى وأختلط 00) .
تحقيق الحديث و بيان صحته :(38/10)
(1) عن أبي حية قال : رأيت عليا توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما ثم تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ذراعيه ثلاثا ومسح رأسه مرة ثم غسل رجليه إلى الكعبين الحديث أخرجه الترمذي عن هناد و قتيبة كلاهما عن الأحوص عن أبي اسحق به (1– 37) وأبو داود وأبو توبة الربيع بن نافع وعمرو بن عون ثلاثتهم عن أبي الأحوص عن أبي اسحق عنه به (1 – 43) وأخرجه النسائي عن قتيبه عنه به (1 – 70 ) وعن محمد بن آدم عن يحيى بن زكريا عن أبي زائدة عن أبيه وغيره عن أبي اسحق وذكر الحافظ رحمه الله تعالى إن البزاز أخرجه أيضا ولفظه ثم أدخل يده في الإناء فملأ فمه فمضمض ثم استنشق ونثر بيده اليسرى ثلاث مرات تلخيص الجيد (1 – 90) قال الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح (الترمذي تحقيق أحمد شاكر ) .
(2) عن زر بن حبيش : انه سمع عليا سئل عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث وهو قريب من لفظ الحديث السابق إلا انه قال فيه ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله اليسرى ثلاثا أخرجه أبو داود من حديث عثمان أبي شيبة ثنا أبو نعيم ربيعة الكناني عن المنهال بن عمرو عنه به (1- 43 ) قال ابن القطان : لا أعلم لهذا الحديث علة ( عون المعبود 1- 43) .(38/11)
(3) عن عبد خير عن علي أتى بإناء فيه ماء وطست فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يديه ثلاثا ثم تمضمض ونثر من الكف يأخذ فيه ثم غسل وجهه ثلاثا وغسل يده اليمنى ثلاثا وغسل يده الشمال ثلاثا ثم مسح برأسه مرة ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله الشمال ثلاثا أخرجه أبو داود في الطهارة (1- 42 ) عن مسدد عن أبي عوانه عن الحلواني عن أبن علي عن زائدة كلاهما عن خالد بن علقمة عنه به وعن محمد بن المثنى (1- 40 ) عن محمد بن جعفر عن شعبة عن خالد بن عرفطه عنه نحوه وقد جعل أبو داود رواية شعبة عن مالك بن عرفطه وَهْما وقال انما هو مالك بن علقمة وقد رد هذا الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي وبين انها روايتان وأخرجه الترمذي عن قتيبة وهناد وكلاهما عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عبد خير نحوه (1- 35 ) وأخرجه النسائي عن قتيبة عن أبي عوانه عن خالد بن علقمه به (1- 68 ) وأخرج الحديث أيضا البزاز وابن حبان قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حديث صحيح ( جامع الأصول 7- 154 ) وقال الأعظمي في تعليقه على صحيح ابن خزيمة اسناده صحيح (1- 76 ) .
(4) قال ابن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي اسحاق عن الحارث عن علي غسل القدمين إلى الكعبين فيه نظر للكلام في الحارث الأعور .
وبهذا يتبين لك خبث هذا الرافضي في تصديه لرد رواية علي في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وأنه غسل قدميه .(38/12)
ومما يزيدنا يقينا بثبوت هذا عن علي رضي الله عنه أن الشيعة أنفسهم رووه عن علي فقد أخرج ثقتهم أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفقي الكوفي المتوفي سنة 283 بسنده عن عبابه أن عليا عليه السلام كتب إلى محمد بن أبي بكر وأهل مصر000( ثم الوضوء فإنه من تمام الصلاة اغسل كفيك ثلاث مرات وتمضمض ثلاث مرات وأستنشق ثلاث مرات وأغسل وجهك ثلاث مرات ثم يدك اليمنى ثلاث مرات إلى المرفق ثم يدك الشمال ثلاث مرات إلى المرفق ثم امسح رأسك ثم أغسل رجلك اليمنى ثلاث مرات ثم أغسل رجلك اليسرى ثلاث مرات فأني رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم هكذا كان يتوضأ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوضوء نصف الإيمان ) هكذا كان الإمام علي رضي الله عنه يعلم أتباعه الوضوء .
وأخرج شيخ طائفة الشيعة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي بسند عن علي عليه السلام قال : جلست أتوضأ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله حين ابتدأت في الوضوء فقال لي : تمضمض واستنشق وأسنن ثم أغسل ثلاثا فقال : قد يجزيك من ذلك المرتان فغسلت ذراعي ومسحت برأسي مرتين فقال : قد يجزيك من ذلك المرة وغسلت قدمي فقال لي : يا علي خلل بين أصابعك لا تخلل بالنار ) .
هذه الطرق عن علي لا تعرف أبا حيه ولا أبا اسحاق ولا أبا الأحوص ولا زهير بن معاوية فكيف يوهم هذا التقي الكذاب القراء بوقف هذا الحديث على رواية أبي حية .
ثم إن ابن السكن وغيره صحح هذا الحديث عن علي رضي الله عنه كما في المصدر الذي ذكره هذا التقي وهو الكنى من ميزان الاعتدال ليس اعتمادا على طريق أبي حيه ومع هذا لم يشر إليه هذا الشيعي متعمدا التضليل و أما الأمام جعفر الصادق فقد رُوي عنه في هذا الخصوص ما يلي :(38/13)
روى ثقة الشيعة في الحديث محمد بن يعقوب الكليني بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ( إذا نسيت فغسلت ذراعك قبل وجهك فاعد غسل وجهك ثم أغسل ذراعك بعد الوجه فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فاعد غسل الأيمن ثم أغسل اليسار وإن نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك ) .
وروى شيخ طائفتهم الطوسي عن أبي عبد الله عليه السلام : ( في الرجل يتوضأ الوضوء كله إلا رجليه ثم يخوض الماء بهما خوضا قال : أجزأه ذلك ) وخوض الماء هو الغسل لا المسح .
وقد أحتج الشيخ الألوسي البغدادي في مختصر التحفة الأثني عشرية باحاديث غسل الأرجل التي وردت من طرق الشيعة فتعقبه أحد علمائهم وهو السيد أمير محمد كاظم القزويني وأنكر وجود مثل هذه الروايات في مصادر الشيعة قائلا : ( متى روى الشيعة ذلك وأين روته وفي أي كتاب سطرته ومن هم الناقلون له 000) .
فهذا يدل على كذب علمائهم وعدم أمانتهم فهذه هي الكتب والمصادر التي سطرت غسل الأرجل من طرقهم .
وهذا الإمام موسى الكاظم أيضا :
روى المفيد بن علي بن يقطين إنه كتب إلى أبي الحسن موسى الكاظم : ( جعلت فداك ‘ن أصحابنا اختلفوا في مسح الأرجل فأن رأيت أن تكتب إلي بخطك ما يكون عملي عليه فعلت إن شاء الله فكتب إلي أبي الحسن ع : ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثا وتستنشق ثلاثا وتغسل وجهك ثلاثا وتخلل بشعر لحيتك وتغسل يدك من أصابعك إلى المرفقين(38/14)
رفض الصلح
الالتقاء بين الخمينية والصهيونية لتضعيف الامة العربية .
الخروج على نص القرآن الكريم .
التناقض في القول والعمل .
احياء الغوبلزية .
احمد الخميني : نحارب العراق لان الحكومة العراقية قالت لابي : اما السكوت واما الخروج .
فلسفة الخميني : البقاء في الحكم باي ثمن .
(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34))
رفض الصلح
لماذا يرفض الخميني الصلح الذي اقترحه العراق مرات ومرات ، واقترحته اللجان الساعية لاحلال السلام بين البلدين والجارين المسلمين اكثر من مرة ؟ والصلح لا يرفضه عاقل مسلم . والقرآن الكريم يقول " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " (سورة الحجرات الاية 9) .(39/1)
وهذه الاية الكريمة التي لاياتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفه صريحة واضحة في ان واجب المتخاصمين من ابناء الامة الاسلامية هو الركون للصلح ولم تحدد الاية الكريمة المتعدي والمتعدى عليه حتى يتعذر احد المتحاربين بعدم الصلح كما هي الحالة في منطق الخميني . ان رفض الصلح خروج على نص القرآن الكريم ، وليت شعري ان اعرف كيف يدعي نظام انه ينبع من روح الاسلام وهو يناقض ما امر به ، ان من اغرب الغرائب في العقلية الخمينية المتناقضة التي ابتلي الشعب الايراني بها هو ان الرجل الذي اعلن للصحافة وهو على متن الطائرة التي اقلته إلى ايران بعد 15سنة من الغياب عنها (انه لايحس باي شعور تجاه الوطن الذي كان بعيدا عنه واليوم يعود اليه ) ، وانه القائل ( ان الوطنية ليست من الاسلام بشيء ) يعود اليوم ليتحدث عن الوطن والحدود والتراب الذي يرى حبه مغايرا للروح الاسلامية والذي لم يشعر نحوه بحنان وحب حتى بعد الغياب عنها خمسة عشر عاما .
ان هذا التناقض في القول والعمل امر مألوف في قاموس الخميني والخمينية وسنشير اليها في فصل خاص به .
اذن رفض الصلح له اسباب كثيرة منها نفس الاسباب التي ادت إلى الحرب وهي الاحقاد التي اشعلت نار الحرب وفصلنا في محلها . وهناك سبب آخر وهو ان الخميني والزمرة الحاكمة يعلمون جيدا انهم سينتهون بانتهاء الحرب ، فانهم يعلمون جيدا انهم لا ولن يستطيعوا تنفيذ الوعود التي اغروا الشعب بها ، بل ان وضع الشعب وصل إلى مرحلة من البؤس لم يكن لها نظير من قبل ووصلت البلاد إلى حافة الانهيار .
ان الذريعة الوحيدة التي يتذرع بها الخميني في استمرار هذا الوضع الشاذ هي الحرب فكل نكسة وراءها الحرب .
وكل كارثة اقتصادية وراءها الحرب .
وكل فشل يصيب الدولة في اناء الليل واطراف النهار سببها الحرب .(39/2)
اذن ذريعة الحرب فرصة العمر بالنسبة للخميني وزمرته ، وتفويت هذه الفرصة تفريط بحياتهم وبقائهم على سدة الحكم ، وعلينا ان لاننسى ايضا ان اجهزة الاعلام الخمينية والخميني نفسه لم يعترفوا حتى الان بالهزيمة التي الحقها العراق بهم ، فالحكومة الخمينية بنت سياستها على نهج غوبلز وزير الدعاية النازي ابان الحرب الكونية الثانية الذي يقول ( اكذب ، اكذب ، اكذب حتى يصدقك الناس ) فكذبت وتكذب وستكذب ماشاءت إلى الكذب سبيلا . ومن هنا نرى بوضوح ان البلاغات التي تصدرها وزارة الدفاع الخمينية وحرس الثورة عن سير القتال انها بلاغات صنعت بذكاء مفرط لاغفال الشعب ، فهم يتحدقون عن النصر في هامش عبادان وعلى مرتفعات سربيل زهاب وعلى ابواب ديزفول وفي قلب خرمشهر وهذه كلها ارض ايرانية ، ولاول مرة يستعمل في القاموس الحربي كلمة النصر عوضا من كلمة المواجهة لايهام الشعب المسكين بالنصر ، ثم هناك ما هو اخطر من هذا بكثير ان البلاغات التسعمائة التي اصدرتها منذ نشوب الحرب حتى الان وزارة الدفاع الخمينية اذا جمعت الارقام المعلنة عن عدد القتلى والسلاح والعتاد الذي دمر من الجانب العراقي فستكون الارقام مدهشة ومضحكة في آن واحد.
ان عدد القتلى من الجنود والعراقيين في مجموع هذه البلاغات حسب زعمها يتجاوز مليون وسبعمائة الف قتيل ، وهذا العدد من الجنود يزيد على ما لدى الحلف الاطلسي والناتو ووارسو ومجموع الدول العربية ، اما عدد الطائرات التي اسقطت حسب البلاغات المزعومة فهو يتجاوز الف وثمانمائة طائرة ، أي اكثر من مجموع الطائرات الحربية التي تملكها بريطانيا وفرنسا .
اما عدد الدبابات التي دمرتها فهي تتجاوز تسعة الاف دبابة ، أي اكثر من مجموع الدبابات التي تملكها الدول الاوربية والاتحاد السوفياتي مجتمعة .(39/3)
اما عدد المزنجرات وسائر انواع العتاد التي دمرت حسب زعمها فانها تتجاوز الخمسين الف مجنزرة وناقلة جنود وشاحنات ، أي عددا يتجاوز كل ما لدى الدول العربية والهند وباكستان . بهذه الارقام الخيالية والوهمية يستمر الخيمني في حربه مع العراق ، فهو لا يستطيع الصلح فالغالب لايصالح بل يذهب حتى نهاية المطاف . ثم هناك شيء اخطر من كل الملاحظات التي اشرنا اليها وهو انه باعتقادي ويقيني ان السياسة العالمية الاستعمارية الكبرى والتي تريد دوما ان تجعل من هذه المنطقة الحساسة من العالم موضع اضطراب وعدم استقرار لن ترغب ابدا في ان يحل السلام في هذه المنطقة الحساسة كما هي الحالة في لبنان ، وحكام ايران الذين اعرفهم بسيرتهم البشعة وصورتهم الابشع لا يتورعون من افناء شعب وبلاد بكاملها اذا ما اقتضت مصالحهم الشخصية وهي البقاء على كرسي الحكم ، فانى كان للخميني القابع في زاوية من زوايا النجف الاشرف او المنتظري والرفسنجاني والخامنة اى والكنى ومحمدي كيلاني وغيرهم من الزمرة الخمينية تسييس البلاد باسم الامام ونائب الامام ورئيس الجمهورية ومجلس الشورى وغيرها من المناصب السامية التي اقترفوا لغصبها ما تقشعر من سماعها الابدان .
وهم الذين الحقوا بايران من الدمار والفناء ما لايمكن تداركه في مائة عام ومن الاموال 500الف مليون دولار ، ان قوما كهؤلاء هل يتورعون من التعاون مع القوى الاستعمارية في سبيل بقائهم على كرسي الحكم ؟ كلا ثم كلا .(39/4)
ان هذا اوضح من الشمس في رائعة النهار وال كيف تفسر ان الجمهورية الاسلامية الايرانية التي تدعي انها الدولة الاسلامية الوحيدة في العالم وهي تصافح الاياد الملطخة بدماء المسلمين في افغانستان ، وتتعاون مع البلاد الشيوعية التي تقول فلسفتها : ان الدين افيون الشعوب وتستورد الاسلحة من اسرائيل لقتل الجار المسلم وتستخدم المستشارين العسكريين من كوريا الشمالية لتغير بطائرتها على اراضي الاسلام وتدمرها بالقنابل المحرقة . ان هذه الشرذمة من الناس لا ولن يانفوا القيام باي عمل اجرامي مهما كان نوعه لارضاء سيدهم الذي يحميهم ، واذا كانت من سخريات القدر ان تذل الامة الايرانية حتى يسودها اوباش اجلاف كهؤلاء ، فان الجلف الجاف عندما يجد ضالته المنشودة فلا ولن يضيعها حتى بحد السيف ومن دونها خرط القتاد .
ان من اغرب الغرائب في تاريخ الحروب هو هذه الحرب التي يشنها قوم ضد بلد يقدسون ترابها ويسجدون عليها في صلواتهم الخمسة اليومية . ان الجندي الذي اغفله الخميني والشعوذة الحاكمة في ايران لقصف العراق ومدنه يحمل معه دوما قطعة من تراب ذلك العراق ( كربلاء ) وهو يسجد عليها في كل صلاة ويقبلها ويتبرك بها ويستشفي بها ، واعظم امنية له في الحياة هي زيارة صاحب تلك التربة الطاهرة المقدسة حسين بن علي بن ابي طالب عليهما السلام .(39/5)
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ، كيف يحارب الجنود الايرانيون في جبهات القتال ……؟ والجواب هنا اثبته للتاريخ ، ان الجنود المتواجدين على جبهات القتال على ثلاثة اصناف : مكرهون على القتال وهم اكثرية الجنود النظاميين الذين اعدم الخميني قوادهم وهم يعلمون ان هذه الحرب هي حرب الاحقاد التي يشعل الخميني نارها كلما جاء قوم لاطفائها وان شرطه لوقف القتال في عودة القوات العراقية إلى الحدود السابقة انما هو ذريعة جوفاء لان العراق اكد اكثر من مرة موافقته على ذلك اذا ما قبل النظام الحاكم على وقف اطلاق النار ، ثم انهم يعلمون جيدا ان الوطنية التي بداء الخميني يغني بها انما هي خدعة من خداعه فلن ينسى الشعب الايراني ان الخميني قال وهو على متن الطائرة التي كانت تقله من باريس إلى طهران ( اني لا احس بشعور خاص عند عودتي إلى ايران ) ثم هو الذي حارب الوطنيين من انصار مصدق ورماهم بالزندقة لان الاسلام على حد زعمه يعارض الوطنية ثم ان اكثرية هذا الجيش حاقد على تصنيفه في المرتبة الثانية وتقديم الحرس الثوري عليه في كل الامتيازات وفي كل الميادين ، والحرس الثوري مجموعة من المرتزقة جمعهم النظام الحاكم من الشوارع والازقة لا يحسنون استعمال السلاح ، وهذه المجموعة هي التي تتقدم على الجنود في جبهات القتال بصفتهم حراس الثورة وانهم المعتمد عليهم من قبل الخميني .
والصنف الثاني هم العنصريون وانهم طبقة صغيرة من الجنود النظاميين الذين يحاربون لاحياء الامجاد الفارسية التي اكل عليها الدهر وشرب . واذكر هنا قصة للتاريخ لبيان هذه العنصرية التي نجدها لدى البعض من ابناء الشعب الايراني :(39/6)
عندما كنت خائضا معمعة الانتخابات ، كانت بعض الفئات السياسية المعادية لي تنشر المناشير وتقول معلنة ان اعتراضها على انتخابي هو انني سيد هاشمي انتمي إلى رسول الله ورسول الله عربي ، والغريب في الامر ان بعض هؤلاء الذين كانوا يقفون ضدي لانني هاشمي عربي كانوا اذا التقوا بي قبلوا يدي او ارادوا تقبيلها تبركا برسول الله وتقربا اليه ، هذه صورة للعنصرية التي اشرت اليها في هذا المقال .
اما الصنف الثالث المغفلون واكثرهم من الحرس الثوري الذين جمعهم النظام الحاكم من هنا وهناك ، وقد امر الخميني بتقليدهم مفاتيح الجنة كما كان الباب غريغوار يقلد الجنود الصليبيين مفاتيح الجنة عندما ارسلهم لمحاربة المسلمين في فلسطين . حقا انه لامر مشين للغاية فيه سخط الله ورسوله ان يقلد مسلم مفاتيح الجنة لانهم يحارب اخاه المسلم ويريق دمه …… , واخيرا اختارت الزمرة الحاكمة الشباب المراهقين حراسا للثورة والحقوهم بجبهات القتال فكانت المآسي التي تحدثت عنها الصحف العالمية باسهاب وادانت النظام الارهابي الانتحاري في ايران وشبهت الخميني بهيتلر الذي جند المراهقين في الشهور الاخيرة من حربه الخاسرة .
ان هؤلاء المغفلين واولئك المكرهين هم الذين يقصفون تراب العراق وهم يتبركون بها ، ويهدمون تربة العراق واعظم امانيهم هي زيارة تلك التربة ، ويقتلون ابناء كربلاء والنجف واسم كربلاء والنجف يبكيهم ويدمع عيونهم . لا انسى ان احمد الخميني قال لي مرة : انك تحاول القيام بعمل عظيم ، فلو قدر لك النجاح في عملك واستطعت ان تقرب بين العراق وايران وفتحت الحدود للزوار الايرانيين لزيارة العتبات المقدسة فستصبح محبوب الشعب كل الشعب ويذكر اسمك بعد اسم الامام ( السيد الخميني ) .
قلت له : اذا كنت مؤمنا بما تقوله تعاون معي لنجاح المهمة ودع الناس يعتقدون انك فعلت ذلك فتصبح انت محبوب الشعب فليذكر اسمك بعد اسم ابيك .(39/7)
وقال لي احمد : كيف نلتقي مع الحكومة التي قالت لولدي اما ان تسكت واما ان تخرج . وهكذا يدفع الشعب الايراني المسكين ثمن الحقد والانانية والجهل والخيانة الذي كلفه حتى الآن 300الف قتيل و500الف مليون دولار الخسارة في الاموال و 3ملايين مشردي الحرب .
واختتم هذا الفصل بمقارنة بين رجليين احدهما هندوسي وآخر يدعي الاسلام . احدهما مرشد للثورة الهندية وهو مهاتما غاندي الذي قال لقاتلة الذي ارداه قتيلا (السلام عليكم ) والآخر مرشد للثورة الاسلامية الايرانية الذي اعدم الآلاف من الصبية لانهم قالوا ( الموت للخميني ) .
لقد بلغ إلى مسامع مهاتما غاندي ان حربا دينية قومية ضروسا نشبت بين الهندوس والمسلمين في وسط القارة الهندية يذهب ضحيتها المئات من الجانبين في كل يوم ، فطلب غاندي منهم ايقاف القتال فلم يستجيبوا فاعلن عزمه في السير إلى منطقة الحرب على الاقدام ، وخرج مهاتما من اشرم قاصدا المنطقة المنكوبة والتي تبعد حوالي الف ميل ، وكلما مر بمدينة على قارعة الطريق طلب من اهلها الانضمام إلى مسيرة الصلح ووصل غاندي إلى المنطقة المنكوبة ومعه جمع غفير يحملون لافتات الرجاء إلى المتحاربين بايقاف القتال ، فلم يستجب الطرفان لغاندي ولا للركب السائر في معيته ، فأعلن مهماتما عزمه على الصيام حتى الموت الا اذا استجاب الطرفان لندائه ، واستمرت الحرب واستمر الصيام ، واشرف غاندي على الموت واعلن الاطباء ان زعيم الهند العظيم سيلقي حتفه اذا لم ينه الصوم في غضون 48ساعة . واستيقظت ضمائر المتخاصمين اجلالا واكبارا للزعيم الذي يضحي بحياته لانقاذ حياة الآخرين ، وصام 45يوما حتى تنفذ كلمته ، وانتهى القتال وعاد الوئام ورجع القوم إلى شئونهم الخاصة واعمالهم اليومية ، اما غاندي فقد بقي طريح الفراش يعاني من آثار الصوم شهورا طوالا لايقوى على الحركة ولكن الابتسامة لم تفارق شفتيه لانه وجد إلى الصلح سبيلا .(39/8)
اما الامام الخميني مرشد الثورة الاسلامية الايرانية فرفض عروض الصلح من الجانب العراقي ورفض الوساطات الاسلامية ، ورفض كل مبادرة خيرة لانهاء الاقتتال بين آخوة مسلمين تربطهم روابط الجيرة والدين ، وها هو ينادي بالمزيد من اراقة الدماء ويسعى للمزيد من الدمار والفناء مناقضا بذلك ما امر به الله ورسوله وكتابه الكريم .
وليت شعري ان اعرف ان الخميني اذا لم يشاء ان يسير على هدى الاسلام ورسوله في الصلح افلم يكن من الحري به ان يقتدي بسيره مصلح الهند ، ولكن صدق الله العظيم حيث يقول ، " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا " .(39/9)
بسم الله الرحمن الرحيم
صدق النبأ في بيان حقيقة عبد الله بن سبأ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
أحبتي في الله نزولاً عند رغبة أحد الأخوة الأعزاء ، أعيد نشر ما كتبته منذ سنة تقريباً من سلسة حلقات عبد الله بن سبأ ، و ما سببه من فرقة للأمة الإسلامية ، فهاأنذا ألبي هذا الطلب بكل رحابة صدر ، و أحب أن أنبه الأخوة الأفاضل عن وجود مجموعة من الكتب والتي أنصح باقتنائها للفائدة ، و هي : كتاب ( عبد الله بن سبأ و أثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام للدكتور سليمان بن حمد العودة ) ، و كتاب : ( تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدثين ، للدكتور : محمد أمحزون ) ، و كتاب : ( عبد الله بن سبأ حقيقة لا خيال ، للدكتور : سعدي مهدي الهاشمي ) و كتاب : ( بذل المجهود في إثبات مشابهة الرافضة لليهود ، عبد الله الجميلي ) ، و كتاب : ( العنصرية اليهودية و آثارها في المجتمع الإسلامي والموقف منها ، للدكتور : أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزغيبي ) ، فهي من أفضل الكتب التي تناولت الحديث عن عبد الله بن سبأ ، بشيء من التفصيل أو الإيجاز الغير مخل ، كما وأني لم آلوا جهداً في البحث و الحديث عن أشياء لم يتطرق إليها الأساتذة ، حتى تعم الفائدة و يعم النفع ، و الله أسأل أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ، و أن يهدي بها من ضل عن الصراط المستقيم .
و الآن إلى الموضوع ..
إن من أكبر الفِرَق التي كانت و ما تزال وبالاً و شراً على المسلمين على طول تاريخهم و في جميع مراحل حياتهم ، هي فرقة الشيعة على تعدد طوائفها و اختلاف نحلها ، بدءاً بالسبئية أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي ، الذي كان رأساً في إذكاء نار الفتنة والدس بين صفوف المسلمين ، و الذي وصل الأمر بهم إلى تأليه علي رضي الله عنه ، و قبل أن أبدأ بالموضوع لابد من مقدمة توضح الموضوع و تشرح المضمون .
أصل ابن سبأ و منشأه :-(40/1)
اختلف أصحاب المقالات والتاريخ في هوية عبد الله بن سبأ ، و من ذلك اختلفوا في بلده و قبيلته ، يذكر القلقشندي في قلائد الجمان (ص 39 ) : أن يعرب بن قحطان ولد يشجب ، و ولد ليشجب ( سبأ ) و اسم سبأ هذا عبد شمس ، و قد ملك اليمن بعد أبيه ، و أكثر من الغزو والسبي ، فسمي ( سبأ ) وغلب عليه حتى لم يسم به غيره ، ثم أطلق الاسم على بنيه .. و هم الوارد ذكرهم في القرآن .
على أن المصادر التاريخية لا تذكر شيئاً واضحاً عن أصل السبأيين ، و الذي ينتسب إليهم عبد الله بن سبأ ، و من المحتمل أنهم كانوا في الأصل قبائل بدوية تتجول في الشمال ثم انحدرت نحو الجنوب إلى اليمن حوالي ( 800 ق م ) ، و هي عادة العرب في التجوال ، أو نتيجة ضغط الآشوريين عليهم من الشمال ، واستقروا أخيراً في اليمن وأخذوا في التوسع . راجع : محاضرات في تاريخ العرب للدكتور صالح العلي (1/21) .
و منهم من ينسب ابن سبأ إلى ( حمير ) ، و هي قبيلة تنسب إلى حمير بن الغوث بن سعد بن عوف بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير بن سبأ الأصغر بن لهيعة بن حمير بن سبأ بن يشجب هو حمير الأكبر ، و حمير الغوث هو حمير الأدنى و منازلهم باليمن بموضع يقال له حمير غربي صنعاء . أنظر : معجم البلدان لياقوت الحموي (2/306) .
ومن الذين قالوا بذلك : ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء ( 5/46) ، حيث يقول : والقسم الثاني من فرق الغالية يقولون بالإلهية لغير الله عز وجل ، فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبأ الحميري .(40/2)
أما البلاذري في أنساب الأشراف (5/240) ، و الأشعري القمي في المقالات والفرق (ص 20) ، والفرزدق في ديوانه ( ص 242-243) فينسبون ابن سبأ إلى قبيلة ( همدان ) ، و همدان بطن من كهلان من القحطانية و هم بنو همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان ، و كانت ديارهم باليمن من شرقيه . معجم قبائل العرب لرضا كحالة (3/1225) . فهو ( عبد الله بن سبأ بن وهب الهمداني ) كما عند البلاذري ، و ( عبد الله بن سبأ بن وهب الراسبي الهمداني ) كما عند الأشعري القمي ، أما عن الفرزدق فقد ذكر نسبة ابن سبأ إلى همدان في قصيدته التي هجا فيها أشراف العراق و من انضم إلى ثورة ابن الأشعث في معركة دير الجماجم سنة (82هـ ) و يصفهم بالسبئية حيث يقول :
كأن على دير الجماجم منهم *** حصائد أو أعجاز نخل تقعّرا
تَعَرّفُ همدانية سبئية *** و تُكره عينيها على ما تنكّرا . الخ .
و يروي عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق ( ص 235) ، أن ابن سبأ من أهل ( الحيرة ) ، قال : إن عبدالله بن السوداء كان يعين السبأية على قولها ، و كان أصله من يهود الحيرة ، فأظهر الإسلام .
و يروي ابن كثير في البداية والنهاية (7/190) ، أن أصل ابن سبأ من الروم ، فيقول : و كان أصله رومياً فأظهر الإسلام و أحدث بدعاً قولية و فعلية قبحه الله .
أما الطبري و ابن عساكر ، فيرويان أن ابن سبأ من اليمن . قال الطبري في تاريخه (4/340) : كان عبدالله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء . و قال ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 29/3) : عبد الله بن سبأ الذي ينسب إليه السبئية وهم الغلاة من الرافضة أصله من أهل اليمن كان يهودياً .(40/3)
و الذي أميل إليه و أرجحه هو : أن ابن سبأ من اليمن ؛ و ذلك أن هذا القول يجمع بين معظم أقوال العلماء في بلد ابن سبأ ، و لو نظرنا في الأقوال السابقة لم نجد تعارضاً بين هذا القول و بين القول الأول الذي ينسب ابن سبأ إلى قبيلة ( حمير ) ، و القول الثاني الذي ينسبه إلى قبيلة ( همدان ) ، إذ القبيلتان من اليمن ، و لم يخالف في أن أصل ابن سبأ من اليمن إلا البغدادي الذي ينسبه إلى ( الحيرة )،و ابن كثير الذي ذكر أنه ( رومي ) الأصل .
أما البغدادي فقد اختلط عليه ابن السوداء بابن سبأ ، فظن أنهما شخصان ، يقول : و قد ذكر الشعبي أن عبد الله بن السوداء كان يعين السبأية على قولها .. ثم تحدث عن ابن السوداء و مقالته في علي رضي الله عنه ، إلى أن قال : فلما خشي – أي علي رضي الله عنه – من قتله – أي ابن السوداء – و من قتل ابن سبأ الفتنة التي خافها ابن عباس ، نفاهما إلى المدائن ، فافتتن بهما الرعاع . الفرق بين الفرق ( ص 235) .
والذي ذكر أنه من أهل الحيرة هو عبد الله بن السوداء و لم يتعرض لابن سبأ بشيء ، لهذا لا يمكننا أن نجزم بأن البغدادي نسب ابن سبأ المشهور في كتب الفرق و مؤسس فرقة السبأية إلى الحيرة ، فلعله قصد شخصاً آخر غيره ، و مما يدل على أنه لا يعني ابن سبأ ، أنه قال عند حديثه عن عبد الله بن السوداء : ( كان يعين السبأية على قولها ) ، فدل على أنه غير مؤسس السبأية .(40/4)
أما ابن كثير فلا أعلم أحداً من المؤرخين وأصحاب المقالات وافقه في نسبة ابن سبأ إلى ( الروم ) ، و قد جاء في بعض النسخ المطبوعة من البداية والنهاية كلمة ( ذمياً ) بدل ( رومياً ) انظر الطبعة الثانية ( 7/173) مكتبة المعارف ، فلعل أصل الكلمة ذمياً و لكن حدث في الكلمة تصحيف من قبل النساخ ، وكون ابن سبأ ذمياً لا ينافي ما تناقله العلماء من كونه يهودياً . و لهذا لا يعارض قوله هذا ما اشتهر نقله في كتب التاريخ والفرق من أن أصل ابن سبأ من اليمن .
فترجح بهذا أن ابن سبأ من اليمن و نحن لا نقطع بنسبته إلى قبيلة معينة لعدم توفر الأدلة على ذلك . و الله أعلم .
و قد اختلف المؤرخون وأصحاب المقالات أيضاً في نسبة ابن سبأ لأبيه ، فمنهم من ينسب ابن سبأ من جهة أبيه إلى ( وهب ) كما عند البلاذري في أنساب الأشراف (5/240) ، و الأشعري القمي في المقالات والفرق ( ص 20) والذهبي في المشتبه في الرجال (1/346) و المقريزي في الخطط (2/356) .
أما من قال أنه : ( عبد الله بن وهب الراسبي ) كما هو عند الأشعري القمي في المقالات ( ص 20) ، فلعل ذلك وقع نتيجة الخلط بين عبدالله بن سبأ هذا و بين عبد الله بن وهب الراسبي صاحب الخوارج ، و هناك فرق بين الشخصيتين ما لا يخفى على مطلع ، فعلى حين يكتنف شخصية ابن سبأ الغموض في المنشأ و الممات ، نجد شخصية الراسبي واضحة المعالم ، فهو رأس الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه ، شرح صحيح مسلم للنووي (7/172) ، و هو المقتول في وقعة النهروان ، العبر في خبر من غبر للذهبي (1/44) ، و قبل ذلك فقد عرفت حياته أكثر من ابن سبأ ، فقد شارك في الفتوح – فتوح العراق – وكان مع علي ثم خرج عليه خروجاً صريحاً . أنظر آراء الخوارج لعمار الطالبي (ص 94) .(40/5)
و مما يؤكد الفرق بين الاسمين ما نص عليه السمعاني في الأنساب (7/24) بقوله : ( عبدالله بن وهب السبئي رئيس الخوارج ، و ظني أن ابن وهب هذا منسوب إلى عبد الله بن سبأ ) .
و هناك من ينسب ابن سبأ من جهة أبيه أيضاً إلى حرب ، كما فعل الجاحظ في البيان والتبيين (3/81) ، و هو ينقل الخبر بإسناده إلى زحر بن قيس قال : ( قدمت المدائن بعد ما ضرب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، فلقيني ابن السوداء و هو ابن حرب .. ) .
ومعظم أهل العلم ينسبون ابن سبأ من جهة أبيه إلى سبأ ، فيقولون : ( عبد الله بن سبأ ) ، ومن هؤلاء البلاذري في أنساب الأشراف (3/382) ابن قتيبة في المعارف ( ص 622) و الطبري في التاريخ (4/340) وأبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين (1/86) ، والشهرستاني في الملل والنحل (1/174) ، والذهبي في الميزان ( 2/426) وابن حجر في لسان الميزان (3/290) ، وابن عبد ربه في العقد الفريد (2/405) و شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/483) ، وابن حبان في المجروحين ( 2/253) والجوزجاني في أحوال الرجال (ص38) و المقدسي في البدء والتاريخ (5/129) والخوارزمي في مفاتيح العلوم (ص 22) وابن حزم في الفصل في الملل والنحل ( 4/186) و الأسفرايني في التبصرة في الدين ( ص 108 ) وابن عساكر في تاريخ دمشق ( 29/3) ، والسمعاني في الأنساب (7/24) و ابن الأثير في اللّباب (2/98) ، و غيرهم الكثير . و من الرافضة : الناشئ الأكبر في مسائل الإمامة ( ص 22- 23 ) ، و الأشعري القمي في المقالات والفرق ( ص 20 ) و النوبختي في فرق الشيعة (ص 22 ) .(40/6)
أما نسب ابن سبأ ( لأمه ) فهو من أم حبشية ، كما عند الطبري في التاريخ (4/326-327) و ابن حبيب في المحبر (ص 308 ) ، و لذلك فكثيراً ما يطلق عليه ( ابن السوداء ) ففي البيان والتبيين ( 3/81) : ( ... فلقيني ابن السوداء ) و في تاريخ الطبري ( 4/326) : ( و نزل ابن السوداء على حكيم بن جبلة في البصرة ) ، وفي تاريخ الإسلام للذهبي (2/122) : ( ولما خرج ابن السوداء إلى مصر ) ، و هم بهذا يتحدثون عن عبد الله بن سبأ ، و لذلك قال المقريزي في الخطط ( 2/356) : ( عبد الله بن وهب بن سبأ المعروف بابن السوداء ) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (29/8) من قول علي رضي الله عنه : ( من يعذرني من هذا الحميت الأسود الذي يكذب على الله ورسوله يعني ابن السوداء ) . و مثل هذا كثير ...
وكما وقع الخلط والإشكال في نسبة ابن سبأ لأبيه ، وقع الخلط و تصور من غفلوا عن هذه النسبة لأمه ، أن هناك شخصين : ابن سبأ ، وابن السوداء ، ففي العقد الفريد لابن عبد ربه (2/241) : ( .. منهم عبد الله بن سبأ نفاه إلى ساباط ، و عبد الله بن السوداء نفاه إلى الخازر ) .
و يقول الاسفرايني في التبصرة ( ص 108) : ( و وافق ابن السوداء عبد الله بن سبأ بعد وفاة علي في مقالته هذه ) .
ومثل هذا وقع عند البغدادي في الفرق بين الفرق ( ص 235 ) : ( فلما خشي علي من قتل ابن السوداء وابن سبأ الفتنة نفاهما إلى المدائن ) .
والذي يترجح من مناقشة الروايات : أن ابن سبأ غير ابن وهب الراسبي ، وأنه هو نفسه ابن السوداء ، والله أعلم .(40/7)
و مما يحسن ذكره هنا أيضاً أن ابن سبأ كان أسود اللون ، و هذا يرجح كون أمه من الحبشيات ، ذكر ابن عساكر في تاريخه ( 29/7-8 ) : عن عمار الدهني قال : سمعت أبا الطفيل يقول : رأيت المسيب بن نجبة أتى به ملببة – أي ملازمه - يعني ابن السوداء و علي على المنبر ، فقال علي : ما شأنه ؟ فقال : يكذب على الله وعلى رسوله ، و جاء من طريق زيد بن وهب عن علي قال : ما لي ومال هذا الحميت الأسود ، و من طريق سلمة قال : سمعت أبا الزعراء يحدث عن علي ، قال : ما لي ومال هذا الحميت الأسود ، و جاء أيضاً من طريق زيد قال : قال علي بن أبي طالب : ما لي ولهذا الحميت الأسود ، يعني عبد الله بن سبأ وكان يقع في أبي بكر و عمر .
و يبقى بعد ذلك الأصل اليهودي لابن سبأ ، هل هو محل اتفاق أم تتنازعه الآراء ؟
يفترض المستشرق Hodgeson أن ابن سبأ ليس يهودياً في أغلب الاحتمالات ، مشايعاً في ذلك للمستشرق الإيطالي Levi Della Vida الذي يرى أن انتساب ابن سبأ إلى قبيلة عربية هي ( همدان ) كما في نص البلاذري الذي وقف عنده ( ليفي ديلا فيدا ) يمنع من أن يكون يهودياً . و هو كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في مذاهب الإسلاميين ( 2/30) : ( استنتاج لا مبرر له ، فليس هناك من تناقض بين أن يكون المرء يهودياً وأن يكون من قبيلة عربية .
وابن قتيبة رحمه الله أشار إلى يهودية بعض القبائل كما في المعارف ( ص 266 ) حيث يقول : ( كانت اليهودية في حمير و بني كنانة و بني الحارث بن كعب و كندة .
و فوق ذلك فإن الاتجاه الغالب في يهود اليمن أن أكثرهم من أصل عربي ، كما قال الدكتور جواد علي في تاريخ العرب قبل الإسلام ( 6/26) .
و مع ذلك فليس مقطوعاً بانتساب ابن سبأ إلى همدان – كما مر معنا – و حتى لو قطع بذلك ، فهل هذا الانتساب لهمدان ، انتساب على الحقيقة أم بالولاء ؟!(40/8)
و لئن كان هذا الشك في يهودية ابن سبأ عند بعض المستشرقين ، إنما جاء نتيجة اعتراض يقيني بأن ابن سبأ في تصوراته عن المهدي كان متأثراً بالإنجيل أكثر من تأثره بالتوراة ، و هو اعتراض قد يقلل من يهودية ابن سبأ ، إلا أن هذا الاعتراض يضعف حينما نتبين رأي بعض الباحثين في طبيعة اليهودية في بلاد اليمن – في تلك الفترة – وأنها امتزجت فيها المسيحية بالموسوية ، و كانت يهودية سطحية ، وأن يهودية ابن سبأ ربما كانت أقرب إلى يهودية ( الفلاشا ) و هم يهود الحبشة ، و هذه اليهودية شديدة التأثر بالمسيحية الحبشية . مذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي (2/28) .
و هذا الأصل اليهودي لابن سبأ لم يكن محل خلاف في الروايات التاريخية ، أو لدى كتب الفرق ، و في آراء المتقدمين ، أمثال : الطبري وابن عساكر وابن الأثير والبغدادي وابن حزم ، وأمثال شيخ الإسلام ، عليم رحمه الله .
سبب الاختلاف في تحديد هوية ابن سبأ :-
لا غرابة أن يحدث هذا الاختلاف الكبير بين أهل العلم في تحديد هوية و نسب ابن سبأ ، فعبد الله بن سبأ قد أحاط نفسه بإطار من الغموض والسرية التامة حتى على معاصريه ، فهو لا يكاد يعرف له اسم ولا بلد ، لأنه لم يدخل في الإسلام إلا للكيد له ، و حياكة المؤامرات والفتن بين صفوف المسلمين ، و لهذا لما سأله عبد الله بن عامر والي البصرة لعثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال له : ما أنت ؟ لم يخبره ابن سبأ باسمه و اسم أبيه ، و إنما قال له : إنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام و رغب في جوارك . تاريخ الطبري (4/326-327 ) .
و في رأيي أن تلك السرية التامة التي أطبقها ابن سبأ على نفسه سبب رئيسي في اختلاف المؤرخين والمحققين في نسبة ابن سبأ ، و غير مستبعد أن يكون ابن سبأ قد تسمى ببعض هذه الأسماء التي ذكرها المؤرخون ، بل واستعمل بعض الأسماء الأخرى المستعارة لتغطية ما قام به من جرائم و دسائس في صدر الدولة الإسلامية .(40/9)
نشأة ابن سبأ :-
على ضوء ما تقدم من المعلومات السابقة – في المقال السابق - ، أمكننا الوقوف على الأجواء التي نشأ فيها ابن سبأ ، و نستطيع أن نحدد عدد من النقاط :-
1 - بتغليب الروايات السابقة نجد أن ابن سبأ نشأ في اليمن ، سواء كان من قبيلة حمير أو همدان ، ولا نستطيع الجزم بأيهما .
2 – كان لليهود وجود في اليمن ، غير أنه لا نستطيع أن نحدد وقته على وجه الدقة ، و قد رجح بعض الأساتذة أنه يرجع إلى سنة (70م ) و ذلك حينما نزح اليهود من فلسطين بعد أن دمرها الإمبراطور الروماني ( تيتوس ) و حطم هيكل ( أورشليم ) وعلى إثر ذلك تفرق اليهود في الأمصار و وجد بعضهم في اليمن بلداً آمناً فالتجأوا إليه ، و بعد أن استولى الأحباش على اليمن سنة (525م ) بدأت النصرانية تدخل اليمن . اليمن عبر التاريخ لأحمد حسين (ص 158- 159) .
3 – على إثر هذا امتزجت تعاليم ( التوراة ) مع تعاليم ( الإنجيل ) و كانت اليهودية في اليمن يهودية سطحية . مذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي (2/28) .
4 – و لكن اليهودية و إن ضعفت في اليمن بدخول الأحباش فيها ، فإنها بقيت مع ذلك محافظة على كيانها ، فلم تنهزم و لم تجتث من أصولها . تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي (6/34) .
و لعلنا من خلال تلك الإشارات ، نستطيع أن نحدد المحيط الذي نشأ فيه عبد الله بن سبأ ، والبيئة التي صاغت أفكاره ، خاصة في عقيدة ( الرجعة ) و ( الوصية ) حينما قال : ( لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع و يكذب بأن محمداً يرجع ، و قد قال الله عز وجل إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى ، و إنه كان ألف نبي و وصي و كان على وصي محمد ، ثم قال : محمد خاتم الأنبياء و علي خاتم الأوصياء .. ) . تاريخ الطبري (4/340) .(40/10)
على كل حال فهي معلومات ضئيلة لا تروي غليلاً ، ولا تهدي سبيلاً ، و لعل مرد ذلك إلى المصادر التي بين أيدينا ، فهي لا تكاد تبين عن نشأة ابن سبأ ، كما أن المعلومات عن فتوة ابن سبأ قبل ظهوره غير موجودة ، و نحن هنا مضطرون للصمت عما سكت عنه الأولون حتى تخرج آثار أخرى تزيل الغبش و تكشف المكنون .
ظهور ابن سبأ بين المسلمين :-
جاء في تاريخ الطبري (4/340) و الكامل لابن الأثير (3/77) و البداية والنهاية لابن كثير(7/167) و تاريخ دمشق لابن عساكر (29/ 7-8 ) و غيرهم من كتب التاريخ ضمن أحداث سنة (35هـ ) : أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً من أهل صنعاء وأنه أسلم زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، و أخذ يتنقل في بلاد المسلمين يريد ضلالتهم ، فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم بالشام ، فلم يقدر على شيء فيها ، فأتى مصر واستقر بها و وضع لهم عقيدتي الوصية و الرجعة ، فقبلوها منه و كوّن له في مصر أنصاراً ممن استهواهم بآرائه الفاسدة .
لكن أين و متى كان أول ظهور لعبد الله بن سبأ بين المسلمين ؟
جاء في البداية والنهاية لابن كثير (7/183) ضمن أحداث سنة (34هـ ) ، أن عبد الله بن سبأ كان سبب تألب الأحزاب على عثمان . ثم أورده في أحداث سنة (35هـ) مع الأحزاب الذين قدموا من مصر يدعون الناس إلى خلع عثمان . البداية والنهاية (7/190) .
أما الطبري (4/331) وابن الأثير(3/147) فنجد عندهما ذكر لابن سبأ بين المسلمين قبل سنة ( 34هـ ) في الكوفة ، ( فيزيد بن قيس ) ذلك الرجل الذي دخل المسجد في الكوفة يريد خلع عامل عثمان ( سعيد ابن العاص ) إنما شاركه وثاب إليه الذين كان ابن السوداء يكاتبهم .(40/11)
و هذا يعني ظهور ابن سبأ قبل هذا التاريخ ، و تكوين الأعوان الذين اجتمعوا إلى يزيد بن قيس ، و تأكيد ذلك عند الطبري ( 4/326) وابن الأثير(3/144) ، ففي سنة ( 33هـ ) و بعد مضي ثلاث سنين من إمارة عبد الله بن عامر على البصرة يعلم بنزول ابن سبأ على ( حكيم بن جبلة ) و تكون المقابلة بين ابن عامر وابن السوداء والتي ذكرتها في بداية الموضوع .
ونستمر في الاستقراء فنجد ظهوراً لابن سبأ بين المسلمين قبل هذا التاريخ ، ففي الطبري (4/283) و ابن الأثير (3/114) ، و ضمن حوادث سنة (30هـ ) يرد ابن السوداء الشام ، و يلتقي بأبي ذر و يهيجه على معاوية – و سنأتي على تحقيق القول في قضية تأثير ابن سبأ على أبي ذر فيما بعد - .
ابن سبأ في الحجاز :-
لما كان ظهور ابن سبأ في الحجاز قبل ظهوره في البصرة والشام ، فلابد أن يكون قد ظهر في الحجاز قبل سنة ( 30هـ ) ، لأن ظهوره في الشام كان في هذا التاريخ ، و في الحجاز لا تكاد تطالعنا الروايات التاريخية على مزيد من التفصيل ، و لعل في هذا دلالة على عدم استقرار أو مكث لابن سبأ في الحجاز ، عدا ذلك المرور في طريقه التخريبي ، لكنه كما يبدو لم يستطع شيئاً من ذلك فتجاوز الحجاز إلى البصرة . تاريخ الطبري ( 4/340-341) .
ظهوره في البصرة :-(40/12)
و في البصرة كان نزول ابن سبأ على ( حكيم بن جبلة العبدي ) ، و خبره كما ورد في الطبري (4/ 326 ) : ( لما مضى من إمارة ابن عامر ثلاث سنين بلغه أن في عبد القيس رجلاً نازلاً على حكيم بن جبلة ، و كان حكيم رجلاً لصاً إذا قفلت الجيوش خنس عنهم ، فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ، و يتنكر لهم و يفسد في الأرض و يصيب ما يشاء ثم يرجع ، فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان ، فكتب إلى عبد الله بن عامر أن احبسه و من كان مثله فلا يخرج من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً ، فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها ، فلما قدم ابن السوداء نزل عليه ، و اجتمع إليه نفر فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرح ، فقبلوا منه واستعظموه .
و بقية خبر الطبري يفيدنا أنه لقي آذاناً صاغية في البصرة ، و إن كان لم يصرح لهم بكل شيء ، فقد قبلوا منه واستعظموه ، و شاء الله أن تحجم هذه الفتنة و يتفادى المسلمون بقية شرها و ذلك حينما بلغ والي البصرة ابن عامر خبر ابن سبأ ، فأرسل إليه و دار بينهما هذا الحوار : ( ما أنت ؟ فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام والجوار ، فقال ابن عامر : ما يبلغني ذلك ! اخرج عني ، فأخرجه حتى أتى الكوفة . تاريخ الطبري (4/326-327) .
ظهوره في الكوفة :-
الذي يبدو أن ابن سبأ بعد إخراجه من البصرة وإتيانه الكوفة ، لم يمكث بها طويلاً حتى أخرجه أهلها منها ، كما في بقية خبر الطبري (4/327) : ( فخرج حتى أتى الكوفة ، فأخرج منها فاستقر بمصر و جعل يكاتبهم و يكاتبونه ، و يختلف الرجال بينهم ) .
لكنه وإن كان قد دخل الكوفة ثم أخرج منها سنة ( 33هـ ) ، إلا أن صلته بالكوفة لم تنته بإخراجه ، فلقد بقيت ذيول الفتنة في الرجال الذين بقي يكاتبهم و يكاتبونه . الطبري (4/327) وابن الأثير (3/144) .
ظهوره في الشام :-(40/13)
في ظهور ابن سبأ في الشام يقابلنا الطبري في تاريخه نصان ، يعطي كل واحد منهما مفهوماً معيناً ، فيفيد النص الأول أن ابن سبأ لقي أبا ذر بالشام سنة (30هـ ) و أنه هو الذي هيجه على معاوية حينما قال له : ( ألا تعجب إلى معاوية ! يقول المال مال الله ، كأنه يريد أن يحتجزه لنفسه دون المسلمين ؟ وأن أبا ذر ذهب إلى معاوية وأنكر عليه ذلك ) . تاريخ الطبري (4/283) .
بينما يفهم من النص الآخر : أن ابن سبأ لم يكن له دور يذكر في الشام ، وإنما أخرجه أهلها حتى أتى مصر ، بقوله : ( أنه لم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ) تاريخ الطبري (4/340) .
و يمكننا الجمع بين النصين في كون ابن سبأ دخل الشام مرتين ، كانت الأولى سنة (30هـ ) ، و هي التي التقى فيها بأبي ذر ، و كانت الثانية بعد إخراجه من الكوفة سنة ( 33هـ ) ، و هي التي لم يستطع التأثير فيها مطلقاً ، و لعلها هي المعنية بالنص الثاني عند الطبري .
كما و يمكننا الجمع أيضاً بين كون ابن سبأ قد التقى بأبي ذر سنة (30هـ ) ، و لكن لم يكن هو الذي أثر عليه و هيجه على معاوية ، و يرجح هذا ما يلي :-
1 - لم تكن مواجهة أبي ذر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه وحده بهذه الآراء ، و إنما كان ينكر على كل من يقتني مالاً من الأغنياء ، و يمنع أن يدخر فوق القوت متأولاً قول الله تعالى { والذين يكنزون الذهب والفضة }[التوبة/34] .
2 - حينما أرسل معاوية إلى عثمان رضي الله عنه يشكو إليه أمر أبي ذر ، لم تكن منه إشارة إلى تأثير ابن سبأ عليه ، و اكتفى بقوله : ( إن أبا ذر قد أعضل بي و قد كان من أمره كيت و كيت .. ) . الطبري (4/283) .
3 - ذكر ابن كثير في البداية (7/170 ، 180) الخلاف بين أبي ذر ومعاوية بالشام في أكثر من موضع في كتابه السابق ، و لم يرد ذكر ابن سبأ في واحد منها ، و إنما ذكر تأول أبي ذر للآية السابقة .(40/14)
4 - ورد في صحيح البخاري ( 2/111) الحديث الذي يشير إلى أصل الخلاف بين أبي ذر و معاوية ، و ليس فيه أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى ابن سبأ ، فعن زيد بن وهب قال : ( مررت بالربذة ، فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه ، فقلت له ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } قال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا و فيهم ، فكان بيني و بينه في ذلك ، و كتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني ، فكتب إليّ عثمان أن اقدم المدينة ، فقدمتها ، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ، فقال لي : إن شئت تنحيت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل .. ) .
5 - و في أشهر الكتب التي ترجمت للصحابة ، أوردت المحاورة التي دارت بين معاوية وأبي ذر ثم نزوله الربذة ، و لكن شيئاً من تأثير ابن سبأ على أبي ذر لا يذكر . الاستيعاب لابن عبد البر (1/214) و أسد الغابة لابن الأثير (1/357) والإصابة لابن حجر (4/62) .
6 - وأخيراً فإنه يبقى في النفس شيء من تلك الحادثة ؛ إذ كيف يستطيع يهودي خبيث حتى و لو تستر بالإسلام أن يؤثر على صحابي جليل كان له من فضل الصحبة ما هو مشهود .
ظهور ابن سبأ في مصر :-(40/15)
على ضوء استقراء النصوص السابقة ، يكون ظهور ابن سبأ في مصر بعد خروجه من الكوفة ، و إذا كان ظهوره في البصرة سنة ( 33هـ ) ، ثم أخرج منها إلى الكوفة ، و من الكوفة استقر بمصر ، فإن أقرب توقيت لظهور ابن سبأ في مصر يكون في سنة ( 34هـ ) ، لأن دخوله البصرة و طرحه لأفكاره فيها و تعريجه على الكوفة ثم طرده منها ، واتجاهه بعد ذلك إلى مصر .. كل هذا يحتاج إلى سنة على الأقل ، و يؤكد هذا ابن كثير في البداية والنهاية (7/284) ، فيضع ظهور ابن سبأ في مصر ضمن أحداث سنة (34هـ ) ، و تابعه في ذلك السيوطي أيضاً في حسن المحاضرة (2/164) ، حيث أشار إلى دخول ابن سبأ مصر في هذا التاريخ .
أحبتي في الله استكمالاً لما بدأناه من هذه الحلقات ، سنقف إن شاء الله و على حلقتين متتاليتين ، على ذكر عدد من المحاور والتي تدور حول ورود أي ذكر لعبد الله بن سبأ أو السبئية – طائفته - في الكتب والمصادر المتقدمة ( السنية والشيعية ، المتقدمة منها والمعاصرة ) ؛ لأن ورود أي ذكر للسبئية دليل على انتسابها له ، و هذا دليل بدوره على وجود ابن سبأ في الحقيقة ، مع الرد على محاولات التشكيك في وجود عبد الله بن سبأ ، و ما ينسب إليه من أعمال ، و سأتّبع فيه الترتيب الزمني للأحداث :-
أولاً : من أثبت وجود عبد الله بن سبأ من الفرقين ..
أ – عبد الله بن سبأ عند أهل السنة :-
1 - جاء ذكر السبئية على لسان أعشى همدان ( ت 84هـ ) في ديوانه (ص 148) و تاريخ الطبري (6/83) و قد هجى المختار بن أبي عبيد الثقفي و أنصاره من أهل الكوفة بعدما فرّ مع أشراف قبائل الكوفة إلى البصرة بقوله :
شهدت عليكم أنكم سبئية وأني بكم يا شرطة الكفر عارف .(40/16)
2 - و جاء ذكر السبئية في كتاب الإرجاء للحسن بن محمد بن الحنفية (ت95هـ ) – راجع كتاب ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي للدكتور سفر الحوالي (1/345- 361) ، حيث تحدث عن معنى الإرجاء المنسوب للحسن ، و ذكر كلام أهل العلم في ذلك فليراجع للأهمية – ما يلي : ( و من خصومة هذه السبئية التي أدركنا ، إذ يقولون هُدينا لوحي ضل عنه الناس ) . رواه ابن أبي عمر العدني في كتاب الإيمان ( ص 249) .
3 - و هناك رواية عن الشعبي ( ت 103هـ ) ذكرها ابن عساكر في تاريخه (29/7) ، تفيد أن : ( أول من كذب عبد الله بن سبأ ) .
4 - و هذا الفرزدق ( ت 116هـ ) يهجو في ديوانه ( ص 242-243) ، أشراف العراق ومن انضم إلى ثورة عبد الرحمن بن الأشعث في معركة دير الجماجم ، و يصفهم بالسبئية ، حيث يقول :
كأن على دير الجماجم منهم حصائد أو أعجاز نخل تَقَعّرا
تَعَرّفُ همدانية سبئية و تُكره عينيها على ما تنكرا
رأته مع القتلى و غيّر بعلها عليها تراب في دم قد تعفّرا
و يمكن الاستنتاج من هذا النص أن السبئية تعني فئة لها هوية سياسية معنية و مذهب عقائدي محدد بانتمائها إلى عبد الله بن سبأ اليهودي المعروف ، صاحب المذهب .
5 - و قد نقل الإمام الطبري في تفسيره (3/119) رأياً لقتادة بن دعامة السدوسي البصري ( ت 117هـ ) ، في النص التالي : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة }[آل عمران/7] ، و كان قتادة إذا قرأ هذه الآية قال : ( إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري ) .
6 - وفي الطبقات الكبرى لابن سعد ( ت 230هـ ) ورد ذكر السبئية وأفكار زعيمها وإن لم يشر إلى ابن سبأ بالاسم . الطبقات (3/39) .
7 – و جاء عند ابن حبيب البغدادي ( ت 245هـ ) في المحبر ( ص 308) ، ذكر لعبد الله بن سبأ حينما اعتبره أحد أبناء الحبشيات .(40/17)
8 - كما روى أبو عاصم خُشيش بن أصرم ( ت 253هـ ) ، خبر إحراق علي رضي الله عنه لجماعة من أصحاب ابن سبأ في كتابه الاستقامة . أنظر : منهاج السنة لابن تيمية ( 1/7) .
9 - و جاء في البيان والتبيين (3/81) للجاحظ ( ت 255هـ ) ، إشارة إلى عبد الله بن سبأ .
10 - فقد ذكر الإمام البخاري ( ت 256هـ ) في كتاب استتابة المرتدين من صحيحه ( 8/50) عن عكرمة قال : ( أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تعذبوا بعذاب الله ) ، و لقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
ومن الثابت تاريخياً أن الذين حرقهم علي رضي الله عنه هم أتباع عبد الله بن سبأ حينما قالوا بأنه الإله .
و خبر إحراق علي بن أبي طالب رضي الله عنه لطائفة من الزنادقة تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح والسنن و المساند . أنظر على سبيل المثال : سن أبي داود (4/126) والنسائي (7/104) و الحاكم في المستدرك (3/538) .
11 - ذكر الجوزجاني ( ت 259هـ ) في أحوال الرجال ( ص 38) أن السبئية غلت في الكفر فزعمت أن علياً إلهاً حتى حرقهم بالنار إنكاراً عليهم واستبصاراً في أمرهم حين يقول :
لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناري و دعوت قنبرا .
12 - و يقول ابن قتيبة ( 276هـ ) في المعارف ( ص 267) : ( السبئية من الرافضة ينسبون إلى عبد الله بن سبأ ) . و في تأويل مختلف الحديث ( ص 73) يقول : ( أن عبد الله بن سبأ ادّعى الربوبية لعلي ، فأحرق علي أصحابه بالنار .
13 - و يذكر البلاذري ( ت 279هـ ) ابن سبأ من جملة من أتوا إلى علي رضي الله عنه يسألونه من رأيه في أبي بكر و عمر ، فقال : أو تفرغتم لهذا . أنساب الأشراف ( 3/382) .(40/18)
14 – و يعتبر الإمام الطبري ( ت 310هـ ) من الذين أفاضوا في تاريخهم من ذكر أخبار ابن سبأ معتمداً في ذلك على الإخباري سيف بن عمر . تاريخ الطبري ( 4/283 ، 326 ، 331 ، 340 ، 349 ، 398 ، 493 – 494 ، 505 ) .
15 - وأكد ابن عبد ربه ( ت 328هـ ) أن ابن سبأ و طائفته السبئية قد غلوّ في علي حينما قالوا : هو الله خالقنا ، كما غلت النصارى في المسيح ابن مريم عليه السلام . العقد الفريد ( 2/405) .
16 - و يذكر أبو الحسن الأشعري ( ت 330هـ ) في مقالات الإسلاميين (1/85) عبد الله بن سبأ وطائفته من ضمن أصناف الغلاة ، إذ يزعمون أن علياً لم يمت ، و أنه سيرجع إلى الدنيا فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً .
17 - و يذكر ابن حبان ( ت 354هـ ) في كتاب المجروحين ( 2/253) : ( أن الكلبي سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ ، من أولئك الذين يقولون : إن علياً لم يمت ، وإنه راجع إلى الدنيا قبل قيام الساعة ) .
18 – يقول المقدسي ( ت 355هـ ) في كتابه البدء والتاريخ ( 5/129) : ( إن عبد الله بن سبأ قال للذي جاء ينعي إليه موت علي بن أبي طالب : لو جئتنا بدماغه في صرة لعلمنا أنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ) .
19 - و يذكر الملطي ( ت 377هـ ) في كتابه التنبيه و الرد على أهل الأهواء و البدع ( ص 18) فيقول : ( ففي عهد علي رضي الله عنه جاءت السبئية إليه وقالوا له : أنت أنت !! ، قال : من أنا ؟ قالوا : الخالق البارئ ، فاستتابهم ، فلم يرجعوا ، فأوقد لهم ناراً عظيمة وأحرقهم .
20 - و ذكر أبو حفص ابن شاهين ( ت 385هـ ) أن علياً حرّق جماعة من غلاة الشيعة ونفى بعضهم ، و من المنفيين عبد الله بن سبأ . أورده ابن تيمية في منهاج السنة (1/7) .
21 - و يذكر الخوارزمي ( ت 387هـ ) في كتابه مفاتيح العلوم (ص 22 ) ، أن السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ .
22 - و يرد ذكر عبد الله بن سبأ عند الهمذاني ( ت 415هـ ) في كتابه تثبيت دلائل النبوة (3/548) .(40/19)
23 - و ذكر البغدادي ( ت 429هـ ) في الفرق بين الفرق ( ص 15 و ما بعدها ) : أن فرقة السبئية أظهروا بدعتهم في زمان علي رضي الله عنه فأحرق قوماً منهم و نفى ابن سبأ إلى سباط المدائن إذ نهاه ابن عباس رضي الله عنهما عن قتله حينما بلغه غلوه فيه وأشار عليه بنفيه إلى المدائن حتى لا تختلف عليه أصحابه ، لاسيما و هو عازم على العودة إلى قتال أهل الشام .
24 - و نقل ابن حزم ( ت 456هـ ) في الفصل في الملل والنحل ( 4/186) : ( و القسم الثاني من الفرق الغالية الذين يقولون بالإلهية لغير الله عز وجل فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبأ الحميري لعنه الله ، أتوا إلى علي بن أبي طالب فقالوا مشافهة : أنت هو ، فقال لهم : ومن هو ؟ فقالوا : أنت الله ، فاستعظم الأمر و أمر بنار فأججت وأحرقهم بالنار ) .
25 - يقول الأسفرايني ( ت 471هـ ) في التبصرة في الدين ( ص 108) : ( إن ابن سبأ قال بنبوة علي في أول أمره ، ثم دعا إلى ألوهيته ، و دعا الخلق إلى ذلك فأجابته جماعة إلى ذلك في وقت علي ) .
26 - و يتحدث الشهرستاني ( ت548هـ ) في الملل والنحل (2/116، 155) عن ابن سبأ فيقول : ( و منه انشعبت أصناف الغلاة ) ، و يقول في موضع آخر : ( إن ابن سبأ هو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي ) .
27 – و ينسب السمعاني ( ت 562هـ ) في كتابه الأنساب ( 7/24) السبئية إلى عبد الله بن سبأ .
28 - و ترجم ابن عساكر ( ت 571هـ ) في تاريخه ( 29/3) لأبن سبأ بقوله : عبد الله بن سبأ الذي ينسب إلى السبئية ، و هم الغلاة من الرافضة ، أصله من اليمن ، و كان يهودياً وأظهر الإسلام .
29 - و يقول نشوان الحميري ( ت 573هـ ) في كتابه الحور العين ( ص 154) : ( فقالت السبئية إن علياً حي لم يمت ، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، و يردّ الناس على دين واحد قبل يوم القيامة ) .(40/20)
30 - و يؤكد فخر الدين الرازي ( ت 606هـ ) في كتابه اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص 57) ، كغيره من أصحاب المقالات والفرق خبر إحراق علي لطائفة من السبئية .
31 - و يذكر ابن الأثير ( ت 630هـ ) في كتابه اللباب ( ص 2/98) ارتباط السبئية من حيث النسبة بعبد الله بن سبأ . كما وأنه أورد روايات الطبري بعد حذف أسانيدها في كتابه الكامل ( 3/114، 144، 147، 147، 154 إلى غيرها من الصفحات ) .
32 - و ذكر السّكْسَكي ( ت 683هـ ) في كتابه البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان : ( أن ابن سبأ و جماعته أول من قالوا بالرجعة إلى الدنيا بعد الموت ) .
33 - و يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ( ت 727هـ ) أن أصل الرفض من المنافقين الزنادقة ، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق ، و أظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه ، وادعى العصمة له . أنظر مجموع الفتاوى ( 4/435) و ( 28/483) و في كثير من الصفحات في كتابه : منهاج السنة النبوية .
34 - و يرد ذكر عبد الله بن سبأ عند المالقي ( ت 741هـ ) في كتابه التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان ( ص 54) ، بقوله : ( و في سنة ثلاث و ثلاثين تحرك جماعة في شأن عثمان رضي الله عنه .. و كانوا جماعة منهم ، مالك الأشتر ، و الأسود بن يزيد .. و عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء .
35 - و عند الذهبي ( ت 748هـ ) في كتابه المغني في الضعفاء (1/339) و في الميزان (2/426) : ( عبد الله بن سبأ من غلاة الشيعة ، ضال مضل ) ، و ذكره أيضاً في تاريخ الإسلام ( 2/122-123) .(40/21)
36 - وذكر الصفدي ( ت 764هـ ) في كتبه الوافي بالوفيات (17/20) في ترجمة ابن سبأ : ( عبد الله بن سبأ رأس الطائفة السبئية .. قال لعلي أنت الإله ، فنفاه إلى المدائن ، فلما قتل علي رضي الله عنه زعم ابن سبأ أنه لم يمت لأن فيه جزءاً إلهياً وأن ابن ملجم إنما قتل شيطاناً تصوّر بصورة علي ، و أن علياً في السحاب ، و الرعد صوته ، و البرق سوطه ، وأنه سينزل إلى الأرض ) .
37 - و ذكر ابن كثير ( ت 774هـ ) في البداية و النهاية (7/183) أن من أسباب تألب الأحزاب على عثمان ظهور ابن سبأ و صيرورته إلى مصر ، و إذاعته على الملأ كلاماً اخترعه من عند نفسه .
38 - و جاء في الفرق الإسلامية (ص 34) للكرماني ( ت 786هـ ) أن علياً رضي الله عنه لما قتل زعم عبد الله بن سبأ أنه لم يمت ، وأن فيه الجزء الإلهي .
39 - و يشير الشاطبي ( ت 790هـ ) في كتابه الاعتصام ( 2/197) إلى أن بدعة السبئية من البدع الاعتقادية المتعلقة بوجود إله مع الله ، و هي بدعة تختلف عن غيرها من المقالات .
40 - و ذكر ابن أبي العز الحنفي ( ت 792هـ ) في شرح العقيدة الطحاوية ( ص 578) أن عبد الله بن سبأ أظهر الإسلام و أراد أن يفسد دين الإسلام كما فعل بولص بدين النصرانية .
41 - و يعرف الجُرجاني ( ت 816هـ ) في كتابه التعريفات (ص 79) عبد الله بن سبأ بأنه رأس الطائفة السبئية .. و أن أصحابه عندما يسمعون الرعد يقولون : عليك السلام يا أمير المؤمنين .
42 - و يقول المقريزي ( ت 845هـ ) في الخطط ( 2/356-357) : ( أن عبد الله بن سبأ قام في زمن علي رضي الله عنه مُحدِثاً القول بالوصية والرجعة والتناسخ ) .
43 - و قد سرد الحافظ ابن حجر ( ت 852هـ ) في كتابه لسان الميزان ( 3/290) أخبار ابن سبأ من غير طريق سيف بن عمر ، ثم قال : ( و أخبار عبد الله بن سبأ شهيرة في التواريخ ، و ليس له رواية و الحمد لله ) .(40/22)
44 - و ذكر العيني ( ت 855هـ ) في كتابه عقد الجمان ( 9/168) : ( أن ابن سبأ دخل مصر وطاف في كورها ، و أظهر الأمر بالمعروف ، و تكلم في الرجعة ، و قررها في قلوب المصريين .
45 - و أكد السيوطي ( ت 911هـ ) في كتابه لب الألباب في تحرير الأنساب ( 1/132) نسبة السبئية إلى عبد الله بن سبأ .
46 - و ذكر السفارني ( ت 1188هـ ) في كتابه لوامع الأنوار (1/80) ضمن فرق الشيعة فرقة السبأية و قال : ( و هم أتباع عبد الله بن سبأ الذي قال لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أنت الإله حقاً ، فأحرق من أصحاب هذه المقالة من قدر عليه منهم فخدّ لهم أخاديد وأحرقهم بالنار .
47 - و يروي الزُّبيدي ( ت 1205هـ ) أن سبأ الوارد في حديث فروة بن مُسيك المرادي هو والد عبد الله بن سبأ صاحب السبئية من الغلاة . تاج العروس ( 1/75-76) ، و كلام الزبيدي هذا غير مقبول و يرده حديث فروة بن مسيك ، راجع صحيح سنن أبي داود (برقم (3373) و الترمذي ( برقم 3220) كتاب تفسير سورة سبأ ، و في الحديث زيادة تفصيل أن سبأ رجل من العرب ولد له عشرة من الأنبناء : سكن منهم ستة في اليمن و أربعة في الشام ، و هم أصول القبائل العربية : لخم و جذام و غسان .. الخ ، مما يدل على أن سبأ رجل متقدم جداً من أصول العرب ، فما علاقة ذلك بسبأ والد عبد الله صاحب السبئية ؟ !
48 - و تحدث عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي ( ت 1239هـ ) في كتابه مختصر التحفة الاثنى عشرية ( ص 317 ) عن ابن سبأ بقوله : ( و من أكبر المصائب في الإسلام في ذلك الحين تسليط إبليس من أبالسة اليهود على الطبقة الثانية من المسلمين فتظاهر لهم بالإسلام وادعى الغيرة على الدين والمحبة لأهله .. و إن هذا الشيطان هو عبد الله بن سبأ من يهود صنعاء ، و كان يسمى ابن السوداء ، و كان يبث دعوته بخبث و تدرج و دهاء .(40/23)
49 - و محمد صديق حسن خان ( ت 1307هـ ) في خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان ( ص 8 ، 33 ، 44 ) .
هذا ما تيسر جمعه من أقوال العلماء ، و من سلف الأمة ، و هناك الكثير غيرهم ، و كلها تأكد و تجمع على ثبوت شخصية عبد الله بن سبأ اليهودي بكونه حقيقة لا خيال ، و كوني آثرت ذكر المتقدمين ، لأنه إذا ثبت عندهم ؛ فهم أعرف منا ، لأنه تسنى لهم الاطلاع على الكثير من الكتب التي تعد في زمننا هذا في عداد المفقود ، فهم الأصل الذي نحن عيال عليه ، نقتبس منه و نثبت ، كما وأن هناك الكثير من المثبتين لهذه الشخصية من المعاصرين ، راجع للأهمية كتاب : العنصرية اليهودية وآثارها في المجمع الإسلامي و الموقف منها للدكتور أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزغيبي ( 2 / 530-531 ) ، حيث ذكر عدداً كبيراً من المثبتين لشخصية ابن سبأ من المعاصرين .
ب – المثبتين لشخصية ابن سبأ من الشيعة :-
1 - ورد في تاريخ الطبري (5/193) على لسان أبي مخنف – لوط بن يحيى – ( ت 157هـ ) و هو يصف معقل بن قيس الرياحي والذي كلفه المغيرة بن شعبة والي معاوية على الكوفة بقتال المستورد بن علفة الخارجي و أصحابه ، فيصفه بأنه من السبئية المفترين الكذابين .
2 - الأصفهاني ( ت 283هـ ) ذكره الدكتور أحمد الزغيبي في كتابه العنصرية اليهودية ( 2/528) .
3 - أورد الناشئ الأكبر ( ت 293هـ ) في كتابه مسائل الإمامة ( ص 22-23 ) ما يلي : ( و فرقة زعموا أن علياً رضي الله عنه حي لم يمت ، و أنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ، و هؤلاء هم السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ ، و كان عبد الله بن سبأ رجلاً من أهل صنعاء يهودياً .. و سكن المدائن .. ) .
4 – و نقل القمي ( ت 301هـ ) في كتابه المقالات و الفرق ( ص 20) أن عبد الله بن سبأ أول من أظهر الطعن على أبي بكر و عمر و عثمان والصحابة ، و تبرأ منهم ، وادّعى أن علياً أمره بذلك .(40/24)
5 - و يتحدث النوبختي ( ت 310هـ ) في كتابه فرق الشيعة ( ص 23 ) عن أخبار ابن سبأ فيذكر أنه لما بلغ ابن سبأ نعي علي بالمدائن ، قال للذي نعاه : كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة و أقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يمت و لم يقتل ، و لا يموت حتى يملك الأرض .
6 - و يقول أبو حاتم الرازي ( ت 322هـ ) في كتابه الزينة في الكلمات الإسلامية ( ص 305 ) : ( أن عبد الله بن سبأ و من قال بقوله من السبئية كانوا يزعمون أن علياً هو الإله ، و أنه يحيي الموتى ، وادعوا غيبته بعد موته .
7 - و روى الكشي ( ت 340هـ ) في الرجال ( ص 98-99) بسنده إلى أبي جعفر محمد الباقر قوله : أن عبد الله بن سبأ كان يدّعي النبوة ، و يزعم أن أمير المؤمنين – عليه السلام – هو الله ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً . و هناك أقوال مشابه عن جعفر الصادق و علي بن الحسين تلعن فيها عبد الله بن سبأ في ( ص 70 ، 100 ) من نفس الكتاب .
8 - و يذكر أبو جعفر الصدوق بن بابويه القمي ( ت 381هـ ) في كتاب من لا يحضره الفقه ( 1/213) ، موقف ابن سبأ و هو يعترض على علي رضي الله عنه رفع اليدين إلى السماء أثناء الدعاء .
9 - و جاء عند الشيخ المفيد ( ت 413هـ ) في كتاب شرح عقائد الصدور ( ص 257) ذكر الغلاة من المتظاهرين بالإسلام – يقصد السبئية – الذين نسبوا أمير المؤمنين علي والأئمة من ذريته إلى الألوهية والنبوة ، فحكم فيهم أمير المؤمنين بالقتل والتحريق بالنار .
10 - و قال أبو جعفر الطوسي ( ت 460هـ ) في كتبه تهذيب الأحكام ( 2/322) أن ابن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلو .
11 - و ابن شهر آشوب ( ت 588هـ ) في مناقب آل أبي طالب (1/227-228 ) .
12 - و ذكر ابن أبي الحديد ( ت 655هـ ) في شرح نهج البلاغة ( 2/99) ما نصه : ( فلما قتل أمير المؤمنين – عليه السلام – أظهر ابن سبأ مقالته ، و صارت له طائفة و فرقه يصدقونه و يتبعونه .(40/25)
13 - و أشار الحسن بن علي الحلّي ( ت 726هـ ) في كتابه الرجال (2/71) إلى ابن سبأ ضمن أصناف الضعفاء .
14 - و يرى ابن المرتضى ( ت 840هـ ) – و هو من أئمة الشيعة الزيدية - ، أن أصل التشيع مرجعه إلى ابن سبأ ، لأنه أول من أحدث القول بالنص في الإمامة . تاج العروس لابن المرتضى ( ص 5 ، 6 ) .
15 - و يرى الأردبيلي ( ت 1100هـ) في كتاب جامع الرواة (1/485) أن ابن سبأ غال ملعون يزعم ألوهية علي و نبوته .
16 - والمجلسي ( ت 1110هـ ) في بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (25/286-287 ) .
17 - يقول نعمة الله الجزائري ( ت 1112هـ ) في كتابه الأنوار النعمانية ( 2/234) : ( قال عبد الله بن سبأ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أنت الإله حقاً فنفاه علي عليه السلام إلى المدائن و قيل إنه كان يهودياً فأسلم وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون و في موسى مثل ما قال في علي .
18 - طاهر العاملي ( ت 1138هـ ) في مقدمة مرآة الأنوار و مشكاة الأسرار في تفسير القرآن (ص62 ) .
19 - و عند المامقاني ( ت 1323هـ ) في كتابه تنقيح المقال في أحوال الرجال (2/183) جاء ذكر ابن سبأ ضمن نقولات عدة ساقها المؤلف من مصادر شيعية متقدمة عليه .
20 - أما محمد حسين المظفري ( ت 1369هـ ) و هو من الشيعة المعاصرين الذين لا ينكرون وجود ابن سبأ وإن كان ينفي أن يكون للشيعة به أي اتصال . تاريخ الشيعة ( ص 10 ) .
21 - أما الخوانساري فقد جاء ذكر ابن سبأ عنده على لسان جعفر الصادق الذي لعن ابن سبأ لاتهامه بالكذب والتزوير . روضات الجنات (3/141) .
ثانياً : المنكرون وجود عبد الله بن سبأ من الفريقين ..
أ – المنكرون لوجود ابن سبأ من أهل السنة ومن حسب عليهم :-
1 – الدكتور : طه حسين ، يقف طه حسين عل رأس الكتّاب المحدثين الذين شككوا في وجود ابن سبأ بل و أنكروه . أنظر كتاب الفتنة الكبرى – عثمان – ( ص 132 ) ، و علي و بنوه ( ص 90 ) .(40/26)
2 - الدكتور : علي سامي النشار ، و هو يأتي بعد طه حسين في إنكاره لشخصية ابن سبأ واعتبارها شخصية وهمية . راجع كتاب نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (2/ 38 – 39 ) .
3 - الدكتور : حامد حنفي داود ، و هو من الذين تأثروا بكتابات الشيعة حول شخصية ابن سبأ فأنكر وجودها ، و ذلك عندما قام بكتابة المقدمة المتعلقة بكتاب ( عبد الله بن سبأ و أساطير أخرى ) و من ضمن ما قال : ( و أخيراً يسرني أن أعلن إعجابي بهذا السفر الجليل لصاحبه العلامة المحقق السيد مرتضى العسكري ) ، أما رأيه في عبد الله بن سبأ فأوضحه بقوله : ( و لعل أعظم هذه الأخطاء التاريخية التي أفلتت من زمام هؤلاء الباحثين وغمّ عليهم أمرها فلم يفقهوها و يفطنوا إليها هذه المفتريات التي افتروها على علماء الشيعة حين لفقوا عليهم قصة عبد الله بن سبأ فيما لفقوه من قصص . (1/ 18، 21 ) .
و ضمن كتابه : التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية ( ص 18 ) .
4 – و هناك أيضاً الدكتور : محمد كامل حسين في كتابه : أدب مصر الفاطمية ( ص 7 ) .
5 – و أيضاً : عبد العزيز الهلابي في كتابه عبد الله بن سبأ ( ص 73) ، حيث حجب هذا الشخص الغموض الذي أثاره غيره من المشككين في وجود ابن سبأ فلازم الإنكار .
6 – و الشيء بالشيء يذكر يعتبر الأستاذ حسن بن فرحان المالكي تلميذ المذكور أعلاه من المنكرين لوجود ابن سبأ ، و في أحيان أخرى ينكر دور ابن سبأ في الفتنة . راجع كلامه في جريدة المسلمون الأعداد ( 657 ، 658 ) .
7 - ومن المنكرين و المتشكيين والمترددين في إثبات و نفي شخصية عبد الله بن سبأ ، الدكتور : جواد علي في مقال له بعنوان ( عبد الله بن سبأ ) منشور في مجلة المجمع العلمي العراقي المجلد السادس ( ص 84 ، 100 ) و أيضاً في مجلة الرسالة العدد ( 778 ) ( ص 609-610 ) .(40/27)
8 - و أيضاً الدكتور : محمد عمارة في كتابه الخلافة و نشأة الأحزاب الإسلامية ( ص 154-155 ) ، فيقول : ( وتنسب أغلب مصادر التاريخ والفكر الإسلامي إلى ابن السوداء هذا نشاط عظيماً و جهداً خرافياً ) ، و يقول : ( فإن وجود ابن سبأ على فرض التسليم بوجوده ) إلى غيرها من النقولات .
9 - و الدكتور : عبد الله السامرائي في كتابه الغلو والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية ( ص 86 ) ، إلا أنه يثبت وجود الأفكار التي تنسب إلى عبد الله بن سبأ ، من غير جزم بوجود صاحبها .
ب - المنكرون لوجود ابن سبأ من الشيعة :-
1 - محمد الحسين كاشف الغطاء ، في كتابه أصل الشيعة و أصولها ( ص 61 ) يقول : ( على أنه لا يستبعد أن يكون هو – أي عبد الله بن سبأ – و مجنون بني عامر و أبو هلال .. وأمثالهم أحاديث خرافية وضعها القصاص لتزجية الفراغ و شغل أوقات الناس ) .
2 - مرتضى العسكري و له كتابان في هذا الموضوع ، ينفي فيهما وجود ابن سبأ من الأصل ، و يعتبر مرتضى هذا من أكثر الشيعة المحدثين اهتماماً بمسألة عبد الله بن سبأ . الكتاب الأول بعنوان : ( عبد الله بن سبأ بحث حول ما كتبه المؤرخون والمستشرقون ابتداء من القرن الثاني الهجري ) . و رمز له بالجزء الأول . الكتاب الثاني بعنوان : ( عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى ) .
3 - محمد جواد مغنيه ، و قد ذكر ذلك في تقديمه لكتاب عبد الله بن سبأ و أساطير أخرى لمرتضى العسكري (1/12 ) . و كتاب التشيع ( ص 18 ) .
4 - الدكتور علي الوردي ، في كتاب و عاظ السلاطين ( ص273- 276 ) ، يقول : ( يخيل إلى أن حكاية ابن سبأ من أولها إلى آخرها كانت حكاية متقنة الحبك رائعة التصوير ) ، و يعتبر علي الوردي صاحب بدعة القول بأن ابن السوداء و هو عمار بن ياسر رضي الله عنه ، ( ص 278) .(40/28)
5 – عبد الله الفياض في كتابه تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة ( ص 95 ) ، يقول : ( يبدوا أن ابن سبأ كان شخصية إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة ) .
6 - الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتاب الصلة بين التصوف والتشيع ( ص 41 ) ، و قد تابع الدكتور علي الوردي في كلامه حول كون عمار بن ياسر هو ابن السوداء ، ( ص 88 ) .
7 – طالب الرفاعي في التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية ( ص 20 ) .
و لعل هذا النفي شبه الجماعي من قبل أولئك الباحثين الشيعة لشخصية عبد الله بن سبأ ، هو بغرض نفي التأثير اليهودي في عقائد الشيعة ، و تبرئة ساحتهم من عبد الله بن سبأ ، و لكن أنى لهم ذلك .
و قد أعجبتني مقولة للدكتور سعدي الهاشمي يقول فيها : ( و بهذه النقول والنصوص الواضحة المنقولة من كتب القوم ( الشيعة ) تتضح لنا حقيقة شخصية ابن سبأ اليهودي ، و من طعن من الشيعة في ذلك فقد طعن في كتبهم التي نقلت لعنات الأئمة المعصومين – عندهم – على هذا اليهودي ( ابن سبأ ) و لا يجوز و لا يتصور أن تخرج اللعنات من المعصوم على مجهول ، و كذلك لا يجوز في معتقد القوم تكذيب المعصوم ) . ابن سبأ حقيقة لا خيال ( ص 76 ) .
جـ – المثبتون لوجود ابن سبأ من المستشرقين :-
اهتم المستشرقون بمسألة عبد الله بن سبأ و درسوا ما جاء عنه ، و نحن لسنا بحاجة إلى قيام أمثال هؤلاء الحاقدين لإثبات شخصية ابن سبأ لنثبت شخصيته بدورنا ، لكن تطرقت لذكرهم فقط من باب بيان أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ، كما فعل أبي هريرة رضي الله عنه عندما تعلم فضل سورة آية الكرسي من إبليس لعنه الله . البخاري مع الفتح (4/487- 488 ) .(40/29)
1 - المستشرق الألماني : يوليوس فلهاوزن (1844- 1918م ) ، يقول : ( ومنشأ السبأية يرجع إلى زمان علي و الحسن ، و تنسب إلى عبد الله بن سبأ و كما يتضح من اسمه الغريب فإنه كان أيضاً يمنياً و الواقع أنه من العاصمة صنعاء ، و يقال أنه كان يهودياً ) . في كتابه : الخوارج والشيعة ( ص 170-171 ) .
2 - المستشرق : فان فلوتن ( 1866- 1903م ) ، يرى أن فرقة السبأية ينتسبون إلى عبد الله بن سبأ فيقول : ( وأما السبأية أنصار عبد الله بن سبأ الذي كان يرى أحقية علي بالخلافة منذ أيام عثمان ، فكان يعتقدون أن جزءاً إلهياً تجسد في علي ثم في خلفائه من بعده . السيادة العربية والشيعية و الإسرائيليات في عهد بني أمية (ص 80 ) .
3 - المستشرق الإيطالي : كايتاني ( 1869-1926م ) ، يخلص هذا المستشرق في بحثه الذي نشره في حوليات الإسلام الجزء الثامن من سنة (33-35هـ ) إلى أن ابن سبأ موجود في الحقيقة لكنه ينكر روايات سيف بن عمر في تاريخ الطبري والتي تشير إلى أن المؤامرة التي أطاحت بعثمان ذات أسباب دينية ، كما وأنه ينكر أن تكون آراء ابن سبأ المؤلهة لعلي قد حدثت في أيامه ، و ينتهي إلى القول بأن هذه الآراء وليدة تصورات الشيعة في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة .
4 - المستشرق : ليفي ديلافيدا ( المولود عام 1886م ) ، حيث مرّ بعبد الله بن سبأ و هو يتحدث عن خلافة علي من خلال كتاب أنساب الأشراف للبلاذري .
5 - المستشرق الألماني : إسرائيل فريد لندر ، وقد كتب مقالاً عن عبد الله بن سبأ في المجلة الآشورية العددين من سنة (1909م ، ص 322) و(1910م ، ص 23) بعنوان : ( عبد الله بن سبأ مؤسس الشيعة وأصله اليهودي ) و قد خلص في بحثه هذا الذي يربوا على الثمانين صفحة إلى القول بأنه لا يتشكك مطلقاً في شخصية ابن سبأ .(40/30)
6 – المستشرق المجري : جولد تسيهر ( 1921م ) ، يقول : ( كما أن الإغراق في تأليه علي الذي صاغه في مبدأ الأمر عبد الله بن سبأ ) . في كتابه : العقيدة والشريعة في الإسلام ( ص 205 ) .
7 - رينولد نكلس ( 1945م ) ، يقول في كتابه تاريخ الأدب العربي (ص215 ) : ( فعبد الله بن سبأ الذي أسس طائفة السبأيين كان من سكان صنعاء اليمن ، و قد قيل إنه كان من اليهود و قد أسلم في عهد عثمان و أصبح مبشراً متجولاً ) .
8 - داويت . م . رونلدسن ، يقول : ( فقد ظهر منذ زمن عثمان داعية متنقل اسمه عبد الله بن سبأ قطع البلاد الإسلامية طولاً و عرضاً يريد إفساد المسلمين كما يقول الطبري ) . عقيدة الشيعة ( ص 85 ) .
9 - المستشرق الإنجليزي : برنارد لويس ، فهو يرى أن عبد الله بن سبأ هو أصل التشيع . راجع كلامه في كتابه : أصول الإسماعيلية ( ص 86 ) .
هذه أهم الكتابات الاستشراقية في موضوع عبد الله بن سبأ ، و هناك غير هؤلاء الكثير ، راجع للأهمية كتاب : عبد الله بن سبأ و أثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام للدكتور سليمان العودة ( ص 73 ) .(40/31)
أما المنكرون لشخصية ابن سبأ من المستشرقين ، فهم فئة قليلة و الذين وقفوا في شخصية ابن سبأ و أصبحت عندهم مجرد خرافة و محل شك ، و ليس هناك من داع لذكرهم ، لعدم انتشار أفكارهم بخلاف المثبتين فهم من المستشرقين المعروفين والذين يعتمد عليهم الكثير ممن تأثر بفكر الاستشراق ، و كان هدف هؤلاء المستشرقين من ذلك التشكيك أو الإنكار هو ادعاء أن الفتن إنما هي من عمل الصحابة أنفسهم ، و أن نسبتها إلى اليهود أو الزنادقة هو نوع من الدفاع عن الصحابة لجأ إليها الإخباريون والمؤرخون المسلمون ليعلقوا أخطاء هؤلاء الصحابة على عناصر أخرى ، على أن إنكار بعضهم لشخصية ابن سبأ إنما يرجع إلى رغبتهم في الانتهاء إلى النتيجة التالية : لا حاجة لمخّرب يمشي بين الصحابة ، فقد كانت نوازع الطمع و حب الدنيا والسلطة مستحوذة عليهم ، فراحوا يقاتلون بعضهم عن قصد و تصميم ، و القصد من ذلك الإساءة إلى الإسلام و أهله ، و إلقاء في روع الناس أن الإسلام إذا عجز عن تقويم أخلاق الصحابة و سلوكهم وإصلاح جماعتهم بعد أن فارقهم الرسول صلى الله عليه وسلم بمدة وجيزة ، فهو أعجز أن يكون منهجاً للإصلاح في هذا العصر . أنظر : تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة للدكتور : محمد أمحزون (1/314) .
أدلة من أنكر شخصية عبدالله بن سبأ والرد عليهم
يمكن أن أحصر أدلتهم فيما يلي ، ثم أتبع كل شبهة من أدلتهم بالإجابة عنها :-
أولاً : قالوا : إعراض المؤرخين عن ذكر ابن سبأ أو ابن السوداء في حرب صفين ، و كونه غاب عنها ، و كيف له أن يغيب عن هذا المعركة و هو الذي كان يصول و يجول في حرب الجمل ، لهذا لم يستطع المؤرخون الإجابة على هذا السؤال المحير ! و هذا مما يدل على أنه غير موجود .(40/32)
الرد عليه : إن المؤرخين عند حديثهم عن موضوع معين لا يلتزمون بذكر كل تفاصيل ما جرى في الأحداث والوقائع التي ذكروها في كتبهم ، هذا على افتراض مشاركة ابن سبأ في حرب صفين ، و على افتراض عدم مشاركته في حرب صفين ، هل يعد ذلك دليلاً على عدم وجوده ، فيعارض به ما أثبته المؤرخون من وجود ابن سبأ و ما كان له من دور ؟! و في اعتقادي أن هذه الشبهة لا تقوى على ما أثبته المؤرخون والمحققون من سنة و شيعة من وجود ابن سبأ .
ثانياً : قالوا : إن أخبار ابن سبأ إنما انتشرت بين الناس عن طريق الطبري ، والطبري أخذها عن سيف بن عمر ، إذاً فسيف هو المصدر الوحيد لأخبار ابن سبأ ، و سيف هذا كذاب ضعفه علماء الجرح والتعديل .
الرد عليه و سيكون على ثلاثة فروع :-
أ – كون الطبري هو المصدر الوحيد لأخبار ابن سبأ ، و هذه الأخبار جميعها جاءت من طريق سيف بن عمر .
الرد : هذه شبهة باطلة إذ لم ينفرد الطبري وحده بروايات سيف ، بل هناك روايات لسيف تتحدث عن ابن سبأ لا توجد عند الطبري ، و مثاله :
1 - من طريق ابن عساكر ( ت 571هـ ) في تاريخه (29/9 ) ، وقد أورد رواية من طريق سيف بن عمر ليست عند الطبري .
2 - من طريق المالقي ( ت 741هـ ) في كتابه التمهيد و البيان ( ص 54 ) و قد أورد رواية ليست عند الطبري من طريق سيف بن عمر .
3 - من طريق الذهبي ( ت 748هـ ) في كتابه تاريخ الإسلام ( 2/122-123) و هذه الرواية أيضاً غير موجودة في الطبري .
فهذه الطرق الثلاثة تدلنا على أن الطبري لم ينفرد بروايات سيف بن عمر عن ابن سبأ ، و أنه ليس المصدر الوحيد لهذه الأخبار .
ب – كون سيف بن عمر هو المصدر الوحيد لأخبار ابن سبأ .(40/33)
الرد : هذه الشبهة أيضاً غير صحيحة ، فقد ثبتت روايات ذكر فيها ابن سبأ لم يكن سيف في سندها ، و إن الذي يتبين لنا من خلال البحث والتنقيب أن سيف بن عمر ليس هو المصدر الوحيد لأخبار عبد الله بن سبأ ، و سأورد هنا عدد من النصوص لابن عساكر تذكر ابن سبأ لا ينتهي سندها إلى سيف بن عمر ، و قد اخترت تاريخ ابن عساكر بالذات لأنه يعتمد في روايته للأخبار على السند كما هو حال الطبري في تاريخه .
الرواية الأولى : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى الشعبي ، قال : أول من كذب عبد الله بن سبأ .
الرواية الثانية : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى عمار الدهني ، قال : سمعت أبا الطفيل يقول : رأيت المسيب بن نجبة أتى به يلببة - يعني ابن السوداء - ، و علي على المنبر ، فقال علي : ما شأنه ؟ فقال : يكذب على الله وعلى رسوله .
الرواية الثالثة : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى زيد بن وهب عن علي قال : ما لي و ما لهذا الحميت الأسود ؟ .
الرواية الرابعة : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى شعبة عن سلمة قال : قال سمعت أبا الزعراء يحدث عن علي عليه السلام قال : ما لي وما لهذا الحميت الأسود ؟ .
الرواية الخامسة : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى شعبة عن سلمة بن كهيل عن زيد قال : قال علي بن أبي طالب ما لي ولهذا الحميت الأسود ؟ - يعني عبد الله بن سبأ – وكان يقع في أبي بكر وعمر .
الرواية السادسة : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى سلمة بن كهيل عن حجية بن عدي الكندي قال : رأيت علياً كرم الله وجهه وهو على المنبر ، وهو يقول : من يعذرني من هذا الحميت الأسود ، الذي يكذب على الله ورسوله ؟ - يعني ابن السوداء – لولا أن لا يزال يخرج عليّ عصابة تنعى عليّ دمه كما أدّعيت عليّ دماء أهل النهر ، لجعلت منهم ركاماً .(40/34)
الرواية السابعة : ذكرها ابن عساكر بسنده إلى أبو الأحوص عن مغيرة عن سماك قال : بلغ عليا أن ابن السوداء ينتقص أبا بكر وعمر ، فدعا به ، ودعا بالسيف - أو قال : فهمّ بقتله - فكُلّم فيه ، فقال : لا يساكني ببلد أنا فيه . قال : فسيره إلى المدائن . تاريخ دمشق لابن عساكر ( 29/ 7-10 ) .
للمزيد حول ورود روايات عبد الله بن سبأ من غير طريق سيف بن عمر راجع الحلقة ( 3 و 4 ) من سلسلة مقالات عبد الله بن سبأ .
جـ – كون سيف بن عمر ( ت 180هـ ) كذاب ضعفه علماء الجرح والتعديل .
الرد : مكانة سيف بن عمر (ت 180هـ ) بين الجرح والتعديل ، حتى تكون الصورة واضحة للقارئ .
أولاً : سيف بن عمر محدثاً :-
يقول النسائي في الضعفاء والمتروكين ( ص 14 ) : ( سيف بن عمر الضبي ضعيف ) . وذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 2/278 ) أن سيف بن عمر : ( متروك الحديث ، يشبه حديثه حديث الواقدي ) . و عند ابن معين في نفس المصدر (2/278 ) أن سيفاً ضعيف الحديث . و ذكره الذهبي فيمن له رواية في الكتب الستة ، واكتفى بالقول : ( ضعفه ابن معين و غيره ) .الكاشف (1/416 ) . و في المغني في الضعفاء ( ص 292) قال الذهبي : ( سيف بن عمر التميمي الأسدي له تواليف متروك باتفاق ) . و عند ابن حجر في التقريب (1/344 ) : ( سيف ضعيف الحديث ) . و يقول ابن حبان في المجروحين (1/345) : ( سيف بن عمر الضبي الأسدي من أهل البصرة اتهم بالزندقة .. يروي الموضوعات عن الأثبات ) .
هذا بالنسبة لسيف بن عمر و كونه محدثاً ، لكن فما عساه يكون إخبارياً مؤرخاً ؟!(40/35)
هنا لا بد و قبل أن أذكر أقوال أهل العلم فيه أن أنبه أنه لا بد من التفريق بين رواية ( الحديث ) و رواية الأخبار الأخرى ، فعلى الأولى تبنى الأحكام و تقام الحدود ، فهي تتصل مباشرة بأصل من أصول التشريع ، و من هنا تحرز العلماء –رحمهم الله – في شروط من تأخذ عنه الرواية ، لكن يختلف الأمر بالنسبة لرواية الأخبار ، فهي وإن كانت مهمة – لا سيما حينما يكون مجالها الإخبار عن الصحابة – إلا أنها لا تمحص كما يمحص الحديث ، و من هنا فلا بد من مراعاة هذا القياس و تطبيقه على ( سيف ) بكونه محدثاً ، و إخبارياً . راجع للأهمية كتاب : تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة محمد أمحزون (1/82-143) فقد تحدث عن هذا الموضوع فأجاد .
نعود إلى كتب الرجال نفسها فنجد الآتي :-
يقول الذهبي في ميزان الاعتدال (2/255 ) : ( كان إخبارياً عارفاً ) . و يقول ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/344 ) : ( عمدة في التاريخ ) . أما اتهام ابن حبان لسيف بالزندقة فيجيب عنه ابن حجر في التقريب (1/344 ) بقوله : ( أفحش ابن حبان القول فيه ) . ولا يصح اتهام سيف بالزندقة دون دليل ، إذ كيف نفسر رواياته في الفتنة و حديثه عما جرى بين الصحابة ، فأسلوبه الذي روى به تلك الأحداث أبعد ما يكون عن أسلوب الزنادقة ، و هو الذي فضح و هتك ستر الزنادقة أمثال ابن سبأ !!
و بعد هذا لا يشك أحد أن رواية سيف مرشحة على غيره من الإخباريين أمثال أبي مخنف و الواقدي وابن الكلبي ، و غيرهم الكثير ، فإن روايات سيف تتفق و تنسجم مع الروايات الصحيحة المروية عن الثقات ، علاوة على أنها صادرة و مأخوذة عمن شاهد تلك الحوادث أو كان قريباً منها . للمزيد حول هذا الموضوع راجع كتاب : استشهاد عثمان و وقعة الجمل رواية سيف بن عمر ، للدكتور خالد بن محمد الغيث ( ص 19- 40 ) ، و عبد الله بن سبأ و أثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام للدكتور :سليمان العودة ( ص 104- 110 ) .(40/36)
ثالثاً : قالوا : لم يكن لابن سبأ وجود ، و إنما هو في الحقيقة شخصية رمزت لعمار بن ياسر ، ثم ساقوا عدد من الدعائم التي تؤيد هذا القول ، منها :-
1 - كان ابن سبأ يعرف بابن السوداء ، و عمار كان يكنى بابن السوداء أيضاً .
2 - كلاهما من أب يماني ، و ينسبون إلى سبأ بن يشجب أصل أهل اليمن .
3 - كلاهما كان شديد الحب لعلي ، و من محرضي الناس على بيعته .
4 - ذهاب عمار إلى مصر أيام عثمان و أخذ يحرض الناس على عثمان ، و مثل هذا ينسب إلى ابن سبأ .
5 - ينسب إلى ابن سبأ القول بأن عثمان أخذ الخلافة بغير حق ، و أن صاحبها الشرعي هو علي ، و هذا نفسه كان يقول به عمار .
6 - و يشترك الاثنان في عرقلة مساعي الصلح في معركة الجمل .
7 - قالوا عن ابن سبأ أنه هو المحرك لأبي ذر في دعوته الاشتراكية ! و صلة عمار بأبي ذر وثيقة جداً .
الرد : هذا الرأي الذي خلصوا إليه ، إنما يدل على جهل صاحبه ، و هذا الرأي ترده كتب الجرح والتعديل و كتب الرجال الموثقة عند الشيعة ، فهي تذكر عمار بن ياسر ضمن أصحاب علي والرواة عنه ، و هو أحد الأركان الأربعة عندهم ، ثم هي تذكر في موضع آخر ترجمة عبد الله بن سبأ في معرض السب واللعنة . أنظر : رجال الطوسي ( ص 46 ، 51 ) و رجال الحلي ( ص 255 ، 469 ) . فهل يمكن اعتبار الرجلين شخصية واحدة بعد ذلك ؟!(40/37)
كما وأن عوامل توافق الشخصيتين ذهاب كل منهما إلى مصر زمن عثمان ، فإن استقراء النصوص ومعرفة تاريخها يعطي مفهوماً غير الذي فهمه النافين لوجود ابن سبأ ، و بالتالي ينتصب هذا العامل دليلاً على استقلال كل من الشخصيتين ، فعمار إنما بعثه عثمان إلى مصر سنة ( 35هـ ) ، بينما كان ظهور ابن سبأ سنة ( 30هـ ) كما في الطبري (4/241) ، و هو الذي ساق الخبرين ، و شيء آخر و هو أن الطبري نفسه أورد أن من الذين استمالوا عماراً في مصر قوم منهم عبد الله بن سبأ . الطبري (4/341) ، وانظر أيضاً : البداية والنهاية لابن كثير (7/167) و الكامل في التاريخ لابن الأثير (3/77) و تاريخ ابن خلدون ( 2/1034) فهؤلاء هو كبار المؤرخين و هم جميعاً أثبتوا الشخصيتين ؛ شخصية ابن سبأ و شخصية عمار بن ياسر ، فكيف لعاقل بعد ذلك أن يقول إنهما شخص واحد ؟!
و أما قولهم بأن عمار كان يمانياً ، فكل يماني يصح أن يقال له ابن سبأ ، فهذا غير صحيح ، فليست سبأ إلا جزءاً من بلاد اليمن الواسعة كما قال بذلك ياقوت في معجم البلدان (3/181 ) .
وأما قولهم بأن عمار كان يقول بأن عثمان قد أخذ الخلافة بغير حق ، و أن صاحبها الشرعي هو علي ، فإن هذه المقولة زَعْم يحتاج إلى دليل ، بل الثابت أن عثمان رضي الله عنه كان يثق بعمار و هو الذي أرسله إلى مصر لضبط أمورها . راجع الطبري ( 4/341) .
كما وأن التشابه في الكنى لا يجعل من الرجلين شخصية واحدة ، كما وأن الظروف التاريخية وطابع كل من الشخصيتين لا تسمحان لنا بقبول هذا الرأي . وإن نظرة واحدة إلى كتب التراجم والرجال لتعطي القارئ فكرة واسعة في سبب قيام علماء الجرح والتعديل بتأليف الكتب التي تحتوي على المتشابه من الأسماء والكنى .
و شيء مهم آخر و هو أن عمار قتل يوم صفين ، في حين بقي ابن سبأ إلى بعد مقتل علي رضي الله عنه ، فهل بعد هذا يكون عمار بن ياسر هو عبد الله بن سبأ ؟!(40/38)
رابعاً : قالوا : لم يكن لابن سبأ وجود في الحقيقة ، و إنما هو شخصية وهمية انتحلها أعداء الشيعة بهدف الطعن في مذهبهم و نسبته إلى رجل يهودي .
الرد : إن هذه دعوى لا تقوم عليها حجة ، فكما أنكم ادعيتم هذا ، فلغيركم أيضاً أن يدعي ما شاء ، لكن العبرة بالحجة والدليل ، فزعمكم أن هذه القصة قد اختلقها أهل السنة للتشنيع على الشيعة ، ليس لها دليل ، و قد كان عليكم قبل أن تلقوا بظلال الشك جزافاً – و ذلك دأبكم – أن تتأكدوا على الأقل من أن هذه القصة لم ينفرد بها أهل السنة فقط ، فهذا الزعم باطل لأن مصادر الشيعة هي الأخرى أثبتت – كما سلف – وجود ابن سبأ . و بهذا يسقط اعتراضكم على القصة بزعمكم أنها من مفتريات أهل السنة .
و بعد هذا الذي ذكرت و هذه الشبهات التي أبطلت ، أستطيع أن أقول : إن سبب إنكار الشيعة لوجود ابن سبأ إلى عقيدتهم التي بثها و تسربت إلى فرق الشيعة ، و هي عقيدة تتنافى مع أصول الإسلام ، و تضع القوم موضع الاتهام والشبهة ، هذا من جهة ، و من جهة أخرى لما للعداء التاريخي في نفوس الشيعة نحو الصحابة ، و رغبة لإظهارهم بأنهم هم الذين أثاروا الفتنة بينهم .
و في الختام يتأكد بعد استقراء المصادر سواء القديمة والمتأخرة عند السنة والشيعة أن وجود عبد الله بن سبأ كان وجوداً حقيقياً تؤكده الروايات التاريخية ، و تفيض فيه كتب العقائد ، و ذكرته كتب الحديث والرجال والأنساب والطبقات و الأدب واللغة ، و سار على هذا النهج كثير من المحققين والباحثين المحدثين(40/39)
دور هذا اليهودي في إشعال نار الفتنة على عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وأحب أن أنبه أنه وأثناء الحديث قد لا نتطرق لذكر ابن سبأ في بعض الأحيان ، و هذا لا يعني أنه غير موجود أو أنه ليس له دور ، بل ثبت بالدليل الصحيح الصريح أن اليد الخفية التي كانت تدير المؤامرة و تحرك الفتنة ، هي يد ذلك اليهودي الخبيث عبد الله بن سبأ ، كما وأننا لن نتطرق أيضاً لذكر المآخذ التي أخذت على عثمان بزعم مثيري الفتنة ، و ذلك لأنه ليس هذا مجال ذكرها ، و لعل الله ييسر لنا كتابتها في مقال مستقل مع التعليق عليها إن شاء الله .
بذور الفتنة : السبب الرئيسي ، رجل يقال له عبد الله بن سبأ : و شهرته ابن السوداء لأن أمه كانت سوداء من الحبشيات . و هو من صنعاء و كان يهودياً من يهود اليمن . أظهر الإسلام و باطنه الكفر ، ثم انتهج التشيع لعلي رضي الله عنه ، و هو الذي تنسب إليه فرقة السبئية الذين قالوا بألوهية علي و خبر إحراق علي بن أبي طالب رضي الله عنه لطائفة منهم تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح و السنن و المساند . انظر: المحبَّر لابن حبيب ( ص308 ) . تاريخ الطبري (4/340) . و تاريخ دمشق لابن عساكر (29/3) و كتاب : ابن سبأ حقيقة لا خيال لسعدي مهدي الهاشمي ، و كتاب عبد الله بن سبأ و أثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام لسليمان العودة ، و مقال حقيقة ابن السوداء في جريدة المسلمون للدكتور سليمان العودة ، العدد (652-653) . و خبر إحراقهم عند : أبي داود في سننه (4/520) و النسائي (7/104) و الحاكم في المستدرك (3/538-539) و صححه الألباني في صحيح أبي داود (3/822) .(40/40)
فلما رأى هذا الرجل أن أمر الإسلام بدأ ينتشر بهذه الصورة و بدأ يظهر ، رأى أن هذا الأمر ليس له إلا فتنة من داخله ، و كان بمنتهى الخبث ، فأول ما بدأ ، بدأ بالمدينة ، و كانت المدينة يومها ملأى بالعلماء ، فدُحر بالعلم ، كلما رمى شبهة رُد عليها ، فمن شبهه أنه أظهر بعض العقائد اليهودية ، مثل القول بالرجعة ؛ أي رجعة الرسول صلى الله عليه وسلم و استدل بقوله تعالى :{ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد}[ القصص/85] ، و ذكر تعجبه للناس ممن يصدق برجعة عيسى عليه السلام و يكذب برجعة محمد صلى الله عليه وسلم ، و ما كان قوله هذا إلا وسيلة للوصول إلى ما هو أكبر من ذلك ، حيث قال بعد ذلك برجعة علي رضي الله عنه و أنه سيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، و هكذا . انظر : عبد الله بن سبأ و دوره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام لسليمان العودة (ص208) ، واستشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث ( ص 70-86 ) .
و للرد عليهم أشير إلى أن الآية التي استدل بها السبئية دليل عليهم ، و قد نقل ابن كثير في تفسيره (3/345) ، أقوال العلماء في ذلك ، فمنهم من يقول : رادك يوم القيامة فيسألك عما استرعاه من أعيان أعباء النبوة . و منهم من يقول : رادك إلى الجنة ، أو إلى الموت ، أو إلى مكة . و قد أورد البخاري عن ابن عباس القول بالرد إلى مكة . البخاري مع الفتح (8/369) و الطبري في التفسير (10/80-81) .
و قد سأل عاصم بن ضمرة (ت74هـ ) الحسن بن علي فيما يزعمه الشيعة بأن علياً رضي الله عنه سيرجع ، فقال : كذب أولئك الكذّابون ، لو علمنا ذلك ما تزوج نساؤه و لا قسمنا ميراثه . المسند (1/148) .(40/41)
و في الطبقات لابن سعد (3/39) . ورد ذكر السبئية و أفكار زعيمها و إن كان لا يشر إلى ابن سبأ بالاسم ، فعن عمرو بن الأصم قال : ( قيل للحسن بن علي : إن ناساً من شيعة أبي الحسن علي رضي الله عنه يزعمون أنه دابة الأرض و أنه سيبعث قبل يوم القيامة ، فقال : كذبوا ليس أولئك شيعته ، أولئك أعداؤه لو علمنا ذلك ما قسمنا ميراثه و لا أنكحنا نساءه .
ومن أقوال ابن سبأ أيضاً القول بالوصية و الإمامة . يقول الشهرستاني في الملل و النحل (1/174) : إن ابن سبأ هو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي .
ويذكر شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (4/435) : أن أصل الرفض من المنافقين الزنادقة ، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق و أظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة و النص عليه ، و ادّعى العصمة له .
و في خطط المقريزي (2/356-357) : أن عبد الله بن سبأ قام في زمن علي رضي الله عنه مُحدِثاً القول بالوصية و الرجعة و التناسخ .
و من المحدثين الشيعة الذين ذكروا فكرة الوصي ، محمد بن يعقوب الكليني (ت329هـ) في كتابه الكافي في الأصول ، حيث أورد النص التالي : ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء ، و لن يبعث الله رسولاً إلا بنبوة محمد صلى الله عليه و آله ، و وصية علي عليه السلام . أنظر : السنة و الشيعة لإحسان إلهي ظهير (ص54 ) .
و هذا الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعد مصداقاً لما جاء في كتاب السنة لابن أبي عاصم بسند صحيح على شرط الشيخين (2/476-477) ، حيث أخرج من طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : ليحبني قوم حتى يدخلوا النار فيِّ ، و ليبغضني قوم حتى يدخلوا النار في بغضي .
وقد علق الشيخ الألباني على هذا الحديث قائلاً : و اعلم أن هذا الحديث موقوف على علي بن أبي طالب ، و لكنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من الغيب الذي لا يعرف بالرأي .(40/42)
و خلاصة ما جاء به ابن سبأ ، أنه أتى بمقدمات صادقة و بنى عليها مبادئ فاسدة راجت لدى السذّج
و الغلاة و أصحاب الأهواء من الناس ، و قد طرق باب القرآن يتأوّله على زعمه الفاسد ، كما سلك طريق القياس الفاسد في ادعاء إثبات الوصية لعلي رضي الله عنه بقوله : إنه كان ألف نبي ، و لكل نبي وصي ، و كان علي وصي محمد ثم قال : محمد خاتم الأنبياء و علي خاتم الأوصياء . تاريخ الطبري ( 4/340) من طريق سيف بن عمر .
هنا ابن سبأ لما لم يستطع أن يكسب شخصاً واحداً توجه نحو الشام ، و كانت الشام وقتها يحكمها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، فلما توجه إليها لم يستطع أن يكسب و لو رجلاً واحداً إلى صفه ، فترك الشام و توجه نحو الكوفة و إذ هي تموج بالفتن ، و مكاناً خصباً لبث شبهاته . لذلك كان عمر رضي الله عنه ولى عليها المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ، حيث كان من أشد الناس ففي أيام عمر ما استطاعت أن تبرز في الكوفة فتنة ، و لما تولى عثمان الخلافة عزل المغيرة و عين بدلاً عنه سعيد بن العاص رضي الله عنه وكان من بني أمية ، فأهل الكوفة اعتبروا ذلك استغلالاً للمنصب ؛ فكثرت الفتن فيها ، فعبد الله بن سبأ وجد أرضاً خصبة للفتن ، فاستطاع أن يجمع حوله جماعة ، ثم انتقل إلى البصرة فجمع فيها جماعة أخرى ، و كان عددهم على أقل تقدير عند المؤرخين ستمائة رجل ، و أقصاها ألف رجل ، ثم انتقل إلى مصر و استطاع أن يجمع ما بين ستمائة إلى الألف من الرجال . انظر : استشهاد عثمان و وقعة الجمل من مرويات سيف بن عمر لخالد الغيث (ص72-86) ، حيث أجاد الباحث في تحليل الموقف .(40/43)
و استخدم ابن سبأ كذلك الأعراب ، فذهب إليهم و بدأ يثير عندهم الأكاذيب حول عثمان و يستدل على قوله بكتب مزيفة كتبها هو و أعوانه على ألسنة طلحة و الزبير و عائشة ، فيها التذمر على سياسة عثمان في الحكم ، فصار الأعراب و هم الذين لا يفقهون من دين الله الشيء الكثير ، يتأثرون بهذه الأكاذيب و يصدقونها فملئت قلوبهم على عثمان رضي الله عنه . استشهاد عثمان ( ص 87-99 ) .
بعد ذلك اتجه ابن سبأ إلى هدفه المرسوم ، و هو خروج الناس على الخليفة عثمان رضي الله عنه ، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم فقال لهم : إن عثمان أخذ الأمر بغير حق و هذا وصي الرسول صلى الله عليه وسلم ، فانهضوا في هذا الأمر فحركوه ، و ابدؤوا بالطعن في أمرائكم و أظهروا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تستميلوا الناس ، و ادعوهم إلى هذا الأمر . تاريخ الطبري (4/341) ، من طريق سيف بن عمر .
و يظهر من هذا النص الأسلوب الذي اتبعه ابن سبأ ، فهو أراد أن يوقع في أعين الناس بين اثنين من الصحابة حيث جعل أحدهما مهضوم الحق و هو علي ، و جعل الثاني مغتصباً و هو عثمان .
ثم إنه أخذ يحضّ أتباعه على إرسال الكتب بأخبار سيئة مفجعة عن مِصرهم إلى بقية الأمصار ، فيتخيل أهل البصرة مثلاً أن حال أهل مصر أسوأ ما يكون من قبل واليهم ، و يتخيل أهل مصر أن حال أهل الكوفة أسوأ ما يكون من قبل واليهم ، و كان أهل المدينة يتلقّون الكتب من الأمصار بحالها و سوئها من أتباع ابن سبأ ، وهكذا يتخيل الناس في جميع الأمصار أن الحال من السوء مالا مزيد عليه ، و المستفيد من هذه الحال هم السبئية ، لأن تصديق ذلك من الناس يفيدهم في إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلامي .
هذا و قد شعر عثمان رضي الله عنه بأن شيئاً ما يحاك في الأمصار و أن الأمة تمخض بشرّ فقال : والله إن رحى الفتنة لدائرة ، فطوبى لعثمان إن مات و لم يحركها . تاريخ الطبري (4/343) ، من طريق سيف بن عمر .(40/44)
روى الترمذي عن ابن عمر قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقال : يقتل هذا فيها مظلوماً - لعثمان بن عفان - صحيح سنن الترمذي (3/210) و أنظر: فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/451) .
و روى الترمذي في سننه (5/628) و ابن ماجة عن كعب بن عجرة قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقربها ، فمر رجل مقنع رأسه فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا يومئذ على الحق ، فوثبت فأخذت بضبعي عثمان ثم استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : هذا ؟ قال : هذا . المسند (4/242) و صحيح ابن ماجة (1/24-25) و صحيح سنن الترمذي (3/210) و فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/450) .
و الذي حصل أن أهل الفتنة أخذوا يتراسلون فيما بينهم ، فلما رأوا أن عددهم قد كثر تواعدوا على أن يلتقوا عند المدينة في شوال من سنة (35هـ) في صفة الحجاج ، فخرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء المقلّل يقول ستمائة و المكثر يقول ألف .. و لم يجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إلى الحرب ، و إنما خرجوا كالحجاج و معهم ابن السوداء ..و خرج أهل الكوفة في عدد كعدد أهل مصر ، و كذا أهل البصرة ، و لما اقتربوا من المدينة شرعوا في تنفيذ مرحلة أخرى من خطتهم ، فقد اتفق أمرهم أن يبعثوا اثنين منهم ليطلعا على أخبار المدينة و يعرفا أحوال أهلها ، ذهب الرجلان فلقيا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم و علياً و طلحة و الزبير ، و قالا : إنما جئنا نستعفي عثمان من بعض عمالنا ، و استأذنا لرفاقهم بالدخول ، فأبى الصحابة ، و قال علي رضي الله عنه : لا آمركم بالإقدام على عثمان فإن أبيتم فبيض سيفرخ . الطبري (4/349-350) ، من طريق سيف بن عمر .(40/45)
تظاهر القوم بالرجوع و هم يبطنون أمراً لا يعلمه الناس ، فوصلت الأنباء إلى أهل المدينة بانصراف أهل الفتنة فهدأ الناس ، و في الليل فوجئ أهل المدينة بأهل الفتنة يدخلون المدينة من كل مكان فتجمعوا في الشوارع و هم يكبرون ، فجاء علي بن أبي طالب و قال : ما شأنكم ؟ لماذا عدتم ؟ فرد عليه الغافقي بأن عثمان غدر بهم ، قال كيف ؟ قال : قبضنا على رسول و معه كتاب من عثمان يأمر فيه الأمراء بقتلنا ، فقال علي لأهل الكوفة و البصرة : و كيف علمتم بما لقي أهل مصر و قد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا ، هذا والله أمر أبرم بالمدينة ، و كان أمر الكتاب الذي زوّر على لسان عثمان رضي الله عنه اتخذوه ذريعة ليستحلوا دمه و يحاصروه في داره إلى أن قتلوه رضي الله عنه .
و فوق هذا كله فالثائرون يفصحون عن هدفهم ويقولون : ضعوه على ما شئتم ، لا حاجة لنا في هذا الرجل ليعتزلنا و نحن نعتزله . الطبري (4/351) ، من طريق سيف بن عمر .
و علاوة على ذلك هناك ما يؤكد تزوير هذا الكتاب ، إذ ليس هو الكتاب الوحيد الذي يزوّر على لسان الصحابة ، فهذه عائشة رضي الله عنها ، تُتهم بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان فتنفي
و تقول : لا والذي آمن به المؤمنون و كفر به الكافرون ما كتبت لهم سواداً في بياض حتى جلست مجلسي هذا . البداية والنهاية (7/195) و انظر ما رواه الطبري من استنكار كبار الصحابة أنفسهم لهذه الكتب في أصح الروايات (4/355) .
و ما تلك اليد الخفية التي كانت تخط وراء الستار لتوقع الفرقة بين المسلمين ، و تضع في سبيل ذلك الكتب على لسان الصحابة و تدبر مكيدة الكتاب المرسل إلى عامل عثمان على مصر ، و تستغل الأمور لتقع الفتنة بالفعل إلا يد ذلك اليهودي الخبيث و أتباعه ، فهم المحركون للفتنة .(40/46)
توقفنا في المرة السابقة عند رجوع الوفد المصري بعد أن زعم أنه قبض على رسول من عثمان إلى عامله في مصر يأمره بقتلهم ، و عرفنا أن هذا الكتاب ليس هو الوحيد الذي زور على عثمان ، و ظهرت حقيقة اليد التي زورت و خططت ، واليوم إن شاء الله نكمل الموضوع الذي بدأناه .
هنا استشار عثمان كبار الصحابة في أمر التخلي عن الخلافة لتهدأ الفتنة ، و كان المغيرة بن الأخنس قد أشار عليه بالخلع لئلا يقتله الخارجون عليه ، و قد سأل عثمان ابن عمر عن رأي المغيرة فنصحه بأن لا يخلع نفسه و قال له : فلا أرى لك أن تخلع قميصاً قمصكه الله فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم أو أميرهم قتلوه . طبقات ابن سعد (3/66) بإسناد صحيح و رجاله رجال الشيخين ، و تاريخ خليفة (ص170) بإسناد حسن .
و هناك بعض الروايات تفيد أن عثمان رضي الله عنه أرسل إلى الأمصار يطلب منهم العون بعد أن اشتد عليه التضييق و الحصار ، و هذا الخبر لا يصح منه شيء ، لأن منهج عثمان رضي الله عنه كان الصبر و الكف عن القتال امتثالاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم له ، و ذلك لحديث عائشة رضي الله عنها كما عند ابن أبي عاصم في السنة (2/561) قالت : لما كان يوم الدار قيل لعثمان : ألا تقاتل ؟ قال : قد عاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد سأصبر عليه ، قالت عائشة : فكنا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليه فيما يكون من أمره .
لهذا وضع مصلحة الرعية في المقام الأول ، فعندما عرض عليه معاوية أن يبعث إليه بجيش يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياه قال رضي الله عنه : أنا لا أقتر على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرزاق بجند يساكنهم ، و أضيّق على أهل الهجرة و النصرة ، فقال له معاوية : والله يا أمير المؤمنين لتغتالنّ أو لتغزينّ ، فقال عثمان : حسبي الله ونعم الوكيل . الطبري (4/345) . و حوصر عثمان بعدها في داره .(40/47)
يقول ابن خلدون : إن الأمر في أوله خلافة ، و وازع كل أحد فيها من نفسه هو الدين و كانوا يؤثرونه على أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة ، فهذا عثمان لما حصر في داره جاءه الحسن
و الحسين و عبد الله بن عمر و ابن جعفر و أمثالهم يريدون المدافعة عنه ، فأبى و منع سلّ السيوف بين المسلمين مخافة الفرقة ، و حفظاً للألفة التي بها حفظ الكلمة و لو أدّى إلى هلاكه . مقدمة ابن خلدون (ص207-208) .
و إلى جانب صبره و احتسابه و حفظاً لكيان الأمة من التمزق و الضياع وقف عثمان رضي الله عنه موقفاً آخر أشد صلابة ، و هو عدم إجابته الخارجين إلى خلع نفسه من الخلافة ؛ فلو أجابهم إلى ما يريدون لسنّ بذلك سنّة ، و هي كلما كره قوم أميرهم خلعوه ، و مما لاشك فيه أن هذا الصنيع من عثمان كان أعظم
و أقوى ما يستطيع أن يفعله ، إذ لجأ إلى أهون الشرين و أخف الضررين ليدعم بهذا الفداء نظام الخلافة .
كان الخارجون عليه يطلبون منه ثلاثة أمور كما جاء ذلك عند ابن سعد في الطبقات (3/72-73) ، قال عثمان للأشتر : يا أشتر ما يريد الناس مني ؟ قال : ثلاث ليس لك من إحداهن بدّ ، قال : ما هن ؟ قال : يخيرونك بين أن تخلع لهم أمرهم ، فتقول هذا أمركم فاختاروا من شئتم ، و بين أن تقصّ من نفسك ، فإن أبيت هاتين فإن القوم قاتلوك . قال : أما ما من إحداهن بدّ ؟ قال : لا ، ما من إحداهن بدّ . قال : أما أن أخلع لهم أمرهم ، والله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إليّ من أن أخلع أمة محمد بعضها على بعض ، و أما أن أقص من نفسي فوالله لقد علمت أن صاحبي بين يديّ قد كان يعاقبان و ما يقوم بدّ من القصاص ، و أما أن تقتلوني فوالله لئن قتلتموني لا تحابّون بعدي أبداً و لا تصلون بعدي جميعاً أبداً و لا تقاتلون بعدي عدواً جميعاً أبداً .(40/48)
و لهذا احتج عثمان رضي الله عنه على المحاصرين بقوله : إن وجدتم في كتاب الله - و في رواية - في الحق أن تضعوا رجليَّ في قيد فضعوها . تاريخ خليفة (ص171) و أحمد في فضائل الصحابة (1/492) قال المحقق : إسناده صحيح ، و انظر : الطبقات (3/69-70 ) بلفظ قريب .
و أخرج أحمد في فضائل الصحابة (1/464) و في المسند (1/63) و الترمذي في السنن (4/460-461) و ابن ماجة في السنن (2/847) و أبو داود في سننه (4/640-641) بإسناد حسن أن عثمان رضي الله عنه أشرف على الذين حصروه فقال : علام تقتلوني ! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ، رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم ، أو قتل عمداً فعليه القود ، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل . فوالله ما زنيت في جاهلية و لا إسلام ، ولا قتلت أحداً فأقيد نفسي منه ، ولا ارتدت منذ أسلمت و إني اشهد ألا إله إلا الله و أن محمداً عبده و رسوله ففيما تقتلوني ؟! .
و ثبت أن عثمان اتخذ موقفاً واضحاً حاسماً يتمثل في عدم المقاومة ، وأنه ألزم به الصحابة فقال : أعزم على كل من رأى عليه سمعاً و طاعة إلا كفّ يده و سلاحه ، فخرج كل من الحسن و الحسين و عبد الله بن عمر و أصر عبد الله بن الزبير على البقاء و معه مروان بن الحكم ، فلما طلب منه ابن الزبير أن يقاتل الخارجين ، قال عثمان : لا والله لا أقاتلهم أبداً . تاريخ خليفة (ص173-174) و مصنف ابن أبي شيبة (15/204) و طبقات ابن سعد (3/70) و كلهم بأسانيد صحيحة .
و ممن أراد القتال دفاعاً عن عثمان الصحابي أبو هريرة و كان متقلداً سيفه ، لكن عثمان لم يأذن له قائلاً : يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعاً و إياي ؟ قال : لا ، قال : فإنك والله إن قاتلت رجلاً واحداً فكأنما قُتل الناس جميعاً . قال أبو هريرة : فرجعت و لم أقاتل . الطبقات لابن سعد (3/70) و تاريخ خليفة (ص173) و إسنادهما صحيح .(40/49)
و استمر الحصار عليه رضي الله عنه حتى أنهم منعوا عنه الماء ، فوصل الخبر إلى أمهات المؤمنين فتحركت أم حبيبة رضي الله عنها و كانت من أقارب عثمان ، فأخذت الماء و جعلته تحت ثوبها ، و ركبت البغل و اتجهت نحو دار عثمان ، فدار بينها وبين أهل الفتنة كلام فقال الأشتر كذبت بل معك الماء و رفع الثوب فرأى الماء فغضب و شق الماء ، قال كنانة مولى صفية : كنت أقود بصفية لتردَّ عن عثمان فلقيها الأشتر فضرب وجه بغلتها حتى مالت فقالت : ردوني و لا يفضحني هذا الكلب . التاريخ الكبير للبخاري (7/237) و ابن سعد في الطبقات (8/128) بإسناد صحيح . و كذلك الطبري (4/385-386) .
و في رواية عند الإمام أحمد في فضائل الصحابة من طريق الحسن البصري قال : لما اشتد أمرهم يوم الدار ، قال : قالوا فمن ، فمن ؟ قال : فبعثوا إلى أم حبيبة فجاؤوا بها على بغلة بيضاء و ملحفة قد سترت ، فلما دنت من الباب قالوا : ما هذا ؟ قالوا : أم حبيبة ، قالوا : والله لا تدخل ، فردوها . فضائل الصحابة (1/492) .و قال المحقق إسناده صحيح .
و حدثت بعض المناوشات بين شباب الصحابة و الثوار فجرح خلالها بعض الصحابة أمثال الحسن بن علي
و غيره ، و هذا الخبر يؤيده ما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (3/1387) ، و البخاري في التاريخ الكبير (7/237) ، عن كنانة مولى صفية بنت حيي بن أخطب قال : شهدت مقتل عثمان ، فأخرج من الدار أمامي أربعة من شبان قريش ملطخين بالدم محمولين ، كانوا يدرؤون عن عثمان رضي الله عنه : الحسن بن علي ، و عبد الله بن الزبير ، و محمد بن حاطب ، و مروان بن الحكم .(40/50)
و تتضافر روايات ضعيفة للدلالة على أن عثمان و هو محصور في الدار بعث إلى علي يطلبه ، و أن علياً استجاب لأمره لكنه لم يتمكن من الوصول إلى الدار التي كان المعارضون يطوقونها ، فقال علي للثّوار : يأيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين و لا أمر الكافرين فلا تمنعوا عن هذا الرجل الماء و لا الطعام فإن الروم و فارس لتأسر و تطعم و تسقي ، و لكن لم يستطع أن يفعل شيئاً ، فحل عمامته السوداء التي كان يرتديها و رمى بها إلى رسول عثمان ، فحملها الرسول إلى عثمان فعلم عثمان أن علي حاول المساعدة لكنه لم يستطع . مصنف ابن أبي شيبة (15/209) بسند منقطع ، و طبقات ابن سعد (3/68-69) بسند منقطع ، و سند آخر منقطع مع تدليس حبيب بن أبي ثابت ، و الطبري (4/386) ، انظر : عصر الخلافة الراشدة لأكرم العمري ( ص427) .
يوم الدار .. و استمر الحصار على عثمان رضي الله عنه أياماً عديدة قدرها بعض المؤرخين بأنه من أواخر ذي القعدة إلى الثاني عشر من ذي الحجة سنة خمس و ثلاثين ، و كان خلالها في غاية الشجاعة و ضبط النفس رغم قسوة الظروف و رغم الحصار ، و لطالما كان يطل على المحاصرين و يخطب فيهم و يذكرهم بمواقفه لعلهم يلينون ، لكنهم لم يفعلوا .
و في يومٍ أشرف عثمان على القوم بعد أن طلبهم للاجتماع حول داره للحديث معهم ، روى الترمذي ،(40/51)
و النسائي من طريق ثمامة بن حَزْن القشيري قال : شهدت الدار حيث أشرف عليهم عثمان فقال : أنشدكم بالله و الإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المدينة و ليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال من يشتري بئر رومة يجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين بخير له في الجنة ؟ فاشتريتها من صلب مالي ؟ قالوا : اللهم نعم . و زاد البخاري ، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من جهز جيش العسرة فله الجنة ، فجهزته قالوا : اللهم نعم . و زاد الترمذي عن أبي إسحاق ، هل تعلمون أن حراء حين انتفض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أثبت حراء فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد ؟ قالوا : نعم ، و هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير منها في الجنة ؟ فاشتريتها من صلب مالي ، فأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها ؟ قالوا : نعم . و عند الدارقطني ، و هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني ابنتيه واحدة بعد أخرى رضي بي و رضي عني ؟ قالوا : نعم . و عند الحاكم ، قال لطلحة : أتذكر إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم : أن عثمان رفيقي في الجنة ؟ قال : نعم . سنن الترمذي (5/627) و النسائي (6/233-236) و الدارقطني (4/197) و المستدرك (3/97) و الفتح (5/477-479) .
و قال أبو هريرة رضي الله عنه للذين حاصروا عثمان رضي الله عنه يوم الدار : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنكم تلقون بعدي فتنة و اختلافاً ، أو قال : اختلافاً و فتنة ، فقال له قائل من الناس : فمن لنا يا رسول الله ؟ فقال : عليكم بالأمين و أصحابه ، و هو يشير إلى عثمان بذلك . أنظر : فضائل الصحابة للإمام أحمد (450-451) و قال المحقق إسناده صحيح .(40/52)
عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه : وددت أن عندي بعض أصحابي ، قلنا : يا رسول الله ألا ندعو لك أبا بكر ؟ فسكت . قلنا : ألا ندعو لك عمر ؟ فسكت . قلنا : ألا ندعو لك عثمان ؟ قال نعم . فجاء فخلا به ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه ، و وجه عثمان
يتغير . أنظر : صحيح سنن ابن ماجة (1/25) و قال الألباني إسناده صحيح .
و عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما كان يوم الدار قيل لعثمان : ألا تقاتل ؟ قال : قد عاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد سأصبر عليه . قالت عائشة : فكنا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليه فيما يكون من أمره . أنظر : كتاب السنة لابن أبي عاصم (2/561) و قال الألباني إسناده صحيح .
و كان أهل الفتنة أثناء حصارهم لعثمان في داره و منعه من الصلاة بالناس ، هم الذين يصلون بهم ، و كان الذي يصلي بالناس الغافقي بن حرب .
أخرج البخاري في صحيحه عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن خيار : أنه دخل على عثمان و هو محصور فقال : إنك إمام عامة ، و نزل بك ما نرى و يصلي لنا إمام فتنة و نتحرج ، فقال : الصلاة أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم ، و إذا أساءوا فاجتنب إساءتهم . البخاري مع الفتح (2/221) .
ليلة مقتل عثمان ..(40/53)
و قبيل مقتله يرى عثمان رضي الله عنه في المنام اقتراب أجله فيستسلم لأمر الله ؛ روى الحاكم بإسناد صحيح إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن عثمان أصبح يحدث الناس قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال : يا عثمان ! أفطر عندنا ، فأصبح صائماً و قتل من يومه . المستدرك (3/ 99) و قال هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه ، و وافقه الذهبي و رواه أحمد في فضائل الصحابة من طريق آخر (1/497) قال المحقق : إسناده حسن ، و ورد بلفظ آخر عند ابن حجر في المطالب العالية (4/291) قال المحقق : قال البوصيري رواه البزار و أبو يعلى و الحاكم و قال : صحيح الإسناد ، و ذكره الهيثمي في المجمع (7/232) و صححه الحاكم في المستدرك (3/103) و ذكره ابن سعد في الطبقات(3/75) .
أخرج خليفة بن خياط في تاريخه ( ص 174) بسند رجاله ثقات إلى أبي سعيد مولى أبي أسيد قال : فتح عثمان الباب و وضع المصحف بين يديه ، فدخل عليه رجل فقال : بيني و بينك كتاب الله ، فخرج وتركه ، ثم دخل عليه آخر فقال : بيني و بينك كتاب الله ، فأهوى إليه بالسيف ، فاتقاه بيده فقطعها ، فلا أدري أبانها أم قطعها و لم يبنها ، فقال والله إنها لأول كف خطت المفصّل .(40/54)
هذا ما ورد عن كيفية دخول الثوار على عثمان رضي الله عنه ، و تتوزع سيوفهم دماءه الطاهرة ، فأخذ الغافقي حديدة و نزل بها على عثمان رضي الله عنه فضربه بها و رَكَسَ المصحف برجله فطار المصحف و استدار و رجع في حضن عثمان و سال الدم فنزل عند قوله تعالى :{ فسيكفيكهم الله }[ البقرة /138] ، هنا أرادت نائلة زوجة عثمان أن تحميه فرفع سودان السيف يريد أن يضرب عثمان فوضعت يدها فقطع أصابعها فولت صارخة تطلب النجدة فضربها في مؤخرتها ، و ضرب عثمان على كتفه فشقه ثم نزل عليه بخنجر فضربه تسع ضربات و هو يقول : ثلاث لله و ست لما في الصدور ، ثم قام قتيرة فوقف عليه بالسيف ثم اتكأ على السيف فأدخله في صدره ثم قام أشقاهم و أخذ يقفز على صدره حتى كسّر أضلاعه ، هنا قام غلمان عثمان بالدفاع عنه و استطاعوا أن يقتلوا كل من سودان و قتيرة ، لكن أهل الفتنة قتلوا الغلمان جميعاً و تركوا جثثهم داخل الدار ، ثم قام جماعة من الصحابة و ذهبوا إلى داره و خرجوا به و دفنوه رضي الله عنه بليل في حش كوكب ، وكانت مقبرة لليهود فاشتراها عثمان ، و هي في ظهر البقيع فدفن فيها و لم يدفن في البقيع لعدم إذن أهل الفتنة ، ثم إنه في عهد معاوية وسع البقيع و أدخل فيه المكان فصار قبر عثمان داخل البقيع . معجم البلدان (2/262) ، انظر هذا الخبر في الطبري (4/412) . و انظر خبر دمه على المصحف في فضائل الصحابة عند أحمد (1/470-473) بإسناد صحيح و تاريخ خليفة (ص188-190) و المطالب العالية (4/286) و موارد الظمآن (7/128) .(40/55)
و يكشف أيضاً عن مقاصد القوم ما ذكره ابن كثير في البداية (7/189) : من أن الخوارج نادى بعضهم بعضاً بعد مقتل عثمان بالسطو على بيت المال ، فسمعهم خزنة بيت المال فقالوا يا قوم النجا ! النجا فإن هؤلاء القوم لم يصدقوا فيما قالوا من أن قصدهم قيام الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و غير ذلك مما ادّعوا أنهم قاموا لأجله ، و كذبوا إنما قصدهم الدنيا . فأخذوا ما به من أموال ثم سطوا على دار عثمان و أخذوا ما به حتى إن أحدهم أخذ العباءة التي كانت على نائلة . تاريخ الطبري (4/391) .
فكانت هذه هي البلوى التي بشره النبي صلى الله عليه وسلم و التي يقتل فيها مظلوماً ، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً ، فجاء رجل يستأذن فقال : ائذن له و بشره بالجنة ، فإذا هو أبو بكر ، ثم جاء آخر يستأذن فقال : ائذن له و بشره بالجنة فإذا هو عمر ، ثم جاء آخر يستأذن ، فسكت هنيهة ثم قال : ائذن له و بشره بالجنة على بلوى تصيبه ، فإذا هو عثمان . و يعقب ابن حجر على ذلك بقوله : إن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بالبلوى المذكورة إلى ما أصاب عثمان في آخر خلافته من الشهادة يوم الدار . الفتح (7/38) و (13/55) . و الحديث موجود في البخاري (7/65) و رواه الإمام مسلم في صحيحه برقم ( 6162) و ( 6164) .
فائدة.. قال ابن بطال : إنما خص عثمان بذكر البلاء مع أن عمر قتل أيضاً لكون عمر لم يمتحن بمثل ما امتحن عثمان من تسلط القوم الذين أرادوا منه أن ينخلع من الإمامة بسبب ما نسبوه إليه من الجور و الظلم مع تنصله من ذلك ، و اعتذاره عن كل ما أوردوه عليه ، ثم هجومهم عليه في داره و هتكهم ستر أهله ،
و كل ذلك زيادة على قتله . فتح الباري : (13/55) .(40/56)
و قد اختلفت الروايات في تعيين قاتله على الصحيح ، لكن هذا ليس مهماً لأن المشارك كالقاتل و المتسبب كالمباشر ، و إنما المهم هو التعرّف على هوية قاتليه ، فهم غوغاء من الأمصار كما وصفهم الزبير رضي الله عنه ، و هم نزّاع القبائل كما تقول عائشة ، انظر : الطبري (4/461-462) . و هم حثالة الناس متفقون على الشر كما يصفهم ابن سعد في طبقاته (3/71) . و هم خوارج مفسدون و ضالون باغون كما ينعتهم ابن تيمية في منهاج السنة (6/297) .
هذا بالنسبة لمن شارك في الفتنة ، أما بالنسبة لمن تولى قتل عثمان بنفسه فإني أشارك أخي الدكتور خالد الغيث فيما ذهب إليه من كون ابن سبأ هو الذي تولى قتل عثمان رضي الله عنه ، و إليكم تفصيل ذلك : فحسب ما توفرت لدي من روايات ، جاء نعت قاتله بالموت الأسود و حمار، كما عند خليفة بن خياط (ص174-175) ، أو جبلة - الغليظ - كما عند ابن سعد (3/83-84) ، أو جبلة بن الأيهم كما عند ابن عبد البر . الاستيعاب (3/1046) ضمن ترجمة عثمان بن عفان ، و أورده كذلك بنفس للفظ ضمن ترجمة محمد بن أبي بكر (3/1367) . و كلمة الأيهم ما هي إلا زيادة غير مقصودة من ناسخ المخطوطة
و سببها هو اشتهار اسم جبلة بن الأيهم ذلك الأمير الغساني الذي ارتد زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه . و يؤيد ذلك أن راوي الخبر و هو كنانة مولى صفية هو نفسه راوي الروايتين ، أنظر : جمهرة أنساب العرب لابن حزم (372) .
و بدراسة الروايات السابقة اتضح ما يلي :-
أ- أن تلك الروايات لم تسم قاتل عثمان ، بل تذكر اللقب الذي أطلق عليه .
ب- ذكرت إحدى الروايات أن قاتل عثمان يقال له : حمار . و كلمة حمار لعلها تحريف لكلمة جبلة .
و يؤيد ذلك ما قيل بخصوص زيادة كلمة - الأيهم - على اسم جبلة عند راوي الخبر ، و هو كنانة مولى صفية ، لأن راوي خبر لفظة حمار هو كنانة أيضاً . هذا بالإضافة إلى التشابه الموجود في متون تلك الروايات .(40/57)
و مما سبق يلاحظ أن الذي قتل عثمان رضي الله عنه يعد شخصاً واحداً ذا ألقاب عدة ، فهو الموت الأسود ، و هو رجل أسود من أهل مصر يقال له جبلة ، و هو عبد الله بن سبأ - ابن السوداء - الذي جاء إلى المدينة مع وفد مصر . لمزيد من التفصيل في ذلك راجع : استشهاد عثمان و وقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري ، للدكتور : خالد بن محمد الغيث (ص128-130) .
قال محب الدين الخطيب في حاشيته على العواصم (ص73) : الذين شاركوا في الجناية على الإسلام يوم الدار طوائف على مراتب ، فيهم الذين غلب عليهم الغلو في الدين فأكبروا الهنات و ارتكبوا في إنكارها الموبقات ، و فيهم الذين ينزعون إلى عصبية يمنية على شيوخ الصحابة من قريش ، و لم تكن لهم في الإسلام سابقة ، فحسدوا أهل السابقة من قريش على ما أصابوا من مغانم شرعية جزاء جهادهم و فتوحهم ، فأرادوا أن يكون لهم مثلها بلا سابقة ولا جهاد . و فيهم الموتورون من حدود شرعية أقيمت على بعض ذويهم فاضطغنوا في قلوبهم الإحنة و الغل لأجلها ، و فيهم الحمقى الذين استغل السبأيون ضعف قلوبهم فدفعوهم إلى الفتنة و الفساد و العقائد الضالة ، و فيهم من أثقل كاهله خير عثمان و معروفه نحوه ، فكفر معروف عثمان عندما طمع منه بما لا يستحقه من الرئاسة و التقدم بسبب نشأته في أحضانه ، و فيهم من أصابهم من عثمان شيء من التعزير لبوادر بدرت منهم تخالف أدب الإسلام ، فأغضبهم التعزير الشرعي من عثمان ، و لو أنهم قد نالهم من عمر أشد منه لرضوا به طائعين ، و فيهم المتعجلون بالرياسة قبل أن يتأهلوا لها اغتراراً بما لهم من ذكاء خلاب أو فصاحة لا تغذيها الحكمة ، فثاروا متعجلين بالأمر قبل إبانه ، و بالإجمال فإن الرحمة التي جبل عليها عثمان رضي الله عنه وامتلأ بها قلبه أطمعت الكثيرين فيه ، و أرادوا أن يتخذوا من رحمته مطية لأهوائهم .(40/58)
و لعله بعد هذا لا يبقى مكان و لا مصداقية للروايات التي تشرك الصحابة رضوان الله عليهم في قتل عثمان و التآمر عليه ، فقد اجتهدوا في نصرته و الذبّ عنه ، و بذلوا أنفسهم دونه ، فأمرهم بالكف عن القتال و قال إنه يحب أن يلقى الله سالماً ولوا أذن لهم لقاتلوا عنه ، فثبتت براءتهم من دمه رضوان الله عليهم كبراءة الذئب من دم يوسف .
و ظهرت حقيقة الأيدي التي كانت تحرك الفتنة ، و التي لطالما دندن الإخباريون الشيعة حولها بأنها أيدي الصحابة ، و الحمد لله فقد حفظت لنا كتب المحِّدثين الروايات الصحيحة و التي يظهر فيها الصحابة من المؤازرين لعثمان و المنافحين عنه المتبرئين من قتله ، و المطالبين بدمه بعد قتله ، و بذلك يستبعد أي اشتراك لهم في تحريك الفتنة أو إثارتها .
و قد يتساءل قارئ أو يقول قائل : كيف قتل عثمان رضي الله عنه و بالمدينة جماعة من كبار الصحابة رضوان الله عليهم ؟ و هو سؤال وضعه ابن كثير في البداية والنهاية (7/197-198) ثم أجاب عنه و قد شاركه المالقي في التمهيد والبيان ( ص 131-132) في الإجابة ، موضحين ما يلي :-
أولاً : إن كثيراً من الصحابة أو كلهم لم يكونوا يظنون أن يبلغ الأمر إلى قتله ، فإن أولئك الخوارج لم
يكونوا يحاولون قتله عيناً بل طلبوا من أحد أمور ثلاثة : إما أن يعزل نفسه أو يسلم إليهم مروان بن
الحكم أو يقتلوه . و كانوا يرجون أن يسلم إليهم مروان – لأتهم يتهمونه بأنه هو الذي كتب الكتاب
على لسان عثمان يأمر فيه والي مصر بقتلهم ، و هذا لم يثبت و ليس هناك دليل صحيح - أو أن
يعزل نفسه و يستريح من هذه الضائقة الشديدة . و أما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع ، و لا أن
هؤلاء يجرؤن عليه إلى هذا الحدّ .
ثانياً : إن الصحابة دافعوا عنه ، لكن لما وقع التضييق الشديد عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم حقناً(40/59)
لدماء المسلمين ففعلوا ، فتمكن المحاصرون مما أرادوا .
ثالثاً : أن هؤلاء الخوارج اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في موسم الحج و غيبتهم في الثغور و الأمصار ،
و ربما لم يكن في المتبقين من أهل الدينة ما يقابل عدد الخوارج الذين كانوا قريباً من ألفي مقاتل .
رابعاً : إن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار لحماية عثمان رضي الله عنه ، لكن عثمان علم أن في
الصحابة قلة عدد و أن الذين يريدون قتله كثير عددهم ، فلو أذن لهم بالقتال لم يأمن أن يتلف من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه كثير ، فوقاهم بنفسه إشفاقاً منه عليهم لأنه راع
عليهم ، و الراعي يجب عليه أن يحفظ رعيته بكل ما أمكنه ، و مع ذلك فقد علم أنه مقتول فصانهم
بنفسه - حقناً لدماء المسلمين- .
خامساً : أنه لما علم أنها فتنة ، و أن الفتنة إذا سلّ فيها السيف لم يؤمن أن يقتل فيها من لا يستحق القتل ،
فلم يختر لأصحابه أن يسلوا السيف في الفتنة إشفاقاً عليهم ، و حتى لا تذهب فيها الأموال و يهتك
فيها الحريم فصانهم عن جميع هذا .
سادساً : يحتمل أن يكون عثمان رضي الله عنه صبر عن الانتصار ليكون الصحابة شهوداً على من ظلمه ،
و خالف أمره و سفك دمه بغير حق ، لأن المؤمنين شهداء الله في أرضه .(40/60)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (6/286) : و من المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء و أصبر الناس على من نال من عرضه و على من سعى في دمه ، فحاصروه و سعوا في قتله و قد عرف إرادتهم لقتله ، و قد جاءه المسلمون ينصرونه و يشيرون عليه بقتالهم ، و هو يأمر الناس بالكف عن القتال ، و يأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم ..و قيل له تذهب إلى مكة فقال : لا أكون ممن الحد في الحرم فقيل له تذهب إلى الشام فقال : لا أفارق دار هجرتي ، فقيل له : فقاتلهم ، فقال : لا أكون أول من خلف محمداً في أمته بالسيف .
فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين .
و مما يناسب هذا المقام ذكر كلام الإمام الآجري في كتاب الشريعة (4/1981-1983) عن موقف الصحابة في المدينة من حصار المنافقين لعثمان رضي الله عنه .
قال الآجري : فإن قال قائل : فقد علموا أنه مظلوم وقد أشرف على القتل فكان ينبغي لهم أن يقاتلوا عنه ،
و إن كان قد منعهم . قيل له : ما أحسنت القول ، لأنك تكلمت بغير تمييز . فإن قال : ولم ؟ قيل : لأن القوم كانوا أصحاب طاعة ، وفقهم الله تعالى للصواب من القول و العمل ، فقد فعلوا ما يجب عليهم من الإنكار بقولهم و ألسنتهم و عرضوا أنفسهم لنصرته على حسب طاقتهم ، فلما منعهم عثمان رضي الله عنه من نصرته علموا أن الواجب عليهم السمع و الطاعة له ، و إنهم إن خالفوه لم يسعهم ذلك ، و كان الحق عندهم فيما رآه عثمان رضي الله عنه و عنهم . فإن قال : فلم منعهم عثمان من نصرته وهو مظلوم ، و قد علم أن قتالهم عنه نهي عن منكر ، و إقامة حق يقيمونه ؟ قيل له : وهذا أيضاً غفلة منك . فإن قال : وكيف ؟ قيل له : مَنْعه إياهم عن نصرته يحتمل وجوهاً كلها محمودة :-(40/61)
أحدها : علمه بأنه مقتول مظلوم ، لا شك فيه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلمه : إنك تقتل مظلوماً فاصبر ، فقال : أصبر . فلما أحاطوا به علم أنه مقتول و أن الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم له حق كما قال لا بد من أن يكون ، ثم علم أنه قد وعده من نفسه الصبر فصبر كما وعد ، وكان عنده أن من طلب الانتصار لنفسه و الذب عنها فليس هذا بصابر إذ وعد من نفسه الصبر ، فهذا وجه .
و وجه آخر : و هو أنه قد علم أن في الصحابة رضي الله عنهم قلة عدد ، و أن الذين يريدون قتله كثير عددهم ، فلو أذن لهم بالحرب لم يأمن أن يتلف من صحابة نبيه بسببه ، فوقاهم بنفسه إشفاقاً منه عليهم ؛ لأنه راع و الراعي واجب عليه أن يحوط رعيته بكل ما أمكنه ، ومع ذلك فقد علم أنه مقتول فصانهم بنفسه ، و هذا وجه .
و وجه آخر : هو أنه لما علم أنها فتنة و أن الفتنة إذا سل فيها السيف لم يؤمن أن يقتل فيها من لا يستحق ، فلم يختر لأصحابه أن يسلوا في الفتنة السيف ، و هذا إنما إشفاقاً منه عليهم هم ، فصانهم عن جميع هذا .
و وجه آخر : يحتمل أن يصبر عن الانتصار ليكون الصحابة رضي الله عنهم شهوداً على من ظلمه و خالف أمره و سفك دمه بغير حق ، لأن المؤمنين شهداء الله عز وجل في أرضه ، و مع ذلك فلم يحب أن يهرق بسببه دم مسلم ولا يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بإهراقه دم مسلم ، و كذا قال رضي الله عنه . فكان عثمان رضي الله عنه بهذا الفعل موفقاً معذوراً رشيداً ، و كان الصحابة رضي الله عنهم في عذر ، و شقي قاتله .(40/62)
و مما سبق نعلم أن منهج عثمان رضي الله عنه أثناء الفتنة و مسلكه مع المنافقين - هذا مصطلح نبوي أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم على الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه ، لحديث ( … فأرادك المنافقون أن تخلع ..الخ ، تقدم تخريجه - ، الذين خرجوا عليه لم تفرضه عليه مجريات الأحداث ، ولا ضغط الواقع ، بل كان منهجاً نابعاً من مشكاة النبوة ، حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر و الاحتساب و عدم القتال حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً . وقد وفىّ ذو النورين رضي الله عنه بوعده و عهده لرسول الله صلى الله عليه وسلم طوال أيام خلافته ، حتى خرّ شهيداً مضجراً بدمائه الطاهرة الزكية ، ملبياً لدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإفطار عنده . انظر : استشهاد عثمان لخالد الغيث (ص116) بتصرف يسير .
أخرج الإمام أحمد في فضائل الصحابة (1/496-497) بإسناد حسن ، من طريق مسلم أبو سعيد مولى عثمان رضي الله عنه : أن عثمان بن عفان أعتق عشرين مملوكاً ، و دعا سراويل فشدها عليه - حتى لا تظهر عورته عند قتله - و لم يلبسها في جاهلية ولا في إسلام ، قال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة في النوم و رأيت أبا بكر و عمر و أنهم قالوا لي : اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة ، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه ، فقتل وهو بين يديه .
و اعتبرت فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه من أخطر الأحداث التي مرّت بها الدولة الإسلامية في عصر الخلافة الراشدة ، و قد تركت من الاختلاف و الانقسام في صفوف الأمة ما كاد يودي بها ، و قد أعقبها فتن داخلية أخرى تتصل بها و تتفرع عنها و هي موقعة الجمل و صفين و النهروان ، كما استمرت آثارها متمثلة في الخوارج و الشيعة المعارضين للدولة الأموية و العصر الأول من الدولة العباسية خاصة ، بل يمكن أن نعتبر الانقسامات الكبرى الناجمة عن الفتنة مؤثرة في الأمة حتى الوقت الحاضر .(40/63)
و كان مقتل عثمان رضي الله عنه صباحاً ، في يوم الجمعة ، الثاني عشر من ذي الحجة ، سنة خمس
و ثلاثين من الهجرة ، و دفن ليلة السبت بين المغرب و العشاء ، بحش كوكب شرقي البقيع ، و هو ابن
اثنتين و ثمانين سنة ، على الصحيح المشهور . رحم الله عثمان و رضي عنه . انظر : ابن سعد (3/77-78) و خليفة بن خياط (ص176) و الطبري (4/415-416) و المسند (2/10) و الذهبي في تاريخ الإسلام عهد الخلفاء الراشدين (ص481) و البداية و النهاية لابن كثير (7/190) والاستيعاب لابن عبد البر (3/1044) .
( الموقف مما شجر بين الصحابة ) .
أقول و بالله التوفيق : اعلم رحمني الله وإياك ؛ أن البحث فيما شجر بين الصحابة ، لا يقرب العبد إلى الله زلفى ، فهم قد لقوا ربهم و هو أعلم بما شجر بينهم ، فإن كان الأمر لا يقربك إلى الله زلفى و إنما قد يقودك إلى النار و أنت لا تعلم ، فتجنبه أولى ؛ إلا في حالة واحدة و سيأتي بيان هذه الحالة .
و معنى الإمساك عما شجر بين الصحابة ، هو عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب و الخلافات على سبيل التوسع و تتبع التفصيلات ، و نشر ذلك بين العامة ، أو التعرض لهم بالتنقص لفئة و الانتصار لأخرى .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ( 3/406) : و كذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم ، و نعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب و هم كانوا مجتهدين ، إما مصيبين لهم أجران أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم ، و ما كان لهم من السيئات ، و قد سبق لهم من الله الحسنى ، فإن الله يغفر لهم إما بتوبة أو بحسنات ماحية أو مصائب مكفرة .(40/64)
و ما شجر بينهم من خلاف فقد كانوا رضي الله عنهم يطلبون فيه الحق و يدافعون فيه عن الحق ، فاختلفت فيه اجتهاداتهم ، و لكنهم عند الله عز وجل من العدول المرضي عنهم ، و من هنا كان منهج أهل السنة والجماعة هو حفظ اللسان عما شجر بينهم ، فلا نقول عنهم إلا خيراً و نتأول و نحاول أن نجد الأعذار للمخطئ منهم و لا نطعن في نيّاتهم فهي عند الله ، و قد أفضوا إلى ما قدموا ، فنترضى عنهم جميعاً و نترحم عليهم و نحرص على أن تكون القلوب سليمة تجاههم .
قال ابن قدامة المقدسي في اللمعة (ص175) : و من السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و محبتهم و ذكر محاسنهم و الترحم عليهم و الاستغفار لهم ، و الكف عن ذكر مساوئهم و ما شجر بينهم ، و اعتقاد فضلهم و معرفة سابقتهم ، قال الله تعالى{ و الذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا}[الحشر/10] و قال تعالى{محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}[الفتح/29] و قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه . البخاري مع الفتح (7/25) و مسلم برقم (6435) .
و يقول الإمام الذهبي رحمه الله في السير(10/92-93) : كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بينهم ، و قتالهم رضي الله عنهم أجمعين و ما زال يمر بنا ذلك في الدواوين و الكتب و الأجزاء ، و لكن أكثر ذلك منقطع و ضعيف و بعضه كذب .. فينبغي طيه و إخفاؤه بل إعدامه لتصفوا القلوب ، و تتوفر على حب الصحابة و الترضي عنهم ، و كتمان ذلك متعين عن العامة و آحاد العلماء .. إلى أن قال : فأما ما نقله أهل البدع في كتبهم من ذلك فلا نعرج عليه ، ولا كرامة فأكثره باطل و كذب و افتراء .
و فضيلة الصحبة و لو للحظة ، لا يوازيها عملٌ ولا تنال درجتها بشيء ، و الفضائل لا تؤخذ بالقياس .(40/65)
و قد أخرج ابن عساكر في تاريخه (59/141) في ترجمة معاوية رضي الله عنه من طريق ابن منده ثم من طريق أبي القاسم ابن أخي أبي زرعة الرازي قال : جاء رجل إلى عمي فقال له : إني أبغض معاوية ، فقال له : لم ؟ قال : لأنه قاتل علياً بغير حق ، فقال له أبو زرعة : رب معاوية ربٌ رحيم و خصم معاوية خصمٌ كريم فما دخولك بينهما ؟.
و قال الآجري رحمه الله في كتاب الشريعة (5/2485-2491) ، باب ذكر الكف عما شجر بين أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و رحمة الله عليهم أجمعين : ينبغي لمن تدبر ما رسمنا من فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم و فضائل أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين ، أن يحبهم و يترحم عليهم و يستغفر لهم ، ويتوسل إلى الله الكريم لهم – أي بالدعاء و الترحم والاستغفار و الترضي – ويشكر الله العظيم إذ وفقه لهذا ، ولا يذكر ما شجر بينهم ، ولا ينقّر عنه ولا يبحث . فإن عارضنا جاهل مفتون قد خطي به عن طريق الرشاد فقال : لم قاتل فلان لفلان ، ولم قتل فلان لفلان وفلان ؟!.
قيل له : ما بنا و بك إلى ذكر هذا حاجة تنفعنا ولا تضرنا إلى علمها .
فإن قال قائل : و لم ؟
قيل : لأنها فتن شاهدها الصحابة رضي الله عنهم ، فكانوا فيها على حسب ما أراهم العلم بها ، و كانوا أعلم بتأويلها من غيرهم ، و كانوا أهدى سبيلاً ممن جاء بعدهم ، لأنهم أهل الجنة ، عليهم نزل القرآن ، و شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، و جاهدوا معه ، و شهد لهم الله عز وجل بالرضوان والمغفرة و الأجر العظيم ، و شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون ، فكانوا بالله عز وجل أعرف و برسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وبالسنة ، و منهم يؤخذ العلم ، و في قولهم نعيش و بأحكامهم نحكم ، و بأدبهم نتأدب و لهم نتبع و بهذا أمرنا .
فإن قال قائل : و أيش الذي يضرنا من معرفتنا لما جرى بينهم و البحث عنه ؟(40/66)
قيل له : لاشك فيه ؛ و ذلك أن عقول القوم كانت أكبر من عقولنا ، و عقولنا أنقص بكثير ، ولا نأمن أن نبحث عما شجر بينهم فنزل عن طريق الحق و نتخلف عما أمرنا فيهم .
فإن قال قائل : و بم أمرنا فيهم ؟
قيل : أمرنا بالاستغفار لهم والترحم عليهم والمحبة لهم و الاتباع لهم ، دل على ذلك الكتاب والسنة و قول أئمة المسلمين ، وما بنا حاجة إلى ذكر ما جرى بينهم ، قد صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، و صاهرهم ، و صاهروه ، فبالصحبة له يغفر الله الكريم لهم ، و قد ضمن الله عز وجل لهم في كتابه ألا يخزي منهم واحداً ، و قد ذكر لنا الله تعالى في كتابه أن وصفهم في التوراة و الإنجيل ؛ فوصفهم بأجمل الوصف ، و نعتهم بأحسن النعت ، وأخبرنا مولانا الكريم أنه قد تاب عليهم ، و إذا تاب عليهم لم يعذب واحداً منهم أبداً رضي الله عنهم و رضوا عنه{أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون}[المجادلة/22] .
فإن قال قائل : إنما مرادي من ذلك لأن أكون عالماً بما جرى بينهم ، فأكون لم يذهب عليّ ما كانوا فيه لأني أحب ذلك ولا أجهله .
قيل له : أنت طالب فتنة ، لأنك تبحث عما يضرك ولا ينفعك ، و لو اشتغلت بإصلاح ما لله عز وجل عليك فيما تعبدك به من أداء فرائضه و اجتناب محارمه كان أولى بك . و قيل له : ولا سيّما في زماننا هذا مع قبح ما قد ظهر فيه من الأهواء الضالة – فما يقول رحمه الله لو رأى ما يحدث و يقال في زمننا هذا - .
و قيل له : اشتغالك بمطعمك ، و ملبسك من أين ؟ هو أولى بك ، و تمسكك بدرهمك من أين هو ؟ و فيم تنفقه ؟ أولى بك .
و قيل : لا نأمن أن تكون بتنقيرك و بحثك عما شجر بين القوم إلى أن يميل قلبك فتهوى ما يصلح لك أن تهواه ، و يلعب بك الشيطان فتسب و تبغض من أمرك الله بمحبته و الاستغفار له و باتباعه ، فتزل عن طريق الحق ، و تسك طريق الباطل .(40/67)
فإن قال : فاذكر لنا من الكتاب و السنة و عمن سلف من علماء المسلمين ما يدل على ما قلت ، لنرد نفوسنا عما تهواه من البحث عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم .
قيل له : قد تقدم ذكرنا لما ذكرته مما فيه بلاغ و حجة لمن عقل ، و نعيد بعض ما ذكرناه ليتيقظ به المؤمن المسترشد إلى طريق الحق . قال الله عز وجل{محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله و رضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل ، كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ..}[الفتح:29] . ثم وعدهم بعد ذلك المغفرة والأجر العظيم . و قال الله عز وجل{لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ..} [التوبة/117] . الآية . و قال عز وجل{و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ..} [التوبة/100] . إلى آخر الآية . و قال عز وجل{يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم .. ..} [التحريم/8 ] . الآية . و قال عز وجل{كنتم خير أمة .. ..}[آل عمران/110] . الآية . و قال عز وجل{لقد رضي الله عن المؤمنين .. ..}[الفتح/18] . إلى آخر الآية . ثم إن الله عز وجل أثنى على من جاء من بعد الصحابة فاستغفر للصحابة و سأل مولاه الكريم ألا يجعل في قلبه غلاً لهم ، فأثنى الله عز وجل عليه بأحسن ما يكون من الثناء فقال عز وجل{و الذين جاءوا من بعدهم .. إلى قوله .. رءوف رحيم}[الحشر/10] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم . أخرجه البخاري مع الفتح (7/5) و مسلم برقم (6419) و أحمد في المسند (1/438) . وقال ابن مسعود : إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه(40/68)
لنفسه و بعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد - يعني من غير الأنبياء و المرسلين كما هو معلوم - فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم يقاتلون على دينه . رواه أحمد في المسند (1/379) و البغوي في شرح السنة (1/214-215) و هو حدث حسن .
ثم قال الآجري رحمه الله : يقال : لمن سمع هذا من الله عز وجل و من رسوله صلى الله عليه وسلم : إن كنت عبداً موفقاً للخير اتعظت بما وعظك الله عز وجل به ، و إن كنت متبعاً لهواك خشيت عليك أن تكون ممن قال الله عز وجل فيهم{و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}[القصص/50] ، و كنت ممن قال الله عز وجل{و لو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو اسمعهم لتولوا و هم معرضون}[الأنفال/23] .
و يقال له : من جاء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يطعن في بعضهم و يهوى بعضهم ، و يذم بعضاً و يمدح بعضاً ؛ فهذا رجل طالب فتنة ، و في الفتنة وقع ، لأنه واجب عليه محبة الجميع ، و الاستغفار للجميع رضي الله عنهم ، و نفعنا بحبهم ، و نحن نزيدك في البيان ليسلم قلبك للجميع ، و يدع البحث و التنقير عما شجر بينهم .(40/69)
ثم ساق رحمه الله مجموعة من الآثار في بيان الواجب عمله تجاه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، منها : ما رواه عن شهاب بن خراش عن العوام بن حوشب قال : اذكروا محاسن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تأتلف عليه قلوبكم ، ولا تذكروا غيره فتحرشوا الناس عليهم . أخرجه الخلال في السنة (ص 513) و إسناده حسن . و أيضاً ما رواه أبي ميسرة قال : رأيت في المنام قباباً في رياض مضروبة ، فقلت : لمن هذه ؟ قالوا : لذي الكلاع و أصحابه – و كان مع من قتل مع معاوية رضي الله عنه - ، و رأيت قباباً في رياض فقلت : لمن هذه ؟ قالوا : لعمار و أصحابه ، فقلت : و كيف و قد قتل بعضهم بعضاً ؟ قال : إنهم وجدوا الله عز وجل واسع المغفرة . إسناده صحيح إلى أبي ميسرة ، و لم يخرجه غير الإمام الآجري . كما قال ذلك المحقق ، أنظر كتاب الشريعة (5/2493) . و أيضاً ما ذكر عن الحسن رحمه الله ، أنه كان في مجلس فذكر كلاماً و ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً و أعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، قوماً اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإقامة دينه ، فتشبهوا بأخلاقهم و طرائقهم ، فإنهم و رب الكعبة على الهدى المستقيم . أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/305-306) عن الحسن عن ابن عمر ، و البغوي في شرح السنة (1/214) عن ابن مسعود .
و الذي يظهر من كلام هؤلاء الأئمة التأكيد على هذا الضابط المهم و هو : عدم الخوض فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ، على سبيل التسلية و تأليف الأشرطة والمحاضرات و عرضها بين الناس بمختلف مستوياتهم ، و هو الخطأ الذي وقع فيه الدكتور : طارق سويدان حفظه الله .(40/70)
غير أن بعضهم أجاز الخوض في ذلك في حالة واحدة فقط ؛ و هي إن ظهر مبتدع مبطل يقدح فيهم بالباطل ، فيجب الدفاع عنهم بحق و عدل مع التنبيه إلى أنه لا يدافع عن بعضهم فيقع في سب آخرين منهم ، إنما يكون الدفاع عنهم رضي الله عنهم جميعاً ، و إلا فيجب الصمت و ترك الخوض فيما شجر بينهم . ضوابط إنقاذ التاريخ الإسلامي ، مقال من جريدة المسلمون للدكتور : محمد بن عبد الله الغبان . العدد (656ص 8) .
إن موضوع النزاع و الخلاف بين الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه يجب أن ينظر إليه من زاويتين :-
الأولى : إن اللوم في تلك الفتنة على العموم يلقى على قتلة عثمان ، لأن كل من قتل من المسلمين بأيدي
إخوانهم منذ قتل عثمان رضي الله عنه إنما يقع إثمه عليهم ، فهم الذين فتحوا باب الفتنة و كل ما وقع بعد ذلك فإثمه و وزره عليهم ، إذ كانوا هم السبب المباشر فيها ، و هم الفئة المعتدية الظالمة الباغية التي قتل بسببها كل مقتول في الجمل و صفين و ما تفرق عنها من أحداث و آراء و مواقف فتحت باب الخلاف و الفرقة بين المسلمين .
الثانية : إن ما حدث من جانب الصحابة رضي الله عنهم في هذه الفتنة يحمل على حسن النية و الاختلاف في التقدير و الاجتهاد ، كما يحمل على وقوع الخطأ و الإصابة ، و لكنهم على كل حال كانوا مجتهدين و هم لإخلاصهم في اجتهادهم مثابون عليه في حالتي الإصابة و الخطأ ، و إن كان ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ ؛ لأن كل فئة كانت لها وجهة نظر تدافع عنها بحسن نية ، حيث إن الخلاف بينهم لم يكن بسبب التنافس على الدنيا ، و إنما كان اجتهاداً من كل منهم في تطبيق شرائع الإسلام . تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/340-342) بتصرف .
و قد سئل ابن المبارك عن الفتنة التي وقعت بين علي و معاوية رضي الله عنهما فقال : فتنة عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا - يعني في التحرز من الوقوع في الخطأ و الحكم على بعضهم بما لا يكون مصيباً(40/71)
فيه - . و سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم و غبنا ،
و علموا و جهلنا ، و اجتمعوا فاتبعنا ، و اختلفوا فوقفنا . الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/322) في تفسير سورة الحجرات .
و يقول النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم (18/219-220) : و اعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد - يعني قوله صلى الله عليه وسلم إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار - و مذهب أهل السنة و الحق إحسان الظن بهم ، و الإمساك عما شجر بينهم ، و تأويل قتالهم و أنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا ، بل اعتقد كل فريق أنه المحق و مخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى الله ، و كان بعضهم مصيباً و بعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ لأنه اجتهاد و المجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه .
و يورد شيخ الإسلام في مواضع متفرقة من مجموع الفتاوى (35/50 و 54 و 56 و 69) رأي أهل السنة في هذه المسألة مستبعداً رأي أهل البدع من الخوارج و الرافضة و المعتزلة الذين جعلوا القتال موجباً للكفر أو الفسق ، فيقول : و أهل السنة و الجماعة و أئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة بل يمكن أن يقع الذنب منهم ، والله يغفر لهم بالتوبة و يرفع بها درجاتهم ، و إن الأنبياء هم المعصومون فقط ، أما الصديقون و الشهداء و الصالحون فليسوا معصومين ، و هذا في الذنوب المحققة ، و أما اجتهادهم فقد يصيبون فيه أو يخطئون ، فإذا اجتهدوا و أصابوا فلهم أجران ، و إذا اجتهدوا و أخطأوا فلهم أجر واحد على اجتهادهم ، و جمهور أهل العلم يفرقون بين الخوارج المارقين و بين أصحاب الجمل و صفين ممن يعد من البغاة المتأولين ، و هذا مأثور عن الصحابة و عامة أهل الحديث ، و الفقهاء و الأئمة .(40/72)
يقول ابن حجر في الفتح (13/37 ) : و اتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ، و لو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد و قد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد ، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً ، و أن المصيب يؤجر أجرين .
و هكذا نأخذ من مجموع كلام هؤلاء الأئمة ، أن الموقف مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم هو الإمساك و عدم الخوض ، و هذا هو الذي دل عليه الحديث الثابت كما عند الطبراني و غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا . أنظر : السلسة الصحيحة (1/75) .
و قد فسر المناوي في فيض القدير (2/676) الحديث بأن معناه : ما شجر بينهم - أي الصحابة - من الحروب والمنازعات .
يقول الحافظ الذهبي في السير (3/128) : فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلا غالياً في الحب ، مفرطاً في البغض ، و من أين يقع له الإنصاف و الاعتدال ؟! فنحمد الله على العافية الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق و اتضح من الطرفين و عرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين ، و تبصرنا فعذرنا و استغفرنا و أحببنا باقتصاد ، و ترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة ، أو بخطأ إن شاء الله مغفور ، و قلنا كما علمنا الله{ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا}و ترضينا أيضاً عمن اعتزل الفريقين كسعد ين أبي وقاص و ابن عمر و محمد بن مسلمة و سعيد بن زيد و خلق ، و تبرأنا من الخوارج الذين حاربوا علياً و كفروا الفريقين .
فهذه مقتطفات عاجلة من معتقد أهل السنة و الجماعة في الصحابة ، و تلك قناعات و منطلقات شرعية لا تهتز بإرجاف المرجفين ولا تتأثر بتشكيك المشككين .(40/73)
و إذا كانت أعراض المسلمين بشكل عام مصونة في الإسلام ، فأعراض الصحابة و هم أهل الفضل و السابقة و الجهاد أولى بالصيانة ، و الدفاع عنهم قربة لله عز وجل و تقديراً لمآثرهم و جهادهم .
و أخيراً لماذا هذه العناية بأعراض الصحابة و لماذا الدفاع عنهم ؟
أقول : إن هناك مكمن خطر في سبهم أو التعريض بهم و بعدالتهم ، فهم نقلة الدين و الطعن فيهم وسيلة للطعن في الدين .
وإن من أسوأ الأخطاء المنهجية والتربوية معاً ، تدريس الحروب والخلافات التي وقعت بين الصحابة لتلاميذ المدارس ، مع ما يصاحب ذلك من تشويه في العرض ، و تقصير في تعريف التلاميذ بمنزلة الصحابة و فضلهم و حقهم على الأمة ، حيث ينشأ عن ذلك تعارض في أذهانهم بين الصورة الفطرية التي تصوروها عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و ما ينبغي أن يكونوا عليه من الاستقامة ، و بين الصورة التي تلقوها من المدرسة ، فلا يستطيعون معرفة الحق من ذلك ولا يستوعبونه نظراً لصغر سنهم ، و لقلة ثقافتهم ، حتى لو حاولت أن توضح لهم الصورة الصحيحة فإنهم لا يكادون يقتنعون لأن الشبهة التي أثيرت قد انقدحت في أذهانهم .
و هذه المسارعة في عرض مثل هذه المادة التاريخية على صغار التلاميذ أو عوام الناس مخالف للقواعد الأصولية مثل قاعدة : ( سد الذرائع ) . و قاعدة : ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) . و مخالف أيضاً للقواعد التربوية التي تقتضي أن لا يعرض على الناس أكثر مما لا تحتمله عقولهم .(40/74)
و قد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ما يؤيد هذا ؛ فقال عبد الله بن مسعود كما في مقدمة صحيح مسلم برقم (14) : ( ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) . و قد بوب البخاري في صحيحه : ( باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا ) . و أورد قول علي بن أبي طالب : ( حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله و رسوله ) . البخاري مع الفتح (1/272) ، قال ابن حجر معلقاً عليه : ( فيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة ) .
فهذه الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم تدل على صحة هذه القاعدة التربوية ، و أنه لا ينبغي أن يدرّس مثل هذا لتلاميذ المدارس ، لأنه مما لا تبلغه عقولهم ، و مما يؤدي إلى فتنة بعضهم ، و هو اعتقاد ما لا ينبغي اعتقاده في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . و للمزيد حول هذا الموضوع أنظر كتاب : منهج كتابة التاريخ الإسلامي للدكتور : محمد بن صامل (ص252) . و مقال : فضيلة الإمساك عما شجر بين الصحابة : زياد سعد الغامدي في مجلة البيان الإسلامية العدد (134) .(40/75)
و إذا قدر لهذه القضايا أن تبحث فينبغي أن يسند الأمر إلى أهله ، و أن يتوفر على ذلك علماء متمكنون في علمهم ، صادقين في توجههم ، برآء من أي تهمة في معتقدهم ، و أن يكونوا على مستوى الخاصة ، و ألا تفتن بهم العامة ، و ألا تكون قضية مطروحة للمزاد يهرف فيها من لا يعرف ، و يظن الجاهل أن من حقه أن يوافق أو يخالف .. و ليت شعري كم تنطق الرويبضة و يتصدر السفهاء إذا غاب عن الساحة صوت العلماء ، أو توارى خلف الحجب رأي النبلاء .. و مع ذلك فالزبد سيذهب جفاء و يمكث في الأرض ما ينفع الناس ، و كذلك اقتضت حكمة الله في الصراع بين الحق و الباطل قديماً و حديثاً ، ليميز الله الخبيث من الطيب و ينحاز الصادقون و ينكشف و لو بعد حين الكاذبون . خير القرون ، مقال للدكتور سليمان العودة . انظر مجلة الدعوة العدد (1610 ) .(40/76)
وما أحسن ما قيل عن التاريخ الإسلامي : فهو تاريخ ناصع مشرق ، و هو مفخرة على مر الزمن ، و درة على جبين الدهر ، لا يدانيه تاريخ أمة من الأمم في قديم الزمان و حديثه ، و مع ذلك فقد وقعت فيه بعض الحوادث التي تلقي بعض الظلال القاتمة على إشراقه ، بدأت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث ظهرت بعض الخلافات في وجهات النظر بين بعض الصحابة ، أدت إلى وقوع بعض الحروب ، مثل : وقعة صفين ، و وقعة الجمل و يوم الحرة و أمثالها ، و الطالب المسلم يمر بها في بعض مراحل حياته الدراسية ، و نحن نريد أن نلفت نظر المعلم أو المدرس إلى وجوب التزام جانب اليقظة و الحكمة و الحذر عند عرض هذه الوقائع على طلابه ، فالصحابة رضي الله عنهم شموس لامعة براقة أشرقت في تاريخ الإنسانية فغمرته بالنور ، و هي شموس تتفاوت أقدارها و تتباين في أنواع فضائلها ، و لكنها تبقى دائماً في أعلى درجات الفضل ، و في ذروة العزة و المجد ، و لو ميز المشتغلون بتاريخ الإسلام ، بين الأصيل و الدخيل من الحوادث التي وقعت بين الصحابة ، لأخذتهم الدهشة لما اخترعه أعداء الإسلام من يهود و مجوس و منافقين و ملحدين و حاقدين ، من أخبار ملفقة كاذبة ، ألصقوها بالصحابة الكرام ظلماً و عدواناً و كيداً ، فصورت أخبارهم الوضع عن غير حقيقته ، و أدخلت التشويه على الصورة الحقيقية الناصعة للصحابة رضي الله عنهم ، الذين يعتبرون بحق سادة البشر و خلاصة الإنسانية ، كيف لا ؟ و هم تلامذة أشرف المخلوقين و سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم . مقتبس من كتاب : كلمات نافعة لناجي الطنطاوي (ص79) بتصرف .
ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نتمسك بقوله تعالى : { و الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا
و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم}[الحشر/10] .(40/77)
و بعد هذا الذي ذكرت ، فإنه قد ظهر و خاصة على صفحات الإنترنت من يطعن في الصحابة الكرام و يثير هذه الأحداث من جديد لكن بشكل مشوّه مزرٍ ، لذا آثرت الحديث في هذا الموضوع ، دفاعاً عن الحق و عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم .
ذكر الأحداث التي تلت مقتل عثمان رضي الله عنه ، حتى قبيل معركة الجمل
أصاب المسلمين بلاء عظيم بسبب مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه ، إذ كان المسلمون قد مرّوا بانتقال السلطة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم و بعد وفاة الصديق رضي الله عنه ، لكنهم الآن أمام تجربة جديدة تمثلت باستخدام العنف في تغيير السلطة و نجم عن ذلك مقتل الخليفة ، و بقاء المنصب شاغراً ، و سعى المعارضون إلى بيعة واحد من كبار الصحابة لملأ الفراغ في السلطة ، فعرضوها على طلحة و عبد الله بن عمر ، لكن أحداً لم يكن ليقبل منهم السلطة في ظروف الفتنة ، لأنهم لا يمثلون الأمة ، بل يمثلها كبار الصحابة في المدينة ، و هم الذين يقبل الناس في أنحاء الدولة اختيارهم ، و قد أدرك المعارضون ذلك بعد فشل محاولاتهم . فضائل الصحابة للإمام أحمد (2/573-574) .(40/78)
قال محمد بن الحنفية : كنت مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه فقام فدخل منزله ، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن هذا الرجل قد قتل و لا بد للناس من إمام و لا نجد اليوم أحد أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة و لا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا تفعلوا ، فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ، فقالوا : لا والله ! ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ، قال : ففي المسجد فإنَّ بيعتي لا تكون خفياً و لا تكون إلا عن رضا المسلمين ، قال سالم بن أبي الجعد :فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يُشغب عليه ، و أبى هو إلا المسجد ، فلما دخل المهاجرون و الأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس . و هناك رواية عن أبي بشير العابدي يقول فيها : إن المهاجرين و الأنصار و فيهم طلحة و الزبير أتوا علياً فقالوا له : إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة ، و قد طال الأمر . فقال لهم : إنكم اختلفتم إليَّ و أتيتم و إني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم ، و إلا فلا حاجة لي فيه ، فقالوا : ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله . فبايعوه في المسجد .
و هناك رواية أخرى تفيد أن طلحة و الزبير قالا : يا علي ابسط يدك ، فبايعه طلحة و الزبير و هذا بعد مقتل عثمان لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة . و هناك رواية أخرى عن عوف بن أبي جميلة العبدي قال : أمّا أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول : إن علياً جاء فقال لطلحة : ابسط يدك يا طلحة لأبايعك فقال طلحة : أنت أحق و أنت أمير المؤمنين فابسط يدك فبسط عليّ يده فبايعه . كلها عند الطبري في تاريخه ( 4/427-428) و (4/434) . و كذلك في فضائل الصحابة للإمام أحمد (2/573) .(40/79)
و قد ذكر ابن سعد في الطبقات ( 3/31 ) بيعة علي رضي الله عنه يوم الجمعة بالخلافة سنة خمس و ثلاثين و ذكر من جملة الصحابة الذين بايعوا طلحة و الزبير و جمع من الصحابة ممن كان في المدينة .
ذكر المسعودي في مروج الذهب (ص358) : أن علياً بويع في اليوم الذي قتل فيه عثمان بن عفان رضي الله عنه يعني البيعة الخاصة ، ثم قال إنه بويع البيعة العامة بعد مقتل عثمان بأربعة أيام .
و ذكر اليعقوبي في تاريخه (1/178) : أن طلحة و الزبير بايعا علياً وكان أول من بايعه و صفق على يده يد طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه .
يقول الحافظ الذهبي دول الإسلام (1/28 ) في شأن البيعة : لما قتل عثمان سعى الناس إلى علي و قالوا : لابد للناس من إمام فحضر طلحة و الزبير و سعد بن أبي وقاص و الأعيان ، و كان أول من بايعه طلحة ثم سائر الناس .
و أما الروايات المخالفة التي نقلها الإمام الطبري في تاريخه (4/429) و (4/431) و (4/435) : منها من يقول بأن طلحة و الزبير بايعا كرها ، حيث روى من طريق الزهري قال : بايع الناس علي ابن أبي طالب فأرسل إلى الزبير و طلحة فدعاهما إلى البيعة فتلكّأ طلحة فقام الأشتر و سل سيفه و قال : والله لتبايعن أو لأضربن بهما بين عينيك فقال طلحة : و أين المهرب عنه ! فبايعه و بايعه الزبير و الناس . و هناك روايات أخرى تبين أنهما بايعا و السيف فوق عنقيهما . هذه كلها لا تصح لأنها من روايات الواقدي و أبي مخنف الكذاب .
يقول ابن العربي في العواصم من القواصم (ص148) عنها : فإن قال طلحة : بايعته و اللج على عنقي ، قلنا اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في القفا لغة قفي ، كما يجعل في الهوى هوي ، و تلك لغة هذيل لا قريش فكانت كذبة لم تدبر .(40/80)
و قول من قال : بايع علياً يد شلاّء – أي يد طلحة - والله لا يتم هذا الأمر . قال ابن العربي في العواصم (ص148-149) عن ذلك : و أما من قال يد شلاء و أمر لا يتم ، فإن يداً شلت في وقاية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم لها كل أمر و يتوقى بها من كل مكروه . و قد تم الأمر على وجهه ، و نفذ القدر بعد ذلك على حكمه و جهلَ المبتدع ذلك فاخترع ما هو حجة عليه .
و في رواية ابن شبة كما رواها الطبري في تاريخه (4/429) عن محمد بن الحنفية قال : بايعت الأنصار علياً إلا نفير يسير .
و ذكر منهم : سعد بن أبي وقاص و ابن عمر و أسامة بن زيد و محمد بن مسلمة و غيرهم ، قلت : هذا غير صحيح فإن حضورهم لعلي و اعتذارهم عن الوقوف معه في حرب أهل الشام أو فيما يدور بينه وبين المسلمين من القتال في العراق ، لدليل واضح على أن في أعناقهم بيعة تلزمهم بطاعته حين اعتذروا ، و لو كان الأمر خلاف ذلك لتركوه يخرج دون أن يذهبوا إليه و يعتذروا له ، فهم حينئذ غير ملزمين بطاعته .
و يبرر الباقلاني في التمهيد في الرد على الملحدة (ص233-234) موقف الصحابة الذين تأخروا عن نصرة علي فيقول في هذا الصدد : فإن قال قائل : فإن كانت إمامة علي من الصحة و الثبوت بحيث وصفتم ، فما تقولون في تأخر سعد و ابن عمر و ابن مسلمة و أسامة و غيرهم عن نصرته و الدخول في طاعته ؟ قيل له : ليس في جميع القاعدين ممن أسمينا أو ضربنا عن ذكره من طعن في إمامته و اعتقد فسادها ، و إنما قعدوا عن نصرته على حرب المسلمين لتخوفهم من ذلك و تجنب الإثم فيه .
و يذكر ابن العربي في العواصم (ص 150) : أن قوماً قالوا تخلف عنه من الصحابة جماعة منهم سعد و ابن مسلمة و ابن عمر و أسامة ، فيرد عليهم بقوله : قلنا أما بيعته فلم يتخلف عنها ، و أما نصرته فتخلف عنها قوم ؛ منهم من ذكرتم ؛ لأنها كانت مسألة اجتهادية فاجتهد كل واحد و أعمل نظره و أصاب قدره .(40/81)
و خلاصة القول لئن كانت بعض الروايات تستثني من البيعة بعض الصحابة فإن ذلك لا يقدح في خلافة علي رضي الله عنه .
و إن ثبت امتناع معاوية عن مبايعته فإن ذلك لا يقدح في إجماع أهل الحل و العقد على خلافته ، كما لا يقدح في الإجماع على خلافة الصديق امتناع سعد بن عبادة عن مبايعته ، على أن معاوية معترف بأن علي أحق بالإمامة منه و إنما حجّته في الامتناع هو طلبه تسليم الموجودين من قتلة عثمان فيقتص منم .
و يخلص الماوردي في الأحكام السلطانية (ص30) إلى القول : بأن فرض الإمامة أو البيعة يكون فرض كفاية كالجهاد و طلب العلم ، حيث إذا قام بها من هو أهلها سقط فرضها عن كافة الناس .
بعد أن تولى علي الخلافة قام بعزل بعض الولاة و تعيين آخرين بدلاً عنهم ، فعزل والي مكة خالد بن العاص ، و عين بدله أبا قتادة الأنصاري مدة شهرين ، ثم عزله و عين قثم بن العباس ، و يبدو أن الرأي العام بمكة كان غاضباً لعثمان و تصاعد الغضب لكثرة النازحين من المدينة إلى مكة على إثر سيطرة الثوار على المدينة . تاريخ خليفة (ص178،201) و عصر الخلافة الراشدة لأكرم العمري ( ص139-146)
و أرسل عثمان بن حنيف الأنصاري إلى البصرة والياً عليها بدلاً من عبد الله بن عامر واليها لعثمان ، و كان قد ترك البصرة متجهاً إلى مكة . و قد انقسمت البصرة على الوالي الجديد ، فمنهم من بايع و منهم من اعتزل و منهم من رفض البيعة حتى يقتل قتلة عثمان . سير أعلام النبلاء ( 2/322) .
و أما مصر فكان واليها عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد تركها متجهاً إلى عسقلان ، فاستولى عليها محمد بن أبي حذيفة مدة عام كامل و واجه معارضة تطالب بالقصاص من قتلة عثمان ، فلما قتل ولي عليها قيس بن سعد بن عبادة فتمكن من أخذ البيعة لعلي و هادن أهلها . مصنف عبد الرزاق (5/458) بسند صحيح إلى الزهري .(40/82)
و أرسل علي إلى معاوية يطلب منه البيعة فرد عليه قائلاً : فإن كنت صادقاً فأمكنا من قتلة عثمان نقتلهم به ونحن أسرع الناس إليك . الأخبار الطوال للدينوري (ص162-163) .
فإن قال قائل : إن علياً قد أخطأ في عزل جميع ولاة عثمان قبل أن تأتيه بيعة أهل الأمصار . فالجواب : إن علياً رضي الله عنه إمام مجتهد له أن يعزل عمال عثمان إذا رأى المصلحة في ذلك ، و قد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو المعصوم خالد بن سعيد بن أبي العاص على صنعاء و عمرو بن العاص على عمان ، فعزلهما الصديق من بعده ، و ولى الصديق خالد بن الوليد و المثنى بن حارثة ، فعزلهما الفاروق من بعده ،
و ولى الفاروق عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة فعزلهما عثمان من بعده . تاريخ خليفة (ص97،102،122-123،155،178) و تاريخ الطبري (3/343) (4/241) .
و هكذا فعل علي لما رأى المصلحة في ذلك ؛ فهل ينتقد عاقل الصديق و الفاروق و ذا النورين في عزلهم هؤلاء العمال الأكفاء ! .
أما القول بأنه عزل جميع عمال عثمان ، هذا غير صحيح فالعزل لم يتحقق إلا في معاوية في الشام و خالد بن أبي العاص في مكة ، و أبي موسى الأشعري في الكوفة ، على أنه أقره بعد ذلك . تاريخ الطبري (4/442) و تاريخ خليفة (ص201) .
و أما البصرة فإن واليها خرج من نفسه ، و في اليمن أخذ أميرها يعلي بن مُنية مال جباية اليمن و قدم مكة بعد مقتل عثمان و انضم إلى طلحة و الزبير و حضر معهم موقعة الجمل ، و ابن أبي السرح خرج إلى فلسطين و مكث هناك حتى مات بعد أن تغلب ابن أبي حذيفة على مصر . تاريخ الطبري (4/421) و (4/450) .(40/83)
و هكذا فإن أميري اليمن و البصرة عزلا أنفسهما و أمير مصر عزله المتغلب عليها و أمير الكوفة أقره على منصبه فلم يرد العزل إلا في حق معاوية والي الشام و خالد والي مكة . و أما القول بأنه عزلهم قبل أن تأتيه بيعة أهل الأمصار ، قلت : إن تولية الإمام للعمال على الأمصار غير مشروط بوصول بيعة أهلها له ، فمتى بايع أهل الحل و العقد ، لزمت بيعته جميع البلدان النائية عن مركز الخلافة . و لو كانت تولية الخليفة العمال على الأمصار متوقفة على وصول بيعة أهلها له ما تمت بيعة أبي بكر رضي الله عنه ، لأنه تصرف بإرسال جيش أسامة و محاربة المرتدين قبل وصول بيعة أهل مكة و الطائف و غيرها من البلاد ، و كذلك فعل الفاروق و ذي النورين فإنهما تصرفا في أمور المسلمين أيضاً قبل وصول بيعة الأمصار إليهما .
مقدمات معركة الجمل و ما سبقها من أحداث .
لما مضت أربعة أشهر على بيعة علي رضي الله عنه ، خرج كل من طلحة و الزبير من المدينة بقصد العمرة ، و كذلك خرج عبد الله بن عامر من البصرة و يعلي بن مُنْية من اليمن إلى مكة في أوقات مختلفة ، و أما عن طلب الزبير و طلحة من علي السماح لهما بالذهاب إلى البصرة و الكوفة لإحضار جند يقاتلون بهم قتلة عثمان رضي الله عنه ، فهذا خبر لا يصح منه شيء ؛ لأن طلحة و الزبير رضي الله عنهما كانا حريصين على إصلاح ذات البين و إطفاء نار الفتنة و منع إراقة المزيد من دماء المسلمين ، كما سيأتي .(40/84)
اجتمع طلحة والزبير و يعلي و عبد الله بن عامر و عائشة رضي الله عنهم أجمعين بعد نظر طويل على الشخوص إلى البصرة من أجل الإصلاح بين الناس حين اضطرب أمرهم بعد مقتل عثمان رضي الله عنه ، و ليس من أجل المطالبة بدم عثمان ، و دليل ذلك حديث الحوأب ، - هو موضع قريب من البصرة ، و هو من مياه العرب في الجاهلية و يقع على طريق القادم من مكة إلى البصرة ، و سمي بالحوأب ؛ نسبة لأبي بكر بن كلاب الحوأب ، أو نسبة للحوأب بنت كلب بن وبرة القضاعية ، انظر : معجم البلدان (2/314) – ففي أثناء الطريق إلى البصرة مر الجيش على منطقة يقال لها الحوأب ، فنبحت كلابها فلما سمعت عائشة هذا النباح ، طرأ عليها حديثاً فقالت ما هذه المنطقة ؟ قالوا هذه الحوأب ، فتذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث روى أحمد و ابن حبان و الحاكم عن قيس بن حازم أن عائشة لما أتت على الحوأب سمعت نباح الكلاب ، فقالت : ما أظنني إلا راجعة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : أيتكن تنبح عليها كلاب الحواب . فقال لها الزبير : ترجعين ؟! - أي لا ترجعي لأنهم يحترمونك - عسى الله أن يصلح بك بين الناس . هذا لفظ شعبة ، أما لفظ يحيى فقال : لما أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلاً ، فنبحت الكلاب فقالت : أي ماء هذا ؟ قالوا : ماء الحوأب ، قالت : ما أظنني إلا راجعة فقال بعض من كان معها : بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم . قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها ذات يوم : كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب . السلسلة الصحيحة (1/846) .(40/85)
و قد أشكل حديث الحوأب على بعض الناس فردوه - منهم الإمام ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم ( ص162) ، و تابعه الشيخ محب الدين الخطيب في حاشيته على هذا الكتاب القيم ( ص152) - ، و هو حديث صحيح و لسان حالهم يقول : كان على عائشة رضي الله عنها لما علمت بالحوأب أن ترجع ، و الحديث يدل على أنها لم ترجع و هذا مما لا يليق أن ينسب لأم المؤمنين .
و قد أجاب الشيخ الألباني رحمه الله على هذا الإشكال فقال : ليس كل ما يقع من الكمّل يكون لائقاً بهم ، إذ المعصوم من عصم الله و السنّي لا ينبغي له أن يغالي فيمن يحترمه ، حتى يرفعه إلى مصاف الأئمة الشيعة المعصومين ، و لا شك أن خروج أم المؤمنين كان خطأ من أصله و لذا همّت بالرجوع حين علمت بتحقيق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم عند الحوأب ، و لكن الزبير رضي الله عنه ، قد أقنعها بترك الرجوع بقوله : عسى الله أن يصلح بك بين الناس ، و لاشك انه كان مخطئاً في ذلك أيضاً . السلسلة الصحيحة (1/854-855 ) ، و قال ابن حجر عن الحديث : سنده على شرط الشيخين ، انظر فتح الباري (13/59-60) و قال الهيثمي : رواه أحمد و أبو يعلى و البزار و رجال أحمد رجال الصحيح ، مجمع الزوائد (7/234) و صححه الألباني في الصحيحة ورد على من طعن في صحته و بين من أخرجه من الأئمة ، انظر : الصحيحة (1/846-855) .
هنا أدرك علي رضي الله عنه خطورة الموقف ، و ما يمكن أن يجر إليه الخلاف من تمزيق الدولة الإسلامية ،
فاستنفر أهل المدينة للخروج معه فاجتمع معه حوالي سبعمائة رجل ، و اعتزل الكثير من الصحابة هذه الفتنة ، فخرج علي من المدينة متجهاً إلى العراق و قد عسكر في الربذة حيث أضيف إلى جنده مائتا رجل فبلغوا تسعمائة رجل . تاريخ دمشق لابن عساكر ( 42/456) .(40/86)
و قد حاول الحسن بن علي ثني أبيه عن الذهاب إلى العراق و هو يبكي لما أصاب المسلمين من الفرقة و الاختلاف ، لكن علياً رفض ذلك و أصر على الخروج . مصنف ابن أبي شيبة (15/99-100) بإسناد حسن ، و ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 42/456-457) .
و قد جاءت روايات لتبين أن علي رضي الله عنه خرج من المدينة في إثر أصحاب الجمل ، و هذا الأمر لم يحدث ، بل الصحيح أنه خرج من المدينة عاقداً العزم على التوجه إلى الكوفة ليكون قريباً من أهل الشام ، و لم يخرج في أعقاب أصحاب الجمل .
و في ما يلي بيان هذا الأمر :-
أ- ذكرت بعض الروايات أن علياً رضي الله عنه حين خرج من المدينة أقام في - الربذة - عدة أيام ، و هذا الصنيع من علي رضي الله عنه لا يشبه صنيع من خرج يطلب قوماً . هذا فضلاً عن أن - الربذة - تقع على طريق الكوفة بينما أصحاب الجمل كانوا يسلكون طريق البصرة .
ب- كذلك ذكرت بعض الروايات أن علياً رضي الله عنه حين خرج من - الربذة - توجه إلى – فَيْد ، انظر : معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية لعاتق البلادي (ص239) . - ثم - الثعلبية ، انظر : معجم البلدان لياقوت الحموي (2/78) - و هذه الأماكن من منازل طريق الكوفة ، و هذا يعني أن علياً لم يكن يتعقب أصحاب الجمل ، وإلا لترك طريق الكوفة و قصد طريق البصرة . خاصة أن من أراد البصرة و كان خارجاً من المدينة فإنه يتجه إلى – النَّقِرَة ، انظر : معجم البلدان (5/298) - التي تقع على طريق الكوفة ، و منها يتيامن حتى يصل – النِّباج ، انظر : معجم البلدان (5/255) - التي تقع على طريق البصرة . انظر : كتاب المناسك للحربي (322،587) .
لكن علياً رضي الله عنه لم يفعل ذلك بل تعدى النقرة و واصل سيره إلى فيد ثم الثعلبية . أنظر حول هذا الموضوع مع نقد الروايات في ذلك كتاب استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص183-184) .(40/87)
هنا و بعد أن عسكر علي رضي الله عنه في الربذة ، أرسل رسولين لاستنفار الكوفيين ، و هما محمد بن أبي بكر و محمد بن جعفر ، فأخفقا في مهمتهما لأن أباموسى الأشعري والي الكوفة لعلي التزم موقف اعتزال الفتنة و حذر الناس من المشاركة فيها . سنن أبي داود (4/459-460) بإسناد حسن .
و هذا الخبر يؤيده ما أخرجه البخاري في صحيحه (13/58) من طريق أبي وائل قال : دخل أبو موسى و أبو مسعود على عمار حيث بعثه علي إلى أهل الكوفة يستنفرهم ، فقالا: ما رأيناك أتيت أمراً أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت ، فقال عمار : ما رأيت منكما منذ أسلمت أمراً أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر ، و كساهما حلة ثم راحوا إلى المسجد .
فاتجه علي إلى - ذي قار : ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة . معجم البلدان لياقوت الحموي (4/293-294) - قرب الكوفة و عسكر بها ، و منها أرسل عبد الله بن عباس و أتبعه ابنه الحسن و عمار بن ياسر لاستنفار الكوفيين . تاريخ الطبري ( 4/482) بسند صحيح إلى الزهري مرسلاً ، و الفتح (13/63) . و كان السبب في تغير وجهة السير ، هو أن علي رضي الله عنه سمع بأنباء القلاقل التي حدثت في البصرة و أدت إلى خروج عامله عنها .(40/88)
روى البخاري في صحيحه عن أبي وائل قال : لما بعث علي عماراً و الحسن إلى الكوفة ليستنفرهم خطب عمار فقال : إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا و الآخرة ، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها . و روى كذلك عن أبي مريم قال : لما سار طلحة و الزبير و عائشة إلى البصرة بعث علي عمار بن ياسر و الحسن بن علي ، فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبر فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه و قام عمار أسفل الحسن . فاجتمعنا إليه فسمعت عماراً يقول : إن عائشة قد سارت إلى البصرة ، والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا و الآخرة ، و لكن الله تبارك و تعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي . قال الحافظ في الفتح : و مراد عمار بذلك أن الصواب في تلك القصة كان مع علي ، و أن عائشة مع ذلك لم تخرج عن الإسلام و لا أن تكون زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ، فكان ذلك يعد من إنصاف عمار و شدة تحريه قول الحق . و قال أيضاً : قال ابن هبيرة : في هذا الحديث أن عماراً كان صادق اللهجة و كان لا تستخفه الخصوصية إلى أن ينتقص خصمه ، فإنه شهد لعائشة بالفضل التام مع ما بينهما من حرب . انظر : الفتح (13/63) .
و هنا يجدر التنبيه إلى أن كلام عمار رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها مبني على عدم معرفة عمار بحقيقة خروج أصحاب الجمل ، و هو أنهم قد خرجوا للإصلاح بين الناس . أنظر : استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص185) .
فقدم على علي وفد الكوفه بذي قار فقال لهم : يا أهل الكوفة أنتم لقيتم ملوك العجم فعضضتم جموعهم ،
و قد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن رجعوا فذاك الذي نريده ، و إن أبو داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بالظلم ، و لن ندع أمراً فيه الإصلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى . البداية و النهاية لابن كثير (7/237) .(40/89)
و تذكر بعض الروايات أن أصحاب الجمل بعد أن خرجوا من مكة و اقتربوا من أوطاس : و هو سهل يقع على طريق الحاج العراقي إذا أقبل من نجد ، و تبعد عن مكة ( 143كم ) باتجاه الشمال الشرقي ، انظر : معجم البلدان (1/281) ، تيامنوا عنها و تركوا طريق البصرة و ساروا بمحاذاته حتى وصلوا البصرة .
و هذا الخبر لا يصح بحق أولئك الصحب الكرام ، حيث إنه يصور أصحاب الجمل الذين خرجوا للإصلاح
بأنهم مجموعة من الخارجين على الخلافة ، و أن خوفهم من علي رضي الله عنه قد دفعهم إلى الابتعاد عن سلوك طريق البصرة لكي لا يلحق بهم . و بدراسة خط سير أصحاب الجمل من مكة إلى البصرة ، اتضح أنهم سلكوا طريق البصرة و لم يحيدوا عنه كما زعمت الروايات .
و بيان ذلك كما يلي :-
أ- ذكرت الروايات أن أصحاب الجمل حين وصلوا - أوطاس - تيامنوا عنها و تركوا طريق البصرة و ساروا بمحاذاته .
و هذا الخبر فيه تلبيس يوهم أن أصحاب الجمل قد تركوا طريق البصرة ، بينما حقيقة الأمر أن من أراد البصرة و كان خارجاً من مكة تيامن من عند - أوطاس - كما فعل أصحاب الجمل ، و من أراد الكوفة تياسر عنها ، حيث إن طريقي البصرة و الكوفة يأخذان بالتفرع يميناً و يساراً من بعد - أوطاس - .
ب- ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد أن كلاب الحوأب نبحت على عائشة رضي الله عنها حين بلغت ديار بني عامر .(40/90)
و بنو عامر هؤلاء بنو عامر بن صعصعة ، و الحوأب ماء من مياه العرب يقع على طريق البصرة و هو من مياه بني بكر بن كلاب ، و بنو كلاب هؤلاء بطن من عامر بن صعصعة ، انظر : معجم البلدان (1/314) . و حيث إن بني كلاب كانوا يسكنون – ضَرِيَّة ، انظر : كتاب المناسك للحربي (ص612) ، و معجم البلدان (3/457) - ، فإن هذا يعني أن الحوأب تقع في - ضرية - ، و حيث إن - ضرية - تقع على طريق الحاج البصري ، انظر : كتاب المناسك للحربي (ص594) ، فإن ذلك يعني أن أصحاب الجمل قد سلكوا الطريق المعتاد بين مكة و البصرة و لم يحيدوا عنه كما زعمت الروايات . أنظر حول هذا الموضوع مع نقد الروايات في ذلك : كتاب استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص166-168) .
معركة الجمل ، و دور السبئية في إشعالها .
كان جيش مكة قد وصل خلال تلك الفترة إلى البصرة فأرسل عثمان بن حنيف رضي الله عنه و هو والي البصرة من قبل علي إليهم يستفسر عن سبب خروجهم فكان الجواب : إن الغوغاء من أهل الأمصار و نزاع القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم و أحدثوا فيه الأحداث و آووا فيه المحدِثين و استوجبوا فيه لعنة الله و لعنة رسوله ، مع ما نالوا من قتل أمير المسلمين بلا ترة و لا عذر فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه و انتهبوا المال الحرام و أحلوا البلد الحرام و الشهر الحرام ، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم و ما فيه الناس وراءنا ، و ما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا ، و قرأت { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس }[ النساء /114] ، ننهج في الإصلاح ممن أمر الله عز وجل و أمر رسوله صلى الله عليه وسلم الصغير و الكبير و الذكر و الأنثى فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به و نحضكم عليه ، و منكر ننهاكم عنه و نحثكم على تغييره . تاريخ الطبري (4/462) ، من طريق سيف بن عمر .(40/91)
اتجه بعدها جيش مكة نحو بيت المال و دار الرزق فاعترضهم حكيم بن جبلة أحد الثوار المشاركين في حصار الدار بالمدينة و معه سبعمائة من قومه و جرت معركة قتل فيها حكيم بن جبلة ، و خرج عثمان بن حنيف من البصرة و لحق بعلي رضي الله عنه . تاريخ الطبري (4/468،471) .
ولم يثبت من طريق صحيح يمكن أن يعول عليه ، أنهم ضربوه و نتفوا شعر وجهه رضي الله عنه ، و الصحابة الكرام رضي الله عنهم يتنزهون عن مثل هذه المثلة القبيحة . و هذه من روايات أبي مخنف الكذاب . انظر : مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري (ص258) .
و حين عسكر جيش على بذي قار أرسل عبد الله بن عباس إلى طلحة و الزبير يسألهما : هل أحدث ما يوجد السخط على خلافته ، كحيف في حكم أو استئثار بفيء ؟ أو في كذا ؟ فقال الزبير : ولا في واحدة منها . فضائل الصحابة للإمام أحمد (2/596) بسند صحيح و ابن أبي شيبة : المصنف (15/267) بتصرف يسير .
و بالجملة فعائشة و طلحة و الزبير رضي الله عنهم إنما خرجوا قاصدين الإصلاح ، و جمع كلمة المسلمين
و ما رافق ذلك من قتال و حروب فلم يكن بمحض إرادتهم و لا قصداً منهم ، و إنما أثير من قبل السبئية
و أعوانهم من الغوغاء ، و لم يكن الإصلاح هدف طلحة و الزبير و عائشة وحدهم ، بل إن علياً أيضاً لم ير في مسيره إليهم إلا الإصلاح و جمع الكلمة ، و على العموم لم ير علي و طلحة و الزبير و عائشة رضوان الله عليهم أمراً أمثل من الصلح و ترك الحرب ، فافترقوا على ذلك ، و إنه لموقف رائع من طلحة و الزبير رضي الله عنهما ، و هو لا يقل روعة عن موقف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فكل منهم قبل الصلح و وافق عليه ، و كل منهم كان يتورع أن يسفك دماً أو يقتل مسلماً .(40/92)
و لا يمكن أن يفهم عاقل يقف على النصوص السابقة أن زعماء الفريقين هم الذين حركوا المعركة و أوقدوا نارها ، و كيف يتأتى ذلك و كلا الطرفين كانت كلمة الصلح قد نزلت من نفوسهم و قلوبهم منزلاً حسناً ، و لكنهم قتلة عثمان أصحاب ابن سبأ عليهم من الله ما يستحقون هم الذين أشعلوا فتيلها و أججوا نيرانها حتى يفلتوا من حد القصاص .
و قد يسأل سائل لماذا سمح علي رضي الله عنه لأهل الفتنة بالبقاء معه في جيشه و لم يعاقبهم على فعلتهم الشنيعة ؟!
كان سبب إبقاء علي على أهل الفتنة في جيشه أنهم كانوا سادات في أقوامهم ، فكان علي يرى أن يصبر عليهم إلى أن تستقر الأمور .
وقد أجاب عن ذلك الإمام الطحاوي في شرح العقيدة شرح الطحاوية (ص483) بقوله : و كان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج الذين قتلوا عثمان ، من لم يُعرف بعينه و من تنتصر له قبيلته ، و من لم تقم عليه حجة بما فعله ، و من في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله .
و على كل حال كان موقف علي رضي الله عنه ، موقف المحتاط منهم ، المتبرئ من فعلهم ، و هو و إن كان لم يخرجهم من عسكره فقد كان يعاملهم بحذر و ينظر إليهم بشزر ، حتى قال الإمام الطبري في تاريخه (4/445) : بأنه لم يول أحد منهم أثناء استعداده للمسير إلى الشام – يقصد مسيره لحرب صفين - ، حيث دعا ولده محمد بن الحنفية و سلمه اللواء و جعل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قائد الميمنة و عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه على الميسرة و جعل على مقدمة الجيش أبا ليلى بن عمر بن الجراح و استخلف على المدينة قثم بن العباس رضي الله عنهم .(40/93)
و هذه بادرة منه رضي الله عنه ليعلن تبرؤه من أولئك المارقين ، و يثبت قدرته على السيطرة على أمر المسلمين من غير عون منهم ، فقد كان له في المسلمين الموالين له و المؤيدين لخلافته ما يغنيه عن الاستعانة بهم و التودد إليهم ؛ و هذا أقصى ما يمكنه فعله بتلك الطائفة إذ ذاك ، و هو كافٍ في عذره لأنهم مئات و لهم قرابة و عشائر في جيشه ، فما يأمن لو عاملهم بأكثر من هذا من الشدة أن يمتد حبل الفتنة في الأمة ، كما حصل ذلك لطلحة و الزبير و عائشة بالبصرة حين قتلوا بعضاً منهم ، فغضب لهم قبائلهم و اعتزلوهم . إفادة الأخيار ببراءة الأبرار للتباني (2/52) .
فلما نزل الناس منازلهم و اطمأنوا خرج علي و خرج طلحة و الزبير فتوافقوا و تكلموا فيما اختلفوا فيه ، فلم يجدوا أمراً هو أمثل من الصلح ، فافترقوا على ذلك ، رجع علي إلى عسكره و رجع طلحة و الزبير إلى عسكرهما و أرسل طلحة و الزبير إلى رؤساء أصحابهما ، و أرسل علي إلى رؤساء أصحابه ما عدا أولئك الذين حاصروا عثمان رضي الله عنه فبات الناس على نية الصلح و العافية ، و هم لا يشكون في الصلح فكان بعضهم بحيال بعض ، و بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون و لا ينوون إلا الصلح فباتوا بخير ليلة باتوها منذ مقتل عثمان ، و بات الذين أثاروا الفتنة بشرّ ليلة باتوها قط ، إذ أشرفوا على الهلاك و جعلوا يتشاورون ليلتهم كلها . انظر : تاريخ الطبري (4/506-507 ) من طريق سيف بن عمر .
فاجتمعوا على إنشاب الحرب في السر ، فغدوا في الغلس و عليهم ظلمة و ما يشعر بهم جيرانهم ، فوضعوا فيهم السيوف ، فثار أهل البصرة و ثار كل قوم في وجوه الذين باغتوهم ، فقام طلحة ينادي و هو على دابته - وقد غشيه الناس - فيقول : يا أيها الناس أتنصتون ؟ فجعلوا يركبونه و لا ينصتونه ، فما زاد أن قال : أف ، أف ، فراش نار و ذبان طمع . تاريخ خليفة (ص 182) . وهل يكون فراش النار و ذبان الطمع غير أولئك السبئية ؟!(40/94)
التحم القتال من الغوغاء و خرج الأمر عن علي و طلحة و الزبير . و كان طلحة يقول – و السهام تناوشه - : اللهم خذ لعثمان مني اليوم حتى ترضى . تاريخ خليفة (ص 185) ، دول الإسلام للذهبي (1/28) .
و يصور لنا الحسن بن علي حال والده فيقول : لقد رأيته حين اشتد القتال يلوذ بي و يقول : يا حسن لوددت أني مت قبل هذا بعشرين حجة - أو سنة - ، فقال له الحسن : يا أبت قد كنت أنهاك عن هذا ، قال : يا بني لم أر الأمر يبلغ هذا . مصنف ابن أبي شيبة (15/288) بإسناد صحيح ، و السنة لعبد الله بن أحمد (2/566 ، 589 ) .
و روى ابن أبي شيبة في مصنفه (15/275) . بإسناده إلى حبيب بن أبي ثابت أن علياً قال يوم الجمل : اللهم ليس هذا أردت ، اللهم ليس هذا أردت .
أما الروايات التي جاءت تفيد بأن طلحة رضي الله عنه قام بتحريض الناس على القتال ثم إصابته و موته ، هي روايات مردودة بما ثبت من عدالة الصحابة رضوان الله عليهم ، وقام طلحة و رجع خلف الجيش ، فجاءه سهم غرب لا يعرف من أين أتى فنزل في المفصل من ركبته فصادف جرحاً في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ ينزف فحمله غلامه إلى البصرة و ألجأه إلى دار خربة لا أحد فيها و مات هناك رضي الله عنه . تاريخ الطبري (4/512 ، 514 ) من طريق سيف بن عمر .
و قيل أن الذي ضربه بالسهم مروان بن الحكم ، لكن ليس هناك دليل على هذا ، و بدراسة تلك الروايات ، اتضح براءة مروان بن الحكم من تلك التهمة ، و ذلك للأسباب التالية :-
أ- وجود رواية لمروان بن الحكم في صحيح البخاري ، مع ما عرف من البخاري رحمه الله من الدقة و شدة التحري في أمر من تقبل روايته ، فلو صح قيام مروان بقتل طلحة رضي الله عنه لكان هذا سبباً كافياً لرد روايته و القدح في عدالته . و الرواية في صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (3/493) .(40/95)
ب- استبعاد ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (7/248) لهذا الأمر و تشكيكه فيه بقوله : و يقال إن الذي رماه بهذا السهم مروان بن الحكم . و قد قيل : إن الذي رماه بهذا السهم غيره ، و هذا عندي أقرب ، و إن كان الأول مشهوراً ، والله أعلم .
جـ- ثناء الأئمة عليه كالإمام أحمد ، و الحافظ ابن حجر . سير أعلام النبلاء للذهبي (3/477) و الإصابة لابن حجر (6/257-259) .
د- بطلان السبب الذي قيل إن مروان قتل طلحة رضي الله عنه من أجله ، و هو اتهام مروان لطلحة بأنه أعان على قتل عثمان رضي الله عنه . و هذا السبب المزعوم غير صحيح حيث إنه لم يثبت من طريق صحيح أن أحداً من الصحابة قد أعان على قتل عثمان رضي الله عنه .
هـ - كون مروان و طلحة رضي الله عنهما ، في صف واحد يوم الجمل ، و هو صف المنادين بالإصلاح بين الناس .
و - أن معاوية رضي الله عنه قد ولى مروان على المدينة و مكة ، انظر خبر توليته في : تاريخ الطبري (5/293) ، فلو صح ما بدر من مروان لما ولاه معاوية رضي الله عنه على رقاب المسلمين و في أقدس البقاع عند الله . لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع راجع كتاب : استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص202-203) .
و في أثناء المعركة قال علي للزبير : أتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : يا زبير أما والله لتقاتلنه و أنت ظالم له . تاريخ دمشق لابن عساكر (18/408-410) .
روى الحاكم في المستدرك (3/365-366) من طرق متعددة أن علياً ذكرّ الزبير بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لتقاتلن علياً و أنت ظالم له ، فلذلك رجع .(40/96)
و أخرج إسحاق من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن عبد السلام - رجل من حيه - قال : خلا علي بالزبير يوم الجمل فقال : أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول و أنت لاوي يدي : لتقاتلنه و أنت ظالم له ثم لينتصرن عليك . قال : قد سمعت ، لا جرم لا أقاتلك . ذكره الحافظ في الفتح (13/60) و انظر المطالب العالية (4/301) .
و روى ابن عساكر في تاريخه (18/410) وابن كثير في البداية (7/242) أن الزبير رضي الله عنه لما عزم عل الرجوع إلى المدينة عرض له ابنه عبد الله فقال : مالك ؟ قال : ذكرّني علي حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم و إني راجع ، فقال له ابنه : و هل جئت للقتال ؟ إنما جئت تصلح بين الناس ، و يصلح الله هذا الأمر .
و بالفعل فإن موقف الزبير رضي الله عنه كان السعي في الإصلاح حتى آخر لحظة ، و هذا ما أخرجه الحاكم في المستدرك (3/366) من طريق أبي حرب بن أبي الأسود الديلي ، و فيه أن الزبير رضي الله عنه سعى في الصلح بين الناس و لكن لما قامت المعركة واختلف أمر الناس مضى الزبير و ترك القتال .
و هذا الفعل من الزبير رضي الله عنه هو الذي ينسجم مع مقصده الذي قدم البصرة من أجله ، لا كما تصوره بعض الروايات من أنه كان من المحرضين على القتال .
و أثناء انسحابه رضي الله عنه رآه ابن جرموز فتبعه فأدركه و هو نائم في القائلة ، بوادي السباع ، فهجم عليه فقتله رضي الله عنه ، ثم سلب سيفه و درعه . الفصل في الملل و النحل لابن حزم (4/239) . و قال ابن كثير أن هذا القول هو الأشهر . أنظر : البداية و النهاية (7/250) .(40/97)
ذكر الحافظ في الفتح (6/264-265) و (7/102) : أن ابن جرموز جاء إلى علي متقرباً إليه بذلك ، فأمسك علي السيف بيده و قال : طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم و قال : بشر قاتل ابن صفية بالنار . أنظر : المسند (1/89 ، 102) و صححه الحاكم في المستدرك (4/367) و و ذكره أحمد في كتاب فضائل الصحابة بإسناد حسن (2/736-737) بلفظ قريب و فيه : جاء قاتل الزبير يستأذن ، فجاء الغلام فقال : هذا قاتل الزبير فقال : ليدخل قاتل الزبير النار ، و جاء قاتل طلحة يستأذن فقال الغلام : هذا قاتل طلحة يستأذن ، فقال : ليدخل قاتل طلحة النار .
و هذا الخبر يؤيده ما أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/737) بإسناده حسن ، و فيه أن ابن جرموز استأذن على علي رضي الله عنه فقال : من هذا ؟ فقال : ابن جرموز يستأذن . فقال : ائذنوا له ليدخل قاتل الزبير النار ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لكل نبي حواريّ و إن حوارييّ الزبير .
و في تعليل هذه الجرأة من ابن جرموز على قتل الزبير رضي الله عنه يقول الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة (ص322) : و كثر في أيامه - أيام عثمان رضي الله عنه - من لم يصحب الرسول ، و فُقد من عَرَفَ فضل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .(40/98)
هنا ذهب كعب بن سَور بالخبر إلى أم المؤمنين فقال لها : أدركي الناس قد تقاتلوا . و كانت المعركة قريبة من البصرة ، فوضع لها الهودج فوق البعير – ورد أن اسم البعير عسكر - فجلست فيه و غطي بالدروع ، و ذهبت إلى أرض المعركة لعل أن يوقف الناس القتال عندما يشاهدونها ، فلما وصلت ، أعطت عائشة المصحف لكعب و قالت له : خلِّ البعير و تقدم و ارفع كتاب الله و ادعهم إليه ، فشعر أهل الفتنة بأن القتال سيتوقف إذا تركوا كعباً يفعل ما طُلب منه ، فلما قام كعب و رفع المصحف و أخذ ينادي تناولته النبال فقتلوه ، كما جاء في رواية الطبري (4/513) من طريق سيف بن عمر ، و ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/88) .
ثم أخذوا بالضرب نحو الجمل ، بغية قتل عائشة لكن الله نجاها ، فأخذت تنادي : أوقفوا القتال ، و أخذ علي ينادي و هو من خلف الجيش : أن أو قفوا القتال ، و قادة الفتنة مستمرين ، فقامت أم المؤمنين بالدعاء على قتلة عثمان قائلة : اللهم العن قتلة عثمان ، فبدأ الجيش ينادي معها ، و حين سمع علي رضي الله عنه أثناء المعركة أهل البصرة يضجون بالدعاء ، قال : ما هذه الضجة ؟ فقالوا : عائشة تدعو و يدعون معاً على قتلة عثمان و أشياعهم ، فأقبل علي يدعو و يقول : اللهم العن قتلة عثمان و أشياعهم . الطبري (4/513) .
و روى ابن أبي شيبة في المصنف (15/277) و البيهقي في السنن الكبرى (8/181) أن علياً سمع يوم الجمل صوتاً تلقاء أم المؤمنين فقال : انظروا ما يقولون ، فرجعوا فقالوا : يهتفون بقتلة عثمان ، فقال : اللهم أحلل بقتلة عثمان خزياً .
و يؤيد هذا الخبر ما أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (1/455) بإسناد صحيح ، من طريق محمد بن الحنفية قال : بلغ علياً أن عائشة تلعن قتلة عثمان في المربد ، قال : فرفع يديه حتى بلغ بهما وجهه فقال : و أنا ألعن قتلة عثمان ، لعنهم الله في السهل والجبل ، قال مرتين أو ثلاثاً . و ارتفعت أصوات الدعاء في المعسكرين ..(40/99)
يقول الحارث بن سويد الكوفي - شاهد عيان ثقة ثبت - لقد رأيتُنا يوم الجمل ، و إن رماحنا و رماحهم لمتشاجرة و لو شاءت الرجال لمشت عليه ، يقولون الله أكبر ، سبحان الله ، الله أكبر . تاريخ خليفة (ص 198) بإسناد صحيح .
ثم إن أهل الفتنة أخذوا يرشقون جمل أم المؤمنين بالنبال و علي يصرخ فيهم أن كفوا عن الجمل ، لكنهم لا يطيعونه فصار الجمل كالقنفذ من كثرة النبال التي علقت به . تاريخ الطبري (4/513 ، 533 ) من طريق سيف بن عمر .
و يقدم الأشتر نحو الجمل فوقف له ابن الزبير فتقاتلا ، و لهذا شاهد من حديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ( 11/108) و ( 15/257) بإسناد رجاله ثقاة : أن الأشتر و ابن الزبير التقيا فقال ابن الزبير : فما ضربته ضربة حتى ضربني خمساً أو ستاً ، ثم قال : فألقاني برجلي ثم قال : والله لولا قرابتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت منك عضواً مع صاحبه ، قال : و قالت عائشة : واثكل أسماء ، قال : فلما كان بعد أعطت الذي بشرها به أنه حي عشرة آلاف .
أما قصة صراع ابن الزبير مع الأشتر و قول ابن الزبير اقتلوني و مالكاً ، تعارضها الروايات الصحيحة ، فقد أخرج الطبري (4/520) بسند صحيح عن علقمة أن الأشتر لقي ابن الزبير في الجمل فقال : فما رضيت بشدة ساعدي أن قمت في الركاب فضربته على رأسه فصرعته . قلنا فهو القائل اقتلوني و مالكاً ؟ قال : لا ، ما تركته و في نفسي منه شيء ، ذاك عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، لقيني فاختلفنا ضربتين ، فصرعني و صرعته ، فجعل يقول اقتلوني و مالكاً ، و لا يعلمون من مالك فلو يعلمون لقتلوني . و أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (15/228) .
هنا وصل القعقاع إلى الجمل فخاف على أم المؤمنين أن تصاب فبدأ ينادي بالانسحاب فأخذ الجمل محمد بن طلحة بن عبيد الله فقتل رضي الله عنه فأخذ القعقاع الجمل و سحبه خارج المعركة .(40/100)
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف (15/285) بسند صحيح أن عبد الله بن بديل قال لعائشة : يا أم المؤمنين أتعلمين أني أتيتك عندما قتل عثمان فقلتُ ما تأمريني ، فقلتِ الزم علياً ؟ فسكتت فقال : اعقروا الجمل فعقروه قال : فنزلت أنا و أخوها محمد و احتملنا الهودج حتى وضعناه بين يدي علي ، فأمر به علي فأدخل في بيت عبد الله بن بديل . و أورده الحافظ في الفتح (13/62) .
هنا علي رضي الله عنه أصدر الأوامر بأن لا تلحقوا هارباً و لا تأخذوا سبياً فثار أهل الفتنة و قالوا : تحل لنا دمائهم و لا تحل لنا نسائهم و أموالهم ؟ فقال علي : أيكم يريد عائشة في سهمه ، فسكتوا ، فنادى لا تقتلوا جريحاً و لا تقتلوا مدبراً ، و من أغلق بابه و ألقى سلاحه فهو آمن .البيهقي في السنن الكبرى (8/182) و ابن أبي شيبة في المصنف (15/257) و (15/286) بإسناد صحيح .
و أخرج الشافعي في الأم (4/308) من رواية علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : دخلت على مروان بن الحكم ، فقال : ما رأيت أحداً أكرم من أبيك ، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل فنادى مناديه لا يقتل مدبراً و لا يذفف على جريح . و أورده الحافظ في الفتح (13/62) .
و كان علي رضي الله عنه يطوف على القتلى و هم يدفنون ، ثم سار حتى دخل البصرة فمر على طلحة
و رآه مقتولاً فجعل يمسح التراب عن وجهه و يقول : عزيز عليّ أبا محمد أن أراك مجندلاً تحت نجوم السماء ، ثم قال : إلى الله أشكو عجري و بجري - أي همومي وأحزاني - و بكى عليه و على أصحابه . تاريخ دمشق (25/115) و أسد الغابة لابن الأثير (3/88-89) .(40/101)
بعدها ذهب إلى بيت عبد الله بن بديل الخزاعي لزيارة عائشة و الاطمئنان عليها فقال لها : غفر الله لكِ ، قالت : ولك ما أردت إلا الإصلاح بين الناس . شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (1/206) . و نقل الزهري في المغازي (ص154) قولها : إنما أريد أن يحجز بين الناس مكاني ، و لم أحسب أن يكون بين الناس قتال ، و لو علمت ذلك لم أقف ذلك الموقف أبداً . و هذا هو الصحيح بخلاف من قال بأن عائشة نزلت في بيت عبد الله بن خلف الخزاعي .
ثم قام علي بتجهيز عائشة و إرسالها إلى مكة معززة مكرمة ، و هذا الفعل من علي رضي الله عنه يعد امتثالاً لما أوصاه به النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أخرج الإمام أحمد في المسند (6/393) بسند حسن من حديث أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : إنه سيكون بينك و بين عائشة أمر ، قال : فأنا أشقاهم يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها .
و أخرج الحاكم في المستدرك (3/119) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج بعض أمهات المؤمنين ، فضحكت عائشة رضي الله عنها فقال : انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت ، ثم التفت إلى علي فقال : إن وليت من أمرها شيئاً فارفق بها .
و كان خروج عائشة رضي الله عنها يوم الجمل يعتبر زلة عن قصد حسن و هو الإصلاح ، و قد ندمت على ذلك ، و قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها زوجته في الجنة كما في المستدرك و قال عمار : والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا و الآخرة ، كما في الصحيح بهذا المعنى . و بهذين الدليلين و بوصف الله لها في القرآن بأنها طيبة ، تنقطع ألسنة الروافض الطاعنين في صحابة رسول الله و منهم أم المؤمنين رضي الله عنها . الصحيح المسند من دلائل النبوة للشيخ مقبل الوادعي (ص417) في الهامش .(40/102)
و كانت رضي الله عنها إذا قرأت { و قرن في بيوتكن }[ الأحزاب/33] بكت حتى يبتل خمارها ، و كانت حينما تذكر الجمل تقول : وددت أني كنت جلست كما جلس أصحابي ، و في رواية ابن أبي شيبة : وددت أني كنت غصناً رطباً و لم أسر مسيري هذا . سير أعلام النبلاء للذهبي (2/177) و مجمع الزوائد للهيثمي (7/238) و ابن أبي شيبة في المصنف (15/281) .
و العقل يقطع بأنه لامناص من القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين اللتين وقع فيهما مئات القتلى ،
و لاشك أن عائشة رضي الله عنها هي المخطئة ؛ لأسباب كثيرة و أدلة واضحة ، منها ندمها على خروجها ، و ذلك هو اللائق بفضلها و كمالها ، و ذلك مما يدل على أن خطأها من الخطأ المغفور ، بل المأجور .
قال الإمام الزيلعي في نصب الراية : و قد أظهرت عائشة الندم كما أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب عن ابن أبي عتيق - عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - قال : قالت عائشة لابن عمر : يا أبا عبد الرحمن ما منعك أن تنهاني عن مسيري ؟ قال : رأيت رجلاً غلب عليك – يعني ابن الزبير – فقالت : أما والله لو نهيتني ما خرجت . قال الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة : و لهذا الأثر طرق أخرى ، فقال الذهبي في السير : عن قيس قال : قالت عائشة ، و كانت تحدث نفسها أن تدفن في بيتها فقالت : إني قد أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثاً ، ادفنوني مع أزواجه ، فدفنت بالبقيع رضي الله عنها . قلت – أي الذهبي - : تعني بالحدث مسيرها يوم الجمل ، فإنها ندمت ندامة كلية و تابت من ذلك ، على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة ، قاصدة للخير ، كما اجتهد طلحة و الزبير و جماعة من كبار الصحابة رضي الله عن الجميع . انظر : السلسلة الصحيحة (1/854-855) .(40/103)
يقول شيخ الإسلام في منهاج السنة ( 4/316-317 ، 321-322 ) و (6/208 ، 363 ) : إن عائشة لم تخرج للقتال ، و إنما خرجت بقصد الإصلاح بين الناس و ظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى ، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها ، و هكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال فندم طلحة و الزبير رضي الله عنهم أجمعين .
و يقول الإمام القرطبي في تفسيره (8/321-322) في تفسير سورة الحجرات ما نصه : لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به ، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه و أرادوا الله عز وجل .. هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض - يشير إلى حديث أبي هريرة عند مسلم (4/1880) و نصه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو و أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة والزبير ، فتحركت الصخرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد . والترمذي (5/644) و انظر : كتاب فضائل الصحابة للنسائي (ص113) بتحقيق فاروق حمادة ، و ابن ماجة في فضائل طلحة ( 1/46) و الأصفهاني في الإمامة ( ص371-372) - ، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً .. و مما يدل على ذلك ما قد صح و انتشر من إخبار عليّ بأن قاتل الزبير في النار ، و قوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بشر قاتل ابن صفية بالنار – تقدم تخريجه - ، و إذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة و الزبير غير عاصيين و لا آثمين بالقتال - أي أنهما معذوران باجتهادهما - لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة شهيد ، و لم يخبر أن قاتل الزبير في النار، و إذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم ، و البراءة منهم ، و تفسيقهم و إبطال فضائلهم و جهادهم ، رضي الله تعالى عنهم .(40/104)
و على ذلك إذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يجوز عليهم الخطأ كما يجوز على كل بشر ، فحينئذ نستطيع أن نقبل ما يحدث في تصرفاتهم من أخطاء غير مقصودة ، و إنما وقعت نتيجة اجتهاد لم يوفقوا فيه إلى الصواب ، لكنهم مثابون على الإخلاص في اجتهادهم إن شاء الله .
و لقد أخطأ من قال بأن الباعث لخروج طلحة والزبير هو ما كانا عليه من الطمع في الخلافة والتآمر على الناس بذلك .
فينفي ابن شبّة في كتابه أخبار البصرة هذا الزعم بقوله : إن أحداً لم ينقل أن عائشة و من معها نازعوا علياً في الخلافة ، و لا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة ، و إنما أنكروا على علي منعه - أي تأخيره - من قتل قتلة عثمان و ترك الاقتصاص منهم . أورده الحافظ في الفتح (13/60-61) .
و يقول ابن حزم في الفصل في الملل (4/238-239) : فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها ، أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي و لا خلافاً عليه ، و لا نقضاً لبيعته و لو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته ، و هذا ما لا يشك فيه أحد و لا ينكره أحد ، فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً .
وقد كان التقاء الفريقين في الجمل يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة ست و ثلاثين ، تاريخ خليفة (ص184-185) - و هي أصح الروايات في تحديد تاريخ وقعة الجمل - و كان القتال بعد صلاة الظهر فما غربت الشمس و حول الجمل أحد ممن كان يذب عنه . أورده الحافظ في الفتح (13/62) .
و أما عن عدد قتلى معركة الجمل فقد بالغ المؤرخون في ذكرهم فمن مقلل و من مكثر على حسب ميل الناس و أهوائهم ؛ لكن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل فقد كان ضئيلاً جداً للأسباب التالية :-
1 - قصر مدة القتال ، حيث أخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن القتال نشب بعد الظهر ، فما غربت
الشمس و حول الجمل أحد ممن كان يذب عنه .(40/105)
2 - الطبيعة الدفاعية للقتال ، حيث كان كل فريق يدافع عن نفسه ليس إلا .
3 - تحرج كل فريق من القتال لما يعلمون من عظم حرمة دم المسلم .
4 - قياساً بعدد شهداء المسلمين في معركة اليرموك - ثلاثة آلاف شهيد ، تاريخ الطبري (3/402) - و معركة القادسية - ثمانية آلاف و خمسمائة شهيد ، تاريخ الطبري (3/564) - و هي التي استمرت عدة أيام ، فإن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل يعد ضئيلاً جداً . هذا مع الأخذ بالاعتبار شراسة تلك المعارك و حدتها لكونها من المعارك الفاصلة في تاريخ الأمم .
5 - أورد خليفة بن خياط في تاريخه (ص187-190) بياناً بأسماء من حفظ من قتلى يوم الجمل ، فكانوا قريباً من المائة . فلو فرضنا أن عددهم كان مائتين و ليس مائة ، فإن هذا يعني أن قتلى معركة الجمل لا يتجاوز المائتين . و هذا هو الراجح للأسباب و الحيثيات السابقة و الله أعلم بالصواب . أنظر حول هذا الموضوع كتاب : استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص214-215) .
و هذا العدد مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه : ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تخرج فتنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها و عن يسارها قتلى كثير ، ثم تنجو بعد ما كادت . السلسلة الصحيحة (1/853 ) .
حال ابن سبأ و مصيره بعد هذه الأحداث .
تعددت الروايات في ذكر مصير عبد الله بن سبأ ، هل أحرق مع أصحابه ؟
أم أنه نفي مع من نفي إلى سباط في المدائن ؟
أقول : الراجح والله أعلم و هو الذي أعتقده ، أنه نفي إلى سباط ، و مات هناك ؛ و الأدلة على ذلك كثيرة جداً ، و هاك مختصرها :-
أولاً : الأدلة على كون علي أحرق جماعته ، دون ذكر لحرق ابن سبأ معهم :-(40/106)
إن خبر إحراق علي بن أبي طالب رضي الله عنه لطائفة السبئية ، تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح و السنن و المساند . أنظر خبره معهم عند البخاري في صحيحه (4/21) ، (8/50) ، و أبو داود في سننه (4/520) ، و النسائي (7/104) ، و الترمذي (4/59 ) و الحاكم في المستدرك (3/538-539) و صححه الألباني في صحيح أبي داود (3/822) .
فقد ذكر الإمام البخاري عن عكرمة مولى ابن عباس قال أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم لا تعذبوا بعذاب الله ) و لقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه ) . البخاري مع الفتح (12/279) .
ذكر الجُوزَجَاني في أحوال الرجال ( ص37-38 ) ، و ابن حجر في الفتح ( 12/270) بإسناد حسن : أن السبئية غلت في الكفر ، فزعمت أن علياً إلهاً ، حتى حرّقهم بالنار إنكاراً عليهم ، و استبصاراً في أمرهم حين يقول :
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري و دعوت قنبرا .
يقول ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص78-79) ، و في المعارف (ص 267) : إن عبد الله بن سبأ ادّعى الربوبية لعلي ، فأحرق علي أصحابه بالنار .
قال ابن حجر في لسان الميزان (3/389-390) : عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة ... ، و يقول عن طائفته : وله أتباع يقال لهم السبئية ، معتقدون الألوهية في علي بن أبي طالب ، و قد أحرقهم علي بالنار في خلافته .
يقول ابن حزم في الفصل في الملل والنحل (4/186) : و القسم الثاني من الفرق الغالية الذين يقولون بالإلهية لغير الله عز وجل فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبأ ... إلى أن قال : فقالوا مشافهة أنت هو ، فقال لهم و من هو ؟ قال : أنت الله ، فاستعظم الأمر و أمر بنار فأججت و أحرقهم بالنار .(40/107)
و يؤكد الفخر الرازي كغيره من أصحاب المقالات والفرق خبر إحراق علي لطائفة من السبئية . انظر : اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ( ص 57 ) .
ثانياً : الأدلة على كون علي أحرق جماعته ، و أحرق ابن سبأ معهم :-
ذكر المامقاني في تنقيح المقال (2/184) : أن علياً حرّق عبد الله بن سبأ في جملة سبعين رجلاً ادعوا فيه الإلهية والنبوة .
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (2/426) : أحسب أن علياً حرّقه – يقصد عبد الله بن سبأ – بالنار . و هو هنا لا يجزم بذلك بل وضعه موضع الشك .
أما الكشي فقد جزم بأن علياً رضي الله عنه قد أحرق عبد الله بن سبأ مع جملة أصحابه ، و قد نقل أكثر من رواية تنص على أن علياً حينما بلغه غلو ابن سبأ و دعواه الألوهية فيه ، دعاه و سأله فأقر بذلك ، و طلب إليه أن يرجع عن ذلك ، فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار . انظر هذا النص عند الناشئ الأكبر في مسائل الإمامة (ص 22 ) .
ثالثاً : الأدلة على كون علي أحرق جماعته ، ومن ثم نفى ابن سبأ إلى سباط .
ذكر ابن تيمية في منهاج السنة ( 1/23 ، 30 ) و (3/459) و ابن عساكر في تاريخ دمشق (29/10) و الملطي في التنبيه والرد على أهل الأهواء و البدع للملطي ( ص 29- 30 ) : أن علياً حرّق جماعة من غلاة الشيعة و نفى بعضهم ، و من المنفيين عبد الله بن سبأ .
و ذكر البغدادي في الفرق بين الفرق ( ص223 ) : أن السبئية أظهروا بدعتهم في زمان علي رضي الله عنه فأحرق قوماً منهم و نفى ابن سبأ إلى سباط المدائن إذ نهاه ابن عباس رضي الله عنه عن قتله حينما بلغه غلوه فيه و أشار عليه بنفيه إلى المدائن حتى لا تختلف عليه أصحابه ، لاسيما و هو عازم على العودة إلى قتال أهل الشام .
و قال الشهرستاني في الملل والنحل (1/155) : السبائية أصحاب عبد الله بن سبأ الذي قال لعلي كرم الله وجهه : أنت أنت ، يعني الإله ، فنفاه إلى المدائن .(40/108)
و قال الجوزجاني في أحوال الرجال ( ص 38 ) : أن من مزاعم عبد الله بن سبأ ادعاءه أن القرآن جزء من تسعة أجزاء ، و علمه عند علي ، و أن علياً نفاه بعدما كان هم به .
والراجح في هذه المسألة أن ابن سبأ لم يحرق بل نفي إلى سباط في المدائن ، كما قال بذلك الكثير من أهل العلم ، والأدلة على كونه نفي ولم يحرق ، ما ذكرته قبل قليل من كونه لم يحرق بل نفي إلى سباط ، و ما سيأتي من كون ابن سبأ له ظهور بعد مقتل علي رضي الله عنه ، و يكفي الباحث أن يقف على هذه العبارات التي تجدها في كثير من المصادر ليتبين له أن ابن سبأ لم يحرق مع طائفته :-
قال ابن سبأ لمن جاءه بنعي علي رضي الله عنه : ( لو أتيتنا بدماغه في سبعين صرة ما صدقناك ، و لعلمنا أنه لم يمت ، و إنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه . مسائل الإمامة للناشئ الأكبر (ص 22 ) و كذلك أنظر إلى دلالة العبارة في الفرق بين الفرق للبغدادي (ص 234) ، و البدء والتاريخ لابن طاهر المقدسي (5/129) ، والمقالات والفرق للقمي (ص20-21) والبيان والتبيين للجاحظ (3/81) و المجروحين لابن حبان (1/298) و تثبيت دلائل النبوة للهمذاني (2/549) و فرق الشيعة للنوبختي (ص 43) .
ذكر الصفدي في ترجمة ابن سبأ : ابن سبأ رأس الطائفة السبئية ... ، قال لعلي رضي الله عنه أنت الإله ، فنفاه إلى المدائن ، فلما قُتل علي ، زعم ابن سبأ أنه لم يمت لأن فيه جزءاً إلهياً و أنّ ابن ملجم قتل شيطاناً تصوّر بصورة علي ، و أن علياً في السحاب ، و الرعد صوته و البرق سوطه ، و أنه سينزل إلى الأرض . الوافي بالوفيات (17/190 ) .
و جاء في الفرق الإسلامية للكرماني (ص 34 ) : أن علياً رضي الله عنه لما قتل زعم عبد الله بن سبأ أنه لم يمت وأن فيه الجزء الإلهي .(40/109)
و يذكر أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين (1/85) ، عبد الله بن سبأ و طائفته من ضمن أصناف الغلاة ، إذ يزعمون أنّ علياً لم يمت و أنه سيرجع إلى الدنيا فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً .
و هذا الذي ذكرت لا يعني أنه لم يقتل بيد غيره ، لكن و حسب علمي القاصر واطلاعي على الكثير من الكتب التي تحدثت عن هذا الموضوع ، فإنه لم يرد فيها ذكر شيء من هذا القبيل .
و لكن : هذا لا يمنع بأن جميع من شارك أو أعان في قتل عثمان رضي الله عنه قد قتل أو أصابه الله بعقاب من عنده ، و إن الله عز وجل لم يهمل الظالمين بل أذلهم و أخزاهم و انتقم منهم فلم ينج منهم أحد ، و هاكم بعض الأمثلة على ذلك :-
روى خليفة في تاريخه (ص175) . بإسناد صحيح : أن أول قطرة قطرت من دمه - أي عثمان - على المصحف ، ما حكت .
و أخرج أحمد بإسناد صحيح عن عَمْرة بنت أرطأة العدوية قالت :خرجت مع عائشة سنة قتل عثمان إلى مكة ، فمررنا بالمدينة و رأينا المصحف الذي قتل و هو في حجره ، فكانت أول قطرة من دمه على هذه الآية { فسيكفيكهم الله و هو السميع العليم } قالت عمرة : فما مات منهم رجل سوياً . انظر : فضائل الصحابة (1/501) بإسناد صحيح . و أخرجه أيضاً في الزهد (ص127-128) .
روى ابن عساكر في تاريخه (39/446-447) عن ابن سيرين قال : كنت أطوف بالكعبة فإذا رجل يقول : اللهم اغفر لي و ما أظن أن تغفر لي ! قلت : يا عبد الله ! ما سمعت أحداً يقول ما تقول ! قال : كنت أعطيت الله عهداً إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته ، فلما قتل و وضع على سريره في البيت ، و الناس يجيئون فيصلون عليه فدخلت كأني أصلي عليه ، فوجدت خلوة فرفعت الثوب عن وجهه فلطمت وجهه و سجيته و قد يبست يميني ، قال محمد بن سيرين : رأيتها يابسة كأنها عود .(40/110)
و عن قتادة أن رجلاً من بني سدوس قال : كنت فيمن قتل عثمان فما منهم رجل إلا أصابته عقوبة غيري ، قال قتادة : فما مات حتى عمي . أنساب الأشراف للبلاذري (5/102) .
و روى مبارك بن فضالة قال : سمعت الحسن البصري يقول : ما علمت أحداً أشرِك في دم عثمان رضي الله
عنه و لا أعان عليه إلا قُتل . و في رواية أخرى : لم يدع الله الفسقة - قتلة عثمان - حتى قتلهم بكل أرض . تاريخ المدينة المنورة لابن شبّة (4/1252) .
دور هذا اليهودي في نشأة الرافضة ، وسيكون الحديث فيها عن الجانب الديني الذي قام به عبد الله بن سبأ في تلك الفتنة لإبعاد المسلمين عن دينهم .
قام هذا اليهودي الخبيث بدعوة من اغتر به من عوام المسلمين إلى بعض المبادئ اليهودية وغلف دعوته هذه بالتظاهر بحب آل البيت والدعوة إلى ولايتهم والبراءة من أعدائهم ، فاغتر به جماعة ممن لم يتمكن الإسلام في قلوبهم من الأعراب و حديثي العهد بالإسلام ، حتى غدوا يكونون فرقة دينية تخالف في عقيدتها العقيدة الإسلامية وتستمد أفكارها ومبادئها من الديانة اليهودية .
فانتسبت هذه الفرقة إلى مؤسسها ومبتدعها ابن سبأ ، فأطلق عليها السبأية ومن السبأية استمدت الرافضة عقيدتها وأصولها فتأثرت بتلك المبادئ اليهودية المغلفة التي دعا إليها ابن سبأ .
ولهذا اشتهر بن العلماء أن عبد الله بن سبأ هو أول من ابتدع الرفض وأن الرفض مأخوذ من اليهودية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/483) : و قد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ ، فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية و طلب أن يفسد الإسلام ، كما فعل بولص النصراني – الذي كان يهودياً – في إفساد دين النصارى .(40/111)
و قال في موضع آخر من الفتاوى (4/428) : إن الذي ابتدع الرفض كان يهودياً أظهر الإسلام نفاقاً ، و دس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان ، و لهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة .
ويقول أيضاً في موضع آخر من الفتاوى (4/435) : وأصل الرفض من المنافقين الزنادقة ، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق ، وأظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه ، وادعى العصمة له و لهذا لما كان مبدأه من النفاق قال بعض السلف : حب أبي بكر وعمر إيمان و بغضهما نفاق ، و حب بني هاشم إيمان و بغضهم نفاق .
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (ص 578) : إن أصل الرفض إنما أحدثه منافق زنديق ، قصد إبطال دين الإسلام والقدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر العلماء ، فإن عبد الله بن سبأ لما أظهر الإسلام ، أراد أن يفسد دين الإسلام بمكره و خبثه ، كما فعل بولص بدين النصرانية ، فأظهر التنسك ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في الفتنة عثمان و قتله .(40/112)
و قد أكدت كذلك الدراسات الحديثة أن أصل الرفض يهودي و واضعه يهودي ماكر أراد أن يفسد على المسلمين عقيدتهم وينحرف بهم عن الدين الصحيح ، يقول عبد الله القصيمي في كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية (1/11) بعد أن تحدث عن ظاهرة الغلو في علي بن أبي طالب : أما واضع بذور هذه الضلالة ومتولي كبرها عبد الله بن سبأ ، فطلبه علي ليوقع به أشد العذاب ولكنه كان أحذر من الغراب ، فهرب وترك البلاد و ما كان هروبه وضعاً لأوزار هذه الفتنة المدمرة وتسليماً بالهزيمة ، بل كان هروباً بهذه الآراء ضناً عليها بالقبر والقتل ليضل بها المسلمين ويفتن بها المفتونين وتبقى عاراً و ناراً إلى يوم الدين ، تطايرت دعاوى هذا الرجل ومبتدعاته في كل جانب ، و رن صداها في أركان المملكة الإسلامية رنيناً مراً مزعجاً واهتزت لها قلوب ومسامع و طربت لها قلوب و مسامع ، و رددت صداها أفواه خلقت لهذا ، و رددتها أفواه أخرى ، و طال الترديد والترجيع حتى نفذت إلى قلوب رخوة لا تتماسك فحلتها حلول العقيدة ، ثم تفاعلت حتى صارت عقيدة ثابتة تراق الدماء في سبيلها و يعادى الأهل والصحب غضباً لها و صارت فيما بعد معروفة بالمذهب الشيعي والعقيدة الشيعية .
أما إحسان إلهي ظهير رحمه الله فيؤكد بعد طول بحث في كتب القوم والذي أكسبه مزيداً من الخبرة بالرافضة وعقائدهم أن عقيدتهم قد بنيت على أسس يهودية بواسطة عبد الله بن سبأ . فيقول : وأما دين الإمامية و مذهب الاثنى عشرية ليس إلا مبني على تلك الأسس التي وضعتها اليهودية الأثيمة بواسطة عبد الله بن سبأ الصنعاني اليمني الشهير بابن السوداء . انظر : الشيعة والسنة ( ص 29) .
فتأكد بهذه النقولات التي جاءت في كتب أهل السنة أن أصل الرفض إنما أحدثه عبد الله بن سبأ اليهودي ، وأن الرافضة ليست من الإسلام في شيء .(40/113)
وقد اعترف بذلك كبار علماء الشيعة ومؤرخوهم ، فها هو الكشي - أحد كبار علماء التراجم عندهم في القرن الرابع ( ت340هـ ) – ينقل هذا النص عن بعض علمائهم فيقول : ذكر بعض أهل العلم أن عبدالله بن سبأ كان يهودياً فأسلم و والى علياً عليه السلام وكان يقول و هو على يهوديته في يوشع بن نون وضي موسى بالغلو ، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي عليه السلام مثل ذلك ، و كان أول من أشهر القول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه ، و كاشف مخالفيه وأكفرهم ، فمن ههنا قال من خالف الشيعة أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية . انظر : رجال الكشي (ص 71 ) .
و هذا النص مشهور عند علماء الرافضة و قد تناقله علماؤهم و جاء ذكره في أكثر من كتاب من كتبهم المعتمدة والموثقة .
فقد ذكره الأشعري القمي ( ت301هـ ) في المقالات والفرق (ص 20 ) ، حين يقول : فمن هاهنا قال من خالف الشيعة : إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية .
و ذكره النوبختي ( ت 310هـ ) في فرق الشيعة ( ص 44 ) ، حين يقول : فمن هنا قال من خالف الشيعة : إن أصل الرفض مأخوذ من اليهود .
و ذكره المامقاني ( ت 1351هـ ) في تنقيح المقال (2 /184) .
فهؤلاء كبار مؤرخي الرافضة و محققيهم يعترفون بيهودية ابن سبأ وأنه كان يقول بوصية موسى بيوشع في يهوديته فقال بهذه العقيدة في إسلامه في علي بن أبي طالب وأنه وصي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه أول من نادى بإمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتبرأ من مخالفيه ، ثم يقرون بأنه إنما نسبت الرافضة لليهودية لذلك .
ففي هذا الاعتراف الذي نسجله على كبار علماء الرافضة أعظم دليل على أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية وهو ملزم لكل من يشكك في هذه الحقيقة من علماء الرافضة المعاصرين ومن تأثر بأقوالهم من الكتاب المحدثين .(40/114)
وكما دلت كتب السنة والشيعة على أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية بواسطة عبد الله بن سبأ ، فكذلك كتب المستشرقين تشهد بذلك .
يقول المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن : ومنشأ السبأية يرجع إلى زمان علي والحسن وتنسب إلى عبد الله بن سبأ وكما يتضح من اسمه الغريب فإنه كان أيضاً يمنياً ، والواقع أنه من العاصمة صنعاء ، و يقال أيضاً إنه كان يهودياً ، و هذا يقود إلى القول بأصل يهودي لفرقة السبأية ، و المسلمون يطلقون اليهودي على ما ليس في الواقع ، بيد أن يلوح أن مذهب الشيعة الذي ينسب إلى عبد الله بن سبأ أنه مؤسسه إنما يرجع إلى اليهود أقرب من أن يرجع إلى الإيرانيين . الخوارج والشيعة (ص 170-171) .
أما المستشرق المجري أجناس جولد تسيهر ، فهو يرى أن فكرة المهدي و عقيدة الرجعة عند الرافضة قد تأثرت بالديانة اليهودية والنصرانية ، و أن الغلو في علي إنما صاغه عبد الله بن سبأ اليهودي ، فيقول : إن الفكرة المهدية التي أدت إلى نظرية الإمامة والتي تجلت معالمها في الاعتقاد بالرجعة ينبغي أن نرجعها كلها – كما رأينا – إلى المؤثرات اليهودية والمسيحية ، كما أن الإغراق في تأليه علي الذي صاغه في مبدأ الأمر عبد الله بن سبأ ، حدث ذلك في بيئة سامية عذراء لم تكن قد تسربت إليها بعد الأفكار الآرية . انظر : العقيدة والشريعة في الإسلام ( ص 205 ) .
فهذه أقوال العلماء من سنة وشيعة و مستشرقين ، كلها تؤكد أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية ، وأن واضعه و مبتدعه في الإسلام هو عبد الله بن سبأ اليهودي ، و قد دل أيضاً على أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية ، و لهذا عدد من الأدلة :-(40/115)
الأول : أن عقائد الرافضة التي انفردوا بها عن سائر الفرق الإسلامية كعقيدة الوصية والرجعة والبداءة والتقية و ما يدعونه في أئمتهم من الغلو ليس لها أصل في الإسلام ، و لا يوجد نص واحد لا من كتاب ولا من سنة يدل على هذه العقائد ، بل إن الكتاب والسنة وإجماع الأمة تشهد ببطلان هذه العقائد وبراءة الإسلام منها .
أما ما يستدل به الرافضة لصحة هذه العقائد من أدلة لا يخلو من حالين ؛ إما أن يكون هذا الدليل الذي يستدلون به صحيحاً و لكن لا حاجة لهم فيه ، وإما أن يكون موضوعاً لا يصح الاستدلال به ، و هذه حال غالب أدلتهم ، فإنهم لما لم يجدوا ما يستدلون به من الشرع لعقائدهم أخذوا يضعون الروايات على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى لسان علي بن أبي طالب وبنيه ليحتجوا بها على ما ذهبوا إليه من عقائد فاسدة ، و لهذا اشتهر بين أهل العلم أن الرافضة أكذب الفرق المنتسبة للإسلام ، فهم لا يروون عنهم و حذوا الناس من كذبهم .
الثاني : أن عقائد الرافضة التي انفردوا بها عن سائر الطوائف الإسلامية قد انتقلت إليهم من اليهودية ، و قد تتبعت هذه العقائد فوجدتها لا تخلوا من : إما أن تكون عقيدة يهودية خالصة ، وإما أن يكون لها أصل عند اليهود .
الثالث : تصريح العلماء من سنة و شيعة بأن أول من أحدث الغلو في علي رضي الله عنه وأحدث عقيدتي الوصية والرجعة هو عبد الله بن سبأ اليهودي ، و قد نقلنا سابقاً النص الذي ذكره الأشعري القمي والكشي والنوبختي والمامقاني و فيه اعترافهم بأن عبد الله بن سبأ أول من أحدث القول بالوصية لعلي بن أبي طالب والقول بفرض إمامته ، وأظهر فيه البراءة من مخالفيه .(40/116)
يذكر الشهرستاني في الملل والنحل (1/174) ، أن ابن سبأ أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي رضي الله عنه ، و منه انشعبت أصناف الغلاة ، و يتحدث عن السبأية فيقول : و هم أول من قال بالتوقف والغيبة والرجعة و قالت بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي رضي الله عنه .
و يذكر المقريزي في الخطط (2/356-357) : أن ابن سبأ أحدث في زمن علي رضي الله عنه القول بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي ، وأحدث القول برجعته بعد موته إلى الحياة الدنيا .
ونحن إذا عرفنا ما لهذه العقائد – التي أكد العلماء أن أول من أحدثها في الإسلام ابن سبأ اليهودي – من ثقل في ميزان عقيدة الرافضة بل إنها تعد الأساس الذي أنبتت عليه عقائد الرافضة الأخرى ، ندرك دور اليهود الكبير في نشأة الرافضة .
رابعاً : تصريح عبد الله بن سبأ نفسه بأنه أخذ عقيدة الوصية من التوراة ، فقد نقل البغدادي في الفرق بين الفرق (ص 235) عن الشعبي ، أن ابن السوداء ذكر لأهل الكوفة : أنه وجد في التوراة أن لكل نبي وصياً وأن علياً رضي الله عنه وصي محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه خير الأوصياء و كما أن محمداً خير الأنبياء .
وإذا أجرينا مقارنة سريعة بين بعض معتقدات الشيعة ، نرى أنها توافق بعض معتقدات السبئية ، كما توضحها المقارنة التالية :-
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
1 – الرجعة : أي رجعة علي رضي الله عنه إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، و هي فكرة مأخوذة من العهد القديم – المحرّف - . انظر : إصحاح (4) فقرة : 5 .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
1 – جاء في (أوائل المقالات في المذاهب المختارات) لشيخهم المفيد (ص 51) : واتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، وإن كان بينهم في معنى الرجعة خلاف .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..(40/117)
2 – الوصية : أي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه بالخلافة من بعده ، و هي فكرة مأخوذة من العهد القديم – المحرّف -. انظر : إصحاح (34) فقرة : 9 .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
2 – جاء في الأصول من الكافي للكليني (1/294) : فكان علي عليه السلام و كان حقه الوصية التي جعلت له ، والاسم الأكبر ، و ميراث العلم ، وآثار علم النبوة .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
3 – الألوهية : ومن لوازمها علم علي رضي الله عنه للغيب . راجع الضعفاء والمتروكين لابن حبان (3/8) و ميزان الاعتدال للذهبي (4/161) و المقالات والفرق للقمي (ص 21) . حيث ذكروا جميعاً ما تعمه السبئية من أن علياً رضي الله عنه قادر على إحياء الموتى وأنه كان راضياً عن ألوهيته و لكنه حرقهم بالنار لأنهم أفشوا السر ، ثم أحياهم بعد ذلك ، و أنه يعلم الغيب .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
3 – من لوازم الألوهية كما جاء في الأصول من الكافي للكليني (1/258) : إن الإمام إذا شاء أن يعلم علم . و قد عقد بعد ذلك باباً عنوانه : ( أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم ) . كما يقول زعيمهم الخميني في الحكومة الإسلامية (ص 47) : إن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية ، وخلافة تكوينية ، تخضع لولايتها و سيطرتها جميع ذرات هذا الكون .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
4 – علم علي رضي الله عنه لتسعة أعشار القرآن الكريم ، والتي كتمها الرسول صلى الله عليه وسلم ! راجع : عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام للدكتور سليمان العودة (ص 207) .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..(40/118)
4 – جاء في الأصول من الكافي (1/239) رواية منسوبة إلى جعفر الصادق يقول فيها : وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام ، قال – أي الراوي - : قلت : وما مصحف فاطمة عليها السلام ؟ قال : مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
5 – سب الصحابة ، ولاسيما الخلفاء الثلاثة الذين تولوا الخلافة قبل علي رضي الله عنه ، و هم أبو بكر و عمر و عثمان رضي الله عنهم . راجع فرق الشيعة للنوبختي (ص 43-44 ) و المقالات والفرق للقمي ( ص 20 ) .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
5 – جاء في الأصول من الكافي (1/32) : عندما يزعمونه من قول الله تعالى {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم} – لاحظ أن هذا النص دمج بين آيتين مختلفتين من القرآن الكريم من سورة[النساء /137] و [آل عمران/90] - : إنها نزلت في فلان وفلان و فلان ، آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر ، و كفروا حيث عرضت عليهم الولاية . – و المقصود من فلان وفلان وفلان : أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كما أبان ذلك شارح الكافي ! نقلاً عن الشيعة والسنة لإحسان إلهي ظهير ( ص 42) . وجاء عن المفيد في أوائل المقالات في المذاهب والمختارات (ص 48 ) : واتفقت الإمامية والزيدية والخوارج على أن الناكثين والقاسطين من أهل البصرة والشام أجمعين كفار ضلال ملعونون بحربهم أمير المؤمنين عليه السلام ، وأنهم بذلك في النار مخلدون ! – و بعد هذا يظهر من يقول أن الزيدية هم أقرب فرق الشيعة لأهل السنة !! - .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
6 – البداء : و هو نشأة رأي جديد لم يك موجوداً من قبل ، وهو من معتقدان السبئية ، الذي يلزم منه ظهور ما كان خافياً على الله . راجع : التنبيه والرد للملطي (ص19) والفرق بين الفرق ( ص 36 ) .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..(40/119)
6 – جاء في الأصول من الكافي للكليني (1/146-148) بعد أن عقد فيه كتاب التوحيد باب البداء : لو يعلم الناس ما في القول بالبدأ من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه .
و بعد : فقد دلت هذه الأدلة مضافاً إلى ما أوردناه من النقولات السابقة عن بعض العلماء من سنة وشيعة ، و شهادة بعض المستشرقين من إثبات دور عبد الله بن سبأ في نشأة الرافضة وإثبات أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية .
و في ختام هذه المقالة نكون قد وصلنا إلى نهاية سلسلة حلقات عبد الله بن سبأ ، و إلى أن نلتقي أستودعكم الله والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته ، و الحمد لله على فضلة و توفيقه .
وتقبلوا تحيات : أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..(40/120)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمدا كثيراً طيباً مباركاً فيه، وتحياته الطيبات المباركات على رسوله وخليله وصفوته من خلقه محمد الأمين، خاتم النبيين وسيد المرسلين، وإمام الموحدين، الذي جعل الله الذل والصغار والهوان على من خالف أمره، وأولئك.. {سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين}.
والتحية والإكرام لأهل بيته الطاهرين الطيبين الكرام ورضي الله عن صحابته الغر الميامين الأبرار الصادقين السابقين في كل مضمار، وعن الذين جاؤا من بعدهم من التابعين لهم بإحسان إلى أن نلقى العزيز الغفار.
أما بعد .
فبإشراقة الأنوار تنجلي مخبآت الظلام فيهتف حادي المعرفة {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}.
ومتى اتضح منار الإسلام قامت الحجة على من ليس له حجة وأنس المؤمنون بسلوك المحجة{ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم}.
وقد ثبت عن النبي الكريم _ أنه قال: >افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة(1).
إنّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وعبادة الله هي توحيده وامتثال أمره واجتناب نهيه والتسليم إليه {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما}.
ولم يحقق الانسان العبودية لله إلا إذا تجرد لله حق التجرد وأنقاد لأمر الله حق الانقياد {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}.
فَلِواحدٍ كن واحداً في واحد أعني طريق الحق والإيمان(41/1)
وعلى العبد المسلم أن يدعو دائما بهذا الدعاء الطيب الذي كان يدعو به سيد المرسلين وإمام الموحدين >اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء<.
وليعلم الجميع أنني ما قصدت بكتابي هذا إلا بيان الحق والعدل المتمثل في المنهج الصحيح، وقد تحريت جهد طاقتي في إبراز الحق لا غيره ورد إبطال ما يخالفه.
التعريف بالكتاب :
قسمت الكتاب إلى مباحث هي كما يلي :
المبحث الأول : أحوال البشر قبل بعثة النبي _.
المبحث الثاني : بيان مرحلة الصراع بين اليهود والمسلمين .
المبحث الثالث : أشهر فرق الشيعة .
المبحث الرابع : ابن سبأ بين المنكرين والمثبتين .
المبحث الخامس : أوجه الشبه بين عقائد اليهود وعقائد الشيعة الإثنى عشرية.
المبحث السادس : ادعاء الشيعة الاثنى عشرية تحريف القرآن .
المبحث السابع : موقف الشيعة الاثنى عشرية واليهود من أصحاب الأنبياء.
المبحث الثامن : عدالة الصحابة .
المبحث التاسع : جدول بينت فيه أوجه الشبه الكثيرة بين اليهود والشيعة الاثنى عشرية.
المبحث الأول
أحوال البشر قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لقد مر على البشرية حين من الدهر وهي تتخبط في دياجير الظلام وفي متاهات الضلال، وغياهب الجهالة، فانتشر الشرك بالله واتخاذ الأنداد، وعمَّت الفوضى في الأخلاق، والناس في هذه الفترة على ثلاثة أقسام:
قسم منهم : أصحاب كتاب محرف ومبدل، لم يبق منه غير جمل محرفة وعبارات مبدلة ممسوخة، اشتروا بدينهم ثمنا قليلا واستبدلوا بكتب الله تعاليم رؤسائهم وكبرائهم، وبولايةِ الله ورسوله ولايةَ الشيطان فترحل عنهم التوفيق وقارنهم الخذلان. فهذا هو حال الأمة الغضبية وعبدة الصلبان من اليهود والنصارى.(41/2)
وقسم آخر : زنادقة ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا ملائكته ولا كتبه، ولا رسله ولا يؤمنون بمبدءٍ ولا معاد، ولا جنة ولا نار، وليس للعالم عندهم رب فعال بل يسندون أفعال الربوبية للكواكب والأفلاك وهذا هو حال زنادقة الصابئة وملاحدة الفلاسفة.
وقسم ثالث : أصحاب وثنية عمياء وجاهلية جهلاء يعيشون على النهب والسلب وقطع الطريق، وشن الحروب والاعتداء على الحقوق والحرمات، فانتشرت بينهم الرذائل والفواحش كالزنا وشرب الخمر ووأد البنات.
أما عبادتهم فكانت لأصنام نحتوها من الأحجار والأخشاب، يتقربون إليها بأنواع القربات ويخلصون لها سائر العبادات، ويلتجئون إليها عند الشدائد والملمات.
ورحمة بهذه البشرية وتخليصا لها مما هي فيه من شقاء وعناء وجهل وضلال بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك واتخاذ الأنداد، وأمر بالعدل والإنصاف وحث على مكارم الأخلاق فأمر بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، ونهى عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، فلم يترك طريقا من طرق الخير إلا دلَّ الناس إليه، ولا طريقا من طرق الشر إلا حذرهم منه(1).
ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله وبين المنهاج الذي أمره الله تبارك وتعالى به للناس، استجاب له أناس وصد عنه آخرون.
فكان أول من آمن بالله ورسوله من الرجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه واسمه عبد الله بن عثمان التيمي، وكان صاحباً للنبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعاه لهذا الدين العزيز استجاب له ودعا معه إلى الله، وجاهد معه بماله ونفسه وهاجر معه حتى ولاه الله الخلافة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .(41/3)
وأول من آمن من الصبية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان في كفالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأول من آمنت به من النساء خديجة رضي الله عنها وكانت زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي صديقة النساء. ثم أسلم بعد ذلك عثمان بن عفان، وسعد ابن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحه ابن عبيدالله، وزيد بن حارثة، وبلال بن رباح، وعمر بن الخطاب، وفاطمه بنت الخطاب، وهي ثاني امرأة أسلمت بعد السيدة خديجة رضي الله عنها، وغيرهم من الصحابة .
وكان هؤلاء الصحابة خير عون للنبي عليه الصلاة والسلام فقد اختارهم الله لصحبة الرسول الكريم لنشر الدين الذي رحم الله به البشرية.
وكانت دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول الأمر مع أصحابه سراً وكانوا يعبدون الله تعالى بعيدا عن أعين كفار قريش.
وبعدما سمع كفار قريش بما يقول هؤلاء النفر من الكلام الذي يهدم معتقدهم بآلهتهم، قاموا بمحاربتهم ومطاردتهم وتعذيبهم إلى أن أذن الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالهجرة من مكة إلى المدينة.
ولما استقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه في المدينة قام ببناء المسجد وآخا بين المهاجرين والأنصار، وألّف الله بين قلوبهم وصارت أخوة العقيدة ومحبتها أولى من محبة آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم وأزواجهم وقد أثنى الله تبارك وتعالى على الفعل الذي قام به المهاجرون من ترك ديارهم وأموالهم لأجل دين الله، وعلى فعل الأنصار عندما فتحوا بيوتهم وتقاسموا أموالهم مع المهاجرين. قال تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقونü والذين تبوّءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}(1).(41/4)
ورأى اليهود أن الدين الجديد قد أصبح منافساً يوشك أن يقضي على نفوذهم وينتزع الزعامة الدينية التي كانوا يدَّعونها، فكرهوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ، ونظروا إليه وإلى دينه وأتباعه نظرة الحسد والحقد والضغينة والبغضاء، وظهرت عداوتهم لدين الإسلام واضحة جلية حينما رأوا الناس يدخلون في دين الله أفواجا.
عند ذلك أخذ اليهود يكيدون للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ويصدون عن دين الله بكل ما أوتوا من قوة وسلطان.
وقد ذكرت كتب السير كثيراً من مؤامراتهم ودسائسهم، للقضاء على الدعوة الإسلامية. فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :
1- عمد اليهود في القضاء على الإسلام إلى إثارة الأحقاد والبغضاء الكمينة، التي كانت تعتلج في نفوس أهل المدينة، من الأوس والخزرج من أيام الجاهلية كما استفادوا مما كان بينهم وبين رجال من المسلمين من الحلف والجوار في الجاهلية، للاحتماء بهم وللاتقاء بهم، مما قد يلحق بهم من أذى في إثارة الفتنة .
وقد استجاب لدعوتهم نفر حديثو عهد بالإسلام، كانوا قد اطمأنوا إلى اليهود من أيام الجاهلية، دون أن يعرفوا ما وراء هذه الاستجابة من شر، ونتائج خطيرة على الدين الذي دخلوا فيه(1).(41/5)
دل على ذلك ما رواه ابن هشام قال: >مر شاس بن قيس - وكان شيخا قد عسا(2) عظيم الكفر،شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة(1) بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها قرار، فأمر فتى شاباً من يهود كان معه. فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث، وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار(2) ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه >إن شئتم رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة السلاح فخرجوا إليها فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين فقال: >يامعشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم<، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سامعين مطيعين، فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع: {قل ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون}(3)،(4).(41/6)
2- ومن تلك المؤامرات التي حاول اليهود بثها لتشكيك المسلمين في دينهم ما ذكره ابن هشام قال: >وقال سكين، وعدي بن زيد: يامحمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى فأنزل الله تعالى من قولهما: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا}(1)،(2).
ومن مؤامراتهم أيضا ما أخبر الله تعالى به في القرآن الكريم {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون}(3).
قال ابن كثير رحمه الله: >هذه مكيدة أرادوها، ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم اشتَوَروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلُّوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم، ليقول الجهلة من الناس إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة، وعيب في دين المسلمين(4). ففضحهم الله واطلع المسلمين على حقيقة فعلهم وقصدهم في كيد دين المسلمين.
3- ذكر أهل الأخبار أسماء جماعة من اليهود دخلت في الإسلام، لكنها كانت في حقيقة الأمر من المنافقين(5)، وكان إسلامهم للتجسس على المسلمين ولنقل أخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما يريد عمله إلى اليهود، وإلى حلفائهم من المشركين، وكان جلوسهم إلى بعض المسلمين لاستراق الحديث منهم، ولإثارة الشكوك في قلوب ضعفاء الإيمان منهم، وللاتصال بمن كان على شاكلتهم من الأوس والخزرج(1).
وكان هؤلاء المنافقون يحضرون المسجد فيسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزءون بدينهم، فاجتمع يوما في المسجد منهم ناس، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم قد لصق بعضهم ببعض، فأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهم فأخرجوا من المسجد إخراجاً عنيفا(2).(41/7)
ولإبطال أثر هذه الفتنة نزل الوحي بالنهي عن الاتصال باليهود والاطمئنان إليهم وبقطع صلة المسلمين بهم خوف الفتنة على المسلمين: -
قال تعالى : {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ماعنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ü هأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور}(3).
فقطعت هذه الآيات على المسلمين مباطنة اليهود، والركون إليهم، للأضرار التي لحقت بهم من هذا الاتصال(4).
4- ومن مؤامرات اليهود على الإسلام محاولتهم فتنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتأثير عليه : -
فقد روى ابن هشام عن ابن إسحاق أنه قال: >وقال: كعب بن أسد وابن صلوبا وعبدالله بن صوري وشاس بن قيس بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فإنما هو بشر، فأتوه، فقالوا له: يامحمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم، وسادتهم وأنا إن اتبعناك اتبعتك يهود، ولم يخالفونا وإن بيننا وبين بعض قومنا خصومة، أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك؟ فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم فأنزل الله فيهم: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون}(1)،(2).
وأمام يقظة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم باءت مكيدتهم هذه بالفشل وباءت جميع مكايد اليهود السابقة بالهزيمة، ورد الله كيدهم في نحورهم وزادهم هذا حنقا وغيظا على الإسلام، ولكن هذا كله لم يضر الإسلام شيئا، فالله متم نوره ولو كره الكافرون(3) .
المبحث الثاني
مرحلة الصراع المسلح بين اليهود والمسلمين في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم(41/8)
لم يكتف اليهود بالدس والنفاق والفتن التي يثيرونها بين المسلمين بل أخذوا يقفون إلى جانب كفار قريش معلنين عداءهم الصريح للإسلام والمسلمين.
فأمهلهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن نقضوا العهود، عند ذلك رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة مواجهة اليهود عسكريا فاتخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عدة قرارات حربية لتأديب هؤلاء اليهود الذين يقفون حجر عثرة في طريق انتشار الإسلام، فكان أهم هذه القرارات ما يلي :
1- إجلاء بني قينقاع .
2- إجلاء بني النضير .
3- غزوة بني قريظة .
4- فتح خيبر .
وفيما يلي تفصيل لهذه الأحداث على ضوء ما ذكرته كتب السير والتاريخ : -
أولا : إجلاء بني قينقاع :
سبب الجلاء :
روى ابن هشام عن أبي عون أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها علي كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها - وهي غافلة - فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله - وكان يهوديا - فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع(1).
ولقد كانت منازل بني قينقاع في داخل المدينة، وبين أحياء المسلمين، فوقوع التصادم بينهم وبين المسلمين قبل غيرهم من اليهود، أمر متوقع وكانت شرارته، وصول الأخبار إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بتآمر بني قينقاع عليه، وتهيئتهم لإحداث فتنة في المدينة، فتخوف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منهم بحسب وجودهم بين ظهراني المسلمين(2).
فتوجه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إليهم ، وجمعهم في سوق بني قينقاع بعد معركة بدر، ثم قال: )يامعشر يهود احذروا من الله مثل مانزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني مُرسَل تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم(.(41/9)
قالوا : ) يامحمد إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس((3).
فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحاصرهم في حصنهم خمس عشرة ليلة أشد حصار، لا يطلع منهم أحد، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكتفوا وهو يريد قتلهم، فقام عبدالله بن أبيّ بن سلول، فشفع فيهم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوهبهم له(1)، ثم فكت قيودهم وأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإجلائهم، وغنم اللهُ عز وجل رسولَه والمسلمين ما كان لهم من مال(2).
ثانيا : إجلاء بني النضير :
كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث أربعين رجلا من أصحابه، من خيار المسلمين، يُعلِّمون قبائل نجد أمور الدين الإسلامي وهم ممن يحفظون القرآن، وعند بئر معونة(3) على مسيرة أربعة أيام من المدينة، هاجم يهود بني سليم المسلمين وقتلوهم غدرا وظلما، ونجا واحد من المسلمين هو عمرو بن أمية الضمري(4)، وفي طريق عودته قتل رجلين من بني عامر، وكان بين بني عامر ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد لم يعلمه عمرو بن أمية(5).
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر، اللذين قتلهما عمرو بن أمية، للعهد الذي كان صلى الله عليه وسلم أعطاهما، فلما أتاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: نعم ياأبا القاسم، نعينك على ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جانب جدار من بيوتهم قاعد، قالوا فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه .
فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب ، فقال أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم.(41/10)
فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة، فلما استبطأ الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال: رأيته داخلا المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به.
وأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم(1)، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، ثم سار بالناس وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة، فتحصنوا منه في الحصون فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها، فقذف الله في قلوبهم الرعب وسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف(2) فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام(3).
ثالثا : غزوة بني قريظة :
كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين بني قريظة عهد وميثاق لكنهم نقضوا العهد في غزوة الأحزاب، وذلك عندما أسهموا مع إخوانهم يهود بني النضير في تأليب أحزاب العرب من قريش وغطفان وتشجيعها على محاربة المسلمين.
ولما انتهت غزوة الأحزاب بهزيمة المشركين عندما أرسل الله علىهم جنداً من الريح جعلت تقوض خيامهم، وتكفأ قدورهم وجندا من الملائكة تزلزل بهم حتى أتم الله نصره لعباده المؤمنين، وفَرَّق الأحزاب والمشركين(1).(41/11)
عند ذلك رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه المسلمون إلى المدينة ووضعوا السلاح، فلما كان الظهر أتى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُعْتَمّاً بعمامة من استبرق، على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوقد وضعت السلاح يارسول الله؟ قال: نعم، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله عز وجل يأمرك يامحمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مؤذنا فأذن في الناس >من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة< واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم<(2).
وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر(3) - وكانوا حلفاء الأوس - لنستشيره في أمرنا فأرسله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا له: أترى أن ننزل على حكم محمد قال: نعم .
فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم، قال الأوس: يا رسول الله إنهم كانوا موالينا دون الخزرج وقد فعلت بموالي إخواننا ما قد علمت، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا ترضون يامعشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فذاك إلى سعد بن معاذ.
فحكم فيهم سعد أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسعد: >لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة<(1). ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق(2).
رابعا : فتح خيبر :(41/12)
أصبحت خيبر بعد جلاء اليهود عن المدينة، ملجأ لكثير من اليهود الحانقين على الإسلام، وكانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر، ويتآمرون مع غطفان لغزو المدينة فأراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يستريح منهم، ويأمن شرهم، فما كاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يستقر في المدينة بعد عودته من الحديبية إلا شهر أو أقل، حتى أذن للناس بالمسير إلى يهود خيبر(3). ونزل خيبرَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلا، فبات حتى أصبح ثم توجه إليهم، واستقبله عمال خيبر وقد خرجوا بمساحيهم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: محمد والخميس(4) معه، فأدبروا هربا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الله أكبر خربت خيبرَ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين(5).
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفتح حصونهم حصنا حصناً ويأخذ أموالهم، حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن ينفيهم ويحقن دماءهم ففعل(1).
ولقد كانت نهاية خيبر نهاية نفوذ يهود جزيرة العرب، فلم يبق لهم في سياسة جزيرة العرب بعد هذا أثر يذكر(2) .
وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم :(41/13)
وبعد أن لحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى تولى زمام الأمور من بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكان أحق الصحابة بهذا الأمر وأفضلهم وأعلمهم وأحلمهم وأحكمهم وأقواهم على تحمل أمر الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم فها هو ذا يزيل الشبهة عن العيون والضلالة عن القلوب بعد أن اختلف الناس في موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عدمه، حتى إن كبار الصحابة وعلى رأسهم عمر رضي الله عنه، هالهم ذلك الحدث وثقلت عليهم وطأته، فلم يصدقوا في بداية الأمر بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكادت تحدث فتنة لولا عناية الله ثم تدخل الصديق الذي حسم القضية وفك النزاع، وقام خطيبا في الصحابة في موقف عصيب جدا: >أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت< ويذكرهم بقول الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}(3).
قال أبو هريرة رضي الله عنه: (فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ)(1).
خلافة أبي بكر رضي الله عنه :
وتتجلى جدارة أبي بكر وأهليته في تحمل أمر الأمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أجمع الصحابة على بيعته بعد نبيهم - وما كان لهم أن يختلفوا فيه - فبايعوه بالخلافة وارتضوه إماما وقائدا لهم والتفوا حوله مؤازرين ومناصرين. فسلك بهم سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقارب وسدد واتبع ولم يبتدع، وكان من أشد الناس تمسكا بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولهذا لما حدثت فتنة الردة جيّش الجيوش وأمر بقتال المرتدين وقال لعمر لما راجعه في قتال مانعي الزكاة >والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعه<(2).(41/14)
فقضى خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الفتنة وأخمد نارها في فترة وجيزة بتأييد من الله ونصر. وهكذا سار الصدِّيق في الرعية سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعاش الناس في عهده في رغد من العيش وطيب حياة، فأحبته الرعية أيما محبة حتى قبضه الله إليه راضيا عنه.
وكان أبو بكر قد أوصى بالخلافة من بعده لعمر بن الخطاب فكتب بذلك كتاباً أوصى فيه المسلمين باستخلاف عمر من بعده.
خلافة عمر رضي الله عنه :
اجتمع الناس على عمر وبايعوه بالخلافة ، فواصل بهم مسيرة الخير والهدى مقتفياً خطى من سبقه فأمر بالدعوة إلى الله وسلط الأمة على الجهاد، فجيّش الجيوش ومصَّر الأمصار، ورفع راية الإسلام خفاقة على أنقاض دول الكفر والطغيان. فاتسعت رقعة الإسلام في عهده وازداد المسلمون عزة بما فتح الله على أيديهم من الأمصار والبلدان.
وبعد أن حطمت سيوف الإسلام عروش الكفر والطغيان لم يكن أعداء الإسلام ليقفوا موقف المتفرج بل عزموا على الثأر من الإسلام والانتصار لدولهم وأديانهم، ولكنهم أدركوا بعد تلك الحروب الطاحنة التي خاضوها ضد المسلمين أن لا طاقة لهم بمواجهة صفوف المسلمين.
وهنا تعددت مكائدهم ومؤامراتهم للقضاء على الإسلام، فكلٌّ خطط بقدر ما لديه من مكر وخبث .
فانتدبت المجوسية الحاقدة أبا لؤلؤة المجوسي لينفذ أول مؤامرة لهم ضد الإسلام كانت نتيجتها استشهاد الفاروق رضي الله عنه على أثر طعنة مسمومة من خنجر مجوسي حاقد لعين(1).(41/15)
فقد روى الإمام البخاري قصة استشهاد الفاروق عن طريق شاهد عيان (عمرو بن ميمون) قال: >إني لقائم (يعني في الصلاة) ما بيني وبين عمر إلا عبد الله ابن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال استووا، حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس فما هو الا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب، حين طعنه فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم تسعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول (يعني عمر) يد عبدالرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر، فقد رأى الذي رأى، وأما نواحي المسجد فانهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر وهم يقولون سبحان الله، سبحان الله، فصلى بهم عبدالرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال: ياابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة، قال: الصُنَّع؟ قال نعم، قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفا الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الاسلام...<(1).
خلافة عثمان رضي الله عنه:
فاستشهد الفاروق وتولى أمر الأمة بعده ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه فكان ثالث الخلفاء الراشدين، تولى تصريف شؤون المسلمين مستنا بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنة الخليفتين من قبله ومضى على ذلك فترة من الزمن نَعِمَ الناس في عهده بما نعموا به في عهد الشيخين من عدل وأمن وهدوء نفسي وراحة بال.(41/16)
حتى قرر اليهود الثأر لأسلافهم من يهود بني النضير، وبني قريظة، وبني قينقاع، وأهل خيبر، وذلك بإحداث فتنة تمزق شمل المسلمين وتعمل على زعزعة العقيدة في نفوسهم، فكان عبد الله بن سبأ اليهودي الماكر هو مرشح اليهودية للقيام بهذه المهمة الخبيثة، لما علمت اليهودية من اتصافه بمكر وخبث عظيمين تؤهلانه لإحداث فتنة عظيمة في كيان الدولة الإسلامية(1).
فأخذ ينتقل هذا اليهودي بعد أن تظاهر بالإسلام، في بلاد المسلمين يحاول إفساد ذات البين فبدأ بالحجاز، ثم بالكوفة، ثم بالشام فلم يتحقق له ما أراد عند أهل هذه البلاد، فخرج إلى مصر، فوضع لهم القول بالرجعة فتكلموا فيها، ثم وضع لهم القول بالوصية فقال لهم: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم قال : محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء، ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتناول أمر الأمة.
ثم قال لهم بعد ذلك : إن عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانهضوا في هذا الأمر، فحركوه، وابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر، فبث دعاته وكاتب من كان قد استفسده في الأمصار ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، حتى أوسعوا الأرض إذاعة يريدون غير ما يظهرون ويسرون غير ما يعلنون.
حتى وصلت الأخبار عثمان بن عفان رضي الله عنه فاستشار المسلمين في أمرهم، فأشاروا عليه أن يبعث من يستطلع أخبار الأمصار، ففعل ذلك، وجاء الرسل وأخبروه أنهم لم ينكروا شيئا ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم وأن الأمراء يقسطون بين الرعية ويقومون عليهم.(41/17)
فكتب عثمان رضي الله عنه إلى أهل الأمصار كتاباً يذكر ما بلغه من الإذاعات، والطعن على الأمراء، يقول فيه: بعد أن حمد الله وأثنى عليه: >أما بعد: فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يرفع عليّ شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته وليس لي ولعمالي حق قبل الرعية، إلا متروك لهم، وقد رفع إليّ أهل المدينة أن أقواماً يُشتمون وأُخَر يُضربون، فيا من ضُرب سرا وشُتم سرا، من ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان مني أو من عمالي أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين<.
فلما قريء في الأمصار أبكى الناس ودعوا لعثمان وقالوا: إنّ الأمة لتمخض بشر(1). ولم يرض ابن سبأ وزعماء هذه الفتنة من هذه السياسة الحكيمة الرحيمة فابن سبأ لم يرد الإصلاح ولم يدخل الإسلام إلا لهدف في نفسه. وهذا الموقف الحكيم من الخليفة الراشد يتعارض وأهداف هذا اليهودي الخبيث، لذلك ابتدع فكرة إرسال الكتب المزورة إلى من يريد تحريضه على عثمان وولاته بأسماء طائفة من كبار الصحابة، ثم الكتب المزورة باسم الخليفة نفسه، فقد روى ابن كثير: إنهم زوروا على لسان عائشة رضي الله عنها كتاباً تأمر فيه الناس بالخروج على عثمان، ثم نفت ذلك وقالت: >لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا<(2).
وعليٌّ اتهمه الثوارُ أنه كتب إليهم: أن يقدموا عليه المدينة، فينكر ذلك عليهم ويقسم: (والله ما كتبت إليكم كتاباً)(3).
مقتل عثمان رضي الله عنه:
وقد انتهت دسائس هذا اليهودي المنافق إلى ثورة مسلحة على عثمان رضي الله عنه.
ففي السنة الخامسة والثلاثين وصلت الحركة السبئية ذروتها، واستكملت الثورة المبيتة عناصرها، وذلك عندما تكاتب السبئيون من مصر والكوفة والبصرة وتواعدوا على أن تخرج كتائب ثورتهم إلى المدينة.(41/18)
فأحاط الثوار بالمدينة وذكروا لعثمان أموراً فتلطف بهم وأجاب على تساؤلاتهم، وقد أدرك المسلمون أنهم أصحاب شر فأشاروا على الخليفة بقتلهم، وأبى عثمان إلا تركهم فانصرفوا وقد تواعدوا المجىء في شهر شوال من السنة نفسها حتى يغزوه وكأنهم حجاج(1).
ولما جاء الموعد خرج الثوار قاصدين المدينة، وحاصروا عثمان رضي الله عنه في بيته، واستمر الحصار من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة فلما كان قبل ذلك بيوم قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار وكانوا قريبا من سبعمائة - أتوا لحمايته - وفيهم عبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، والحسن، والحسين، ومروان، وأبو هريرة، فقال لهم: أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وينطلق إلى منزله، وقال لرقيقه من أغمد سيفه فهو حر، وسبب ذلك أن عثمان أراد الحفاظ على بقية كبار الصحابة وصغارهم الباقين في المدينة، وذلك أن الخوض بهم في قتال لم تتميز فيه الصفوف، هو قتال نتائجه أليمة، ولذا أمر الصحابة جميعاً بإلقاء السلاح وألزمهم بيوتهم، وكان عثمان قد رأى في المنام رؤيا دلت على اقتراب أجله فاستسلم لأمر الله رجاء موعوده.
وشدد الثوار على عثمان رضي الله عنه الحصار، ومنعوا عنه الماء، ومنعوه من الصلاة بالناس، ثم ارتكبوا جريمتهم بأن تسوروا عليه داره وقتلوه وكان بين يديه كتاب الله صائم لم يفطر في شهر الله الحرام في أرض الله الحرام(1)،(2).
خلافة علي رضي الله عنه:(41/19)
وبعد أن انتقل أمر الأمة إلى أبي السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمبايعة الصحابة له خليفة رابعا للمسلمين، أخذ ابن سبأ يدعو اتباعه ومن اغتر به إلى ولاية علي رضي الله عنه ، وزعم أن ولايته لا تتم إلا بالبراءة من أعدائه وهم في نظره الخلفاء الراشدون السابقون له في الخلافة، فكان ابن سبأ أول من أظهر البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة ، كما نص على ذلك كبار علماء الشيعة المتقدمين كالأشعري القمي والكشي والنوبختي فقد نقلوا في كتبهم هذا النص:
> وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب علي عليه السلام أن عبدالله بن سبأ كان يهوديا فأسلم ووالى عليا عليه السلام وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام بهذه المقالة فقال في إسلامه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثل ذلك وهو أول من أشهر القول بفرض إمامة علي عليه السلام وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه فمن هناك قال من خالف الشيعة إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية(3).
وهكذا استطاع عبد الله بن سبأ بما بثه بين أتباعه من عقيدة الوصية، والرجعة، والبراءة من الصحابة، ثم إظهاره الغلو في علي وأبنائه، أن يضع الجذور الأساسية لفرقة تستمد مبادئها وأفكارها من اليهود في ثوب إسلامي، نُسبت هذه الفرقة إليه فاطلق عليها (السبئية).
ثم نهلت بقية فرق الشيعة التي جاءت بعد هذه الفرقة من معين الفكر السبئي، كلٌّ على قدر ضلالته وبعده عن الإسلام . وكان أكثر هذه الفرق تأثرا بالسبئية وفكرها اليهودي (الشيعة الاثنى عشرية)(1).
المبحث الرابع
المنكرون وجود ابن سبأ
ينكر جماعة من الشيعة المعاصرين، وبعض من ينتسب إلى السنة من الكتاب المُحْدَثِين، وجود ابن سبأ .(41/20)
ويعدون ما ذكره المؤرخون وأصحاب المقالات وغيرهم من المحققين: من الروايات والأخبار عن ابن سبأ ودوره التاريخي في صدر الدولة الإسلامية وإنشائه فرقة السبئية يعدون هذا كله روايات وأخباراً مُختلقة وضعها خصوم الشيعة للنيل منهم حتى يتسنى لهم الطعن في مذهبهم بنسبته إلى اليهودية وهم يرون أن ابن سبأ شخصية وهمية لا وجود لها في التاريخ، وفيما يلي ذكر بعض من أنكر وجود ابن سبأ من هؤلاء الكتاب: -
أولا : المنكرون وجود ابن سبأ من الشيعة
1- محمد الحسين كاشف الغطاء :
يرى العالم الشيعي العراقي محمد الحسين كاشف الغطاء يرى أن عبدالله بن سبأ ليس إلا خرافة وضعها أصحاب السمر والمجون في أيام الدولتين الأموية والعباسية، والغريب أن يذكر ذلك بعد اعترافه بأن كتب الشيعة القديمة قد ترجمت لعبدالله بن سبأ وأنها كانت تلعنه.
يقول : >أما عبد الله بن سبأ الذي يلصقونه بالشيعة أو يلصقون الشيعة به، فهذه كتب الشيعة بأجمعها تعلن بلعنه والبراءة منه، وأخف كلمة تقولها كتب الشيعة في حقه ويكتفون بها عن ترجمة حاله عند ذكره في العين هكذا: عبد الله بن سبأ ألعن من أن يذكر. انظر رجال أبي علي وغيره.
على أنه ليس من البعيد رأي القائل أن عبدالله بن سبأ (وأمثاله) كلها أحاديث خرافة وضعها القصاصون وأرباب السمر والمجون، فإن الترف والنعيم قد بلغ أقصاه في أوساط الدولتين الأموية والعباسية، وكلما اتسع العيش وتوفرت دواعي اللهو، اتسع المجال للوضع وراج سوق الخيال<(1).
2- مرتضى العسكري :
وهو من أكثر الشيعة المعاصرين حماسا واهتماما بقضية عبدالله بن سبأ، وهو يرى أن عبدالله بن سبأ ليس إلا أسطورة اختلقها سيف بن عمر، وأخذها عنه ابن جرير الطبري(2).
3- محمد جواد مغنية :
ومن الذين ينكرون وجود ابن سبأ من علماء الشيعة المعاصرين محمد جواد مغنية، وقد قدم محمد جواد مغنية لكتاب العسكري (عبدالله بن سبأ وأساطير أخرى) .(41/21)
قال: > فلقد اختلق سيف لرسول الله _ أصحاباً لا وجود لهم.. كما ابتدع رجالاًً من التابعين وغير التابعين، ووضع على لسانهم الأخبار والأحاديث من هؤلاء بطل اختلق شخصيته، واختلق اسمه، واختلق قضايا ربطها به، هذا البطل الأسطوري هو (عبد الله بن سبأ) الذي اعتمد عليه كل من نسب إلى الشيعة ما ليس لهم به علم، وتكلم عنهم جهلا وخطأ ونفاقا وافتراء<(1).
4،5- الدكتور علي الوردي والدكتور كامل مصطفى الشيبي :
وممن أنكر شخصية ابن سبأ الدكتور علي الوردي صاحب كتاب (وعاظ السلاطين) وقد تأثر بالوردي وآرائه الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع).
يقول الوردي : -
> يخيل إليَّ أن حكاية ابن سبأ من أولها إلى آخرها كانت حكاية متقنة الحبك رائعة التصوير (2).
وقد حاول الوردي وتابعه في ذلك الشيبي أن يثبتا أن ابن سبأ هو عمار بن ياسر رضي الله عنه ، وتلك محاولة يائسة منهما لإيجاد تعليل لشخصية ابن سبأ التي جاء ذكرها في أكثر مصادر التاريخ والفرق، والتي ينكران وجودها.
يقول الشيبي: وللدكتور علي الوردي أدلة على أن هذين الرجلين (عمارا وابن سبأ) شخص واحد وهذا نصها: -
1- كان ابن سبأ يعرف بابن السوداء، وقد رأينا كيف كان عمار يكنى بابن السوداء أيضا
2- وكان من أب يماني ومعنى هذا أنه كان من أبناء سبأ، فكل يماني يصح أن يقال عنه (ابن سبأ).
3- وعمار فوق ذلك كان شديد الحب لعلي بن أبي طالب عليه السلام، يدعو له ويحرض الناس على بيعته في كل سبيل.
4- وقد ذهب عمار أيام عثمان إلى مصر وأخذ يحرض الناس... وهذا الخبر يشابه ما نسب إلى ابن سبأ من أنه استقر في مصر واتخذ الفسطاط مركزا لدعوته، وشرع يراسل أنصاره منها<(1).الخ ذلك الهراء الذي لا أريد أن أسود الورق بأكثر مما نقلت منه.
6- عبد الله الفياض :(41/22)
ويشارك عبد الله الفياض علماء الشيعة المنكرين وجود ابن سبأ، فهو يتساءل هل كان ابن سبأ موجودا في الواقع، أو أن شخصيته خيالية، ثم يجيب فيقول: <يبدو أن ابن سبأ كان إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة، وأن دوره - إن كان له دور - قد بولغ فيه إلى درجة كبيرة، لأسباب دينية وسياسية>(2).
ثانيا : المنكرون وجود ابن سبأ من غير الشيعة من الكتاب المُحْدَثين
1- طه حسين :
يقف طه حسين على رأس الكتاب المُحْدَثين الذين شككوا في وجود ابن سبأ وأنكروه فيقول في كتابه (الفتنة الكبرى).
> ويخيل إليّ أن الذين يكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحد يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافا شديدا وأول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكرا في المصادر المهمة التي قصت أمر الخلاف على عثمان.(1)
ويصرح طه حسين بإنكاره لابن سبأ في كتابه (علي وبنوه) قائلا: >وأقل ما يدل عليه إعراض المؤرخين عن السبئية وعن ابن السوداء في حرب صفين أن أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان متكلفا منحولا، قد اخترع بآخره حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية، أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصرا يهوديا إمعانا في الكيد لهم والنيل منهم>(2).
2- الدكتور علي النشار :
ويأتي بعد طه حسين الدكتور علي النشار في إنكار شخصية ابن سبأ واعتبارها شخصية وهمية .
يقول بعد أن جمع النقول من المصادر التاريخية، وما كتبه المحققون من السنة والشيعة: <ومن المحتمل أن تكون شخصية عبد الله بن سبأ شخصية موضوعة أو أنها رمزت إلى شخصية ابن ياسر.. ومن المحتمل أن يكون عبدالله بن سبأ هو مجرد تلفيق لاسم عمار بن ياسر>(1).
ويقول أيضا : < أو بمعنى أدق إني أقول: إنه من المرجح أن يكون عبدالله بن سبأ هو عمار بن ياسر، والمرجح أن النواصب حمَّلوا كذبا عمار بن ياسر كل تلك الآراء التي لم يعرفها قط، ولم يقل بها قطعا>(2).(41/23)
ولا عجب أن يصدر هذا الكلام من النشار، فالنشار من المتأثرين جدا بالوردي الشيعي الذي يعد أول من ادعى أن ابن سبأ هو عمار بن ياسر فها هو ذا النشار يسجل إعجابه بالوردي وأفكاره فيقول: <ولكن كاتب الشيعة الكبير المعاصر الأستاذ الدكتور على الوردي يقدم لنا في براعة نادرة تحليلا بارعا لقصة عبدالله بن سبأ>(3).
3- الدكتور حامد حفني داود :
من الذين تأثروا بكتابات الشيعة حول شخصية ابن سبأ فأنكروا وجودها الدكتور حامد حفني داود قدم للطبعة المصرية لكتاب (عبد الله ابن سبأ وأساطير أخرى) بمقدمة أبدى فيها اعجابه بهذا الكتاب وبمؤلفه فيقول: <وأخيرا يسرني - باسم العلم - أن أعلن إعجابي بهذا السفر الجليل ولصاحبه العلامة المحقق السيد مرتضى العسكري>(4).
أما رأيه في شخصية ابن سبأ فأوضحه بقوله: <ولعل أعظم هذه الأخطاء التاريخية التي أفلتت من زمام هؤلاء الباحثين،وغمّ عليهم أمرها فلم يفقهوها ويفطنوا إليها، هذه المفتريات التي افتروها على علماء الشيعة، حين لفقوا عليهم قصة (عبد الله بن سبأ) فيما لفقوه من قصص>(1)،(2).
مناقشة أدلة المنكرين وجود ابن سبأ
أولا : وأما دعواهم أن سيف بن عمر التميمي هو المصدر الوحيد لأخبار عبدالله بن سبأ فهذا غير صحيح .
1- فقد روى ابن عساكر عن عمار الدهني قال: <سمعت أبا الطفيل يقول رأيت المسيب بن نجية أتى به ملببه، يعني ابن السوداء، وعلي على المنبر. فقال علي: ما شأنه؟ فقال يكذب على الله وعلى رسوله. (1)
وروى أيضا من طريق يزيد بن وهب عن سلمة عن شعبة قال علي ابن أبي طالب: <ما لي ولهذا الحميت الأسود، يعني عبدالله بن سبأ، وكان يقع في أبي بكر وعمر>(2).
2- ترجم كثير من علماء الشيعة القدامى والمتأخرين لعبدالله بن سبأ في كتبهم ولم يكن سيف بن عمر من ضمن الأسانيد التي رويت في اثبات شخصية عبدالله بن سبأ اليهودي(3).(41/24)
3- لم ينف علماء الشيعة القدامى حقيقة وجود عبدالله بن سبأ بل أثبتوه في كتب الرجال والفرق ولكن طعنوا في غلوه في أمير المؤمنين وأثبتوا ان أمير المؤمنين أحرق فرقة (السبئية) في النار. كما أثبت هذه الحقيقة أحمد السيد الحسيني محقق (رجال الكشي) فقال: <لم يترجم أحد من علماء الشيعة القدامى عبدالله ابن سبأ إلا وأعقبها بجملة تدل على كفره وإلحاده وزندقته وانحرافه عن الإسلام، فقال الطوسي في رجاله <عبد الله بن سبأ> الذي رجع الى الكفر وأظهر الغلو، وقال في الخلاصة: <عبد الله بن سبأ> غال ملعون حرقه أمير المؤمنين بالنار، كان يزعم أن عليا إله وانه نبي لعنه الله. وأمثال هذه العبارات(1).
4- أثبت النوبختي في كتابه (فرق الشيعة) حقيقة وجود ابن سبأ عن طريق جماعة من أهل العلم ومن أقرب الناس للإمام علي عليه السلام فقال: <وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب علي عليه السلام أن عبدالله بن سبأ كان يهوديا فأسلم ووالى عليا عليه السلام وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام بهذه المقالة فقال في إسلامه بعد وفاة النبي _ بمثل ذلك وهو أول من أشهر القول بفرض إمامة علي عليه السلام وأظهر البراءة من أعداءه وكاشف مخالفيه فمن هناك قال من خالف الشيعة ان أصل الرفض مأخوذ من اليهودية(2).
ثانيا : قولهم : إن عبد الله بن سبأ إنما هو رمز لشخصية عمار بن ياسر.
فنقول : هذا باطل ، يدل على جهل صاحبه، وبطلانُه يعرف من أوجه:
الوجه الأول : إن المؤرخين الذين ذكروا أخبار ابن سبأ أثبتوا شخصية عمار بن ياسر على أنها شخصية مستقلة عن شخصية ابن سبأ.(41/25)
فهذا الطبري : وهو من أقدم المصادر التي ذكرت أخبار ابن سبأ يذكر في ضمن قصة ابن سبأ وما قام به من مؤامرات في عهد عثمان، من بث العقائد الفاسدة بين المسلمين، وتأليب الناس في الأمصار على الخليفة والأمراء، يذكر أنه لماجاءت أخبار ابن سبأ وما قام به من بث الفتن في الأمصار: أن عثمان بعث إلى الأمصار من يستطلع أخبار الناس فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وعماراً إلى مصر، وعبدالله بن عمر إلى الشام>(1).
وبمثل ذلك قال ابن كثير(2) وابن الأثير(3).
فالطبري ، وابن كثير، وابن الأثير، أثبتوا الشخصيتين شخصية ابن سبأ وشخصية عمار بن ياسر.
وكذلك ابن خلدون يثبت ذلك فيقول: <إن عبد الله بن سبأ يعرف بابن السوداء كان يهوديا فهاجر أيام عثمان فلم يحسن إسلامه... إلى أن قال: وكان معه خالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر فثبطوا عمارا عن المسير إلى المدينة>(1).
فهؤلاء هم كبار المؤرخين ، يثبتون الشخصيتين، ابن سبأ الذي كان له نشاط في إفساد المسلمين، وتأليبهم على عثمان بن عفان رضي الله عنه، وشخصية عمار بن ياسر رضي الله عنه ، مبعوث عثمان إلى مصر لاستطلاع أخبار ابن سبأ ومن استفسده من الناس.
فكيف لعاقل بعد ذلك أن يقول إنهما شخص واحد.
الوجه الثاني : أن كتب الجرح والتعديل والرجال الموثقة عند الشيعة ترد هذا القول، وذلك أن كتبهم ذكرت ترجمة عمار بن ياسر في أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والرواة عنه، وتعده من الأركان الأربعة(2)، وذكرت ترجمة عبدالله بن سبأ ووصفته: بأنه زنديق ملعون، كان يكذب على أمير المؤمنين، فكيف نجمع بين هاتين الترجمتين؟(3).
الوجه الثالث : أن كل ما ذكره الوردي والشيبي وغيرهما، من أدلة للدلالة على أن ابن سبأ هو عمار بن ياسر، أدلة غير صحيحة بل باطلة.(41/26)
فقولهما إن ابن سبأ يعرف بابن السوداء، وكذلك عمار يكنى بابن السوداء: فالاتفاق في الكنية: إن صحت هذه الكنية لعمار - : لا يدل على أنهما شخص واحد، ولو رجع الوردي ومن انخدع بآرائه، إلى كتب التراجم، لوجدوا كثيرين متشابهين في الكنى، والأسماء، مما جعل بعض المؤرخين يؤلفون في المتشابه من الأسماء والكنى.
وكذلك قولهم إن عمارا كان يمانيا فكل يماني يصح أن يقال له ابن سبأ: فهذا غير صحيح، فليست سبأ إلا جزءاً من بلاد اليمن قال ياقوت: <سبأ أرض اليمن مدينتها مأرب. بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام(1). فلا يجوز أن ينسب كل يمني إلى سبأ، والعكس صحيح.
أما قولهم : إن عمارا كان شديد الحب لعلي، ويدعو له، ويحرض الناس على بيعته، فهذا لا يختص بعمار وحده، فكل الصحابة كانوا يحبون علياًً رضي الله عنه وكانوا جميعا متحابين في الله، والصحابة هم الذين بايعوا عليا رضي الله عنه بعد مقتل الشهيد عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم إن هناك فرقا بين حب عمار لعلي رضي الله عنهما، وغلو ابن سبأ فابن سبأ هو الذي قال لعلي: أنت أنت - يعني بذلك ألوهية علي رضي الله عنه - وهو الذي لم يصدق بموته عندما نُعي إليه وهو بالمدائن، وهو الذي اعتقد رجعة علي بعد موته فأين هذا من ذاك.
أما قولهم إن عمارا رضي الله عنه ذهب إلى مصر وحرض الناس على عثمان فهذا تحريف لما جاء في كتب التاريخ، وقلب للحقائق، سيجازيهم الله تعالى عليه، فعمار رضي الله عنه لم يذهب إلى مصر لتأليب الناس على عثمان، وإنما الذي بعثه هو عثمان لاستطلاع أخبار مصر لما جاءته الأخبار بما أفسده ابن سبأ فيها.
وقد نقلت قبل قليل ما ذكره الطبري، وابن كثير، وابن الأثير، وغيرهم من المؤرخين في ذلك.(2).(41/27)
ثالثا : وهو قولهم إن إعراض المؤرخين عن ذكر ابن سبأ في حرب صفين دليل على عدم وجود ابن سبأ، فيقال لهم : المؤرخون لم يلتزموا بذكر كل تفاصيل ما جرى في الأحداث والوقائع التي ذكروها في كتبهم. هذا على افتراض مشاركة ابن سبأ في حرب صفين.
وعلى افتراض عدم مشاركته في حرب صفين هل يُعد ذلك دليلا على عدم وجوده، فيعارض به ما أثبته المؤرخون من وجود ابن سبأ، وما كان له من دور فعال في إثارة الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه، في اعتقادي أن ذلك لا يصلح أن يكون دليلاً يقوى على ما أثبته المؤرخون والمحققون من سنة وشيعة من وجود ابن سبأ(1). بل هناك من ذكر أن ابن سبأ قتله علي رضي الله عنه لما قال بألوهيته(2).
رابعاً: وهو زعمهم أنه لم يكن لابن سبأ وجود في الحقيقة وإنما هو شخصية وهمية انتحلها أعداء الشيعة للطعن في مذهبهم بنسبته إلى رجل يهودي.
فيقال لهم إنّ هذه دعوى لا تقوم عليها حجة، فكما أنكم ادعيتم هذا فلغيركم أيضا أن يدعي ما شاء ولكن العبرة بالحجة والدليل.
وشخصية ابن سبأ حقيقية قد أثبتها المؤرخون والمحققون من السنة والشيعة قديما ولم ينكرها أحد من الأقدمين، ولا زال أهل السنة والمنصفون من شيعة اليوم وطائفة كبيرة من المستشرقين يثبتون وجودها.
فكيف يقال بعد ذلك إنها شخصية وهمية ألصقها أعداء الشيعة بالشيعة ليطعنوا في مذهبهم .
وسأورد فيما يلي أسماء من أثبت وجود ابن سبأ من السنة والشيعة من الأقدمين والمعاصرين لإثبات حقيقة شخصية ابن سبأ واشتهارها بين العلماء والمحققين قديما وحديثا: -
أولا : المثبتون وجود ابن سبأ من علماء السنة :
1- ابن حبيب البغدادي (542 هـ).
ذكر ابن حبيب البغدادي ابن سبأ وعده من أبناء الحبشيات(1).
2- ابن قتيبة (672هـ).
ذكر السبئية وأخبر أنها تنسب إلى ابن سبأ قال: <السبئية من الرافضة ينسبون إلى عبدالله بن سبأ وكان أول من كفر من الرافضة وقال علي رب العالمين فأحرقه علي وأصحابه بالنار>(2).(41/28)