قال : إن الباري تعالى أزلي لا أول له ولا آخر : هو مبدأ الأشياء ولا بدء له : هو المدرك من خلقه أنه هو فقط وأنه لا هوية تشبهه وكل هوية مبدعة منه : هو الواحد ليس كواحد الأعداد لأن واحد الأعداد يتكثر وهو لا يتكثر .
وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته في علمه الأول والصور عنده بلا نهاية .
قال : ولا يجوز في الباري تعالى إلا أحد قولين إما أن نقول : إنه أبدع ما في علمه وإما أن نقول : إنما أبدع أشياء لا يعلمها وهذا من قول المستشنع .
وإن قلنا أبدع ما في علمه فالصور أزلية بأزليته وليس تتكثر ذاته بتكثر المعلومات ولا تتغير بتغيرها .
قال : أبدع بوحدانيته صورة العنصر ثم صورة العقل انبعثت عنها ببدعة الباري تعالى .
فرتب العنصر في العقل ألوان الصور على قدر ما فيها من طبقات الأنوار وأصناف الآثار وصارت تلك الطبقات صوراً كثيرة دفعة واحدة كما تحدث الصور في المرآة الصقيلة بلا زمان ولا ترتيب بعض على بعض غير أن الهيولى لا تحتمل القبول دفعة واحدة إلا بترتيب وزمان فحدثت تلك الصور فيها على الترتيب .
ولم يزل الأمر كذلك في العالم بعد العالم على قدر طبقات تلك العوالم حتى قلت أنوار الصور في الهيولى وقلت الهيولى وصارت منها هذه الصورة الرذلة الكثيفة التي لم تقبل نفساً روحانية ولا نفساً حيوانية ولا نباتية .
وكل ما هو على قبول حياة وحس فهو يعد في آثار تلك الأنوار .
وكان يقول : إن هذا العالم يدثر ويدخله الفساد والعدم من أجل أنه سفل تلك العوالم وثفلها ونسبتها إليه نسبة اللب إلى القشر والقشر يرمى .
قال : وإنما ثبات هذا العالم بقدر ما فيه من قليل نور ذلك العالم وإلا لما ثبت طرفة عين ويبقي ثباته إلى أن يصفي العقل جزءه الممتزج به وإلى أن تصفي النفس جزءها المختلط فيه .
فإذا صفي الجزءان عنه دثرت أجزاء هذا العالم .(13/228)
فسدت وبقيت مظلمة قد عدمت ذلك القليل من النور فيها وبقيت الأنفس الدنسة الخبيثة في هذه الظلمة بلا نور ولا سرور ولا روح ولا راحة ولا سكون ولا سلوة .
ونقل عنه أيضاً أن أول الأوائل من المبدعات هو الهواء ومنه تكون جميع ما تكون في العالم من الأجرام العلوية والسفلية .
قال : ما كون من صفو الهواء المحض لطيف روحاني لا يدثر ولا يدخل عليه الفساد وليقبل الدنس والخبث وما كون من كدر الهواء كثيف جسماني يدثر ويدخله الفساد ويقبل الدنس والخبث .
فما فوق الهواء من العوالم فهو من صفوه وذلك عالم الروحانيات وما دون الهواء من العوالم فهو من كدره وذلك من عالم الجسمانيات وهو كثير الأوساخ والأوار يتشبث به من سكن إليه فيمنعه من أن يرتفع علواً ويتخلص منه من لم يسكن إليه فيصعد إلى عالم كثير اللطافة دائم السرور .
ولعله جعل الهواء أول الأوائل لموجودات العالم الجسماني كما جعل العنصر أول الأوائل لموجودات العالم الروحاني .
وهو على مثال مذهب تاليس إذ أثبت العنصر والماء في مقابلته .
وهو قد أثبت العنصر والهواء في مقابلته ونزل العنصر منزلة القلم الأول والعقل منزلة اللوح القابل لنقش الصور ورتب الموجودات على ذلك الترتيب .
وهو أيضاً من مشكاة النبوة اقتبس وبعبارات القوم التبس .
رأي انبادقليس وهو من الكبار عند الجماعة دقيق النظر في العلوم رقيق الحال في الأعمال .
وكان في زمن داود النبي عليه السلام مضى إليه وتلقى منه العلم واختلف إلى لقمان الحكيم واقتبس منه الحكمة ثم عاد إلى يونان وأفاد .
قال : إن الباري تعالى لم تزل هويته فقط وهو العلم المحض وهو الإرادة المحضة وهو الجود والعزة والقدرة والعدل والخير والحق لا أن هناك قوى مسماة بهذه الأسماء بل هي هو وهو : هذه كلها .
مبدع فقط لا أنه أبدع من شيء ولا أن شيئاً كان معه .
فأبدع الشيء البسيط الذي هو أول البسائط المعقول وهو العنصر الأول .(13/229)
ثم كثر الأشياء المبسوطة من ذلك المبدع البسيط الواحد الأول ثم كون المركبات من المبسوطات .
وهو مبدع الشيء واللاشيء : العقلي والفكري والوهمي أي مبدع المتضادات والمتقابلات : المعقولة والخيالية والحسية .
وقال : إن الباري تعالى أبدع الصور لا بنوع إرادة مستأنفة بل بنوع أنه علة فقط وه العلم والإرادة .
فإذا كان المبدع إنما أبدع الصور بنوع أنه علة لها فالعلة ولا معلول وإلا فالمعلول مع العلة معية بالذات فإن جاز أن يقال إن معلولاً مع العلة فالمعلول حينئذ ليس هو غير العلة وأن يكون المعلول ليس أولي بكونه معلولاً من العلة ولا العلة بكونها علة أولي من المعلول فالمعلول إذا تحت العلة وبعدها والعلة علة العلل كلها أي علة كل معلول تحتها فلا محالة أن المعلول لم يكن مع العلة بجهة من الجهات البتة وإلا فقد بطل اسم العلة والمعلول .
فالمعلول الأول هو العنصر والمعلول الثاني هو بتوسطه العقل والثالث بتوسطهما النفس وهذه بسائط ومتوسطات وما بعدها مركبات .
وذكر أن المنطق لا يعبر عما عند العقل لأن العقل أكبر من المنطق من أجل أنه بسيط والمنطق مركب والمنطق يتجزأ والعقل يتحد ويحد فيجمع المتجزئآت .
فليس للمنطق إذاً أن يصف الباري تعالى إلا صفة واحدة وذلك أنه هو ولا شيء من هذه العوالم بسيط ولا مركب .
فإذا كان هو ولاشيء فقد كان الشيء واللاشيء مبدعين .(13/230)
ثم قال أنبادقليس : العنصر الأول بسيط من نحو ذات العقل الذي هو دونه وليس هو بسيطاً مطلقاً أي واحداً بحتاً من نحو ذات العلة فلا معلول إلا وهو مركب تركيباً عقلياً أو حسياً فالعنصر في ذاته مركب من المحبة والغلبة وعنهما أبدعت الجواهر البسيطة الروحانية والجواهر المركبة الجسمانية فصارت المحبة والغلبة صفتين أو صورتين للعنصر مبدأين لجميع الموجودات فانطبعت الروحانيات كلها على المحبة الخالصة والجسمانيات كلها على الغلبة والمركبات منهما على طبيعتي المحبة والغلبة والازدواج والتضاد وبمقدارهما في المركبات تعرف مقادير الروحانيات في الجسمانيات .
قال : ولهذا المعنى ائتلفت المزدوجات بعضها ببعض نوعاً بنوع وصنفاً بصنف واختلفت المتضادات فتنافر بعضها عن بعض نوعاً عن نوع وصنفاً عن صنف .
فما كان فيها من الائتلاف والمحبة فمن الروحانيات وما كان فيها من الاختلاف والغلبة فمن الجسمانيات وقد يجتمعان في نفس واحدة بإضافتين مختلفتين .
وربما أضاف المحبة إلى المشتري والزهرة والغلبة إلى زحل والمريخ فكأنهما تشخصتا بالسعدين والنحسين .
ولكلام أنبادقليس مساق آخر قال : إن النفس النامية قشر للنفس البهيمية الحيوانية والنفس الحيوانية قشر للنفس المنطقية والمنطقية قشر للعقلية وكل ما هو أسفل فهو قشر لما هو أعلى والأعلى لبه .
وربما يعبر عن القشر واللب بالجسد والروح فيجعل النفس النامية جسداً للنفس الحيوانية وهذه روحاً لها وعلى ذلك حتى ينتهي إلى العقل .
وقال : لما صور العنصر الأول في العقل ما عنده من الصور المعقولة الروحانية وصور العقل في النفس ما استفاد من العنصر : صورت النفس الكلية في الطبيعة الكلية ما استفادت من العقل فحصلت قشور في الطبيعة لا تشبهها ولا هي شبيهة بالعقل الروحاني اللطيف .(13/231)
فلما نظر العقل إليها وأبصر الأرواح واللبوب في الأجسام والقشور : ساح عليها من الصور الحسنة الشريفة البهية وهي صور النفوس المشاكلة للصور العقلية اللطيفة الروحانية حتى يدبرها ويتصرف فيها بالتمييز بين القشور واللبوب فيصعد باللبوب إلى عالمها فكانت النفوس الجزئية أجزاء للنفس الكلية كأجزاء الشمس المشرقة على منافذ البيت والطبيعة الكلية معلولة للنفس وفرق بين الجزء وبين الطبيعة فالجزء غير المعلول .
ثم قال : وخاصية النفس الكلية المحبة لأنها لما نظرت إلى العقل وحسنه وبهائه أحبته حب وامق عاشق لمعشوقه فطلبت الاتحاد به وتحركت نحوه .
وخاصية الطبيعة الكلية العذبة لأنها لما توحدت لم يكن لها نظر وبصر تدرك بهما النفس والعقل وتعشقهما بل انبجست منها قوى متضادة : أما في بسائطها فمتضادات الأركان وأما في مركباتها فمتضادات القوى المزاجية والطبيعية والنباتية والحيوانية .
والطبيعية تمردت عليها لبعدها من العلة بكونها معلولة عن كلياتها وطاوعتها الأجزاء النفسانية مغترة بعالمها الغرار الغدار فركنت إلى لذات حسية : من مطعم مري ومشرب هني وملبس طرى ومنكح شهى .
ونسيت ما قد طبعت عليه من ذلك البهاء والحسن والكمال الروحاني النفساني العقلي فلما رأت النفس الكلية تمردها واغترارها أهبطت إليها جزءاً من أجزائها هو أزكى وألطف وأشرف من هاتين النفسين البهيمية والنباتية ومن تلك النفوس المغترة بهما فيكسر النفسين عن تمردهما ويحبب إلى النفوس المغترة عالمها ويذكرها بما نسيت ويعلمها ما جهلت ويطهرها مما تدنست فيه ويزكيها عما تنجست به .
وذلك الجزء الشريف هو النبي المبعوث في كل دور من الأدوار فيجري على سنن العقل والعنصر الأول من رعاية المحبة والغلبة فيتألف بعض النفوس بالحكمة والموعظة الحسنة .
ويشدد على بعضها بالقهر والغلبة .(13/232)
فتارة يدعو باللسان من جهة المحبة لطفاً وتارة يدعو بالسيف من جهة الغلبة عنفاً فيخلص النفوس الجزئية الشريفةالتى اغترت بتمويهات النفسين المزاجيتين عن التمويه الباطل والتسيل الزائل الفائل .
وربما يكسو النفسين السافلتين كسوة النفس الشريفة فتنقلب الصفة الشهوية إلى المحبة فتغلب محبة الخير والحق والصدق وتنقلب الصفة الغضبية إلى الغلبة فتغلب الشر والباطل والكذب فتصعد النفس الجزئية الشريفة إلى عالم الروحانيين بهما جميعاً فتكونان جسداً لها في ذلك العالم كما كانتا جسداً لها في هذا العالم .
وقد قيل : إذا كانت الدولة والجد لأحد أحبه أشكاله فيغلب بمحبتهم له أضداده .
ومما نقل عن أنبادقليس أنه قال : العالم مركب من الأسطقسات الأربعة فانه ليس وراءها شئ ابسط منها وان الأشياء كامنة بعضها في بعض .
وأبطل الكون والاستحالة والنمو وقال : الهواء لا يستحيل ناراً ولا الماء هواء ولكن ذلك بتكاثف وتخلخل وبكمون وظهور وتركب وتحلل .
وإنما التركب في المركبات بالمحبة يكون والتحلل في المتحللات بالغلبة يكون .
ومما نقل عنه أيضاً : انه تكلم في الباري تعالى بنوع حركة وسكون فقال : أنه متحرك بنوع سكون لأن العقل والعنصر متحركان بنوع سكون وهو مبدعهما ولا محالة أن المبدع أكبر لأنه علة كل متحرك وساكن .
وشايعه على هذا الرأي فيثاغورس ومن بعده من الحكماء .
إلى أفلاطون .
وأما زينون الأكبر وديمقريط والشاعريون فصاروا إلى أنه تعالى متحرك وقد سبق النقل عن أن كسا غورس أنه قال : هو ساكن لا يتحرك لأن الحركة لا تكون إلا محدثة ثم قال : إلا أن يقولوا : إن تلك الحركة فوق هذه الحركة كما أن ذلك السكون فوق هذا السكون .
وهؤلاء ما عنوا بالحركة والسكون النقلة عن مكان واللبث في مكان ولا بالحركة التغيير والاستحالة ولا بالسكون ثبات الجوهر والدوام على حالة واحدة فإن الأزلية والقدم تنافي هذه المعاني كلها .(13/233)
ومن يحترز ذلك الاحتراز عن التكثر فكيف يجازف هذه المجازفة في التغيير ! فأما الحركة والسكون في العقل والنفس فإنما عنوا بهما الفعل والانفعال وذلك أن العقل لما كان موجوداً كاملاً بالفعل قالوا : هو ساكن واحد مستغن عن حركة يصير بها فاعلاً والنفس لما كانت ناقصة متوجهة إلى الكمال قالوا : هي متحركة طالبة درجة العقل .
ثم قالوا : العقل ساكن بنوع حركة أي هو في ذاته كامل بالفعل فاعل يخرج النفس من القوة إلى الفعل .
والفعل نوع حركة في سكون والكمال نوع سكون في حركة أي هو كامل ومكمل غيره .
فعلى هذا المعنى يجوز على قضية مذهبهم إضافة الحركة والسكون إلى الباري تعالى .
ومن العجب أن مثل هذا الاختلاف قد وجد في أرباب الملل حتى صار بعض إلى أنه تعالى مستقر في مكان ومستو على مكان وذلك إشارة إلى السكون وصار بعض إلى أنه يجيء ويذهب وينزل ويصعد وذلك عبارة عن الحركة إلى أنه يحمل على معنى صحيح لائق بجناب القدس حقيق بحلال الحق .
ومما نقل عن أنبادقليس في أمر المعاد أنه قال : يبقى هذا العالم على الوجه الذي عهدناه من النفوس التي تشبثت بالطبائع والأرواح التي تعلقت بالشباك حتى تستغيث في آخر الأمر إلى النفس الكلية التي هي كلها فتتضرع النفس إلى العقل ويتضرع العقل إلى الباري تعالى فيسيح الباري تعالى على العقل ويسيح العقل على النفس وتسيح النفس على هذا العالم بكل نورها فتستضئء الأنفس الجزئية وتشرق الأرض بنور ربها حتى تعاين الجزئيات كلياتها فتتخلص من الشبكة فتتصل بكلياتها وتستقر في عالمها : مسرورة محبورة : ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .
رأي فيثاغورس ابن منسارخس من أهل ساميا .
وكان في زمان سليمان النبي ابن داود عليهما السلام .
قد أخذ الحكمة من معدن النبوة .
وهو الحكيم الفاضل ذو الرأي المتين والعقل الرصين .(13/234)
يدعى : أنه شاهد العوالم العلوية بحسه وحدسه وبلغ في الرياضة إلى أن سمع حفيف الفلك ووصل إلى مقام الملك وقال : ما سمعت شيئاً قط ألذ من حركاتها ولا رأيت شيئاً أبهى من صورها وهيئاتها .
قوله في الإلهيات .
قال : إن الباري تعالى واحد لا كالآحاد ولا يدخل في العدد ولا يدرك من جهة العقل ولا من جهة النفس فلا الفكر العقلي يدركه ولا المنطق النفسي يصفه فهو فوق الصفات الروحانية غير مدرك من نحو ذاته وإنما يدرك بآثاره وصنائعه وأفعاله .
وكل عالم من العوالم يدركه بقدر الآثار التي تظهر في صنعته فينعته ويصفه بذلك القدر الذي يخصه من صنعته فالموجودات في العالم الروحاني قد خصت بآثار خاصة روحانية فتنعنه من حيث تلك الآثار والموجودات في العالم الجسماني قد خصت بآثار خاصة جسمانية فتنعته من حيث تلك الآثار .
ولا نشك أن هداية الحيوان مقدرة على الآثار التي جبل الحيوان عليها وهداية الإنسان مقدرة على الآثار التي فطر الإنسان عليها .
فكل يصفه من نحو ذاته ويقدسه عن خصائص صفاته .
ثم قال : الوحدة تنقسم إلى وحدة غير مستفادة من الغير وهي : وحدة الباري تعالى : وحدة الإحاطة بكل شيء : وحدة الحكم على كل شيء : وحدة تصدر عنها الآحاد في الموجودات والكثرة فيها وإلى وحدة مستفادة من الغير وذلك وحدة المخلوقات .
وربما يقولون : الوحدة على الإطلاق تنقسم إلى وحدة قبل الدهر ووحدة مع الدهر ووحدة بعد الدهر وقبل الزمان ووحدة مع الزمان .
فالوحدة التي هي قبل الدهر هي وحدة الباري تعالى والوحدة التي هي مع الدهر هي وحدة العقل الأول والوحدة التي هي بعد الدهر وقبل الزمان هي وحدة النفس والوحدة التي هي مع الزمان هي وحدة العناصر والمركبات .
وربما يقسم الوحدة قسمة أخرى فيقول : الوحدة تنقسم إلى وحدة بالذات وإلى وحدة بالعرض .(13/235)
فالوحدة بالذات يئست إلا للمبدع للكل الذي منه تصدر الوجدانيات في العدد والمعدود والوحدة بالعرض تنقسم إلى ما هو مبدأ العدد وليس داخلاً في العدد وإلى ما هو مبدأ للعدد وهو داخل فيه : فالأول كالواحدية للعقل الفعال لأنه لا يدخل في العدد والمعدود والثاني ينقسم إلى ما يدخل فيه كالجزء له فإن الاثنين إنما هو مركب من واحدين وكذلك كل عدد فهو مركب من آحاد لا محالة وحيثما ارتقى العدد إلى أكثر نزلت نسبة الوحدة إليه إلى أقل وإلى ما يدخل فيه كاللازم له لا كالجزء فيه وذلك لأن كل عدد أو معدود لن يخلو قط عن وحدة تلازمه فإن الاثنين والثلاثة في كونهما أثنين وثلاثة واحدة وكذلك المعدودات من المركبات والبسائط واحدة : إما في الجنس أو في النوع أو في الشخص كالجوهر في أنه جوهر على الإطلاق والإنسان في أنه إنسان والشخص المعين مثل زيد في أنه ذلك الشخص بعينه واحد فلم تنفك الوحدة من الموجودات قط .
وهذه وحدة مستفادة من وحدة الباري تعالى تلزم الموجودات كلها وإن كانت في ذواتها متكثرة .
وإنما شرف كل موجود بغلبة الوحدة فيه فكل ما هو أبعد من الكثرة فهو أشرف وأكمل .
ثم إن لفيثاغورس رأياً في العدد والمعدود قد خالف فيه جميع الحكماء قبله وخالفه فيه من بعده وهو أنه جرد العدد عن المعدود تجريد الصورة عن المادة وتصوره موجوداً محققاً وجرد الصورة وتحققها .
وقال : مبدأ الموجودات هو العدد وهو أول مبدع أبدعه الباري تعالى .
فأول العدد هو الواحد وله اختلاف رأي في أنه هل يدخل في العدد أم لا كما سبق وميله الأكثر إلى أنه لا يدخل في العدد فيبتدئ العدد من اثنين .
ويقولون هو منقسم إلى زوج وفرد فالعدد البسيط الأول اثنان والزوج البسيط الأول أربعة وهو المنقسم بمتساويين ولم يجعل الاثنين زوجاً فإنه لو انقسم لكان إلى واحدين وكان الواحد داخلا في العدد ونحن ابتدأنا في العدد من اثنين والزوج قسم من أقسامه فكيف يكون نفسه .(13/236)
والفرد البسيط الأول ثلاثة قال : وتتم القسمة بذلك وما وراءه فهو قسمة القسمة فالأربعة هي نهاية العدد وهي الكمال وعن هذا كان يقسم بالرباعية : لا وحق الرباعية التي هي تدبر أنفسنا : الني هي أصل الكلام .
وما وراء ذلك فهو : زوج الفرد وزوج الزوج وزوج الزوج والفرد .
ويسمي الخمسة عدداً دائراً فإنها إذا ضربتها في نفسها أبداً عادت الخمسة من الرأس .
ويسمي الستة عدداً تاماً فإن أجزائها مساوية لجملتها .
والسبعة عدداً كاملاً فإنها مجموع الزوج والفرد وهي نهاية أخرى .
والثمانية مبتدأة : مركبة من زوجين .
والتسعة من ثلاثة أفراد وهي نهاية أخرى .
والعشرة من مجموع العدد من الواحد إلى الأربعة وهي نهاية أخرى .
فللعدد أربع نهايات : أربعة وسبعة وتسعة وعشرة .
ثم يعود إلى الواحد فيقول : أحد عشر ويعد .
والتركيبات فيما وراء الأربعة على أنحاء ستة : فالخمسة على مذهب من لا يرى الواحد داخلاً في العدد فهي مركبة من عدد وفرد وعلى مذهب من يرى ذلك فهي مركبة من فرد وزوجين .
وكذلك الستة على الأول فمركبة من فردين أو عدد وزوج وعلى الثاني فمركبة من ثلاثة أزواج .
والسبعة على الأول فمركبة من فرد وزوج وعلى الثاني فمركبة من فرد وثلاثة أزواج .
والثمانية على الأول فمركبة من زوجين وعلى الثاني فمركبة من أربعة أزواج .
والتسعة على الأول فمركبة من ثلاثة أفراد وعلى الثاني فمركبة من فرد وأربعة أزواج .
والعشرة على الأول فمركبة من عدد وزوجين أو زوج وفردين وعلى الثاني فما يحسب من الواحد إلى الأربعة وهو النهاية والكمال .
ثم الأعداد الأخرى فقياسها هذا القياس .
قال : وهذه هي أصول الموجودات .(13/237)
ثم إنه ركب العدد على المعدود والمقدار على المقدور فقال : المعدود الذي فيه اثنينية وهو أصل المعدودات ومبدؤها هو العقل باعتبار أن فيه اعتبارين : اعتباراً من حيث ذاته وأنه ممكن الوجود بذاته واعتباره من حيث مبدعه وأنه واجب الوجود به فقابله الاثنان .
والمعدود الذي فيه ثلاثية هو النفس إذ زاد على الاعتبارين اعتباراً ثالثاً .
والمعدود الذي فيه أربعة هو الطبيعة إذ زاد على الثلاثة رابعاً .
وثم النهاية أعني نهاية المبادئ وما بعدها المركبات فما من موجود مركب إلا وفيه من العناصر والنفس والعقل شئ إما عين أو أثر حتى ينتهي إلى السبعة فيقدر المعدودات على ذلك وينتهي إلى العشرة ويعد العقل والنفوس التسعة بأفلاكها التي هي أبدانها وعقولها المفارقة كالجوهر وتسعة أعراض .
وبالجملة إنما يتعرف حال الموجودات من العدد والمقادير الأول ويقول : الباري تعالى عالم بجميع المعلومات على طريق الإحاطة بالأسباب التي هي الأعداد المقادير وهي لا تختلف فعلمه لا يختلف .
وربما يقول : المقابل للواحد هو العنصر الأول - كما قال أنكسيمانسو يسميه الهيولي الأولي وذلك هو الواحد المستفادلا الواحد الذي هو كالاحادو هو : واحد كل : تصدر عنه كل كثرة وتستفيد الكثرة منه الوحدة التي تلازم الموجودات ولا تفارقها البتة كما قررنا .
وذكر إن العنصر انفراد بوحدته ثم أفاضها على الموجودات فلا يوجد موجود إلا وفيه من وحدته حظ على قدر استعداده ثم من هداية العقل حظ على قدر قبوله ثم من قوة النفس حظ على قدر تهيئته .
وعلى ذلك آثار المبادئ في المركبات فإن كل مركب لا يخلو عن مزاج ما وكل مزاج لا يعرى عن اعتدال ما وكل اعتدال عن كمال أو قوة كمال : إما طبيعي إلي هو مبدأ الحركة وإما عن كمال نفساني هو مبدأ الحس .
فإذا بلغ المزاج الإنساني إلى حد قبول هذا الكمال : أفاض عليه العنصر وحدته والعقل هدايته والنفس نطقه وحكمته .(13/238)
قال : ولما كانت التأليفات الهندسية مرتبة على المعادلات العددية عددناها أيضاً من المبادئ .
فصارت طائفة من الفيثاغوريين إلى أن المبادئ هي التأليفات الهندسية على مناسبات عددية ولهذا صارت المتحركات السماوية ذات حركات متناسبة لحنية هي أشرف الحركات وألطف التأليفات .
ثم تعد من ذلك إلى الأقوال حتى صارت طائفة منهم إلى أن المبادئ هي الحروف والحدود المجردة عن المادة وأوقعوا الألف في مقابلة الواحد والباء في مقابلة الاثنين .
إلى غير ذلك من المقابلات .
ولست أدري ! على أي لسان ولغة قدروها فإن الألسن يختلف باختلاف الأمصار والمدن أو على أي وجه من التركيب فإن التركيبات أيضاً مختلفة .
فالبسائط من الحروف مختلف فيها والمركبات كذلك ولا كذلك العدد فإنه لا يختلف أصلاً .
وصارت جماعة منهم إلى أن مبدأ الجسم هو الأبعاد الثلاثة والجسم مركب عنها وأوقعوا النقطة في مقابلة الواحد والخط في مقابلة الاثنين والسطح في مقابلة الثلاثة والجسم في مقابلة الأربعة .
وراعوا هذه المقابلات في تراكيب الأجسام وتضاعيف الأعداد .
ومما ينقل عن فيثاغورس : أن الطبائع أربعة والنفوس التي فينا أيضاً أربعة : العقل والعلم والرأي والحواس .
ثم ركب فيه العدد على المعدود .
والروحاني على الجسماني .
قال الرئيس أبو علي الحسين بن سينا : وأمثل ما يحمل عليه هذا القول أن يقال : كون الشيء واحداً غير كونه موجوداً أو إنساناً وهو في ذاته أقدم منهما فالحيوان الواحد لا يحصل واحداً إلا وقد تقدمه معنى الوحدة الذي صارا به واحداً ولولاه لم يصح وجوده فإذاً هو : الأشرف : الأبسط : الأول وهذه صورة العقل فالعقل يجب أن يكون الواحد من هذه الجهة والعلم دون ذلك في الرتبة لأنه بالعقل ومن العقل فهو كالاثنين الذي يفتقر إلى الواحد ويصدر منه وكذلك العلم يؤول إلى العقل .(13/239)
ومعنى الظن والرأي عدد السطح والحس عدد المصمت : أن السطح لكونه ذا ثلاث جهات هو طبيعة الظن الذي هو أعم من العلم مرتبة وذلك لأن العلم يتعلق بمعوم معين والظن والرأي ينجذب إلى الشيء ونقيضه والحس أعم من الظن فهو المصمت أي الجسم له أربع جهات .
ومما نقل عن فيثاغورس : أن العالم إنما ألف من اللحوم البسيطة الروحانية .
ويذكر أن الأعداد الروحانية غير منقطعة بل أعداد متحدة تتجزأ من نحو العقل ولا تتجزأ من نحو الحواس .
وعد عوالم كثيرة : فمنه عالم هو سرور محض في أصل الإبداع وابتهاج وروح في وضع الفطرة ومنه عالم هو دونه .
ومنطقها ليس مثل منطق العوالم العالية فإن المنطق قد يكون باللحون الروحانية البسيطة وقد يكون باللحون الروحانية المركبة .
والأول يكون سرورها دائماً غير منقطع .
ومن اللحون ما هو بعد ناقص في التركيب لأن المنطق بعد لم يخرج إلى العقل فلا يكون السرور بغاية الكمال لأن اللحن ليس بغاية الاتفاق .
وكل عالم فهو دون الأول بالرتبة وتتفاضل العوالم بالحسن والبهاء والرتبة .
والأخير ثقل العوالم وثفلها وسفلها ولذلك لم يجتمع كل الاجتماع ولم تتحد الصورة بالمادة كل الاتحاد وجاز على كل جزء منه الانفكاك عن الجزء الآخر إلا أن فيه نوراً قليلاً من النور الأول فلذلك النور وجد فيه نوع ثبات ولولا ذلك لم يثبت طرف عين وذلك النور القليل : جسم النفس والعقل الحامل لهما في هذا العالم .
وذكر أن الإنسان بحكم الفطرة واقع في مقابلة العالم كله وهو عالم صغير والعالم إنسان كبير ولذلك صار حظه من النفس والعقل أوفر فمن أحسن تقويم نفسه وتهذيب أخلاقه وتزكية أحواله أمكنه أن يصل إلى معرفة العالم وكيفية تأليفه ومن ضيع نفسه ولم يقم بمصالحها من التهذيب والتقويم خرج من عداد العدد والمعدود وانحل عن رباط القدر والمقدور وصار ضياعاً هملاً .(13/240)
وربما يقول : النفس الإنسانية تأليفات عددية أو لحنية ولهذا ناسبت النفس مناسبات الألحان والتذت بسماعها وطاشت وتوجدت باستماعها وجاشت .
ولقد كانت قبل اتصالها بالأبدان قد أبدعت من تلك التأليفات العددية الأولى ثم اتصلت بالأبدان فإن كانت التهذيبات الخلقية على تناسب الفطرة وتجردت النفوس عن المناسبات الخارجة : اتصلت بعالمها وانخرطت في سلكها على هيئة أجمل وأكمل من الأول فإن التأليفات الأولى قد كانت ناقصة من وجه حيث كانت بالقوة وبالرياضة والمجاهدة في هذا العالم بلغت إلى حد الكمال خارجة من حد القوة إلى حد الفعل .
قال : والشرائع التي وردت بمقادير الصلوات والزكوات وسائر العبادات .
هي لإيقاع هذه المناسبات في مقابلة تلك التأليفات الروحانية .
وربما يبالغ في تقرير التأليف حتى يكاد يقول : ليس في العالم سوى التأليف والأجسام والأعراض تأليفات والنفوس والعقول تأليفات .
ويعسر كل العسر تقرير ذلك ! نعم ! تقدير التأليف على المؤلف والتقدير على المقدر أمر يهتدي إليه ويعول عليه .
وكان خرينوس وزينون الشاعر : متابعين لفيثاغورس على رأيه في المبدع والمبدع .
إلا أنهما قالا : الباري تعالى أبدع النفس والعقل دفعة واحدة ثم أبدع جميع ما تحتهما بتوسطهما وفي بدء ما أبدعهما : أبدعهما لا يموتان .
ولا يجوز عليهما الدثور والفناء .
وذكرا أن النفس إذا كانت طاهرة زكية من كل دنس : صارت في العالم الأعلى إلى مسكنها الذي يشاكلها ويجانسها وكان الجسم الذي هو من النار والهواء جسمها في ذلك العالم مهذباً من كل ثقل وكدر فأما الجرم الذي من الماء والأرض فإن ذلك يدثر ويفنى لأنه غير مشاكل للجسم السماوي لأن الجسم السماوي لطيف لا وزن له ولا يلمس .
فالجسم في هذا العالم مستبطن في الجرم لأنه أشد روحانية وهذا العالم لا يشاكل الجسم بل الجرم يشاكله .(13/241)
فكل ما هو مركب والأجزاء النارية والهوائية عليه أغلب كانت الجسمية أغلب وكل ما هو مركب والأجزاء المائية والأرضية عليه أغلب كانت الجرمية أغلب .
وهذا العالم عالم الجرم وذلك العالم عالم الجسم .
فالنفس في ذلك العالم تحشر في بدن جسماني لا جرماني دائماً لا يجوز عليه الفناء والدثور ولذته تكون دائمة لا تملها الطباع والنفوس .
وقيل لفيثاغورس : لم قمت بإبطال العالم قال : لأنه يبلغ العلة التي من أجلها كان فإذا بلغها سكنت حركته .
وأكثر اللذات العلوية هي التأليفات اللحنية وذلك كما يقال : التسبيح والتقديس غذاء الروحانيين وغذاء كل موجود هو مما خلق منه ذلك الموجود .
وأما هيراقليطس وأباسيس فقد كانا من الفيثاغوريين وقالا : إن مبدأ الموجودات هو النار فما تكاثف منها وتحجر فهو الأرض وما تحلل من الأرض بالنار صار ماء وما تخلخل من الماء بالنار صار هواء وما تخلخل من الهواء بحرارة النار صار ناراً .
فالنار مبدأ وبعدها الارض وبعدها الماء وبعدها الهواء وبعدها النار .
والنار هي المبدأ وإليها المنتهي فمنها التكون وإليها الفساد .
وأما أبيقورس الذي تفلسف في أيام ديمقريطيس فكان يرى أن مبادىء الموجودات أجسام تدرك عقلاً وهي كانت تتحرك من الخلاء في الخلاء وزعم أن الخلاء لا نهاية له وكذلك الأجسام لا نهاية لها إلا أن لها ثلاثة أشياء : الشكل والعظم والثقل .
وديمقريطيس كان يرى أن لها شيئين : الشكل والعظم فقط .
وذكر أن تلك الأجسام لا تتجزأ أي لا تنفعل ولا تتكثر وهي معقولة أو متوهمة غير محسوسة فاصطكت تلك الأجزاء في حركاتها اضطراراً واتفاقاً فحصل من اصطكاكها صور هذا العالم وأشكالها وتحركت على أنحاء من جهات التحرك .
وذلك هو الذي يحكي عنهم : أنهم قالوا بالاتفاق فلم يثبتوا لها صانعا أوجب الاصطكاك وأوجد هذه الصور .
وهؤلاء قد أثبتوا الصانع وأثبتوا سبب حركات تلك الجواهر .(13/242)
وأما اصطكاكها فقد قالوا فيها بالاتفاق فلزمهم حصول العالم بالاتفاق والخبط .
وكان لفيثاغورس تلميذان رشيدان : يدعى أحدهما : فلنكس ويعرف بمرزنوش قد دخل فارس ودعا الناس إلى حكمة قيثاغورس وأضاف حكمته إلى مجوسية القوم .
ويدعى الآخر : قلانوس دخل الهند ودعا الناس إلى حكمة فيثاغورس أيضاً وأضاف حكمته إلى برهمية القوم .
إلا أن المجوس كما يقال أخذوا جسمانية قوله والهند أخذوا روحانية قوله .
ومما أخبر عنه فيثاغورس وأوصى به : قال : إني عانيت هذه العوالم العلوية بالحس بعد الرياضة البالغة وارتفعت عن عالم الطبائع إلى عالم النفس وعالم العقل فنظرت إلى ما فيها من الصور المجردة وما لها من الحسن والبهاء والنور وسمعت ما لها من اللحون الشريفة والأصوات الشجية الروحانية .
وقال : إن ما في هذا العالم يشتمل على مقدار يسير من الحسن لكونه معلول الطبيعة وما فوقه من العوالم أبهى وأشرف وأحسن إلى أن يصل الوصف إلى عالم النفس والعقل فيقف فلا يمكن المنطق وصف ما فيها من الشرف والكرم والحسن والبهاء .
فليكن حرصكم واجتهادكم على الاتصال بذلك العالم حتى يكون بقاؤكم ودوامكم طويلاً بعد ما نالكم من الفساد والدثور وتصيرون إلى عالم هو : حسن كله وبهاء كله وسرور كله وعز وحق كله .
ويكون سروركم لذتكم دائمة غير منقطعة .
وقال : من كانت الوسائط بينه وبين مولاه أكثر فهو في رتبة العبودية أنقص .
وإذا كان البدن مفتقراً في مصالحه إلى تدبير الطبيعة وكانت الطبيعة مفتقرة في تأدية أفعالها إلى تدبير النفس وكانت النفس مفتقرة في اختيارها الأفضل إلى إرشاد العقل ولم يكن فوق العقل فاتح إلا الهداية الإلهية .
فبالحري أن يكون المستعين بصريح العقل في كافة المصارف مشهوداً له بفطنة الاكتفاء بمولاه وأن يكون التابع لشهوة البدن المنقاد لدواعي الطبيعة المواتي لهوى النفس .
بعيداً من مولاه ناقصاً في رتبته .(13/243)
رأي سقراط سقراط بن سفر نيسقوس الحكيم الفاضل الزاهد : من أهل أثينية .
وكان قد اقتبس الحكمة من فيثاغورس وأرسالاوس واقتصر من أصنافها على الإلهيات والأخلاقيات واشتغل بالزهد ورياضة النفس وتهذيب الأخلاق وأعرض عن ملاذ الدنيا واعتزل إلى الجبل وأقام في غاربه .
ونهى الرؤساء الذين كانوا في زمانه عن الشرك وعبادة الأوثان فثورا عليه الغاغة وألجأوا ملوكهم إلى قتله فحبسه الملك ثم سقاه السم .
وقضيته معروفة .
قال سقراط : إن الباري تعالى لم يزل هوية فقط وهو جوهر فقط .
وإذا رجعنا إلى حقيقة الوصف والقول فيه : وجدنا المنطق والعقل قاصرين عن إكتناه ووصفه وحقيقته وتسميته وإدراكه لأن الحقائق كلها من تلقاء جوهره فهو المدرك حقاً والواصف لكل شيء وصفاً والمسمى لكل موجود اسماً فكيف يقدر المسمى أن يسميه اسماً وكيف يقدر المحاط أن يحيط به وصفاً ! فنرجع فنصفه من جهة آثاره وأفعاله وهي أسماء وصفات إلا أنها ليست من الأسماء الواقعة على الجوهر المخبرة عن حقيقته وذلك مثل قولنا : إله أي واضع كل شيء وخالق أي مقدر كل شيء وعزيز أي ممتنع أن يضام وحكيم أي محكم أفعاله على النظام .
وكذلك سائر الصفات .
وقال : إن علمه وقدرته وجوده وحكمته .
بلا نهاية ولا يبلغ العقل أن يصفها ولو وصفها لكانت متناهية .
فألزم عليه : إنك تقول : إنها بلا نهاية ولا غاية وقد نرى الموجودات متناهية ! فقال : إنما تناهيها بحسب احتمال القوابل لا بحسب القدرة والحكمة والجود ولما كانت المادة لم تحتمل صوراً بلا نهاية فتناهت الصور لا من جهة بخل في الواهب بل لقصور في المادة .(13/244)
وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها وإن تناهت : ذاتاً وصورة وحيزاً ومكاناً إلا أنها لا تتناهى زماناً في آخرها إلا من نحو أولها وإن لم يتصور بقاء شخص فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص ببقاء الأنواع وذلك بتجدد أمثالها ليستحفظ الشخص ببقاء النوع ويستبقي النوع بتجدد الأشخاص فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية ولا الحكمة تقف على غاية .
ثم إن من مذهب سقراط : أن أخص ما يوصف به الباري تعالى هو كونه : حياً قيوماً لأن : العلم والقدرة والجود والحكمة : تندرج تحت كونه حياً والحياة صفة جامعة للكل .
والبقاء والسرمد والدوام وحفظ النظام في العالم : تندرج تحت كونه قيوماً والقيومية صفة جامعة للكل .
وربما يقول : هو حي ناطق من جوهره أي من ذاته وحياتنا ونطقنا لا من جوهرنا ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد ولا يتطرق إلى حياته ونطقه تعالى وتقدس .
وحكى فلوطرخيس في المبادئ أنه قال : أصول الأشياء ثلاثة وهي : العلة الفاعلة والعنصر والصورة فالله تعالى هو الفاعل والعنصر هو الموضوع الأول للكون والفساد والصورة جوهر لا جسم .
وقال : الطبيعة أمة للنفس والنفس أمة للعقل والعقل أمة للمبدع الأول من أجل أن أول مبدع أبدعه المبدع الأول صورة العقل .
وقال : المبدع لا غاية له ولا نهاية وما ليس له نهاية ليس له شخص وصورة .
وقال : اللانهاية في سائر الموجودات لو تحققت لكان لها صورة واقعة ووضع وترتيب وما تحقق له صورة ووضع وترتيب : صار متناهياً فالموجودات ليست بلا نهاية والمبدع الأول ليس بذي نهاية ليس على أنه ذاهب في الجهات بلا نهاية كما يتخيله الخيال والوهم بل لا يرتقي إليه الخيال حتى يصفه بنهاية ولا نهاية فلا نهاية له من جهة العقل إذ ليس يحده ولا من جهة الحس فليس يحده .
فهو ليس له نهاية فليس له شخص وصورة خيالية وجودية حسية أو عقلية : تعالى وتقدس .(13/245)
ومن مذهب سقراط : أن النفوس الإنسانية كانت موجودة قبل وجود الأبدان على نحو من أنحاء الوجود : إما متصلة بكلها وإما متمايزة بذواتها وخواصها فاتصلت بالأبدان استكمالا واستدامة والأبدان قوالبها وآلاتها فتبطل الأبدان و ترجع النفوس إلى كليتها .
وعن هذا وكان يخوف بالملك الذي حبسه : أنه يريد قتله قال : إن سقراط في حب والملك لا يقدر إلا على كسر الحب فالحب يكسر ويرجع الماء إلى البحر .
ولسقراط أقاويل في مسائل الحكمة العلمية والعملية .
ومما اختلف فيه فيثاغورس وسقراط : أن الحكمة قبل الحق أم الحق قبل الحكمة وأوضح القول فيه بأن الحق أعم من الحكمة إلا أنه قد يكون جلياً وقد يكون خفياً .
وأما الحكمة فهي أخص من الحق إلا أنها لا تكون إلا جلية فإذاً : الحق مبسوط في العالم مشتمل على الحكمة المستفيضة في العالم والحكمة موضحة للحق ولسقراط أيضاً الغاز ورموز ألقاها إلى تلميذه أرسجانس وجلها في كتاب فاذن .
ونحن نوردها مرسلة معقودة : منها قوله : عندما فتشت عن علة الحياة ألفيت الموت وعندما وجدت الموت ألفيت الحياة الدائمة .(13/246)
ومنها : اسكت عن الضوضاء التي في الهواء وتكلم بالليالي حيث لا تكون أعشاش الخفافيش وأسدد الخمس الكوي ليضيء مسكن العلة وأملا الوعاء طيباً وأفرغ الحوض المثلث من القلال الفارغة وأحبس على باب الكلام وأمسك مع الحضرة اللجام الرخو لئلا تغضب فترى نظام الكواكب ولا تؤكل الأسود الذئب ولا تجاوز الميزان ولا تسوطن النار بالسكين ولا تجلس على المكيال ولا تشم التفاحة وأمت الحي تحيي بموته وكن قاتله بالسكين المزينة لوالديه واحذر الأسود ذا الأربع ومن جهة العلة كن أرنباً وعند الموت لا تكن نملة وعندما تذكر دوران الحياة أمت الميت لتكون ذاكراً وكن صديق مفضض ولا تكن صديق شرطي ولا تكن مع أصدقائك قوساً ولا تنعس على أبواب أعدائك واثبت على ينبوع واحد متكئاً على يمينك وينبغي أن تعلم أنه ليس زمان من الأزمنة يفقد فيه زمان الربيع وافحص عن ثلاث سبل فإذا لم تجدها فارض بأن تنام لها نوم المستغرق واضرب الأترجة بالرمانة واقتل العقرب بالصوم وإن أحببت أن تكون ملكاً فكن حمار وحش وليست السبعة بأكمل من الواحد وبالإثني عشر اقتن اثني عشر وازرع بالأسود واحصد بالأبيض ولا تسلبن الإكليل ولا تهتكه ولا تقفن راضياً بعدمك للخير وأنت موجود ذلك لك في أربعة وعشرين مكاناً وإن سألك سائل أن تعطيه من هذا الغذاء فميزه وإن كان مستحقاً للغذاء المريء فأعطه وإن احتاج إلى غذاء يمينك فاصنعه لأن اللون الذي يطلب كذلك من كمال الغذاء فهو للبالغين .
وقال : يكفي من تأجج النار نورها .
وقال له رجل : من أين لك أن هذا المشار إليه واحد فقال إني لأعلم أن الواحد بالإطلاق غير محتاج إلى الثاني فمتى فرضته قريناً للواحد كنت كواضع ما لا يحتاج غليه البتة إلى جانب ما لا بد منه البتة .
وقال : الإنسان له مرتبة واحدة من جهة حده وثلاث مراتب من جهة هيئته .
وقال : للقلب آفتان الغم والهم فالغم يعرض منه النوم والهم يعرض منه السهر .(13/247)
وقال : الحكمة إذا أقبلت خدمت الشهوات العقول وإذا أدبرت حدمت العقول الشهوات .
وقال : لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم .
وقال : ينبغي أن تغتم بالحياة وتفرح بالموت لأنا نحيا لنموت .
ونموت لنحيا .
وقال : قلوب المغرقين في المعرفة بالحقائق منابر الملائكة وبطون المتلذذين بالشهوات قبور الحيوانات الهالكة .
وقال : النفس الناطقة جوهر بسيط ذو سبع قوى يتحرك بها حركة مفردة وحركات مختلفة .
فأما حركتها المفردة فإذا تحركت نحو ذاتها ونحو العقل وأما حركاتها المختلفة فإذا تحركت نحو الحواس الخمس .
واليونانيون بنوا ثلاثة أبيات على طوالع مقبولة : أحدهما : بيت بأنطاكية على جبلها وكانوا يعظمونه ويقربون القرابين فيه وقد خرب .
والثاني من جملة الأهرام التي بمصر : بيت كانت فيه أصنام تعبد وهي التي نهاهم سقراط عن عبادتها .
والثالث : بيت المقدس الذي بناه داود وأتمه سليمان عليهما السلام ويقال : إن سليمان هو الذي بناه والمجوس يقولون : إن الضحاك بناه وقد عظمه اليونانيون تعظيم أهل الكتاب إياه .
رأي أفلاطون الإلهي أفلاطون بن أرسطن بن أرسطوقليس : من أثينية وهو آخر المتقدمين الأوائل الأساطين معروف بالتوحيد والحكمة .
ولد في زمان أردشير بن دارا في سنة ست عشرة من ملكه وفي سنة ست وعشرين من ملكه كان حدثاً متعلماً يتلمذ لسقراط ولما اغتيل سقراط بالسم ومات : قام مقامه وجلس على كرسيه .
وقد أخذ العلم من سقراط وطيماوس والغريبين : غريب أثينية وغريب الناطس وضم إليه العلوم الطبيعية والرياضية .
وحكى عنه قوم ممن شاهده وتلمذ له مثل أرسطو طاليس وطيماوس وثاوفرسطيس .(13/248)
أنه قال : إن للعالم محدثاً مبدعاً أزلياً واجباً بذاته عالما بجميع معلوماته على نعت الأسباب الكلية كان قي الأزل ولم يكن في الوجود رسم ولا طلل إلا مثالاً عند الباري تعالى ربما يعبر عنه بالهيولى وربما يعبر عنه بالعنصر ولعله يشير إلى صور المعلومات في علمه تعالى .
قال : فأبدع العقل الأول وبتوسطه النفس الكلية وقد انبعثت عن العقل انبعاث الصورة في المرآة وبتوسطهما العنصر .
ويحكى عنه : أن الهيولى التي هي موضوع الصور الحسية غير ذلك العنصر .
ويحكى عنه : أنه أدرج الزمان في المبادئ وهو الدهر وأثبت لكل موجود مشخص في العالم الحسي : مثالاً غير مشخص في العالم العقلي ويسمى ذلك : المثل الأفلاطونية .
فالمبادئ الأول بسائط والمثل مبسوطات والأشخاص مركبات فالإنسان المركب المحسوس جزئي ذلك الإنسان المبسوط المعقول وكذلك كل نوع من الحيوان والنبات والمعادن .
وقال : والموجودات في هذا العالم آثار الموجودات في ذلك العالم ولا بد لكل أثر من مؤثر يشابهه نوعاً من المشابهة .
قال : ولما كان العقل الإنساني من ذلك العالم أدرك من المحسوس مثالاً منتزعاً من المادة معقولاً يطابق المثال الذي في عالم العقل بكليته ويطابق الموجود الذي في عالم الحس بجزئيته .
ولولا ذلك لما كان لما يدركه العقل مطابقاً مقابلاً من خارج فما يكون مدركاً لشيء يوافق إدراكه حقيقة المدرك .(13/249)
وقال : والعالم عالمان : عالم العقل وفيه المثل العقلية والصور الروحانية وعالم الحس وفيه الأشخاص الحسية والصور الجسمانية كالمرآة المجلوة التي تنطبع فيها صور المحسوسات فإن الصور فيها مثل الأشخاص وكذلك العنصر في ذلك العالم مرآة لجميع صور هذا العالم يتمثل فيه جميع الصور كلها غير أن الفرق : أن المنطبع في المرآة ة الحسية صور خيالية يرى أنها موجودة تتحرك بحركة الشخص وليس في الحقيقة كذلك وأن المتمثل في المرآة العقلية صور حقيقية روحانية هي موجودة بالفعل تحرك الأشخاص ولا تتحرك فنسبة الأشخاص إليها كنسبة الصور في المرآة إلى الأشخاص فلها الوجود الدائم ولها الثبات القائم وهي تتمايز في حقائقها تمايز الأشخاص في ذواتها .
قال : وإنما كانت هذه الصور موجودة كلية دائمة باقية لأن كل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته في علم الأول الحق والصور عنده بلا نهاية ولو لم تكن الصور معه في أزليته في علمه لم تكن لتبقى ولو لم تكن دائمة بدوامها لكانت تدثر بدثور الهيولى ولو كانت تدثر مع دثور الهيولى لما كانت على رجاء ولا خوف ولكن لما صارت الصور الحسية على رجاء وخوف استدل به على بقائها وإنما تبقى إذا كانت لها قال : وإذا اتفقت العقلاء على أن هناك حساً ومحسوساً وعقلاً ومعقولاً وشاهدنا بالحس جميع المحسوسات وهي محدودة ومحصورة بالزمان والمكان فيجب أن نشاهد بالعقل جميع المعقولات وهي غير محدودة ومحصورة بالزمان والمكان فتكون مثلاً عقلية .
ومما يثبته أفلاطون موجودات محققة بهذا التقسيم ! قال : إنا نجد النفس تدرك أمور البسائط والمركبات ومن المركبات أنواعها وأشخاصها ومن البسائط ما هي هيولانية وهي التي تعرى عن الموضوع وهي رسوم الجزئيات مثل : النقطة والخط والسطح والجسم التعليمي .(13/250)
قال : وهذه الأشياء أشياء موجودة بذواتها وكذلك توابع الجسم مفردة مثل : الحركة والزمان والمكان والأشكال فإنا نلحظها بأذهاننا بسائط مرة ومركبة مرة أخرى ولها حقائق في ذواتها من غير حوامل ولا موضوعات .
ومن البسائط : ما ليست هي هيولانية مثل : الوجود والوحدة والجوهر .
والعقل يدرك القسمين جميعاً متطابقين عالمين متقابلين : عالم العقل وفيه المثل العقلية التي تطابقها الأشخاص الحسية وعالم الحس وفيه المتمثلات الحسية التي تطابقها المثل العقلية .
فأعيان ذلك العالم آثار في هذا العالم وأعيان هذا العالم آثار في ذلك العالم وعليه وضع الفطرة والتقدير ولهذا الفصل شرح وتقرير .
وجماعة المشائين وأرسطوطاليس لا يخالفونه في إثبات هذا المعنى الكلي إلا أنهم يقولون : هو معنى في العقل موجود في الذهن والكلي من حيث هو كلي لا وجود له في الخارج عن الذهن إذ لا يتصور أن يكون شيء واحد ينطبق على زيد وعلى عمرو وهو في نفسه واحد .
وأفلاطون يقول : ذلك المعنى الذي أثبته في العقل يجب أن يكون له شيء يطابقه في الخارج فينطبق عليه وذلك هو المثال الذي في العقل وهو جوهر لا عرض إذ تصور وجوده لا في موضوع وهو متقدم على الأشخاص الجزئية تقدم العقل على الحس وهو تقدم ذاتي وشرفي معاً .
وتلك المثل هي مبادئ الموجودات الحسية : منها بدأت وإليها تعود .
ويتفرع على ذلك أن النفوس الإنسانية التي هي متصلة بالأبدان اتصال تدبير وتصرف : كانت موجودة قبل وجود الأبدان وكان لها نحو من أنحاء الوجود العقلي وتمايز بعضها عن بعض تمايز الصور المجردة عن المادة بعضها عن بعض .
وخالفه في ذلك تلميذه أرسطوطاليس ومن بعده من الحكماء وقالوا : أن النفوس حدثت مع حدوث الأبدان .
وقد رأيت في كلام أرسطوطاليس كما ستأتي حكايته أنه ربما يميل إلى مذهب أفلاطون : في كون النفوس موجودة قبل وجود الأبدان إلا أن نقل المتأخرين ما قدمنا ذكره .(13/251)
وخالفه أيضاً في حدوث العالم : إن أفلاطون يحيل وجود حوادث لا أول لها لأنك إذا قلت حادث فقد أثبت سبق الأزلية لكل واحد وما ثبت لكل واحد يجب أن يثبت للكل .
قال : وأن صورها لا بد وأن تكون حادثة لكن الكلام في هيولاها وعنصرها .
فأثبت عنصراً قبل وجودها فظن بعض العقلاء أنه حكم عليه بالأزلية والقدم وهو إذ أثبت واجب الوجود لذاته وأطلق لفظ الإبداع على العنصر فقد أخرجه عن الأزلية بذاته بل يكون وجوده بوجود واجب الوجود كسائر المبادئ التي ليست زمانية ولا وجودها ولا حدوثها حدوث زماني .
فالبسائط حدوثها إبداعي غير زماني والمركبات حدوثها بوسائط البسائط حدوث زماني .
وقال : إن العالم لا يفسد فساداً كلياً .
ويحكى عنه في سؤاله عن طيماوس : ما الشيء الذي لا حدوث له وما الشيء الحادث وليس بباق وما الشيء الموجود بالفعل وهو أبدأ بحال واحدة .
وإنما يعنى بالأول وجود الباري تعالى وبالثاني وجود الكائنات الفاسدات التي لا تثبت على حالة واحدة .
وبالثالث وجود المبادئ والبسائط التي لا تتغير .
ومن أسئلته : ما الشيء الكائن ولا وجود له وما الشيء الموجود ولا كون له .
وإنما يعنى بالأول الحركة المكانية والزمان لأنه لم يؤهله لاسم الوجود ويعنى بالثاني الجواهر العقلية التي هي فوق الزمان والحركة والطبيعة وحق لها اسم الوجود إذ لها السرمد والبقاء والدهر .
ويحكى عنه أنه قال : إن الأسطقسات لم تزل تتحرك حركة مشوهة مضطربة غير ذات نظام وإن الباري تعالى نظمها ورتبها فكان هذا العالم .
وربما عبرة عن الأسطقسات بالأجزاء اللطيفة وقيل : إنه عنى بها الهيولى الأزلية العارية عن الصور حتى اتصلت الصور والأشكال بها فترتبت وانتظمت .(13/252)
ورأيت في راموز له أنه قال : إن النفوس كانت في عالم الذكر مغتبطة مبتهجة بعالمها وما فيه من الروح والبهجة والسرور فأهبطت إلى هذا العالم حتى تدرك الجزئيات وتستفيد ما ليس لها بذاتها بواسطة القوى الحسية فسقطت رياشها قبل الهبوط فهبطت حتى يستوي ريشها وتطير إلى عالمها بأجنحة مستفادة من هذا العالم وحكى ارسطوطاليس عنه : أنه أثبت المبادئ خمسة أجناس : الجوهر والاتفاق والاختلاف والحركة والسكون .
ثم فسر كلامه فقال : أما الجوهر فنعني به الوجود وأما الاتفاق فلأن الأشياء متفقة بأنها من الله تعالى وأما الاختلاف فلأنها مختلفة في صورها وأما الحركة فلأن لكل شيء من الأشياء فعلاً خاصاً .
وذلك نوع من الحركة لا حركة النقلة وإذا تحرك نحو الفعل وفعل فله سكون بعد ذلك لا محالة .
قال : وأثبت البخت أيضاً مبدأً سادساً وهو نطق عقلي وناموس لطبيعة الكل وقال جرجيس : إنه قوة روحانية مدبرة للكل وبعض الناس يسميه : جداً وزعم الرواقيون : أنه نظام لعلل الأشياء وللأشياء المعلولة .
وزعم بعضهم : أن علل الأشياء ثلاثة : المشتري والطبيعة والبخت .
وقال أفلاطون : إن في العالم طبيعة عامة تجمع الكل وفي كل واحد من المركبات طبيعة خاصة وحد الطبيعة بأنها : مبدأ الحركة والسكون في الأشياء أي مبدأ التغير وهي قوة سارية في الموجودات كلها تكون السكنات والحركات بها فطبيعة الكل محركة الكل .
والمحرك الأول يجب أن يكون ساكناً وإلا تسلسل القول فيه إلى ما لا نهاية له .
حكي أرسطو طاليس في مقالة الألف الكبرى من كتاب ما بعد الطبيعة : أن أفلاطون كان يختلف في حداثته إلى أقراطيلوس فكتب عنه ما روى عن هرقليطس : أن جميع الأشياء المحسوسة فاسدة وأن العلم لا يحيط بها .(13/253)
ثم اختلف بعده إلى سقراط وكان مذهبه طلب الحدود دون النظر في طبائع المحسوسات وغيرها فظن أفلاطون أن نظر سقراط في غير الأشياء المحسوسة لأن الحدود ليست للمحسوسات لأنها إنما تقع على أشياء دائمة كلية أعني : الأجناس .
والأنواع .
فعند ذلك : سمى أفلاطون الأشياء الكلية صوراً لأنها واحدة ورأى أن المحسوسات لا تكون إلا بمشاركة الصور .
إذاً : كانت الصور رسوماً ومثالات لها .
متقدمة عليها .
وإنما وضع سقراط الحدود مطلقاً لا باعتبار المحسوس وغير المحسوس .
وأفلاطون ظن أنه وضعها لغير المحسوسات فأثبتها مثلاً عامة .
وقال أفلاطون في كتاب النواميس : إن الأشياء التي لا ينبغي للإنسان أن يجهلها منها : أن له صانعاً وأن صانعه يعلم أفعاله .
وذكر : أن الله تعالى إنما يعرف بالسلب أي : لا شبيه له ولا مثاله .
أنه أبدع العالم من لا نظام إلى نظام وأن كل مركب فهو إلى الانحلال وأنه لن يسبق العالم زمان ولم يبدع عن شيء .
ثم إن الأوائل اختلفوا في الإبداع والمبدع : هل هما عبارتان عن معبر واحد أم للإبداع نسبة إلى المبدع ونسبة إلى المبدع وكذلك في الإرادة : إنها المراد أم المريد على حسب اختلاف متكلمي الإسلام في : الخلق والمخلوق والإرادة : إنها : خلق أم مخلوقة أم صفة في الخالق .
قال انكساغورس بمذهب فلوطرخيس : إن الإرادة ليست هي غير المراد ولا غير المريد وكذلك الفعل لأنهما لا صورة لهما ذاتية وإنما يقومان بغيرهما .
فالإرادة : مرة تكون مستبطنة في المريد ومرة ظاهرة في المراد وكذلك الفعل .(13/254)
وأما أفلاطون وأرسطوطاليس فلا يقبلان هذا القول وقالا : إن صورة الإرادة وصورة الفعل قائمتان وهما أبسط من صورة المراد كالقاطع للشيء هو المؤثر وأثره في الشيء والمقطوع هو المؤثر فيه القابل للأثر والمؤثر فيه هو الأثر وهو محال فصورة المبدع فاعلة وصورة المبدع مفعولة وصورة الإبداع متوسطة بين الفاعل والمفعول .
فللفعل : صورة وأثر فصورته من جهة المبدع .
وأثره من جهة المبدع .
والصورة من جهة المبدع في حق الباري تعالى ليست زائدة على ذاته حتى يقال صورة إرادة وصورة باري مفترقتان بل هي حقيقة واحدة .
وأما برمنيدس الأصغر فإنه أجاز قولهم في الإرادة ولم يجزه في الفعل وقال : إن الإرادة تكون بلا توسط من الباري تعالى : فأجاز ما وصفوه .
وأما الفعل فيكون بتوسط منه وليس ما هو بلا توسط كالذي يكون بتوسط بل الفعل قط لن يتحقق إلا بتوسط الإرادة ولا ينعكس .
وأما الأولون مثل : تاليس وأبندقليس فقد قالوا الإرادة من جهة المبدع هي المبدع ومن جهة المبدع هي المبدع .
وفسروا هذا بأن الإرادة من جهة الصورة هي المبدع ومن جهة الأثر هي المبدع .
ولا يجوز أن يقال إنها من جهة الصورة هي المبدع لأن صورة الإرادة عند المبدع قبل أن يبدع فغير جائز أن تكون ذات صورة الشيء الفاعل هي المفعول بل من جهة أثر ذات الصورة هي المفعول .
ومذهب أفلاطون وأرسطوطاليس هذا بعينه .
وفي الفصل انغلاق .
الباب الثاني الحكماء الأصول الحكماء الأصول الذين هم من القدماء
إلا أنا لم نجد لهم رأياً في المسائل المذكورة غير حكم مرسلة عملية أوردناها لئلا تشذ مذاهبهم عن القسمة ولا يخلو الكتاب عن تلك الفوائد .
فمنهم الشعراء الذين يستدلون بشعرهم .
وليس شعرهم على وزن وقافية ولا الوزن والقافية ركن في الشعر عندهم بل الركن في الشعر عندهم إيراد المقدمات المخيلة فحسب .
ثم قد يكون الوزن والقافية معينين في التخيل .(13/255)
فإن كانت المقدمة التي نوردها في القياس الشعري مخيلة فقط تمحض القياس شعرياً وإن انضم إليها قول إقناعي يقينياً تركبت المقدمة من معينين شعري وإقناعي وإن كان الضميم إليه قولاً يقينياً تركبت المقدمة من شعري وبرهاني .
ومنهم النساك ونسكهم وعبادتهم عقلية لا شرعية ويقتصر ذلك على تهذيب النفس عن الأخلاق الذميمة وسياسة المدينة الفاضلة التي هي الجنة الإنسانية .
وربما وجدنا لبعضهم رأياً في بعض المسائل المذكورة أعني : المبدع والإبداع وأنه عالم وأن أول ما أبدعه ماذا وأن المبادئ كم هي وأن المعاد كيف يكون .
وصاحب الرأي الموافق للأوائل المذكورين أوردنا اسمه وذكرنا مقالته وإن كانت كالمكروه .
نبتدئ بهم ونجعل فلوطرخيس مبدأ آخر .
رأي فلوطرخيس قيل إنه أول من شهر بالفلسفة .
ونسبت إليه المحكمة .
تفلسف بمصر .
ثم سار إلى ملطية وأقام بها .
وقد يعد من الأساطين .
قال : إن الباري تعالى لم يزل بالأزلية التي هي أزلية الأزليات وهو مبدع فقط .
وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته عنده أي كانت معلومة له .
فالصور عنده بلا نهاية أي المعلومات بلا نهاية .
قال : ولو لم تكن الصور عنده ومعه لما كان إبداع ولا بقاء للمبدع ولو لم تكن باقية دائمة لكانت تدثر بدثور الهيولى ولو كان ذلك كذلك لارتفع الرجاء والخوف ولكن لما كانت الصور باقية دائمة ولها الرجاء والخوف : كان ذلك دليلاً على أن الصور أزلية في علمه تعالى .
قال : ولا وجه إلا القول بأحد الأقوال : إما أن يقال : الباري تعالى لا يعلم شيئاً البتة وهذا من المحال الشنيع وأما أن يقال : يعلم بعض الصور دون بعض وهذا من النقص الذي لا يليق بكمال الجلال وإما أن يقال : يعلم جميع الصور والمعلومات وهذا هو الرأي الصحيح .(13/256)
ثم قال : إن أصل المركبات هو الماء فإنه إذا تخلخل صافياً وجد ناراً وإذا تخلخل وفيه بعض الثقل صار هواء وإذا تكاثف تكاثفاً مبسوطاً بالغاً صار أرضاً .
وحكى فلوطرخيس أن هيرقليطس زعم أن الأشياء إنما انتظمت بالبخت وجوهر البخت هو نطق عقلي ينفذ في الجوهر الكلي .
والله سبحانه وتعالى أعلم .
رأي أكسنوفانس كان يقول : إن المبدع الأول هو آنية أزلية دائمة ديمومة القدم لاتدرك بنوع صفة منطقية ولا عقلية مبدع كل صفة وكل نعت نطقي وعقلي فإذا كان هذا هكذا فقولنا : إن صور ما في هذا العالم المبدعة لم تكن عنده أو كانت أو كيف أبدع ولم أبدع .
محال لأن العقل مبدع والمبدع مسبوق بالمبدع والمسبوق لا يدرك السابق أبداً فلا يجوز أن يصف المسبوق السابق .
بل نقول : إن المبدع أبدع كيفما أحب وكيفما شاء فهو هو ولا شيء معه .
قال : وهذه الكلمة أعنى : هو ولا شيء بسيطاً ولا مركباً معه وهو مجمع كل ما نطلبه من العلم لأنك إذا قلت ولا شيء معه فقد نفيت عنه : أزلية الصورة والهيولى وكل مبدع من صورة وهيولى وكل مبدع من صورة فقط .
ومن قال أن الصور أزلية مع آنيته فليس هو فقط بل هو وأشياء كثيرة فليس هو مبدع للصور بل كل صورة إنما أظهرت ذاتها فعند إظهارها ذاتها ظهرت هذه العوالم .
وهذه أشنع ما يكون من القول .
وكان تيرز والقادميون يقولان : ليست أوائل البتة ولا معقول قبل المحسوس بحال فلا مثل بدعة الأشياء مثل الذي يفرخ من ذاته بلا حدث ولا فعل ظهر فلا يزال يخرجه من القوة إلى الفعل حتى يوجد فيكمل فنحسه وندركه وليس شيء معقول البتة .
والعالم دائم لا يزول ولا يفنى فإن المبدع لا يجوز أن يفعل فعلاً يدثر إلا وهو داثر مع دثور فعله وذلك محال .
رأي زينون الأكبر زينون الأكبر ابن ماوس : من أهل قنطس .(13/257)
كان يقول : إن المبدع الأول كان في علمه صورة إبداع كل جوهر وصورة دثور كل جوهر فإن علمه غير متناه والصور التي فيه من حيث الإبداع غير متناهية وكذلك صور الدثور غير متناهية فالعوالم تتجدد في كل حين وفي كل دهر فما كان منها مشاكلاً لنا أدركنا حدود وجوده ودثوره بالحواس والعقل وما كان غير مشاكل لنا لم ندركه إلا أنه ذكر وجه التجدد فقال : إن الموجودات باقية دائرة : أما بقاؤهما فبتجدد صورها وأما دثورها فبدثور الصورة الأولى عند تجدد الأخرى .
وذكر أن الدثور قد يلزم الصورة والهيولى معاً .
وقال أيضاً : إن الشمس والقمر والكواكب تستمد القوة من جوهر السماء فإذا تغيرت السماء تغيرت النجوم أيضاً .
ثم هذه الصور كلها : بقاؤها ودثورها في علم الباري تعالى والعلم يقتضي بقاءها دائماً وكذلك الحكمة تقتضي ذلك لأن بقاءها على هذه الحال أفضل .
والباري تعالى قادر على أن يفني العوالم يوماً ما إن أراد .
وهذا الرأي و وقد مال إليه الحكماء المنطقيون الجدليون دون الإلهيين .
وحكى فلوطرخيس أن زينون كان يزعم أن الأصول هي الله عز وجل والعنصر فقط فالله هو العلة الفاعلة والعنصر هو المنفعل .
حكمه : قال : أكثروا من الإخوان فإن بقاء الإخوان كما أن شفاء الأبدان بالأدوية .
وقيل : رأى زينون فتى على شاطئ البحر محزوناً يتلهف على الدنيا فقال له : يا فتى ! ما يلهفك على الدنيا لو كنت في غاية الغنى وأنت راكب لجة البحر قد انكسرت السفينة وأشرفت على الغرق كانت غاية مطلوبك النجاة وتفوت كل ما في يدك قال : نعم قال : لو كنت ملكاً على الدنيا وأحاط بك من يريد قتلك : كان مرادك النجاة من يده وتفوت كل ملكك قال : نعم قال : فأنت الغني وأنت الملك الآن فتسلى الفتى .
وقال لتلميذه : كن بما تأتي من الخير مسروراً وبما تجتنب من الشر محبوراً .(13/258)
وقيل له : أي الملوك أفضل : ملك اليونانيين أم ملك الفرس قال : من ملك غضبه وشهوته .
وسئل عد أن هرم : ما حالك قال : هو ذا أموت قليلا قليلا على مهل .
وقيل له : إذا مت ! من يدفنك .
قال : من يؤذيه نتن جيفتي .
وسئل : ما لذي يهرم قال : الغضب والحسد وأبلغ منهما الغم .
وقال : الفلك تحت تدبيره .
ونعى إليه ابنه فقال : ما ذهب ذلك على إنما ولدت ولداً يموت وما ولدت ولداً لا يموت .
وقال : لا تخف موت البدن ولكن يجب عليك أن تخاف موت النفس .
فقيل له : لما قلت خف موت النفس والنفس الناطقة عندك لا تموت فقال : إذا انتقلت النفس الناطقة من حد النطق إلى حد البهيمية وإن كان جوهرها لا يبطل فقد ماتت من العيش العقلي .
وقال : أعط الحق من نفسك فإن الحق يخصمك إن لم تعطه حقه .
وقال : محبة المال وتد الشر لأن سائر الآفات تتعلق بها ومحبة الشرف وتد العيوب لأن سائر العيوب متعلقة بها .
وقال : أحسن مجاورة النعم فتنعم بها ولا تسيء بها فتسيء بك .
وقال : إذا أدركت الدنيا الهارب منها جرحته وإذا أدركها الطالب لها قتلته .
وقيل له وكان لا يقتي إلا قوت يومه : إن الملك يبغضك فقال : وهل يحب الملك من هو أغنى منه .
وسئل : بأي شيء يخالف الناس في هذا الزمان البهائم فقال : بالشرور .
قال : وما رأينا العقل قط إلا خادماً للجهل وفي رواية للسجزي إلا خادماً للجد والفرق بينهما ظاهر فإن الطبيعة ولوازمها إذا كانت مستولية على العقل : استخدمه الجهل وإذا كان ما قسم للإنسان من الخير والشر فوق تدبيره العقلي : كان الجد مستخدماً للعقل ويعظم جد الإنسان ما يعقل وليس يعظم العقل ما يجد ولهذا ! خيف على صاحب الجد ما لم يخف على صاحب العقل .
والجد : أصم أخرس لا يفقه ولا ينقه وإنما هو ريح تهب وبرق يلمع ونار تلوح وصحو يعرض وحلم يمتع .(13/259)
وهذا اللفظ أولى فإنه عمم الحكم فقال ما رأينا العقل قط وقد يعرض للعقل أن يرى ولا يستخدمه الجهل وذلك هو الأكثر .
وقال زينون : في الجرادة خلقة سبعة جبابرة : رأسها راس فرس وعنقها عنق ثور وصدرها صدر أسد وجناحها جناح رأي ديمقريطيس وشيعته كان يقول في المبدع الأول : إنه ليس هو العنصر فقط ولا العقل فقط بل الأخلاط الأربعة وهي الاسطقسات : أوائل الموجودات كلها ومنها أبدعت الأشياء البسيطة كلها دفعة واحدة وأما المركبة فإنها كونت دائمة داثرة إلا أن ديمومتها بنوع ودثورها بنوع .
ثم إن العالم بجملته باق غير داثر لأنه ذكر أن هذا العالم متصل بذلك العالم الأعلى كما أن عناصر هذه الأشياء متصلة بلطيف أرواحها الساكنة فيها .
والعناصر وإن كانت تدثر في الظاهر فإن صفوها من الروح البسيط الذي فيها فإذا كان كذلك فليس يدثر إلا من جهة الحواس فأما من نحو العقل فإنه ليس يدثر فلا يدثر هذا العالم إذا كان صفوها فيه وصفوه متصل بالعوالم البسيطة .
وإنما شنع عليه الحكماء من جهة قوله : إن أول مبدع هو العناصر وبعدها أبدعت البسائط الروحانية فهو يرتقي من الأسفل إلى الأعلى ومن الأكدر إلى الأصفى .
ومن شيعته فليوخوس إلا أنه خالفه في المبدع الأول وقال بقول سائر الحكماء غير أنه قال : إن المبدع الأول هو مبدع الصورة فقط دون الهيولى فإنها لم تزل مع المبدع .
فأنكروا عليه وقالوا : إن الهيولى لو كانت أزلية قديمة : لما قبلت الصور ولما تغيرت منحال إلى حال ولما قبلت فعل غيرها إذ الأزلي لا يتغير .
وهذا الرأي مما كان يعزى إلى أفلاطون الإلهي والرأي في نفسه مزيف والعزوة إليه غير صحيحة .
ومما نقل عن ديمقريطيس وزينون الأكبر وفيثاغورث أنهم كانوا يقولون : إن الباري تعالى متحرك بحركة فوق هذه الحركة الزمانية .
وقد أشرنا إلى المذهبين وبينما المراد بإضافة الحركة والسكون إلى الله تعالى .(13/260)
ونزيده شرحا من احتجاج كل فريق على صاحبه .
قال أصحاب السكون : إن الحركة لا تكون أبداً إلا ضد السكون والحركة لا تكون إلا بنوع زمان إما ماض وإما مستقبل والحركة لا تكون إلا مكانية إما منتقلة وإما مستوية ومن المستوية تكون الحركة المستقيمة والحركة المعوجة والمكانية تكون مع الزمان فلو كان الباري تعالى متحركاً لكان داخلاً في الدهر والزمان .
قال أصحاب الحركة : إن حركته أعلى من جميع ما ذكرتموه وهو مبدع الدهر والمكان وإبداعه ذلك هو يعنى بالحركة .
والله أعلم .
رأي فلاسفة أقاديما كانوا يقولون : إن كل مركب ينحل ولا يجوز أن يكون مركباً من جوهرين متفقين في جميع الجهات وإلا فليس بمركب فإذا كان هذا هكذا فلا محالة أنه إذا انحل المركب رحل كل جوهر فاتصل بالأصل الذي كان منه فما كان منها بسيطاً روحانياً لحق بعالمه الروحاني البسيط والعالم الروحاني باق غير داثر ويرجع حتى يصل إلى ألطف من كل لطيف فإذا لم يبق من اللطافة شيء اتحد باللطيف الأول المتحد به فيكونان متحدين إلى الأبد وإذا اتحدت الأواخر بالأوائل وكان الأول هو أول مبدع ليس بينه وبين مبدعه جوهر آخر متوسط فلا محالة أن ذلك المبدع الأول متعلق بنور مبدعه فيبقى خالداً دهر الدهور .
وهذا الفصل أيضاً قد نقل عنهم وهو يتعلق بالمعاد لا بالمبدأ وهؤلاء يسمون : مشائي أقاديما وأما المشاءون المطلق فهم .
أهل لوقيون وكان أفلاطون يلقن الحكمة ماشياً تعظيماً لها وتابعه على ذلك أرسطوطاليس .
ويسمى هو وأصحابه : المشائين .
وأصحاب الرواق هم أهل المظال .
وكان لأفلاطون تعليمات : تعليم كليس وهو الروحاني الذي لا يدرك بالبصر ولكن بالفكر اللطيف وتعليم كأيس وهو الهيولانيات .
والله الموفق للصواب .(13/261)
رأي هرقل الحكيم كان يقول : إن الباري تعالى هو النور الحق الذي لا يدرك من جهة عقولنا لأنها أبدعت من ذلك النور الأول الحق وهو اسم الله حقاً وهو اسم الله باليونانية حقاً .
إنها تدل عليه إنه مبدع الكل .
وهذا الاسم عندهم شريف جداً .
وكان يقول : إن بدء الخلق وأول شيء أبدع والذي هو أول لهذه العوالم هو المحبة والمنازعة .
وقال هرقل : السماء كرة متحركة من ذاتها والأرض مستديرة ساكنة جامدة بذاتها ة الشمس حللت كل ما فيها من الرطوبة فاجتمعت فيها فصار البحر والذي حجرت الشمس ونفذت فيه حتى لم تذر فيه شيئاً من الرطوبة صار منه : الحصى والحجارة والجبل وما لم تنفذ فيه الشمس أكثر ولم تنزع عنه الرطوبة كلها فهو التراب .
وكان يقول إن السماء في النشأة الأخرى تصير بلا كواكب لأن الكواكب تهبط سفلاً حتى تحيط بالأرض وتلتهب فيصير متصلاً ببعضها البعض حتى تكون كالدائرة وحول الأرض وإنما يهبط منها ما كان من أجزائها ناراً محصنة ويصعد منها ما كان نوراً محصناً فتبقى النفوس الشريرة الدنسة الخبيثة في هذا العالم الذي أحاط به النار إلى الأبد في عقاب السرمد وتصعد النفوس الشريفة الخالصة الطيبة إلى العالم الذي تمحض نوراً وبهاءً وحسناً في ثواب السرمد .
وهناك : الصور الحسان لذات البصر والألحان الشجية لذات السمع ولأنها أبدعت بلا توسط مادة وتركب اسطقسات فهي : جواهر شريفة روحانية نورانية .
وقال : إن الباري تعالى يمسح تلك الأنفس في كل دهر مسحة فيتجلى لها حتى تنظر إلى نوره المحض الخارج من جوهره الحق فحينئذ يشتد عشقها وشوقها ونورها ومجدها .
فلا تزال كذلك دائماً إلى الأبد .
رأي أبيقورس خالف الأوائل في الأوائل .
قال المبادئ اثنان : الخلاء والصورة أما الخلاء فمكان فارغ وأما الصورة فهي فوق المكان والخلاء ومنها أبدعت الموجودات وكل ما كون منها فإنه ينحل إليها فمنها المبدأ وإليها المعاد .(13/262)
وربما يقول : الكل يفسد وليس بعد الفراق حساب ولا قضاء ولا مكافئة ولا جزاء بل كلها تضمحل وتدثر .
والإنسان كالحيوان مرسل مهمل في هذا العالم .
والحالات التي ترد على الأنفس في هذا العالم كلها من تلقائها على قدر حركاتها وأفاعيلها فإن فعلت خيراً وحسناً فيرد عليها سرور الفرح وإن فعلت شراً وقبيحاً فيرد عليها حزن وترح .
وإنما سرور كل نفس بالأنفس الأخرى وكذا حزنها مع الأنفس الأخرى .
بقدر ما يظهر لها من أفاعيل .
وتبعه جماعة من التناسخية على هذا الرأي حكم سولون الشاعر وكان عند الفلاسفة من الأنبياء العظام بعد هرمس وقبل سقراط وأجمعوا على تقديمه والقول بفضائله .
قال سولون لتلميذه : تزود من الخير وأنت مقبل خير لك من أن تتزود منه وأنت مدبر .
وقال : من فعل خيراً فليتجنب ما خالفه وإلا دعي شريراً .
وقال : إذا عرضت عليك فكرة سوء فادفعها عن نفسك ولا ترجع باللائمة على غيرك لكن ما رأيك بما أحدث عليك .
وقال : إن فعل الجاهل في خطابه أن يذم غيره وفعل طالب الأدب أن يذم نفسه وفعل الأديب أن لا يذم نفسه ولا غيره .
وقال : إذا انكب الدن وأريق الشراب وانكسر الإناء .
فلا تغتم بل قل : كما أن الأرباح لا تكون إلا فيما يباع ويشترى كذلك الخسرانات لا تكون إلا في الموجودات فانفي الغم والخسارة عنك فإن لكل ثمناً وليس يجيء بالمجان .
وسئل : أيما أحمد في الصبا : الحياء أم الخوف قال : الحياء لأن الحياء يدل على العقل والخوف يدل على المقة والشهوة .
وقال لابنه دع المزاح فإن المزاح لقاح الضغائن .
وسأله رجل فقال : هل ترى أن أتزوج أم أدع قال : أي الأمرين فعلت ندمت عليه .
وسئل : أي شيء أصعب على الإنسان قال : أن يعرف عيب نفسه وأن يمسك عما لا يتكلم به .
ورأى رجلاً عثر فقال له : لأن تعثر برجلك خير من أن تعثر بلسانك .
وسئل : ما الحياة فقال : التمسك بأمر الله تعالى .(13/263)
وسئل : ما النوم فقال : النوم موتة خفيفة والموت نومة طويلة .
وقال : ليكن اختارك من الأشياء حديثها .
ومن الإخوان أقدمهم .
وقال : أنفع العلم ما أصابته الفكرة وأقله نفعاً ما قلته بلسانك .
وقال : ينبغي أن يكون المرء : حسن الشكل في صغره وعفيفاً عند إدراكه وعدلاً في شبابه وذا رأي في كهلولته وحافظاً للستر عند الفناء حتى لا تلحقه الندامة .
وقال : ينبغي للشاب أن يستعد لشيخوخته مثل ما يستعد الإنسان للشتاء من البرد الذي يهجم عليه .
وقال : يا بني ! احفظ الأمانة تحفظك وصنها حتى تصان .
وقال : جوعوا إلى الحكمة واعطشوا إلى عبادة الله تعالى قبل أن يأتيكم المانع منهما .
وقال لتلامذته : لا تكرموا الجاهل فيستخف بكم ولا تتصلوا بالأشرار فتعدوا فيهم ولا تعتمدوا الغنى إن كنتم تلامذة الصدق ولا تهملوا أمر أنفسكم في أيامكم ولياليكم ولا تستخفوا بالمساكين في جميع أوقاتكم .
وكتب إليه بعض الحكماء يستوصفه أمر عالمي العقل والحس فقال : أما عالم العقل فدار ثبات وسئل : ما فضل علمك على علم غيرك قال : معرفتي بأن علمي قليل .
وقال : أخلاق محمودة وجدتها في الناس إلا أنها إنما توجد في قليل : صديق يحب صديقه غائباً كمحبته حاضراً وكريم يكرم الفقراء كما يكرم الأغنياء ومقر بعيوبه إذا ذكرت وذاكر يوم نعيمه في يوم بؤسه ويوم بؤسه في يوم نعيمه وحافظ لسانه عند غضبه .
وآمر بالمعروف دائماً .
حكم أوميروس الشاعر وهو من الكبار القدماء الذي يجريه أفلاطون وأرسطوطاليس في أعلى المراتب .(13/264)
ويستدل بشعره لما كان يجمع فيه إتقان المعرفة ومتانة الحكمة وجودة الرأي وجزالة اللفظ فمن ذلك قوله : لا خير في كثرة الرؤساء وهذه كلمة وجيزة تحتها معان شريفة لما في كثرة الرؤساء من الاختلاف الذي يأتي على حكمة الرئاسة بالإبطال ويستدل بها أيضاً في التوحيد لما في كثرة الآلهة من المخالفات التي تكر على حقيقة الإلهية بالإفساد .
وفي الحكمة : لو كان أهل بلد كلهم رؤساء لما كان رئيس البتة ولو كان أهل بلد كلهم رعية لما كانت رعية البتة .
ومن حكمه قال : إني لأعجب من الناس ! إذ كان يمكنهم الإقتداء بالله تعالى فيدعون ذلك الإقتداء بالبهائم ! قال له تلميذه : لعل هذا إنما يكون لأنهم قد رأوا أنهم يموتون كما تموت البهائم فقال له : بهذا السبب يكثر تعجبي منهم ! من قبل أنهم يحسون بأنهم لابسون بدناً ميتاً وقال : من يعلم أن الحياة لنا مستعبدة والموت معتق مطلق .
آثر الموت على الحياة .
وقال العقل نحوان : طبيعي وتجريبي وهما مثل الماء والأرض وكما أن النار تذيب كل صامت وتخلصه وتمكن من العمل فيه كذلك العقل يذيب الأمور ويخلصها ويفصلها ويعدها للعمل .
ومن لم يكن لهذين النحوين فيه موضع فإن خير أموره له قصر العمر .
وقال : إن الإنسان الخير أفضل من جميع ما على الأرض والإنسان الشرير أخس وأوضع من جميع ما على الأرض .
وقال : لن : تنبل واحلم : تعز ولا تكن معجباً : فتمتهن واقهر شهوتك فإن الفقير من انحط إلى شهواته .
وقال : الدنيا دار تجارة والويل لمن تزود عنها الخسارة .
وقال : الأمراض ثلاثة أشياء : الزيادة والنقصان في الطبائع الأربع وما تهيجه الأحزان فشفاء الزائد والناقص في الطبائع الأدوية وشفاء ما تهيجه الأحزان كلام الحكماء والإخوان .
وقال : العمى خير من الجهل لأن أصعب ما يخاف من العمى التهور في بئر ينهد منه الحسد والجبل يتوقع منه هلاك الأبد .(13/265)
وقال : مقدمة المحمودات الحياء ومقدمة المذمومات القحة .
وقال إيرقليطس : إن أوميروس الشاعر لما رأى تضاد الموجودات دون فلك القمر قال : يا ليته هلك التضاد من هذا العالم ومن الناس والسادة يعني النجوم واختلاف طبائعها وأراد بذلك أن يبطل التضاد والاختلاف حتى يكون هذا العالم المتحرك المنتقل داخلاً في العالم الساكن الدائم الباقي .
ومن مذهبه : أن بهرام يعني الريح واقع الزهرة فتولدت من بينهما طبيعة هذا العالم .
وقال : إن الزهرة علة التوحد والاجتماع وبهرام علة التفرق والاختلاف والتوحد ضد التفرق فلذلك صارت الطبيعة ضداً : تركب وتنقص وتوحد وتفرق .
وقال : الحظ شيء أظهره العقل بوساطة العلم فلما قابل النفس عشقته بالعنصر .
هذه حكمه .
وأما مقطعات أشعاره فمنها : قال : ينبغي للإنسان أن يفهم الأمور الإنسانية .
إن الأدب للإنسان ذخر لا يسلب .
ارفع من عمرك ما يحزنك .
إن أمور العالم تعلمك العلم .
إن كنت ميتاً فلا تحقر عداوة من لا يموت .
كل ما يمتاز في وقته يفرح به .
إن الزمان يبين الحق وينيره .
اذكر نفسك أبداً : أنك إنسان .
إن كنت إنساناً فافهم كيف تضبط غضبك .
إذا نالتك مضرة فاعلم أنك كنت أهلها .
اطلب رضاء كل أحد لإرضار نفسك فقط .
إن الضحك في غير وقته هو ابن عم انتقم من الأعداء نقمة لا تضرك .
كن حسن الجرأة ولا تكن متهوراً .
إن كنت ميتاً فلا تذهب مذهب من لا يموت .
إن أردت أن تحيا فلا تعمل عملاً يوجب الموت .
إن الطبيعة كونت الأشياء بإرادة الرب تعالى .
من لا يفعل شيئاً في الشر فهو إلهي .
آمن بالله فإنه يوفقك في أمورك .
إن مساعدة الأشرار في أفعالهم كفر بالله .
إن المغلوب من قاتل الله والبخت .
اعرف الله واعقل الأمور الإنسانية .
إذا أراد الله خلاصك عبرت البحر على البادية .
إن العقل الذي يناطق الله لشريف .
إن قوام السنة بالرئيس .(13/266)
إن لفيف الناس وإن كانت لهم قوة فليس لهم عقل .
إن السنة توجب كرامة الوالدين مثل كرامة الإله .
رأي ان : والديك آلهة لك .
إن الأب هو من ربي لا من ولد .
إن الكلام في غير وقته يفسد العمر كله .
إذا حضر البخت تمت الأمور .
إن سنن الطبيعة لا تتعلم .
إن اليد تغسل اليد والإصبع الإصبع .
ليكن فرحك بما تدخره لنفسك دون ما تدخره لغيرك يعني بالمدخر لنفسه العلم والحكمة والمدخر لغيره المال .
وقال : الكرم يحمل ثلاثة عناقيد : عنقود الالتذاذ وعنقود الشكر وعنقود الشيم .
خير أمور العالم الحسي أوساطها وخير أمور العالم العقل أفضلها .
وقيل : إن وجود الشعر في أمة يونان كان قبل الفلسفة وإنما أبدعه أوميروس .
وتاليس كان بعده بثلاثمائة واثنتين سنة .
وأول فيلسوف كان منهم : في سنة تسعمائة وإحدى وخمسين من وفاة موسى عليه السلام وهذا ما أخبر به كورفس في كتابه وذكر فورفوريوس أن تاليس ظهر في سنة ثلاث وعشرين ومائة من ملك بختنصر .
حكم بقراط بقراط واضع الطب .
الذي قال بفضله الأوائل والأواخر .
وكان أكثر حكمته في الطب وشهرته به فبلغ خبره إلى بهمن ابن اسفنديار بن كشتاسب فكتب إلى فيلاطس ملك قوه وهو بلد من بلد اليونانيين يأمر بتوجيه بقراط إليه وأمر له بقناطير من الذهب فأبى ذلك وتأبى عن الخروج إليه ضناً بوطنه وقومه .
وكان لا يأخذ على المعالجة أجرة من الفقراء وأوساط الناس وقد شرط أن يأخذ من الاغنياء أحد ثلاثة أشياء : طوقاً .
وإكليلاً أو سواراً .
من ذهب .
فمن حكمه إن قال : استهينوا بالموت فإن مرارته في خوفه .
وقيل له : أي العيش خير قال : الأمن مع الفقر خير من الغنى مع الخوف .
وقال : الحيطان والبروج لا تحفظ المدن ولكن تحفظها آراء الرجال وتدبير الحكماء .
وقال : يداوي كل عليل بعقاقير أرضه فإن الطبيعة متطلعة إلى هوائها ونازعة إلى غذائها .(13/267)
ولما حضرته الوفاة قال : خذوا جامع العلم مني : من كثر نومه ولانت طبيعته ونديت جلدته .
طال عمره .
وقال : لو خلق الإنسان من طبيعة واحدة لما مرض لأنه لم يكن هناك شيء يضادها فيمرض .
ودخل على عليل فقال له : أنا والعلة وأنت فإن أعنتني عليها بالقبول لما تسمع مني : صرنا اثنين وانفرد العلة فقينا عليها والاثنان إذا اجتمعا على واحد غلباه .
وسئل : ما بال الإنسان أثور ما يكون بدنه إذا شرب الدواء قال : مثل ذلك مثل البيت أكثر ما يكون غبارا إذا كنس .
وحديث ابن الملك : أنه عشق جارية من حظايا أبيه فنهك بدنه واشتدت علته فأحضر بقراط فجس نبضه ونظر إلى تفسرته فلم ير أثر علة فذكراه حديث العشق فرآه يهش لذلك ويطرب فاستخبر الحال من حاضنته فلم يكن عندها خبر وقالت : ما خرج قط من الدار فقال : بقراط للملك : مر رئيس الخصيان بطاعتي فأمره بذلك فقال : أخرج علي النساء فخرجن وبقراط واضع إصبعه على نبض الفتى فلما خرجت الحظية اضطرب عرقه .
وطار قلبه وحار طبعه فعلم بقراط أنها المعينة لهواه فصار بقراط إلى الملك .
وقال له : ابن الملك قد عشق من الوصول إليها صعب قال الملك : ومن ذاك قال : هو يحب حليلتي قال : انزل عنها ولك عنها بدل فتحازن بقراط ووجم : وقال : هل رأيت أحداً كلف أحداً طلاق امرأته ولا سيما الملك في عدله ونصفته يأمرني بمفارقة حليلتي ومفارقتها مفارقة روحي قال الملك : إني أوثر ولدي عليك وأعوضك من هو احسن منها فامتنع حتى بلغ الأمر إلى التهديد بالسيف قال بقراط : إن الملك لا يسمى عدلاً حتى ينتصف من نفسه ما ينتصف من غيره أرأيت لو كانت العشيقة حظية الملك ! قال : يا بقراط ! عقلك أتم من معرفتك ! ونزل عنها لابنه وبرئ الفتى من مرضه ذلك .
وقال بقراط : إياك أن تأكل إلا ما تستمرئ وأما مالا تستمرئ فإنه يأكلك .(13/268)
وقيل لبقراط : لم يثقل الميت قال : لأنه كان اثنين : أحدهما خفيف رافع والآخر ثقيل واضع فلما انصرف أحدهما وهو الخفيف الرافع ثقل الثقيل الواضع .
وقال : الجسد يعالج جملة على خمسة أضرب : ما في الرأس بالغرغرة وما في المعدة بالقيء وما في البدن بإسهال البطن وما بين الجلدين بالعرق وما في العمق وداخل العروق بإرسال الدم .
وقال الصفراء بيتها المرارة وسلطانها في الكبد والبلغم بيته المعدة وسلطانه في الصدر والسوداء بيتها الطحال وسلطانها في القلب والدم بيته القلب وسلطانه في الرأس .
وقال لتلميذ له : ليكن أفضل وسيلتك إلى الناس محبتك لهم والتفقد لأمورهم ومعرفة حالهم واصطناع المعروف إليهم .
ويحكى عن بقراط قوله المعروف : العمر قصير والصناعة طويلة والوقت ضيق والزمان جديد والتجربة خطر والقضاء عسر .
وقال لتلاميذه : اقسموا الليل والنهار ثلاثة أقسام : فاطلبوا في القسم الأول العقل الفاضل واعملوا في القسم الثاني بما أحرزتم من ذلك العقل ثم عاملوا في القسم الثالث من لا عقل له وانهزموا من الشر ما استطعتم .
وكان له ابن لا يقبل الأدب فقالت له امرأته : إن ابنك هو منك فأدبه فقال لها : هو مني طبعاً ومن غيري نفساً فما أصنع به .
وقال : ما كان كثيراً فهو مضاد للطبيعة فلتكن الأطعمة والأشربة والنوم والجماع والتعب .
قصداً .
وقال : إن صحة البدن إذا كانت في الغاية كان أشد خطراً .
وقال : إن الطب هو حفظ الصحة بما يوافق الأصحاء ودفع المرض بما يضاده .
وقال : من سقى السم من الأطباء وألقى الجنين ومنع الحمل واجترأ على المريض .
فليس من شيعتي وله أيمان معروفة على هذه الشرائط .
وكتبه معروفة كثيراً في الطب .(13/269)
وقال في الطبيعة : إنها القوة التي تدبر الجسم من الإنسان فتصوره من النطفة إلى تمام الخلقة خدمة للنفس في إتمام هيكلها ولا تزال هي المدبرة له غذاء من الثدي وبعده مما به قوامه من الأغذية .
ولها ثلاث قوى : المولدة والمربية والحافظة .
ويخدم الثلاث أربع قوى : الجاذبة حكم ديمقريطيس وهو من الحكماء المعتبرين في زمان بهمن بن اسفنديار وهو وبقراط كانا في زمان واحد قبل أفلاطون وله آراء في الفلسفة وخصوصاً في مبادئ الكون والفساد .
وكان أرسطوطاليس يؤثر قوله على قول أستاذه أفلاطون الإلهي وما أنصف .
قال ديمقريطيس : إن الجمال الظاهر يشبه به المصورون بالأصباغ ولكن الجمال الباطن لا يشبه به إلا من هو له بالحقيقة وهو مخترعه ومنشئه .
وقال : ليس ينبغي أن تعد نفسك من الناس ما دام الغيظ يفسد رأيك ويتبع شهوتك .
وقال : ليس ينبغي أن يمتحن الناس في وقت ذلتهم بل في وقت عزتهم وملكهم ومنا أن الكير يمتحن به الذهب كذلك الملك يمتحن به الإنسان فيتبين خيره وشره .
وقال : ينبغي أن تأخذ في العلوم بعد أن تنفي عن نفسك العيوب وتعودها الفضائل فإنك إن لم تفعل هذا لم تنتفع بشيء من العلوم .
وقال : من أعطى أخاه المال فقد أعطاه خزائنه ومن أعطاه علمه ونصيحته فقد وهب له نفسه .
وقال : لا ينبغي أن تعد النفع الذي فيه الضرر العظيم نفعاً ولا الضرر الذي فيه النفع العظيم وقال : مثل من قنع بالاسم كمثل من قنع عن الطعام بالرائحة .
وقال : عالم معاند خير من جاهل منصف .
وقال : ثمرة الغرة التواني وثمرة التواني الشقاء وثمرة الشقاء ظهور البطالة وثمرة البطالة : السفه والعبث والندامة والحزن .
وقال : يجب على الإنسان أن يطهر قلبه من المكر والخديعة كما يطهر بدنه من أنواع الخبث .
وقال : لا تطمع أحداً أن يطأ عقبك اليوم فيطأك غداً .
وقال : لا تكن حلواً جداً لئلا تبلع ولا مراً جداً لئلا تلفظ .(13/270)
وقال : ذنب الكلب يكسب له الطعام وفمه يكسب له الضرب .
وكان بأثينية نقاش غير حاذق فأتى ديمقريطيس .
وقال : جصص بيتك فاصوره قال : صوره أو لا حتى أجصصه .
وقال : مثل العلم مع من لا يقبل وإن قبل لا يعمل كمثل دواء مع سقيم وهو لا يداوي به .
وقيل له : لا تنظر فغمض عينيه قيل له : لا تسمع فسد أذنيه قيل له : لا تتكلم فوضع يده على شفتيه قيل له : لا تعلم قال : لا أقدر .
وإنما أراد به : أن البواطن لا تندرج تحت الاختيار فأشار إلى ضرورة السر واختيار الظاهر .
ولما كان الإنسان مضطر الحدوث كان معزول الولاية عن قلبه وهو بقلبه أكبر منه بسائر جوارحه فلهذا لم يستطع أن يتصرف في أصله لاستحالة أن يكون الفاعل أصله .
ولهذا الكلام شرح آخر وهو أنه أراد التمييز بين العقل والحس فإن الإدراك العقلي لا يتصور الانفكاك عنه وإذا حصل لن يتصور نسيانه بالاختيار والإعراض عنه بخلاف الإدراك الحسي .
وهذا يدل على أن العقل ليس من جنس الحس ولا النفس من حيز البدن .
وقد قيل : إن الاختيار في الإنسان مركب من افعالين : أحدهما انفعال نقيصة والثاني انفعال تكامل وهو إلى الانفعال الأول أميل بحكم الطبيعة والمزاج والآخر ضعيف فيه إلا إذا وصل إليه مدد من جهة العقل والتمييز والنطق فمتى وقف هذا المدد من القوة الاختيارية كانت الغلبة للانفعال الآخر ولولا تركب الاختيار عن هذين الانفعالين أو انقسامه إلى هذين الوجهين لتأتى للإنسان جميع ما يقصده بالاختيار بلا مهلة ولا ترجح ولا هنية ولا تريح ولا استشارة ولا استخارة .
وهذا الرأي الذي رآه هذا الحكيم : لم أجد أحداً أبه له ولا عثر عليه أو حكم به وأومأ إليه .
والله سبحانه وتعالى أعلم .
حكم أوقليدس وهو أول من تكلم في الرياضيات وأفرده علماً نافعاً في العلوم منقحاً للخاطر ملقحاً للفكر .
وكتابه معروف باسمه وكذلك حكمته .(13/271)
وقد وجدنا له حكماً متفرقة فأوردناها على سوق مرامنا وطرد كلامنا .
فمن ذلك قوله : الخط هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية .
وقال له رجل يتهدده : إني لا آلو جهداً في أن أفقدك حياتك قال أوقليدس : وأنا لا آلو جهداً في أن أفقدك غضبك .
وقال : كل أمر تصرفنا فيه وكانت النفس الناطقة هي المقدرة له فهو داخل في الأفعال الإنسانية وما لم تقدره النفس الناطقة فهو داخل في الأفعال البهيمية .
وقال : من أراد أن يكون محبوبه محبوبك وافقك على ما تحب فإذا اتفقتما على محبوب واحد صرتما إلى الاتفاق .
وقال : إفزع إلى ما يشبه الرأي العام التدبيري العقلي واتهم ما سواه .
وقال : كل ما أستطيع خلعه ولم يضطر إلى لزومه المرء فلم الإقامة على مكروهه .
وقال : الأمور جنسان : أحدهما يستطاع خلعه والمصير إلى غيره والآخر منهما غير سائغ في الرأي .
وقال : إن كانت الكائنات من المضطرة فما الاهتمام بالمضطر إذ لا بد منه وإن كانت غير مضطرة فلم الهم فيما يجوز الانتقال عنه وقال : الصواب إذا كان عاماً كان أفضل لأن الخاص يقع بالتحري وتلقاء أمر ما .
وقال : العمل على الإنصاف ترك الإقامة على المكروه وقال : إذا لم يضطرك إلى الإقامة عليه شيء فإن أقمت رجعت باللائمة عليك .
وقال : الحزم هو العمل على أن لا تثق بالأمور التي في الإمكان عسرها ويسرها .
وقال : كل فائت وجدت في الأمور منه عوضاً أو أمكنك اكتساب مثله فما الأسف على فوته وإن لم يكن منه عوض ولا يصاب له مثل فما الأسف على ما لا سبيل إلى مثله والإمكان في دعه .
وقال : لما علم العاقل أنه لا ثقة بشيء من أمر الدنيا : ألقى منها ما منه بد واقتصر على ما لا بد منه وعمل فيما يوثق به بأبلغ ما قدر عليه وقال : إذا كان الأمر تمكنا فيه التصرف فوقع بحال ما تحب فاعتده رحاً وإن وقع بحال ما تكره فلا تحزن فإنك قد كنت عجلت فيه على غير ثقة بوقوعه على ما تحب .(13/272)
وقال : لم أر أحداً إلا ذاما للدنيا وأمورها إذ هي على ما هي من التغير والتنقل فالمستكثر منها يلحقه أن يكون أشد اتصالا بما يذم وإنما يذم الإنسان ما يكره والمستقل منها مستقل مما يكره وإذا أستقل مما يكره كان ذلك أقرب إلى ما يحب .
وقال : أسوأ الناس حالا من لا يثق بأحد لسوء ظنه ولا يثق به أحد لسوء فعله .
وقال : الجشع بين شرين فالإعدام يخرجه إلى السفه والجدة تخرجه إلى الأشر .
وقال : لا تعن أخاك على أخيك في خصومة فإنهما يصطلحان عن قليل وتكتسب المذمة .
حكم بطلميوس وهو صاحب المجسطى الذي تكلم في هيئات الفلك واخرج علم الهندسة من القوة إلى الفعل .
فمن حكمه أنه قال : ما أحسن الإنسان أن يصبر عما اشتهى وأحسن منه أن لا يشتهي إلا ما ينبغي .
وقال : الحليم الذي إذا صدق صبر لا الذي إذا قذف كظم .
وقال : لمن يغني الناس ويسأل أشبه بالملوك ممن يستغني بغيره ويسأل .
وقال : لان يستغني الإنسان عن الملك أكرم له من أن يستغني به .
وقال : موضع الحكمة من قلوب الجهال كموقع الذهب والجوهر من ظهر الحمار .
وسمع جماعة من أصحابه وهم حول سرادقه يقعون فيه ويثلبونه فهز رمحاً كان بين يديه ليعلموا وقال : العلم من موطنه كالذهب في معدنه : لا يستنبط إلا بالدءوب والتعب والكد والنصب ثم يجب تخليصه بالفكر كما يخلص الذهب بالنار .
وقال بطلميوس : دلالة القمر في الأيام أقوى .
ودلالة الشمس والزهرة في الشهور أقوى ودلالة المشتري وزحل في السنين أقوى .
ومما ينقل عنه أنه قال : نحن كائنون في الزمن الذي يأتي بعد وهذا رمز إلى المعاد إذ الكون والوجود الحقيقي : ذلك الكون والوجود في ذلك العالم .(13/273)
حكم أهل المظال ومنهم خروسيبس وزينون وقولهما الخالص : إن الباري تعالى المبدع الأول : واحد محض هو إن فقط أبدع العقل والنفس دفعة واحدة ثم أبدع جميع ما تحتهما بتوسطهما وفي بدء ما أبدعهما أبدعهما جوهرين لا يجوز عليهما الدثور والفناء .
وذكروا : أن للنفس جرمين : جرم من النار والهواء وجرم من الماء والأرض فالنفس متحدة بالجرم الذي من النار والهواء والجرم الذي من النار والهواء متحد بالجرم الذي من الماء والأرض والنفس تظهر أفاعيلها في ذلك الجرم وذلك الجرم ليس له طول ولا عرض ولا قدر مكاني وباصطلاحنا سميناه جسماً وأفاعيل النفس فيه نيرة بهية ومن الجسم إلى الجرم ينحدر : النور والحسن والبهاء .
ولما ظهرت أفاعيل النفس عندنا بمتوسطين كانت أظلم ولم يكن لها نور شديد .
وذكروا : أن النفس إذا كانت طاهرة زكية استخصت الأجزاء النارية والهوائية وهي جسمها واستصحبت في ذلك العالم جسماً روحانياً نورانياً علوياً طاهراً مهذباً من كل ثقل وكدر .
وأما الجرم الذي من الماء والأرض فيدثر ويفنى لأنه غير مشاكل للجسم السماوي لأن ذلك الجسم خفيف لطيف لا وزن له ولا يلمس وإنما يدرك من البصر فقط كما تدرك الأشياء الروحانية من العقل فألطف ما يدرك الحس البصري من الجواهر هي النفسانية وألطف ما يدرك من إبداع الباري تعالى الآثار التي عند العقل .
وذكروا أن النفس ما هي مستطيعة ما خلاها الباري تعالى أن تفعل وإذا ربطها فليست بمستطيعة كالحيوان الذي إذا خلاه مدبره أعني الإنسان كان مستطيعاً في كل ما دعي إليه وتحرك إليه وإذا ربطه لم يقدر حينئذ أن يكون مستطيعاً .(13/274)
وذكروا : أن دنس النفس وأوساخ الجسد إنما تكون لازمة للإنسان من جهة الأجزاء وأمات التطهير والتهذيب فمن جهة الكل لأنه إذا انفصلت النفس الكلية إلى النفس الجزئية والعقل الجزئي من العقل الكلي : غلظت وصارت من حيز الجرم لأنها كلما سفلت اتحدت بالجرم والجرم من حيز الماء والأرض وهما ثقيلان يذهبان سفلاً وكلما اتصلت النفس الجزئية بالنفس الكلية والعقل الجزئي بالعقل الكلي : ذهبت علواً لأنها تتحد بالجسم والجسم من حيز النار والهواء وكلاهما لطيفان يذهبان علواً .
وهذان الجرمان مركبان وكل واحد منهما من جوهرين .
واجتماع هذين الجرمين يوجب الاتحاد شيئاً واحداً عند الحس البصري فأما عند الحواس الباطنة وعند العقل فليست شيئاً واحداً فالجسم في هذا العالم مستبطن في الجرم لأنه أشد روحانية ولأن هذا العالم ليس مشاكلاً له ولا مجانساً له والجرم مشاكل ومجانس لهذا العالم فصار لجرم أظهر من الجسم لمجانسة هذا العالم وتركيبه وصار الجسم مستبطناً في الجرم لأن هذا العالم غير مشاكل له وغير مجانس له .
فإما في ذلك العالم فالجسم ظاهر على الجرم لأن ذلك العالم : عالم الجسم لأنه مجانس ومشاكل له ويكون لطيف الجرم الذي هو من لطيف الماء والأرض المشاكل لجوهر النار والهواء مستبطناً في الجسم كما كان الجسم مستبطناً في هذا العالم في الجرم .
فإذا كان هذا فيما ذكروا هكذا كان ذلك الجسم باقياً دائماً لا يجوز عليه الدثور ولا الفناء ولذته دائمة لا تملها النفوس ولا العقول ولا ينفد ذلك السرور والحبور .
ونقلوا عن أفلاطون أستاذهم : لما كان الواحد لا بدء له صار : نهاية كل متناه وإنما صار الواحد لا نهاية له لأنه لا بدء له لا أنه لا بدء لهلأنه لا نهاية وقال : ينبغي للمرء أن ينظر كل يوم إلى وجهه في المرآة فإن كان قبيحاً : لم يفعل قبيحاً فيجمع بين قبيحين وإن كان حسناً : لم يشنه بقبيح .(13/275)
وقال : إنك لن تجد الناس إلا أحد رجلين : إما مؤخراً في نفسه قدمه حظه أو مقدماً في نفسه آخره دهره فارضى بما أنت فيه اختياراً وإلا رضيت اضطراراً .
الباب الثالث متأخرو حكماء اليونان
وهم الحكماء الذين تلوهم في الزمان وخالفوهم في الرأي مثل أرسطو طاليس ومن تابعه على رأيه مثل : الإسكندر الرومي والشيخ اليوناني وديوجانس الكلبي .
وغيرهم وكلهم على رأى أرسطو طاليس في المسائل التي تفرد بها عن القدماء .
ونحن نذكر من آرائه ما يتعلق بغرضنا : من المسائل التي شرع فيها الأوائل وخالفهم المتأخرون .
ونحصرها في ست عشرة مسألة .
وبالله التوفيق .
رأى أرسطو طاليس بن نبقو ماخوس من أهل أسطاخرا .
وهو المقدم المشهور والمعلم الأول والحكيم المطلق .
عندهم .
وكان مولده في أول سنة من ملك أردشير بن دارا فلما أتت عليه سبع عشرة سنة أسلمه أبوه إلى المؤدب أفلاطون فمكث عنده نيفاً وعشرين سنة .
وإنما سموه المعلم الأول لأنه واضع التعاليم المنطقية ومخرجها من القوة إلى الفعل وحكمه حكم واضع النحو وواضع العروض فإن نسبة المنطق إلى المعاني التي في الذهن كنسبة النحو إلى الكلام والعروض إلى الشعر .
وهو واضع لا بمعنى أنه لم تكن المعاني مقومة بالمنطق قبله فقومها بل بمعنى أنه جرد آلته عن المادة فقومها تقريبا إلى أذهان المتعلمين حتى يكون كالميزان عندهم يرجعون إليه عند اشتباه الصواب بالخطأ والحق بالباطل .
إلا أنه أجمل القول فيه إجمال الممهدين وفصله المتأخرون تفصيل الشارحين .
وله حق السبق وفضيلة التمهيد .
وكتبه في الطبيعيات والإلهيات والأخلاق معروفة ولها شروح كثيرة .(13/276)
ونحن اخترنا في نقل مذهبه شرح ثامسطيوس الذي اعتمده مقدم المتأخرين ورئيسهم أبو علي بن سينا وأوردنا نكتاً من كلامه في الإلهيات وأحلنا باقي مقالاته في المسائل على نقل المتأخرين إذ لم يخالفوه في رأي ولا نازعوه في حكم بل هم كالمقلدين له المتهالكين عليه وليس الأمر على ما مالت ظنونهم إليه .
المسألة الأولى : في إثبات واجب الوجود الذي هو المحرك الأول .
قال في كتاب أولوجيا من حرف اللام : إن الجوهر يقال على ثلاثة أضرب : اثنان طبيعيان وواحد غير متحرك .
قال : إنا وجدنا المتحركات على اختلاف جهاتها ة أوضاعها ولا بد لكل متحرك من محرك فإما أن يكون المحرك متحركاً فيتسلسل القول فيه ولا يتحصل وإلا فيستند إلى محرك غير متحرك .
ولا يجوز أن يكون فيه معنى ما بالقوة فإنه يحتاج إلى شئ آخر يخرجه من القوة إلى الفعل إذ هو لا يتحرك من ذاته من القوة إلى الفعل فالفعل إذا أقدم من القوة وما بالفعل أقدم على ما بالقوة .
وكل جائز وجوده ففي طبيعته معنى ما بالقوة وهو الإمكان والجواز فيحتاج إلى واجب به يجب وكذلك كل متحرك فيحتاج إلى محرك فواجب الوجود بذاته : ذات وجودها غير مستفاد من وجود غيره وكل موجود فوجوده مستفاد عنه بالفعل .
وجائز الوجود له في نفسه وذاته الإمكان وذلك إذا أخذته بلا شرط وإذا أخذته بشرط علته فله الوجوب وإذا أخذته بشرط لا علية فله الامتناع .
المسألة الثانية : في أن واجب الوجود .
أخذ أرسطو طاليس يوضح أن المبدأ الأول واحد من حيث إن العالم واحد ويقول : إن الكثرة بعد الاتفاق في الحد ليست إلا في كثرة العنصر وأما ما هو بالآنية الأولى فليس له عنصر لأنه تمام قائم بالفعل .
لا يخالط القوة فإذاً المحرك الأول واحد بالكلمة والعدد أي بالاسم والذات .
قال : فمحرك العالم واحد لأن العالم واحد .
هذا نقل ثامسطيوس .(13/277)
وأخذ من نصر مذهبه يوضح أن المبدأ الأول واحد من حيث إنه واجب الوجود لذاته قال : ولو كان كثيراً لحمل واجب الوجود عليه وعلى غيره بالتواطؤ فيشملها جنساً وينفصل أحدهما عن الآخر نوعاً فتتركب ذاته من جنس وفصل فتسبق أجزاء المركب على المركب سبقاً بالذات فلا يكون واجباً بذاته .
ولأنه لو لم يكن هو بعينه واجب الوجود لذاته لا لشيء عنه بل لأمر خارج عنه واجب بذاته لكان واجب الوجود بذلك الأمر الخارج فلم يكن واجباً بذاته .
هذا : خلف .
المسألة الثالثة في أن واجب الوجود لذاته : عقل لذاته وعاقل ومعقول لذاته عقل من غيره أو لم يعقل .
أما أنه عقل فلأنه مجرد عن المادة منزه عن اللوازم المادية فلا تحتجب ذاته عن ذاته .
وأما أنه عاقل لذاته فلأنه مجرد لذاته .
وأما أنه معقول لذاته فلأنه غير محجوب عن ذاته بذاته أو بغيره .
قال : الأول يعقل ذاته ثم من ذاته يعقل كل شيء فهو يعقل العالم العقلي دفعة واحدة من غير احتياج إلى انتقال وتردد من معقول إلى معقول وأنه ليس يعقل الأشياء على أنها أمور خارجة عنه فيعقلها منها كحالنا عند المحسوسات بل يعقلها من ذاته وليس كونه عاقلاً وعقلاً : بسبب وجود الأشياء المعقولة حتى يكون وجودها قد جعله عقلاً بل الأمر بالعكس أي عقله للأشياء جعلها موجودة .
وليس للأول شيء يكمله فهو الكامل لذاته المكمل لغيره فلا يستفيد وجوده من وجود كمالاً .
وأيضاً فإنه لو كان يعقل الأشياء من الأشياء لكان وجودها متقدماً على وجوده ويكون جوهره في نفسه وفي قوامه وفي طباعه : أن يقبل معقولات الأشياء من الأشياء فيكون في طباعه ما هو بالقوة من حيث يكمل بما هو خارج عنه حتى يقال : لولا ما هو خارج عنه لم يكن له ذلك المعنى وكان فيه عدمها فيكون الذي له في طباع نفسه وباعتبار نفسه من غير إضافة إلى غيره أن يكون عادماً للمعقولات ومن شأنه أن يكون له ذلك فيكون باعتبار نفسه مخالطاً للإمكان والقوة .(13/278)
وإذ فرضنا أنه لم يزل ولا يزال موجوداً بالفعل فيجب أن يكون له من ذاته الأمر الأكمل الأفضل لا من غيره .
قال : وإذا عقل ذاته : عقل ما يلزمها لذاتها بالفعل وعقل كونه مبدأ وعقل كل ما يصدر عنه على ترتيب الصدور عنه وإلا فلم يعقل ذاته بكنهها .
قال : وإن كان ليس يعقل بالفعل فما الشيء الكريم الذي له وهو الكون الناقص كماله ! فيكون حاله كحال النائم وإن كان يعقل الأشياء من الأشياء فتكون الأشياء متقدمة عليه بتقدم ما يقبله ذاته وإن كان يعقل الأشياء من ذاته فهو المرام والمطلب .
وقد يعبر عن هذا الغرض بعبارة أخرى تؤدي قريباً من هذا المعنى فيقول : إن كان جوهره العقل وأن يعقل فإما أن يعقل .
ذاته أو غيره فإن كان يعقل شيئاً آخر فما هو في حد ذاته غير مضاف إلى ما يعقله وهل لهذا المعتبر بنفسه فضل وجلال مناسب لأن يعقل بأن يكون بعض الأحوال أن يعقل له أفضل من أن لا يعقل أو بأن لا يعقل يكون له أفضل من أن يعقل .
فإنه لا يمكن القسم الآخر : وهو أن يكون يعقل الشيء الآخر افضل من الذي له في ذاته من حيث هو في ذاته شيء يلزمه أن يعقل فيكون فضله وكماله بغيره .
وهذا محال .
المسألة الرابعة في أن واجب الوجود لا يعتريه تغير وتأثر من غيره بأن يبدع أو يعقل .
قال : الباري تعالى عظيم الرتبة جداً غير محتاج إلى غيره ولا متغير بسبب من غيره : سواء كان التغير زمانياً أو كان تغيراً بأن ذاته تقبل من غيره أثراً وإن كان دائماً في الزمان .
وإنما لا يجوز له أن يتغير كيفما كان لأن انتقاله إنما يكون إلى الشر لا إلى الخير لأن كل رتبة غير رتبته فهي دون رتبته وكل شيء يناله ويوصف به فهو دون نفسه ولا يكون أيضاً مناسباً للحركة خصوصاً إن كانت بعدية زمانية .
وهذا معنى قوله : إن التغير : إلى الشيء الذي هو شر .
وقد ألزم على كلامه : أنه إذا كان الأول يعقل أبداً ذاته فإنه يتعب ويكل ويتغير ويتأثر .(13/279)
وأجاب ثامسطيوس عن هذا بأنه إنما لا يتعب لأنه يعقل ذاته وكما لا يتعب من أن يحب ذاته فإنه لا يتعب من أن يعقل ذاته .
قال أبو الحسين بن عبد الله بن سينا : ليست العلة أنه لذاته يعقل .
أو لذاته يجب بل لأنه ليس مضاداً لشيء في الجوهر العاقل فإن التعب هو أذى يعرض لسبب خروج عن الطبيعة وإنما يكون ذلك إذا كانت الحركات التي تتوالى مضادت لمطلوب الطبيعة فأما الشىء الملائم اللذيذ المحض الذي ليس فيه منافاة بوجه فلم يجب أن يكون تكرره متعباً .
المسألة الخامسة في أن واجب الوجود حي بذاته باق بذاته أي كامل في أن يكون بالفعل مدركاً لكل شيء نافذ الأمر في كل شيء .
وقال : إن الحياة التي عندنا يقترن بها من إدراك خسيس وتحريك خسيس وأما هناك فالمشار إليه بلفظ الحياة : هو كون العقل التام بالفعل الذي يتعقل من ذاته كل شيء وهو باق الدهر أزلي فهو حي بذاته باق بذاته .
عالم بذاته .
وإنما ترجع جميع صفاته إلى ما ذكرنا من غير تكثر ولا تغير في ذاته .
المسألة السادسة في أنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد .
قال : الصادر الأول هو العقل الفعال لأن الحركات إذا كانت كثيرة ولكل متحرك فيجب أن يكون عدد المحركات بحسب عدد المتحركات فلو كانت المحركات والمتحركات تنسب إليه لا على ترتيب أول وثان بل جملة واحدة لتكثرت جهات ذاته بالنسبة إلى محرك محرك ومتحرك متحرك فتكثر بذاته .
وقد أقمنا البرهان على أنه واحد من كل وجه فلن يصدر عن الواحد من كل وجه إلا واحد وهو العقل الفعال .
وله في ذاته وباعتبار ذاته إمكان الوجود وباعتبار علته وجوب الوجود فتتكثر ذاته لا من جهة علته فيصدر عنه شيئان ثم يزيد التكثر في الأسباب فتتكثر المسببات والكل ينسب إليه .
المسألة السابعة في عدد المفارقات .(13/280)
قال : إذا كان عدد المتحركات مرتباً على عدد المحركات فتكون الجواهر المفارقة كثيرة على ترتيب : أول وثان فلكل كرة متحركة محرك مفارق غير متناهي القوة يحرك كما يحرك المشتهي والمعشوق ومحرك آخر مزاول للحركة فيكون صورة للجرم السماوي فالأول عقل مفارق والثاني نفس مزاول فالمحركات المفارقة تحرك على أنها مشتهاة معشوقة والمحركات المزاولة تحرك على أنها مشتهية عاشقة .
ثم يطلب عدد المحركات من عدد حركات الأكر .
وذلك شيء لم يكن ظاهراً في زمانه وإنما ظهر بعد .
والأكر تسع لما دل الرصد عليها فالعقول المفارقة عشرة : تسعة منها مدبرات النفوس التسعة المزاولة وواحد هو العقل الفعال .
المسألة الثامنة في أن الأول مبتهج بذاته .
قال أرسطوطاليس : اللذة في المحسوسات هو الشعور بالملائم وفي المعقولات الشعور بالكمال الواصل إليه من حيث يشعر به .
فالأول مغتبط بذاته ملتذ بها لأنه يعقل ذاته على كمال حقيقتها وشرفها وإن جل عن أن ينسب إليه لذة انفعالية .
بل يجب أن يسمي ذلك : بهجة وعلاء وبهاء .
كيف ونحن نلتذ بإدراك الحق ونحن مصروفون عنه مردودون في قضاء حاجات خارجة عما يناسب حقيقتنا التي نحن بها ناس وذلك لضعف عقولنا وقصورنا في المعقولات وانغماسنا في الطبيعة البدنية لكنا نتوصل على سبيل الاختلاس فيظهر لنا اتصال بالحق الأول فيكون كسعادة عجيبة في زمان قليل جداً وهذه الحال له أبداً وهو لنا غير ممكن لأنا مذنبون ولا يمكننا أن نشيم تلك البارقة الإلهية إلا خطفه وخلسة .
المسألة التاسعة في صدور نظام الكل وتربيته عنه .
قال : قد بينا أن الجوهر يقال على ثلاثة أضرب : اثنان طبيعيان وواحد غير متحرك .
وقد بينا القول في الواحد غير المتحرك وأما الاثنان الطبيعيان فهما : الهيولى والصورة أو العنصر والصورة وهما مبدأ الأجسام الطبيعية .
وأما العدم فيعد من المبادئ بالعرض لا بالذات .(13/281)
فالهيولى جوهر قابل للصورة والصورة معنى ما يقترن بالجوهر فيصير به نوعاً كالجزء المقوم له لا كالعرض الحال فيه والعدم ما يقابل الصورة فإنا متى توهمنا أن الصورة لم تكن فيجب أن يكون في الهيولى عدم الصورة .
والعدم المطلق مقابل للصورة المطلقة والعدم الخاص مقابل للصورة الخاصة .
قال : وأول الصورة التي تسبق إلى الهيولى هي الأبعاد الثلاثة فتصير جرماً ذا طول وعرض وعمق وهي الهيولى الثانية وليست بذات كيفية .
ثم تلحقها الكيفيات الأربع التي هي الحرارة والبرودة الفاعلتان والرطوبة واليبوسة المنفعلتان فتصير الأركان والأسطقسات الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض وهي الهيولى الثالثة .
ثم تتكون منها المركبات التي تلحقها الأعراض والكون والفساد ويكون بعضها هيولى بعض .
قال : وإنما رتبنا هذا الترتيب في العقل والوهم خاصة دون الحس وذلك أن الهيولى عندنا لم تكن معراة عن الصورة قط فلم نقدر في الوجود جوهراً مطلقاً قابلاً للأبعاد ثم لحقته الأبعاد ولا جسماً عارياً عن هذه الكيفيات ثم عرض له ذلك وإنما هو عند نظرنا هو أقدم بالطبع وأبسط في الوهم والعقل .
ثم أثبت طبيعة خامسة وراء هذه الطبائع لا تقبل الكون والفساد ولا يطرأ عليها الاستحالة والتغير وهي طبيعة السماء .
وليس يعني بالخامسة طبيعة من جنس هذه الطبائع بل معنى ذلك أن طبائعها خارجة عن هذه .
ثم هي كلها على تركيبات يختص كل تركيب خاص بطبيعة خاصة ويتحرك بحركة خاصة .
ولكل متحرك محرك مزاول ومحرك مفارق .
والمتحركات أحياء ناطقون والحيوانية والناطقية لها بمعنى آخر وإنما يحمل ذلك عليها وعلى الإنسان بالاشتراك .
فترتيب العالم كله علوية وسفلية على نظام واحد وصار النظام في الكل : محفوظاً بعناية المبدأ الأول على أحسن ترتيب وأحكم قوام متوجهاً إلى الخير .(13/282)
وترتيب الموجودات كلها في طباع الكل على موع نوع ليس على ترتيب المساواة فليس حال السباع كحال الطير ولا حالها كحال النبات ولا حال النبات كحال الحيوان .
قال : وليس مع هذا التفاوت منقطعاً بعضها عن بعض بحيث لا ينسب بعضها إلى بعض بل هناك مع الاختلاف اتصال وإضافة جامعة للكل تجمع الكل إلى الأصل الأول الذي هو المبدأ لفيض الجود والنظام في الوجود على ما يمكن في طباع الكل أن يترتب عنه .
قال : وترتيب الطباع في الكل كترتيب المزل الواحد من الأرباب والأحرار والعبيد والبهائم والسباع فقد جمعهم صاحب المنزل ورتب لكل واحد منهم مكاناً خاصاً وقدر له عملاً خاصاً .
ليس قد أطلق لهم أن يعملوا ما شاءوا وأحبوا فإن ذلك يؤدي إلى تشويش النظام .
فهم وإن اختلفوا في مراتبهم وانفصل بعضهم عن بعض بأشكالهم وصورهم : منتسبون إلى مبدأ واحد صادرون عن رأيه وأمره مصرفون تحت حكمه وقدره فكذلك تجري الحال في العالم بأن يكون هناك أجزاء أول مفردة متقدمة لها أفعال مخصوصة مثل السماوات ومحركاتها ومدبراتها وما قبلها منن العقل الفعال .
وأجزاء مركبة متأخرة تجري أكثر أمورها على الاتفاق المخلوط بالطبع المسألة العاشرة في أن النظام في الكل متوجه إلى الخير والشر واقع في القدر بالعرض .
قال : لما اقتضت الحكمة الإلهية نظام العالم على أحسن إحكام وإتقان لا لإرادة وقصد أمر في السافل حتى يقال : إنما أبدع العقل مثلاًلغرض في السافل حتى يفيض مثلاً على السافل فيضاً بل لأمر أعلى من ذلك وهو أن ذاته أبدع ما أبدع لذاته لا لعلة ولا لغرض فوجدت الموجودات كاللوازم واللواحق ثم توجهت إلى لخير لأنها صادرة عن أصل الخير وكان المصير في كل حال إلى رأس واحد .(13/283)
ثم ربما يقع شر وفساد من مصادمات في الأسباب السافلة دون العالية التي كلها خير مثل المطر الذي لم يخلق إلا خيراً ونظاماً للعالم فيتفق أن يخرب به بيت عجوز فإن وقع كان ذلك واقعاً بالعرض لا بالذات أو بأن لا يقع شر جزئي في العالم لا تقتضي الحكمة أن لا يوجد خير كلي فإن فقدان المطر أصلاً شر كلي وتخريب بيت عجوز شر جزئي والعالم للنظام الكلي لا الجزئي فالشر إذاً : واقع في القدر بالعرض .
وقال : إن الهيولى قد لبست الصور على درجات ومراتب وإنما يكون لكل درجة ما تحتمله في نفسها دون أن يكون في الفيض الأعلى إمساك عن بعض وإفاضة على بعض .
فالدرجة الأولى احتمالها على نحو أفضل والثانية دون ذلك .
والذي عندنا من العناصر دون الجميع لأن كل ماهية من ماهيات هذه الأشياء إنما تحتمل ما تستطيع أن تلبس من الفيض على النحو الذي هيئت له ولذلك تقع العاهات والتشويهات في الأبدان لما يلزم من ضرورة المادة الناقصة التي لا تقبل الصورة على كمالها الأول والثاني .
قال : إنا لم نجز الأمور على هذا المنهاج ألجأتنا الضرورة إلى أن نقع في محالات فيها من قبلنا كالثنوية وغيرهم .
المسألة الحادية عشرة في كون الحركات سرمدية وأن الحوادث لم تزل .
قال : إن صدور الفعل عن الحق الأول إنما يتأخر لا بزمان بل بحسب الذات .
والفعل ليس مسبوقاً بعدم بل هو مسبوق بذات الفاعل فقط .
ولكن القدماء لما أرادوا أن يعبروا عن العلية افتقروا إلى ذكر القبيلة وكانت القبيلة في اللفظ تتناول الزمان وكذلك في المعنى عند من لم يتدرب فأوهمت عباراتهم أن فعل الأول الحق فعل زماني وأن تقدمه تقدم زماني .
قال : ونحن أثبتنا أن الحركات تحتاج إلى محرك غير متحرك .(13/284)
ثم نقول : الحركات لا تخلو : إما ان تكون لم تزل أو تكون قد حدثت بعد أن لم تكن وقد كان المحرك لها موجوداً بالفعل قادراً ليس يمانعه مانع من أن تكون عنه ولا حدث حادث في حال ما أحدثها فرغبه وحمله على الفعل إذاً : كان جميع ما يحدث إنما يحدث عنه وليس شيء غيره يعوقه أو يرغبه .
ولا يمكن أن يقال : قد كان لا يقدر أن يكون عنه مقدور فقدر أو لم يرد فأراد أو لم يعلم فعلم فإن ذلك كله يوجب الاستحالة ويوجب أن يكون شيئاً آخر غيره هو الذي أحاله .
وإن قلنا : إنه منعه مانع يلزم أن يكون السبب المانع أقوى والاستحالة والتغير عن المانع حركة أخرى استدعت محركاً .
وبالجملة : كل سبب ينسب إليه الحادث في زمان حدوثه بعد جوازه في زمان قبله وبعده فإن ذلك السبب جزئي خاص أوجب حدوث تلك الحادثة التي لم تكن قبل ذلك وإلا فالإرادة الكلية والقدرة الشاملة والعلم الواسع العام : ليس يختص بزمان دون زمان بل نسبته إلى الأزمان كلها نسبة واحدة فلا بد لكل حادث من سبب حادث ويتعالى عنه الواحد الحق الذي لا يجوز عليه التغيير والاستحالة .
قال : وإذا كان لا بد من محرك للمحركات ومن حامل للحركات : تبين أن المحرك سرمدي والحركات سرمدية فالمتحركات سرمدية .
فإن قيل : إن حامل الحركة وهو الجسم لم يحدث لكنه تحرك عن سكون : وجب أن يعثر على السبب الذي يغير من السكون إلى الحركة .
فإن قلنا : إن ذلك الجسم حدث فقد تقدم حدوث الجسم حدوث الحركة .
فقد بان : أن الحركة والمتحرك والزمان الذي هو عاد للحركة : أزلية سرمدية .(13/285)
والحركات إما مستقيمة وإما مستديرة والاتصال لا يكون إلا للمستديرة لأن المستقيم ينقطع والاتصال أمر ضروري للأشياء الأزلية فإن الذي يسكن ليس بأزلي والزمان متصل لأنه لا يمكن أن يكون قطعاً مبتورة فيجب من ذلك أن تكون هي أزلية فيجب أن يكون محرك هذه الحركة المستديرة أيضاً أزلياً إذ لا يكون ما هو أخس علة لما هو أفضل ولا فائدة في محركات ساكنة غير محركة كالصور الأفلاطونية فلا ينبغي أن يضع هذه الطبيعة بلا فعل فتكون متعطلة غير قادرة أن تحيل وتحرك .
المسألة الثانية عشرة في كيفية تركب العناصر .
حكى فرفوريوس عنه أنه قال : كل موجود ففعله مثل طبيعته فما كانت طبيعته بسيطة ففعله بسيط .
والله تعالى واحد بسيط ففعل الله تعالى واحد بسيط وكذلك فعله الاجتلاب إلى الوجود فإنه موجود .
لكن الجوهر لما كان وجوده بالحركة كان بقاؤه أيضاً بالحركة وذلك أنه ليس للجوهر أن يكون موجوداً من ذاته بمنزلة الوجود الأول الحق لكن من التشبه بذلك الأول الحق .
وكل حركة تكون : إما أن تكون مستقيمة أو مستديرة فالحركة المستقيمة يجب أن تكون متناهية والجوهر يتحرك في الأقطار الثلاثة التي هي : الطول والعرض والعمق : على خطوط مستقيمة حركة متناهية فيصير بذلك جسماً .
وبقي عليه أن يتحرك بالاستدارة على الجهة التي يمكن فيها حركة بلا نهاية ولا يسكن في وقت من الأوقات إلا أنه ليس يمكن أن يتحرك بأجمعه حركة على الاستدارة وذلك أن الدائر يحتاج إلى شيء ساكن في وسط منه : كالنقطة فانقسم قال : وكل جسم يتحرك فيماس جسماً ساكناً وفي طبيعته قبول التأثير منه أحدث سخونة فيه وإذا سخن : لطف وانحل وخف فكانت طبيعة النار تلي الفلك المتحرك .
والجسم الذي يلي النار يبعد عن الفلك ويتحرك بحركة النار فتكون حركته أقل فلا يتحرك بأجمعه لكن جزء منه فيسخن دون سخونة النار وهو الهواء .(13/286)
والجسم الذي يلي الهواء لا يتحرك لبعده عن المحرك له فهو بارد لسكونه ورطب لمجاورة الهواء الحار الرطب ولذلك انحل قليلاً وهو الماء .
والجسم الذي في الوسط فإنه بعد في الغاية عن الفلك ولم يستفد من حركته شيئاً ولا قبل منه تأثيراً فيبس وبرد وهو الأرض .
وإذا كانت هذه الأجسام تقبل التأثير بعضها عن بعض .
وتختلط : يتولد عنها أجسام مركبة وهي المركبات المحسوسات التي هي : المعادن والنبات والحيوان والإنسان .
ثم يختص بكل نوع طبيعة خاصة تقبل فيضاً خاصاً على ما قدر الباري جلت قدرته .
المسألة الثالثة عشرة في الآثار العلوية .
قال أرسطوطاليس : الذي يتصاعد من الأجسام السفلية إلى الجو ينقسم قسمين : أحدهما : أدخنة نارية بإسخان الشمس وغيرها .
والثاني : أبخرة مائية فتصعد إلى الجو وقد صحبتها أجزاء أرضية فتتكاثف وتجتمع بسبب ريح أو غيرها فتصير ضباباً أو سحاباً فتصادفها برودة فتعصر ماءً وثلجاً وبرداً فتنزل إلى مركز الماء وذلك لاستحالة الأركان بعضها عن بعض فكما أن الماء يستحيل هواء فيصعد كذلك الهواء يستحيل ماء فينزل .
ثم الرياح والأدخنة إذا احتقنت في خلال السحاب واندفعت مرة سمع لها صوت وهو الرعد ويلمع من اصطكاكها وشدة صدمتها ضياء وهو البرق .
وقد يكون من الأدخنة ما تكون الهنية على مادتها أغلب فيشتعل فيصير شهاباً ثاقباً وهي الشهب .
ومنها ما يحترق في الهواء فيتحجر فينزل : حديداً أو حجراً .
ومنها ما يحترق ناراً فيدفعها دافع فينزل صاعقة .
من المشتعلات ما يبقى فيه الاشتعال ووقف تحت كوكب ودارت به النار الدائرة بدوران الفلك فكان ذنباً له .(13/287)
وربما كان عريضاً فرئي كأنه لحية كوكب وربما وقع صقيل الظاهر من السحاب صور اليرات وأضواؤها كما يقع على المرائي والجدران الصقيلة فيرى ذلك على أحوال مختلفة بحسب اختلاف بعدها من النير وقربها وصفائها وكدورتها في : هالة وقوس قزح وشموس وشهب والمجرة .
وذكر أسباب كل واحد من هذه في كتابه المعروف بالآثار العلوية والسماء والعالم وغيرهما .
المسألة الرابعة عشرة في النفس الإنسانية الناطقة واتصالها بالبدن .
قال : النفس الإنسانية ليست بحسم ولا قوة في جسم وله في إثباتها مآخذ : منها الاستدلال على أما الأول فقال : لا نشك أن الحيوان يتحرك إلى جهات مختلفة حركة اختيارية إذ لو كانت حركاته طبيعية أو قسرية : لتحركت إلى جهة واحدة لا تختلف البتة فلما تحركت إلى جهات متضادة : علم أن حركاته اختيارية .
والإنسان مع أنه مختار في حركاته كالحيوان إلا أنه يتحرك لمصالح عقلية يراها في عاقبة كل أمر فلا تصدر عنه حركاته إلا إلى غرض وكمال وهو في معرفته في عاقبة كل حال .
والحيوان ليست حركاته بطبعه على هذا النهج فيجب أن يتميز الإنسان بنفس خاص كما تميز الحيوان عن سائر الموجودات بنفس خاص .
وأما الثاني وهو المعول عليه قال : إنا لا نشك أنا نعقل ونتصور أمراً معقولاً صرفاً مثل المتصور من الإنسان أنه إنسان كلي يعم جميع أشخاص النوع ومحل هذا المعقول جوهر ليس بحسم ولا قوة في جسم أو صورة لجسم فإنه إن كان جسماً فإما أن يكون محل الصورة المعقولة منه طرفاً منه لا ينقسم أو جملته المنقسمة .
وبطل أن يكون طرفاً منه غير منقسم فإنه لو كان كذلك لكان المحل كالنقطة التي لا تميز لها في الوضع عن الخط فإن الطرف نهاية الخط والنهاية لا يكون لها نهاية أخرى وإلا تسلسل القول فيه فتكون النقط متشافعة ولكل نهاية وذلك محال .
وإن كل محل المعقول من الجسم شيئاً ينقسم .(13/288)
فيجب أن ينقسم المعقول بانقسام محله ومن المعقولات ما لا ينقسم البتة فإن ما ينقسم يجب أن يكون شيئاً كالشكل والمقدار .
والإنسانية الكلية المتصورة في الذهن ليست كشكل قابل للقطع ولا كمقدار قابل للفصل .
فتبين أن النفس ليست بجسم ولا قوة في جسم ولا صورة في جسم .
المسألة الخامسة عشرة في وجه اتصالها بالبدن ووقت اتصالها .
قال : إذا تحقق أنها ليست بجسم لم تتصل بالبدن اتصال انطباع فيه ولا حلول فيه بل اتصلت به اتصال تدبير وتصرف .
وإنما حدثت مع حدوث البدن لا قبله ولا بعده قال : لأنها لو كانت موجودة قبل وجود الأبدان لكانت متكثرة بذواتها وإما متحدة .
وبطل الأول فإن المتكثر إما أن يكون بالماهية والصورة وقد فرضناها متفقة في النوع لا اختلاف فيها فلا تكثر فيها ولا تمايز .
وإما أن تكون متكثرة من جهة النسبة إلى العنصر والمادة المتكثرة بالأمكنة والأزمنة .
وهذا محال أيضاً فإنا إذا فرضناها قبل البدن ماهية مجردة لا نسبة لها إلى مادة دون مادة وهي من حيث إنها ماهية لا اختلاف فيها وأن الأشياء التي ذواتها معان تتكثر تنوعاتها بالحوامل والقوابل والمنفعلات عنها وإذا كانت مجردة فمحال أن يكون بينها مغايرة وكاثرة .
ولعمري إنها تبقى بعد البدن متكثرة فإن الأنفس قد وجد كل منها ذاتاً منفردة باختلاف موادها التي كانت وباختلاف أزمنة حدوثها وباختلاف هيئات وملكات حصلت عند الاتصال بالبدن فهي حادثة مع حدوث البدن تصيره نوعاً كسائر الفصول الذاتية وباقية بعد مفارقة البدن بعوارض معينة له : لم توجد تلك العوارض قبل اتصالها بالبدن .
وبهذا الدليل : فارق أستاذه .
وفارق قدماءه .
وقد وجد في أثناء كلامه ما يدل على أنه يعتقد أن النفس كانت موجودة قبل وجود الأبدان .(13/289)
فحمل بعض مفسري كلامه قوله ذلك على أنه أراد به الفيض والصور الموجودة بالقوة في واهب الصور كما يقال : إن النار موجودة في الحجر والشجر أو الإنسان موجود في النطفة والنخلة موجودة في النواة والضياء موجود في الشمس .
ومنهم من أجراه على ظاهره وحكم بالتمييز بين النفوس بالخواص التي لها وقال : اختصت كل نفس إنسانية بخاصية لم يشاركها فيها غيرها فليست متفقة بالنوع أعني : النوع الأخير .
ومنهم من حكم بالتمييز بالعوارض التي هي مهيأة نحوها وكما أنها تتمايز بعد الاتصال بالبدن بأنها كانت متميزة في المادة : كذلك تتمايز بأنها ستكون متمايزة بالأبدان والصنائع والأفعال واستعداد كل نفس لصنعة خاصة أو علم خاص فتنهض هذه فصولاً ذاتية أو عوارض لازمة لوجودها .
المسألة السادسة عشرة في بقائها بعد البدن وسعادتها في العالم العقلي .
قال : إن النفوس الإنسانية إذا استكملت قوتي العلم والعمل تشبهت بالإله سبحانه وتعالى وو صلت إلى كمالها وإنما هذا التشبه بقدر الطاقة يكون إما بحسب الاستعداد وإما بحسب الاجتهاد فإذا فارق البدن اتصل بالروحانيين وانخرط في سلك الملائكة المقربين .
ويتم له التذاذ والابتهاج .
وليس كل لذة فهي جسمانية فإن تلك اللذات نفسانية عقلية وهذه اللذة الجسمانية تنتهي إلى حد ويعرض للملتذ سآمة وكلال وضعف وقصور .
إن تعدى عن الحد المحدود بخلاف اللذات العقلية فإنها حيثما ازدادت : ازداد الشوق والحرص والعشق .
إليها .
وكذلك القول في الآلام النفسانية فإنها تقع بالضد مما ذكرنا .
ولم يحقق المعاد إلا للأنفس ولم يثبت حشراً ولا نشراً ولا إحلالاً لهذا الرباط المحسوس من العالم ولا إبطالاً لنظامه كما ذكره القدماء .
فهذه نكت كلامه استخرجناها من مواضع مختلفة وأكثرها من شرح ثامسيطيوس وكلام الشيخ أبي على بن سينا الذي يتعصب له وينصر مذهبه ولا يقول من القدماء إلا به .(13/290)
وسنذكر طريقة ابن سينا عند ذكر فلاسفة الإسلام إن شاء الله تعالى .
ونحن الآن ننقل كلمات حكمية لأصحاب أرسطوطاليس ومن نسج على منواله بعده دون الآراء العلمية إذ لا خلاف بينهم في الآراء والعقائد .
ووجدت كلمات وفصولاً للحكيم أرسطوطاليس من كتب متفرقة فنقلتها على الوجه الذي وجدت وإن كان في بعضها ما يدل على أن رأيه على خلاف ما نقله ثامسيطيوس واعتمده ابن سينا : منها في حدوث العالم قال : الأشياء المحمولة أعني الصور المتضادة فليس يكون أحدهما من صاحبه بل يجب أن يكون بعد صاحبه قيتعاقبان على المادة فقد بان أن الصورة تدثر وتبطل .
وإذا دثر معنى وجب أن يكون له بدء لأن الدثور غاية وهو أحد الجنبين : يدل على أن جائياً جاء به .
فقد صح أن الكون حادث لا من شيء وأن الحامل لها غير ممتنع الذات من قبولها وحمله إياها وهي ذات بدء وغاية يدل على أن حواملها ذو بدء وغاية وأنه حادث لا من شيء ويدل على محدث لا بدء له ولا غاية لأن الدثور آخر والآخر ما كان له أول فلو كانت الجواهر والصور لم يزالا فغير جائز استحالتهما لأن الاستحالة دثور الصورة التي بها كان شيء .
وخروج الشيء من حد إلى حد ومن حال إلى حال يوجب دثور الكيفية وتردد المستحيل في الكون والفساد يدل على دثوره وحدوث أحواله يدل على ابتدائه وابتداء جزئه يدل على بدء كله وواجب إن قبل بعض ما في العالم الكون والفساد أن يكون كل العالم قابلاً له وكان له بدء يقبل الفساد وآخر يستحيل إلى كون فالبدء والغاية يدلان على مبدع .(13/291)
وقد سأل بعض الدهرية أرسطوطاليس وقال : إذا كان لم يزل ولاشيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه فقال له : لم غير جائزة عليه لأن لم تقتضي علة والعلة محمولة فيما هي علة له من معل فوقه ولا علة فوقه وليس بمركب فتحمل ذاته العلل فلم عنه منتفية فإنما فعل ما فعل لأنه جواد فقيل : فيجب أن يكون فاعلاً لم يزل قال : معنى لم يزل أن لا أول وفعل يقتضي أولاً واجتماع ما لا أول له وذو أول في القول والذات محال متناقص قيل له : فهل يبطل هذا العالم قال : نعم قيل فإذا أبطله بطل الجود قال : سيبطله ليصوغه الصيغة التي لا تحتمل الفساد لأن هذه الصيغة تحتمل الفساد .
تم كلامه ويعزى هذا الفصل إلى سقراطيس قاله لبقراطيس وهو بكلام الماء أشبه .
ومما نقل عن أرسطوطاليس تحديده العناصر الأربعة قال : الحار : ما خلط بعض ذوات الجنس ببعض وفرق بين بعض ذوات الجنس من بعض .
وقال : البارد : ما جمع بين ذوات الجنس وغير ذوات الجنس لأن البرودة إذا جمدت الماء حتى يصير جليداً : اشتملت على الأجناس المختلفة من الماء والنبات وغيرهما .
قال : والرطب : العسير الانحصار من ذاته اليسير الانحصار من ذات غيره واليابس : اليسير الإنحصار من ذاته العسير الانحصار من ذات غيره والحدان الأولان يدلان على الفعل والآخران يدلان على الانفعال .
ونقل أرسطوطاليس عن جماعة من الفلاسفة : أن مبادئ الأشياء هي العناصر الأربعة .
وعن بعضهم : أن المبدأ الأول هو ظلمة وهاوية وفسره بفضاء وخلاء وعماية .
وقد أثبت قوم من النصارى تلك الظلمة وسموها : الظلمة الخارجة .
ومما خالف أرسطو طاليس أستاذه أفلاطون : أن أفلاطون قال : من الناس من يكون طبعه مهيأ لشيء لا يتعداه فخالفه وقال : إذا كان الطبع سليماً صلح لكل شيء .(13/292)
وكان أفلاطون يعتقد أن النفوس الإنسانية أنواع يتهيأ كلل نوع لشيء ما لا يتعداه وأرسطوطاليس يعتقد أن النفوس الإنسانية نوع واحد وإذا تهيأ صنف لشيء : تهيأ له كل النوع .
والله الموفق .
حكم الإسكندر الرومي وهو ذو القرنين الملك وليس هو المذكور في القرآن بل هو ابن فيلبوس الملك .
وكان مولده في السنة الثالثة عشرة من ملك دارا الأكبر .
سلمه أبوه إلى أرسطوطاليس الحكيم المقيم بمدينة إينياس فاقام عنده خمس سنين يتعلم منه الحكمة والأدب حتى بلغ أحسن المبالغ ونال من الفلسفة ما لم ينله سائر تلاميذه فاسترده والده حين استشعر من نفسه علة خاف منها فلما وصل إليه جدد العهد له وأقبل عليه واستولت عليه العلة فتوفي منها واستقل الإسكندر بأعباء الملك .
فمن حكمه أنه سأله معلمه وهو في المكتب إن أفضي إليك هذا الأمر يوماً ما فأين تضعني قال : بحيث تضعك طاعتك في ذلك الوقت .
وقيل له : إنك تعظم مؤد بك أكثر تعظيمك والدك ! قال : لأن أبي كان سبب حياتي الفانية ومؤدبي هو سبب حياتي الباقية وفي رواية : لأن أبي كان سبب حياتي ومؤدبي سبب تجويد حياتي وفي رواية : لأن أبي كان سبب كوني ومؤدبي كان سبب نطقي .
وقال أبو زكريا الصيمري : لو قيل لي هذا لقلت : لأن أبي كان قضى وطراً بالطبيعة التي اختلفت بالكون والفساد ومؤدبي أفادني العقل الذي به انطلقت إلى ما ليس فيه كون ولا فساد .
وجلس الإسكندر يوماً فلم يسأله أحد حاجة فقال لأصحابه : والله ما أعد هذا اليوم من أيام عمري في ملكي قيل : ولم أيها الملك قال لأن الملك هذا اليوم من أيام عمري في ملكي قيل : ولم أيها الملك قال لأن الملك لا يوجد التلذذ به إلا بالجود على السائل وإغاثة الملهوف ومكافأة المحسن وإلا بإنالة الراغب وإسعاف الطالب .
وكتب إليه أرسطوطاليس في كلام طويل .(13/293)
اجمع في سياستك بين : بدار لا حدة فيه وريث لا غفلة معه وامزج كل شكل بشكله حتى يزداد قوة وعزة عن ضده حتى يتميز لك بصورته وصن وعدك عن الخلف فإنه شين وشب وعيدك بالعفو فإنه زين وكن عبداً للحق فإن عبد الحق حر وليكن وكدك الإحسان إلى جميع الخلق ومن الإحسان وضع الإساءة في موضعها .
وأظهر لأهلك أنك منهم ولا صحابك أنك بهم ولرعيتك أنك لهم .
وتشاور الحكماء في أن يسجدوا له إجلالاً وتعظيماً فقال : لا سجود لغير بارئ الكل بل يحق له السجود على من كساه بهجة الفضائل .
وأغلظ له رجل من أهل أثينية فقام إليه بعض قواده ليقابله بالواجب فقال له الإسكندر : دعه : لا تنحط إلى دناءته ولكن ارفعه إلى شرفك .
وقال الإسكندر : من كنت تحب الحياة لأجله فلا تستعظم الموت بسببه .
وقيل له : إن روشنك امرأتك : بنت دارا الملك وهي من أجمل النساء فلو قربتها إلى نفسك ! قال : أكره أن يقال : غلب الإسكندر دارا وغلبت روشنك الإسكندر .
وقال : من الواجب على أهل الحكمة أن يسرعوا إلى قبول اعتذار المذنبين وأن يبطئوا عن العقوبة .
وقال : سلطان العقل على باطن العاقل أشد تحكماً من سلطان السيف على ظاهر الأحمق .
وقال : ليس الموت بألم للنفس بل للجسد .
وقال : إن نظم جميع ما في الأرض شبيهة بالنظم السماوي لأنها أمثال له بحق .
وقال : العقل لا يألم في طلب معرفة الأشياء بل الجسد يألم ويسأم .
وقال : النظر في المرآة يرى رسم الوجه وفي أقاويل الحكماء يرى رسم النفس .
ووجدت في عضده صحيفة فيها : قلة الاسترسال إلى الدنيا أسلم والاتكال على القدر أروح وعند حسن الظن تقر العين ولا ينفع مما هو واقع التوقي .(13/294)
وقال بعضهم عنه : إنه أخذ يوماً تفاحة فقال : ما ألطف قبول هذه الهيولى الشخصية لصورتها وانفعالها لما تؤثر الطبيعة فيها من الأوضاع الروحانية : من تركيب بسيط وبسط مركب حسب تمثيل النفس لها كل ذلك دليل على إبداع مبدع الكل وإله الكل .
ولو قيل : وألطف منها قبول هذه النفس الإنسانية لصورتها العقلية وانفعالها لما تؤثر النفس الكلية فيها من العلوم الروحانية : من تركيب بسيط وبسط مركب حسب تمثيل العقل لها وكل ذلك دليل على إبداع مبدع الكل وإله الكل .
وسأله أطوسايس الكلي أن يعطيه ثلاث حبال فقال الإسكندر : ليست هذه عطية ملك فقال الكلبي : أعطني مائة رطل من الذهب فقال : ولا هذه مسألة كلبي .
وقال بعضهم : كنا عند شبر المنجم إذا وصل إلينا الإسكندر الملك فأقامنا في جوف الليل وأدخلنا بستاناً له ليرينا النجوم فجعل شبر يشير إليها بيده ويسير حتى سقط في بئر فقال : من تعاطى علم ما فوقه بلى بجهل ما تحته .
وقال السعيد من لا يعرفنا ولا نعرفه لأنا إذا عرفناه أطلنا يومه وأطرنا نومه .
وقال استقلل كثير ما تعطى واستكثر قليل ما تأخذ فإن قرة عين الكريم فيما يعطي ومسرة اللئيم فيما يأخذ .
ولا تجعل الشحيح أميناً ولا الكذاب صفياً فإنه لا عفة مع شح ولا أمانة مع كذب .
وقال : الظفر : بالحزم والحزم : بإحالة الرأي وإحالة الرأي : بتحصين الأسرار .
ولما توفي الإسكندر برومية المدائن : وضعوه في تابوت من ذهب وحملوه إلى الإسكندرية وكان قد عاش اثنتين وثلاثين سنة وملك اثنتي عشرة سنة وندب جماعة من الحكماء لندبته .
فقال بليموس : هذا يوم عظيم العبرة : أقبل من شره ما كان مدبراً وأدبر من خيره ما كان مقبلاً فمن كان باكياً على من زال ملكه فليبكه .
وقال ميلاطوس : خرجنا إلى الدنيا جاهلين وأقمنا فيها غافلين وفارقناها كارهين .(13/295)
وقال زينون الأصغر : يا عظيم الشأن ! ما كنت إلا ظل سحاب اضمحل لما أظل فما تحس لملكك أثراً ولا نعرف له خيراً .
وقال أفلاطون الثاني : أيها الساعي المغتصب ! جمعت ما خذلك وتوليت ما تولى عنك فلزمتك أوزاره وعاد على غيرك مهنئوه وثماره .
وقال فوطس : ألا تتعجبون ممن لم يعظنا اختياراً حتى وعظنا بنفسه اضطراراً ! .
وقال مسطورس : قد كنا ب الأمس نقدر على الاستماع ولا نقدر على القول واليوم نقدر على القول فهل نقدر على الاستماع .
وقال ثاون : انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى وإلى ظل الغمام كيف انجلى .
وقال سوس : كم قد أمات هذا الشخص لئلا يموت فمات فكيف لم يدفع عن نفسه بالموت .
وقال حكيم : طوى الأرض العريضة فلم يقنع حتى طوى منها في ذراعين .
وقال آخر : ما سافر الإسكندر سفراً بلا أعوان ولا آلة ولا عدة .
غير سفره هذا .
وقال آخر : ما ارغبنا فيما فارقت وأغفلنا عما عاينت .
وقال آخر : لم يؤدينا بكلامه كما أدبنا بسكوته .
وقال آخر : من يرى هذا الشخص فليتق وليعلم أن الديون هكذا قضاؤها .
وقال آخر : قد كان بالأمس طلعته علينا حياة واليوم النظر إليه سقيم .
وقال آخر : قد كان يسأل عما قبله ولا يسال عما بعده .
وقال آخر : الآن تضطرب الأقاليم لأن مسكنها قد سكن .
وقال آخر : الآن وقت الانصراف لأن الأشخاص يتوجهون من دار إلى دار والله تعالى يبقى ولا يفنى .
حكم ديوجانس الكلبي وكان حكيماً فاضلاً متقشفاً لا يقتني شيئاً ولا يأوي إلى منزل وكأنه من قدرية الفلاسفة لما يوجد في مدارج كلامه من الميل إلى القدر .
قال : ليس الله تعالى علة الشرور بل الله تعالى علة الخيرات والفضائل والجود والعقل .
جعلها بين خلقه فمن كسبها وتمسك بها نالها لأنه لا يدرك الخيرات إلا بها .(13/296)
وسأله الإسكندر يوماً فقال : بأي شيء يكتسب الثواب قال : بأفعال الخيرات وإنك لتقدر أيها الملك أن تكتسب في يوم واحد ما لا تقدر الرعية أن تكسبه في دهرها .
وسأله عصبة من أهل الجهل : ما غذاؤك قال : ما عفتم يعني الحكمة .
قالوا : فما عفت قال : ما استطبتم يعني الجهل .
قالوا : كم عبد لك قال : أربابكم يعني : الغضب والشهوة والأخلاق الرديئة الناشئة منهما .
وقالوا له يوماً : ما أقبح صورتك ! قال : لم أملك الخلقة الذميمة فألام عليها .
ولا ملكتم الخلقة الحسنة فتحمدوا عليها وأما ما صار في ملكي وأتى عليه تدبيري فقد استكملت تزيينه وتحسينه بغاية الطوق وقاصية الجهد واستكملتم شين ما في ملككم .
قالوا : فما الذي في الملك من التزيين والتهجين قال : أما التزيين فعمارة الذهن بالحكمة .
وجلاء العقل بالأدب وقمع الشهوة بالعفاف وردع الغضب بالحلم وقطع الحرص بالقنوع وإماتة الحسد بالزهد وتذليل المرح بالسكون ورياضة النفس حتى تصير مطية قد ارتاضت فتصرفت حيث صرفها فارسها في طلب العليات وهجر الدنيات .
ومن التهجين : تعطيل الذهن من الحكمة وتوسيخ العقل بضياع الأدب وإثارة الشهوة بأتباع الهوى وإضرام الغضب بالانتقام وإمداد الحرص بالطلب .
وقدم إليه رجل طعاماً وقال له : استكثر منه فقال : عليك بتقديم الأكل وعلينا باستعمال العدل .
وقال زمام العافية بيد البلاء ورأس السلامة تحت جناح العطب وباب الأمن مستور بالخوف فلا تكون في حال من هذه الثلاث غير متوقع لضدها .
وقيل له : مالك لا تغضب قال : أما غضب الإنسانية فقد أغضبه وأما غضب البهيمة فقد تركته لترك الشهوة البهيمة .
واستدعاه الملك الإسكندر يوماً إلى مجلسه فقال للرسول : قل له : إن الذي منعك من المصير إلينا هو الذي منعنا من المصير إليك منعك استغناؤك عني بسلطانك ومنعني استغنائي عنك بقناعتي .(13/297)
وعابته امرأة يونانية بقبح الوجه ودمامة الصورة فقال : منظر الرجال بعد المخبر ومخبر النساء بعد المنظر فخجلت وتابت .
ووقف عليها الإسكندر يوماً فقال له : ما تخافني قال : أنت خير أم شرير قال : بل خير قال : فما لخوفي من الخير معنى بل يجب على رجاؤه .
وكان لأهل مدينة من بلاد اليونان صاحب جيش جبان وطبيب لم يعالج أداً إلا قتله فظهر عليهم عدو ففزعوا إليه فقال : اجعلوا طبيبكم صاحب لقاء العدو واجعلوا صاحب جيشكم طبيب .
وقال : اعلم أنك ميت لا محالة فاجتهد أن تكون حياً بعد موتك لئلا تكون لميتتك ميتة ثانية .
وقال كما أن الأجسام تعظم في العين في اليوم الضباب كذلك تعظم الذنوب عند الإنسان في حال الغضب .
وسئل عن العشق فقال : هو اختيار صادف نفساً فارغة .
ورأى غلاماً معه سراج فقال له : تعلم من أين تجيء هذه النار فقال له الغلام : إن أخبرتني إلى أين تذهب أخبرتك من أين تجيء فأعياه وأفحمه بعد أن لم يكن يقوى عليه أحد .
ورأى امرأة قد حملها الماء فقال : على هذا المعنى جرى المثل : دع الشر يغسله الشر .
ورأى امرأة تحمل ناراً فقال : نار على نار وحامل شر من محمول .
ورأى امرأة متزينة في ملعب لم تخرج لترى ولكن لتري .
ورأى نساءً يتشاورن فقال : على هذا جرى المثل : هو ذا الثعبان يستقرض من الأفاعي سماً .
ورأى جارية تتعلم الكتابة فقال : يسقي هذا السهم سماً ليرمى به يوماً ما .
ورأى امرأة ضاحكة فقال : لو كنت تدركين الموت لما كنت ضاحكة أبداً .
وقال للاسكندر يوماً وكان يقربه ويدنيه ويأنس بكلامه : أيها الملك ! قد آمنت بالفقر فليكن غناك اقتناء الحمد وابتغاء المجد .
حكم الشيخ اليوناني وله رموز وأمثال .(13/298)
منها قوله : إن أمك رءوم لكنها فقيرة رعناء وإن أباك لحدث لكنه جواد مقدر يعني بالأم الهيولى وبالأب الصورة وبالرءوم انقيادها وبالفقر احتياجها إلى الصورة وبالرعونة قلة ثباتها على ما تحصل عليه وأما حداثة الصورة : أي هي مشرقة لك بملابسة الهيولى وأما جودها : أي النقص لا يعتريها من قبل ذاتها فإنها جواد لكن من قبل قبول الهيولى فإنها إنما تقبل على تقديرها .
وهذا ما فسر به رمزه ولغزه .
وحمل الأم على الهيولى صحيح مطابق للمعنى وليس حمل الأب على الصورة بذلك الوضوح بل حمله على العقل الفعال الجواد الواهب للصور على قدر استعدادات القوابل أظهر .
وقال : لك نسبان : نسب إلى أبيك ونسب إلى أمك .
أنت بأحدهما أشرف وبالآخر أوضع فانتسب في ظاهرك وباطنك إلى من أنت به أشرف وتبرأ في ظاهرك وباطنك ممن أنت فيه أوضع فإن الولد الفسل يحب أمه أكثر مما يحب أباه وذلك دليل وذلك دليل على دخل العرق وفساد المحتد .
قيل : أراد بذلك : الهيولى والصورة أو البدن والنفس أو الهيولى والعقل الفعال .
وقال : قد ارتفع إليك خصمان منك يتنازعان فيك : أحدهما محق والآخر مبطل فاحذر أن تقضي بينهما بغير الحق فتهلك أنت .
والخصمان : أحدهما العقل والثاني الطبيعة .
وقال : كما أن البدن الخالي من النفس يفوح منه نتن الجيفة كذلك النفس الخالية من الأدب يحس نقصها بالكلام والأفعال .
وقال : الغائب المطلوب في طي الشاهد الحاضر .
وقال أبو سليمان السجزي مفهوم هذا الإطلاق أن كل ما هو عندنا بالحس ها هنا فهو بالعقل لنا هناك .
إلا أن الذي عندنا ظل ذاك ولأن من شاء الظل أنه كما يريك الشيء الذي هو ظله مرة فاضلاً عما هو عليه ومرة قالصاً عما هو به ومرة على قدره .(13/299)
عرض الحسبان والتوهم وصارا مزاحمين لليقين والتحقيق فينبغي أن تكون عنايتنا بطلب البقاء الأبدي والوجود السرمدي أتم وأظهر وأبقى وأبلغ فبالحق : ما كان الغائب طي الشاهد وبتصفح هذا الشاهد يصح ذلك الغائب .
وقال الشيخ اليوناني : النفس جوهر كريم شريف يشبه دائرة قد دارت على مركزها غير أنها دائرة لا بعد لها ومركزها هو العقل وكذلك العقل هو كدائرة قد استدارت على مركزها وهو الخير الأول المحض .
غير أن النفس والعقل وإن كانا دائرتين لكن دائرة العقل لا تتحرك أبداً بل هي ساكنة ذاتية شبيهة بمركزها وأما دائرة النفس فإنها تتحرك على مركزها وهو العقل حركة الاستكمال .
على أن دائرة العقل وإن كانت دائرة شبيهة بمركزها لكنها تتحرك حركة الاشتياق لأنها تشتاق إلى مركزها وهو الخير الأول .
وأما دائرة العالم السفلى فإنها تدور حول النفس وإليها تشتاق وإنما تتحرك بهذه الحركة الذاتية شوقاً إلى النفس كشوق النفس إلى العقل وشوفق العقل إلى الخير المحض الأول ولأن دائرة هذا العالم جرم والجرم يشتاق إلى الشيء الخارج منه ويحرص على أن يصير إليه فيعانقه فلذلك يتحرك الجرم الأقصى الشريف حركة مستديرة أن يصير إليه فيعانقه فلذلك يتحرك الجرم الأقصى الشريف حركة مستديرة لأنه يطلب النفس من جميع النواحي لينالها فيستريح إليها ويسكن عندها .
وقال : ليس للمبدع الأول صورة ولا حلية مثل صور الأشياء العالية ولا مثل صور الأشياء السافلة ولا له قوة مثل قواها لكنه فوق كل صورة وحلية وقوة لأنه مبدعها بتوسط العقل .
وقال : المبدع الحق ليس شيئاً من الأشياء وهو جميع الأشياء لأن الأشياء منه وقد صدق الأفاضل الأوائل في قولهم : مالك الأشياء كلها هو الأشياء كلها إذ هو علة كونها بآنيته فقط وعلة شوقها إليه .(13/300)
وهو خلاف الأشياء كلها وليس فيه شئ مما أبدعه ولا يشبه شيئاً منه ولو كان كذلك لما كان علة الأشياء كلها وإذا كان العقل واحداً من الأشياء فليس فيه عقل ولا صورة ولا حلية .
أبدع الأشياء بآنيته فقط وبآنيته يعلمها ويحفظها ويدبرها .
لا بصفة من الصفات وإنما وصفناه بالحسنات والفضائل لأنه علتها وأنه الذي جعلها في الصور فهو مبدعها .
قال : وإنما تفاضلت الجواهر العالية العقلية لاختلاف قبولها من النور الأول جل وعز فلذلك صارت ذوات مراتب شتى : فمنها ما هو أول في المرتبة ومنها ما هو ثان ومنها ما هو ثالث فاختلفت الأشياء بالمراتب والفصول لا بالمواضع والأماكن وكذلك الحواس تختلف بأماكنها وقال : المبدع ليس بمتناه لا كأنه جثة بسيطة وإنما عظم جوهره بالقوة والقدرة لا بالكمية والمقدار فليس للأول صورة ولا حلية ولا شكل فلذلك صار محبوباً معشوقاً تشتاقه الصور العالية والسافلة وإنما اشتاقت إليه صور جميع الأشياء لأنه أبدعها وكساها من وجوده حلية الوجود .
وهو قديم دائم على حاله لا يتغير والعاشق يحرص على أن يصير إليه ويكون معه وللمعشوق الأول عشاق كثيرون وقد يفيض عليهم كلهم من نوره من غير أن ينقص منه شيء لأنه ثابت قائم بذاته لا يتحرك .
وأما المنطق الجزئي فإنه لا يعرف الشيء إلا معرفة جزئية وشوق العقل الأول إلى المبدع الأول أشد من شوق سائر الأشياء لأن الأشياء كلها تحته وإذا اشتاق إليه العقل لم يقل للعقل لم صرت مشتاقاً إلى الأول إذ العشق لا علة له .
وأما المنطق الذي يختص بالنفس قيفحص عن ذلك ويقول : إن الأول هو المبدع الحق وهو الذي لا صورة له وهو مبدع الصور فالصور كلها تحتاج إليه وتشتاق إليه وذلك أن كل صورة تطلب مصورها ة تحن إليه .
وقال : إن الفاعل الأول أبدع الأشياء كلها بغاية الحكمة .(13/301)
لا يقدر أحد أن ينال علل كونها ولم كانت على الحال التي هي الآن عليها ولا أن يعرفها كنه معرفتها ولم صارت الأرض في الوسط ولم كانت مستديرة ولم تكن مستطيلة ولا منحرفة إلا أن يقول : إن الباري صيرها كذلك وإنما كانت بغاية الحكمة الواسعة لكل حكمة .
وكل فاعل يفعل بروية وفكرة لا بآنيته فقط بل يفصل فيه فلذلك يكون فعله لا بغاية الثقافة والإحكام .
والفاعل الأول لا يحتاج في إبداع الأشياء إلى روية وفكر وذلك أنه ينال العلل بلا قياس بل يبدع الأشياء ويعلم عللها قبل الروية والفكر .
والعلل والبرهان والعلم والقنوع .
و سائر ما أشبه ذلك : إنما كانت أجزاء وهو الذي أبدعها وكيف يستعين بها وهي لم تكن بعد ! .
حكم ثاوفرسطيس كان هذا الرجل من كبار تلامذة أرسطوطاليس وكبار أصحابه واستخلفه على كرسي حكمته بعد وفاته وكانت المتفلسفة في عهده تختلف إليه وتقتبس منه .
وله كتب الشروح الكثيرة والتصانيف المعتبرة وبالخصوص في الموسيقات .
فمما يؤثر عنه أنه قال : الإلهية لا تتحرك ومعناه لا تتغير ولا تتبدل : لا في الذات ولا سنة الأفعال .
وقال : السماء مسكن الكواكب والأرض مسكن الناس على أنهم مثل وشبه لما في السماء فهم الآباء والمدبرون ولهم نفوس وعقول مميزة ليس لها أنفس نباتية فلذلك لا تقبل الزيادة ولا النقصان .
وقال : الغناء فضيلة في المنطق أشكلت على النفس وقصرت عن تبيين كنهها فأبرزتها لحونا وأثارت بها شجونا وأضمرت في عرضها فنونا وفتونا .
وقال : الغناء شئ يخص النفس دون الجسد فيشغلها عن مصالحها .
كما أن لذة المأكول والمشروب شيء يخص الجسم دون النفس .
وقال : إن النفوس إلى اللحون إذا كانت محجبة أشد إصغاء منها إلى ما قد تبين لها وظهر معناه عندها .(13/302)
وقال : إن العقل نحوان : أحدهما مطبوع والآخر مسموع فالمطبوع منه كالأرض والمسموع منه كالبذر والماء فلا يخلص للعقل المطبوع عمل دون أن يرد عليه العقل المسموع فينبهه من نومه ويطلقه من وثاقه ويقلقه من مكانه كما يستخرج البذر والماء ما في قعر الأرض .
وقال : الحكمة غنى النفس والمال غنى البدن وطلب غنى النفس أولى لأنها إذا غنيت بقيت والبدن إذا غني فنى وغنى النفس ممدود وغنى البدن محدود .
وقال : ينبغي للعاقل أن يداري الزمان مداراة رجل لا يسبح في الماء الجاري إذا وقع .
وقال لا يغبطن بسلطان من غير عدل ولا بغنى من غير حسن تدبير ولا ببلاغة من غير صدق منطق ولا بجود في غير إصابة موضع ولا بأدب من غير أصالة رأي ولا بحسن عمل في غير حينه .
شبه برقلس في قدم العالم إن القول في قدم العالم وأزلية الحركات بعد إثبات الصانع والقول بالعلة الأولى : إنما شهر بعد أرسطوطاليس لأنه خالف القدماء صريحاً وأبدع هذه المقالة على قياسات ظنها حجة وبرهاناً فنسج على منواله من كان من تلامذته وصرحوا القول فيه مثل الأسكندر الإفروديسي وثامسطيوس وفورفوريوس .
وصنف فورقلس المنتسب إلى أفلاطونفي هذه المسألة كتاباً وأورد فيه هذه الشبه وإلا فالقدماء إنما أبدوا فيه ما نقلناه سالفاً .
الشبهة الأولى : قال : إن الباري تعالى جواد بذاته وعلة وجود العالم جوده وجوده قديم لم يزل فيلزم أن يكون وجود العالم قديماً لم يزل .
قال : ولا يجوز أن يكون مرة جواداً ومرة غير جواد فإنه يوجب التغير في ذاته فهو جواد لذاته لم يزل .
قال : ولا مانع من فيض جوده إذ لو كان مانع لما كان من ذاته بل من غيره وليس لواجب الوجود لذاته حامل على شيء ولا مانع من شيء .(13/303)
الشبهة الثانية : قال : ليس يخلو الصانع من أن يكون لم يزل صانعاً بالفعل أو لم يزل صانعاً بالقوة فإن كان الأول فالمصنوع معلول لم يزل وإن كان الثاني فما بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بمخرج ومخرج الشيء من القوة إلى الفعل غير ذات الشيء فيجب أن يكون له مخرج من خارج يؤثر فيه وذلك ينافي كونه صانعاً مطلقاً لا يتغير ولا يتأثر .
الشبهة الثالثة : قال : كل علة لا يجوز عليها التحرك والاستحالة فإنما تكون علة من جهة ذاتها لا من جهة الانتقال من غير فعل إلى فعل وكل علة من جهة ذاتها فمعلومها من جهة ذاتها وإذا كانت ذاتها لم تزل فمعلومها لم يزل .
الشبهة الرابعة : قال : إن الزمان لا يكون موجوداً إلا مع الفلك ولا الفلك إلا مع الزمان لأن الزمان هو العاد لحركات الفلك .
ثم لا يجوز أن يقال متى وقبل إلا حين يكون الزمان ومتى وقبل أبدى فالزمان أبدى فحركات الفلك أبدية فالفلك أبدى .
الشبهة الخامسة : قال : إن العالم حسن النظام كامل القوام وصانعه جواد خير ولا ينقض الجيد الحسن إلا شرير وصانعه ليس بشرير وليس يقدر على نقضه غيره فليس ينتقض أبداً وما لا ينتقض أبداً كان سرمداً .
الشبهة السادسة : قال : لما كان الكائن لا يفسد إلا بشيء غريب يعرض له ولم يكن شيء غريب عن العالم خارجاً منه يجوز أن يعرض فيفسد : ثبت أنه لا يفسد وما لا يتطرق إليه الشبهة السابعة : قال : إن الأشياء التي هي في المكان الطبيعي لا تتغير ولا تتكون ولا تفسد وإنما تتغير وتتكون وتفسد إذا كانت في أماكن غريبة فتتجاذب إلى أماكنها كالنار التي في أجسادنا تحاول الانفصال إلى مركزها فينحل الرباط فيفسد إذ الكون والفساد إنما يتطرق إلى المركبات لا إلى البسائط التي هي أركان في أماكنها .
ولكنها هي بحالة واحدة وما هو بحال واحدة فهو أزلي .(13/304)
الشبهة الثامنة : قال : العقل والنفس والأفلاك تتحرك على الاستدارة والطبائع تتحرك إما عن الوسط وإما إلى الوسط على الاستقامة وإذا كان كذلك كان التفاسد في العناصر إنما هو لتضاد حركاتها والحركة الدورية لا ضد لها فلم يقع فيها فساد .
قال : وكليات العناصر إنما تتحرك على استدارة وإن كانت الأجزاء منها تتحرك على الاستقامة فالفلك وكليات العناصر لا تفسد وإذا لم يجز أن يفسد العالم لم يجز أن يتكون .
وهذه الشبهات هي التي يمكن أن يقال عليها فتنقص وفي كل واحدة منها نوع مغالطة وأكثرها تحكمات .
وقد أقرت لها كتاباً أوردت فيه : شبهات أرسطوطاليس وهذه وتقريرات أبي علي ابن سينا ونقضتها على قوانين منطقية .
فليطلب ذلك .
ومن المتعصبين لبرقلس من مهد له عذرا في ذكر هذه الشبهات وقال : إنه كان يناطق الناس وكان أهل زمانه الذين يناطقونه جسمانيين وإنما دعاه إلى ذكر هذه الأقوال مقاومتهم إياه فخرج من طريق الحكمة والفلسفة من هذه الجهة لأن من الواجب على الحكيم أن يظهر العلم على طرق كثيرة يتصرف فيها كل ناظر بحسب نظره ويستفيد منها بحسب فكره واستعداده فلا يجد على قوله مسلخاً ولا يصيب مقالاً ولا مطعناً لأن برقلس لما كان يقول بدهر هذا العالم وإنه باق لا يدثر وضع كتاباً في هذا المعنى فطالعه من لم يعرف طريقته ففهموا منه جسمانية قوله دون روحانيته فنقضوه على مذهب الدهرية .(13/305)
وفي هذا الكتاب يقول : لما اتصلت العوالم بعضها ببعض وحدثت القوى الواصلة فيها وحدثت المركبات من العناصر : حدثت قشور واستنبطت لبوب فالقشور داثرة واللبوب قائمة دائمة لا يجوز الفساد عليها لأنها بسيطة وحيدة القوى فانقسم العالم إلى عالمين : عالم الصفوة واللب وعالم الكدورة والقشر فاتصل بعضه ببعض وكان آخر هذا العالم من بدء ذلك العالم فمن وجه : لم يكن بينهما فرق فلم يكن هذا العالم داثراً إذ كان متصلاً بما ليس يدثر ومن وجه : دثرت القشور وزالت الكدرة وكيف تكون القشور غير داثرة ولا مضمحلة وما لم تزل القشور باقية كانت اللبوب خافية ! وأيضاً : فإن هذا العالم مركب والعالم الأعلى بسيط وكل مركب ينحل حتى يرجع إلى البسيط الذي تركب منه وكل بسيط باق دائماً غير مضمحل ولا متغير .
قال الذي يذب عن برقلس : هذا الذي نقل عنه هو المنقول عن مثله بل الذي أضاف إليه هذا القول الأول لا يخلو من أحد أمرين : إما أنه لم يقف على مرامه للعلة التي ذكرنا فيما سلف وإما لأنه كان محسوداً عند أهل زمانه لكونه بسيط الفكر واسع النظر ساير القوى وكانوا أولئك أصحاب أوهام وخيالات فإنه يقول في موضع من كتابه : إن الأوائل منها تكونت العوالم وهي باقية لا تدثر ولا تضمحل وهي لازمة الدهر ماسكة له إلا أنها من أول لا يوصف بصفة ولا يدرك بنعت ونطق لأن صور الأشياء كلها منه وتحته وهي الغاية والمنتهى التي ليس فوقها جوهر هو أعظم منها إلا الأول الواحد وهو الأحد الذي قوته أخرجت هذه الأوائل وقدرته أبدعت هذه المبادئ .(13/306)
وقال أيضاً : إن الحق لا يحتاج إلى أن يعرف ذاته لأنه حق حقاً بلا حق وكل حق حقاً فهو تحته إنما هو حق حقاً إذ حققه الموجب له الحق فالحق هو الجوهر الممد للطباع الحياة والبقاء وهو أفاد هذا العالم بدءاً وبقاء بعد دثور قشوره وزكي البسيط الباطن من الدنس الذي كان فيه قد علق فيه وقال : إن هذا العالم إذا اضمحلت قشوره وذهب دنسه وصار بسيطاً روحانياً بقي بما فيه من الجواهر الصافية النورانية في حد المراتب الروحانية مثل العوالم العلوية التي بلا نهاية وكان هذا واحداً منها وبقي جوهر كل قشر ودنس وخبث ويكون له أهل يلبسه لأنه غير جائز أن تكون الأنفس الطاهرة التي لا تلبس القشور والأدناس مع الأنفس الكثيرة القشور في عالم واحد وإنما يذهب من هذا العالم ما ليس من جهة المتوسطات الروحانية وما كان القشر والدنس عليه أغلب فأما ما كان من الباري تعالى بلا متوسط أو كان من متوسط بلا قشر : فإنه لا يضمحل .
قال : وإنما يدخل القشر على الشيء من غير المتوسطات فيدخل عليه بالعرض لا بالذات وذلك إذا كثرت المتوسطات وبعد الشيء عن الإبداع الأول لأنه حيثما قلت المتوسطات في الشيء : كان أنور وأقل قشوراً ودنساً وكلما قلت القشور والدنس كانت الجواهر أصفى والأشياء أبقى .
ومما ينقل عن برقلس أنه قال : إن الباري تعالى عالم بالأشياء كلها : أجناسها وأنواعها وأشخاصها .
وخالف بذلك أرسطوطاليس فإنه قال : يعلم أجناسها وأنواعها دون أخاصها الكائنة الفاسدة فإن علمه يتعلق بالكليات دون الجزئيات كما ذكرنا .
ومما ينقل عنه في قدم العالم قوله : لن يتوهم حدوث العالم إلا بعد أن يتوهم أنه لم يكن فأبدعه الباري تعالى في الحالة التي لم يكن .(13/307)
وفي الحالة التي لم يكن لا يخلو من حالات ثلاث : إما أن الباري لم يكن قادراً فصار قادراً وذلك محال لأنه قادر لم يزل وإما أنه لم يرد فأراد وذلك محال أيضاً لأنه مريد لم يزل وإما أنه لم تقتض الحكمة وجوده وذلك محال أيضاً لأن الوجود أشرف من العدم على الإطلاق .
فإذا بطلت هذه الجهات الثلاث : تشابهاً في الصفة الخاصة وهي القدم على أصل المتكلم وكان القدم بالذات له دون غيره وإن كانا معا في الوجود .
والله الموفق .
رأي ثامسطيوس وهو الشارح لكلام الحكيم أرسطوطاليس وإنما يعتمد شرحه إذ كان أهدى القوم إلى إشارته ورموزه وهو على رأي أرسطوطاليس في جميع ما ذكرنا من إثبات العلة الأولى واختار من المذاهب في المبادئ قول من قال : إن المبادئ ثلاثة : الصورة والهيولي والعدم وفرق بين العدم المطلق والعدم الخاص فإن عدم صورة بعينها عن مادة تقبلها مثل عدم السيفية عن الحديد ليس كعدم السيفية عن الصوف فإن هذه المادة لا تقبل هذه الصورة أصلا .
وقال : إن الأفلاك حصلت من العناصر الأربعة لا أن العناصر حصلت من الأفلاك ففيها نارية وهوائية ومائية وأرضية إلا أن الغالب على الأفلاك هو النارية كما أن الغالب على المركبات السفلية هو الأرضية .
والكواكب نيران مشتعلة حصلت تراكيبها على وجه لا يتطرق إليها الانحلال لأنها لا تقبل الكون والفساد والتغير والاستحالة وإلا فالطبائع واحدة .
.
والفرق يرجع إلى ما ذكرنا .
ونقل ثامسطيوس عن أرسطوطاليس وثاون وأفلاطون وثاوفرسطيس وفرفوريوس وفلوطرخيس وهو رأيه : أن في العالم أجمع طبيعة واحدة عامة وكل نوع من أنواع النبات والحيوان مختص بطبيعة خاصة وحدوا الطبيعة العامة بأنها مبدأ الحركات في الأشياء والسكون فيها على الأمر الأول من ذواتها وهي علة الحركة في المتحركات وعلة السكون في الساكنات .(13/308)
وزعموا : أن الطبيعة هي التي تدبر الأشياء كلها في العالم حيوانه ونباته ومواته تدبيراً طبيعياً وليست هي حية ولا قادرة ولا مختارة ولكن لا تفعل إلا حكمة وصواباً وعلى نظم صحيح وترتيب محكم .
قال ثامسطيوس : قال أرسطوطاليس في مقالة اللام : إن الطبيعة تفعل ما تفعل من الحكمة والصواب وإن لم تكن حيواناً لأنها ألهمت من سبب هو أكرم منها وأوماً إلى أن السبب هو الله عز وجل .
وقال أيضاً : إن الطبيعة طبيعتان : طبيعة هي مستعلية على الكون والفساد بكليتها وجزئيتها يعني الفلك والنيرات وطبيعة يلحق جزئياتها الكون والفساد لا كلياتها يريد بالجزئيات الأشخاص وبالكليات الأسطقسات .
رأي الإسكندر الأفروديسي وهو من كبار الحكماء رأياً وعلماً .
وكلامه أمتن ومقالته أرصن .
وافق أرسطوطاليس في جميع آرائه وزاد عليه في الاحتجاج على أن الباري تعالى عالم بالأشياء كلها كلياتها وجزئياتها ومما انفرد به أن قال : كل كوكب ذو نفس وطبع وحركة من جهة نفسه وطبعه ولا يقبل التحريك من غيره أصلاً بل إنما يتحرك بطبعه واختياره إلا أن حركاته لا تختلف أبداً لأنها دورية .
وقال : لما كان الفلك محيطاً بما دونه وكان الزمان جارياً عليه لأن الزمان هو العاد للحركات أو هو عدد الحركات ولما لم يكن يحيط بالفلك شئ آخر ولا كان الزمان جارياً عليه .
لم يجز أن يفسد الفلك ويكون فلم يكن قابلاً للكون والفساد وما لم يقبل الكون والفساد كان قديماً أزلياً .
وقال في كتابه في النفس : إن الصناعة تتقبل الطبيعة .
وإن الطبيعة لا تتقبل الصناعة .
وقال : للطبيعة لطف وقوة وإن أفعالها تفوق في البراعة واللطف كل أعجوبة يتلطف فيها بصناعة من الصناعات .
وقال في ذلك الكتاب : لا فعل للنفس دون مشاركة البدن حتى التصور بالعقل فإنه مشترك بينهما وأومأ إلى أنه لا يبقى للنفس بعد مفارقتها قوة أصلاً حتى القوة العقلية .(13/309)
وخالف بذلك أستاذه أرسطوطاليس فإنه قال : الذي يبقى مع النفس من جميع مالها من القوة هي القوة العقلية فقط ولذاتها في ذلك العالم مقصورة على اللذات العقلية فقط إذ لا قوة لها دون ذلك فتحس وتلتذ بها .
والمتأخرون يثبتون بقاءها على هيئات أخلاقية استفادتها من مشاركة البدن لتستعد بها لقبول هيئات ملكية في ذلك العالم .
رأي فرفوريوس وهو أيضاً على رأي أرسطوطاليس في جميع ما ذهب إليه وهو الشارح لكلام أرسطو أيضاً وإنما يعتمد شرحه إذ كان أهدى القوم إلى إشاراته وجميع ما ذهب إليه .
ويدعى أن الذي يحكى عن أفلاطون من القول بحدوث العالم غير صحيح : قال في رسالته إلى أبانوا : وأما ما قذف به أفلاطون عندكم من أنه يضع للعالم ابتداء زمانياً فدعوى كاذبة وذلك أن أفلاطون ليس يرى أن للعالم ابتداء زمانياً لكن ابتداء على جهة العلة ويزعم أن علة كونه ابتداؤه .
وقد أرى أن المتوهم عليه في قوله : إن العالم مخلوق وإنه حدث لا من شئ وإنه خرج من لا نظام إلى نظام .
وقد أخطأ وغلط وذلك أنه لا يصح دائماً أن كل عدم أقدم من الوجود فيما علة وجود شئ آخر غيره ولا كل سوء نظام أقدم من النظام .
وإنما يعني أفلاطون : أن الخالق أظهر العالم من العدم إلى الوجود وإن وجد أنه لم يكن من ذاته لكن سبب وجوده من الخالق .
قال : وقال في الهيولى : إنها قابل للصور وهي كبيرة وصغيرة وهما في الموضوع والحد واحد ولم يبين العدم كما ذكره أرسطو طاليس إلا أنه قال : الهيولى لا صورة لها فقد علم أن عدم الصورة في الهيولى .
وقال : إن المركبات كلها إنما تتكون بالصور على سبيل التغير وتفسد بخلو الصور عنها .(13/310)
وزعم فرفوريوس : أن من الأصول الثلاثة التي هي الهيولى والصورة والعدم : أن كل جسم إما ساكن وإما متحرك وههنا شيء يكون ما يتكون ويحرك الأجسام وكل ما كان واحداً بسيطاً ففعله واحد بسيط وكل ما كان كثيراً مركباً فأفعاله كثيرة مركبة وكل موجود ففعله مثل طبيعته ففعل الله بذاته فعل واحد بسيط وباقي أفعاله يفعلها بمتوسط مركب .
قال : وكل ما كان موجوداً فله فعل من الأفعال مطابق لطبيعته ولما كان الباري تعالى موجوداً ففعله الخاص هو الإجتلاب إلى الوجود ففعل فعلاً واحداً وحرك حركة واحدة وهو الإجتلاب إلى شبهة يعني الوجود .
ثم إما يقال : كان المفعول معدوماً يمكن أن يوجد وذلك هو طبيعة الهيولى بعينها فيجب أن يسبق الوجود طبيعة ما قابلة للوجود .
وإما أن يقال : لم يكن معدوماً ما يمكن أن يوجد بل أوجده عن لا شيء وأبدع وجوده من غير توهم شيء سبقه وهو ما يقوله الموحدون .
قال : فأول فعل فعله هو الجوهر إلا أن كونه جوهراً وقع بالحركة فوجب أن يكون بقاؤه جوهراً بالحركة وذلك أنه ليس للجوهر أن يكون بذاته بمنزلة الوجود الأول لكن من التشبه بذلك الأول .
وكل حركة تكون فإما أن تكون على خط مستقيم وإما على الاستدارة فتحرك الجوهر بهاتين الحركتين .
ولما كان وجود الجوهر بالحركة وجب أن يتحرك الجوهر في جميع الجهات التي يمكن فيها الحركة فيتحرك جميع الجوهر في جميع الجهات حركة مستقيمة على جميع الخطوط وهي ثلاثة : الطول والعرض والعمق إلا أنه لم يكن له أن يتحرك على هذه الخطوط بلا نهاية إذ ليس يمكن فيما هو بالفعل أن يكون بلا نهاية فتحرك الجوهر في هذه الأقطار الثلاثة حركة متناهية على خطوط مستقيمة وصار بذلك جسماً .(13/311)
وبقي عليه أن يتحرك بالاستدارة على الجهة التي يمكن فيها أن يتحرك بأجمعه حركة على الاستدارة لأن الدائر يحتاج إلى شيء ساكن في وسط منه فعند ذلك انقسم الجوهر فتحرك بعضه على الاستدارة وسكن بعضه في الوسط .
قال : وكل جسم يتحرك فيماس جسماً ساكناً في طبيعته فبول التأثير منه حركه معه وإذا حركه سخن وإذا سخن لطف وانحل وخف .
فكانت النار تلي الفلك .
والجسم الذي يلي النار يبعد عن الفلك ويتحرك بحركة النار فتكون حركته أقل فلا يتحرك لذلك بأجمعه لكن جزء منه فيسخن دون سخونة النار .
وهو الهواء .
والجسم الذي يلي الهواء لا يتحرك لبعده عن المحرك فهو بارد لسكونه وحار حرارة يسيرة بمجاورته الهواء ولذلك انحل قليلاً .
وهو الماء .
وأما الجسم الذي يلي الماء في الوسط فلأنه بعد في الغاية عن الفلك ولم يستفد من حركته شيئاً ولا قبل منه تأثيراً : سكن وبرد .
وهذه هي الأرض .
وإذا كانت هذه الأجسام تقبل التأثير بعضها من بعض اختلطت وتولد عنها أجسام مركبة .
وهذه هي الأجسام المحسوسة .
وقال : الطبيعة تفعل بغير فكر ولا عقل ولا إرادة ولكنها ليست تفعل بالبخت والاتفاق والخبط بل لا تفعل إلا ماله نظم وترتيب وحكمة وقد تفعل شيئاً من أجل شيء كما تفعل البر لغذاء الإنسان وتهيئ أعضائه لما يصلح له .
وقد قسم فرفوريوس مقالة أرسطو طاليس في الطبيعة خمسة أقسام : أحدها العنصر والثاني الصورة والثالث المجتمع منهما كالإنسان والرابع الحركة الجاذبة في الشيء بمنزلة حركة النار الكائنة الموجودة فيها إلى فوق والخامس الطبيعة العامة للكل لأن الجزئيات لا يتحقق وجودها إلا عن كل يشملها .(13/312)
ثم اختلفوا في مركزها : فمن الحكماء من صار إلى أنها فوق الكل وقال آخرون إنها دون الفلك قالوا : والدليل على وجودها أفعالها وقواها المنبثة في العالم الموجبة للحركات والأفعال كذهاب النار والهواء إلى فوق وذهاب الماء والأرض إلى تحت فعلم يقيناً أنه لولا قوى فيها أوجبت تلك الحركات وكانت مبدأ لها لم توجد فيها وكذلك ما يوجد في النبات والحيوان من قوة الغذاء وقوة النمو والنشوء .
الباب الرابع المتأخرون من فلاسفة الإسلام
مثل : يعقوب بن إسحاق الكندي .
وحنين بن أسحاق .
ويحيى النحوي .
وأبي الفرج المفسر .
وأبي سليمان السجزي .
وأبي سليمان محمد ابن معشر المقدسي .
وأبي بكر ثابت بن قرة الحراني .
وأبي تمام يوسف بن محمد النيسابوري .
وأبي زيد أحمد بن سهل البلخي .
وأبي محارب الحسن بن سهل ابن محارب القمي .
وأحمد بن الطيب السرخسي .
وطلحة بن محمد النسفي .
وأبي حامد أحمد بن محمد الإسفزاري .
وعيسى بن علي بن عيسى الوزير .
وأبي علي أحمد ابن محمد بن مسكويه .
وأبي زكريا يحيى بن عدي الصيمري .
وأبي الحسن محمد ابن يوسف العامري .
وأبي نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي .
وغيرهم .
وإنما علامة القوم أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا قد سلكوا كلهم طريقة أرسطوطاليس في جميع ما ذهب إليه وانفرد به سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين .
ولما كانت طريقة ابن سينا أدق عند الجماعة ونظره في الحقائق أغوص : اخترت نقل طريقته من كتبه على إيجاز واختصار كأنها : عيون كلامه ومتون مرامه .
وأعرضت عن نقل طرق الباقين ابن سينا كلامه في المنطق قال أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا : العلم إما تصور وإما تصديق .
أما التصور فهو العلم الأول وهو أن تدرك أمراً ساذجاً من غير أن تحكم عليه بنفي أو إثبات مثل تصورنا ماهية الإنسان .(13/313)
وأما التصديق فهو أن تدرك أمراً وأمكنك أن تحكم عليه بنفي أو إثبات مثل تصديقنا بأن للكل مبدأ .
وكل واحد من القسمين منه أولى ومنه ما هو مكتسب .
فالتصور المكتسب إنما يستحصل بالحد وما يجري مجراه والتصديق المكتسب إنما يستحصل بالقياس وما يجري مجراه فالحد والقياس آلتان بهما تحصل المعلومات التي لم تكن حاصلة فتصير معلومة بالرؤية .
وكل واحد منهما منه ما هو حقيقي ومنه ما هو دون الحقيقي ولكنه نافع منفعة بحسبه ومنه ما هو باطل مشتبه بالحقيقي .
والفطرة الإنسانية غير كافية في التمييز بين هذه الأصناف إلا أن تكون مؤيدة من عند الله عز وجل فلا بد إذاً للناظر من آلة قانونية تعصمه مراعاتها عن أن يضل في فكره وذلك هو الغرض من المنطق .
ثم إن كل واحد من الحد والقياس فمؤلف من معان معقولة بتأليف محدود فيكون لها مادة منها ألفت وصورة بها التأليف والفساد قد يعرض من إحدى الجهتين وقد يعرض من جهتيهما معاً .
فالمنطق هو الذي نعرف به : من أي المواد والصور يكون الحد الصحيح والقياس السديد الذي يوقع يقيناً ومن أيها ما يوقع عقداً شبيهاً باليقين ومن أيها ما يوقع ظناً غالباً ومن أيها ما يوقع مغالطة وجهلاً وهذه فائدة المنطق .
ثم لما كانت المخاطبات النظرية بألفاظ مسموعة والأفكار العقلية بأقوال عقلية فتلك المعاني التي في الذهن من حيث يتأدى بها إلى غيرها كانت موضوعات المنطق .
ومعرفة أحوال تلك المعاني مسائل علم المنطق .
وكان المنطق بالنسبة إلى المعقولات على مثال النحو بالنسبة إلى الكلام والعروض إلى الشعر فوجب على المنطقي أن يتكلم في الألفاظ أيضاً من حيث تدل على المعاني .
واللفظ يدل على المعنى من ثلاثة أوجه : أحدها بالمطابقة والثاني بالتضمن والثالث بالالتزام .(13/314)
وهو ينقسم إلى مفرد ومركب فالمفرد ما يدل على معنى وجزء من أجزائه لا يدل على جزء من أجزاء ذلك المعنى بالذات : أي حين هو جزء له والمركب هو الذي يدل على معنى وله أجزاء منها يلتئم مسموعه ومن معانيها يلتئم معنى الجملة .
والمفرد ينقسم إلى كلي .
وجزئي والكلي هو الذي يدل على كثيرون بمعنى واحد متفق ولا يمنع نفس مفهومه عن الشركة فيه والجزئي هو ما يمنع نفس مفهومه ذلك .
ثم الكلي ينقسم إلى ذاتي وعرضي والذاتي هو الذي يقوم ماهية ما يقال عليه والعرضى هو الذي لا يقوم ماهية سواء كان غير مفارق في الوجود والوهم أو مفارقاً بين الوجود أو غير بين الوجود له .
ثم الذاتي ينقسم إلى ما هو مقول في جواب ما هو وهو اللفظ المفرد الذي يتضمن جميع المعاني الذاتية التي يقوم الشيء بها وفرق بين المقول في جواب ما هو وبين الداخل في جواب ما هو .
وإلى ما هو مقول في جواب أي شئ هو وهو الذي يدل على معنى تتميز به أشياء مشتركة في معنى واحد تميزاً ذاتياً .
وأما العرضى فقد يكون ملازماً في الوجود والوهم وبه يقع تمييز أيضاً لا ذاتياً وقد يكون مفارقاً .
وفرق بين العرضى والعرض الذي هو قسيم الجوهر .
وأما رسوم الألفاظ الخمسة التي هي : الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام : فالجنس يرسم بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق الذاتية في جواب ما هو .
والنوع يرسم بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالعدد في جواب ما هو إذا كان نوع الأنواع وإذا كان نوعاً متوسطاً فهو المقول على كثيرين مختلفين في جواب ما هو ويقال عليه قول آخر في جواب ما هو بالشركة .
وينتهى الإرتقاء إلى جنس لا جنس فوقه وإن قدر فوق الجنس أمر أعم منه فيكون العموم بالتشكيك والنزول إلى نوع لا نوع تحته وإن قدر دون النوع صنف أخص فيكون الخصوص بالعوارض .
ويرسم الفصل بأنه الكلي الذاتي الذي يقال به على نوع تحت جنسه : بأنه أي شيء هو .(13/315)
وترسم الخاصة بأنها هي الكلي الدال على نوع واحد في جواب أي شيء هو لا بالذات .
ويرسم العرض العام بأنه الكلي المفرد الغير الذاتي ويشترك في معناه كثيرون ووقوع العرض على هذا وعلى الذي هو قسيم الجوهر وقوع بمعنيين مختلفين .
في المركبات : الشيء إما عين موجودة وإما صورة مأخوذة عنه في الذهن ولا يختلفان في النواحي والأمم .
وإما لفظة تدل على الصورة التي في الذهن وأما كتابة دالة على اللفظ ويختلفان في الأمم .
فالكتابة دالة على اللفظ واللفظ دال على الصورة في الذهن وتلك الصورة دالة على الأعيان الموجودة .
مبادئ القول : إما اسم وإما كلمة وإما أداة .
فالاسم لفظ مفرد يدل على معنى من غير أن يدل على زمان وجود ذلك المعنى والكلمة لفظ مفرد يدل على معنى وعلى الزمان الذي فيه ذلك المعنى موضوع ما غير معين والأداة لفظ مفرد إنما يدل على معنى يصح أن يوضع أو يحمل بعد أن يقترن باسم أو كلمة وإذا ركبت اللفظ تركيباً يؤدي إلى معنى فحينئذ يسمى قولاً .
ووجوه التركيبات مختلفة وإنما يحتاج المنطقي إلى تركيب خاص وهو أن يكون بحيث يتطرق إليه التصديق والتكذيب .
فالقضية هي : كل قول فيه نسبة بين شيئين بحيث يتبعه حكم صدق أو كذب والحملية منها : كل قضية فيها النسبة المذكورة بين شيئين ليس في كل منهما هذه النسبة بين شيئين فيهما هذه النسبة من حيث هي مفصلة والمتصلة من الشرطية : هي التي توجب أو تسلب لزوم قضية لأخرى من القضايا الشرطية والمنفصلة منها : ما توجب أو تسلب عناد قضية لأخرى من القضايا الشرطية .
والإيجاب هو إيقاع هذه النسبة وإيجادها وفي الحملية هو الحكم بوجود محمول لموضوع والسلب هو رفع هذه النسبة الوجودية وفي الحملية هو الحكم بلا وجود محمول لموضوع .
والمحمول هو المحكوم به والموضوع هو المحكوم عليه .(13/316)
والمخصوصة قضية حملية موضوعها شيء جزئي والمهملة قضية حملية موضوعها كلي ولكن لم يبين أن الحكم في كله أو في بعضه ولابد أنه في البعض وشك في أنه في الكل فحكمه حكم الجزئي والمحصورة هي التي موضوعها كلي والحكم عليه مبين أنه في كله أو بعضه وقد تكون موجبة وسالبة .
والسور هو اللفظ الذي يدل على مقدار الحصر ككل ولا واحد وبعض ولا كل .
والقضيتان المتقابلتان هما اللتان تختلفان بالسلب والإيجاب وموضوعهما ومحمولهما واحد : في المعنى والإضافة والقوة والفعل والجزء والكل والمكان والزمان والشرط .
والتناقض هو التقابل بين قضيتين في الإيجاب والسلب تقابلاً يجب عنه لذاته أن يقتسما الصدق والكذب ويجب أن يراعى فيه الشرائط المذكورة .
والقضية البسيطة هي التي موضوعها ومحمولها اسم محصل والمعدولة هي التي موضوعها أو محمولها غير محصل كقولنا : زيد هو غير بصير والعدمية هي التي محمولها أخس المتقابلين أي دل على عدم شيء من شأنه أن يكون للشيء أو لنوعه أو لجنسه مثل قولنا : زيد جائر .
ومادة القضايا هي حالة للمحمول بالقياس إلى الموضوع يجب بها لا محالة أن يكون له دائماً في كل وقت في إيجاب أو سلب أو غير دائم له في إيجاب ولا سلب .
وجهات القضايا ثلاث : واجب ويدل على دوام الوجود وممتنع ويدل على دوام العدم وممكن ويدل على لا دوام وجود ولا عدم .
والفرق بين الجهة والمادة : أن الجهة لفظة مصرح بها تدل على أحد هذه المعاني والمادة حالة للقضية في ذاتها غير مصرح بها وربما تخالفاً كقولك زيد يمكن أن يكون حيواناً فالمادة واجبة والجهة ممكنة .
والممكن يطلق على معنين : أحدهما ما ليس بممتنع وعلى هذا : الشيء إما ممكن وإما ممتنع وهو الممكن العامي والثاني ما ليس بضروري في الحالتين أعني الوجود والعدم وعلى هذا : الشيء إما واجب وإما ممتنع وإما ممكن وهو الممكن الخاصي .(13/317)
ثم إن الواجب والممتنع بينهما غاية الخلاف مع إتفاقهما في معنى الضرورة فإن الواجب هو ضروري الوجود بحيث لو قدر عدمه لزم منه محال والممتنع ضروري العدم بحيث لو قدر وجوده لزم منه محال والممكن الخاصي هو ما ليس بضروري الوجود والعدم .
والحمل الضروري على أوجه ستة تشترك كلها في الدوام : الأول أن يكون الحمل دائماً لم يزل ولا يزال والثاني أن يكون الحمل دائماً ما دامت ذات الموضوع موجودة لم تفسد وهذان هما المستعملان والمرادان إذا قيل إيجاب أو سلب ضروري والثالث أن يكون الحمل دائماً ما دامت ذات الموضوع موصوفة بالصفة التي جعلت موضوعة معها والرابع أن يكون الحمل موجوداً وليس له ضرورة بلا هذا الشرط والخامس أن تكون الضرورة وقتاً ما معيناً لابد منه والسادس أن تكون الضرورة وقتاً ما غير معين .
ثم إن ذوات الجهة قد تتلازم طرداً وعكساً وقد لا تتلازم فواجب أن يوجد يلزمه : ممتنع أن لا يوجد وليس يمكن بالمعنى العامي أن لا يوجد ونقائض هذه متعاكسة .
وقس عليه سائر الطبقات .
وكل قضية فإما ضرورية وإما ممكنة وإما مطلقة فالضرورية مثل قولنا : كل ب أ بالضرورة : أي كل واحد مما يوصف بأنه ب دائماً أو غير دائم فذلك الشيء دائماً ما دامت عين ذاته موجودة يوصف بأنه أ .
والممكنة هي التي حكمها من إيجاب أو سلب غير ضروري .
والمطلقة فيها رأيان : أحدهما أنها التي لم يذكر فيها جهة ضرورة للحكم أو إمكان للحكم بل أطلق إطلاقاً والثاني ما يكون الحكم فيها موجوداً لا دائماً بل وقتاً ما وذلك الوقت إما ما دام الموضوع موصوفاً بما وصف به أو ما دام المحمول محكموماً به أو في وقت معين ضروري أو في وقت ضروري غير معين .(13/318)
وأما العكس فهو تصيير الموضوع محمولاً والمحمول موضوعاً مع بقاء السلب والإيجاب بحالة والصدق والكذب بحالة والسالبة الكلية تنعكس مثل نفسها وأما السالبة الجزئية فلا تنعكس والموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية والموجبة الجزئية تنعكس مثل نفسها .
في القياس ومبادئه وأشكاله ونتائجة : المقدمة : قول يوجب شيئاً لشيء أو يسلب شيئاً عن شيء : جعلت جزء قياس .
والحد : ما تنحل إليه المقدمة من جهة ما هي مقدمة .
والقياس : هو قول مؤلف من أقوال إذا وضعت لزم عنها بذاتها قول آخر غيرها اضطراراً وإذا كان بيناً لزومه يسمى قياساً كاملاً وإذا احتاج إلى بيان فهو غير كامل .
والقياس ينقسم إلى اقتراني واستثنائي والاقتراني أن يكون ما يلزمه ليس هو ولا نقيضه مقولاً فيه بالفعل بوجه ما والاستثنائي أن يكون ما يلزمه هو أو نقيضه مقولاً فيه بالفعل .
والاقتراني إنما يكون عن مقدمتين يشتركان في حد ويفترقان في حدين فتكون الحدود ثلاثة ومن شأن المشترك فيه أن يزول عن الوسط ويربط ما بين الحدين الآخرين فيكون ذلك هو اللازم ويسمى نتيجة فالمكرر يسمي حداً أوسط والباقيان طرفين والذي يريد أن يصير محمول اللازم يسمى الطرف الأكبر والذي يريد أن يكون موضوع اللازم يسمى الطرف الأصغر والمقدمة التي فيها الطرف الأكبر تسمى الكبرى والتي فيها الطرف الأصغر تسمى الصغرى وتأليف الصغرى والكبرى يسمى قرينة وهيئة الاقتران تسمى شكلاً والقرينة التي يلزم عنها لذاتها قول آخر تسمى قياساً واللازم ما دام لم يلزم بعد بل يساق إليه القياس يسمى مطلوباً وإذا لزم يسمى نتيجة .
والحد الأوسط إن كان محمولاً في مقدمة وموضوعاً في الأخرى يسمى ذلك الاقتران شكلاً أولاً وإن كان محمولاً فيهما يسمى شكلاً ثانياً وإن كان موضوعاً فيهما يسمى شكلاً ثالثاً .(13/319)
وتشترك الأشكال كلها في أنه لا قياس عن جزئيتين وتشترك ما خلا الكائنة عن الممكنات في أنه لا قياس عن سالبتين ولا عن صغرى سالبة كبراها جزئية .
والنتيجة تتبع أخس المقدمتين في الكم والكيف .
وشريطة الشكل الأول أن تكون كبراه كلية وصغراه موجبة .
وشريطة الشكل الثاني أن تكون الكبرى فيه كلية وإحدى المقدمتين مخالفة للأخرى في الكيف ولا ينتج إذا كانت المقدمتان ممكنتين أو مطلقتين الإطلاق الذي لا ينعكس على نفسه كلتيهما وشريطة الشكل الثالث أن تكون الصغرى موجبة ثم لا بد من كلية في كل شكل .
وليرجع في المختلطات إلى تصانيفه .
وأما القياسات الشرطية بقضاياها فاعلم أن الإيجاب والسلب ليس يختص بالحمليات بل وفي الاتصال والانفصال فإنه كما أن الدلالة على وجود الحمل إيجاب في الحمل كذلك الدلالة على وجود الاتصال إيجاب في المتصل والدلالة على وجود الانفصال إيجاب في المنفصل وكذلك السلب وكل سلب فهو إبطال الإيجاب ورفعه .
وكذلك يجري فيهما الحصر والإهمال .
وقد تكون القضايا كثيرة والمقدمة واحدة .
والاقتران من المتصلات أن يجعل مقدم أحدهما تالي الآخر فيشتركان في التالي أو يشتركان في المقدم وكذلك على قياس الأشكال الحملية و الشرائط فيها واحدة والنتيجة شرطية تحصل من اجتماع المقدم والتالي اللذين هما كالطرفين .
والاقترانيات من المنفصلات فلا تكون في جزء تام بل تكون في جزء غير تام وهو جزء تال أو مقدم .
والاستثنائية مؤلفة من مقدمتين إحداهما شرطية والأخرى وضع أو رفع لأحد جزأيها ولا يجوز أن تكون حملية وشرطية وتسمى المستثناة .
والمستثناة من قياس فيه شرطية متصلة إن كان الاستثناء من المقدم فيجب أن يكون عين المقدم لينتج عين التالي وإن كان من التالي فيجب أن يكون نقيضه لينتج نقيض المقدم واستثناء نقيض المقدم وعين التالي لا ينتج شيئاً .(13/320)
وأما إذا كانت الشرطية منفصلة فإن كانت ذات جزئين فقط موجبتين فأيهما استثنيت عينه أنتج نقيض الباقي وأيهما استثنيت نقيضه أنتج عين الباقي وأما القياسات المركبة فهي ما إذا حللت أفرادها كان ما ينتج كل واحد منها شيئاً آخر إلا أن نتائج بعضها مقدمات لبعض وكل نتيجة فإنها تستتبع عكسها وعكس نقيضها وجزاها وعكس جزئها إن كان لها عكس والمقدمات الصادقة تنتج نتيجة صادقة ولا ينعكس فقد تنتج المقدمات الكاذبة نتيجة صادقة .
والدور : أن تأخذ النتيجة وعكس إحدى المقدمتين فتنتج المقدمة الثانية وإنما يمكن إذا كانت الحدود في المقدمات متعاكسة متساوية .
وعكس القياس : هو أن تأخذ مقابل النتيجة بالضد أو النقيض وتضيفه إلى إحدى المقدمتين فينتج مقابل النتيجة الأخرى : احتيالاً في الجدل .
وقياس الخلف : هو الذي يبين فيه المطلوب من جهة تكذيب نقيضه فيكون هو بالحقيقة مركباً من قياس اقتراني وقياس استثنائي .
والمصادرة على المطلوب الأول : هو أن يجعل المطلوب نفسه مقدمة في قياس يراد فيه إنتاجه وربما تكون في قياس واحد وربما تبين في قياسات وحيثما كان أبعد كان من القبول أقرب .
والاستقراء : هو حكم على كلي لوجود ذلك الحكم في جزئيات ذلك الكلي إما كلها وإما أكثرها .
والتمثيل : هو الحكم على شيء معين لوجود ذلك الحكم في شيء آخر معين أو أشياء على أن ذلك الحكم كلي على المتشابه فيه فيكون المحكوم عليه هو المطلوب والمنقول منه الحكم هو المثال والمعنى المتشابه فيه هو الجامع .
وحكم الرأي : مقدمة محمودة كلية في أن كذا كائن أو غير كائن وصواب أم خطأ .
والدليل : قياس إضماري حده الأوسط شيء إذا وجد للأصغر تبعه وجود شيء آخر للأصغر دائماً كيف كان ذلك التبع .
والقياس الفراسي شبيه بالدليل من وجه وبالتمثيل من وجه .(13/321)
في مقدمات القياس من جهة ذواتها وشرائط البرهان : المحسوسات هي أمور أوقع التصديق بها الحس والمجربات هي أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس والمقبولات آراء أوقع التصديق بها قول من يوثق بصدقه فيما يقول إما لأمر سماوي يختص به أو لرأي وفكر قوي تميز به والوهميات آراء أوجب اعتقادها قوة الوهم التابعة للحس والذائعات آراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها شهادة الكل والمظنونات آراء يقع التصديق بها لا على الثبات بل يخطر إمكان نقضها بالبال ولكن الذهن يكون إليها أميل والمتخيلات هي مقدمات ليست تقال ليصدق بها بل لتخيل شيئاً على أنه شيء آخر على سبيل المحاكات والأوليات هي قضايا تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية من غير سبب أوجب التصديق بها والبرهان قياس مؤلف من يقينيات لإنتاج يقيني .
واليقينيات : إما أوليات وما جمع منها وإما تجربيات وإما محسوسات .
وبرهان اللم : هو الذي يعطيك علة اجتماع طرفي في النتيجة في الوجود والذهن جميعاً .
وبرهان الإن : هو الذي يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة عند الذهن والتصديق به والمطالب أربعة : هل مطلقاً هو تعرف حال الشيء في الوجود أو العدم مطلقاً وهل مقيداً وهو تعرف وجود الشيء على حال ما أو ليس .
ما : يعرف التصور وهو إما بحسب الاسم أي ما المراد باسم كذا وهذا يتقدم كل مطلب وإما بحسب الذات أي ما الشيء في وجوده وهو يعرف حقيقة الذات ويتقدمه الهل المطلق .
لم : يعرف العلة بجواب هل وهو إما علة التصديق فقط وإما علة نفس الوجود .
وإما أي فهو بالقوة داخل في الهل المقيد وإنما يطلب التمييز إما بالصفات الذاتية وإما بالخواص .
والأمور التي يلتئم منها أمر البراهين ثلاثة : موضوعات ومسائل ومقدمات .(13/322)
فالموضوعات يبرهن فيها والمسائل يبرهن عليها والمقدمات يبرهن بها ويجب أن تكون صادقة يقينية ذاتية وتنتهي إلى مقدمات أولية مقولة على الكل كلية وقد تكون ضرورية إلا على الأمور المتغيرة التي هي في الأكثر على حكم ما فتكون أكثرية وتكون عللاً لوجود النتيجة فتكون مناسبة الحمل الذاتي يقال على وجهين : أحدهما أن يكون المحمول مأخوذاً في حد الموضوع والثاني أن يكون الموضوع مأخوذاً في حد المحمول .
المقدمة الأولية على وجهين : أحدهما أن التصديق بها حاصل في أول العقل والثاني من جهة أن المناسب هو أن لا تكون المقدمات فيه من علم غريب .
الموضوعات هي التي توضع في العلوم فيبرهن على أعراضها الذاتية .
المسائل هي القضايا الخاصة بعلم علم المشكوك فيها المطلوب برهانها .
والبرهان يعطي حكم اليقين الدائم وليس في شيء من الفاسدات عقد دائم فلا برهان عليها ولا برهان أيضاً على الحد لأنه لا بد حينئذ من حد أوسط مساو للطرفين لأن الحد والمحدود متساويان وذلك الأوسط لا يخلو : إما أن يكون حداً آخر أو يكون رسماً أو خاصة .(13/323)
فأما الحد الآخر فإن السؤال في اكتسابه ثابت فإن اكتسب بحد ثالث فالأمر ذاهب إلى غير نهاية وإن اكتسب بالحد الأول فذلك دور وإن اكتسب بوجه آخر غير البرهان فلم لا يكتسب به هذا الحد على أنه لا يجوز أن يكون لشيء واحد حدان تامان على ما سنوضح بعد وإن كانت الواسطة غير حد فكيف صار ما ليس بحد أعرف وجوداً للمحدود من الأمر الذاتي المقوم له وهو الحد وأيضاً فإن الحد لا يكتسب بالقسمة فإن القسمة تضع أقساماً ولا تحمل من الأقسام شيئاً بعينه إلا أن يوضع وضعاً من غير أن يكون للقسمة فيه مدخل وأما استثناء نقيض قسم ليبقى القسم الداخل في الحد فهو إبانة الشيء بما هو مثله أو أخفى منه فإنك إذا قلت : لكن ليس الإنسان غير ناطق فهو إذاً ناطق : لم تكن أخذت في الاستثناء شيئاً أعرف من النتيجة وأيضاً فإن الحد لا يكتسب من حد الضد فليس لكل محدود ضد ولا أيضاً حد أحد الضدين أولى بذلك من حد الضد الآخر والاستقراء لا يفيد علماً كلياً فكيف يفيد الحد لكن الحد يقتنص بالتركيب وذلك بأن تعمد إلى الأشخاص التي لا تنقسم وتنظر من أي جنس هي من العشرة فتأخذ جميع المحولات المقومة لها التي في ذلك الجنس وتجمع العدة منها بعد أن تعرف أيها الأول وأيها الثاني فإذا جمعنا هذه المحولات ووجدنا منها شيئاً مساوياً للمحدود من وجهين فهو الحد : أحدهما المساواة في الحمل والثاني المساواة في المعنى وهو أن يكون دالاً على كمال حقيقة ذاته لا يشذ منه شيء فإن كثيراً ما يميز الذات يكون قد أخل ببعض الأجناس أو ببعض الفصول فيكون مساوياً في الحمل ولا يكون مساوياً في المعنى وبالعكس ولا يلتفت في الحد إلى أن يكون وجيزاً بل ينبغي أن تضع الجنس القريب فيه باسمه أو بحده ثم تأتي بجميع الفصول الذاتية فإنك إذا تركت بعض الفصول فقد تركت بعض الذات .(13/324)
والحد : عنوان للذات وبيان لها فيجب أن يقوم في النفس صورة معقولة مساوية للصورة الموجودة بتمامها فحينئذ يعرض أن يتميز أيضاً المحدود ولا حد في الحقيقة لما لا وجود له وإنما ذلك قول يشرح الاسم فالحد إذاً : قول دال على الماهية والقسمة معينة في الحد خصوصاً إذا كانت بالذاتيات ولا يجوز تعريف الشيء بما هو أخفى منه ولا بما هو مثله في الجلاء والخفاء ولا بما لا يعرف الشيء إلا به .
في الأجناس العشرة : الجوهر : هو ما وجود ذاته ليس في موضوع أي في محل قريب قد قام بنفسه دونه بالفعل لا بتقويمه .
الكم : هو الذي يقبل لذاته المساواة واللا مساواة والتجزؤ وهو إما أن يكون متصلاً إذ يوجد لأجزائه بالقوة حد مشترك تتلاقى عنده وتتحد به كالنقطة للخط وإما أن يكون منفصلاً لا يوجد لأجزائه ذلك لا بالقوة ولا بالفعل كالعدد والمتصل قد يكون ذا وضع وقد يكون عديم الوضع وذو الوضع هو الذي يوجد لأجزائه اتصال وثبات وإمكان أن يشار إلى كل واحد منها : أنه أين هو من الآخر فمن ذلك ما يقبل القسمة في جهة واحدة وهو الخط ومنه ما يقبل في جهتين متقاطعتين على قوائم وهو الشطح ومنه ما يقبل في ثلاث جهات قائم بعضها على بعض وهو الجسم .
والمكان أيضاً ذو وضع لأنه الشطح الباطن من الحاوي وأما الزمان فهو مقدار للحركة إلا أنه ليس من وضع إذ لا توجد أجزاؤه معاً وإن كان له اتصال إذ ماضيه ومستقبله يتحدان بطرف الآن وأما العدد فهو بالحقيقة الكم المنفصل .
ومن المقولات العشرة : الإضافة وهي المعنى الذي وجوده بالقياس إلى شيء آخر وليس له وجود غيره مثل الأبوة بالقياس إلى النبوة لا كالأب فإن له وجوداً يخصه كالإنسانية .
وأما الكيف فهو كل هيئة قارة في جسم لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة للجسم إلى خارج ولا نسبة واقعة في أجزائه ولا لجملته اعتباراً يكون ذا جزء مثل البياض والسواد .(13/325)
وهو إما أن يكون مختصاً بالكم من جهة ما هو كم كالتربيع بالسطح والاستقامة بالخط والفردية بالعدد وإما أن لا يكون مختصاً به .
وغير المختص به : إما أن يكون محسوساً تنفعل عنه الحواس ويوجد بانفعال الممتزجات فالراسخ منه مثل صفرة الذهب وحلاوة العسل يسمى كيفيات انفعاليات وسريع الزوال منه وإن كان كيفية بالحقيقة فلا يسمى كيفية ومنه ما لا يكون محسوساً : فإما أن يكون استعدادات إنما تتصور في النفس بالقياس إلى كمالات فإن كل استعداد للمقاومة وإباء للانفعال سمي قوة طبيعية كالمصحاحية والصلابة وإن كان استعداداً لسرعة الإذعان والانفعال سمي : لا قوة طبيعية مثل الممراضية واللين .
وإما أن تكون في أنفسها كمالات لا يتصور أنها استعدادت لكمالت أخرى وتكون مع ذلك غير محسوسة بذاتها فما كان ثابتاً منها يسمى ملكة مثل العلم والصحة وما كان سريع الزوال سمي حالاً مثل غضب الحليم ومرض المصحاح .
وفرق بين الصحة والمصحاحية فإن المصحاح قد لا يكون صحيحاً والممراض قد يكون صحيحاً .
ومن جملة العشرة : الأين وهو كون الجوهر في مكانه الذي يكون فيه : ككون زيد في السوق ومتى وهو كون الجوهر في زمانه الذي يمون فيه مثل كون هذا الأمر أمس والوضع وهو كون الجسم بحيث يكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة في الانحراف والموازاة والجهات وأجزاء المكان إن كان في مكان مثل القيام والقعود وهو في المعنى غير الوضع المذكور في باب الكم والملك ولست أحصله ويشبه أن يكون : كون الجوهر في جوهر يشمله وينتقل بانتقاله مثل التلبس والتسلح والفعل وهو نسبة الجوهر إلى أمر موجود منه في غيره غير قار الذات بل لا يزال يتجدد ويتصرم كالتسخين والتبريد والانفعال وهو نسبة الجوهر إلى حالة فيه بهذه الصفة مثلا لتقطع والتسخن .(13/326)
والعلل أربع : يقال علة للفاعل ومبدأ الحركة مثل النجار للكرسي ويقال علة للمادة وما يحتاج أن يكون حتى تكون ماهية الشيء مثل الخشب ويقال علة للصورة في كل شيء يكون فإنه ما لم تقترن الصورة بالمادة لم يتكون ويقال علة للغاية والشيء الذي نحوه ولأجله الشيء مثل الكن للبيت .
وكل واحدة من هذه إما قريبة أو بعيدة وإما بالقوة أو بالفعل وإما بالذات وإما بالعرض وإما خاصة أو عامة .
والعلل الأربع قد تقع حدوداً وسطى في البراهين لإنتاج قضايا محمولاتها أعراض ذاتية .
وأما العلتان الفاعلية والقابلية فلا يجب من وضعهما وضع المعلول وإنتاجه ما لم يقترن بذلك ما يدل على صيرورتهما علة بالفعل .
والله الموفق .
في تفسير ألفاظ يحتاج إليها المنطقي : الظن : الحق أنه : رأى في شيء أنه كذا ويمكن أن لا يكون كذا .
والعلم : اعتقاد بأن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا بواسطة توجبه والشيء كذلك في ذاته وقد يقال علم لتصور الماهية بتحديد .
والعقل : اعتقاد بأن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا طبعاً بلا واسطة كاعتقاد المبادئ الأولى للحد .
وألذه : قوة للنفس معدة نحو اكتساب العلم .
والذكاء : قوة استعداد لحدس .
والحدس حركة النفس إلى إصابة الحد الأوسط إذا وضع المطلوب أو إصابة الحد الأكبر إذا أصيب الأوسط وبالجملة سرعة انتقال الذهن من معلوم إلى مجهول .
والحس : إنما يدرك الجزئيات الشخصية .
والذكر والخيال : يحفظان ما يؤديه الحس على شخصيته أما الخيال فيحفظ الصورة وأما الذكر فيحفظ المعنى المأخوذ وإذا تكرر الحس صار ذكراً وإذا تكرر الذكر كان تجربة .
والفكر : حركة ذهن الإنسان نحو المبادئ ليصير منها إلى المطالب .
والصناعة : ملكة نفسانية تصدر عنها أفعال إرادية بغير روية .(13/327)
والحكمة : خروج النفس الإنساني إلى كماله الممكن في جزأي العلم والعمل : أما في جانب العلم فأن يكون متصوراً للموجودات كما هي ومصدقاً للقضايا كما هي وأما في جانب العمل فأن يكون قد حصل له الخلق الذي يسمى العدالة والملكة الفاضلة .
والفكر العقلي ينال الكليات مجردة والحس والخيال على العقل ثم العقل يفعل التمييز .
ولكل واحد من هذه المعاني معونة في صواحبها في قسمي : التصور والتصديق .
يجب أن نحصر المسائل التي تختص بهذا العلم في عشر مسائل : المسألة الأولى منها : في موضوع هذا العلم وجملة ما يتظر فيه والتنبيه على الوجود وأقسامه .
إن لكل علم موضوعاً ينظر فيه فيبحث عن أحواله وموضوع العلم الإلهي هو الوجود المطلق ولو أحقه التي له بذاته ومبادئه وينتهي في التفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم وفيه بيان مبادئها .
وجملة ما ينظر فيه هذا العلم هو أقسام الوجود وهي : الواحد والكثير ولواحقهما والعلة والمعلول والقديم والحادث والتام والناقص والفعل والقوة وتحقيق المقولات العشر : ويشبه أن يكون انقسام الوجود إلى المقولات انقساماً بالفصول وانقسامه إلى الوحدة والكثرة وأخواتهما انقساماً بالأعراض .
والوجود يشمل الكل شمولاً بالتشكيك لا بالتواطؤ ولهذا لم يصلح أن يكون جنساً فإنه في بعضها أولى وأول وفي بعضها لا أولى ولا أول وهو أشهر من أن يحد أو يرسم ولا يمكن أن يشرح بغير الاسم لأنه مبدأ أول لكل شئ فلا شرح له بل صورته تقوم في النفس بلا توسط شئ .
وينقسم نوعاً من القسمة إلى واجب بذاته وممكن بذاته والواجب بذاته ما إذا اعتبر ذاته فقط وجب وجوده والممكن بذاته ما إذا اعتبر لذاته لم يجب وجوده وإذا فرض غير موجود لم يلزم منه محال .(13/328)
ثم إذا عرض على القسمين عرضاً حملياً الواحد والكثير كان الواحد أولى بالواجب والكثير أولى بالجائز وكذلك العلة والمعلول والقديم والحادث والتام والناقص والفعل والقوة والغنى والفقر .
كان أحسن الأسماء أولى بالواجب بذاته ولما لم تتطرق إليه الكثرة بوجه لم يتتطرق إليه التقسيم بل توجه إلى الممكن بذاته فانقسم إلى جوهر وعرض وقد عرفناهما برسميهما .
وأما نسبة أحدهما إلى الآخر فهو أن الجوهر محل مستغن في قوامه عن الحال فيه والعرض حال فيه غير مستغن في قوامه عنه فكل ذات لم تكن في موضوع ولا قوامها به فهو جوهر وكل ذات قوامها في موضوع فهو عرض .
وقد يكون الشيء في المحل ويكون مع ذلك جوهراً لا في موضوع إذا كان المحل القريب الذي هو فيه متقوماً به وليس متقوماً بذاته ثم مقوماً له ونسميه صورة وهذا هو الفرق بينهما وبين العرض .
وكل جوهر ليس في موضوع فلا يخلو : إما أن لا يكون في محل أصلاً أو يكون في محل لا يستغنى في القوام عنه ذلك المحل .
فإن كان في محل بهذه الصفة فإنا نسميه صورة مادية وإن لم يكن في محل أصلاً فإما أن يكون محلاً بنفسه لا تركيب فيه أولا يكون فإن كان محلاً بنفسه فإنا نسميه الهيولى المطلقة وإن يكن فإما أن يكون مركباً مثل أجسامنا المركبة من مادة ومن صورة جسمية وإما أن لا يكون .
وما ليس بمركب فلا يخلو : إما أن يكون له تعلق ما بالأجسام أو لم يكن له تعلق فما له تعلق نسميه نفساً وما ليس له تعلق فنسميه عقلاً .
وأما أقسام العرض فقد ذكرناها وحصرها بالقسمة الضرورية متعذر .
المسألة الثانية : في تحقيق الجوهر الجسماني وما يتركب منه وأن المادة الجسمانية لا تتعرى عن الصورة وأن الصورة متقدمة على المادة في مرتبة الوجود .
اعلم أن الجسم ليس جسماً بأن فيه أبعاداً ثلاثة بالفعل فإنه ليس يجب أن يكون في كل جسم نقط أو خطوط بالفعل وأنت تعلم أن الكرة لا قطع فيها بالفعل والنقط والخطوط قطوع .(13/329)
بل الجسم إنما هو جسم لأنه بحيث يصلح أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة كل واحد منها قائم على الآخر ولا يمكن أن تكون فوق ثلاثة فالذي يفرض فيه أولاً هو الطول والقائم عليه العرض والقائم عليهما في الحد المشترك هو العمق وهذا المعنى منه هو صورة الجسمية .
وأما الأبعاد المحدودة التي تقع فيه فليست صورة له بل هي من باب الكم وهي لواحق لا مقومات ولا يجب أن يثبت شيء منها له بل مع كل تشكيل يتجدد عليه يبطل كل بعد متحدد كان فيه وربما اتفق في بعض الأجسام أن تكون لازمة له لا تفارق ملازمة أشكالها وكما أن الشكل لاحق فكذلك ما يتحدد بالشكل وكما أن الشكل لا يدخل في تحديد جسميته فكذلك الأبعاد المتحددة فالصورة الجسمية موضوعة لصناعة الطبيعيين أو داخله فيها والأبعاد المتحددة موضوعة لصناعة التعالميين أو داخلة فيها .
ثم الصورة الجسمية طبيعة وراء الاتصال يلزمها الاتصال وهي بعينها قابلة للانفصال .
ومن المعلوم أن قابل الاتصال والانفصال أمر وراء الاتصال والانفصال فإن القابل يبقى بطريان أحدهما والاتصال لا يبقى بعد طريان الانفصال .
وظاهر أن هنا جوهراً غير الصورة الجسمية هو الهيولى الذي يعرض لها الانفصال والاتصال معاً وهي تقارن الصورة الجسمية فهي التي تقبل الاتحاد بالصورة الجسمية فتصير جسماً واحداً بما يقومها وذلك هو الهيولى أو المادة .
والمادة لا يجوز أن تفارق الصورة الجسمية وتقوم موجودة بالفعل : والدليل عليه من وجهين : أحدهما : أنا لو قدرناها مجردة لا وضع لها ولا حيز ولا أنها تقبل الانقسام فإن هذه كلها صور ثم قدرنا أن الصورة صادقتها : فإما أن تكون صادقتها دفعة أعني المقدار المحصل يحل فيها دفعة لا على تدريج أو تحرك إليها المقدار والاتصال على تدريج .(13/330)
فإن حل فيها دفعة ففي اتصال المقدار بها يكون قد صادفها حيث انضاف إليها فيكون لا محالة صادفها وهو في الحيز الذي هو فيه فيكون ذلك الجوهر متحيزاً وقد فرض غير متحيز البتة .
وهذا خلف .
ولا يجوز أن يكون التحيز قد حصل له دفعة واحدة مع قبول المقدار ولأن المقدار يوافيه في حيز مخصوص وإن حل فيها المقدار والاتصال على انبساط وتدريج وكل ما من شأنه أن ينبسط فله جهات وما له جهات فهو ذو وضع فيكون ذلك الجوهر ذا وضع وقد فرض غير ذي وضع البتة .
وهذا خلف .
فتعين أن المادة لن تتعرى عن الصورة قط وأن الفصل بينهما فصل بالعقل فقط .
والدليل الثاني : أنا لو قدرنا للمادة وجوداً خاصاً متقوماً غير ذي كم ولا جزء باعتبار نفسه ثم يعرض عليه الكم فيكون ما هو متقوم بأنه لا جزء له ولا كم يعرض أن يبطل عنه ما يتقوم به بالفعل لو رود عارض عليه فيكون حينئذ للمادة صورة عارضة بها تكون واحدة بالقوة والفعل وصورة أخرى بها تكون غير واحدة بالفعل فيكون بين الأمرين شيء مشترك هو القابل للأمرين من شأنه أن يصير مرة ليس في قوته أن ينقسم ومرة في قوته أن ينقسم .
ولنفرض الآن أن هذا الجوهر قد صار بالفعل أثنين ثم صارا شيئاً واحداً بأن خلعا صورة الأثنينية فلا يخلو : أما إن اتحدا وكل واحد منهما موجود فهما اثنان لا واحد وإن اتحدا وأحدهما معدوم والآخر موجود فالمعدوم كيف يتحد بالموجود وإن عدما جميعاً بالاتحاد وحدث شيء واحد ثالث فهما غير متحدين بل فاسدان وبينهما وبين الثالث مادة مشتركة وكلامنا في نفس المادة لا في شيء ذي مادة فالمادة الجسمية لا توجد مفارقة للصورة وإنها إنما تقوم بالفعل بالصورة .(13/331)
ولا يجوز أن يقال : إن الصورة بنفسها موجودة بالقوة وإنما تصير بالفعل بالمادة لأن جوهر الصورة هو الفعل وما بالقوة محله المادة والصورة وإن كانت لا تفارق الهيولى فليست تقوم بالهيولى بل بالعلة المفيدة إياها للهيولى وكيف يتصور أن تقوم الصورة بالهيولى وقد أثبت أنها علتها والعلة لا تتقوم بالمعلول وفرق بين الذي يتقوم به الشيء وبين الذي لا يفارقه فإن المعلول لا يفارق العلة وليس علة لها .
فما يقوم الصورة أمر مباين لها مفيد الوجود وما يقوم الهيولى أمر ملاق لها وهو الصورة .
وأول الموجودات في استحقاق الوجود الجوهر المفارق الغير المجسم الذي يعطي صورة الجسم وصورة كل موجود ثم الصورة ثم الجسم ثم الهيولى وهي وإن كانت سبباً للجسم فإنها ليست بسبب يعطي الوجود بل سبب يقبل الوجود فإنه محل لنيل الوجود وللجسم وجودها وزيادة وجود الصورة فيه التي هي أكمل منها .
ثم العرض أولى بالوجود فإن أولى الأشياء بالوجود هو الجوهر ثم الأعراض وفي الأعراض ترتيب في الوجود أيضاً .
المسألة الثالثة : في أقسام العلل وأحوالها وفي القوة والفعل وفي إثبات الكيفيات في الكمية وإن الكيفيات أعراض لا جواهر .
وقد بينا في المنطق أن العلل أربع وتحقيق وجودها ههنا أن نقول : المبدأ والعلة يقال لكل ما يكون قد استتم له وجوده في نفسه ثم حصل منه وجود شيء آخر ونقوم به ثم لا يخلو ذلك : إما أن يكون كالجزء لما هو معلول له وهذا على وجهين : إما أن يكون جزءاً ليس يجب عن حصوله بالفعل أن يكون ما هو معلول له موجوداً بالفعل وهذا هو العنصر ومثاله الخشب للسرير فإنك تتوهم الخشب موجوداً ولا يلزم من وجوده وحده أن يحصل السرير بالفعل بل المعلول موجود فيه بالقوة .
وإما أن يكون جزءاً يجب عن حصوله بالفعل وجود المعلول له بالفعل وهذا هو الصورة ومثاله الشكل والتأليف للسرير .(13/332)
وإن لم يكن كالجزء لما هو معلول له : فإما أن يكون مبايناً أو ملاقياً لذات المعلول والملاقى : فإما أن ينعت به المعلول وإما أن ينعت بالمعلول وهذان هما في حكم الصورة والهيولى .
وإن كان مبايناً : فإما أن يكون الذي منه الوجود وليس الوجود لأجله وهو الفاعل وإما أن لا يكون منه الوجود بل لأجله الوجود وهو الغاية .
والغاية تتأخر في حصول الوجود وتتقدم سائر لعلل في السببية وفرق بين السببية والوجود في الأعيان فإن المعنى له وجود في الأعيان ووجود في النفس وأمر مشترك وذلك الأمر المشترك هو السببية والغاية بما هي سبب فإنها تتقدم وهي علة العلل في أنها علل وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر وإذا لم تكن العلة الفاعلية هي بعينها الغاية .
كان الفاعل متأخراً في السببية عن الغاية .
ويشبه أن يكون الحاصل عند التمييز هو أن الفاعل الأول والمحرك الأول في كل شيء هو الغاية وإن كانت العلة الفاعلية هي الغاية بعينها استغنى عن تحريك الغاية فكان نفس ما هو فاعل نفس ما هو محرك من غير توسط .
وأما سائر العلل فإن الفاعل والقابل قد يتقدمان المعلول بالزمان .
وأما الصورة فلا تتقدم بالزمان البتة بل بالرتبة والشرف لأن القابل أبداً مستفيد والفاعل مفيد .
وقد تكون العلة علة للشيء بالذات .
وقد تكون بالعرض .
وقد تكون علة قريبة وقد تكون علة بعيدة وقد تكون علة لوجود الشيء فقط وقد تكون علة لوجوده ولدوام وجوده فإنه إنما يحتاج إلى الفاعل لوجوده وفي حال وجوده لا لعدمه السابق وفي حال عدمه فيكون الموجد الذي هو موجد للوجود والموجود هو الذي يوصف بأنه موجد فكما أنه في حال ما هو موجود يوصف بأنه موجد كذلك الحال في كل حال فكل موجد محتاج إلى موجد مقيم لوجوده لولاه لعدم .(13/333)
وأما القوة والفعل فالقوة تقال لمبدأ التغير في آخر من حيث إنه آخر وهو إما في المنفعل وهي القوة الانفعالية وإما في الفاعل وهي القوة الفعلية : وقوة المنفعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد كقوة الماء على قبول الشكل دون قوة الحفظ وفي الشمع قوة عليهما جميعاً وفي الهيولى الأولى قوة الجميع ولكن بتوسط شيء دون شيء وقوة الفاعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد كقوة النار على الإحراق فقط وقد تكون على أشياء كثيرة كقوة المختارين وقد يكون في الشيء قوة على شيء ولكن بتوسط شيء دون شيء والقوة الفعلية المحدودة إذا لاقت القوة المنفعلة حصل منها الفعل ضرورة وليس كذلك في غيرها مما يستوي فيه الأضداد وهذه القوة ليست هي التي يقابلها لما بالفعل فإن هذه تبقى موجودة عندما يفعل والثانية إنما تكون موجودة مع عدم الفعل .
وكل جسم صدر عنه فعل ليس بالعرض ولا بالقسر فإنه يفعل بقوة ما فيه أما الذي بالإرادة والاختيار فظاهر وأما الذي ليس بالاختيار فلا يخلو : إما أن يصدر عن ذاته بما هو ذاته أو عن قوة في ذاته أو عن شيء مباين فغن صدر عن ذاته بما هو جسم فيجب أن تشاركه سائر الأجسام وإذا تميز عنها بصدور ذلك الفعل عنه فلمعنى في ذاته زائد على الجسمية وإن صدر عن شيء مباين فلا يخلو إما أن يكون جسماً أو غير جسم فإن كان جسماً فالفعل عنه بقسر لا محالة وقد فرض بلا قسر هذا خلف .
وإن لم يكن جسماً فتأثر الجسم عن ذلك المفارق غما أن يكون لكونه جسماً أو لقوة فيه ولا يجوز أن يكون بكونه جسماً وقد أبطلناه فتعين أنه لقوة فيه هي مبدأ صدور ذلك الفعل عنه وذلك هو الذي نسميه القوة الطبيعية وهي التي تصدر عنها الأفاعيل الجسمانية من التحيزات إلى أماكنها والتشكيلات الطبيعية وإذا خليت وطباعها لم يجز أن يحدث منها زوايا مختلفة بل ولا زاوية فيجب أن تكون كرة وإذا صح وجود الكرة صح وجود الدائرة .(13/334)
المسألة الرابعة : في المتقدم والمتأخر والقديم والحادث وإثبات المادة لكل متكون .
التقدم قد يقال بالطبع وهو أن يوجد الشيء وليس الآخر بموجود ولا يوجد الآخر إلا وهو موجود كالواحد والاثنين وقد يقال بالزمان كتقدم الأب على الابن ويقال بالرتبة وهو الأقرب إلى المبدأ الذي عين كالمتقدم في الصف الأول أن يكون أقرب إلى الإمام ويقال بالكمال والشرف كتقدم العالم على الجاهل ويقال بالعلية لأن للعلة استحقاقاً للوجود قبل المعلول وهما بما هما ذاتان ليس يلزم فيهما خاصية التقدم والتأخر ولا خاصية المعية ولكن بما متضايفان وعلة ومعلول وإن أحدهما لم يستفد الوجود من الآخر والآخر استفاد الوجود منه فلا محالة كان المفيد متقدماً والمستفيد متأخراً بالذات .
وإذا رفعت العلة ارتفع المعلول لا محالة وليس إذا ارتفع المعلول ارتفعت بارتفاعه العلة بل إن صح فقد كانت العلة ارتفعت أولى بعلة أخرى حتى ارتفع المعلول .
واعلم بأن الشيء إذا كان كما يكون محدثاً بحسب الزمان كذلك قد يكون محدثاً بحسب الذات فإن الشيء إذا كان له في ذاته أن لا يجب له وجود بل هو باعتبار ذاته ممكن الوجود مستحق للعدم لولا علته .(13/335)
والذي بالذات يجب وجوده قبل الذي من غير الذات فيكون لكل معلول في ذاته أولاً أنه ليس تم عن العلة وثانياً أنه أيس فيكون كل معلول محدثاً : أي مستفيداً الوجود من غيره وإن كان مثلاً في جميع الزمان موجوداً مستفيداً لذلك الوجود عن موجد فهو محدث لأن وجوده من بعد لا وجوده بعدية بالذات وليس حدوثه إنما هو آن من الزمان فقط بل هو محدث في الدهر كله ولا يمكن أن يكون حادثاً بعد ما لم يكن في زمانه إلا وقد تقدمت المادة فإنه قبل وجوده ممكن الوجود وإمكان الوجود إما أن يكون معنى معدوماً أو معنى موجوداً ومحال أن يكون معدوماً فإن المعدوم قبل والمعدوم مع : واحد وهو قد سبقه الإمكان والقبل المعدوم موجود مع وجوده فهو إذاً معنى موجود وكل معنى موجود فإما قائم لا في موضوع أو قائم في موضوع وكل ما هو قائم لا في موضوع فله وجود خاص لا يجب أن يكون به مضافاً وإمكان الوجود إنما هو وا ه وبالإضافة إلى ما هو إمكان وجود له فهو إذاً معنى في موضوع وعارض لموضوع .
ونحن نسميه قوة الوجود ونسمي حامل قوة الوجود الذي فيه قوة وجود الشيء موضوعاً وهيولى ومادة وغير ذلك .
فإذاً : كل حادث فقد تقدمته المادة كما تقدمه الزمان .
المسالة الخامسة : في الكلي والواحد ولواحقهما .
قال : المعنى الكلي بما هو طبيعة ومعنى كالإنسان بما هو إنسان شيء وبما هو واحد أو كثير خاص أو عام شيء آخر بل هذه المعاني عوارض تلزمه لا من حيث هو إنسان بل من حيث هو في الذهن أو في الخارج .
وإذا قد عرفت ذلك فقد يقال كلي للإنسانية بلا شرط وهو بهذا الاعتبار موجود بالفعل في الأشياء وهو محمول على كل واحد لا على أنه واحد بالذات ولا على أنه كثير .
وقد يقال كلي للإنسانية بشرط أنها مقولة على كثيرين وهو بهذا الاعتبار ليس موجوداً بالفعل في الأشياء .(13/336)
فبين ظاهر أن الإنسان الذي اكتنفته الأعراض المشخصة لم تكتنفه أعراض شخص آخر حتى يكون ذلك بعينه في شخص زيد وعمرو فلا كلي عام في الوجود بل الكلي العام بالفعل إنما هو في العقل وهو الصورة التي في العقل كنقش واحد تنطبق عليه صورة وصورة .
ثم الواحد يقال لما هو منقسم من الجهة التي قيل له منها أنه واحد ومنه ما لا ينقسم في الجنس ومنه ما لا ينقسم في النوع ومنه ما لا ينقسم بالعرض العام كالغراب والقار في السود ومنه ما لا ينقسم بالمناسبة كنسبة العقل إلى النفس .
ومنه ما لا ينقسم في العدد ومنه ما لا ينقسم في الحد .
والواحد بالعدد : إما أن يكون فيه كثرة بالفعل فيكون واحداً بالتركيب والاجتماع وإما أن لا يكون ولكن فيه كثرة بالقوة فيكون واحداً بالاتصال وإن لم يكن فيه ذلك فهو الواحد بالعدد على الإطلاق .
والكثير يكون على الإطلاق وهو العدد الذي بازاء الواحد كما ذكرنا والكثير بالإضافة هو الذي يترتب بإزائه القليل فأقل العدد اثنان .
وأما لواحق الواحد : فالمشابهه وهي اتحاد في الكيفية والمساواة وهي اتحاد في الكمية والمجانسة اتحاد في الجنس والمشاكلة اتحاد في النوع والموازاة اتحاد في وضع الأجزاء والمطابقة اتحاد في الأطراف واللهو هو حال بين اثنين جعلا اثنين في الوضع يصير بها بينهما اتحاد بنوع ما ويقابل كل واحد منهما من باب الكثير مقابل .
المسألة السادسة : في تعريف واجب الوجود بذاته وأنه لا يكون بذاته وبغيره معاً وانه لا كثرة في ذاته بوجه وإنه خير محض وحق محض وأنه واحد من وجوه شتى ولا يجوز أن يكون اثنان واجبي الوجود وفي إثبات واجب الوجود بذاته .
قال : واجب الوجود معناه أنه ضروري الوجود وممكن الوجود معناه أنه ليس فيه ضرورة لا في وجوده ولا في عدمه .
ثم إن واجب الوجود قد يكون بذاته وقد لا يكون بذاته .(13/337)
والقسم الأول هو الذي وجوده لذاته لا لشيء آخر والثاني هو الذي وجوده لشيء آخر أي شيء كان ولوضع ذلك الشيء صار واجب الوجود مثل الأربعة واجبة الوجود لا بذاتها ولكن عند وضع أثنين واثنين ولا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته وبغيره معاً فإنه إن رفع ذلك الغير لم يخل : إما أن يبقى وجوب وجوده أو لم يبق فإن بقي فلا يكون واجباً بغيره وإن لم يبق فلا يكون واجباً بذاته فكل ما هو واجب الوجود بغيره فهو ممكن الوجود بذاته فإن وجوب وجوده تابع لنسبة ما وهي اعتبار غير اعتبار نفس ذات الشيء فاعتبار الذات وحدها : إما أن يكون مقتضياً لوجوب الوجود وقد أبطلناه وإما أن يكون مقتضياً لامتناع الوجود وما امتنع بذاته لم يوجد بغيره وإما أن يكون مقتضياً لإمكان الوجود وهو الباقي .
وذلك إنما يجب وجوده بغيره لأنه إن لم يجب كان بعد ممكن الوجود لم يترجح وجوده على عدمه ولا يكون بين هذه الحالة والأولى فرق فإن قيل : تجددت حالة فالسؤال عنها كذلك .
ثم واجب الوجود بذاته لا يجوز لذاته مبادئ تجتمع فيتقوم منها واجب الوجود : لا أجزاء كمية ولا أجزاء حد سواء كانت كالمادة والصورة أو كانت على وجه آخر بأن تكون أجزاء القول الشارح لمعنى اسمه : يدل كل واحد منها على شيء هو في الوجود غير الآخر بذاته وذلك لأن كل ما هذا صفته فذات كل جزء منه ليس هو ذات الآخر ولا ذات المجتمع وقد وضح أن الأجزاء بالذات أقدم من الكل فتكون العلة الموجبة للوجود علة للأجزاء ثم للكل ولا يكون شيء منها بواجب الوجود .
وليس يمكننا أن نقول : إن الكل أقدم بالذات من الأجزاء فهو إما متأخر وإما معاً فقد اتضح أن واجب الوجود ليس بحسم ولا مادة في جسم ولا صورة في جسم ولا مادة معقولة لقبول صورة معقولة ولا صورة معقولة في مادة معقولة ولا قسمة له : لا في الكم ولا في المبادئ ولا في القول فهو واجب الوجود في جميع جهاته إذ هو واحد من كل وجه فلا جهة وجهة .(13/338)
وأيضاً فإن قدر أن يكون واجباً من جهة ممكناً من جهة كان إمكانه متعلقاً بواجب فلم يكن واجب الوجود بذاته مطلقاً فينبغي أن يتفطن من هذا لأن واجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود له منتظر بل كل ما هو ممكن له فهو واجب له فلا له إرادة منتظرة ولا علم منتظر ولا طبيعة ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة وهو خير محض وكمال محض .
والخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجود كل شيء والشر لا ذات له بل هو إما عدم جوهر أو عدم صلاح حال للجوهر فالوجود خيرية وكمال الوجود كمال الخيرية والوجود الذي لا يقارنه عدم لا عدم جوهر ولا عدم حال للجوهر بل هو دائم بالفعل فهو خير محض والممكن بذاته ليس خيراً محضاً لأن ذاته تحتمل العدم وواجب الوجود هو حق محض لأن حقيقة كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له فلا أحق إذاً من واجب الوجود .
وقد يقال حق أيضاً لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقاً فلا أحق بهذه الصفة مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقاً ومع صدقه دائماً ومع دوامه لذاته لا لغيره .
وهو واحد محض لأنه لا يجوز أن يكون نوع واجب الوجود لغير ذاته لأن وجود نوعه له بعينه : إما أن تقتضيه ذات نوعه أو لا تقتضيه ذات نوعه بل تقتضيه علة فإن كان وجود نوعه مقتضى ذات نوعه لم يوجد إلا له وإن كان لعلة فهو معلول فهو إذاً تام في وحدانيته وواحد من جهة تمامية وجوده وواحد من جهة أن حده له وواحد من جهة أنه لا ينقسم إلا بالكم ولا بالمبادئ المقومة له ولا بأجزاء الحد وواحد من جهة أن لكل شيء وحدة محضة وبها كمال حقيقته الذاتية وواحد من جهة أن مرتبته من الوجود وهو وجوب الوجود ليس إلا له فلا يجوز إذاً أن يكون أيمان كل واحد منهما واجب الوجود بذاته فيكون وجوب الوجود مشتركاً فيه على أن يكون جنساً أو عارضاً ويقع الفصل بشيء آخر إذ يلزم التركيب في ذات كل واحد منهما .(13/339)
بل ولا تظن أنه موجود وله ماهية وراء الوجود كطبيعة الحيوان واللون مثلاً الجنسين اللذين يحتاجان إلى فصل وفصل حتى يتقررا في وجودهما لأن تلك الطبائع معلولة وإنما يحتاجان لا في نفس الحيوانية واللونية المشتركة بل في الوجود .
وههنا : فوجوب الوجود هو الماهية وهو مكان الحيوانية التي لا تحتاج إلى فصل في أن يكون حيواناً بل في أن يكون موجوداً .
ولا تظن أن واجبي الوجود لا يشتركان في شيء ما كيف وهما يشتركان في وجوب الوجود ويشتركان في البراءة عن الموضوع فإن كان واجب الوجود يقال عليهما بالاشتراك فكلامنا ليس في منع كثرة اللفظ والاسم بل في معنى واحد من معاني ذلك الاسم وإن كان بالتباطؤ فقد حصل معنا عام عموم لازم أو عموم جنس وقد بينا استحالة هذا .
وكيف يكون عموم وجوب الوجود لشيئين على سبيل اللوازم التي تعرض من خارج واللوازم معلولة وإما إثبات واجب الوجود فليس يمكن إلا ببرهان إن وهو الاستدلال الممكن على الواجب فنقول : كل جملة من حيث أنها جملة سواء كانت متناهية أو غير متناهية إذا كانت مركبة من ممكنات فإنها لا تخلو : إما أن تكون واجبة بذاتها أو ممكنة بذاتها فإن كانت واجبة الوجود بذاتها وكل واحد منها ممكن الوجود يكون واجب الوجود يتقوم ببمكنات الوجود هذا خلف .
وإن كانت ممكنة الوجود بذاتها فالجملة محتاجة في الوجود إلى مفيد للوجود فإما أن يكون المفيد خارجاً عنها أو داخلاً فيها فإن كان داخلاً فيها فيكون واحداً منها واجب الوجود وكائن كل واحد منها ممكن الوجود هذا خلف .
فتعين أن المفيد يجب أن يكون خارجاً عنها وذلك هو المطلوب .
المسألة السابعة : في أن واجب الوجود عقل وعاقل ومعقول وأنه يعقل ذاته والأشياء وصفاته قال : العقل يقال على كل مجرد عن المادة وإذا كان مجرداً بذاته عن المادة فهو عقل لذاته واجب الوجود مجرد بذاته عن المادة فهو عقل لذاته .(13/340)
وبما يعتبر له أن هويته مجردة لذاته فهو معقول لذاته وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة فهو عاقل لذاته وكونه عاقلاً ومعقولاً لا يوجب أن يكون اثنين في الذات ولا اثنين في الاعتبار فإنه ليس تحصيل الأمرين إلا أنه له ماهية مجردة وأنه ماهية مجردة ذاته له وههنا تقديم وتأخير في ترتيب المعاني في عقولنا والغرض المحصل هو شيء واحد .
وكذلك عقلنا لذاتنا هو نفس الذات وإذا عقلنا شيئاً فلسنا نعقل أن نعقل بعقل آخر لأن ذلك يؤدي إلى التسلسل .
ثم لما لم يكن جمال وبهاء فوق جمال وبهاء لماهية عقلية صرفة وخيرية محضة بريئة عن المواد وأنحاء النقص واحدة من كل جهة ولم يسلم ذلك بكنهه إلا لواجب الوجود فهو الجمال المحض والبهاء المحض وكل جمال وبهاء وملائم وخير فهو محبوب معشوق وكلما كان الإدراك أشد اكتناهاً والمدرك أجمل ذاتاً فحب القوة المدركة له وعشقها له والتذاذها به كان أشد وأكثر فهو أفضل مدرك بأفضل إدراك لأفضل مدرك وهو عاشق لذاته ومعشوق لذاته عشق من غيره أو لم يعشق .
وأنت تعلم أن إدراك العقل للمعقول أقوى من إدراك الحس للمحسوس لأن العقل إنما يدرك الأمر الباقي ويتحد به ويصير هو هو ويدركه بكنهه لا بظاهره ولا كذلك الحس فاللذة التي لنا بأن نعقل فوق اللذة التي لنا بأن نحس لكنه قد يعرض أن تكون القوة الدراكة لا تستلذ بالملائم لعوارض كالمرور يستمر العسل لعارض .
واعلم أن واجب الوجود ايس يجوز أن يعقل الأشياء من الأشياء وإلا فذاته إما متقومة بما يعقل أو عارض لها أن يعقل وذلك محال بل كما أنه مبدأ كل وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها .(13/341)
والموجودات الكائنة الفسدة بأنواعها أولاً وبتوسط ذلك بأشخاصها ولا يجوز أن يكون عاقلاً لهذه المتغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة وتارة يعقل منها أنها معدومة غير موجودة ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحد من الصورتين يبقى مع الثانية فيكون واجب الوجود متغير الذات بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو فعلي كلي ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض .
وأما كيفية ذلك فلأنه إذا عقل ذاته وعقل أنه مبدأ كل موجود عقل أوائل الموجودات وما يتولد عنها .
ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار من جهة ما واجباً بسببه فتكون الأسباب بمصادماتها تتأذى إلى أن يوجد عنها الأمور الجزئية .
فالأول يعلم الأسباب ومطابقاتها فيعلم ضرورة ما تتأذى إليه وما بينها من الأزمنة وما لها من العادات فيكون مدركاً للأمور الجزئية من حيث هي كلية أعني من حيث لها صفات وإن تخصصت بها شخصاً فبالإضافة إلى زمان متشخص أو حال متشخصة .
وكونه يعقل ذاته ونظام الخير الموجود في الكل ونفس مدركة من الكل هو سبب لوجود الكل ومبدأ له وإبداع وإيجاد ولا يستبعد هذا فإن الصورة المعقولة التي تحدث فينا تصير سبباً للصورة الموجودة الصناعية ولو كانت بنفس وجودها كافية لأن تتكون منها الصورة الصناعية دون آلات وأسباب لكان المعقول عندنا هو بعينه الإرادة والقدرة وهو العقل المقتضى لوجوده فواجب الوجود ليس إرادته وقدرته مغايرة لعلمه .(13/342)
لكن القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلا هو مبدأ الكل : لا مأخوذاً عن الكل ومبدأ بذاته لا متوقفاً على غرض وذلك هو الإرادة وهو جواد بذاته وذلك هو بعينه قدرته وإرادته وعلمه فالصفات منها ما هو بهذه الصفة أي أنه موجود مع هذه الأضافة ومنها ما له هذا الوجود مع سلب فمن لم يتحاش عن إطلاق لفظ الجوهر لم يعن به إلا هذا الوجود مع سلب الكون في موضوع .
وهو واحد أي مسلوب عنه القسمة بالكم أو القول أو مسلوب عنه الشريك وهو عقل وعاقل ومعقول أي مسلوب عنه جواز مخالطة المادة وعلائقها مع اعتبار إضافة ما وهو أول أي مسلوب عنه الحدوث مع إضافة وجوده إلى الكل وهو مريد أي واجب الوجود مع عقليته أي سلب المادة عنه مبدأ لنظام الخير كله وهو جواد أي هو بهذه الصفة بزيادة سلب أي لا ينحو غرضاً لذاته : فصفاته إما إضافية محضة وإما سلبية محضة وإما مؤلفة من إضافة وسلب : وذلك لا يوجب تكثراً في ذاته .
قال : وإذا عرفت انه واجب الوجود وأنه مبدأ لكل موجود فما يجوز عنه يجب أن يوجد وذلك لأن الجائز أن يوجد وأن لا يوجد إذا تخصص بالوجود منه احتاج إلى مرجح لجانب الوجود والمرجح إذا كان على الحال التي كان عليها قبل الترجيح ولم يعرض البتة شيء فيه ولا مباين عنه يقتضي الترجيح في هذا الوقت دون وقت قبله أو بعده وكان الأمر على ما كان عليه لم يكن مرجحاً إذا كان التعطل عن الفعل والفعل عنده بمثابة واحدة فلا بد وأن يعرض له شيء وذلك لا يخلو : إما أن يعرض في ذاته وذلك يوجب التغيير وقد قدمنا أن واجب الوجود لا يتغير ولا يتكثر وإما أن يعرض مبايناً عن ذاته والكلام في ذلك المباين كالكلام في سائر الأفعال .(13/343)
قال : والعقل الصريح الذي لم يكذب يشهد أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع جهاتها واحدة وهي كما كانت وكان لا يوجد عنها شيء فيما قبل وهي الآن كذلك فالآن لا يوجد عنها شيء فإذا صار الآن يوجد عنها شيء فقد حدث أمر لا محالة : من قصد أو إرادة أو طبع أو قدرة أو تمكن أو غرض ولأن الممكن أن يوجد وأن لا يوجد لا يخرج إلى الفعل ولا يترجح له أن يوجد إلا بسبب وإذا كانت هذا الذات موجودة ولا ترجح ولا يجب عنها الترجح ثم رجح فلا بد من حادث موجب للترجيح في هذه الذات وإلا كانت نسبتها إلى ذلك الممكن على ما كانت قبل ولم تحدث لها نسبة أخرى فيكون الأمر بحالة ويكون الإمكان إمكاناً صرفاً بحاله وإذا حدثت لها نسبة فقد حدث أمر ولا بد من أن يحدث في ذاته أو مبايناً عن ذاته وقد بينا استحالة ذلك .
وبالجملة فإنا نطلب النسبة الموقعة لوجود كل حادث في ذاته أو مباين عن ذاته ولا نسبة أصلاً فيلزم أن لا يحدث شيء أصلاً وقد حدث فعلم أنه إنما حدث بإيجاب من ذاته وأنه سبقه لا بزمان ووقت ولا تقدير زمان بل سبقاً ذاتياً من حيث إنه هو الواجب لذاته وكل ممكن بذاته فهو محتاج إلى الواجب لذاته .
فالممكن مسبوق بالواجب فقط والمبدع مسبوق بالمبدع فقط .
لا بالزمان .
المسألة الثامنة : في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وفي ترتيب وجود العقول والنفوس والأجرام العلوية وأن المحرك القريب للسماويات نفس والمبدأ الأبعد عقل وحال تكون الأسطقسات عن العلل .(13/344)
إذا صح أن واجب الوجود بذاته واحد من جميع جهاته فلا يجوز أن يصدر عنه إلا واحد ولو لزم عنه شيئان متباينان بالذات والحقيقة لزوماً معاً فإنما يلزمان عن جهتين مختلفتين في ذاته ولو كانت الجهتان لازمتين لذاته فالسؤال في لزومهما ثابت حتى يكونا من ذاته فتكون ذاته منقسمة بالمعنى وقد منعناه وبينا فساده فتبين أن أول الموجودات عن الأول واحد بالعدد وذاته وماهيته وحدة لا ما في مادة وقد بينا أن كل ذات لا في مادة فهي عقل .
وأنت تعلم أن في الموجودات أجساماً وكل جسم ممكن الوجود في حيز نفسي وأنه يجب بغيره وعلمت أنه لا سبيل إلى أن يكون عن الأول بغير واسطة وعلمت أن الواسطة واحدة فبالحري أن تكون عنها المبدعات الثانية والثالثة وغيرها بسبب إثنينية فيها ضرورة .
فالمعلول الأول ممكن الوجود بذاته وواجب الوجود بالأول ووجوب وجوده بأنه عقل وهو يعقل ذاته ويعقل الأول ضرورة وليست هذه الكثرة له من الأول فإن إمكان وجوده له بذاته لا بسبب الأول بل له من الأول وجوب وجوده ثم كثرة أنه يعقل الأول ويعقل ذاته كثرة لازمة لوجوب وجوده عن الأول وهذه كثرة إضافية ليست في أول وجوده وداخلة في مبدأ قوامه ولولا هذه الكثرة لكان لا يمكن أن يوجد منها إلا وحدة ولا كان يتسلسل الوجود من وحدات فقط فما كان يوجد جسم .
فالعقل الأول يلزم عنه بما يعقل الأول وجود عقل تحته وبما يعقل ذاته وجود صورة الفلك وكماله وهي النفس وبطبيعة إمكان الوجود الخاصية له المندرجة فيما يعقله لذاته وجود جرمية الفلك الأعلى المندرجة في جملة ذات الفلك الأعلى بنوعه وهو الأمر المشارك للقوة .
فيما يعقل الأول يلزم عنه عقل وبما يختص بذاته على جهتيه الكثرة الأولى بجزأيها أعني المادة والصورة والمادة بتوسط الصورة أو بمشاركتها : كما أن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالعقل الذي يحاذي صورة الفلك .
وكذلك الحال في عقل عقل وفلك فلك .(13/345)
إلا أن ينتهي إلى العقل الفعال الذي يدبر أنفسنا .
وليس يجب أن يذهب هذا المعنى إلى غير النهاية حتى يكون تحت كل مفارق مفارق فإنه إن لزم كثرة عن العقول فبسبب المعاني التي فيها من الكثرة وقولنا هذا ليس ينعكس حتى يكون كل عقل فيه هذه الكثرة فتلزم كثرته هذه المعلولات ولا هذه العقول متفقة الأنواع حتى يكون مقتضى معانيها متفقاً .
ومن المعلوم أن الأفلاك كثيرة فوق العدد الذي في المعلول الأول فليس يجوز أن يكون مبدؤها واحداً هو المعلول الأول ولا أيضاً يجوز أن يكون كل جرم متقدم منها علة للتأخر لأن الجرم بما هو جرم مركب من مادة وصورة فلو كان علة لجرم لكان بمشاركة المادة .
والمادة لها طبيعة عدمية والعدم ليس مبدأ للوجود فلا يجوز أن يكون جرم مبدأ للوجود فلا يجوز أن يكون جرم مبدأ لجرم ولا يجوز أن يكون مبدؤها قوة نفسانية هي صورة الجرم وكماله إذ كل نفس لكل فلك فهي كماله وصورته ليس جوهراً مفارقاً وإلا كان عقلاً وأنفس الأفلاك إنما تصدر عنها أفعالها في أجسام أخرى بوساطة أجسامها ومشاركتها .
وقد بينا أن الجسم من حيث هو جسم لا يكون مبدأ لجسم ولا يكون متوسطاً بين نفس ونفس .
ولو أن نفساً كانت مبدأ لنفس بغير توسط الجسم فلها انفراد قوام من دون الجسم وليست النفس الفلكية كذلك فلا تفعل شيئاً ولا تفعل حسماً فإن النفس متقدمة على الجسم في المرتبة والكمال .
فتعين أن للأفلاك مبادئ غير جرمانية وغير صور للأجرام والجميع مشترك في مبدأ واحد وهو الذي نسميه المعلول الأول والعقل المجرد .
ويختص كل فلك بمبدأ خاص فيه ويلزم دائماً عقل من عقل حتى تتكون الأفلاك بأجرامها ونفوسها وعقولها وينتهي بالفلك الأخير ويقف حيث يمكن أن تحدث الجواهر العقلية منقسمة متكثرة بالعدد لتكثر الأسباب .
فكل عقل هو أعلى في المرتبة فإنه المعني فيه وهو أنه بما يعقل الأول يجب عنه وجود عقل آخر دونه .(13/346)
وبما يعقل ذاته يجب عنه فلك بنفسه فأما جرم الفلك فمن حيث إنه يعقل بذاته الممكن لذاته .
وأما نفس الفلك فمن حيث إنه يعقل ذاته الواجب بغيره .
ويستبقي الجرم بتوسط النفس الفلكية فإن كل صورة فهي علة لكون مادتها بالفعل .
والمادة بنفسها لا قوام لها كما أن الإمكان نفسه لا وجود له .
وإذا استوفت الكرات السماوية عددها لزم بعدها وجود الأسطقسات ولما كانت الأجسام الأسطقسية كائنة فاسدة وجب أن يكون مبادئها متغيرة فلا يكون ما هو عقل محض وحده سبباً لوجودها ولما كانت لها مادة مشتركة وصور مختلفة فيها وجب أن يكون اختلاف صورها مما تعين فيه اختلف في أحوال الأفلاك واتفاق مادتها مما تعين فيه اتفاق في أحوال الأفلاك فالأفلاك لما اتفقت في طبيعة اقتضاء الحركة المستديرة كما تبين كان مقتضاها وجود المادة ولما اختلفت في أنواع الحركات كان مقتضاها تهيؤ المادة للصور المختلفة .
ثم إن العقول المفارقة بل آخرها الذي يلينا هو الذي يفيض عنه بمشاركة الحركات السماوية شئ فيه رسم صور العالم الأسفل من جهة الانفعال كما أن في ذلك العقل رسم الصور على جهة الفعل ثم يفيض منه الصور فيها بالتخصيص بمشاركة الأجرام السماوية فيكون إذا خصص هذا الشيء تأثير من التأثيرات السماوية بلا واسطة جسم عنصري أو بواسطة تجعله على استعداد خاص به بعد العام الذي كان في جوهره : فاض عن هذا المفارق صورة خاصة .
وارتسمت في تلك المادة .
وأنت تعلم أن الواحد لا يخصص الواحد من حيث كل واحد منهما واحد بأمر دون أمر يكون له إلا أن يكون هناك مخصصات مختلفة وهي معدات المادة .
والمعد : هو الذي يحدث منه في المستعد أمر ما تصير مناسبته لشيء بعينه أولي من مناسبته لشيء آخر ويكون هذا الإعداد مرجحاً لوجود ما هو أولي منه من الأوائل الواهبة للصور .
ولو كانت المادة على التهيؤ الأول تشابهت نسبتها إلى الصندين فلا يجب أن يختص بصورة دون صورة .(13/347)
قال : والأشبه أن يقال إن المادة التي تحدث بالشركة يفيض عليها من الأجرام السماوية : إما عن أربعة أجرام .
أو عن عدة منحصرة في أربع أو عن جرم واحد تكون له نسب مختلفة انقساماً من الأسباب منحصرة في أربع فتحدث منها العناصر الأربعة وانقسمت بالخفة والثقل فما هو الخفيف المطلق فميله إلى الفوق وما هو الثقيل المطلق فميله إلى الأسفل وما هو الخفيف والثقيل بالإضافة فبينهما .
وأما وجود المركبات من العناصر فبتوسط الحركات السماوية وسنذكر أقسامها وتوابعها .
وأما وجود الأنفس الإنسانية التي تحدث مع حدوث الأبدان ولا تفسد فإنها كثيرة مع وحدة النوع .
والمعلول الأول الواحد بالذات فيه معان متكثرة بها تصدر عنه العقول والنفوس كما ذكرنا ولا يجوز أن تكون تلك المعاني كثيرة متفقة النوع والحقائق حتى تصدر عنها كثرة متفقة النوع فإنه يلزم أن تكون فيه مادة يشترك فيها وصور تتخالف وتتكثر بل فيه معان مختلفة الحقائق يقتضي كل معنى شيئاً غير ما يقتضيه الآخر في النوع فلم يلزم كل واحد منهما ما يلزم الآخر .
فالنفوس الأرضية كائنة عن المعلول الأول بتوسط علة أو علل أخرى وأسباب من الأمزجة والمواد وهي غاية ما ينتهي إليها في الإبداع .
ونبتدئ القول في الحركات وأسبابها ولوازمها : أعلم أن الحركة لا تكون طبيعية للجسم والجسم على حالته الطبيعية وكل حركة بالطبع فلحالة مفارقة للطبع غير طبيعية إذ لو كان شيء من الحركات مقتضي طبيعة الشيء لما كان باطل الذات مع بقاء الطبيعة بل الحركة إنما تقتضيها الطبيعة لوجود حال غير طبيعية إما في الكيف وإما في الكم وإما في المكان وإما في الوضع وإما في مقولة أخرى .(13/348)
والعلة في تجدد حركة بعد حركة تجدد الحال الغير الطبيعية وتقدير البعد عن الغاية فإذا كان الأمر كذلك لم تكن حركة مستديرة عن طبيعة وإلا كانت عن حال غير طبيعية إلى حال طبيعية إذا وصلت إليها سكنت ولم يجز أن يكون فيها بعينها قصد إلى تلك الحالة الغير الطبيعية لأن الطبيعة ليست تفعل باختيار بل على سبيل التسخير فإن كانت الطبيعة تحرك على الاستدارة فهي تحرك لا محالة : إما عن أين غير طبيعي أو وضع غير طبيعي هرباً طبيعياً عنه وكل هرب طبيعي عن شيء فمحال أن يكون هو بعينه قصداً طبيعياً إليه .
والحركة المستديرة ليست تهرب عن شيء إلا وتقصده فليست إذاً طبيعية إلا أنها قد تكون بالطبع وإن لم تكن قوة طبيعية كانت شيئاً بالطبع وإنما تحرك بتوسط الميل الذي فيه .
ونقول : إن الحركة معنى متجدد السبب وكل شطر منه مختص بسبب فإنه لا ثبات له .
ولا يجوز أ يكون عن معنى ثابت البتة وحده ولو كان فيجب أن يلحقه ضرب من تبدل الأحوال فالثابت من جهة ما هو ثابت لا يكون عنه إلا ثابت فالإرادة العقلية الواحدة لا توجب البتة حركة فإنها مجردة عن جميع أصناف التغير والقوة العقلية حاضرة المعقول دائماً ولا يفرض فيها الانتقال من معقول إلى معقول إلا مشاركاً للتخيل والحس فلا بد للحركة من مبدأ قريب .
والحركة المستديرة مبدؤها القريب نفس في الفلك تتحد تصوراتها وإراداتها وهي كمال جسم الفلك وصورته ولو كانت قائمة بنفسها من كل وجه لكانت عقلاً محضاً لا يتغير ولا ينتقل ولا يخالط ما بالقوة بل نسبتها إلى الفلك نسبة النفس الحيوانية التي لنا إلينا إلا أن لها أن اعقل بوجه ما تعقلاً مشوباً بالمادة .(13/349)
وبالجملة أوهامها أو ما يشبه الأوهام صادقة وتخيلاتها أو ما يشبه التخيلات حقيقية كالفعل العقلي فينا والمحرك الأول لها غير مادي أصلاً وإنما تتحرك عن قوة غير متناهية والقوة التي للنفس متناهية لكنها بما تعقل الأول فيسيح عليها نوره دائماً صارت قوتها غير متناهية فكانت الحركات المستديرة أيضاً غير متناهية .
والأجرام السماوية لما لم يبق في جوهرها أمر ما بالقوة أعني في كمها وكيفها تركبت صورتها في مادتها على وجه لا يقبل التحليل ولكن عرض لها في وضعها وأينها ما بالقوة إذ ليس شيء من أجزاء مدار فلك أو كوكب أولي لأن يكون ملاقياً له أو لجزئه من جزء آخر فمتى كان في جزء بالفعل فهو في جزء آخر بالقوة .
والتشبه بالخير الأقصى يوجب البقاء على أكمل كمال ولم يكن هذا ممكناً للجرم السماوي بالعدد فحفظ بالنوع والتعاقب فصارت الحركة حافظة لما يكون من هذا الكمال ومبدؤها الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال ومبدأ الشوق هو ما يعقل منه .
فنفس الشوق إلى التشبه بالأول من حيث هو بالفعل تصدر عنه الحركات الفلكية صدور الشيء عن التصور المرجب له وإن كان غير مقصود في ذاته بالقصد الأول لأن ذلك تصور لما بالفعل فيحدث عنه طلب لما بالفعل ولا يمكن لما بالشخص فيكون بالتعاقب ثم يتبع ذلك التصور تصورات جزئية على سبيل الانبعاث إلى المقصود الأول وتتبع تلك التصورات الحرمات المنتقل بها في الأوضاع وهي كأنها عبادة ملكية أو فلكية .
وليس من شرط الحركة الإرادية أن تكون مقصودة في نفسها بل إذا كانت القوة الشوقية تشتاق نحو أمر يسيح منها تأثير تتحرك له الأعضاء فتارة تتحرك على النحو الذي يوصل به إلى الغرض وتارة على نحو آخر متشابه وإذا بلغ الالتذاذ بتعقل المبدأ الأول وبما يدرك منه على نحو عقلي أو نفساني شغل ذلك عن كل شيء ولكن ينبعث منه ما هو أدون منه في المرتبة وهو الشوق إلى الأشبه به بقدر الإمكان .(13/350)
فقد عرفت أن الفلك متحرك بطبعه ومتحرك بالنفس ومتحرك بقوة عقلية غير متناهية وتميزت عندك كل حركة عن صاحبتها وعرفت أن المحرك الأول لجملة السماء واحد ولكل كرة من كرات السماء محرك قريب يخصه ومتشوق معشوق يخصه .
فأول المفارقات الخاصة محرك الكرة الأولى وهي على قول من تقدم بطليموس كرة الثوابت وعلى قول بطليموس كرة خارجة عنها محيطة بها ير مكوكبة وبعد ذلك محرك الكرة التي تلي الأولى ولكل واحدة مبدأ خاص وللكل مبدأ فلذلك تشترك الأفلاك في دوام الحركة وفي الاستدارة .
ولا يجوز أن يكون شيء منها لأجل الكائنات السافلة لا قصد حركة ولا قصد جهة حركة ولا تقدير سرعة وبطء بل ولا قصد فعل البتة لأجلها وذلك أن كل قصد فيكون من أجل المقصود ويكون أنقص وجوداً من المقصود لأن كل ما لأجله شيء آخر فهو أتم وجوداً من الآخر ولا يجوز أن يستفاد الوجود الأكمل من الشيء الأخس فلا يكون البتة إلى معلول قصد صادق وإلا كان القصد معطياً ومفيداً لوجود ما هو أكمل وإنما يقصد بالواجب شيء يكون القصد مهيئاً له ومفيد وجوده شيء آخر وكل قصد ليس عبثاً فإنه يفيد كمالاً ما لقاصد لو لم يقصد لم يكن ذلك الكمال .
ومحال أن يكون المعلول المستكمل وجوده بالعلة يفيد العلة كمالاً لم يكن فالعالي إذاً لا يريد أمراً لأجل السافل وإنما يريده لما هو أعلى منه وهو التشبه بالأول بقدر الإمكان .
ولا يجوز أن يكون الغرض تشبهاً بجسم من الأجسام السماوية وإن كان تشبه السافل بالعالي إذ لو كان كذلك لكانت الحركة من نوع حركة ذلك الجسم ولم يكن مخالفاً له أو أسرع في كثير من الواضع .
ولا يجوز أن يكون الغرض شيئاً يوصل إليه بالحركة بل شيئاً مباسناً غير جواهر الأفلاك من موادها وأنفسها .
وبقي أن يكون لكل واحد من الأفلاك شوق تشبه بجوهر عقلي مفارق يخصه وتختلف الحركات وأفعالها وأحوالها اختلافها الذي لها لأجل ذلك وإن كنا لا نعرف كيفيتها وكميتها .(13/351)
وتكون العلة الأولى متشوق الجميع بالاشتراك وهذا نعنى قول القدماء : إن للكل محركاً واحداً معشوقاً ولكل كرة محركاً يخصها ومعشوقاً يخصها فيكون إذاً لكل فلك نفس محركة تعقل الخير ولها بسبب الجسم تخيل أي تصور للجزئيات وإرادة لها ثم يلزمها حركات ما دونها لزوماً بالقصد الأول حتى تنتهي آلة حركات الفلك الذي يلينا ومدبرها العقل الفعال .
ويلزم الحركات السماوية حركات العناصر على مثال تناسب حركات الأفلاك وتعد تلك الحركات موادها لقبول الفيض من العقل الفعال فيعطيها صورها على قدر استعداداتها كما قررنا .
فقد تبين لك أسباب الحركات ولوازمها وستعلم بواقيها في الطبيعيات .
المسألة التاسعة : في العناية الأزلية وبيان دخول الشر في القضاء .
قال : العناية هي كون الأول عالماً لذاته بما عليه الوجود من نظام وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان وراضياً به على النحو المذكور فيعقل نظام الخير على الوجه الأبلغ في الإمكان فيفيض منه ما يعثله نظاماً وخيراً على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضاناً على أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان فهذا هو معنى العناية .
والخير يدخل في القضاء الإلهي دخولاً بالذات لا بالعرض والشر بالعكس منه وهو على وجوه : فيقال شر لمثل النقص الذي هو الجهل والضعف والتشويه في الخلقة ويقال شر لمثل الألم والغم ويقال شر لمثل الشرك والظلم والرياء وبالجملة الشر بالذات هو العدم ولا كل عدم بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته .
والشر بالعرض هو المعدم والحابس للكمال عن مستحقه والشر بالذات ليس بأمر حاصل إلا أن يخبر عن لفظه ولو كان له حصول ما لكان الشر العام .
وهذا الشر يقابله الوجود على كماله الأقصى بأن يكون بالفعل وليس فيه ما بالقوة أصلاً فلا يلحقه شر .
وأما الشر بالعرض فله وجود ما وإنما يلحق ما في طباعه أمر ما بالقوة وذلك لأجل المادة .(13/352)
فيلحقها لأمر يعرض لها في نفسها وأول وجودها : هيئة من الهيئات المانعة لاستعدادها الخاص للكمال الذي توجهت إليه فتجعلها أردأ مزاجاً وأعصى جوهراً لقبول التخطيط والتشكيل والتقويم فتشوهت الخلقة وانتقصت البنية لا لأن الفاعل قد حرم بل لأن المنفعل لم يقبل .
وأما الأمر الطارئ من خارج فأحد شيئين : إما مانع للمكمل وإما مضاد ماحق للكمال .
مثال الأول : وقوع سحب كثيرة وتركمها وإظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال .
ومثال الثاني : حبس البرد للنبات المصيب لكماله في وقته حتى يفسد الاستعداد الخاص .
ويقال شر للأفعال المذمومة ويقال شر لمبادئها من الأخلاق مثال الأول : الظلم والرياء ومثال الآني : الحقد والحسد .
ويقال شر للآلام والغموم ويقال شر لنقصان كل شيء عن كماله .
والضابط لكله إما عدم وجود وإما عدم كمال .
فنقول : الأمور إذا توهمت موجودة فإما تمتنع أن تكون إلا خيراً على الإطلاق أو شراً على الإطلاق أو خيراً من وجه وشراً من وجه وهذا القسم إما أن يتساوى الخير والشر أو الغالب فيه أحدهما .
أما الخير المطلق الذي لا شر فيه فقد وجد في الطباع والخلقة وأما الشر المطلق الذي لا خير فيه أو الغالب فيه أو المساوي فلا وجود له أصلاً .
فبقي ما الغالب في وجوده الخير وليس يخلو عن شر والأحرى به أن يوجد فإن لا كونه أعظم شراً من كونه فواجب أن يفيض وجوده من حيث يقيض منه الوجود لئلا يفوت الخير الكلي لوجود الشر الجزئي .(13/353)
وأيضاً فلو امتنع وجود ذلك القدر من الشر امتنع وجود أسبابه التي تؤدي إلى الشر بالعرض وكان فيه أعظم خلل في نظام الخير الكلي بل وإن لم نلتفت إلى ذلك وصيرنا التفاتنا إلى ما ينقسم إليه الإمكان في الوجود من أصناف الموجودات المختلفة في أحوالها فكان الوجود المبرأ من الشر من كل وجه قد حصل وبقي نمط من الوجود إنما يكون على سبيل أن لا يوجد إليه ويتبعه ضرر وشر مثل النار فإن الكون إنما يتم بأن يكون فيه نار ولن يتصور حصولها إلا على وجه تحرق وتسخن ولم يكن بد من المصادمات الحادثة أن تصادف النار ثوب فقير ناسك فيحترق والأمر الدائم والأكثري حصول الخير من النار فأما الدائم فلأن أنواعاً كثيرة لا تستحفظ على لدوام إلا بوجود النار وأما الأكثر فلان أكثر الأشخاص والأنواع في كنف السلامة من الاحتراق فما كان يحسن أن تترك المنافع الأكثرية والدائمة لأعراض شرية أقلية فأريدت الخيرات الكائنة عن مثل هذا الأشياء إرادة أولية على الوجه الذي يصلح أن يقال : إن الله تعالى يريد الأشياء ويريد الشر أيضاً على الوجه الذي بالعرض فالخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرض وكل بقدر .
والحاصل أن الكل إنما رتبت فيه القوى الفعالة والمنفعلة : السماوية والأرضية : الطبيعية والنفسانية بحيث يؤدي إلى النظام الكلي مع استحالة أن تكون هي على ما هي عليه ولا تؤدي إلى شرور فيلزم من أحوال العالم بعضها بالقياس إلى بعض أن يحدث في نفس : صورة اعتقاد رديء أو كفر أو شر آخر ويحدث في بدن : صورة قبيحة مشوهة ولو لم يكن كذلك لم يكن النظام الكلي يثبت فلم يعبأ ولم يلتفت إلى اللوازم الفاسدة التي تعرض بالضرورة .
وقيل : خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي وكل ميسر لما خلق له .
المسألة العاشرة : في المعاد وإثبات سعادات دائمة للنفوس وإشارة إلى النبوة وكيفية الوحي والإلهام .(13/354)
ولنقدم على الخوض فيها أصولاً ثلاثة : الأصل الأول : أن لكل قوة نفسانية لذة وخيراً يخصها وأذى وشراً يخصها وحيثما كان المدرك أشد إدراكاً وأفضل ذاتاً والمدرك أكمل وجوداً وأشرف ذاتاً وأدوم ثباتاً فاللذة أبلغ وأوفر .
الأصل الثاني : أنه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال ما بحيث يعلم أن المدرك لذيذ ولكن لا يتصور كيفيته ولا يشعر به فلم يشتق إليه ولم يفزع نحوه فيكون حال المدرك حال الأصم والأعمى الملتذين برطوبة اللحن وملاحة الوجه من غير شعور وتصور وإدراك .
الأصل الثالث : أن الكمال والأمر الملائم قد يتيسر للقوة الدراكة وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضده أو تكون القوة ممنوة بضد ما هو كمالها فلا تحس به كالمريض والمرور فإذا فنقول بعد تمهيد الأصول : إن النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن تصير عالما عقلياً مرتسماً فيها صورة الكل والنظام المعقول في الكل والخير الفائض من واهب الصور على الكل مبتدئاً من المبدأ .
وسالكا إلى الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة ثم الروحانية المتعلقة نوعا ما بالأبدان ثم الأجسام العلوية بهيئآتها وقواها ثم تستمر كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله فتصير عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود كله مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير والبهاء والحق ومتحداً به ومنتقشاً بمثاله ومنخرطاً في سلكه وصائرا من جوهره وهذا الكمال لا يقاس بسائر الكمالات وجوداً ودواماً ولذة وسعادة بل هذه اللذة أعلى من اللذات الحسية وأعلى من الكمالات الجسمانية بل لا مناسبة بينهما في الشرف والكمال .
وهذه السعادة لا تتم له إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس وتهذيب الأخلاق .(13/355)
والخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدم روية وذلك باستعمال التوسط بين الخلقتين المضادتين لا بأن يفعل أفعال التوسط بل بأن يحصل ملكة التوسط بين الخلقتين المضادتين فيحصل في القوى الحيوانية هيئة الإذعان وفي القوى الناطقة هيئة الاستعلاء .
ومعلوم أن ملكتي الإفراط والتفريط هما من مقتضيات القوى الحيوانية فإذا قويت حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانية قد رسخت فيها من شأنها أن تجعلها قوية العلاقة مع البدن شديدة الانصراف إليه .
وأما ملكة التوسط فهي من مقتضيات الناطقة فإذا قويت قطعت العلاقة من البدن فسعدت السعادة الكبرى .
ثم للنفوس مراتب في اكتساب هاتين القوتين أعني العلمية والعملية والتقصير فيهما فكم ينبغي أن يحصل عند نفس الإنسان من تصور المعقولات والتخلق بالأخلاق الحسنة حتى يجاوز الحد الذي في مثله يقع في الشقاوة الأبدية .
وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤبد وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤقت قال : فليس يمكنني أن أنص عليه إلا بالتقريب وليته سكت عنه وقد قيل : فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد قال : وأطن أن ذلك أن يتصور نفس الإنسان المبادئ المفارقة تصوراً حقيقياً ويصدق بها تصديقاً يقيناً لوجودها عنده بالبرهان ويعرف العلل الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهى ويتقرر عنده هيئة الكل ونسب أجزائه بعضها إلى بعض والنظام الآخذ من المبدأ الأول إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه ويتصور العناية وكيفيتها ويتحقق أن الذات المتقدمة للكل أي وجود يخصها وأية وحدة تخصها : وأنها كيف تعرف حتى لا يلحقها تكثر وتغير بوجه وكيف ترتيب نسب الموجودات إليها .(13/356)
وكلما ازداد استبصاراً ازداد للسعادة استعداداً وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه إلا أن يكون قد أكد العلاقة مع ذلك العالم فصار له شوق وعشق إلى ما هناك يصده عن الالتفات إلى ما خلفه جملة .
ثم إن النفوس والقوى الساذجة ساذجيتها واستقرت فيها هيئات صحيحة إقناعية وملكات حسنة خلقية سعدت بحسب ما اكتسبت أما إذا كان الأمر بالضد من ذلك أو حصلت أوائل الملكة العلمية وحصل لها شوق قد تبع رأياً مكتسباً إلى كمال حالها فصدها عن ذلك عائق مضاد فقد يبقى الشقاء الأبدي وهؤلاء إما مقصرون في السعي لتحصيل الكمال الإنساني وإما معاندون متعصبون لآراء فاسدة مضادة للآراء الحقيقية والجاحدون أسوأ حالا .
والنفوس البله أدنى من الخلاص من فطانة بتراء لكن النفوس إذا فارقت وقد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة على مثل ما يخاطب به العامة ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي فوقهم لا كمال فتسعد تلك السعادة ولا عدم كمال فتشقى تلك الشقاوة بل جميع هيئآتهم النفسانية متوجهة إلى الأسفل منجذبة إلى الأجسام ولابد لها من تخيل ولابد للتخيل من أجسام .
قال : فلابد لها من أجرام سماوية تقوم بها القوة المتخيلة فتشاهد ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر والبعث والخيرات الأخروية وتكون الأنفس الرديئة أيضاً تشاهد العقاب المصور لهم في الدنيا وتقاسيه فإن الصورة الخيالية ليست تضعف عن الحسية بل تزداد تأثيراً كما تشاهد في المنام وهذه هي السعادة والشقاوة بالقياس إلى الأنفس الخسيسة .
وأما الأنفس المقدسة فإنها تبعد عن مثل هذه الأحوال وتتصل لكمالها بالذات وتنغمس في اللذة الحقيقية ولو كان بقي فيها أثر من ذلك اعتقادي أو خلقي تأذت به وتخلفت عن درجة عليين إلى أن ينفسخ عنها .(13/357)
قال : والدرجة الأعلى فيما ذكرناه لمن له النبوة إذ في قواه النفسانية خصائص ثلاث نذكرها في الطبيعيات فيها يسمع كلام الله تعالى ويرى ملائكته المقربين وقد تحولت على صور يراها .
وكما أن الكائنات ابتدأت من الأشرف فالأشرف حتى ترقت في الصعود إلى العقل الأول ونزلت في الانحطاط إلى المادة وهي الأخس كذلك النفوس ابتدأت من الأخس حتى بلغت النفس الناطقة وترقت إلى درجة النبوة .
ومن المعلوم أن نوع الإنسان محتاج إلى اجتماع ومشاركة في ضروريات حاجاته مكتفياً بآخر من نوعه يكون ذلك الآخر أيضاً مكتفياً به ولا تتم تلك الشركة إلا بمعاملة ومعاوضة يجريان بينهما يفرغ كل واحد منهما عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير .
ولا بد في المعامل من سنة وعدل ولا بد من سان ومعدل ولا بد من أن يكون بحيث يخاطب الناس ويلزمهم السنة فلا بد من أن يكون إنساناً .
ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك فيختلفون ويرى كل واحد منهم ما له عدلاً وما عليه ظلماً فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الإنسان أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار والحاجبين .
فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضي أمثال تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي أسها .
ولا يجوز أن يكون المبدأ الأول والملائكة بعده يعلم تلك ولا يعلم هذا ولا أن يكون ما يعلمه في نظام الأمر الممكن وجوده الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد بل كيف يجوز أن لا يوجد وما هو متعلق بوجوده ومبني على وجوده موجود ! .(13/358)
فلا بد إذاً من نبي هو إنسان متميز من بين سائر الناس بآيات تدل على أنها من عند ربه تعالى : يدعوهم إلى التوحيد ويمنعهم من الشرك ويسن لهم الشرائع والأحكام ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن التباغض والتحاسد ويرغبهم في الآخرة وثوابها ويضرب لهم للسعادة والشقاوة أمثالاً تسكن إليها نفوسهم وأما الحق فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً وهو أن ذلك شيء لا عين رأته ولا أذن سمعته ثم تكريره عليهم العبادات ليحصل لهم بعده تذكر المعبود بالتكرير .
والمذكرات إما حركات وإما إعدام حركات تفضي إلى حركات فالحركات كالصلوات وما في معناها وأعدام الحركات كالصيام ونحوه وإن لم يكن لهم هذه المذكرات تناسوا جميع ما دعاهم إليه مع انقراض قرن أو قرنين .
وينفعهم ذلك أيضاً في المعاد منفعة عظيمة فإن السعادة في الآخرة بتنزيه النفس عن الأخلاق الرديئة والملكات الفاسدة فيتقرر لها بذلك هيئة الانزعاج عن البدن وتحصل لها ملكة التسلط عليه فلا تنفعل عنه وتستفيد منه ملكة الالتفات إلى جهة الحق والإعراض عن الباطل وتصير شديدة الاستعداد للتخلص إلى السعادة بعد المفارقة البدنية وهذه الأفعال لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند الله تعالى وكان مع اعتقاده ذلك يلزمه في كل فعل أن يتذكر الله ويعرض عن غيره لكان جديراً بأن يفوز من هذا الزكاء بحظ فكيف إذا استعملها من يعلم أن النبي من عند الله تعالى وبإرسال الله تعالى وواجب في الحكمة الإلهية إرساله وأن جميع ما سنه فإنما هو ما وجب من عند الله أن يسنه وأنه متميز عن سائر الناس بخصائص بالغة وواجب الطاعة بآيات ومعجزات دلت على صدقه ! .
وسيأتي شرح ذلك في الطبيعيات .(13/359)
لكنك تحدس مما سلف آنفاً : أن الله تعالى كيف رتب النظام في الموجودات وكيف سخر الهيولى مطيعة للنفوس بإزالة صورة وإثبات صورة وحيثما كانت النفوس الإنسانية أشد مناسبة للنفوس الفلكية بل وللعقل الفعال كان تأثيرها في الهيولى أشد وأغرب وقد تصفو النفس صفاء شديداً لاستعداد ما للاتصال بالعقول المفارقة فيفيض عليها من العلوم ما لا يصل بالتقليب والإحالة من حال إلى حال وبالقوة الثانية يخبر عن غيب ويكلمه ملك .
فيكون ما للأنبياء عليهم السلام : وحياً وما للأولياء : إلهاماً .
وها نحن نبتدأ القول في الطبيعيات المنقولة عن الشيخ الرئيس أبي على ابن سينا .
في الطبيعيات قال أبو علي ابن سينا : إن للعلم الطبيعي موضوعاً ينظر فيه وفي لواحقه كسائر العلوم وموضوعه : الأجسام الموجودة بما هي واقعة في التغير وبما هي موصوفة بأنحاء الحركات والسكونات وأما مبادئ هذا العلم كمثل تركب الأجسام عن المادة والصورة والقول في حقيقتهما ونسبة كل واحد منهما إلى الثاني .
فقد ذكرناها في العلم الإلهي .
والذي يختص من ذلك التركب بالعلم الطبيعي هو أن تعلم أن الأجسام الطبيعية منها أجسام مركبة من أجسام إما متشابهة الصور كالسرير وإما مختلفتها كبدن الإنسان ومنها أجسام مفردة .
والأجسام المركبة لها أجزاء موجودة بالفعل متناهية وهي تلك الأجسام المفردة التي منها تركبت وأما الأجسام المفردة فليس لها في الحال جزء بالفعل وفي قوتها أن تتجزأ أجزاء غير متناهية كل منها أصغر من الآخر .
والتجزؤ إما بتفريق الاتصال وإما باختصاص العرض ببعض منه وإما بالتوهم وإذا لم يكن أحد هذه الثلاثة فالجسم المفرد لا جزء له بالفعل .(13/360)
قال : ومن أثبت الجسم مركباً من أجزاء لا تتجزأ بالفعل فبطلانه لأن كل جزء مس جزءاً فقد شغله بالمس وكل ما شغل شيئاً بالمس فإما أن يدع فراغاً عن شغله لجهة أو لا يدع فإن ترك فراغاً فقد تجزأ الممسوس وإن لم يترك فراغاً فلا يتأتى أن يماسه آخر غير المماس الأول وقد ماسه آخر .
هذا خلف .
وكذلك في كل جزء موضوع على جزأين متصل وغيره .
من تركيب المربعات منها لمساواة الأقطار والأضلاع ومن جهة مسامتات الظل والشمس .
دلائل على أن الجزء الذي لا يتجزأ البتة : محال وجوده .
فنتكلم بعد هذه المقدمة في مسائل هذا العلم .
ونحصرها في ست مقالات .
المقالة الأولى في لواحق الأجسام الطبيعية مثل الحركة والسكون والزمان والمكان والخلاء والتناهي والجهات والتماس والالتحام والاتصال والتتالي .
أما الحركة : فتقال على تبدل حال قارة في الجسم يسيراً على سبيل الاتجاه نحو شيء والوصول إليه هو بالقوة أو بالفعل فيجب أن تكون الحركة مفارقة الحال ويجب أن يقبل الحال التنقص والتزيد ويكون باقياً غير متشابه الحال في نفسه وذلك مثل السواد والبياض والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والطول والقصر والقرب والبعد وكبر الحجم وصغره فالجسم إذا كان في مكان فتحرك فقد حصل فيه كمال وفعل أول يتوصل به إلى كمال وفعل ثان هو الوصول فهو في المكان الأول بالفعل وفي المكان الثاني بالقوة فالحركة : كمال أول لما بالقوة من جهة ما هو بالقوة ولا يكون وجودها إلا في زمان بين القوة المحصنة والفعل المحض وليست من الأمور التي تحصل بالفعل حصولاً قاراً مستكملاً وقد ظهر أنها في كل أمر يقبل التنقص والتزيد وليس شيء من بجواهر كذلك فإذاً : لا شيء من الحركات في الجوهر .
وكون الجوهر وفساده ليس بحركة بل هو أمر يكون دفعة .
وأما الكمية فلأنها تقبل التزيد والتنقص فخليق أن يمون فيها حركة كالنمو والذبول والتخلخل والتكاثف .(13/361)
وأما الكيفية فما يقبل منها التنقص والتزيد والاشتداد كالتبيض والتسود فيوجد فيه الحركة .
وأما المضاف فأبداً عارض لمقولة من البواقي في قبول التنقص والتزيد فإذا أضيفت إليه حركة فذلك بالحقيقة لتلك المقولة .
وأما الأين فإن وجود الحركة فيه ظاهر وهو النقلة .
وأما متى فإن وجوده للجسم بتوسط الحركة فكيف يكون فيه الحركة ولو كان ذلك لكان لمتى متى آخر .
وأما الوضع فإن فيه حركة على رأينا خاصة كحركة الجسم المستدير على نفسه إذ لو توهم المكان المطيف به معدوماً لما امتنع كونه متحركاً .
ولو قدر ذلك في الحركة المكانية لامتنع ومثاله في الموجودات : الجرم الأقصى الذي ليس وراءه جسم .
والوضع يقبل التنقص والاشتداد فيقال : انصب وأنكس .
وأما الملك فإن تبدل الحال فيه تبدل أولاً في الأين فإذاً الحركة فيه بالعرض .
وأما أن يفعل فتبدل الحال فيه بالقوة أو العزيمة أو الآلة فكانت الحركة في قوة الفاعل أو عزيمته أو آلته أولاً وفي الفعل بالعرض .
على أن الحركة إن كانت خروجاً عن هيئة فهي عن هيئة قارة وليس شيء من الأفعال كذلك فإذاً : لا حركة بالذات إلا : في الكم والكيف والأين والوضع وهو كون الشيء بحيث لا يجوز أن يكون على ما هو عليه من أينه وكمه وكيفه ووضعه قبل ذلك ولا بعده .(13/362)
والسكون : هو عدم هذه الصورة في ما من شأنه أن توجد فيه وهذا العدم له معنى ما ويمكن أن يرسم وفرق بين عدم القرنين في الإنسان وهو السلب المطلق عقداً وقولاً وبين عدم المشي له فهو حالة مقابلة للمشي توجد عند ارتفاع علة المشي وله وجود ما بنحو من الأنحاء وله علة ثم اعلم أن كل حركة توجد في الجسم فإنما توجد لعلة محركة إذ لو تحرك بذاته وبما هو جسم لكان كل جسم متحركاً فيجب أن يكون المحرك معنى زائداً على هيولى الجسمية وصورتها ولا يخلو : إما أن يكون ذلك المعنى في الجسم وإما أن لا يكون فإن كان المحرك مفارقاً فلا بد لتحريكه من معنى في الجسم قابل لجهة التحريك والتغيير .
ثم المتحرك لمعنى في ذاته يسمى متحركاً بذاته وذلك إما أن تكون العلة الموجودة فيه يصح عنها أن تحرك تارة ولا تحرك أخرى فيسمى متحركاً بالاختيار وإما أن لا يصح فيسمى متحركاً بالطبع .
والمتحرك بالطبع لا يجوز أن يتحرك وهو على حالته الطبيعية لأن كل ما اقتضاه طبيعة الشيء لذاته ليس يمكن أن يفارقه إلا والطبيعة قد فسدت .
وكل حركة تتعين في الجسم فإنها يمكن أن تفارق والطبيعة لم تبطل لكن الطبيعة إنما تقتضي الحركة للعود إلى حالتها الطبيعية فإذا عادت ارتفع الموجب للحركة وامتنع أن يتحرك فيكون مقدار الحركة على مقدار البعد من الحالة الطبيعية .
وهذه الحركة ينبغي أن تكون مستقيمة إن كانت في المكان لأنها لا تكون إلا لميل طبيعي وكل ميل طبيعي فعلى أقرب مسافة وكل ما هو على أقرب المسافة فهو على خط مستقيم فالحركة المكانية المستديرة ليست طبيعية ولا الحركة الوضعية فإن كل حركة طبيعية فإنها لهرب عن حالة غير طبيعية ولا يجوز أن يكون فيه قصد طبيعي بالعود إلى ما فارقه بالهرب إذ لا اختيار لها وقد تحقق العود فهي إذاً غير طبيعية فهي إذاً عن اختيار وإرادة ولو كانت عن قسر فلا بد أن ترجع إلى الطبع أو الاختيار .(13/363)
وأما الحركات في أنفسها فيتطرق غليها الشدة والضعف فيتطرق إليها الشرعة والبطء لا بتخلل سكنات .
وهي قد تكون واحدة بالجنس إذا وقعت في مقولة واحدة أو في جنس واحد من الأجناس التي تحت تلك المقولة وقد تكون واحدة بالنوع وذلك إذا كانت ذات جهة مفروضة عن جهة واحدة إلى جهة واحدة في نوع واحد وفي زمان مساو مثل تبييض ما يتبيض وقد تكون واحدة بالشخص وذلك إذا كانت عن متحرك واحد بالشخص في زمان واحد ووحدتها بوجود الاتصال فيها .
والحركات المتفقة في النوع لا تتضاد .
وأما تطابق الحركات فيعني بها التي يجوز أن يقال لبعضها أسرع من بعض أو أبطأ أو مساو والأسرع هو الذي يقطع شيئاً مساوياً لما يقطعه الآخر في زمان اقصر وضده الأبطأ والمساوي معلوم .
وقد يكون التطابق بالقوة وقد يكون بالفعل وقد يكون بالتخيل .
وأما تضاد الحركات فإن الضدين هما اللذين موضوعهما واحد وهما ذاتان يستحيل أن يجتمعا فيه وبينهما غاية الخلاف فتضاد الحركات ليس بتضاد الأطراف والجهات فعلى هذا لا تضاد بين الحركة المستقيمة والحركة المستديرة المكانية لأنهما لا يتضادان في الجهات بل المستديرة لا جهة فيها بالفعل لأنها متصل واحد فالتضاد في الحركات المكانية المستقيمة يتصور فالهابطة ضد الصاعدة والمتيامنة ضد المتياسرة .
وأما التقابل بين الحركة والسكون فهو تقابل العدم والملكة وقد بينا أن ليس كل عدم هو السكون بل هو عدم ما من شأنه أن يتحرك ويختص ذلك بالمكان الذي تتأتى فيه الحركة .
والسكون في المكان المقابل إنما يقابل الحركة عنه لا الحركة إليه بل ربما كان هذا السكون استكمالاتها .
وإذا عرفت ما ذكرناه سهل عليك معرفة الزمان بأن تقول : كل حركة تفرض في مسافة على مقدار من السرعة وأخرى معها على مقدارها وابتدأتا معاً فإنهما يقطعان المسافة معاً وإن ابتدأت إحداهما ولم تبتدئ الأخرى ولكن تركتا الحركة معاً فإن إحداهما تقطع دون ما تقطعه الأولى .(13/364)
وإن ابتدأ معه بطيء واتفقا في الأخذ والترك وجد البطيء قد قطع أقل والسريع أكثر وكان بين أخذ السريع الأول وتركه إمكان قطع مسافة معينة بسرعة معينة وأقل منها ببطء معين وبين أخذ السريع الثاني وتركه إمكان أقل من ذلك بتلك السرعة المعينة .
يكون هذا الإمكان طابق جزءاً من الأول ولم يطابق جزءاً مقتضياً وكان من شأن هذا الإمكان التقضي لأنه لو ثبت للحركات بحال واحدة لكانت تقطع المتفقات في السرعة أي وقت ابتدأت وتركت مسافة واحدة بعينها ولما كان إمكان أقل من إمكان فوجد في هذا الإمكان زيادة ونقصان يتعينان فكان ذا مقدار مطابق للحركة فإذاً ههنا مقدار للحركات مطابق لها .
وكل ما طابق الحركات فهو متصل ويقتضي الاتصال تجدده وهو الذي نسمبه : الزمان .
ثم هو لا بد وأن يكون في مادة ومادته الحركة فهو مقدار الحركة .
وإذا قدرت وقوع حركتين مختلقتين في العدم كان هناك إمكانان مختلفان بل مقداران مختلفان .
وقد سبق أن الإمكان والمقدار لا يتصور إلا في موضوع فليس الزمان محدثاً حدوثاً زمانياً بحيث يسبقه زمان لأن كلامنا في ذلك الزمان بعينه وإنما حدوثه حدوث إبداع لا يسبقه إلا مبدعه .
وكذلك ما يتعلق به الزمان ويطابقه فالزمان متصل يتهيأ أن ينقسم بالتوهم فإذا قسم ثبتت منه آنات وانقسم إلى الماضي والمستقبل وكونهما فيه ككون أقسام العدد في العدد وكون الآن فيه كالوحدة في العدد وكون المتحركات فيه ككون المعدودات في العدد .
والدهر هو المحيط بالزمان .
وأقسام الزمان ما فصل منه بالتوهم كالساعات والأيام والشهور والأعوام .
وأما المكان فيقال مكان : لشيء يكون محيطاً بالجسم ويقال : لشيء يعتمد عليه الجسم .(13/365)
والأول هو الذي يتكلم فيه الطبيعي وهو حاو للمتمكن مفارق له عند الحركة ومساو له وليس هو شيئاً في المتمكن وكل هيولى وصورة فهو منن المتمكن فليس إذا المكان إذاً بهيولى وصورة ولا الأبعاد التي يدعى أنها مجردة عن المادة قائمة بمكان الجسم المتمكن لا مع امتناع خلوها كما يراه قوم ولا مع جواز خلوها كما يظنه مثبتو الخلاء .
ونقول في نفي الخلاء : إن فرض خلاء خال فليس هو لا شيئاً محضاً بل هو ذات ما له كم لأن كل خلاء يفرض فقد يوجد خلاء آخر أقل منه أو اكثر ويقبل التجزؤ في ذاته .
والمعدوم واللا شيء ليس يوجد هكذا فليس الخلاء لا شيء فهو ذو كم .
وكل كم فإما متصل وإما منفصل والمنفصل لذاته عديم الحد المشترك بين أجزائه وقد تقرر في الخلاء حد مشترك فهو إذاً متصل الأجزاء منحازها في جهات فهو إذاً كم ذو وضع قابل للأبعاد الثلاثة كالجسم الذي يطابقه وكأنه جسم تعليمي مفارق للمادة .
فنقول : الخلاء المقدر إما أن يكون موضوعاً لذلك المقدار أو يكون الوضع والمقدار جزأين من الخلاء والأول باطل فإنه إذا رفع المقدار في التوهم : كان الخلاء وحده بلا مقدار بنفسه لا لمقدار حله وإن كان الخلاء مجموع مادة ومقدار فالخلاء إذا جسم فهو ملاء .
وأيضاً فإن كل شيء يقبل الاتصال والانفصال فهو ذو مادة مشتركة قابلة لهما كما بينا والخلاء لا مادة له فلا يجوز عليه الانفصال والاتصال ونقول : إن التمانع محسوس بين الجسمين وليس التمانع من حيث المادة لأن المادة من حيث إنها مادة لا انحياز لها عن الأجزاء وإنما ينحاز الجسم عن الجسم لأجل صورة البعد فطباع الأبعاد تأبى التداخل وتوجب المقاومة والتنحي .
وأيضاً فإن بعداً لو دخل فإما أن يكونا جميعاً فهما أزيد من الواحد وكل ما هو عظيم وهو أزيد فهو أعظم .
وإن عدما جميعاً .
أو وجد أحدهما وعدم الآخر فليس مداخلة .(13/366)
فإذا قيل : ونقول في نفي اللانهاية عن الجسم : إن كل موجود الذات ذا وضع وترتيب فهو متناه إذ لو كان غير متناه فإما أن يكون غير متناه من الأطراف كلها أو غير متناه من طرف .
فإن كل غير متناه من طرف أمكن أن يفصل منه من الطرف المتناهي جزء بالتوهم قيوجد ذلك المقدار مع ذلك الجزء شيئاً على حدة إما أن يكونا بحيث يمتدان معاً متطابقين في الامتداد فيكون الزائد والناقص متساويين وهذا محال وإما أن لا يمتد بل يقصر عنه فيكون متناهياً والفصل أيضاً كان متناهياً فيكون المجموع متناهياً فالأصل متناه .
وأما إذا كان غير متناه من جميع الأطراف فلا يبعد أن يفرض ذا مقطع تتلاقى عليه الأجزاء ويمون طرفاً ونهاية ويكون الكلام في الأجزاء والجزأين كالكلام في الأول .
وبهذا يتأتى البرهان على أن العدد المترتب الذات الموجود بالفعل متناه وأن ما لا يتناهى بهذا الوجه هو الذي إذا وجد وفرض أنه يحتمل زيادة ونقصاناً وجب أن يلزم ذلك محال .
وأما إذا كانت أجزاؤه لا تتناهى وليست معاً وكانت في الماضي والمستقبل فغير ممتنع وجودها واحداً قبل آخر أو بعده لاحقاً أو كانت ذات عدد مرتب في الوضع ولا الطبع فلا مانع عن وجوده معاً وذلك أن ما لا يترتب له في الوضع أو الطبع فلن يحتمل الانطباق وما لا وجود له معاً فهو فيه أبعد ونقول في إثبات التناهي في القوى الجسمانية ونفي التناهي عن القوى غير الجسمانية : قال : الأشياء التي يمتنع فيها وجود غير المتناهي بالفعل فليس يمتنع فيها من جميع الوجوه فإن العدد لا يتناهى أي بالقوة وكذلك الحركات لا تتناهى بالقوة لا القوة التي تخرج إلى الفعل بل بمعنى أن الأعداد يتأتى أن تتزايد فلا تقف عند نهاية أخيرة .(13/367)
واعلم أن القوى تختلف في الزيادة والنقصان بالنسبة إلى شدة ظهور الفعل عنها أو إلى عدة ما يظهر عنها أو إلى مدة بقاء الفعل وبينها فرقان بعيدان فإن جل ما يكون زائداً بنوع الشدة يكون ناقصاً بنوع المدة .
وكل قوة حركت أشد فمدة حركتها أقصر وعدة حركتها أكثر ولا يجوز أن تكون قوة غير متناهية بحسب اعتبار الشدة لأن ما يظهر من الأحوال القابلة لها لا يخلو : إما أن يقل الزيادة على ما ظهر فيكون متناهياً يجوز عليه زيادة في آخره وإما أن لا يقبل فهو النهاية في الشدة فكل قوة جسمانية متجزئة ومتناهية .
وأما الكلام في الجهات فمن المعلوم أنا لو فرضنا خلاء فقط أو أبعاداً أو جسماً غير متناه فلا يمكن أن يكون للجهات المختلفة بالنوع وجود البتة فلا يكون فوق وسفل ويمين ويسار وقدام وخلف فالجهات إنما تتصور في أجسام متناهية فتكون الجهات أيضاً متناهية ولذلك يتحقق إليها إشارة .
ولذاتها اختصاص وانفراد عن جهة أخرى .
وإذا كانت الأجسام كرية فيكون تحدد الجهات على سبيل المحيط والمحاط والتضاد فيها على سبيل المركز والمحيط .
وإذا كان الجسم المحدد محيطاً كفى لتحديد الطرفين لأن الإحاطة تثبت المركز فتثبت غاية البعد منه وغاية القرب من غير حاجة إلى جسم آخر .
وأما إن فرض محاطاً لم تتحدد به وحده الجهات لأن القرب يتحدد به والبعد منه يتحدد بجسم آخر إذ لا خلاء وذلك ينتهي لا محالة إلى محيط .(13/368)
ويجب أن تكون الأجسام المستقيمة الحركة لا يتأخر عنها وجود الجهات لأمكنتها وحركاتها بل الجهات تحصل بحركاتها فيجب أن يكون الجسم الذي تتحدد الجهات إليه جسماً متقدماً عليه وتكون إحدى الجهات بالطبع وسائر الجهات لا تكون واجبة في الأجسام بما هي أجسام بل بما هي حيوانات فتتميز فيها جهة القدام الذي إليه الحركة الاختيارية واليمين الذي منه مبدأ القوة والفوق إما بقياس فوق العالم والسفل محدودان بطرفي البعد الذي الأولى أن يسمى طولاً واليمين واليسار بما الأولى أن يسمى عرضاً والقدام والخلف بما الأولى أن يسمى عمقاً .
المقالة الثانية في الأمور الطبيعية وغير الطبيعية للأجسام .
من المعلوم أن الأجسام تنقسم إلى بسيطة ومركبة وأن لكل جسم حيزاً ما ضرورة فلا يخلو : إما أن يكون كل حيز له طبيعياً أو منافياً لطبيعته أو لا طبيعياً ولا منافياً أو بعضه طبيعياً وبعضه منافياً .
وبطل أن يكون كل حيز له طبيعياً لأنه يلوم منه أن يكون مفارقة كل مكان له خارجاً عن طبعه أو التوجه إلى كل مكان له ملائماً لطبعه وليس الأمر كذلك فهو خلف .
وبطل أن يكون كل حيز منافياً لطبعه لأنه يلزم منه أن لا يسكن جسم البتة بالطبع ولا يتحرك أيضاً وكيف يسكن أو يتحرك بالطبع وكل مكان مناف لطبعه .
وبطل أن يكون كل مكان لا طبيعياً ولا منافياً لأنا إذا اعتبرنا الجسم على حالته وقد ارتفع عنه القواسر والعوارض فحينئذ لا بد له من حيز يختص به ويتحيز إليه وذلك هو حيزه الطبيعي فلا يزول عنه إلا بقسر قاسر .
وتعين القسم الرابع : لأن بعض الأحياز له طبيعي وبعضها غير طبيعي .(13/369)
وكذلك نقول في الشكل : إن لكل جسم شكلاً ما بالضرورة لتناهي حدوده وكل شكل فإما طبيعي له أو بقسر قاسر وإذا ارتفعت القواسر في التوهم واعتبرت الجسم من حيث هو جسم وكان في نفسه متشابه الأجزاء فلا بد أن يكون شكله كرياً لأن فعل الطبيعة في المادة واحد متشابه فلا يمكن أن يفعل في جزء زاوية وفي جزء خطاً مستقيماً أو منحنياً فينبغي أن يتشابه الأجزاء فيجب أن يكون الشكل كرياً .
وأما المركبات فقد تكون أشكالها غير كرية لاختلاف أجزائها .
فالأجسام السماوية كلها كرية .
وإذا تشابهت أجزاؤها وقواها كان حيزها الطبيعي وجهتها واحدة فلا يتصور أرضا في وسطين في عالمين ولا ناران في أفقين بل لا يتصور عالمان لأنه قد ثبت أن العالم بأسره كري الشكل فلو قدر كريان أحدهما بجنب الآخر كان بينهما خلاء ولا يتصلان إلا بجزء واحد لا ينقسم وقد تقدم استحالة الخلاء .
وأما الحركة فمن المعلوم أن كل جسم اعتبر ذاته من غير عارض بل من حيث هو جسم في حيز فهو إما أن يكون متحركاً وإما أن يكون ساكناً وذلك ما نعنيه بالحركة الطبيعية والسكون الطبيعي فنقول : إن كان الجسم بسيطاً كانت أجزاؤه متشابهة وأجزاء ما يلاقيه وأجزاء مكانه كذلك فلم يكن بعض الأجزاء أولى بأن يختص بعض أجزاء المكان من بعض فلم يجب أن يكون شيء منها له طبيعياً فلا يمتنع أن يكون على غير ذلك الوضع بل في طباعه أن يزول عن ذلك الوضع أو الأين بالقوة وكل جسم لا ميل له في طبعه فلا يقبل الحركة عن سبب خارج فبالضرورة في طباعه حركة ما إما لكله وإما لأجزائه حتى يكون متحركاً في الوضع بحركة الأجزاء وإذا : صح أن كل قابل تحريك ففيه مبدأ ميل ثم لا يخلو إما أن يكون على الاستقامة أو على الاستدارة .
والأجسام السماوية لا تقبل الحركة المستقيمة كما سبق فهي متحركة على الاستدارة وقد بينا استناد حركاتها إلى مبادئها .(13/370)
وأما الكيف فنقول أولاً : إن الأجسام السماوية ليست موادها مشتركة بل هي مختلفة بالطبع كما أن صورها مختلفة ومادة الواحدة منها لا يصلح أن تتصور بصورة الأخرى ولو أمكن ذلك كذلك لقبلت الحركة المستقيمة وهو محال .
فلها طبيعة خامسة مختلفة بالنوع بخلاف طبائع العناصر فإن مادتها مشتركة وصورها مختلفة وهي تنقسم إلى حار يابس كالنار وإلى حار رطب كالهواء وإلى بارد رطب كالماء وإلى بارد يابس كالأرض وهذه أعراض فيها لا صور ويقبل الاستحالة بعضها إلى بعض ويقبل النمو والذبول ويقبل الآثار من الأجسام السماوية .
وأما الكيفيات فالحرارة والبرودة فاعلتان فالحار هو الذي يغير جسماً آخر بالتحليل والخلخلة بحيث يألم الحاس منه والبارد هو الذي يغير جسماً بالتعقيد والتكثيف بحيث يألم الحاس منه .
وأما الرطوبة واليبوسة فمنفعلتان فالرطب هو سهل القبول للتفريق والجمع والتشكيل والدفع واليابس هو عسر القبول لذلك .
فبسائط الأجسام المركبة تختلف وتتمايز بهذه القوى الأربع ولا يوجد شيئاً منها عديماً لواحدة من هذه .
وليست هذه صوراً مقومة للأجسام لكنها إذا تركت وطباعها ولم يمنعها مانع من خارج ظهر منها في أجرامها حر أو برد ورطوبة ويبس كما أنها إذا تركت وطباعها ولم يمنعها مانع ظهر منها إما سكون أو ميل وحركة فلذلك قيل قوة طبيعية وقيل النار حارة بالطبع والسماء متحركة بالطبع .
فعرفت الأحياز الطبيعية والأشكال الطبيعية والحركات الطبيعية والكيفيات الطبيعية .
وعرفت أن إطلاق الطبيعية عليها بأي وجه فنقول بعد ذلك : إن العناصر قابلة للاستحالة والتغير وبينها مادة مشتركة والاعتبار في ذلك بالمشاهدة فإنا نرى الماء العذب انعقد حجراً جلمد والحجر يكلس فيعود رماداً ويرام بالحيلة حتى يصير ماء فالمادة مشتركة بين الماء والأرض .(13/371)
ونشاهد هواء صحواً يغلظ دفعة فيستحيل أكثره أو كله ماء وبرداً وثلجاً ونضع الجمد في كوز صفر فنجد من الماء المجتمع على سطحه كالقطر ولا يمكن أن يكون ذلك بالرشح لأنه ربما كان ذلك حيث لا يماسه الجمد وكان فوق مكانه ثم لا نجد مثله إذا كان حاراً والكوز مملوءا ويجتمع مثل ذلك داخل الكوز حيث لا يماسه الجمد وقد يدفن القدح في جمد محفور حفراً مهندماً ويسد رأسه عليه فيجتمع فيه ماء كثير وإن وضع في الماء الحار الذي يغلي مدة واستد رأسه لم يجتمع شيء وليس ذلك إلا لأن الهواء الخارج أو الداخل قد استحال ماء فبين الماء والهواء مادة مشتركة .
وقد يستحيل الهواء ناراً وهو ما نشاهد من آلات حاقنة مع تحريك شديد على صورة المنافخ فيكون ذلك الهواء بحيث يشتعل في الخشب وغيره وليس ذلك على طريق الانجذاب لأن النار لا تتحرك إلا على سبيل الاستقامة إلى العلو ولا على طريق الكمون إذ من المستحيل أن يكون في ذلك الخشب من النار الكامنة ما له ذلك القدر الذي في الجمرة ولا يحترق والكمون أجمع لها والمنتشر أضعف تأثيراً من المجتمع فتعين أنه هواء اشتعل ناراً فبين النار والهواء مادة مشتركة .
ونقول : إن العناصر قابلة للكبر والصغر والتكاثف والتخلخل فيصير جسم أكبر من جسم من غير زيادة من خارج ويصير أصغر من غير نقصان فبين الكبير والصغير مادة مشتركة إذ قد تحقق أن المقدار عرض في الهيولى والكبر والصغر أعراض في الكميات .(13/372)
وقد نشاهد ذلك إذا أغلي الماء انتفخ وتخلخل والخمر ينتفخ في الدن حتى يتصعد عند الغليان وكذلك القمقمة الصياحة وهي إذا كانت مسدودة الرأس مملوءة بالماء وأوقدت النار تحتها انكسرت وتصدعت ولا سبب له إلا أن الماء صار أكثر مما كان ولا جائز من الماء ولا خلاء فيه ولا جائز أن يقال : إن النار طلبت جهة الفوق بطبعها فإنه كان ينبغي أن ترفع الإناء وتطيره لا أن تكسره وإذا كان الإناء صلباً خفيفاً كان رفعه أسهل من كسره فتعين أن السبب انبساط الماء في جميع الجوانب ودفعه سطح الإناء إلى الجوانب فيتفتق الموضع الذي كان أضعف وله أمثلة أخرى تدل على أن المقدار يزيد وينقص .
ونقول : إن العناصر قابلة للتأثيرات السماوية : غما آثار محسوسة مثل نضج الفواكه ومد البحار وأظهرها الضوء والحرارة بواسطة الضوء والتحريك إلى فوق بتوسط الحرارة والشمس ليست بحارة ولا متحركة إلى فوق وإنما تأثيراتها معدات للمادة في قبول الصورة من واهب الصور وقد يكون للقوى الفلكية تأثيرات خارجة من العنصريات وإلا فكيف يبرد الأفيون أقوى مما يبرد الماء والجزء البارد فيه مغلوب بالتركيب مع الأضداد وكيف يفعل ضوء الشمس في عيون العشي والنبات بأدنى تسخين ما لا تفعله النار بتسخين يكون فوقه .
فتبين أن العناصر كيف قبلت الاستحالة والتغير والتأثير .
وتبين ما لها بالعنصر والجوهر .
المقالة الثالثة في المركبات والآثار العلوية .
قال ابن سينا : إن العناصر الأربعة عساها أن لا توجد كلياتها صرفة بل يكون فيها اختلاط ويشبه أن تكون النار أبسطها في موضعها ثم الأرض أما النار فلأن ما يخالطها يستحيل إليها لقوتها وأما الأرض فلأن نفوذ قوى ما يحيط بها في كليتها بأسرها كالقليل وعسى أن يكون باطنها القريب من المركز يقرب من البساطة ثم الأرض على طبقات : الطبقة الأولى القريبة من المركز والثانة الطين والثالثة بعضها ماء وبعضها طين جففته الشمس وهو البر .(13/373)
والسبب في أن الماء غير محيط بالأرض أن الأرض تنقلب ماء فتحصل وهدة والماء يستحيل أرضاً فتحصل ربوة والأرض صلب وليس بسيال كالماء والهواء حتى ينصب بعض أجزائه إلى بعض ويتشكل بالاستدارة .
وأما الهواء فهو أربع طبقات : طبقة تلي الأرض فيها مائية من البخارات وحرارة لأن الأرض تقبل الضوء من الشمس فتحمي فتتعدى الحرارة إلى ما يجامرها وطبقة لا تخلو عن رطوبة بخارية ولكن أقل حرارة وطبقة هي هواء صرف صاف وطبقة دخانية لأن الأدخنة ترتفع إلى الهواء وتقصد مركز النار فتكون كالمنتشر في السطح الأعلى من الهواء إلى أن تتصعد فتحترق .
وأما النار فإنها طبقة واحدة ولا ضوء لها بل هي كالهواء المشف الذي لا لون له وإن رئي لون للنار فهي بما يخالطها من الدخان صارت ذات لون .
ثم فوق النار الأجرام العالية الفلكية والعناصر بطبقاتها طوعها والكائنات الفاسدات تتولد من تأثيراتها .
والفلك وإن لم يكن حاراً ولا بارداً فإنه ينبعث منه في الأجرام السفلية حرارة وبرودة بقوى تفيض منه إليها ونشاهد هذا من إحراق شعاعه المنعكس على المرائي ولو كان سبب الإحراق حرارة الشمس دون شعاعه لكان كل ما هو أقرب إلى العلو أسخن بل سبب الإحراق التفاف الشعاع الشمسي المسخن لما يلتف به فيسخن الهواء فالفلك إذاً هيج بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية الأرضية .
والبخار أقل مسافة وأثار شيئاً بين الغبار والدخان من الأجسام المائية الأرضية .
والبخار أقل مسافة في صعوده من الدخان لأن الماء إذا سخن كان حاراً رطباً .
والأجزاء الأرضية إذا سخنت ولطفت كانت حارة يابسة والحار الرطب أقرب إلى طبيعة الهواء والحار اليابس أقرب إلى طبيعة النار .
والبخار لا يجاوز مركز الهواء بل إذا وافى منقطع تاثير الشعاع برد وكثف والدخان يتعدى حيز الهواء حتى يوافي تخوم النار وإذا احتبستا فيهما حدثت كائنات أخر .(13/374)
فالدخان إذا وافى حيز النار اشتغل وإذا اشتعل فربما سعى فيه الاشتعال فرئي كأنه كوكب يقذف به وربما احترق وثبت فيه الاحتراق فرئيت العلامات الهائلة الحمر والسود ز ربما كان غليظاً ممتداً وثبت فيه الاشتعال ووقف تحت كوكب ودارت به النار بدوران الفلك وكان ذنباً له وربما كان عريضاً فرئي كأنه لحية كوكب وربما حميت الأدخنة في برد الهواء للتعاقب المذكور فانضغطت مشتعلة وإن بقي شيء من الدخان في تضاعيف الغيم وبرد صار ريحاً وسط الغيم يتحرك عنه بشدة يحصل منه صوت يسمى الرعد وإن ناراً مضيئة تسمى البرق وإن كان المشتعل كثيفاً ثقيلاً محرقاً اندفع بمصادمات الغيم إلى جهة الأرض فيسمى صاعقة ولكنها نار لطيفة تنفذ في الثياب والأشياء الرخوة وتنصدم بالأشياء الصلبة كالذهب والحديد فيذيبه حتى يذيب الذهب في الكيس ولا يحرق الكيس ويذيب ذهب المراكب ولا يحرق السير .
ولا يخلو برق عن رعد لأنهما جميعاً عن الحركة ولكن البصر أحد فقد يرى البرق ولا ينتهي صوت الرعد إلى السمع وقد يرى متقدماً ويسمع متأخراً .
وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جداً ويتراكم ويكثر مدده في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحاباً والقاطر مطراً ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعاً وينزل كما لو يوافيه برد الليل سريعاً قبل أن يتركم سحاباً وهذا هو الطل وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب فنزل وكان ثلجاً وربما جمد البخار غير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل فنزل وكان صقيعاً وربما جمد البخار بعدما استحال قطرات ماء فكان برداً وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب وفي الربيع وهو داخل السحاب وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة وربما تكاثف في الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحاباً واستحال مطراً .(13/375)
ثم ربما وقع على صقيل الظاهر من السحاب صور النيرات وأضواؤها كما يقع في المرائي والجدران الثقيلة فيرى ذلك على أحوال مختلفة بحسب اختلاف بعدها من النير وقربها وبعدها من المرئي وصفائها وكدورتها واستوائها ورعشتها وكثريها وقلتها فيرى هالة وقوس قزح وشموس وشهب .
فالهالة تحدث على انعكاس البصر عن الرش المطيف بالنير إلى النير حيث يكون الغمام المتوسط لا يخفي النير فيرى دائرة كأنها منطقة محورها الخط الواصل بين الناظر وبين النير وما في داخلها ينفذ عن البصر إلى النير ونوره الغالب على أجزاء الرش يجعله كأنه غير موجود وكأن الغيم هناك هواء شفاف .
وأما القوس فإن الغمامة يكون في خلاف جهة النير فتنعكس الزوايا عن الرش إلى النير لا بين الناظر والنير بل الناظر أقرب إلى النير منه إلى المرآة فتقع الدائرة التي هي كالمنطقة أبعد من الناظر إلى النير فإن كانت الشمس على الأفق كان الخط المار بالناظر والنير على بسيط الأفق وهو المحور فيجب أن يكون سطح الأفق يقسم المنطقة بنصفين فيرى القوس نصف دائرة فإن ارتفعت الشمس انخفض الخط المذكور فصار الظاهر في المنطقة الموهومة أقل من نصف دائرة وأما تحصيل الألوان على الجهة الشافية فإنه لم يستبن بعد .
والسحب ربما تفرقت وذابت فصارت ضباباً وربما اندفعت بعد التطلف إلى أسفل فصارت رياحاً وربما هاجت الرياح لاندفاع بعضها من جانب إلى جهة وربما هاجت لانبساط الهواء بالتخلخل عند جهة واندفاعه إلى أخرى وأكثر ما يهيج البرد الدخان المتصعد المجتمع الكثير ونزوله فإن مبادئ الرياح فوقانية وربما عطفها مقاومة الحركة الدورية التي تتبع الهواء العالي فانعطفت رياحاً والسموم ما كان منها محترقاً .(13/376)
وأما الأبخرة داخل الأرض فتميل إلى جهة فتبرد فتستحيل ماء فيصعد بالمد فيخرج عيوناً وإن لم تدعها السخونة تبرد وكثرت وغلظت فلم تنفذ في مجاري مستحصفة فاجتمعت واندفعت مرة فزلزلت الأرض فخسفت وقد تحدث الزلزلة من تساقط أعالي وهدة في باطن الأرض فيموج بها الهواء المحتقن وإذا احتبست الأبخرة في باطن الجبال والكهوف فيتولد منها الجواهر إذا وصل إليها من سخونة الشمس وتأثير الكواكب حظ وذلك بحسب اختلاف المواضع والأزمان والمواد .
فمن الجواهر ما هو قابل للإذابة والطرق كالذهب والفضة ويمون قبل أن يصلب زئبقاً ونفطاً وانطراقها لحياة رطوبتها ولعصيانها الجمود التام .
ومنها ما لا يقبل ذلك .
وقد تتكون من عناصر أكوان أيضاً بسبب القوى الفلكية إذا امتزجت العناصر امتزاجاً أكثر اعتدالاً من المعادن فيحصل في المركب قوة عادية وقوة نامية وقوة مولدة وهذه القوى متمايزة بخصائصها .
المقالة الرابعة : في النفوس وقواها .
اعلم أن النفس كجنس واحد ينقسم إلى ثلاثة أقسام : أحدها النباتية : وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتولد ويربو ويغتذي والغذاء جسم من شأنه أن يتشبه بطبيعة الجسم الذي قيل إنه غذاؤه : ويزيد فيه مقدار ما يتحلل أو أكثر أو أقل .
والثاني النفس الحيوانية : وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة .
والثالث النفس الإنسانية : وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري والاستنباط بالرأي ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية .(13/377)
وللنفس النباتية قوى ثلاث وهي : القوة الغاذية : وهي القوة التي تحيل جسماً آخر إلى مشاكلة الجسم الذي هي فيه فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه والقوة المنمية : وهي قوة تزيد في الجسم الذي هي فيه بالجسم المتشبه به زيادة في أقطاره طولاً وعرضاً وعمقاً بقدر الواجب ليبلغ به كماله في النشوء والقوة المولدة : وهي التي تأخذ من الجسم الذي هي فيه جزءاً هو شبيه له بالقوة فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تتشابه به من التخليق والتمزيج ما يصير شبيهاً به بالفعل .
فللنفس النباتية ثلاث قوى .
وللنفس الحيوانية قوتان محركة ومدركة والمحركة على قسمين إما محركة بأنها باعثة وإما محركة بأنها فاعلة .
والباعثة : هي القوة النزوعية الشوقية .
وهي القوة التي إذا ارتسمت في التخيل بعد صورة مطلوبة أو مهروب عنها حملت القوة التي تدركها على التحريك ولها شعبتان : شعبة تسمى شهوانية وهي قوة تبعث على تحريك يقرب من الأشياء المتخيلة ضرورة أو نافعة طلباً للذة وشعبة تسمى غضبية وهي قوة تبعث على تحريك تدفع به الشيء المتخيل ضاراً أو مفسداً طلباً للغلبة .
وأما القوة المحركة على أنها فاعلة فهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات ومن شأنها أن تشنج العضلات فتجذب الأوتار والرباطات إلى جهة المبدأ أو ترخيها أو تمددها طولاً فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ .
وأما القوة المدركة فتنقسم قسمين : أحدهما قوة تدرك من خارج وهي الحواس الخمس أو الثمانية : فمنها البصر وهي قوة مرتبة في العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقلية .(13/378)
ومنها السمع وهي قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ تدرك صورة ما يتلأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاضاً بعنف يحدث منه تموج فاعل للصوت يتادى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويموجه بشكل نفسه وتماس أمواج تلك الحركة العصبة فيسمع .
ومنها الشم وهي قوة مرتبة في زائدتي مقدم الدماغ الشبيهتتين بحلمتي الثدي تدرك ما يؤدي إليه الهواء المستنشق من الرائحة المخالطة لبخار الريح والمنطبع بالاستحالة من جرم ذي رائحة .
ومنها الذوق وهي قوة مرتبة في العصب المفروش على جرم اللسان تدرك الطعوم المتحللة من الأجسام المماسة المخالطة للرطوبة اللعابية التي فيه فتحيله .
ومنها اللمس وهي قوة منبثة في جلد البدن كله ولحمه فاشية فيه والأعصاب تدرك ما تماسه وتؤثر فيه بالمضادة وتغيره في المزاج أو الهيئة ويشبه أن تكون هذه القوة لا نوعاً بل جنساً لأربع قوى منبثة معاً في الجلد كله : الواحدة حاكمة في التضاد الذي بين الحار والبارد والثانية حاكمة في التضاد الذي بين الصلب واللين والثالثة حاكمة في التضاد الذي بين الرطب واليابس والرابعة حاكمة في التضاد الذي بين الخشن والأملس إلا أن اجتماعها معاً في آلة واحدة يوهم تأحدها في الذات .
والمحسوسات كلها تتأدى إلى آلات الحس فتنطبع فيها فتدركها القوة الحاسة .
والقسم الثاني : قوى تدرك في باطن فمنها ما يدرك صور المحسوسات ومنها ما يدرك معاني المحسوسات .
والفرق بين القسمين في أن الصورة هو الشيء الذي تدركه النفس الناطقة والحس الظاهر معاً ولكن الحس يدركه أولاً ويؤديه إلى النفس مثل إدراك الشاة صورة الذئب .
أو المعنى فهو الشيء الذي تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحس أولاً مثل إدراك الشاة المعنى المضاد في الذئب الموجب لخوفها إياه وهربها عنه .
ومن المدركات الباطنة ما يدرك ويفعل ومنها ما يدرك ولا يفعل .(13/379)
والفرق بين القسمين : أن الفعل فيها هو أن تركب الصور والمعاني المدركة بعضها مع بعض وتفصل بعضها عن بعض فيكونه إدراك وفعل أيضاً فيما أدرك والإدراك لا مع الفعل هو أن تكون الصورة أو المنى ترتسم في القوة فقط من غير أن يكون لها فعل وتصرف فيه .
ومن المدركات الباطنة ما يدرك أولاً ومنها ما يدرك ثانياً والفرق بين القسمين : أن الإدراك الأول هو أن يكون حصول الصورة على نحو ما من الحصول قد وقع للشيء من نفسه والإدراك الثاني هو أن يكون حصولها من جهة شيء آخر أدى إليها .
ثم من القوى الباطنة المدركة الحيوانية قوة بنطاسية وهو الحس المشترك وهي قوة مرتبة في التجويف الأول من مقدم الدماغ تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة في الحواس الخمس متأديه إليه .
ثم الخيال والمصورة وهي قوة مرتبة في آخر التجويف المقدم من الدماغ تحفظ ما قله الحس المشترك من الحواس ويبقى فيها بعد غيبة المحسوسات .
والقوة التي تسمى متخيلة بالقياس إلى النفس الحيوانية وتسمى مفكرة بالقياس إلى النفس الإنسانية فهي قوة مرتبة في التجويف الأوسط من الدماغ عند الدودة من شأنها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض وتفصل بعضه عن بعض بحسب الاختيار .
ثم إن القوة الوهمية وهي قوة مرتبة في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية كالقوة الحاكمة بأن الذئب مهروب عنه وأن الولد معطوف عليه .
ثم القوة الحافظة الذاكرة وهي قوة مرتبة في التجويف المؤخر من الدماغ تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني غير المحسوسة في المحسوسات .
ونسبة الحافظة إلى الوهمية كنسبة الخيال إلى الحس المشترك إلا أن ذلك في المعاني وهذا في وأما النفس الناطقة للإنسان فتنقسم قواها أيضاً إلى قوة عالمة وقو عاملة وكل واحد من القوتين يسمى عقلاً باشتراك الاسم .(13/380)
فالعاملة قوة هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالرؤية على مقتضى آراء تخصها إصلاحية ولها اعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية النزوعية واعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة واعتبار بالقياس إلى نفسها .
وقياسها إلى النزوعية أن تحدث عنها فيها هيئات تخص الإنسان تتهيأ بها لسرعة فعل وانفعال مثل الخجل والحياء والضحك والبكاء .
وقياسها إلى المتخيلة والمتوهمة هو أن تستعملها في استنباط التدابير في الأمور الكائنة والفاسدة واستنباط الصناعات الإنسانية .
وقياسها إلى نفسها أن فيما بينها وبين العقل النظري تتولد الآراء الذائعة المشهورة مثل إن الكذب قبيح والصدق حسن .
وهذه القوة هي التي يجب أن تتسلط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوة العاقلة حتى لا تنفعل عنه البتة بل ينفعل عنها فلا يحدث فيها عن البدن هيئات انقيادية مستفادة من الأمور الطبيعية وهي التي تسمى أخلاقاً رذيلة بل تحدث في القوى البدنية هيئات انقيادية لها وتكون متسلطة عليها .
وأما القوة العالمة النظرية فهي قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة فإن كانت مجردة بذاتها فذاك وإن لم تكن فإنها تسيرها مجردة بتجريدها إياها حتى لا يبقى فيها من علائق المادة شيء .
ثم لها إلى هذه الصور نسب وذلك أن الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئاً قد يكون بالقوة قابلاً لها وقد يكون بالفعل .
والقوة على ثلاثة أوجه : قوة مطلقة هيولانية وهو الاستعداد المطلق من غير فعل ما كقوة الطفل على الكتابة وقوة ممكنة وهو استعداد مع فعل ما كقوة الطفل بعد ما تعلم بسائط الحروف وقوة تسمى ملكة وهي قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة ويكون له أن يفعل متى شاء بلا حاجة إلى اكتساب .(13/381)
فالقوة النظرية قد تكون نسبتها إلى الصور نسبة الاستعداد المطلق وتسمى عقلاً هيولانياً وإذا حصل فيها من المعقولات الأولى التي يتوصل بها إلى المعقولات الثانية تسمى عقلاً بالفعل وإذا حصلت فيها المعقولات الثانية المكتسبة وصارت محزونة له بالفعل متى شاء طالعها فإن كانت حاضرة عنده بالفعل تسمى عقلاً مستفاداً وإذا كانت مخزونة تسمى عقلاً بالملكة وههنا ينتهي النوع الإنساني ويتشبه بالمبادئ الأولى للوجود كله .
وللناس مراتب في هذا الاستعداد فقد يكون عقل شديد الاستعداد حتى لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعال إلى كثير شيء من تخريج وتعليم حتى كأنه يعرف كل شيء من نفسه لا تقليداً بل بترتيب يشتمل على حدود وسطى فيه : إما دفعة في زمان واحد وإما دفعات في أزمنة شتى وهي القوة القدسية التي تناسب روح القدس فيفيض عليها منه جميع المعقولات .
أو ما يحتاج إليه في تكميل القوة العملية .
فالدرجة العليا منها النبوة فربما يفيض عليها وعلى المتخيلة من روح القدس معقول تحاكيه المتخيلة بأمثلة محسوسة وكلمات مسموعة فيعبر عن الصورة بملك في صورة رجل وعن الكلام بوحي في صورة عبارة .
المقالة الخامسة في أن النفس الإنسانية جوهر ليس بجسم ولا قائم بجسم .
وأن إدراكها قد يكون بآلات وقد يكون بذاتها بغير آلات .
وأنها واحدة وقواها كثيرة وأنها حادثة مع حدوث البدن وباقية بعد فناء البدن .
أما البرهان على أن النفس ليست بجسم هو أنا نحس من ذواتنا إدراكاً معقولاً مجرداً عن المواد وعوارضها أعني الكم والأين والوضع إما لأن المدرك لذاته مجرد كالعلم بالوحدة والعلم بالوجود مطلقاً وإما لان العقل جرده عن العوارض كالإنسان مطلقاً .(13/382)
فيجب أن ينظر في ذات هذه الصورة المجردة كيف هي تجردها أبالقياس إلى الشيء المأخوذ عنه أم بالقياس إلى مجرد الآخذ ولا شك أنها بالقياس إلى المأخوذ عنه ليست مجردة فبقي أنها مجردة من الوضع والأين عند وجودها في العقل والجسم ذو وضع وأين وما لا وضع له لا يحل ما له وضع وأين .
وهذه الطريقة أقوى الطرق فإن الشيء المعقول الواحد الذات المتجرد عن المادة لا يخلو : إما أن يكون له نسبة إلى بعض الأجزاء دون البعض فيحل في جهة دون جهة حتى يكون متيامناً أو متياسراً بالنسبة إلى المحل أو تكونه نسبته إلى الكل نسبة واحدة أو لا يكون لها نسبة إليه ولا له إلى جميع الأجزاء فإن ارتفعت النسبة من كل وجه ارتفع الحلول في جملة الجسم أو في جزء من أجزائه وإن تحققت النسبة صار الشيء المعقول ذا وضع وقد وضع غير ذي وضع هذا خلف .
وبه يتبين أن الصورة المنطبعة في المادة لا تكون إلا أشباحاً لأمور جزئية منقسمة ولكل جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة إلى جزء منها .
وأيضاً فإن الشيء المتكثر في أجزاء الحد له من جهة التمام وحدة هو بها لا ينقسم فتلك الوحدة بما هي وحدة كيف ترتسم في منقسم .
وأيضاً من شأن القوة الناطقة أن تعقل بالفعل واحداً من المعقولات غير متناهية بالقوة وليس واحد أولى من الآخر وقد صح لنا أن الشيء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوة لا يجوز أن يكون محله جسماً ولا قوة في جسم .(13/383)
ومن الدليل القاطع على أن محل المعقولات ليس بجسم : أن الجسم منقسم بالقوة بالضرورة وما لاينقسم لا يحل المنقسم والمعقول غير منقسم فلا يحل المنقسم : أما أن الجسم منقسم فقد دللنا عليه وأما أن المعقول المجرد لا ينقسم فقد فرغنا عنه وأما أن لا ينقسم لا يحل منقسماً فإنا لو قسمنا المحل فلا يخلو : إما أن يبطل الحال فيه وهذا كذب أو لا يبطل ولا يخلو : إما أن يبقى حالاً في بعضه كما كان حالاً في كله وهذا محال فإنه يجب أن يكون حكم البعض حكم الكل وإما أن ينقسم بانقسام محله وقد فرض فير منقسم .
ثم لو فرض انقسام الحال فيه لا يخلو : إما أن كون أجزاؤه متشابهة كالشكل المعقول أو العدد وليس كل صورة معقولة بشكل أو تكون الصورة المعقولة خيالية لا عقلية صرفة .
وأظهر من ذلك أنه ليس يمكن أن يقال : إن كل واحد من الجزأين هو بعينه الكل في المعنى وإن كانت غير متشابهين مثل أجزاء الحد من الجنس والفصل فيلزم منه محالت : منها أن كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضاً فيجب أن تكون الأجناس والفصول غير متناهية وهذا باطل .
وأيضاً فإنه إن وقع الجنس في جانب والفصل في جانب وهو محال ثم ليس أحد الجزءان أولى بقبول الجنس منه بقبول الفصل .
وأيضاً : ليس كل معقول يمكن أن يقسم إلى معقولات ابسط فإن ههنا معقولات هي ابسط المعقولات ومبادئ للتركيب في سائر المعقولات وليس لها أجناس ولا فصول ولا انقسام في الكم ولا في المعنى فلا يتوهم فيها أجزاء مشابهة .
فتبين بهذه الجملة أن محل المعقولات ليس بجسم ولا قوة في جسم فهو إذاً : جوهر معقول علاقته مع البدن لا علاقة حلول ولا علاقة انطباع بل علاقة التدبير والتصرف وعلاقته من جهة العلم الحواس الباطنة المذكورة وعلاقته من جهة العمل القوى الحيوانية المذكورة فيتصرف في البدن .(13/384)
وله فعل خاص يستغني به عن البدن وقواه فإن من شأن هذا الجوهر أن يعقل ذاته ويعقل أنه عقل ذاته وليس بينه وبين ذاته آلة ولا بينه وبين آلته آلة فإن إدراك الشيء لا يكون إلا بحصول صورته فيه .
وما يقدر آلة من قلب أو دماغ لا يخل : إما أن تكون صورته بعينها حاصلة للعقل حاضرة وإما أن تكون صورة غيرها بالعدد حاصلة أبداً فيجب أن يكون إدراك العقل لها حاصلاً أبداً وليس الأمر كذلك فإنه تارة يعقل وتارة يعرض عن الإدراك والأعراض عن الحاضر محال .
وباطل أن تكون الصور غير الآلة بالعدد فإنها إما أن تحل في نفس القوة من غير مشاركة الجسم فيدل ذلك على أنها قائمة بنفسها وليست في الجسم وإما بمشاركة الجسم حتى لا تكون هذه الصورة المغايرة في نفس القوة العقلية وفي الجسم الذي هو الآلة فيؤدي إلى اجتماع صورتين متماثلتين في جسم واحد وهو محال .
والمغايرة بين أشياء تدخل في حد واحد إما لاختلاف المواد أو لاختلاف ما بين الكلي والجزئي وليس هذان الوجهان فثبت أنه لا يحرز أن يدرك المدرك آلة هي آلته في الإدراك .
ولا يختص ذلك وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ولا آلته ولهذا فإن القوى الداركة بانطباع الصور في الآلات يعرض لها الكلال من إدامة العمل والأمور القوية والشاقة الإدراك توهنها وربما تفسدها كالضوء الشديد للبصر والرعد القوي للسمع وكذلك عند إدراك القوي لا يقوى على إدراك الضعيف .
والأمر في القوة العقلية بالعكس فإن إدامتها للتعقل وتصورها الأمور الأقوى يكسبها قوة وسهولة قبول وإن عرض لها كلال وملال فلاستعانة العقل بالخيال .(13/385)
على أن القوى الحيوانية ربما تعين النفس الناطقة في أشياء منها أن يورد عليها الحس جزئيات الأمور فيحدث لها أمور أربعة : أحدها : انتزاع النفس الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعلائقها ولواحقها ومراعاة المشترك فيه والمتباين به والذاتي وجوده والعرضي فيحدث للنفس من ذلك مبادئ بين هذه الكليات المفردة على مثل سلب وإيجاب فما كان التأليف منها بسلب وإيجاب ذاتياً بيناً بنفسه أخذته وما كان ليس كذلك تركته إلى يصادف الواسطة .
والثالث : تحصيل المقدمات التجريبية بأن يوجد بالحس محمول لازم الحكم لموضوع أو تال لازم لمقدم فيحصل له اعتقاد مستفاد من حس وقياس ما .
والرابع : الأخبار التي يقع بها التصديق لشدة التواتر .
فالنفس الإنسانية تستعين بالبدن لتحصيل هذه المبادئ للتصور والتصديق وأما إذا استكملت النفس وقويت فإنها تنفرد بأفاعيلها على الإطلاق وتكون القوى الحسية والخيالية وغيرها صارفة لها عن فعلها وربما تصير الوسائط والأسباب عوائق .
قال : والدليل أن النفس الإنسانية حادثة مع حدوث البدن أنها متفقة في النوع والمعنى فإن وجدت قبل البدن : فإما أن تكون متكثرة الذوات أو تكون ذاتاً واحدة ومحال أن تكون متكثرة الذوات فإن تكثرها إما أن يكون من جهة الماهية والصورة وأما أن يكون من جهة النسبة إلى العنصر والمادة وبطل الأول لأن صورتها واحدة وهي متفقة في النوع والماهية لا تقبل اختلافاً ذاتياً وبطل الثاني لأن البدن والعنصر فرض غير موجود .(13/386)
قال : ومحال أن تكون واحدة الذات لأنه إذا حصل بدنان حصلت فيهما نفسان : فإما أن يكونا قسمي تلك النفس الواحدة وهو محال لأن ما ليس له عظم وحجم لا يكون منقسماً وإما أن تكون النفس الواحدة بالعدد في بدنين وهذا لا يحتاج إلى كثير تكلف في إبطاله فقد صح أن النفس تحدث كلما حدث البدن الصالح لاستعمالها إياه ويكون البدن الحادث مملكتها وآلتها ويكون في هيئة جوهر النفس الحادثة مع بدن ما ذلك البدن الذي استحقه نزاع طبيعي إلى الاشتغال به واستعماله والاهتمام بأحواله والانجذاب إليه يخصها ويصرفها عن كل الأجسام غيره بالطبع إلا بواسطته .
وأما بعد مفارقة البدن فإن الأنفس قد وجد كل واحد منها ذاتاً إلا بواسطته .
وأما بعد مفارقة البدن وباختلاف أزمنة حدوثها واختلاف هيئاتها منفردة باختلاف موادها التي كانت وباختلاف أزمنة حدوثها واختلاف هيئاتها التي بحسب أبدانها المختلفة لا محالة بأحوالها .
وأنها لا تموت بموت البدن لأن كل شيء يفسد بفساد شيء آخر فهو متعلق به نوعاً من التعلق : فإما أن يكون تعلقه به تعلق المكافئ في الوجود وكل واحد منهما جوهر قائم بنفسه فلا تؤثر المكافأة في الوجود في فساد أحدهما بفساد الثاني لأنه أمر إضافي وفساد أحدهما يبطل الإضافة لا الذات .
وإما أن يكون تعلقه به تعلق المتأخر في الوجود فالبدن علة النفس والعلل أربع : فلا يجوز أن يكون علة فاعلية فإن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئاً إلا بقواه والقوى الجسمانية إما أعراض أو صور مادية فمحال أن يفيد أمر قائم بالمادة وجود ذات قائمة بنفسها لا في مادة ولا يجوز أن يكون علة قابلية فقد بينا أن النفس ليست منطبقة في البدن .
ولا يجوز أن يكون علة صورية إن كمالية فإن الأولى أن يكون الأمر بالعكس : فإذاً تعلق النفس بالبدن ليس تعلقاً على انه علة ذاتية لها .(13/387)
نعم البدن والمزاج علة بالعرض للنفس فإنه إذا حدث بدن يصلح أن يكون آلة للنفس ومملكة لها أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية فإن إحداثها بلا سبب يخصص إحداث واحد دون واحد يمنع عن وقوع الكثرة فيها بالعدد ولأن كل كائن بعد ما لم يكن يستدعي أن يتقدمه مادة يكون فيها تهيؤ قبوله أو تهيؤ نسبته إليه كما تبين .
ولأنه لو كان يجوز أن تكون النفس الجزئية تحدث ولم تحدث لها آلة بها تستكمل وتفعل لكانت معطلة الوجود ولا شئ معطل في الطبيعة ولكن إذا حدث التهيؤ والاستعداد في الآلة حدث من العلل المفارقة شئ هو النفس .
وليس إذا وجب حدوث شئ من حدوث شئ وجب أن يبطل مع بطلانه .
وأما القسم الثالث مما ذكرناه وهو أن تعلق النفس بالجسم تعلق المتقدم فالمتقدم إن كان بالزمان فيستحيل أن يتعلق وجوده به وقد تقدمه في الزمان وإن كان بالذات فليس فرض عدم المتأخر يوجب عدم المتقدم على أن فساد البدن بأمر يخصه من تغير المزاج والتركيب وليس ذلك مما يتعلق بالنفس : فبطلان البدن لا يقتضي بطلان النفس .
ويقول : إن سبباً آخر لا يفسد النفس أيضاً بل هي في ذاتها لا تقبل الفساد لان كل شئ من شأنه أن يفسد بأمر ما ففيه قوة أن يفسد وقبل الفساد فيه فعل أن يبقى ومحال أن يكون من جهة واحدة في شئ واحد قوة أن يفسد وفعل أن يبقى فإن تهيؤه للفساد شئ وفعله للبقاء شئ آخر فالأشياء المركبة يجوز أن يجتمع فيها الأمران لوجهين أما البسيطة فلا يجوز أن يجتمعا فيها .(13/388)
ومن الدليل على ذلك أيضاً : أن كل شئ يبقى وله قوة أن يفسد فله قوة أن يبقى أيضاً : لأن بقاءه ليس بواجب ضروري وإذا لم يكن واجباً كان ممكناً والإمكان هو طبيعة القوة فإذا : يكون له في جوهره قوة أن يبقى وفعل أن يبقى فيكون فعل أن يبقى منه أمراً يعرض للشيء الذي له قوة على البقاء وفعل البقاء أمر مشترك البقاء له كالصورة وقوة البقاء له كالمادة فيكون مركباً من مادة وصورة وقد فرضناه واحداً فرداً هذا خلف .
فقد بان أن كل أمر بسيط فغير مركب فيه قوة أن يبقى وفعل أن يبقى بل ليس فيه قوة أن يعدم باعتبار ذاته والفساد لا يتطرق إلا إلى المركبات .
وإذا تقرر أن البدن إذا تهيأ واستعد استحق من واهب الصور نفساً تدبره ولا يختص هذا ببدن دون بدن بل كل بدن حكمه كذلك فإذا استحق النفس وقارنته في الوجود فلا يجوز أن تتعلق به نفس أخرى لأنه يؤدي إلى أن يكون لبدن واحد نفسان وهو محال فالتناسخ إذاً باطل .
المقالة السادسة في وجه خروج العقل النظري من القوة إلى الفعل .
وأحوال خاصة بالنفس الإنسانية من الرؤيا الصادقة والكاذبة وإدراكها علم الغيب ومشاهدتها صوراً لا وجود لها من خارج تلك الوجوه ومعنى النبوة والمعجزات وخصائصها التي تتميز بها عن المخاريق .
أما الأول فقد بينا أن النفس الإنسانية لها قوة هيولانية أي استعداد لقبول المعقولات بالفعل وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فلابد له من سبب يخرجه إلى الفعل وذلك السبب يجب أن يكون موجوداً بالفعل فإنه لو كان موجوداً بالقوة لاحتاج إلى مخرج آخر : فإما أن يتسلسل أو ينتهي إلى مخرج هو موجود بالفعل لا قوة فيه فلا يجوز أن يكون ذلك جسماً لأن الجسم مركب من مادة وصورة والمادة أمر بالقوة فهو إذاً جوهر مجرد عن المادة وهو العقل الفعال .
وإنما سمى فعالا بإزاء كون العقول الهيولانية منفعلة .
وقد سبق إثباته في الإلهيات من وجه آخر .(13/389)
وليس يختص فعله بالعقول والنفوس بل وكل صورة تحدث في العالم فإنما هي من فيضه العام فيعطي كل قابل ما استعد له من الصور .
وأعلم أن الجسم وقوة في الجسم لا يوجد شيئاً فإن الجسم مركب من مادة وصورة والمادة طبيعتها عدمية فلو أثر الجسم لأثر بمشاركة المادة وهي عدم و العدم لا يؤثر في الوجود .
فالفعل الفعال : هوا لمجرد عن المادة وعن كل قوة فهو بالفعل من كل وجه .
وأما الثاني من الأحوال الخاصة بالنفس فالنوم والرؤيا .
والنوم غرور القوى الظاهرة في أعماق البدن وانحناس الأرواح من الظاهر إلى الباطن ونعني بالأرواح ههنا أجساماً لطيفة مركبة من بخار الأخلاط التي منبعها القلب وهي مراكب القوى النفسانية والحيوانية ولهذا إذا وقعت سدة في مجاريها من الأعصاب المؤدية للحس بطل الحس وحصل الصرع والسكتة فإذا ركدت الحواس ورقدت بسبب بقيت النفس فارغة عن شغل الحواس لأنها لا تزال مشغولة بالتفكير فيما تورد الحواس عليها فإذا وجدت فرصة الفراغ وارتفع عنها المانع واستعدت للاتصال بالجواهر الروحانية الشريفة العقلية التي فيها نقشت الموجودات كلها فانطبع في النفس ما في تلك الجواهر من صور الأشياء لا سيما ما يناسب أغراض الرائي ويكون انطباع تلك الصور في النفس كانطباع صورة في مرآة من مرآة .
فإن كانت الصور جزئية ووقعت في النفس في المصورة وحفظتها الحافظة على وجهها من غير تصرف المتخيلة صدقت الرؤيا ولا تحتاج إلى تعبير وإن وقعت في المتخيلة حاكت ما يناسبها من الصور المحسوسة وهذه تحتاج إلى تعبير وتأويل ولما لم تكن تصرفات الخيال مضبوطة واختلفت باختلاف الأشخاص والأحوال اختلف التعبير وإذا تحركت المتخيلة منصرفة عن عالم العقل إلى عالم الحس واختلطت تصرفاتها كانت الرؤيا أضغاث أحلام لا تعبير لها وكذلك لو غلبت على المزاج إحدى الكيفيات الأربع رأى في المنام أحوالاً مختلطة .
وأما الثالث في إدراك علم الغيب في اليقظة .(13/390)
إن بعض النفوس يقوى قوة لا تشغله الحواس ولا تمنعه بل يتسع بقوته للنظر إلى عالم العقل والحس جميعاً فيطلع إلى عالم الغيب فيظهر له بعض الأمور مثل البرق الخاطف وبقي المتصور المدرك في الحافظة بعينه وكان ذلك وحياً صريحاً .
وإن وقع في المخيلة واشتغلت بطبيعة المحاكاة كان ذلك مفتقراً إلى التأويل .
وأما الرابع في مشاهدة النفس صوراً محسوسة لا وجود لها وذلك أن النفس تدرك الأمور الغائبة إدراكاً قوياً فيبقى عين ما أدركته في الحفظ وقد تقبله قبولاً ضعيفاً فتستولي عليه المتخيلة وتحاكيه بصورة محسوسة واستتبعت الحس المشترك وانطبعت الصورة في الحس المشترك سراية إليه من المتصورة والمتخيلة .
والإبصار : هو وقوع صورة في الحس المشترك فسواء وقع فيه من خارج بواسطة البصر أو وقع فيه أمر من داخل بواسطة الخيال كان ذلك محسوساً فمنه ما يكون من قوة النفس وقوة آلات الإدراك ومنه ما يكون من ضعف النفس والآلات .
قال : خصائص المعجزات والكرامات ثلاث : خاصية : في قوة النفس وجوهرها ليؤثر في هيولي العالم بإزالة صورة وإبعاد صورة وذلك أن الهيولي منقادة لتأثير النفوس الشريفة المفارقة مطيعة لقواها السارية في العالم وقد تبلغ نفس إنسانية في الشرف إلى حد يناسب تلك النفوس .
فتفعل فعلها وتقوى على ما قويت هي فتزيل جبلاً عن مكانه وتذيب جوهراً فيستحيل ماء وتجمد جسماً سائلاً فيستحيل حجراً .
ونسبة هذه النفس إلى تلك النفوس كنسبة السراج إلى الشمس فكما أن الشمس تؤثر في الأشياء تسخيناً بالإضاءة كذلك السراج يؤثر بقدره .
وأنت تعلم أن للنفس تأثيرات جزئية في البدن فإنه إذا حدث في النفس صورة الغلبة والغضب حمى المزاج وأحمر الوجه وإذا حدثت صورة مشتهاة فيها : حدثت في أوعية المنى حرارة مبخرة مهيجة للريح حتى تمتلئ به عروق آلة الوقاع فتستعد له .
والمؤثر ههنا مجرد التصور لا غير .(13/391)
والخاصية الثانية : أن تصفو النفس صفاء يكون شديد الاستعداد للاتصال بالعقل الفعال حتى يفيض عليها العلوم فإنا قد ذكرنا حال القوة القدسية التي تحصل لبعض النفوس حتى تستغني في أكثر أحوالها عن التفكر والتعلم فالشريف البالغ منها : يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسه نار نور على نور .
والخاصية الثالثة للقوة المتخيلة بأن تقوى النفس وتتصل في اليقظة بعالم الغيب كما سبق وتحتكي المتخيلة ما أدركته النفس بصورة جميلة وأصوات منظومة فترى في اليقظة وتسمع فتكون الصورة المحاكية للجوهر الشريف صورة عجيبة في غاية الحسن وهو الملك الذي يراه النبي وتكون المعارف التي تتصل بالنفس من اتصالها بالجواهر الشريفة تتمثل بالكلام الحسن المنظوم الواقع في الحس المشترك فيكون مسموعاً .
قال : والنفوس وإن اتفقت في النوع إلا أنها تتمايز بخواص وتختلف أفاعيلها اختلافات عجيبة .
وفي الطبيعة أسرار ولاتصالات العلويات بالسفليات عجائب .
وجل جنات الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد وأن يرد عليه إلا واحد بعد واحد .
وبعد فإن ما يشتمل عليه هذا الفن ضحكة للمغفل عبرة للمحصل فمن سمعه فاشمأز عنه فليتهم نفسه فإنها لا تناسبه .
وكل ميسر لما خلق له .
تمت الطبيعيات بحمد الله .
الجزء الثالث آراء العرب في الجاهلية
بين العرب وغيرهم : قد ذكرنا في صدر هذا الكتاب : أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد وأجملنا القول فيه حيث كانت المقاربة بين الفريقين والمقاربة بين الأمتين مقصورة على اعتبار خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والغالب عليهم الفطرة والطبع .
وأن الروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد حيث كانت المقاربة مقصورة على اعتبار كيفيات الأشياء والحكم بأحكام الطبائع والغالب عليهم الاكتساب والجهد .
والآن نذكر أقاويل العرب في الجاهلية ونعقبها بذكر أقاويل الهند وبها نختم الكتاب .(13/392)
حكم البيت العتيق : وقبل أن نشرع في ذكر مذاهبهمم نريد أن نذكر حكم البيت العتيق حرسه الله تعالى ونصل بذلك حكم البوت المبنية في العالم فإن منها ما بني على الدين الحق قبلة للناس ومنها ما بني على الرأي الباطل فتنة للناس .
وقد ورد في التنزيل : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين " .
وقد اختلفت الروايات في أول من بناه .
قيل : إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض وقع إلى سرنديب من أرض الهند وكان يتردد في الأرض متحيراً بين فقدان زوجته ووجدان توبته حتى وافى حواء بجبل الرحمة من عرفات وعرفها وصار إلى أرض مكة ودعا وتضرع إلى الله تعالى حتى يأذن له في بناء بيت يكون قبلة لصلاته ومطافاً لعبادته كما كان قد عهد في السماء من البيت المعمور الذي هو مطاف الملائكة ومزار الروحانيين فأنزل الله تعالى عليه مثال ذلك البيت على شكل سرداق من نور فوضعه مكان البيت فكان يتوجه إليه ويطوف به .
ثم لما توفي : تولى وصية شيث عليه السلام بناء البيت من الحجر والطين على الشكل المذكور حذو القذة بالقذة .
ثم لما خرب ذلك بطوفان نوح عليه السلام وامتد الزمان حتى غيض الماء وقضى الأمر وانتهت النبوة إلى إبراهيم الخليل عليه السلام وحمله هاجر أم إسماعيل ابنه إلى الموضع المبارك وولادة إسماعيل عليه السلام هناك ونشوئه وتربيته ثمة وعود إبراهيم إليه واجتماعه به في بناء البيت وذلك قوله تعالى : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " فرفعا قواعد البيت على مقتضى إشارة الوحي مرعياً بينها جميع المناسبات التي بينها وبين الشرع الأخير وتقبل الله تعالى ذلك منهما وبقي الشرف والتعظيم إلى زماننا وإلى يوم القيامة : دلالة على حسن القبول .
فاختلفت آراء العرب في ذلك .
وأول من وضع فيه الأصنام عمرو بن لحي بن غالوثة بن عمرو بن عامر لما سار قومه إلى مكة واستولى على أمر البيت .(13/393)
ثم صار إلى مدينة البلقاء بالشام فرأى هناك قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا : هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية والأشخاص البشرية : نستنصر بها فننصر ونستسقي بها فنسقي ونستشفى بها فنشفى .
فأعجبه ذلك وطلب منهم صنماً من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة وكان معه أساف ونائلة على شكل زوجين .
فدعا الناس إلى تعظيمها والتقرب إليها والتوسل بها إلى الله تعالى وكان ذلك في أول ملك شابور ذي الأكتاف إلى أن أظهر الله تعالى الإسلام فأخرجت وأبطلت وبهذا يعرف كذب من قال : إن بيت الله الحرام إنما هو بيت زحل بناه الباني الأول على طوالع معلومة واتصالات مقبولة وسماه بيت زحل المعنى اقترن الدوام به بقاء والتعظيم له لقاء لأن زحل يدل على البقاء وطول العمر أكثر مما يدل عليه سائر الكواكب وهذا خطأ لأن الباني الأول كان مستنداً إلى الوحي على يدي أصحاب الوحي .
البيوت المتخذة للعبادة : ثم إعلم أن البيوت تنقسم إلى بيوت الأصنام وإلى بيوت النيران .
وقد ذكرنا المواضع التي كانت بيوت النيران ثم في مقالات المجوس فأما بيوت الأصنام التي كانت للعرب والهند فهي البيوت السبعة المعروفة المشهورة المبنية على السبع الكواكب .
فمنها ما كانت فيه أصنام فحولت إلى النيران ومنها ما لم تحول .
ولقد كان بين أصحاب الأصنام وبين أصحاب النيران مخالفات كثيرة والأمر دول فيما بينهم وكان كل من استولى وقهر غير البيت إلى مشاعر مذهبه ودينه .
فمنها بيت فارس على رأس جبل بأصفهان على ثلاثة فراسخ كانت فيه أصنام إلى أن أخرجها كشتاسب الملك لما تمجس وجعله بيت نار ومنها البيت الذي بمولتان من أرض الهند فيه أصنام لم تغير ولم تبدل .
ومنها بيت سدوسان من أرض الهند أيضاً وفيه أصنام كبيرة كثيرة العجب .
والهند يأتون البيتين في أوقات من السنة حجاً وقصداً إليهما .(13/394)
ومنه النوبهار الذي بناه منوجهر بمدينة بلخ على اسم القمر فلما ظهر الإسلام خربه أهل بلخ .
ومنها بيت غمدان الذي بمدينة صنعاء اليمن بناه الضحاك على اسم الزهرة وخربه عثمان بن عفان رضي الله عنه .
ومنها بيت كاوسان بناه كاووس الملك بناء عجيباً على اسم الشمس بمدينة فرغانة وخربه المعتصم .
أصناف العرب في الجاهلية : واعلم أن العرب أصناف شتى : فمنهم معطلة ومنهم محصلة نوع تحصيل .
الباب الأول وهم أصناف منكرو الخالق والبعث والإعادة
فصنف منهم أنكروا الخالق ولبعث والإعادة وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد : " وقالوا : ما هي إلا حياتنا الدنيا : نموت ونحيا " إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي وقصراً للحياة والموت على تركبها وتحللها فالجامع هو الطبع والملك هو الدهر : " وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون " .
فاستدل عليهم بضرورات فكرية وآيات فطرية في كمآية وكم سورة فقال تعالى : " أو لم يتفكروا بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين " " أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض " وقال : " أو لم يروا إلى ما خلق الله " وقال : " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين " وقال : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم " فأثبت الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق وأنه قادر على الكمال ابتداء وإعادة .
منكرو : البعث والإعادة وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق والإبداع وأنكروا البعث والإعادة وهم الذين أخبر عنهم القرآن : " وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال : من يحيي العظام وهي رميم " فاستدل عليهم بالنشأة الأولى إذ اعترفوا بالخلق الأول فقال عز وجل : " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " وقال : " افعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ! " .(13/395)
منكرو الرسل : عبّاد الأصنام وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق ونوع من الإعادة وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الدار الآخرة وحجوا إليها ونحروا لها الهدايا وقربوا المقربين وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر .
وأحلوا وحرموا وهم الدهماء من العرب إلا شرذمة منهم نذكرهم وهم الذين أخبر عنهم التنزيل : " وقالوا : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق " .
إلى قوله : " إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً ! .
فاستدل عليهم بأن المرسلين كلهم كانوا كذلك قال الله تعالى : " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " .
شبهات العرب وشبهات العرب كانت مقصورة على هاتين الشبهتين : إحداهما إنكار البعث : بعث الأجسام والثانية جحد البعث : بعث الرسل .
فعلى الأولى قالوا : " أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون إلى أمثالها من حياة ثم موت ثم نشر حديث خرافة يا أم عمرو ولبعضهم في مرثية أهل بدر من المشركين : فماذا بالقليب قليب بدر من الشيزي تكلل بالسنام يخبرنا الرسول : بأن سنيحاً و كيف حياة أصداء وهام ! ومن العرب من يعتقد التناسخ فيقول : إذا مات الإنسان أو قتل اجتمع دم الدماغ وأجزاء بنيته فانتصب طيراً هامة فيرجع إلى رأس القبر كل مائة سنة .
وعن هذا : أنكر عليهم الرسول عليه السلام فقال : لا هامة ولا عدوى ولا صفر .
وأما الشبهة الثانية فكان إنكارهم لبعث لرسول صلى الله عليه وسلم في الصورة البشرية أشد وإصرارهم على ذلك أبلغ .
وأخبر التنزيل عنهم بقوله تعالى : " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا : أبعث الله بشراً رسولاً " أبشر يهدوننا " .(13/396)
فمن كان يعترف بالملائكة كان يريد أن يأتي ملك من السماء وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ومن كان لا يعترف بهم كان يقول : الشفيع والوسيلة لنا إلى الله تعالى هم الأصنام المنصوبة إما الأمر والشريعة من الله تعالى إلينا فهو المنكر .
أصنام العرب وميولهم : فيعبدون الأصنام التي هي وسائل وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً .
وكان ود لكلب وهو بدومة الجندل وسواع لهذي وكانوا يحجون إليه وينحرون له ويغوث لذحج ولقبائل من اليمن ويعوق لهمدان ونسر لذي الكلاع بأرض حمير .
وكانت اللات لثقيف بالطائف والعزي لقريش وجميع بني كنانة وقوم من بني سليم ومناة للأوس والخزرج وغسان .
وهبل أعظم الأصنام عندهم وكان على ظهر الطعبة وأساف ونائلة على الصفا والمروة وضعهما عمر بن لحي وكان يذبح عليهما نجاة الكعبة وزعموا : أنهما كانا من جرهم : أساف بن عمرو ونائلة بنت سهل تعاسقا ففجرا الكعبة فمسخا حجرين وقيل : لا بل كانا صنمين جاء بهما عمرو بن لحي فوضعهما على الصفا .
وكان لبني ملكان من كنانة صنم يقال له سعد وهو الذي يقول فيه قائلهم : أتينا إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعد فلا نحن من سعد وهل سعد إلا صخرة بتنوفة من الأرض لا يدعو لغي ة لا رشد وكانت العرب إذا لبت وهللت : قالت : لبيك اللهم لبيك لبيك لاشريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ومن العرب من كان يميل إلى اليهودية ومنهم من كان يميل إلى النصرانية ومنهم من كان يصبو إلى الصابئة ويعتقد في الأنواء اعتقاد المنجمين في السيارات حتى لا يتحرك ولا يسكن ولا يسافر ولا يقيم إلا بنوء من الأنواء ويقول : مطرنا بنوء كذا ومنهم من كان يصبوا إلى الملائكة فيعبدهم بل كانوا يعبدون الجن ويتعقدون فيهم أنهم بنات الله .
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
الباب الثاني المحصلة من العرب علومهم(13/397)
اعلم أن العرب في الجاهلية كانت على ثلاثة أنواع من العلوم : أحدها علم الأنساب والتواريخ والأديان ويعدونه نوعاً شريفاً خصوصاً معرفة أنساب أجداد النبي عليه الصلاة والسلام والإطلاع على ذلك النور الوارد من صلب إبراهيم إلى إسماعيل عليهما الصلاة وتواصله في ذريته إلى أن ظهر بعض الظهور في أسارير عبد المطلب : سيد الوادي : شيبة الحمد وسجد له الفيل الأعظم وعليه قصة أصحاب الفيل .
وببركة ذلك النور : دفع الله تعالى شر أبرهة وأرسل عليهم طيراً أبابيل .
وببركة ذلك النور : رأى تلك الرؤيا في تعريف موضع زمزم ووجدان الغزالة والسيوف التي دفنتها جرهم .
وببركة ذلك النور : ألهم عبد المطلب النذر الذي نذر في ذبح العاشر من أولاده وبه افتخر النبي عليه الصلاة والسلام حين قال : أنا ابن الذبيحين : أراد بالذبيح الأول إسماعيل عليه السلام وهو أول من انحدر إليه النور فاختفى وبالذبيح الثاني عبد الله بن عبد المطلب وهو آخر من انحدر إليه النور فظهر كل الظهور .
وببركة ذلك النور : كان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي .
ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيات الأمور .
وببركة ذلك النور : كان قد سلم إليه النظر في حكومات العرب والحكم بين المتخاصمين فكان يوضع له وسادة عند الملتزم فيستند إلى الكعبة وينظر في حكومات القوم .(13/398)
وببركة ذلك النور : قال لأبرهة : إن لهذا البيت رباً يحفظه ويذب عنه وفيه قال وقد صعد إلى جبل أني قبيس : لا هم إن المرء يمنع حله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم و محالهم عدواً محالك إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك وببركة ذلك النور : كان يقول في وصاياه : إنه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه وتصيبه عقوبة إلى أن هلك رجل ظلوم حتف أنفه لم تصبه عقوبة فقيل عبد المطلب في ذلك ففكر وقال : والله إن وراء هذه الدار دار يجزي فيها المحسن بإحسانه ويعاقب فيها المسيء بإساءته .
ومما يدل على إثباته المبدأ والمعاد : أنه كان يضرب بالقداح على ابنه عبد الله ويقول : يا رب أنت الملك المحمود و أنت ربي المبدىء والمعيد من عندك الطارف والتليد ومما يدل على معرفته بحال الرسالة وشرف النبوة : أن أهل مكة لما اصابهم ذلك الجدب العظيم وأمسك السحاب عنهم سنتين أمر أبا طالب ابنه أن يحضر المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم فأحضره وهو رضيع في قماط فوضعه على يديه واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء وقال : يا رب ! بحق هذا الغلام ورماه ثانياً وثالثاً .
وكان يقول : بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلاً فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر حتى خافوا على المسجد .(13/399)
وأنشد أبو طالب ذلك الشعر اللامي الذي منه : وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يطيف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل و لا نسلمه حتى نصرع حوله ز نذهل عن أبنائنا والحلائل وقال العباس بن عبد المطلب في النبي عليه الصلاة والسلام : قصيدة منها : من قبلها طبت في الظلال وفي مستودع حين يخصف الورق ثم هبطت البلاد : لا بشر أنت ولا مضغة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد ألجم نسراً وأمهله الغرق تنقل من صلب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق حتى احتوى بيتك المهيمن في خندف علياء تحتها النطق و أنت لما ظهرت أشرقت الأ رض وضاءت بورك الأفق فنحن في ذلك الضياء وفي النور وسبل الرشاد : نخترق وأما النوع الثاني من العلوم فهو علم الرؤيا وكان أبو بكر رضي الله عنه ممن يعبر الرؤيا في الجاهلية ويصيب فيرجعون إليه ويستخبرون عنه .
وأما النوع الثالث فهو علم الأنواء وذلك مما يتولاه الكهنة والقافة منهم وعن هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من قال : مطرنا بنوء كذا فقد كفر بما أنزل على محمد " .
معتقداتهم وم العرب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر وينتظر النبوة .
وكانت لهم سنن وشرائع قد ذكرناها لأنها نوع تحصيل .
فممن كان يعرف النور الظاهر والنسب الطاهر ويعتقد الدين الحنيفي وينتظر المقدم النبوي .
زيد بن عمرو بن نفيل كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول : أيها الناس هلموا إلي فإنه لم يبق على دين إبراهيم أحد غيري .
وسمع أمية بن أبي الصلت يوماً ينشد : كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفة : زور فقال له : صدقت .
وقال زيد أيضاً : فلن تكون لنفس منك واقية يوم الحساب إذا ما يجمع البشر وممن كان يعتقد التوحيد ويؤمن بيوم الحساب : قس بن ساعدة الإيادي قال في مواعظه : كلا ورب الكعبة ! ليعودون ما باد ولئن ذهب ليعودن يوماً .(13/400)
وقال أيضاً : كلا بل هو الله إله واحد ليس بمولود ولا والد أعاد وأبدى و إليه المآب غداً وأنشد في معنى الإعادة : يا باكي الموت والأموات في جدث عليهم من بقايا بزهم خرق حتى يجيئوا بحال غير حالهم خلق مضى ثم هذابعد ذا خلقوا منهم عراة ومنهم في ثيابهم منها الجديد ومنها الأزرق الخلق ومنهم : عامر بن الظرب العدواني وكان من شعراء العرب وخطبائهم وله وصية طويلة يقول في آخرها : ني ما رايت شيئاً قط خلق نفسه ولا رأيت موضوعاً إلا مصنوعاً ولا جاثياً إلا ذاهباً ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء .
ثم قال : إني أرى أموراً شتى وحتى قيل له : وما حتى قال : حتى يرجع الميت حياً ويعود لا شيء شيئاً ولذلك خلقت السموات والأرض فتولوا عنه ذاهبين وقال : ويل إنها نصيحة لو كان من يقبلها ! .
وكان عامر قد حرم الخمر على نفسه فيمن حرمها وقال فيها : إن أشرب الخمر أشربها للذتها و إن أدعها فإني ماقت قال لولا اللذاذة والقينات لم أرها و لا رأتني إلا من مدى عالي سآله للفتى ما ليس في يده ذهابه بعقول القوم والمال تورث القوم أضغاناً بلا إحن مزرية بالفتى ذي النجدة الحالي أقسمت بالله : اسقيها وأشربها حتى يفرق ترب الأرض أوصالي وممن كان قد حرم الخمر في الجاهلية : قيس بن عاصم التميمي وصفوان ابن أمية بن محرث الكناني وعفيف بن معدي كرب الكندي وقالوا فيها أشعاراً .(13/401)
وقال الاسلوم اليالي وقد حرم الخمر والزنا على نفسه : سالمت قومي بعد طول مضاضة و السلم أبقى في الأمور وأعرف وتركت شرب الراح وهي أثيرة و المومسات وترك ذلك أشرف وعففت عنه يا أميم تكرماً وكذاك يفعل ذو الحجى المتعفف وممن كان يؤمن بالخالق تعالى وبخلق آدم عليه السلام : عبد لطابخة بن ثعلب ابن وبرة من قضاعة وقال فيه : وأدعوك يا ربي بما أنت أهله دعاء غريق قد تشبث بالعصم لأنك اهل الحمد والخير كله و ذو الطول لم تعجل بسخط ولم تلد وأنت الذي لم يحيه الدهر ثانياً و لم ير عبد منك في صالح وجم وأنت القديم الأول الماجد الذي تبدأت خلق الناس في أكثم العدم وأنت الذي أحللتني غيب ظلمة إلى ظلمة من صلب آدم في ظلم من هؤلاء النابغة الذبياني آمن بيوم الحساب فقال : فعلتهم : ذات الإله ودينهم قويم فما يرجون غير العواقب ز من هؤلاء زهير بن أبي سلمى المزني وكان يمر بالعصاة وقد أورقت بعد يبس فيقول : لولا أن تسبني العرب لآمنت أن الذي أحياك بعد يبس سيحيي العظام وهي رميم ثم آمن بعد ذلك وقال في قصيدته التي أولها أمن أم أوفى دمنة لم تكلم .
وهي من السبعيات : يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم حساب أو يعجل فينقم ومنهم علاف بن شهاب التيمي كان يؤمن بالله تعالى وبيوم الحساب وفيه قال : ولقد شهدت الخصم يوم رفاعة فأخذت منه خطة المقتال وعلمت أن الله جاز عبده يوم الحساب بأحسن الأعمال وكان بعض العرب إذا حضره الموت يقول لولده : ادفنوا معي راحلتي حتى أحشر عليها فإن لم تفعلوا حشرت على رجلي .(13/402)
قال جريبة بن الأشيم الأسدي في الجاهلية وقد حضره الموت يوصي ابنه سعداً : يا سعد إما أهلكن فإنني أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب لا تتركن أباك يعثر راجلاً في الحشر يصرع لليدين وينكب واحمل أباك على بعير صالح و ابغ المطية إنه هو أصوب وقال عمرو بن زيد بن المتمني يوصي ابنه عند موته : ابني ! زودني إذا فارقتني في القبر راحلة برحل قاتر للبعث أركبها إذا قيل اظعنوا متساوقين معاً لحشر الحاشر من لا يوافيه على عشرائه فالخلق بين مدفع أو عاثر وكانوا يربطون الناقة معكوسة الرأس إلى مؤخرها مما يلي ظهرها أو مما يلي كأكلها وبطنها ويأخذون ولية فيشدون وسطها ويقلدونها عنق الناقة ويتركونها حتى تموت عند القبر ويسمون الناقة : بلية والخيط الذي تشد به : ولية .
وقال بعضهم يشبه رجالاً في بلية : كالبلايا في أعناقها الولايا .
سننهم التي وافقهم القرآن عليها وبعض عاداتهم قال محمد بن السائب الكلبي : كانت العرب في جاهليتها تحرم أشياء نزل القرآن بتحريمها .
كانوا لا ينكحون الأمهات ولا البنات ولا الخالات ولا العمات .
وكان أقبح ما يصنعون أن يجمع الرجل بين الأختين أو يختلف على امرأة أبيه وكانوا يسمون من فعل ذلك الضيرن قال : اوس بن حجر التميمي يعير قوماً من بني قيس بن ثعلبة تناوبوا على امرأة أبيهم ثلاثة واحداً بعد آخر : نيكوا فكيهة وامشوا حول قبتها مشي الزرافة في آباطها الحجف وكان أول من جمع بين الأختين من قريش أبو أحيحة سعيد بن العاص جمع بين هند وصفية ابنتي المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم .
قال : وكان الرجل من العرب إذا مات عن المرأة أو طلقها قام أكبر بنيه فإن كان له فيها حاجة طرح ثوبه عليها وإن لم يكن له فيها حاجة تزوجها بعض أخوته بمهر جديد قال : وكانوا يخطبون المرأة إلى أبيها أو إلى أخيه أو عمها أو بعض بني عمها .(13/403)
وكان يخطب الكفء إلى الكفء فإن كان أحدهما أشرف من الآخر في النسب رغب له في المال وإن كان هجيناً خطب إلى هجين فزوجه هجينة مثله ويقول الخاطب إذا أتاهم : أنعموا صباحاً ثم يقول نحن أكفاؤكم ونظراؤكم فإن زوجتمونا فقد أصبنا رغبة وأصبتموها وكنا لصهركم حامدين وإن رددتمونا لعلة نعرفها رجعنا عاذرين فإن كان قريب القرابة من قومه قال لها أبوها أو أخوها : إذا حملت إليه أيسرت وأذكرت ولا أنثت جعل الله منك عدداً وعزاً وحلباً .
أحسني خلقك وأكرمي زوجك وليكن طيبك الماء .
وإذا زوجت في غربة قال لها : لا أيسرت ز لا أذكرت فإنك تدنين البعداء وتلدين الأعداء .
أحسني خلقك وتحببي إلى احمائك فإن لهم عيناً ناظرة إليك وأذناً سامعة .
وكانوا يطلقون ثلاثاً على التفرقة قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أول من طلق ثلاثاً على التفرقة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام .
وكان العرب يفعلون ذلك فيطلقها واحدة وهو أحق الناس بها حتى إذا استوفى الثلاث : انقطع السبيل عنها ومنه قول الأعشى : ميمون بن قيس حين تزوج امرأة فرغب قومها عنه فآتاه قومها فهددوه بالضرب أو يطلقها : أيا جارتي بيني فإنك طالقة كذاك أمور الناس غاد وطارقة قالوا : تنه فقال : وبيني فإن البين خير من العصا و أن لا ترى لي فوق رأسك بارقة قالوا : ثلث فقال : وبيني حصان الفرج غير ذميمة و موموقة قد كنت فينا ووامقة قال وكان أمر الجاهلية في نكاح النساء على أربع : رجل يخطب فيتزوج وامرأة يكون لها خليل يختلف إليها فإن ولدت قالت : هو لفلان فيتزوجها بعد هذا وامرأة يختلف إليها النفر وكلهم يواقعها في طهر واحد فإذا ولدت ألزمت الولد أحدهم وهذه تدعى المقسمة وامرأة ذات راية : يختلف إليها الكثير وكلهم يواقعها فإذا ولدت جمعوا لها القافة فيلحقون الولد بشبيهه .
قال : وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون قال زهير : وكم بالقيان من محل ومحرم .(13/404)
ويطوفون بالبيت سبعاً ويمسحون بالحجر ويسعون بين الصفا والمروة قال أبو طالب : وأشواط بين المروتين إلى الصفا و ما فيهما من صورة وتخايل وكانوا يلبون إلا أن بعضهم كان يشرك في تلبيته في قوله : إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ويقفون المواقف كلها قال العدوي : فأقسم بالذي حجت قريش و موقف ذي الحجيج على اللآلي وكانوا يهدون الهدايا ويرمون الجمار ويحرمون الأشهر الحرم فلا يغزون ولا يقاتلون فيها .
إلا طي وخثعم وبعض بني الحارث بن كعب : فإنهم كانوا لا يحجون ولا يعتمرون ولا يحرمون الأشهر الحرم ولا البلد الحرام .
وإنما سمت قريش الحرب التي كانت بينها وبين غيرها : عام الفجار لأنها كانت في الأشهر الحرم حيث لا تقاتل فلما قاتلوا فيها قالوا : قد فجرنا فلذلك سموها : حرب الفجار .
وكانوا يكرهون الظلم في الحرم وقالت امرأة منهم تنهي ابنها عن الظلم : ابني ! لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير ابني ! من يظلم بمكة يلق أطراف الشرور لبني ! أمن طيرها و الوحش تامن في ثبير ومنهم من كان ينسىء الشهور وكانوا يكبسون في كل عامين شهراً وفي كل ثلاثة أعوام شهراً وكانوا إذا حجوا في شهر من السنة لم يخطئوا أن يجعلوا يوم التروية ويوم عرفة ويوم النحر كهيئة ذلك في شهر ذي الحجة حتى يكون يوم النحر اليوم العاشر من ذلك الشهر ويقيمون بمني فلا يبيعون في يوم عرفة ولا في أيام منى وفيهم أنزلت : " إنما النسيء زيادة في الكفر " .
وكانوا إذا ذبحوا للأصنام لطخوها بدماء الهدايا يلتمسون بذلك الزيادة في أموالهم .
وكان فصي بن كلاب ينهى عن عبادة غير الله من الأصنام وهو القائل : أباً واحداً أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور تركت اللات والعزي جميعاً كذلك يفعل الرجل البصير فلا العزي أدين ولا أبنتيها و لا صنمي بني غنم أزور وقيل هي لزيد بن عمرو بن نفيل فلقي في ذلك من قريش شراً حتى أخرجوه عن الحرم فكان لا يدخله إلا ليلاً .(13/405)
وقال القلمس بن أمية الناني يخطب للعرب بفناء مكة : أطيعوني ترشدوا قالوا : وما ذاك ! قال : إنكم قد تفرقتم بآلهة شتى وإني لأعلم ما الله راض به وإن الله رب هذه الآلهة وإنه ليجب قال : وكانوا يغتسلون من الجنابة ويغسلون موتاهم قال الأفوه الأودي ألا عللاني واعلما أنني غرر فما قلت ينجيني الشقاق ولا الحذر وما قلت يجديني ثيابي إذا بدت مفاصل أوصالي وقد شخص البصر وجاءوا بماء بارد يغسلونني فيالك من غسل سيتبعه غبر قال : وكانوا يكفنون موتاهم ويصلون عليهم وكانت صلاتهم : إذا مات الرجل حمل على سريره ثم يقوم وليه فيذكر محاسنه كلها ويثنى عليه ثم يدفن ثم يقول : عليك رحمة الله وبركاته .
وقال رجل من كلب في الجاهلية لإبن ابن له : أعمرو إن هلكت وكنت حيا فإني مكثر لك في صلاتي وأجعل نصف مالي لابن سام حياتي إن حييت وفي مماتي قال : وكانوا يداومون على طهارات الفطرة التي ابلي بها غبراهيم عليه السلام وهي الكلمات العشر فإنهن : خمس في الرأس وخمس في الجسد .
فأما اللواتي في الرأس : فالمضمضة والاستنشاق وقص الشارب والفرق والسواك .
وأما اللواتي في الجسد : فالاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان .
فلما جاء الإسلام قررها سنة من السنن .
وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى إذا سق .
وكانوا يوفون بالعهود ويكرمون الجار ويكرمون الضيف .
قال حاتم الطائي : إلههم ربي وربي ألههم فأقسمت لا ارسو ولا اتعذر وقال أيضاً : لقد كان في البرايا الناس أسوة كأن لم يسق جحش بعير ولا حمر وكانوا أناساً موقنين بربهم بكل مكان فيهم : عابد بكر
الجزء الرابع آراء الهند
ميول الهند وفرقهم : قد ذكرنا أن الهند أمة كبيرة وملة عظيمة وآراؤهم مختلفة .
فمنهم البراهمة وهم المنكرون للنبوات أصلاً ومنهم من يميل إلى الدهر ومنهم من يميل إلى مذهب الثنوية ويقول بملة إبراهيم عليه السلام .(13/406)
وأكثرهم على مذهب الصابئة ومناهجها : فمن قائل بالروحانيات ومن قائل بالهياكل ومن قائل بالأصنام إلا أنهم مختلفون في شكل الهياكل التي ابتدعوها وكيفية أشكال وضعوها ومنهم حكماء على طريق اليونانيين : علماً وعملاً .
فمن كانت طريقته على منهاج الدهرية والثنوية والصابئة فقد أغنانا حكاية مذاهبهم قبل عن حكاية مذهبه ومن انفرد عنهم بمقالة ورأي فهم خمس فرق : البراهمة وأصحاب الروحانيات وأصحاب الهياكل وعبدة الأصنام والحكماء .
ونحن نذكر مقالات هؤلاء كما قد وجدنا في كتبهم المشهورة .
الباب الأول البراهمة
انتساب البراهمة وما يجمعهم : من الناس من يظن أنهم سموا براهمة لا نتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام وذلك خطأ فإن هؤلاء القوم هم المخصوصون بنفي النبوات أصلاً ورأساً فكيف يقولون بإبراهيم عليه السلام والقوم الذين اعتقدوا نبوة إبراهيم عليه السلام من أهل الهند فهم الثنوية منهم القائلون بالنور والظلمة على رأي أصحاب الاثنين وقد ذكرنا مذاهبهم .
وهؤلاء البراهمة إنما انتسبوا إلى رجل منهم يقال له براهم وقد مهد لهم نفي النبوات أصلاً وقرر استحالة ذلك في العقول بوجوه .
منها أن قال : إن الذي يأتي به الرسول لم يخل من أحد أمرين : إما أن يكون معقولاً وإما أن لا يكون معقولاً فإن كان معقولاً فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه فأي حاجة لنا إلى الرسول وإن لم يكن معقولاً فلا يكون مقبولاً إذ قبول ما ليس بمعقول خروج عن حد الإنسانية ودخول في حريم الهيمية .
ومنها أن قال : قد دل العقل على أن الله تعالى حكيم والحكيم لا يتعبد الخلق إلا بما تدل عليه عقولهم وقد دلت الدلائل العقلية على أن للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً وأنه أنعم على عباده نعماً توجب الشكر فننظر في آيات خلقه بعقولنا ونشكره بآلائه علينا .(13/407)
وإذا عرفناه وشكرنا له استوجبنا ثوابه وإذا أنكرناه وكفرنا به استوجبنا عقابه فما بالنا نتبع بشراً مثلنا ! فإنه إن كان يأمرنا بما ذكرناه من المعرفة والشكر فقد استغنينا عنه بعقولنا وإن كان يأمرنا بما يخالف ذلك كان قوله دليلاً ظاهراً على كذبه .
ومنها أن قال : قد دل العقل على أن للعالم صانعاً حكيماً والحكيم لا يتعبد الخلق بما يقبح في عقولهم وقد وردت أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقل : من التوجه إلى بيت مخصوص في العبادة والطواف حوله والسعي ورمي الجمار والإحرام والتلبية وتقبيل الحجر الأصم وكذلك ذبح الحيوان وتحريم ما يمكن أن يكون غذاء للإنسان وتحليل ما ينقص من بنيته .
وغير ذلك وكل هذه الأمور مخالفة لقضايا العقول .
والنفس والعقل يأكل مما تأكل ويشرب مما تشرب حتى تكون بالنسبة إليه كجماد يتصرف فيك رفعاً ووضعاً أو كحيوان يصرفك أماماً وخلفاً أو كعبد يتقدم إليك أمراً ونهياً فأي تميز له عليك وأية فضيلة أوجبت استخدامك وما دليله على صدق دعواه فإن اغتررتم بمجرد قوله فلا تمييز لقول على قول وإن حسرتم بحجته ومعجزته فعندنا من خصائص الجواهر والأجسام ما لا يحصى كثرة ومن المخبرين عن مغيبات الأمور من ساوى خبره قالت لهم رسلهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده فإذا اعترفتم بأن للعالم صانعاً وخالقاً وحكيماً فاعترفوا بأنه آمر وناه : حالك على خلقه وله في جميع ما نأتي ونذر ونعمل ونفكر .
حكم وأمر .
وليس كل عقل إنساني على استعداد ما يعقل عنه أمره ولا كل نفس بشرى بمثابة من يقبل عنه حكمه بل أوجبت منته ترتيباً في العقول والنفوس واقتضت قسمته أن يرفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون فرحمة الله الكبرى هي النبوة والرسالة وذلك خير مما يجمعون بعقولهم المختالة .(13/408)
ثم إن البراهمة تفرقوا أصنافاً : فمنهم أصحاب البددة ومنهم أصحاب الفكرة ومنهم أصحاب التناسخ .
أصحاب البددة ومعنى البد عندهم : شخص في هذا العالم : لا يولد ولا ينكح ولا يطعم ولا يشرب ولا يهرم ولا يموت .
وأول بد ظهر في العالم اسمه شاكمين وتفسيره السيد الشريف ومن وقت ظهوره إلى وقت الهجرة خمسة آلاف سنة .
قالوا ودون مرتبة البد : مرتبة البوديسعية ومعناه الإنسان الطالب سبيل الحق وإنما يصل إلى تلك المرتبة بالصبر والعطية وبالرغبة فيما يجب أن يرغب فيه .
وبالامتناع والتخلي عن الدنيا والعزوف عن شهواتها ولذاتها والعفة عن محارمها .
والرحمة على جميع الخلق وبالاجتناب عن الذنوب العشرة : قتل كل ذي روح واستحلال أموال الناس والزنا والكذب والنميمة والبذاء والشتم وشناعة الألقاب والسفه والجحد لجزاء الآخرة وباستكمال عشرة خصال : إحداها الجود والكرم والثانية العفو عن المسيء ودفع الغضب بالحلم والثالثة التعفف عن الشهوات الدنيوية والرابعة الفكرة في التخلص إلى ذلك العالم الدائم الوجود من هذا العالم الفائي الخامسة رياضة العقل بالعلم والأدب وكثرة النظر إلى عواقب الأمور والسادسة القوة على تصريف النفس في طلب العلييات والسابعة لين القول وطيب الكلام مع كل أحد والثامنة حسن المعاشرة مع الإخوان بإيثار اختيارهم على اختيار نفسه والتاسعة الإعراض عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق بالكلية والعاشرة بذل الروح شوقاً إلى الحق ووصولاً إلى جناب الحق .
وزعموا : أن البددة أتوهم على عدد الهياكل من نهر الكنك وأعطوهم العلوم وظهروا لهم في أجناس وأشخاص شتى ولم يكونوا يظهرون إلا في بيوت الملوك لشرف جواهرهم .
قالوا : ولم يكن بينهم اختلاف في ما ذكر عنهم من ازلية العالم وقولهم في الجزاء على ما ذكرنا .(13/409)
وإنما اختص ظهور البددة بأرض الهند لكثرة ما فيها من خصائص التربة والإقليم ومن فيها من أهل الرياضة والاجتهاد وليس يشبه البد على ما وصفوه إن صدقوا في ذلك إلا بالخضر الذي يثبته أهل الإسلام .
أصحاب الفكرة والوهم وهؤلاء أعلم منهم بالفلك والنجوم وأحكامها المنسوبة إليهم .
وللهند طريقة تخالف طريقة منجمي الروم والعجم وذلك أنهم يحكمون أكثر الأحكام باتصالات الثوابت دون السيارات وينشئون الأحكام عن خصائص الكواكب دون طبائعها ويعدون زحل السعد الأكبر وذلك لرفعة مكانه وعظم جرمه وهو الذي يعطي العطايا الكلية من السعادة والجزئية من النحوسة .
وكذلك سائر الكواكب لها طبائع وخواص فالروم يحكمون من الطبائع والهند يحكمون من الخواص .
وكذلك طبهم فإنهم يعتبرون خواص الأدوية دون طبائعها والروم تخالفهم في ذلك .
وهؤلاء أصحاب الفكرة يعظمون الفكر ويقولون : هو المتوسط بين المحسوس والمعقول فالصور من المحسوسات ترد عليه والحقائق من المعقولات ترد عليه أيضاً فهو مورد العلمين من العالمين .
فيجتهدون كل الجهد حتى يصرفوا الوهم والفكر عن المحسوسات بالرياضات البليغة والاجتهادات المجهدة حتى إذا تجرد الفكر عن هذا العالم تجلى له ذلك العالم فربما يخبر عن مغيبات الأحوال وربما يقوى على حبس الأمطار وربما يوقع الوهم على رجل حي فيقتله في الحال ولا يستعبد ذلك فإن للوهم أثراً عجيباً في تصريف الأجسام والتصرف في النفوس : أليس الاحتلام في النوم تصرف الوهم في الجسم أليست إصابة العين تصرف الوهم في الشخص أليس الرجل يمشي على جدار مرتفع فيسقط في الحال ولا يأخذ من عرض المسافة في خطواته سوى ما أخذه على الأرض المستوية .(13/410)
والوهم إذا تجرد عمل أعمالاً عجيبة ولهذا كانت الهند تغمض عينها أياماً لألا يشتغل الفكر والوهم بالمحسوسات ومع التجرد إذا اقترن به وهم آخر اشتركا في العمل خصوصاً إذا كانا متفقين غاية الاتفاق ولهذا كانت عادتهم إذا دهمهم أمر أن يجتمع أربعون رجلاً من المهذبين المخلصين المتفقين على رأي واحد في الإصابة فيتجلى لهم المهم الذي يهضمهم حمله ويندفع عنهم البلاء الملم الذي يكادهم ثقله .
ومنهم البكر نتينية يعني : المصفدين بالحديد .
وسنتهم : حلق الرؤوس واللحي وتعرية الأجسام ما خلا العورة وتصفيد البدن من أوساطهم إلى صدورهم لألا تنشق بطونهم من كثرة العلم وشدة الوهم وغلبة الفكر ولعلهم رأوا في الحديد خاصية تناسب الأوهام وإلا فالحديد كيف يمنع انشقاق البطن وكثرة العلم كيف توجب ذلك أصحاب التناسخ وقد ذكرنا مذاهب التناسخية .
وما من ملة من الملل إلا وللتناسخ فيها قدم راسخ وإنما تختلف طرقهم في تقرير ذلك .
فأما تناسخية الهند فأشد اعتقاداً لذلك لما عاينوا من طير يظهر في وقت معلوم فيقع على شجرة معلومة فيبيض ويفرخ ثم إذا تم نوعه بفراخه حك بمنقاره ومخالبه فتبرق منه نار تلتهب فيحترق الطير ويسيل منه دهن يجتمع في أصل الشجرة في مغارة ثم إذا حال الحول وحان وقت ظهوره انخلق من هذا الدهن مثله طير فيطير ويقع على الشجرة وهو أبداً كذلك .
قالوا فما مثل الدنيا وأهلها في الأدوار والأكوار إلا كذلك .
قالوا : وإذا كانت حركات الأفلاك دورية فلا محالة يصل رأس الفرجار إلى ما بدأ ودار دورة ثانية على الخط الأول : أفاد لا محالة ما أفاد الدور الأول إذ لا اختلاف بين الدورين حتى يتصور اختلاف بين الأثرين فإن المؤثرات عادت كما بدأت والنجوم والأفلاك دارت على المركز الأول وما اختلفت أبعادها واتصالاتها ومناظراتها ومناسباتها بوجه فيجب أن لا تختلف المتأثرات الباديات منها بوجه وهذا هو تناسخ الأدوار والأكوار .(13/411)
ولهم اختلافات في الدورة الكبرى : كم هي من السنين وأكثرهم على أنها ثلاثون ألف سنة وبعضهم على أنها ثلاثمائة ألف سنة وستين ألف سنة .
وإنما يعتبرون في تلك الأدوار سير الثوابت لا السيارات .
وعند الهند أكثرهم : إن الفلك مركب من الماء والنار والريح وأن الكواكب فيه نارية هوائية فلم تعدم الموجودات العلوية إلا العنصر الأرضي فحسب .
الباب الثاني أصحاب الروحانيات
ومن أهل الهند جماعة أثبتوا متوسطات روحانية يأتونهم بالرسالة من عند الله في صورة البشر من غير كتاب فيأمرهم بأشياء وينهاهم عن أشياء ويسن لهم الشرائع ويبين لهم وإنما يعرفون صدقه بتنزهه عن حطام الدنيا واستغنائه عن : الأكل والشرب والبعال .
الباسنوية زعموا : أن رسولهم ملك روحاني نزل من السماء على صورة بشر فأمرهم بتعظيم النار وأن يتقربوا إليها بالعطر والطيب والأدهان والذبائح ونهاهم عن القتل والذبح إلا ما كان للنار وسن لهم إن يتوشحوا بخيط يعقدونه من مناكبهم الأيامن إلى تحت شمائلهم ونهاهم أيضاً عن الكذب وشرب الخمر وأن لا يأكلوا من أطعمة غير ملتهم ولا من ذبائحهم وأباح لهم الزنا لئلا ينقطع النسل .
وأمرهم أن يتخذوا بالمعازف والتبخير والغناء والرقص وأمرهم بتعظيم البقرة والسجود لها حيث رأوها وأن يفزعوا في التوبة إلى التمسح بها وأمرهم أن لا يجوزوا نهر كنك .
الباهودية زعموا : أن رسولهم ملك روحاني على صورة بشر واسمه باهود أتاهم وهو راكب على ثور على رأسه إكليل مكلل بعظام الموتى من عظام الرؤوس .
ومتقلد من ذلك بقلادة وبإحدى يديه قحف إنسان وبالأخرى مزراق ذو ثلاث شعب .(13/412)
يأمرهم بعبادة الخالق عز وجل وبعبادته معه وأن يتخذوا على مثاله صنماً يعبدونه وأن لا يعافوا شيئاً وأن تكون الأشياء كلها في طريقة واحدة لأنها جميعاً صنع الخالق عز وجل وأن يتخذوا من عظام الناس قلائد يتقلدونها وأكاليل يضعونها على رؤوسهم وأن يمسحوا أجسادهم ورؤوسهم بالرماد .
وحرم عليهم الذبائح والنكاح وجمع الأموال وأمرهم برفض الدنيا ولا معاش لهم فيها إلا من الصدقة .
الكابلية زعموا أن رسولهم ملك روحاني يقال له شب أتاهم في صورة بشر متمسح بالرماد على رأسه قلنسوة من لبود أحمر طولها ثلاثة أشبار مخيط عليها صفائح من قحف الناس متقلد قلادة من أعط ما يكون متمنطق من ذلك بمنطقة متسور منها بسوار متخلخل منها بخلخال .
وهو عريان .
فأمرهم أن يتزينوا بزينة ويتزيوا بزيه وسن لهم شرائع وحدوداً .
البهادونية قالوا : إن بهادون كان ملكاً عظيماً أتانا في صورة إنسان عظيم وكان له أخوان قتلاه وعملا من جلدته الأرض ومن عظامه الجبال ومن دمه البحار وقيل : هذا رمز وإلا فحال إنسان لا تبلغ إلى هذه الدرجة .
وصورة بهادون راكب على دابة كثير شعر الرأس قد أسبله على وجهه وقد قسم الشعر على جوانب رأسه قسمة مستوية .
وأسبله كذلك على نواحي الرأس قفاً ووجهاً .
وأمرهم أن يفعلوا ذلك .
وسن لهم أن لا يشربوا الخمر وإذا رأوا امرأة هربوا منها وأن يحجوا إلى جبل يدعى جور عن وعليه بيت عظيم فيه صورة بهادون .
ولذلك البيت سدنة لا يكون المفتاح إلا بأيديهم فلا يدخلون إلا بإذنهم وإذا فتحوا الباب سدوا أفواههم حتى لا تصل أنفاسهم إلى الصنم من حجهم لم يدخلوا العمران في طريقهم ولم ينظروا إلى محرم .
ولم يصلوا إلى أحد بسوء وضرر من قول وفعل .
الباب الثالث عبدة الكواكب
ولم ينقل للهند مذهب في عبادة الكواكب إلا فرقتان توجهتا إلى النيرين : الشمس والقمر .(13/413)
ومذهبهم في ذلك مذهب الصابئة في توجههم إلى الهياكل السماوية دون قصر البروبية والإلهية عليها .
عبدة الشمس : الدينيكيتية زعموا : أن الشمس ملك من الملائكة ولها نفس وعقل ومنها نور الكواكب وضياء العالم وتكون الموجودات السفلية وهي ملك الفلك فتستحق التعظيم والسجود والتبخير والدعاء وهؤلاء يسمون الدينتكيتية أي : عباد الشمس ومن سنتهم أن اتخذوا لها صنماً على لون النار وله بيت خاص قد بنوه باسمه ووقفوا عليه ضياعاً وقرياناً وله سدنة وقوام .
فيأتون البيت ويصلون ثلاث كرات ويأتيه أصحاب العلل والأمراض فيصومون له ويصلون ويدعون ويستشفون به .
عبدة القمر : الجندريكينية زعموا : أن القمر ملك من الملائكة يستحق التعظيم والعبادة وإليه تدبير هذا العالم السفلي والأمور الجزئية فيه ومنه نضج الأشياء المتكونة وإيصالها إلى كمالها وبزيادته ونقصانه تعرف الأزمان والساعات وهو تلو الشمس وقرينها ومنها نوره وبالنظر إليها تكون زيادته ونقصانه وهؤلاء يسمون الجندريكينية أي : عباد القمر .
ومن سنتهم أن اخذوا له صنماً على شكل عجل يجره أربعة وبيد الصنم جوهر .
ومن دينهم أن يسجدوا له ويعبدوه وأن يصوموا النصف من كل شهر ولا يفطروا حتى يطلع القمر ثم يأتون صنمه بالطعام والشراب واللبن ثم يرغبون إليه وينظرون إلى القمر ويسألونه حوائجهم فإذا استهل الشهر علوا السطوح وأوقدوا الدخن ودعوا عند رؤيته ورغبوا إليه ثم نزلوا عن السطوح إلى الطعام والشراب والفرح والسرور ولم ينظروا غليه إلا على وجوه حسنة .
وفي نصف الشهر إذا فرغوا من الإفطار اخذوا في الرقص واللعب
الباب الرابع عبدة الأصنام
اعلم أن الأصناف التي ذكرناها مذاهبهم يرجعون آخر الأمر إلى عبادة الأصنام إذ كان لا يستمر لهم طريقة إلا بشخص حاضر : ينظرون إليه ويعكفون عليه وعن هذا اتخذت أصحاب الروحانيات والكواكب أصناماً زعموا أنها على صورتها .(13/414)
وبالجملة : وضع الأصنام حيث ما قدروه إنما هو على معبو غائب حتى يكون الصنم المعمول على صورته وشكله وهيأته نائباً منابه وقائماً مقامه وإلا فنعلم قطعاً : أن عاقلاً ما لا ينحت جسماً بيده ويصوره صورة ثم يعتقد أنه إلهه وخالقه وإله الكل وخالق الكل إذ كان وجوده مسبوقاً بوجود صانعه وشكله يحدث بصنعة ناحته .
لكن القوم لما عكفوا على التوجه إليها وربطوا حوائجهم بها من غير إذن وحجة وبرهان وسلطان من الله تعالى .
كان عكوفهم ذلك عبادة وطلبهم الحوائج منها إثبات إلهية لها .
وعن هذا كانوا يقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فلو كانوا مقتصرين على صورها في اعتقاد الربوبية والإلهية لما تعدوا عنها إلى رب الأرباب .
لهم صنم يدعى مها كال له أربع أيد كثير شعر الرأس سبطها وبإحدى يديه ثعبان عظيم فاغر فاه وبالأخرى عصا وبالثالثة رأس إنسان وباليد الرابعة قد دفعها وفي أذنيه حيتان كالقرطين وعلى جسده ثعبانان عظيمان قد التفا عليه وعلى رأسه إكليل من عظام القحف وعليه من ذلك قلادة .
يزعمون : أنه عفريت يستحق العبادة لعظمة قدره واستجماعه الخصال المحمودة المحبوبة والمذمومة من الإعطاء والمنع والإحسان والإساءة وأنه المفزع لهم في حاجاتهم .
وله بيوت عظام بأرض الهند ينتابها أهل ملته في كل يوم ثلاث مرات : يسجدون له ويطوفون به .
ولهم موضع يقال له اختر فيه صنم عظيم على صورة هذا الصنم يأتونه من كل موضع ويسجدون له هناك ويطلبون حاجات الدنيا .
حتى إن الرجل يقول له فيما يسأل : زوجني فلانه وأعطني كذا .
ومنهم من يأتيه فيقيم عنده الأيام والليالي ولا يذوق شيئاً : يتضرع إليه ويسأله الحاجة حتى إنه ربما ينفق .
البركسهيكية من سنتهم أن يتخذوا لأنفسهم صنماً يعبدونه ويقربون له الهدايا .(13/415)
وموضع متعبدهم له : أن ينظروا إلى باسق الشجر وملتفه مثل الشجر الذي يكون في الجبال فيلتمسون منها أحسنها وأطولها فيجعلون ذلك الموضع موضع متعبدهم .
ثم يأخذون ذلك الصنم فيأتون شجرة عظيمة من ذلك الشجر فينقبون فيها موضعاً فيركبونه فيها فيكون سجودهم وطوافهم نحو تلك الشجرة .
الدهكينية من سننهم : أن يتخذوا صنماً على صورة امرأة وفوق رأسه تاج وله أيد كثيرة .
ولهم عيد في يوم من أيام السنة عند استواء الليل والنهار ودخول الشمس الميزان فيتخذون في ذلك اليوم عريشاً عظيماً بين يدي ذلك الصنم ويقربون إليه القرابين من الغنم وغيرها ولا يذبحونها ولكن يضربون أعناقها بين يديه بالسيوف .
ويقتلون من أصابوا من الناس قرباناً بالغيلة حتى ينقضي عيدهم وهم مسيئون عند عامة الهند بسبب الغيلة .
الجلهكية : أي عباد الماء يزعمون أن الماء ملك ومعه ملائكة وأنه أصل كل شيء وبه كل ولادة ونمو ونشوء ويقاء وطهارة وعمارة .
وما من عمل في الدنيا إلا وهو محتاج إلى الماء .
فإذا أراد الرجل عبادته تجرد وستر عورته ثم دخل الماء إلى وسطه فيقيم ساعة أو ساعتين أو أكثر ويأخذ ما أمكنه من الرياحين فيقطعها صغاراً ويلقي فيه بعضها بعد بعض وهو يسبح ويقرأ .
وإذا أراد الانصراف حرك الماء بيده ثم أخذ منه فنقط به : رأسه ووجهه وسائر جسده .
خارجاً .
ثم سجد وانصرف .
الأكنواطرية : أي عباد النار زعموا : أن النار أعظم العناصر جرماً وأوسعها حيزاً وأعلاها مكاناً وأشرفها جوهراً وأنورها ضياءً وإشراقاً وألطفها جسماً وكياناً .
والاحتياج إليها أكثر من الاحتياج إلى سائر الطبائع ولا كون في العالم إلا بها ولا حياة ولا نمو ولا انعقاد : إلا بممازجتها .
وغنما عبادتهم لها أن يحفروا أخدوداً مربعاً في الأرض ويؤججو النار فيه ثم لا يدعون طعاماً لذيذاً ولا شراباً لطيفاً ولا ثوباً فاخراً ولا عطراً فائحاً ولا جوهراً نفيساً .(13/416)
إلا طرحوه فيها تقرباً إليها وتبركاً بها .
وحرموا إلقاء النفوس فيها وإحراق الأبدان بها خلافاً لجماعة أخرى من زهاد الهند .
وعلى هذا المذهب أكثر ملوك الهند وعطائها : يعظمون النار لجوهرها تعظيماً بالغاً ويقدمونها على الموجودات كلها .
ومنهم زهاد وعباد يجلسون حول النار صائمين يسدون منافسهم حتى لا يصل إليها من أنفاسهم نفس صدر عن صدر محروم .
وسنتهم : الحث على الأخلاق الحسنة والمنع من أضدادها وهي الكذب والحسد والحقد
الباب الخامس حكماء الهند
انتقال الحكمة إلى الهند : كان لفيثاغورس الحكيم اليوناني تلميذ يدعى قلانوس قد تلقى الحكمة منه وتلمذ له ثم صار إلى مدينة من مدائن الهند وأشاع فيها مذهب فيثاغورس .
انتشار حكمة فيثاغورس في الهند وكان برخمنين رجلاً جيد الذهن نافذ البصيرة صائب الفكر راغباً في معرفة العوالم العلوية .
قد أخذ من قلانوس الحكيم حكمته واستفاد منه علمه وصنعته .
فلما توفي قلانوس ترأس برخمنين على الهند كلهم فرغب الناس في تلطيف الأبدان وتذهيب الأنفس وكان يقول : أي امرئ هذب نفسه وأسرع الخروج عن هذا العالم الدنس وطهر بدنه من أوساخه .
ظهر له كل شىء وعاين كل غائب وقدر على كل متعذر وكان محبوراً مسروراً ملتذاً عاشقاً لا يمل ولا يكل ولا يمسه نصب ولا لغوب .
فلما نهج لهم الطريق واحتج عليهم بالحجج المقنعة : اجتهدوا اجتهاداً شديداً .
وكان يقول أيضاً : إن ترك لذات هذا العالم هو الذي يلحقكم بذلك العالم حتى تتصلوا به وتنخرطوا في سلكه وتخلدوا في لذاته ونعيمه .
فدرس أهل الهند هذا افتراق أهل الهند بعد برخمينن ثم توفي عنهم برخمنين وقد تجسم القول في عقولهم لشدة الحرص والعجلة في اللحاق بذلك العالم .(13/417)
فافترقوا فرقتين : فرقة قالت : إن التناسل في هذا العالم هو الخطأ الذي لا خطأ أبين منه إذ هو نتيجة اللذة الجسدانية وثمرة النطفة الشهوانية فهو حرام وما يؤدي إليه من الطعام اللذيذ والشراب الصافي وكل ما يهيج الشهوة واللذة الحيوانية وينشط القوة البهيمية .
فهو حرام أيضاً فاكتفوا بالقليل من الغذاء على قدر ما تثبت به أبدانهم .
ومنهم من كان لا يرى ذلك القليل أيضاً ليكون لحاقه بالعالم الأعلى أسرع .
ومنهم من إذا رأى عمره قد تنفس ألقى بنفسه في النار تزكية لنفسه وتطهيراً لبدنه وتخليصاً لروحه .
ومنهم من يجمع ملاذ الدنيا من الطعام والشراب والكسوة فيمثلها نصب عينيه لكي يراها البصر وتتحرك نفسه البهيمية إليها فتشتاقها وتشتهيها فيمنع نفسه عنها بقوة النفس المنطقية .
حتى يذبل البدن وتضعف النفس وتفارق البدن لضعف الرباط الذي كان يربطها به .
وأما الفريق الآخر فإنهم كانوا يرون : التناسل والطعام والشراب .
وسائر اللذات بالقدر الذي هو طريق الحق : حلالاً .
وقليل منهم : من يتعدى عن الطريق ويطلب الزيادة .
الفيثاغوريون الهنود وكان قوم من الفريقين سلكوا مذهب فيثاغورس من الحكمة والعلم فتلطفوا حتى صاروا يظهرون على ما في أنفس أصحابهم من الخير والشر ويخبرون بذلك فيزيدهم ذلك حرصاً على رياضة الفكر وقهر النفس الأمارة بالسوء واللحوق بما لحق به أصحابهم .
ومذهبهم في الباري تعالى : أنه نور محض إلا أنه لابس جسداً ما : يستمر به لئلا يراه إلا من استأهل رؤيته واستحقها كالذي يلبس في هذا العالم جلد حيوان فإذا خلعه نظر إليه من وقع بصره عليه وإذا لم يلبسه لم يقدر أحد من النظر إليه .
ويزعمون : أنهم كالسبايا في هذا العالم فإن من حارب النفس الشهوية حتى منعها عن ملاذها فهو الناجي من دنيات العالم السفلى ومن لم يمنعها بقي أسيراً في بدنها .(13/418)
والذي يريد أن يحارب هذا أجمع فإنما يقدر على محاربتها بنفي التجبر والعجب وتسكين الشهوة والحرص والبعد عما يدل عليها ويوصل إليها .
الإسكندر وحكماء الهند ولما وصل الإسكندر إلى تلك الديار وأراد محاربتهم صعب عليه افتتاح مدينة أحد الفريقين وهم اللذين كانوا يرون استعمال اللذات في هذا العالم بقدر القصد الذي لا يخرج إلى فساد البدن فجهد حتى افتتحها وقتل منهم جماعة من أهل الحكمة فكانوا يرون جثث قتلاهم مطروحة كأنها جثث السمك الصافية النقية التي في الماء الصافي فلما رأوا ذلك ندموا على فعلهم ذلك بهم وأمسكوا عن الباقين .
والفريق الثاني وهم الذين زعموا : أن لا خير في اتخاذ النساء والرغبة في النسل ولا في شئ من الشهوات الجسدانية - كتبوا إلى الإسكندر كتاباً مدحوه فيه على حب الحكمة وملابسة العلم وتعظيم أهل الرأي والعقل والتمسوا منه حكيماً يناظرهم فنفذ إليهم واحداً من الحكماء فنضلوه بالنظر وفضلوه بالعمل فانصرف الإسكندر عنهم ووصلهم بجوائز سنية وهداية كريمة .
فقالوا : إذا كانت الحكمة تفعل بالملوك هذا الفعل في هذا العالم فكيف إذا لبسناها على ما يجب لباسها واتصلت بنا غاية الاتصال ! ومناظراتهم مذكورة في كتب أرسطوطاليس .
سجودهم للشمس ودعاؤهم عند شروقها ومن سنتهم : إذا نظروا إلى الشمس قد أشرقت سجدوا لها وقالوا : ما أحسنك من نور وما أبهاك وما أنورك لا تقدر الأبصار أن تلتذ بالنظر إليك .
فإن كنت أنت النور الأول الذي لا نور فوقك فلك المجد والتسبيح .
وإياك نطلب وإليك نسعى لندرك السكن بقربك وننظر إلى إبداعك الأعلى .
وإن كان فوقك وأعلى منك نور آخر أنت معلول له فهذا التسبيح وهذا المجد له وإنما سعينا وتركنا جميع لذات هذا العالم لنصير مثلك ونلحق بعالمك ونتصل بساكنك .
وإذا كان المعلول بهذا البهاء والجلال فكيف يكون بهاء العلة وجلالها ومجدها وكمالها ! .(13/419)
فحق لكل طالب أن يهجر جميع اللذات فيظفر بالجوار بقربه ويدخل في غمار جنده وحزبه .
في النسل ولا في شئ من الشهوات الجسدانية - كتبوا إلى الإسكندر كتاباً مدحوه فيه على حب الحكمة وملابسة العلم وتعظيم أهل الرأي والعقل والتمسوا منه حكيماً يناظرهم فنفذ إليهم واحداً من الحكماء فنضلوه بالنظر وفضلوه بالعمل فانصرف الإسكندر عنهم ووصلهم بجوائز سنية وهداية كريمة .
فقالوا : إذا كانت الحكمة تفعل بالملوك هذا الفعل في هذا العالم فكيف إذا لبسناها على ما يجب لباسها واتصلت بنا غاية الاتصال ! ومناظراتهم مذكورة في كتب أرسطوطاليس .
سجودهم للشمس ودعاؤهم عند شروقها ومن سنتهم : إذا نظروا إلى الشمس قد أشرقت سجدوا لها وقالوا : ما أحسنك من نور وما أبهاك وما أنورك لا تقدر الأبصار أن تلتذ بالنظر إليك .
فإن كنت أنت النور الأول الذي لا نور فوقك فلك المجد والتسبيح .
وإياك نطلب وإليك نسعى لندرك السكن بقربك وننظر إلى إبداعك الأعلى .
وإن كان فوقك وأعلى منك نور آخر أنت معلول له فهذا التسبيح وهذا المجد له وإنما سعينا وتركنا جميع لذات هذا العالم لنصير مثلك ونلحق بعالمك ونتصل بساكنك .
وإذا كان المعلول بهذا البهاء والجلال فكيف يكون بهاء العلة وجلالها ومجدها وكمالها ! .
فحق لكل طالب أن يهجر جميع اللذات فيظفر بالجوار بقربه ويدخل في غمار جنده وحزبه .
في النسل ولا في شئ من الشهوات الجسدانية - كتبوا إلى الإسكندر كتاباً مدحوه فيه على حب الحكمة وملابسة العلم وتعظيم أهل الرأي والعقل والتمسوا منه حكيماً يناظرهم فنفذ إليهم واحداً من الحكماء فنضلوه بالنظر وفضلوه بالعمل فانصرف الإسكندر عنهم ووصلهم بجوائز سنية وهداية كريمة .
فقالوا : إذا كانت الحكمة تفعل بالملوك هذا الفعل في هذا العالم فكيف إذا لبسناها على ما يجب لباسها واتصلت بنا غاية الاتصال ! ومناظراتهم مذكورة في كتب أرسطوطاليس .(13/420)
سجودهم للشمس ودعاؤهم عند شروقها ومن سنتهم : إذا نظروا إلى الشمس قد أشرقت سجدوا لها وقالوا : ما أحسنك من نور وما أبهاك وما أنورك لا تقدر الأبصار أن تلتذ بالنظر إليك .
فإن كنت أنت النور الأول الذي لا نور فوقك فلك المجد والتسبيح .
وإياك نطلب وإليك نسعى لندرك السكن بقربك وننظر إلى إبداعك الأعلى .
وإن كان فوقك وأعلى منك نور آخر أنت معلول له فهذا التسبيح وهذا المجد له وإنما سعينا وتركنا جميع لذات هذا العالم لنصير مثلك ونلحق بعالمك ونتصل بساكنك .
وإذا كان المعلول بهذا البهاء والجلال فكيف يكون بهاء العلة وجلالها ومجدها وكمالها ! .
فحق لكل طالب أن يهجر جميع اللذات فيظفر بالجوار بقربه ويدخل في غمار جنده وحزبه .
هذا ما وجدته من مقالات أهل العالم ونقلته على ما وجدته فمن صادف فيه خللاً في النقل فأصلحه : أصلح الله عز وجل - بفضله حاله وسدد أقواله وأفعاله وهو حسبنا ونعم الوكيل .
والحمد لله رب العالمين .
وصلواته على سيد المرسلين : محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين وصحابته الأكرمين وسلم تسليماً كثيراً .
مع تحيات :
شبكة مشكاة الإسلامية
http://www.almeshkat.net/index.php(13/421)
النظام الايراني واسرائيل
مائة مليون دولار من السلاح والعتاد في غضون 3 أشهر .
مقايضة السلاح بالنفط .
اضعاف الدول العربية قوة لاسرائيل .
كل جندي يقتل في جبهات القتال الايرانية العراقية احياء لجندي في اسرائيل .
الدول العربية التي تؤجج نار الحرب الايرانية العراقية ( يخربون بيوتهم بايديهم ) .
(وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113) )
النظام الايراني واسرائيل
اسرائيل تعرف جيدا ان عدوها الاول والاخير هو العرب ، واقوى الدول العربية هي اقوى اعدائها ، اما ايران فكانت منذ قيام دولة اسرائيل صديقا حميما سواء في عهد الشاه او بعد سقوطه ، واسرائيل على علم ويقين ان تصريحات الخميني وسائر زمرته من احتلال القدس والحرب مع الكيان الصهيوني هي للاستهلاك المحلي ومزايدات سياسية داخلية وخارجية . لقد ثبت هذا عندما زودت اسرائيل ايران بقطع الغيار والاسلحة لاستعمالها في الحرب الايرانية العراقية ، ولقد حاولت الزمرة الخمينية الحاكمة اخفاء هذه الفضيحة الكبرى وحاول الخميني نفسه ان يدخل الميدان وكذب الخبر مرات وكرات ، الا ان الفضيحة كانت اكبر من ان تخفى .(14/1)
ان المخطط المشؤوم االذي نفذته ايران بالتعاون مع اسرائيل يعطي مؤشرات خطيرة هي ابعد بكثير من التعاون الاقتصادي والسياسي بين الجمهورية الاسلامية الايرانية والكيان الصهيوني ، ان المتتبع لاحداث المنطقة يعرف بوضوح ان اسرائيل لاتستطيع العيش في المنطقة الا اذا ضعفت الدول العربية التي تهدد كيانها التوسعي ، فقوة الدول العربية تعني ضعف اسرائيل ، وقد جاءت احداث لبنان الدامية وما استهلكت من اسلحة الدول العربية ، وخروج مصر عن الحظيرة العربية سببا في تضعيف دول المواجهة مع اسرائيل ، وبالطبع مصدر قوة كبيرة لها ، ولكن يبدو ان خروج مصر من الحظيرة العربية واحداث لبنان التي لازالت تستهلك السلاح والجهد العربي لم يعط البعد اللازم لاقناع العرب بالوصول إلى حل سلمي مع اسرائيل ، وكانت اقوى الدول العربية الرافضة لمعاهدة كامب ديفيد هي العراق الذي قاد الدول العربية في رفض الحلول الاستسلامية ، وبما انه كان اقوى دول المواجهة عسكريا وبشريا والذي كان يقود السياسة العربية الرافضة للحل الاستسلامي الذي اتبعه الرئيس المصري انور السادات فكان لا بد من تضعيف العراق عسكريا باي ثمن ومهما كلف الامر وبدون ان تثير مخاوف دول المجابهة الاخرى ، فلذلك كما قلت في فصل ( رفض الصلح ) من هذا الكتاب ان الحرب الايرانية العراقية كانت في ضمن التخطيط الاساسي لدعم الكيان الصهيوني ، فتضعف اقوى دول المجابهة عسكريا هو في صالح اسرائيل وفي صالح الحل السلمي ، أي تسليم العرب للامر الواقع ، اني لا اعتقد ان توقيت ضم الجولان وتعصيم القدس القديمة في هذا الوقت كان امرا اعتباطيا بل استغلت اسرائيل الحرب الايرانية العراقية لتتوسع في الاراضي العربية كما تريد وبلا رادع ومانع . ان استمرار ايران في حربها مع العراق ورفضها للصلح هو مخطط صهيوني استعماري اوضح من الشمس في رائعة النهار ، ان في ضعف العراق تكمن قوة اسرائيل ، وضعف العراق ضعف العرب، وضعف العرب(14/2)
قوة اسرائيل ايضا .
ان العالم يسخر بما يسمع من الخميني والخمينيون حول عدائهم مع اسرائيل ويعتبره نوعا من الهذيان السياسي ، واسرائيل ترى تعاونها وصداقتها مع النظام الاسلامي في ايران فرصة ذهبية لابد وان تستغلها في سبيل مآربها ولذلك يعتقد الضالعون في شؤون السياسة كما نشرتها بعض الصحف ان الاسلحة وقطع الغيار التي باعتها اسرائيل لايران تجاوزت مائة مليون دولارا ، كما ان خبراء اسرائيليين وصلوا ايران لتدريب حرس الثورة على استعمال تلك الاسلحة وبعد كل هذا فلتقر عين السيد ياسر عرفات ومنظمة فتح في تعاطفهم مع الزمرة الخمينية في ايران ، صحيح ان شهر العسل بين ايران والفلسطينيين قد انتهى وصحيح ان ايران اغلقت مكتب فتح في خرمشهر ، وصبرت عليه المنظمة على مضض .
لكن السؤال الاساسي هو كيف تصبر منظمة فتح على تعاون ايران مع اسرائيل عسكريا والذي ادى ويؤدي إلى تضعيف العراق عسكريا ، أي تضعيف المقاومة وتضعيف جبهة الصمود وتضعيف العرب في آخر المطاف ، اذا كانت الكلمات فقط تقنع منظمة فتح فنحن لا نلومهم لأن الكلام المعسول الذي اطلقه الخميني وزمرته ضد اسرائيل قد يضمن النصر للعرب وهنيئا لهم ، واما اذا كانت هناك من سياسة حكيمة لتفريق الصديق من العدو فان ايران الخميني تلعب اليوم اعظم الادوار الهدامة في مأساة العرب الكبرى فلسطين .(14/3)
ان الجسور الممدودة بين ياسر عرفات والزمرة الخمينية الحاكمة في ايران حتى اذا قطعت فان ايران تستمر في طريقها لتدمير العرب واضعافهم ، ولكن لصاحب الحق ان يقول كلمته . اما الدول العربية التي تواكب النظام الايراني في مسيرته الشائنة فانما تشارك في هدم نفسها وكيانها وشعوبها بعمد او جهل ، ولاول مرة يحدث مثل هذا الخطأ الجسيم في تقييم العلاقات العربية الخمينية . ان تأييد حافظ الاسد للزمرة الخمينية الحاكمة في ايران انما هو تأييد لبيغن واسرائيل ، وفي الحقيقة والواقع هدم لسوريا وامة العرب جميعا والاسلام .
كما ان الاموال التي ينفقها الاخ القذافي على النظام الحاكم في ايران فانما تضاف إلى ارصدة اسرائيل بعد تحوير صغير .
واذا كانت الدول الاستعمارية الكبرى تساعد اسرائيل ضد العرب بالمال والسلاح ، فان الجمهورية الاسلامية الخمينية تساعد اسرائيل بالمال والسلاح والدم ، ان قتل كل جندي في جبهة الحرب الايرانية العراقية حياة لجندي اسرائيلي واقف في الجبهة العربية بالمرصاد .(14/4)
لقد ثبت لاسرائيل ان ايران في ظل التاج والعمامة سوق رائج له وصديق لا غنى عنه ، فالبضائع الاستهلاكية التي تستورده ايران في عهد الشاه ، والنفط الذي تستورده اسرائيل من ايران اضعاف ما كانت تستورده في عهد الشاه ، والتعاون الايراني في ظل الخميني وزمرته يتجاوز تعاون الصديق مع صديقه ، بل اصبح تعاون الحليف مع حليفه ، فمتى كان الشاه يشترى الاسلحة ويستورد قطع الغيار من اسرائيل كما فعلت الدولة الخمينية ، غير ان الشاه كان شجاعا في التصريح بعلاقته مع اسرائيل ، والخميني وزمرته الحاكمة جبناء اذلاء ، ( وَمِنْ وَرائِهِم قَوم اشتَروا الضَّلالة بِالهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارتَهُم وَكانوا مِن الخَاسِرين ) (1)
__________
(1) كتبنا هذا الفصل قبل احتلال اسرائيل للبنان بنصف عام . الاحتلال الذي راح ضحيته عشرين الف قتيل من المدنيين واسفر عن مذبحة صبرا وشاتيلا وارغام المقاومة الفلسطينية على مغادرة الاراضي اللبنانية ، الامر الذي يثبت ما اسلفناه في هذا الفصل ان الشعب الايراني عندما اراد الوقوف بجانب اللبنانيين والفلسطينيين في محنتهم لدرء الهجمات الاسرائيلية وظهرت تساؤلات كثيرة عن السبب في رفض الخميني اقتراح العراق بوقف الحرب الدائرة بينهما حتى يتسنى للعراق مساعدة لبنان . وجه الخميني نداء إلى الشعب الايراني يقول فيه : لا تلهيكم الحرب الصغيرة عن الحرب الكبيرة فمحاربة العراق اهم لنا بكثير من محاربة اسرائيل .(14/5)
جامعة قار يونس
كلية الآداب والعلوم إجدابيا
قسم التاريخ
-
بحث مقدم لنيل درجة الليسانس في الآداب
بعنوان:
الوجيز المفيد في تِبْيان أسباب ونتائج قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه
- إعداد الطالب : - إشراف الأستاذ: مصطفى يونس الراقي الفاخري محمد سعيد بو حليقة الزوي
للعام الجامعي
2005م- 2006م
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الغيورين على شريعة الله العاملين بها
أهدى هذا البحث
مقدمة
الحمد الله كريم المنّة ، وناصر الدينِ بأهل السنة ، الحمد الله كثيراً كما أنعم علينا كثيراً ، وصلى الله وسلم على رسوله محمد الذي أرسلهُ شاهداً ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنهِ وسراجاً منيراً ، وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ، وعلى جميع المؤمنين الذين أمر الله نبيهُ أن يبشرهم بأن لهم من الله فضلاً كبيراً .
أما بعد :(15/1)
أنا كغيري من شباب أهل السنة الذين رزقهم الله حب أصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فعندما أخبرني أستاذي الفاضل الأستاذ محمد بو حليقة بأنه اختصني للبحث في هذا الموضوع ، وذلك إحساساً منهُ للظن بي ، بقيتُ عدة أيام وأنا متردد في البحث وجالت في ذهني عدة خواطر ، حاولت مراراً وتكراراً الاعتذار عن الكتابة في هذا الموضوع ، ولكنني استشرت من أثق بمشورتهم من أصدقائي ، فتنوعت آراؤهم بين مؤيد يُحسن الظن بي ويرى إنني أستطيع الوصول إلى الحقيقة والتعبير عنها ، وبين معارض يرى أن هذا الموضوع لا يبحث مطلقاً، وهناك طائفة أخرى من الأصدقاء أنا لا أبالي بهم ، ولا بأقوالهم المثبطة ، ففيهم شبه ممن قال اللهُ فيهم ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا )" التوبة .الآية47 " ، وبعد الاستخارة مرات ومرات شرح الله صدري للبحث ، وشرعت في تجميع المصادر من هنا وهناك ، فوالله لقد تحصلت على بعض المراجع التي ما كنتُ أحلمُ بها ، ولولا أن العام الدراسي داهمني على الانقضاء وأنا منتسب ولدي تسع مواد أخرى تحتاج إلى اهتمام ودراسة لما توقفت عن تطوير هذا البحث وتنويره ، وأرى أن هذا البحث موجز ولذلك سميتهُ "الوجيز المفيد في تبيان أسباب ونتائج قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه" ولا يزال يستحق إلى دراسة عميقة ومتأنية ، وكما قال العماد الأصفهاني :" إني رأيتُ أنه لا يكتب أحد كتاباً في يومه إلا قال في غَدِهِ : لوُ غَّيرَ هذا لكان أحسن ولو زيَّد هذا لكان يُستحَسن ولو قُدَّم هذا لكان أفضل ولو تُرِك هذا لكان أجمل . وهذا أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر " أخي القاري الكريم لا أزعم أنني آتيك بشي جديد في هذا الموضوع من نفسي ، إنما هي أقوال علماء بحثت عنها ورتبتها بطريقتي الخاصة فهو جهد بسيط يُضم إلى جهود بقية طلبة التاريخ في هذه الجامعة ، ولدي تنبيهان اثنان أوّد أن أنبه عليهما كل من يطلع على(15/2)
هذا البحث وجعلتهما في مقدمة هذا البحث لضرورتهما :-
الأول: يقول الشيخ محب الدين ( إن التاريخ الإسلامي لم يبدأ تدوينه إلا بعد زوال بني أمية وقيام دول لا يسر رجالها التحدث بمفاخر ذلك الماضي , ومحاسن أهله فتولى تدوين تاريخ الإسلام ثلاث طوائف : طائفة كانت تنشد العيش والجده من التقرب إلى مبغضي بني أمية بما تكتبه وتؤلفه وطائفة ظنت أن التدوين لا يتم ولا يكون التقرب إلى الله إلا بتشويه سمعة أبي بكر وعمر وعثمان وبني عبد شمس جميعاً وطائفة ثالثة من أهل الإنصاف والدين - كالطبري وابن عساكر وابن الأثير وابن كثير- رأت أن من الإنصاف أن تجمع أخبار الإخباريين من كل المذاهب والمشارب كلوط بن يحي الشيعي( أبو مخنف) المحترق وسيف بن عمر العراقي المعتدل ولعل بعضهم اضطر إلى ذلك إرضاءً لجهات كان يشعر بقوتها ومكانتها وقد أثبت أكثر هؤلاء أسماء رواة الأخبار التي أوردوها ليكون الباحث على بصيرة من كل خبر بالبحث عن حال راويه وقد وصلت إلينا هذه التركة لا على أنها تاريخنا بل على أنها مادة غزيرة للدرس والبحث يستخرج منها تاريخنا وهذا ممكن وميسور إذا تولاه من يلاحظ مواطن القوة والضعف في هذه المراجع وله من الألمعية ما يستخلص به حقيقة ما وقع ويجردها عن الذي لم يقع مكتفياً بأصول الأخبار الصحيحة مجردة عن الزيادات الطارئة عليها وأن الرجوع إلى كتب السنة وملاحظات أئمة الأمة مما يسهل هذه المهمة وقد آن لنا أن نقوم بهذا الواجب الذي أبطأنا فيه كل الإبطاء وأول من استيقظ في عصرنا للدسائس المدسوسة على تاريخ بني أمية العلامة الهندي الكبير الشيخ شلبي النعماني في انتقاده لكتب جرجي زيدان ثم أخذ أهل الألمعية من المنصفين في دراسة الحقائق فبدأت تظهر لهم وللناس منيرة مشرقة ولا يبعد إذا استمر هذا الجهاد في سبيل الحق أن يتغير فهم المسلمين لتاريخهم ويدركوا أسرار ما وقع في ماضيهم من معجزات) (1)
__________
(1) – حاشية العواصم من القوا صم-177-178(15/3)
الثاني : بخصوص مسألة البحث فيما شجر بين الصحابة فأود أن أنقل بعض السطور التي اقتبستها من رسالة الشيخ محمد عبد الله المنشور في الشبكة الإسلامية من مطبوعات مكتبة السفير في الرياض(1)عندما تطرق لأسس البحث في تاريخ الصحابة حيث قال الشيخ : [أولا : إن الكلام عما شجر بين الصحابة ليس هو الأصل ، بل الأصل الاعتقادي عند أهل السنة والجماعة هو الكف والإمساك عما شجر بين الصحابة ، وهذا مبسوط في عامة كتب أهل السنة في العقيدة ، كالسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل ، والسنة لابن أبي عاصم ، وعقيدة أصحاب الحديث للصابوني ، والإبانة لابن بطة ، و الطحاوية ، وغيرها . ويتأكد هذا الإمساك عند من يُخشى عليه الالتباس والتشويش والفتنة ، وذلك بتعارض ذلك بما في ذهنه عن الصحابة وفضلهم ومنزلتهم وعدالتهم وعدم إدراك مثله ، لصغر سنه أو لحداثة عهده بالدين . . . لحقيقة ما حصل بين الصحابة ، واختلاف اجتهادهم في ذلك ، فيقع في الفتنة بانتقاصه للصحابة من حيث لا يعلم . وهذا مبني على قاعدة تربوية تعليمية مقررة عند السلف ، وهي ألا يعرض على الناس من مسائل العلم إلا ما تبلغه عقولهم . قال الإمام البخاري رحمه الله : (( باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا )) . وقال علي رضي الله عنه : (( حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله )) . وقال الحافظ في الفتح تعليقا على ذلك : (( وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة . ومثله قول ابن مسعود : ( ما أنت محدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) . ( رواه مسلم ) . وممن كره التحدث ببعض دون بعض الأمام أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ، ومالك في أحاديث الصفات ، وأبو يوسف في الغرائب.)) ، إلى أن قال : (( وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة ، وظاهره في الأصل غير مراده ،
__________
(1) – بعنوان : اعتقاد أهل السنة في الصحابة(15/4)
فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب ، والله أعلم . ( صحيح البخاري 1 / 41 ، الفتح 1 / 199 -200 ، وراجع أيضا كلاما جيدا للسلمي في كتابة التاريخ 228 ) .
ثانيا : إذا دعت الحاجة إلى ذكر ما شجر بينهم ، فلابد من التحقيق والتثبت في الروايات المذكورة حول الفتن بين الصحابة ، قال عز وجل : { يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } . وهذه الآية تأمر المؤمنين بالتثبت في الأخبار المنقولة إليهم عن طريق الفساق ، لكيلا يحكموا بموجبها على الناس فيندموا . فوجوب التثبت والتحقيق فيما نقل عن الصحابة ، وهم سادة المؤمنين أولى وأحرى ، خصوصا ونحن نعلم أن هذه الروايات دخلها الكذب والتحريف ، إما من جهة اصل الرواية أو تحريف بالزيادة والنقص يخرج الرواية مخرج الذم والطعن . وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب ، يرويها الكذابون المعروفون بالكذب ، مثل أبي مخنف لوط بن يحيى ، ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي وأمثالهما ، ومن أجل ذلك لا يجوز أن يدفع النقل المتواتر في محاسن الصحابة وفضائلهم بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف ، وبعضها يقدح فيما علم ، فإن اليقين لا يزول بالشك ، ونحن تيقنا ما ثبت في فضائلهم ، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها ، فكيف إذا علم بطلانها . ( منهاج السنة 6 / 305 ) .(15/5)
ثالثا : إذا صحت الرواية في ميزان الجرح والتعديل ، وكان ظاهرها القدح ، فليلتمس لها أحسن المخارج والمعاذير . قال ابن أبي زيد : (( والإمساك عما شجر بينهم ، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ، ويظن بهم أحسن المذاهب )) . ( مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني ) . وقال ابن دقيق العيد : (( وما نقل عنهم فيما شجر بينهم واختلفوا فيه ، فمنه ما هو باطل وكذب ، فلا يلتفت إليه ، وما كان صحيحا أولناه تأويلا حسنا ، لأن الثناء عليهم من الله سابق ، وما ذكر من الكلام اللاحق محتمل للتأويل ، والمشكوك والموهوم لا يبطل الملحق المعلوم )) . هذا بالنسبة لعموم ما روي في قدحهم .
رابعا : أما ما روي على الخصوص فيما شجر بينهم ، وثبت في ميزان النقد العلمي ، فهم فيه مجتهدون ، وذلك أن القضايا كانت مشتبهة ، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف ، وأن مخالفه باغ ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه ، فيما اعتقدوه ، ففعلوا ذلك ، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده .
القسم الثاني : عكس هؤلاء ، ظهر لهم بالاجتهاد إن الحق مع الطرف الآخر ، فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه .
القسم الثالث : اشتبهت عليهم القضية ، وتحيروا فيها ، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين ، فاعتزلوا الفريقين ، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم ، لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك . ( مسلم بشرح النووي 15 / 149 ، 18 / 11 ، وراجع الإصابة 2 / 501 ، فتح الباري 13 / 34 ) .(15/6)
أيضا من المهم أن نعلم أن القتال الذي حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن على الإمامة ، فإن أهل الجمل وصفين لم يقاتلوا على نصب إمام غير علي ، ولا كان معاوية يقول إنه الإمام دون علي ، ولا قال ذلك طلحة والزبير ، وإنما كان القتال فتنة عند كثير من العلماء ، بسبب اجتهادهم في كيفية القصاص من قاتلي عثمان رضي الله عنه ، وهو من باب قتال أهل البغي والعدل ، وهو قتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام ، لا على قاعدة دينية ، أي ليس بسبب خلاف في أصول الدين . ( منهاج السنة 6 / 327 ) . ويقول عمر بن شبه : (( إن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة ، ولا دعوا أحدا ليولوه الخلافة ، وإنما أنكروا على علياً منعه من قتال قتلة عثمان وترك الاقتصاص منهم )) . ( أخبار البصرة لعمر بن شبه نقلا عن فتح الباري 13 / 56 ) . ويؤيد هذا ما ذكره الذهبي : (( أن أبا مسلم الخولاني وأناساً معه ، جاءوا إلى معاوية، وقالوا : أنت تنازع علياً أم أنت مثله ؟ . فقال : لا والله ، إني لأعلم أنه أفضل مني ، وأحق بالأمر مني ، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما ، وأنا ابن عمته ؟ والطالب بدمه ، فائتوه فقولوا له ، فليدفع إلي قتلة عثمان ، وأسلم له . فأتوا عليا فكلموه ، فلم يدفعهم إليه )) . ( سير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 140 ، بسند رجاله ثقات كما قال الأرناؤوط ) وفي رواية عند ابن كثير : (( فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية )) . وأيضا فجمهور الصحابة وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة . قال عبد الله بن الإمام أحمد : (( حدثنا أبي حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا أيوب السختياني عن محمد بن سيرين ، قال : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرات الألوف ، فما حضرها منهم مائة ، بل لم يبلغوا ثلاثين )) . قال ابن تيمية : (( وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض ، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقته ،(15/7)
ومراسيله من أصح المراسيل )) . ( منهاج السنة 6 / 236 ) . فأين الباحثون المنصفون ليدرسوا مثل هذه النصوص الصحيحة ؟ لتكون منطلقاً لهم لا أن يلطخوا أذهانهم بتشويشات الإخباريين ، ثم يؤولوا النصوص الصحيحة حسب ما عندهم من البضاعة المزجاة . نقول أخيراً : أن أهل السنة والجماعة لا يعتقدون أن الصحابي معصوم من كبائر الإثم وصغائره ، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر ، ثم إذا كان صدر من أحدهم ذنب فيكون إما قد تاب منه ، أو أتى بحسنات تمحوه ، أو غفر له بسابقته ، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم أحق الناس بشفاعته ، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه ، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة ، فكيف بالأمور التي هم مجتهدون فيها إن أصابوا فلهم أجران ، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد ، والخطأ مغفور ، إذن فاعتقادنا بعدالة الصحابة لا يستلزم العصمة ، فالعدالة استقامة السيرة والدين ، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا ، حتى تحصل ثقة النفس بصدقه . . . ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي ، ومع ذلك يجب الكف عن ذكر معا يبهم ومساوئهم مطلقا - ، وإن دعت الضرورة إلى ذكر زلة أو خطأ صحابي ، فلا بد أن يقترن بذلك منزلة هذا الصحابي من توبته أو جهاده وسابقته - فمثلاً من الظلم أن نذكر زلة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه دون ذكر توبته التي لو تابها صاحب مكس لقبل منه . . . وهكذا . ( الإمامة لأبي نعيم 340، ومنهاج السنة 6 / 207 ) . فالمرء لا يُعاب بزلة يسيرة حصلت منه في فترة من فترات حياته وتاب منها ، فالعبرة بكمال النهاية ، لا ينقص البداية ، لا سيما وإن كانت له حسنات ومناقب ولو لم يزكه أحد فكيف إذا زكاه خالقه العليم بذات الصدور!] . ولا يسعني في نهاية هذه المقدمة إلا أن أشكر أستاذي أستاذ التاريخ(15/8)
الإسلامي في جامعة إجدابيا الأستاذ محمد بو حليقة وكذلك أخي الشريف الشارف صاحب البداية أسال الله لنا ولهُ حسن النهاية ، كما إنني أشكر الأستاذ خميس عبد الغني نشاد ، والأستاذ السنوسي للوريدي ، على ملاحظاتهم القيمة ، وتصحيحا تهم لبعض الأخطاء التي وقفوا عليها ، ولا يزال هذا البحث جهد بشري من طالب في بداية الطريق ، فلا يخلو من هفوات وزلات وخاصة أن موضوع البحث هو أكبر بكثير من عقل الباحث وعلمه ، وإن هذه القضية
لا تقتصر على الجانب التاريخي فقط ، وإنني أتمنى من كل من يطلع على هذا البحث وتكون لديه أي ملاحظة صغيرة كانت أو كبيرة ، أن يبلغني عنها وله مني دعوة بظهر الغيب ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد ،وعلى آلهِ وصحبه وسلم تسليماً كثيرا .
كتبه أخوكم : مصطفى الراقي
E.mail :wwwalragi@maktoob.coM
الباب الأول
ابن سبأ اليهودي و أثره في إحداث الفتنة
(سبب هذه الفتنة التي حدثت في صدر الإسلام الأول رجل يقال له عبد الله بن سبأ ، و شهرته ابن السوداء لأن أمه كانت سوداء من الحبشيات . و هو من صنعاء كان يهودياً من يهود اليمن أظهر الإسلام و أبطن الكفر والنفاق ، ثم انتهج التشيع لعلي - رضي الله عنه -، و هو الذي تُنسب إليه فرقة السبئية الذين قالوا بألوهية علي .(15/9)
فلما رأى هذا الرجل أن أمر الإسلام بدأ ينتشر بهذه الصورة و بدأ يظهر رأى أن هذا الأمر ليس له إلا فتنة من داخله ، و كان بمنتهى الخبث فأول ما بدأ بدأ بالمدينة ، و كانت المدينة يومها مليئة بالعلماء ، فدُحر بالعلم كلما رمى شبهة رُدَّ عليها ، فمن شبهه أنه أظهر بعض العقائد اليهودية ، مثل القول بالرجعة ؛ أي رجعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - و استدل بقوله تعالى :" إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد " القصص "85" ، و ذكر تعجبه للناس ممن يصدق برجعة عيسى - عليه السلام -و يكذب برجعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، و ما كان قوله هذا إلا وسيلة للوصول إلى ما هو أكبر من ذلك ، حيث قال بعد ذلك برجعة علي - رضي الله عنه - و أنه سيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، و هكذا . و للرد عليهم أشير إلى أن الآية التي استدل بها السبئية دليل عليهم ، و قد نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية ، أقوال العلماء في ذلك ، فمنهم من يقول : رادك يوم القيامة فيسألك عما استرعاك من أعباء النبوة . و منهم من يقول : رادك إلى الجنة ، أو إلى الموت ، أو إلى مكة كما أخرجك قومك منها و قد أورد البخاري عن ابن عباس القول بالرد إلى مكة .و قد سَأل عاصم بن ضمرة "ت 74هـ " الحسن بن علي فيما يزعمه الشيعة بأن علياً - رضي الله عنه -سيرجع ، فقال : كذب أولئك الكذّابون ، لو علمنا ذلك ما تزوج نساؤه و لا قسمنا ميراثه . المسند "1/148" . ومن أقوال ابن سبأ أيضاً القول بالوصية و الإمامة . يقول الشهر ستاني في الملل و النحل "1/174" : أن ابن سبأ هو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي ، ويذكر ابن تيميه في مجموع الفتاوى (4/435) : أن أصل الرفض من المنافقين الزنادقة ، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق و أظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة و النص عليه ، و ادّعى العصمة له) (1) .و من المحدثين
__________
(1) -. : عبدا لله بن سبأ ودورهُ في أحداث الفتنة ص208 بتصرف(15/10)
الشيعة الذين ذكروا فكرة الوصي ، محمد بن يعقوب الكليني الشيعي "ت 329هـ" في كتابه الكافي في الأصول ، حيث أورد النص التالي : ( ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء ، و لن يبعث الله رسولاً إلا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، و وصية علي عليه السلام . كتاب الحجة من الكافي" 438 ج1 ط إيران ) (1)
وإنني أتعجب أشد العجب من انحرافات (2) الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي!! عندما قال في فتنته الكبري التي هي بحق فتنة كبرى على عقول الناشئة من أبناء المسلمين حيث قال : ( إن أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء .. إنما كان متكلفاً منحولاً ، قد اخترع بآخره ... أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصراً يهودياً إمعاناً في الكيد لهم والنيل منهم .."؟! (الفتنة الكبرى 2/90-91) . وهذه مغالطة علمية ، وإنكار لما لم ينكره (الشيعة) أنفسهم فضلاً عن كلام أهل السنة ، وهاك البرهان فالشيعي سعد بن عبد الله القمّي (ت229 هـ) يعتبر (ابن سبأ) أول من قال بفرض إمامة علي ورجعته .." (المقالات والفرق ص10-21) ، وأقدم كتاب عند الشيعة معتمد في علم الرجال ، هو رجال الكشي ، للكشي (من أهل القرن الرابع الهجري ) . وقد جاء في الكتاب ما نصه : " إن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً عليه السلام وكان يقول وهو على يهو ديته في يوشع بن نون وصي موسى (بالغلو) فقال في إسلامه بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في علي مثل ذلك ، وكان أول من أشهر
__________
(1) –الشيعة والسنة إحسان إلهي ص 24 ، وانظر تاريخ الطبري : 2/647
(2) - من ضمن انحرافاته يقول :القرآن قابل للنقد باعتباره كتاباً أدبياً !!!، ويقول : وجود إبراهيم و إسماعيل – عليهما السلام – أمر مشكوك فيه ، ولو ذكروا في التوراة والإنجيل والقرآن .. فلسنا ملزمين بتصديق أي منها !!. و لمن أراد المزيد فليرجع إلى كتاب "محاكمة فكر طه حسين" للأستاذ أنور الجندي،(15/11)
القول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وكفّرهم ، من هنا قال من خالف الشيعة أن أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية " الكشي ص108، 109). (1) وهذا النوبختي الشيعي من أعلام القرن الثالث للهجرة يقول في كتابه "فرق الشيعة": ( عبد الله بن سبأ كان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم، وقال إن علياً عليه السلام أمره بذلك، فأخذه علي فسأله عن قوله هذا فأقر به فأمر بقتله فصاح الناس إليه يا أمير المؤمنين أتقتل رجلاً يدعو إلى حبكم أهل البيت وإلى ولايتكم والبراءة من أعدائكم ؟ فسيره (علي) إلى المدائن "عاصمة إيران آنذاك"، ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي علي بالمدائن، قال للذي نعاه: كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة، وأقمت على قتله سبعين عدلاً، لعلمنا أنه لم يمت، ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض["فرق الشيعة" للنوبختي ص43 و44 ط المطبعة الحيدرية بالنجف، العراق، سنة 1959م]. ) (2)
و خلاصة ما جاء به ابن سبأ ، أنه أتى بمقدمات صادقة و بنى عليها مبادئ فاسدة راجت لدى السذّج و الغلاة و أصحاب الأهواء من الناس ، و قد طرق باب القرآن يتأوّله على زعمه الفاسد كما سلك طريق القياس الفاسد في ادعاء إثبات الوصية لعلي - رضي الله عنه - بقوله : إنه كان ألف نبي ، و لكل نبي وصي ، و كان علي وصي محمداً ثم قال : محمد خاتم الأنبياء و علي خاتم الأولياء (3)
__________
(1) - الإنقاذ من دعاوى الإنقاذ للتاريخ الإسلامي للدكتور سليمان العودة ص24 ،والسنة والشيعة ص8
(2) - الشيعة والسنة إحسان إلهي ظهير ص9
(3) - تاريخ الطبري 2 /647 بتصرف(15/12)
(وذهب ابن سبأ إلى مصر ، فأوحى إلى طائفة من الناس كلاماً اخترعه من عند نفسه مضمونه أنه يقول للرجل : أليس قد ثبت أن عيسى بن مريم سيعود إلى الدنيا ؟ فيقول الرجل : نعم فيقول له : فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل منه فما تنكر أن يعود إلى هذه الدنيا ، وهو أشرف من عيسى ابن مريم عليه السلام ؟ ثم يقول : وقد كان أوصى إلى علي بن أبي طالب ، فمحمد خاتم الأنبياء ، وعلي خاتم الأوصياء ، ثم يقول : فهو أحق بالإمرة من عثمان ،وعثمان معتدٍ في ولايته ما ليس له ، فأنكروا عليه وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر ، وكتبوا إلى جماعات من عوام أهل الكوفة والبصرة ، فتمالأوا على ذلك ، وتكاتبوا فيه ، وتواعدوا أن يجتمعوا في الإنكار على عثمان ،)(1)( واستطاع ابن سبأ أن يجمع من مصر ما بين ستمائة إلى الألف من الرجال ، ثم اتجه عبد الله بن سبأ إلى الكوفة فوجد فيها أرضاً خصبة للفتن فاستطاع أن يجمع حوله جماعة ، ثم انتقل إلى البصرة فجمع فيها جماعة أخرى ، و كان عددهم على أقل تقدير عند المؤرخين ستمائة رجل ، و استخدم ابن سبأ كذلك الأعراب ، فذهب إليهم و بدأ يثير عندهم الأكاذيب حول عثمان و يستدل على قوله بكتب مزيفة كتبها هو و أعوانه على ألسنة طلحة و الزبير و عائشة فيها التذمر على سياسة عثمان في الحكم ، فصار الأعراب و هم الذين لا يفقهون من دين الله الشيء الكثير يتأثرون بهذه الأكاذيب و يصدقونها فملئت قلوبهم على عثمان - رضي الله عنه - بعد ذلك اتجه ابن سبأ إلى هدفه المرسوم ، و هو خروج الناس على الخليفة عثمان - رضي الله عنه - ) (2) " فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم فقال لهم : إن عثمان أخذ الأمر بغير حق و هذا وصي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فانهضوا في هذا الأمر فحركوه
__________
(1) – البداية والنهاية 7/164-165 بتصرف يسير
(2) – استشهاد عثمان ووقعة الجمل لخالد الغيث 72-87 .بتصرف(15/13)
، و ابدؤوا بالطعن في أمرائكم و أظهروا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تستميلوا الناس ، و ادعوهم إلى هذا الأمر ثم إنه أخذ يحضّ أتباعه على إرسال الكتب بأخبار سيئة مفجعة عن مِصرهم إلى بقية الأمصار ، فيتخيل أهل البصرة مثلاً أن حال أهل مصر أسوأ ما يكون من قبل واليهم ، و يتخيل أهل مصر أن حال أهل الكوفة أسوأ ما يكون من قبل واليهم ، و كان أهل المدينة يتلقّون الكتب من الأمصار بحالها و سوئها من أتباع ابن سبأ ، وهكذا يتخيل الناس في جميع الأمصار أن الحال من السوء مالا مزيد عليه . والمستفيد من هذه الحال هم السبئية . لأن تصديق ذلك من الناس يفيدهم في إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلامي . هذا و قد شعر عثمان رضي الله عنه بأن شيئاً ما يحاك في الأمصار و أن الأمة تمخض بشرّ فقال والله إن رحى الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات و لم يحركها " (1).
__________
(1) - تاريخ الطبري (2/648 -647) بتصرف .(15/14)
( والذي حصل أن أهل الفتنة أخذوا يتراسلون فيما بينهم ، فلما رأوا أن عددهم قد كثر تواعدوا على أن يلتقوا عند المدينة في شوال من سنة (35هـ) في صفة الحجاج ، فخرج أهل مصر في أربع رفاق(1) على أربعة أمراء المقلّل يقول ستمائة و المكثر يقول ألف و لم يجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إلى الحرب ، و إنما خرجوا كالحجاج و معهم المنافق ابن السوداء و خرج أهل الكوفة في عدد كعدد أهل مصر ، و كذا أهل البصرة ، و لما اقتربوا من المدينة شرعوا في تنفيذ مرحلة أخرى من خطتهم ، فقد اتفق أمرهم أن يبعثوا اثنين منهم ليطلعا على أخبار المدينة و يعرفا أحوال أهلها ، وذهب الرجلان فلقيا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - و علياً و طلحة و الزبير، و قالا : إنما جئنا نستعفي عثمان من بعض عمالنا ، و استأذنا لرفاقهم بالدخول فأبى الصحابة ، و قال علي رضي الله عنه : لا أمركم بالإقدام على عثمان فإن أبيتم فبيض سيفرخ (2) , تظاهر القوم بالرجوع و هم يبطنون أمراً لا يعلمه الناس فوصلت الأنباء إلى أهل المدينة بانصراف أهل الفتنة فهدأ الناس ، و في الليل فوجئ أهل المدينة بأهل الفتنة يدخلون المدينة من كل مكان فتجمعوا في الشوارع و هم يكبرون ، فجاء علي بن أبي طالب و قال : ما شأنكم ؟ لماذا عدتم ؟ فرد عليه الغافقي بأن عثمان غدر بهم ، قال كيف ؟ قال : قبضنا على رسول و معه كتاب من عثمان يأمر فيه الأمراء بقتلنا !! ، فقال علي لأهل الكوفة و البصرة : و كيف علمتم بما لقي أهل مصر!! و قد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا ؟ هذا والله أمر أبرم بالمدينة ، و كان أمر الكتاب الذي زوّر على لسان عثمان - رضي الله عنه -اتخذوه ذريعة ليستحلوا دمه و يحاصروه في داره إلى أن قتلوه -
__________
(1) – ربما يكون هنا خطأ مطبعي و الصواب هو فرق وليس رفاق وهذه هي الموجودة في طبعة المشكاة ص 652/2 ، وكذلك في قرص مكتبة التاريخ والحضارة الإسلامية.
(2) - تاريخ الطبري(2/652) بتصرف.(15/15)
رضي الله عنه -, و فوق هذا كله فالثائرون يفصحون عن هدفهم ويقولون : ضعوه على ما شئتم لا حاجة لنا في هذا الرجل ليعتزلنا و نحن نعتزله) (1) و علاوة على ذلك هناك ما يؤكد تزوير هذا الكتاب ، إذ ليس هو الكتاب الوحيد الذي يزوّر على لسان الصحابة ، فهذه عائشة - رضي الله عنه -، تُتهم بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان فتنفي و تقول : لا والذي آمن به المؤمنون و كفر به الكافرون ما كتبت لهم سواداً في بياض حتى جلست مجلسي هذا (2) وما تلك اليد الخفية التي كانت تخط وراء الستار لتوقع الفرقة بين المسلمين ، و تضع في سبيل ذلك الكتب على لسان الصحابة و تدبر مكيدة الكتاب المرسل إلى عامل عثمان على مصر ، و تستغل الأمور لتقع الفتنة بالفعل إلا يد ذلك اليهودي الخبيث و أتباعه ، فهم المحركون للفتنة . يقول عنه الشيخ الدكتور إحسان إلهي ظهير ( ولقد أجمع المؤرخون قاطبة شيعة كانوا أم أهل السنة، أن الذي أضرم نار الفتنة والفساد، ومشى بين المدن والقرى بالتحريض والإغراء على أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين عثمان بن عفان، ذي النورين - رضي الله عنه -، كان هذا اللعين وشرذمته اليهودية، وهم الذين أوقدوا نار العصيان، وأشعلوها كلما خمدت نيرانها، وكان يتجول من بلدة إلى بلدة، ويتنقل من قرية إلى قرية،) (3) ولنذكر لك أخي القاري الكريم مجموعة من التهم الملفقة التي وجهت إلي سيدنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، والتي استحلوا بها دمهُ رحمه الله ورضي عنه وأرضاه ، وقتل مظلوماً في داره ، وهو الشهيد التقي النقي الذي تجاوز الثمانين من عمره وقطعت كف زوجته نائلة وهي تدافع عنه ، كما سنرويه لك مفصلاً في هذا الباب وكان مقتلهُ بمثابة الشرارة
__________
(1) - تاريخ الطبري ( 2/653) بتصرف ، وأنظر استشهاد عثمان ووقعة الجمل ص87-99.
(2) - البداية والنهاية (7 / 192 ) وكذلك تاريخ خليفة بن خياط ص80 .
(3) –الشيعة والسنة إحسان إلهي ظهير ص12.(15/16)
الكبرى في إشعال نار الفتنة في صدر الإسلام ،وهذا العلامة القاضي أبي بكر بن العربي المالكي رحمه الله المتوفى سنة 543هـ ذكر هذه التهم السبئية وقام بتفنيدها واحدة تلو الأخرى فجزاهُ الله عن الصحابة خير الجزاء .
التهم السبئية الموجهة ضد عثمان - رضي الله عنه -
1- ضربه لعمار حتى فتق أمعاءه
2- ضربه لابن مسعود حتى كسر أضلاعه ومنعه عطاءه
3- ابتدع في جمع القرآن وتأليفه وفي حرق المصاحف
4- وحمى الحمى
5- أجلى أبا ذر إلى الربذه
6- أخرج من الشام أبا الدر داء
7- رد الحكَمَ بعد أن نفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
8- أبطل سنة القصر في الصلوات في السفر
9- ولىّ معاوية بن أبي سفيان
10- ولىّ عبد الله بن عامر بن كريز .
11-ولىّ مروان بن الحكم .
12- ولى الوليد بن عقبة بن معيط .
13- أعطى مروان خُمس أفريقية .
14- كان عمر يضرب بالدرة وهو يضرب بالعصا.
15- وعلا على درجة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد أنحط عنها أبو بكر وعمر.
16- لم يحضر بدراً ، وانهزم يوم أحد, وغاب عن بيعة الرضوان.
17- لم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان ( الذي أعطى السكين إلى أبي لؤلؤة ،وحرضه على عمر حتى قتله)
18- وكتب مع عبده على جمله كتابًا إلى ابن أبي السرح في قتل من ذكر فيه(1)
الرد على هذه التهم الملفقة ضد سيدنا عثمان - رضي الله عنه -
الرد على التهمة الأولى :-
__________
(1) - انظر كتاب العواصم من القوا صم : ص 61- 62 بتصرف يسير(15/17)
يقول القاضي بن العربي رحمه الله :هذا كله باطل سنداً ومتناً لو أنه فتق أمعاءه ما عاش أبداً. وقد علق على ذلك محب الدين الخطيب في الحاشية فقال :"وقد روى الطبري (5 / 99 ) عن سعيد بن المسيب أنه كان بين عمار وعباس بن عتبة بن أبي لهب خلاف حمل عثمان على أن يؤدبهما عليه بالضرب . قلت هذا مما يفعله ولي أمر في مثل هذه الأحوال قبل عثمان وبعده ، كما فعل عمر مثل ذلك بأمثال عمار ومن هم خير من عمار بما له من حق الولاية على المسلمين ، ولما نظم السبئيون حركة الإشاعات ، وصاروا يرسلون الكتب من كل مصر إلى الأمصار الأخرى بالأخبار الكاذبة فأشار الصحابة على عثمان بأن يبعث رجالاً ممن يثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليه بحقيقة الحال تناسى عثمان ما كان من عمار فأرسله إلى مصر ليكون موضع ثقته في كشف حالها . فأبطأ عمار في مصر والتف به السبئيون ليستميلوه إليهم ، فتدارك عثمان وعامله على مصر هذا الأمر وجئ بعمار إلى المدينة مكرماً وعاتبه لما قدم عليه فقال له ( يا أبا اليقضان قذفت ابن أبي لهب أن قذفك وغضبت علي أن أخذت لك بحقك وله بحقه اللهم قد وهبت ما بيني وبين أمتي من مظلمة اللهم إني متقرب إليك بإقامة حدودك في كل أحد ولا أبالي ، اخرج عني يا عمار .وقال شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج السنة ( 3/192-193) عثمان أفضل من كل من تكلم فيه ، هو أفضل من ابن مسعود وعمار وأبي ذر ومن غيرهم من وجوه كثيرة كما ثبت ذلك بالدلائل فليس جعل كلام المفضول قادحاً في الفاضل بأولى من العكس ، وكذلك ما نقل من ُتكلم عمار في عثمان وقول الحسن فيه( أي في عمار) نقل أن عمار قال : لقد كفر عثمان كفرة صلعاء . فأنكر الحسن بن علي ذلك عليه وكذلك علي وقال له : يا عمار ، أتكفر برب آمن به عثمان ؟ قال ابن تيميه : وقد تبين من ذلك أن الرجل المؤمن الذي هو ولي لله قد يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي لله ،ويكون مخطئ في هذا الاعتقاد ولا يقدح هذا في(15/18)
إيمان واحد منهما وولايته . وكما ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنك منافق تجادل عن المنافقين كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال:اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فعمر أفضل من عمار وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة بدرجات كثيرة . وحجة عمر فيما قال لحاطب أ ظهر من حجة عمار, مع هذا فكلاهما من أهل الجنة فكيف لا يكون عثمان وعمار من أهل الجنة وإن قال أحدهما للآخر ما قال ؟ مع أن طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمار قال ذلك ثم قال شيخ الإسلام: وفي الجملة فإذا قيل أن عثمان ضرب ابن مسعود أو عمار فهذا لا يقدح في أحد منهم فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين ، وأن ولي الله قد يصدر عنه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية , فكيف بالتعزير ، وقد ضرب عمر بن الخطاب أبي بن كعب بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه وقال : ( هذه ذله للتابع وفتنة للمتبوع )"(1)
الرد على التهمة الثانية: -
__________
(1) - حاشية محب الدين الخطيب ص64-65 بتصرف يسير(15/19)
هذا القاضي أبو بكر ابن العربي المتوفى 543هـ رحمه الله يرد على هذه التهمه فيقول : أما ضرب عثمان لابن مسعود فهو زور وكذب ، وعند ولاية عثمان كان ابن مسعود والياً لعمر على أموال الكوفة وسعد بن أبي وقاص واليًا على صلاتها وحربها فاختلف سعد وابن مسعود على قرض استقرضه سعد فعزل عثمان سعداً وأبقى ابن مسعود إلى هنا لا يوجد بين ابن مسعود وخليفته إلا الصفو ، فعزم عثمان على تعميم مصحف واحد في العالم الإسلامي يجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على أنه هو المصحف الكامل الموافق لآخر عرضة عرض بها كتاب الله عز وجل على رسوله - صلى الله عليه وسلم -قبل وفاته , وكان ابن مسعود يود لو أن كتابة المصحف أنيطت به وكان أيضاً يود لو يبقى مصحفه الذي كان يكتبه لنفسه فيما مضى ، فجاء عمل عثمان على خلاف ما كان يود ابن مسعود في الحالتين : أما اختيار عثمان زيد بن ثابت لكتابة المصحف الموحد فلأن أبا بكر وعمر اختاراه قبل ذلك لهذا العمل في خلافة أبي بكر بل إن أبا بكر وعمر اختارا زيد بن ثابت لأنه هو الذي حفظ العرضة الأخيرة لكتاب الله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبيل وفاته , فكان عثمان على حق في هذا وهو يعلم كما يعلم سائر الصحابة – مكانة ابن مسعود وعلمه وصدقه وإيمانه ثم أن عثمان كان على حق في غسل المصاحف الأخرى كلها ومنها مصحف ابن مسعود لأن توحيد كتابة المصحف على أكمل ما كان في استطاعة البشر هو من أعظم أعمال عثمان بإجماع الصحابة وكانت جهود الصحابة في كل ذلك مع عثمان على ابن مسعود (1)
الرد على التهمة الثالثة : -
__________
(1) - منهاج السنة النبوية لأبن تيميه نقلاً عن حاشية محب الدين الخطيب على العواصم (3/191-192 )(15/20)
وهذا الشيخ محب الدين عندما علق على رد ابن العربي أثناء ردهِ على هذه التهمة فقال : (العناية التي بذلها عظيما الإسلام أبو بكر وعمر , وأتمها أخوهما وصنوهما ذو النورين عثمان في جمع القرآن وتثبيته ورسمه ، وكان لهم بها أعظم المنة على المسلمين , وبها حقق الله وعده ،في قوله سبحانه" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " وقد تولى الخلافة بعد هؤلاء الشيوخ الثلاثة أمير المؤمنين علي فأمضى عملهم وأقر مصحف عثمان برسمه وتلاوته في جميع أمصار ولايته , وبذلك انعقد إجماع المسلمين في الصدر الأول على أن ما قام به أبو بكر وعمر وعثمان هو أعظم حسناتهم . بل نقل بعض علماء الشيعة هذا الإجماع على لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب . وجاء في كتاب تاريخ القرآن لأبي عبد الله الزنجاني(ص 46 ) من شيعة عصرنا أن علي بن موسى المعروف بابن الطاووس ( 589- 664) وهو من علمائهم نقل في كتابه ( سعد السعود ) عن الشهرستاني في مقدمة تفسيره عن سويد بن غفلة قال سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -يقول: "أيها الناس الله الله إياكم والغلو في أمر عثمان وقولكم حرّا ق المصاحف فو الله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, جمعنا وقال :ما تقولون في هذه القراءة التي أختلف الناس فيها . يلقى الرجل يقول قراءتي خير من قراءتك : وهذا يجر إلى الكفر؟ فقلنا ما الرأي ؟ قال : أريد أن أجمع الناس على مصحف واحد , فإنكم إن أخلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافاً فقلنا نعمّا رأيت " ، ومما لا ريب فيه أن البغاة أنفسهم كانوا في خلافة علي - رضي الله عنه - يقرأون في مصاحف عثمان التي أجمع عليها الصحابة وعلي فيهم) (1).
الرد على التهمة الرابعة:-
__________
(1) -(2 حاشية محب الدين الخطيب على العواصم من القوا صم ص 69 بتصرف(15/21)
يقول ابن العربي :( وأما الحمى فكان قديماً فيقال أن عثمان زاد فيه لما زادت الرعية : وإذ جاز أصله للحاجة إليه جازت الزيادة لزيادة الحاجة) (1) ويقول محب الدين الخطيب : كان الشريف في الجاهلية إذا نزل أرضاً في حيه استعوى كلباً ، فحمى لخيله وإبله وسوائمهِِ مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره .فلما جاء الإسلام نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك واختص الحمى بإبل الزكاة المرصدة للجهاد والمصالح العامة فقال - صلى الله عليه وسلم - لا حمى إلا لله ورسوله )رواه البخاري (2)
الرد على التهمة الخامسة :-
يقول القاضي ابن العربي أثناء تفنيدهِ لهذهِ الشبهة :( وأما نفيه أبا ذر إلى الربذة فلم يفعل وكان أبو ذر زاهداً وكان ُيقرِّع عمال عثمان ، ويتلو عليهم " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابٍ اليم " التوبة (34) ويراهم يتوسعون في المراكب والملابس حين وجدوا ، فينكر ذلك عليهم ، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم ، وهو غير لازم .قال ابن عمر وغيرهُ من الصحابة : إن ما أديت زكاته فليس بكنز ،...إلى أن قال ابن العربي وكلٌ على خير وبركة وفضل ، وحال ُ أبي ذر أفضل . ولا تمكن لجميع الخلق ، فلو كانوا عليها لهلكوا فسبحان مرتب المنازل ) (3)
الرد على التهمة السادسة :-
( ووقع بين أبي الدر داء ومعاوية كلام ، وكان أبو الدر داء زاهداً فاضلاً قاضياً لهم ، فلما اشتد في الحق وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوها عزلوه فخرج إلى المدينة ، وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين ، ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين بحال، وأبو ذر وأبو الدر داء بريئان من عاب ، وعثمان برئ أعظم براءة وأكثر نزاهة فمن روى أنه نفى وروى سبباً فهو كله باطل) (4)
__________
(1) - العواصم من القوا صم ص 72
(2) - حاشية محب الدين الخطيب ص72
(3) - العواصم من القوا صم ص73-74 باختصار يسير
(4) - المصدر السابق ص 77(15/22)
الرد على التهمة السابعة :-
وهذه التهمة يقول عنها القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله : (وأما ردُّ الحَكَم فلم يصح). وعلق محب الدين علي كلام ابن العربي بقول : شيخ الإسلام بن تيميه في منهاج السنة 3/196:( طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح وليس لها إسناد يعرف به أمرها ..... وقالوا هو ذهب باختياره ...وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -قد عزر رجلاً بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيًا طول الزمان فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب , ولم تأتِ الشريعة بذنب يبقي صاحبه منفيا دائما )(1) .
الرد على التهمة الثامنة : -
( أما ترك القصر فاجتهاد , إذ سمع أن الناس افتتنوا في القصر وفعلوا ذلك في منازلهم ,فرأى أن السنة ربما أدَّت إلى إسقاط الفريضة فتركها خوف الذريعة مع أن جماعة من العلماء قالوا : إن المسافر مخير بين القصر والإتمام , واختلف في ذلك الصحابة) (2)
الرد على التهمة التاسعة :-
( أما معاوية فعمرُ ولاه , وجمع له الشامات كلها وأقرّه عثمان بل إنّما ولاه أبو بكر الصدَّيق - رضي الله عنه -. لأنه ولى أخاه يزيداً واستخلفه يزيد , فأقَّره عمرُ لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له , فتعلَّق عثمان بعمر واقرَّه.) (3)
الرد على التهمة العاشرة :-
__________
(1) –ً حاشية محب الدين الخطيب على العواصم ص77-78 بتصرف
(2) - العواصم من القوا صم ص – 78-79-80 بتصرف
(3) - العواصم من القوا صم ص (80- 81 )(15/23)
(أما عبد الله بن [عامر بن ] كريز فولاَّه لأنه كريم العمات والخالات ) (1) يقول محب الدين الخطيب : فهو عبشمي الآباء وهاشمي الخئولة وكان سخياً كريماً شجاعاً افتتح خرسان كلها وأطراف فارس وسجستان وكرمان وقضى على يزد جرد بن شهريار آخر ملوك فارس وقال عنه ابن كثير :هو أول من اتخذ الحياض بعرفة لحجاج بيت الله الحرام وأجرى إليها الماء المعين (2)
الرد على التهمة الحادية عشر :- ( وأما قول القائلين في مروان والوليد فشديد عليهم ، وحكمهم عليهما بالفسق فسقٌ منهم ، مروان بن الحكم رجل عادل من كبار الأُمة عند الصحابة التابعين وفقهاء المسلمين . أما الصحابة فإن سهل بن سعد الساعد ي روى عنه وأما التابعين فأصحابه في السن وإن جازهم باسم الصحبة في أحد القولين .وأما فقهاءُ الأمصار فكلهم على تعظيمه واعتبار خلافته والتلفت إلى فتواه والانقياد إلى روايته . وأما السفهاءُ من المؤرخين والأدباء يقولون على أقدارهم )(3)
الرد على التهمة الثانية عشر :-
__________
(1) - العواصم ص 83
(2) الخطيب ص 84 -85 بتصرف
(3) العواصم ص 89 – 90(15/24)
( وأما تولية الوليد بن عقبة فإن الناس على فساد النيات – أسرعوا إلى السيئات قبل الحسنات .فذكر الإفترائيون أنه إنما ولاه للمعنى الذي تكلم به .قال عثمان : ما وليتُ الوليد لأنه أخي وإنما ولَّيته لأنه ابن أُم حكيم البيضاء عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوأمة أبيه ) وعلق الشيخ محب الدين الخطيب على كلام ابن العربي في الحاشية قائلاً : ( قد يظن من لا يعرف صدر هذه الأمة إن أمير المؤمنين عثمان جاء بالوليد بن عقبة من عرض الطريق فولاه الكوفة . أما الذين أنعم الله عليهم بنعمة الأنس بأحوال ذلك العصر وأهله فيعلمون أن دولة الإسلام الأولى في الخلافة أبي بكر تلقفت هذا الشاب الماضي العزيمة الرضي الخلق الصادق الإيمان فاستعملت مواهبه في سبيل الله إلى أن توفي أبو بكر، وأول عمل له في خلافة أبي بكر أنه كان موضع سر في الرسائل الحربية التي دارت بين الخليفة و قائده خالد بن وليد في وقعة المذار مع الفرس سنة 12 ( الطبري 4: 7 ) ، ثم وجهه مدداً إلى قائده عياض بن غنم الفهري ( الطبري 4: 22 )وفي سنة 13 كان الوليد يلي لأبي بكر صدقات قضاعة , ثم لما عزم الصديق على فتح الشام كان الوليد عنده بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة , فكتب إلى عمرو بن العاص وإلى الوليد بن عقبة يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد , فسار ابن العاص بلواء الإسلام نحو فلسطين , وسار الوليد بن عقبة قائداً إلى شرق الأردن ( الطبري 4: 29-30 ), ثم رأينا الوليد في سنة 15 أميراً على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة ( الطبري 4: 155) يحمي ظهور المجاهدين في شمال الشام لئلا يؤتوا من خلفهم , فكانت تحت قيادته ربيعة وتنوخ مسلمهم وكافرهم. وانتهز الوليد بن عقبة فرصة ولايته وقيادته على هذه الجهة التي كانت لا تزال مليئة بنصارى القبائل العربية فكان – مع جهاده الحربي وعمله الإداري – داعياً إلى الله يستعمل جميع أساليب الحكمة والموعظة الحسنة لحمل(15/25)
نصارى إياد وتغلب على أن يكونوا مسلمين كسائر العرب .)(1)
الرد على التهمة الثالثة عشر :-
( وأما إعطاؤه خُمس أفريقية لواحد فلم يصح. على أنه قد ذهب مالك وجماعة إلى أن الأمام يرى رأيه في الخُمس، وينفذ فيه ما أداهُ إليه اجتهاده، وأنَّ إعطاءه لواحد جائز) (2)
الرد على التهمة الرابعة عشر :-
( وأما قولهم إنه ضرب بالعصا فما سمعته مما أطاع أو عصى ، وإنما هو باطل يحكى وزور ُينثي(3) فيالله وللنهى) (4)
الرد على التهمة الخامسة عشر :-
(كان مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضيق المساحة في عصر النبوة وخلافة أبي بكر وكان من مناقب عثمان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -عندما زاد عدد الصحابة أن اشترى من مالهِ مساحة من الأرض وسع بها المسجد النبوي ثم وسعه أمير المؤمنين عمر فأدخل فيه دار العباس بن عبد المطلب . ثم ازداد عدد المصلين بازدياد عدد سكان المدينة و قاصديها فوسعه أمير المؤمنين عثمان مرة أخرى وجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع وجدد بناءه . فاتساع المسجد وازدياد غاشيته وبعد أمكنة بعضهم عن منبر الخطابة يجوز أن يكون من ضرورات ارتفاع الخطيب ليراهم ويروه ويسمعوه) (5)
الرد على التهمة السادسة عشر :-
__________
(1) –حاشية العواصم لمحب الدين الخطيب ص85-86
(2) -العواصم ص 100
(3) – نثى الخبر والحديث : أذاعه وأظهره. والنثا مثل الثناء.إلا أنه يكون في لخير والشر ، والثناء في الخير خاصة .
(4) -العواصم ص 102 – 103
(5) - حاشية محب الدين الخطيب على العواصم ص 103(15/26)
( قد أخرج الإمام البخاري من حديث عثمان بن عبد الله بن موهب قال : جاء رجل من أهل مصر يريد حج البيت فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القوم ؟ قالوا:هؤلاء قريش , قال : فمن الشيخ فيهم ؟ قالوا عبد الله بن عمر . قال : يا ابن عمر , إني سائلك عن شيء فحدثني عنه .هل تعلم أن عثمان فرَّ يوم أحد ؟ قال : نعم . فقال : تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد ؟ قال : نعم . قال: تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال: نعم . قال الله أكبر ! قال ابن عمر , وتعال أبين لك . أما فرارهُ يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر(1) له . وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت مريضة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لك أجر رجل ممن شهد بدر وسهمه . وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحدٌ أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه , فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده اليمنى (هذه يد عثمان ) فضرب بها على يده فقال (هذه لعثمان ) ثم قال له ابن عمر :اذهب بها الآن معك ) (2) .
الرد على التهمة السابعة عشر :-
__________
(1) -قلت : ابن عمر يشير إلى الآية ( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله ُ عنهم إن الله غفورٌ رحيم)آل عمران 155
(2) – البخاري كتاب فضائل الصحابة ج4-ص208 نقلا عن حاشية محب الدين ص104(15/27)
(وأما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن خطاب بالهرمزان فإن ذلك باطل فإن كان لم يفعل فالصحابة متوافرون والأمر في أوله وقد قيل : إن الهرمزان سعى في قتل عمر , وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه وكان قتل عُبيد الله لهُ وعثمان لم يلي بعد، ولعل عثمان كان لا يرى على عبيد الله حقاً لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله، وأيضاً فإن أحدًا لم يقم بطلبه، وكيف يصح مع هذه الاحتمالات كلها أن ينظر في أمر لم يصح؟ ) (1)
الرد على التهمة الثامنة عشر :-
( وأما تعلُّقهم بأن الكتاب وجد مع راكب ,أو مع غلامه – ولم يقل أحد قط إنه كان غلامه – إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح . يأمره بقتل حامليه , فقد قال لهم عثمان : إما أن تقيموا شاهدين على ذلك وإلا فيميني أني ما كتبت ولا أمرت، وقد يكتب على لسان الرجل , ويضرب على خطه , وينقش على خاتمه)(2).وقد قال : شيخ الإسلام بن تيميه( كل ذي علم بحال عثمان يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله , ولا عرف منه قط أنه قتل أحداً من هذا الضرب , وقد سعوا في قتله (أي في قتل أمير المؤمنين عثمان ) ودخل عليه محمد فيمن دخل وهو لا يأمر بقتالهم دفعاً عن نفسه , فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم )(3)
حصار عثمان - رضي الله عنه -
__________
(1) - العواصم ص -106 108
(2) - العواصم ص109-110
(3) - منهاج السنة النبوية ( 3 / 188 ) نقلاً عن حاشية محب الدين الخطيب ص110(15/28)
يقول ابن كثير" كان حصار عثمان مستمراً من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة ،فلما كان قبل ذلك بيوم ،قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار ،وكانوا قريباً من سبعمائة ، فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ومروان وأبو هريرة ، وخلق من مواليه ، ولو تركهم لمنعوه فقال لهم : أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله ، وعنده من أعيان الصحابة وأبنائهم جم غفير وقال لرقيقه : من أغمد سيفه فهو حر فبرد القتال من داخل ،وحمي من خارج، واشتد الأمر ،وكان سبب ذلك أن عثمان رأى في المنام رؤيا دلت على اقتراب أجله فاستسلم لأمر الله رجاء موعوده ، وشوقاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وليكون خير ابني آدم حيث قال حين أراد أخوه قتله :إني أريدُ أن تبوء بإثْمِي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاءُ الظّالمين "(1) " المائدة :29 "
__________
(1) –البداية والنهاية 178-179/7 بتصرف(15/29)
ويقول ابن الأثير : ( كان بمصر محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حُذيفة يحرضان على عثمان . فلما خرج المصريون خرج فيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة وقيل ألف وفيهم كنانة بن بشير الليثي , وسودان بن حمران وقتيرة بن فلان السكوني وعليهم جميعاً الغافقي بن حرب العكي , وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبد ي , والأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصم العامر ي وهم في عداد أهل مصر ، وخرج أهل البصرة وفيهم حكيم بن جبلة العبد ي وذريح بن عباد وبشر بن شريح القيسي وابن المحترش وهم بعداد أهل مصر وأميرهم حرقوص بن زهير السعدي , فخرجوا جميعاً في شوال من سنة 35 هـ وأظهروا أنهم يريدون الحج , فلما كانوا من المدينة على ثلاث , تقدم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خُشب وكان هواهم في طلحة , وتقدم ناس من الكوفة وكان هواهم في الزبير وتركوا الأعوص وجاءهم ناس من أهل مصر وكان هواهم في علي ونزلوا عامتهم بذي المروة ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر , وعبد الله بن الأصم , وقالا لهم : لا تعجلوا حتى ندخل المدينة و نرتاد لكم فقد بلغنا أنهم عسكروا لنا , فوالله إن كان هذا حقاً استحلوا قتالنا بعد علم حالنا إنِّ أمرنا لباطل , وإن كان الذي بلغنا باطلاً رجعنا إليكم بالخبر . قالوا : اذهبا . فذهبا فدخلا فلقيا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -وعلياً وطلحة والزبير , فقالا: إنما نريد هذا البيت ونستعفي من بعض عمالنا , استأذناهم في الدخول فكلمهما أُبىّ ونهاهما ,فرجعا إلى أصحابهما . فاجتمع نفر من أهل مصر فأتوا علياً, ونفر من أهل البصرة فأتوا طلحة ونفر من أهل الكوفة فأتوا الزبير , وقال كل فريق منهم :إن بايعنا صاحبنا وإلا ّكذبناهم و فرقنا جماعتهم , ثم رجعنا عليهم حتى نبغتهم فأتى المصريون علياً وهو في عسكر عند أحجار الزيت متقلداً سيفه , وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه ,(15/30)
فسلموا عليه و عرضوا عليه فصاح بهم وطردهم وقال : لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وجيش ذي خُشُب والأعوص ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - , فانصرفوا عنه . وأتى البصريون طلحة فقال لهم مثل ذلك و كان قد أرسل أبنيه إلى عثمان , وأتى الكوفيون الزبير فقال لهم مثل ذلك و كان قد أرسل ابنه عبد الله إلى عثمان فرجعوا وتفرقوا عن ذي خُشُب وذي المروة والأعوص إلى عسكرهم ليتفرق أهل المدينة ثم يرجعوا إليهم . فلما بلغوا عسكرهم تفرق أهل المدينة فرجعوا إليهم فلم يشعر أهل المدينة إلا والتكبير في نواحيها ونزلوها وأحاطوا بعثمان وقالوا : من كف يده فهو آمن وصلى عثمان بالناس أياماً ولزم الناس بيوتهم وهم يصلون خلفه وهم في عينه أدق من التراب , وكانوا يمنعون الناس من الاجتماع ولما جاءت الجمعة التي على أثر دخولهم خرج عثمان فصلى بالناس ثم قام على المنبر فقال : يا هؤلاء الله , الله فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -, فامحوا الخطأ بالصواب . فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك فأقعده حكيم بن جبلة , وقام زيد بن ثابت فأقعده محمد بن أبي قتيرة وثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد وحصبوا عثمان حتى ُصرع عن المنبر مغشياً عليه فأُدخل داره , ثم صلى عثمان بالناس بعدما نزلوا به في المسجد , ثم منعوه الصلاة وصلى بالناس أميرهم الغافقي , وتفرّق أهل المدينة في حيطانهم , ولزموا بيوتهم لا يجلس أحد ولا يخرج إلا بسيفه ليمتنع به وكان الحصار أربعين يوماً ومن تعرض لهم وضعوا فيه السلاح ) (1) وهناك بعض الروايات تفيد أن عثمان - رضي الله عنه - أرسل إلى الأمصار يطلب منهم العون بعد أن اشتد عليه التضييق و الحصار وهذا خبر لا يصح منه شيء لأن منهج عثمان - رضي الله عنه -كان الصبر و الكف عن القتال امتثالا لوصية
__________
(1) - الكامل في التاريخ بتصرف ص (529 – 531 / 2 )(15/31)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - له وذلك لحديث عائشة رضى الله عنها قالت : (لما كان يوم الدار قيل لعثمان : ألا تقاتل ؟ قال : قد عاهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على عهد سأصبر عليه , قالت عائشة : فكنا نرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عهد إليه فيما يكون من أمره ) (1) لهذا وضع مصلحة الرعية في المقام الأول ، روى الطبري إن معاوية قال لعثمان بن عفان ( يا أمير المؤمنين انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به فإن أهل الشام على الأمر لم يزالوا فقال أنا لا أبيع جوار رسول الله بشيء وإن كان فيه قطع خيط عنقي قال فابعث إليك جندا منهم يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك ؟ قال أنا لا أقتر على جيران رسول الله الأرزاق بجند تساكنهم وأضيق على أهل دار الهجرة والنصرة قال والله يا أمير المؤمنين لتغتالن أو لتغزين قال حسبي الله ونعم الوكيل ) (2) وإلى جانب صبره واحتسابه حفظاً لكيان الأمة من التمزق والضياع وقف عثمان- رضي الله عنه - موقف آخر أشد صلابة وهو عدم إجابته الخارجين إلى خلع نفسه من الخلافة فلو أجابهم إلى ما يريدون لسن بذلك سنة , وهي كلما كره قوم أميرهم خلعوه , ومما لا شك فيه أن هذا الصنيع من عثمان كان أعظم وأقوى ما يستطيع أن يفعله إذ لجأ إلى أهون الشرين وأخف الضررين ليدعم بهذا الفداء نظام الخلافة الإسلامية ولهذا احتج عثمان - رضي الله عنه -على المحاصرين بقوله : إن وجدتم في الحق أن تضعوا رجلي في قيد فضعوها (3) ، وفي هذه الظروف العصيبة التي عان منها هذا الشيخ الذي جاوز الثمانين من عمره فهو يتصرف مع هذه الأزمة بحكمة وصبر كما وصاه رسول الله فقد ثبت إن الرسول قال لعثمان ( يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يوما فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك
__________
(1) - صححه الألباني في ظلال الجنة حديث رقم 1176
(2) - تاريخ الطبري 2/ 650
(3) - تاريخ خليفة بن خياط ص 77 بتصرف(15/32)
الذي قمصك الله فلا تخلعه يقول ذلك ثلاث مرات قال النعمان : فقلت لعائشة ما منعك أن تعلمي الناس بهذا قالت أنسيته )(1) يقول ابن كثير : ( ولهذا صمموا على حصره والتضييق عليه ، حتى منعوه الميرة والماء والخروج إلى المسجد ، وتهددوه بالقتل ، ولهذا خاطبهم بما خاطبهم به من توسعة المسجد وهو أول من منع منه، ومن وقفه بئر رومه على المسلمين وهو أول من منع ماءها ، ومن أنه سمع رسول الله يقول :" لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث ، النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة" وذكر أنه لم يقتل نفساً ، ولا ارتد بعد إيمانه ، ولا زنى في جاهلية ولا إسلام ، بل ولامسَّ فرجه بيمينه بعد أن بايع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،وفي رواية بعد أن كتب بها المفصل ، ثم ذكر لهم من فضائله ومناقبه ما لعله ينجع فيهم بالكف عنه والرجوع إلى الطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر منهم ، فأبوا إلا الاستمرار على ما هم عليه من البغي والعدوان ، ومنعوا الناس من الدخول إليه ) (2) و استمر الحصار عليه - رضي الله عنه -حتى أنهم منعوا عنه الماء , فوصل الخبر إلى أمهات المؤمنين فجاءت أم حبيبة رضي الله عنها وكانت من أقارب عثمان فأخذت الماء وجعلته تحت ثوبها , وركبت بغله وحولها حشمها وخدمها ، فقالوا :ما جاءبك ؟ فقالت : إن عنده وصايا بني أمية لأيتام وأرامل ، فأحببت أن أذكره بها ، فكذبوها في ذلك ونالها منهم شدة عظيمة ، وقطعوا حزام البغلة وندَّت بها، وكادت أو سقطت عنها ، وكادت تقتل لولا تلاحق بها الناس فأمسكوا بدابتها ، ووقع أمر كبير جداً ، ولم يبق يحصل لعثمان وأهله من الماء إلا ما يوصله إليهم آل عمرو بن حزم في الخفية ليلاً فإنا لله وإنا إليه راجعون (3)
__________
(1) – صححه الألباني في سنن ابن ماجة حديث رقم 112
(2) - البداية والنهاية ص 7/184 والحديث المذكور متفق علية
(3) – البداية والنهاية 7/184 بتصرف(15/33)
، واستمر الحصار على عثمان - رضي الله عنه - وكان خلال هذه المدة في غاية الشجاعة وضبط النفس رغم قسوة الظروف ورغم الحصار , ولطالما كان يطل على المحاصرين ويخطب فيهم ويذكرهم بمواقفه لعلهم يلينون لكنهم لم يفعلوا . روى الطبري عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري. ( قال :أشرف عليهم عثمان - رضي الله عنه -ذات يوم فقال : السلام عليكم قال فما سمع أحد من الناس رد عليه إلا أن يرد رجل في نفسه فقال : أنشدكم بالله هل علمتم أني اشتريت بئر رومه من مالي يستعذب بها فجعلت رشائي منها كرشاء رجل من المسلمين ؟ قال : قيل نعم قال فما يمنعني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر قال أنشدكم الله هل علمتم أني اشتريت كذا وكذا من الأرض فزدته في المسجد قيل نعم قال فهل علمتم أحداً من الناس منع أن يصلي فيه من قبلي ؟ قال : أنشدكم الله هل سمعتم نبي الله يذكر كذا وكذا أشياء بشأنه إلى أن قال فوعظهم وذكرهم فلم تأخذ فيهم الموعظة وكان الناس تأخذ فيهم الموعظة أول ما يسمعونها فإذا أعيدت عليهم لم تأخذ فيهم قال ثم أنه فتح الباب ووضع المصحف بين يديه قال وذاك أنه رأى من الليل أن نبي الله يقول افطر عندنا الليلة) (1) وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -للذين حاصروا عثمان - رضي الله عنه -يوم الدار : ( إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافاً , أو قال : اختلافاً وفتنة , فقال له قائل من الناس : فمن لنا يا رسول الله ؟ فقال : عليكم بالأمين وأصحابه , وهو يشير إلى عثمان بذلك ) (2) روى ابن ماجة في السنن إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: ( في مرضه وددت أن عندي بعض أصحابي قلنا : يا رسول الله ألا ندعو لك أبا بكر؟ فسكت قلنا : ألا ندعو لك عمر؟ فسكت قلنا : ألا ندعو لك عثمان ؟ قال :نعم فجاء فخلا به فجعل النبي - صلى الله
__________
(1) -- تاريخ الطبري / 2 .671
(2) – السلسلة الصحيحة حديث رقم 3188(15/34)
عليه وسلم - يكلمه ووجه عثمان يتغير قال: قيس فحدثني أبو سهلة مولى عثمان أن عثمان بن عفان قال :يوم الدار إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلي عهدا فأنا صائر إليه أو قال علي في حديثه وأنا صابر عليه قال قيس فكانوا يرونه ذلك اليوم ) ، (1) وكان أهل الفتنة أثناء حصارهم لعثمان في داره ومنعه من الصلاة بالناس , هم الذين يصلون بهم وكان الذي يصلي بالناس الغافقي بن حرب(2) .
وأخرج البخاري في صحيحه عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن , عن عبد الله بن خيار": أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال : إنك إمام عامة ونزل بك ما نرى ويصلي بنا إمام الفتنة ونتحرج فقال : الصلاة أحسن ما يعمل الناس , فإذا أحسن الناس فأحسن معهم , وإذا أساءوا فأجتنب إساءتهم" (3). وحدثت بعض المناوشات بين شباب الصحابة والثوار فخرج خلالها بعض الصحابة أمثال الحسن بن علي وغيره وهذا الخبر يؤيده ما ذكره ابن عبد البر عن كنانة مولى صفية بنت حيي بن ا لأخطب قال :( شهدت مقتل عثمان , فأخرج من الدار أمامي أربع من شبان قريش ملطخين بالدم محمولين . وكانوا يدرؤون عن عثمان - رضي الله عنه - وهم : الحسن والحسين أبناء علي, وعبد الله بن الزبير ,ومروان بن الحكم) (4) .
مقتل عثمان - رضي الله عنه -.
__________
(1) – صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/42 حديث رقم 113
(2) –انظر البداية والنهاية 7/173
(3) البخاري مع الفتح 2/221
(4) – ابن عبد البر في الاستيعاب 3/1387، والبخاري في التاريخ الكبير 7/237(15/35)
يقول ابن كثير:( قال سيف بن عمر التميمي رحمه الله عن العيص بن القاسم عن رجل عن الخنساء مولاة أسامة بن زيد وكانت تكون مع نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان .أنها كانت في الدار ودخل محمد بن أبي بكر وأخذ بلحيته فقال : مهلاً يا بن أخي فوالله لقد أخذت مأخذاً ما كان أبوك ليأخذ به , فتركه وانصرف مستحيياً نادماً فاستقبله القوم على باب الصّفة فردهم طويلاً حتى غلبوه ودخلوا وخرج محمد راجعاً ، فأتاه رجل بيده جريدة يقدمهم حتى قام على عثمان فضرب بها رأسه فشجه , فقطر دمه على المصحف حتى لطخه , ثم تعاوروا عليه فأتاه رجل فضربه على الثدي بالسيف , ووثبت نائلة بنت الفرافصة الكلبية فصاحت وألقت نفسها عليه , وقالت يا بنت شيبة أيقتل أمير المؤمنين ؟ وأخذت السيف فقطع الرجل يدها , وانتهبوا متاع الدار ومر رجل على عثمان ورأسه مع المصحف فضرب رأسه برجله ونحاه عن المصحف وقال : ما رأيت كاليوم وجه كافر أحسن ولا مضجع كافر أكرم . قال والله ما تركوا في داره شيئاً حتى الأقداح إلا ذهبوا به ويروي ابن كثير عن ابن عساكر أنهُ جاء رجل من كنده من أهل مصر يلقب حماراً ويكنى بأبي رومان , وقال قتادة : اسمه رومان , وقال غيره كان أزرق أشقر , وقيل كان اسمه سودان بن رومان المراد ي . وعن ابن عمر قال كان اسم الذي قتل عثمان أسود بن حمران ضربه بحربة وبيده السيف صلتا ًقال : ثم جاء فضربه في صدره حتى أقعصه . ثم وضع ذباب السيف في بطنه واتكأ عليه وتحامل حتى قتله . وقامت نائلة دونه فقطع السيف أصابعها رضي الله عنها . ويقول ابن كثير : وثبت من غير وجه أن أول قطرة من دمه سقطت على قوله تعالى : فسيكفيكهُمُ الله وهو السميع العليم . البقرة : 137ويروى أنه وصل إليها في التلاوة أيضاً حين دخلوا عليه ، وليس ببعيد فإنه كان قد وضع المصحف يقرأ فيه القرآن . قلت : نعم لقد اقتص الله من القتلة الخوراج ،" وقد أقسم بعض السلف بالله إنه ما مات أحد من قتلة(15/36)
عثمان إلا مقتولاً رواه ابن جرير وقال بعضهم : ما مات أحد منهم حتى جن." ويروى أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت في حلقه ، والصحيح أن الذي فعل ذلك غيره وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان : لقد أخذت بلحيةٍ كان أبوك يكرمها . فتذمر من ذلك وغطى وجهه ورجع وحاجرَ دونه فلم يفد وكان أمر الله قدراً مقدوراً وكان ذلك في الكتاب مسطورا ً وروى ابن عساكر أن عمر و بن الحمق وثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال : أما الثلاث فهن لله وست لما كان في صدري عليه) (1) . يقول ابن كثير :( كانت مدة حصار عثمان في داره أربعين يوماً على المشهور , وكان قتله في يوم الجمعة بلا خلاف وكان ذلك في ثماني ليلة خلت من ذي الحجة سنة 35هـ على الصحيح المشهور , فكانت خلافته اثنتي عشر سنة إلا اثني عشر يوماً، وأما عمره - رضي الله عنه - فجاوز اثنتين وثمانين سنة , وقيل أربعة وثمانين سنة وقال قتادة : توفي عن ثمان وثمانين أو تسعين سنة . وأما موضع قبره بلا خلاف دفن بحش كوكب شرقي البقيع وقال الإمام مالك: بلغني أن عثمان - رضي الله عنه - كان يمر بمكان قبره من حش كوكب فيقول : سيدفن هنا رجل صالح وقال البخاري في التاريخ : حدثنا موسى بن إسماعيل عن عيسى بن منهال حدثنا غالب عن محمد بن سيرين قال : كنت أطوف بالكعبة وإذا رجل يقول : اللهم اغفر لي ، وما أظن أن تغفر لي ، فقلت : يا عبد الله ما سمعتُ أحداً يقول ما تقول، قال :كنت أعطيت لله عهداً إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته فلما قتل ووضع على سريره في بيته والناس يجيئون يصلون عليه . فدخلت وكأني أصلي عليه فوجدت خلوة فرفعت الثوب عن وجهه ولحيته ولطمته وقد يبست يميني . قال ابن سيرين رأيتها يابسة كأنها عود ) (2) فرحم الله عثمان - رضي الله عنه - وأسكنه فسيح الجنان
__________
(1) - البداية والنهاية 7- 181- 182-183-187 بتصرف
(2) - البداية والنهاية ( 7 -187-188) بتصرف(15/37)
ذكر ما حدث إثر مقتل عثمان - رضي الله عنه -
يقول الإمام ابن كثير ولما وقع هذا الأمر العظيم , الفضيع الشنيع أسقط في أيدي الناس , فأعظموه جداً وندم أكثر هؤلاء الجهلة الخوارج بما صنعوا , وأشبهوا من تقدمهم ممن قص الله علينا في كتابه العزيز , من الذين عبدوا العجل , في قوله تعالى : (ولما سُقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكو نن من الخاسرين )(1)ولما بلغ الزبير مقتل عثمان وكان قد خرج من المدينة . قال : إنا لله وإنا إليه راجعون وترحم على عثمان وبلغه أن الذين قتلوه ندموا فقال : تباً لهم ثم تلا قوله تعالى : ((ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون . فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون )) (2) وبلغ علياً قتله فترحم عليه وسمع بندم الذين قتلوه فتلا قوله : (( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين )) (3)ولما بلغ سعد بن أبي وقاص قتل عثمان استغفر له وترحم عليه وتلا في حق الذين قتلوه قوله تعالى : ((قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً .الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ) (4) ثم قال سعد بن أبي وقاص : اللهم اندمهم ثم خذهم(5). ومعلوم أن سعداً مستجاب الدعوة وقد ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -قال: " اللهم استجب لسعد إذا دعاك " (6)
" إذا قال قائل ،كيف ُيقتل عثمان بالمدينة وفيها جماعة من كبار الصحابة رضى الله عنهم ؟
الجواب :-
__________
(1) - الآية 149 من سورة الأعراف
(2) الآية 49 – 50 من سورة يس
(3) - الآية 16 من سورة الحشر
(4) - الآية 103 – 104 من سورة الكهف
(5) - البداية والنهاية (7/ 186)
(6) - صححه الألباني في .جامع الترمذي 5-649 حديث رقم 3751(15/38)
إن كثيراً منهم بل أكثرهم أو كلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الأمر إلى قتله، فإن أولئك الثوار كانوا يطلبون منه ثلاثة أمور وهي : أما أن يعزل نفسه, أو يسلم إليهم مروان بن الحكم ،
أن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة ولكن لما وقع التضييق الشديد عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا . فتمكن أولئك مما أرادوا .
أن هؤلاء الخوارج اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام الحج
أن هؤلاء الخوارج كانوا قريباً من ألفي مقاتل من الأبطال
ربما لم تكن هناك قوات عسكرية في المدينة تستطيع ردع هؤلاء الثوار لأن الناس كانوا في الثغور وفي الأقاليم في كل جهة.) (1)
نبذه مختصرة عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
__________
(1) – البداية والنهاية( 7/193-194 )بتصرف(15/39)
(هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ، أبو عمر وأبو عبد الله القرشي الأموي أمير المؤمنين ذو النورين وصاحب الهجرتين وزوج الابنتين وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن عبد شمس ,أمها أم حكيم وهي البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة , وأحد الستة أصحاب الشورى , وأحداً الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار - رضي الله عنه - ,أسلم عثمان قديماً على يدي أبي بكر الصديق , وهاجر إلى الحبشة أول الناس ومعه زوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة , فلما كانت وقعة بدر اشتغل بتمريض ابنة رسول الله وضرب له رسول الله بسهمه منه وأجره فيها , فهو معدود فيمن شهدها . فلما توفيت زوجهُ رسول الله بأختها أم كلثوم فتوفيت أيضاً في صحبته وشهد أحداً وشهد الخندق والحديبية وبايع عنه رسول الله بإحدى يديه , وشهد خيبر وعمرة القضاء , وحضر الفتح و هوازن والطائف وغزوة تبوك وجهز جيش العسرة , فقال يومها رسول الله "ما ضر عثمان ما فعل بعد هذا اليوم " مرتين .
وحج مع رسول الله حجة الوداع , وتوفي وهو عنه راضٍ ,وصحب أبا بكر فأحسن صحبته , وتوفي وهو عنه راضٍ , وصحب عمر وتوفي وهو عنه راضٍ ونص عليه في أهل الشورى الستة فكان خيرهم , وقد كان - رضي الله عنه - مليح الوجه كريم الأخلاق ذا حياء كثير , وكرم غزير , يؤثر أهله وأقاربه في الله تأليفاً لقلوبهم من متاع الحياة الدنيا الفاني , لعله يرغبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى , كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي أقواماً ويدع آخرين , وقد تعنت عليه بسبب هذه الخصلة أقوام , كما تعنت بعض الخوارج على رسول الله في غزوة حنين . ) (1)
الفصل الثاني
__________
(1) المصدر السابق (7/197 – 198) بتصرف(15/40)
خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
(هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أبو الحسن والحسين ويكنى بأبي تراب وهو ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه على ابنته فاطمة الزهراء وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ويقال إنها أول هاشمية ولدت هاشمياً وكان له من الأخوة طالب وعقيل وجعفر وكانوا أكبر منه , وله أختان , وهما أم هاني وجمانة وكلهم من فاطمة بنت أسد . وكان علي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى وكان ممن توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو راضٍ عنهم . أسلم علي قديماً وهو ابن سبع سنين وقيل أكثر من ذلك ، وهو أول من أسلم من الغُلمان وهاجر علي بعد خروج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة وكان قد أمره بقضاء ديونه ورد ودائعه ثم يلحق بهم فامتثل ما أمر به , ثم هاجر وآخى الرسول بينه وبين سهيل بن حنيف , وقد شهد علي بدراً وكانت له اليد البيضاء فيها ،بارز يومئذٍ فغلب وظهر فيه وفي عمه حمزة وابن عمه عبيد بن الحارث وخصومهم الثلاثة عتبة وشيبة والوليد بن عتبة . نزل قوله تعالى(15/41)
{ هذان خصمان اختصموا في ربهم }الحج الآية 19 . وشهد علي أُحداً وكان على الميمنة ومعه الراية بعد مصعب بن عمير وقاتل قتالاً شديداً وقتل خلقاً كثيراً من المشركين . وشهد يوم الخندق فقتل يومئذ فارس العرب وأحد شجعانهم المشاهير عمرو بن عبد ود العامري . وشهد الحديبية وبيعة الرضوان ، وشهد خيبر وكانت له بها مواقف هائلة ومشاهد طائلة , منها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -قال : " لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " (1) وفتح الله على يده وقتل مرحباً اليهودي . وشهد عمرة القضاء وفيها قال لهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنت مني وأنا منك " (2) ، ولما خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إلى تبوك استخلفه على المدينة قال له : يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال له : " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي "(3) . ثم لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كان علي من جملة من غسله وكفنه .
__________
(1) –متفق علية رواة البخاري في المغازي 4209-ومسلم في فضائل الصحابة 2405 نقلاً عن حاشية بيومي على البداية 7-222
(2) - رواه البخاري في المغازي 4251 . نقلاً عن حاشية محمد بيومي على البداية والنهاية 7-223
(3) - رواه البخاري ومسلم في فضائل الصحابة . نقلاً عن حاشية محمد بيومي على البداية والنهاية - 7/223(15/42)
وولي دفنه ولما بويع الصديق يوم السقيفة كان علي من جملة من بايع بالمسجد وكان بين يدي الصديق كغيره من أمراء الصحابة يرى طاعته فرضاً عليه وأحب الأشياء إليه. ولما توفيت فاطمة بعد ستة أشهر-وكانت تغضب بعض الشيء على أبي بكر بسبب الميراث الذي فاتها من أبيها عليه السلام ،ولم تكن اطلعت على النص المختص بالأنبياء وأنهم لا يورثون ، فلما بلغها سألت أبا بكر أن يكون زوجها ناظراً على الصدقة فأبي ذلك عليها ، فبقي في نفسها شيء على أبي بكر ، واحتاج علي أن يداريها بعض المدارة ، فلما توفيت جدد البيعة مع الصديق - رضي الله عنهم -، ولما توفي أبو بكر وقام عمر - رضي الله عنه -في الخلافة كان علي من جملة من بايعه ولم طُعِن عمر وجعل الشورى في ستة أحدهم علي - رضي الله عنه - ثم قُدِم عثمان بن عفان للخلافة فسمع له علي وأطاع . ولما قتل عثمان عدل الناس إلى علي فبايعوه , وقد امتنع علي من إجابته إلى قبول الإمارة حتى تكرر قولهم له وفر منهم إلى حائط بني عمرو بن مبدول وأغلق بابه فجاء الناس فطرقوا الباب وولجوا وجاءوا معهم بطلحة و الزبير فقالوا له : إن الأمر لا يمكن بقاءه بلا أمير , ولم يزالوا به حتى أجاب )(1) .
نواب الأمصار في هذه الفترة
__________
(1) البداية والنهاية (7- 221 – 224) بتصرف(15/43)
( لما تولى علي بن أبي طالب الخلافة كان على الكوفة أبو موسى الأشعر ي على الصلاة وعلى الحرب القعقاع بن عمرو وعلى الخراج جابر بن فلان المزني , وعلى البصرة عبد الله بن عامر , وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقد تغلب على محمد بن أبي حذيفة , وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان , وعلى حمص عبد الرحمن بن خالد بن وليد . وعلى قنسرين حبيب بن سلمة , وعلى الأردن أبو الأعور , وعلى فلسطين حكيم بن علقمة , وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس , وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله البجلي , وعلى حلوان عتيبة بن النهاس , وعلى قيسارية مالك بن حبيب , وعلى همذان حبُيش وكان على بيت المال عقبة بن عمرو وعلى قضاء المدينة زيد بن ثابت ولما قتل عثمان بن عفان خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان متضمخ بدمه ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين حاجفت عنه بيدها , فقطعت مع بعض الكف فورد على معاوية بالشام فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس , وعلق الأصابع في كم القميص وندب الناس للأخذ بهذا الثأر والدم وصاحبه فتباكى الناس حول المنبر وجعل القميص يرفع تارة ويوضع تارة والناس يتباكون حوله سنة وحث بعضهم البعض على الأخذ بثأره واعتزل أكثر الناس النساء في هذا العام وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان ممن قتله من أولئك الخوارج: منهم عبادة بن الصامت وأبو الدر داء وأبو أمامه وعمرو بن عنسبة وغيرهم من الصحابة ومن التابعين: شريك بن حباشة وأبو مسلم الخولاني وعبد الرحمن بن غنم وغيرهم من التابعين , ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة - رضي الله عنهم - وطلبوا منه إقامة الحدود والأخذ بدم عثمان فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا )(1) .
ثم دخلت سنة ست وثلاثين من الهجرة
__________
(1) البداية والنهاية (7/ 226) بتصرف(15/44)
( استهلت هذه السنة وقد ولى علي بن أبي طالب نواباً على الأمصار , فولى عبد الله بن عباس على اليمن وولى سمرة بن جندب على البصرة وعمارة بن شهاب على الكوفة وقيس بن سعد بن عبادة على مصر وعلى الشام سهل بن حنيف بدل معاوية، فسار حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية فقالوا : من أنت ؟ فقال : أمير فقالوا : على أي شئ ؟ قال على الشام فقالوا إن كان الذي بعثك عثمان فحي هلا بك وإن كان غيره فارجع , وأما قيس بن عبادة فاختلف عليه أهل مصر فبايع له الجمهور وقالت طائفة : لا نبايع حتى نقتل قتلة عثمان وكذلك أهل البصرة وانتشرت الفتنة وتفاقم الأمر وبعث علي إلى معاوية كتباً كثيرة فلم يرد عليه جوابها وتكرر ذلك مراراً إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان ثم عزم علي - رضي الله عنه -على قتال أهل الشام وكتب إلى مصر والكوفة يستنفرهم للقتال وخرج من المدينة واستخلف عليها قثم بن العباس وجاء إليه الحسن بن علي فنهاه فلم يقبل منه ولم يبق شئ إلا خرج من المدينة قاصداً إلى الشام حتى جاءه ما شغله عن ذلك كله وهو ما سنورده)(1)
يوم النحيب وابتداء وقعة الجمل
__________
(1) – البداية والنهاية 7/227-228 بتصرف(15/45)
يقول ابن كثير:( لما وقع قتل عثمان - رضي الله عنه - بعد أيام التشريق وكان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين قد خرجن للحج في هذا العام فرارا من الفتنة وفرّ أصحابة من بني أمية وغيرهم إلى مكة , واستأذن طلحة والزبير علياً في الاعتمار فأذن لهما فخرجا إلى مكة وتبعهم خلق كثير وجم غفير وقدم إلى مكة يعلى بن أمية من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة درهم . وقدم أيضاً عبد الله بن عامر من البصرة فاجتمع فيها خلق من سادات الصحابة وأمهات المؤمنين فقامت عائشة - رضي الله عنه - تخطبهم وتحثهم على القيام بطلب دم عثمان وجهز الناس يعلى بن أمية , وكانت حفصة أم المؤمنين قد وافقت عائشة على المسير إلى البصرة فمنعها أخوها عبد الله من ذلك وسار الناس في صحبة عائشة في ثلاثة آلاف وأم المؤمنين تحمل في هودج على جمل اسمه عسكر اشتراه يعلى بن أمية بمائتي دينار . وسار معها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق ففارقنها هنالك وبكين للوداع وتباكى الناس وكان ذلك اليوم يسمى بيوم النحيب وسار الناس قاصدين البصرة وكان الذي يصلي بالناس عبد الله بن الزبير والمؤذن مروان بن الحكم ومروا في مسير هم ليلاً بماء يقال له الحوأب فنبحتهم كلاب عنده فلما سمعت ذلك عائشة قالت ما اسم هذا المكان ؟ قالوا الحوأب فضربت بإحدى يديها على الأخرى وقالت إنا لله وإنا إليه راجعون ما أظنني إلا راجعة قالوا : ولم ؟ قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لنسائه (ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب ؟ ) ثم ضربت عضد بعيرها وأناخته وقالت ردوني , ردوني أنا والله صاحبة ماء الحوأب فأناخ الناس حولها يوماً وليلة وقال لها عبد الله بن الزبير إن الذي أخبرك أن هذا ماء الحوأب قد كذب , ولما اقتربت من البصرة كتبت إلى الأخنف بن قيس وغيره من رؤوس الناس وذكرت لهم أنها جاءت للقيام بطلب دم عثمان لأنه قتل مظلوماً ونزلت أم المؤمنين قريباً من البصرة(15/46)
والتحق بها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها وخرج عثمان بن حنيف بالجيش فاجتمعوا بالمربد فتناور طوائف من أطراف الجيش فتراموا بالحجارة ثم تحاجر الناس وجاء حارثة بن قدامه السعدي فقال : يا أم المؤمنين ، والله لقتل عثمان أهون علي من خروجك من بيتك على هذا الجمل عرضة للسلاح ،وأقبل حكيم بن جبلة . وكان على خيل عثمان بن حنيف فانشب القتال وجعل أصحاب أم المؤمنين يكفون أيديهم ويمتنعون من القتال، وحجز الليل بينهم فلما كان اليوم الثاني قصدوا للقتال فاقتتلوا قتالا شديداً إلى أن زال النهار وقتل خلق كثير من أصحاب عثمان بن حنيف وكثرت الجراح في الفريقين وبعد شئ من الهدنة المؤقتة بعث طلحة والزبير إلى عثمان بن حنيف أن يخرج إليهما فأبى ووقع من رعاع الناس من أهل البصرة كلام وضرب فقتل منهم نحو أربعين رجلاً ودخل الناس على عثمان بن حنيف قصره فأخرجوه إلى طلحة والزبير , ولم يبق في وجهه شعرة إلا نتفوها ثم قام طلحة والزبير بتولية بيت المال لعبد الرحمن بن أبي بكر وقسموا أموال بيت المال في الناس وفضلوا أهل الطاعة فحمى لذلك جماعة من قوم عثمان وأنصارهم , فركبوا في جيش قريب من ثلاثمائة ومقدمهم حكيم بن جبلة وهو أحد من باشر قتل عثمان - رضي الله عنه - , فبارزوا وقاتلوا , فضرب رجلٌ رِجلُ حكيم بن جبلة فقطعها ثم مات حكيم قتيلاً ومعهُ نحو من سبعين من قتلة عثمان وأنصارهم أهل المدينة . وقد كانت هذه الوقعة لخمس ليالي بقين من الربيع الأخر سنة ست وثلاثين)(1) .
مسير علي بن أبي طالب إلى البصرة بدلاً من الشام ووقعة الجمل
__________
(1) - البداية والنهاية (7/ 228 – 231) بتصرف(15/47)
( خرج علي - رضي الله عنه - من المدينة في نحو تسعمائة مقاتل , وجاء الحسن بن علي إلى أبيه في الطريق وقال لقد نهيتك فعصيتني تقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك ، فلما عزم على المسير قام إليه ابن أبي رفاعة بن رافع فقال : يا أمير المؤمنين أي شئ تريد ؟ وأين تذهب بنا ؟ فقال : أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابوا إليه , قال : فإن لم يجيبوا إليه ؟ قال ندعهم بغدرهم ونعطيهم الحق ونصبر . قال : فإن لم يرضوا ؟ قال : ندعهم ما تركونا . قال : فإن لم يتركونا ؟ قال: امتنعنا منهم قال : فنعم إذاً ، ولما اقترب علي من الكوفة وجاءهُ الخبر بما وقع من الأمر على جليته من قتل ومن إخراج عثمان بن حنيف من البصرة وأخذهم أموال بيت المال , ولما بلغ ذي قار أتاه عثمان بن حنيف ماشياً وليس في وجهه شعرة فقال : يا أمير المؤمنين بعثتني إلى البصرة وأنا ذو لحية وقد جئتك أمرداً فقال أصبت خيراً وأجراً ، ويقال إن علياً بعث الأشتر فعزل أبا موسى عن الكوفة وأخرجه من قصر الإمارة من تلك الليلة واستجاب الناس للنفير فخرج مع الحسن تسعة آلاف ويقال اثنا عشر ألف رجل ورجل واحد فاجتمعوا عند علي بذي قار وكان من المشهورين من رؤساء من انضاف إلى علي القعقاع بن عمر وسعيد بن مالك وهند بن عمرو والهيثم بن شهاب وزيد بن صوحان والأشتر وعدي بن حاتم والمسيب بن نجبة ويزيد بن قيس وحجر بن عدي وأمثالهم ثم بعث علي بن أبي طالب القعقاع بن عمرو إلى البصرة فبدأ بعائشة أم المؤمنين فقال : أي أماه ! ما أقدمك هذا البلد ؟ فقالت : أي بني الإصلاح بين الناس فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضر عندها . فحضروا فقال القعقاع : إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها ؟ فقالت : إنما جاءت للإصلاح بين الناس فقالا ونحن كذلك , قال : فاخبراني ما وجه هذا الإصلاح ؟ قالا : قتلة عثمان . فإن هذا إن تُرِك كان تركاً للقرآن فقال : قتلتما قتلته من أهل البصرة وهم ستمائة رجل فغضب لهم(15/48)
ستة آلاف فاعتزلوكم . وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعهُ ستة آلاف ,فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون ، يعني أن الذي تريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة ، ولكنهُ يترتب عليه مفسدة هي أربي منها ، وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله فعلي بن أبي طالب أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان وإنما أخر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكن منهم فقالت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنه -: فماذا تقول أنت ؟ قال : أقول إن هذا الأمر الذي وقع دواؤه التسكين وأشرف القوم على الصلح ففرح هؤلاء وهؤلاء وقام علي في الناس خطيبا فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها وذكر الإسلام وسعادة أهله بالألفة والجماعة إلى أن قال إني مرتحل غداً فارتحلوا معي ولا يرتحل معي أحد أعان على قتل عثمان بشيء من أمور الناس فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالأشتر النخعي وشريح بن أوفى وعبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء وسالم بن ثعلبة وغلاب بن الهيثم وغيرهم في ألفين وخمسمائة وليس فيهم صحابي ولله الحمد ثم قال ابن السوداء قبحه الله : يا قوم إن عيركم في خلطة الناس فإذا التقى الناس فانشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون وبهذا التفاهم اطمأنت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم وبعثوا إليه محمد بن طليحة السجاد وبات الناس بخير ليلة وبات قتلة عثمان بشر ليلة وباتوا يتشاورون وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريب من ألفي رجل فانصرف كل فريق إلى قراباتهم فهجموا عليهم بالسيوف فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم وقام الناس من منامهم إلى السلاح فقالوا : طرقتنا أهل الكوفة ليلاً , وبيتونا وغدروا بنا وقامت الحرب على قدم وساق وتبارز الفرسان وجالت الشجعان وتواقف الفريقان وقد اجتمع مع علي عشرون ألفاً . والتف على عائشة ومن معها(15/49)
نحواً من ثلاثين ألفاً , فإنا لله وإنا إليه راجعون وأصحاب ابن السوداء قبحه الله لا يفترون عن القتل ومنادي علي ينادي : ألا كفوا , ألا كفوا فلا يسمع أحد . وقد كان من سنتهم في هذا اليوم أنه لا يذفف على جريح ولا يتبع مدبر , وقد قتل مع هذا خلق كثير جداً , حتى جعل علي يقول لابنه الحسن : يا بنيّ ليت أباك مات قبل هذا بعشرين عاماً فقال له : يا أبتي لقد كنت أنهاك عن هذا . قال : يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا .ثم تقدمت عائشة رضي الله عنها في هودجها وناولت كعب بن سوار قاضي البصرة مصحفاً وقالت : دعهم إليه وذلك أنه حين أشتد الحرب وحمي القتال ورجع الزبير وقتل طلحة - رضي الله عنهم -. وكان عبد الله بن سبأ اليهودي وأتباعه بين يدي الجيش يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة لا يتوقفون في أحد فلما رأوا كعب بن سوار رافعاً المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد فقتلوه ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وجعلت الحرب تأخذ وتعطي فتارةً لأهل البصرة وتارةً لأهل الكوفة وقتل خلق كثير وقطع يد سبعين رجلاً وهى آخذة بخطام الجمل وجعل أولئك يقصدون الجمل وقالوا : لا يزال الحرب قائماً مادام هذا الجمل واقفاً وأخذ زمام الجمل بني ضبة فكلما قتل واحد ممن يمسك الجمل يقوم غيره حتى قتل منهم أربعون رجلاً قالت عائشة : مازال جملي واقفاً معتدلاً حتى فقدت أصوات بني ضبة ثم أخذ الخطام سبعون رجلاً من قريش وكل واحد يقتل بعد صاحبه فكان منهم محمد بن طلحة المعروف بالسجاد وأخذ الخطام عمرو بن الشرف فجعل لا يدنو منه أحد إلا حطه بالسيف فأقبل إليه الحارث بن زهير الأزدي , واختلفا ضربتين فقتل كل واحد صاحبه , وأحدق أهل النخبة والشجاعة بعائشة فكان لا يأخذ الراية ولا خطام الجمل إلا شجاع معروف فيقتل من قصده ثم يُقتل بعد ذلك وفقئت عين عدي بن حاتم الطائي ذلك اليوم ، ثم تقدم عبد الله بن الزبير فأخذ بخطام الجمل وجرح في رأسه(15/50)
جرحاً شديداً ، وجرح مروان بن الحكم أيضاً ثم جاء رجل فضرب الجمل على قوائمه فعقره وسقط إلى الأرض فسمع له عجيج ما سمع أشد منه ولا أنفذ منه , ولما سقط البعير إلى الأرض انهزم من حوله من الناس وحمل هودج عائشة وأمر علي نفراً أن يحملوا الهودج من بين القتلى وجاء إليها أخوها محمد فسألها هل وصل إليك شئ من الجراح ؟ فقالت : لا وأقام علي بظاهر البصرة ثلاثاً ثم صلى على القتلى من الفريقين وكان مجموع القتلى يوم الجمل من الفريقين عشرة آلف . خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء رحمهم الله ورضي عن الصحابة منهم . وقد سأل بعض أصحاب علي علياً أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير فأبى عليهم فطعن فيه السبئية وقالوا كيف يحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم ؟ فبلغ ذلك علياً فقال أيكم يحب أن تصير أم المؤمنين في سهمه ؟ فسكت القوم . ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة بعث إليها علي - رضي الله عنه - بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها أن يرجع إلا أن يحب المقام واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وسير معها أخاها محمد وسار معها علي مودعاً ومشيعاً أميالاً وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك ثم رجعت إلى المدينة - رضي الله عنه - ) (1)
وقعة صفين
__________
(1) –البداية والنهاية( 7- 232- 244) بتصرف(15/51)
(روى الإمام أحمد عن ابن سيرين أنه قال : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرات الألوف لم يحضرها منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين , وقال الإمام أحمد حدثنا أمية بن خلد قال لشعبة إن أبا شيبة روى عن بن أبي ليلى قال : شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلاً , فقال : كذب أبو شيبة والله لقد ذاكرنا الحكم في ذلك فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت , وقد قيل أنه شهدها من أهل بدر سبأ بن حنيف وكذا أبو أيوب الأنصاري قاله شيخنا العلامة ابن تيميه في كتاب الرد على الرافضة (1)
__________
(1) – قلت( إن سبب تسميتهم بهذا الاسم لأنهم طلبوا من زيد بن علي بن الحسين بن علي البراءة من أبى بكر وعمر فأبى فقالوا : إذًا نرفضك . فمن ذلك الوقت سُموا الرافضة . وسميت شيعته الزيدية ). انظر العبر في خبر من غبر ج1/ 114(15/52)
وأما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فإنه لما فرغ من وقعة الجمل ودخل البصرة وشيع أم المؤمنين عائشة لما أرادت الرجوع إلى مكة سار من البصرة إلى الكوفة فنزل في الرحبة وصلى في الجامع الأعظم ركعتين ثم خطب الناس فحثهم على الخير ونهاهم عن الشر , ثم بعث إلى جرير بن عبد الله وكان على همذان من زمن عثمان وإلى الأشعث بن قيس وهو على نيابة أذربيجان من زمن عثمان - رضي الله عنه - أن يأخذ البيعة على من هنالك من الرعايا ثم يقبلا إليه ففعلا ذلك . فلما أراد علي رضي الله عنه أن يبعث إلى معاوية - رضي الله عنه - يدعوه إلى بيعته قال جرير بن عبد الله أنا اذهب إليه يا أمير المؤمنين فإن بيني وبينه وداً , فآخذ لك البيعة منه وكتب معه كتاباً إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته . فلما انتهى إليه جرير بن عبد الله أعطاه الكتاب فطلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان أو يسلم إليهم قتلة عثمان فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا , وخرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من الكوفة عازماً على الدخول إلى الشام واستخلف على الكوفة أبا مسعود , وبلغ معاوية أن علياً قد خرج بنفسه فاستشار عمرو بن العاص فقال له : اخرج أنت أيضاً بنفسك وتهيأ أهل الشام وتأهبوا وخرجوا إلى نحو الفرات من ناحية صفين حيث يكون َمقدم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فتلقاهم أبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي في مقدمة أهل الشام فتوافقوا , ودعاهم زياد بن النضر أمير مقدمة أهل العراق إلى البيعة فلم يجيبوه بشيء فكتب إلى علي بذلك فبعث إليهم علي الأشتر النخعي أميراً وعلى ميمنته زياد وعلى ميسرته شريح , وأمره أن لا يتقدم إليهم بقتال حتى يبدءوه بالقتال ولكن ليدعُهم إلى البيعة مرة بعد مرة , فإن امتنعوا فلا يقاتلهم حتى يقاتلوه ولا يقرب منهم قرب من يريد الحرب ولا يبتعد منهم ابتعاد من يهاب الرجال(15/53)
فلما كان صباح اليوم الثالث وبعد المناوشات التي حصلت في اليومين أقبل علي - رضي الله عنه -في جيوشه وجاء معاوية- رضي الله عنه - في جنوده فتواجه الفريقان وتقابلت الطائفتان فبالله المستعان .فتواقفوا طويلاً وذلك بمكان يقال له صفين وذلك في أوائل ذي الحجة ثم عدل علي - رضي الله عنه - فارتاد لجيشه منزلاً , وقد كان معاوية سبق بجيشه فنزلوا على مشرعة الماء في أسهل موضع وأفسحه فلما نزل علي نزل بعيداً من الماء وجاء سرعان أهل العراق ليردوا من الماء فمنعهم أهل الشام , فوقع بينهم مقاتلة بسبب ذلك . فعطش أصحاب علي عطشاً شديداً فبعث علي الأشعث بن قيس الكندي في جماعة ليصلوا إلى الماء فمنعهم أولئك وقالوا : موتوا عطشاً كما منعتم عثمان من الماء فتراموا بالنبل ساعة . ثم تطاعنوا بالرماح أخرى ثم تقاتلوا بالسيوف بعد ذلك كله، وأمد كل طائفة أهلها حتى جاء الأشتر النخعي من ناحية العراقيين وعمرو بن العاص من ناحية الشاميين ، واشتدت الحرب بينهم أكثر مما كانت , ثم مازال أهل العراق يكشفون الشاميين عن الماء حتى أزاحوهم عنه وخلوا بينهم وبينه ثم اصطلحوا على الورود حتى صاروا يزدحمون لا يكلم أحد أحداً ولا يؤذي إنسان إنساناً وكان من أمراء علي على الحرب الأشتر النخعي وحجر بن عدي وشبيب بن ربعي وخالد بن المعتمر وزياد بن النضر وزياد بن حفصة وسعيد بن قيس، ومعقل بن قيس وقيس بن سعد، وكذلك كان معاوية يبعث على الحرب كل يوم أميراً فمن أمرائه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والأعور السلمي وحبيب بن مسلم وذي الكلاع الحمير ي وعبيد الله بن عمر بن الخطاب ،وشرحبيل بن السمط وحمزة بن مالك الهمداني وربما اقتتل الناس في اليوم مرتين وذلك في شهر ذي الحجة بكامله . وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عباس عن أمر علي له بذلك . فلما انسلخ ذي الحجة ودخل المحرم تداعى الناس للمتاركة لعل الله يصلح بينهم على أمر يكون فيه حقن دمائهم قال(15/54)
ابن جرير رحمه الله : ثم لم تزل الرسل تتردد بين علي ومعاوية والناس كافون عن القتال حتى انسلخ عن المحرم من هذه السنة ولم يقع بينهم صلح فأمر علي بن أبي طالب يزيد بن الحارث الجشمي فنادى أهل الشام عند غروب الشمس ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم : إني قد استأنيتكم لتراجعوا الحق وأقمت عليكم الحجة فلم تجيبوا , وإني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . ففزع أهل الشام إلى أمرائهم فاعلموهم بما سمعوا المنادي ينادي فنهض عند ذلك معاوية وعمرو بن العاص فعبيا الجيش ميمنة وميسرة وبات علي يعبي جيشه من ليلته فجعل على خيل أهل الكوفة الأشتر النخعي وعلى رجالاتهم عمار بن ياسر وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف وعلى رجالاتهم قيس بن سعد وهاشم بن عتبة وعلى قرائهم سعد بن فدكي التميمي وتقدم علي إلى الناس وأمرهم أن لا يبدءوا واحداً بالقتال حتى يبدأ أهل الشام وأنه لا يذفف جريح ولا يتبع مدبر ولا يكشف ستر امرأة ولا تهان، وإن شتمت أمراء الناس وصلحاءهم ، وبرز معاوية صبح تلك الليلة وقد جعل على الميمنة ابن ذي الكلاع الحميري وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة الفهري وعلى المقدمة أبو الأعور السلمي وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص وعلى رجالاتهم الضحاك بن قيس والتقى الجيشان أول يوم صفر وكان ذلك يوم الأربعاء فاقتتلوا ذلك اليوم قتالاً شديداً ثم رجعوا من آخر يومهم وقد انتصف بعضهم من بعض وتكافئوا في القتال ثم أصبحوا من الغد يوم الخميس وأمير حرب أهل العراق هاشم بن عتبة وأمير الشاميين يومئذ أبو الأعور السلمي فاقتتلوا قتالاً شديداً تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال ثم تراجعوا من آخر يومهم وقد صبر كل من الفريقين للآخر وتكافئوا ثم خرج في اليوم الثالث وهو يوم الجمعة عمار بن ياسر من ناحية أهل العراق وخرج إليه عمرو بن العاص في الشاميين فاقتتل الناس قتالاً شديداً وحمل عمار على عمرو بن العاص فأزاله عن موقفه وبارز زياد بن(15/55)
النضر الحارثي وكان على الخيالة رجلاً فلما تواقفا تعارفا فإذا هما أخوان من أم فانصرف كل واحد منهما إلى قومه وترك صاحبه ،وتراجع الناس من العشي وقد صبر كل فريق لصاحبه وخرج في اليوم الرابع وهو يوم السبت محمد بن علي وهو ابن الحنفية ، ومعه جمع عظيم فخرج إليه في كثير من جهة الشاميين عبيد الله بن عمر فاقتتل الناس قتالاً شديداً وبرز عبيد الله بن عمر فطلب من ابن الحنفية أن يبرز إليه فبرز إليه فلما كادا أن يقتربا قال علي :من المبارز ؟ قالوا محمد ابنك وعبيد الله , فيقال أن علياً حرك دابته وأمر ابنه أن يتوقف وتقدم إلى عبيد الله فقال له :تقدم إلي قال لهُ : لا حاجة لي في مبارزتك ، فقال : بلى، فقال : لا ! فرجع عنه علي وتحاجز الناس يومهم ذلك ثم خرج في اليوم الخامس وهو يوم الأحد في العراقيين عبد الله بن عباس وفي الشاميين الوليد بن عقبة واقتتل الناس قتالاً شديداً ويقال إن ابن العباس قاتل يومئذ قتالاً شديداً بنفسه - رضي الله عنه - ثم خرج في اليوم السادس , وهو يوم الاثنين . وعلى الناس من جهة العراقيين قيس بن سعد ومن جهة أهل الشام ابن ذي الكلاع فاقتتلوا قتالاً شديداً أيضاً وتصابروا ثم تراجعوا ثم خرج الأشتر النخعي في اليوم السابع وهو يوم الثلاثاء وخرج إليه قرنُهُ حبيب بن مسلمة فاقتتلوا قتالاً شديداً أيضاً ولم يغلب أحد أحداً في هذه الأيام كلها وقد ذكر علماء التاريخ وغيرهم أن علياً رضي الله عنه بارز في أيام صفين وقاتل وقتل خلقاً حق ذكر بعضهم أنه قتل خمسمائة فمن ذلك أن كريب بن الصباح قتل أربعة من أهل العراق ثم وضعهم تحت قدميه ثم نادى : هل من مبارز ؟ فبرز إليه علي فتجاولا ساعة ثم ضربه علي فقتله ثم قال علي هل من مبارز فبرز إليه الحارث ابن وداعة الحميري فقتله، ثم برز إليه داود بن الحارث الكلاعي فقتله، ثم برز إليه المطاع بن المطلب القيسي فقتله , فتلا علي قوله تعالى "والحرمات قصاصٌ ". البقرة (194)(15/56)
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الرحمن بن أبي زياد قال : إني لأسير مع معاوية منصرفه من صفين بينه وبين عمرو بن العاص فقال عبد الله بن عمرو : يا أبتي أما سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول لعمار " ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية " قال : فقال عمرو لمعاوية : ألا تسمع ما يقول عبد الله هذا ؟ فقال معاوية : يزال يأتينا بهنة بعد هنة أ نحن قتلناه ؟ إنما قتله الذين جاءوا به) (1).
وثبت في الصحيحين عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: " يأيها الناس اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر لرددت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أمره، و والله ما حملنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يقطعنا إلا أسهل بنا إلى أمر نعرفه غير أمرنا هذا فإنا لا نسد منه خصما إلا انفتح لنا غيره لا ندري كيف نبالي له"(2)
ليلة الهر ير
__________
(1) – البداية والنهاية 7- 250 -267 بتصرف
(2) –رواه البخاري في الجزية والمودعة 3181 ومسلم في الجهاد والسير 1785 نقلا عن حاشية بيومي 7- 264(15/57)
يقول ابن كثير: ( قال ابن جرير الطبري : وقد ذكر أن عماراً لما قتل قال علي لربيعه وهمدان : أنتم درعي ورمحي فانتدب له نحو اثنا عشر ألفاً وتقدمهم علي ببغلته فحمل وحملوا معه حملة رجل واحد وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية إلى أن قال ثم قدم على ابنه محمداً في عصابة كثيرة من الناس فقاتلوه قتالاً شديداً ثم تبعه في عصابة أخرى فحمل بهم فقتل في هذا الموطن خلق كثير من الفريقين لا يعلمهم إلا الله وقتل من العراقيين خلق كثير أيضاً وطارت أكف ومعاصم ورؤوس عن كواهلها . رحمهم الله , ثم حانت صلاة المغرب فما صلى بالناس إلا إماء صلاتي العشاء واستمر القتال في هذه الليلة كلها وهي من أعظم الليالي شراً بين المسلمين وتسمى هذه الليلة ليلة الهر ير وكانت ليلة الجمعة ، تقصفت الرماح ونفذت النبال وصار الناس إلى السيوف وعلي رضي الله عنه يحرض القبائل ويتقدم إليهم يأمر بالصبر والثبات وهو أمام الناس في قلب الجيش وعلى الميمنة الأشتر تولاها بعد قتل عبد الله بن بديل عشية الخميس ليلة الجمعة . وعلى المسيرة ابن عباس والناس يقتتلون من كل جانب فذكر غير واحد من علمائنا علماء السير أنهم اقتتلوا بالرماح حتى تقصفت وبالنبال حتى فنيت وبالسيوف حتى تحطمت ثم صاروا إلى أن تقاتلوا بالأيدي والرمي بالحجارة والتراب في الوجوه وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان وكل واحد منهم يهمر على الأخر ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا فإنا لله وإنا إليه راجعون ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك وصلى الناس الصبح إيماء وهم في القتال حتى تضاحي النهار وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح وقالوا :هذا بيننا وبينكم قد فني الناس فمن للثغور؟ومن لجهاد المشركين والكفار ) (1)
رفع أهل الشام المصاحف
__________
(1) - البداية والنهاية (7/ 269) بتصرف(15/58)
( فلما رفعت المصاحف قال أهل العراق : نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه.ويروى أن علياً قال : عباد الله أمضوا إلى حقكم وصدقكم وقتال عدوكم فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة معهم من القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج : يا علي أجب كتاب الله إذ دعُيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان فقال علي ، فإن تطيعوني فقاتلوا ، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم , قالوا : فابعث إلى الأشتر فليأتك ويكف عن القتال فبعث إليه علي ليكف عن القتال ، فأقبل الأشتر إلى علي وترك القتال فقال : يا أهل العراق يا أهل الذل والوهن أ حين علوتم القوم وضنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها , وسنة من أنزلت عليه . فلا تجيبوهم أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح , قالوا : لا قال : أمهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر، قالوا إذاً ندخل معك خطيئتك . ثم أخذ الأشتر يناظر أولئك القراء الداعين إلى إجابة أهل الشام بما حاصله : إن كان أول قتالكم هؤلاء حقاً فاستمروا عليه , وإن كان باطلاً فاشهدوا لقتلاكم بالنار فقالوا : دعنا منك فإنا لا نطيعك ولا صاحبك أبداً , ونحن قاتلنا هؤلاء في الله، وتركنا قتلهم لله، فقال لهم الأشتر :خُدعتم والله فانخدعتم , ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم . يا أصحاب السوء كنا نضن صلاتكم زهادة الدنيا وشوقاً إلى لقاء الله . فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت، يا أشباه النيب الجلالة ما أنتم بربانيين بعدها ، فابعدوا كما بعدوا القوم الظالمون ، فسبوه وسبهم فضربوا وجه دابته بسياطهم وجرت بينهم أمور طويلة ورغب أكثر الناس من العراقيين وأهل الشام بكمالهم إلى المصالحة والمسالمة مدة لعله يتفق أمر يكون فيه حقن لدماء المسلمين فإن الناس تفانوا في هذه المدة ولا سيما في هذه الثلاثة الأيام المتأخرة إلى آخر أمرها ليلة الجمعة وهي(15/59)
ليلة الهر ير. كل من الجيشين فيه من الشجاعة والصبر ما ليس يوجد في الدنيا مثله ، ولهذا لم يفر أحد عن أحد , بل صبروا حتى قتل من الفريقين فيما ذكره غير واحد سبعون ألفاً. خمسة وأربعون من أهل الشام وخمسة وعشرون من أهل العراق , واختلفا في مدة المقام بصفين فقال سيف بن عمر سبعة أشهر أو تسعة أشهر وقيل أقل من ذلك والله أعلم وقال الزهري : بلغني أنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون نفساً ، ويقول ابن كثير هذا كلهُ ملخص من كلام ابن جرير ،وابن الجوزي في المنتظم وقال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم . وذكر أهل صفين فقال : كانوا عرباً يعرف بعضهم بعضاً في الجاهلية فالتقوا في الإسلام معهم على الحمية وسنة الإسلام فتصابروا واستحيوا من الفرار وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء فيستخرجون قتلاهم فيدفنوهم .و قال الشعبي : هم أهل الجنة . لقي بعضهم بعضاً فلم يفر أحد من أحد) (1)
قصة التحكيم
قال القاضي أبو بكر ابن العربي : قاصمة التحكيم ( وقد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه ما لا يرضاه الله وإذا لاحظتموه بعين المروءة دون الديانة. رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدمُ الدين وفي الأقل جهلٌ متين. والذي يصح من ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط (2)
__________
(1) - البداية والنهاية (7/ 270-275) بتصرف
(2) –هو الإمام أبو عمرو خليفة بن خياط العصفري البصري ، أحد أوعية العلم ، ومن شيوخ الإمام البخاري . قال عنه ابن عدي : هو صدوق مستقيم الحديث من متيقظي رواة السنة توفي سنة 240هـ . نقلاً عن حاشية محب الدين(15/60)
والدار ُقطني أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة ألف والشامية في سبعين ألفاً أو تسعين ألفاً ونزلوا على الفرات بصفين واقتتلوا في أول يوم وهو الثلاثاء على الماء فغلب أهل العراق عليه. ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة سبع وثلاثين ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت ورفعت المصاحف من أهل الشام ودعوا إلى الصلح وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق فكان من جهة علي أبو موسى الأشعري ، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص وكان أبو موسى رجلاً تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً حسبما بيناه في كتاب " سراج المريدين " أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم -إلى اليمن مع مُعاذ وقدمه عمر وأثنى عليه بالفهم وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول ، وأن ابن العاص كان ذا دهاء وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيداً لما أرادت من الفساد .اتبع في ذلك بعض الجهال بعضاً وصنفوا فيه حكايات ، وغيره من الصحابة وكان أحذق منه وأدهى، وإنما بنوا ذلك على أن عمراً لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر .وقالوا .[يقصد الطائفة التاريخية الركيكة }
:إنهما لما اجتمعا بأذرُح من دومه الجندل وتفاوضا اتفقا على أن يخلعا الرجلين فقال عمرو لأبي موسى : اسبق بالقول فتقدم فقال : إني نظرتُ فخلعت علياً عن الأمر وينظر المسلمون لأنفسهم كما خلعت سيفي هذا من عنقي أو من - عاتقي – وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض . وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال : إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر كما أثبت سيفي هذا في عاتقي وتقلده . فأنكر أبو موسى فقال عمرو , كذلك اتفقنا وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف..(15/61)
قال القاضي أبو بكر ابن العربي : هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك فتوارثه أهلُ المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع وإنما الذي روى الأئمة الثقاة الإثبات أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر في عُصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر ونحوه , وعزل عمرو معاوية , وذكر الدار قطني بسنده إلى حضين بن المنذر لما عزل عمرو معاوية جاء [ابن حضين بن المنذر ] فضرب فسطا طه قريباً من فسطاط معاوية فبلغ نبؤه معاوية فأرسل إليه فقال إنه بلغني عن هذا [ أي عمرو ] كذا وكذا (1) فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه , فأتيته فقلت اخبرني عن هذا الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه ؟ قال : قد قال الناس في ذلك ما قالوا ,ووالله ما كان الأمر على ما قالوا (2)ولكن قلت لأبي موسى : ما ترى في هذا الأمر ؟قال : أرى أنه في النفر الذين توفي رسول - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ . قلت : فأين تجعلني أنا ومعاوية ؟ فقال : إن يُستعن بكما ففيكما معُونة وإن يُستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما .....إلى أن قال ابن العربي: فهذا كان بدءُ الحديث ومنتهاه : فاعرضوا عن الغاوين ، وازجروا العاوين وعرجوا عن سبيل الناكثين ، إلى سنن المهتدين ، وأمسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين ، وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد هلك من كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خصمه. ودعوا ما مضى، فقد قضى الله ما قضى ، وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقاداً وعملاً ولا تسترسلوا بألسنتكم فيما لا يعنيكم مع كل ناعق اتخذ الدين هملاً، فإن الله لا يضيعُ أجر من أحسن عملاً . ورحم الله الربيع بن خثيم ت 64 هـ. فإنه لما
__________
(1) - أي عزله علياً ومعاوية وتفويضه الأمر إلى كبار الصحابة
(2) -- أي أنهما لم يعزلا ولم يوليا ولكن تركا الأمر لأعيان الصحابة(15/62)
قيل له: قتل الحُسين قال اقتلوه ؟ قالوا : نعم فقال " اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " الزمر الآية 46 ولم يزد على هذا أبداً . فهذا العقل والدين ،والكف عن أحوال المسلمين والتسليم لرب العالمين) (1)
خروج الخوارج
(وذلك أن الأشعث بن قيس مر على ملأ من بني تميم فقام إليه عروة بن جرير فقال : أتحكمون في دين الله الرجال ؟ وقد أخذ هذه الكلمة من هذا الرجل طوائف من أصحاب على من القراء وقالوا : لا حكم إلا لله فسموا المحكمية ، وتفرق الناس إلى بلادهم من صفين وخرج معاوية إلى دمشق بأصحابه ورجع علي إلى الكوفة ولما كان قد قارب دخول الكوفة اعتزل من جيشه قريب من - اثنى عشر ألفاً – وهم الخوارج وأبوا أن يساكنوه في بلده ، ونزلوا بمكان يقال له حر وراء وأنكروا عليه أشياء فيما يزعمون أنه ارتكبها فبعث إليهم علي - رضي الله عنه -عبد الله بن عباس فناظرهم فرجع أكثرهم وبقي بقيتهم ، فقاتلهم علي بن أبي طالب وأصحابه والمقصود أن هؤلاء الخوارج هم المشار إليهم في الحديث الصحيح عن أبي سعيد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) رواه مسلم برقم 1065 والحديث لهُ عدة طرق ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية . وهذا الحديث من دلائل النبوة إذ قد وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام وفيه الحكم بإسلام الطائفتين أهل الشام وأهل العراق ، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام ، من تكفيرهم أهل الشام وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن علياً هو المصيب و إن كان معاوية مجتهداً وهو مأجور إن شاء الله ) (2)
خروج الخوارج من الكوفة ومبارزتهم علياً
__________
(1) – العواصم من القواصم ص 172-180 بتصرف
(2) –البداية والنهاية 7-275-276 بتصرف(15/63)
(لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومه الجندل أشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على علي وصرحوا بكفره، وتعرضوا لعلي في خطبه واسمعوه السب والشتم والتعريض بآيات من القرآن , وذلك أن علياً قام خطيباً في بعض الجُمع فذكر أمر الخوارج فذمه وعابه. فقام جماعة منهم كل يقول لا حكم إلا لله .
وقام رجل منهم وهو واضع إصبعه في أذنيه يقول : " ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " الزمر65- وروي أن علياً لما بعث أبا موسى لإنفاذ الحكومة اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم خطبة بليغة زهدهم في هذه الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم قال : فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد إلى بعض كور الجبال أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه الأحكام الجائرة . ثم قام حرقوص بن زهير فقال بعد حمد الله والثناء عليه : إن المتاع بهذه الدنيا قليل ،وإن الفراق لها وشيك ،فلا يدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها ، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم مُحسنون " النحل 128/ فقال سنان بن حمزة الأسدي : يا قوم إن الرأي ما رأيتم وإن الحق ما ذكرتم فولوا أمركم رجلاً منكم فإنه لابد لكم من عماد وسناد ومن راية تحفون بها وترجعون إليها فبعثوا إلى عبد الله بن وهب الراسبي وعرضوا عليه الإمارة فقبلها وقال : أما والله لا أقبلها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقاً من الموت ، واجتمعوا أيضاً في بيت زيد بن حصن الطائي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم منها قوله تعالى " ياداودُ إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " ص.26(15/64)
وقوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " المائدة 44- ثم بكى رجل منهم يقال لهُ عبد الله بن سخبرة السلمي ، ثم حرض أولئك على الخروج على الناس ،وقال في كلامه : اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم ، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين لهُ العاملين بأمره .وإن قتلتم فأي شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته؟ ثم يعلق ابن كثير على هذه الرواية فيقول " قلت : وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم فسبحان من نوع خلقه كما أراد ، وسبق في قدره العظيم ، وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون في قوله تعالى { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال والأشقياء في الأقوال والأفعال اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين ..واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة وعندهم أنهم متقربون بذلك . فهم لا يصطلى لهم بنار ، ولا يطمع في أن يؤخذ منهم بثأر ، وبالله المستعان "ثم بلغ علياً أن الخوارج قد عاثوا في الأرض فساداً وسفكوا الدماء وقطعوا السبل واستحلوا المحارم ، وكان من جملة من قتلوه عبد الله بن خباب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسروه وامرأته معه وهي حامل فاقتادوه بيده فبينما هو يسير معهم إذ سقطت تمرة من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه فقال له آخر : بغير إذن ولا ثمن ؟ فألقاها ذاك من فمه، ومع هذا قدموا عبد الله بن خباب فذبحوه ، وجاءوا إلى امرأته فقالت : إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله ، فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها ، فلما بلغ الناس هذا من صنيعهم خافوا إن هم ذهبوا إلى الشام واشتغلوا بقتال أهله أن يخلفهم هؤلاء في(15/65)
ذراريهم وديارهم بهذا الصنع ،فأرسل علي إلى الخوارج رسولاً من جهته وهو الحرب بن مرة العبدي فقال : أخبرلي خبرهم ، واعلم لي أمرهم واكتب إلى به على الجلية فلما قدم عليهم قتلوه ولم ينظروه فلما بلغ ذلك علياً عزم على الذهاب إليهم أولاً قبل أهل الشام )(1).
مسير أمير المؤمنين علي إلى الخوارج
(بعث علي إلى الخوارج : أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم حتى أقتلهم ثم أنا تارككم وذاهب إلى العرب يعني أهل الشام فبعثوا إلى علي يقولون : كلنا قتل إخوانكم ونحن مستحلون دماءكم فتقدم إليهم قيس بن سعد بن عبادة فوعظهم فيما ارتكبوا من الأمر العظيم والخطب الجسيم فلم ينفع فيهم .
وكذلك أبو أيوب الأنصاري وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب فلم يكن لهم جواب إلا أن تنادوا فيما بينهم أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيؤا للقاء الرب عز وجل والرواح الرواح إلى الجنة وتقدموا فاصطفوا للقتال وتأهبوا للنزال فأمر علي أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية الأمان للخوارج ويقول لهم : من جاء إلى هذه الراية فهو آمن ، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن فانصرف منهم طوائف كثيرون .
وكانوا أربعة آلاف فلم يبق منهم إلا ألف أو أقل مع عبد الله بن وهب الراسبي فزحفوا إلى علي فقدم علي بين يديه الخيل وقال لأصحابه : كفوا عنهم حتى يبدءوكم , وأقبلت الخوارج يقولون لا حكم إلا لله ، والرواح الرواح إلى الجنة فحملوا على الخيالة الذين قدمهم علي ففرقوهم حتى أخذت طائفة من الخيالة إلى الميمنة وأخرى إلى الميسرة فاستغلبهم الرماة بالنبل ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فأناموا الخوارج فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول وقتل أمراؤهم عبد الله بن وهب , وحرقوص بن زهير , وشريح بن أوفي , وعبد الله بن سخبرة السلمي قبحهم الله .
__________
(1) –البداية والنهاية 7 /281- 285 بتصرف(15/66)
ولما أقبل أهل النهروان جعل الناس يقولون : الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم فقال علي : كلا والله إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء ، وقال الهيثم بن عدي عن علقمة بن عامر قال : سئل علي عن أهل النهروان أ مشركون هم ؟قال : من الشرك فروا قيل أ فمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً فقيل : فما هم يا أمير المؤمنين ؟ قال إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا فهذا ما أورده ابن جرير الطبري وغيره في هذا المقام) (1).
بعض الأحاديث النبوية الواردة في الخوارج
الأحاديث الواردة في صفات الخوارج وذمهم كثيرة جداً كما ذكرها ابن كثير في تاريخه ونظراً لأن المجال لا يتسع لذكرها اقتصر على ذكر ثلاثة أحاديث منها وهي : ( 1 - قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا الأعمش وعبد الرحمن عن سفيان عن الأعمش بن خيثمة عن سويد بن غفلة قال : قال علي : إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلئن أخرّ من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول : "يخرج قوم من أمتي في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم " قال عبد الرحمن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم " يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قاتلهم عند الله يوم القيامة " وأخرجاه في الصحيحين من طرق عن الأعمش .
__________
(1) –المصدر السابق ص285-287 بتصرف(15/67)
2- الحديث الثاني عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يخرج قوم في آخر الزمان سفهاء الأحلام , أحداث أو حدثاء الأسنان يقولون من خير قول الناس يقرأون القرآن بألسنتهم لا يعدوا تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية فمن أدركهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجراً عظيماً عند الله لمن قتلهم , قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح .
3- الحديث الثالث روى أحمد عن جابر بن عبد الله قال : لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم هوازن بالجعرانة قام رجل من بني تميم فقال : اعدل يا محمد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ويلك ومن يعدل إن لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أعدل قال : فقال عمر : يا رسول الله ألا أقوم فأقتل هذا المنافق ؟ قال : " معاذ الله أن يتسامع الأمم أن محمداً يقتل أصحابه " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن هذا وأصحاباً له يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )(1)
صفة مقتل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
__________
(1) - المصدر السابق 7-287-294 بتصرف(15/68)
(عن ابن جرير الطبري وغير واحد من علماء التاريخ والسير أن ثلاثة من الخوارج وهم عبد الرحمن بن عمرو المعروف بابن ملجم الحميري ، والبرك ابن عبد الله التميمي ، وعمرو بن بكر التميمي ، اجتمعوا فتذاكروا قتل علي إخوانهم من أهل النهروان فترحموا عليهم , وقالوا : ماذا نصنع بالبقاء بعدهم ؟ كانوا لا يخافون في الله لومه لائم . فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلال فقتلناهم فأرحنا منهم البلاد وأخذنا منهم ثأر إخواننا ؟ فقال ابن ملجم : أما أنا فأكفيكم علي بن أبي طالب وقال البرك وأنا أكفيكم معاوية وقال عمرو بن بكر : وأنا أكفيكم عمرو بن العاص . فتعاهدوا وتواثقوا أن لا ينكص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه فأخذوا أسيافهم فسموها واتعدوا السبع عشر من رمضان , فأما ابن ملجم فسار إلى الكوفة فدخلها وكتم أمره حتى عن أصحابه من الخوارج الذين هم بها , فبينما هو جالس في قوم من بني تيم الرباب يتذاكرون قتلاهم يوم النهروان إذ أقبلت امرأة منهم يقال لها : قطام بنت الشنجة , وقد قتل علي يوم النهروان أباها وأخاها وكانت فائقة الجمال مشهورة به وكانت قد انقطعت في المسجد الجامع تتعبد فيه فلما رآها ابن ملجم سلبت عقله وخطبها إلى نفسه فاشترطت عليه ثلاثة آلاف درهم وخادماً وقينه وأن يقتل لها علي بن أبي طالب قال : فهو لك و والله ما جاء بي إلى هذه البلدة إلا قتل علي فتزوجها ودخل بها ثم شرعت تحرضه على ذلك وندبت له رجل من قومها يقال له وردان واستمال ابن ملجم قبحه الله رجلاً يقال له : شبيب بن نجدة الأشجعي الحروري ودخل شهر رمضان فواعدهم ابن ملجم ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت وقال: هذه الليلة التي واعدت أصحابي فيها أن يثأروا بمعاوية وعمرو بن العاص فجاء هؤلاء الثلاثة وهم ابن ملجم ووردان وشبيب وهم مشتملين على سيوفهم فجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي فلما خرج جعل ينهض الناس من النوم إلى الصلاة ويقول الصلاة الصلاة عباد(15/69)
الله فثار إليه شبيب بالسيف فضربه فوقع في الطاق فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه فسال دمه على لحيته - رضي الله عنه - ولما ضربه ابن ملجم قال : لا حكم إلا لله ليس لك يا علي ولا لأصحابك وجعل يتلو قوله تعالى :" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد "[البقرة : 207 ] ونادى علي : عليكم به وهرب وردان فأدركه رجل من حضرموت فقتله وذهب شبيب فنجا بنفسه ومسك ابن ملجم وقدم علي جُعده بن هُبيرة بن أبي وهب فصلى بالناس صلاة الفجر وحمل علي إلى منزله وحمل إليه عبد الرحمن ابن ملجم فأوقف بين يديه وهو مكتوف – قبحه الله – فقال له : أي عدو الله ألم أحسن إليك ؟ قال : بلى , ثم قال علي : إن متُ فاقتلوه وإن عشتُ فأنا أعلم كيف أصنع به , فقال جندب بن عبد الله : يا أمير المؤمنين إن متَ نبايع الحسن ؟ فقال : لا أمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر ولما احتضر علي جعل يكثر من قول لا إله إلا الله ولا يتلفظ بغيرها . وقد قيل إن آخر ما تكلم به " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"[ الزلزلة : 7, 8] .
وأما صاحب معاوية - وهو البرك – فإنه حمل عليه وهو خارج إلى صلاة الفجر في هذا اليوم فضربه بالسيف وقيل بخنجر مسموم فجاءت الضربة في وركه ومسك الخارجي فقتل وجاء الطبيب فقال لمعاوية : إن جرحك مسموم فإما أن أكويك وإما أن أسقيك شربة فيذهب السم ولكن ينقطع نسلك فقال معاوية : أما النار فلا طاقة لي بها , وأما النسل ففي يزيد وعبد الله ما تقر به عيني فسقاه شربة فبرأ من ألمه وجراحه وانقطع نسله وسلم - رضي الله عنه - ومن يومئذ عملت المقصورة في المسجد الجامع وجعل الحرس حولها في حال السجود فكان أول من اتخذها معاوية لهذه الحادثة.(15/70)
وأما صاحب عمرو بن العاص وهو - عمرو بن بكر – فإنه كمن له ليخرج إلى الصلاة فاتفق أن عرض لعمرو بن العاص مغص شديد في ذلك اليوم فلم يخرج إلا نائبه للصلاة وهو خارجة بن أبي حبيبة من بني عامر ابن لؤي وكان على شرطة عمرو بن العاص فحمل عليه الخارجي فقتله وهو يعتقده عمرو بن العاص , فلما أخذ الخراجي قال : أردت عمراً وأراد الله خارجة , فأرسلها مثلاً , وقتل قبحه الله .
وعن جعفر بن محمد الصادق قال : صُلَّى عَلَى علِيَّ ليلاً ودفن بالكوفة وعمي موضع قبره , ولكنه عند قصر الإمارة وقال ابن الكلبي(1)
__________
(1) - تنبيه .الكلبي قال: عنه ابن تيميه في منهاج السنة 5/82-83 أثناء رده على أحد الروافض يقول شيخ الإسلام (......يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن يحيى ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي وأمثالهما من الكذابين ولهذا استشهد هذا الرافضي بما صنفه هشام الكلبي في ذلك وهو من أكذب الناس وهو شيعي يروي عن أبيه وعن أبي مخنف وكلاهما متروك كذاب وقال الإمام أحمد في هذا الكلبي ما ظننت أن أحدا يحدث عنه إنما هو صاحب سمر وشبه وقال الدار قطني هو متروك وقال ابن عدي هشام الكلبي الغالب عليه الأسمار ولا أعرف له في المسند شيئا وأبوه أيضا كذاب وقال زائدة والليث وسليمان التيمي هو كذاب وقال يحيى ليس بشيء كذاب ساقط وقال ابن حبان وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه) وما نقلت عنه هذا المقطع القصير الذي جعلتهُ بين قوسين حتى وجدت الخطيب البغدادي يقول " باب التشدد في أحاديث الأحكام والتجاوز في فضائل الأعمال " ثم روى بسنده إلى الإمام احمد بن حنبل -يرحمه الله- أنه قال : إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد ، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكماً ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد" ارجع إلى كتاب (الكفاية في علم الرواية ص212-223).(15/71)
:( شهد دفنه في الليل الحسن والحسين وابن الحنفية وعبد الله بن جعفر وغيرهم من أهل بيتهم فدفنوه في ظاهر الكوفة وعموا قبره خيفة عليه من الخوارج وغيرهم ).
وحاصل الأمر أن علياً قتل يوم الجمعة سحراً وذلك لسبع عشرة خلت من رمضان من سنة أربعين ودفن بالكوفة على ثلاث وستين سنة - رضي الله عنه - وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر فلما مات علي - رضي الله عنه - استدعى الحسن ابن ملجم فقال له ابن ملجم : إني أعرض عليك خصلة قال : وما هي ؟ قال إني كنت عاهدت الله عند الحطيم أن أقتل علياً ومعاوية أو أموت دونهما فإن خليتني ذهبت إلى معاوية على أني إن لم أقتله أو قتلته وبقيت فلله علي أن أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك فقال له الحسن : كلا والله حتى تعاين النار ثم قدمه فقتله وقد قيل : إن عبد الله بن جعفر قطع يده ورجله وكحلت عيناه وهو مع ذلك يقرأ سورة [ اقرأ باسم ربك الذي خلق ] إلى أخرها ثم جاءوا ليقطعوا لسانه فجزع وقال : إني أخشى أن تمر علي ساعة لا أذكر الله فيها ثم قطعوا لسانه ثم قتلوه) (1)
الباب الثالث
خلافة الحسن بن علي بن أبي طالب
__________
(1) البداية والنهاية ( 7 / 325 – 329 ) بتصرف(15/72)
يقول ابن كثير: ( إن علياً - رضي الله عنه - لما ضربه ابن ملجم قالوا له : استخلف يا أمير المؤمنين فقال : لا لكن أدعكم كما ترككم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يعني بغير استخلاف . فإن يرد الله بكم خيراً يجمعكم كما جمعكم على خيركم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما توفي وصلى عليه ابنه الحسن .لأنه أكبر بنيه - رضي الله عنهم - ودفن بدار الإمارة على الصحيح من أقوال الناس فلما فرغ من شأنه كان أول من تقدم إلى الحسن بن علي - رضي الله عنه - قيس بن سعد بن عبادة فقال له : ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه فسكت الحسن فبايعه ثم بايعه الناس بعده ، وكان قيس بن سعد على إمرة أذربيجان تحت يده أربعون ألف مقاتل قد بايعوا علياً على الموت فلما مات علي ألح قيس بن سعد على الحسن في النفير لقتال أهل الشام، فعزل قيساً عن إمرة أذربيجان ، وولى عبيد الله بن عباس عليها , ولم يكن في نية الحسن أن يقاتل أحداً، ولكن غلبوه على رأيه ، فاجتمعوا اجتماعاً عظيماً لم يسمع بمثله ,فأمر الحسن بن علي قيس بن سعد بن عبادة على المقدمة في اثنى عشر ألفاً بين يديه، وسار هو بالجيوش في أثره قاصداً بلاد الشام ، ليقاتل معاوية وأهل الشام فلما اجتاز بالمدائن إذ صرخ في الناس صارخ : ألا إن قيس بن سعد بن عبادة قد قتل ، فثار الناس فانتهبوا أمتعة بعضهم بعضاً حتى انتهبوا سرادق الحسن ، حتى نازعوه بساطاً كان جالساً عليه ،وطعنه بعضهم فكرههم الحسن كراهية شديدة ، وركب فدخل القصر الأبيض من المدائن فنزله وهو جريح ، وكان عامله على المدائن سعد بن مسعود الثقفي، فلما استقر الجيش بالقصر , قال المختار بن أبي عبيد قبحه الله لعمه سعد بن مسعود: هل لك في الشرف والغني ؟ قال : ماذا ؟ قال تأخذ الحسن بن علي فتقيده وتبعثه إلى معاوية فقال له عمه : قبحكم الله وقبح ما جئت به، أغدر بابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولما رأى الحسن بن(15/73)
علي تفرق جيشه عليه مقتهم وكتب عند ذلك إلى معاوية بن أبي سفيان- فبعث إليه معاوية عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة ، فقدما عليه الكوفة فبذلا له ما أراد من الأموال فاشترط أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف درهم وأن يكون خراج دار أبجرد له و أن لا يُسب علي وهو يسمع فإذا فعل ذلك نزل عن الإمرة لمعاوية ويحقن الدماء بين المسلمين فاصطلحوا على ذلك واجتمعت الكلمة على معاوية ، وقد لام الحسين لأخيه الحسن على هذا الرأي فلم يقبل منه والصواب مع الحسن - رضي الله عنه - والمشهور أن مبايعة الحسن كانت في سنة أربعين ولهذا يقال له عام الجماعة لاجتماع الكلمة فيه على معاوية والمشهور عند ابن جرير وغيره من علماء السير أن ذلك كان في أوائل سنة إحدى وأربعين وقال ابن جرير في هذه السنة ( يعني سنة إحدى وأربعين ) سلّم الحسن بن علي الأمر لمعاوية بن أبي سفيان . ثم روى عن الزهري أنه قال : لما بايع أهل العراق الحسن بن علي طفق يشترط عليهم أنهم سامعون مطيعون مسالمون من سالمت محاربون من حاربت فارتاب به أهل العراق وقالوا : ما هذا لكم بصاحب فازداد لهم بغضاً وازداد منهم ذعراً .فعند ذلك عرف تفرقهم واختلافهم عليه وكتب إلى معاوية يسالمه ويراسله في الصلح بينه وبينه على ما يختاران , وروى البخاري في كتاب الصلح عن أبي موسى قال : قال الحسن : ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه مرة أخرى ويقول "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " قال البخاري : قال لي علي بن المديني : إنما ثبت عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث(1) .
__________
(1) البخاري في كتاب الصلح برقم 2704 نقلا عن حاشية محمد بيومي(15/74)
وروى الحافظ الخطيب البغدادي : حدثنا بن جعفر محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكمي حدثنا عباس بن محمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا زهير بن معاوية حدثنا أبو روق الهمداني حدثنا أبو العريف قال : كنا في مقدمة الحسن بن علي اثنا عشر ألفاً بمسكن مستميتين من الجد على قتال أهل الشام ، وعلينا أبو الغمر طه فلما جاءنا بصلح الحسن بن علي كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ ، فلما قدم الحسن بن علي على الكوفة قال له رجل منا يقال له :أبو عامر سعيد بن النتل : السلام عليك يا مذل المؤمنين فقال : لا تقل هذا يا عامر . لست بمذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك ، ولما تسلم معاوية البلاد ودخل الكوفة وخطب بها واجتمعت عليه الكلمة في سائر الأقاليم والآفاق ، ورجع إليه قيس بن سعد وقد كان عزم على الشقاق وحصل على بيعة معاوية عامئذ الإجماع والاتفاق ، ترحل الحسن بن علي ومعه إخوه الحسين وبقية أخوتهم وابن عمهم عبد الله بن جعفر من أرض العراق إلى أرض المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، وجعل كلما مر بحي من شيعتهم يبكتونه(1) على ما صنع من نزوله عن الأمر لمعاوية ،وهو في ذلك هو البار الراشد الممدوح وليس يجد في صدره حرجاً ولا تلوماً ولا ندماً بل هو راضٍ بذلك مستبشر به، وإن كان قد ساء هذا خلقاً من ذويه وأهله وشيعتهم ، - رضي الله عنه - وأرضاه وجعل جنات الفردوس متقلبه ومثواه)(2) .
فضل معاوية بن أبي سفيان
__________
(1) يبكتونه : يقرعونه . القاموس .
(2) البداية والنهاية (8/ 381-386 ) وأنظر الكامل في التاريخ 3/85-87 بتصرف(15/75)
يقول ابن كثير: (هو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي أبو عبد الرحمن القرشي الأموي خال المؤمنين وكاتب وحي رب العالمين أسلم هو وأبوه وأمه هند بنت عتبة بن ربيعه بن عبد شمس يوم الفتح وقد روى عن معاوية أنه قال : أسلمت يوم عمرة القضاء ولكني كتمت إسلامي من أبي إلى يوم الفتح وقد كان أبوه من سادات قريش في الجاهلية وآلت إليه رياسة قريش بعد يوم بدر فكان هو أمير الحروب من ذلك الجانب وكان رئيساً مطاعاً ذا مال جزيل ثم أصبح معاوية من كتّاب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما فتحت الشام ولاه عمر نيابة دمشق بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان وأقره على ذلك عثمان بن عفان وزاده بلاداً أخرى وهو الذي بنى القبة الخضراء بدمشق وسكنها أربعين سنة .(15/76)
وروى الطبراني عن ابن عباس أنه قال : مازلت موقناً أن معاوية يلي الملك من هذه الآية يعني " من قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً " [الإسراء :33 ] فلما امتنع معاوية من البيعة لعلي حتى يسلمه قتلة عثمان حدثت تلك الأحداث العظيمة التي ذكرناها في الباب الثاني في هذا البحث ، ثم استفحل أمر معاوية ولم يزل أمر علي في اختلاف مع أهل العراق حتى قتله ابن ملجم فعند ذلك بايع أهل العراق الحسن بن علي وأهل الشام لمعاوية بن سفيان , ثم خلع الحسن نفسه من الخلافة وسلم الملك إلى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وكان ذلك في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ودخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس بها خطبة بليغة بعدما بايعه الناس واستوثقت لهُ الممالك شرقاً وغرباً وبعداً وقرباً ، وسمي هذا العام عام الجماعة لاجتماع الكلمة فيه على أمير واحد بعد الفرقة) (1) (وروى الإمام أحمد ومسلم والحاكم في مستدركهِ من طريق أبي عوانه عن أبي حمزة عمران بن أبي عطاء عن ابن عباس قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد جاء فقلت : ما جاء إلا إلي ، فاختبأت على الباب فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين ،ثم قال " اذهب فادعُ لي معاوية " وكان يكتب الوحي .قال : فذهبت فدعوته لهُ فقيل : إنه يأكل ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : له إنه يأكل ، فقال: اذهب فادعه، فأتيته الثانية فقيل: إنهُ يأكل فأخبرتهُ ، فقال في الثالثة " لا أشبع الله بطنه " قال: فما شبع بعدها (2) .يقول ابن كثير:" وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه ، أما في دنياه فإنه لما صار إلى الشام أميراً كان يأكل في اليوم سبع مرات ، يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم ، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً ، ويقول : والله ما أشبع وإنما أعيا ، وهذه نعمة
__________
(1) – البداية والنهاية (8-389) بتصرف
(2) – مسلم 2604(15/77)
ومعدة يرغب ُ فيها كلِ الملوك) (1) ، وأما في الآخرة فيقول الشيخ عبد المحسن العباد: (وقد ختم الإمام مسلم رحمه الله بهذا الحديث الأحاديث الواردة في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل ما صدر منه من سب ودعاء على أحد ليس هو أهلاً لذلك أن يجعله له زكاة وأجراً ورحمة وذلك كقوله: " تربت يمينك، وثكلتك أمك، عقري حلقي ولا كبرت سنك "، فقد أورد في صحيحه عدّة أحاديث. أحدها هذا الحديث، وقبله حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كانت لأم سليم يتيمة، وأم سليم هي أم أنس، فرآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أأنت هي لقد كبرتِ لا كبر سنّك ". فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت لها أم سليم: ما لك يا بنية؟ فقالت الجارية: دعا عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يكبر سنّي، فالآن لا يكبر سني أبداً، أو قالت قرني. فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها، حتى لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما لك يا أم سليم؟ "، قالت: يا رسول الله، أدعوت على يتيمتي؟ قال: " وما ذاك يا أم سليم؟ "، قالت: زَعَمَتْ أنك دعوت عليها أن لا يكبر سنها ولا يكبر قرنها. قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: " يا أم سليم، أما تعلمين أن شرطي على ربي أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهوراً وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة ".
__________
(1) - البداية والنهاية ( 8/ 493 )(15/78)
وعقب هذا الحديث مباشرة أورد مسلم ـ رحمه الله ـ الحديث الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معاوية: " لا أشبع الله بطنه ".وهذا من حسن صنيع مسلم ـ رحمه الله ـ وجودة ترتيبه لصحيحه، وهو من دقيق فهمه، وحسن استنباطه رحمه الله ) (1) يقول ابن كثير في تاريخه:قلت :( قد قال البخاري في كتاب المناقب : ذكر معاوية بن أبي سفيان ثم ذكر سنداً عن ابن أبي مليكه قال: أوترَ معاوية بعد العشاء بركعة وعندهُ مولى لابن عباس ،فأتى ابن عباس، فقال : أوتر معاوية بركعة بعد العشاء فقال : دعه فإنه قد صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .حدثنا بن أبي مريم حدثنا نافع بن عمر ابن أبي مليكة قال : قيل لابن عباس : هل لك في أمير المؤمنين معاوية ؟ ما أوتر إلا بواحدة ! قال : أصاب . إنه فقيه) (2) .
( روى أبو بكر بن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -في المنام وأبو بكر وعمر جالسان عنده فسلمت عليه وجلست فبينما أنا جالس إذ أتى بعلي ومعاوية فأدخلا بيتاً وأُجيف الباب وأنا أنظر فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول : قُضِي لي ورب الكعبة , ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول : غُفِر لي ورب الكعبة .
__________
(1) - من أقوال المنصفين في الصحابي الخليفة معاوية للشيخ العباد: ص19 ، قلت : لقد علق الشيخ الألباني على هذا الحديث تعليقًا جميلا وطويلا ومن أرادهُ فليرجع إلى السلسلة الصحيحة ج1 ص164 حديث رقم 82 ، وكذلك أنظر مشكاة المصابيح الحديث رقم 2669
(2) - رواه البخاري 3764 – 3765 البداية والنهاية 8-496(15/79)
وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل : إني أبغض معاوية , فقال له : ولِمَ ؟ قال : لأنه قاتل علياً , فقال له أبو زرعة : ويحك إن رب معاوية رحيم , وخصم معاوية كريم , فإيش دخولك أنت بينهما ؟ رضي الله عنهما وسئل الإمام أحمد عن ما جرى بين علي ومعاوية فقرأ: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم , ولا تسألون عما كانوا يعملون" ) (1) [البقرة : 134 ] .
يقول أحد السلف وهو أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي قال : ( إن معاوية بن أبي سفيان ستر لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن كشف الستر اجترأ على ما وراءه ).(2)
(وقال جرير بن عبد الحميد عن مغيرة قال : لما جاء خبر قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى معاوية جعل يبكي فقالت له امرأته أتبكيه وقد قاتلته ؟ فقال : ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل و الفقه و العلم. وفي رواية أنها قالت: بالأمس تقاتلنه واليوم تبكينه ؟ ) (3)
خروج طائفة من الخوارج على معاوية
__________
(1) - البداية والنهاية (8/ 503 – 504
(2) – من أقوال المنصفين ص 3
(3) - البداية والنهاية (8/ 504 )(15/80)
يقول ابن كثير:( كان سبب ذلك أن معاوية رضي الله عنه لما دخل الكوفة وخرج الحسن وأهله منها قاصدين إلى الحجاز قالت فرقة من الخوارج نحو خمسمائة . جاء ما لا يشك فيه فسيروا إلى معاوية فجاهدوه فساروا حتى قربوا من الكوفة وعليهم فروة بن نوفل . فبعث إليهم معاوية خيلاً من أهل الشام فطردوا الشاميين، فقال معاوية : لا أمان لكم عندي حتى تكفوا بوائقكم فخرجوا إلى الخوارج فقالت لهم الخوارج : ويلكم ما تبغون ؟ أليس معاوية عدوكم وعدونا ؟ فدعونا حتى نقاتله فإن أصبناه كنا قد كفينا كموه ، وإن أُصبنا كنتم قد كفيتمونا . فقالوا : لا والله حتى نقاتلكم , فقالت الخوارج : يرحم الله إخواننا من أهل النهروان كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، فاقتتلوا فهزمهم أهل الكوفة وطردوهم ، ثم ولى معاوية على الكوفة المغيرة بن شعبة وفي هذه السنة وثب حمران بن أبان على البصرة فأخذها وتغلب عليها فبعث معاوية جيشاً ليقتلوه ومن معه، فجاء أبو بكرة الثقفي إلى معاوية فسأله في الصفح والعفو، فعفى عنهم وأطلقهم وولي على البصرة بسر ابن أبي أرطأة وبعد خروج هذه الطائفة بسنتين وتحديداً سنة ثلاث وأربعين . كانت وقعة عظيمة بين الخوارج وجند الكوفة ،وذلك أنهم صمموا على الخروج على الناس في هذا الحين ، فاجتمعوا في قريب من ثلاثمائة عليهم المستورد بن علقمة ، فجهز لهم المغيرة بن شعبة جنداً عليهم معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، فصار إليهم وقدم بين يديه أبا الرواع في طليعة هي ثلاثمائة على عدة الخوارج ، فلقيهم أبو الرواع بمكان يقال له المذار , فاقتتلوا معهم فهزمهم الخوارج ثم كروا عليهم فهزمتهم الخوارج ، ولكن لم يقتل أحد منهم فلزموا مكانهم في مقاتلتهم ينتظرون قدوم أمير الجيش معقل بن قيس عليهم ، فما قدم عليهم إلا في آخر نهار غربت فيه الشمس فنزل وصلى بأصحابه ،ثم شرع في مدح أبي الرواع فقال له : أيها الأمير إن لهم شدات منكرة . فكن أنت ردأ الناس ومر الفرسان(15/81)
فليقاتلوا بين يديك فقال معقل بن قيس : نعم ما رأيت , فما كان إلا ريثما قال له ذلك حملت الخوارج على معقل وأصحابه فانجفل عنه عامة أصحابه فترجل عند ذلك معقل بن قيس وقال : يا معشر المسلمين الأرض الأرض , فترجل معه جماعة من الفرسان والشجعان قريب من مائتي فارس منهم أبو الرواع الشاكري , فحمل عليهم المستورد بن علقمة بأصحابه فاستقبلوهم بالرماح والسيوف ولحق بقية الجيش بعض الفرسان فدمرهم وعيرهم وأنبهم على الفرار فرجع الناس إلى معقل وهو يقاتل الخوارج بمن معه من الأنصار قتالاً شديداً ، والناس يتراجعون في أثناء الليل ، فصفهم معقل بن قيس ميمنة وميسرة ورتبهم وقال : لا تبرحوا على مصافكم حتى نصبح فنحمل عليهم فما أصبحوا حتى هزمت الخوارج فرجعوا من حيث أتوا، وهربوا بين أيديهم حتى قطعوا دجلة . ووقعوا في أرض نهر شير، وتبعهم أبو الرواع ولحقه معقل بن قيس ووصلت الخوارج إلى المدينة العتيقة فركب إليهم شريك بن عبيد - نائب المدائن- ولحقهم أبو الرواع بمن معه من المقدمة )(1) .
أخذ معاوية - رضي الله عنه -البيعة لابنه يزيد سنة إحدى وخمسين هجري
__________
(1) –البداية والنهاية(8/389-392) بتصرف(15/82)
روى خليفة بن خياط في تاريخه( عن وهب بن جرير بن حازم قال: حدثني أبي قال: أخبرنا النعمان بن راشد عن الزهري عن ذكوان مولى عائشة قال: لما أجمع معاوية أن يبايع لابنه يزيد، حج فقدم مكة في نحو من ألف رجل، فلما دنا من المدينة خرج ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر، فلما قدم معاوية المدينة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر ابنه يزيد فقال: من أحق بهذا الأمر منه ؟ ثم ارتحل فقدم مكة فقضى طوافه، ودخل منزله، فبعث إلى ابن عمر، فتشهد وقال: أما بعد يا بن عمر فإنك قد كنت تحد ثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء ليس عليك أمير، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وأن تسعى في فساد ذات بينهم ، فلما سكت تكلم ابن عمر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :أما بعد فإنه قد كانت قبلك خلفاء لهم أبناء ليس ابنك بخير من أبنائهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت أنت في ابنك، ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث عملوا الخيار، وأنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر فإنما أنا رجل منهم فقال: يرحمك الله، فخرج ابن عمر. وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فتشهد وأخذ في الكلام، فقطع عليه كلامه فقال: إنك والله لوددت إنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله، وإنا والله لا نفعل، والله لتردن هذا الأمر شورى في المسلمين، أو لنفرنها عليك جذعه ثم وثب فقام. فقال معاوية: اللهم اكفنيه بما شئت، ثم قال: على رسلك أيها الرجل لا تشرفن بأهل الشام فإني أخاف أن يسبقوني بنفسك حتى أخبر العشية أنك قد بايعت ثم كن بعد ذلك على ما بدا لك من أمرك. ثم أرسل إلى ابن الزبير فقال: يا بن الزبير عمدت إلى هذين الرجلين فنفخت في مناخرهما وحملتهما على غير رأيهما، فتكلم ابن الزبير فقال: إن كنت قد مللت الإمارة فاعتزلها، و هلم ابنك فلنبايعه، أرأيت إذا بايعنا ابنك معك لأيكما نسمع ؟ لأيكما نطيع ؟ لا نجمع البيعة لكما والله أبدا ، ثم قام فراح معاوية فصعد(15/83)
المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنا وجدنا أحاديث الناس ذوات عوار، زعموا أن ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر الصديق لم يبايعوا يزيد قد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له فقال: أهل الشام لا والله لا نرضى حتى يبايعوا على رؤوس الناس وإلا ضربنا أعناقهم، فقال: مه سبحان الله ما أسرع الناس إلى قريش بالسوء، لا أسمع هذه المقالة من أحد بعد اليوم ، ثم نزل. فقال الناس: بايع ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر، ويقولون: لا والله ما بايعنا. ويقول الناس: بلى لقد بايعتم، وارتحل معاوية فلحق بالشام ، ثم روي ابن خياط عن وهب قال: حدثني أبي عن أيوب عن نافع قال: خطب معاوية فذكر ابن عمر فقال: والله ليبايعن أو لا قتلنه، فخرج عبيد الله بن عبد الله بن عمر إلى أبيه فأخبره، وسار إلى مكة ثلاثا، فلما أخبره بكى ابن عمر، فبلغ الخبر عبد الله بن صفوان فد خل على ابن عمر فقال: أخطب هذا بكذا ؟ قال: نعم. فقال: ما تريد ؟ أ تريد قتاله ؟ فقال: يا بن صفوان الصبر خير من ذلك. فقال ابن صفوان: والله لئن أراد ذلك لأقاتلنه. فقدم معاوية مكة، فنزل ذا طوى، فخرج إليه عبد الله بن صفوان فقال: أنت الذي تزعم أنك تقتل ابن عمر إن لم يبايع لابنك ؟ فقال: أنا أقتل ابن عمر !! إني والله لا أقتله. حدثنا وهب بن جرير قال: حدثني جويرية بن أسماء قال: سمعت أشياخ أهل المدينة يحدثون أن معاوية لما كان قريبا من مكة، قال لصاحب حرسه: لا تدع أحدا يسير معي إلا من حملته أنا. فخرج يسير وحده حتى إذا كان وسط الأراك لقيه الحسين بن علي، فوقف وقال: مرحبا وأهلا يا بن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سيد شباب المسلمين، دابة لأبي عبد الله يركبها، فأتي ببرذون فتحول عليه، ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: مرحبا وأهلا بشيخ قريش وسيدها وابن صديق هذه الأمة، دابة لأبي محمد، فأتي ببرذون فركبه، ثم طلع ابن عمر فقال: مر حبا وأهلا بصاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم(15/84)
- وابن الفاروق وسيد المسلمين ودعا له بدابة فركبها، ثم طلع ابن الزبير فقال له: مرحبا وأهلا يا بن حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابن الصديق وابن عمة رسول الله ، ثم دعا له بدابة فركبها. ثم أقبل يسير بينهم لا يسايره غيرهم حتى د خل مكة، ثم كانوا أول داخل وآخر خارج ليس في الأرض صباح إلا لهم فيه حباء وكرامة لا يعرض لهم بذكر شئ مما هو فيه حتى قضى نسكه وترحلت أثقاله، وقرب مسيرة إلى الكعبة وأنيخت رواحله، فأقبل بعض القوم على بعض فقالوا: أيها القوم لا تخدعوا إنه والله ما صنع بكم لحبكم و لا كرامتكم، وما صنعه إلا لما يريد فأعدوا له جوابا. وأقبلوا على الحسين فقالوا: أنت يا أبا عبد الله ؟ قال: وفيكم شيخ قريش وسيدها هو أحق بالكلام . فقالوا: أنت يا أبا محمد لعبد الرحمن بن أبي بكر فقال: لست هناك وفيكم صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وابن سيد المسلمين - يعني ابن عمر -. فقالوا لابن عمر: أنت ؟ قال: لست بصاحبكم ولكن ولوا الكلام ابن الزبير يكفيكم. قالوا: أنت يا بن الزبير. قال: نعم إن أعطيتموني عهودكم ومواثيقكم ألا تخالفوني كفيتكم الرجل. فقالوا: فلك ذلك. فخرج الإذن فأذن لهم، فدخلوا، فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : قد علمتم سيرتي فيكم وصلتي لأرحامكم وصفحي عنكم وحملي لما يكون منكم، ويزيد بن أمير المؤمنين أخوكم وابن عمكم وأحسن الناس فيكم رأيا، وإنما أردت أن تقدموه باسم الخلافة وتكونون أنتم الذين تنزعون وتؤمرون، وتجبون وتقسمون، لا يدخل عليكم في شئ من ذلك، فسكت القوم فقال: ألا تجيبوني ؟ فسكتوا. فأقبل على ابن الزبير فقال: هات يا بن الزبير، فإنك لعمري صاحب خطبة القوم. قال: نعم يا أمير المؤمنين نخيرك بين ثلاث خصال أيها ما أخذت فهو لك رغبة . قال: لله أبوك أعرضهن . قال: إن شئت صنعت ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإن شئت صنعت ما صنع أبو بكر فهو خير هذه الأمة بعد(15/85)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن شئت صنعت ما صنع عمر فهو خير هذه الأمة بعد أبي بكر. قال: لله أبوك وما صنعوا ؟ قال: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعهد ولم يستخلف أحدا، فارتضى المسلمون أبا بكر، فإن شئت أن تدع هذا الأمر حتى يقضي الله فيه قضاءه فيختار المسلمون لأنفسهم فقال: إنه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر، إن أبا بكر كان رجلا تقطع دونه الأعناق، وإني لست آمن عليكم الاختلاف. قال: صدقت والله ما تحب أن تدعنا على هذه الأمة. قال فاصنع ما صنع أبو بكر. قال: لله أبوك قال: وما صنع أبو بكر ؟ قال: عمد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه ولا من رهطه الأدنين فاستخلفه، فإن شئت أن تنظر أي رجل من قريش شئت ليس من بني عبد شمس فترضى به قال: لله أبوك الثالثة ما هي ؟ قال: تصنع ما صنع عمر. قال: وما صنع عمر ؟ قال: جعل هذا الأمر شورى في ستة نفر من قريش، ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه ولا من رهطه. قال: فهل عندك غير هذا ؟ قال: لا. قال: فأنتم ؟ قالوا: ونحن أيضا. قال: أما أنا فإني أحببت أن أتقدم إليكم أنه قد أعذر من أنذر، وإنه قد كان يقوم منكم القائم إلي فيكذبني على رؤوس الناس، فأحتمل له ذلك وأصفح عنه. وإني قائم بمقالة إن صدقت فلي صدقي وإن كذبت فعلي كذبي، وإني أقسم لكم بالله لئن رد علي منكم إنسان كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يسبق إلي رأسه، فلا يرعين رجل إلا على نفسه، ثم دعا صاحب حرسه فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين من حرسك، فإن ذهب رجل يرد علي كلمة في مقامي هذا بصدق أو كذب فليضرباه بسيفيهما(1)
__________
(1) – قلت : إذا صحت هذه الرواية فإن مسألة الولاية مسألة اجتهادية ، وقد عزل عمر بن الخطاب سعد بن وقاص وولى من دونه في الفضل ، ولعل معاوية - رضي الله عنه -رأي أنه في ترك الناس هكذا فساد عظيم وبلاء جسيم فا لذلك أختار لهم يزيد ، أما اتهام يزيد بالفسق وشرب الخمر ، فهذا من الكذب الظاهر ، وندع محمد بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يجيب على هذا الادعاء لأنه أقام عند يزيد وهو أدرى به، قال ابن كثير في البداية (( لما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدّى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة، قالوا: فإن ذلك كان منه تصنّعاً لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع؟ أ فأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم يكن رأيناه. فقال لهم أبى الله ذلك على أهل الشهادة، فقال { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } ولست من أمركم في شيء، قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك فنحن نولّيك أمرنا. قال: ما استحل القتال على ما تريدونني عليه تابعاً ولا متبوعاً، فقالوا: فقد قاتلت مع أبيك، قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه، فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا، قال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقاماً نحض الناس فيه على القتال، قال: سبحان الله!! آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذاً ما نصحت لله في عباده قالوا: إذاً نكرهك. قال: إذا آمر الناس بتقوى الله ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق، وخرج إلى مكة .البداية والنهاية .8/ 604(15/86)
، ثم خرج وخرجوا معه حتى إذا رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا نستبد بأمر دونهم ولا نقضي أمرا إلا عن مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد بن أمير المؤمنين من بعده، فبايعوا بسم الله، فضربوا على يديه ثم جلس على راحلته وانصرف فلقيهم الناس فقالوا: زعمتم وزعمتم فلا أرضيتم وحبيتم فعلتم قالوا: إنا والله ما فعلنا قالوا: فما منعكم أن تردوا على الرجل إذ كذب ؟ ثم بايع أهل المدينة والناس ثم خرج إلى الشام. حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: أخبرنا سفيان عن محمد بن المنكدر قال: قال ابن عمر حين بويع يزيد بن معاوية: إن كان خيرا رضينا وإن كان بلاء صبرنا ، وحدثنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أبو عوانة عن داود بن عبد الله الأود ي عن حميد بن عبد الرحمن قال: د خلنا على رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استخلف يزيد بن معاوية فقال: أتقولون أن يزيد ليس بخير أمة محمد، لا أفقه فيها فقها ولا أعظمها فيها شرفا ؟ قلنا: نعم. قال: وأنا أقول ذلك، ولكن والله لإن تجتمع أمة محمد أحب إلي من أن تفترق. أ رأيتم بابا لو دخل فيه أمة محمد وسعهم، أكان يعجز عن رجل واحد لو دخل فيه ؟ قلنا: لا. قال: أ رأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم لا أهر يق دم أخي، ولا آخذ ماله، أ كان هذا يسعهم ؟ قلنا: نعم. قال: فذ لك ما أقول لكم. ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يأتيك من الحياء إلا خير) (1).
وفاة الحسن بن علي بن أبي طالب
__________
(1) –تاريخ خليفة بن خياط ص 99- 102 بتصرف(15/87)
يقول ابن كثير :( هو أبو محمد القرشي الهاشمي سِبْط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن ابنته فاطمة الزهراء ، وريحانته , وأشبه خلق الله به في وجهه، ولد في النصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة ، فحنكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريقه وسماه حسناً ، وهو أكبر ولد أبويه ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبه حباً شديداً ، وقد ثبت في صحيح البخاري أن أبا بكر الصديق صلى بهم العصر بعد وفاة رسول الله بليالٍ ثم خرج هو وعلي يمشيان , فرأى الحسن يلعب مع الغلمان فاحتمله على عنقه وجعل يقول " بأبي شبه النبي ،وليس شبيهاً لعلي" قال : وعلي يضحك(1) وقال أبو داود والطيالسي : حدثنا قيس عن أبي إسحاق عن هانئ بن هانئ عن علي قال : كان الحسن أشبه الناس برسول الله من وجهه إلى سرته، وكان الحسين أشبه الناس به ما أسفل من ذلك(2) وقال أحمد : حدثنا حازم بن الفضيل حدثنا معتمر عن أبيه قال : سمعت أبا تميمة يحدث عن أبي عثمان النهد ي يحدثه أبو عثمان عن أسامة بن زيد قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن على فخذه الأخرى ثم يضمنا ثم يقول : " اللهم ارحمهما فإني ارحمهما "(3) وفي رواية " اللهم أحبهما فإني أحبهما " وقال شعبة عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي على عاتقه وهو يقول " اللهم أحبه فإني أحبه" (4) وقال الأصمعي : عن سلام بن مسكين عن عمران بن عبد الله قال : رأى الحسن بن علي
__________
(1) –رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي . 3750 نقلاً : عن محمد بيومي حاشية البداية8/402
(2) – رواه أبو داود والطيالسي 130 نقلاً : عن محمد بيومي حاشية البداية 8/402
(3) –البخاري في فضائل أصحاب النبي 3747 وأحمد 5/205 . نقلاً : عن محمد بيومي حاشية البداية 8/402
(4) –متفق علية البخاري برقم( 3749 ) ومسلم برقم 2422. نقلاً : عن محمد بيومي حاشية البداية ص8/402(15/88)
في منامه أنه مكتوب بين عينيه ،( قل هو الله أحد ) ففرح بذلك فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال : إن كان رأى هذه الرؤيا فقلَّ ما بقي من أجله . قال : فلم يلبث الحسن بن علي بعد ذلك إلا أياماً حتى مات .وروى أبو بكر بن أبي الدنيا عن عمير بن إسحاق ، قال :" دخلت أنا ورجل آخر من قريش على الحسن بن علي فقام فدخل المخرج ثم خرج فقال : لقد لفظت طائفة من كبدي أقلبها بهذا العود , ولقد سقيت السم مراراً وما سقيت مرة هي أشد من هذه ، قال : وجعل يقول لذلك الرجل سلني قبل أن لا تسألني . فقال: ما أسألك شيئاً يعافيك الله ، قال : فخرجنا من عنده ثم عدنا إليه من الغد ، وقد أخذ في السوق فجاء حسين حتى قعد عند رأسه فقال : أي أخي ! من صاحبك ؟ قال : تريد قتله , قال نعم ! قال : لئن كان صاحبي الذي أظن الله أشد نقمة . وفي رواية : فالله أشد بأساً وأشد تنكيلاً , وإن لم يكن هو ما أحب أن تقتل بي بريئاً . ورواه محمد بن سعد عن ابن علية عن ابن عون . وقال أبو نعيم: " لما أشتد بالحسن بن علي الوجع جزع فدخل عليه رجل فقال له : يا أبا محمد ما هذا الجزع ؟ وما هو إلا أن تفارق روحك جسدك فتقدم على أبويك علي وفاطمة وعلى جديك النبي - صلى الله عليه وسلم - و خديجة وعلى أعمامك حمزة وجعفر , وعلى أخوالك القاسم الطيب والطاهر و إبراهيم ، وعلى خالاتك زينب ورقية وأم كلثوم ، قال : فسري عنه . وقيل : إن القائل له ذلك أخوه الحسين وأن الحسن قال له : يا أخي إني أدخل في أمرٍ من أمر الله لم أدخل في مثله، وأرى خلقاً من خلق الله لم أرَ مثله قط ، قال : فبكى الحسين - رضي الله عنهم -. رواه عباس الدوري عن ابن معين ، ورواه بعضهم عن جعفر بن محمد عن أبيه فذكر نحوهما . وتوفي الحسن وهو ابن سبع وأربعين سنة والمشهور أنه مات سنة 49 هـ) (1)
وفاة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -
__________
(1) –البداية والنهاية 8 / -412 413- 414 بتصرف.(15/89)
وقال ابن أبي الدنيا : ( حدثني هارون بن سفيان عن عبد الله السهمي حدثني ثمامة بن كلثوم أن آخر خطبة خطبها معاوية أن قال : أيها الناس إن من زرع قد استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي خيرٌ مني ، إنما يليكم من هو شر مني ، كما كان من وليكم قبلي خيراً مني , ويا يزيد إذا دنا أجلي فولِ غسلي رجلاً لبيباً , فإن اللبيب من الله بمكان ، فلينعم الغسل وليجهر بالتكبير ، ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقراضة من شعره وأظفاره فاستودع القراضة أنفي وفمي، وأذني وعيني، واجعل ذلك الثوب مما يلي جلدي دون لفافي ، ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين. فإذا ادرجتموني في جريدتي ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وارحم الراحمين .) (1)
( وقال أبو السائب المخزومي : لما حضرت معاوية الوفاة تمثل بقول الشاعر :
إن تناقش يكن نقاشكَ يا ربُ عذاباً لا طوقَ لي بالعذابِ
أو تجاوز تجاوزَ العفوِ واصفحْ عن مسيءٍ ذنوبهُ كالترابِ
وقال محمد بن سيرين : جعل معاوية لما احتضر يضع خداً على الأرض ثم يقلب وجهه ويضع الخد الآخر ويبكي ويقول :اللهم إنك قلت في كتابك { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }النساء 48
اللهم فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له . وقال العتبي عن أبيه : تمثل معاوية عند موته بقول بعضهم وهو في السياق :
هو الموتُ لا منجا منَ الموتِ والذي نحاذرُ بعد الموتِ أدهى وأفظعُ
__________
(1) –المصدر السابق 8/514- 515(15/90)
ثم قال :اللهم أقلِ العثرة ، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرجَ غيرك ، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك , رواه ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيده عن أبي عمرو بن العلاء فذكر مثله، وزاد : ثم مات . وقال غيره: أغمي عليه ثم أفاق فقال لأهله : اتقوا الله فإن الله تعالى يقي من اتقاه , ولا يقي من لا يتقي ، ثم مات رحمه الله . ولا خلاف أنه توفي بدمشق في رجب سنة ستين .
وقال محمد بن إسحاق والشافعي : صلى عليه ابنه يزيد وقال آخرون : بل كان ابنه يزيد غائباً فصلى عليه الضحاك بن قيس بعد صلاة الظهر بمسجد دمشق ، ثم دفن بدار الإمارة وهي الخضراء ، وقيل بمقابر باب الصغير , وعليه الجمهور والله أعلم , وكان عمره آنذاك ثمانيا وسبعين سنة، وقيل جاوز الثمانين وهو الأشهر) (1) قال أبو زرعة قال سمعت أبا مسهر _ أملاه علينا : أن معاوية بويع سنة أربعين وهو عام الجماعة فأقام عشرين سنة إلا شهراً (2)
توجه الحسين بن علي - رضي الله عنه -إلى العراق
__________
(1) - البداية والنهاية 8 / 515-516
(2) - تاريخ أبي زرعة الدمشقي _ 18(15/91)
قال ابن كثير : ( لما تواترت الكتب إلى الحسين من جهة أهل العراق وتكررت الرسل بينهم وبينه , و جاءه كتاب مسلم بن عقيل بالقدوم عليه بأهله ، ثم وقع في غبون ذلك ما وقع من قتل مسلم بن عقيل , والحسين لا يعلم بشيء من ذلك ، بل قد عزم على المسير إليهم والقدوم عليهم ، فاتفق خروجه من مكة أيام التروية قبل مقتل مسلم بيوم واحد- فإن مسلماً قتل يوم عرفة- ولما استشعر الناس خروجه أشفقوا عليه من ذلك ،وحذروه منه ، وأشار عليه ذوو الرأي منهم والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق ، وأمروه بالمقام بمكة، وذكّروه ما جرى لأبيه وأخيه معهم ، وقال غير واحد عن شبابه بن سوار قال : حدثنا يحي بن إسماعيل بن سالم الأسدي قال : سمعت الشعبي يحدث عن ابن عمر أنه كان بمكة فبلغه أن الحسين بن علي قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليالٍ فقال : أين تريد ؟ قال : العراق وإذ معه كتب، فقال : هذه كتبهم وبيعتهم ، فقال : لا تأتهم فأبى ، فقال ابن عمر : إني محدثك حديثاً، إن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وإنك بضعة من رسول الله والله ما يليها أحدُ منكم أبداً ، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم ، فأبى أن يرجع .قال : فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال : أستودعك الله من قتيل .
وقال يحي بن معين :حدثنا أبوعبيدة حدثنا سليم بن حيان عن سعيد بن مينا قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : عجل حسين قدره ، والله لو أدركته ما تركته يخرج إلا أن يغلبني ببني هاشم فُتح هذا الأمر ، وببني هاشم يُختم ، فإذا رأيت الهاشمي قد ملك فقد ذهب الزمان. قلت : وهذا مع حديث ابن عمر يدل على أن الفاطميين أدعياء كذبة ، لم يكونوا من سلالة فاطمة كما نص عليه غير واحد من الأئمة .(15/92)
وقال ابن الزبير للحسين : أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك ؟ فقال :لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلى من أن تُستحل بي – يعني مكة) (1)
( وهذا هو موقف ابن الزبير رضي الله عنه مثل باقي كبار الصحابة الذين نصحوا الحسين بعدم الخروج والحجة في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد حسن قال : لقي عبد الله بن الزبير الحسين بن علي بمكة فقال : يا أبا عبد الله بلغني أنك تريد العراق ، قال : أجل ،قال فلا تفعل ، فإنهم قتلة أبيك ، الطاعنين بطن أخيك وإن أتيتهم قتلوك . المصنف "7 /477 " ، و هذا الأثر يرد على مزاعم الإخباريين حول تحريض ابن الزبير للحسين بن علي رضوان الله عنهم أجمعين على الخروج على يزيد بن معاوية . و أن ابن الزبير ضاق من وجود الحسين بمكة ، و أنه كان يطمع بالخلافة ، و أن يخلو له الجو كما يقولون ، و أن تخلو له الساحة والميدان ) (2)
__________
(1) - البداية والنهاية 8/ 532-533 بتصرف
(2) - استشهاد الحسين ص/ 3-5 بتصرف(15/93)
. وروى محمد بن سعد قال : ( لما بايع الناس معاوية ليزيد كان الحسين ممن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية كل ذلك يأبى عليهم، فقدم منهم قوم إلى محمد بن الحنفية يطلبون إليه أن يخرج معهم فأبى ، وجاء إلى الحسين يعرض عليه أمرهم ، فقال له الحسين : إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا , ويستطيلوا بنا , ويستنبطوا دماء الناس ودماءنا، فأقام حسين على ما هو عليه من الهموم ، مرة يريد أن يسير إليهم ، ومرة يجمع الإقامة عنهم ، فجاءه أبو سعيد الخدري فقال : يا أبا عبد الله ! إني لكم ناصح ، وإني عليكم مشفق ، وقد بلغني أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم فلا تخرج إليهم ، فإني سمعت أباك يقول بالكوفة : والله لقد مللتهم وأبغضتهم وملوني وأبغضوني ،وما يكون منهم وفاء قط ، ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب ، والله ما لهم نيات ولا عزم على أمر، ولا صبر على السيف) (1) . (وقال محمد بن سعيد : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جعفر بن سليمان عن يزيد الرشك قال : حدثني من شافه الحسين قال : رأيت أخبية مضروبة بفلاة من الأرض فقلت : لمن هذه ؟ قالوا : هذه للحسين قال : فأتيته فإذا شيخ يقرأ القرآن والدموع تسيل على خديه ولحيته،قال قلت : بأبي وأمي يا بن بنت رسول الله ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد ؟ فقال: هذه كتب أهل الكوفة إلى ولا أرهم إلا قاتلي , فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلا انتهكوها فيسلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قرم الأمة - يعني مقنعتها ) (2) .
__________
(1) – البداية والنهاية 8 / 534
(2) -البداية والنهاية (8/ 541 )(15/94)
(وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثني حجاج بن محمد عن أبي معشر عن بعض مشيخته قال : قال الحسين حين نزلوا كر بلاء : ما اسم هذه الأرض ؟ قالوا : كر بلاء، قال :كرب وبلاء . وبعث عبيد الله بن زياد عمر بن سعد لقتالهم ، فقال له الحسين : يا عمر اختر مني إحدى ثلاث خصال ، إما أن تتركني أرجع كما جئت، فإن أبيت هذه فسيرني إلى يزيد فأضع يدي في يده فيحكم فيَ ما رأى , فإن أبيت هذه فسيرني إلى الترك فأقاتلهم حتى أموت . فأرسل إلى ابن زياد بذلك , فهمّ أن يسيره إلى يزيد ، فقال شمر بن ذي الجو شن : لا ! إن ينزل على حكمك ، فأرسل إلى الحسين بذلك فقال الحسين : والله لا أفعل , وأبطأ عمر عن قتاله فأرسل ابن زياد شمر بن ذي الجو شن وقال له : إن تقدم عمر فقاتل وإلا فاقتله وكن مكانه، فقد وليتك الإمرة وكان مع عمر قريب من ثلاثين رجلاً من أعيان أهل الكوفة , فقالوا له : يعرض عليكم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث خصال فلا تقبلوا منها شيئاً ؟ فتحولوا مع الحسين يقاتلون معه ) (1).
استشهاد الحسين بن علي - رضي الله عنه -.
يقول الشيخ أبو عبد الله الذهبي ( يقول ابن حجر : و قد صنف جماعة من القدماء في مقتل الحسين تصانيف فيها الغث و السمين ، و الصحيح و السقيم ، و قد صح عن إبراهيم النخعي أنه كان يقول : لو كنت فيمن قاتل الحسين ثم دخلت الجنة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الإصابة (2/81) .
__________
(1) - البداية والنهاية (8/ 542)(15/95)
و اختلفت الأقوال في يوم قتله ، فالبعض قال يوم الجمعة و قيل يوم السبت العاشر من المحرم و الأصح الأول . و اتفق على أنه قتل يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى و ستين ، و كذا قال الجمهور ، و شذ من قال غير ذلك ، و كان يوم الجمعة هو يوم عاشوراء . الإصابة (2/76-81) و العقد الفريد لابن عبد ربه (4/356) وهو يؤيد الإجماع . و قال الحافظ في الفتح : كان مولد الحسين في شعبان سنة أربع في قول الأكثر ، و قتل يوم عاشوراء سنة إحدى و ستين بكر بلاء من أرض العراق ، و كان أهل الكوفة لما مات معاوية و استخلف يزيد كاتبوا الحسين بأنهم في طاعته فخرج الحسين إليهم ، فسبقه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة ، فخذل غالب الناس عنه فتأخروا رغبة و رهبة ، و قتل ابن عمه مسلم بن عقيل ، وكان الحسين قد قدمه قبله ليبايع له الناس ، ثم جهز إليه عسكراً فقاتلوه إلى أن قتل هو و جماعة من أهل بيته . فتح الباري (7/120) . و تاريخ خليفة (ص 234) .وروى الحاكم عن أم الفضل بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا - يعني الحسين - فقلت : هذا ؟ فقال نعم ، و أتاني بتربة من تربته حمراء . السلسلة الصحيحة (2/464) و هو في صحيح الجامع ، رقم (61) .(15/96)
و روى أحمد عن عائشة أو أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لقد دخل عليّ البيت مَلَكٌ لم يدخل علي قبلها ، فقال لي : إن ابنك هذا حسين مقتول ، و إن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها . السلسلة الصحيحة (2/465) . و روى أحمد عن ابن عباس قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرى النائم ذات يوم بنصف النهار أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم ، فقلت : بأبي أنت و أمي ما هذا ؟ قال : هذا دم الحسين و أصحابه ، و لم أزل ألتقطه منذ اليوم . فأحصي ذلك الوقت ، فوجد قتل ذلك الوقت . مشكاة المصابيح للتبريزي بتحقيق الشيخ الألباني (6172) . و مسند أحمد (1/283) و الذي يقول فأحصينا .. هو راوي الخبر عن ابن عباس ، هو أبو عمر عمار بن أبي عمار مولى بني هشام ، صدوق من كبار التابعين (ت 120 هـ ) ، التقريب (ص 408) . و قد اختلطت الروايات الحقيقية بالمكذوبة التي افتراها الرافضة الحمقى و روج لها الإخباريين بأسلوب يهدر كل القيم و المثل . نعم هناك روايات كتاب الأغاني ، - و الذي يسمى بالنهر المسموم - ، ذلك النهر الذي عب منه كل مثقفينا ، وكل من تناول جانباً من تاريخنا ، كابراً عن كابر ، فَضَّلوا و أضلوا . و هذا الذي ذكرته هو المشهور و المتفق عليه بين العلماء في مقتله رضي الله عنه و قد رويت زيادات بعضها صحيح و بعضها ضعيف و بعضها كذب موضوع ، و المصنفون من أهل الحديث في سائر المنقولات أعلم و أصدق بلا نزاع بين أهل العلم ؛ لأنهم يسندون ما ينقلونه عن الثقات ، أو يرسلونه عمن يكون مرسله مقارب الصحة بخلاف الإخباريين ؛ فإن كثيراً مما يسندونه ، يسندونه عن كذّاب أو مجهول ، أمّا ما يرسلونه فظلمات بعضها فوق بعض ، و أما أهل الأهواء و نحوهم فيعتمدون على نقل لا يعرف له قائل أصلاً لا ثقة و لا ضعيف و أهون شيء عندهم الكذب المختلق ، و أعلم من فيهم لا يرجع فيما ينقله إلى عمدة بل إلى سماعات عن المجاهيل و الكذابين ،(15/97)
و روايات عن أهل الإفك المبين .هذه هي الحقيقة الفاجعة ، و أصلها و فصلها ، و كفى ، لكن لنقف مع تقويم هذه المعارضة من قبل الحسين رضي الله عنه . كانت معارضة الحسين ليزيد بن معاوية و خروجه إلى العراق طلباً للخلافة ، ثم مقتله رضي الله عنه بعد ذلك ، قد ولد إشكالات كثيرة ، ليس في الكيفية والنتيجة التي حدثت بمقتله رضي الله عنه ، بل في الحكم الشرعي الذي يمكن أن يحكم به على معارضته ، و ذلك من خلال النصوص النبوية ، وإن عدم التمعن في معارضة الحسين ليزيد و التأمل في دراسة الروايات التاريخية الخاصة بهذه الحادثة قد جعلت البعض يجنح إلى اعتبار الحسين خارجاً على الإمام!! ، وأن ما أصابه كان جزاءاً عادلاً!! و ذلك وفق ما ثبت من نصوص نبوية تدين الخروج على الولاة .فقد قال صلى الله عليه وسلم : من أراد أن يفرق بين المسلمين و هم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان . صحيح مسلم (12/241) ، قال السيوطي : أي فاضربوه شريفاً أو وضيعاً على إفادة معنى العموم . عقد الزبرجد (1/264) . و قال النووي معلقاً على هذا الحديث : الأمر بقتال من خرج على الأمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك و ينهى عن ذلك فإن لم ينته قوتل وإن لم يندفع شره إلا بالقتل قتل و كان دمه هدراً . و في هذا الحديث و غيره من الأحاديث المشابهة له جاء تأكيد النبي - صلى الله عليه وسلم -على أن الخارج على سلطان المسلمين يكون جزاؤه القتل ، و ذلك لأنه جاء ليفرق كلمة المسلمين . وإن الجمود على هذه الأحاديث جعلت الكرامية فرقة من الفرق مثلاً يقولون : إن الحسين رضي الله عنه باغ على يزيد!! ، فيصدق بحقه من جزاء القتل . نيل الأوطار للشوكاني (7/362) .(15/98)
وأما البعض فقد ذهبوا إلى تجويز خروج الحسين - رضي الله عنه - واعتبروا عمله هذا مشروعاً ، و جعلوا المستند في ذلك إلى أفضلية الحسين والى عدم التكافؤ مع يزيد . نيل الأوطار (7/362) ، وأما البعض فقد جعل خروج الحسين خروجاً شرعياً بسبب ظهور المنكرات من يزيد . انظر : الدرة فيما يجب اعتقاده لابن حزم (ص 376) وابن خلدون في المقدمة (ص 271) ، و لكن إذا أتينا لتحليل مخرج الحسين - رضي الله عنه - ومقتله ، نجد أن الأمر ليس كما ذهب إليه هذان الفريقان ، فالحسين لم يبايع يزيد أصلاً ، وظل معتزلاً في مكة حتى جاءت إليه رسل أهل الكوفة تطلب منه القدوم ، فلما رأى كثرة المبايعين ظن - رضي الله عنه - أن أهل الكوفة لا يريدون يزيد فخرج إليهم ، وإلى الآن فإن الحسين لم يقم بخطأ شرعي مخالف للنصوص ، و خاصة إذا عرفنا أن جزءً من الأحاديث جاءت مبينة لنوع الخروج . فعن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من نزع يداً من طاعة فلا حجة له يوم القيامة ، و من مات مفارقاً للجماعة فقد مات ميتة جاهلية . مسلم بشرح النووي (12/233-234) . و عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - رضي الله عنه - : الصلاة المكتوبة إلى الصلاة التي بعدها كفارة لما بينهما ، والجمعة إلى الجمعة والشهر إلى الشهر يعني رمضان كفارة لما بينهما ، قال : ثم قال بعد ذلك : إلا من ثلاث ، - قال : فعرفت إن ذلك الأمر حدث إلا من الإشراك بالله ، ونكث الصفقة ، و ترك السنة . قال : أما نكث الصفقة : أن تبايع رجلاً ثم تخالف إليه ، تقاتله بسيفك ، و أما ترك السنة فالخروج من الجماعة . المسند (12/98) بسند صحيح . و بالرغم من أن الحسين - رضي الله عنه - حذره كبار الصحابة ونصحوه إلا أنه خالفهم ، و خلافه لهم إنما هو لأمر دنيوي ، فقد عرفوا أنه سيقتل وسيعرض نفسه للخطر ، و ذلك لمعرفتهم بكذب أهل العراق ، والحسين - رضي الله عنه - ما خرج(15/99)
يريد القتال ،و لكن ظن أن الناس يطيعونه ، فلما رأى انصرافهم عنه طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر أو إتيان يزيد .منهاج السنة (4/42) . يقول ابن خلدون في المقدمة (ص 271) : فتبين بذلك غلط الحسين ، إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه ، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه ، لأنه منوط بظنه، و كان ظنه القدرة على ذلك ، وأما الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا بالحجاز و مصر والعراق والشام والذين لم يتابعوا الحسين رضوان الله عليه ، فلم ينكروا عليه ولا أثمّوه لأنه مجتهد وهو أسوة للمجتهدين به، و يقول شيخ الإسلام في منهاج السنة (4/556) : وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله ، فإنه - رضي الله عنه - لم يفارق الجماعة ، و لم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده أو إلى الثغر أو إلى يزيد ، و داخلاً في الجماعة معرضاً عن تفريق الأمة ، و لو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك ، فكيف لا تجب إجابة الحسين ، و يقول في موضع آخر 6/340 ولم يقاتل وهو طالب الولاية ، بل قتل بعد أن عرض الانصراف بإحدى ثلاث .. بل قتل وهو يدفع الأسر عن نفسه ، فقتل مظلوماً.)(1)1)
(وقال عبد الملك بن عمير :دخلت على عبيد الله بن زياد وإذا رأس الحسين بن علي بين يديه على ترس، فوا لله ما لبثت إلا قليلاً حتى دخلت على المختار بن أبي عبيد ، وإذا رأس ابن زياد بين يدي المختار على ترس ، ووالله ما لبثت إلا قليلاً حتى دخلت على عبد الملك بن مروان وإذا برأس مصعب بن الزبير على ترس بين يديه )(2)2)
__________
(1) –استشهاد الحسين/ص6--10 بتصرف
(2) –البداية والنهاية 8/ 567)(15/100)
(عن حسن البصري أنه قال : قتل مع الحسين ستة عشر رجلاً كلهم من أهل بيته ما على وجه الأرض يومئذ لهم شبه وقال غيره : قتل معه من ولده وإخوته وأهل بيته ثلاث وعشرون رجلاً فمن أولاد علي - رضي الله عنه - : جعفر والحسين والعباس ومحمد وعثمان وأبو بكر , ومن أولاد الحسين : علي الأكبر وعبد الله , ومن أولاد أخيه الحسن ثلاثة : عبد الله والقاسم وأبو بكر , ومن أولاد عبد الله بن جعفر اثنان :عون ومحمد ومن أولاد عقيل : جعفر وعبد الله وعبد الرحمن ومسلم قتل قبل ذلك وممن قتل مع الحسين بكر بلاء أخوه من الرضاعة عبد الله بن يقطر ، وقد قيل قبل ذلك حيث بعث معه كتاباً إلى أهل الكوفة فحمل إلى ابن زياد فقتله وقتل من أهل الكوفة من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلاً سوى الجرحى . فصلى عليهم عمر بن سعد ودفنهم ويقال : إن عمر بن سعد أمر عشرة من الفرسان فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى ألصقوه بالأرض يوم المعركة وأمر برأسه أن يحمل من يومه إلى ابن زياد مع خولي بن يزيد الأصبحي فلما انتهى به إلى القصر وجده مغلقاً فرجع به إلى منزله فوضعه تحت إجاّنه وقال لامرأته نوار بنت مالك : جئتك بعز الدهر فقالت : ما هو ؟ فقال : برأس الحسين . فقالت : جاء الناس بالذهب والفضة وجئت أنت برأس ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله لا يجمعني وإياك فراش أبداً ثم نهضت من الفراش . فلم أصبح غدا به إلى ابن زياد فأحضره بين يديه ويقال إنه كان معه رؤوس بقية أصحابه وهو المشهور ومجموعها اثنان وسبعون رأساً وذلك أنه ما قتل قتيل إلا احتزوا رأسه وحملوه إلى ابن زياد ، ثم بعث بها ابن زياد إلى يزيد بن معاوية إلى الشام) (1) . ويقول ابن كثير:( ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء فوضعوا أحاديث كثيرة كذباً فاحشاً من كون الشمس كسفت يومئذٍ حتى بدت النجوم وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم
__________
(1) –البداية والنهاية (8/ 561 ) بتصرف ، وتاريخ خليفة بن خياط112(15/101)
وأن أرجاء السماء احمرت وإن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه الدم وصارت السماء كأنها علقه والكواكب ضرب بعضها بعضاً وأمطرت السماء دماً أحمر وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذ إلى أن قال : ابن كثير وللشيعة (1) والرافضة في صفة مصرع الحسين كذب كثير وأخبار باطلة ، وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه في حدود أربعمائة وما حولها فكانت الدبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، وبذر الرماد والتبن في الطرقات والأسواق ، وتغلق المسوح على الدكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلتئذ موافقة للحسين لأنه قتل عطشان ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن حافيات في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة والأهواء الفظيعة والهتائك المخترعة وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يشنعوا على دولة بني أمية لأنه قتل الحسين في دولتهم وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب من أهل الشام فكانوا في يوم عاشوراء يطبخون الحبوب(2) ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتخذون ذلك اليوم عيداً ويصنعون فيه أنواعاً من الأطعمة، ويظهرون فيه الفرح والسرور ويريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم إلى أن قال ابن كثير رحمه الله : فكل مسلم له أن يحزنه قتله - رضي الله عنه - , فإنه من سادات المسلمين وعلماء الصحابة وابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هي أفضل
__________
(1) – لمعرفة الفرق بين الشيعة والرافضة ارجع إلى هامش ص31 من هذا البحث .
(2) – قلت يوم عاشوراء هذا هو اليوم الذي نجى فيه موسى من فرعون ومن السنة أن ُيصام هذا اليوم واليوم الذي قبلهُ مخالفةً لليهود كما نصت على ذلك السنة المطهرة ،وأما ما يفعله كثير من الناس في هذه البلاد من طبخ الفول وتوزيعه واتخاذ هذا اليوم عيد هذا عمل ليس عليه دليل وفي ظني والله أعلم إنه عمل محدث سرى إلينا من أفعال النواصب الذين ذكرهم ابن كثير هنا(15/102)
بناته وقد كان عابداً شجاعاً شيخاً ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء , وقد كان أبوه أفضل منه فقتل وهم لا يتخذون مقتله مأتماً كيوم مقتل الحسين ، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة، وقد قتل وهو محصور في داره، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد ، ولم يتخذ الناس يوم مقتله مأتماً وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي قتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم مقتله مأتماً ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولد آدم في الدنيا والآخرة , وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله ،ولم يتخذ أحداً يوم موتهم مأتماً يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين ولا ذكر أحد أنه ظهر يوم موتهم وقبلهم شيء مما ادعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة، مثل كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء وغير ذلك) (1) .
(وروى البخاري من حديث شعبة ومهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب سمعت ابن أبي نعيم قال : سمعت عبد الله بن عمر وسأله رجل من أهل العراق عن المحرم يقتل الذباب فقال :أهل العراق يسألون عن قتل الذباب وقد قتلوا ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هما ريحانتاي من الدنيا رواه البخاري برقم 3753 ) (2).
ماذا تعرف عن الكوفة ؟؟ الجواب : (يقول الشيخ الشيعي باقر شريف القرشي :" إن الكوفة كانت مهداً للشيعة ، وموطناً من مواطن العلويين ، وقد أعلنت إخلاصها لأهل البيت في كثير من المواطن " حياة الإمام الحسين 3/12
__________
(1) البداية والنهاية ( 8/ 573 – 574) بتصرف
(2) –البداية والنهاية 8/576(15/103)
وقال الشيخ الشيعي جواد محدثى :" اشتهر أهل الكوفة تاريخياً بالغدر ونقض العهد ،وعلى كل حال فإن تاريخ الإسلام لا يحمل نظرة طيبة عن عهد والتزام أهل الكوفة" وقال أيضاً :"ومن جملة الخصائص النفسية والخلقية التي يتصف بها أهل الكوفة يمكن الإشارة إلى ما يلي : تناقض السلوك والتحايل والتلون والتمرد على الولاة والانتهازية وسوء الخلق والحرص والطمع وتصديق الإشاعات والميول القبلية إضافة إلى أنهم يتألفون من قبائل مختلفة ، وقد أدت كل هذه الأسباب إلى أن يعاني منهم الإمام علي عليه السلام الأمرَّين ، وواجه الإمام الحسن عليه السلام منهم الغدر ، وقتل بينهم مسلم بن عقيل مظلوماً ، وقتل الحسين عطشاناً في كر بلاء قرب الكوفة ، وعلى يد جيش الكوفة موسوعة عاشوراء ص 59 ) (1)
من قتل الحسين؟
يجيبك على هذا السؤال كبار أئمة الشيعة الروافض فهذه شهاداتهم على بني جلدتهم : ( 1-قال الشيعي حسين كوراني : " أهل الكوفة لم يكتفوا بالتفرق عن الإمام الحسين ، بل انتقلوا نتيجة تلون مواقفهم إلى موقف ثالث ، وهو أنهم بدأوا يسارعون بالخروج إلى كر بلاء ، وحرب الإمام الحسين علية السلام ، وفي كربلاء كانوا يتسابقون إلى تسجيل المواقف التي ترضي الشيطان ، وتغضب الرحمن ، مثلاً نجد أن عمرو بن الحجاج الذي برز بالأمس في الكوفة وكأنه حامي حمى أهل البيت ، والمدافع عنهم ، والذي يقود جيشاً لإنقاذ العظيم هانئ بن عروة ، يبتلع كل موقفه الظاهري هذا ليتهم الإمام الحسين بالخروج عن الدين لنتأمل النص التالي : وكان عمرو بن الحجاج يقول لأصحابه: قاتلوا من مرق عن الدين وفارق الجماعة " في رحاب كربلاء ص 60-61 "
__________
(1) –من قتل الحسين ؟ ص 13- 14(15/104)
2- يقول الشيعي كاظم الإحسائي النجفي :"إن الجيش الذي خرج لحرب الإمام الحسين - عليه السلام - ثلاثمائة ألف ، كلهم من أهل الكوفة ، ليس فيهم شامي ولا حجازي ولا هندي ولا باكستاني ، ولا سوداني ، ولا مصري ، ولا أفريقي ، بل كلهم من أهل الكوفة ، قد تجمعوا من قبائل شتى" "عاشوراء ص 89 "
3-قال المؤرخ الشيعي حسين بن أحمد البراقى النجفي " قال القز ويني : ومما نقم على أهل الكوفة أنهم طعنوا الحسن بن علي - عليه السلام - ، وقتلوا الحسين عليه السلام بعد أن استدعوه "تاريخ الكوفة ص113 "
4-وقال الشيعي جواد محدثتي " وقد أدت كل هذه الأسباب إلى أن يعاني منهم الإمام علي عليه السلام الأمرَّين ، وواجه الإمام الحسن عليه السلام منهم الغدر ، وقتل بينهم مسلم بن عقيل مظلوماً ، وقتل الحسين عطشاناً في كربلاء قرب الكوفة وعلى يدي جيش الكوفة " موسوعة عاشوراء ص59 ) (1)
ما هو موقف أهل السنة من قتل الحسين - رضي الله عنه - ؟
الجواب : ( أما موقف أهل السنة من مقتل الحسين رضي الله عنه فيلخصه شيخ الإسلام ابن تيميه في مجموع الفتاوى ( 4 /511) بقوله : " وقد أكرمه الله بالشهادة وأهان ذلك من قتله أو أعان على قتله ، أو رضي بقتله وله أسوةً حسنه بمن سبقه من الشهداء ، فإنه وأخوه سيدا شباب الجنة ، وقد كانا قد تربيا في عز الإسلام لما ينالا من الهجرة والجهاد والصبر والأذى في لله ما نالهُ أهل بيته فأكرمهما الله بالشهادة تكميلاً لكرامتهما ورفعاً لدرجاتهما وقتلهُ مصيبة عظيمة . والله سبحانه وتعالى قد شرع الاسترجاع عند المصيبة بقوله تعالى :" وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم وأولئك هم المهتدون"البقرة 155-157" ) (2)
الباب الرابع
الأدلة على عدالة الصحابة من القرآن الكريم
__________
(1) - من قتل الحسين ؟ ص 39 -41
(2) –من قتل الحسين ص 12(15/105)
قال الله تعالى : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح:29) يقول الشيخ الدكتور محمد بن عبد الرحمن المغراوي المغربي :[ قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : ( وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور ) وقال ابن إدريس رحمه الله : " لا آمن أن يكونوا قد ضارعوا الكفار- يعني الرافضة – لأن الله تعالى يقول :{ ليَغيظَ بهمُ الكُفَّار } " تفسير ابن الجوزي " . قال أبو عروة الزبيري رحمه الله : ( كنا عند مالك فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقرأ مالك هذه الآية : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } .قال مالك : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب محمد عليه السلام فقد أصابته الآية )" رواه الخلال ، وأبو نعيم وذكره ابن الجوزي مختصراً في تفسيره ، ونقل القرطبي هذا الأثر وعزاه للخطيب ثم قال : ( لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله فمن نقص واحداً(15/106)
منهم أو طعن عليه في روايته فقد ردَّ على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين) " تفسير القرطبي " .قال الله تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }،{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (الحشر: 8 ، 10 ) . وقال شيخ الإسلام رحمه الله في " منهاج [ 2/18 – 19 ] وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار ، وعلى الذي جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلاً لهم ، وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفيء ، ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة ، فإنهم لم يستغفروا للسابقين الأولين ، وفي قلوبهم غلّ عليهم . ففي الآيات الثناء على الصحابة وعلى أهل السنة الذين يتولونهم ، وإخراج الرافضة من ذلك ، وهذا نقيض مذهب الرافضة ، وقد روى ابن بطَّة وغيره من حديث أبي بدر عن سعد بن أبي وقاص قال : الناس على ثلاث منازل ، فمضت منزلتان وبقيت واحدة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ، ثم قرأ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً } . هؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت . ثم قرأ { وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } . ثم قال(15/107)
هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت .ثم قرأ { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } . فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا الله لهم . وقال ابن أبي العز رحمه الله : فمن أضل ممن يكون في قلبه غلٌّ على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين ؟ بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة ، قيل لليهود : من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب موسى ، وقيل للنصارى : من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب عيسى ، وقيل للرافضة : من شر أهل ملتكم ؟ قالوا أصحاب محمد !! لم يستثنوا منهم إلا القليل ، و فيمن سبُّوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة "شرح الطحاوية [ 470 ] " . وقال سبحانه وتعالى : { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } الحديد:10 . والحسنى هي الجنة كما ورد مرفوعاً وموقوفاً من طرق كثيرة مستفيضة . واستدل ابن حزم رحمه الله تعالى : { وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُّ الحُسنَى } إن جميع الصحابة بدون استثناء من أهل الجنة مقطوع بذلك ، ورضي الله عنهم من فوق سبع سماوات في قوله { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } (الفتح:18) . وفي قوله : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ(15/108)
اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:100) . وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى : فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم ، أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة - رضي الله عنه - ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم ، عياذاً بالله من ذلك ؛ وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة ، وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله تعالى عنهم ، وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله ، ويوالون من يوالي الله ، ويعادون من يعادي الله ، وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدون ، ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون " في تفسيره [ 2/367 ] . وقال ابن حزم رحمه الله تعالى :( أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم ورضي عنهم وأنزل السكينة عليهم فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ولا شك فيهم ) والآيات القرآنية في مدحهم وتعظيم قدرهم كثيرة منها : قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } آل عمران: 110 . وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } البقرة:143. فمن المخاطب وقت نزول الآيتين غير الصحابة ؟ فهم المخاطبون بذلك خطاباً أولياً ، فثبت خيريتهم رضي الله تعالى عنهم على كافة الناس غير الأنبياء وجعلهم الله شهداء على الناس يوم القيامة لفضلهم وشرفهم وعلو منزلتهم . ومنها قوله تعالى : { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ(15/109)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } التحريم:8 . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ( وفي الجملة كل ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقين والمحسنين ومدحهم والثناء عليهم ، فهم – أي الصحابة – أول من دخل في ذلك من هذه الأمة ، وأفضل من دخل في ذلك من هذه الأمة ) " منهاج السنة [ 2/49-50 ] ](1).
الأدلة على عدالة الصحابة من السنة النبوية وأقوال السلف?
__________
(1) - من سب الصحابة ومعاوية فأمه هاوية . ص 2-6(15/110)
يقول الشيخ المغراوي [ قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبّوا أحدا من أصحابي فان أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)(1) - قال شيخ الإسلام ابن تيميه : ( وذلك إن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام وقلة أهله ، وكثرة الصوارف عنه ، وضعف الدواعي إليه لا يمكن لأحد أن يحصل له مثله من بعدهم . وهذا يعرف بعضه من ذاق الأمر ، وعرف المحن والابتلاء الذي يحصل للناس ، وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة . وهذا مما يعرف به أن أبا بكر - رضي الله عنه - لن يكون أحد مثله ، فان اليقين والإيمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحد . قال أبو بكر بن عياش : ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه . وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول ، مؤمنين به مجاهدين معه ، إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم) (2). وقال العلامة الشوكاني : ( فانظر إلى هذه المزية العظيمة ، والخاصية الكبيرة التي لم تبلغ من غيرهم إنفاق مثل الجبل الكبير من الذهب نصف المد الذي ينفقه الواحد منهم ، فرضي الله عنهم أرضاهم فهم أفضل أولياء الله سبحانه وأكرمهم عليه وأعلاهم منزلة عنده ،: وهم الذين عملوا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ) (3) وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم … الحديث ) وهو خبر متواتر وقد رواه جمع من الصحابة الكرام منهم : أبو هريرة وعبد الله بن مسعود وعمران بن الحصين والنعمان بن بشير وعائشة وبريده وأبو برزة وعمر بن الخطاب وسمرة وسعد بن تميم وجعده بنت هبيرة وجميلة بنت أبى لهب (4). وقال صلى الله عليه وسلم : من سب أصحابي فعليه لعنة
__________
(1) – رواه البخاري 3673 ، ومسلم 2541
(2) - منهاج السنة 6/ 223
(3) - قطر الولي . ص : 255
(4) - انظر الأزهار المتناثرة للسيوطي ولقط الآلي للزبيدي ص : 72 ونظم المتناثر للكتاني127(15/111)
الله والملائكة والناس أجمعين (1).قال الإمام الآجر ي : ( ومن سبهم فقد سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن سب رسول الله استحق اللعنة من الله عز وجل ومن الملائكة ومن الناس أجمعين ) (2) . وقال أيضاً : ( لقد خاب وخسر من سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لانه خالف الله ورسوله و لحقته اللعنة من الله عز وجل ومن رسوله ومن الملائكة ومن جميع المؤمنين ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، لا فريضة ولا تطوعا ، وهو ذليل في الدنيا ، وضيع القدر ، كثّر الله بهم القبور ، و أخلى منهم الدور )(3) وقال صلى الله عليه وسلم : ( النجوم آمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد . وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبتُ
__________
(1) أخرجه أبو نعيم ورواه الطبراني عن ابن عباس موصولا وقال الألباني : ( وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه حسن عندي على اقل الدرجات والله اعلم ) .
(2) - الشريعة 3/ 543
(3) - الشريعة 3/ 550(15/112)
أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) (1) . قال ابن القيم رحمه الله : ( … جعل نسبة أصحابُه لمن بعدهم كنسبتهِ إلي أصحابهِ ، وكنسبة النجوم إلى السماء ومن المعلوم إن هذا التشبيه يُعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم ،وأيضاً فإنهُ جعل بقائهم بين الأمة آمنةً لهم وحِرزاً من الشر وأسبابه ) (2) .وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضاً : ( يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال لهم : فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيقولون : نعم فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم : فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون نعم ، فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : نعم ، فيفتحُ لهم (3) . وقال - صلى الله عليه وسلم - : استوصوا بأصحابي خيراً ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم … . وفي رواية : أحسنوا إلى أصحابي ، وفي رواية : احفظوني في أصحابي ، وفي رواية : أكرموا أصحابي ، وفي أخرى : أوصيكم بأصحابي (4) . وقال - صلى الله عليه وسلم - : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا ، و إذا ذكر النجوم فأمسكوا و إذا ذكر القدر فأمسكوا (5)
__________
(1) - احمد 4/ 399 ، ومسلم 2531
(2) - – إعلام الموقعين 4/ 137
(3) - البخاري 3649 ، ومسلم 2532
(4) – رواه احمد والترمذي وقال حسن صحيح من هذا الوجه .ورواه الحاكم وصححه واقره الذهبي وقد صحح الحديث أحمد شاكر رحمه الله وكذا الألباني في الصحيحة .
(5) - رواه الطبراني وأبو نعيم وغيرهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وحسنه الحافظان العراقي وابن حجر وصححه الألباني لشواهده أنظر الصحيحة(15/113)
. ومعنى : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا قال أبو الحسن الأشعر ي ، في رسالته إلى أهل الثغر ص : 172 قال أهل العلم : ومعنى ذلك لا تذكروهم إلا بخير الذكر .وقال - صلى الله عليه وسلم - . آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار . وقال في الأنصار كذلك .لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق رواة البخاري ومسلم / قال ابن عمر - رضي الله عنه - : لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم أربعين سنة وفي رواية خير من عبادة أحدكم عمره ) (1) . وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : ( إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه] (2). يقول الإمام مالك في الذين يقدحون في الصحابة : إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال رجل سوء ولو كان صالحاً لكان أصحابه صالحين) (3)
عدالة جميع الصحابة بدون استثناء عند المحدثين
قال الحافظ بن حجر : ( اتفق أهل السنة على إن الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة )
__________
(1) رواه أحمد في فضائل الصحابة وابن ماجة وصححه البوصيري ، وحسنه الألباني
(2) -– أخرجه أحمد وقال الشيخ أحمد شاكر : ( أسانده صحيح وهو موقوف على ابن مسعود ) وصححه الحاكم وأقره الذهبي وقال الألباني : ( ثم أخرجه – أي الخطيب في الفقيه والمتفقه – من طريق عبد الرحمن بن يزيد : فذكره وإسناده صحيح
(3) – من سب الصحابة ومعاوية ص7-15(15/114)
قال القرطبي : ( فالصحابة كلهم عدول أولياء الله تعالى وأصفياؤه وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله ، هذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم ) "الجامع لأحكام القرآن : 16 / 285 – 286 ) . قال ابن عبد البر : ( ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل عليهم وثناء رسوله عليه السلام ، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته ولا تزكية أفضل من ذلك ولا تعديل أكمل منه ) . ثم قال : ( وهم أولو العلم والدين والفضل ، وخير أمة أخرجت للناس ، وخير القرون ، ومن قد رضي الله عنهم ، وأخبر بأنهم رضوا عنه ، وأثنى عليهم بأنهم الرحماء بينهم ، الأشداء على الكفار ، الركع السجود ، وأنهم الذين أوتوا العلم .
قال ابن كثير : ( والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم وما بذلوه فيه من الأموال و الأرواح بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل والجزاء الجميل ) .
ثم قال : ( وقول المعتزلة الصحابة عدول إلا من قاتل عليا قول باطل مرذول ومردود ) .
قال ابن صلاح في مقدمته : ( للصحابة بأسرهم خاصية وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم بل ذلك مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة ، قال الله تبارك وتعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) "آل عمران : 110".(15/115)
الآية ، قيل : اتفق المفسرون على أنه وارد في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال تعالى : ( وكذلك .......الناس ) " البقرة : 142 " . وهذا خطاب مع الموجودين حينئذ … ) .ثم قال : ( إن الأمة مجمعة على تعديل الصحابة ومن لابس الفتن منهم ، فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع إحساناً للظن بهم ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع إحساناً للظن بهم ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه وتعالى وأتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة والله أعلم ) قال ابن حزم رحمه الله : ( وكلهم عدل إمام فاضل رضى ) . قال النووي : ( الصحابة كلهم عدول ، من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به ) . وقال السخاوي :( وهم رضي الله عنهم باتفاق أهل السنة عدول كلهم مطلقا كبيرهم وصغيرهم ، لابس الفتن أم لا . وجوبا لحسن الظن ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر من امتثال أوامره بعده وفتحهم الأقاليم وتبليغهم عنه الكتاب والسنة وهدايتهم الناس ، ومواظبتهم على الصلاة والزكاة وأنواع القربات من الشجاعة والبراعة والكرم والآثار والأخلاق الحميدة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة )وقال ابن الجوزي : ( أجمع صالحوا هذه الأمة وعلى رأسهم السلف الكرام على استهجان واستقباح النيل من أحد الصحابة ، وهجروا فاعله ورموه بالرزيات وأوقعوا به شتى العقوبات ، وقد توعده القرآن والسنة بالخزي في الحياة وبعد الممات ، قال تعالى : ( ومن يشاقق --- مصيرا ) "النساء :115" . وَمَنْ المؤمنون حين نزول هذه الآية غير الصحابة ؟ فجهنم لمن اتبع غير سبيلهم . فكيف بمن سبهم وشتمهم وأبغضهم ؟ قال أبو الحسن الأشعر ي : ( وأجمعوا " أي أهل السنة والجماعة " على النصيحة للمسلمين والتولي لجماعتهم وعلى التوادد في الله والدعاء لأئمة المسلمين ،والتبري ممن ذم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته و(15/116)
أزواجه ، وترك الاختلاط بهم ، والتبري منهم ) (1) .
الأدلة القرآنية على حرمة الطعن في الصحابة
يقول شيخ الأسلام ابن تيميه : (أما الأولُ فلأنّ الله سبحانه يقول: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } وأدنى أحوال السابّ لهم أن يكون مغتاباً، وقال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } (وَالطَّاعِنُ عَلَيْهِمِ هُمَزَة لُمَزَةٌ) وقال: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً } وهم صدور المؤمنين فإنهم هم المواجَهون بالخطاب في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } حيث ذُكرت، ولم يكتسبوا ما يوجب أذاهم، لأن الله سبحانه رضي عنهم رضىً مطلقاً بقوله تعالى: (وَالسَّابِقُوْنَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسانٍ، ولم يرضَ عن التابعين إلا أن يتّبعوهم بإحسانٍ، وقال تعالى: (لَقَدْ رَضي اللهُ عَنِ المُؤْمِنينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } والرضى من الله صفةٌ قديمةٌ، فلا يرضى إلا عن عبدٍ علم أنه يوافيه على موجبات الرضى ومَن - رضي الله عنه - لم يسخط عليه أبداً، وقولة تعالى: (إذْ يُبَايِعُوْنَكَ } سواءٌ كانت ظرفاً محضاً أو ظرفاً فيها معنى التعليل فإن ذلك ظرفٌ لتعلق الرضى بهم، فإنه يسمى رضىً أيضاً كما في تعلق العلم والمشيئة والقدرة وغير ذلك من صفات الله سبحانه، وقيل: بل الظرفُ يتعلقُ بنفسِ الرضى، وإنه يرضى عن المؤمن بعد أن يطيعه، ويسخط عن الكافر بعد أن يعصيه، ويحبُّ من اتبع الرسول بعد اتباعه له، وكذلك أمثال هذا، وهذا قول جمهور السلفِ وأهل الحديث وكثير من أهل الكلام وهو الأظهر، وعلى هذا فقد بيّن في مواضع أُخر أن
__________
(1) - من سب الصحابة ومعاوية فأمهُ هاوية ص 38-39(15/117)
هؤلاء الذين رضي اللهُ عنهم هم من أهل الثواب في الآخرة، ويموتون على الإيمان الذي به يستحقون ذلك، كما في قوله تعالى: (وَالسَّابِقُوْنَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله ُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِيْ تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيْهَا أَبَداً ذلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ } . وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لاَ يَدْخُل النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشّجَرَةِ".وأيضاً فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح، فإنه يذكر ذلك في مَعْرِض الثناء عليه والمدح عليه، فلو علم أنه يَتَعقّب ذلك ما يُسخط الرَبَّ لم يكن من أهل ذلك، وهذا كما في قوله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيْةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي } ولأنه سبحانه وتعالى قال: (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلى النَّبيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار ِالّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيْغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَحِيمٌ } وقال سبحانه وتعالى: (وَاصبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَ العَشِيِّ يُرِيْدُونَ وَجْهَهُ } وقال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً } الآية، وقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للِنَّاسِ } وقال تعالى ( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } ، وهم أول من وُجِّه بهذا الخطاب، فهم مرادون بلا ريبٍ، وقال ـ سبحانه وتعالى :(15/118)
(وَالّّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدَهُمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بَالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلّذينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَحِيمٌ } فجعل سبحانه ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للمهاجرين والأنصار والذين جاءوا من بعدهم مستغفرين للسابقين وداعين لله أن لا يجعل في قلوبهم غِلاً لهم، فعُلم أن الاستغفار لهم وطهارة القلب من الغِلِّ لهم أمرٌ يحبهُ الله و يرضاه، ويُثني على فاعله، كما أنه قد أمر بذلك رسوله في قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ } ، وقال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } ومحبةُ الشيء كراهةٌ لضده، فيكون الله سبحانه وتعالى ـ يكرهُ السب لهم الذي هو ضدُّ الاستغفار والبغض لهم الذي هو ضدُّ الطهارةِ، وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها: "أُمِرُوا بِالاِسْتِغْفَارِ لأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فَسَبُّوهُمْ" رواه مسلمُ. وعن مجاهدٍ عن ابن عباسٍ قال: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَمَرَنَا بَالاِسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيَقْتَتِلُونَ" رواه الإمام أحمد.(15/119)
وعن سعد بن أبي وقاصٍ قال: "النَّاسُ عَلى ثَلاث مَنَازِلَ، فَمَضَتْ مَنْزِلَتَانِ وَبَقِيَتْ وَاحِدَة، فأحسن ما أنتم كائنونَ عليهِ أن تكونوا بهذه المنزلةِ التي بقيت، قال: ثم قرأَ: (لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ } إلى قوله: (وَ رِضْوَاناً } فهؤلاء المهاجرون، وهذه منزلةٌ قد مضت (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } إلى قوله: (وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } قال: هؤلاء الأنصارُ، وهذه منزلةٌ قد مضت، ثم قرأ: (وَالَّذَينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ } إلى قوله: (رَحِيمٌ } قد مضت هاتان، وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم كائنونَ عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت"، يقولُ: أن تستغفروا لهم، ولأن مَن جَاز سبُّهُ بعينهِ أو لعنته لم يجز الاستغفار له، كما لا يجوز الاستغفارُ للمشركين لقوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَو كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيم } وكما لا يجوز أن يستغفر لجنس العاصيين مُسمَّين باسم المعصية، لأن ذلك لا سبيل إليه، ولأنه شرع لنا أن نسأل الله أن لا يجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا، والسب باللسانِ أعظمُ من الغِلِّ الذي لا سبَّ معهُ، ولو كان الغِلُّ عليهم والسبُّ لهم جائزاً لم يشرع لنا أن نسأله ترك ما لا يضرُّ فِعْلهُ، ولأنه وَصَفَ مستحقي الفيء بهذه الصفة كما وَصَفَ السابقين بالهجرة والنصرة، فعُلم أن ذلك صفةٌ لهم وشرطٌ فيهم، ولو كان السبُّ جائزاً لم يشترط في استحقاق الفيء ترك أمرٍ جائزٍ كما لا يشترط ترك سائر المباحاتِ، بل لو لم يكن الاستغفارُ لهم واجباً لم يكن شرطاً في استحقاقِ الفيءِ (لأِنَّ استِحْقَاقَ الفَيء) لا يشترك فيه ما ليس بواجبٍ، بل هذا دليلٌ على أن الاستغفار لهم داخلٌ في عَقْد(15/120)
الِّدين وأصله.)(1)
الأدلة من السنة على عدم جواز سب الصحابة
وأما السنةُ ففي الصحيحين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فوا لذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيْفَهُ".وفي رواية لمسلم، واستشهد بها البخاري، قال:"كَانَ بَيْنَ خَالِدِ ابن الوَلِيدِ وَبَيْنَ عبدا لرحمن بن عَوْفٍ شَيءٌ، فسبَّهُ خالدٌ، فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَإنَّ أَحَدَكُمْ لَو أَنْفَقَ مَثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيْفَهُ". وفي روايةٍ للبرقاني في صحيحه: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَإِنًَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيْفَهُ". والأصحابُ: جمعُ صاحبٍ، والصاحبُ: اسم فاعل من صحبه يصحبُه، وذلك يقع على قليلِ الصحابةِ و كثيرها، لأنه يقالُ: صحبته ساعة، وصحبته شهراً وصحبته سنةً، قال الله تعالى: (وَالصَّاحِبُ بِالجَنْبِ } قد قيل: هو الرفيقُ في السفرِ، وقيل: هو الزوجةُ، ومعلومٌ أن صحبةَ الرفيقِ وصحبةَ الزوجةِ قد تكون ساعةً فما فوقها، وقد أوصى الله به إحساناً ما دام صاحباً، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الجِيْرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لجارِهِ"، وقد دخل في ذلك قليل الصحبة و كثيرها، وقليلُ الجوار و كثيره، وكذلك قال الإمام أحمد وغيره: "كل من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنةً أو شهراً أو يوماً أو رآه مؤمناً به فهو من أصحابه له من الصُّحبة بقدر ذلكَ".فإن قيل: فَلِم نهى
__________
(1) - الصارم المسلول ج 2ص 171-172(15/121)
خالداً عَنْ أن يسب أصحابه، إذا كان من أصحابه أيضاً؟ وقال: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مَثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيْفَهُ". قلنا: لأن عبد الرحمن بن عَوْفٍ ونظراءه هم من السابقين الأولين الذين صحبوه في وقتٍ كان خالدٌ وأمثاله يعادونه فيه، وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا، وهم أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وكلاً وَعَدَ الله الحسنى، فقد انفردوا من الصحبة بما لم يَشْرَكهم فيه خالدٌ، فَنَهى خالداً ونُظَراءه ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل، أن يسبَّ أُولئكَ الذين صحبوه قبله، ومن لم يصحبه قطُّ نسبته إلى من صحبه كنسبة خالدٍ إلى السابقين وأبعد. وقوله: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي" خطابٌ لكلِّ أحدٍ أن يسبَّ من انِفرد عنه بصحبته - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أخر: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي أَتَيْتُكُمْ، فَقُلتُ: إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ، فَهَلَ أَنْتُمْ تاركو لِي صَاحِبي؟ فَهَلْ أَنْتُمْ تاركو لِي صَاحِبي"؟ أو كما قال بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لما غامر بعض الصحابةِ أبا بكرٍ، وذاك الرجلُ من فضلاءِ أصحابه، ولكن امتاز أبو بكر عنه بصحبةٍ انفرد بها عنه. وعن محمد بن طلحة المدني عن عبدا لرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنَّ اللهَ اخْتَارَنِي، وَاخْتَارَ لِي أَصْحَاباً، جَعَلَ لِي مِنْهُمْ وُزَرَاءَ وَأَنْصَاراً وَأَصْهَاراً، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَ المَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهَ يَوْمَ القِيامَةِ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً" وعن عبد الله بن مُغَفّلٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله(15/122)
اللهَ فِي أصْحَابِي، لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضاً مِنْ بَعْدِي، مَنْ أَحَبَّهُمْ فَقَدْ أَحَبَّنِي، ومن أَبْغَضَهُمْ فَقَدْ أَبْغَضَنِي، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَن آذَانِي فَقَد آذَى اللهَ، وَمَنْ آذَى اللهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ" رواه الترمذيُّ وغيره من حديث عبيده بن أبي رائطة عن عبد الرحمن بن زيادٍ عنه، وقال الترمذي: "غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه". ورُوي هذا المعنى من حديث أنسٍ أيضاً، ولفظه: "مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَقَدْ سَبَّنِي، وَمَنْ سَبَّنِي فَقَدْ سَبَّ اللهَ" رواه ابن البناءِ. وعن عطاء بن أبي رباحٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعَنَ اللهُ مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي" رواه أبو أحمد الزبيريّ: حدثنا محمدُ بن خالدٍ عنه، وقد رُوي عنه عن ابن عمر مرفوعاً من وجهٍ آخر، رواهما اللالكائي. ولما جاء فيه من الوعيد قال إبراهيم النخعي: "كان يقال: شَتْمُ أَبي بكر وعمر من الكبائرِ"، وكذلك قال أبو إسحاق السبيعي: "شَتْم أبي بكرٍ وعمر من الكبائر التي قال الله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنْهُ } "، وإذا كان شَتْمهم بهذه المثابة فأقل ما فيه التعزيرُ، لأنه مشروعٌ في كُلِّ معصيةٍ ليس فيها حدٌّ ولا كفارةٌ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً" وهذا مما لا نعلم فيه خلافاً بين أهل الفقه والعلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسانٍ وسائر أهل السنة والجماعة، فإنهم مجمعون على أن الواجبَ الثناءُ عليهم، والاستغفار لهم، والتّرحّمُ عليهم، و التّرضّي عنهم، واعتقادُ محبتهم وموالاتهم، وعقوبةُ مَنْ أَساء فيهم القول(1).
حكم من سبّ أحداً من الصحابة
__________
(1) – الصارم المسلول ج2/ 173-174(15/123)
يقول الدكتور المغراوي :[ اعلم أن سب المسلم ذنب عظيم وخلق ذميم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) "متفق عليه " . وقال : ( لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك )"رواه البخاري " .وقال : ( من لعن مؤمنا فهو كقتله ، ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله ) " رواه البخاري " . وقال : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) " رواه البخاري ومسلم من وجه آخر " . فإذا كان هذا الوعيد الشديد يلحق من سب مسلما من رعاع الناس فكيف بمن سب خيرة الناس بعد الأنبياء فالوعيد عليه أشد والخسران به ألحق ، قال الله تعالى : ( والذين يؤذون.... مبينا ) "الأحزاب : 58 " . وقال : ( ويل لكل همزة لمزة ) قال ابن عباس ( همزة لمزة ) : طعان معياب . ويا من يقول قول سوء في الصحابة الكرام ولم يتعظ بالمواعظ العظام ، وسلك سبيل اللئام ألا تخاف من بطش رب الأنام ؟ ( فكيف تقدم على شيء لم يكن عليه أمر الله ورسوله وكل ما لم يكن عليه أمرهما فهو رد ، أي باطل ، كيف وقد أمرك الله ورسوله بخلافه ، ونهاك عن سب كل من اتصف بالإسلام كيف وقد أمرك الله تعالى بطلب المغفرة منه لمن سبق كيف وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه قد رضي عنهم ، أ فيرضى عنهم وتسخط عنهم أنت يا عامي يا جاهل ، فان قلت : إنما أمر الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء لهم قبل أن يقع ما وقع قلت : هذا كفر لأن الله تعالى عالم بما كان وما سيكون فلو علم لقيد الأمر بمن لم يقع منه شيء وقد أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك كما هو معروف وكان سينقلب علم الله تعالى جهلا أو أنه وقع شيء وهو لا يعلمه أو أنهم فعلوا شيئا لا قدرة له على دفعه وكل واحد من هذه الثلاثة لا يقول به إلا كافر نعوذ بالله من ذلك ) " من كتاب ( القول الشافي السديد في نصح المقلد و إرشاد المستفيد ) لعلي محمد بن علي الشوكاني – وهو ابن العلامة(15/124)
الشوكاني .وقال العلامة علي القاري : ( وأما من سب أحدا من الصحابة فهو فاسق و مبتدع بالإجماع ، إلا إذا اعتقد انه مباح ، كما عليه بعض الشيعة وأصحابهم ، أو يترتب عليه ثواب كما هو دأب كلامهم ، أو اعتقد كفر الصحابة وأهل السنة في فصل خطابهم ؛ فانه كافر بالإجماع . وبعد هذا أتركك أخي القارئ مع إمام همام وهو شيخ الإسلام بحق ابن تيميه الحراني يفصل لك القول في ذلك ، وسأنقل كلامه وإن طال لنفاسته وأهميته . قال رحمه الله " في الصارم المسلول (1) فأما مَن سبَّ أحداً مِن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته وغيرهم فقد أطلق الإمام أحمد أنه يُضربُ ضرباً نكالاً، وتوقف عن كفره وقتله. قال أبو طالبٍ : سأَلت أحمد عمن شتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: القتل أَجْبُنُ عنه، ولكن أضربه ضرباً نكالاً". وقال عبد الله: "سأَلت أبي عمن شتم رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أرى أن يضرب، قلت له: حدٌّ، فلم يقف على الحد، إلا أنه قال: يُضرب، وقال: ما أراه على الإسلامِ". وقال: سَأَلْتُ أَبِي: مَنِ الرَّافِضَةُ؟ فَقَالَ: الّذِينَ يَشْتُمُونَ ـ أو يسبون ـ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما". وقال في الرسالة التي رواها أبو العباس أحمد بن يعقوبَ الإصطخري وغيره: "وخير الأمةِ بعدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكرٍ وعمرُ بعدَ أبي بكرٍ، وعثمان بعد عمرَ، وعلي بعد عثمانَ، ووقفَ قومٌ عَلَى عُثمانَ وهم خلفاءُ راشدون مهديون، ثم أصحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعد هؤلاء الأربعةِ خير الناسِ، لا يجوز لأحدٍ أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحدٍ منهم بعيبٍ ولا نقصٍ، فمن فعل ذلك فقد وجب عَلَى السُّلْطَانِ تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبهُ، فإن تاب قُبِلَ منهُ، وإن ثبت أعادَ عليهِ العقوبَةَ وخلده في الحبس حتى يموت أو يُراجعَ. وحكى
__________
(1) – ج2 ص/169(15/125)
الإمام أحمد هذا عمن أدركه من أهل العلم، وحكاه الكرماني عنه وعن إسحاق و الحميد ي وسعيد بن منصورٍ وغيرهم. وقال الميموني: "سمعت أحمد يقول: ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية، وقال لي: يا أبا الحسن إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوءٍ فاتهمه على الإسلام".فقد نصّ رضي الله عنه على وجوب تعزيره، واستتابته حتى يرجع بالجلد، وإن لم ينته حبس حتى يموت أو يراجع، وقال: ما أراه على الإسلام، واتهمه على الإسلام، وقال: أجبنُ عن قتله.وقال إسحاق بن راهويه: من شتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعاقب ويحبس .
وهذا قول كثير من أصحابنا، ومنهم ابن أبي موسى، قال: "ومن سب السلف من الروافض فليس بكفؤ ولا يُزوج، ومن رمى عائشة رضي اللهُ عنها بما برأها اللهُ منه فقد مَرَقَ من الدِّين، ولم ينعقد له نكاح على مسلمة، إلا أن يتوب ويظهر توبتَهُ"، وهذا في الجملة قول عمر بن عبدا لعزيز وعاصمِ الأحول وغيرهما من التَّابِعِيْنَ.
قال الحارث بن عتبة: "إنّ عُمَرَ بن عبدا لعزيز أُتِي برجلٍ سبَّ عثمان، فقال: ما حملك على أن سببته؟ قال: أُبغضهُ، قال: وإن أبغضتَ رجلاً سببته؟ قال: فأمر به فجُلِد ثلاثين سوطاً". وقال إبراهيم بن ميسرةَ: "مَا رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ عبدا لعزيز ضَرَبَ إنسَاناً قَطُّ، إلاّ إنسَاناً شتم معاويةَ فضربهُ أسوَاطاً". رواهما اللالكائي.
وقد تقدم عنه[ أي في الصفحات السابقة من كتاب الصارم المسلول] أنهُ كَتب في رجلٍ سبَّهُ: "لا يقتل إلا من سب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن اجلده فوق رَأسه أَسواطاً، ولولا أني رجوت أن ذلك خير له لم أَفعلْ".
وروى الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم الأحول قال: "أُتِيْتُ برجلٍ قدْ سبَّ عُثمانَ، قال: فضربتهُ عشرةَ أسواطٍ، قالَ: ثمَّ عَادَ لِمَا قَالَ: فضربتهُ عشرةً أخرى، قال: فلم يزل يَسُبُّهُ حتى ضربتُهُ سبعينَ سَوطاً".(15/126)
وهذا هو المشهورُ من مذهب مالكٍ، قال مالكٌ: "من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل، ومن شتم أَصحابه أُدّبَ" (1).وقال عبد الملك بنُ حبيب: "مَنْ غَلاَ مِنَ الشِّيْعَةِ إلى بُغْضِ عثمان والبراءة منهُ أُدِّبَ أدباً شديداً، ومَن زادَ إلى بُغضِ أبي بكرٍ وعمرَ فالعقوبةُ عليهِ أشدُّ، ويُكرَّرُ ضربُهُ، ويُطَالُ سجنهُ حتى يموتَ، ولا يبلغُ به القتل إلاّ في سَبّ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -".وقال ابن المنذرِ: "لا أعلم أَحداً يوجب قتل من سب من بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -". وقال القاضي: أبو يعلى: الذي عليه الفقهاءُ في سبّ الصحابةِ: "إن كان مستحلاً لذلك كفر، وإن لم يكن مستحلاً فَسَق ولم يكفر، سواء كَفَّرهم أو طَعَن في دينهم مع إسلامهم". وقد قطع طائفةٌ من الفقهاء من أهل الكوفةِ وغيرهم بقتل من سبّ الصحابة وَكُفْرِ الرَّافضةِ. قال محمدُ بن يوسف الفريابي، وسئل عمن شتم أبا بكر، قال: "كافر، قيل: فيُصلَّى عليه؟ قال: لا، وسأله: كيف يُصنع به وهو يقول لا إله إلا الله؟ قال: لا تمسوه بأيديكم، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته". وقال أحمد بن يونس: "لو أن يهودياً ذبح شاة وذبح رافضي لأَكلت ذبيحة اليهودي، ولم آكل ذبيحة الرافضي، لأَنه مرتد عن الإسلام". وكذلك قال أبو بكر بن هانئ: "لا تُؤكل ذبيحة الروافض والقدريةِ كما لا تُؤكلُ ذبيحةُ المرتدّ، مع أنهُ تُؤكل ذبيحةُ الكتابّي، لأن هؤلاء يُقامونَ مقامَ المرتدّ، وأهل الذمةِ يُقَرُّونَ على دينهم، وتُؤخذُ منهم الجزيةُ". وكذلك قال عبد الله بن إدريس من أعيانِ أئمة الكوفةِ: "ليس لرافضي شفعة لأَنه لا شفعة إلا لمسلمٍ. وقال فضيلُ بن مرزوقٍ:
__________
(1) – قلت :إذا كان هذا هو مذهب مالك فيمن يشتم أحد من الصحابة ، فماذا يقول الإمام مالك رحمه ُ الله لو رأى شبابنا الذين يسبون دين الله صباحاًً ومساءً!! وعلى أتفه الأسباب، ويا ترى ما هو حكمهم في دين الإسلام عند مالك ؟؟؟(15/127)
"سَمِعْتُ الحَسَنَ بَنَ الحسنِ يقولُ لرجلٍ من الرافضةِ: واللهِ إن قَتْلكَ لقربةٌ إلى اللهِ، وما أمتنعُ من ذلك إلا بالجوازِ"، وفي رواية قال: "رَحَمِكَ اللهُ قَدْ عرفتُ إنما تقولُ هذا تمزحُ، قال: لا، واللهِ ما هو بالمزح ولكنهُ الجد، قال: وسمعته يقول: لئن أمكننا الله منكم لنقطعنَّ أيديكُم وأَرْجُلَكُمْ".
وصَرَّح جماعاتٌ من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من عليّ وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفَّروا الصحابة وفسَّقوهُم وسبّوهُم.وقال أبو بكرٍ عبد العزيز في "المُقْنِعِ" وَ "أما الرَّافِضِيُّ فَإِنْ كَانَ يَسُبُّ فَقَدْ كَفَرَ فَلاَ يُزَوَّجُ".ولفظ بعضهم وهو الذي نَصَره القاضي أبو يعلى أنهُ إن سبهم سبًّا يقدحُ في دينهم أو عدالتهم كَفَر بذلك، وإن كان سبًّا لا يقدحُ ـ مثل أن يسبَّ أبا أحدهم أو يسبه سبًّا يقصد به غيظه ونحو ذلك ـ لم يكفر". قال أحمدُ في روايةِ أبي طالبٍ في الرجلِ يشتمُ عثمان : "هذه زندقةٌ"، وقال في رواية المروذي: "من شتم أَبا بكر وعمر وعائشة ما أراه على الإسلام". (وقال في رواية حنبل: من شتم رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أراه على الإسلام).قال القاضي أبو يعلى: فقد أطلق القول فيه أنه يكفر بسبّه لأحدٍ من الصحابةِ، وتوقّف في رواية عبد الله وأبي طالبٍ عن قتله وكمال الحد، وإيجاب التعزير يقتضي أنه لم يحكم بكفره. قال: فيحتمل أن يحمل قوله: "مَا أَرَاهُ عَلَى الإِسْلاَمِ" إذا استحلَّ سبهم بأنَّهُ يكفرُ بلا خلافٍ، ويحملُ إسقاطُ القتلِ على مَنْ لم يستحلّ ذلك، بل فَعَلهُ مع اعتقادهِ لتحريمهِ كمن يَأتِي المعاصي، قالَ: ويحتملُ أن يحمل قولهُ: "مَا أَرَاهُ عَلَى الإِسْلاَمِ" على سبٍّ يطعنُ في عدالتهم نحو قوله: ظَلمُوا، وفَسَقُوا، بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأَخذُوا الأمر بغير حقّ، ويحملُ قولهُ في إسقاطِ القتلِ على سبٍّ لا يطعنُ في(15/128)
دينهم، نحو قوله: كان فيهم قلةُ علمٍ، وقلةُ معرفةٍ بالسياسة والشجاعة، وكان فيهم شحُّ ومحبةٌ للدُّنْيَا، ونحو ذلك، قال: ويحتملُ أن يُحملَ كلامُه على ظاهره فتكونُ في سابهم روايتان: إحداهما: يكفُرُ، والثانية: يفسقُ، وعلى هذا استقرَّ قولُ القاضي وغيره، حكوا في تكفيرهم روايتين. قال القاضي: "ومن قذف عائشة ـ رضي الله عنها ـ بما برأَها الله منه كفر بلا خلافٍ وإذا أردت التوسع في هذا الموضوع فارجع إلى كتاب ابن تيميه الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم ](1)
بعض الكتب التي صنفت في من سب الصحابة
1 – رسالة النهي عن سب الصحابة لمحمد بن سحنون التنوخي ( ترتيب المدارك ) 4 / 207
2 – النهي عن سب الأصحاب وما جاء فيه من الإثم والعقاب للضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي.
3 – تنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير الأنام ، أو أحد أصحابه الكرام عليهم الصلاة والسلام لابن عابدين .
4 – الصواعق المحرقة لإخوان الشياطين أهل الابتداع والضلال الزندقة ، لابن حجر الهيتمي .
5 – حكم من سب أحدا من الصحابة للشوكاني .
6 – السيف المسلول على مبغضي أصحاب الرسول لياسين مصطفى الفرضي .
7 – الحسام المسلول على منقصي أصحاب الرسول لبحرق اليمني .
8 – السيف اليماني المسلول في عنق من طعن في أصحاب الرسول لمحمد بن يوسف التونسي
9 – السيف المسلول على من سب أصحاب الرسول للقاضي عياض
10 – السيف المسلول على من سب أصحاب الرسول لتقي الدين السبكي
11 – الرسالة الوازعة للمعتدين عن سب صحابة سيد المرسلين للمؤيد يحيى بن حمزة الطالبي ت 745.
12-وكتب محمود شكري الألوسي المتوفى سنة [ 1342 هجري ] : ( صب العذاب على من سب الأصحاب ) ذكرها في الإعلام [ 7 / 173 ] وقد طبعت مؤخرا .
13-( الصارم القرضاب في نحر من سب أكارم الأصحاب ) لعثمان بن سند .
__________
(1) – من سب الصحابة ص36-39 بتصرف(15/129)
14 -( إلقام الحجر لمن زكى ساب أبي بكر وعمر ) للسيوطي .
- الخاتمة -
نسألُ اللهَ حُسنَها ،إِذَا َبلَغت الرّوح المنتَهَى
وفي ختام هذا البحث أحدد النتائج التي توصلت إليها وهي :-
أولاً : أن السبب الرئيسي لهذه الفتنة التي حدثت في صدر الإسلام رجل يهودي ادعى الإسلام وباطنه الكفر والنفاق ، و يعتبر هوالذي وضع الخطوط العريضة لمذهب الروافض الغلاة بشهادات كبار علماء الشيعة.
ثانياً: جميع التهم التي وجهت إلى سيدنا عثمان ليس فيها حجة للطاعنين عليه ، فهي إما مكذوبة من الأساس، مثل الأمر بقتل بعض زعماء الفتنة ، وإما مسائل اجتهادية والحق فيها مع عثمان، مثل تحريق المصاحف
ثالثاً : قتلة عثمان ليس فيهم صحابي ولله الحمد ، وعندما وقع قتله استنكرهُ جميع الصحابة.
رابعاً : القتال الذي نشب بين جيش أهل العراق ،وجيش أهل الشام ،كان سببه الرئيسي في تحديد توقيت الاقتصاص من قتلة عثمان - رضي الله عنه - .
خامساً: ليس من العدل والانصاف نسبة هذه الحرب إلى الصحابة ، وتسميتها بالفتنة الكبرى ، لأن عدد الصحابة الذين حضروا هذه الفتنة لا يتجاوز الثلاثين رجُل .
سادسأ: أن قصة التحكيم المتداولة بين الكُتَّاب والمؤرخيين ، والتي يتهم فيها عمرو بن العاص بالغش والخيانة لأبي موسى الأشعري غير ثابتة ولأولى هو إحسان الظن بصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
سابعاً: أهل العراق عامة ، وأهل الكوفة خاصة ، أهل فتنة إلا من رحم الله وقليل ماهم ، فلذلك لايرضون عن أمير ، ولا يرضى عنهم أمير ، وهم على عكس أهل الشام تماماً .
ثامناً : تقع مسؤلية قتل مسلم بن عقيل والحسين بن على على كاهل الشيعة ، وليس على بني أمية .(15/130)
تاسعاً :اتخاذ الشيعة يوم عاشوراء يوم حداد ، إنما هو من أجل التشنيع على بني أمية ، لأنه قتل في دولة يزيد وليس حباً ولا حزناً على الحسين - رضي الله عنه - ، ولهذا نجد أن علي أفضل من الحسين ، وقد قتل غدراً ولم يتخذ أحداً يوم موته مأتماً ، بل قد قتل من هو خير من الحسين ومن علي وهو عثمان بن عفان ، ولم يتخذ أحد يوم قتله مأتما ،وقتل عمر بن الخطاب في صلاة الفجر ، وهو أفضل من هؤلاء جميعاً رضي الله عنهم ، ولم يتخذ أحد يوم موته مأتما .
عاشراً : عدالة الصحابة ثابتة بالقرآن والسنة ، ولايطعن فيهم إلا زنديق أو منافق معلوم النفاق .
الحادي عشر : ان الأصل هو عدم الخوض فيما شجر بين الصحابة مع عامة الناس ، إلا إذا ظهرمبتدع يقدح فيهم بالباطل فلابد من الذب عنهم ، وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل ،ولابدا من الرجوع إلى أقوال الا ئمة المتخصصين في هذا الشان ، وكذلك التحقق من الرويات التاريخية ،وكما يقال وما أفة الأخبار إلا رواته . وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآخرُ دعوانا أن الحمدُاللهِ ربِ العالمين
المصادر والمراجع
*القران الكريم
*البداية والنهاية لابن كثير . تحقيق محمد بيومي وآخرون . ط .مكتبة الإيمان
*الكامل في التاريخ لابن الأثير . تحقيق د. عمر عبد السلام تدمري . ط. دار الكتاب العربي
* تاريخ الأمم والملوك لابن جرير الطبري مكتبة . www.almeshkat.net *.العواصم من القوا صم . تأليف القاضي أبى بكر بن العربي. تحقيق محب الدين الخطيب .ط المكتبة السلفية الطبعة السابعة
*منهاج السنة النبوية لابن تيميه . مكتبة www.almeshkat.net.
*تاريخ خليفة ابن خياط . .ط. مكتبة www.almeshkat.net.(15/131)
*من أقوال المنصفين في الخليفة معاوية تأليف الشيخ عبد المحسن العباد ط. www.almeshkat.net .
* تاريخ أبي زرعه الدمشقي . من منشورات مكتبة . t www.almeshkat.ne
* الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيميه / من منشورات مكتبة .t www.almeshkat.ne
* من سب الصحابة ومعاوية فأمهُ هاويه للدكتور . عبد الرحمن المغراوي t www.almeshkat.ne
* مفهوم عدالة الصحابة تأليف أبو عبد الله الذهبي . مكتبة www.almeshkat.net
* اعتقاد أهل السنة في الصحابة تأليف محمد بن عبد الله موقع / . http://arabic.islamicweb.com
* موسوعة الشيخ الألباني قرص سي دي مكتبة الألباني الإصدار الأول
*الشيعة والسنة . إحسان إلهي ظهير منشورات مكتبة صيد الفوائد / siaad.net www.
*من قتل الحسين ؟رضي الله عنه .للشيخ عبدا لله بن عبدا لعزيز . دار الإيمان
*العبر في خبر من غبر . للإمام الذهبي ./مكتبة www.almeshkat.net
*استشهاد الحسين دراسة تحليلية نقدية/ للشيخ أبو عبد الله الذهبي www.almeshkat.net
* الإنقاذ من دعاوى الإنقاذ للتاريخ الإسلامي .تأليف د. سليمان بن حمد العودة. www.almeshkat.net
الفهرس
الإهداء ...............................................................................................2
المقدمة............................................................................................3
الباب الأول ..........................................................................................8
ابن سبأ اليهودي و أثره في أحداث الفتنة .............................................................9(15/132)
الرد على طه حسين في إنكاره لشخصية عبد الله بن سبأ.............................................. 9
أعترف المراجع الشيعية بغلو ابن سبأ ويهو ديته .....................................................10
التهم السبئية الموجهة ضد عثمان - رضي الله عنه -.............................................................. 13
الرد على التهمة الأولى .............................................................................13
الرد على التهمة الثانية.......................................................... ....................14
الرد على التهمة الثالثة ......................................................... .................. .15
الرد على التهمة الرابعة...................................................... .......................15
الرد على التهمة الخامسة............................................................................ 16
الرد على التهمة السادسة ........................................................................... 16
الرد على التهمة السابعة ............................................................................ 16
الرد على التهمة الثامنة ............................................................................. 16
الرد على التهمة التاسعة ............................................................................ 16
الرد على التهمة العاشرة ........................................................................... 17
الرد على التهمة الحادية عشر ...................................................................... 17
الرد على التهمة الثانية عشر........................................................................ 17(15/133)
الرد على التهمة الثالثة عشر........................................................................ 18
الرد على التهمة الرابعة عشر...................................................................... 18
الرد على التهمة الخامسة عشر ..................................................................... 18
الرد على التهمة السادسة عشر...................................................................... 18
الرد على التهمة السابعة عشر ...................................................................... 19
الرد على التهمة الثامنة عشر ....................................................................... 19
حصار عثمان رضي الله عنه........................................................................ 19
مقتل عثمان رضي الله عنه...................................................................... 23
ذكر ما حدث أثر مقتل عثمان - رضي الله عنه - .................................................................. 24
كيف يقتل عثمان في المدينة وفيها جماعة من كبار الصحابة ؟....................................... 25
نبذه مختصرة عن عثمان بن عفان................................................................... 25
الباب الثاني......................................................................................... 26
خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ....................................................... 27
نواب الأمصار في هذه الفترة........................................................................ 28
ثم دخلت سنة ست وثلاثين من الهجرة............................................................... 28(15/134)
يوم النحيب وابتداء وقعة الجمل ..................................................................... 29
مسير علي بن أبي طالب إلى البصرة بدلاً من الشام ووقعة الجمل ................................. 30
وقعة صفين..........................................................................................32
ليلة الهر ير .................................................................................35
رفع أهل الشام المصاحف ...........................................................................35
قصة التحكيم........................................................................................36
خروج الخوارج ....................................................................................37
خروج الخوارج من الكوفة ومبارزتهم علياً...........................................................38
مسير أمير المؤمنين علي إلى الخوارج...............................................................39
بعض الأحاديث النبوية الواردة في الخوارج..........................................................40
صفة مقتل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ..................................................................41
تحذير ابن تيميه من روايات هشام الكلبي وأبومخنف ................................................42
الباب الثالث.........................................................................................43
خلافة الحسن بن علي بن أبي طالب.................................................................44
فضل معاوية بن أبي سفيان..........................................................................45(15/135)
خروج طائفة من الخوارج على معاوية..............................................................47
أخذ معاوية - رضي الله عنه - البيعة لابنه يزيد ...................................................................48
وفاة الحسن بن علي بن أبي طالب..................................................................51
وفاة معاوية بن أبي سفيان رض- رضي الله عنه -.................................................................52
توجه الحسين بن علي - رضي الله عنه -إلى العراق...............................................................53
استشهاد الحسين بن علي - رضي الله عنه -.......................................................................55
ماذا تعرف عن الكوفة .............................................................................59
من قتل الحسين ؟ .................................................................................. 59
ماهو موقف أهل السنة من قتل الحسين ؟ ............................................................60
الباب الرابع ........................................................................................61
الأدلة على عدالة الصحابة من القرآن الكريم ........................................................62
الأدلة على عدالة الصحابة من السنة النبوية وأقوال السلف.........................................64
عدالة جميع الصحابة بدون استثناء عند المحدثين.................................................. 66
الأدلة القرآنية على حرمة الطعن في الصحابة.................................................... 67
الأدلة من السنة على عدم جواز سب الصحابة.....................................................69(15/136)
حكم من سبّ أحداً من الصحابة...................................................................70
بعض الكتب التي صنفت في من سب الصحابة................................................... 73
الخاتمة...........................................................................................74
المصادر و المراجع..............................................................................75(15/137)
أ. ر نورثون
أمل والشيعة
... ... نضال من أجل كيان لبنان
ترجمة غسان الحاج عبد الله
مقدمة
يرصد هذا الكتاب عملية تسيس الطائفة الشيعية ودخولها معترك الحياة السياسية اللبنانية, في صراعاتها الداخلية مع الإقطاع السياسي, أم في علاقاتها مع الطوائف الأخرى وسائر القوى الإقليمية والدولية وبروز حركة أمل في وسط هذا المخاض, عارضًا نشأتها ودور مؤسسها الإمام موسى الصدر, ومتابعًا مراحل نموها, والمخاطر التي تحدق بها وبممثلي خطها المعتدل وآفاق تطورها, شارحًا الأسباب التي مكنت أمل من لعب مثل هذا الدور الهام في الحياة السياسية في لبنان, وهو بعمله هذا إنما يعالج مسائل سياسية راهنة, تمتاز بأهميتها لدى صانعي السياسة في كل مكان.
وهو نموذج عن الدراسة الأكاديمية الموثقة والتي تستند إلى المقابلات الشخصية ومعايشة الوضع ميدانيًا, استنادها إلى المراجع والمصادر ونظريات علم الاجتماع وعلم السياسة الحديثين, وهو إذ يؤسس على كافة الدراسات والمقالات الغربية, والمحلية التي كتبت حول الوضع في لبنان, فإنه لا يكتفي بمجرد الاستشهاد بها, بل يعرضها في إطار نقدي مبينًا أوجه قصورها عن استيعاب حقائق الوضع اللبناني, والكتاب بهذا المعنى دراسة نقدية للعديد من المؤلفات التي تعاطت مع الظاهرة الطائفية في لبنان.
الناشر(16/1)
محتويات الكتاب
كلمة الناشر.............................................5
مدخل .................................................7
تمهيد ..................................................17
مقدمة .................................................25
معنى التغيير ومصادره لدى الشيعة في لبنان...............41
التعبئة السياسية .......................................79
نهاية حلف طبيعي ....................................111
التناقض والثبات في سياسة أمل........................127
الغزو الإسرائيلي ونتائجه.............................145
صنع الأعداء في جنوب لبنان.........................179
التناحر الطائفي والتفتت الاجتماعي..................205
المحلق -أ – ميثاق حركة أمل.........................229
الملحق -ب- نص الرسالة المفتوحة التي وجهها حزب الله إلى المستضعفين في لبنان والعالم.................................................
ثبت المراجع ........................................295(17/1)
تمهيد
الإرهاب, العنف, الأزمات, الفوضى, الوحشية, المجازر والتشويه, والإعاقة الجسدية, هذا ما يتبادر إلى الذهن بمجرد ذكر لبنان, حتى ترادف اسم لبنان مع سفك الدماء مما خلف حزنًا عميقًا لدى كافة الذين عرفوه في الماضي, بل وحتى للذين لم يعرفوه سوى كبلد مزقه العنف, فلبنان حتى في أسوأ أوقاته, يتمتع بجاذبية أخاذة, بل لعلي أجزم أنه لا يوجد في الشرق الأوسط, وربما في العالم كله, بلد ساحر كلبنان فهو بتعقيداته السياسية والاجتماعية ومهارة مواطنيه في التعامل مع الأجانب والتلاعب بهم ومناخه الرائع ومأكولاته الشهية, يخلف لدى كافة الذين عرفوه سواء في أوقاته الهنيئة أم العصيبة شعورًا بالارتباط العاطفي من الصعب زحزحته, وتنهار أمام قدرته على الأخذ بمجامع القلوب مقاومة أشد الناس تطلبًا, واللقاء معه على مرارته الحلوة يبقى محفورًا في الذاكرة.
فتذكر لبنان يتخلل ويسيطر على أحاديث الدبلوماسيين والصحافيين ورجال الأعمال والأكاديميين من الذين قاموا بزيارته ولو مرة واحدة, هذا ما لاحظته في أيار وحزيران 1986 لدى لقائي بعدد من الذين زاروا لبنان سابقًا خلال زيارة قمت بها لإجراء أبحاث في مصر, فرغم أن الأحداث التي كانت تضج بها مصر وليبيا وإسرائيل وأماكن أخرى في الشرق الأوسط كان يجب أن تكون محور أحاديثنا, إلا أنه لم يكن يمضي سوى قليل من الوقت حتى نجد أن الكلام قد اتجه نحو لبنان, وأخذ القوم يروون حكايات ونوادر رهيبة أحيانًا, وفاتنة ساحرة في أحيان أخرى, ولاحظت أن توقعاتهم بالنسبة لمصير لبنان التي كانوا يدلون بها بين الفينة و الأخرى تعكس مدى اهتمامهم بما يجري في لبنان وقلقهم على مصيره, وكما لا بد أن يكون القارئ قد استنتج, فأنا أيضًا لم أنج من هذه الأعراض, لكني أثق بأن قارئ هذا الكتاب سوف يجد أن تجربتي في لبنان لم تمنعني من وصف وتحليل علله بتجرد وإخلاص.(18/1)
لقد حاولت جهدي أن أكون موضوعيًا, وأرجو أن لا تكون هذه الموضوعية قد حجبت إمكانية رؤية الجانب الإنساني من اللبنانيين, ذلك الجانب الذي نتشارك به جميعًا, فسواء كنا علماء اجتماع أم ببساطة أعضاء من الجنس البشري, علينا أن لا نقع أسرى أطرنا المفهومية, أو نقع في اللامبالاة إزاء العنف الممل في تكراره, فلا نسمح لأنفسنا ولو للحظة واحدة أن ننسى أن المأساة اللبنانية هي مأساة بشر من لحم ودم, وأنا أعلم أن هذه الملاحظات لن ترضي بعض منظري واقعية القوة في العالم, أو بعض المعلقين الذين يفضلون أم يجردون لبنان من إنسانيته حتى أكثر مما فعل اللبنانيون أنفسهم, إلا أننا جميعًا نعرف ما أدت إليه وجهات النظر هذه من كوارث.
حاولت في هذا الكتاب, أن أساعد القارئ على فهم جذور التفتت في لبنان, إلا أنه ليس كتابًا في تعداد الآلاف من الطرق التي ابتكرها اللبنانيون لتدمير الآخرين وتدمير أنفسهم, وهذا لا يعني أنه علينا أن نتجاهل التذابح, أو أن نتقبله ونتغاضى عنه, لكن إن لم نحدد الإطار الاجتماعي والسياسي الذي ازدهرت الفوضى من خلاله, فلن يكون هذا الكتاب أكثر من تحقيق صحفي مثير, وإني إذ أرفض ذلك المنظور العصري الحاد الذي يبدو للعيان أنه لا يخدم إلا نفسه, والذي لا يرى في سفك الدماء في لبنان, إلا نتيجة مباشرة لعدائيات بدائية بين مجموعات من البشر نشأوا بطريقة ما بشكل معاق متخلف, أرفض أيضًا ما يقوله أولئك التبريريون الذين يرون أن العنف في لبنان, إنما يعود بشكل مباشر لتلاعب وتدخلات القوى الخارجية فيه, فكلا النقيضين لا يلتقط حقيقة وتعقيدات الاضطرابات المستشرية في لبنان, فإذا كان من الصحيح أنه أمر ليس بهذه السهولة, إلا أنه لا يستعصي على الفهم.(18/2)
لقد لعبت الطائفية والتدخلات الخارجية دورًا مهمًا دون شك, إلا أن هناك عوامل أخرى لا يمكن اعتبارها فريدة في جمهورية متوسطية منكوبة الحظ كان دورها لا يقل أهمية عن ذي قبل, نشأت هذه الأزمة إلى حد كبير عن اللا مساواة الاجتماعية, والظلم والحرمان ثم فاقهما الطموح الشخصي والتقديرات السياسية الخاطئة للزعماء اللبنانيين, الذين كانوا يخلطون غالبًا بين القيادة وبين الجشع.
إن الصراع على قلب لبنان السياسي لا يمكن فهمه كمجرد تنافس على السلطة بين الطوائف اللبنانية, فالصراعات داخل كل طائفة هي على ذات المستوى من الأهمية إن لم يكن أكثر من الصراعات الأولى, فهي تعكس وجهات النظر المختلفة على ماهية لبنان الحالية واتجاهات تطوره. وتشكل حالة الشيعة نموذجًا صارخًا على ما نقول (1), فحيث تصب جهود حركة أمل للحفاظ على وحدة دولة غير متجانسة ومعاقة يجري تحديها بشكل جدي من قبل مجموعة من الشيعة الجذريين الذين يسعون لتركيب حكم إسلامي في لبنان, ويظهر حجم هذا التحدي بوضوح عبر البيان الذي أصدره حوالي 60 عالمًا دينيًا لبنانيًا في رمضان أيار حزيران1986 يدعون فيه إلى إنشاء نظام إسلامي بوصفه علاجًا لكافة أمراض لبنان (2).
__________
(1) بالطبع فإن كل ما جاء في الكتاب يتحمل مسئوليته المؤلف وحده، ولقد وصل بنا الأمر إلى حد عدم وضع أغلب المصطلحات التي يستخدمها بين مزدوجين تأكيدًا على الحفاظ على واحد من الأهداف التي أملت ترجمة هذا الكتاب الاطلاع على وجهة نظر أمريكية قريبة من مركز صناعة القرار في الولايات المتحدة, بل هي إحدى مراحله.
(2) انظر: ((علماء الإسلام يعلنون الموقف الشرعي الواجب على المسلمين اتخاذه بشأن الغد)) بيان من أربع صفحات في حزيران 1986.(18/3)
تتميز الطائفة الشيعية في لبنان التي يركز عليها هذا الكتاب, بالتزام عميق ببقاء لبنان لم يتزحزح حتى عندما عقدت كفاحيتهم المكتشفة حديثًا من مهمة إصلاح النظام السياسي اللبناني الفاقد الأهلية, فلطالما برهن الشيعة عن قدرتهم على العمل على تسهيل إعادة إنتاج النظام السياسي القديم. أما إذا كان المستقبل سيجدهم يعملون على عرقلته فإن هذا يبقي واحدًا من الأسئلة الرئيسية التي تنتظر الإجابة. لكن بغض النظر عن دورهم, فمن الواضح أن حضورهم المستجد الذي اتسم حتى عهد قريب بالسكون والهدوء, سينعكس على شكل وملامح الحياة السياسية اللبنانية.
بدأت أتعرف إلى الشيعة لدى التحاقي عام 1980 بمنظمة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة (يونتسو) كمراقب عسكري غير مسلح, ولم أكن قد جازفت بالذهاب إلى لبنان بهدف دراسة سياسات الشيعة, بل لعب الحظ دوره في منحي فرصة غير معتادة للقيام بأبحاثي, فعندما التحقت باليونتسو كنت آمل أن أكون قادرًا على استخدام أوقات فراغي؛ لإجراء بحثي الميداني حول موضوع أطروحة الدكتوراة التي كنت أعدها في جامعة شيكاغو عن القومية الفلسطينية, إلا أنه بعد سنة من الدراسة المكثفة للغة العربية بما فيها اللهجة المصرية, وجدت نفسي معينًا في جنوب لبنان, حيث يعتبر حتى حديثي العهد بالعربية من الأجانب, عملة نادرة.(18/4)
فوجئت بعد وصولي بقليل, بإسنادي مهام ضابط الارتباط بين القوات الدولية (اليونفيل) والسكان ولقد عشت حوالي السنة (من حزيران 1980 إلى حزيران 1981) بشكل مستمر تقريبًا في كفر دونين وهي قرية شيعية غير بعيدة عن الحدود مع إسرائيل, تقع ضمن منطقة عمل القوات الدولية في جنوب لبنان (1), وكنت أقضي أكثر أوقاتي في التوسط لحل الخلافات أو النزاعات الصغيرة واستباق المشاكل المتعلقة بالأمن وتحسين شروط المعيشة السيئة للبنانيين الموجودين ضمن نطاق عمل القوات الدولية (وهي مهمة لم تتسم دائمًا بالسهولة, إذا أخذنا بعين الاعتبار بنية اليونفيل البيروقراطية المزعجة), وكنت أقضي -بفعل طبيعة عملي نفسها- ساعات عدة كل أسبوع في زيارة القرى حيث كنت أشرب القهوة وأشاطر الفلاحين الطعام والشراب كتعبير عن ضيافتهم الكريمة البسيطة.
__________
(1) حول كل ما يتعلق باليونيفل. انظر دراستي ((Observations U. N Peacekeeping in Lebanon)) الملقاة في ملتقى المؤتمر الجامعي الدولي حول القوات المسلحة 21-23 تشرين الأول 1983 في بالمر هاوس, شيكاغو – إيليونوس.(18/5)
من أصل حوالي المليون شيعي في لبنان, يعيش 40 % منهم في جبل عامل, الذي يقع قسم كبير منه ضمن منطقة عمليات القوات الدولية في الجنوب ( جبل عامل هو المنطقة التي تقع شرقي صيدا وصور وشمالي الجليل وجنوبي الشوف ((عامل)) هو اسم قبيلة يمنية هاجرت إلى المشرق في العصور السابقة للإسلام, وكان قد بات واضحًا في أوائل 1980 أن الطائفة الشيعية التي طالما كانت سهلة الانقياد, قد وجدت نفسها سياسيًا عبر حركة أمل, لذا فقد كانت إحدى أولى مهامي الرسمية التي كلفت بها من قبل اليونفيل أن أنشئ علاقة ارتباط مع قيادة أمل في الجنوب, ونظرًا لتعاطف الشيعة مع إيران فلم أكن، بصراحة, أتوقع أن أحقق -أنا الأمريكي- نجاحًا يذكر في هذه المهمة، كانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت منشغلة تمامًا بأزمة الرهائن، وكانت قبل وصولي بقليل قد فشلت في محاولتها إنقاذ الدبلوماسيين المحتجزين في إيران.
إلا أن الذي حدث هو أن مسئولاً لحركة أمل في المنطقة, ولسوف أطلق عليه اسم (أبو علي), برهن عن كونه شخصًا يملك شجاعة نادرة, إذ وافق بعد فترة على تقبلي كإنسان لا كمواطن أمريكي, وفي الواقع, فأنا لم أكن ممثلاً للحكومة الأمريكية في لبنان, بل كنت موظفًا في منطقة تابعة للأمم المتحدة,لم أكتشف إلا فيما بعد أن موقف الشيعة اللبنانيين من الإيرانيين ذو وجوه متعددة أكثر بكثير مما أوحى لي به افتراضي المبسط الأول.(18/6)
ورغم أننا لم نكن لنتفق دائمًا إلا أننا -أبو علي وأنا- كنا قد اعتمدنا مبدأ الصراحة والصدق أسلوبًا في التعامل فيما بيننا. وهكذا لم تمض بضعة أشهر حتى صرت أتمتع بصلة اتصال فريدة بالحركة. أنا لا أدعي الاطلاع على أسرار الحركة الداخلية ولكني أزعم أني حظيت بفرصة للاطلاع عن كثب على سياسة الشيعة في لبنان, من النادر أن يتسنى لأجنبي بمثلها, فبالإضافة إلى المناقشات الصريحة جدًا التي أجريتها مع أبي علي, فقد اكتشفت أن علاقتنا قد فتحت أمامي أبوابًا عدة, فرغم أن العديد من مسئولي وأعضاء الحركة لم يكن على استعداد للثقة بي كما فعل أبو علي, إلا أن معرفة أغلبهم بصداقتنا جعلتهم أكثر انفتاحًا مما هم عليه في العادة.
ولقد حضرت, طوال مدة إقامتي في لبنان, اجتماعات ومهرجانات سياسية ومجالس ذكر ( التي تحيي ذكرى عاشوراء والشهداء ) ولقاءات اجتماعية خاصة, توجت بتقديمي إلى عدد من الذين يدعمون الحركة ماليًا, خلال اجتماع حساس جدًا في عام 1981 ربما شكل ذروة علاقتي بالحركة, فقد كنت اللا شيعي الوحيد في الاجتماع المنعقد لتقييم مستوى نمو الحركة في الجنوب, وقد كان السماح لي بحضور اجتماع يشارك فيه مجموعة من الرجال الذين لم يكن من المعروف عنهم عامة تأييدهم للحركة في الوقت الذي كانت فيه العلاقات مع الفدائيين تشهد تدهورًا متسارعًا يتطلب أكثر قدر من الثقة. ولابد هنا من تسجيل تحية إكبار وتقدير لشجاعة أبي علي الذي آثر استمرار علاقتنا رغم المخاطر الكامنة في ذلك،على أن يختار الطريق الآمن المتمثل بإنهائها، وأظن أنه من الإنصاف القول دون ميلودرامية من جانبي بأن اطلاع مناوئيه الدمويين على مدى علاقتنا العلنية كان من الممكن أن يمنع أيا منا من استحضارها الآن فقد كان لدينا في لقائنا الأخير, في عام 1981 -وهو غداء خاص أقامه أبو علي على شرفي في منزله- من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد بأن تلك هي وجبتنا الأخيرة.(18/7)
ولقد احترمت من جهتي, ثقة ذلك الرجل الطيب والمرهف والذي لا يزال يمثل صوت التعقل والاعتدال, وأنا أتمنى له الخير وأشكره على إعطائي الفرصة لرؤية ما لم يكن يتسنى لي الاطلاع عليه لولاه.
ولقد ذكرت أسماء مصادر معلوماتي إن كان ذلك ممكنًا, وحيث وجدت أن الحس السليم وضرورات الأمن تسمح لي بذلك، إلا أن الوضع في لبنان ليس سهلاً, مما حملني على الاعتقاد بأن ضرورات الالتزام بالتوثيق التام ليست كافية في العديد من الحالات, كحالة أبي علي مثلاً, لتبرير ذكر اسم المصدر وتعريضه للمخاطر, فنحن لا نتعامل هنا مع مسألة خلاف في واشنطن أو لندن حيث أقصى ما يمكن أن يتعرض له المرء هو مجرد الإحراج.
عدت إلى لبنان في تشرين الأول 1982 بهدف معاينة أثر الغزو الإسرائيلي على حركة أمل, ولقد قضيت في زيارتي الأخيرة هذه وقتًا طويلاً مع أبي علي, واستطعت عبر مساعيه الحميدة أن ألتقي عددًا من أهم رجالات الشيعة في لبنان بمن فيهم المفتي عبد الأمير قبلان ومنذ ذلك الحين وأنا ألتقي أحيانًا بعدد من اللبنانيين الشيعة وغير الشيعة, ولقد تمكنت كنتيجة مباشرة لعملي في لبنان والكتب التي ألفتها، من مقابلة عدد من النواب البارزين, وقادة مليشيات ورجال أعمال ومسئولين حكوميين, ولقد زرت الشرق الأوسط مرتين بعد عام 1982 إلا أن دواعي البقاء المادية كانت تردعني عن العودة إلى لبنان.
وبالطبع فإنه من الإنصاف القول أنه لا تزال لدي بعض الأسئلة التي لم تحظ بأجوبة, فأنا ما زلت برانيًا, إلا أنني واحد من الذين سمح لهم أحيانًا بالولوج إلى الدخل.
أ. ر. ن.
وست بوينت
آب 1986(18/8)
مدخل
قبل 25 عامًا اجتمعت مجموعة من المثقفين والديبلوماسيين والصحافيين والموظفين لدراسة آفاق التنمية والديمقراطية في لبنان مستلهمين إنجازات العهد الشبابي, ولقد سادت في الاجتماع نزعة تشكيكية رغم تطلع المجتمعين نحو المستقبل بروح يحدوها الأمل, ورغم أن بعضهم نبه إلى احتمال الانهيار السياسي للدولة اللبنانية إلا أن غالبيتهم الساحقة لم تتوقع ذلك, وبدا كأن خلاف المشاركين من لبنانيين وأجانب والذين يمثلون مصالح وآراء مختلفة قد انحصر حول قضية واحدة, إذ تمحور النقاش حول ما إذا كان على النظام اللبناني أن يخضع لتغير جديد أو مجرد إصلاح يتلاءم مع المطالب الجديدة.
وبتعبير آخر: هل النظام اللبناني هو نظام شرعي أم لا؟ كان البعض يأمل في أن يبقى النظام اللبناني على حاله مع بعض التغييرات الطفيفة, بينما تطلع آخرون بقوة إلى تغييره, فأما الذين كانوا يتمنون بقاءه فقد جنحوا إلى المبالغة في تضخيم حسناته, بينما أسهب الذين كانوا يتوقون إلى سقوطه في الحديث عن سيئاته.
كان العهد الشهابي قد نصب بمساعدة الأمريكيين, على أثر أزمة 1957-1958 نشبت هذه الأزمة, كما هو الحال تقليديًا في لبنان, نتيجة عدة عمليات محلية وإقليمية إضافة إلى نزعات متفاقمة كان القوي والضعيف منها على السواء يحاول كسب بعض المواقع الآنية لمصلحته فعلى الصعيد الداخلي تركز الخلاف على المسألة التالية: هل على الديمقراطية اللبنانية أن تسعى إلى الاستمرار في تأمين التناوب على السلطة بين جماعات نخبوية متناحرة؟ وهو صراع كان يتمحور حول رمز مركزي هو رئاسة الجمهورية, أما إقليميًا فدار الصراع على ما إذا كان على لبنان أن يتماهى كليًا مع الحركة القومية العربية.(19/1)
اتسمت السنوات الست للعهد الشهابي بقيادة اللواء شهاب القوية إذ وازن بين التضامن العربي والسيادة اللبنانية, كما وازن للمرة الأولى بين مصالح النخبة وحاجات فقراء الريف, سعى الحكم الشهابي إلى تقوية الدولة وتقوية سيطرتها على التنمية الاقتصادية والأمن الداخلي وصياغة السياسة الخارجية.
وبينما نجح شهاب في الإيحاء بالثقة بمستقبل لبنان, خضعت سياسته القائمة على مركز سلطة الدولة وإعادة توزيع الثروة الوطنية إلى هجوم متزايد, فلقد أراد المحافظون أن يستغلوا الاستقرار الذي تم التوصل إليه مؤخرًا لمنع أي تغيير لاحق, بينما خشي المتطرفون من أن يؤدي استمرار السياسات الشهابية إلى استقرار النظام الطائفي, ولقد فشل شهاب في ترسيخ شعور الالتزام بالنظام اللبناني, إذ حافظ اللاعبون الرئيسيون على ورقة احتياطية, ألا وهي الحق في الانفصال عن المجتمع السياسي.
إلا أن النظام اللبناني لم ينهار بفعل الضغوط الداخلية وحدها, فلقد زادت الأعباء التي ينوء النظام بحملها بفعل تزايد حدة الصراع العربي الإسرائيلي بدءًا من العام 1967 وانقلاب ميزان القوى كنتيجة لحرب الأيام الستة, هذه الصعوبات الإضافية, التي جاءت في أعقاب الجهود الساعية إلى تفكيك بنية السلطة المركزية الشهابية, أربكت أجهزة الدولة اللبنانية والأمنية والسياسية وشلت البرلمان وهكذا فقدت الدولة اللبنانية السلطة على أراضيها وأصبحت عاجزة عن اتخاذ أي قرار دون تدخل لقوة أجنبية.
وما تبقى من سيادة القانون والنظام أو من السيادة الإقليمية وسلامة الأراضي تكفلت أحداث 1975 وبروز الصراع بين الموارنة والفلسطينيين بتدميره, فالحرب الأهلية اللبنانية التي أرخ لبدايتها في شهر نيسان 1975 ما زالت تتفاقم حتى يومنا هذا ويبدو أن لا حل منظور لها, طالما أن حل مشاكل لبنان مرتبط بحل مشاكل إقليمية أخرى, وبما أن إمكانية التسوية الداخلية تعتمد على دعم الحكومات الأجنبية.(19/2)
رغم انهيار لبنان وتحوله إلى كتلة من العنف والفوضى إلا أن شرعيته الدستورية لا تزال تحتفظ حتى الآن بمظهرها الخارجي, فما زال أمين الجميل متشبثًا برئاسته وما زال مجلس الوزراء قائمًا يجتمع أحيانًا إما بكامل أعضائه أو ببعضهم, بل وحتى يفشل رسميًا في التوصل إلى الاتفاق, وما زال لبنان ممثلاً في الخارج عبر بعثاته الدبلوماسية, كما أن الجيش اللبناني لا يزال قائمًا أيضًا، وتجري حاليًا مناقشة حادة تهدف إلى مراجعة الدستور, كما لو كان الدستور الحالي هو الذي يحدد توزيع السلطة والثروة والمسئوليات, كذلك يتجدد النقاش حول الانتخابات الرئاسية المقبلة.
لعله من أكثر الأمور مدعاة للسخرية, في الحياة السياسية اللبنانية, أن العديد من مآسيها يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمشكلة الخلاف حول من يتولى رئاسة الجمهورية. ورغم أن الرئاسة قد جردت من كثير من سلطاتها وبالتأكيد من كل امتيازاتها فما زال هذا المنصب يتبوأ مكانًا مركزيًا في أي تسوية إلى الحد الذي يدفعهم إلى التقاتل حوله, ورغم أن الرئاسة هي حاليًا من نصيب الموارنة إلا أنه ما أن يقترب موعد الانتخابات حتى تصبح الشغل الشاغل لجميع الفرقاء.
وبينما انحدرت العملية السياسية إلى مستوى النزاع المسلح, إلا أن اللبنانيين ما برحوا يشعرون بأن ثمة ما يربط بينهم سواء عبر المؤسسات المنهارة أم الحقائق الديمغرافية التي تحدد أطر النظام الاجتماعي الديناميكي الذي ينتمون جميعًا إليه.(19/3)
لقد انفجرت الحرب الأهلية اللبنانية عشية انتخابات 1976 الرئاسية واجتاحت إسرائيل لبنان عام 1982 أي عشية الانتخابات الرئاسية أيضًا, أما ولاية أمين الجميل فستنتهي في عام 1988, وبما أن هذا الإيقاع في السياسة اللبنانية ما زال مستمرًا رغم انهيار الدولة, فستشهد السنة القادمة جهودًا متزايدة بين اللاعبين المحليين والإقليميين لمعرفة أي المرشحين سينسحبون وأيهم سيبقى حتى النهاية, وبينما يضع كل لاعب محلي وإقليمي رهانه فإن محصلة المناورات ستحدد نوعية الحياة السياسية في لبنان للسنوات الست القادمة, إما استمرار دوامة التوازن السلبي وإما تسوية هشة.
إن سلطة وسيادة الحكومة اللبنانية تكاد تكون معدومة, إلا أن العديد من اللاعبين المحليين والإقليميين على حد سواء لا زالوا يتمسكون بوهم أن تكون الشرعية قاعدة تسوية ما في المستقبل, وإلى أن يتحقق ذلك فقد شهدت البلاد نوعًا من تقسيم الأمر الوقع إلى كانتونات فرزت الفئات الدينية المختلفة أو الطوائف نفسها في كل منها, أكثر من ذلك فحتى التفاصيل الجغرافية في هذا البلد الصغير, كحدود كل كانتون طائفي, ذات أهمية قصوى, فالكانتون الماروني لا حدود مشتركة له لا مع سوريا ولا مع إسرائيل, بينما الكانتونان الشيعيان تحد أحدها إسرائيل والآخر سوريا, أما الكانتونان السنيان الساحليان فهما مدينيان أساسًا, ومثقلان باللاجئين الفلسطينيين, وأهمها محاط بشيعة وموارنة ودروز عدائيين.(19/4)
إن تعددية الطوائف بالإضافة إلى الكنتنة وتركز السكان تشكل عقبات, لا يمكن تذليلها, في وجه من يبغي السيطرة على لبنان من الخارج وفي وجه أولئك الذين يسعون للتوافق مع مواطنيهم, فلا سوريا ولا إسرائيل ولا فرنسا ولا الولايات المتحدة, تمكنت من فرض إرادتها على البلاد, أما الذين سعوا فقط لمنع الحلول وتعميق الهوة كإيران أو ليبيا فقد كانوا الأكثر نجاحًا, ولكن حتى الذين حاولوا الاستفادة من مأساة لبنان لم يتمكنوا من السيطرة على النتائج إذ بدا أحيانًا وكأن لبنان يتجه ببطء للخضوع للهيمنة السورية, إلا أن الموارنة والدروز والشيعة وحتى الفلسطينيين ما لبثوا أن أظهروا فجأة عن قوة المقاومة لديهم, أما إسرائيل فقد فرضت من جهتها, مع بعض المساعدة الأمريكية, اتفاقًا على لبنان بدا وكأنه يحدد علاقات البلدين المستقبلية إلا أن هذا الاتفاق لم يبرم أبدًا وانتهى به الأمر إلى الإلغاء؛ لذا يبدو من غير المحتمل أن تنجح أي قوة أو مجموعة قوى في فرض وضع سياسي معين في لبنان لا يكون اللبنانيون راغبين فيه, بل يسود بدلاً عن ذلك, نوع من الاتفاق السلبي على ترك المستقبل مفتوحًا بما قد يحمله من شرور جديدة لا تزال طي الكتمان.(19/5)
إن كان ثمة حل لمشاكل لبنان أو كانت هناك أي إمكانية لإعادة النظام والطمأنينة إليه فهذا الحل على الأرجح لا بد أن يتوصل إليه اللبنانيون أنفسهم, من المؤكد أن هذا الحل لن يكون مناوئًا لسوريا أو لإسرائيل ولا للولايات المتحدة وروسيا ولا حتى لإيران ربما, إلا أن مسئولية الشعب اللبناني في تحديد مصيره هي مسئولية رئيسية, قد يكون صحيحًا أن اللبنانيين ليسوا المسئولين الرئيسيين عن انهيار دولتهم فربما كان السبب الرئيسي للتدهور السياسي في لبنان يتمثل في انعكاسات الأزمة الفلسطينية, أو النزعة التوحيدية السورية, أو الطموحات المصرية, أو دور الليبيين في إثارة المشاكل أو الحذر السعودي, أو الحمى الثورية الإيرانية, إلا أن أحدًا من هذه القوى لم يحدد كيفية رد اللبنانيين أنفسهم على هذه التحديات.
تمثل الاتجاه الغالب في رد النخبة السياسية اللبنانية على هذه التحديات في محاولة التأكيد على الشرعية اللبنانية مع الامتناع عن استخدام قوة هذه الشريعة لحماية سلطة الدولة, وفي الوقت نفسه كانت شرعية الدولة تتلقى الضربات من اتجاهين على الأقل, جاء التحدي الأهم الذي واجهته الدولة اللبنانية من الفلسطينيين وحلفائهم السنة الذين اتهموا بحق الحكومة اللبنانية بالسعي للبقاء على الحياد في الصراع العربي الإسرائيلي, وطالبوا بأن تقوم سياسة الدولة على قاعدة أديولوجية حركة القومية العربية, أما التحدي الآخر فرغم أنه كان أقل تمفصلاً, إلا أنه شكل على المدى الطويل نفس خطورة التحدي الأول.
وقد نشأ هذا التحدي عن التغيير الديمغرافي, دعا التحدي المتمثل بالحركة القومية العربية إلى اعتماد وجود الأكثرية المعنوية التي تمثل الثقافة المهيمنة والصورة الذاتية للسنة العرب كأساس للصيغة السياسية اللبنانية الجديدة.(19/6)
وسعى إلى جر لبنان إلى تبني خط الدول العربية الأخرى, أما مفهومها للديمقراطية فقد كان لا ينفصل عن مفاهيم القومية والشعبية وبناء الدولة, فأمام ضرورة وجود أغلبية معنوية قوية, قال هؤلاء بلا شرعية التعددية الطائفية, القائمة على أساس غياب الأكثرية, ورأوا أن فساد النظام اللبناني يعود إلى أنه يعمد في مجال الدفاع عن مصداقيته إلى استبدال الأمة العربية بجزء صغير منها.
أما تحدي التغيير الديمغرافي فلم ينف ولا هو ينفي الآن مشروعية الطائفية بشكل عام, بل إنه يعترض على صيغة طائفية بعينها, وهي الصيغة التي اعتمدت منذ حوالي 40 سنة, قامت هذه الصيغة على قاعدة الافتراض بأن اللبنانيين ينقسمون إلى مجموعتين رئيسيتين المسلمين والمسيحيين, كما اتفق على أن المسيحيين يشكلون أغلبية ضئيلة, واعتبر أن هناك أسبقية لأحد المذاهب داخل كل من الطائفتين الأساسيتين: الموارنة بين المسيحيين والسنة بين المسلمين, وهكذا كان من المفترض أن يعمل هذا النظام الطائفي طالما استمر التعاون بين الموارنة والسنة, اهتز هذا التفاهم لكون الفلسطينيين حلفاء السنة قد تقدموا بمطالب رفض الموارنة قبولها, ولكون الشيعة قد ازدادوا حتى أصبحوا أكبر بكثير من أي مذهب إسلامي آخر.
زادت هذه التغيرات من صعوبة الوصول إلى اتفاق سني ماروني وجعلته يبدو أقل أهمية ما أن يتم تحقيقه, وأخذ الشيعة يظهرون ميلاً متزايدًا لرفض الخضوع للقيادة السنية, فلم يكتفوا برفض الصيغة الطائفية القائمة, بل ورفضوا أيضًا المقترحات البديلة القائمة على فكرة المجتمع السياسي الواحد, ولقد تم طرح خيار التعاون الشيعي الماروني, إلا أنه يبقى الاتفاق على مسألة الغلبة ضمن النظام كله.(19/7)
طالب الماورنة بوصفهم أكبر مجموعة دينية ضمن الطائفة المسيحية بموقع قيادي في الدولة ككل, بل وتسنى لهم تبوء هذا الموقع بالفعل, وبالمقابل وبما أن الطائفة الإسلامية تشكل الآن أكثرية في المجتمع اللبناني, وبما أن الطائفة الشيعية هي الطائفة الأكبر داخلها فهي تطالب بموقع مشابه للموقع الذي يتمتع به الموارنة إلى يومنا هذا, ثمة حجج جيدة ومنطقية لتبرير قيام تحالف ماروني شيعي, إلا أن هناك بعض الفرقاء المنافسين داخل كلا المذهبين يعارضون قيام مثل هذا الاتفاق ما لم يضمنوا تحسين مواقعهم الخاصة.
بالإضافة إلى أن صيغة كهذه تتطلب دعمًا خارجيًا من إيران وسوريا وإسرائيل, ويبدو أنه من الصعب توقع حصول هذا التأييد من كافة القوى الخارجية دفعة واحدة.
قبل 25 سنة, كان أولئك الذين يعرفون لبنان بشكل جيد يتجادلون حول نظامه الطائفي, بعضهم رأى أنه لن ينجح بينهما, رأى آخرون أنه يجب ألا ينجح. إلا أننا نجد الآن أن الخبراء ينظرون إلى النظام الطائفي بوصفه الحل الوحيد القادر على تأمين الدعم الكافي له لجعله حلاً قابلاً للحياة, أما الآن وقد انهار النظام القديم وانهارت معه تلك القيم التي يفترض بالصيغة الجامدة أن تحافظ عليها فإنه يجري استعادة الحل الدستوري نفسه كما لو أنه قادر على استعادة تلك القيم, إلا أن نظامًا طائفيًا يبنى على غلبة الشيعة لن يكون مجرد عملية تكييف برغماتي للنظام القديم فلقد كان النظام القديم ملتزمًا أيضًا بأيديولوجية سياسية ليبرالية وبمثل الديمقراطية التعددية, أن نقاد النظام القديم محقين في قولهم: إن النخب القديمة قد خانت هذه القيم, إلا أنه يجب أن لا نكون من السذاجة بحيث نعتبر أن استعادة الطائفية في ظل شروط ديمغرافية جد مختلفة سوف يستعيد أيديولوجية النظام القديم المتناقضة ذاتيًا.(19/8)
إن مفتاح الحقائق السياسية اللبنانية المتغيرة يكمن في تغير موقع الشيعة؛ إذ لا يقتصر الأمر على كون الشيعة هم الآن أكبر جماعة دينية في البلاد, وبل إن نمط حياتهم التقليدي قد تعرض لهزات عميقة, إذ غزا أناس غرباء مناطقهم التقليدية, وتراوح مصير زعمائهم التقليديين بين التنازل وبين الإزاحة بالقوة, لا يزال الشيعة في لبنان ضعفاء وفقراء ومستغلين سواء من قبل شيعة آخرين أم من طوائف أخرى, وهم ما زالوا منقسمين سياسيًا يبحثون عن هوية يجدون فيها أنفسهم, ولقد تمكنوا حتى الآن من تجنب الخضوع لأية جماعة أخرى أو استتباع مصالحهم لتكتيكات دولة مجاورة, ومن المستحيل التنبؤ فيما إذا كانوا سيتمتعون طويلاً بهذا القدر المحدود من الحرية والفرصة التي يمنحها, والتي قد يتوصلون عبرها إلى إيجاد نوع من الإجماع فيما بينهم, فالكثير يعتمد على ما إذا كانوا سيتوصلون إلى تفاهم ذاتي كهذا, وعلى ما إذا كانوا سيجدون نوعًا من تسوية للأمور مع مواطنيهم اللبنانيين.
يعالج هذا الكتاب مسألة المصير السياسي لشيعة جنوب لبنان وبالتالي لمصير لبنان نفسه, ويقدم تحليلاً سوسيولوجيًا وديمغرافيًا لأبعاد المشكلة الموضوعية, إلا أنه يقدم أيضًا وصفًا للحالة الناجمة عن الأحداث على الصعيد الإنساني, فرغم تميز الأحداث اللبنانية بأهميتها البالغة وتأثيرها على مجريات السياسة العالمية إلا أنها من صنع حفنة من الناس غالبًا ما يكونوا بسطاء, ولكي نفهم الطروحات والاستراتيجيات التي تبدو منطقية لتلك الحفنة من الرجال التي تتبناها على الأرض, لا بد لنا أن نفهم فورية الوضع الذي يجدون أنفسهم فيه، ومن الضروري أن ندع جانبًا في هذه المرحلة انحيازنا لأفكارنا المسبقة لكي نستطيع أن نرى كيف تبدو الأشياء انطلاقًا من وجهة نظر أخرى.(19/9)
لكن التوحد مع الآخر ليس كالتعاطف معه, كما أنه لا معنى للتماهي مع الخصم إلى حد تحويل وعي المرء لذاته, ورغم أنه لا يمكن أن نتعلم شيئًا دون أن نغير أنفسنا إلى حد ما, ولا يمكننا أن نعقد صلحًا مع خصمنا دون أن نتحول إلى أشخاص مختلفين, إلا أن جزءًا كبيرًا من الأزمة في لبنان يعود بالضبط لكون أبطالها الرئيسيين لا يريدون التغيير إلا أن يتغيروا هم أنفسهم.
فالتعلم والصلح يتشابهان في كونهما يتطلبان بالضرورة أن نغير أنفسنا, إلا أنهما يختلفان في كوننا نتعلم بشكل إفرادي إلا أنه يمكننا أن نعقد صلحًا دون إقامة علاقة مع الآخر, وأحسن أنواع التعلم يشبه المصالحة التي لا يعرف فيها من يؤثر بمن, والتي يقوي الوعي بالذات من هوية المشتركين فيها, وأظن أن هذا النوع من التعلم هو الذي ستجدونه في هذا الكتاب.
تعود معرفتي بالمؤلف لعدة سنوات خلت, فمنذ ذلك اليوم الذي قدم فيه إلى مكتبي في جامعة شيكاغو, ذلك الضابط الشاب الذكي والطموح, ذي الرغبة الشديدة في معرفة الشرق الأوسط وفي استخدام قدرته على التحليل في حل أحاجيه السياسية, أجدني أتساءل إن كان قد خطر ببالي آنذاك مدى الجهد والمثابرة الذي يتطلبه القيام بهذه العملية أو مدى التغير الذي سيتعرض له هو نفسه خلالها, فلقد تطلب تأليف هذا الكتاب أكثر بكثير من مجرد تعلم بعض المهارات الثقافية أو الدقة في استخدام المصطلحات السياسية؛ إذ تطلب سنوات من العيش في الشرق الأوسط كما في جيش الولايات المتحدة الأمريكية, ومن الجدير ذكره أن الطريق الذي اختاره لا ينطبق على نموذج الأكاديمي التقليدي ولا على الجندي المحترف, رغم أنه جندي وأكاديمي في آن.(19/10)
ليست هذه هي الأطروحة التي كان ديك نورتون يظن أنه سيكتبها, كما أن الشرق الأوسط لم يعد ذلك المكان الذي كان عليه عندما جرى نقاش مخطط البحث, وحتى البرفسور نورتون فهو لم يتوجه أساسًا كي يجد الشيعة في جنوب لبنان بل هم الذين وجدوه, أو على الأصح فإن الظروف هي التي جمعتهما معًا.
فخدمة نورتون مع قوات الطوارئ الدولية اليونفيل شكلت الإطار العام لبحثه الميداني, ووفرت له مهامه كضابط اتصال مع السكان فرصة اتصال يومي عملياتي مع الشيعة, ولكن حتى ولو لم يكن ينوي في البداية أن يكتب عن حركة أمل, فإن البروفسور نورتون كان مؤهلاً لنقل التجربة إلى المجال النظري والانتقال من حل المشاكل إلى التحليل النظري, فاستغل الفرصة لكسب تجربة وخبرة عيانية مباشرة مع ما بدا له أنه أحد أقصى المناطق في الشرق الأوسط, مما مكنه من اكتساب معرفة مباشرة بإحدى أهم مشاكل عصرنا.
والنتيجة كتاب فريد من نوعه لم يكن أي شخص آخر ليتمكن من كتابته, سيقدر أهمية مضمونه أولئك الذين على اطلاع على المسألة اللبنانية كما سيقدرون ذلك التقديم المتفهم, أما الذين لا يعرفون المنطقة بشكل جيد فسيتمتعون بوضوح وعمق وذكاء التحليل, والأهم من ذلك كله أن الكتاب يطغى عليه شعور بالاحترام والصدق والتجرد نحو أولئك الذين يتابع الكتاب قصتهم المأساوية والدرامية, وهي صفات يجب تثمينها غاليًا خصوصًا في هذه الأيام التي تحفل بمن يرى مصلحة له في تضخيم أو تبسيط ما يحدث في جنوب لبنان.(19/11)
أما بالنسبة للقارئ المحترف فليس ثمة ضرورة للقول أن هذه الدراسة لحالة خاصة من حالات التطور السياسي، وهي واحدة من تلك الحالات غير النمطية, إلا أنها لا تقوض أي نظرية ولا تشكل قاعدة لنشوء مفاهيم جديدة كليًا حول العالم النامي, بل هي تغني فهمنا لعملية النمو التطور عبر أخذها لمنحى مفاجئ وغير متوقع في تطور الأحداث, ووضعها الأحداث في إطار مرجعي مفهومي, وهي تمنحنا فهمًا أكثر عمقًا لحدود النظريات القائمة وللطرق التي يمكن فيها أن نطبق ما كنا نعتقد أننا قد فهمناه.
ليونارد بايندر
لوس أنجلوس
تشرين الثاني 1986.(19/12)
الفصل الأول
مقدمة
لعله من السخرية بمكان أن يكون لبنان ذلك البلد المدمر والمنكوب, قدم في يوم من الأيام بوصفه نموذجًا يُحتذى للدولة النامية, حتى أن الدراسات الأكاديمية المحترمة التي أنجزت قبل 12 عامًا فقط, لا يمكن قراءتها اليوم دون هزة رأس وشعور بالأسى للحالة المرضية التي تنتاب هذا البلد المتوسطي الصغير, لنأخذ مثلاً الرأي التالي لباحثين غربيين: ((في رأينا أن التجربة اللبنانية, التي قد لا تكون مُلائمة تمامًا ولا تصلح لتصديرها بالكامل قد تقدم الكثير للدول التي تواجه مشاكل خطيرة, وأزمات دينية وأثنية وعرقية (1) ولكي لا يتبادر إلى ذهننا أن عدم توقع المخاطر الكامنة وعدم استشفاف الطبيعة الهشة للنظام اللبناني يقتصر على غير اللبنانيين فقط يجدر بنا أن نُلاحظ أن اللبنانيين أنفسهم لم يكونوا ليتوقعوا الانفجارات اللاحقة, فإيلي سالم مثلاً أحد الأكاديميين اللبنانيين ووزير للخارجية اللبنانية, لاحقًا أثنى على مرونة النظام اللبناني: ((لبنان بلد غالبًا ما تكون انطباعات المرء الأولى عنه خاطئة, إذ وصف بأنه (رجراج) وغير محتمل وفسيفسائي إلا أن مرونة نظامه ووعي وخبرة زعمائه واستقرار مؤسساته قد فاجأت كافة المراقبين)) (2).
__________
(1) دافيد سموك وأودي سموك, The Politics of Pluralism: Acmparatrve Study of Lebanon and Ghana P.IX.
(2) إيلي أديب سالم, ((Modernization without Revolution: Lebanon's experience P.XIII)).(20/1)
إن كانت هذه الكتابات السابقة لحمام الدم فشلت غالبًا في توقع حتى الخطوط العامة لما كان لا يزال في طي الكتمان فإنه لا يمكن القول أن المراقبين اللاحقين قد قدموا تحليلات متميزة في دقتها ووضوحها, باختصار, فإن أكثر من عشر سنوات من التَذابُح على الأرض اللبنانية لم تُسفر إلا عن إحاطة القصة الحقيقية في لبنان ( التغيير السياسي والاجتماعي) بمزيد من الغموض والإبهام وحتى قبل اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975 كانت البلاد تحفل بالتغييرات الخطيرة والهامة, تلك التغييرات التي أطاحت بالتوزيع التقليدي للامتيازات السياسية, وساهمت بشكل بالغ في تعقيد مهمة أي كاتب في الكتابة عن العنف الذي وضع لبنان في قبضة الموت, فلقد عمانا دخان المعارك والمناوشات عن ملاحظة التغييرات التي حولت الجسم السياسي اللبناني, صحيح أن بعض الصحافيين والدبلوماسيين وإلى حد أدنى الأكاديميين سطروا مئات المقالات والرسائل والتقارير والأطروحات, إلا أن العوامل نفسها التي لم تمكننا من رؤية التغير ساهمت أيضًا في إحباط أي محاولة لصياغة تحليل نافذ, فبالمقارنة مع حجم الدم والحبر الذي أهدر في لبنان لا تزال معرفتنا بالأسباب والعوامل الفاعلة في مسار الأزمة اللبنانية متخلفة بشكل ملحوظ.(20/2)
من ناحية أخرى فإن معرفتنا بهذا البلد الممزق محدودة بعوامل المكان والزمان؛ إذ أنه من الصعوبة بمكان اعتبار النزاع المسلح مختبرًا فاتحًا أبوابه للذين يودون اكتشاف الحقائق السوسيولوجية, لذا فقد كان من الأسهل دائمًا اللجوء إلى القبول بالقوالب الجامدة التي غالبًا ما كانت تشوه أكثر مما تكشف, فبدلاً من متابعة التعقيدات المتغيرة في لبنان, كانت القوالب الأكثر قبولاً تجمد الوضع في لبنان على ما كان عليه أوائل عام 1975, ولم يبادر إلا عدد ضئيل جدًا من المعلقين إلى التساؤل عما إذا كانت حقائق عام 1975 ما تزال دقيقة في 1979 أو حتى في 1982, كما أن نفرًا قليلاً من هؤلاء اعتبر أن هذه الحقائق لم تكن تنطبق أصلاً على الوضع في سنة 1975 (1) فمعظم المعلقين لجأوا إلى تحليل مريح يصف الأزمة على أنها نزاع بين المسلمين والمسيحيين أو بين اليمين واليسار (وهي ثنائية أخرى لا تعني في العادة أكثر من مرادف غير دقيق للثنائية الأولى النزاع المسيحي – المسلم) وبالتالي فغالبًا ما فسرت الأحداث المتتالية ضمن إطار مفهومي مشكوك بدقته.
__________
(1) لاستثناء جدير بالتنويه, انظر إيليا حريق, ((Lebanon: Anatomy of Contlict.)).(20/3)
والعلاقة بين المسلمين والمقاومة الفلسطينية قد تشكل مثالاً جيدًا على ما سبق, فعندما نشب القتال في ربيع 1975 كان الموارنة متحدين في مواجهة ائتلاف هش ضم الفدائيين والأرثوذكس والدروز والشيعة والسنة على الرغم من أن العديد من السنة تجنبوا بشكل متعمد الانخراط في القتال إلا أن إخلاص اللبنانيين للمقاومة الفلسطينية لم يدم طويلاً, ففي نهاية السبعينات كان اللبنانيون بمن فيهم عدد من حلفاء الفدائيين السابقين, يقتربون من التوصل إلى معارضة جماعية لوجود أي قوات غريبة على أرضهم سورية كانت أم فلسطينية أم إسرائيلية, وكان اليشعة المحرومون اقتصاديًا وسياسيًا، والذين كانوا يعتبرون سابقًا حلفاء طبيعيين للفلسطينيين, قد بدأوا في نهاية السبعينات بخوض المعارك الطاحنة ضدهم، وقد فشل عدد كبير من المراقبين في ملاحظة هذا التغيير في خريطة التحالفات, فبعضهم لم يكن يعرف أكثر من ذلك, إلا أن آخرون رأوا في الحديث عن تحول في الولاءات نوعًا من الهرطقة, ولعلي ما زلت أذكر بشكل جيد اجتماعًا لعدد من الباحثين حول الشرق الأوسط في عام 1981 تناول فيه بعضهم الوضع اللبناني بالتفصيل، وأذكر أنه إذا أجرينا تعديلاً بسيطًا في تاريخ الأحداث لبدا أن تحليلهم ينطبق على فترة بدء الحرب في عام1975 وعندما شككت في إخلاص المسلمين للمقاومة الفلسطينية على قاعدة أن الفدائيين قاموا بشكل منتظم باستعداء حلفائهم السابقين خصوصًا الشيعة رفضوا مثل هذا الاحتمال بلطف وكياسة, هكذا تشكيك في رأيهم هو نوع من الهرطقة لسببين: أولهما: أنه تشكيك في الحقائق المنزلة في أعمالهم الرؤويه، وأما السبب الثاني فيعود إلى كون هذا التشكيك يمثل انتهاكًا لقدسية الأيديولوجيات التي يعتنقونها.(20/4)
بل وأكثر من ذلك فإن فهمنا للبنان لا يتعدى نطاق العاصمة اللبنانية: بيروت, فمعظم التقارير, الصحافية منها أم الديبلوماسية أم الأكاديمية,كانت تعد في أفضل مناطق العاصمة ومن السهل معرفة السبب, إذ لا توجد مدينة أخرى في لبنان قادرة على تأمين خدمات التلكس والفنادق والمحلات... والمصادر فالصحافيون, وغالبًا ما يكونون غير مؤهلين أساسًا, وجدوا أن تعبئة العمود المطلوب منهم يمكن إنجازه بسهولة في مكان مريح كفندق الكومودور في بيروت الغربية, وهو مؤسسة رائعة تكفي نظرة سريعة لمعرفة لماذا لم يحاول بعض المراسلين الابتعاد عن محيطه, إنه فندق تتناسب أسعاره مع قدرات نزلائه.
وتتوفر فيه المشروبات والطعام الجيد وآلات التكرز والتلكس, وكافة المجلات والصحف, كما تعتبر ردهته نفسها مصدرًا مهمًا للمعلومات, ففيها يستطيع المراسل المتجول شراء نسخة من صحيفة: ((Middle East Reporter)) الشرق أوسطية التي تحتوي تقريرًا إخباريًا جيد النوعية, مليء بالإشاعات والتحليلات والحقائق التي من المؤكد أنها ساهمت في صياغة عدد من التقارير المرسلة من بيروت.(20/5)
قبل الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982, كان بإمكان المرء مغادرة فندق الكومودور في الثامنة صباحًا والتوجه إلى مركز قيادة منظمة التحرير في الفاكهاني ثم التوقف عند سفارة أو اثنتين, والتحادث مع أحد مصادر الأخبار ومن ثم العودة إلى الفندق حوالي العصر لكتابة مقاله وإرساله بالتلكس إلى صحيفته قبل موعد الطبع, وهو إلى ذلك كله كان لديه الوقت الكافي لتناول بعض الكؤوس بالإضافة إلى وجبة طعام شهية والاستمتاع بحمام سبحاة, توجد طبعًا بعض الاستثناءات, إلا أن أغلبهم لم يجد, إلا فيما ندر, أي ضرورة للسفر إلى البقاع أو كسروان أو الجنوب, أضف إلى ذلك أن الصحافيين يخشون دائمًا التواجد في مكان ما بينما تدور أحداث خبطة صحافية في مكان آخر, أما القلة التي كانت على استعداد لتخطي النظام السائد ومواجهة احتمال بعدهم عن أي حدث ساخن قد يطرأ, فقد كان عليهم بالإضافة إلى ذلك أن يواجهوا مخاطر متعددة.
فمنذ عام 1975 ولبنان مقسم إلى مقاطعات أو مناطق أمنية تسيطر عليها المليشيات والجيوش والعصابات (1) وعلى من يريد الوصول إلى مكان ما خارج بيروت وغالبًا حتى في داخلها, المرور ليس فقط بالعديد من الحواجز التي يديرها عناصر المليشيات المزاجيون, بل وقد يجد لدى وصوله إلى الوجهة التي يقصدها أن السفر دون مرافقين أو ضباط اتصال أو ناطقين رسميين أمر جد خطير, وهكذا فحتى الصحافي المخلص والمغامر الذي يترك أسباب الراحة والرفاهية المألوفة في بيروت لا يرجع بأكثر من إحساس بالوضع, لذلك كانت النتيجة أن التقارير التي كتبت في الداخل اللبناني لم تختلف إلا فيما ندر عن تلك التي كانت تكتب في بيروت, وهكذا عكس قصر نظر المراسلين مواقف البيروتي المرهف, الذي لا يهتم في الغالب لما يحدث في المناطق الخلفية كالجنوب مثلاً.
__________
(1) انظر مقالي: ((New Leader, Lebanon's Shifrng Political Landscape,)) آذار 1982 8-9.(20/6)
أكثر من ذلك, فالقصة (الحدث) بالنسبة لمعظم المراسلين الصحافيين في بيروت قبل عام 1982 لم تكن لبنان بل المقاومة الفلسطينية, لم يكن لبنان سوى المسرح الذي تلعب عليه المسرحية الفلسطينية, ولذلك لم تتضمن معظم التقارير المرسلة من بيروت, على وفرتها, إلا النزر اليسير, وبالطبع فإن الصحافي الميداني إنما كان إلى حد كبير يستجيب إلى طلب رؤسائه واهتمامات قرائه فمنطقة التحرير الفلسطينية هي الخبر لا لبنان.
أما الدبلوماسيون وخصوصًا الأمريكيون منهم فكانوا يتمتعون بحرية حركة أقل من حرية الصحافيين، فلقد أدت التهديدات الأمنية إلى فرض قيود قياسية على حركة الدبلوماسيين, وزيادة اعتمادهم على مصادر المعلومات الصديقة, الذين عبروا في الغالب عن مشاغلهم وأهوائهم في العام 1982 كان ممنوعًا على موظفي السفارة الأمريكية أن يصلوا إلى جنوبي الدامور دون الحصول على تصريح السفير, كان من الطبيعي في هذه الحالة أن يكتفي العديد من الدبلوماسيين بالمكوث في العاصمة التي تمتاز بشبكة اتصالاتها ووسائل الراحة فيها, وكذلك وجد بين الدبلوماسيين من شعر بضرر العزلة فبذل كل جهد ممكن لتخطي الإطار الدبلوماسي, كالدبلوماسية النروجية التي كانت تعرف لبنان معرفة وافية, إلا أنها كانت حالة استثنائية حتى في نظر الصحافة والسلك الدبلوماسي, فعندما نعرف أن أغلب المراسلات سواء الصحافية منها أم الدبلوماسية كانت تنتج عبر تعاون فريق ثلاثي مؤلف من الصحافيين والدبلوماسيين والمسئولين اللبنانيين, يصبح من السهل فهم كيفية تولد الحقائق واكتسابها حياة خاصة بها.(20/7)
أما الأكاديميون فوضعهم مختلف تمامًا؛ لأن لبنان لا يوفر جوًا ملائمًا للأبحاث, لذا وجد الباحثون المهتمون بالسياسية اللبنانية أنه من الأسلم لهم أن يدرسوا الوضع عن بعد دون أن يزوروا البلد ويعرضوا أنفسهم بالتالي لخطر اكتشاف زيف الأساطير التي يتمسكون بها, كذلك فإن عدد الباحثين اللبنانيين الذين أنتجوا كتبًا مفيدة وإعلامية حول فترة 1975 – 1976 قليل جدًا, فقد قدم وليد الخالدي دراسة أنيقة ورائعة حول الحرب الأهلية ونتائجها, لكنه من المفاجئ أن تكون المكتبة الأكاديمية تفتقر بشكل عام إلى دراسات حول هذا الموضوع (1) وبالمقارنة مع الأعمال الصحافية يبدو الإسهام الأكاديمي تافهًا ورديئًا (2)
__________
(1) العناوين الجديرة بالتنويه تشمل, وليد خالدي, ((Conflict and Violemce in Lebanon's: Confrnontation in the Middle East: Maius Deep , the Lebanese Civil War , and Kamals Salibi, Crossroads to Civil War 1958-1967)).
(2) John Kifner and Thomas Friedman of the New York Times; Trudy John Cooley, and Robin Wright of the Christian Science Monitor; Wiliam Claiborne. Jonathan Randal, and David Ottoway of the Washington and Bdavi Ignatius of the Wall Street Journal.
هؤلاء جميعًا أرسوا مستويات جديدة للكتابة عن لبنان, فالمراسلون الأجانب يمثلون كمجموعة نخبة مختارة ممتازة جد موهوبة وغير مقدرة حق قدرها بحيث يميل المرء إلى الاعتقاد بأنه لو أطلق ناشريهم الحرية لهم لقدموا نوعية أفضل من التقارير, فالقول بأن المراسلين غالبًا ما تفوتهم القصة الحقيقية في لبنان يشكل نقدًا لكيفية عمل أغلب الصحف لا انتقاصًا من كفاءة أولئك المراسلين.(20/8)
عندما أعادت حرب 1982 لبنان إلى واجهة الاهتمام العالمي, وجد الباحثون أنفسهم يكتشفون حقائق جديدة لم تكن في بعض الأحيان جديدة إلا بالنسبة إليهم, كذلك لم تخل الساحة الأكاديمية من الانتهازيين فلقد كتب أحد الباحثين كتابًا عن غزو إسرائيل للبنان عام 1982 مرتكزًا إلى معلومات استوفاها خلال 21 يومًا فقط من البحث الميداني ومستندًا إلى المساعدة الودية التي تلقاها من ضباط المعلومات في جيش الدفاع الإسرائيلي.
وحتى بالنسبة للمغامرين, لم تكن فرصة البحث متاحة في السنوات الأخيرة, إذ عرف البلد بجذبه للمتآمرين والعملاء وصائدي الثروات على اختلاف مشاربهم, إلا أن اندلاع الأزمة ضاعف عدد المتآمرين والمؤامرات الحقيقي منها والمتخيل ومع انكشاف ظاهرة الازدواجية (الدوبلة) كان هناك غالبًا ما يبرر الشك في الصفة التي يقدم بها الشخص نفسه, وباختصار فقد فرض الوضع التزام جانب الحذر في العلاقات الشخصية مع الباحثين, الذين يزعمون البحث في مواضيع سياسية ادعى أحد مسئولي فتح أن 10% من الفدائيين عملاء, غالبًا غير قصد لقوى أجنبية, وليس مُهمًا أن تكون هذه التهمة صحيحة بقدر ما هو مهم مجرد صدورها, وحتى الأسئلة التي تبدو بريئة في ظاهرها, كانت تصطدم بالخشية من عواقبها الأمنية, وسواء كان موضوع البحث الموارنة أم الشيعة أم الفلسطينيين فإنه من السهل أن تنقضي عدة أشهر قبل الحصول على أجوبة لأسئلة جد أساسية, بريئة في الظاهر, تتعلق بالسكان أو بالبرامج السياسية والاجتماعية وهكذا فقد اتجه العديد من خيرة باحثينا في شئون الشرق الأوسط نحو محور اهتمام آخر بدلاً من الوقوع في شرك حقل الأبحاث العدائي هذا.(20/9)
لدى استقطاب لبنان للاهتمام العالمي عام 1982، تم اكتشاف مدى الجهل المشترك فيما يخص البلد, فقد ساهم المسئولون اللبنانيون الذين كانوا ولفترات طويلة غائبين عن بلادهم في نشر صورة عن لبنان لم تعد قائمة, أما المسئولون الإسرائيليون فكانوا مُصرين على فرض حقائق لا تتوافق مع إمكانيات حلفائهم ولا مع الحقائق الاجتماعية السياسية اللبنانية, في حين سعت الولايات المتحدة وراء رومانسية ساذجة غير معقولة في براءتها, كان جميع هؤلاء محكومين بالفشل, فلقد كانوا يبحثون في عام 1982 عن أجوبة للأسئلة الخاطئة؛ لأن إدراكهم لما حدث قبل 1982 إن كان هناك أي إدراك كان ضعيفًا جدًا.
نشوء السياسة الطائفية:
إننا نؤرخ للدولة اللبنانية عادة منذ عام 1943, فهو العام الذي شهد الاتفاق على الميثاق الوطني الذي يوزع حاليًا المناصب الرسمية على أساس تعداد للسكان موضوع خلاف جرى في عام 1932 وعلى ضوئه منح الموارنة منصب رئاسة الجمهورية ومنح السُّنة منصب رئاسة الوزراء وأُسْنِد للشيعة رئاسة المجلس النيابي, إلا أن العمل بهذه الهيكلية السياسية كان متبعًا قبل عام 1943 بزمن طويل, ففي عام 1841 مثلاً, شكل بشير الثالث مجلس ملي طائفي من 10 أعضاء: ( 3 موارنة – 3 دروز – 1 كاثوليك - 1 أرثوذكس – 1 شيعي – ا سُني) لتمثيل هويات البلد الطائفية المختلفة (1).
__________
(1) تجد تحليلاً فذًا لهذه الفترة في كتاب, William R.Polk in The Opening of South Lebanon, 1788-1840.(20/10)
وفي عام 1860 وبعد انتفاضة الفلاحين الموارنة على الدروز أصحاب الأراضي قتل 11 ألف ماروني في فترة لا تتعدى بضعة أسابيع, وأثر مجزرة 1860 وبضغط من بريطانيا وروسيا وفرنسا والنمسا الذين كانت كل دولة منهم تتعاطف مع إحدى الطوائف اللبنانية, وافق السلطان العثماني على Reglement Organique لعام 1861 والذي ينص على إنشاء مجلس تمثيلي يَضُم مُمثلين عن كل طائفة رئيسة وقد تم تعديل هذا النظام في عام 1864 لمنح الموارنة والدروز والكاثوليك تمثيلاً عدديًا أكبر, إلا أنه في هذه المرة أيضًا جرت مراعاة النسب الطائفية العددية فقد تتغير نسبة التمثيل من آن لآخر إلا أن الصيغة تحافظ على ثباتها.
وهكذا فمع بداية الانتداب الفرنسي عام 1920 كانت أوليات السياسية اللبنانية قد رسخت, فأنماط الهوية القائمة على الاشتراك في الدين والمنطقة والعلاقات الخارجية الفريدة أنتجت نظامًا سياسيًا لا يمكن فصل السياسة فيه عن الهوية الطائفية.
تحولات السكان:(20/11)
برهن النظام الطائفي اللبناني ولسوء الحظ عن كونه نظامًا هشًا جدًا لا يستجيب لا للمَطالب التي يفرضها نمو السكان, ولا للتغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, وكانت إعادة رسم الفرنسيين لحدود لبنان عام 1920 من العوامل الحاسمة التي حكمت على هذا النظام بهشاشة تركيبه, فبينما كان القصد من توسيع لبنان عام 1920 من جبل لبنان إلى لبنان الكبير, زيادة فرصة البلد في الحياة, إلا أنه رغم مضاعفة مساحة أراضيه فقد تعقد إلى حد كبير مستقبله السياسي, وذلك عبر تغيير الواقع السكاني في البلاد بإضافة المسلمين الشيعة في الجنوب وفي وادي البقاع, والأرثوذكس والأرمن والسنة في المدن الساحلية والكاثوليك في وادي البقاع, وهكذا فإن توسيع الأحجية الطائفية منع إمكانية هيمنة أي طائفة ومع تخفيض القوة النسبية لكل فئة, نمت التحالفات الثنائية الداخلية كما بين الكاثوليك والموارنة والسنة والأرثوذكس, وتوثقت الروابط الخارجية.(20/12)
عندما ندرس تاريخ لبنان في المائة وخمسين سنة الأخيرة, نرى أنه كان يشهد حتى نيله لاستقلاله في سنة 1943, تعديلات دورية سواء في نسب التمثيل الطائفي أم في توزيع بعض المناصب المحدودة, إلا أنه منذ إقرار الميثاق الوطني عام 1943 لم تجر سوى تعديلات متواضعة, وذلك رغم كون الفرق في نسبة زيادة الولادات لدى الطوائف قد غير بشكل ملموس من وجه لبنان الديموغرافي, وليس مفاجئًا أن تكون الطوائف التي تتمتع بأرفع مرتبة اجتماعية – سياسية كالموارنة والسنة هي التي شهدت انخفاضًا في نسبة الولادات, بينما عرف الذين هم في أسفل السلم الاجتماعي – الشيعة نسبة ولادات عالية جدًا, وليس هذا اكتشافًا هائلاً فنحن نعرف أنه مع ارتفاع المرتبة الاجتماعية الاقتصادية تميل نسبة الولادات إلى انخفاض وذلك بالإضافة إلى أن التغييرات في أنساق الهجرة شكلت عاملاً في غير صالح المجتمع المسيحي ككل, بل هي أفادت المسلمين الشيعة بشكل خاص, وبتعبير آخر, كان المهاجرون المسيحيون اللبنانيون يتجهون أكثر فأكثر إلى الاستقرار في بُلدان الاغتراب (أوربا الغربية والأمريكيتين على وجه الخصوص) بينما كان من المتوقع أن يعود المهاجرون الشيعة إلى لبنان بعد قضاء عدة سنوات في الخليج أو أفريقيا الغربية.(20/13)
يجب التشديد على أنه من المستحيل في ظل الظروف الراهنة, الحصول على تعداد دقيق للسكان, إلا أن معالجة الديموغرافيين لبعض المعطيات المحدودة تظهر بما لا يقبل الشك أن المسيحيين قد فقدوا منذ زمن طويل نسبة الـ 6: 5 التي كانوا يتفوقون بها على المسلمين (1), فبينما يظهر الإحصاء الأخير الذي أجري عام 1932 أن الشيعة هم ثالث أكبر طائفة في البلاد فإن أحدًا لا يجادل الآن في كونهم الطائفة الأكبر, فهم يشكلون حوالي 30% وأكثر من مجموع عدد السكان فبحسب أحد التقديرات المبنية على معطيات حسابية في أوائل السبعينات كان متوسط عدد أفراد العائلة الشيعية 9 أشخاص في مقابل 6 أشخاص لدى المسيحيين (2) فإذا أخذنا المسلمين مجتمعين الشيعة والسنة والدروز لوجدنا أنهم يمثلون على الأرجح 60% من السكان, ولقد حدثت كل هذه التحولات الديموغرافية دون أن تترافق مع تغيرات موازية لها على صعيد توزيع السلطة السياسية.
إن مبدأ توزيع المناصب السياسية على الطوائف قد أثار لدى الشيعة شعورًا جماعيًا بالحرمان لتوازيه مع التمثيل المنخفض تاريخيًا للشيعة في المؤسسات السياسية, وكما لاحظ روبرت مالسون وهوارد ولوب: ((إن تبعية المؤسسات السياسية لمصالح الطوائف ينحو إلى تقوية الأزمة الطائفية)) (3).
__________
(1) انظر مثلاً, Joseph Chamie, Religion and Fertility: Arab Christian Muslim Differentials.
(2) المرجع نفسه ص 44.
(3) Robert Melson and Howard Wabpe , Modernization and the Politics of Communalism: Atheoretical Peroective, American Political Science Reports 64 December1970: 1112-1130.(20/14)
ثمة عامل سكاني آخر مهم وهو تدفق اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان, فلقد لجأ حوالي المائة ألف فلسطيني إلى لبنان أثر حرب فلسطين الأولى في عام 1948, وبفعل الزيادة الطبيعية كان عدد هؤلاء لدى اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975 يربو على المائتي ألف, يعيش أكثر من نصفهم في مخيمات اللاجئين ورغم أن نسبة لا بأس بها من الفلسطينيين الذين يعيشون خارج المخيمات, أي: الفلسطينيين ذوي المرتبة الاجتماعية السياسية العالية, تمكنت من الاندماج في المجتمع اللبناني, إلا أن هذه الفرصة لم تكن متاحة على الإطلاق لسكان المخيمات, وهكذا وجدت منظمة التحرير الفلسطينية في سكان المخيمات الموجودة في كافة المدن الساحلية اللبنانية نبعًا لا ينضب من المنتسبين الجدد إليها, ثم ازدادت نضالية سكان المخيمات بشكل ملحوظ بعد الهزيمة الكبرى في حرب الأيام الستة في عام 1967 أو بعد الذل والهوان الذي لحق بالعرب, وفي الوقت نفسه ازداد استخدام لبنان كقاعدة لانطلاق الهجمات ضد إسرائيل مما جعله أكثر فأكثر ساحة لتبادل إطلاق النار العربي – الإسرائيلي وبما أن أغلب الفلسطينيين من المسلمين السنة أخذ العديد من الحزبيين المارونيين في المنطقة الشرقية يعتبرون أنهم يشكلون خطرًا على استمرار الهيمنة المارونية في لبنان.
خلال عامي 1970 و 1971 دخلت موجة ثانية من اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان ولكنهم كانوا هذه المرة مسلحين يعصب بهم شعور بالغضب بعد طردهم من الأردن, فبعد خسارة الأردن كقاعدة للعمليات أصبح لبنان البلد الوحيد الذي تستطيع منظمة التحرير الفلسطينية أن تعمل فيه باستقلال ذاتي نسبي, إن وجود منظمة التحرير الفلسطينية المسلح والهجومي في لبنان أطلق -أكثر من أي عامل آخر- الشرارة التي أشعلت التوترات والمطالب الكامنة في صميم المجتمع اللبناني.
أبعاد التغيير السياسي:(20/15)
لقد زادت 12 سنة من النزاع الداخلي والغزو والفوضى المدنية من قوة وحدة القوى السياسية – الاجتماعية التي كانت تعمل على تغيير لبنان حتى منذ ما قبل بدء الحرب الأهلية في عام 1975 ورغم طغيان أخبار المجازر على العناوين الرئيسة إلا أن القصة الحقيقية في لبنان تبقى قصة التغيير السياسي والاجتماعي, الذي يرتبط في أذهاننا عادة بالتحديث, إن عددًا كبيرًا من اللبنانيين قد وجدوا أنفسهم سياسيًا وما عادوا يتقبلون أي نظام سياسي يتجاهل مطالبهم, إن الفشل أو عدم الرغبة في معرفة أبعاد التغيير هو العنصر المميز للحكومات اللبنانية في الخمسة عشر سنة الأخيرة, إن جحود النخب الحاكمة هذا يشكل التفسير الأهم لاستمرار لبنان عرضة لتدخل القوى الأجنبية, فالجماعات التي لم تجد لمطالبها أذنًا صاغية داخل النظام السياسي كانت غالبًا ما تتجه إلى القوى الخارجية المستعدة لمساعدتها.
نتيجة لازدياد التعليم والهجرة الداخلية والخارجية, ومتابعة وسائل الإعلام والابتعاد عن الزراعة نحو قطاع الخدمات, تجاوز سكان القرى العزلة والمطواعية التي غالبًا ما ترتبطان بشكل عفوي في أذهاننا بالسكان غير المدنيين. ورغم أن اللبنانيين ما زالوا ينشدون الأشعار التي تتغنى ببراءة وأصالة قراهم الوادعة فإن هذه القرى ليست الآن سوى جزء من تاريخ لبنان الاجتماعي, فسكان القرى والبلدات والمدن على حد سواء هم الآن أكثر حزمًا وإصرارًا وهم بالتالي أكثر استعدادًا للانخراط في العمل السياسي.(20/16)
وبينما كان الناس يتسيسون في لبنان كانت هناك مجموعة متنوعة من المنظمات السياسية تتنافس فيما بينها لاستقبال المنتسبين الجدد, ولقد حاول عدد من أكثر من هذه الحركات نجاحًا استقطابهم عن طريق التوجه إلى الهوية الطائفية الدينية التي يحصل عليها اللبنانيون لدى الولادة, ولعله ليس من المستغرب أن ينجح التوجه إلى المشاعر البدائية في استقطاب العناصر الجديدة فلقد سبق لنا أن أشرنا إلى أنه من الصعب على اللبناني التهرب من الهوية المزدوجة فهو إما سني – لبناني أو أرثوذكسي – لبناني وهكذا, ولقد طاول التسيس على مر السنين حتى المؤسسة الزوجية نظرًا لكون الزواج المدني غير مسموح به في لبنان, فمن بطاقة الهوية التي تحدد الطائفة إلى المناصب السياسية التي توزع وفقًا للصيغة الطائفية يصعب على الناس في لبنان أن يكونوا لبنانيين فقط (1), وهكذا فإن بروز مجموعات كالقوات اللبنانية المارونية وحركة أمل الشيعية والحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي يجب أن لا يسمح له بحجب العنصر الأساسي الضمني المتمثل في التزايد الكبير لعدد المسيسين بين السكان, هذا العامل لا يعقد فقط العلاقات بين الطوائف بل وداخل كل طائفة أيضًا.
كبرت صفوف المسيسين وتغير الإطار العام للمارسة السياسية بشكل جذري فبعد أن بقيت السياسة في لبنان ردحًا من الزمن حكرًا على رؤساء سياسيين يدعون بالزعماء, لخلو البلاد من المؤسسات السياسية المركزية القوية.
__________
(1) مما له دلالته أن الخطاب الرئيسي الذي أعلن فيه رئيس الوزراء رشيد كرامي عن سياسته في 31 أيار 1984 تضمن الدعوة إلى إلغاء الطائفية, لكن لسوء الحظ لم يأخذ هذا الإصلاح, كغيره من الإصلاحات طريقه إلى حيز التنفيذ.(20/17)
وهؤلاء الزعماء ينتمون لبضعة دزينات من العائلات فقط – 26 عائلة احتلت 35% من مقاعد البرلمان في كافة الدورات منذ الاستقلال في عام 1943, وكل زعيم يمثل مجموعة الوكلاء التي تبادل ولاءها السياسي الجاهز ببضاعة الزعيم السائرة من الخدمات السياسية التي توزع على طريقة زعماء الأحياء في شيكاغو.
وكانت الزعامة نفسها تنتقل من الأب إلى الابن بوصفها إرثًا سياسيًا, فأسماء مثل آل الجميل, آل شمعون, آل سلام, آل الأسعد, آل فرنجية, آل جنبلاط, وآل الصلح كان يتوالى ظهورها المرة تلو الأخرى على قائمة متولي الحقائب الوزارية, إلا أن نشوب الأزمة والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة التي رافقتها همشت أكثر فأكثر دور الزعماء في لبنان المعاصر, فمنذ الغزو الإسرائيلي عام 1982 أصبحت مراقبة حماة النظام السياسي القديم في اندفاعهم لاستعادة سيطرتهم على الإقطاعيات التي يسيطر عليها جزئيًا على الأقل, جيل جديد من القيادات غالبيتهم من ذوي أسماء عائلات غير مشهورة أو غير معروفة, من أشد الرياضات العقلية إمتاعًا, لا يعني هذا أن الزعماء قد فقدوا أية أهمية سياسية إلا أن مدى نفوذهم في المناطق الشيعية والمارونية على الأخص قد تضاءل كثيرًا.(20/18)
أبرز الصراع على السلطة أسماء غير معروفة سياسيًا مثل سمير جعجع قائد القوات اللبنانية المارونية ونبيه بري قائد حركة أمل الشيعية, ويشكل هؤلاء في مزاجهم وأصلهم الاجتماعي وثروتهم المادية النقيض للزعماء الذين يسعون إلى الحلول محلهم, نشأت القوات اللبنانية عام 1976 على يد بشير الجميل ابن مؤسس حزب الكتائب بيار الجميل, وبالرغم من أن بشير ليس بالتأكيد مجهولاً سياسيًا فإن المنظمة التي أنشأها تألفت إلى حد كبير من الفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة المارونية التي تسكن في ضواحي بيروت الشرقية, وقد رفض هؤلاء على وجه الإجمال سياسات الجيل القديم بما فيه حزب الكتائب, وكما لاحظ لويس سنايدر في مقالة رائعة له أن القوات اللبنانية ليست مجرد ميليشيا بل هي حركة عضوية ترفض النمط السياسي القديم الذي تمارسه المؤسسة الإسلامية والمسيحية (1), ومنذ اغتيال بشير الجميل في أيلول 1982 انتقلت القيادة إلى مجموعة من الفعاليات الشابة التي لا يوازي تشبثها في الاحتفاظ بحصة من السلطة إلا التزامها بحماية هوية مجتمعها المارونية.
__________
(1) Lewis W.Snider The Lebanese Forces: Their Origins and Role in Lebanon's Politics. Middle East Journal 38 Winter 1984: 1-33, see 3.(20/19)
لعل التحول الأساسي الأكثر بروزًا هو ذلك الذي شهدته الطائفة الشيعية التي تميزت مؤخرًا بمطالبتها الصارخة بحقوقها (1), وهذا الكتاب يسلط الضوء على حركة أمل بوصفها المنظمة الشيعية الأبرز, أنشأ حركة أمل قائد ديني براغماتي ذي شخصية ساحرة كاريزماتية يدعى موسى الصدر الذي نجح في معارضته المتعمدة لسلطة الزعماء التقليديين اختفى موسى الصدر ويبدو أنه اغتيل خلال زيارته الغامضة إلى ليبيا في عام 1978, وكان لاختفائه وظهور نموذج الثورة الإسلامية في إيران والضربات الانتقامية التي تلقاها الشيعة في الجنوب, هذه العوامل الثلاثة متحدة ولدت إحساسًا بالذات كان غائبًا منذ فترة بعيدة, ويقود حركة أمل اليوم المحامي نبيه بري, الذي ولد في سيراليون لعائلة جنوبية تتعاطى التجارة والذي عاش لدى عودته إلى بيروت فترة في أحزمة البؤس, يثير اسمه احتقار الزعماء الذين يهزؤون من عدم امتلاكه لمؤهلات النخبة التقليدية, لكن يبقى أن نبيه بري وأمثاله هم الذين يمكنهم أن يتحدثوا باسم أغلبية الشيعة لا الزعماء الذين غالبًا ما لم يعد نفوذهم يتعدى في هذه الأيام حدود صالوناتهم.
__________
(1) انظر الفصل الذي كتبته بعنوان حركة أمل في الدين والسياسة Political Anthropology PP. 105 – 131وحول التغير السياسي والاجتماعي العام في لبنان انظر Paul A. Jureidini and Ronald D. Melaurin, The Impact of Social and Generational Change on Lebanese Politics unpubished paper, March 1984 ; and Edward Azar et al; The Emergence of a New Lebanon: Fantasy or Reality?(20/20)
إن تضافر عاملي التفتيت السياسي الداخلي والتدخل الخارجي قد فاقما كثيرًا من الصعوبات التي تواجه أية حكومة لبنانية, فحل المشكلة لا يكمن فقط في مجرد تلبية مطالب الطوائف المتصارعة في وسط سياسي تتدخل فيه القوى الأجنبية أيضًا, بل وفي تحديد من يتكلم باسم كل طائفة أو مذهب, ومن الواضح أن التظاهر بأن التغيير لم يحدث, من الصعب اعتباره تكتيكًا يؤمل نجاحه, كما اكتشف ذلك بالفعل ولسوء حظه الرئيس أمين الجميل, فالشيخ أمين الجميل الذي انتخب في أيلول 1982 إثر اغتيال أخيه بشير, الرئيس المنتخب آنذاك, يفتقد إلى قاعدة عريضة في المجتمع الماروني, ويظهر أنه حاول أن يسترضي العدد الكبير من منتقديه الموارنة برفضه الاتفاق مع القيادة الناشئة للشيعة والدروز, يجدر بنا أن نتذكر أن المسألة تتعلق باقتسام السلطة السياسية التي يرى الشيعة والدروز أن الموارنة يحوزون على أكثر من حصتهم فيها, فبدلاً من التعامل مع أمثال نبيه بري اختار الجميل أن يتجه إلى كامل الأسعد رئيس المجلس النيابي آنذاك, إلا أن قاعدة الأسعد الانتخابية كانت قد تضاءلت إلى درجة الزوال التام, لذ لم يؤد عمل الرئيس إلا إلى تغذية الانطباع بأنه كان يسعى قبل كل شيء إلى تجنب أي تسوية مع القوى الاجتماعية الصاعدة باستثناء طائفته بالطبع, وجاءت السيطرة الشيعية – الدرزية على بيروت الغربية في 6 شباط 1984 لتبرهن على فداحة الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه.(20/21)
إن عمليات التغيير التي حملت الشيعة والموارنة الحديثي التسيس إلى الواجهة السياسية لا يمثل الدروز, برغم حنكتهم السياسية سوى حوالي 7% من عدد السكان كانت تنذر بإعادة خلط التحالفات في السياسة اللبنانية. فالسنة الذين شاركوا طويلاً الموارنة في السلطة السياسية يقلون عدديًا عن الشيعة ويفتقدون المنظمات السياسية الجماهيرية التي يملكها الشيعة والدروز على حد سواء, وفي الواقع أنه لمن المفارقات المثيرة أن مؤسسة الزعامة لدى السنة, الذين يتمتعون بمستوى نمو اقتصادي واجتماعي عال, تتمتع بثبات أكثر من مثيلاتها لدى الطوائف الأخرى, ويتفق معظم المراقبين على أنه في حال الاتفاق على صيغة سياسية جديدة في لبنان فإن الطائفة السنية هي الخاسر الرئيسي إن لم تكن الخاسر الوحيد.
إن السعي لتحقيق الوفاق الذي يخضع لمخاض عسير ويمتاز بعدم الاستمرار والتعرج والمخادعة لن يحظى بالنجاح إن كان مجرد وسيلة لتمكين الزعماء من استعادة نفوذهم السياسي, والوفاق بين السياسيين التقليديين ليس بالطبع غير ذي أهمية إلا أنه غير كاف, فلا بد إن قدر لحمام الدم في لبنان أن ينتهي ويعود السلام إليه أن يفسح الزعماء في المجال أمام القادة الجدد الذين ينهضون بالمطالب الشرعية لقاعدتهم الشعبية.
إن بروز هؤلاء القادة الجدد والقوى الاجتماعية التي يمثلونها يزيد بشكل هائل من تعقيد الأحجية اللبنانية, قد تكون هذه الأحجية غير قابلة للحل في الوقت الحالي إذا أخذنا بعين الاعتبار تفتت السلطة السياسية والنشاطات السورية والإسرائيلية والإيرانية التي لا رادع لها, لكن لا يمكن أن ننفي أن أي محاولة لترميم لبنان عبر استعادة الأطر القديمة البالية هي محاولة محكومة بالفشل ويبدو هذا الحكم على أشد ما يكون من الوضوح في حالة الشيعة التي سوف نعالجها الآن بتفصيل أكثر.(20/22)
الفصل الثاني
معنى التغيير ومصادره لدى الشيعة في لبنان
إذا أخذنا برأي بعض المصادر, قد يتراءى لنا أن الشيعة في لبنان قفزوا فجأة إلى المسرح السياسي, وذلك إلى حد كبير كصدى الثورة الإيرانية عامي 1978-1979, إلا أن وجهة النظر هذه تنطوي على خداع ذاتي, إذ أن فعالية الشيعة الحالية هي في الحقيقة محصلة عملية تحديث طويلة, فقد ظهرت مؤشرات أهمية الشيعة السياسية المتنامية قبل الأحداث التاريخية في إيران بوقت طويل, من جهة أخرى فقد انساق عدد من المراقبين إلى تقديم السياسة الشيعية بوصفها مزيجًا من العاطفية والغضب واللاعقلانية, ولكن وجهة النظر هذه هي بدورها وجهة نظر تضليلية.
صحيح أن التشيع وخصوصًا المنهج الداعي إلى الفعالية السياسية السائد حاليًا في إيران كثيرًا ما يعتبر نمطًا من الاحتجاج الاصطلاحي ذي المرجع الثقافي يمد حامله برمزية فعالة وإيحائية تستثير العواطف وتستعيد الماضي التاريخي, إلا أن دراسة البرنامج السياسي للحركة السياسية التي تمثل غالبية الشيعة في لبنان يظهر بوضوح أن اهتمامه بالقضايا العقائدية -مثل الارتداد والتطبيق السليم للتعاليم الدينية- أقل بكثير من اهتمامه بالاصطلاحات السياسية من النوع العادي والمألوف, لذا فإن إحدى طروحات الكتاب المركزية هي أن السياسة كما يمارسها الشيعة في لبنان ليست أكثر غموضًا أو غرابة من سياسات أي طائفة لبنانية أخرى.(21/1)
وهي أيضًا ليست أقل شفافية ووضوحًا من أي شكل سياسي آخر, كما أن العمليات السياسية والاجتماعية القائمة حاليًا لا تخلو من التناقض ولا يجدر بنا أن نتوقع غير ذلك أصلاً, إلا أن مفتاح فهم سياسة الشيعة يقع في حقل علم الاجتماع وميدان السلوك السياسي على الأرض, لا في الصور المثيرة للمتعصبين إلى حد الجنون المستعدين للتضحية بأنفسهم مقابل بطاقة سفر ذهابًا إلى الجنة, وبينما تتراوح أهداف الفرد الشيعي بين التافه والسامي, وبين الحقير والنبيل يمكننا أن نرصد معنى النشاط السياسي الشيعي في إطار السياسة اللبنانية التي توزعت فيها صفات مثل المخادعة, الشجاعة, الفساد, الأنانية, ونكران الذات على الشيعة بنفس الطريقة العشوائية التي توزعت بها على غيرهم.
والشيعة, تلك الجماعة المعزولة سياسيًا والمتجاهلة في أحيان كثيرة, بقيت زمنًا طويلاً على هامش الاقتصاد والمجتمع اللبناني (1) يبحث هذا الفصل في قوى التحديث التي أثرت في الشيعة ويسلط الضوء على العوامل التي أسهمت في بروزهم مركزًا بشكل خاص على الإطار اللبناني وخصوصًا الطائفية في لبنان, لكي نوضح لماذا وجد الشيعة أنفسهم سياسيًا كشيعة وليس في إطار هويات سياسية أخرى, وسنتعرض بالتحليل في الفصول اللاحقة للقوى الداخلية التي أعطت تسيس الشيعة شكلاً معينًا, كما أننا سندرس المنظمات التي لعبت دور الأداة في تعبئتهم السياسية.
الطاقة المتجاهلة:
__________
(1) يمكن الاستدلال على مدى هامشية الشيعة من كون الدراسات السياسية التي صدرت قبل الحرب الأهلية تجاهلتهم بشكل كلي تقريبًا, والكتابان التاليان من الاستثناءات الجديرة بالتنويه: Michael C. Hudson. The Precarious Republic: Political Modernization in Iebanon; and David R. Smock. The Politics of Pluralism: A Comparative Study of Lebanon and Ghana.(21/2)
إن الأعمال الأكاديمية التي اتخذت من الشيعة في لبنان موضوعًا لبحثها, قليلة وسطحية بشكل ملحوظ, ولكن هذه الندرة ليست على أي حال مفاجئة وغريبة, فالباحثون يميلون إلى السير على الطرق المطروقة من قبل, الأمر الذي يعني على الصعيد اللبناني الاكتفاء بدراسة الطوائف النافذة سياسيًا -أي: الموارنة والمسيحيين والدروز والمسلمين السنة- نادرة جدًا هي الدراسات التي تخص الشيعة بأكثر من ذكر عابر, فهم ليسوا بالنسبة إلى العديد من المؤلفين أكثر من نتاج غريب للصراعات الأولى على الخلافة في الإسلام, لذا بدا أن فقرهم وتخلفهم الاجتماعي وتمثيلهم السياسي المتدني, قد حرمهم من أي اهتمام جدي, ولقد وصف أحد الرحالة, دافيد أوركهارت, في منتصف القرن التاسع عشر الشيعة بأنهم شعب خامل خانع يتمتعون بالقذارة والفساد, وحتى بعد ذلك بقرن من الزمان, كان هذا الوصف لا يزال صحيحًا في نظر العديد من المؤلفين:
((يلبسون جميعًا أسمالاً بالية, باستثناء بعض المشايخ, وجميعهم متسولون, يتحلقون حول النار التي يطهى عليها الطعام في الهواء الطلق, وإذا طلب من واحدهم أن يحضر بعض البيض هز كتفيه, وإن قيل له: إنه سيجزى مالاً لقاء تعبه في إحضار البيض يجيب (لا يوجد) وإذا طلب من شخص آخر بيع عنزة أو دجاجة قال: إنها لسيت لي, إن قذارتهم تثير الاشمئزاز حتى تكاد
تظنهم يتفاخرون بخروجهم عن القانون والشريعة, سواء شريعة جبل الطور أم شريعة مكة فيما بعد, فهم لا يحافظون لا على نظافة أنفسهم ولا على نظافة قراهم (1).
ويبدو أن السمة الأبرز التي عرف بها الشيعة حتى في الخمسينات من القرن الحالي هي عدم تأثيرهم في مجرى السياسة اللبنانية.
__________
(1) David Urquhart. The Lebanon: Mt. Souria. A History and a Aiary. 2 Vols, l: 223.(21/3)
وحتى اعتراف إحصاء 1932 بالشيعة كثالث أكبر طائفة في البلاد, لم يُكوِّن حافزًا قويًا لدراسة طائفة ذات فعالية سياسية متواضعة بالمقارنة مع عددها, ولقد تمكن البرت حوراني في ملاحظاته المختصرة من أن يعبر عن مشاعر الباحثين الذين ساروا على خطاه, لاحظ حوراني تخلف الشيعة ومستوى معيشتهم المنخفض وقال: إنهم يحتاجون قبل أي شيء آخر إلى تنظيم اجتماعي إصلاحي وإلى ظروف اقتصادية محسنة (1).
كانت الطائفة أو على الأصح أجزاء من الطائفة, ترزح غالبًا تحت وطأة سيطرة عدد قليل من الزعماء الذين استمدوا قوتهم السياسية من ملكية الأراضي ومن اللافعالية السياسية لقاعدتهم الشعبية, فقد توطد نفوذ عائلات مدينية الانتماء أو الإقامة وتعمل في التجارة, كآل عسيران في صيدا وآل الخليل في صور وآل الزين في النبطية عندما حازت في أواخر القرن التاسع عشر على ملكية أراضي أو حصلت على التزام (تحصيل ضرائب) لدى الباب العالي العثماني, كما ضاعف الالتزام نفوذ عائلات أخرى تمثل تاريخيًا عشائر قوية كآل الأسعد في الطيبة وآل حمادة في بعلبك, سيطر هؤلاء الزعماء بعد الاستقلال على السياسة الطائفية (داخل الطائفة), وفازوا المرة تلو الأخرى بمقاعد نيابية وحقائب وزارية.
__________
(1) Albert H. Hourani. Syria and Lebanon: Apolitical Essay. P. 135.(21/4)
ورغم أن الميثاق الوطني عام 1943 الذي صاغ قواعد تقسيم المناصب السياسية في الجمهورية الجديدة اعترف بالحصة الديمغرافية للشيعة عبر منحهم ثالث أهم منصب سياسي رئاسة المجلس النيابي, إلا أن ذلك لم يكن انعكاسًا للوعي السياسي للطائفة, فحصة الشيعة كما لاحظ ليونارد بايندر, هي في الحقيقة حصة الزعماء السياسيين التقليديين الذين كانوا يتربعون على السلطة بدون منازع (1) فلقد ترجم الزعماء سيطرتهم الاقتصادية لدى حلول الانتخابات إلى سيطرة سياسية عبر تأمين تأييد آلي لهم من ناخبيهم المطواعين (2)فالاستمرار في ظل نظام كهذا يفترض أن تصبح من (الزلم) الذين يؤيدون اللائحة التي يعينها الزعيم ويدافعون عن مصالحه وممتلكاته ويسهرون على الحفاظ على المهابة والاحترام اللائق به.
وهكذا فإن الطائفة الشيعية المتوحدة نسبيًا والحازمة سياسيًا كما هو بين اليوم, تشكل ظاهرة سياسية حديثة وهامة, وهذا التطور هو نتاج عناصر متعددة بما في ذلك عدة عقود من التغيير الاقتصادي – الاجتماعي, وبالتالي فإن هذا الفصل يهدف إلى تحليل كيفية انحلال القيود التي نسجتها عدة قرون من العزلة السياسية والاجتماعية عبر تغييرات درامتيكية وعادية في آن.
والموضوعات التي تحكم هذا الفصل هي:
بحلول الستينات كان الشيعة قد شهدوا تغيرًا اقتصاديًا واسع النطاق وتمزقًا اجتماعيًا, كان عمل كارل دويتش على التعبئة الاجتماعية قد توقع بعض دلالاته.
أدى تخفيف عزلة الطائفة تحت تغير نمط الزراعة وزيادة الاطلاع على وسائل الإعلام, وتحسن الطرقات الداخلية والخارجية وتدهور الوضع الأمني, إلى جعل الزعماء التقليديين أقل قدرة على تلبية الحاجات المتنامية والمطالب المتكاثرة لقواعدهم.
__________
(1) Leonard Binder. Political Change in Lobanon in Polities in Lebanon. Ed Leonard , PP. 283-327.
(2) المرجع نفسه ص 301.(21/5)
وحتى قبل اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 كانت تشكيلة واسعة من الحركات السياسية العلمانية تتنافس فيما بينها لكسب أعضاء جدد من الطائفة الشيعية التي يزداد تسيسها, لكن الهوية الطائفية لم تبرهن فقط عن ثباتها بل ازدادت ترسخًا بفعل الطابع المميز للناصب السياسي – الاجتماعي في لبنان.
تقدم لنا أدبيات علم السياسة في معالجتها لدلالة وأثر انقسام الناس بين مدينيين وريفيين في ممارستهم السياسية مفهوم الثنائية وهو مفهوم برهن عن عدم انطباقه على الوضع اللبناني, إذ أن آثار المدنية المقترحة بما فيها تزايد الانخراط في الممارسة السياسية برزت بالوضوح نفسه في المناطق غير المدينية, مما يقودنا إلى الاستنتاج بأن التمييز بين الريفي والمديني قد فقد كثيرًا من معناه بالنسبة للعمل السياسي في لبنان.
تظهر الحالة اللبنانية بوضوح أنه بالنسبة للدول ذات الحجم الجغرافي المتواضع والتي تخضع لتغييرات اجتماعية اقتصادية هامة فإن ثنائيات الريفي المديني قد تضر أكثر مما تنفع.
عندما يقضي التغيير على حصون العزلة في القرية, تصبح القرى والمدن معًا مواقع هامة للعمل السياسي.
رغم ثبات الهوية الطائفية واستمرار أهمية مثال القرية في الحياة السياسية اللبنانية, إلا أن نجاح حركة شيعية مميزة ذات قاعدة عريضة لم يكن بالنتيجة الحتمية, فقد كان من السهل أن تتمزق الطائفة على مجموعة من المنظمات المحلية الشعبية وعلى خليط من الأحزاب العلمانية التي ترفع مطالب الشيعة, ولقد حصل ذلك بالفعل في بعض الأوقات, إلا أن أحداثًا وقعت خارج لبنان مكنت إلى حد كبير حركة إصلاح طائفي ذات قاعدة عريضة من أن تبرهن على أنها العامل الأهم في تعبئة الشيعة.
الشيعة والتخلف الاقتصادي – الاجتماعي:(21/6)
إن تقدير عدد السكان في لبنان أمر ينطوي دائمًا على قدر من المجازفة فآخر إحصاء رسمي أجري قبل أكثر من خمسين سنة, إلا أن كافة المراقبين المطلعين يجمعون على أن الشيعة يشكلون الآن أكبر طائفة في البلاد ويمثلون 30% من السكان على الأقل, أي بين 900.000 والمليون نسمة (1) وهكذا فإن عدد الشيعة الآن يتجاوز عدد أي من الطائفتين ( السنية والمارونية) اللتين سيطرتا على الجمهورية منذ حصولها على الاستقلال في 1943, والنظام الطائفي اللبناني يؤسس ( من مؤسسة) لرئاسة مارونية ورئاسة وزراء سنية ورئاسة مجلس نيابي شيعية, وذلك وفقًا للنسب السكانية لإحصاء 1932, فإذا نجح الشيعة في مطالبتهم بضرورة أن يعكس النظام السياسي وضعهم كأكثرية فمن الواضح أن ذلك سينتج عنه إعادة توزيع جوهرية للسلطة السياسية في لبنان.
__________
(1) يمكن الحصول على إحصاءات سكانية مفيدة في: Joseph Chamie, The Lebanese Civil War: An Investigation into the Causes World Affairs 139 Winter 1967/1977: 171-188: and Riad B.Tabbarah. Backgrouns to the Lebanese Conflict. International Journal of Comparative Socrology 20, nos. 1-2 March 1979 ) 101-121.
ولدراسة ديموغرافية رائعة انظر: Joseph Chamie. Religion and Fertility: Arab Christian-Muslim Defferentials.(21/7)
إن التأثير المحتمل لتغيير حصص السكان يمكن رؤيته بوضوح إذا نظرنا إلى عدد مقاعد كل من الشيعة والموارنة في المجلس النيابي, فالمجلس الحالي المؤلف من 99 نائبًا والمنتخب في 1972 يضم 19 شيعيًا مقابل 30 مارونيًا, لكن إذا تم توزيع المقاعد بحسب حقائق التغيير الديموغرافي, فإن الشيعة سيربحون 10 مقاعد بينما يخسر الموارنة العدد نفسه, وإذا قسم التمثيل النيابي بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين –وهو إصلاح مطروح على بساط البحث منذ 1976- فإن الشيعة سينالون حصة الأسد من مقاعد المسلمين وذلك على حساب السنة, الطائفة المسيطرة سابقًا, والتي تشكل الآن حوالي 20% من عدد سكان لبنان, كما هو على حساب الدروز أيضًا الذين يمثلون أقل من 10% من عدد السكان إلا أن العدد والفقر لا يشكلان ضمانة للنجاح السياسي رغم أنهما يساعدان في توضيح صورة مطالب الشيعة إن لم يكن حزمها وإصرارها, وأكثر من ذلك, فلسوف أظهر أنه رغم أهمية زيادة التمثيل السياسي لدى الشيعة, فلقد كانوا منشغلين عنها بأهداف أقل أهمية بكثير, منها مثلاً: تحسين حالتهم الاقتصادية, وتفشي انعدام الأمن الذي كانوا يعانون منه خصوصًا في الجنوب, المحافظة اللبنانية المتاخمة لإسرائيل.(21/8)
اعتبر شيعة لبنان منذ زمن طويل أكثر الطوائف اللبنانية حرمانًا, فوفق أغلب -إن لم يكن كافة- المقاييس التي تحدد الحالة الاجتماعية – الاقتصادية يأتي الشيعة في أدنى درجات السلم بالمقارنة مع الطوائف الأخرى, فمثلاً يلاحظ جوزف شامي, استنادًا إلى إحصاءات 1972 أن معدل دخل العائلة الشيعية كان 4532 ليرة لبنانية كان الدولار في العام 1976 يعادل الثلاث ليرات لبنانية بينما يبلغ معدل دخل الفرد – 6247 ل. ل، وأنهم يملكون أكبر نسبة مئوية من العائلات التي يبلغ مدخولها أقل من 1500 ل. ل. وهم الطائفة الأقل تعلمًا (50% بدون تعليم مقابل 30% في البلد كله) (1) والطائفة التي تضم أقل عدد من العاملين في الحقول التالية: المهني / التقني, النشاط التجاري أو الصناعي / إدارة أعمال, الوظيفة المكتبية والأعمال الحرفية, وأكبر عدد من العمال والمزارعين والباعة المتجولين (2) ولقد وجد مايكل هدسون في دراسته التي أجراها عام 1968 أن نسبة التلاميذ إلى السكان في المنطقتين اللتين تعيش فيهما أغلبية شيعية ( البقاع والجنوب ) والبالغة حوالي 13% تقل بـ 5% عن المحافظات الثلاث الأخرى (3), ووجد رياض ب طيارة في تحليله للفروق التعليمية أنه في 1971 كان 6.6 % فقط من الشيعة قد نالوا تعليمًا ثانويًا وما فوق مقابل 15% و17% على الأقل للسنة والمسيحيين على التوالي (4), ووجد حسن شريف أنه بناء على إحصاءات الدولة الرسمية لعام 1972 فإن الجنوب الذي يبلغ عدد سكانه 20% تقريبًا من عدد السكان العام لا يحظى بـ 0.7% من ميزانية الدولة (5)
__________
(1) هي من حيث ترتيبها العددي التقديري: الشيعة, الموارنة, السنة, الأرثوذكس, الدروز, الكاثوليك, والأرمن الأرثوذكس.
(2) Chamie , Lebanese Civil War p.179.
(3) Hudeon , Precaurious Republic p79
(4) Tabbarah, Background to the Lebannes Contlict, p. 118
(5) Hassan Sharif, South Lebanon: Its History and Geopolitics. In South Lebanon, ed , Elaine Hagopian and Samih Farson PP. 10-11.(21/9)
ويظهر وصف شريف للتخلف في الجنوب الظروف التي كان على العديد من الشيعة أن يعيشوا في ظلها:
((يحظى الجنوب بأقل نسبة من الطرقات المعبدة سواء بالنسبة للفرد أم بالنسبة للكلم المربع. والمياه الجارية لا تزال مفقودة في كل القرى والبلدات رغم أنه تم في أوائل الستينات تمديد الأنابيب إلى العديد من المناطق وكذلك مدت شبكة الكهرباء في الوقت نفسه تقريبًا, إلا أنها ظلت لا تعمل في معظم الوقت, ولا توجد تجهيزات لتصريف المياه إلا في المدن والبلدات الكبيرة, ويغيب الهاتف كليًا خارج المراكز الكبيرة اللهم من كابينة يدوية واحدة هي في العادة معطلة. ويزور الأطباء القرى مرة في الأسبوع وأحيانًا مرة في الشهر كله.ولا توجد المستوصفات إلا في القرى الكبيرة, إلا أنها لا تعمل بانتظام, بينما لا توجد المستشفيات والصيدليات إلا في المراكز الكبيرة. أما التعليم الابتدائي فيجري عادة في بيت قديم غير صحي تقدمه القرية نفسها, أما المدارس التكميلية فقد أدخلت إلى البلدات الكبيرة في منتصف الستينات)) (1).
وبناء على بحثي الميداني في لبنان عامي 1980-1982 فإن وصف حسن شريف لا يزال محتفظًا بصحته بشكل عام, فالظروف التي يصفها لا تزال في غالبيتها على الأقل سيئة بالمقدار نفسه, بل لعلها قد ازدادت سوءًا في مجالات عدة عبر سنوات الحرب الأهلية والتفتت الاجتماعي.
تخطي الهامشية السياسية:
__________
(1) المرجع نفسه ص 11.(21/10)
إن فقر الطائفة الشيعية هو أمر لا يمكن إنكاره, إلا أنه لا يكفي بحد ذاته لتفسير كيف تمكن هذا الحشد الهائل من (( أكياس البطاطا)) (بحسب تشبيه ماركس القاسي) من تخطي تخلفهم السياسي, فبغض النظر عن نشاطات الزعماء الذين يمثلون قطاعات معينة من الجماعة فإن الشيعة كمجموعة عرفوا منذ زمن بعيد بالهدوء السياسي أو حتى بعدم علاقتهم بالسياسة في لبنان, ولعل أحد أهم الأسئلة المركزية لدارسي التغيير السياسي, إن لم يكن السؤال الأساسي, هو: ما هي العملية التي يتم عبرها تسيس الناس؟ إن عملية التغيير, وديناميته, وسرعته, وقوته هي جوهر التطور السياسي.
لماذا وكيف وجد الشيعة غير المشاركين سابقًا في النشاط السياسي أنفسهم سياسيًا؟ أنا أرى أنها نتاج عملية من شقين:
الشق الأول وهو سبب حدوث العملية وهذا يمكن وصفه بسهولة بأنه نتاج انسلاخ الشيعة اقتصاديًا واجتماعيًا عن بيئتهم الأصلية وكما سنرى لاحقًا فإن أخذ التغيرات السياسية والاجتماعية التي جرت في لبنان مؤخرًا بعين الاعتبار, يساعدنا في فهم قابلية الشيعة المتزايدة للعمل السياسي, إلا أنه لا يفسر لنا وجهة هذا العمل أو شكله, لكن أهمية الجماعة المنسلخة ليست إلا بالقوة فقط, ولا تتحقق بالفعل إلا عندما تعبأ لخوض العمل السياسي, وهكذا فإن المرحلة الثانية مرحلة كيف يمكن أن نطلق عليها مرحلة التعبئة السياسية للشيعة وسوف نعرضها في الفصل التالي بالتفصيل, إلا أننا سنشدد حاليًا على الخطوة الأولى من العملية التي مكنت الشيعة من كسر أطر العزلة السياسية والحرمان الاقتصادي.(21/11)
في أواخر الستينات كانت رياح التحديث تهب على الشيعة فتقتلعهم وتجعلهم أكثر من أي وقت مضى مؤهلين للتعبئة السياسية, ولقد كان لبنان حتى قبل الحرب المفتوحة في عام 1975يتعرض لتغييرات اقتصادية – اجتماعية عميقة وعريضة, ورغم أن هذه التغيرات لم تتحول إلى نزاع مسلح إلا أنها تسارعت وتفاقمت بفعل التفتت المجتمعي والاضطرابات الأهلية المرافقة له, وإذ يبدو, للوهلة الأولى, إن اعتبار الفوضى والحرب الداخلية ظواهر مصاحبة للتحديث السياسي ذي دلالة متضاربة, إلا أن حالة لبنان تظهر بالملموس إلى أي مدى يمكن لسنوات من هدر الدماء أن توسع من حجم الشرائح المتسيسة في بلدها.(21/12)
ورغم أن العملية كانت رهيبة جدًا, إلا أنه من الواضح أن العديد من اللبنانيين الذين كانوا يومًا ما وادعين قد خرجوا من الحرب الأهلية ومن الغزو الإسرائيلي مصرين على ضرورة تلبية مطالبهم وتحسين ظروفهم, وطبيعي أن هذه التطورات لم تنحصر بطائفة بعينها, بل أثرت في جميع طوائف البلاد (1) وزادت الأزمة الداخلية والغزو وسيادة الاضطراب والفوضى من حدة الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي الذي بدأ حتى قبل الحرب الأهلية في عام 1975 فالتقدم التعليمي التدريجي وازدياد السفر داخل لبنان وإلى الخارج, وازدياد الاطلاع على الصحافة ومشاهدة التليفزيون, وتدهور الزراعة وتوسع قطاع الخدمات, كلها عوامل غيرت كثيرًا من الحياة في القرى وحتى في أحزمة البؤس المدينية, فالناس الذين لم تكن لهم ذات مرة علاقة بالنظام السياسي, هم الآن مصممون أكثر فأكثر على فرض إرادتهم السياسية, ولقد فشل المراقبون غالبًا في ملاحظة هذه النتيجة الهامة للأزمة في لبنان وركزوا عوضًا عن ذلك على المناحي الظاهراتية (2) إلا أن هذه النظرة, رغم كونها مفهومة, تتجاهل التغييرات العميقة, بل وربما الدائمة, التي عصفت بالنظام السياسي اللبناني.
__________
(1) انظر: Lewis W.sinder , The Lebanese Forces: Their Origions and Role in Lebannon’s Politics , Middle Sast journal 38 Winter 1984 1-33; Snider , Political Instability and Social Change in Lebanon unpublished January1984.
(2) Augustus R. Norton., Lebanon’s Old Politics Must Yield to the New , New York , January , 1984(21/13)
أدت سنوات الأزمة والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة إلى جعل الزعماء عاجزين أكثر فأكثر, فالطائفة الشيعية التي رزحت طويلاً تحت سيطرة 6 عائلات ((مقاطعجية)) (إقطاعية) هي آل الأسعد آل الخليل, آل الزين, آل عسيران, آل حيدر وآل حمادة بدأت بالتحرر من سيطرتها في الستينات إن لم يكن قبل ذلك, وبحلول السبعينات دفع اندماج عاملي التغيير والنزاع المسلح إلى الواجهة بجيل جديد من القادة, أكثر تحسسًا بمطالب قاعدتهم الشعبية الجديدة, وقد أصبح لزامًا علينا الآن, أن نتفحص عن كثب عمليات التغيير والنزاع لما كان لها من تأثير هائل في لبنان.
التعبئة الاجتماعية:(21/14)
لا يملك أي نظام سياسي مناعة تحصنه من التغيير, لكن يبقى أن هناك دراسات سياسية, بل وحتى أعمال تخصصت في دراسة التطور السياسي تتجاهل أو تقلل من أهمية ديناميات التغيير (1), هناك مقالتان للعالم الأنتربولوجي المتميز أمريزل بيترز Emrys L. Peters توضحان بشكل رائع مخاطر النظر بشكل ضيق إلى التغيير السياسي, أجرى بيترز, في الخمسينات بحثًا ميدانيًا في قرية جنوبية, واكتشف أنه بإمكان الأفراد الانتقال من شريحة اجتماعية إلى أخرى إلا أنه فشل, كما اعترف في مقالته اللاحقة, في التوصل إلى أن الشريحة الاجتماعية نفسها يمكن أن يعاد ترتيبها باختلاف درجة تقبل فرص التعليم والهجرة والزراعة, فالعائلات المتعلمة التي بدا له في عام 1952 أنها تمثل النخبة في القرية, عاد واكتشف, في زيارة لاحقة له بعد ذلك بعشرة سنوات, أنها جردت من سلطتها السياسية ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى أنها فشلت في التكيف مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتغيرة (2) فمقالات بترز يمكن أن تعتبر عامل
__________
(1) التغيير السياسي مغيب كليًا في: Gabriel Almond and James S. Coleman. eds. The Politics of the Developing Areas Princeton: Princeton University Press وانظر أيضًا: Almond and G. Bingham Powell. Jr. Comparative Politics: A Developmental APPROACH BOSTON: Little , Brown, 1966 للأدبيات التي عالجت موضوع التغيير السياسي انظر: Samuel P. Humtington. Compatative Politics3 April 1971 ) 283-332
(2) Emrys I. Peters. Aspects of Rank and Status among Muslums in a Lebanese Village , in Mediterranean de. Julran Pitt. Rivers. PP. 159-200 and Peters , Shifts of Power IN a Lebanese Village in Rural Politics and Socral change in the Middle East , ed , Richard Antoun and Iliyan Harik. PP. 165-197 Karl W. Deutsch Review 55 September 1961): 493-524(21/15)
تذكير لنا بتلك الخاصية المقلقة للتغيير المتمثلة بإمكانية توليده, كما أنه يذكرنا أنه يمكن -حتى لأحد سادة العمل الميداني- أن ينحو إلى الفشل في استشفاف الآثار الكاملة للتغيير.
وفي الحقيقة فإن هناك عددًا ضئيلاً من المحاولات الجدية القيمة لشرح مصادر وأهمية التغيير في المجتمعات التي تخضع لعملية التحديث, وليس هذا بالأمر المفاجئ, فكما أن التغيير هو التحدي الأهم للقادة السياسيين سواء كانوا من رجال الدين الشيعة, أم من الرؤساء المورانة, فلقد برهن أيضًا على أنه أحجية فائقة الصعوبة حتى بالنسبة لعلماء السياسة.
يشكل عمل كارل دويتش محاولة نموذجية لدراسة أثر التغيير, إذ طور في مقالة هامة له في عام 1961 مفهوم التعبئة الاجتماعية, وهو كناية عن محاولة طموحه لشرح كيف تطلق التغيرات الاجتماعية – الاقتصادية القوى الاجتماعية وتوسع من رقعة الشرائح الاجتماعية الفاعلة سياسيًا (1) وتطرح بالتالي تحديات جديدة على القادة السياسيين والأنظمة السياسية, وكما سنرى فإن منشأة دويتش الفكرية ليست كاملة, حتى أنها لا تفسر كيف تتحول التغيرات الاقتصادية – الاجتماعية إلى تغيرات سياسية, إلا أن عمله يشكل خطوة مفهومية أولى باتجاه فهم أهمية التغيير في لبنان.
__________
(1) ومن المحاولات التفصيلية لتطبيق عمل دويتش في إطار متوسطي:
Farhad Kazemi. Poverty and Revolution in The Urban Poor Urban Marginality and Politics. PP. 68 FF.(21/16)
ثمة, في الواقع بعدان للتعبئة الاجتماعية, الأول: إنها مؤشر وملخص لعملية التغيير ((التي تحدث لجزء أساسي من السكان في البلدان التي تنتقل من أنماط الحياة التقليدية إلى الطرق الحديثة)) يحذر دويتش من أن التعبئة الاجتماعية ليست متطابقة مع عملية التحديث ككل (1) وفي الواقع فإن التعبئة الاجتماعية هي العملية التي يصبح السكان عبرها متاحين للتحديث, الذي يمكن أن نعتبره عملية التبني الفعلية لالتزامات سياسية وأنماط سلوك جديدة, والبعد الثاني هو أنها تشير بشكل غير دقيق إلى ازدياد المتطلبات وهي الظاهرة التي تميز المجتمعات الخاضعة للتحديث.
يصنف هذا المفهوم, بوصفه مؤشرًا للتغيير, عددًا كبيًرا من المتغيرات التي بتتابعها الزمني, تدل على مدى التغيرات التي تحدث في بلد ما, لذا يقترح دويتش أن نوجه اهتمامنا إلى وحدات التغيير التالية؛ التعرض إلى مناحي الحياة الحديثة ( الإعلام، السلع الاستهلاكية والتكنولوجيا وغيرها) تغير السكن وخصوصًا الهجرة من الريف إلى المدينة, تغير العمل كالتحول عن العمل الزراعي, انخفاض نسبة الأمية وتغير الدخل.
يصف دويتش نتائج التعبئة الاجتماعية كما يلي ((إذا حدثت التعبئة الاجتماعية في أي بلد فإنها تحضر معها توسعًا في الشرائح الاجتماعية ذات الفعالية السياسية بين السكان)) (2), ويضيف: وكذلك تجلب التعبئة الاجتماعية تغيرًا في نوعية السياسة عبر تغير نطاق حاجات السكان الذي يلقي بثقله على العملية السياسية, فالناس المقتلعين من عزلتهم المادية والثقافية عبر اقتلاعهم من مكان سكنهم, ومن عاداتهم القديمة وتقاليدهم وفي الغالب من أنماط عملهم أيضًا, يخضعون لتغيرات هائلة في حاجاتهم (3).
__________
(1) Deutsch, Social Mobilization. P493
(2) المرجع نفسه ص 497-498.
(3) المرجع نفسه ص 498.(21/17)
فليست التعبئة الاجتماعية مجرد عملية ينفصل فيها الناس عن ولاءاتهم القديمة بل هو أيضًا عملية قد تفقد فيها أنماط السلوك السياسي القائمة وظيفتها, فما أن يقتلع الناس من هوياتهم القديمة حتى يختبروا احتياجات جديدة ويطرحون تحديات جديدة على حكوماتهم, فإن لم تلب هذه المطالب كما هي الحال في لبنان, فإنهم يلوحون بشبح الاضطرابات السياسية, وكما لاحظ وليم فولتز ما يستدعي التقدير الكبير لمقالة دويتش أنه قام قبل زمن طويل من طرح هنتغتون لشبح ((التعفن السياسي)), وعرض كسفير ((Kasfir)) لضرورة ورغبة بعض حكومات العالم الثالث في الحد اصطناعيًا من المشاركة السياسية, بقياس مدى إمكانية أن تجد حكومات معينة نفسها في هذه المضائق الخطرة(1).
وقام مايكل هدسون مستلهمًا مفهوم دويتش بدراسة ظاهرة التعبئة السياسية في لبنان, وقد قدم كتابة الصادر عام 1968 براهين مقنعة, رغم إنها أحيانًا ظرفية, على أن البلد كانت تمر في أواخر الستينات بعملية تعبئة سياسية سريعة ومُتفاوتة وَضعت (الجمهورية الرجراجة) في مواجهة تحديات ومشاكل جد خطيرة(2).
ورغم نُدرة الأرقام المتوافرة وخصوصًا حول الطوائف فإن ما توفر من المعطيات يستمر في الإشارة إلى حدوث تغيرات اجتماعية – اقتصادية هامة في لبنان في العقود الأخيرة, وخصوصًا في مجال الوظيفة ونمط السكن, وهي تغيرات مركزية في مفهوم دويتش للتعبئة الاجتماعية, ويمكننا بالتالي من أن نستنتج من أنها أثرت بشكل متفاوت على الشيعة.
__________
(1) William J Foltz. Modernization and Nation- Building: The Social Mobilization Model Reconsidered, in From National Developemen to Global Community: Essays in Honor of Karl W. Deutsh. ed. Richard L. Merritt and Bruce M. Russett. PP. 25-45; quotation at p.26
(2) انظر: Hudson, Precarious Repubkic, esp, PP 53-86(21/18)
فمثلاً بين عام 1960-1980 انخفضت نسبة إجمالي قوة العمل الموظفة في الزراعة – العمل الأكثر انتشارًا بين الشيعة – من 38% إلى 11%, وتوجه غالبية الذين تركوا الزراعة للعمل في قطاع الخدمات المديني الذي زادت حصته من 39% إلى 62% خلال الفترة نفسها (1). إن أسباب هذا التغير معقدة, ولكنها تشمل بالإضافة إلى التهجير الناتج عن الحرب, جمود أسعار المحاصيل النقدية (التبغ والشمندر) وزيادة زراعة الحمضيات الرأسمالية المكثفة التي شهدت زيادة مرتفعة نسبيًا في حجم القوة العاملة (3 % سنويًا في الفترة بين 1970-1980) والظروف الأمنية الخطرة وغير المستقرة وخصوصًا في الجنوب والبقاع وهي المناطق الزراعية التي يسكن فيها أكثر بكثير من 50% من الشيعة بينما يتوزع الباقي على بيروت وضواحيها, وعدم دعم القطاع الاقتصادي الرئيسي سواء من قِبَل الدولة أم من القطاع الخاص, بلغ إجمالي دعم الدولة (2.3 %) من ميزانيتها لعام 1973 بينما بلغ حجم القروض المصرفية 2.3 % من إجمالي القروض التي منحتها المصارف عام 1974).
__________
(1) World Bank, World Development Report, p. 147
انظر أيضًا:
Michael Johnson Popular Movements and Primerordral Loyalties in Beirut in Sociology of Developing Societios The Middle East. Ed. Talal Asad and Roger Owen. PP. 178-194; in Particular, see p.178(21/19)
فمن غير المستغرب في هذه الحالة أن تكون النتيجة تزايد فقر ملاك الأراضي الصغار, الذين يملك الواحد منهم 3 هكتارات على الأكثر, ويمثلون ثلاثة أرباع عدد السكان في المناطق الزراعية ( يظهر أحد إحصاءات 1973 التقديرية أن مدخول العائلة التي تعمل في الزراعة بلغ 500 ليرة لبنانية سنويًا للشخص الواحد مقابل 1100 ليرة لبنانية في القطاع الصناعي و 8060 ليرة لبنانية في قطاع الخدمات) وفي أواخر الستينات – قبل زمن طويل من اندلاع القتال- كان 56 % من الذين يعملون في الزراعة في الجنوب قد اتخذوا لأنفسهم وظيفة أخرى (عمالاً في العادة) (1) والمذهل في الأمر أن أغلبية الذين سعوا وراء عمل إضافي هم من أصحاب الأراضي, فإذا أضفنا إلى ذلك ظواهر هامة أخرى وإن تكن أقل درامية, كمضاعفة استهلاك الفرد للطاقة بين عامي 1960-1970 فإن لبنان كان يمر بتغيرات من النوع الذي حددته منشأة التعبئة الاجتماعية.
__________
(1) Salim Naser, Backdrop to Civil War The Crisis of Libanese Capitalism MERIP Reports 73 Dececber 1978 3-13(21/20)
يشكل تدهور القطاع الزراعي دافعًا مهمًا للهجرة الداخلية التي تتجه عادة نحو بيروت وضواحيها والهجرة الخارجية (يهاجر الشيعة غالبًا إلى أفريقيا الغربية والخليج) وهو عامل لم يأخذه دويتش بعين الاعتبار, فإذا افترضنا أن عدد سكان لبنان بلغ في عام 1980, 3 ملاين فإن حوالي 6 % من الذكور في قوة العمل, اللبنانية كانوا عمالاً مهاجرين في البلاد العربية (1) بينما بلغت نسبة الذين يودون العودة إلى البلاد من العاملين في الخارج ما يزيد عن 25% من إجمالي قوة العمل. فحتى قبل أحداث 1975, كان حوالي 40% من سكان الجنوب وحوالي 25% من سكان البقاع قد هاجروا (2). أما النازحون للمدينة, -وهم غالبًا من الذين لا يملكون أرضًا ولا عملاً ولم يتلقوا تعليمًا جيدًا- فمن الطبيعي أن لا يجدوا في أحياء بيروت الفقيرة سوى البؤس والفساد, وفي الحقيقة فإن عددًا قليلاً منهم استطاع تجاوز وضعه الطارئ غير المستقر, وهو عامل ما لبث أن برهن عن أهميته في تعبئتهم سياسيًا, من الناحية الأخرى, كان الذين يهاجرون إلى الخارج نوعًا ما أفضل تعليمًا, وبينما لم يكن لدى سكان أحزمة البؤس أي خيار آخر سوى الحفاظ على تحالفاتهم السياسية الريفية, اتجه المهاجرون نحو إقامة تحالفات سياسية جديدة في مناطق تواجدهم الجديدة, ومما له دلالته أن كافة الجاليات اللبنانية في أفريقيا يقودها شيعة, فلقد وجد الشيعة أنفسهم في مجتمعات فرضت عليهم حواجز اللون والقومية فيها العودة في النهاية إلى لبنان, بعكس موجات المهاجرين اللبنانيين السابقة التي كانت تستقر نهائيًا في الأمريكتين وفي أوربا, وهكذا لم ينقطع المغتربون الشيعة عن لبنان بل على العكس فقد حافظوا على علاقة وثيقة بوطنهم كان من نتائجها أن أصبح المهاجرون مصدرًا هامًا لتمويل
__________
(1) Alan B. Mountjoy. Migrant Wokers in the Arab Middle East. Third World Quarterly 4 July 1982 530-531
(2) Naser, Backdrop to Civil War. P.10(21/21)
الحركات السياسية التي اعترفت بوضعهم الاجتماعي – الاقتصادي المكتسب حديثًا, بل وحافظت عليه.
من التعبئة الاجتماعية إلى التسيس:
بحث دويتش في نتائج التعبئة الاجتماعية أعني توسع الشرائع الفعالة سياسيًا بين السكان (1) وبتعبير آخر التسيس بوصفه أحد نتائج التعبئة الاجتماعية الرئيسية (2), لكن رغم كونه يشير إلى أنه لدى ازدياد عدد السكان المعبئين اجتماعيًا فإن مطالبهم ستترجم في النهاية إلى ازدياد في المشاركة السياسية, فإنه لا يوضح في أي مكان من عمله الهام كيف تتم هذه الترجمة.
وذلك كما يلاحظ هيرولد غرين في نقد جدير بالتنويه: ((ولسوء الحظ فإنه لا يقول لنا سوى القليل جدًا عن أوليات ازدياد التسيس والمشاركة, إذ يكتفي دويتش بالقول بنشوئها, ثم يحيلنا إلى نظرية الديمقراطية لفهم ديناميات هذا النشوء)) (3).
ولقد قام جورج دومنغز باختيار العلاقة السببية بين التعبئة الاجتماعية والمشاركة السياسية, فوجد أثر دراسته للمعطيات في التشيلي والمكسيك وفنزويلا وكوبا في أوائل القرن التاسع عشر أن التعبئة الاجتماعية ليست دليلاً يمكن الركون إليه على المشاركة السياسية بل تعتمد المشاركة السياسية على القادة والمنظمات الذين يعملون وسط جمهور غير محنك نسبيًا وغير مديني (4).
__________
(1) Deutsch, Social Mobilization, PP. 497-498
(2) Jerrold D. Green, Revolution in Iran: The Politics of Countercobilization. P.2
(3) المرجع نفسه ص 3.
(4) Jorge Dominguez. Political Participation and the Social Mabilization Hypethesis: Chele. Mexico, and Cupa, 1800-1825 Journal of Inteerdisciplanary History5 (Autumn 1974) 237-266 quotation at p 266(21/22)
أما ديفيد كاميرون فقد رفض في نقده اللاذع لدويتش فرضية الحتمية الاجتماعية (أي أن التعبئة السياسية هي النتيجة, أو الناتج النهائي لبعض أنواع الانقسام الاجتماعي والتغيير الاجتماعي) (1)ورغم أنه قد التبس عليه الأمر على ما يبدو فيما إذا كانت طروحات دويتش تتعلق بالتعبئة الاجتماعية أم السياسية, إلا أن عدم وضوح المصطلحات السياسية لديه لا يضعف النقطة المركزية التي يتبناها, والقائلة بأن أهداف ومصادر وبيئة, والأهم من ذلك كله وجود عامل التعبئة بحد ذاته هو الذي يحدد ما إذا كان المهيئين للتسيس, سوف يحرضون على الانخراط في العمل السياسي, ترى النظرة التقليدية إلى التحريض على أنه عملية سلبية وحتمية, لا يحظى التنظيم أو أنماط السلوك التي يتم التحريض عبرها بأي اهتمام, رغم استحالة حدوثه في غياب منظمة تسعى إلى استقطاب عناصر جديدة كما أنه من المرجح أن مدى التحريض قد يتأثر بالمنظمة نفسها, فسياساتها الانتسابية وحوافز الترقية التي تتبناها وقدرتها على خلق صورة إيجابية مرضية عن نفسها, وتبني أدبياتها حلولاً للمشاكل الراهنة وتكييف تنظيمها ليتلاءم مع البيئة التحتية الاجتماعية القائمة كلها عوامل قد تؤدي إلى نجاح أو فشل أي حركة سياسية جديدة في استقطاب أعضاء جدد (2).
وباختصار فإن اتجاه دويتش للتعامل مع السياسة بوصفها متغيرًا تابعًا يقلل من أهمية, بل وحتى يتجاهل, الطرق المتنوعة التي يمكن عبرها إدخال المتسيسين الجدد إلى النظام السياسي أو منعهم عنه.
__________
(1) David R. Cameron , Toward a Theory of Political Mobilization, Journal of Politics 36 February 1974: 138-171; quotation at P. 139.(21/23)
أضف إلى ذلك, فإن دويتش يتجاهل العامل الدولي, الذي كما توضح حالة لبنان, قد يؤثر في آن معًا على الاستقرار ومعدلات التغيير في مجتمع ما (1) ويؤثر بالتالي على قالبية السكان للتعبئة السياسية, وهكذا فإن القوة التوضيحية لعمل دويتش على التعبئة الاجتماعية تقع في معالجته للعملية التي لا تكسب معنى إلا في إطار السياسة (2) وقد لخص ليونارد بايندر هذه الحقيقة بقوله: إن التعبئة الاجتماعية كما قدمها دويتش تنتهي حيث تبدأ التعبئة السياسية (3).
ثبات الهوية الطائفية:
عملت التعبئة الاجتماعية في لبنان على جعل عدد متزايد من الشيعة متاحين للعمل السياسي (أي للتعبئة السياسية) ولقد سبق لي أن شددت على أن شكل عملهم السياسي سوف يعتمد على الظروف التي استقطبوا خلالها والتي تحددت بالسمات العامة للنظام السياسي اللبناني إلى جانب ثلاث تطورات حدثت خارج لبنان سنتعرض لها في الفصل التالي, وهي الثورة الإيرانية, إخفاء رجل دين شيعي جماهيري، وتحول ملحوظ في ممارسات إسرائيل الانتقامية.
__________
(1) Gabriel A. Almond, Approaches to Developemental Cousatoin, in Gabriel A. Almond, scott C. Flanagan, and Robert J. Mundt, PP. 1-41; انظر أيضًا: Augustus R. Norton, External Enterventoin and the Politics of Lebanon.
(2) لأولوية السياسي انظر: Seymour Martin Lipset , ed , Politics and the Social Sciencesوخصوصًا مقدمة Lipset. PP. Vll- XXll; and Giovanni Satori, From the Sociology of Politics to Political Sociology. PP. 65- 100.`
(3) Leonard Binder, In a moment of Enthusiasm: Political Power and the Second Stratum Egypt. P.27. وكما يلاحظ ما يندر: رغم أهمية التمييز بين أنماط التعبئة السياسية إلا أنه غالبًا ما يفتقد في الدراسات الأكاديمية.(21/24)
من الواضح أن الشيعة لم ينساقوا جميعًا للانتساب إلى تنظيمات سياسية, تحت تأثير المد الطائفي, إلا أنه مع مرور الوقت كان عدد كبير منهم قد فعل ذلك بالضبط, أما كون الشيعة يتعاطون بوصفهم شيعة – لبنانيين لا مجرد لبنانيين فليس أمرًا غير متوقع على الأقل في أدبيات علم الاجتماع التي تعرف جيدًا ظاهرة ثبات واستمرار المشاعر البدائية (1).
في ظل توفر ظروف معينة, تتمثل نتيجة التحديث النهائية في ظهور قومية مشتركة, هذه هي الفكرة الرئيسية التي عبر عنها دويتش في كتاب القومية والاتصال الاجتماعي (2) إلا أن دويتش اعترف -ولو متأخرًا كما يرى بعضهم- (3) أنه في بعض الأوضاع السياسية, كما هو الحال في لبنان, لا تؤدي التعبئة الاجتماعية للسكان إلى التمثل بل إلى التفاضل, إن نفس العملية قد تتجه إما إلى تقوية أو إلى تدمير وحدة الدول التي يكون سكانها منقسمين أصلاً إلى عدة مجموعات ينتمون إلى ثقافات وأنماط حياة متباينة ويتحدثون بلغات مختلفة (4)
__________
(1) انظر مثلاً: Clifford Greetz , Old Societies and New States: The Quest for Modernity in Asia and Africa.
(2) Karl W. Deutsch. Nationalism and Social Communication; An Inguiry into the Foundations of Natoinality.
(3) لدراسة نقدية لموقف دويتش من المتماثل انظر: Walker Connor's Nation Building ot Natoin-Destroying? World Politics 24 April 1972: 319-355 Esp 321 –328>
(4) Deutsch, Social Mabilization. 501- See Also Deutsch's Politics and Government: How People Decide their Fate , 2d ; P544.
حيث يلاحظ أن التعبئة الاجتماعية تجعل الناس أكثر إتاحة للتغيير, وهي تقوم بذلك عبر حضهم أو تعليمهم على تغيير مسكنهم ونوع عملهم واتصالاتهم ومعارفهم ومظهرهم الخارجي وخيالهم, وتخلق حاجات ومطالب وطموحات وقدرات جديدة إلا أن كافة أنماط التصرف هذه قد تفرق السكان أو توحدهم وقد تخلق التعاون أو الاستتباع.(21/25)
.
والتفسير الأوضح لتضامن الشيعة النسبي يكمن في أنه من شبه المستحيل كما هو شائع, أن يتخلص المرء من هويته الطائفية في لبنان, فسواء نظرنا إلى النجاح الضئيل للأحزاب السياسية العلمانية, أم إلى استمرارية الميليشيات الطائفية فإنه من الصعب أن لا نصطدم بما يثبت استمرارية وثبات الهوية الطائفية ولقد أثبت الزعماء اللبنانيون الناجحون, فضلاً عن المنظمات التي تحدت سلطتهم, صحة مقولة فؤاد خوري: ((إن الترتيبات السياسية تبقى قائمة طالما ظلت تعكس الحقائق الاجتماعية)) (1).
فمن الصعب أن نجد حتى بين مثقفي بيروت المحنكين, من لا يميز بين معارفه طائفيًا, هذا لا يعني بالضرورة أن الحمى الدينية منتشرة بشكل واسع, إلا أن الهوية الدينية هي التي تحدد للمرء المنظمة الاجتماعية الأولية التي يحافظ بواسطتها على أمنه السياسي (2) أما التفاضل بحسب الطوائف فيقوى أيضًا بالقواعد السلوكية والحقول الثقافية المميزة: الدين, اللباس, قانون الأحوال الشخصية, المأكل, بل وحتى شكل الحلاقة المفضل.
وكل هذا لا ينفي ظهور بنية طبقية أولية في لبنان, إلا أنه عندما يوجد الوعي الطبقي فإنه يكون عادة محجوبًا ومعميًا بالهويات البدائية, وفي الحقيقة, وكما يزعم إيليا حريق عن حق أنه في حالة لبنان والعراق فإن ظروف الشيعة الاقتصادية الاجتماعية الموضوعية تتطابق مع مشاعرهم الأولية إلى درجة لا يعود معها من الممكن فصل الواحد عن الآخر (3) وبينما يوفر وضع الشيعة الاقتصادي قاعدة تحديد انتسابهم إلى مجموعة واحدة, فإنه لم يؤد إلى ممارسة على قاعدة طبقية تتخطى إطار الطوائف.
__________
(1) Fuad I.Khuri, From Village to Suburb: Order and Change in Greater Beiut P.211.
(2) انظر: Hudson, Precarious Republic, P. 22
(3) Iliya Harik, The Political Elite as a Strategic Minerity, in Leadership and Development in Arab Seciety, ed Fuad I. Khuri, PP. 62-91: see P.71.(21/26)
ولقد وجد خوري في دراسته الهامة لاثنتين من ضواحي بيروت –الشياح والغبيري– أن الهوية الطبقية قد تحدد أحيانًا بعض المناحي الثقافية الصغيرة مثل وقت تناول الطعام وأنماط التسلية, وكيفية استخدام المساحة المخصصة للجلوس في المنازل (غرفة الجلوس والمطبخ) إلا أن الطبقة ذاتها لم تكن إلا الأداة الأقل أهمية للتنظيم السياسي والاجتماعي (1) وكما لاحظ خوري فإن الطبقة الاجتماعية في الغرب هي العامل المحدد للاختلاف التنظيمي, أما في الشرق الأوسط فهي العامل المحدد للاختلافات السلوكية (2) وهكذا فإن ملاحظات هنتنغتون ونلسون تصبان في النقطة نفسها: عندما تنظم السياسة على أسس فئوية فإن القضايا والولاءات مرشحة لتجاوز الاختلافات الطبقية ولتخطي الحدود بين المدينة والريف, فلا تعود تصنيفات مثل الفلاحين المهاجرين, العمال تشكل قاعدة لعمل سياسي جماعي, على الرغم من أنه قد يبقى ثمة مجال بارز لفرص التحرك والتنظيم الجماعي (3).
تعزز الوعي الشيعي الجماعي, حتى أكثر من ذي قبل, بترسخ الاعتقاد بشكل واسع الذي ليس بمبرر بأنهم قد عانوا وطأة استمرار الأزمة في لبنان أكثر من أي مجموعة أخرى في البلاد دون أن يهتم أحد بمعاناتهم, فقد هجر الشيعة بالقوة من بيوتهم في الجنوب والمناطق الواقعة على الجانب المسيحي من الخط الأخضر في بيروت, وكانوا جنود القوات اليسارية خلال الحرب الأهلية ووقود حربها, إذن نحن نتعامل مع حالة من الواضح أن للمشاعر الأولية والظروف الاقتصادية – الاجتماعية الموضوعية.. مفعولاً مقويًا (4).
__________
(1) Khuri. From Village to Suburb. P.217
(2) المرجع نفسه ص 101.
(3) Samuel P. Hutington and Joan M. Nelson. No eaey Choice: Political Partrcrpation in Developing Countries, P. 113
(4) Harik , The Political Elite as s STRATEGRC Minority. P. 71.(21/27)
أما بالنسبة لمئات الألوف الشيعة الذين استقروا سواء بشكل دائم أو مؤقت, في بيروت وضواحيها, فإنه أصبح معروفًا بشكل جيد الآن إن السكن في المدينة لا يمحو بالضرورة الهويات الطائفية بل غالبًا ما يكون له تأثير عكسي (1), فكما يلاحظ هدسون ((يبدو أن بوتقة بيروت لم تقولب حتى أقل المواطنين اللبنانيين التزامًا... يبدو أن التمدين يحصن ضيق الأفق اللبناني بدلاً من أن يضعفه)) (2).
وليس من الصعب أن نفهم كيف تحصنت الهوية الطائفية, فقد كان معظم المهاجرين من المحاصصين ومستأجري الأراضي الزراعية والعمال الزراعيين الذين هجروا من أرضهم في الجنوب والبقاع بفعل الحرب وتقهقر المداخيل الزراعية, وتدهور الزراعة التي تعتمد على العمالة الكثيفة, وقد ضاعف هؤلاء, نظرًا لتدني مستوى تعليمهم وعدم امتلاكهم سواء لمصدر دخل أو لمهارات تساعد على توظيفهم, من عدد أشباه البروليتاريا في أكواخ بيروت وضواحيها (3) بل وأكثر من ذلك فإنه بخلاف رجال الأعمال السنة الرقيقين المهذبين كان الشيعة يوصفون من قبل مواطنيهم البيروتيين بتعابير تحاكي عنصرية جيم كروبيجوت, فلقد استمعت إلى نساء مارونيات متعلمات وهن يشرن إلى هؤلاء الناس بنبرة ازدراء جلية يحتفظ فيها المرء للوحوش لا للبشر.
__________
(1) حول الحفاظ على الهوية الطائفية في بيروت انظر: Fuad. Khuri. The Social Dynamics of the 175-1977 War in Lebanon Armed Forces and Soriety 7 Spring 1981: 383-408: and Khuri. A Comparative Study of Migration Patterns in two Lobanese Villages , Human Organization 26. no. 4 1967: 206-213 انظر أيضًا: Smock and Smock. Politics of Politics of Pluralism. p. 93
(2) Hudson. Precarious Republic. P. 61
(3) Johnson. Popular Movements. P. 181(21/28)
وإذ تصف سعاد جوزيف في دراستها عن برج حمود, إحدى ضواحي بيروت موقف الأرمن من الشيعة, تقول: (( يصور المسلم على أنه وسخ وغير جدير بالثقة, مهووس جنسيًا, وجشع, إن هذه هي صورة الشيعي في برج محمود, الذي يصور كخطر دائم على النساء الأرمنيات (1)وبالطبع فإن هذه الصور الجامدة المبسطة والمشوهة لا يتفرد بحملها الموارنة والأرمن وحدهم, ولكنها تتطابق مع التمييز الاجتماعي بين المقيم والطارئ, فإنها تشير إلى وجود انقسامات حادة عمقتها السنوات اللاحقة.
وكما يرى مايكل جونسون في دراسة مقنعة له, فإن المهاجرين الشيعة إلى بيروت (كحلفائهم الموضوعيين اللاجئين الفلسطينيين) يبقون إلى حد كبير خارج شبكة السيد التابع المدينية, التي يسيطر عليها الزعماء المسلمون السنة والقبضايات (2) فاستمر المهاجرون لحرمانهم من هذا النظام في الحفاظ على علاقات وثيقة بقراهم ومع الزعماء في الريف (3) وهكذا فحتى ابتعاد الشيعة عن القرية لم ينه دورها كمحور علاقاتهم السياسية, رغم الانخفاض التدريجي لأهمية هذه العلاقات.
__________
(1) Suad Josph. Politicization of Religious Seets in Borj Hammoud, P. 210
(2) لدراسة قيمة وفريدة حول زعماء السنة والقبضايات في بيروت انظر: Michael Johnson. Political Bosses and Their Gangs: Zu'ama and Qabadayat in the Sunni Muslim Quarters of Beirut, in Patrons and Clients, ed. Ernest Gollner and John Waterbury. PP. 207-224وفي المجلد نفسه راجع سمير خلف Changing Forms of Political Patronage. PP. 185-206
(3) Jonson, Popular Movements. P.191(21/29)
إذا انخفضت فعالية الزعماء في الاستجابة لحاجات أتباعهم, ولم يعد بإمكانهم ضبط الوضع الأمني المتدهور الذي سيطر على القرى (وبخاصة في الجنوب), ولا توجد دلائل تشير إلى أنهم قاموا بمحاولات جدية (أو حتى شبه جدية) لتحسين الأوضاع التي يرزح تحتها, سكان المدن الفقراء, ويمكن القول اعتمادًا على ما سبق أنه لم يكن يوجد ما يدفع الزعيم إلى تحسين أوضاع مؤيديه في أحياء العاصمة الفقيرة, فلن يؤدي ذلك إلا إلى إضعاف الروابط بين المهاجرين وقراهم, وبالتالي بين المهاجرين والزعيم, وجد الشيعة الميدينيون أنفسهم كرفاقهم في المعاناة من اللاجئين الفلسطينيين هائمين على غير هدى في خضم البحر السياسي الهائج.
وحتى لو سعى سكان المدينة الجدد, في أوائل السبعينات لقطع العلاقات مع القرية كي يتمكنوا من المشاركة سياسيًا في محيطهم المديني الجديد, فإن قوانين الانتخابات اللبنانية جعلت الأمر صعبًا عليهم بل ومستحيلاً, فالعمليات القانونية الطويلة المتعلقة بمحاولات تغيير مركز الاقتراع من دائرة إلى أخرى أغلقت الباب أمام أكثر اللبنانيين, ففي برج حمود حيث بلغ عدد السكان الشيعة في أوائل السبعينات الثمانين ألفًا لم ينتخب في الواقع إلا حوالي 400 أو 500 منهم في مكان إقامتهم (1) لاحظ خوري أنه رغم بقاء 17 % فقط من السكان في الريف بعد الهجرات المتتالية في الخمسينات والستينات والسبعينات إلا أن قانون الانتخابات تجاهل هذه التغيرات الديموغرافية المهمة.
__________
(1) Joseph, Politicization of Religious Sects. P. 109(21/30)
((يجب على المواطن بغض النظر عن مكان إقامته أن يعود إلى قريته ليمارس حقه في التصويت, إن نقل حق الاقتراع من منطقة إلى أخرى إجراء صعب يحتاج إلى أمر من محكمة لتنفيذه. فلو عدل قانون الانتخابات بحيث يمنح 17 % من المقاعد النيابية للمناطق الريفية و 83% للمناطق المدينية, لانقلبت البنية السياسية للبنان رأسًا على عقب, ولكن هذا القانون الانتخابي ساعد في إلزام المقترع بقريته.......)) (1).
وكما تدفع الفراخ للمبيت في خمها, كان سكان المدينة ينقلون إلى قراهم حتى ينتخبوا ممثل الإقطاع السياسي في منطقتهم مقابل خدمات ينتظرون أن يتلقوها وأحيانًا لقاء مبالغ نقدية, يقدم توما الخوري صورة أدبية رائعة للباصات الانتخابية التي كانت تعيد الناخبين إلى قراهم ((جاء موسم الانتخابات, فعجت القرى بالحركة حتى غدت كزبد البيض المخفوق, وتحولت أزقتها إلى ما يشبه خلايا النحل وأخذت الباصات تروح وتجيء ناقلة الناخبين من المدن والقرى ومن كل مزرعة ودسكرة وبيت)) (2).
وهكذا فإن القرى كانت تلحق بالقرويين إلى المدينة سواء على الصعيد الاجتماعي أم السياسي, ولم تنقطع صلات المدينة الوثيقة بالقرية (3)وهي حالة يعبر عنها خير تعبير ذلك التساؤل العامي: (أصلك من وين؟)
__________
(1) Khuri , Social Dynamics of the War, P.392
(2) Touma al Khouri. The Election Bus, in Modern Arabic Short Stories, trans. Denys Johnson- Davies, PP. 173- 181: quotation at P.173
(3) لمعالجة روائية مفيدة وخلافية لمحاولة امرأة شيعية الهرب من طائفتها وقريتها انظر: Tawfik Yusuf Aurvad. Death in Beirut trans. Leslie: MeLoughin(21/31)
من نتائج العلاقات الوثيقة بين القرية والمدينة أن قرى الجنوب كانت تتمتع على الأقل بنفس مستوى أهمية أحزمة البؤس التي تحيط بالمدينة كأرض خصبة للتعبئة السياسية الشيعية, قد يكون ذلك مفاجئًا إلى حد ما حتى لو أخذنا الوضع الأمني الخاص في الجنوب بعين الاعتبار, خصوصًا وإن بعض الكتابات الرئيسة حول التحديث تزعم وجود علاقة مهمة بين التمدين وظواهر ازدياد النشاط السياسي أي المشاركة (1)ولكي نعالج هذا الخلل بين الوضعي والنظري لا بد لنا من مراجعة بعض الحجج التمثيلية كمعنى التمدين وعلاقته بالنمو السياسي.
التمدين:
يتعاطى دانيال لارنر مع التمدين بوصفه المرحلة الأولى من التحديث ويزعم أن انتقال السكان من المناطق الداخلية المبعثرة إلى المراكز المدينية هو الذي يستثير الحاجات ويوفر شروط الإقلاع باتجاه المشاركة الواسعة (2) ويرى لارنر أن المجتمع الحديث يتميز بأنه مجتمع صناعي, مديني متعلم ومشارك (3).
__________
(1) ثمة استثناء هام يتمثل في كتاب ريتشارد أنطون وإيليا حريق Rural Politics and Social Changein the Middle East. eds يقول الكاتبان في المقدمة, فيما يتعلق بالمشاركة في التنظيم السياسي والانتخابات, وتكوين الرأي في المسائل الوطنية ومحاولة حل مشاكل المجتمع المحلي, فالقرويون قد يكونون أكثر تسيسًا من المدنيين ص 11.
(2) Daniel Lerner. The Passing of Traditional Society: Modernizing the Middle East. P. 61
(3) المرجع نفسه ص 50.(21/32)
ويساوي كارل دويتش إلى حد كبير بين عملية التغيير نفسها, التي تحول المجتمع عن أنماط الحياة التقليدية وتدفعه إلى تبني الأنماط الحديثة, وبين التمدين, لذا, وكما أشرنا من قبل, فهو يقترح لقياس التعبئة الاجتماعية رصد متغيرات مثل تغير السكن التحول عن العمل الزراعي وبخاصة التمدين, فلدى اختبار المجتمع لمزيد من التعبئة الاجتماعية (أي التمدين) يقال لنا أنه يجب أن نتوقع ازدياد الشرائح الاجتماعية التي تتعاطى السياسة بين السكان (1) مما يقود بدوره إلى ازدياد المشاركة السياسية (2) ويصيغ هنتنغتون النقطة نفسها بشكل مباشر إذ يقول: ((التمدين وزيادة نسبة الأميين والتعليم, ومتابعة وسائل الإعلام كلها عوامل تزيد من الطموح والتطلعات, التي إن لم يستجب لها, تدفع بالأفراد والمجموعات إلى السياسة (3).
__________
(1) Deutsch. Social Mobilization. PP. 497- 496.
(2) المرجع نفسه ص 499.
(3) Samuel P. Hunttington. Political Ordrin Changing Societies. P.47(21/33)
وبالطبع, فإننا لا نهدف هنا إلى تسفيه عمل أكادميين آخرين, بل إلى صياغة نقطة نظرية هامة, إضافة إلى أهميتها في فهم الحالة اللبنانية: فالمعنى الخاص للإقامة في المدينة بما هو انخراط في العمل السياسي قد فقد في لبنان, ولا يعود ذلك بالضرورة إلى خطأ نظري بل لأن التمييز بين مديني ريفي في لبنان فقد الكثير من معناه (1), فهو بلد لا تتجاوز مساحته 4015 ميلاً مربعًا (10452 كلم مربع) وهو بلد يمكن الانتقال فيه برًا من أقصى قرية إلى المراكز المدينية الرئيسية في 3 ساعات كحد أقصى (وأقل من ذلك بكثير غالبًا) وهو بلد الهجرة إلى الخارج والعودة إحدى تقاليده, كما أنه بلد فرضت نوبات العنف الوحشي موجات متتالية من الهجرة الداخلية, وهو بلد غالبية سكانه العظمى غير ريفية في مظهرها الخارجي, ويبدو أن ما تقترحه الحالة اللبنانية هو أن إيليا حريق محق تمامًا إذ يعتبر أن مفهومي جماعات مدينية وريفية أقل نفعًا في تحليل النمو السياسي من عمل دويتش على السياسة الريفية والتغيير الاجتماعي (2) وكما لاحظ أنطون وحريق في عمل مهم عن السياسة الريفية والتغير الاجتماعي لقد رأينا أن خصائص التحديث كمعرفة القراءة والكتابة ومتابعة وسائل الإعلام, والمشاركة السياسية وعقلنة الإنتاج والإدارة وارتفاع مستوى المعيشة, يمكن أن تحدث على صعيد القرية كما تحدث في المجتمعات المدينية (3).
__________
(1) رغم فقدان التمييز بين الريفي والمديني للكثير من معناه, إلا أنه لا يزال ذا أهمية بالغة لدى الفرد اللبناني فالقرية بالنسبة له تمثل مكان الراحة, والملاذ, والتقاعد.
(2) Ilya Harik, The Political Mobiliation of Peasans: A Study of an Eyuption Commtnity. P.212.
(3) Antoun and Harik, Rural Politics and Social Change. P. 7(21/34)
والحالة اللبنانية ليست حالة فريدة, ففي تحليل للمشاركة الريفية في الثورة الإيرانية, وجد إيريك هوغلاند أن الشباب الذين انتقلوا للعمل في المدينة, هم مدينيون فعلاً في العديد من نشاطاتهم ومواقفهم, من المفيد أن نذكر أن هوغلاند يتحدث عن قرى تقع في محيط دائرة يتراوح شعاعها بين 45 و 50 كلم عن المدن الكبيرة, بينما لا توجد أي قرية في لبنان على بعد أكثر من 60 كلم عن (بيروت- صيدا- زحلة –طرابلس- صور) وبالتالي فإنه يمكن أن نطبق بسهولة هذا الوصف, فيما عدا بعض التفاصيل عل حالة لبنان:
والكل تقريبًا لديهم أقارب يعيشون في المدينة, وأُلفتهم بالحياة المدينية تضاهي معرفة أي مديني, وهم يظهرون اهتمامًا كبيرًا بالأحداث القومية, التي غالبًا ما تكون موضوع الحديث في اللقاءات الاجتماعية, وهم يعتبرون أنهم أكثر اطلاعًا من آبائهم, ولا يترددون في إبداء آرائهم أمام المسنين في القرية, ويعتبرون سماع الأخبار على الراديو وسيلة لملء أوقات الفراغ, وبينما كان العديد منهم يقرأ الصحف بانتظام خلال الثورة, فقد واظبوا على قراءتها بعد الثورة وإن بشكل غير منتظم, وكان هؤلاء الشباب على اطلاع دائم على كافة التطورات السياسية طوال عام 1978، الذي ما إن انقضى حتى كان تسيسهم كتسيس أي مجموعة أخرى (1).
__________
(1) Eric Hooglund, Rual Participation in the Revolution , MERIP Reports 87 may 1980: 3-6 ; quotation at p.5(21/35)
إن القول بصعوبة توخي الدقة, بناء على المعطيات المتوفرة عن لبنان, هو قول لا يزال أقل من الواقع بكثير. إلا أن المعطيات المتوفرة على ندرتها لا تتناقض على أي حال, مع الانطباعات التي توصلت إليها في عملي الميداني, إلا في كونها تقلل من أهمية مستوى تسيس الشيعة الريفيين خاصة واللبنانيين عامة, ففيما يتعلق بمدى التمدين مثلاً, فإن إحصاءات البنك الدولي تظهر بأن (76 % من السكان مدينيون) (1), إلا أني أرى بأن هذا العدد يقلل من نسبة تمثيل بعض سمات التمدين ويضخم سمات أخرى, فإذا كنا نعني بالتمدين التعرض لبعض مظاهر الحداثة كالتكنولوجيا, ووسائل الإعلام, والسلع الاستهلاكية, والتبادل النقدي والتعليم, فإن لبنان يكاد يكون مدينيًا بشكل تام, وذلك بالرغم من تعلق اللبنانيين بالصورة الخرافية الطهرانية لقراهم التي لم تتلوث بفساد المدينة. وفي الحقيقة فإن هذه القرى ليست سوى جزء من تاريخ لبنان الاجتماعي (2), فالقرى الرعوية المعزولة, لا يصح مجرد القول بأنها مغير منتشرة في لبنان, بل هي نادرة أساسًا, فكما لاحظ حريق (( أن لبنان كله من نواحي عدة, هو ضاحية كبيرة واحدة لبيروت )) (3) فللأسباب التي توسع خوري في عرضها, أصبح نموذج القرية المعزولة, الآمنة في تقاليدها وعاداتها والتي لم تؤثر فيها ديناميات التحديث, أطلالاً تدرسها الأثتوغرافيا, بشكل عام لا تملك أي جماعة (قرية, ضاحية, مدينة) في لبنان حدودًا طبيعية توازي حدودها الاجتماعية الثقافية, ورغم كونها مسألة درجات متفاوتة فالظاهرة
__________
(1) يزعم خوري في كتابه المذكور في الهامش 55 أن 83% من سكان لبنان مدينيون.
(2) يركز عمل فؤاد عجمي الجديد وهو قيد الإنجاز على حقائق الحياة في القرية في لبنان المعاصر.
(3) Ilya Harik, Voting Behavior; Levanon, in Electoral Politics in the Middle East: Ieeues , Voters and Elites, ed, Jacob Landau, Ergum Ozbudun, and Frank Tachau, p. 156(21/36)
البارزة هي ظاهرة تخطي المجموعات الاجتماعية للحدود الجغرافية, وهي خاصية أقرب للتقاليد المدنية منها للتقاليد الريفية (1) ولقد اكتسب عمل خوري المنشور في 1975 أهمية أكبر على ضوء التغيرات التي حدثت منذ نشره.
لكن حتى الفلاحين البُسطاء والفلاحين الذين عرفتهم يمكن نعتهم بأي صفة باستثناء البساطة, يظهرون مدى زيف صورة الفلاحين الساذجين المعزولين عن العالم الخارجي, فالقريون, رغم موقفهم المحافظ في عدد من القضايا الاجتماعية, يبدون تفهمًا متطورًا بشكل معقول لما يقدمه العالم خارج القرية في سلبياته وإيجابياته, ولا شك في أن هذه الحجة قد تصح على قرى في بلدان أخرى, إلا أنه في لبنان بالتحديد عملت عدة عوامل فريدة على تقصير المسافة الاجتماعية السياسية التي تفصل قطاع الريف عن القطاع المديني.
كالهجرة الدائرية التي يهاجر فيها الأبناء إلى الخارج كي يبحثوا عن رزقهم, إلا أنهم يعودون لزيارة قريتهم بشكل منتظم, وغالبًا ما يعودون للاستقرار النهائي فيها, يشير أحد التقريرات إلى أنه في عام 1983 كان 35 % من قوة العمل اللبنانية خارج لبنان, وإن 50 % من إجمالي قوة العمل اللبنانية كان في الخارج مرة أو أكثر خلال العقد الماضي (2) ففي إحدى القرى الغنية, والتي اعتبرها نموذجية, يبلغ عدد السكان في الصيف ضعف عددهم في الشتاء, وهذا ناتج عن عودة التجار الشيعة لقضاء إجازتهم السنوية من مركز عملهم في دكار وأبيدجان, والمهاجرون العائدون للوطن, سواء بصفة نهائية أم مؤقتة, يحضرون معهم تكنولوجيات وأفكارًا وأساليب جديدة, بل إن وجودهم بحد ذاته, يرمز إلى صلة القرية بالعالم الخارجي.
__________
(1) Khuri, From Village to Suburp p.8
(2) Joe Stork, Report from Lebanon, MERIP Roports 118 October 1983: 3-13-22 see p.13(21/37)
عامل آخر, يخفف من حدة الانقسام الريفي المديني هو التعليم, ففي عام 1979كان ما يقارب 100% من الأطفال, الذين هم في سن التعليم الابتدائي يذهبون بالفعل إلى المدرسة (50 % في التعليم الثانوي) وهي أرقام مذهلة إذا أخذنا ظروف البلاد بعين الاعتبار, وهي تعكس مدى فهم السكان للأهمية الوظيفية للتعليم, فالفلاحون وأصحاب الحوانيت من أميين وشبه أميين يرسلون أبناءهم وبناتهم لتلقي العلم, وبينما يتفاوت مستوى المدرسة الابتدائية بين قرية وأخرى, ويجب الاعتراف أن بعضها سيئ جدًا, فمن الواضح أن النظرة السائدة تعتبر التعليم شرطًا جوهريًا مسبقًا لتمكين المرء من شق طريقه في العالم (أي خارج البلدة أو القرية) إذ كان الأطفال يتلقون العلم حتى في ظل أقسى الظروف الأمنية, في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات, وفي هذا الإطار, تجدر الملاحظة بأن الدولة اللبنانية رصدت للتعليم في ميزانيتها لعامي 1981-1982 على التوالي, مبلغًا أكثر مما رصدته لأي بند آخر من انعكاسات التدهور المأساوي الذي شهده لبنان منذ عام 1982, عدم ذهاب الأطفال إلى المدارس بسبب المخاطر الكامنة, بالإضافة إلى أن العديد من المدارس العاملة إنما تعمل بشكل منقطع.(21/38)
وأخيرًا, فإن الخطر الأمني الحاضر أبدًا يلعب دورًا هامًا في كسر عزلة القرية, إذ يتابع المرء وسائل الإعلام ليحافظ على حياته, والعلاقات مع سكان المدن ليست مجرد علاقات عابرة أو اجتماعية, بل هي غالبًا نتيجة تهجير السكان الذي لازم الحرب الأهلية, فمثلاً هاجر سكان الجنوب كلهم تقريبًا, إلى بيروت والضواحي كنتيجة مباشرة لعملية الليطاني, ولقد انعكس اتجاه التدفق في أحيان كثيرة, فلطالما التجأ سكان بيروت إلى أقاربهم في الجنوب وكافة أنحاء لبنان فالحرب تُعطل الحياة وتجر حتى القرويين البسطاء إلى الاطلاع على أحداث تجري بعيدًا جدًا عن الحقول التي يمضون فيها سحابة يومهم, قد يزدري القرى السياسية وخصوصًا السياسة القائمة على العنف, إلا أنه حتى في ازدرائه هذا, يخضع لعملية تسيس.(21/39)
ومن الناحية الأخرى فإن إحصاءات التمدين في لبنان تضخم بعض العوامل, فالنظام السياسي في لبنان, بالتخطيط وبالممارسة, لا يسيطر في المركز بل في الأطراف (1) قد تكون بيروت هدف طالبي الثورة إلا أن محور المشاركة السياسية هو في الغالب القرية, ففيها ينتخب المواطنون ويقيمون علاقات عائلية وإليها يرجعون في أوقات الشدة, وبينما توفر المدينة أحيانًا مكانًا بديلاً للمارسة السياسية, إلا أنها تتجه في لبنان نحو لعب دور المكمل للمدينة بدلاً من الحلول محلها كمكان مناسب للعمل السياسي, -لذا فإن الاقتراح بأن تعتبر علاقة المدينة الريف ((علاقة اتصالية لا ثنائية)) يبدو اقتراحًا ملائمًا بشكل خاص للبنان (2).
المشاركة السياسية:
__________
(1) بالطبع فإن الحديث عن الأطراف بوصفها كلاً موحدًا يمكن أن يكون مضللاً, بل لعل القول بأن المركز قد فشل في السيطرة على نظام سياسي شديد التجزئة, قد يكون أقل دقة إلا أنه أكثر كشفًا, لنقاش مثير للاهتمام حول دور المركز والأطراف في العالم النامي انظ: Gerald A. Hooger, The Politics of Undervelopments. Pp. 47-74
(2) Antoun and Harik, Rural Politics ans Social Changer. P. 10(21/40)
كما رأينا فإن إحدى الانعكاسات المزمنة للتخلف السياسي للشيعة, تمثل في استمرار رابطة السيد, التابع بين الزعماء والفلاحين, لدى حلول الانتخابات يقوم الناخبون الشيعة -كالكثير من اللبنانيين- بانتخاب الزعيم ومرشحه دون أي اعتبار للبرنامج السياسي الذي لا نهتم به نحن أيضًا على أي حال, ولا للأيديولوجيا ولا حتى لمواصفات المرشح, فالمشاركة السياسية مشاركة معبأة أكثر منها مشاركة ذاتية مستقلة وهي مشاركة تهدف إلى مراعاة الآخرين, أي غير نابعة عن أي شعور بالمسئولية المدنية (1)
__________
(1) اعتمد في التمييز بين المشاركة الذاتية والمعبأة على تمييز Ergun Oznudun in Social Change and Political Participation in Turkey ولقد اقتصر مفهوم المشاركة السياسية بمعناها الأضيق على الاقتراع, وفي الواقع فإن دافيد ليرنر في كتابه المحترم بشكل واسع The Passing of Traditional Society يساوي بشكل صريح بين المشاركة السيساسية, والاقتراع بالإضافة إلى العديد من الأدبيات حول موضوع المشاركة تكاد رغم تعدادها للعديد من أوجه المشاركة, تقصر دراستها على تحليل الانتخابات, لسبب بسيط وهو أنه من الصعوبة بمكان إجراء الأبحاث حول أشكال المساهمة السياسية التي تتعدى صندوق الاقتراع.
أما المفهوم الأوسع للمساهمة السياسية فركز على دراسة النشاطات السياسية العنيفة التي يدعوها لويس كانتوري بالمشاركة بواسطة AK 47 Hd أي الكلاشينكوف التي ميزت ما سمي بالنظام السياسي في لبنان منذ عام 1975, أما فيما يتعلق بدراستنا فإننا نرى أن ما يرون وايز يقدم تعريفًا مفيدًا: فهو يرى أن المشاركة تتضمن أي عمل طوعي سواء كان ناجحًا أم غير ناجح, منظمًا أم غير منظم, متواصلاً أم متقعطًا يستخدم الوسائل الشرعية أم غير الشرعية بهدف التأثير على خيارات السياسية العامة, وإدارة الشئون العامة, واختيار القادة السياسيين على أي مستوى حكومي محلي أو وطني Myron Weiner, Political participation; Crisis the Political Process, in Crises and Sequences in Political Dovelopment , by Leonard Binder, James S. Coleman, Joseph La Palombara, Lucian W. Pye, Sidney Verba, and Myron Weiner, pp. 159-204; quotation at p. 164.
وبينما يقدم هذا المفهوم نشاطات متنوعة يصعب قياسها, إلا أن حوادث الاحتجاج والتظاهر والعنف والتهديد تشكل -رغم عدم دقتها- بعض المقاييس التي يمكن بها قياس مدى سعي الأفراد والجماعات إلى التأثير على وجهة السياسات المتبعة, ونظرًا لصعوبة تحديد الأطر الشرعية والقانونية في مجتمع يتميز بتراجع السلطات الشرعية المتزايد, فإنه من الأهمية بمكان أن لا نربك بحثنا بحصره بالمساهمة القانونية لمفهوم واسع نسبيًا حول المساهمة, انظر: Sidney Verba and: Norman H. Nie, PARTICIPATION in America.(21/41)
ولكن هذه الروابط ما لبثت أن انحلت كنتيجة للتحديث المتواصل, يلاحظ أرنولد هوتنغر في مقالته الأصلية المبدعة أن السلطة الفعلية كانت تنسل من أيدي الزعماء منذ أوائل الستينات, ويعود ذلك بشكل واسع إلى نمو أجهزة الدولة الإدارية التي منحتهم كخدمات عددًا من السلع السياسية التي كان يوزعها الزعيم كتقديمات (1) ومع انتشار تهجير السكان, والتحولات في تنظيم الاقتصاد والوضع الأمني المتدهور في الجنوب, وجد الزعيم أن تلبية حاجات أتباعه المعقدة والمتزايدة ومطالبهم المتكاثرة تزداد صعوبة بشكل تدريجي ( ولسوء الحظ فإن الدولة أيضًا لم تستطع أن تواكب هذا التطور).
المؤسسات السياسية محكومة بالتقاليد والثقافة, لكن التقاليد لا تدفعها نحو الاستمرار, فالناس تنخرط في السياسة (وبالتالي في العلاقات السياسية) لأغراض عملية, وهكذا فمع تقلص حجم الانتفاع من التبعية التقليدية ومع عجز الدولة عن الاستجابة لمطالبهم, سعى الشيعة كغيرهم من اللبنانيين, إلى تبني وسائل أخرى للتغلب على سوء وضعهم الاقتصادي الاجتماعي, وبالطبع فإنه عندما يطالب الناس بصوت سياسي أكثر فعالية فهم يصرون على ضرورة إسماع صوتهم, أي أنهم يودون المشاركة في تقرير مصيرهم. وليست المشاركة السياسية هي هدفهم بل مقدار النفع الذي يحصلون عليه من جراء هذه المشاركة, فالعديد من المتسيسين الشيعة الجدد تخلو عن النظام السياسي القديم؛ لأنه أدار أُذنًا صَمَّاء لمطالبتهم بالأمن, والتعليم, والخدمات الصحية, والتوظيف.
__________
(1) Arinold Hottinger, Zu'amm' in Historical Perspetive, in Politics in Lebanon, ed , Binder, pp, 88- 105.(21/42)
بحلول الستينات كان عدد من الشيعة قد أصبح أكثر تشددًا من أي وقت مضى في التعبير عن مطامحهم ومطالبهم السياسية, وكان الحزب الشيوعي اللبناني إلى جانب حركة ذات طابع شيعي مميز يلاقيان نجاحًا هام في اكتساب العناصر الجديدة, كذلك ازدهرت نوادي الشباب والرياضة والثقافة في كافة المناطق الشيعية, أما الرابطات العائلية المرخصة من قبل الدولة, والتي تقدم الخدمات الاجتماعية والخيرية, وتساعد على تأمين الوظيفة, فكانت تشهد إقبالاً على تأسيسها بسرعة لم تشهد مثيلاً لها من قبل, توجد هذه الرابطات في مناطق التواجد الشيعي سواء في المدينة أم في الريف, وهي تقدم العديد من الخدمات التي كان يوفرها الزعيم, يذكر سمير خلف أنه رغم أن الشيعة لم يشكلوا خلال الثلاثينات سوى ما نسبته 12.8% من الرابطات العائلية المرخص لها خمس رابطات فلقد بلغت النسبة ذاتها 47.2 % في الستينات (77 رابطة) (1).
الحرب الأهلية كأزمة مشاركة:
__________
(1) Samir Khalaf, Adaptive Mordeernization: The Case for Lebanon in Economic Development and Population Growth in the Middle East , ed. Charles A. Cooper end Sidney S. Alxander. Pp. 567- 598
يلاحظ خلف أهمية الدور الذي لعبته الرابطات العائلية لدى كافة الطوائف اللبنانية الرئيسية في عملية التغير الاجتماعي, هذه الطوائف اللبنانية الرئيسية اتبعت بشكل عام النسق نفسه في عملية امتصاص بعض ميولها العلمانية المتضمنة في التحديث, وبهذا المعنى فإنه يمكن اعتبار الرابطات العائلية عارضًا من عوارض التغيير الاجتماعي ورد فعل عليه في آن ص 584.
ويلاحظك سمكوكس في Politics of Pluralism أن غالبية الرابطات العائلية العاملة في بداية السبعينات كانت على الأرجح رابطات شيعية ص 87.(21/43)
من اهتمامات علماء الاجتماع الثابتة والدائمة: البحث عن الطريقة الفضلى التي على الحكومات الهشة, التي تحكم دول العالم الثالث وجزء كبير مما يُسمى العالم المتقدم, أن تتعامل بها مع القوى الاجتماعية الناشئة في حال نشوئها, هل تسحق أم تحتوى, أم يسيطر عليها, أم يُستجاب لها, أو يعمد إلى اعتماد مزيج من هذه الخيارات (1), لقد شاهدنا في الأزمنة الحديثة محاولات لسحقها, في السلفادور, والفلبين, لم تسفر سوى عن نتائج متفاوتة في أحسن الأحوال, لذا فإن عودة ((سامويل هنتنغتون)) لاحتوائها دعوة جد بديهية, أما علاج ((دافيد ابتر)) وهو ما يدعوه غرين بـ ((المشاركة الظاهرية)) فقد فشل في غانا, ومصر, كما فشل مؤخرًا في إيران البهلوية (2).
__________
(1) بينما ليونارد بايندر, وعلى الرغم من تجنبه اختيار أسلوب محدد, إلا أنه قدم واحدًا من أهم الأعمال النقدية لمفهوم المشاركة السياسية إبان عملية التنمية, وخصوصًا لتفسيرات معنى المشاركة في العملية السياسية Review Essay Political Participation and Political Development, American Journal of Somiology 83 November 1977: 751-760.
(2) مصطلح المشاركة الظاهرية Pseudoparticrpation نقلناه عن Green, Revolution in The Politics of Modervization; Huntington and Nelson, No Easy choise; and Huntington, Political Order in Changing Societies وكما يلاحظ بايندر لدى تناوله عمل هانتنغتون: فالمشاركة والتمأسس تعتبر أمورًا متناقضة خلال مرحلة التنمية Review Essay, p.754(21/44)
وفي الحقيقة, لا توجد خيارات سهلة, إلا أنه في دولة مثل لبنان حيث يتحدد الحكم أساسًا بقيامه على قاعدة التوزيع الثابت للسلطة السياسية فإن الخيارات ليست فقط صعبة جدًا, لكنها قليلة جدًا أيضًا: إن أسباب الاضطراب المدني في لبنان ليست أسبابًا محض داخلية, لكنها تمثل جزئيًا, حتى في النطاق التي هي فيه داخلية, المطابة بإعادة توزيع السلطة السياسية وموارد الدولة, فما شهدناه في لبنان خلال العقد الأخير هو ما يدعوه ما يرون واينر وزملاؤه بـ ((أزمة المشاركة)) الشيعة من أبطالها الرئيسيين, يمكن تعريف أزمة المشاركة كأزمة تقع عندما تعتبر النخبة الحاكمة مطالب أو سلوك الأفراد أو الجماعات الساعية للمشاركة في النظام السياسي مطالب غير شرعية, والذي يميز أزمة المشاركة عن غيرها من أزمات النمو هو أن المطالب, بغض النظر عن مضمونها الخاص, تشمل أيضًا حق المشاركة في السلطة (1).
__________
(1) Weiner, Political Participation. p187(21/45)
وبالفعل, فإن التعبئة الاجتماعية للشيعة, بلغت في أواخر الستينات مستوى من التصميمات لم تعرفه من قبل, فبينما كان الشيعة لا يزالون خلف الطوائف الأخرى وفق المعايير المتبعة لقياس الحالة الاجتماعية الاقتصادية, كانت ثمة أدلة قاطعة تشير إلى ظهور تغير اقتصادي اجتماعي حاد, وبالتالي إلى ظهور التعبئة الاجتماعية, ولكن وكما رأينا فإن الانتقال من التسيس بالقوة إلى الممارسة السياسية يعتمد على توفر عملاء التعبئة, وكما ذكرنا أعلاه فإن دافيد كاميرون قد هاجم في نقده لدويتش ذلك التصور التقليدي للتعبئة الذي يعتبر أن التحريض السياسي عملة سلبية وحتمية (1) إن تشديد كاميرون على عميل التعبئة يوجه اهتمامنا نحو الأدوات التي تحرض المعبأ اجتماعيًا على السياسة (2) وبالتالي نحو تشديد ني وبوويل وبروويت على دور المنظمات الوسيطي (3) يدرس كاميرون كيف يتبنى عميل التعبئة أو منظمة ما أديولوجيته ليطبقها على الغضب الداخلي بحيث تكسبه معناه وكيف تحول موارد المجتمع المحلي إلى منفعتها الخاصة عبر اختراقها للبنية التحتية التنظيمية القائمة أساسًا في المجتمع وتتكيف معها لخدمة أغراضها الخاصة (4).
__________
(1) Cameron, Toward a Theory. p. 145
(2) المرجع نفسه ص 147.
(3) Normal H. Nie, G. Bingham Powell. And Kenneth Prewitt, Social Structure and Politicipation , American Political Scionce Review 63 June 1969: 361-378; Septomber 1969: 808-832.
(4) Cameron, Toward a Theory. P. 140(21/46)
وفي أوائل السبعينات, كان عدد من عملاء التعبئة وخصوصًا الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي يتنافسون وحركة شعبية إصلاحية يقودها عالم ديني من مواليد إيران هو الإمام موسى الصدر, على اكتساب أعضاء شيعة حول فترة 1970-1971 يقول وليد الخالدي: ((إن أبرز انعكاس لظاهرة الشيعة هو الاختراق العميق للمنظمات السياسية الجذرية وخصوصًا الماركسية للمناطق الشيعية, كما انعكست أيضًا في تزايد نضالية السيد موسى الصدر القائد الشيعي الشعبي ضد النظام)) (1) كان السباق إلى حد لم يقدر بشكل واسع, على تعبئة الطائفة الشيعية, في أوائل السبعينات, سباقًا بين الأحزاب العقائدية وبين حركة ذات طابع طائفي مميز, وهذا لا يعني أنه لم تكن هناك أوجه شبه براغماتية بينهما, فالاتجاهان العلماني والطائفي كانا متفقين على لعنة النظام الطائفي لحفاظه على السلطة السياسية لأصحاب الامتيازات على حساب أولئك الذين يمنعون من فرصة متكافئة للدخول إلى النظام السياسي. وكانا مختلفين في رؤيتهما لمسألتي دور الدين والشريعة واختيار الحلفاء الخارجيين (2).
__________
(1) Walid Khalidi, Conflict and Violence in Lebanon: Confrontation in the Middle East p. 42.
(2) إن الخلاف حول دور الدين وقانون الأحوال الشخصية ينعكس بوضوح في الملاحظة التالية للشيخ محمد مهدي شمس الدين نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى: أنا أنتمي إلى التيار الذي يعتبر إلغاء الطائفية السياسية في مجال الوظيفة وفي التمثيل النيابي ضمانة لإصلاح أغلب ما نشكو منه في النظام اللبناني, وأضيف إلى ذلك الحاجة إلى تغييرات في النظام الاقتصادي الحر, أما التيار الآخر؛ تيار الحركة الوطنية الذي يدعو إلى ما يسمى بالعلمنة الكاملة فهو في رأيي تيار خاطئ Center for the Study of the MODERN Arab World Islamic law in Arab Society, CEMAN Reports, Vol 4 1976: 125;(21/47)
وهكذا, ما لبثت النخب الحاكمة في لبنان -غير الراغبة في الاستجابة لمطالب الشيعة, وغير القادرة على سحقهم واحتوائهم أو السيطرة عليهم- أن وجدت أن الشيعة الحديثي التسيس قد انتسبوا إلى مجموعة عريضة من أحزاب وميليشيات معارضة منحتهم وعدًا بالتقدم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بالإضافة إلى مستلزمات تعزيز وضعهم -أي المال والسلاح- هذا إذا لم نأت على ذكر فرصة ضرب رموز النخب الحاكمة.
لم يبدأ الأفق السياسي للشيعة في تطويف الدولة بهذا الشكل إلا في أواخر الستينات, قبل ذلك كان الشيعة على هامش نظام الحكم, وتبدو تسميتهم بالطائفة الشيعية اللبنانية تسمية مغلوطة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تشتتهم السياسي وسيطرة 6 عائلات قوية عليهم.
مع تحديث الطائفة الشيعية تعرضت سلطة الزعماء لتحد خطير وحل مكانها, بشكل حاسم, عدد من الميلشيات والأحزاب السياسية, وهذا التحدي كان الأنجح في ارتقائه حركة شعبية سياسية إصلاحية معارضة, طالبت بأن تؤمن للشيعة حقوقهم الإنسانية الأساسية, حرمة المأوى والحق في العيش الكريم, بالإضافة إلى المطالبة بمساواتهم في الحقوق وبوصفهم مواطنين لبنانيين, فإلى نشوء هذه الحركة حركة أمل ننتقل الآن.(21/48)
الفصل الثالث
التعبئة السياسية
بغض النظر, بل على الرغم من تخلف شيعة لبنان السياسي والاجتماعي والاقتصادي فإنهم لم يكونوا بمنأى من عملية التغيير العميق التي كانت تؤثر على لبنان كله في أوائل الستينات, وكما أشرنا في الفصل السابق فإن التحولات القطاعية على المستوى الاقتصادي دفعت بالفلاحين بعيدًا عن زراعة العمالة المكثفة ونحو الوظائف القليلة الأجر في قطاع الخدمات في ضواحي بيروت أو نحو البطالة, وبينما لم تشهد البنية التحتية (الطرقات, الآبار, خطوط الهاتف, والكهرباء) تحسنًا فعليًا, ازدادت إمكانية وسهولة الانتقال بين المدينة والقرية ووصلت وسائل الإعلام (الصحف وخصوصًا الراديو) إلى مزيد من المناطق التي كانت تعتبر نائية, وبينما كانت مدارس الشيعة لا تزال أقل عددًا ونوعية من المدارس المتاحة لغيرهم من اللبنانيين, أصبح التعليم وخصوصًا في مرحلته الابتدائية متوفرًا بسهولة ويسر, وفتحت الحوانيت في قرى لم تعرف مثلها من قبل, وهاجر رجال, كانوا في السابق يسيرون على خطى آبائهم من الفلاحين, إلى بيروت أو إلى الخارج, فالشيعة مثلهم مثل بقية اللبنانيين كانوا قد دخلوا في دورة التغيير, وأخذوا يعانون من انتزاعهم من محيطهم المألوف وارتباطاتهم الحميمة في الوقت الذي كانت فيه ضغوطات النظام السياسي التقليدي تتزايد بشكل حاد, وباختصار فمع قدوم الستينات كانت أعداد متزايدة من الشيعة مستعدة, أكثر من أي وقت مضى, للانخراط في الحركات السياسية (عملاء التعبئة) التي تترجم تسيسهم الأولي إلى عمل سياسي وبينما لم يكن أحد خارج لبنان ليعيرهم أدنى اهتمام كان الشيعة قد بدأوا صحوتهم السياسية التي كان من المقدر لها أن تلعب دورًا هامًا في تحديد مصير لبنان السبعينات والثمانينات.(22/1)
وفي الحقيقة, فإن تحسس أثر التغيير في لبنان إنما جرى على مستوى القيادة أولاً. فكما لاحظ مايكل هديسون في كتابه الرؤوي الصادر عام 1968 ((الجمهورية الرجراجة)) فإن التحديث التدريجي للقيادة السياسية الشيعية هو من أهم التطورات التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية (1) إلا أنه لم يكن يوجد ما يحتم السير في وجهة معينة دون أخرى, ففي ظل غياب حركة أو حزب متطور بشكل جيد بوسعه أن يتوجه إلى الجماعة بشكل عام ليس من المفاجئ أن يكون الشيعة قد أعاروا أعدادهم إلى مجموعة متنوعة من المنظمات السياسية.
فلقد كان من البديهي أن ينجذب أناس عانوا طويلاً من وطأة الزعماء, الذين يسيطرون على الأرض والثروة والسلطة السياسية, إلى الشعارات الحزبية التي تنادي بالمساواة وتحسين الخدمات الاجتماعية والصحية وتحسين ظروف العمل والسكن, وهكذا انضم عدد كبير من الشيعة إلى الحزب الشيوعي اللبناني وإلى منظمات أخرى مناوئة للمؤسسات مثل منظمة العمل الشيوعي في لبنان.
__________
(1) Michael C. Hudson, The Percarious Republim: Political Modernization in Lenanon. see pp. 31-32.(22/2)
أضف إلى ذلك أن الساحة لم تقتصر على الأحزاب العلمانية المناهضة للمؤسسات, فقد التحق العديد من الشيعة, بفعل التشابه بين مأساتهم ومأساة اللاجئين الفلسطينيين, بالمنظمات الفدائية المختلفة, إضافة إلى عدد من الأحزاب التابعة للمقاومة الفلسطينية, إذ التحق عدد لا بأس به من الشيعة بجبهة التحرير العربية, وحركة القوميين العرب وجناحي البعث: السوري والعراقي, لكن الجدير بالذكر هو أن الإيمان بالمبادئ السياسية لم يكن الدافع الوحيد, فقد انضم عدد منهم إلى المنظمات المليشيات لمجرد الحصول على الراتب, وبحلول أواخر السبعينات كان من المستحيل على الأرجح أن تجد قرية أو حيًا شيعيًا لا تسمع فيه الحكايات عن الشباب الذين يرحلون ذات صباح للالتحاق بإحدى المليشيات ثم يعودون بعد ذلك ببضعة أسابيع متأبطين بندقية كلاشينكوف أو مسدس وحفنة من الليرات اللبنانية, لم يتمكن تنظيم بمفرده أن يستقطب الغالبية الساحقة من المنتسبين الجدد, ولكن ما يبدو جديرًا بالملاحظة الآن هو ذلك التنوع الايديولوجي العريض الذي انضموا تحت لوائه.
إلى جانب الأحزاب العلمانية والمجموعات الفدائية, كانت هناك حركة طائفية ذات طابع شيعي متميز يقودها رجل دين هو السيد موسى الصدر, (الذي أصبح معروفًا لدى تابعيه فيما بعد باسم الإمام موسى الصدر) هذه الحركة المعروفة اليوم باسم حركة أمل والتي كانت في أوائل الستينات لا تزال في طور النشوء, أصبحت تسيطر الآن وإلى حد كبير على السياسة الشيعية في لبنان.
فلقد استطاعت عبر مزيج من حسن الطالع والقيادة الفذة أن تبز العديد من منافسيها, وبينما انقطعت أخبار مؤسسها منذ اختفائه في العام 1978 خلال زيارة له إلى ليبيا, إلا أنه لا يمكن إنكار دوره التأسيسي, ومن المهم بالتالي دراسة سيرة حياة هذا المارد. كما يدعوه أتباعه عادة.
الإمام وتعبئة الشيعة:(22/3)
ولد موسى الصدر في قم, إيران في عام 1928, لقائد ديني مهم هو آية الله صدر الدين الصدر, تابع دروسه الابتدائية والثانوية في قم, ثم التحق بكلية الحقوق والاقتصاد السياسي في طهران, ولم يكن ينوي أن يصبح رجل دين بل كان يود العمل في الحقل المدني, لكنه اضطر إلى التخلي عن طموحاته هذه نزولاً عند رغبة أبيه الذي خشي على استمرارية المؤسسات الشيعية, فرجع إلى قم حيث درس الفقه, وهناك رأس تحرير مجلة "مكاتب إسلامي" مدارس الإسلام, التي ما تزال تصدر حتى الآن في إيران, ثم انتقل بعد عام من وفاة والده إلى النجف, العراق حيث درس على المرجع الكبير السيد محسن الحكيم.
زار لبنان الذي قال: إنه بلد أجداده لأول مرة في 1957 (يذكر أن جد جده اضطر للفرار من لبنان واللجوء إلى النجف) فترك خلال زيارته انطباعًا إيجابيًا قويًا لدى زملائه من العلماء ثم دعي أثر وفاة الزعيم الروحي الديني لمدينة صور الساحلية السيد عبد الحسين شرف الدين, في 1958 من قبل جماعة الشيعة في جنوب لبنان للحلول محل المفتي المتوفى, انتقل إلى صور في أواخر 1959, أو أوائل 1960, بتشجيع فعال من أستاذه ومرشده السيد محسن الحكيم, حيث كان من أول أعماله البارزة تأسيس مؤسسة مهنية في بلدة برج الشمالي الجنوبية كلف إنشاؤها نصف مليون ليرة لبنانية 165 ألف دولار, جمع قسمًا منها من المتبرعين والباقي من وزارة التربية ومن قروض المصارف, ولقد أصبحت هذه المؤسسة رمزًا هامًا لقيادته, وهي ما تزال تعمل بإدراة ورعاية شقيته السيدة رباب الصدر, موفرة التدريب المهني لحوالي 500 يتيم.(22/4)
استطاع السيد موسى الصدر بحضوره المادي القوي وذكائه وشجاعته وسحر شخصيته (كاريزما) ونشاطه الهائل, (يزعم أحد مساعديه السابقين أنه كان يعمل في الغالب 20 ساعة في اليوم) أن يجذب مجموعة كبيرة متنوعة من المؤيدين تراوحت بين التجار الذين جنوا ثرواتهم في أفريقيا الغربية والشباب البرجوازي الصغير, شرع موسى الصدر في تكريس نفسه كالزعيم الأوحد للشيعة, وما كان ممكنًا أن يصل في وقت أفضل فهو وإن لم يكن المستثير الوحيد لوعي الشيعة السياسي, إلا أنه استفاد من تسيس الشيعة المتبرعم فأثاره وعقلنه في آن (1) فقد شهدت تلك الفترة بروز عدد من المؤشرات على وجود أشكال من التنظيم السياسي الأولي, بما فيها النمو المذهل للرابطات العائلية, وحلقات النقاش السياسي الصغيرة وغيرها من أشكال التنظيم الاجتماعي ذات الدلالة السياسية (2).
__________
(1) في مقابلة خاصة في شباط 1984, أكد أحد المقربين من الإمام الصدر على بدائية التنظيم السياسي.
(2) لنقاش مفيد حول الرابطات العائلية ودورها في التطور السياسي والاقتصادي الاجتماعي انظر: Samir Khalad ADAPTIVE Modervization The Case for Lebanon. In Economic Development and Population Growth in the Middle East , ed , Charles A. Cooper and Sidney S. Alexndr. Pp. 567- 598(22/5)
الذي جاء به موسى الصدر إلى لبنان, بالإضافة إلى صفاته المتميزة الأخرى, هو القدرة على النظر إلى الطائفة – الضحية المشتتة من الخارج- وروؤيتها ككل (1) فبالنسبة للإيراني, ليس لبنان سوى بلد متواضع الحجم فعلاً, وبينما قد يتحدث اللبنانيون عن بلدات لبنانية بعيدة كما لو كانت في بلاد غريبة إلا أن تلك المسافات الصغيرة التي تفصل بين البقاع والجنوب وبيروت لم تترك في نفسه أثرًا كبيرًا, ولقد تمكن رغم الفروقات الاجتماعية الملموسة أحيانًا بين سكان أحزمة البؤس في بيروت وفلاحي الجنوب وعشائر البقاع من أن يمنح العديد من الشيعة هوية مجتمعية شاملة (2) أضف إلى ذلك أنه كان يذكر تابعيه باستمرار بأن عليهم أن لا يتقبلوا حرمانهم كقدر لا مفر منه, فطالما أنهم يستطيعون أن يعبروا عن رأيهم من خلال دينهم, فإنهم يستطيعون التغلب على ظروفهم, وكما لاحظ مرة ((عندما ينخرط الفقراء في ثورة اجتماعية, فإن هذا تأكيد على أن الظلم ليس قدرًا)) (3).
كان فارسيًا عندما وصل إلى لبنان لكن سرعان ما تم تقبله كلبناني عاطفيًا وقانونيًا, منحه الرئيس شهاب الجنسية اللبنانية في عام 1963 يذكر كريم بقرادوني أنه لما وصل الإمام إلى لبنان كان يتكلم اللغة العربية بصعوبة أما في العام 1975, ومع احتفاظه بلكنة فارسية, فقد كان يتكلم اللغة العربية بطلاقة تنسجم مع استعداده الشخصي ومؤهلاته (4)
__________
(1) هذه الملاحظة مستعارة من فؤاد عجمي في مقابلة خاصة معه في نيسان 1984.
(2) حول التنويعات والاختلافات المناطقية بين الجنوب والبقاع انظر: Raymond Adams in Paradoxes of Religions Leadershrp among the Shi'ites of Lebanon, MERA Forum 6 Winter 1983: 9-12
(3) Quoted in al-sadr? P. 27
(4) Karim Pakaradouni La paix manquee. see pp. 105-107 quotation at p.106
معظم المواد المتضنة في الفقرات التالية تعتمد على هذا الكتاب.(22/6)
ومن جهة أخرى كان الإمام موسى الصدر على دراية جيدة بإمكانيات الدين ورموزه التعبدية التأثيرية, واستطاع أن يدرك أن مصدر قوته يعود جزئيًا إلى كونه قيمًا على هذه الرموز, وهو يجيد توظيف المؤثرات الروحانية, إذ كانت خطبه الحماسية تزخر بالإحالات إلى رموز التشيع المركزية, ففي خطاب ألقاه في مناسبة الاحتفال بذكرى عاشوراء في الكلية العاملية عام 1974, قابل موسى الصدر بين حركته وبين استشهاد الإمام الحسين في كربلاء.
وفي الحقيقة كان هناك حاجة إلى تضحية عظيمة تهز الضمائر وتحرك المشاعر فكانت كربلاء تلك التضحية, وضع الإمام الحسين عائلته وقوته وحتى حياته في الميزان ضد الطغيان والفساد, ثم تفجر العالم الإسلامي بهذا الحديث الذي لم يسبقه إليه أحد.
إن هذه الثورة لم تمت في رمال كربلاء, بل دخلت في مجرى حياة العالم الإسلامي وانتقلت من جيل إلى جيل ووصلت إلى يومنا هذا, إنها وديعة في أيدينا وعلينا أن نستفيد منها وأن نستخلص منها مصدرًا لإصلاح جديد, لحركة جديدة, لثورة جديدة تقهر الظلم وتوقف الطغيان.
أيها الأخوة عليكم أن تختاروا بين صف الطغيان وصف الحسين وإنني على ثقة أنكم لن تختاروا سوى صف الثورة والاستشهاد, حتى تتحقق العدالة ويقضى على الطغيان (1).
حول نفوذ الإمام الصدر الهائل اجتماعات الذكر الدينية, إلى أدوات بناء لركائز تضامن الطائفة وأسس وعيها السياسي, وأدى ظهوره في الأماكن العامة إلى إعادة إحياء ذكرى عاشوراء وغيرها من المناسبات الشيعية في قرى لا توجد فيها حتى ذكرى لإحيائها, والأهم من ذلك كله, أنه وضع مطالب الشيعة في إطار ثقافي حضاري شرعي خلق تأييدًا للحركة التي يقودها.
__________
(1) Quoted in Thom Sicking and Shereen Khairallah. The Shi'a Awakening in Lebanon: A Search for Radical Change in Traditional Way Vision and Rovision in ARAB Society. 1974 CEMAM Roports2 (1975): 97-130; quotation at pp. 115-116.(22/7)
وفوق ذلك كله, وكما لم يكف عن تذكيري أحد معاونيه المقربين, فقد كان الإمام الصدر براغماتيًا, فسجل تحالفاته يشي بالتأكيد عن براغماتية متأصلة, ولعل ملاحظة عدد من اللبنانيين الحسني الاطلاع بأن أحدًا لا يعرف أين يقف الإمام الصدر على وجه التحديد تشكل اعترافًا بقدراته السياسية ومهاراته التكتيكية, فلقد ساند مرة فتح ضد الصاعقة ( المنظمة الفدائية التي أنشأها حليفه السوري) مما دفع أحد المسئولين السوريين إلى القول: ((لقد أدركنا فجأة أن صديقنا وحليفنا الإمام موسى الصدر هو شيك من دون رصيد)) (1).
ورغم أن أتباعه اليوم غالبًا ما يصبغون عليه صفة الناقد العنيف للشاه, إلا أن علاقاته مع الشاه لم تتدهور جديًا إلا بعد حرب اكتوبر تشرين الأول 1973. ففي خريف 1973 شن الصدر هجومًا عنيفًا على الشاه متهمًا إياه بقمع الدين في إيران, وشجب مواقفه المؤيدة لإسرائيل واصفًا إياه بـ (الدمية الإمبريالية) إلا أنه كان قد أقام ولفترة تزيد عن عشرة سنوات علاقة وثيقة بل وودية مع نظام بهلوي, وكانت زياراته لإيران في الستينات وأوائل السبعينات تقابل بالترحيب والتكريم, ويذهب شهبور بختيار إلى حد الزعم بأن الشاه هو الذي أرسله إلى لبنان لدعم مخطط قيام اتحاد شيعي يضم إيران والعراق ولبنان (2).
__________
(1) Quoted in Raphael Calis. The Shute Pimoernel Middle EAST November 1978, 58-54 quotation at p. 54.
(2) Shahpur Bakhtiar. The Catastrophe excorpts from his book, Mafidelite al Watan al - arabi , October 8-14 , 1982(22/8)
وبما أن الشيعة مثلهم مثل الموارنة, أقلية في ظل عالم عربي ذي أغلبية سنية, ولبنان بالنسبة إلى كلتي الطائفتين هو الملجأ الذي يمكن فيه الحفاظ على هوية طائفية وضمان أمنها, فليس من المفاجئ أن يرى عدد من الموارنة في الإمام الصدر حليفًا طبيعيًا لهم, خصوصًا قبل تنظيمه للميليشيا الخاصة به في عام 1974. كان الإمام مصلحًا ولم يكن ثوريًا, لقد سعى لتحسين وضع الشيعة في إطار لبناني وكان كثيرًا ما يردد ((لبنان بالنسبة إلينا هو وطن نهائي)).
ورغم إدراكه لدلالات التحولات السكانية التي جعلت من الشيعة أكبر طوائف لبنان, إلا أنه امتنع عن المطالبة بإجراء إحصاء جديد, أدرك موسى الصدر أسباب عدم اطمئنان المسيحيين واعترف بحقهم في احتكار الرئاسة, إلا أنه انتقد موقفهم المتعجرف من المسلمين والشيعة خاصة, وكان يرى أن الحكومات التي يسيطر عليها الموارنة أهملت الجنوب منذ الاستقلال وحولت الشيعة إلى ((شبه بروليتاريا محرومة في لبنان)) (1).
__________
(1) Pakradouni, Lapaix. P. 106.(22/9)
كان الإمام الصدر خصمًا للشيوعية فكما لاحظ باحثان في عام 1974: ((بالنسبة إليه فإن نفي الماركسية لله ليس في إلحادها العلني بقدر ما هو في إلغاء الفرد وتجريده من حرياته)) ويمكن تلخيص موقفه في جملتين غالبًا ما كان يرددهما ((نحن لسنا يمينًا ولا يسارًا ولكننا نتبع الصراط المستقيم والحديث النبوي الشريف: ((ليس مسلمًا من بات شبعانًا وجاره جائع)) (1) اتهم الإمام الشيوعيين إثر القتال الدموي في عامي 1975- 1976 باستغلال الطائفية في لبنان عبر الزعم أن الإسلام في خطر كي يحصلوا على التأييد (2) إلا أن المرء قد يشك في أن معارضته للشيوعيين قامت على الأسس العقائدية وحدها, إذ كانت المنظمات الشيوعية المتعددة من ضمن منافسيه الرئيسيين على اكتساب مزيد من الأعضاء الشيعة الجدد.
وبينما كان جناحا البعث العراقي والسوري يحرزان تقدمًا داخل صفوف الشيعة في بيروت وضواحيها, عمد الإمام الصدر أحيانًا إلى مصادرة شعاراتهما.
ورغم أن الحركة التي أنشأها -حركة المحرومين- تحالفت مع الحركة الوطنية اللبنانية في المرحلة الأولى من الحرب الأهلية التي بدأت في عام 1975، إلا أنه كان يرى في قائدها الدرزي كمال جنبلاط شخصًا غير مسئول ومستغلاً للشيعة, فكما قال لبقرادوني: ((تريد الحركة الوطنية مقاتلة المسيحيين إلى آخر شيعي)). عازيًا استمرار الحرب إلى دور جنبلاط ((لولا كمال جنبلاط لانتهت الحرب في شهرين. وبسببه تستمر منذ عامين والله أعلم إلى متى ستدوم)) (3).
__________
(1) Sicking and Khairallah, The Shi'a Awakoning. P. 111
(2) انظر المصور (القاهرة) 27 آيار 1977.
(3) Pakradouni. La paix. p. 106.(22/10)
من الصعب أن تعتبر أن تخليه عن الحركة الوطنية, في أيار 1976، لدى تدخل سوريا في لبنان إلى جانب الميليشيات المارونية وضد الحركة الوطنية وحلفائها من الفدائيين, يتوافق مع توجهاته السياسية, فرغم صداقته الوطيدة بالرئيس الأسد, الذي كان يعتبره بيت سره, إلا أنه لم يكن يثق بالدوافع السورية في لبنان, ويرى أن ما منع سوريا من هضم لبنان هو أنه يصيبها بعسر الهضم, ومع ذلك كان السوريون ورقة أساسية في لعبة الموت التي خاضها مع المقاومة الفلسطينية.(22/11)
ادعى الإمام الصدر أنه يؤيد حركة المقاومة الفلسطينية, إلا أن علاقته بمنظمة التحرير الفلسطينية تميزت في أحسن الأحوال بالتوتر والحذر, فخلال الصدامات بين الجيش اللبناني والفدائيين في عام 1973, لام الإمام الصدر المسلمين السنة على تأييدهم للفدائيين وألقى باللائمة على الحكومة لفشلها في حماية الجنوب من العدوان الإسرائيلي, لكنه انتقد من الناحية الأخرى منظمة التحرير على قصف إسرائيل من الجنوب مما يدفع إسرائيل إلى الرد, وكما لاحظ لاحقًا لم تكن المشكلة في تسلل الفدائيين, بل في إطلاق الصواريخ والقذائف عبر الجنوب على إسرائيل, وهذا شيء غير مسموح به على الإطلاق, فإطلاق الصواريخ والقذائف عمل غير ثوري على الإطلاق وهو يعني أيضًا أن لبنان في حالة حرب مع إسرائيل. من يطلق النار؟ ليس هذا مهمًا, فجوهر المسألة هو أن الأراضي اللبنانية تحولت إلى قاعدة لإطلاق الصواريخ والقذائف (1) ولقد عبر باستمرار عن تعاطفه مع القضية الفلسطينية, إلا أنه لم يرغب في تشجيع الأعمال التي تعرض على المواطنين اللبنانيين وخصوصًا المواطنين الشيعة في الجنوب إلى مزيد من المعاناة, فإذا أخذنا بعين الاعتبار ضعف الجيش اللبناني المزمن, ومستواه المتدني نسبيًا في العتاد والعديد بالمقابلة مع مستوى الجيش الإسرائيلي فلسوف يكون من المحتم أن يطالب موسى الصدر منظمة التحرير بضبط النفس ويبرز بالتالي كخصم لها (2).
__________
(1) الدستور (لندن) 26 حزيران – 2 تموز 1978.
(2) حول موقف الإمام الصدر من الوجود الفدائي انظر: المصور 27 أيار 1977, والحوادث 24 كانون الأول 1976, والدستور 26 حزيران – 2 تموز 1978.(22/12)
بعد هزيمة منظمة التحرير في الأردن في العام 1970 انتقلت الكتلة الرئيسية من مقاتليها إلى جنوب لبنان حيث بدأوا بالحلول مكان السلطات الشرعية, وحذر الإمام موسى الصدر –وكأنه يرى إلى المستقبل– المنظمة من أنه ليس من مصلحتها إقامة دولة داخل دولة في لبنان (1) وكان لفشل منظمة التحرير في الأخذ بهذه النصيحة, أن ساعد في النهاية على توليد النفور الحاد بين الفلسطينيين وبين الشيعة ((حلفائهم الطبيعين)) الذين قاوموا بفاعلية بعد ذلك ببضعة سنوات, وجود الفدائيين في مناطقهم. ونقل مصدر موثوق به (على ما أظن) عن السيد الصدر قوله: ((إن منظمة التحرير هي عامل فوضى في الجنوب, إن الشيعة يتغلبون الآن على عقدة الدونية التي يعانون منها حيال المنظمات الفلسطينية, لقد تحملنا الكثير ولم يعد بإمكاننا أن نتحمل أكثر)) (2).
لقد شكك في مجالسه الخاصة بحسن نية الفلسطينيين, ورأى أنهم يفتقدون إلى حس الشهادة, وأن منظمة التحرير هي قبل أي شيء آخر آلة عسكرية لإرهاب العالم العربي وابتزاز الأموال والهبات واكتساب تأييد الرأي العام العالمي. أما مسئولو منظمة التحرير, فرأوا من جهتهم أن موسى الصدر هو صنيعة المكتب الثاني (المخابرات اللبنانية) (3).
__________
(1) الدستور 26 حزيران – 2 تموز 1978.
(2) Pakradouni. La Paix , P. 107.
(3) استنادًا إلى نقاشات بين الكاتب وبين مسئولي فتح في جنوب لبنان 1980-1981.(22/13)
لكن خصمه اللدود الدائم كان كامل الأسعد الزعيم الجنوبي القوي, والذي تولى رئاسة مجلس النواب تكرارًا من عام 1968 إلى 1984, اعتبر كامل الأسعد عن حق أن السيد موسى الصدر (كان يصر على رفض تسميته بالإمام) يشكل خطرًا على قاعدته السياسية, كما اعتبر -وهو محق على ما يبدو- أنه هدف السيد الوحيد (1), وبالمقابل فقد كان كامل بيك يمثل في نظر الإمام وأتباعه كل ما هو سيء في النظام السياسي اللبناني. ورغم أن الإمام الصدر لم ينتقد أحدًا بالاسم-إلا فيما ندر- غير أن أهداف حملاته لم تكن بحاجة إلى مزيد من الإيضاح, ففي رأيه أن كامل الأسعد إقطاعي سياسي, وهو رجل يستمد قوته السياسية من إتقانه لألاعيب السياسة الطائفية على حساب جماهير الشيعة, وهو أيضًا منافس قوي, شهدت أوائل السبعينات تنازعًا حادًا على السلطة بين المتنافسين، كانت إحدى ساحاته الرئيسية هي المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
عام 1967 وضع المجلس النيابي قانونًا (رقم 72/67) -صوت إلى جانبه كافة النواب الشيعة باستثناء واحد –ينشئ مجلسًا شيعيًا أعلى, يوفر للمرة الأولى هيئة لتمثيل الشيعة بشكل منفصل عن السنة, وحتى تأسيس هذا المجلس لم يكن يوجد منصب شيعي ينافس في مكانته ونفوذه منصب رئاسة المجلس النيابي, فالمحكمة الجعفرية التي تعالج الأحوال الشخصية للشيعة على القها كانت ذات شخصية دينية بالتعريف, وبالتعالي هامشية سياسيًا, رغم أن رئيسها حسين الخطيب نافس الصدر على رئاسة المجلس الشيعي الأعلى, ولقد أدى إنشاء المجلس المخول ربط المطالب الشيعية المتنامية في النظام السياسي إلى إدخال عناصر جديدة في حسابات توزيع السلطة السياسية.
__________
(1) الحوداث 1 آذار 1975.(22/14)
خرج المجلس إلى حيز الوجود فعليًا في 18 أيار 1969 لدى انتخابه الإمام الصدر رئيسًا لفترة 6 سنوات مما أكد وضعه كرجل الدين الشيعي الأول في البلاد, وواحد من أهم الشخصيات السياسية الشيعية, وما لبث المجلس أن تقدم بمطالب شملت الأصعدة العسكرية والاقتصادية والسياسية, بما في ذلك الإجراءات الكفيلة بتحسين الدفاع عن الجنوب وتوفير اعتمادات الإنماء والبناء وتحسين المدارس والمستشفيات وزيادة عدد الشيعة المعينين في الفئات الوظيفية الحكومية العليا.(22/15)
وظف الإمام منصبه الجديد خير توظيف, ففي ربيع 1970, وبعد غارة إسرائيلية وحشية على جنوب لبنان, نظم السيد الصدر إضرابًا عامًا للاحتجاج على الإهمال وعدم الاكتراث بالمشاكل التي يتعرض لها جنوب لبنان, وبالمخاطر التي تتهدده وبالكارثة التي يعاني منها (1). و ((للتعبير عن الوضع الذي يعاني منه السكان في الجنوب في مواجهة التهديد العسكري الإسرائيلي )) (2) وندد الإمام بموقف الحكومة المتمثل باكتفائها بلعب دور الجمعية الخيرية ووكالة الغوث, التي لا تمد يد المساعدة لموطنيها إلا بعد وقوع الواقعة, فتأتي مصحوبة بخيم الصليب الأحمر, بدلاً من السهر على تأمين الأمن داخل حدود البلاد, وبعد الإضراب بأسبوع واستجابة له, أنشأت الحكومة مجلس الجنوب برأسمال قدره 30 مليون ليرة, مخصص لدعم وتنمية المنطقة, إلا أنه لسوء الحظ فإن مجلس الجنوب سرعان ما اشتهر بوصفه بؤرة فساد أكثر منه مركزًا للمشاريع ذات المنفعة العامة (3)
__________
(1) بيان المجلس الشيعي الأعلى في 24 أيار 1970.
(2) David R. Smock and Audrey C. Smock. The Politics of Pluralism: A Comparative Study of Lebanon and Ghana. P. 141.
(3) يدعوه العديد من اللبنانيين بمجلس الجيوب بدلاً من مجلس الجنوب, نظرًا لشهرته في الرشوة وتوزيع الاعتمادات بطريقة غير قانونية, أصبح المجلس هدفًا هامًا تركز عليه أمل نشطها في عام 1980, عندما احتلت مكاتبه في صيدا تعبيرًا عن مطالبتها بضرورة أن تتوفر في إدارة المجلس صفات النزاهة والكفاءة.
في عام 1980, تولى حسين كنعان, أحد أوائل المقربين من السيد موسى الصدر رئاسة مجلس الجنوب, ثم استبدل بمحمد بيضون, أحد قادة حركة أمل, ويبدو أن المجلس عمل بقدر أكبر من النزاهة في ظل رئاسة هذين الرجلين.(22/16)
كان إنشاء المجلس نصرًا لموسى الصدر, إلا أن كامل الأسعد هو الذي سيطر على إدارته, وكما ذكر أحد المراقبين يصر البعض على أنه لكي يحصل المرء على مساعدة مجلس الجنوب فلا بد له من أن يعلق صورة كامل الأسعد في صدر داره (1).
لكن حرب التنافس على النفوذ السياسي والسلطة التي اتسمت بالمد والجزر, لم تضع أوزارها, بل سعى كلاهما إلى مواصلتها بزخم أشد في أوائل ومنتصف السبعينات, فمن أصل الـ 19 نائبًا شيعيًا في البرلمان حافظ 6 نواب على دعمهم لرئيس المجلس وبالتالي للواقع السياسي القائم, بينما تبنى الباقون مواقف مكملة على الأقل لمواقف الإمام. وفي 22 حزيران 1973 وقع 13 نائبًا على اتفاقية تعهدوا فيها بالسعي لنيل كافة حقوق الشيعة (2).
__________
(1) Sicking and Khairallah. The Shi'a Awakening. P. 110.
(2) المرجع نفسه ص 99. أما مدى رؤية خصوم الصدر له بوصفه مغتصبًا للسلطة التي هي من حقهم الشرعي, فيظهر من خلال هذا التصريح للنائب حميد دكروب العضو في كتلة الأسعد: (( لا الإمام الصدر ولا المجلس الشيعي الأعلى مسئول عن أمور الطائفة الشيعية, المسئول الوحيد هو كامل الأسعد)) الأسبوع العربي 16 شباط 1974.(22/17)
أما المطالب الشيعية التي سنبحثها في الفصل التالي فقد قدمت إلى رئيس الوزراء تقي الدين الصلح في تموز 1973 ثم زادت حدة التوتر بين الرجلين بنسبة كبيرة في أواخر 1973, ويعود ذلك جزئيًا إلى طرح مسألة تعديل إحدى مواد النظام الداخلي للمجلس الشيعي الأعلى بحيث تتيح تمديد فترة ولاية الرئيس حتى يبلغ الخامسة والستين بدلاً من تحديدها بست سنوات مما يعني أن عدو الأسعد اللدود سيحتفظ بالموقع السياسي المتميز الذي يتربع عليه. حاول الأسعد منع هذا التغيير, إلا أن المجلس الشيعي اعتبر أن سلطة المجلس النيابي (أقرأ رتبة) لا تخوله حق التدخل في هذه المسألة, وأقر التعديل طوال تلك الفترة كان محازبو الأسعد في داخل المجلس ينتقدون السيد موسى الصدر بحدة وفي آذار 1974 قام ((قبضايات)) رئيس المجلس النيابي بالاعتداء على النائب حسين الحسيني, وهو حليف مهم للصدر في البرلمان, وفي الشهر التالي أفيد عن اعتداء على المفتي الجعفري الممتاز الشيخ عبد الأمير قبلان, في داخل أحد مساجد الجنوب على يد أنصار الأسعد.
من الإنصاف القول أن الصدر قد ربح من المعارك أكثر مما ربح منافسه. كما حدث في كانون الأول 1974 عندما أجريت انتخابات فرعية لانتخاب نائب واحد على منطقة النبطية, حين تفوق المرشح الذي دعمه الإمام رقيق شاهين على رجل الأسعد بنسبة 2 إلى 1, في مباراة كانت تعتبر بشكل واسع اختبارًا لشعبية الإمام. إلا أن كامل الأسعد لم يعدم بعض الانتصارات أهمها السيطرة على مجلس الجنوب والحفاظ على نفوذه في دوائر الدولة وخصوصًا في الميدان الهام جدًا, المتمثل في الوظائف الحكومية.
من الإصلاح إلى الغضب:(22/18)
مع تدفق آلاف الفدائيين خلال عامي 1970-1971 أثر أحداث الأردن الدموية, تفاقمت مشاكل الشيعة الاقتصادية, الاجتماعية القائمة أساسًا بإضافة عنصر جديد إليها تمثل بالتدهور المتسارع للأمن في الجنوب, ورغم أن الجيش قام بمحاولات متواضعة للسيطرة على المناضلين الفلسطينيين, إلا أنه سرعان ما أصبح واضحًا أن الانقسامات السياسية والاجتماعية بين اللبنانيين تحول دون اتخاذ أي خطوات حاسمة على هذا الصعيد. وهكذا فإن اتفاقية القاهرة لعام 1969، التي كان المفترض أن تحد من نشاطات الفدائيين من لبنان وفيه, عملت بدلاً من ذلك على تشريع إقامة دولة رديفة, وهكذا انقلبت الأوضاع بسرعة مذهلة, فبينما كان المجلس الشيعي الأعلى يؤدي مهامه كأداة مفيدة للدفاع عن مصالح الشيعة (كما يراها موسى الصدر بالطبع) فقد فعاليته في وسط كانت السيطرة عليه تنتقل بسرعة إلى المليشيات والأحزاب غير المرخصة.
ونظرًا لعدم قدرة الدولة على حماية مواطنيها, أدخل موسى الصدر شعار الكفاح المسلح في حملته لتمثيل وتعبئة الشيعة, فصرح, أثر حرب تشرين الأول 1973, أنه لا يوجد خيار أمامنا سوى الثورة والسلاح (1) ثم أعلن في خطاب له في شباط 1974
في بدنايل, البقاع.
(( لا نريد أن نصطدم مع النظام, مع أولئك الذين يهملوننا, فنحن اليوم نرفع صوتنا في وجه الأخطاء المرتكبة بحقنا, سحابة الظلم التي لحقت بنا منذ بداية تاريخنا, وبدءًا من اليوم لن نحتج ولن نصرخ, يقولون: إننا متاولة, اسمنا الرافضون المخالفون الثائرون الخارجون على كل طغيان من أي جهة أتى ولو كلفنا روحنا ودمنا, والحسين وقف ضد أعدائه ومعه سبعون واليوم عددنا أكثر من سبعين وعدونا ليس ربع العالم كله.. لا نريد عواطف بل أفعال. لقد تعبنا من الخطابات والمشاعر والكلمات.
__________
(1) الأسبوع العربي 16 شباط 1974.(22/19)
ولقد كنت أكثر من ألقى الخطابات وأكثر من دعاكم إلى الهدوء.. ومن اليوم فصاعدًا لن أبقى صامتًا, وإن التزمتم الصمت فأنا لن أفعل, نطالب بحقوقنا كاملة ليس فقط في الوظائف بل بالمطالب العشرين التي تضمنتها العريضة ولن نقبل عنها بديلاً (1).
وليس هناك من شك أن خطاب موسى الصدر الأكثر شهرة هو الذي ألقي في 17 آذار 1974, في مدينة بعلبك, أمام جمهور قدره مراسل النهار بخمسة آلاف وسبعين ألفًا, وقف موسى الصدر أمام جمهور من مؤيديه معظمهم يحمل السلاح لينتقد الحكومة بشدة لفشلها في الاستجابة للحاجات الأساسية لشعبها, ولاحظ أن بعلبك مدينة العشرة آلاف نسمة ليس فيها إلا مدرسة رسمية واحدة تعود إلى أيام الانتداب الفرنسي, وأضاف أن المدرسة هي بداية الطريق, وهاجم الحكومة بعنف لتباخلها في صرف الاعتمادات المخصصة للتنمية ومشاريع تخزين المياه (2) وذكر أن آلاف اللبنانيين في الجنوب والشمال محرومون من هويتهم اللبنانية ومحرومون بالتالي من خدمات الدولة ناهيك عن صندوق الاقتراع, وندد بالجيش لعدم حمايته المواطنين في الجنوب وطالب معلنًا أن ((السلاح زينة الرجال)) كل الحاضرين أن يدلوا بقسم يتعهدون فيه بالسعي إلى تحصيل حقوقهم والاستشهاد دون ذلك, ولقد أخبرني عدد من مستشاري الصدر المقربين أن الإمام شعر بأنه لم يعد يملك أي خيار في مواجهة إهمال الدولة وضرب الشيوعيين والبعثيين على وتر الإحباط والغضب الشيعي وكون محاولاته المرنة السابقة لم تحظ بأي نجاح, هذا الوضع يلخصه بشكل جيد ذلك التساؤل الذي ورد في خطابه ((ماذا تتوقع الحكومة؟ ماذا تتوقع منا غير الغضب والثورة)) (3).
__________
(1) SICKING AND Khairallah. The Shi'a Awakening. Pp. 117- 118.
(2) النهار 18 آذار 1974.
(3) المرجع نفسه.(22/20)
كان هذا هو المهرجان الذي أطلق فيه الإمام الصدر حركته الشعبية, حركة المحرومين, التي تعهد أن يناضل عبرها حتى تتحقق مطالب المحرومين -أي الشيعة عمليًا- وترتفع كافة أنواع الظلم الاجتماعي عنهم, وكما يذكر كمال صليبي المؤرخ اللبناني البارز ((حتى أنه هدد بمهاجمة واحتلال قصور النافذين إن لم يستجب لمطالب الفقراء والمقهورين)) (1).
بعد ذلك بعام واحد, طغت الحرب الأهلية على جهود الإمام, وأصبح معروفًا في عام 1975، أنه تم إنشاء ميليشيا تابعة لحركة المحرومين (2). تلقت هذه الميليشيا -أفواج المقاومة اللبنانية والمعروفة باسم أمل- تدريباتها الأولى على يد فتح, ولعبت من ثم دورًا ثانويًا في معارك 1975و 1976, وبفعل طغيان القوة العسكرية لمنافسيه المتعددين في ميليشيات اليسار, وضعف الثقة نوعًا ما به نتيجة الازدواجية المزعومة لدوره في سقوط النبعة, في آب 1976, بيد الكتائب (3)
__________
(1) Kamal S. Salibi. Crossroads to Civil War Lebanon 1958- 1976. p. 78.
(2) المرجع نفسه.
(3) يرى المراسل البريطاني جون بولوك أن سقوط النبعة في 16 آب 1976 قد سهله تحول السيد موسى الصدر إلى السوريين بالاتفاق مع كامل الأسعد, الذين كانوا في ذلك الوقت متحالفين مع الكتائب, انظر: Death of a C ountry: The Civile War in Lebanon. Pp.172-173 انظر أيضًا رواية ماجدة سليمان التي لا تناقض رؤية بولوك بل تضع المسألة في إطار مختلف The Lebanese Communities: and Their Little Wars , Khamsin 10 [1983]: 13-20 guotation at p. 17; في بداية الحرب الأهلية, كان سكان النبعة يؤيدون المنظمات الفلسطينية واليسار اللبناني, الذي جعل قيادته المركزية في هذه المنطقة الاستراتيجية جغرافيًا, لكن مع استمرار القذائف بحصد المزيد من الأرواح والحصار القاسي الذي أطبق على الحي خفتت حماسة السكان وحل محلها الحقد والضغينة, فمنظمات اليسار الإسلامي – الفلسطيني لم تهتم كثيرًا بالمشاكل التي يعاني منها السكان في حياتهم المدنية اليومية (السكن والغذاء... إلخ) وحصرت نطاق عملها في المجال العسكري, وهكذا استثيرت المشاعر الطائفية الشيعية من جديد وتعمقت أكثر مع إنشاء السيد موسى الصدر لمستشفى الحي, الأمر الذي بدا متناقضا بشكل حاد مع المنظمات السياسية التي لم تكن تنفق المال إلا على شراء الأسلحة.
بعد ذلك بقليل, وعندما سقطت النبعة بيد الكتائب, لم يقاوم السكان الشيعة الهجوم, فهي معركة بين قوتي الاحتلال لم يشعر السكان الشيعة بأنها تعنيهم.(22/21)
تراجع الإمام الصدر إلى الجنوب مع حفنة من أتباعه الخلص ورغم استمرار نشاطه في إلقاء الخطب وتوعية أنصاره, بالإضافة إلى زياراته المتعددة إلى بلدان الشرق الأوسط, إلا أن سمعته الوطنية وشعبيته خفتتا بشكل جوهري بين عام 1976- 1978, ((يقال: إنه لعب دورًا هامًا خلال هذين العامين في إثارة المعارضة للشاة بين الشيعة الإيرانيين, إلا أن الطبيعة الخاصة لهذه النشاطات لا تزال نوعًا ما غامضة)).
وكما سبق لنا أن أشرنا, فإن حركة المحرومين والميليشيا التابعة لها أمل كانتا متحالفتين مع الحركة الوطنية وحلفائها من الفدائيين خلال السنة الأولى من الحرب الأهلية, إلا أن الصدر تخلى عن هذا التحالف لدى تدخل القوات السورية في حزيران 1976 لمنع هزيمة الجبهة اللبنانية التي يسيطر عليها الموارنة.
فقبل أربعة أشهر من التدخل السوري قبل الرئيس سليمان فرنجية بالوثيقة الدستورية واعتبرها الإمام قاعدة صالحة لتحقيق الإصلاح السياسي, وبدا أن هذه الوثيقة التي تدعو إلى زيادة حصة المسلمين في المقاعد النيابية, بالإضافة إلى تقليص بعض صلاحيات رئيس الجمهورية تشكل قاعدة لإعادة الهدوء إلى لبنان, فإذا أضفنا إلى ذلك إمكانية الهيمنة على منظمة التحرير بفضل التدخل السوري المرتقب لبدا أن هناك إمكانية فعلية لبداية جديدة, إلا أن فرصة إيقاف التذابح كانت فرصة ظاهرية لا فرصة حقيقية, فرغم خفوت حدة القتال في أواخر 1976 فقد استمر العنف, وبقي الإصلاح دستوريًا كان أم غير دستوري, طموحًا بعيد المدى.(22/22)
إن قدرة السيد موسى الصدر على تعبئة الشيعة قبيل اندلاع الحرب الأهلية لعبت دون شك دورًا طليعيًا في تزايد تسيس الشيعية, إلا أنه ينبغي أن نعيد التذكير بأن الإمام لم يقد سوى قسم من المتسيسين في طائفته, فالأحزاب والميليشيات المتعددة الطوائف هي التي جندت أغلبية الأعضاء الجدد، ولقد حمل عدد متزايد من الشيعة السلاح تحت راية هؤلاء لا راية أمل, ولقد عانى الشيعة أكثر من غيرهم, في الحرب كما في السلم, فتكبدوا عددًا من الإصابات أكبر بكثير من أي طائفة أخرى, ولعل النصر الأهم الذي حققه موسى الصدر هو تقليص سلطة ونفوذ النخب التقليدية الزعماء, لكن اندلاع الحرب الأهلية وما ارتبط بها من نمو للأحزاب غير المرخصة هو الذي أحال هذه الشخصيات السياسية إلى مجرد رموز لمرحلة غابرة, ذات دور هامشي في النظام السياسي اللبناني.
وبغض النظر عما كان الإمام فعلاً, ورغم حماس مؤرخيه أحيانًا, فهو لم يكن رجل حرب, ولقد أسر بالفعل إلى أحد معاونيه بأنه لم يسمع طلقة غضب واحدة, قبل مجيئه إلى لبنان, فسلاحه كان الكلمات والرموز, ونتيجة لذلك نجحت الحرب الأهلية في إعاقة جهوده السياسية حتى بدا أن العنف الذي غمر لبنان قد طغى على حضوره, ومن سخرية القدر أن يكون اختفاؤه في عام 1978 هو الذي ساعد على استرجاع الأمل والوعد الذي جسدته جهود الإمام الأولى.
الانبعاث الجديد لحركة أمل:(22/23)
سرعت ثلاث أحداث جرت في فترة العشرة أشهر الواقعة بين آذار 1978 وكانون الثاني 1979 من عملية تعبئة الطائفة الشيعية وساهمت في توطيد نفوذها السياسي في ظل قيادة أمل التي انبعثت فيها الروح من جديد, كان اسم حركة المحرومين قد بطل استخدامه, ففي آذار 1978 شنت إسرائيل غزوها الرئيسي الأول على لبنان, عملية الليطاني, وفي آب 1978, اختفى الإمام الصدر خلال زيارة غامضة له إلى ليبيا, وفي كانون الثاني 1979, أطاحت الثورة الإسلامية في إيران بالشاة, هذه الأحداث الثلاثة, هي التي أعادت الروح إلى حركة أمل ومكنتها من لعب دور لم يسبق له مثيل -وإن كان من المحتمل أن يكون عابرًا- في الحياة السياسية اللبنانية.
عملية الليطاني:
إن الغزو الإسرائيلي في عام 1978, الذي أدى إلى مقتل 1000 نسمة معظمهم من الشيعة وتدمير عدد كبير من المنازل في كافة أنحاء الجنوب, لم يكشف فقط عن فداحة الخسارة البشرية التي قد يلحقها الإسرائيليون بسكان الجنوب كنتيجة للوجود الفدائي المسلح, ولكنه أشار أيضًا إلى بدء الحملة الإسرائيلية الهادفة إلى تنفير الشيعة من الفلسطينيين الذين يعيشون في مناطقهم, فبعد عملية الليطاني, لم يعد جيش الدفاع الإسرائيلي مهتمًا بالحفاظ على حجة الانتقام الواهية, وانتقل إلى تنفيذ مخطط يرمي إلى وضع الفدائيين وحلفائهم في موقع الدفاع الدائم عبر سلسلة من الهجمات المتواصلة والغارات الجوية وعمليات الخطف ونسف المنازل, ولقد ساعد سلوك الفدائيين القاسي والمتعجرف والقصير النظر على أن تحظى الحملة الإسرائيلية بنجاح هائل, وأكد رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال رافاييل ايتان على المبدأ الذي اعتمدته بلاده قائلاً: ((سنستمر في ضربنا متى نريد, وأنى نريد, وإن مصلحتنا الذاتية هي العليا وهي التي تملي علينا عدم السماح للإرهابيين -أي الفدائيين- بالعودة إلى الشريط الحدودي)) (1).
__________
(1) Quoted in the Jerusalem Post, March 25, 1981.(22/24)
من النتائج الهامة لهجوم جيش الدفاع الإسرائيلي تذكير سكان الجنوب بشكل دائم بأن استمرار المقاومة الفلسطينية في المنطقة سوف يحبط أي محاولة لإنهاء حملة الإرهاب الإسرائيلية, فعاش القرويون, وخصوصًا سكان المناطق المتاخمة للشريط الحدودي الذي تسيطر عليه إسرائيل بواسطة حليفها ودميتها سعد حداد, في رعب مستمر من الغارات التي تشن على المتعاطفين مع الفلسطينيين أو على الذين يشتبه بانتمائهم إلى مجموعات لبنانية معادية لإسرائيل أو لحداد. وبالفعل فقد خلقت هذه الغارات هوة عميقة, إذ اكتشف القرويون أنهم بتبليغهم عن أخصامهم يتذوقون حلاوة الانتقام ويصفون حساباتهم القديمة, وهكذا عانى عدد كبير من الأبرياء من القبضة الغاشمة لجيش الدفاع الإسرائيلي, وفي هجوم نموذجي قام الإسرائيليون في كانون الأول 1980، مصحوبين باتباعهم اللبنانيين بالإغارة على خمس قرى جنوبية, فقتلوا ثلاثة عن عمد بدم بارد في قرية برعشيت, وجرحوا عشرة ودمروا أو ألحقوا أضرارًا بـ 14 منزلاً (1)كان لهذه الغارات عدة آثار مهمة.
أولاً: في المناطق التي يتمكن الإسرائيليون وعملاؤهم فيها من الانتقال بحرية, اضطر المناضلون المتعاطفون مع الحركة الوطنية أو منظمة التحرير إما إلى الرحيل أو التواري عن الأنظار مما خفض من إمكانية استقطاب عناصر جديدة تاركًا المجال مفتوحًا بشكل متزايد أمام حركة أمل التي اكتشف الإسرائيليون في وقت مبكر أنها حليف ضمني. ثانيًا: اكتشف القرويون الذين لم تكن لهم علاقة بالسياسة من قبل أن الطريقة الأفعل للحماية من زوار الفجر المتطفلين هي التعاطف مع حركة أمل تمنع غير المرغوب فيهم من دخول قراهم.
__________
(1) Monday Morning Beirut. December 22-28, 1980.(22/25)
ولقد بلغ الأمر بالسكان المحليين أن شكلوا في عدد من القرى والبلدات قوتهم الأمنية المحلية الخاصة, التي كانت تقوم بدوريات حراسة ليلية, ومع الوقت مالت هذه الميليشيات المنشأة للغاية المشار إليها أعلاه إلى الانضمام أو على الأقل إلى التعاطف مع حركة أمل. ثانيًا: كانت النتيجة النهائية للحملة بروز هوة واضحة تتسع باستمرار بين حركة المقاومة الفلسطينية وبين القرويين في الجنوب, كذلك شهدت أحياء بيروت الشيعية نفورًا متزايدًا شبيهًا بما كان يحدث في الوقت نفسه في الجنوب, فقد كان الفدائيون وحلفاؤهم يستنفذون بسرعة ما قوبلوا من ترحيب.
في أواخر السبعينات, أصبح من الشائع لدى زيارة القرى الشيعية أن تستمع إلى كافة أنواع الحكايات التي يكون فيها اللبنانيون هم الضحايا والفلسطينيون هم الأشرار, فقد تبنى حتى أكثر الفلاحين بساطة شعارات مناوئة للفلسطينيين, فبدلاً من إلقاء اللوم على الإسرائيليين -كما كان الحال في الماضي- أرجع القرويون في معظم الأحيان سبب مأزقهم إلى الوجود الفلسطيني, ولقد استمعت شخصيًا إلى عدد من الناس المتواضعي الحال وهم يغمغمون أن الفلسطينيين هم أصل المشكلة, بينما كانوا قبل عشرة سنوات فقط يعتبرون أن أصل المشكلة هو فلسطين, هذا التحول يمثل نجاحًا هامًا للخطة الأمنية الإسرائيلية يمكن فهمه بسهولة إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن المذهل في الأمر هو قوة مشاعر القرويين لا منبعها, إذ يمكن في الواقع إرجاع جذور هذا الموقف إلى أوائل السبعينات, عندما قام بعض الشيعة بمظاهرات تأييد للجيش اللبناني إثر اصطدامه بالفلسطينيين. (1)
__________
(1) انظر:and Smock , Politics of Pluralism , P. 142 and Salibi , Crossroads to Civil war, pp. 63-64.(22/26)
مع استمرار الأزمة في لبنان تزايدت عزلة الشيعة كطائفة, ففي السنوات الأولى من الحرب الأهلية, شكل الشيعة وقود الحرب لمعظم الفئات المتحالفة مع منظمة التحرير, وكانوا يوصفون غالبًا وعن حق بأنهم كشعب مهجر, الحلفاء الطبيعيين للفلسطينيين, إلا أنهم سرعان ما أصبحوا ضحايا الحرب الإسرائيلية الفلسطينية على إسرائيل فلسطين وجد الشيعة أنفسهم بفعل عملية ديالكتيكية لا تعرف الشفقة, مستهدفين من الإسرائيليين بسبب قربهم المكاني من الفدائيين, بينما قوبلوا بالريبة والاحتقار من الذين حاولوا الابتعاد عنهم, ويجب التشديد هنا, على أن الحملة الإسرائيلية لم تكن لتحظى بمثل هذا النجاح لو لم تتعزز بعدم شعبية الفدائيين (1).
أدت حملة جيش الدفاع الإسرائيلي المكثفة التي بدأت عام 1978 إلى إخراج المتناقضات والتوترات الكامنة والدفينة إلى السطح (2) وشكل تحول الشيعة عن الفلسطينيين أرضًا خصبة لنمو منظمة أمل وعدت بتلبية حاجة ملحة جدًا هي الأمن.
__________
(1) لرواية جديرة بالتنويه انظر David K. Shipler, Lebanese Tell of Anguish of living under the P. L. O. NEW York Timer , JULY 25, 1982.
(2) انظر: Walid Khalidi , Conflict and Violence in Lebanon Middle East. PP. 115-116.(22/27)
قام العديد من الشيعة, تدفعهم إلى حد كبير الرغبة في حماية عائلاتهم وبيوتهم وقراهم, إما بالانضمام إلى حركة أمل أو تأييدها بشكل فعال, وجرت في عامي 1980-1981 اصطدامات مهمة بين أمل من جهة والفدائيين وحلفائهم من جهة أخرى, سعى مسئولو فتح بدون نجاح يذكر أحيانًا, وادعوا أنهم يسعون في أحيان أخرى إلى ترتيب صلح بين أمل وبين أعدائها اللدودين (كجبهة التحرير العربية, التي تدعمها العراق, والاتحاد الاشتراكي العربي الذي تموله ليبيا) إلا أن أولويات الشيعة والفدائيين كادت تكون متعارضة تمامًا, وتوقع عدد كبير من الشيعة أثر أسبوع من القتال العنيف جدًا, الذي دار بين الفلسطينيين وأمل في ربيع 1982 نشوب حرب فدائية – شيعية في أية لحظة (1).
اختفاء موسى الصدر:
كان التطور الثاني الذي ساعد في إيقاظ حركة أمل هو اختفاء قائدها الإمام موسى الصدر فبعد وصوله إلى ليبيا في 25 آب 1978, اختفى الإمام في ظروف لا تزال غامضة, ويعتقد معظم قادة أمل أن الزعيم الليبي معمر القذافي هو المسئول عن مصيره, ولم تتبخر هذه الشكوك بمرور الزمن, كما تشهد بذلك سلسلة من الأعمال المعادية لليبيا كخطف الطائرات والأشخاص وغيرها من الهجمات على المسئولين والتجهيزات الليبية (2).
__________
(1) بناء على ملاحظاتي خلال إقامتي في لبنان 13 شهرا, 1980-1981.
(2) انظر: Augustus.R. Norton , Political Violence and Shi'a Famtionalism in Lebanon , Middle East Insight 3, no 2 (1983) 9-16 ; or New out Look: Middle East Monthly Israel January 1984: 19-21 , for an affreviated version.(22/28)
وصل السيد موسى الصدر برفقة اثنين من مساعديه الشيخ محمد شحادة يعقوب والصحافي عباس بدر الدين, إلى ليبيا في 25 آب 1978 في زيارة لم تحدد مدتها أو هدفها, ويقول أحد كبار معاوني الصدر إلى أن الزيارة تمت استجابة لدعوة من القذافي قبلها الصدر ليتسنى له الدعوة إلى عودة السلام إلى لبنان ومن أجل العمل في سبيل السلام (1), وكان الصدر قد زار- قبل وصوله إلى ليبيا- المملكة العربية السعودية والكويت والجزائر للسبب نفسه على ما يبدو.
__________
(1) رسالة من عضو في مجلس القيادة, أيار 1982.(22/29)
وبحسب رواية مصدر متعاطف معه, قرر الإمام مغادرة ليبيا في 31 آب 1978 أي عشية العيد الوطني الليبي بمناسبة ذكرى ثورة 1 أيلول 1970, بعد أن قابل خلال زيارته مسئول مكتب العلاقات الخارجية الليبية السيد أحمد الشحطي, والمفترض أنه قابل القذافي أيضًا, ويزعم الزعيم الزئبقي لليبيا أن السيد موسى الصدر قد غادر ليبيا على متن طائرة تابعة لشركة إيطالية متجهة إلى روما, إلا أن أتباعه ينفون ذلك ويدعون أنه لم يغادر ليبيا على الإطلاق, ولقد أيد تحقيق رسمي إيطالي نفيهم هذا (1). يقول أحد كبار مساعديه, وهو الذي أخبرني أنه حث الإمام على عدم الذهاب إلى ليبيا, أن الليبيين وضعوا ثلاثة أشخاص على متن الطائرة المغادرة إلى روما بالإضافة إلى حقائب الإمام ورفيقيه حتى يتمكنوا من الادعاء بأن الوفد قد غادر ليبيا (2)، وعلى أي حال فقد انقطعت أخباره منذ ذلك الحين, ورغم أنه بين الفينة والأخرى تتردد الإشاعات بأنه ما زال على قيد الحياة (3) إلا أن أغلب المراقبين الحياديين يعتقدون بأنه توفي, وهذا ما يعبر عنه أيضًا عدد لا بأس به من أتباعه عندما يتطرقون إلى الموضوع في مجالسهم الخاصة.
رغم كثرة الروايات التي تعلل أسباب اختفاء الإمام, لكن المؤكد أنها مسألة غامضة لن يتوصل أحد على الأرجح إلى الكشف بشكل نهائي عن ملابساتها, إلا أنه من المفيد أن نطلع على هذه الروايات؛ لأن كلاً منهما يخبرنا شيئًا عن المدى الذي وصل إليه البعض في استغلال هذه الحادثة الغريبة, إن لم يكن في استغلال مصير الإمام نفسه.
__________
(1) Al-Sadi? PP.61-62 الوثائق التي يحتويها الكتاب تبنت ادعاءات أتباع الصدر.
(2) مقابلة خاصة مع مسئول سابق, حزيران 1983.
(3) أشار تقرير صحافي مؤرخ في 9 أيلول 1980 إلى أن الصدر محتجز في معسكر عسكري ليبي قرب الحدود الجزائرية New York Times , Septomber 10, 1980 .(22/30)
فبحسب إحدى الروايات, كان القذافي قد أعطى 3 ملايين ليرة لبنانية حوالي المليون دولار للصدر الذي لم يستطع أن يقدم كشفًا بكيفية إنفاقها.
وتزعم هذه الرواية أن المبلغ وجد طريقه إلى أحد المصارف السويسرية وإن هذا هو السبب الذي حدا بالقذافي إلى إعدامه أو زجه في السجن, هناك عدة أسباب للتشكيك بهذا التقرير, أولاً: وزعت الأموال الليبية على عدد من المنظمات الفلسطينية واللبنانية كالاتحاد الاشتراكي العربي دون أي محاسبة أو حتى تساؤل. ثانيا: يقول رفاق الصدر المقربون جدًا أنه كان غارقًا في الديون (2 مليون دولار) لدى اختفائه, بنتيجة القروض التي كان قد وقع عليها شخصيًا لتشغيل المؤسسة المهنية في برج الشمال قرب صور, ولقد كشف التدقيق في حسابات الصدر الشخصية عن مبالغ متواضعة جدًا. ثالثًا: كان الصدر يعيش حياة بسيطة رغم أنها لم تصل إلى حد التقشف, ولا يوجد أي سبب يحمل على الاعتقاد بأنه ادخر مالاً كان من الممكن استخدامه في دعم حركته, فعلى أي حال كان كل ما يؤدي إلى نمو حركته يعزز بالنهاية من مكانته الشخصية, أضف إلى ذلك, إن المقابلات التي أجريت مع أشخاص يعرفونه بمن فيهم بعض أخصامه, لم تسفر عن أي اتهام له بالفساد, وأخيرًا يدعي أتباع الصدر أنهم أبلغوا القذافي عن استعدادهم, في حال تمكن من إقامته الدليل على أنه أعطى الأمام أي مبلغ من المال, للموافقة على سجنه أو حتى إعدامه, وكما قال أحد كبار مسئولي أمل بالحرف فيما يتعلق بقضية المال: ((فإننا نعتبر ادعاء القذافي بأنه أعطى الإمام أي مبلغ من المال ادعاء عبثيًا كاذبًا, ولقد أبلغنا القذافي أنه إذا تمكن من إثبات صحة ما يدعيه فإننا نوافق على سجنه أو حتى إعدامه, لكن القذافي اكتفى في رده علينا بالقول أن الإمام غادر ليبيا إلى إيطاليا, بينما تظهر كافة الدلائل أنه لم يترك ليبيا على الإطلاق)) (1).
__________
(1) رسالة من عضو في مجلس القيادة, أيار 1982.(22/31)
وتزعم رواية أخرى أن شاه إيران كلف جهاز مخابراته السافاك بتصفية الصدر, الذي لعب كما يبدو دورًا ثانويًا على الأقل في إثارة المشاعر المعادية للشاة في إيران, ثمة علاقة وثيقة جدًا تربط تقليديًا بين القادة الدينيين الشيعة في إيران وزملائهم في لبنان, خصوصًا وإن عددًا من العلماء اللبنانيين تدرب لفترة في مدارس إيران الدينية, كما فعل موسى الصدر لفترة قصيرة, أضف إلى ذلك, فإن الصدر لم يكن إيرانيًا بالولادة فقط بل تربطه صلة نسب عبر الزواج باثنين من أعداء الشاة الرئيسيين آية الله روح الله الموسوي الخميني وآية الله محمد حسن طبطبائي, (ابنة أخيه تزوجت من أحمد بن الخميني, وإحدى شقيقاته هي زوجة صادق طبطبائي ابن آية الله طبطبائي) مما يوفر بالتالي إمكانية سطحية معينة لتصديق هذه الرواية.
وفي الحقيقة, فعندما تشكلت قوات الطوارئ الدولية في لبنان اليونيفل في ربيع 1978, شاركت إيران بكتيبة -ذكر أنها كانت تعج بعملاء السافاك- وبحسب تقارير أحد المراسلين الصحافيين فإن الوحدة الإيرانية كانت مشغولة بتحديد وعزل أتباع الزعيم المناهض للشاه الإمام موسى الصدر (1) لكن رغم احتمال توفر الدافع وبالطبع الإمكانية المادية لتصفية الصدر إلا أن أتباع الإمام, والنظام الإيراني الحالي وكلاهما يملك الكثير من الدوافع التي تحملهم على وضع اللوم على الشاة, يصران على إلقاء التبعة على كاهل القذافي, وكما لاحظ مسئول إيراني في عام 1980 ((إننا نعتبر الحكومة الليبية مسئولة مباشرة عن الغموض الذي ما يزال يحيط بالمسألة)) (2).
__________
(1) Chirstian Science Monitor, April 17, 1978.
(2) Sadig Tabataba'I, wuoted in L'ORIENT-LE Jour, September 16, 1980.(22/32)
أما شهبور بختيار الذي سلمه الشاة الحكم لدى مغادرته إيران فيقدم بدوره برواية أخرى لملحمة الاختفاء, زاعمًا أن الشاة أرسل الصدر إلى لبنان لتعزيز مخطط يرمي إلى إنشاء دولة شيعية تضم إيران والعراق ولبنان, وإنهما اختلفا لاحقًا بسبب فشل الشاة في إرسال 500 ألف دولارًا كان قد وعد الصدر بها (تشير مصادر أخرى إلى أن هذا المبلغ كان مخصصًا لبناء مستشفى في صور) إلا أن شهبور يزعم أن المسئول عن اختفاء الصدر ليس الشاة بل الخميني الذي كان الصدر منافسًا قويًا وخطيرًا له, ويرى بعض المراقبين الحسني الاطلاع أنه حتى بعد انتصار الثورة الإسلامية فقد كان هناك خوف من أن يستولي الأمليون على الثورة.
والأمر المثير للاهتمام هو أن هذه الرواية تلقى قبولاً من أحد رفقائه الأقربين, وهو رجل كان على علاقة مباشرة بالتحقيق الذي أجري حول اختفاء الإمام, يرى هذا المصدر أن الإمام لقي مصرعه بنتيجة مؤامرة سورية ليبية إيرانية, ويضيف أنه بغض النظر عن الروابط الشخصية والدينية فإن كلاً من الخميني والصدر لم يكن يحب الآخر, (يشير شخص مطلع آخر إلى أن الخميني بدا غير مهتم عندما سأله صحافي مصري بارز عن سر اختفاء موسى الصدر).
وبحسب المصدر الأول فإن السوريين وبالتحديد وزير الخارجية آنذاك عبد الحليم خدام, هم الذين حثوا الإمام على قبول الدعوة الليبية, بالطبع يحتاج المرء إلى قفزة استهلالية جوهرية كي يصل إلى الحديث عن مخطط اغتيال متكامل, لكن قد تكون هناك دوافع أخرى وراء الترويج لمثل هذا الاحتمال (1).
__________
(1) عبر بعض النافذين الشيعة, والذين كانوا من رفاق موسى الصدر الأوائل, في أحاديثهم الخاصة عن احتمال أن يكون ثمة دور إيراني ما في اختفاء الإمام, لكن دعواهم قد تكون مجرد محاولة لإقناع مراقب أمريكي, بمدى استقلالية أمل عن الهيمنة الإيرانية وجعل الحركة بالتالي تحظى بمزيد من القبول أكثر لدى الجمهور الأمريكي.(22/33)
هناك رواية أخرى تربط اختفاء السيد موسى الصدر بنمو المعارضة للوجود الفلسطيني المسلح في جنوب لبنان وبالعلاقات المتوترة بين الحركة الشيعية وبين المنظمات الفدائية التي يدعمها القذافي على وجه الخصوص. يقول عزيز عمر الشنيب -ديبلوماسي ليبي سابق عمل في الأردن والتجأ إلى المملكة الهاشمية-: إن القذافي حاول فرض خط سياسي جديد على الإمام موسى الصدر وقد أدى به الاعتراض إلى الإعدام, وبحسب رواية الشنيب فإن المصير نفسه كان بانتظار ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية لانحرافه عن خط الرفض في مواجهة إسرائيل, ويذكر الديبلوماسي السابق أن ثلاثة من مساعدي القذافي (أحمد رمضان, وبو كبير حنيش وخليفة حنيش) هم الذين نفذوا الاغتيال, ويقول: أن جثث الإمام ورفيقيه دفنت جنوبي بلدة ساحلية تدعى سرت بالقرب من مشروع زراعي يديره أحد أبناء عم العقيد, ويدعي أن لديه ما يثبت ذلك من الوثائق, إلا أن هذه الوثائق لم تخرج إلى العلن حتى الآن (1).
ويدعي آخرون تابعوا هذه الملحمة أن القذافي كان يكره الإمام كرهًا شديدًا, وإنه تظاهر بالنوم خلال اجتماع جمعه به حتى يظهر عدم احترامه له.
ورغم أنه يبدو أن وجود يد للقذافي في تصفية الصدر أمرًا لا يخرج عن إطار شخصيته, لكن لنقل: إن محضر القضية لم يقفل بعد.
بينما يبقى لغز اختفاء ومصير الإمام الصدر مفتوحًا, إلا أن اختفاءه هذا كان ذو أهمية رمزية بالغة لدى حركة أمل, فلقد رفع العديد من شيعة لبنان شخصه إلى مقام الشهيد الوطني. وفي عام 1979 أخذت صورته مكانها في فسيفساء الملصقات الجدارية التي تشهد على ذلك الكم الهائل من القضايا والأحزاب في لبنان, أما صحيفة أمل فتضع صورة الإمام على صدر صفحتها الأولى وتعيد بانتظام نشر خطاباته وتعليقاته (المصحوبة عادة بصورة إضافية له).
__________
(1) الوطن العربي 30 أيلول – 6 تشرين الأول, وفرانس برس باريس الساعة 14.22 حسب توقيت جرينتش 18 تموز 1983.(22/34)
ويعرف أعضاء الحركة عن نفسهم من آن لآخر بوصفهم ((صدريين)) ويضع أغلب أعضاء الحركة الحديثي السن زرًا أو قلادة عليها صورة الإمام الصدر, وبل بعضهم يلبس قميصًا (تي شيرت) قطنيًا يحمل صورته, ففي بلد لا يوجد فيه سوى عدد قليل من الأبطال المعاصرين نال موسى الصدر درجة رفيعة من الشهرة.
ولو كان الإمام الصدر قد اختفى عن مسرح الأنظار بشكل هادئ, لكان من المرجح أن تكون سياسة الشيعة أشرس بكثير مما هي عليه الآن, فبينما يحيى أتباعه إنسانيته وتفانيه وتضحيته والتزامه العميق بمحرومي لبنان وبلبنان نفسه, يشير أولئك الذين يقللون من شأنه إلى تكيته في تغيير التحالفات, وإلى ذلك الدور المتعمد أو غير المتعمد الذي لعبه في خدمة مصالح ((الثورة المضادة)) ومؤسساتها -أي المكتب الثاني- وفي خدمة طموحاته السياسية, وبالتالي فلو كان واصل جهوده في لبنان لكان من غير المرجح أن يكون قادرًا على رأب أو تجاوز الهوة التي تفصله عن زعماء الشيعة واتباعهم من جهة وعن العديد من المجموعات المناصرة للحركة الوطنية اللبنانية من جهة أخرى, ورغم أن اختفاءه لم يلغ هذه الانقسامات, إلا أنه جعلها نوعًا ما غير ذات بال, فالعديد من الشيعة يجدون في إمام مختف رمزًا أصيلاً على الصعيد الثقافي يلزمهم التعبير عن القهر الذي فرض عليهم أن يعانوا منه, إن اختفاء الصدر قد غذى وتكامل مع مزاج سياسي, وشكل عاملاً مؤاتيًا لتبلور حركة شعبية هي حركة أمل.(22/35)
يسلم عدد ليس بالقليل من قادة أمل بأن إمامًا (مش موجود) هو بلا شك ذو قيمة أكبر من إمام موجود في تعبئة الجماهير سياسيًا, إذ أن اختفاء الإمام الغامض لم يؤد فقط إلى جعل انتقاد الحركة التي يمثلها أصعب بكثير, بل ومن الواضح أن غيابه يذكر بإيمان الشيعة بعقيدة الإمام الغائب, مما يعزز من أصالة المنظمة السياسية الوحيدة في لبنان, الشيعة بشكل كلي (1) وكما يسلم أحد مفكري أمل فإن اختفاء موسى الصدر هو أهم شيء حصل لحركة أمل.
الثورة الإسلامية:
كان لانتصار الثورة الإسلامية في إيران, بلا ريب, أثرًا قويًا جدًا على لبنان, فلقد شكل خلع الشاة في كانون الثاني 1979 نموذجًا مهمًا, يظهر ما الذي تستطيع أمة مؤمنة, حسنة التنظيم ومعبأة أن تنجزه في وجه الظلم والطغيان ناهيك عن أن النظام الجديد في طهران كان يعد بأن يكون مصدرًا مهمًا للدعم المادي والمعنوي.
وللروابط التي تربط شيعة جبل عامل وشيعة إيران تاريخ طويل ومتميز, فكما يذكرنا ميشال مازاوي: ((وفي الواقع أن الفصل المتعلق ببروز التشيع في إيران أثر قيام الدولة الصفوية في أوائل القرن السادس عشر لا يمكن كتابته دون الإحالة المباشرة إلى الدور الذي لعبه علماء عامليون من جنوب لبنان الذين توافدوا على البلاد ما أن سيطر النظام الجديد عسكريًا وسياسيًا)) (2).
وفي القرون التالية تلقى العديد من رجال الدين اللبنانيين تعليمهم الديني في النجف –العراق التي طغت على جبل عامل كمركز للتعليم الديني الشيعي. ثم ومع بروز قم كمركز للتعليم الديني أخذ عدد من العلماء الشيعة اللبنانيين يتلقى العلم فيها أيضًا.
__________
(1) تتحدث مطبوعات الحركة عن إخفاء الإمام الصدر.
(2) Michel M. Mazzaoui, Shi'ismand Ashtra in South Lebanon, in Ta'ziyah: Titual and Drama in Iran, ed. Peter J. Chelkowski. PP. 228-237; quotation at PP. 229-230(22/36)
لعب عدد من مسئولي أمل دورًا هامًا في الأحداث الأخيرة في إيران, كما تلقى عدد من الإيرانيين بمن فيهم ابن الخميني أحمد الخميني ونسيبه صادق طباطبائي تدريبهم العسكري في لبنان تحت إشراف أمل (1), ولعل المثال الأهم هو مثال مصطفى شمران: إيراني درس الهندسة في أمريكا, تولى إدارة المؤسسة المهنية في برج الشمالي حتى عام 1979, حين غادر إلى إيران ليصبح رئيسًا لمجلس الدفاع الأعلى في الجمهورية الإسلامية الجديدة وبينما ليس من غير المنطقي الافتراض بأن وجود هذا المسئول في مكان مناسب إلى هذا الحد قد ساعد بشكل هائل على توفير مساعدات جوهرية لأمل, إلا أن موته الغامض في عام 1981 الذي يقال: إنه من جراء حادث تحطم طائرة على الجبهة العراقية – يلقي ظلالاً من الشك على افتراض كهذا, ويعقتد العديد من اللبنانيين المؤيدين لحركة أمل أن موت شمران من صنع أشخاص أو فئات مؤيدة لنظام الخميني رأت في شمران منافسًا قويًا له, لذا فمن المرجح من أن تكون المعلومات المنتشرة بين الناس حول تدفق مساعدات مكثفة ومتواصلة من طهران إلى أمل معلومات إلى حد ما غير دقيقة, ولقد تعزز هذا الرأي بدعم الجمهورية الإسلامية بشكل مباشر منظمات إسلامية حقيقية في تنافس مباشر مع حركة أمل, وهو موضوع سندرسه بتفصيل أكثر في الفصل السادس.
من المهم أن نميز بين النتائج السياسية الخاصة بالثورة الإسلامية التي أنتجت ما أفضل أن أسميه ((بالنموذج الإيراني)) وبين الظاهرة الاجتماعية السياسية الأعرض المتمثلة بالتشيع أو الدين بشكل عام كملجأ للذين يجدون أنفسهم معزولين أو مستثنين من النظام السياسي والذين يجدون في الدين هوية جماعية مألوفة, وأداة للنضال من أجل تحقيق أهدافهم السياسية.
__________
(1) ومنهم أيضًا وزير الطاقة عباس كافوري فارد, ومحمد بيرافي سفير إيران لدى نيكاراجوا المجلة لندن, تشرين الثاني 5-11 – 1983.(22/37)
إن ظاهرة الانبعاث الإسلامي ليست ظاهرة جديدة ولا حتى متجانسة, ورغم تنبؤات الأكاديميين المبكرة بأن العلمنة سوف تبتلع ظاهرة الأحزاب السياسية الدينية (1), فقد أصبح من البين الآن أن هذه التنبؤات كانت في أحسن الأحوال سابقة لأوانها, فهذه الحركات كما توصلت في دراسة مقارنة لي عن حركات الاحتجاج الإسلامي في لبنان وسوريا, ليست جزءًا من كتلة خرسانية تزحف من مكان لآخر في الشرق الأوسط, لكنها تمثل خليطًا من التاريخ الطبيعي والبرامج والاحتمالات (2).
ففي سوريا مثلاً تمسك المسلمون السنة بعد أن فقدوا السلطة, بالإسلام كوسيلة لإضفاء الشرعية على حملتهم السياسية العنيفة غالبًا على نظام حافظ الأسد, أما في لبنان وحيث الطائفة هي جوهر السياسة فقد سعى الشيعة لنيل حقوقهم السياسية في حركة تضع هويتهم اللبنانية الشيعية على المحك. وفي الحالتين معًا فإن سبب اتخاذ الاحتجاج طابعه الديني يعود -جزئيًا على الأقل- إلى فشل الطابع العلماني.
__________
(1) Donald E. Smith. Religinon and Political Development, P. 124.
(2) Augustus R. Notuon , Militant Protest and Political Violence under the Banner of Islam. Armed Forcces and Society 9 Fall 1982: 3-19 quotation at P. 17.(22/38)
ومع ذلك لا يمكن إنكار القوة الإيحائية للنموذج الإيراني, إلا أن العديد من الباحثين قد فشلوا في ملاحظة أن الشيعة اللبنانيين العاديين, كالعديد من مسلمي الأمة يملكون نظرة مزدوجة إلى الثورة الإسلامية, فثمة من جهة اعتراف بأنها قد برهنت عما يمكن لجماعة مؤمنة معبأة أن تنجزه, ولكنها من جهة أخرى لا تعتبر بشكل واسع نموذجًا يصلح للتطبيق في لبنان, وباختصار, فإن الأهمية العاطفية للثورة الإسلامية أكثر أهمية من شكلها المؤسساتي, فالكثير من اللبنانيين الذين يمجدون النموذج الإيراني تراهم يدينون ويشجبون بصراحة ودون أي قيد المغالاة التي وقعت فيها الثورة (الإعدامات المتعجلة التعذيب وغيرها بالإضافة إلى الرؤية السياسية التي عفا عليها الزمن لعدد من شخصياتها الرئيسية) وحتى منتصف عام 1986 على الأقل لم يكن يوجد ما يشير إلى أن التيار المسلم الرئيسي (الشيعي والسني) يسعى إلى نقل الثورة الإسلامية إلى لبنان, وفي الواقع فإن العديد من المسلمين اللبنانيين يزدرون ويخشون في آن ما يصفونه أحيانًا بالخمينية, غير أن هذا لا ينفي أن العديد من الشيعة اللبنانيين ينظرون إلى لبنان كجزء من الأمة إلا أنه جزء ينبغي المحافظة عليه لا استبداله بالكل الإسلامي, يبقى أن النقطة المهمة هي أن الأحداث في إيران قد شكلت حافزًا مهمًا لتعبئة الشيعة سياسيًا, دون أن ترى فيها أغلبية الشيعة نموذجًا للتقليد.(22/39)
الفصل الرابع
نهاية حلف طبيعي
استفادت حركة أمل, كما أشرنا في الفصل الثالث, وإلى حد كبير, من عدد من الظروف التي لم يكن لها يد في نشوئها, إذ لم يكن ثمة ما يحتم بروز حركة أمل أو أي منظمة شبيهة بها, فلو أن موسى الصدر عاد من ليبيا, أو استمر حكم الشاه في إيران, أو كيف الفلسطينيون أنفسهم فقللوا من عدائيتهم وزادوا من تعاطفهم مع مضيفيهم اللبنانيين, لكانت السنوات الأخيرة قد أنتجت ربما أنماطًا مختلفة كثيرًا من النمو التنظيمي لدى الشيعة, فالحركة ما أنقذها من الدخول في طي النسيان, إلا إنتاجها للبطل والمثال والوعد بالأمن لشيعة لبنانيين تعبوا من دفع الدية وضريبة الدم نيابة عن الفلسطينيين والإسرائيليين, وغير الشيعة من اللبنانيين، يعرض هذا الفصل للطريقة التي شكل فيها المحيط الأمني القاعدة التي قامت عليها الحركة كمنظمة وكمحور للهوية الشيعية, وإذ يركز هذا الفصل على جنوب لبنان فإنه تجدر الملاحظة إلى أن الأحداث التي تجري فيه تنعكس على الجماعة الشيعية ككل, فالجنوب, بما هو جبل عامل, هو المركز السطحي EPicentre الروحي للجماعة, كما أن دور الروابط العائلية الكثيفة التي تربط بين الشيعة في كافة أنحاء لبنان يتسم بالأهمية نفسها, فهي تعمل على توليد درجة كبيرة من الاهتمام بأحداث الجنوب التي كانت في الغالب إما تمارين (بروفة) أو إعادات لأنماط عنف مشابهة في ضواحي بيروت.
أمل كأداة لأمن الجماعة:(23/1)
رغم أن تباعد مصالح الفدائيين والشيعة لم يكن -في أواخر الستينات- بالتطور الجديد, إلا أن الشيعة لم يبدأوا إلا في تلك الفترة بالانخراط في معارضة منظمة للوجود الفلسطيني المسلح, فالأغنياء والفقراء, والمتعلمون والأميون, والمدنيون والريفيون, وجهوا جميعًا عدائيتهم نحو الفدائيين, فلاموهم على تعريض عائلاتهم ومنازلهم وأرزاقهم للخطر الدائم, ورغم أنه من المؤكد أن هناك عدة متهمين آخرين بالتورط في المأساة اللبنانية إلا أن الفدائي هو الذي بدا للعيان, وهو الذي وقع اللوم عليه.
حتى قيادة أمل التي ظلت لوقت طويل تبذل قصارى جهدها للحفاظ على مظاهر العلاقات الودية مع الفدائيين وحلفائهم, كانت تتجه وبشكل متزايد إلى اللجوء إلى النقد العلني لحلفائها السابقين, والملاحظات التالية التي أدلى بها نبيه بري (الذي مارس مهام رئيس الحركة منذ أوائل 1980) في أوائل 1982, حول الثمن الفادح الذي دفعه الشيعة, تعكس مزاج الجماعة بدقة ((إن شعب الجنوب بمن فيهم الشيعة, أعطى القضية الفلسطينية أكثر مما أعطاها كافة العرب مجتمعين, لقد أعطوا القضية أرضهم وأبناءهم وأمنهم وحقولهم – أعطوها كل شيء باستثناء شرفهم وعزتهم وكرامتهم- )) (1) إلا أن تعليق بري كان لا يزال يحتفظ بضبط النفس إذا ما قورن بالآراء المتشددة التي كانت تتردد في قرى الجنوب في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات.
__________
(1) Lydia George interview with Nabih Berri, Monday Mornindg , February 1-7, 1982, trans , by FBIS , Daioy Raport-Middle East and Africa, February 10, 1982, PP. G1-G6: quotation at P.G 4.(23/2)
فالقروي, الذي كان من المؤكد أن لهجة بري هي لهجة ملطفة في نظره, كان يضع المسألة في إطار مباشر, أعطينا الفلسطينيين كل شيء ولم يعطونا بالمقابل سوى الإهانات والجثث ودروسًا في الفساد, ولقد قال لي أحد المخاتير تعبيرًا عن احتقاره لمنظمة التحرير الفلسطينية: ((الثورة الفلسطينية بتصير التجارة الفلسطينية بلبنان)) إشارة إلى عدم إخلاص المنظمة -بحسب رأيه- لأهدافها المركزية, نفذ صبر الناس, ومع كل حادث وكل صدام وكل إهانة كانوا ينشدون أكثر نحو حركة شعبية وعدت بتحقيق الأمن للفلاح والعامل والمزارع والمعلم.(23/3)
إن ميلنا للتفكير وفق منشورات بنائية مألوفة, قد جعل الكثير من الدراسات الأولى تميل إلى التشديد على أن الشيعة قاموا ببساطة بتنظيم أنفسهم في ميليشيا تتنافس مع الميليشيات الأخرى المتواجدة بكثرة على الساحة اللبنانية (1), إلا أن نظريات كهذه تنقص من شأن حركة أمل فهي لم تكن كقوة عسكرية بمستوى خصومها, حتى إن قادتها أنفسهم تمكنوا بسرعة من اكتشاف ضعفها العسكري: ((إذا كان المقياس هو السلاح والذخيرة والمعدات فنحن, على الأرجح الحزب الأضعف في البلاد والأرجح أن تكون أصغر منظمة أحسن تسلحًا وأفضل تجهيزًا منا, إلا أن قوتنا تتمثل في قدرتنا على جعل الناس (الجماهير) ينفذون أوامرنا, وهم يفعلون ذلك لأنهم يعلمون أننا إنما نستجيب لمطالبهم)) (2). إذا كانت ملاحظة بري هذه تبالغ إلى حد ما في تقدير ضعف أمل العسكري, إلا أنها تلقي الضوء على قوة الحركة الحقيقية وهي قدرتها على تجاوز القوة العسكرية المجردة وامتلاكها بالتالي لنفوذ سياسي جوهري في لبنان.
__________
(1) انظر مثلاً: John Yemma, Lebanon's Shiite Muslims Flex Military Muscles , Christian Scionce Montor, January 12, 1982 Thomas L. Friedman , One Civil War Is Over, Others Fast Multiply, New York Times , May 23, 1982: The Rise of Yet Another Enemy for the Palestinians Emonomist , May 1, 1972; and Schehrimade Faramarri, Shiites Get Set Hope , Nep Force Arisosin Lebanon. Sunday Record Middle tonn; N. Y. February 28, 1982 CF. Augusts R. Norton. Lebanon's ShIITES New York Times , April 16, 1982.
(2) Nabih BERRI INTERVIEW, Febrtary 1-7, 1982, P. G. 2(23/4)
في الجنوب, الذي أمد أمل بالكثير من قوتها, وتعهد نموها, كان عدد أعضاء الحركة الفعليين, -بالتعارض مع عدد مؤيديها- ضئيلاً بشكل غير معقول, ففي إحدى القرى الشيعية الرئيسة لم يزد عدد أعضاء الحركة عن التسعين عضوًا بينما بلغ عدد الذكور العاملين 1500 رجلاً, وتراوح عدد الأعضاء في قريتين مهمتين أخريين بين 30 و 40 عضوًا, ورغم ذلك اعتبرت الحركة هذه القرى معاقل قوية لحركة أمل, وليس المقصود هنا أن هناك تضخيم لأهمية الحركة بل علينا أن ننظر إلى أمل بمعناها الأعرض كحركة سياسية ينتمي إليها الشيعة فكريًا إن لم ينتسبوا إليها رسميًا.
يتماهى الناس مع حركة أمل في عدد ليس بالقليل من القرى الجنوبية, لكنهم لا يملكون أي رابطة تنظيمية تربطهم بها, بالطبع يرى عدد غير قليل أيضًا من القرويين أن أحسن سياسة هي اللا سياسة, وهو شعور يعبر عنه بشكل جيد المثل الشيعي الذي يقول: ((رأي البقر أحسن من سياسة البشر)) إلا أنه من المستحيل بشكل عام تجنب السياسة خصوصًا في أشكالها العنيفة.
وهكذا كان من الشائع جدًا أن تصادف قرية جدرانها مغطاة بالملصقات التي تمجد الإمام الصدر وآية الله الخميني, ومختارها وأعيانها وفلاحيها يجمعون على تبني الشعارات التي تمثل أمل خير تمثيل, ثم تكتشف أن مسئولي أمل, الذين يملكون كل الحق في أن يدعوا أن لديهم عددًا كبيرًا من الأعضاء في تلك القرية, ليس باستطاعتهم أن يدَّعوا وجود عضو واحد مسجل رسميًا, فعندما يقول القروي: ((أنا مع حركة أمل)) فإنه إنما يؤكد على أن رسالة أمل الشعبية تضرب على وتر حقيقي وأساسي في وجدانه.(23/5)
وبينما دعت قيادة أمل إلى إعادة بناء النظام السياسي اللبناني تركزت أهداف القرويين على مسألة محلية هي بكلمة واحدة ((الأمن)) وهذا ما دفعهم إلى تأييد حركة شعبية تدعو دون هوادة إلى تمكين الشرعية ومؤسساتها -وخصوصًا الجيش- من ممارسة دورها. وإلى تأييد النضال الفلسطيني في فلسطين لا في لبنان, وإلى نزع السلاح من الميليشيات وقطاع الطرق وشذاذ الآفاق المتغلغلين في كافة أرجاء البلاد (1).
هذه القرى والبلدات كانت تمد أمل بالكثير من قوتها, إلا أنها كانت في الوقت نفسه منبع ضعفها, فبينما شكل التجار والطبقة الوسطى الزراعية الصغيرة الحجم والمهاجرون مصدر دعم مالي مهم للحركة, فمزارعو الحمضيات الأغنياء مثلاً (أصحاب البساتين على الساحل الجنوبي خصوصًا المنطقة الواقعة جنوبي مخيم الرشيدية للاجئين) ساهموا بحماس في دعم الحركة, إلا أنهم باستثناء حضور بعض الاجتماعات المتفرقة, (وحضورها بحد ذاته أمر ينطوي على خطورة) فإن مشاركتهم الفاعلة في نشاطات أمل خارج نطاق قراهم كانت شبه معدومة وبما أنه تسنى لي حضور عدة لقاءات جمعت بين قادة في حركة أمل وبين المتبرعين فبوسعي أن أشهد على الطبيعة البدائية للهيكلية التنظيمية للحركة في عامي 1980-1981.
__________
(1) لوصف الوضع في لبنان في عام 1981-1982 انظر: Augustus R. Norton, Lebanon's Shifting Political Landscape , New Leader March 8, 1982: 8-9: idem , The Violent Work of Politics in Lebanon Wall Street Journal , March 18, 1982; and William Haddad , Divided Lebanon, Current History January 1982: 30-35.(23/6)
تعتمد أمل على قاعدة شعبية تمتد على رقعة جغرافية متنوعة وحدتها الرئيسية هي القرية, وبالتالي فإن حركة أمل لم تكن قادرة دائمًا على تركيز قوة عسكرية أو سياسية رادعة, مما دفعها -وفي الجنوب بشكل خاص- إلى تبني أسلوب دفاعي والمؤكد أن الوضع استمر هكذا طوال عام 1981 (1). وباختصار فإن أمل كانت تعاني من نقص حاسم؛ إذ تضطر لمواجهة خصومها على أرضهم ووفق شروطهم ولم تبدأ الجاهزية العسكرية لقوات الحركة بالاقتراب من مستوى جاهزية أعدائها إلا في أوائل عام 1982.
من جهة أخرى لا يتسم الحديث عن حركة أمل واحدة بالدقة, ففي كل قرية يهيمن فيها المتعاطفون مع أمل ثمة حركة أمل منفصلة بذاتها, والنتيجة منظمة تدعي عن حق بأنها تلقى تأييدًا واسعًا, إلا أنها لا تتمكن في الغالب من ترجمة قوتها المؤثرة إلى سيطرة فاعلة لا على أعضائها ولا على نشاطاتهم, ويشير هذا الرأي الثاقب لأحد قياديي حركة أمل البارزين إلى هذه الظاهرة إذ يقول: ((لا تنسوا أن أمل حركة. وبالتالي فإنه لا يمكن إعطاء أوامر مباشرة, بل يجب على القيادة أن تكون مزيجًا من الإقناع وتوفير القدوة, وما شابه ذلك)) (2).
__________
(1) حتى لا يخرج القارئ بانطباع خاطئ يجب أن نلاحظ أن أعضاء الحركة لم يتوانوا عن القيام بأعمال هجومية, عندما يتسنى لهم ذلك, كذلك لم تمتنع الحركة عن اتخاذ إجراءات عملية ضد أخصامها, ففي 18 شباط 1981 جرت محاولة لاختطاف أحد معارضي أمل السيد أحمد شوقي الأمين, من بلدة مجدل سلم الجنوبية, أما في بيروت فقد كانت أمل هي البادئة باللجوء إلى الاصطدام في عدد من المناسبات.
(2) مقابلة خاصة مع أحد عضاء مجلس القيادة 1981.(23/7)
حافظت البنية التحتية للحركة على تخلفها رغم توفر المال والسلاح فلقد صرف عدد من قادتها الأكثر كفاءة جل وقتهم في إخماد الصدامات المسلحة ومحاولة الحفاظ أقله على وهم علاقة أخوة مع الفئات الأقل عداء, بشكل علني في القوات المشتركة, (قيادة عسكرية خاضعة لسيطرة فتح, تجمع بين مقاتلي منظمة التحرير ومقاتلي الحركة الوطنية اللبنانية) كذلك تعرضت جهود بناء التنظيم لعقبات إضافية وذلك ببساطة؛ لأن عددًا من القادة الرئيسيين اضطر للبقاء في عمله طلبًا للرزق عادة بحكم الضرورة, وشكل الأمن الشخصي همًا رئيسيًا آخر, إذ كان العديد من القادة, يعيشون في قرى آمنة في داخلها, إلا أنها متاخمة لمواقع عسكرية تابعة للقوات المشتركة (كان أحد القادة السياسيين في الحركة يعيش في بيت يبعد مائتي متر عن مركز عسكري يبدو أنه اختير في موقعه بالذات لإرهابه ومراقتبه. ولقد اكتشفت بنفسي في حزيران 1981 مدى تعرض هذا الرجل للخطر عندما حصارنا الفدائيون, في منزله -لاعتقادهم الخاطئ بالطبع- بأننا قد تورطنا في عمل تخريبي ما. بعد تلك الحادثة بعدة أشهر قامت عناصر من القوات المشتركة بطرده وإحراق منزله).
لم تكن الحركة على هذا القدر من الضعف في ضواحي بيروت وخصوصًا في معقلها القوي في الغبيري, حيث سهل تركز الوجود الشيعي والطبيعة المتكاملة في حد ذاتها للأهالي, نمو الحركة ونبذ الغرباء (تباهى أحد سكان الغبيري بأن اليساريين والفدائيين لا يجرءون على دخول المنطقة) وبالتالي ففي بيئة يسيطر عليها العنف, كما هو الحال في لبنان, فإن مدى السيادة الجغرافية لمجموعات السكان الشيعة هو الذي يحدد إلى حد كبير مدى نمو حركة أمل الرسمي أو الجماهيري.(23/8)
أما في الجنوب, ونتيجة لغياب التنظيم المتكامل, فقد كان اسم أمل أحيانًا ملكًا لمن يشاء استخدامه, فهو بالنسبة إلى العديد من القرى الشيعية, مجرد مرادف لأي نشاط جماعي في القرية يهدف إلى الدفاع عن النفس, وكان هذا بحد ذاته دليلاً مقنعًا -وإن ملتبسًا- يشير إلى مدى رؤية القرويين للحركة كرمز (عنوان للتنظيم الشيعي) وهكذا جرى تبني اسم حركة أمل في بضعة حالات على الأقل, من قبل شباب محليين وجدوا أنه يوفر لهم ولنشاطاتهم شرعية معينة ما كان متاحًا الحصول عليها لولاه, زد على ذلك أن العديد من الذين انتموا في السابق إلى جبهة التحرير العربية أو إلى العديد من المنظمات الشيوعية الأخرى استكشفوا اتجاه الريح ووجدوا أن الوقت مناسب لتغيير اليافطة, ولقد كان هذا الاتجه قويًا إلى درجة دفعت بالحركة في ربيع 1981 إلى التوقف مؤقتًا عن قبول أي انتساب أقله في الجنوب حيث كان من المعروف بشكل عام -وهو اعتقاد له ما يبرره- أن الحركة قد نظمت عددًا من العناصر المشكوك في ولائها وخلفيتها. (ولكي لا نضلل القارئ فإنه من الضروري الإشارة إلى أنه بينما كانت حركة أمل في أوائل الثمانينات تنمو على حساب أحزاب ((اليسار)) فإن الحزب الشيوعي اللبناني ظل يقوم بحملات تنسيب ناجحة حتى بدء الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982).
ليست الخصائص والتطورات المشار إليها أعلاه أمرًا مفاجئًا, كما أنها ليست تعبيرًا عن خلل وظيفي بالنسبة إلى تنظيم ناشئ ذي قاعدة مجتمعية كحركة أمل, إلا أن بنيتها التحتية الضعيفة جعلتها عرضة لأن يقاسمها القادرون على استخدام الرموز نفسها -أي رجال الدين- ولاء الناس لها.(23/9)
خلفت موسى الصدر في قيادة أمل قيادة غير دينية, ورغم أنها حفظت على اتصالاتها بكبار رجال الدين, إلا أنه لا توجد دلائل على مشاركة علماء دين في أعمال المتابعة اليومية, إذ طالب البعض في داخل الحركة بتكامل أوثق مع رجال الدين, لكن يبدو أن هؤلاء لم يتمتعوا بتأثير يذكر قبل 1982 (1), ومع ذلك يوجد من الناحية الأخرى ما يشير إلى أن الشيخ محمد مهدي شمس الدين نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى, (فالإمام هو الرئيس رسميًا) نجح في بداية العام 1982 في منافسة نبيه بري على قيادة حركة أمل, هذا الصراع على السلطة الذي توقف بفعل الغزو الإسرائيلي ما لبث أن تجدد كما سنرى بعد الغزو.
على الصعيد المحلي, كان عدد من رجال الدين المتعاطفين مع أهداف أمل الأمنية يترددون في التسليم بدور قيادي لقيادتها الدنيوية, ولقد لعب هؤلاء, مستلهمين على ما يبدو دور رجال الدين الإيرانيين, دورًا مباشرًا في تنظيم نشاط شعب الوحدات التنظيمية أمل في القرى الحافلة بالنشاطات الميليشياوية والأمنية, حدثت حالة طريقة من هذا النوع في قرية صديقين الجنوبية, إذ استشاط شيخ البلدة غضبًا, بعد أن قصفت عناصر مؤيدة للعراق منزله وقرر أن يرد بنفسه متجاهلاً ممثلي الحركة في القرية, فوجه ميليشيا البلدة والظاهر أنه قادها بنفسه, وعندما حاول مسئولو الحركة أن يردوا الشيخ المنشق إلى بيت الطاعة, رفض أن يسلم بسلطتهم, ولم يبدأ في التعاون معهم إلا بعد أن قام الشيخ محمد مهدي شمس الدين بإقناعه بناء على طلب من قيادة الحركة ولكنه فعل ذلك وهو بادي التذمر. وقال مزدريًا حق المسئولين اللا دينيين في تمثيل الأهالي وتوجيه نشاطاته: (( أنا صدِّيقين وصديقين لنا)).
البرنامج الأمني للحركة:
__________
(1) Le Matin Paris. May 28, 1982.(23/10)
مع التعدد الهائل للميليشيات والمجموعات السياسية في لبنان أصيبت البلاد بالتخمة من جراء تعدد البرامج السياسية الحافلة بوصفات العلاج لكافة الأمراض (1) وقبل أن نعرض لمساهمة أمل في هذا الكم المجنون الحافل بكل أنواع المقترحات السياسية البناءة منها والمبتذلة, لا بد لنا من عرض الأسباب التي تجعل من تقديم البرنامج السياسي لأمل أمرًا في غاية الصعوبة.
من البديهي جدًا في أي حرب أن تكون المثل العليا التي يحملها المتحاربون من أولى ضحاياها, والحرب اللبنانية, التي بدأت في عام 1975, لم تشذ عن هذه القاعدة, إلا في كون مثل المتحاربين قد انطفأت بسرعة مذهلة.
__________
(1) حول مواقف مختلف الأفرقاء قبل حزيران 1982 انظر: MONDAY Morning issues of December 22-28 , 1980; December 29-January 4, 1981; January 12-18, 1981; January 19-25, 1981; and January 26- February 1, 1981.(23/11)
وبينما كان بوسع كل ميليشيا شاركت في الحرب أن تدعي -إلى حد أكثر أو أقل- أنها تملك تصورًا سياسيًا عقلانيًا, إلا أن منطق أو لا منطق النزاع سرعان ما أحال الأساس النظري الذي تستند عليه الصدامات والحملات الفردية إلى نوع من البراغماتية العسكرية, تبدأ الحروب بأهداف كبيرة ولكنها تخاض بأهداف صغيرة, وفيما التذرع بالضرورة التكتيكية لبعض الاصطدامات يمكن أن يكون موضع نقاش, خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار ذلك العدد الهائل من حوادث العنف التي تشعلها إهانة ما على حاجز تفتيش, أو قتل أو خطف الأصدقاء والأقارب أو حتى الفرصة المتاحة للسطو والنهب, (1) لكن الحرب تصبح مبرر ذاتها, ولا يملك المشتركون فيها وقتًا أو ميلاً للتفكير في مستقبلهم الجماعي, وبالتالي فلا بد في محيط لا سوي كالمحيط اللبناني للمقترحات الداعية إلى إزالة الظروف التي سببت الحرب أن تنتظر غالبًا حتى يستنفذ المتقاتلون بعضهم أو حتى يتم التوصل إلى نتائج حاسمة (أي النصر أو الهزيمة).
من المهم أن نعرف أن حركة أمل كانت تعمل قبل غزو 1982 على تحقيق برنامجين متكاملين, الأول ضمني ينكره مسئولوها علنًا, والثاني صريح ومحدد في برنامجها, وقبل أن ننتقل إليه في الفصل الخامس لا بد لنا أن نتعرض لبرنامجها الضمني أو المخبأ.
__________
(1) لرواية شخصية عن حجم الحرب الأهلية انظر: Lina Mikdadi Taffara, Survival in Beirut: A Diary of Civil War , trans , NADIA Hijab.(23/12)
كما رأينا, فإن الدافع الأولي على الصعيد المحلي للانضمام للحركة أو تأييدها كان ببساطة ووضوح, التخلص من الوضع الأمني السيء الذي يخيم على معظم أرجاء لبنان, وكما دل تزايد حدة الصدامات بين أمل والقوات المشتركة في عامي 1981-1982, على أنهم اعتبروا أن التهديد الرئيسي لأمن المجتمع الشيعي إنما يصدر عن الفدائيين وحلفائهم في الحركة الوطنية اللبنانية (1) وبما أن وجود المقاتلين الفلسطينيين وحلفاءهم كان يرى بوصفه دعوة لقيام إسرائيل بهجماتها فقد كان من المفهوم أن يعارض القرويون وجود القواعد الفلسطينية في مناطقهم, أكثر من ذلك لم يقتصر الأمر على الخوف من خطر الهجمات الإسرائيلية, بل غالبًا ما كان وجود الفلسطينيين في مكان قريب يعني مصادرة الأراضي الزراعية والمشاعية والمنازل, ناهيك عن الاعتداءات الجسدية والإهانات الدائمة, (هذه الآثار الجانبية الكريهة لم تقتصر بالطبع على المناطق التي احتلها الفدائيون بل كانت إحدى أعراض انتقال سلطة القمع إلى المجموعات المسلحة والميليشيات في كافة أنحاء لبنان).
__________
(1) ملاحظة: لم تبدأ تصريحات مسئولي أمل العلنية بالتطابق مع تقديراتهم الخاصة إلا في أوائل عام 1982.(23/13)
أملت الهجمات الإسرائيلية المتتالية والقصف المدفعي والغارات الجوية على الفدائيين نشر قواعدهم في أماكن متفرقة حتى لا يصبحوا هدفًا أكثر سهولة للمدافع الإسرائيلية, إلا أن هذا الانتشار أدى إلى تزايد استياء وإصرار الذين دفعوا أغلى ثمن القرويين, وبالتالي فإن حركة أمل لم تفعل مع ازدياد قوتها, أكثر من زيادة تقييد حرية الفدائيين في الحركة مما جعلهم بالتالي أكثر عرضة من أي وقت مضى للهجمات الإسرائيلية, وهكذا فإن برنامج أمل الضمني الهادف إلى منع نفاذ الفدائين إلى المجتمع الشيعي لم يكن ليؤدي إلا إلى إضعافهم, فليس من المستغرب -والحال هذه- أن يدرك مسئولو أمل من جهة وقادة التنظيمات في القوات المشتركة من جهة أخرى النتائج المترتبة عن نمو الحركة.
فعمدت المجموعات التي تتعرض للخطر المباشر أكثر من غيرها إلى شن حملة هدفت إلى إعاقة الحركةوصولاً إلى تصفيتها, وقد كانت الجبهة العربية على وجه التخصيص, بارتباطها الوثيق بنظام صدام حسين في بغداد وكرهها العميق للحركة الموالية لإيران -إضافة إلى المنظمات الشيوعية المختلفة المنافس الرئيسي للحركة على استقطاب العناصر – من أشد المعادين لأمل تصلبًا.(23/14)
إذ أدرك مسئولو فتح الخطر الذي يمثله تنامي قوة حركة أمل دعوا في الوقت نفسه إلى ضرورة الحفاظ على علاقة جيدة أقله ظاهريًا مع الحركة الأهم في الطائفة الشيعية, حاولت فتح تجنب أي عداء مكشوف مع أمل, إلا أن مسئولي الأخيرة سارعوا إلى الإعراب عن عدم ثقتهم بنوايا فتح, إذ رأوا أنها تحرض على القيام بنشاطات معادية للحركة رغم أنهم لم يغفلوا عن أهمية الدور المؤقت الذي يمكن أن تلعبه كبرى منظمات منظمة التحرير الفلسطينية كواسطة, وفي الواقع كانت فتح بلا شك المنظمة الأبرز في القوات المشتركة والوحيدة القادرة على محاولة فرض النظام على خصوم حركة أمل, برزت هذه الأهمية ولو مرحلية لحركة فتح في أواخر آذار 1980, عندما نشب قتال ضار في شوارع بيروت بين أمل من جهة والجبهة العربية والتنظيم الشعبي الناصري من جهة أخرى, هذا القتال الذي خلف وراءه 27 قتيلاً, أثار ياسر عرفات زعيم فتح ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية, إلى الحد الذي دفعه إلى مغادرة دمشق قاطعًا مشاركته في المؤتمر الرابع لحركة فتح والعودة إلى بيروت ليتوسط في حل النزاع.
في صيف 1980, كان يمكن تمييز اتجاهين داخل حركة أمل فيما يتعلق بالموقف من الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان: رأى الاتجاه الأكثر اعتدالاً انطلاقًا من التعاطف مع القضية الفلسطينية والاعتراف بأن الوجود الفدائي لن يصل على الأرجح إلى نهايته, بواسطة حل سلمي, في وقت قريب, وإن أعداء أمل هم مؤيدو النظامين المحتقرين العراقي والليبي, وهؤلاء لا تعتبر فتح مجرد واسطة مفيدة في التعامل معهم, بل وحليف جدير بالثقة, أما الاتجاه الثاني, والذي كان في عام 1980 يمثل الاتجاه الغالب في الجنوب فقد اعتبر أن المقاتلين الفلسطينيين وكافة الغرباء مسئولون عن المشاكل المستمرة في لبنان, وبحسب هذا الاتجاه فإن أي علاقة مع فتح أو مع أي منظمة فلسطينية أخرى هي علاقة تكتيكية ومرحلية.(23/15)
رغم الوقفة العلنية لمسئولي أمل وجريدة أمل الأسبوعية المؤيدة بحزم لمنظمة التحرير فإن الوفاق الجزئي الهش القائم بينهما أخذ يتدهور باطراد بين عامي 1980 – 1982 وأخذت الاصطدامات تتوالى بشكل متسارع وبينما حاول مسئولو فتح تطويع حركة أمل عبر اللجان الأمنية المحلية المشتركة التي كانت فتح تسيطر عمليًا عليها, وعبر أشكال مختلفة من الضغط والتهويل, باءت هذه المحاولات بالفشل بفعل نمو التأييد الجماهيري المتسارع للحركة وانتشارها الجغرافي وتوزع قيادتها في المناطق.
من النتائج المنبثقة عن برنامج أمل الضمني التي تجدر الإشارة إليها ذلك التأييد العلني المستمر قبل 1982 لانتشار الجيش في جميع الأراضي اللبنانية.
فبينما مثلت الحركة الوطنية والجبهة اللبنانية بنى شرعية بديلة, ألزمت أمل نفسها بالوقوف الحازم إلى جانب إقامة السلطة المركزية القوية, وهو موقف محافظ أساسًا بدا أنه يخدم بشكل جيد مصالح القاعدة الشعبية التي كانت تسعى إلى الأمن زائد حصة عادلة من المناصب السياسية, ساهم موقف أمل من انتشار الجيش في ازدياد التباعد بينها وبين أخصامها, الذين كانوا يعتبرونه جيشًا فئويًا يهيمن عليه الموارنة وهو بالتالي مناوئ بالتعريف للحركة الوطنية وحلفائها الفلسطينيين (1)
__________
(1) يصعب الحصول على أرقام تعدد نسب التوزيع الطائفي في القوات المسلحة اللبنانية ويصعب الحصول على تقديرات رسمية: إلا أنه يبدو أن قبول الضباط الجدد يتم على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين ويحافظ على نسبة التوزيع الطائفي لكافة الطوائف اللبنانية السبعة عشر.
وتشير بعض التقديرات إلى أن فئة ضباط الصف والجنود تنقسم بنسبة ستين إلى أربعين بالمائة لمصلحة المسلمين, أما في سلك الضباط فهي 60 إلى 40 % لمصلحة المسيحيين مع ازدياد كبير في نسبة التمثيل الماروني من فئة رائد وما فوق, لمقابلة مع إبراهيم طنوس انظر مجلة الوطن العربي عدد 17-23 حزيران 1983 لمطالعة إحدى المرات النادرة التي يبدي فيها قائد الجيش رأيه في هذا الموضوع, وهو يزعم أنه في عام 1983 كان هناك ثلاثة مجندين مسلمين مقابل كل مجندين مسيحيين.(23/16)
وأدى هذا الموقف إلى ازدياد تأكد القوات المشتركة من الخاصية التناحرية لموقع الحركة, وهكذا نمت بذرة الشك في أن تكون الحركة (أو على الأقل بعضها) ليس سوى ستارًا للمخابرات اللبنانية المعروفة باسم المكتب الثاني, وبينما أثلج تأييد أمل صدر البعض في الجيش اللبناني, إلا أنه ليس هناك ما يشير إلى ضلوع المكتب الثاني في توجيه أو دعم الحركة رغم الاتصالات المستمرة بين فعاليات من أمل والمكتب الثاني خلال الفترة السابقة لعام 1982.
بالإضافة إلى تأييد الجيش, سعت الحركة إلى المشاركة في أي جهد أو مؤسسة ترمز إلى الشرعية في لبنان أكثر من ذلك, فلقد اغتنمت كل فرصة سنحت لها لإجبار الحكومة على بسط سلطتها, وركزت باستمرار على لا مبالاة الدولة إزاء ما يحدث في الجنوب, الذي يعتبر مجلس الجنوب (الذي أنشئ في 1970 لتشجيع النمو الاقتصادي ولكنه تحول إلى مؤسسة يعشعش فيها الفساد) من أهم رموزه. جعلت أمل المجلس هدفًا لحملاتها المركزة, ثم أقدمت في أيلول 1980 على احتلال مكاتبه في صيدا مانعة الموظفين من الدخول إلى المبنى, وأعلن نبيه بري عن سلسلة من المطالب التي شملت التعويض المناسب, ودون أي تأخير غير مبرر للمهجرين ولأصحاب المنازل المتضررة, وهددت الحركة بأنها ستتولى إدارة مجلس الجنوب بنفسها ما لم يُستجب لمطالبها (1)إن اختيار مجلس الجنوب هو اختيار للهدف السياسي الأكثر ربحًا, فلقد طرحت أمل قضية تحظى باهتمام واسع وأجبرت حكومة سليم الحص الضعيفة علىأن تكثف اهتمامها -أو تتظاهر بالاهتمام- برعاية مصالح مواطنيها, وأعربت عن تماهيها مع وظيفة حكومية شرعية.
العلاقة مع سوريا:
__________
(1) النهار, 18 أيلول 1980.(23/17)
إن العلاقة بين أمل وسوريا هي علاقة مثيرة للاهتمام, كان الإمام موسى الصدر, قبل زمن طويل من انقلابه على تحالفه مع الحركة الوطنية اللبنانية في عام 1976 (عندما أيد السوريين على حلفائه السابقين) قد أنشأ علاقة متينة مع حافظ الأسد, وفي وقت لاحق, وبينما كانت حركة أمل تتمتع بموقعها الجديد في أعقاب اختفاء الإمام موسى الصدر, تلقت الحركة أسلحة عبر سوريا (1)، ولعب السوريون دورًا في تدريب مليشيا أمل خصوصًا منذ عام 1980 وأكد بري في شباط 1982 على علاقة حركته بالحكم السوري, فطالب في مجال تعداد أهداف حركة أمل في لبنان بـ ((إقامة علاقة مميزة عسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا وثقافيًا بين سوريا ولبنان وتحديد إسرائيل بوصفها العدو الرئيسي)) (2).
قدمت علاقة أمل – سوريا دليلاً جديدًا على الخطر الذي تمثله الحركة على القوات المشتركة فمنذ التدخل السوري في حزيران 1976 إلى جانب الجبهة اللبنانية والعلاقات بين سوريا وفتح وحلفائها تتسم في أحسن حالاتها بالبرود الشديد (3) وبالتالي فإن علاقات أمل الجيدة بسوريا لم يكن بوسعها إلا أن تزيد حدة الصراعات القائمة, ولقد شكلت أمل من وجهة نظر الرئيس حافظ الأسد أداة مفيدة لتليين وإعاقة أو حتى للسيطرة على أعمال المجموعات التي تقع خارج نطاق نفوذه, وخصوصًا تلك المناطق الواقعة جنوبي الخط الأحمر الذي حددته إسرائيل, وهكذا ففي المناطق التي استثني منها وجود القوات السورية والتي للنفوذ السوري المباشر فيها دور محدود, يمكن لحركة ناشطة تسعى لخدمة مصالحها أن تخدم أيضًا مصالح دمشق.
تمهيد للغزو الإسرائيلي:
__________
(1) مقابلة مع نبيه بري, 1-7 شباط, 1982 ص G2
(2) المرجع نفسه.
(3) انظر أبو أياد (صلاح خلف) مع إريك رولو: My Home, My Lanl A Narrative of the Palestinian Sturggle. trans Linde Butter Koseogou.(23/18)
في بداية عام 1982 زادت حدة تدهور العلاقات بين أمل وأخصامها, مع نشوب مناوشات واسعة في عدد من القرى الجنوبية, ثم اندلع القتال في بيروت و 16 قرية جنوبية في نيسان, وبحسب رواية أمل فإنه خلال هذا القتال قامت عناصر تنتمي إلى فتح -أو متحالفة معها- بقصف متواصل للمؤسسة المهنية في برج الشمالي دام عشر ساعات (1) شكلت هذه المواجهات الخطيرة حدًا فاصلاً لأكثر من سبب, فعندما توقف القتال حافظت قوات الحركة للمرة الأولى على مواقعها في قرى كانت سابقًا موضع تنازع (2) وبينما كانت الحركة لا تزال بعيدة جدًا من أن تصبح منظمة عسكرية فعَّالة ومتكاملة, فإنها برهنت عن مهارات تكتيكية أساسية, وصلت إلى حد القيام بهجمات تمويهية, والعنصر الأهم هو أنه للمرة الأولى يتم, بإشراف لجنة التنسيق العليا التي تهيمن عليها سوريا (وتتألف من ممثلين عن منظمة التحرير وأمل والحركة الوطنية وسوريا), الاتفاق على أن تلتزم منظمة التحرير الفلسطينية بعدم التدخل في الشئون الأمنية اللبنانية الداخلية، لم يتوقع أحد أن تراعي منظمة التحرير هذه الاتفاقية, إلا أن إقرارها بحد ذاته كان بمثابة وثيقة اتهام.
__________
(1) اتصال خاص مع أحد الحاضرين من مسئولي أمل.
(2) Economist , May 1 , 1982.(23/19)
بلغت التناقضات التي تفصل بين حركة أمل والقوات المشتركة في الأشهر التي سبقت الغزو الإسرائيلي حدًا من الوضوح لا يمكن تجاهله. ولعل النموذج الأبرز عن هذا التدهور يتمثل في التصريحات المتناقضة لكل من صلاح خلف (المعروف باسمه الحركي أبو أيَّاد) والذي غالبًا ما يشار إليه بوصفه الرجل الثاني في فتح, والشيخ محمد مهدي شمس الدين نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى, عندما سئل صلاح خلف في كانون الأول 1981 عن علاقة فتح بأمل أجاب: ((في الواقع لا توجد أزمة والعلاقات جيدة بالفعل )) (1) وفي تصريح له بعد ذلك بشهرين فقط بدا واضحًا أن صلاح خلف قد فقد صبره مع الحركة ((إننا نتوجه لإخواننا في حركة أمل, لا للمتآمرين في الحركة, بل إلى إخواننا الوطنيين الذين نعرف أنهم سيأخذون المبادرة في الحركة ويشتركون في القيادة المشتركة والقوات المشتركة في الجنوب لكي نتمكن من منع كافة العناصر الشريرة والمتآمرة من التآمر في جنوب لبنان, إننا نؤكد أننا نحرص على حركة أمل.. حتى يكونوا معنا في الخندق نفسه في ظل قيادة مشتركة واحدة)) (2).
__________
(1) الوطن (الكويت) 25 تشرين الثاني 1981.
(2) من خطاب لصلاح خلف إذاعة صوت الثورة الفلسطينية.(23/20)
أما الشيخ شمس الدين فوجه في تصريح له إثر اندلاع القتال في نيسان, أول انتقاد علني للفدائيين وللحركة الوطنية اللبنانية, أُعتُبِر التصريح التالي المصاغ بعبارات قاسية, بشكل واسع, مؤشرًا على تصلب مهم في الموقف الشيعي والأملي: ((المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى يحث كافة المسئولين في المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية على وقف القصف على القرى فورًا وسحب المسلحين منها والسلاح الموجه إليها, إن استمرار هذا الوضع ينذر بعواقب وخيمة على الوضع العربي كله, إن أهل الجنوب يوجهون الآن رصاصًا عربيًا من المفترض أن يوجه نحو إسرائيل, ويهجرون من بيوتهم لا من قبل إسرائيل بل من قبل عرب مثلهم)) (1),حتى نبيه بري الذي كان قد تبنى موقفًا علنيًا توفيقيًا حذرًا لم يتردد في دحض مزاعم قادة منظمة التحرير التي قالت: إن الفلسطينيين لم يتدخلوا في صدامات نيسان.
قضت اصطدامات 1982 على آخر أمل بالتوفيق بين الجانبين, لكن إن أخذنا أهدافهم المتضاربة بعين الاعتبار لا يمكن اعتبار هذا الحكم اكتشافًا مذهلاً.
__________
(1) مقابلة مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين, النهار العربي والدولي 24-30 أيار 1982.(23/21)
الفصل الخامس
التناقض والثبات في سياسة أمل
يحتوي الاتجاه -أو بالأحرى الاتجاهات السياسية التي تبنتها حركة أمل- على عناصر استمرارية وثبات وعناصر تناقد. التناقض في أنه رغم كون حركة أمل طائفية بشكل جوهري, تدين بحيويتها وببروزها إلى شعور معمق بالهوية الشيعية المشتركة, إلا أنها وفي الوقت نفسه تدعو باستمرار إلى إنهاء النظام السياسي الطائفي (أي النظام القائم على قاعدة توزيع الامتيازات السياسية وفقًا لمقاييس طائفية) وهكذا نجد أن الحركة تندد بالسياسة الطائفية, وحتى ولو برهنت عن مهارتها باللعب بحسب قواعدها, ورغم أن قادة أمل قد يبررون هذه الانحرافات الظاهرية بوصفها تنازلات مؤقتة فرضتها حقائق الوضع القائم, فإنه من غير المفاجئ أن تواجه الحركة اتهام العديد من منافسيها وخصومها بالازدواجية والرياء نتيجة للتناقض بين النظرية والممارسة.
بالطبع يدفع هذا إلى التساؤل عما إذا كان إلغاء توزيع المناصب السياسية بحسب الطوائف يؤدي إلى إضعاف دور العامل الطائفي في السياسة اللبنانية.
وفي الواقع قد لا يكون هناك تناقض, كما يبدو للوهلة الأولى, بين إعادة توزيع الامتيازات السياسية بما فيه مصلحة الشيعة والدعوة إلى إلغاء النظام الحالي ككل, وبتعبير آخر, إذا أخذنا بعين الاعتبار مدى تحصن الهويات الطائفية في لبنان منتصف الثمانينات, نجد أنه من المرجح في هذه الحالة أن يحافظ الناخبون الشيعة -أو ناخبو أي طائفة أخرى- على وعيهم العميق بالعامل الطائفي.
فهناك إذن ما يبرر الافتراض بأنه بوسع الحركة أن تدعو إلى إصلاح للنظام السياسي باتجاه منح سلطة أكبر لنتائج الانتخابات المجردة بدلاً من الصيغة الطائفية التحاصصية القائمة التي ألغاها أصلاً النمو السكاني المتفاوت طائفيًا.(24/1)
ولسوء الحظ فإن أي نقاش لإصلاح سياسي عميق في لبنان يبقى أمرًا سابقًا لأوانه, إلا أن الراهن أن حركة أمل ازدادت تصلبًا في مطالبتها بحقوق الشيعة الشديدي الاستياء من مستوى تمثيلهم السياسي المنخفض في لبنان.
ولقد قبلت حركة أمل عدة برامج تشترك جميعها في إقرار إعادة توزيع السلطة السياسية, بما يخل بموقع الطائفة المارونية المسيطرة ويعطي الشيعة بعض الامتيازات, كان آخرها عندما وقع نبيه بري (مع وليد جنبلاط ممثلاً الدروز وإيلي حبيقة ممثلاً القوات اللبنانية ذات الغلبة المارونية) في 28 كانون الأول 1985 على اتفاق جهيض, ثم التفاوض بشأنه في دمشق, يزيد من التمثيل الشيعي في البرلمان ويضعف من سلطة الرئاسة, وهو منصب كما يذكر القارئ, محفوظ تقليديًا للموارنة.
إن التزام الحركة بلبنان كوطن نهائي متميز هو الخط الثابت الذي يبرز في كافة أدبيات حركة أمل, وهو ما يميز الحركة عن مناوئيها من الشيعة الراديكاليين الذين يعتبرون لبنان جزءًا من الأمة الإسلامية ينبغي إقامة الجمهورية الإسلامية على أرضه, إذ تكفي قراءة سريعة لميثاق حركة أمل بالمقارنة مع البرنامج السياسي لحزب الله وكلاهما أعيد نشره في الملاحق, للكشف عن الفروقات الحادة في البرنامجين.
البرنامج السياسي:
قد تكون اهتمامات ومشاغل حركة أمل الحالية قد تحددت بفعل ضغط الوضع الأمني المتدهور والفوضى المستشرية, وهي حالة ساهمت أمل بدورها في تفاقمها, إلا أنه من الخطأ الافتراض أن الحركة, في جوهرها, هي مجرد تشكيل من تشكيلات المليشيات (1)
__________
(1) Cf. Marius K. Deeb, Lebanon ; Prospeets for National Reconciliation in the Mid-1980s, Middle East Journal 38 Spring 1984: 267-283 انظر بشكل خاص ص 171, حيث يقول ديب أن أمل والمجموعات المنشقة عنها هي أولاً وأخيرًا مليشيات مسلحة.
إن هذا المنظور يسيء في رأيي فهم المعنى الاجتماعي السياسي لأمل ويصب في النهاية في طاحونة الإقطاع السياسي القديم.(24/2)
فالحركة نشأت في البداية كحركة احتجاج ذات طابع إصلاحي وهي ما زالت كذلك, وإن أحاط الغموض أحيانًا ببرنامجها السياسي تحت ضغط الضرورات الآنية في خضم المعارك والصدامات, إلا أنه يبقى هو الأساس الذي يحدد نشاطات الحركة, يتميز برنامج الحركة كما يتبين من دراسته بنسبة عالية من الوضوح وبقدر كبير من البراغماتية (1) وسندرس الآن هذا البرنامج بالتفصيل مشيرين إلى بعض الحالات التي توضح فيها عبر الممارسة, فكما أن المصالح والأهداف تحدد الممارسة, فالممارسة بدورها تكشف عن الأهداف والمصالح وتؤكدها.
باختصار, حركة أمل هي حركة شيعية واعية لذاتها تعتبر الالتزام بالتراث الشيعي أحد مبادئها المقررة, إلا أنها لا تسعى لإقامة دولة إسلامية أو شيعية في لبنان وهي تثني باستمرار على لبنان بوصفه بلد يمتاز تاريخيًا بالتسامح الديني.
رفض عدد من قادة أمل في عدة مناسبات علنية النموذج الإيراني في ولاية الفقيه, إلا أنهم بذلوا مجهودًا كبيرًا للتعبير عن احترمهم لآية الله الخميني الذي يشير إليه نبيه بري مجاملة بـ لقب ((سيدي)), ونظرًا للحيوية التي ما زال يتمتع بها منافسها الأكثر جذرية –حزب الله, وقدرته على الاستقطاب العاطفي في صفوف أقلية شيعية كبيرة, أجبرت أمل على لعب لعبة دقيقة, فعليها من جهة أن تدعي أنها حركة شيعية حسنة النية وأن تسعى في الوقت نفسه إلى تحقيق برنامج وجدت فيه إيران ما يدفعها لنقده بشدة, ولقد تفاقمت معضلة أمل هذه مع استمرار تفشي مناخ اليأس التام الذي دفع بالعديد من الشيعة إلى البحث لدى التشيع المتطرف عن أجوبة بدا أن القادة السياسيين المعتدلين قد فشلوا في توفيرها.
__________
(1) خلاصة مفيدة حول موقف مختلف الفئات اللبنانية من قضايا من نوع استقلال لبنان, ومعنى القومية اللبنانية ودور الطائفية في السياسة, راجع: Abdo I. Baakilin. Logislattive and Political Development: Lobanon. 1842-1972. PP. 103-139.(24/3)
مع ذلك فقد واصلت أمل دعوتها, سواء في المحافل الخاصة أو العامة, إلى بقاء لبنان كوطن نهائي مستقل قادر على الدفاع عن نفسه, وعضو في عائلة الدول العربية, وأكدت الحركة على دعهما لنظام الحكم البرلماني -ولو معدلاً- وبينما ترى إلى التنوع الأثني والتسامح الطائفي المتبادل بوصفه حسنة من حسنات البلد فإن أمل ترفض تطبيق نظام المحاصصة الطائفية, أي النظام الطائفي الحالي وترفض بالتالي النخب التي ولدها, ولعل الأهم هو مطالبة الحركة بتبني الدولة دورًا فاعلاً في إعادة توزيع موارد البلاد الاقتصادية على مجالات التنمية الداخلية والخدمات الاجتماعية.
استقلال لبنان:
كتب الباحثون أبحاثًا مطولة حول اصطناعية حدود الدول في الشرق الأوسط, ولاحظوا بحق أن دول المنطقة تفتقر إلى المشروعية الأثنية وإلى تطور طبيعي ذي مغزى, فالحدود, كما تعكسها خارطة المنطقة, غالبًا ما تكون مرسومة من قبل ممثلين خارجيين لتسهيل الهيمنة بدلاً من المساعدة على توليد حكم ذاتي أهلي, إلا أن إحدى الظواهر الأكثر إثارة للاهتمام في حقبة ما بعد الأمبريالية, تتمثل في قدرة الدولة في الشرق الأوسط على البقاء, بالمقارنة مع احتضارية أيديولوجيات القومية العربية التوحيدية (1) أما لبنان فهو كجيرانه, نتاج جغرافي لقرار عشوائي (إعادة رسم الفرنسيين لحدوده عام 1920) لكن اللبنانيين كجيرانهم أيضًا يتقبلون اليوم بشكل واسع, ما كان يعتبر في أحد الأيام قرارًا مزاجيًا لسلطة أجنبية عليا, وبتعبير أبسط فإنه بوسع اللبنانيين الاتفاق -على الأقل- على حدود بلادهم.
__________
(1) انظر: Fouad Ajami The End of Pan-Arabirm, Foreign Affairs 57 Witer 1978-1979: 355- 373.(24/4)
وبالطبع فإن الشيعة اللبنانيين يعكسون الظاهرة الأوسع, فحركة أمل ليست حركة شيعية دون انتماء وطني فهي تدعي بشكل ملتبس إلى حد ما, بأنها حركة جميع محرومي لبنان بل هي حركة لبنانية تمثل مصالح المواطنيين اللبنانيين, وتعرف عن نفسها كما ورد في ميثاق الحركة بأنها حركة وطنية ((تتمسك بالسيادة الوطنية وسلامة أراضي الوطن وتحارب الاستعمار والاعتداءات والمطامع التي يتعرض لها لبنان)) (1) ويوضح المقطع التالي من الميثاق التزام الحركة الثابت بالوطن اللبناني:
(( إن ما تركز عليه الحركة هو التمسك الشديد بالسيادة الوطنية والاستقلال في الإرادة ورسم السياسة ورفض الوصاية الخارجية على الوطن, والعمل على صيانة كيانه وحدوده, والحفاظ على كرامته من التشويه والتحطيم, ليبقى الوطن هو الصانع الوحيد لقدره ومستقبله وحاضره دون تدخل الأيدي الخبيثة والمغرضة في أي شأن من شئونه.
إن سيادة الوطن لا تتحقق إلا بسيادة أبنائه فيه بعيدًا عن التشنجات والبهلوانيات السياسية وعمليات فرض الرأي والإرادة, مع التشديد على التحام الشعب في بوتقة الوطنية المتسامحة لإخراج البنية اللبنانية إخراجًا صحيحًا من مختبرات الحضارات, وليكون لبنان هو المثال الأول لعملية بناء الأوطان)).
__________
(1) ميثاق حركة أمل, حصلت على نسختي في عام 1982, لكني أظن أنها نسخة معدلة من الطبعة المنشورة في تشرين الثاني 1974, والذي أقرته 190 شخصية عامة من غالبية الطوائف اللبنانية, وكل الاستشهادات اللاحقة, ما لم يذكر خلاف ذلك, منقولة عن الميثاق.(24/5)
ثمة زاوية أخرى لالتزام أمل ببقاء لبنان وهي الإقرار الصريح بأنه على الشيعة أن يحافظوا على لبنان حتى يتمكنوا من المحافظة على سلامة طائفتهم السياسية والاجتماعية, وباختصار فإن الشيعة يدفعون ثمنًا غاليًا لأي انتقاص من سيادة لبنان على أراضيه واستقلاله, بل إن مسئولي أمل يرون في بقاء لبنان بلدًا مستقلاً ومتماسكًا شرطًا ضروريًا لبقاء حركة أمل. ((إذا كان تقسيم لبنان وتوطين شعب -أي اللاجئين الفلسطينيين في لبنان- يلحقان ضررًا بالغًا بالبعض, فإنه يؤدي بالتأكيد إلى تصفية حركة أمل )) (1).
عارضت الحركة كافة الجهود الهادفة إلى إنشاء أجهزة تحكم بديلة بغض النظر عن الداعي أو المخطط إليها وهناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن القتال الذي نشب في بيروت في نيسان 1982 بين أمل والميليشيات المنتمية إلى الحركة الوطنية اللبنانية, إنما كان بسبب محاولة الحركة الوطنية إنشاء مجالس محلية في بيروت الغربية, اعتبرت أمل أن انتخاب هذه المجالس يشكل ((نوعًا من الحكم الذاتي)) قد يمهد لتقسيم البلاد (2).
__________
(1) نبيه بري, الحوادث في 9 أيار 1980.
(2) مقابلة مع نبيه بري في ((المندي مورننغ)) في 10-16 أيار 1982.(24/6)
ظلت أمل تنظر إلى الجيش اللبناني حتى الأشهر التالية للاجتياح في عام 1982, بوصفه الأثر المتبقي من الشرعية اللبنانية, ففي السنتين أو الثلاثة التي سبقت الاجتياح, كانت أمل تؤيد بثبات انتشار الجيش في الجنوب حتى ولو كان, كما قال نبيه بري, مرة مارونيًا, مائة بالمائة (1) فقضايا الإصلاح والتوازن الطائفي في الجيش تأتي في المرتبة الثانية عندما يتعلق الأمر ببقاء الطائفة الشيعية ككل, والجيش اللبناني -حتى ولو افتقد إلى الفعالية- يجسد الشرعية اللبنانية, وهو بهذه الصفة يشكل نقيضًا للبنى السلطوية البديلة, التي أنشأتها في الجنوب منظمة التحرير الفلسطينية, من جهة وإسرائيل من جهة أخرى, ولقد كان مسئولو أمل من الذكاء بحيث أدركوا أن أي خطوة تقلل من سلطة أخصامهم هي بالنهاية خطوة لصالحهم, أضف إلى ذلك أن أمل حافظت, وللأسباب نفسها, على علاقة ودية مع قوات الطوارئ الدولية.
لبنان العربي وسياسته الخارجية:
__________
(1) انظر ليديا جورج داخل حركة أمل (نقاش مع نبيه بري) ((في المندي موننغ )) 1-7 شباط 1982, يقول بري: إنه يريد الجيش في الجنوب ((حتى ولو كان مارونيا 100% لبسط سيادة الدولة على الحدود الدولية ولإنهاء دويلة سعد حداد)) وكذلك قول بري في مقابلة أخرى: ((عندما تتعرض حدود الوطن للاعتداء, وعندما يواجه جزء من أراضيه خطر الاحتلال بينما ثمة مناطق أخرى محتلة بالفعل, وعندما ينقسم أهل الجنوب بين المهاجر والمنكوب, لا يعود ثمة مجال لنقاش حول جنس الملائكة, فإن حماية الوطن, وبوابته الجنوب, يستحق اهتمامًا أكبر من طائفة هذا الضابط أو ذاك, ومن إذا كان هذا المنصب سيسند إلى هذا الضابط أو ذاك)) (الوطن [الكويت], 20 حزيران 1980).(24/7)
عرف مسئولو أمل دائما لبنان بوصفه دولة عربية ذات مصالح مشتركة مع أشقائها العرب, بهذا المعنى فإن موقف أمل يتوافق مع واحد فقط من قطبي الهوية كما حددها الميثاق الوطني غير المكتوب, فبالتعارض مع الموارنة الذين كانوا أحيانًا يعتبرون أنفسهم أحفادًا للفينيقيين (نافين أي أصل عربي) والذين يرون لبنان كبلد في الشرق الأوسط وليس من الشرق الأوسط, يرى المسلمون -والأرثوذكس أيضًا- أنهم شعب عربي في بلد عربي يعرف بشكل واسع باسم لبنان, طبعًا التوفيق بين المنظورين يتطلب تنازلات من كلا الطرفين, لكن هذا لم يكن شكل التعاطي الذي ساد بشكل دائم في لبنان.
أما فيما يتعلق بحركة أمل فهي قد أقرت بضرورة أخذ ((التصور الماروني )) والمخاوف المارونية, بعين الاعتبار, فكما قال لي نائب شيعي: ((نريد أن نعيد إعمار لبنان مع الموارنة, وليس رغمًا عنهم)) إلا أن القتال العنيف بين عامي 1983 – 1986 عقد بشدة من إمكانية التسوية, وبحلول عام 1985 كان مسئولو أمل قد أصبحوا أقل تحسسًا بمطالب واحتياجات الموارنة, وأخذ بعضهم بمن فيهم بري يتحدث عن الحاجة إلى فرض هزيمة عسكرية على المليشيات المارونية (1).
مصدر آخر للمتاعب مع الطائفة المارونية تمثل بطرح أمل لسياسة خارجية يجدها العديد من الموارنة غير مقبولة على الإطلاق؛ إذ دعت إلى حياد لبنان وطالبت على وجه التخصيص بأن لا ينحاز لبنان إلى أي من المعسكرين الدوليين, وبينمالم يعدم هذا المشروع بعض المؤيدين من الموارنة (مثلاً حركة لبنان المحايد التي يرأسها روجيه أده) إلا أن ميل الموارنة إلى التطلع نحو أوروبا والولايات المتحدة لا العالم العربي, يجعلهم على خلاف مع أمل ومع المسلمين اللبنانيين بشكل عام.
__________
(1) كانت هذه إحدى النقاط المهمة التي أثارها بري في خطاب هام له في بعلبك في 31 آب 1985 بمناسبة الذكرى السابعة لاختفاء الإمام موسى الصدر.(24/8)
ولكن العامل الأكثر أهمية يبقى، علاقة أمل الوثيقة بسوريا, والتي يمكن إرجاعها إلى أكثر من عشر سنوات, والتي تطرح مجموعة من الأخطار الحقيقية والمتخيلة التي تهدد استقلال لبنان حتى بالنسبة لغير المليشيا المارونية, ولقد مرت أوقات, كما حدث عندما بدا في عام 1982 وأوائل 1983 أن السلم الأمريكي في طريقه للقضاء على النفوذ السوري في لبنان, حاولت فيها حركة أمل أن تحتفظ لها بمسافة عن سوريا, ولكنها عادت منذ ذلك الحين إلى أحضان دمشق والاعتماد على تأييدها في كافة المجالات الممكنة, ففي خطاب مهم له في بعلبك في آب 1985 وهو خطاب ما كان ممكنًا أصلاً لولا الدعم الذي وفره الوجود السوري في البقاع, طرح بري منظورًا رسمت بنوده لاحقًا في الاتفاق الثلاثي السيئ الحظ: ((يجب أن يكون هناك تكامل مع سوريا عبر اتفاقيات حقيقية اقتصاديًا وأمنيًا وعسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا وتربويًا ولا تخشوا على سيادة واستقلال لبنان أبدًا, ففرنسا الأم الحنون لم تفقد استقلالها عندما انضمت إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية أو عندما وقعت ميثاق الدفاع الأمني الأوروبي)) (1).
من الواضح أن العديد من اللبنانيين يجدون في سوريا تهديدًا أكبر بكثير مما قد تشكله المجموعة الاقتصادية الأوروبية على أعضائها, وليس أمرًا بلا مبرر على الإطلاق أن يتوصل الكثيرون إلى اعتبار أمل ستارًا لسوريا. لكن رغم جدية هذه المخاوف فإن التزام أمل بوجود لبنان المستقل التزام ثابت. ومن المهم أن لا يخلط بين حسابات المصالح المشتركة والرغبة في الخضوع لهيمنة سوريا كلية.
__________
(1) المرجع نفسه(24/9)
تدعو الحركة إلى تحرير الأراضي العربية من سيطرة الاحتلال, وقد أخذ هذا على أنه يعني بشكل خاص تحرير فلسطين, وهي قضية استمرت أمل في إعلان التزامها بها, حتى عندما كانت تواجه بشكل عنيف الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان, لكن هذه المواقف المؤيدة لفلسطين يجب أن ينظر إليها بكثير من التشكيك كما يظهر تذكير بري ((أن الدم الفلسطيني ليس أزكى من الدم اللبناني))(1).
ولم تؤد مشاكل الحركة مع الفلسطينيين إلى إضعاف أعدائها والذي يكاد يكون مقدسًا للصهيوينة، ولقد استمعت في أكثر من مناسبة إلى المساواة بين إسرائيل ويزيد, العدو التاريخي للشيعة, المسئول عن النهاية الدموية للإمام الحسين (في 680 ميلادية) وبشكل عام فإن إسرائيل تعتبر بوصفها ((كيانًا صهيونيًا)) عدوًا للبنان والعرب, ورغم وجود بعض الاختلافات في وجهات النظر أو ((النفور)) كما قال بري مرة بين قيادة أمل غير الدينية وبين رجال الدين, إلا أن ثمة ما يجمعون عليه, وهو العداء لإسرائيل ففي تصريح له, كان الممكن أن يكون الشيخ محمد مهدي شمس الدين أو السيد محمد حسين فضل الله أو أي زعيم ديني شيعي آخر هو الذي أدلى به, قال بري: ((علمنا الإمام الصدر أنه على المحرومين في أرضهم أن يساندوا المحرومين من أرضهم, وأن التعامل مع إسرائيل حرام, وإسرائيل شر مطلق, وكل من يقف ضدها يصبح في نظرنا بشكل أو بآخر خير مطلق)) (2).
__________
(1) المرجع نفسه
(2) المندي مورننغ 1-7 شباط 1982.(24/10)
هذا لا يعني أن أمل تسعى إلى نقل القتال إلى داخل إسرائيل فهي أكثر براغماتية في حساباتها السياسية- العسكرية من أن تفعل هذا, ولقد وجهت الحركة نقدًا مريرًا للعرب الذين يسعون لمقاتلة إسرائيل بالدم الشيعي وعلى الأراضي اللبنانية, ورغم تمجيدهم للعروبة وقضاياها فإن نبيه بري وغيره من مسئولي أمل قد أبدوا ضيقًا شديدًا إزاء لا مبالاة العرب بالوضع في جنوب لبنان خاصة ولبنان كله عامة (1) نزع هذا العامل إلى تحصين إحساس الحركة بمسئوليتها المنفردة عن مصيرها وعزز بالتالي من هويتها كحركة محض لبنانية.
طبيعة المجتمع في لبنان:
يصور ميثاق الحركة لبنان كمجتمع تعددي يجب أن يحافظ فيه على حرية الفرد, ويعرف الحرية وفق مفهوم قد لا يجده طلاب القانون الدستوري الأمريكي غريبًا, فيرى أنها تكفل حق الفرد في القيام بأي عمل شرط ألا يتعدى على حقوق الآخرين, ولا غرابة في الأمر, فمن الطبيعي أن تطالب حركة تعتبر نفسها طليعة للمحرومين بفرص متساوية لكافة المواطنين وأن تطالب الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية بمعناها التقدمي الشامل.
ولقد أعلنت حركة أمل في مقدمة ورقة العمل التي أعدتها للمؤتمر الوفاقي الذي
الذي عقد في جنيف في تشرين الأول 1983: ((لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة وفي مقدمتها حرية الرأي والمعتقد, وعلى مبدأ تقسيم السلطات وعلى العدالة الاجتماعية والتساوي في الحقوق والواجبات بين كافة المواطنين دون امتيازات أو تمييز, وهو يملك نظامًا اقتصاديًا وخطة اقتصادية وتنموية عامة لكافة إمكانيات ومتطلبات ونشاطات القطاعات المختلفة, أنه وطن الكرامة الإنسانية والطموحات الوطنية)) (2).
__________
(1) يتعامل العرب مع الجنوب وكأنه ليس جزءًا من العالم العربي, أو كأنه محافظة في الصين أو الهند. نبيه بري في المندي مورننغ, 10-16 أيار 1982.
(2) ترجمت ورقة العمل ونشرت في AN-Nahar Report Memo February 20, 1984: 4-7(24/11)
الاقتصاد:
بشكل عام طالبت حركة أمل الحكومة بلعب دور أكثر فعالية في توزيع الموارد الاقتصادية, فاقتصاد لبنان الحر الذي يتسم بلا مبالاة الدولة شبه الكلي في الشئون الاقتصادية يعتبر المسئول عن حرمان الطائفة الشيعية وعن تركيز الثروة في يد الزعماء ومحاسبيهم, من ناحية أخرى وصفت الحركة, في محاولة للوي مفهوم الإقطاع, الذين يملكون الأراضي الشاسعة بالإقطاعيين (الإقطاع هو تملك مجموعة قليلة من الناس لمعظم الأراضي) وهو وصف مفيد حتى ولو كان مشكوكًا بدقته, إلا أنه بغض النظر عن مدى دقة التعريفات, فإن المطالبة بإعادة توزيع الموارد الاقتصادية تؤدي إلى ضرب السلطة السياسية لأولئك الذين يوصفون بالإقطاعيين, وهذا بالنهاية هو هدف حركة تعكس جزئيًا طموحات الطبقة الوسطى الشيعية الجديدة.
أقر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في عام 1974, مجموعة شاملة من المطالب الشيعية (نذكر القارئ أن الإمام الصدر كان يترأس في تلك الفترة المجلس الشيعي, بالإضافة إلى رئاسته لحركة المحرومين) رفعت إلى الحكومة في العام نفسه (1)وبما أن هذه المطالب لا تزال تمثل نواة برنامج أمل الاقتصادي فهي بالتالي جديرة بذكرها هنا باختصار:
الدعوة إلى فتح الاعتمادات في الموازنة العامة لتأمين نمو متساوي تقريبًا لكافة المناطق, ويؤدي ذلك عمليًا إلى زيادة كبيرة للاعتمادات المخصصة للمناطق المختلفة, خصوصًا الجنوب والبقاع.
القيام باتخاذ ما يلزم للمباشرة بمشاريع الري وتخزين المياه. خدمة للطائفة التي تضم أكبر عدد من المزارعين, سواء بالمقارنة مع الطوائف الأخرى أم بشكل مطلق؛ الشيعة).
إعطاء الأولوية لفتح المدارس في المناطق المختلفة (بدلاً من تمويل بناء المدارس بالنسبة نفسها في كافة المناطق).
التسريع في إنشاء المستشفيات والمستوصفات, في المناطق المتخلفة.
__________
(1) انظر الحياة بيروت 12 شباط 1974.(24/12)
تحسين وإنشاء الطرقات خصوصًا بين بيروت وصور وبين بيروت وبعلبك. (وهما المدينتان اللتان تضمان أكبر نسبة من التركز السكاني الشيعي).
تحسين وضع مزارعي التبغ (يعني ذلك عمليًا إعادة النظر ببنية احتكار الدولة المتمثل بشركة الريجي أو إلغاؤه, وهو الهدف الذي ركزت عليه التظاهرة المشهورة التي اشترك فيها حوالي 10 آلاف مزارع صغير في عام 1973.
تحسينات عامة في الزراعة مع التركيز على الاعتمادات الممنوحة للمناطق المحرومة.
مشاريع سياحية في بعلبك وصور.
مسح شامل للثروة المعدنية في لبنان.
نظام جديد لتوزيع الاعتمادات المالية على البلديات.
عفو عام عن مخالفات البناء حتى يتمكن سكان ضواحي بيروت من الاستفادة من خدمات المياه والكهرباء,( التي يحظر القانون تقديمها إلى المباني غير المرخصة التي يشغلها عدد كبير من النازحين الشيعة).
تحسينات عامة في شروط العيش في ضواحي بيروت.
بالإضافة إلى ما سبق يدعو ميثاق أمل إلى وضع حد للاستدانة بالفائدة, وهو مطلب يبدو إلى قلة قليلة من قادة أمل تتبناه بشكل جدي, التقيت لدى عودتي إلى لبنان في عام 1982 بالعديد من المصرفيين الشيعة المتحالفين مع أمل, إلا أن أحدًا منهم لم يفقد أي نفوذ له في الحركة, لكون المصرف الذي يعمل فيه, أو الذي يملكه -كما في إحدى الحالات- يستوفي نسبة الفائدة السائدة.
الإصلاح السياسي في لبنان:
قد نتناقش في مدى مفاقمة وتأجيج التدخلات الخارجية للانقسامات الداخلية, لكن يبدو أن دور الانقسامات السياسية الداخلية والطوائفية في توليد أرضية خصبة للنزاع المسلح أمر لا يحتاج إلى نقاش فعلي, يعتقد أن العديد من اللبنانيين, من مسيحيين ومسلمين أن أكبر خطأ للنظام السياسي اللبناني هو اعتماده التقسيم الطائفي, والمفارقة أن الذين أعدوا الميثاق الوطني كانوا ينظرون إلى الميثاق بوصفه أداة لتخفيف لا لترسيخ الاعتبارات الطائفية في السياسة.(24/13)
يقول رياض الصلح, أول رئيس وزراء في لبنان المستقل: ((من مبادئ الإصلاح التي فرضتها المصلحة الوطنية اللبنانية ضرورة مواجهة الطائفية والقضاء على شرورها, بما أنها تعيق النمو الوطني وتقضي على سمعة لبنان الطيبة, على الصعيد الدولي, بالإضافة إلى أنها تسمم العلاقة بين العائلات الروحية المختلفة التي تؤلف لبنان, لقد رأينا كيف أن الطائفية استُخدمت في أغلب الحالات كأداة لتأمين مصالح خاصة, أو لإضعاف الحياة الوطنية في لبنان لمصلحة حساده. إننا متأكدون من أنه ما إن تنمو المشاعر الوطنية تحت تأثير الاستقلال والحكم الشعبي, فإن الناس سيوافقون من تلقاء أنفسهم على إلغاء النظام الطائفي الذي يضعف البلاد, إن الساعة التي سنكون فيها قادرين على إلغاء الطائفية هي ساعة مباركة, ولسوف تمثل يقظة وطنية شاملة في تاريخ لبنان.
ولسوف نسعى -إن شاء الله- للوصول إلى هذه الساعة في المستقبل القريب)) (1).
بالطبع هذه الساعة المباركة لم تأت بعد, لكن طموحات الصلح لا تفتقد إلى المؤيدين (2).
لقد درست الفصول السابقة عددًا من العوامل التي عززت هوية الشيعة الطائفية, لكن حتى مع نمو هويتهم الخاصة ومطالبة أمل بالمساواة السياسية وفقًا للمقاييس الطائفية, استمرت الحركة في مطالبتها بإلغاء المعادلة الطائفية.
__________
(1) انظر: Baakoini , Legislative and Political Development. Pp. 109-110.
(2) لوجهة نظر تمثيلية غير شيعية, انظر مقالة الرئيس سليم الحص في المستقبل 30 تموز 1983.(24/14)
باختصار, طالبت الحركة بمساواة فورية في ظل نظام يجب إلغاؤه في النهاية, إن وجود برنامجين في وقت واحد أمر ليس بالجديد على السياسة الشيعية, الأول عملي للحاضر والثاني مثالي للمستقبل, ففي عام 1974 كان الإمام الصدر, حتى وهو يطالب بمنح الشيعة أحد عشر منصبًا إضافيًا في وظائف الفئة الأولى يطالب في الوقت نفسه بإلغاء الطائفية في وظائف الدولة, فلا تعود المناصب المحددة حكرًا على طوائف معينة.
ويرى نبيه بري, انسجامًا مع ميثاق الحركة, أن الطائفية تعيق نمو الهوية الوطنية اللبنانية, وهي السبب الأساسي لمشاكل البلد, ((إن هذه الهلوسة الطائفية قد جعلتنا نتصرف كعشائر بدلاً من مواطنين في بلد واحد, إن ميثاق عام 1943 الوطني الذي خلقناه هو ميثاق تقسيمي, لقد ساعدنا على أن نبني مزرعة وليس وطنًا, أنا أقول بأن هذا الاتفاق هو سبب كل مشاكلنا)) (1).
__________
(1) نبيه بري في مقابلة مع ليديا جورجي: The New Lebanon' File-Part 6The A mal Movement: The Myth of Pluralrsm, Monday Morning. Januaty 26-February 1, 1981. يتفق تحليل بري مع وجهة نظر عدد من المراقبين المخضرمين, بمن فيهم مايكل هدسون الذي يقول: ((إن النظام الطائفي نفسه – بما هو تجسيد لنموذج الغلبة الفئوية– هو أصل المشكلة )) The Lebabese Crisis ; The Limits of Consociational Democracy, Journal Palestine Stulies 5, nos, 3-4 Spring / Summer 1976: 114.(24/15)
و(( بما أن التنافس الاقتصادي والوظيفي مبني على أساس محض طائفي, فإن الطائفية مفروضة علينا, جعلونا نرتدي العمامات وثوب الكهنوت وفرضوا علينا التفكير بشكل طائفي)) (1) وحتى أوائل 1982 كانت أمل تطالب بإلغاء الطائفية من ((أعلى الهرم إلى القاعدة)) (2) باستثناء المناصب السياسية الثلاث التي استثنيت إلى أن يبرهن النظام الجديد عن فعاليته. في شباط 1982 كان الموقف قد لان نوعًا ما فرغم أن إلغاء الطائفية كان لا يزال الهدف النهائي لكن ((إلغاء الطائفية يجب أن يبدأ في الجيش وفي التعليم على الأقل, أملاً في أن يؤدي ذلك إلى الإلغاء التام للطائفية السياسية في النهاية)) (3).
وفي عام 1985, ومع تعثر الاتجاه نحو الوفاق الطوائفي, تصلب موقف بري بشكل ملحوظ, فدعا في آب إلى إنشاء مجلس رئاسة من ستة أعضاء يمثلون الطوائف الرئيسة الستة (السنة والموارنة والشيعة والدروز والارثوذكس والكاثوليك) ويتداورون الرئاسة سنويًا, وهنا أيضًا أظهر بري عن ميل للحلول الطائفية, حتى وهو يدعو إلى إلغاء الطائفية.
__________
(1) بري في مقابلة مع جورجي: The New Lebanon'File.
(2) المرجع نفسه.
(3) بري في مقابلة مع جورجي ((داخل حركة أمل)).(24/16)
للوهلة الأولى, قد تبدو دعوة بري إلى إلغاء الطائفية غير متماثلة مع المصالح الجماعية للطائفية الشيعية المؤهلة للاستفادة من إعادة توزيع المناصب السياسية بما يتناسب مع حجمها الديموغرافي, كذلك يبدو أن أمل لم تعمل دائمًا بما يتلاءم مع هدفها المعلن ففي خريف 1980 مثلاً, نجحت الحركة في تأخير تشكيل حكومة جديدة لمدة 56 يومًا؛ لأنه لم تتم استشارتها في التشكيلة الحكومية ولم تمنح أي من الحقائب الأربعة الممنوحة للشيعة, ورغم أن حكومة شفيق الوزان تجاوزت بالنهاية اعتراضات أمل (واعتراضات المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وجبهة المحافظة على الجنوب) إلا أن الحادثة أظهرت أن أمل لا تتجنب الخوض في السياسة الطائفية, وحتى ولو كانت تدعو إلى إلغائها.
لتبرير دعوتها للإلغاء التدريجي للطائفية السياسية, قدمت الحركة عاملين مثيرين للاهتمام, الأول وهو الأهم، أن تولد المصالح الطائفية الضيقة هو الذي جعل الحرب الأهلية ممكنة وهو الذي منع توقف العنف. والثاني طرحه مسئول في حركة أمل حسن هاشم الذي قال بأن القوى الخارجية -وخصوصًا المعسكرين الشرقي والغربي- تمكنا من استغلال الطائفية لخدمة هدفهما في السيطرة على الثورة الفلسطينية, يقول هاشم:
((لبنان هو ضحية اللعبة السياسية القذرة للمعسكرين الشرقي والغربي, كل المنظمات الفاعلة على الساحة اللبنانية (باستثناء حركة أمل) ارتبطت بإحدى الدول العربية, أو بإحدى القوى الخارجية, وكل هذه المجموعات والمنظمات تورطت بشكل عميق وكثيف في لبنان, وكافة التطورات التي جرت فيه)) (1).
__________
(1) مقابلة مع حسن هاشم ((أمل)) 17 نيسان 1981.(24/17)
وبالتالي, فإن ترك النظام السياسي اللبناني على حاله يعني أن نتركه عرضة لتدخل القوى الخارجية, بالتأكيد ثمة جرعة كبيرة من الحقيقة في هذا التحليل, لكن ثمة وجه آخر للموقف يتمثل في النقطة التي تذكرها جريدة أمل من آن إلى آخر، وهي أن الطائفة الشيعية هي الطائفة الوحيدة التي تفتقد إلى رعاية خارجية, وأن افتقادها هذا يجعلها غير قادرة على التمتع بالامتيازات التي تحظى بها الطوائف الأخرى(1).
إذا كان من الممكن فهم أهداف أمل الآنية في إطار الصراع المرير على السلطة السياسية, فإن طروحاتها الطويلة الأمد قد تؤدي إلى اعتماد شكل جديد لدوران العجلة السياسية في لبنان, ولعل مسئولي أمل قد قدموا مبررات جدية ومقنعة لمطالبتهم بإلغاء الطائفية السياسية في لبنان, إلا أن هذا التوجه على نزاهته يشكل في الوقت نفسه وسيلة لإضعاف الزعماء الطائفيين التقليديين, وفي الواقع فإن ميثاق أمل يساوي بين إنهاء الطائفية وإنهاء نظام الزعماء, الذي غالبًا ما يعتبر نظامًا متخلفًا سياسيًا.
__________
(1) انظر مثلاً التعليق المثير للاهتمام الذي كتبه أحد كتاب الحركة على المقالة التي ظهرت في صحيفة العمل الكتائبية حول حركة أمل (أمل 17 نيسان 1981).(24/18)
للوهلة الأولى قد يبدو أن إلغاء الطائفية السياسية يحمل معه بذور القضاء على حركة أمل؛ لأن القضاء على دور الطائفية في السياسة يشكل خطوة نحو تعزيز هوية المواطن بوصفه ببساطة مواطنًا لبنانيًا, وهكذا فإننا قد نتوقع ابتعاد قسم مهم من القاعدة الشعبية عن حركة هي في الأساس -وبغض النظر عن ادعائها العكس- حركة طائفية, إلا أنه لا يوجد بين كافة قادة أمل من هو من السذاجة بحيث يتوقع ذوبان الهوية الطائفية, حتى ولو تم القضاء على الصيغة الطائفية لتوزيع المناصب السياسية, والواضح بالتالي أنهم يتوقعون أن تحافظ أمل على جمهورها, بل لعل اقتراح أمل الداعي إلى قيام تمثيل نسبي يصب في هذا الاتجاه, خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد الناخبين الشيعة, بالإضافة إلى ذلك, فإن أمل تؤيد إلغاء النظام الانتخابي الحالي الذي يقسم لبنان إلى 26 دائرة انتخابية, واستبداله بجعل لبنان كله دائرة واحدة, وهو اقتراح يقوض الأسس التي يعتمد عليها السياسيون ذوي النفوذ المحلي ويصب في مصلحة حركة سياسية وطنية.
ورغم أن مواقف أمل قد استثنت بشكل واضح أي حل فدرالي وكونفدرالي (1) كالحلول لتي تدعو إليها الجبهة اللبنانية من وقت لآخر (2)فإن الحركة حرصت على الخوض في نقاش كافة البرامج السياسية, وباختصار فإنها سعت لإظهار نفسها كقوة وفاقية, وبالتالي كمحور طبيعي لأي فئة ترغب في نقاش الإصلاح, ويقول بري: إن إقرار أي تغيرات أخرى يجب أن ينتج عن حوار بين كافة القوى الفاعلة في لبنان دون استثناء (3).
ويبقى أن نرى إذا كان ورثة موسى الصدر سيبرهنون عن كونهم أكثر اهتمامًا بالمكاسب القصيرة المدى أم بالمثل البعيدة المدى وهي نقطة سنبحثها في الفصل الأخير.
__________
(1) انظر ملاحظات بري في النهار العربي والدولي 20-25 نيسان 1981.
(2) المرجع نفسه.
(3) بري في مقابلة مع جورجي The New Lebanon'File(24/19)
الفصل الثامن
التناحر الطائفي والتفتت الاجتماعي
إن تاريخ السياسة اللبنانية هو تاريخ السياسة الطوائفية, وهي ليست بالأمر الجديد بل إن الطابع المميز لأشهر وأنجح الزعماء السياسيين في لبنان هو القدرة على اللعب على حبال مصالح الطوائف, لكن بينما لا يمكن اعتبار تعدد الأفرقاء والمليشيات والأحزاب على الساحة اللبنانية بالأمر الجديد, إلا أن الوضع الحالي, الذي يجد فيه المتنافسون أنفسهم في محيط قد استوطن فيه -على ما يبدو- العنف هو وضع جديد تمامًا سواء في تعقيداته أم في مداه, فالعديد من شبان (وأحيانًا شابات) المليشيا ليست لديهم أدنى فكرة عن نظام سياسي يعمل بأي طريقة أخرى باستثناء سفك الدماء.
ولم يغب بعد المخضرمون عن مسرح السياسة اللبنانية إلا أن دورهم ضيق ومحدود, فالحرب هي لعبة الشباب, والدم الجديد المندفع والمناضل هو الذي يمسك اليوم بزمام السلطة داخل كل طائفة من الطوائف اللبنانية, فالعلماء الشيعة المجاهدون لم يتجاوزوا العقد الثالث من أعمارهم, أما قادة القوات اللبنانية فبعضهم في العشرينات والبعض الآخر في الثلاثينات, كما أن القيادة الدرزية ليست أكبر سنًا بكثير, حتى يكاد نبيه بري وهو في الخامسة والأربعين من عمره أن يكون عجوزًا, ولعل المناصب المحترمة والألقاب ما تزال بحوزة المخضرمين, إلا أنها تكاد لا تعني شيئًا في غياب ميلشيا موازية, والأحساس بالعقم الذي يسود الجيل الأكبر يجد خير تعبير له في التصريح الذي أدلى به مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد:(25/1)
((عندما يعقد الزعماء الروحيون اجتماعًا, ويدلون بالتصريح تلو الآخر, لا يصغي إليهم أحد إن المسلحين هم الذين يصنعون الأشياء لا صانعوا القرار ورجال الفكر الذين يعدون الخطط والبرامج وخطط العمل, هؤلاء الناس لم يعد لهم نفوذ مؤثر في لبنان, ولهذا نجد أن القادرين على صنع الأشياء هم المسلحون الذين يسعون وراء المصالح المحدودة, ولا أريد أن أحط من شأن هؤلاء الناس فقد يكونوا أحسن منا, إلا أنهم لا يعرفون عن التشريع والقانون بمقدار ما يعرف رجاله البارزون)).
بمعنى مهم, فإن السياسة اللبنانية تشبه منذ زمن طويل سياسة توازن القوى الدولي, بأنساقها في تغيير التحالفات وبالتقبل الجماعي المتحفظ لوجود الطرف الآخر, لكن ذلك قد انتهى الآن, فصيغة ((لا غالب ولا مغلوب)) التي أنهت حرب 1958 الأهلية -الثانوية نسبيًا- هي صيغة مرفوضة الآن فلا بد أن تنتصر الطائفة أو تنهزم أو تنسحب من الحلبة كما فعل الدروز أو كما يبدو أن الموارنة على استعداد لأن يفعلوا.
يسود الإعجاب بشكل واسع باللبنانيين؛ نظرًا لحيويتهم ومرونتهم وتفاؤلهم ولهذا الإعجاب ما يبرره بالفعل فأصحاب الحوانيت والمكاتب قاموا بإعادة بنائها مرة ومرتين وثلاثة وحتى خمسة أو ستة مرات, وفي وجه الدمار الواسع والعبثية السياسية والأخلاقية استطاع اللبنانيون أن يروا الجانب المتفائل وتطلعوا بأمل يشبه أحلام الأطفال نحو المستقبل, وأخذوا ينتظرون سنة دموية بعد سنة المعركة الأخيرة, والموت الأخير, والسيارة المفخخة الأخيرة, والعمل الوحشي الأخير, الذي سيسدل الستار على مأساتهم, وما الآمال التي برزت بعد الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982 إلا نتيجة للاعتقاد الذي ساد آنذاك بأن الطلقة الأخيرة قد أطلقت أخيرًا, لكن الفترة التالية لم تحمل سوى خيبة الأمل.(25/2)
واليوم يخيم شبح من القلق فوق لبنان ويسود شعور بانعدام الأمل ينعكس على وجوه الناس, بعد أن عم التشاؤم ودُمر الاقتصاد، ولعل الصعيد الاقتصادي هو الصعيد الذي يعكس بشكل صارخ حالة لبنان المحزنة, فخلال العقد الأخير المليء بالأحداث التي شملت غزوين وثلاثة تدخلات أجنبية ناهيك عن استشراء الفوضى العامة, حافظ النقد اللبناني على قيمته وبرهن رغم عومه على الحوالات الكثيفة التي تلقتها منظمة التحرير الفلسطينية, عن مرونة اللبناني وطواعية اقتصاده الحر, فمنذ اندلاع القتال في 1975 وحتى الغزو الإسرائيلي في 1982 لم تتراجع الليلة اللبنانية إلا بنسبة ضئيلة جدًا, ففي الخريف الذي تلا الاجتياح وعندما ظن الكثيرون أن البلد على عتبة الولادة الجديدة كان سعر الدولار لا يتجاوز الثلاث ليرات لبنانية, ثم اختفت هذه الآمال, وأصبح سعر الدولار في أوائل عام 1985, 12 ليرة لبنانية وبيع في نهايتها بسعر 18 ليرة. أما في عام 1986 فقد ازداد الوضع سوءًا, إذ هبطت قيمة الليرة إلى حوالي 60 ليرة للدولار.
عانت القطاعات الاقتصادية من ضرر يكاد لا يصدق إذ كشفت إحدى الدراسات عن تدمير 40% من المعدات الزراعية وانخفاض الإنتاج الزراعي بنسبة 30% وانخفاض الصادرات الزراعية بنسبة 80% وانخفاض الإنتاج الصناعي بنسبة 60% وتوقف كل مرافق قطاع الخدمات الرئيسة عن العمل, وتشير كل الدلائل إلى أن الوضع يزداد سوءًا (1).
__________
(1) التضامن, 6 نيسان 1985.(25/3)
الآمال المحبطة والفقر واستمرار العنف, عناصر دفعت العديد من اللبنانيين إلى الحضن المريح لهوياتهم الطائفية, فعادت الهوية المركبة للبنانيين كلبنانيين موارنة ولبنانيين شيعة ولبنانيين دروز, ولبنانيين سنة لترسم أكثر من أي وقت مضى حدود المسرح السياسي. إن الانسحاب إلى الهويات الطائفية المألوفة تولد عن الإقرار الواسع بأن احتفاظ طائفة ما بالامتيازات يعني حرمات طائفة أخرى منها, وباختصار فإن السياسة في لبنان أصبحت أكثر من أي وقت مضى لعبة ((الكل أو لا شيء)) وأخذت تكاليف خسارة هذه اللعبة تبدو جسيمة جدًا, لكن هذا لا يعني أن المد الطوائفي قد قوى الوحدة داخل كل طائفة, فصراع الأجيال والمصالح المناطقية المتنافسة والخصومات الشخصية, واستياء الفقر, وأنانية الأغنياء بالإضافة إلى الفهم المتناقض لدور الدين في المجتمع جعل من الانقسام والتفتت صفات محددة للسياسة اللبنانية.
ويواجه الزعماء الطائفيون التحديات سواء داخل مناطقهم أم خارجها.(25/4)
فالتحديث والتعليم وهجرة اليد العاملة وتوفر الاطلاع على وسائل الإعلام وتحسن إمكانية الوصول إلى المدن هي العوامل الحاسمة التي غذت تسييس الطبقة الدنيا والفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة, فقد رُفضت أنماط السياسة القديمة القائمة على الزعامة التقليدية والقيادة الكاريزمية دون أن يحل مكانها بديل فاعل, ويمكن اعتبار لبنان الذي غرق في بحر من السلاح المتطور نسبيًا بلدًا عممت فيه أدوات العنف, والتعبير النهائي عن العنف القاسي, في عدم تفريقه وغير العشوائي في استهدافه يتمثل في الاستخدام المتواصل للسيارات والشاحنات المفخخة التي تحصد من الأبرياء أكثر مما تقتل من المحاربين, ففي عام 1985 وحده قضى 250 شخصًا في ثلاثة حوادث فقط في طرابلس, وبئر العبد, وسن الفيل, كضحايا لهذا الشكل الصارخ من الإرهاب, ولا زالت هذه الأرقام الرهيبة تتوالى في العام 1986, ورغم سيطرة الميليشيات على الأرض, إلا أن سمتها البارزة تكمن في ضعفها لا قوتها, فلا مليشيا قادرة على فرض إرادتها على لبنان, بينما لكل منها القدرة على ضرب الاستقرار ورفض السلم.
من بين طوائف لبنان السبعة عشرة تلعب ثلاثة طوائف إضافة إلى الشيعة دورًا مهمًا بشكل خاص في الدوامة المستمرة, اثنتان منها الموارنة والسنة, مفتتتان سياسيًا ومشتتتان جغرافيًا, في المقاطع التالية نقدم صورة عن وضع كل طائفة لنعطي القارئ لمحة عن الوضع السياسي في لبنان منتصف 1986.
الموارنة:(25/5)
كما يذكر القارئ وزع الميثاق الوطني المناصب السياسية الرئيسية الثلاث: الرئاسة ورئاسة الوزراء ورئاسة المجلس, على قاعدة نسبة السكان المفترضة، فاحتكر الموارنة رئاسة الجمهورية وأعطيت رئاسة الوزراء للسنة ورئاسة المجلس للشيعة كذلك وزع الميثاق الوطني مقاعد البرلمان بين الطوائف المسيحية والإسلامية بنسبة ستة مقاعد للمسيحيين مقابل خمسة مقاعد للمسلمين, (فالمجلس الحالي المؤلف من 99 عضوًا يضم 30 مارونيًا و 20 سنيًا و 19 شيعيًا و 11 أرثوذكسيًا و 6 دروز و 5 أرمن و 6 كاثوليك و 2 بروتستانت).
وكما رأينا في الفصل الثاني أن النمو السكاني المتفاوت طائفيًا أبطل صحة الافتراضات الديموغرافية التي ساعدت على تبرير الصيغة الأصلية, كما أن التحديث الواسع الذي ميز لبنان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد دفع إلى الأمام بصفوف من المواطنين الحديثي التسيس الذين يرون أن التسوية السياسية لم تمنحهم حقهم, مما جعل الهيمنة المارونية والمسيحية عرضة لتحد متزايد.
ففي وقت مبكر كعام 1976 كان رئيس الجمهورية, سليمان فرنجية قد وافق على ((الوثيقة الدستورية)) التي جرى التفاوض عليها في دمشق والتي تمنح المسلمين والمسيحيين مقاعد متساوية في البرلمان, كما تحد بشكل متواضع من سلطات الرئيس الكبيرة نسبيًا, إلا أنها لسوء الحظ لم تنصر النور, ويعود ذلك إلى حد كبير إلى إجراءات كمال جنبلاط, والد زعيم الدروز الحالي التعطيلية.(25/6)
خلال حرب السنتين 1975 – 1976 زج بعدد من الميليشيات ذات الغالبية المارونية إلى ساحة الميدان, وكان بعضها مرتبطًا بشكل مباشر بالأحزاب السياسية القائمة حزب الوطنيين الأحرار برئاسة كميل شمعون وحزب الكتائب برئاسة بيار الجميل, إلا أن بعضها الآخر كان نتاجًا للأزمة كالقوات اللبنانية التي انبثقت عن القيادة التي أنشئت في عام 1976 لتنسيق نشاطات مجموعة من القوى المتباينة في إطار التنظيم السياسي الماروني المهيمن في عام 1980 كانت القوات اللبنانية تضم إلى صفوفها عددًا من موارنة الطبقة الدنيا والفئة الدنيا من الطبقة الوسطى بالإضافة إلى عدد لا بأس به من الكاثوليك وبعض الأرمن الذين شعروا بأن الأحزاب التقليدية غير تمثيلية وغير جدية (1) . كانت القوات اللبنانية هي الأداة التي برز بواسطتها بشير الجميل بن بيار الجميل, الذي امتزجت جرأته العسكرية بأسلوبه الكاريزماتي السلطوي لتضعه في مقدمة الواجهة السياسية المارونية.
__________
(1) انظر: Lewis W. Snider , The Lebanese Force: Their Origins and Role in Lebanon Politics, Middle East Journal May 6, 1985: 2-3.(25/7)
كانت القوات اللبنانية, شريكة إسرائيل في التخطيط لغزو 1982 المنتصر بالوكالة في الحرب الأهلية أو هكذا خيل إليها في ذلك الحين, ثم جاء اغتيال بشير في أيلول 1982 لينهي احتفالات النصر دون أن يقضي على طموحات ورثته, وشكل انتخاب أمين الجميل -شقيق بشير- رئيسًا حقيقة مرة, صعب على القوات اللبنانية أن تتقبلها, فقد اعتبر لدى العديد من الدوائر المارونية مجرد مغتصب للدور العائد شرعًا لأخيه الشهيد. وبدا منذ أيامه الأولى في سدة الرئاسة أن أمين الجميل لا يحوز على تأييد طائفته وأن الوجود القوي لبيار الجميل الذي يحظى باحترام واسع (توفي في أيلول 1984) هو وحده الذي وضع أخصامه الموارنة في وضع حرج, أدرك أمين حجم مشكلته مع القوات اللبنانية وقد أمضى فترة طويلة من رئاسته ينظر بقلق إلى الخلف.
وكان فشل أمين في إحراز تقدم بنَّاء في تحقيق الوفاق بين الطوائف عندما كانت لديه فرصة حقيقية لذلك في عام 1982 وأوائل 1983 يعود في جزء ليس بالقليل منه لالتزامه الشخصي بإعادة لبنان القديم بدلاً من بناء لبنان جديد, كما هو ناتج أيضًا عن حاجته لإرضاء قادة القوات اللبنانية الذين سعوا لتعزيز النصر الذي ظنوا أن السلاح الإسرائيلي قد اشتراه لهم في عام 1982.(25/8)
بين عامي 1982 – 1985 عانت القوات اللبنانية الهزيمة تلو الأخرى, إذ أسفرت محاولتها لإخضاع المناطق الدرزية في عالية والشوف عن هزيمتها على يد مليشيات الدورز التي برهنت عن بسالة عسكرية طالما ميزت هذه الطائفة ويمكن القول إن مغامرة القوات اللبنانية في المناطق الدرزية, هي التي ساهمت بشكل عميق في تبديد الآمال التي انتعشت في عام 1982 وكذلك حاولت القوات اللبنانية أن توسع من نطاق سيطرتها في الجنوب وبيروت إلا أنها باءت بالفشل فعندما حاولت مثلاً استغلال الانسحاب الإسرائيلي من صيدا في آذار ونيسان 1985 هزمت على يد تحالف (ساهم السوريون في رعايته) ضم مقاتلي الدروز والسنة والشيعة مخلفة وراءها آلاف المسيحيين المهجرين من قراهم.
ولقد كان واضحًا حتى منذ عام 1984, أن القوات اللبنانية تلعب ورقة ضعيفة, فبعد قصف الجيش اللبناني الذي يفتقد إلى أي معنى أو تبرير, والذي يبدو أنه تم بالتواطئ مع القوات اللبنانية ثار المسلمون الشيعة واستولوا على بيروت الغربية في 6 شباط 1984 (1), وكان هذا التطور هو الذي فرض عملية إعادة الانتشار, المتسرعة التي قامت بها القوات المتعددة الجنسيات التي كانت قد أرسلت مجددًا إلى لبنان إثر الإحراج الذي تعرضت له من جراء مذبحة صبرا وشاتيلا, التي جرت بعد الانسحاب الأول للقوات المتعددة الجنسيات في لبنان بقليل, مع انسحاب القوات المتعددة الجنسيات ومع تراجع الجيش الإسرائيلي إلى جنوب لبنان, بات من المؤكد أن لبنان يتجه حتمًا نحو أحضان سوريا.
__________
(1) ثمة تعقيدات تكاد تستعصي على الفهم, فمثلاً يشاع أن الرجل الذي باع الجيش اللبناني القذائف التي استخدمت لقصف الضاحية هو رجل شيعي لعب دور الوسيط مع إسرائيل.(25/9)
في مواجهة الانحسار المتزايد للدعم العسكري الأمريكي وضغوط الشيعة والدروز المشتركة أصبح أمين الجميل عرضة لمزيد من النفوذ السوري وقد ظهر ذلك بوضوح في تشكيل حكومة الاتحاد الوطني في نيسان 1984, التي جمعت أمين الجميل ووليد جنبلاط ونبيه بري في حكومة واحدة, وفي آذار 1984 ألغي اتفاق 17 أيار بين لبنان وإسرائيل, محققًا بذلك مطلبًا سوريًا رئيسيًا, وفي تشرين الأول تم استبدال كامل الأسعد, الحليف الشيعي الرئيسي للطائفة المارونية, بحسين الحسيني المقرب من دمشق والذي لا يستثير ذلك العداء الرهيب الذي يستثيره سلفه في صفوف الشيعة, وهكذا ففي نهاية 1984 بدا أن اتجاه الأحداث يسير لصالح خصوم القوات اللبنانية.
رغم ذلك أصرت القوات اللبنانية على رفض الاعتراف بضعف قوتها, ففي أوائل 1985 حاولت دمشق أن تثبت مكاسبها فبدأت بسلسلة من المفاوضات مع حلفائها وأصدقائها في لبنان وبالطبع لم تكن القوات اللبنانية من ضمنهم, فأخذت تتابع بقلق شديد مجريات النقاش في العاصمة السورية.
وبدلاً من الإذعان للنفوذ السوري قام سمير جعجع (33 سنة المقاتل المتمرس الذي أمضى تسع سنوات في القتال على الخطوط الأمامية) بانقلاب وضعه على رأس قيادة القوات اللبنانية، معلنًا أن منظمته ترفض رفضًا قاطعًا أي اتفاق أمني أو أي اتحاد جمركي, وأنه سيقف في وجه المطالب الشيعية والسنية والدرزية المتصاعدة لكن انقلاب جعجع المفاجئ لم يعمر طويلاً.(25/10)
في الأول من نسيان 1985 أرسل الرئيس حافظ الأسد اللواء محمد الخولي إلى أمين الجميل حاملاً معه رسالة واضحة وقاسية إما أن يقضي على الانتفاضة وإلا (1). أما أمين الجميل الذي لا يُعتبر الحزم من صفاته البارزة, فلقد تلقى مساعدة من الرئيس السابق المشهور بدهائه كميل شمعون، عقد شمعون مؤتمرًا في بكركي في 9 نيسان حضره العديد من السياسيين المسيحيين الرئيسيين والزعماء الدينيين, كانت محصلته المتوقعة بيانًا كان المقصود به تهدئة الرئيس السوري, ولقد ألزم المؤتمرون أنفسهم عبر هذا البيان بوحدة لبنان وهويته العربية وعلاقته الخاصة بسوريا, أدان المؤتمر في بكركي تقسيم لبنان أو كنتنة, مبددين الشكوك السورية التي تتهم الطائفة المارونية بالعمل على تقسيم لبنان, تزامن ذلك مع رسالة قوية نقلتها في الكواليس السفارة الأمريكية في بيروت ومفادها أن الولايات المتحدة لن تؤيد الانتفاضة وهي ترى فيها ضررًا بمصالح لبنان ومصلاح المسيحيين فيه, وضع مؤتمر بكركي مدعومًا بموقف الولايات المتحدة, ومعززًا بالهزائم التي تلقتها قوات جعجع في جنوب لبنان, حدًا مؤقتًا للانتفاضة, على الأقل.
__________
(1) Jim Muir Assad Tightens His Grip on Lebanon Middle East Internation 249 May 3, 1985: 3-5.(25/11)
ففي التاسع من أيار استُبدل جعجع بإيلي حبيقة (الذي تولى قيادة القوات التي نفذت مذابح صبرا وشاتيلا في أيلول 1982) عين حبيقة رئيسًا للجنة التنفيذية للقوات اللبنانية المشكلة حديثًا, ولم يضع وقتًا في إعلان تأييده لسوريا وقطع علاقاته بإسرائيل, ففي 18 أيار تم إغلاق مكتب القوات اللبنانية الذي فتح في القدس عام 1980 وصرح رئيسه بيار يزبك كاشفًا عن الدوافع المحركة لحبيقة وزملائه, ((ليس لدينا أي خيار سوى التوصل إلى تفاهم مع سوريا, إن استراتيجيتنا الآن هي ببساطة البقاء وأي شيء آخر لن يكون إلا محض انتحار)) (1).
أظهر حبيقة عن براغماتية وسعة حيلة, فالتقى في 31 تموز بسليمان فرنجية الرئيس السابق وصديق حافظ الأسد وأحد أمراء الحرب في زغرتا شمالي لبنان, وكان ابن فرنجية طوني قد اغتيل هو وعائلته على يد القوات اللبنانية في عام 1978 والرجل الكبير معروف برغبته في الثأر (لدى اغتيال بشير في أيلول 1982 تحدث سليمان فرنجية عن أسفه لعدم تمكنه ادعاء الفضل في هذا العمل) لذلك فاجأ الاجتماع العديد من المراقبين, إلا أنه من غير الواضح أن يكون هذا الاجتماع قد أنتج أكثر من همروجة إعلامية, فبرغم صلاته الوثيقة بسوريا رفض فرنجية أن يوافق على أي إصلاح يشارك فيه غير الموارنة في الرئاسة, حضر فرنجية مؤتمري الوفاق في جنيف ولوزان 1983-1984 (المقاطعين من القوات اللبنانية) وكان هو المسئول عن فشل مؤتمر لوزان 1984 من جراء إصراره على تمسك الموارنة بالرئاسة.
__________
(1) Jim Muir In Assad Tghtens His Grip on Lebanon, Middle East Intermational 249 (May 3, 1985) 8-9.(25/12)
مضى حبيقة في اتجاه مختلف تمامًا, فتوجه يحدوه شعور بعدم القدرة على تجنب ما هو حتمي, نحو حل سوري التخطيط, يدعو إلى إعادة توزيع المقاعد النيابية بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين, وإلغاء التوزيع الطائفي للمناصب السياسية بما فيها الرئاسة والإقرار بالطبع بعلاقة لبنان الخاصة مع سوريا, وفي التاسع من أيلول 1985 أصبح حبيقة أول قائد للقوات اللبنانية يقوم بزيارة دمشق حيث لقي استقبالاً حارًا من قبل الرئيس حافظ الأسد, ومن وجهة نظر حبيقة, فإن المغري في الأمر هو الضمانة السورية للمسيحيين اللبنانيين التي يصفها جيم ميور -أحد أذكى الصحافيين الموجودين على الساحة اللبنانية وأكثرهم ملاحقة للأحداث- كما يلي: ((تقوم الصيغة غير المكتوبة في حال التوصل إليها على ضمانة سوريا لأمن مسيحي لبنان مقابل تأكيدات على أن طائفتهم لن تكون في المستقبل منطلقًا لاعتداء على سوريا )) (1). وفي محاولة لمقاربة لبنان بشكل واقعي, اختارت سوريا أن تتعامل مع أولئك الذين يملكون السلطة على الأرض أي زعماء الميليشيات الرئيسية, فأصبحت دمشق منذ خريف عام 1985 مسرحًا لسلسلة من المفاوضات الثلاثية التي شارك فيها قادة المليشيات الدرزية والشيعية والمارونية, جنبلاط وبري وحبقية, وكانت النتيجة الاتفاق الذي أجل عدة مرات إلى أن تم توقيعه في 28 كانون الأول 1986.
__________
(1) المرجع نفسه ص 9.(25/13)
لكن ومنذ لحظة التوقيع الأولى كانت قدرة حبيقة على حمل الطائفة المارونية على القبول بالاتفاق موضع شك وتساؤل, فسلطته على القوات اللبنانية هي في أحسن حالاتها واهنة, لا يملك بالتأكيد القدرة على فرض إرادته على طائفته الممانعة, فقد واجهت جهود حبيقة معارضة من ثلاثة رؤساء سابقين كميل شمعون وشارل حلو وسليمان فرنجية بالإضافة إلى ابن فرنجية روبير وابن شمعون داني وكلاهما لم يبد ميلاً للابتعاد عن السياسة, ورغم أنه كان بوسع القوات اللبنانية بقيادة حبيقة أن تلجأ إلى تنفيذ إجراءات صارمة كما حدث في مواجهة العناصر الموالية لجعجع في شرقي بيروت في 14 تشرين الأول, إلا أنه كان من المشكوك فيه أن يتمكن حبيقة الشاب (لم يكن سنه يتعدى تسعة وعشرين عامًا عندما وقع على الاتفاق الثلاثي) من حمل الطائفة المارونية على القبول بالاتفاق, وهو لم يتمكن من ذلك بالفعل.
نجحت الاتفاقية في تحقيق أمر لم يكن مخططًا له إذ توحدت الطائفة المارونية في معارضتها. وفي الخامس عشر من كانون الثاني قام سمير جعجع بالاتفاق مع حزب الكتائب الذي يقوده الرئيس أمين الجميل بالهجوم على معقل حبيقة وتمكن بعد قتال ضار من طرد حبيقة من بيروت, والمفارقة أن محاولة سوريا لحمل اللبنانيين على الوفاق لم تنجح إلا في مصالحة الرئيس مع طائفته وهو إنجاز هام إذا تذكرنا عدم شعبيته في أوساط الطائفة المارونية.
منذ انتفاضة جعجع الثانية مورست جميع أنواع الضغوط المباشرة وغير المباشرة على الذين أجهضوا الاتفاق الثلاثي, فقصفت قرية الرئيس بكفيا بضراوة, حتى غدت شبه مدمرة وتعرضت مناطق مارونية إلى قصف مدفعي شديد وإطلاق قذائف صاروخية, الأمر الذي لم يؤد إلا لمزيد من العناد والتوحد في ظل الحصار, وهو الشعور الذي يسود الآن بين الموارنة.
الدروز:(25/14)
انقسم زعماء الدروز في القسم الأكبر من تاريخهم في لبنان إلى حزبين اليزبكيين والجنبلاطيين, لكن وليد جنبلاط تمتع بفرصة تاريخية بعد فشل العائلة الإرسلانية اليزبكية في إنتاج خليفة قوي للمرحوم مجيد أرسلان, الخصم السياسي لكمال جنبلاط اغتيل الأخيل عام 1977, فقد ارتكب فيصل مجيد إرسلان الذي خلف أباه خطأ سياسيًا قاتلاً عندما تحالف مع قوات بشير الجميل اللبنانية (1). أما بقية متحدي وليد فلا يملكون قاعدة شعبية واسعة ويفتقدون لامتياز وليد المتمثل في حقه الموروث في زعامة إحدى أكثر الطوائف تعصبًا على الصعيد اللبناني وحتى الإسلامي.
فالدروز الذين يشكلون فقط ما نسبته حوالي 6 إلى 7 % من مجموع سكان لبنان هم تاريخيًا من أقوى الطوائف اللبنانية إذ وفرت لهم العوامل الجيو سياسية, إحساسًا بالاطمئان مرده إلى أن أي غاز للجبل لن يتمكن من الاحتفاظ به كما اكتشفت القوات اللبنانية نفسها, ومن الإنصاف القول: إن الاتفاق الماروني الدرزي هو الذي كان يجعل فترات الاستقرار ممكنه إلا أن الماضي شهد أيضًا فترات من العنف الدموي بين هاتين الطائفتين (2).
__________
(1) As'ad Abu Khalil , Druze, Sunni and Siiite Political Leadership in Present day Lebanon, Arab Studise Quarterly 7, no. 4 Fall 1985: 33.
(2) كمال جنبلاط I Spea for Lebanon trans, Michael Pallis.(25/15)
ووليد أيضًا هو رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يدعو للعلمانية, إلا أن عضويته تكاد تقتصر على الدروز وهو يعمل, في الواقع, كمليشيا الدروز, أما وليد الذي كان يوصف غالبًا بعدم النضوج وغرابة الأطوار والسعي وراء الأهواء الشخصية وافتقاره الشجاعة, فقد فاجأ الكثيرين من كبار نقاده وحتى عدد لا بأس به من مؤيديه, إذ برهن عن كونه اللاعب الأكثر ذكاء وفاعلية على الساحة اللبنانية, فما أن عبرت القوات الإسرائيلية قصره في المختارة حتى أدرك أن أيام الهيمنة الفدائية قد ولت (الجدير بالذكر أنه على الرغم من رئاسة وليد جنبلاط للحركة الوطنية اللبنانية, التي تتألف من اليساريين والإصلاحيين والأحزاب الثورية المؤيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية فإنه لم يسمح بأي وجود فلسطيني فاعل في المناطق الدرزية في الشوف وعاليه).
ومع دخول القوات اللبنانية إلى منطقته, عقد وليد جنبلاط صفقة مع إسرائيل, التي كانت تجد في القوات اللبنانية حليفًا ضعيفًا لا يساعدها على استكمال مخططها في إعادة صياغة لبنان, قضت الصفقة بأن يتعهد جنبلاط بعدم السماح للفدائيين بدخول منطقته على أن تنسحب إسرائيل من الشوف, وحتى قبل أن تنسحب إسرائيل كان الإسرائيليون يغضون النظر عن السلاح الذي تمد به سوريا الدروز, بل إن الإسرائيليين أنفسهم ساهموا (نزولاً عند الضغوط التي مارستها الطائفة الدرزية داخل إسرائيل من ضمن عوامل أخرى) بإمداد الدروز بالسلاح دون أن يتوقفوا عن إمداد القوات اللبنانية أيضًا وقد اعتبر كبار المسئولين الإسرائيليين أن الترتيبات التي توصلوا إليها مع الدروز تمثل نجاحًا كبيرًا يودون لو كان باستطاعتهم أن يتوصلوا إلى مثله مع الشيعة في الجنوب.
ولعله مما له دلالته أن القطاع الذي يتيح للجيش الإسرائيلي ممارسة أكبر قدر من الفعالية هو القطاع الذي يضم البلدات الدرزية في القطاع الشرقي.(25/16)
آخذًا الدعم أنى يمكن الحصول عليه, اكتشف وليد في حركة أمل -وفي قائده نبيه بري- حليفًا مفيدًا, لكن ذلك لم يكن زواجًا مقدسًا, بل شكل من أشكال التعايش السياسي من المرجح أن يشهد نهاية عاصفة, قدم الدروز مساعدات رئيسه لحركة أمل لدى استيلائها على بيروت الغربية في شباط 1984, لكن حتى في ذلك الوقت كانت العلاقة بين الطرفين يشوبها التوتر.
كذلك برهنت مساندة الدروز عن أهميتها وتوقيتها الحاسم, عندما قامت أمل في نيسان وأيار 1985 بضرب ميليشيا المرابطون السنية في غربي بيروت لكن حين بدأت حملاتها الدموية ضد المخيمات الفلسطينية في جنوب بيروت, لم يرفض الدروز المشاركة فيها فحسب بل وسمحوا أيضًا لعناصر من جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني المتمركزة في الشوف بتقديم الدعم المدفعي ضد المواقع الحركية. ويسود انطباع واسع بأن فشل الدروز في دعم الحركة ضد المخيمات خلق عدة أعداء للحزب التقدمي ولوليد جنبلاط داخل حركة أمل وبين الشيعة بشكل عام, لكن في الواقع كان العداء قد استحكم من قبل تصادم الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل عدة مرات في بيروت الغربية, كان أكثرها خطورة في تشرين الثاني 1985, وثمة ما يدفع إلى الاعتقاد بأن تحالف أمل التقدمي لن يعمر طويلاً, على الرغم من إنشاء العديد من الجبهات التي تضم الطرفين.
ففي 6 آب التقى جنبلاط وبري في شتورا للإعلان رسميًا عن جبهة الاتحاد الوطني, وهي واحدة من سلسلة الجبهات الفاشلة, انضم إلى الجبهة عدد من الأحزاب الصغيرة الموالية لسوريا مثل الحزب العربي الديمقراطي والحزب الشيوعي اللبناني, ودعا برنامجها إلى إنشاء دستور جديد, وإلى إلغاء الطائفية السياسية وإقرار قانون انتخابي جديد يجعل من لبنان كله دائرة انتخابية واحدة وتقوية دور البرلمان على حساب دور الرئاسة (1)
__________
(1) تدعو الفقرة الرئيسية من البرنامج إلى:
تحقيق التوازن الصحيح بين السلطة التشريعية والسلطة الإجرائية وضمان استقلالية القضاء في ظل نظام رئاسي غير طائفي برماني ديمقراطي, تناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء الذي يمارس السلطات التنفيذية والإدارية, ويعد سياسة الدولة العامة وهو مسئول أمام مجلس النواب وأمام الشعب, ومجلس النواب هو الذي يختار رئيس الوزراء وهو الذي يمنح الثقة ويحجبها عن الحكومة, وتنشأ محكمة دستورية عليا, ويشكل مجلس أعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.(25/17)
.
ينجم عن برنامج جبهة الاتحاد الوطني, في حال تطبيقه, تقليص سلطة الموارنة والسنة السياسية الذين سيخسرون حقهم في الرئاسة ورئاسة الوزراء.
أكثر من ذلك فسينجم عن إلغاء الدوائر الانتخابية المتعددة لصالح الدائرة الانتخابية الواحدة, فقدان الزعماء التقليديون للقاعدة المحلية التي تشكل ضمانتهم للوصول إلى كرسي النيابة, لذلك كله فإنه من غير المستغرب أن يحظى البرنامج بمعارضة واسعة من قبل السياسيين السنة والموارنة, على السواء, إضافة إلى عدد من منافسي أمل في صفوف الشيعة الذين رأوا في البرنامج تعزيزًا لموقع أمل على حساب مواقعهم, وأخيرًا فإنه من الغريب أن يتوقع من اجتماع عدة منظمات طائفية في جوهرها محصلة غير طائفية.
لا يشكل الدروز, رغم قوتهم العسكرية نسبة كبيرة من السكان تكفي لإثارة طموحاتهم في لعب دور مهيمن في السياسة اللبنانية, في حين يرى الشيعة في المقابل أنهم يشكلون القوى الصاعدة في السياسة اللبنانية, وليس العيش في ظل دولة يهيمن عليها الشيعة بالفكرة المحببة بالنسبة إلى الدروز أو لبقية الطوائف اللبنانية.
ويبدو أن وليد يعتمد على استراتيجية ذات شقين الشق الأول: أن لا يقوم بأي عمل من شأنه أن يغضب الرئيس الأسد, مع محاولة الاحتفاظ بمسافة عنه عندما يكون ذلك ممكنًا, وفي هذا الإطار تجيء علاقته بليبيا والاتحاد السوفياتي التي تعمل على موازنة علاقته الجيدة مع سوريا, كذلك تصب ترتيباته العملية مع إسرائيل في الإطار ذاته. ثانيا: أن يواصل تعزيز مناطقه عبر استمراره في الحفاظ على استقلاله الذاتي عن حكومة بيروت وفي هذا الإطار في العام 1984 تم فتح مرفأ خلده الذي يوفر للطائفة منفذًا حيويًا على المتوسط.(25/18)
أما تصريحاته العلنية المليئة بالسخرية المريرة فهي تعكس رغبته في وجود بلد يتمكن من السيطرة عليه أو عدم وجود أي بلد على الإطلاق, وهو واقعي بما في الكفاية لإدراك أن الاحتمال الأول ليس احتمالاً جديًا, وفي مقابلة له في آب 1985 أعلن وليد جنبلاط بوضوح: ((أريد لبنان بحسب طريقتي وليس بحسب طريقتهم, لسنا حركة إصلاحية, وإذا كانت الحرب من أجل هذا الهدف فلا نريدها, لقد قلت: إما قاتلاً أو مقتولاً, ولا زلت أعني ذلك, وهذا هو كل شيء, نريد أن نغير النظام كله)) (1).
اشترك وليد جنبلاط في جميع المفاوضات التي هدفت إلى التوصل إلى تسوية إلا أن قليلون يعتقدون بأنه كان يضع أهمية كبيرة على نجاح المفاوضات, فهو يعرف بوضوح أن أي حل سياسي سيضعف بالضرورة من قوة الدروز, وسيضعف بالتالي من قوته الشخصية.
السنة:
أما الطائفة السنية المدينية الحسنة التعليم والأمنية تقليديًا على منصب رئاسة الوزراء, فهي الطائفة الأكثر تمزقًا على الصعيد السياسي, وبينما لا يعاني السنة بخلاف الطوائف الأخرى التي تشكل أقليات سواء في لبنان أم في العالم العربي, من مخاوف كهذه, فطائفتهم تسيطر على العالم العربي, والأمة الإسلامية, وبما أن منظمة التحرير الفلسطينية لعبت دور مليشيا السنة فقد كان من الطبيعي أن تضعف قوة الطائفة السنية بضعف منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان, وهم يجدون أنفسهم الآن مكشوفين ومستهدفين وهم شديدو الحساسية من خطر أن يقوم النظام السوري بالتضحية بمصالحهم في إطار صفقة مع مليشيات الموارنة والشيعة والدروز.
فقد وجد السنة أنفسهم بعد السيطرة الشيعية على بيروت الغربية في شباط 1984, يلعبون دورًا غير مألوف بالنسبة إليهم هو دور الخاضع للهيمنة فلقد كان لهجوم أمل على المخيمات الفلسطينية تأثيرًا صاعقًا عليهم, وهم على الأرجح محقين في الاستنتاج أن الشيعة يسعون عبر إضعافهم لقوة الفلسطينيين إلى إضعاف السنة.
__________
(1) السفير 5 نيسان 1985.(25/19)
وكانت مليشيا المرابطون الصغيرة, الذي يكشف لجوء قائدها إبراهيم قليلات إلى العيش في باريس, عن مدى ضعفها, هدفًا لهجمات أمل المتعددة كان أهمها 16-17 أيار 1985, وذلك عندما هاجم مقاتلو أمل بدعم من الدروز مكاتب المرابطون ومواقهم, استمرت الصدامات بين أمل والمرابطون.
لكن من غير المتوقع أن تشكل هذه المليشيا خطرًا جديًا على حركة أمل المتفوقة عدديًا, ولقد ظهرت بعض الميليشيات السنية الأخرى التي حاولت تحدي سيطرة أمل على بيروت الغربية, إلا أن أيًا منها لم يصب نجاحًا, ومؤخرًا سحقت أمل حركة السادس من شباط التي يقودها شاكر البرجاوي وذلك في 2-3 حزيران 1986, وقد خلف القضاء على القسم الأكبر من هذه الميليشيات لدى العديد من السنة الانطباع بأن الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان هو أملهم الوحيد في مواجهة الطموحات الشيعية.
ثمة ظاهرة مهمة, رغم عدم الانتباه إليها بشكل واسع خارج لبنان, هي ظاهرة انضمام بعض السنة إلى حركات دينية شعبية تضع السنية في مواجهة التشيع, وقد استفادت عدة تنظيمات سنية بيروتية من التوتر الشيعي السني الاستقطاب أعضاء جدد, وكما رأينا عند الشيعة فإن هذه التنظيمات تميل إلى أن تكون ذات بنية مفككة تقوم على قاعدة الحي, يقود عبد الحفيظ قاسم, رئيس اتحاد علماء المسلمين أحد أهم هذه الحركات ((المجلس العسكري الإسلامي الذي يسعى بشكل مباشر إلى إيجاد هوية سنية مستقلة, ولقد ذهب أحد رجال الدين السنة إلى حد القول بأنه من المشروع من وجهة نظر الشريعة الإسلامية سفك دم الشيعة)) (1).
__________
(1) Abu Khalil, Dreuze, Sunni and Shiite Political Leadership, PP.40-41.(25/20)
أما في صيدا فإن أهم قائدين سنيين هما نزيه البزري الذي اكتسب تأييدًا محليًا هامًا بفضل معارضته الصلبة للاحتلال الإسرائيلي, ومصطفى سعد قائد التنظيم الشعبي الناصري, ولقد تميزت علاقة الرجلين بحركة أمل بالاضطراب وعدم الاستقرار, ومنذ أن فقد مصطفى سعد بصره في انفجار سيارة مفخخة في كانون الثاني 1985 والذي أودى بحياة ابنته أيضًا, تولى أخوه أسامة أعمال القيادة اليومية للتنظيم الناصري, بينما لا يزال مصطفى هو القائد الأعلى للتنظيم, ولقد لعبت القوات المشتركة التي أنشأها سعد دورًا هامًا في إلحاق الهزيمة بالقوات اللبنانية في القرى الواقعة في شرقي صيدا في نيسان 1985.
في ظل الظروف المضطربة القائمة في لبنان لم تتمكن القيادة السنية التقليدية من ممارسة أي دور فاعل في تمثيل المصالح السنية, إلا أنهم انتقدوا بصراحة وبشدة الشراكة الشيعية الدرزية, فاعتبر تمام سلام, رئيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية, إن برنامج جبهة الاتحاد الوطني ليس أكثر من نسخة معدلة من برنامج الحركة الوطنية (1)وتوجه زعماء السنة أمثال رشيد كرامي, رئيس الوزراء الحالي, ورؤساء الوزارة السابقون رشيد الصلح وصائب سلام وسليم الحص إلى دمشق تكرارًا مشتكين من تحكم الفوضى ببيروت الغربية لكن دون جدوى. وفي أيلول 1985 وبعد أن نشب القتال مرة أخرى حول المخيمات وفي خضم القصف المتبادل بين بيروت الغربية والشرقية أرسل رئيس الوزراء كرامي, سليم الحص إلى دمشق ليطالبه بتدخل سوريا عسكريًا لإنهاء القتال, أخذ السوريون وقتهم في الإجابة ومضت تسعة أشهر أخرى قبل أن يجد الأسد نفسه مضطرًا للعمل.
__________
(1) صوت لبنان الحر بالإنجليزية 7 آب 1985.(25/21)
وفي طرابلس, ثاني أكبر مدينة في لبنان, يرأس الشيخ سعيد شعبان حركة التوحيد الإسلامي التي أسسها في عام 1982 ويعتقد بشكل واسع أن الشيخ شعبان يتلقى دعمًا ماليًا من إيران, وهو على علاقة ممتازة بالجمهورية الإسلامية, يدعو شعبان إلى قيام دولة إسلامية فهو يرى أن البديل للحكم الإسلامي هو حكم الكفار (1) إلا أن شعبان لا يقبل بالنموذج الإيراني للحكم الإسلامي القائم على ولاية الفقيه, بل يدعو إلى العودة إلى الخلافة السنية التي تمأسس السلطة بدلاً من تمركزها في يد شخص واحد, كما في حالة آية الله الخميني, وشعبان المعروف بآرائه المعادية للمسيحيين لم يتوان عن عرض تصوره لحل المعضلة في لبنان: ((لا أرى حلاً للمشكلة اللبنانية إلا باستيلاء المسلمين على السياسة والإدارة في لبنان, إذا حكم المسلمون فسوف يحكمون بالعدل, أما إذا حكم الآخرون فلسوف يقضون على الطوائف الأخرى)) (2).
سعت حركة التوحيد بالتحالف مع بعض المجموعات الأخرى إلى السيطرة على طرابلس, فسيطرت علىمرفأ طرابلس (لا تقل عائداته الجمركية عن 80000 دولار شهريًا) ولاحقت الحركة اليساريين والعلمانيين, ويقول أحد المؤلفين: إنه في عام 1983 قامت الحركة بذبح الشيوعيين وعائلاتهم وألقت بجثثهم في البحر لتخليص الأرض من رجسهم (3). والقوى المعارضة لحركة شعبان تشمل الحزب العربي الديمقراطي الذي يتلقى دعمًا سوريًا كثيفًا والذي تحوي صفوفه عددًا من العلويين المستوردين, نشب قتال عنيف في عام 1984, ورغم جهود سوريا للتوصل إلى اتفاقية تعهد بالأمن في طرابلس إلى القوى السورية واللبنانية الشرعية, استمر القتال طوال عام 1985.
__________
(1) مقابلة مع الشيخ شعبان, النهار العربي والدولي، 21 تموز 1985.
(2) Daily Star Beirut, November 14, 1984.
(3) Abu Khalil, Druze, Sunni and Shiite Political Leadershrp, PP. 42.(25/22)
نشب آخر قتال عنيف في طرابلس في أيلول 1985, عندما ساندت المدفعية السورية رجال المليشيا اللبنانيين, في الهجوم على مواقع التوحيد, وتشير التقارير الصحافية إلى مغادرة أكثر من 200 ألف نسمة المدينة هربًا من القصف الكثيف, وبدا أن حركة التوحيد التي تكبدت خسائر فادحة في الأرواح من قوة تفوقها عددًا, تتجه نحو هزيمة فادحة, إلا أن تضافر تطورين مترابطين على ما يبدو أديا إلى وصول القتال إلى نهاية معقدة, ففي 30 أيلول خطفت منظمة التحرير الإسلامي أربعة موظفين في السفارة السوفياتية في بيروت, مطالبة بإيقاف سوريا للقتال في العاصمة الشمالية إذا ما شاءوا إطلاق الرهائن, ثم وعلى أثر وساطة ديبلوماسية إيرانية, توجه في اليوم التالي وفد إيراني إلى طرابلس لمرافقة شعبان إلى دمشق.
وفي الثالث من تشرين الأول توصل الرئيس الأسد وشعبان إلى اتفاقية تنص على تسليم كافة الأسلحة الثقيلة والمتوسطة إلى السوريين وتسمح لحلفاء دمشق العلمانيين بإعادة فتح مكاتبهم في طرابلس, وبالطبع كانت الاتفاقية قاسية على شعبان الذي رفض قبل ذلك بشهر شروطًا مماثلة, ولكنه لم يملك أي خيار آخر سوى الموافقة, أطلق ثلاثة من الدبلوماسيين في أواخر تشرين الأول (كان الرابع قد قتل أثر اختطافه بقليل) وشرع السوريون في تنفيذ الاتفاقية محرزين نجاحًا مؤقتًا على الأقل.
إذا حافظ الوضع على هدوئه في طرابلس, يكون السوريون قد أعادوا جوًا من السلام إلى مدينتين لبنانيتين, وفي 7 أيلول 1985 أعد السوريون خطة أمنية لمدينة زحلة الأرثوذكسية تتعاون بموجبها فرقة سورية من مائة جندي وعشرين عنصرًا من المخابرات مع قوات الأمن الداخلي المحلية على فرض النظام, في غضون ذلك, قد يعيد الشيخ الجريء الذي لا يمكن أن يتهم بضعف الثقة بالنفس, الكرة محاولاً مد نفوذه إلى بيروت التي قد يجد فيها بسبب التوتر السني الشيعي آذانًا صاغية.
الشيعة:(25/23)
الشيعة طائفة تمزقها الانشقاقات, فمع تدهور الوضع في لبنان وجد قادة أمثال نبيه بري أنفسهم عرضة لعدة تحديات داخلية وخارجية.
ظهر موقف بري الحرج هذا خلال حادثة خطف طائرة التي دبليو آي في حزيران تموز 1985 فرغم عدم تورط أمل في الإعداد للهجوم أو تنفيذه, إلا أن بري سرعان ما وجد نفسه في وضع يقوم فيه منافسوه الأكثر تطرفًا في حزب الله, (من المحتمل أنهم هم الذين اختاروا الخاطفين) بسرقة الأضواء وإضعاف سلطته داخل الطائفة الشيعية فقام بري باحتجاز الرهائن في خطوة شبيهة جدًا بما قام به في شباط 1984, حيث كانت خطوته في بيروت الغربية تهدف جزئيًا إلى إيقاف تآكل قاعدته, إلا أن محدودية خطوته تكشف على معضلته من جهة وعن ديناميكيات بيئته السياسية من جهة أخرى, فنحن نتعامل مع حركات سياسية لا مع أحزاب, واضحة المعالم وفق المفهوم الغربي, وأعضاؤها يمكن تحريضهم واستثارتهم ودفعهم بسهولة أكثر مما يمكن توجيههم, فالإقناع أسلوب تكنيك رجل في مثل وضع بري, ليس بوسعه أن يتخطى المزاج السياسي لقاعدته الشعبية, وإن هو نسي ذلك تعرض لخطر فقدانها ففي حالة طائرة التي دبليو آي السيئة الذكر كان بوسع نبيه بري أن يحافظ على حياة الرهائن إلا أن إطلاق سراحهم كان عليه أن ينتظر تدخل بعض اللاعبين الأقوياء كسوريا وإيران, استطاع بري أن يقلل خسائره حارمًا منافسيه من إحراز نصر تام لكنهم نجحوا بالمقابل في إظهار عدم امتلاكه للسلطة التامة.
وباختصار نجح بري في التوصل إلى توازن مؤقت إلا أن المعركة لم تنته بعد.(25/24)
أما في داخل أمل فيواجه نبيه بري مجموعة من المنافسين لكنه استطاع حتى الآن أن يتغلب على تحدياتهم, فبعد تأجيله سنتين متتاليتين, عقد المؤتمر السادس للحركة في 4 نيسان 1986 وبرهن الاجتماع الذي استمر يومًا كاملاً عن مهارة بري في تعزيز سيطرته على الحركة, فلم يسفر المؤتمر عن إعادة انتخابه رئيسًا لحركة أمل فحسب بل تولى أيضًا رئاسة المكتب السياسي بدلاً من نائبه الاسمي عاكف حيدر الذي كلف برئاسة مكتب الأبحاث المنشأ حديثًا.
قاطع حسن هاشم منافس بري الرئيسي داخل أمل بالإضافة إلى عدد من القادة الجنوبيين الهامين المؤتمر, واستطاع بري مستغلاً غيابه أن يعين أحد مؤيديه عاطف عون, رئيسًا للجنة التنفيذية, وتركت مغادرة هاشم للحركة ارتياحًا مشوبًا بالقلق فهو يحتفظ بقاعدة هامة من المؤيدين في الجنوب, وعلاقات طيبة مع رئيس مجلس النواب حسين الحسيني, وروابط ودية مع عدد من رجال الدين المؤيدين لحزب الله, وباختصار فهو يستطيع أن يكون منافسًا أشد خطورة خارج أمل منه في داخلها, ويبقى الشيخ عبد الأمير قبلان رجل الدين الأهم داخل حركة أمل, وهو يرأس قسم الشريعة في الحركة ولا تزال القيادة تضم -كما في السابق- عددًا من الشخصيات المعروفة بتأييدها لخط حزب الله أكثر من تأييدها لبري, ومن أهم هؤلاء مصطفى ديراني مسئول الأمن المركزي, وزكريا حمزة, عضو المكتب السياسي.(25/25)
رغم نجاح بري الظاهر في تعزيز موقعه, كان بعض المراقبين يتوقع أن يشهد المؤتمر سقوطه, إلا أن الطائفة الشيعية شهدت تفتتًا ملحوظًا على مستوى السلطة, فالانتهازيون المحليون والشبيحة والقبضايات قد تكاثروا بشكل غير معقول مستفيدين من حالة انعدام الأمن الطاغية على عدد من المناطق التي يسيطر عليها الشيعة, فالقادة المحليون سواء الذين يسكنون في بيروت الغربية أم في القرى الجنوبية والمعروفين بجشعهم لا بكفاءتهم قد خففوا من قدرة أمل وحزب الله على الإمساك بزمام الأمور, وبالتالي فإن فرض النظام في ظل الظروف الفوضوية السائدة في منتصف عام 1986 لن يكون مهمة سهلة, وهناك شيء واحد مؤكد: كلما استطالت عملية التفتت كلما ازدادت مهمة فرض النظام صعوبة.
وقد زاد في حدة المشاكل ذلك الانتشار الواسع, للتخوف من صعود الطائفة الشيعية, التي تبدو في نظر العديد من اللبنانيين غير الشيعة كمارد يهدد بالسيطرة على لبنان ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا, الأمر الذي يجعل من أي خلط جديد للتحالفات بين الطوائف احتمالاً قائمًا, وعلى أي حال فبينما يتنبأ البعض بهيمنة الشيعة على الدولة فإنه لم يبق من هذه الدولة شيئًا يستأهل الهيمنة عليه.
يملك الشيعة مصلحة أكيدة في الدفاع عن سلامة أراضي لبنان واستقلاله بالإضافة إلى أنهم قد يوفرون بعد فترة المادة اللاصقة التي تعيد وصل أجزاء لبنان المتنافرة بغض النظر عن الشكل, إلا أن أكثر السياسيين الشيعة تفاؤلاً يرون أنه لا يزال هناك طريق صعبة وطويلة بانتظارهم (1).
الخلاصة:
__________
(1) Augustus R. Norton, Changing Actors and Shiite Politichal Leadership among the Shiites ef Lebanon, Annals of the American Academy of Political and Social Scienco, no. 482(November 1985): 109-121.(25/26)
الطائفتان اللتان تملكان مصلحة في إعادة توحيد لبنان هما الطائفتان المارونية والطائفة الشيعية وبالتالي فإن احتمال عملهما على تحقيق مصلحتهما المشتركة هو احتمال قائم لا يجوز الاستخفاف به, وبما أنهما من الطوائف الأقلوية في عالم عربي يتميز بأغلبية سنية طاغية فلن يستفيد أي منهما من تفكيك لبنان, فبخلاف السنة الذين ينعمون بالأمان الذي يتيحه انتماؤهم إلى الأغلبية المناطقية لن يجد الشيعة والموارنة خارج لبنان إلا المخاوف, أما الدروز فإن صغر عددهم لا يتيح لهم أن يطمعوا إلى أكثر مما حصلوا عليه, الحكم الذاتي في منطقة الشوف أضف إلى ذلك أن الدروز قد برهنوا عن قدرتهم على القيام بما يلزم لتبديد قوة منافسيهم وهي صفة تشمل الشيعة والموارنة على حد سواء.
إن الصدامات المتفرقة التي ميزت العلاقة بين الدروز والشيعة نتجت عن تضارب في المصالح, وبينما يحافظ الطرفان على وحدتهم المبدئية, فإنه ثمة ما يبرر التساؤل عن قدرة شراكة بري جنبلاط على الاستمرار في المستقبل.
فالحملة الشيعية على الوجود الفلسطيني المسلح في عامي 1985-1986 قد أخرجت التناقضات الكامنة في علاقة الدروز الشيعة إلى العلن, ولسوف تستمر في تعميقها, وفي غضون ذلك ستواصل القوى الخارجية ممارسة قدر كبير من التأثير على الأحداث داخل لبنان, فإسرائيل رغم -وبعضهم يقول بسبب- فشلها في لبنان, لا تزال تحافظ على تفاهم مع الدروز وعلى اتصالات مع الموارنة, وبالتالي فإنه ليس واضحًا على الإطلاق ما إذا كانت إسرائيل ستؤيد إعادة تأسيس لبنان خصوصًا إذا ما كان البديل هو الإبقاء على الوضع المتأزم الذي يضعف قوة العديد من أخصامها.(25/27)
وتستمر إيران في دعم مناصريها في لبنان وتبرز إشارات متزايدة تشير إلى ارتباط حزب الله الواسع بإيران, ولم يلق برنامج أمل السياسي المعتدل وقيادتها غير الدينية رضا إيران التام في السنوات الأخيرة ومن المرجح أن تواصل إيران دعمها لخصوم أمل (1).
لكن اليد السورية هي الأقوى, ويبدو أن السياسة السورية تعتمد على واقعية واضحة المعالم, فليس لديها أية أوهام, بل تتعامل مع لبنان كما هو. فبدلاً من تكرار المغامرة بالتدخل على نطاق واسع, كما فعلت في عام 1976 فضلت دمشق أن تدعم تلك العناصر اللبنانية التي تخدم مصالحها والتي تملك القوة على ممارسة هيمنة فاعلة على أجزاء من لبنان, وكما يظهر الفشل المريع لاتفاقية 28 كانون الأول فإنه حتى حافظ الأسد نفسه لا يمكنه أن يحدد بشكل حازم أين موطن السلطة الفعلية في لبنان.
بعد ستة أشهر من الصمت الكئيب الذي تلا المحاولة الفاشلة للوصول إلى تسوية في لبنان, رفض خلالها نائب الرئيس خدام عدة توسلات من اللبنانيين السنة لوضع حد للمأساة, تحرك السوريون على نطاق ضيق, فأرسلوا في 4 تموز فرقة من الجنود وعناصر المخابرات, بلغ عددها في منتصف الشهر نفسه حوالي ثمانمائة رجل, لدعم القوات الحكومية الضعيفة في محاولة أخرى لفرض النظام في الشطر الغربي من العاصمة.
__________
(1) كذلك وصل رونالد د. ماكلورين إلى نتائج مشابهة في دراسته: Peace in Lebanon دراسة غير منشورة, ألقيت في جامعة كاليفورنيا, 9 نيسان 1985.(25/28)
وكذلك هددت معركة المخيمات باستثارة السنة في سوريا, وهي مسألة يوليها النظام السوري اهتمامه الدائم, ومارست إيران حليفة سوريا ضغوطًا دبلوماسية ولعلها قد عرضت أن تحد من مطالبتها بأن تدفع سوريا فواتير النفط الإيراني التي تجاوزت تاريخ استحقاقها, أضف إلى ذلك أنه لا يوجد ما يحمل على التشكيك في رغبة حافظ الأسد, في إظهار سوريا كقوة إقليمية قادرة على إحلال الاستقرار -إن لم يكن الإصلاح في لبنان- إضافة إلى كونها قوة يجب على الولايات المتحدة أن تنظر إليها بجدية في أي عملية سلام, لكن لم ينتج عن التدخل السوري إلا التأجيل, فرغم دفع الوجود السوري المليشيات إلى الانسحاب من الشوارع إلا أنه لم تمض عدة أيام حتى كانت موجة جديدة من السيارات المفخخة تنفجر في شطري العاصمة.
حتى مع الأخذ بعين الاعتبار مخاطر الانزلاق المهني إلى المبالغة في التهكم المرير -وهو انزلاق صحي- لدى التعاطي مع الأحداث اللبنانية, إلا أن القول بأن اللبنانيين لا يبغون السلام هو قول يغالي في عدميته, ففي اليوم السابق للمبادرة السورية الأخيرة, اشترك اللبنانيون جميعًا من مسلمين ومسيحيين في إضراب عام للتعبير عن يأسهم من جراء استمرار الأزمة اللبنانية, فإذا ما قويت دعائم هذه الوحدة الأساسية بدلالاتها اللا طائفية الهامة, فقد تصل إلى وضع حد للتدمير الذاتي للبنان، لكن رغم أنه لا يمكن إنكار توق اللبنانيين إلى السلام, إلا أنهم جميعًا, ولسوء الحظ, يريدون سلامًا وفق شروطهم, ويبدو أنه من المرجح أن تستمر الصراعات داخل وبين طوائف السنة والشيعة والدروز والموارنة, وإنه لن يكون هناك وقف قريب للقتال الناشئ عن وجهات النظر المتضاربة حول مستقبل لبنان.(25/29)
وبينما يتابع معظم القادة الطائفيين رفضهم الاحتفالي للتقسيم, يأخذ التقسيم طريقه إلى حيز الوجود, ومن المقدر على لبنان أن يبقى بلدًا مجزأ لعدة سنوات قادمة, هذا لا يعني أن لبنان سيزول من الوجود فلسوف يتم على الأرجح الحفاظ على وهم الدولة التي قد تعود إليها الحياة عندما يكتشف أمراء الحرب وأقطابها عدم قدرتهم على تقديم أي بديل قابل للحياة, ولسوف يستمر لبنان في تجاوز طموحات ومخططات جيرانه الأقوياء في الشرق والجنوب, كما تمكن من تخطي تدخلات القوى الأجنبية في القرون الماضية؛ لأن الشيء الوحيد الذي يساعد لبنان على البقاء, بالإضافة طبعًا إلى حيوية شعبة وقدرته على التحمل, هو عدم قابليته للهضم, لكن المحزن أن السلام في لبنان ليس سوى حلم يتعهد الناس ذكراه في قلوبهم, والمؤكد أن الشيعة وبقية اللبنانيين لن ينعموا به قريبًا (1).(25/30)
الفصل السادس
الغزو الإسرائيلي ونتائجه
على مدى سبع سنوات من النزف الدموي, انتظر اللبنانيون -بفارغ الصبر- الفصل الأخير من الحرب المدمرة التي قضت على بلادهم, وعشية الغزو الإسرائيلي في حزيران 1982, كان كثيرون منهم قد وصلوا إلى آخر المطاف وإلى قناعة مشتركة تفترض أنهم قادرون على حل مشاكلهم بمجرد رحيل الفلسطينيين والسوريين والإسرائيليين وغيرهم, ومما له دلالته أن شعار ((لبنان للبنانيين)) كان يردده الشيعة والموارنة معًا, وأن الكثيرين شعروا أن بلادهم ضحية السلب والنهب من كافة أشكال القوى الخارجية.
إلا أن اللبنانيين جميعًا أدركوا أنهم عاجزون عن امتلاك الوسائل الكفيلة بطرد كافة القوى الأجنبية, وهكذا فعندما غزا الجيش الإسرائيلي لبنان في عام 1982 انتعشت الآمال في جميع أنحاء البلاد, فقد حقق الإسرائيليون ما عجز اللبنانيون عن تحقيقه إعادة لبنان إلى اللبنانيين, وما أن انقشع الدخان في خريف 1982 حتى تنفس اللبنانيون جميعًا الصعداء, ها هي ((المعركة الأخيرة)) التي طال انتظارها, وسوف ينعم لبنان أخيرًا بالسلام, ولم يتوقف إلا قليلون ليثيروا السؤال: ((من الذي يحدد شروط هذا السلام؟)) فقد وجهت الولايات المتحدة الكلية القوة أنظارها إلينا أخيرًا, وعما قريب ترحل الجيوش الأجنبية كما قال المفاوض الأمريكي فيليب حبيب للرئيس سركيس في آب 1982 ويبدأ الإعمار والإصلاح السياسي, لقد انتهى على ما يبدو ليل لبنان الطويل.(26/1)
من المحزن أن هذه الآمال -كما نعرف الآن- كانت واهمة, ففي السنوات التي تلت غزو حزيران, تعرض لبنان إلى مستويات جديدة من العنف والتمزق, وبدا أن البلاد بعيدة جدًا بالفعل عن أن تنعم ولو بقدر ضئيل من السلام والاستقرار, فليس هناك حل سهل لمعضلة لبنان لا في وصفات وتحليلات الخبراء ولا في فرضيات علماء الاجتماع, فالحلول, كما المسئولية, تقع في آن معًا داخل لبنان وخارجه, فمن السهل جدًا, بل من المريح, أن يحكم المرء بشكل دغماتي على لبنان بالفشل, بوصفه كارثة طال انتظار حودثها, إلا أن هذه الأحكام الحتمية تتجاهل التأثير المتفاوت للأحداث والسياسة. هذه النقطة تبدو صحيحة على الأخص بالنسبة لحركة أمل, وعلى ضوئها نستطيع أن نفهم الأحداث التي حصلت مؤخرًا في داخل المجتمع الشيعي وفي لبنان ككل بشكل أفضل.
ندرس فيما يلي العوامل المتفاعلة, التي تحكمت بالتعبئة السياسية للشيعة منذ عام 1982, وكما سنرى فإن الأحداث التي جرت منذ ذلك الحين سرعت من إمكانية تحول التعبئة السياسية للشيعة إلى عملية طاردة لا جاذبة, رغم أن الحركة كانت تكسب قبل 1982 تأييدًا متسارعًا وتدفع بأعدائها إلى الظل والهامشية.
تخطي عقبة 1982:(26/2)
في أوائل عام 1982 كانت العلاقات بين أمل والقوات المشتركة التي تسيطر عليها فتح, قد تخطت نقطة اللا رجوع, فبعد اصطدامات خطيرة في كانون الثاني ونيسان أصبح من الواضح أن مصالح الشيعة لم يعد بإمكانها أن تتوافق مع الوجود الفدائي, وبينما كانت الحركة لا تزال أضعف, على الصعيد العسكري من خصومها, ساعدت التحسينات التكتيكية والقيادة العسكرية الأكثر نضجًا على جعلها أكثر فأكثر قوة عسكرية لا يستهان بها, وحتى في الجنوب حيث تفتقد أمل للتمركز الجغرافي الذي تتمع به في ضواحي بيروت؛ حيث كان مقاتلوها يتوزعون على القرى, فلقد عوضت عن ضعفها باستخدام أسلوب ((اضرب واه رب)) والهجمات التمويهية في الوقت الذي كانت تدافع فيه بشدة عن مراكزها القروية القوية.
من المرجح أن ازدياد فعالية أمل (في الصدمات) مع الفلسطينيين شجع مهندسي الغزو الإسرائيلي الذي كان يستهدف القضاء على منظمة التحرير عسكريًا وسياسيًا, إلا أنه سرعان ما بدا واضحًا أن المخططين الإسرائيليين قد أخطأوا في تقديرهم للدلالات البعيدة المدى لموقف أمل, إذ لم تترجم ضآلة التأييد للفدائيين نفسها إلى تأييد أعمى طويل الأمد لإسرائيل, فلا قائد حركيًا بارزًا قادر على تقبل علاقة مع إسرائيل أو مع دميتها سعد حداد, ورغم تضخيم بعض التقارير لحجم التعاون بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والحركة, إلا أنه من الواضح أنه في الأسابيع الأولى من الغزو بشكل خاص, قدم سكان الجنوب مساعدات من نوع تحديد مواقع مخازن أسلحة الفدائيين أو التعرف إلى قادة الجماعات المناوئة, بل إن أحد القادة قال: إنه لو لم تقم إسرائيل بغزوها لما كان هناك مفر من وقوع الحب بين الفلسطينيين وأمل, إذن ليس من قبيل المبالغة القول بأن عددًا من شيعة الجنوب رحب بالغزو الإسرائيلي إلا أنهم إنما -وهنا ينبغي التشديد- فعلوا ذلك ظنًا منهم أن إسرائيل لن تتلكأ في الانسحاب من لبنان.(26/3)
هذا المزاج الجنوبي لم ينتقل حرفيًا إلى معقلي أمل الآخرين في بيروت والبقاع, فالجنوب هو المنطقة الوحيدة التي تعرض فيها الشعب بشكل دائم لثقل الآلة العسكرية الإسرائيلية, وهو أيضًا المنطقة التي فرضت قواعد الجغرافيا عليهم الاختيار بين تحمل منظمة التحرير أو مقاومتها, لكن قصر نظر منظمة التحرير الفلسطينية, وخصوصًا جناحها المسيطر فتح, ما لبث أن ساعد في الوصول إلى قرار بالمسألة, فبغض النظر عن قيام حملة إسرائيلية فاعلة تهدف إلى تنفير الأهالي في الجنوب من الفدائيين, فإن سلوك هؤلاء (أو سلوك حلفائهم اللبنانيين) الكريه حسم الأمر بما لم يترك مجالاً لخيار فعلي.
خارج الجنوب حددت أمل إطار إخصامها بشكل أضيق, فمثلاً كان القتال (الذي كانت أمل طرفًا فيه) الدائر في محيط برج البراجنة في جنوبي بيروت يميل إلى أن يكون قتالاً ضد القوى التي رأت أمل في عدائيتها للشيعة أو لإيران عدائية مطلقة, كجبهة التحرير العربية التي ترعاها العراق, بالإضافة إلى أن العديد من معارك ضواحي بيروت لم تكن ناتجة عن خلافات أيديولوجية بقدر ما كانت نتيجة للتنافس على استقطاب الأعضاء الجدد, كما هي حال عدة صدامات مع الحزب الشيوعي, ولقد ظهر هذا التباين في الظروف بوضوح في اكتفاء مقاتلي أمل في الجنوب بمراقبة أرتال الدبابات الإسرائيلية الزاحفة, بينما شن مقاتلون حركيون من الشياح والأوزاعي والغبيري بعضًا من أشد الأعمال العسكرية الدفاعية عزيمة وإيمانًا ضد الغزاة (مثلاً الدفاع عن مثلث خلدة, الذي كبد جيش ((الدفاع)) الإسرائيلي المهاجم خسائر فادحة, كان في معظمة شيعيًا أمليًا).(26/4)
صحيح أن الغزو حقق ما لم تتمكن أمل من تحقيقه, وهو طرد الفدائيين من الجنوب, إلا أن ابتهاج الشيعة لم يدم طويلاً, فسرعان ما بدا واضحًا أن ما شهدوه هو مجرد استبدال احتلال باحتلال آخر, أضف إلى ذلك أن أمل وجدت نفسها مع الاجتياح, أمام جملة من المشاكل التي إن لم تحل بنجاح قد تهدد حيوية الحركة وحتى استمراريتها.
وكما حدث في مرحلة سابقة عندما انقطعت عملية التعبئة السياسية للشيعة باندلاع أحداث 1975-1976, بدا من المرجح أن أحداث 1982 ستؤدي إلى قطع جهود التعبئة التي بدأت في 1978- 1979, واكتسبت زخمًا مشهودًا في 1981- 1982 فقد بدا للوهلة الأولى وكأن مبرر وجود أمل نفسه -الأمن المجتمعي- قد سقط. وبينما شكل النموذج الإيراني واختفاء موسى الصدر رمزين تعبويين فائقي الأهمية, إلا أن العامل الحاسم في دفع الاستقطاب كان تزايد النفور الشيعي الفلسطيني, الذي اكتسب بشكل متزايد أشكالاً أكثر خطورة وعنفًا, وهكذا فمع إزالة الفدائيين برز السؤال الأساسي التالي: هل يمكن المحافظة على عضوية تغذت على جاذبية الأمن المجتمعي عندما تكون ضرورة هذا الأمن أضعف بكثير أو حتى أقل وضوحًا؟ وبمعنى آخر هل يمكن لأمل أن تعيد توجيه جهودها بما يكفل المحافظة على دورها القيادي الأولي لمجتمع شيعي متسيس, أم هل ستفقد الحركة أي مبرر تاريخي لوجودها مع قيام لبنان الجديد؟ وفي الواقع, فقد واجهت الحركة تحديات على ثلاث مستويات متميزة, من داخل الحركة ومن داخل الطائفة ومن الطوائف الأخرى.
التحديات الداخلية:(26/5)
لم تكن أمل في أي وقت من الأوقات منظمة متماسكة داخليًا, بل كان احتمال بروز انشقاقات تنظيمية قائمًا بشكل دائم, كانت الحركة مثالاً وموقفًا سياسيًا اجتماعيًا, بقدر ما كانت كيانًا مستساغًا حسن التنظيم, وعلى عكس غيرها من الميليشيات في لبنان, فقد كان مقاتلوها يقبضون رواتب ضئيلة جدًا بحيث دفعت الحاجة الاقتصادية عددًا منهم إلى معاودة البحث عن رزقهم, كلما تسنى لهم ذلك, فإذا أخذنا الطبيعة التنظيمية الأولية للحركة بعين الاعتبار, لا يعود من المستغرب أن تحدث انشقاقات في المناطق المتاخمة للحدود الإسرائيلية والسورية إذ احتوت أمل بالإضافة إلى خلافات محلية المنشأ، على مزيج من الاتجاهات السياسية والتفضيلات الأيديولوجية.
حافظت أمل بشكل دائم على حصتها من العملاء والانتهازيين الذين كانوا مستعدين تمامًا للرجوع إلى علاقات السيد -التابع خارج التنظيم, إذ لم تمثل لهم سوى البديل عن سيدهم المفضل, سواء كان هذا الزعيم أو ذاك, أم منظمة سياسية منافسة, أكثر من ذلك فإن عددًا ليس بالقليل من الشيعة وجدوا أنه من الأسلم بل ومن الأفيد لهم أن يؤيدوا الحركة أو ينتسبوا إليها من أن يعارضوها بشكل علني, تساقط أغلب هؤلاء من الحركة بعد الغزو الإسرائيلي في عام 1982, أي بعد تضاؤل جدوى هذا المنطق البراغماتي.(26/6)
شكل الذين طرحوا تساؤلات خطيرة حول الأهداف السياسية لحركة أمل, بما في ذلك التساؤل عن مدى مصداقيتها كحركة شيعية, تهديدات إضافية, كان أحدها ذلك الذي أثاره حسين الموسوي عضو مجلس القيادة المؤلف من 30 عضوًا ففي تموز 1982 اتهم الموسوي قادة الحركة بالتعامل مع الغزاة الإسرائيليين، وحاول بمساعدة إيرانية على ما يبدو, أن يعيد توجيه الحركة نحو ما يشكل حسب رأيه أهدافها الحقيقية, استنساخ الثورة الإسلامية في لبنان, وبحسب مسئولين في أمل, فإن الموسوي طرد بعد ذلك من الحركة في صيف 1982 أو لعله ببساطة ترك الحركة, ثم أقام منذ منتصف 1986 في بعلبك البقاع الخاضع للسيطرة السورية, حيث يرأس حركة أمل الإسلامية بالتعاون -على ما يظهر- مع كتيبة من الحرس الثوري كانت إيران قد أرسلتها إلى لبنان في منتصف 1982, ورغم أن دوره لم يعرف بعد بشكل محدد فقد اتهم بالتورط بعدد من أعمال العنف السياسية بما فيها خطف رئيس الجامعة الأمريكية دافيد دودج في 1982, وتدمير السفارة الأمريكية في نيسان 1983.(26/7)
وفي تشرين الثاني 19783 كان الموسوي وأتباعه هدفًا لغارات جوية إسرائيلية وفرنسية للرد على دورهم المشتبه به في حادث تفجير شاحنة مفخخة في مقر الوحدة الفرنسية في القوات المتعددة الجنسيات (التي هوجمت في اليوم نفسه الذي هوجم فيه مقر قيادة قوات المارينز الأمريكية حيث قتل 243 جنديا أمريكيًا) في تشرين الأول، وتفجير مقر قيادة إسرائيلي في صور في تشرين الثاني, بالإضافة إلى اتهام عنصرين من أتباعه بمحاولة اغتيال رئيس الوزراء شفيق الوزان في تموز 1983 (1).
ورغم أن عدد أتباعه محدود إلا أن نشاطاته المدعومة -كما يبدو من إيران والتي كانت سوريا تغض النظر عنها أو حتى تشجعها على الأقل حتى منتصف 1984- قد قامت بحمل جزء من السكان الشيعة في البقاع على الخروج عن الخط الرئيسي لحركة أمل (2).
__________
(1) انظر مقالة: Bob Woodward , Richard Harwood and Christran Wiliams , Beirut Bombing: Political Warriod Used Men Who Grave Death , Washington Post , February 1, 1984 لسوء الحظ تحفل هذه المقالة بالأخطاء, ويجب استخدامها بحذر شديد انظر أيضًا: Augustus R. Norton , Politicad Violence and Shia Factionalism in Lebanon, Middle East Insight3, no 2 ()1983: 9-16 New Outlook , January 1984.
(2) بعد تواتر عدد من التقارير الصحافية التي تشير إلى أن السوريين بدأوا بالحد من نشاطات القوى الإيرانية, والقوى الموالية لها في منطقة بعلبك, يبدو أنهم قد لجأوا إلى ذلك فعلاً في آب 1984، انظر: G. G. La Belle , Syrian Army Takes Controlof Baabeek in Lebanon, Washington POST August , 17 , 1984.(26/8)
ورغم كون نشاطات الموسوي قد حظيت درجة لا بأس بها من الشهرة إلا أن المهمة الفورية الأكثر إلحاحًا أمام حركة أمل كانت تتمثل في كيفية المحافظة على كتلتها الحيوية من الشخصيات السياسية المعتدلة في ظل راية واحدة, ولهذه الغاية عقدت الحركة مؤتمرًا عامًا في منتصف نيسان 1983, أعاد هذا المؤتمر تنصيب نبيه بري دون معارضة تذكر في منصب الرئاسة الذي كان يتولاه منذ منتصف نيسان 1980, كذلك وافق على خطة أعدها بري وعدد من معاونيه الأقربين تهدف إلى إعادة تنظيم البنية التنظيمية لحركة أمل, إذ ألغي مجلس القادة الذي كان يتألف من ثلاثين عضوًا, وحل محله مكتب سياسي من 60 عضوًا على أن يرأسه العقيد المتقاعد عاكف حيدر, وهو سياسي معتدل يمتاز بنشاطه وحضور بديهته ويحظى باحترام واسع خارج نطاق الطائفة الشيعية, لكن يبدو أنه يفتقر إلى الشعبية التي يتمتع بها العديد من قادة أمل في الشارع الشيعي, لذلك ورغم تكريسه الرجل الثاني في حركة أمل إلا أنه من غير المرجح أن يخلف نبيه بري يومًا ما.
ويبدو أن بري المعروف بحسه الغريزي للبقاء يسعى إلى استخدام حيدر لإحداث توازن في وجه بعض منافسيه الأكثر جدية داخل أمل مثل حسن هاشم الذي برز كأهم منافس جدي له في داخل الحركة والذي تولى مهام رئاسة اللجنة التنفيذية الملكلفة بتنفيذ قرارات المكتب السياسي, يتمتع حسن هاشم -من قرية الزهراني الجنوبية- بتأييد شعبي ملحوظ في الجنوب. بالإضافة إلى حسن هاشم أعطيت مقاعد في اللجنة التنفيذية المؤلفة من 12 عضوًا إلى زكريا حمزة وهيثم جمعة, وغسان سبلاني وهو مواطن أمريكي, ولعل القرار الأهم كان إنشاء مجلس قيادة مكلف بالقيادة اليومية للحركة برئاسة بري وعضوية حيدر وهاشم وشقيقة الإمام موسى الصدر السيدة رباب الصدر, (التي تسكن في صور) والمفتي الشيخ عبد الأمير قبلان (من كبار قادة رجال الدين الشيعة).(26/9)
من النتائج الواضحة للمؤتمر التأكيد على سلطة بري بوصفه الأول بين متساويين, لكنه ليس بأي شكل من الأشكال الزعيم المطلق, صفت إعادة التنظيم عددًا من الموالين لإيران, الذين كانوا ينتقدون سياسات بري المعتدلة وعدم رغبته في محاكاة الخط الإسلامي الثوري الإيراني, كما أسقطت من عضوية القيادة الجديدة واحدًا من المتعاملين بشكل صارخ مع إسرائيل في الجنوب.
وبينما كان من المستحيل الحصول على قائمة شاملة بأسماء مسئولي أمل فمن الجدير بالإشارة أن الشيخ شمس الدين (الذي سنتحدث عنه لاحقًا) توقف كما يبدو عن لعب أي دور رسمي, أشار بري في أحاديث خاصة إلى أن هدف إعادة التنظيم كان التخفيف من التشديد على الطابع العسكري للحركة وتعزيز إمكانياتها للعب دور سياسي أكثر فاعلية, يهدف بشكل خاص إلى تأمين مكاسب اقتصادية للشيعة وتحسين ظروفهم الاجتماعية, ولتحقيق هذه الأهداف أعطيت عدة مقاعد في المكتب السياسي والهيئة التنفيذية إلى عدد من التكنوقراطيين (أمثال هيثم جمعة وغسان سبلاني) (1).
يعكس أسلوب بري في القيادة عدم تمتعه بسلطة شاملة فهو لا يقود بالتوجيه بقدر ما يقود بالإقناع والمحاباة، فقد كان الوصول إلى أي قرار يفترض كشرط ضروري مسبق, مرحلة من المفاوضات والمساومات الداخلية, لذلك فقد كان من الأسهل في أغلب الأحيان اتخاذ قرار بعدم اتخاذ قرار من السعي لتوفير قيادة إيجابية, وباختصار شكلت ضرورات البقاء السياسي والمادي في أغلب الأحيان, مصدرا لتبني بري سياسة اللا حسم المتعمد, واعتماده لسياسة تميل إلى ترك كل الخيارات مفتوحة.
المنافسون الشيعة:
__________
(1) وفر هذه المعلومات حول مؤتمر عام 1983 ديبلوماسي غربي يعمل في بيروت, حول مؤتمرات أمل السابقة انظر المقالات التالية: Marc Kravetz , The Shi ite Resugence (paris) May 28 1982. السفير 5 نيسان 1980, وعلي حمادة (حركة أمل) النهار العربي والدولي 6-12 نيسان 1981.(26/10)
شهدت فترة ما بعد الغزو عودة عدد من الزعماء التقليديين إلى البروز, والذين كانوا على افتقارهم إلى قاعدة شعبية قوية داخل الطائفة الشيعية, وما برحوا يحتفظون بصلات سياسية هامة خارجها, وبالطبع فإن أهم هؤلاء هم كامل الأسعد رئيس المجلس النيابي (حتى هزيمته في تشرين الأول 1984) أما الآخرون فبينهم من يحمل أسماء مألوفة مثل حمادة وعسيران والخليل, هؤلاء الزعماء الذين يطلق عليهم أخصامهم عادة صفة ((الإقطاع السياسي)) عفا عليهم الزمن ولم يعد لهم أي مكان في لبنان المعاصر, فالسيطرة التي تمتعوا بها على جزء من الطائفة الشيعية إلى ما قبل 1975 أخذت تتلاشى, وهو ما يبدو بوضوح لدى مراجعة النجاحات التي حققها السيد موسى الصدر في أوائل السبعينات, فالعملية -التعبئة الاجتماعية نفسها- التي ساعدت على إتاحة الطائفة للعمل السياسي قللت من عزلتها وتمزقها وقلصت بالتالي من قدرة الزعيم على الهيمنة على أجزاء معينة من الطائفة.(26/11)
تنتمي قيادة أمل -فيما خلا استثناءات قليلة- إلى عائلات لم تتمتع تقليديًا بنفوذ سياسي, ولا يوجد من يجسد هذه الحقيقة أحسن من نبيه بري نفسه, فهو لا يملك أن يقول -كما يفعل الزعماء التقليديون- بأنه سليل أسرة من الأعيان وتاريخه الشخصي يكاد يلخص حكاية العديد من إخوانه الذين كانت الهجرة مفتاحهم للهروب من طغيان النظام السياسي القديم والدخول في حقبة سياسية جديدة, ولد نبيه بري في فريتون سيراليون, لأب مهاجر يعمل في التجارة, هاجر إلى سيراليون كالكثير من إخوانه هربًا من النظام الاقتصادي المحبط في الجنوب, عاد بري الطفل إلى مسقط رأسه في بلدة تبنين الجنوبية, ولم تعرف عائلته بغناها أو بنفوذها رغم كونها عائلة كبيرة نسبيًا. باختصار, بري رجل ذو أصول برجوازيه صغيرة, لا يملك أسلوب منافسيه الزاهي البراق, ولا اتصالاتهم. أحد منافسيه الرئيسيين وهو نائب بوسعه أن يفاخر بنسبه وكافة المظاهر الأخرى التي يفتقدها بري, تساءل مرة في حضوري: من هو ابن مصطفى بري هذا؟ (إلا أنه بالطبع يعرف الجواب عن ظهر قلب) كما أن أخصامه داخل الطائفة الشيعية يشيرون تكرارًا إلى أنه لم يرافق الإمام الصدر قبل عام 1974 ويلمحون إلى أنه كان عضوًا في حزب البعث.
من السهل أن تسيء تقييم رجل كبري, فهو رجل لا لون له, على الأقل بالمقارنة مع عدد من أخصامه السياسيين, هو قادم جديد إلى صرح السياسة, ولديه من المخاوف كل مايتوقعه المرء من رجل كان نجاحه مفاجأة بالنسبة إليه, بقدر ما كان مفاجأة لأخصامه, وهي المخاوف التي نمت فيه غريزة بقاء تستحق الإعجاب والتقدير.(26/12)
بري محام, درس الحقوق في الجامعة اللبنانية, وفيها مارس نشاطات طلابية سياسية, حتى وصل إلى منصب رئيس اتحاد الطلاب, بعد تخرجه في عام 1963, سافر إلى السوربون ليكمل دراسته, أمضى بري بضعة سنوات في أفريقيا الغربية, وزار الولايات المتحدة مرتين على الأقل, في الفترة الواقعة بين 1963 وأوائل السبعينات (زوجته السابقة وأطفاله الستة ما زالوا يعيشون في الولايات المتحدة, ولقد حصل بري علىبطاقة إقامة ((غرين كارد))) وهو بالتعارض مع حسين الحسيني, الذي خلفه بري في رئاسة الحركة, نموذج للطبقة الوسطى الشيعية الجديدة, التي تجد في سياسة الزعماء التقليديين سياسة قائمة على القمع, أنه رجل ذو مرجع سوسيولوجي, استطاع لدهشة مناوئيه أن يحافظ على تأييد نسبة لا بأس بها من أغنياء الشيعة العصاميين, مع حفاظه على تأييد فقرائهم (في منتصف الثمانينات كان يناضل للاحتفاظ بتأييد الفئة الأخيرة له).(26/13)
إن التغيرات السياسية الاجتماعية التي ساعدت على نمو نفوذ بري المتزايد لم تخف عن أنظار الزعماء الشيعة وحلفائهم, إلا أنهم لم يسارعوا بالطبع إلى إفساح المجال أمام القادمين الجدد. وكما سأشرح أدناه, فإن محاولة تجاهل تسيس الشيعة أو حتى إرجاع عقارب ساعة التسيس الشيعي إلى الوراء, والذي ليس بوسع من يقف أمام احتمال فقدان الكثير سوى اللجوء إليها غير أنها مناورة محكومة بالفشل, فقد تطيل المناورات وألاعيب السياسة من الأجل المحتوم لهذه الفئة, إلا أنه من المشكوك فيه كثيرًا أن تكون قادرة على استعادة ولو جزء بسيط من النفوذ والهيمنة التي كانت تتمتع بها, وهذا الحكم لا ينطبق على الشيعة فقط, بل وخصوصًا على الموارنة الذين تبدوا أنساق تحديثهم المتأخرة في أحيان كثيرة موازية بشكل مدهش لمثيلاتها لدى الشيعة (1).
__________
(1) أفضل عرض حول القوات اللبنانية والذي يعرض أيضًا للتطورات الموازية لدى الشيعة هو: Levis W. Snider , The Lebanese Forces Origins and role in Levanon's Politics Middle East Jourval 38 , no 1 Winter 1984: 1-33.(26/14)
أحد التحديات الأكثر جدية داخل الطائفة على أولوية أمل في قيادة الشيعة خصوصًا في أواخر 1982, وخلال عام 1983 كله, كان مصدرها فرد واحد هو الشيخ محمد مهدي شمس الدين, من مسئولي أمل السابقين (من الأعضاء البارزين في مجلس القيادة حتى 1983) وأحد أهم علماء الدين في لبنان, فلا منافس فعلي له, فيما يتعلق بالشرعية المؤسسية, إلا المفتي الجعفري الممتاز الشيخ عبد الأمير قبلان (الذي حافظ بالمقابل على علاقات وثيقة بالحركة) (1) منذ اختفاء الإمام الصدر الذي كان قائد حركة أمل ورئيسًا للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في آن, انقسم هذان الموقعان القياديان إلى منصب يتولاه مسئول غير ديني, وآخر يتولاه مسئول ديني, فتولى النائب حسين الحسيني قيادة حركة أمل حتى 1980 حينما استقال وخلفه نبيه بري, ثم تحالف الحسيني مع شمس الدين الذي يرأس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بينما يحتفظ بلقب نائب الرئيس؛ احترامًا للإمام الغائب موسى الصدر المنتخب رئيسًا حتى عام 1992 وجاء انتصار الحسيني على كامل الأسعد في
__________
(1) التقيت بالشيخ قبلان في قرية برج رجال الجنوبية في تشرين الأول 1982, حيث حللنا ضيفين على اجتماع لحركة أمل, صعقت بطريقته المباشرة البسيطة وتقنيته الفعالة في إيصال وجهات نظره التي تعتمد على استخدام الأمثلة المحلية والبديهة الحاضرة, ومن المثير للاهتمام أنه كان يحث أعضاء الحركة الحاضرين على أن يصبروا على الحكومة, كانت الحكومة في ذلك الوقت تقوم بهدم عدد من منازل الشيعة الفقراء, بالقرب من مطار بيروت, فبدلاً من أن يأخذ موقفًا قاطعًا في معارضته للحكومة, أوضح الشيخ أن البيوت المقامة تعرض حركة النقل الجوي للخطر, وأضاف متسائلاً: ((من الذي يعمل في مطار بيروت؟)) وهو يعني أنه ما لم يبق المطار عاملاً فلن يجد الموظفون الشيعة عملاً لهم, لكنه ما لبث أن أتبع ذلك بالتشديد على ضرورة أن تجد الحكومة مأوى بديلاً للذين أخلوا من بيوتهم.(26/15)
انتخابات رئاسة المجلس في تشرين الأول 1984 لتعزز من أحقيتهما (الحسيني وشمس الدين) في المطالبة بزعامة الطائفة.
قد تكون تفاصيل الصراع على الزعامة بين شمس الدين وبري مضللة ومخادعة, لكن الواضح أن كلاً منهما يعتبر الآخر منافسًا سياسيًا رئيسيًا له, ففي أوائل 1982 مثلاً, أشارت التقارير الصحافية إلى وجود صراع على السلطة بين بري وشمس الدين (1).
ثم دفع الاجتياح الإسرائيلي ببري إلى شمس الدين, على الرغم من بروز بعض الخلاف المتعلق بإلى أي مدى يجب على مقاتلي أمل مواجهة الجيش الإسرائيلي, كان بري -بحسب بعض المصادر- يدفع إلى دور أكثر هجومية وخصوصًا في رأس بيروت, لكن يبدو أن شمس الدين تمكن من فرض رأيه في النهاية (ومع ازدياد جذرية المناخ السياسي في أواخر 1982, أصبح شمس الدين من الدعاة الصاخبين لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي ) في الشهور التالية للاجتياح, تغلب الاثنان على خلافاتهما أو على الأقل وضعاها جانبًا إلا أن سنة 1983 شهدت عودة المنافسة بينهما إلى الظهور.
__________
(1) لمراجعة التقارير الصحافية حول هذه المنافسة انظر: Kravetz, Shi'ite Resurgence and Jrm Muir A strike that United Beirut Arabra The Islamic Review June 1982: 26-27.(26/16)
رغم اكتساب بري لبعض الشرعية عبر الدعم النشط للشيخ قبلان الذي دعا أمل ((العمود الفقري للطائفة الشيعية)) (1) إلا أن شمس الدين مؤكدًا على دوره في مؤسسة تستمد شرعيتها من الدولة حاول عزل بري باعتباره مجرد أحد قادة المليشيات, وبالتالي فهو لا يعدو كونه أحد أعراض الأزمة التي حلت بلبنان, ففي أوائل عام 1983 أعلن المجلس الشيعي الأعلى عن قطع شمس الدين لكافة العلاقات مع قيادة حركة أمل, (2) وأدت هذه القطيعة إلى وضع الشيخ شمس الدين فوق الصراع وأكسبت سعيه إلى لعب دور سياسي قيادي للشيعة, بعض المصداقية, وجعلته في الوقت نفسه محاورًا جذابًا لدى ممثلي الطوائف الأخرى.
فبينما كان بري ورفاقه يناضلون على الجبهة السياسية للحفاظ على سلامة بنية أمل التنظيمية, تجاوز شمس الدين هذا الصراع, وانضم إلى زعماء مسلمين آخرين, في تبني ما سمي بـ ((الموقف الإسلامي)) شارك شمس الدين إضافة إلى المفتي حسن خالد (سُنّة) والشيخ حليم تقي الدين (درزي) ورئيسي الوزراء السابقين سليم الحص وصائب سلام (سنة) وغيرهم من الشخصيات الإسلامية المعروفة, بالتوقيع على برنامج كان من السهل أن يكون صادرًا عن أمل, يعلن البرنامج عن التزام موقعيه بلبنان وطنًا نهائيًا مستقلاً, وبجمهورية ديمقراطية برلمانية تؤمن بالحرية وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية, ويدعو إلى إلغاء الطائفية السياسية (بينما يحافظ ضمنيًا على قانون الأحوال الشخصية) ويرفض أي مخطط لتقسيم وكنتنة ولا مركزة لبنان.
__________
(1) مقابلة مع الشيخ قبلان, مجلة المستقبل, 8 تشرين الأول 1983.
(2) مقابلة مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين, مجلة المستقبل, 5 آذار 1983.(26/17)
والنقطة هي أن الفروقات الجوهرية بين ((الموقف الإسلامي)) وأمل قليلة جدًا, فشمس الدين وبري لا يتنافسان بسبب أي اختلاف حاد في البرنامج السياسي بل بسبب غيرتهما أو حتى خصومتهما المتبادلة, فقاعدة بري هي الشارع بينما يكتسب شمس الدين مكانته من المؤسسة الشيعية المحترمة, مع الذين أحبط في يدهم من الفعاليات الجامحة وغير المصقولة التي تملك السلاح والرجال, وهكذا نجد رجالاً مثل رجل الأعمال الثري محمد حمود ونوابًا مثل عبد اللطيف الزين وحسين الحسيني يقفون مع شمس الدين ضد بري, وهم يقفون بالتالي مع الشرعية والمدنية وهما صفتان لا تتمتع بهما في رأيهم حركة أمل, وفي كافة الأحوال فإن الذين وقفوا مع شمس الدين والمجلس الشيعي الأعلى هم من مرافقي الإمام الأوائل. (1)
__________
(1) تشير رواية صحافية موثوق بها, على ما يبدو إلى أن الثمن الذي طلبه الشيخ محمد مهدي شمس الدين للتصالح مع حركة أمل هو إعادة الأعضاء الستة عشر الذين عينهم موسى الصدر إلى المكتب السياسي, والذين لم يبق منهم في موقع المسئولية في قيادة حركة أمل سوى ثلاثة أعضاء هم بري وحيدر وحسين يتيم, أما وضع الثلاثة عشر الباقين فهو كالتالي: حسين الحسيني, الرئيس الحالي لمجلس النواب, حسين كنعان, رئيس مجلس الجنوب من 1982 إلى 1984 بعد فترة إقامة طويلة في الولايات المتحدة, عباس مكي, عقيد في الجيش اللبناني علي الحسن, طبيب, مالك بدر الدين, طبيب وصاحب مستشفى أحمد إسماعيل (غير معروف) جمال منصور, طبيب, جعفر شرف الدين, من عائلة جنوبية باررزة ووزير سابق, رفيق شرف, رسام, محمد سعد (غير معروف) محمد يعقوب (رجل دين) وعباس بدر الدين (صحافي) والأخيران اختفيا مع الإمام الصدر في عام 1978 ومصطفى شمران أول وزير دفاع إيراني في أول حكومة مشكلة بعد عودة الخميني من منفاه في عام 1979 برئاسة مهدي بارزكان, والذي توفي في حادثة تحطم طائرة على الجبهة العراقية, وبالتأكيد فإن عودة الأعضاء العشرة الذين لا يزالون على قيد الحياة سيخفف من سلطة بري, بل ومن شرعيته, (انظر التضامن [لندن] 3 تشرين الثاني 1984).(26/18)
وهم جميعًا يدركون الأهمية الماسة للإصلاح السياسي في لبنان, إلا أنهم يسعون لأن يكونوا عملاء الإصلاح, أي أنهم يريدون إدارته, وهو أمر لا بد لهم من القيام به, إن أرادوا أن ينجوا من الغرق خلال العملية فهذه ليست مباراة في تحقيق الذات, إنها مسألة بقاء سياسي والنتيجة النهائية, بغض النظر عن بعض الانتصارات الثانوية التي حققها الفريقان, لا تزال في علم الغيب.
في الوقت الذي انخرط بري وشمس الدين فيه في صراع لتحديد الناطق الرسمي باسم الشيعة, كانت تجري عملية تفتيت أخرى هددت بجعل الصراع بينهما مسألة فيها نظر, فبعد أن كانت أمل في السنوات الثلاث أو الأربع السابقة لاجتياح 1982 تحظى بنجاح كبير في تعزيز هيمنتها, شهدت خاتمة الاجتياح بدء عملية معاكسة تمامًا.
بينما كان الغزو الإسرائيلي يمضي قدمًا, اشترك نبيه بري في لجنة الإنقاذ الوطني, التي أُنشئت لتبدأ ما برهن لاحقًا على أنه طريق طويل جدًا ومُضنٍ إلى الوفاق الوطني, ورغم أن حركة أمل لم تؤيد علنًا انتخاب بشير الجميل في آب 1982 مثلها مثل الشيخ عبد الأمير قبلان والشيخ محمد مهدي شمس الدين, القائدين الرئيسيين لرجال الدين الشيعة, لكنها عادت وأيدت انتخاب أمين الجميل بناء على ملفه السياسي الأقل إشكالية, على افتراض أنه سيسعى لتحقيق الوفاق بين الطوائف والإصلاح السياسي (1).
__________
(1) بناء على عدة نقاشات مع قادة في الحركة في تشرين الأول 1982.(26/19)
لسوء الحظ كان الشيخ أمين الجميل يفتقد إلى قاعدة شعبية هامة داخل الطائفة المارونية, مما دفعه إلى التنافس, دون نجاح مع إرث أخيه التنظيمي القوات اللبنانية, واجه الرئيس ميليشيا مارونية ضخمة وقوية على ما يبدو, كانت مقتنعة بخلاف ما حدث في أزمة 1958, حين تمكن الرئيس فؤاد شهاب من تحقيق الوفاق على قاعدة لا غالب ولا مغلوب, بأنها خرجت منتصرة من هذه الحرب ولو بالنيابة, أذكر جيدًا حوارًا أجريته مع أحد مسئولي القوات اللبنانية في تشرين الأول 1982, ما لبث أن سادته البرودة مما إن أدليت بملاحظة مفادها أن هناك لومًا يكفي ليطال الجميع, لم يكن الموارنة -في نظر محادثي- قد ارتكبوا أي خطأ على الإطلاق, وهو رأي لم يكن غير شائع في أوساطهم.
في مواجهة طائفة مارونية متصلبة ومستاءة من تولي أمين الجميل للسلطة التي هي ملك شرعي للشهيد بشير اضطر الرئيس الجديد لقضاء الكثير من وقته في إلقاء نظرات خاطفة إلى الخلف, فلم تكن استمراريته السياسية وحدها هي المهددة, بل بقاؤها على قيد الحياة أيضًا, كما يظهر من الشائعات الدورية الصادرة عن مصادر مسئولة حول المخططات التي تحكيها القوات اللبنانية والتي قد تكون قد خططت بالفعل للإطاحة به في أواخر عام 1983. أما افتقاده للتأييد الماروني فقد برز بشكل دراماتيكي في ربيع 1985, عندما شن أخصامه في القوات اللبنانية انتفاضة لتعزيز سلطتهم وللتأكيد, بطريقة لا تدع مجالاً للشك, على عدم رغبتهم في الخضوع لأمين الجميل.(26/20)
والمفارقة هي أن سعي أمين الجميل الفاشل لاكتساب قاعدة تأييد داخل طائفته قد بدد التأييد المعقول الذي كان يتمتع به لدى الطوائف الإسلامية. فبدلاً من أن يحاول توظيف تعاون قادة حركة أمل, بدا أنه أكثر ارتياحًا في التعامل مع الزعماء التقليديين, فاختار التحالف مع كامل الأسعد, الذي كان قد سهل, بوصفه رئيسًا للمجلس النيابي انتخاب بشير وأمين (يُشاع أن مساعدة رئيس المجلس لم تكن عملاً خيريًا, بل لعله تلقى على الأقل بحسب ما تقوله مصادر لبنانية مارونية تعويضات طائلة) ولعله من المثير للاهتمام ومما له دلالته أيضًا, أن كامل الأسعد الذي تمتع بتأييد قوي لدى الموارنة, لم يتمتع بأي تأييد تقريبًا في طائفته, كما يظهر من إقامته الدائمة منذ عام 1976, في جبل لبنان بدلاً من جبل عامل (الذي تقع فيه قرية الطيبة مسقط رأسه) كما أنه ليس من المستغرب من الناحية الأخرى, أن تكون صلته القوية بالرئيس قد أعادت تأجج الخصومة القديمة بينه وبين أمل.
في خريف 1982 كانت أمل قد توصلت إلى تبني موقفًا معتدلاً واعتمدت مبدأ ((الصبر مفتاح الفرج)) وبينما أدركت الحركة أن أيام القتال لم تنته بعد, إلا أنها اتخذت عدة مبادرات لتوسيع نشاطات الحركة في مجال الإنعاش الاجتماعي, في محاولة لاستعادة جوهرها الأصلي كحركة إصلاح اجتماعية سياسية, فأنشأت في الجنوب مثلاً سلسلة من المستوصفات العسكرية المجهزة بشكل جيد, على أن تقدم خدماتها لكافة المواطنين لقاء أجر زهيد, مع توفير الخدمة المجانية إذا دعت الضرورة, وهي مستوصفات تنم -كما بدا لي عندما زرتها في عام 1982- عن تخطيط جيد, ونية في الاستمرار, كما مولت أيضًا -رغم محدودية مواردها المالية- بعض المشاريع التحسينية العامة, كغرس بعض أشجار الجوز وتعبيد الطرقات داخل القرى.(26/21)
أما مجلس الجنوب بؤرة الفساد التي طالما لاكتها ألسنة الناس, فقد تم بعد طول انتظار وبعد عدة تدخلات من حركة أمل, تعيين حسين كنعان رئيسًا له, وهو رجل, أكثر اهتمامًا -اسميًا على الأقل- بالخدمة المدنية من الخدمة الشخصية, ثم استُبدِل لاحقًا بمحمد بيضون الذي تمتع بعلاقة طيبة مع نبيه بري والذي ينتمي فعلاً -بخلاف كنعان- إلى الجنوب, أضف إلى ذلك, أن مهرجان صور قد قدم تأكيدًا مبكرًا على حيوية الحركة إذ تجمع أكثر من 250000 شيعي في أيلول 1982 لإحياء الذكرى الرابعة لاختفاء الإمام الصدر. (وأقيم في النبطية مهرجان آخر كان أصغر من مهرجان صور, إلا أنه اتسم أيضًا بطابعه المؤثر, وعملت الاضطرابات الدورية والمظاهرات المحلية على التذكير بأن أمل ما زالت تحتفظ بقاعدة شعبية هامة.
في الوقت نفسه كان مسئولو حركة أمل الرئيسيون يتوقعون بادرة حسن نية من الحكم على شكل تنازلات إضافية متواضعة نسبيًا, لكن للأسف خاب فألهم فلم ينبعث طائر الفينيق من الرماد, بل تدهور الوضع الأمني طوال أشهر الخريف في عام 1982 وامتدادًا حتى العام 1983.
ففي تشرين الأول 1982 نشب القتال في الشوف بين ميليشيا الدروز والقوات اللبنانية التي كانت قد عاودت الدخول إلى المنطقة ((لتعزيز انتصارها)).(26/22)
وبدا أن إسرائيل التي احتلت الشوف حتى انسحابها المتهور في أيلول 1982, غير قادرة على إيقاف القتال, وفي الواقع, فقد يكون الإسرائيليون هم الذين سهلوا اندلاع القتال كما تشير بعض التقارير الموثوقة (1) عبر بري ورفاقه عن دعمهم للدروز, إلا أنهم لم يقدموا أي مساعدة جوهرية, وفي الوقت نفسه بدأ الجيش, الذي يعمل أحيانًا بتعاطف ظاهر مع القوات اللبنانية, بشن سلسلة مداهمات لأحياء في بيروت الغربية والضاحية, ملقيًا القبض على عدد من المناضلين الشيعة -غالبًا بناء على أدلة هشة- ومحاولاً نزع سلاحهم. وكما أخبرني مواطن شيعي في الغبيري في تشرين الأول 1982: ((يعتبرونني عدوًا لمجرد أني ملتحٍ وزوجتي ترتدي كما ينبغي لامرأة مسلمة عادية أن تفعل, وفي كل مرة أقترب من أحد الحواجز أخشى أن يعتقلوني)) ترك هذا الرجل حركة أمل ليلتحق بمجموعة أكثر جذرية يعتقد بأنها ستدافع عن حقوقه.
__________
(1) وكما يشير جيم موير, فإن الإسرائيليين كانوا يلعبون عدة أوراق في هذا القتال ((وكذلك اتبعوا منذ الأيام الأولى, سياسة فرق تسد الكلاسيكية في قضائي عاليه والشوف, فسمحوا بدخول الكتائبيين وتغاضوا عن تدفق السلاح والذخيرة إلى الدروز عبر الخطوط السورية الإسرائيلية, ثم اتبعوا, بعد أن فقدوا تعاون بيروت, سياسة تشجيع تفتيت لبنان إلى كيانات طائفية متناحرة)) Lebanon: Arena of Conflict , Crucible of peace Middle East Journal 38 , no 2 Spring 1984: 204-227: quotation at p.211, fn 6.(26/23)
شكلت اتفاقية 17 أيار 1983 التي تم التوصل إليها عبر وساطة أمريكية بين إسرائيل ولبنان, نقطة تحول رئيسة في الوضع المتدهور, نصت الاتفاقية على شروط مخلة بالسيادة اللبنانية بشكل جوهري بما في ذلك تقييدات على استخدام المجال الجوي وتحديد انتشار الجيش والأسلحة, أكثر من ذلك, فإن الاتفاقية لم تأت على ذكر قوات الأمم المتحدة اللهم إلا في مجال مراقبة محيط المخيمات, مما أثار مخاوف العديد من المسلمين من أن تكون إزالة القوات الدولية مقدمة لمنح القوات الإسرائيلية حرية في التحرك ما إن تكف عن كونها محط أنظار الرأي العام العالمي. وشكلت الرسالة الجانبية السرية التي وجهتها إسرئيل إلى الولايات المتحدة والتي تشترط تزامن الانسحاب الإسرائيلي الجزئي والممرحل بانسحاب سوريا وبقية القوات الفلسطينية من لبنان عائقًا رئيسيًا في وجه تطبيق الاتفاقية.
لقد أصبح واضحًا الآن أن اتفاق السابع عشر من أيار, شكل نهاية مرحلة التراجع السوري في لبنان, إذ ضمن بشروطه الملحقة معارضة سوريا التي رفضت مساواتها بالقوات الغازية الإسرائيلية جاعلة بالتالي من موقف الرئيس حافظ الأسد العنصر الحاسم في تحديد مصير تنفيذ الاتفاق, استند الأسد إلى الاتفاقية مستخدمًا إياها كرمز فاعل في تعبئة المشاعر المعادية لأمريكا ولإسرائيل, ووجدت المعارضة اللبنانية للاتفاقية ولأمين الجميل أيضًا تعبيرها المؤسسي في جبهة الإنقاذ الوطني التي تأسست في تموز 1983.(26/24)
حققت الاتفاقية مكسبًا واحدًا, وإن لم يدرك بشكل جيد, فقد نجحت عمليًا, ودون تخطيط أمريكي مسبق بالضرورة, في أن تشكل عملية إنقاذ للعلاقات العامة الإسرائيلية, فبتوقيعها على هذه الاتفاقية تمكنت إسرائيل من رد تهمة التعنت التي لازمتها منذ الخريف الفائت. لاحظ وزير الدفاع موشى آرنز بدقة أنه ليس لدى إسرائيل ما تخسره في هذه الاتفاقية فهي توفر لإسرائيل -في حال تطبيقها- بنية تحتية تتيح لها السيطرة على جنوب لبنان وتحيلة إلى حزام أمني مفيد, وهي تصفي -في الوقت نفسه- الوجود السوري العسكري الفاعل في لبنان, أما في حال فشل تنفيذها فستؤدي على أي حال لتحرير إسرائيل من الضغط الأوربي والأمريكي. (1) رأى الشيعة في الاتفاقية أداة إسرائيلية لتقسيم لبنان سياسيًا, واعتبروا الانسحاب الإسرائيلي الجزئي وسيلة لتخفيف كلفة الاحتلال دون استئصال الاحتلال نفسه, وهو رأي له ما يبرره في نظري, إذ أجل الإسرائيليون انسحابهم المكتمل حتى كانون الثاني 1985 وقرروا, حتى في ذلك الوقت الاحتفاظ, بوجود متبق في الجنوب عبر مليشيا رديفة في لبنان مدعومة بمئات الجنود الإسرائيليين والمستشارين العسكريين وعملاء المخابرات (2)
__________
(1) انظر Hirh Goodman A Progmatic Ideologue Atlantic September 1983 ) 22 FF وبدوره شدد صامويل لويس سفير الولايات المتحدة في إسرائيل خلال الاجتياح الإسرائيلي والذي اشترك في العملية الدبلوماسية التي أنتجت اتفاقية السابع عشر من أيار على أهمية الاتفاقية في تحسين العلاقات الأمريكية الإسرائيلية, كانت مغامرة إلا أنه كان من الأفضل الاستمرار بها ومن ثم رفضها على أن لا تبدأ بها على الإطلاق على أنها لم تكن فشلاً أيضًا؛ لأنها كانت إنجازًا هامًا تمثل البدء بعلاج الانقسام الأمريكي الإسرائيلي, ولقد كان من السخف عدم إكمالها. انظر: Tammr Gutner , Samleuvis and His Middle East Mission SAIAPHERE winter 1986: 12-13.
(2) انظر: Auaustus R. Noeton , Lebanon for the Lebanese , New York Times Febtuary 22, 1983 ; idem, Lebanese Quagmrie New York Times July, 1984, and iden Occupational Risks and planned Retirement Middle East Insight 4 , no Manch/April 1985: 14-18.(26/25)
.
كان لهذه الاتفاقية أثران هامان على حركة أمل: الأول دفعتها أكثر نحو التحالف مع سوريا, وهو تحالف كانت الحركة قد حاولت الابتعاد عنه في صيف وخريف 1982 وثانيًا شككت بمصداقية حيادية الولايات المتحدة الأمريكية والمساعي الدبلوماسية الحميدة التي تبذلها, كما طرحت أسئلة جدية تتعلق بنواياها في لبنان, ورغم كون السجلات الدبلوماسية تظهر أن الولايات المتحدة حضت أمين الجميل على الاتفاق مع الشيعة وخصوصًا بعد منتصف 1983, إلا أن اتفاقية السابع عشر من أيار منحت الشيعة ما يكفي من الأسباب للتشكيك بمصداقية الدور الأمريكي.
في النصف الثاني من عام 1983, كانت الآمال التي انتعشت في الخريف الماضي تتبدد بسرعة, إذ أحاط الشك بإمكانية تنفيذ اتفاق 17 أيار وامتد ليتناول الجميل الرئيس الذي تمكن من التوصل إلى إنجاز فريد, لم يسبقه أحد إليه, تمثل في ضعف الثقة به في أوساط طائفته كما في أوساط الدروز والشيعة والسنة, وسقطت مخططات إسرائيل في إقامة دولة يهيمن عليها الموارنة في لبنان, فانتشر الجيش الإسرائيلي في أوائل أيلول جنوب منطقة الشوف مخلفًا وراءه القتال المستمر بين ميليشيات الدروز والموارنة منذ الخريف السابق.(26/26)
وفي وقت لاحق من الشهر نفسه اتخذت الولايات المتحدة قرارًا مصيريًا يتعلق بتوفير الإسناد المدفعي البحري لقوات الجيش اللبناني المدافعة عن سوق الغرب في منطقة عاليه, وشكل هذا التورط خطًا فاصلاً آخر, حيث أن العديد من المراقبين يعتقدون بأن الولايات المتحدة بعملها هذا قد نجحت في أن تصبح مجرد ميليشيا أخرى في وضع مثقل أصلاً بالتشكيلات العسكرية الفئوية. (1)إلا أنه إنصافًا للولايات المتحدة لا بد من القول: إنه بينما اعتبر كثير من اللبنانيين -مسيحيين ومسلمين- عمل الولايات المتحدة تخليًا عن حياديتها, فإنه كان هناك شعور قوي لدى صانعي السياسة الأمريكية بأنهم يساندون السلطات الشرعية, وثمة احتمال بأن تكون قيادة الجيش اللبناني قد استدرجت الولايات المتحدة في دعمها في سوق الغرب بالضبط من أجل إجبارها على دعم فريق ضد آخر, خلال هذه الفترة كان الدروز والشيعة يعتبرون الجيش مجرد رديف للقوات اللبنانية, وهو رأي ليس غير مبرر كليًا, نظرًا لماضي بعض كبار ضباط الجيش وكون أول عمل قام به الجيش بعد إعادة بنائه كان قيامه بحملة قاسية لإزالة المنازل غير المرخصة في الضاحية الجنوبية –وخصوصًا في الأوزاعي- إلا أنه بغض النظر عن النظريات التآمرية التي تفترض وجود المخططات داخل مخططات, فإن دعم الولايات المتحدة للجيش في سوق الغرب, -والذي لم يكن له تأثير يذكر كما كان من المفترض على مجرى المعركة- ساعد في مفاقمة الاستقطاب الطائفي المتسارع الخُطى.
__________
(1) يوضح جيم موير هذه النقطة فيقول: ((إن ارتباطهم بالحكومة اللبنانية التي هي في نظر العديد من المسلمين حكومة تهيمن عليها الكتائب جعل من قوات المارينز في عداد القوات المتعددة الجنسيات فريقًا في ما هو في أحد أوجهه حربًا أهلية)) Lebanon Arena of Conflict p213.(26/27)
قُبيل التورط الأمريكي الجديد في الشوف, وإثر فترة من الاضطرابات شن الجيش اللبناني في 31 آب هجومًا واسع النطاق شمل 10000 جندي على المناطق الإسلامية, وبحسب بعض الروايات المنحازة فإن ضباطًا عسكريين أمريكيين شجعوا وشاركوا في التخطيط للهجوم على بيروت الغربية. (1) (لا يمكن تمييز الدور الأمريكي -إن كان ثمة دور- بشكل واضح في الروايات الموضوعية) باختصار توصل الشيعة إلى اعتبار الولايات المتحدة حليفًا لمضطهديهم: إسرائيل والقوات اللبنانية, وأصبح صديق أعداء الشيعة عدوًا للشيعة (2).
رغم ذلك كله, تواصلت الدلائل التي تشير إلى استمرار تسليف أمل للشرعية فرغم هجوم الجيش واستيلائه على منطقة رأس بيروت استمرت الحركة في التعبير عن تأييدها للجيش كمؤسسة وطنة ينبغي الحفاظ عليها,
__________
(1) يتحدث نبيه بري مثلاً عن: ((الدعم والمشاركة الأمريكيين بهدف ارتكاب مجزة بحق بيروت وضواحيها وسكانها أذيع من إذاعة صوت لبنان العربي في 31 آب 1983.))
(2) لتحليل مطلع على سياسة أمريكا في لبنان في تلك الفترة انظر: Battle over Lebanon Foreign Service Journal July 1984: 28-33(26/28)
وعندما قام زعيم الدروز وليد جنبلاط والرئيس السابق سليمان فرنجية ورئيس الوزراء السابق رشيد كرامي -بتأييد سوري إن لم يكن بناء للتعليمات السورية- بتشكيل جبهة الإنقاذ الوطني في تموز 1983 التي تهدف إلى معارضة الرئيس أمين الجميل واتفاقية 17 أيار, أعلنت حركة أمل عن تأييدها للجبهة إلا أنها لم تشترك فيها, ومما تجدر ملاحظته هنا, أن وليد جنبلاط أخذ يردد باستمرار بعد ذلك بعدة أشهر ((نبيه معنا)) بينما التزم نبيه الصمت. كان بري حذرًا في الوقوف على مقربة أكثر مما يجب, من جبهة الإنقاذ الوطني وأظهر بعضًا من الحياء في الإفصاح عن دعمه لها, في تموز 1983 مثلاً سُئل بري عن علاقته بالجبهة, فأجاب: ((أنا أتفق معهم ونحن نعمل معًا, إلا أني لا أريد أن أغادر بيروت, ولقد تلقيت عدة دعوات لزيارة زغرتا (مقر الرئيس فرنجية) إلا أني رفضت لأني لا أريد أن يتمكن أحد من القول إن قراراتي يمكن أن تتأثر بأي شكل بسوريا)) (1).
تحدي الجزريين (الراديكاليين):
__________
(1) Le Matin Paris 26تموز 1983 كذلك يعكس عاكف حيدر وجهة نظر بري مشيرًا إلى أنه يعتقد أن جبهة الخلاص الوطني ((على علاقة ارتباط وثيق جدًا بالسوريين)) انظر:Le Monde , Seprkember, 20. 1983.(26/29)
لكن للاعتدال حدوده, خصوصًا عندما لا يقابله تعويض سياسي, فبعد فشل قيادتها الوسطية, بدأت أمل بالظهور بالمظهر غير الفاعل, وفي النصف الثاني من 1983, أخذ شعور الإحباط ينمو في المناطق الشيعية, وبدا أن أمل تكاد تفقد سيطرتها على الأهالي, وأعلن بري في عدة مناسبات عن خشيته من إزاحة كافة المعتدلين جانبًا, ليحل محلهم المتطرفون واعترف بأنه بدأ يفقد السيطرة على الشارع (1).
ومن داخل الطائفة ظهر -أو بشكل أدق عاد إلى الظهور- عدد من المجموعات الصغيرة المؤمنة بالعنف والإرهاب, ويمكن للمرء أن يخمن إلى أي مدى كانت منظمات مثل ألوية الصدر, وكتيبة الحسين الانتحارية بمنأى عن أي تدخل أو دعم خارجي, إلا أنه من الواضح في كافة الأحوال, أن هذه مجموعات تمثل مزيدًا من التفتت في سلطة أمل المتضائلة, أما التطور الأهم والوثيق الصلة بالموضوع فهو تزايد نشاط بعض رجال الدين الشيعة في كافة أنحاء البلاد. كانت أحداث السنة المنصرمة قد فاقمت من حدة الانقسامات في لبنان وساعدت على خلق مناخ, القادر فيه على استثارة الرمزية الدينية هو القادر على اكتساب المؤيدين, وهكذا برز إلى الواجهة عدد من رجال الدين, وجمع كل واحد منهم حوله عددًا من مؤيدي حركة أمل, ثم ما لبث أن بدا واضحًا أن هذه المنافسة ذات أهمية أكبر بكثير من التنافس القائم بين بري وشمس الدين.
__________
(1) ناقش بري هذه الاهتمامات معي بعد ذلك بعام, أي في تشرين الأول 1984 فقال: لا أزال قادرًا حتى الآن على إزالة العقبات من أمام مجرى النهر, إلا أنه سيأتي وقت لن أعود يه قادرًا على ذلك, لا شك في أن بري يعرف التحديات التي يواجهها, انظر أيضًا: Le Monde, Sobtember 20, 1983.(26/30)
فرغم حدة التنافس الشخصي على زعامة الطائفة فإن لدى كل من شمس الدين وحلفائه من جهة وبري وزملائه من جهة أخرى, مفهومًا مشتركًا عن لبنان بوصفه مجتمع متعدد الطوائف, التنوع فيه معطى سلفًا وهو قيمة بحد ذاتها وكلاهما يعتبر أن تحقيق العدالة السياسية والاجتماعية يجب أن يتم في إطار إصلاح النظام السياسي, ولم يعمد أي من هؤلاء الوسيطيين -أعترف بأني أتصرف ببعض الحرية فيما يتعلق بمصطلح ((وسطي))- إلى اقتراح تبني الشيعة للنموذج الإيراني وإنشاء جمهورية إسلامية في لبنان, وفي الواقع فإن شمس الدين وعاكف حيدر وبري وغيرهم من ممثلي الوسط سفهوا علنًا اعتماد مثل هذا الحل في لبنان, ففي رأيهم أن لبنان بتباين تكوينه الثقافي وتراثه في التسامح الديني (مهما تعرض هذا التقليد للضرب في السنوات الأخيرة) والخيارات السياسية لأغلبية الشيعة تحول دون هذا الحل.
من المؤكد أن للثورة الإسلامية حضورها العميق في لبنان, لكن وكما يظهر الفصل الثالث من هذا الكتاب, فإنه بعد فترة من الفرح الطاغي بانتصار الثورة برهنت الأحداث في إيران على أنها أكثر أهمية كحافز على العمل منها كنموذج للتقليد الحرفي, هذا لا يعني أن دعاة الحكم الإسلامي في لبنان كانوا غائبين عن الساحة, لكن أصواتهم كانت محجوبة بأصوات القادة الوسطيين الذين كانت دعوتهم لإلغاء الطائفية السياسية في لبنان تلقى تأييدًا جامحًا, وهي دعوة استندت بالضبط إلى عدم التشديد على دور الدين في تحديد السياسي, وعلى إلغاء نظام سياسي يقوم على التعددية. (لما يعود بالطبع بالفائدة على الطائفة التي تتمتع بأكثرية الأصوات الشيعية) فلو تم الاجتياح الإسرائيلي اتخاذ إجراءات لإصلاح النظام السياسي لكان الوسطيون قد انتصروا لكن المحزن, وكما أظهر تطور الأحداث بوضوح شديد, أن ذلك لم يأخذ طريقه إلى حيز الوجود.(26/31)
مع تكشف الأحداث بعد غزو 1982 لم يجد الوسطيون ما يعرضونه مقابل سياستهم الهادنة سوى أيديهم الفارغة. فأمل التي كانت تتجه إلى السيطرة شبه الشاملة على سياسة الشيعة في لبنان أخذت تتعرض لتحد خطير. أما المجلس الشيعي الأعلى فكان يتجه في علاقاته, مع الكتلة الشيعية المتسيسة, والتي لم تشهد سوى المزيد من الإحباط والمعاناة, إلى مزيد من الهامشية. وبدافع من اليأس وتحريض من التحالف الموضوعي الغريب بين إسرائيل وسوريا وبمساعدة مادية من إيران, برز إلى الواجهة عدد من المجموعات الشيعية الجذرية.(26/32)
ففي الجنوب -وكما سترى في الفصل التالي- دُفِع السكان إلى مزيد من الراديكالية بفعل سياسات إسرائيل ومنطق المقاومة السرية نفسه (السرية واللا مركزية التنظيمية) ومن ناحية أخرى قامت سوريا -التي خشيت في الفترة التي انتعشت فيها الآمال عام 1982 من أن تتمادى أمل في تأييدها للسلم الأمريكي في لبنان- برعاية نمو المجموعات الشيعية الجذرية للتوازن مع حركة أمل ولتذكر قوادها المنفلتين بنقاط ضعفهم, فسمحت في تموز 1982 بتمركز ألف عنصر من الحرس الثوري الإيراني في بعلبك, أُتبع بإنشاء مركز قيادة لهم في بلدة الزيداني على الحدود السورية, وأصبحت بعلبك ومحيطها محور نشاطات حركة أمل الإسلامية بقيادة حسين موسوي, وعدد آخر من رجال الدين الراديكاليين. ومما له دلالته أن حزب الله كان يتمتع بأكبر قدر من حرية التحرك في البقاع, كما أنه ليس من قبيل الصدفة أن تعتبر الدوائر الغربية, بعلبك وخصوصًا ثكنة الشيخ عبد الله, في فترة لاحقة, من أهم مفاصل الشبكة الإرهابية التي برزت بقوة في عام 1983 كذلك تجدر الملاحظة إلى أنه مع بداية اتخاذ الأحداث وجهة تتفق مع السيناريو السوري في عام 1984 خفت الحماس السوري للراديكاليين في البقاع (1).
__________
(1) ذكرت Christian Science Monitor 29 نيسان 1985 أن السوريين قد خفضوا عدد حراس الثورة من ألف إلى أربع مائة عنصر, ويتفق هذا مع تقرير سابق Syrian Armytakes Control لرواية مطلعه وغنية على غير العادة, حول استخدام سوريا للردايكاليين الشيعة كأداة للهيمنة على الطوائف الأخرى في لبنان انظر: William Harris The Vien from Zahle Security Economic Concerns in the Contral Bekaa 1980-1985, Middle East Journal 39 , no 3 September 1985: 270-286.(26/33)
إن اتجاه بعض المراقبين الغربيين إلى التمحور حول الذات, المتمثل بفرض النظام والانبناء على غير المنتظم وغير المنبني, لا يبدو بالوضوح نفسه في أي مكان كما يبدو في رؤيتهم للشيعة في لبنان, فلا يمكن أن نعتبر أننا اكتشفنا شيئًا مهمًا عندما نعلن أننا اكتشفنا في مجتمع حرم طويلاً من أي تنظيم سياسي بنى تنظيمية أولية وضعيفة, فالعضوية هنا, هي غالبًا, حالة فكرية- إحساس بالانتماء- وليست انتسابًا شكليًا, والمتسيسون الجدد- الغاضبون والمحبطون والمستاؤون من أوضاعهم- تحملهم رياح الاتجاهات السياسية والديموغاجية فتلقي بهم من تنظيم إلى آخر, فسياسة الشيعة مائعة, ومفككة المفاصل, كما أن المنظمات التي تتنافس على كسب عضوية الشيعي تشكل مجموعة باطنية من الصعب اختراقها بالتحليل أو حتى وصفها, وهذه الخصائص تنطبق على أمل تمامًا كما تنطبق على غيرها, وحزب الله هو نفسه مثال على صدق ما نقول, فهو يجمع كافة المجموعات الدينية, التي ترى في إيران نموذجًا لها, وفي الخميني قائدًا لها, وهو من ناحية منظمة واضحة المعامل تتلقى التوجيهات والأوامر من إيران, إلا أنه من الناحية الأخرى عبارة عن مجموعة مائعة من الجماعات التي يمكن للنفوذ الإيراني عليها أن يكون اسميًا فقط، ومن المؤكد أن الجمهورية الإسلامية تدعمه بقوة بما أنه يشكل العلاج الناجع لمراوغة بري المفترضة ولمراوغة شمس الدين أيضًا في بعض الأحيان (1)تأسس حزب الله في عام 1978, وعاد إلى البروز عبر خلاياه في بيروت وقيادته في البقاع في عام 1982, وأثبت أنه ند خطير لأمل
__________
(1) رغم عدم توفر المعلومات الأكيدة, فإن بعض المعلومات الدقيقة على ما يبدو قد نشرت مؤخرًا حول علاقة المجموعات الراديكالية والمتطرفة في لبنان بإيران أخصها: Rabin Wright's Augustus R. Norton , Political and Religious Extremism in the Contral Bekaa 1980-1985, Midle East Journal 39, no , 3 Septembe 1985: 270- 286.(26/34)
رغم صغر حجمه بالمقارنة معها بنسبة خمسة إلى واحد في بيروت.
وبينما لا يسيطر العلماء على أمل, يتألف كادر حزب الله إلى حد كبير من علماء محرضين يسعون إلى استثارة الإسلامية بالتعاون مع بعض المتطرفين الراديكاليين, بالإضافة إلى أولئك الذين يؤمنون ببساطة, أن النضال الإسلامي هو الجواب, أما قيادته فتشمل العديد من رجال الدين الشبان في عشريناتهم أو ثلاثيناتهم, كالشيخ صبحي الطفيلي 39 سنة, والذي يعتبر عادة من الراديكاليين المتكلمين كما يعتبره بعض المراقبين القائد السياسي لحزب الله, والشيخ عباس الموسوي 37 سنة مدير المدرسة الدينية في بعلبك والمسئول عن الشئون العسكرية والأمن الداخلي والشيخ إبراهيم الأمين 32 سنة, سليل عائلة مهمة من رجال الدين في الجنوب, وكان من المفترض أن يكون سفيرًا لجمهورية لبنان الإسلامية (التي لم تبصر النور) إلى إيران والشيخ حسن نصر الله 28 سنة أيضًا من الجنوب, ويبدو أنه يلعب دور صلة الوصل بإيران وبقواتها في لبنان.
يذكر أن علاقة إيران بحزب الله تتم عبر مجلس الدفاع الأعلى للجمهورية الإسلامية, وهي الأداة التي ينقل بها آية الله الخميني أوامره وتوجيهاته إلى حزب الله, ويتألف المجلس من الرئيس السيد علي خامنئي وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني, رئيس مجلس الشورى ورئيس الحرس الثوري (باسدران) السيد محسن الرفاعي, ويشكل الهيئة المركزية لصنع القرار في المؤسسة الإيرانية العسكرية والأمنية (1).
__________
(1) شريف الحسيني, حزب الله: حركة عسكرية أم سياسية أم دينية؟ الشراع 15 آذار 1986.(26/35)
كذلك رعت إيران إنشاء مجلس شورى في لبنان, وهو يشرف على عمل حزب الله في لبنان ويلعب دور صلة الاتصال العقدي بين إيران ولبنان ويتألف من 12 عضوًا غالبيتهم العظمى من رجال الدين وبعض المسئولين العسكريين وينقسم إلى سبع لجان هي: اللجنة الثقافية, واللجنة المالية, واللجنة السياسية, واللجنة الإعلامية واللجنة العسكرية, واللجنة الاجتماعية, واللجنة القضائية, والعملية كلها على ما يظهر تمولها إيران, فهي لا توفر فقط نفقات الممارسة العملية بل وأيضًا التعويضات لعائلات شهداء حزب الله (حوالي 225 ألف دولار توزع شهريًا على عائلات الشهداء) (1).
رغم أن تفاصيل العلاقة ليست معروفة إلا أنه من الواضح أن حركة أمل الإسلامية التي يرأسها حسين الموسوي على ارتباط وثيق بحزب الله, فكل مسلم -كما يقول الموسوي- يعمل في سبيل الإسلام والثورة الإسلامية ويقبل بمبدأ ولاية الفقيه هو عضو في حزب الله (2) إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن موسوي ينفي وجود حزب الله كمنظمة قائمة في ذاتها, ويزعم أن الحزب يفتقد إلى المناصب والعضوية الرسمية وغيرها من الخصائص التنظيمية.
بالإضافة إلى أمل الإسلامية, فإن حركة الدعوة -وهي حركة أنشئت في الواقع عام 1959- هي أيضًا على ما يبدو جزء مكون من حزب الله بما أنها لم تعد موجودة في لبنان كحزب مستقل منذ عام 1980 (3).
__________
(1) Details about Hizbullah. And its Leaders Middle East Reporuer , March 22, 1986 ذكرت الدستور في عددها الصادر في لندن في 14 تشرين الأول 1985 أن ثلث بليون ريال, المبالغ المخصصة لدعم الجهاد الدولي يذهب إلى لبنان.
(2) انظر النهار العربي والدولي 10-16 حزيران 1985.
(3) الحسيني حزب الله ص 19.(26/36)
كذلك يحيط الغموض بماهية الدور المحدد الذي يلعبه السيد محمد حسين فضل الله, من سكان بئر العبد في الضاحية الجنوبية, في حزب الله, هو ابن المغفور له آية الله السيد عبد الرءوف فضل الله, من قرية عيناتا الجنوبية, ولد السيد محمد حسين فضل الله في مدينة النجف العراقية في عام 1935 أو 1936 ودرس على يد آية الله أبو القاسم الخوئي, من كبار مراجع الشيعة في العالم, قدم فضل الله إلى لبنان في عام 1966 وأقام في النبعة في ضاحية بيروت الشرقية, وعين في عام 1976 وكيلاً للإمام الخوئي (ممثله الشخصي) في لبنان أقام في النبعة, حيث وعظ وكتب, إلى أن استولى عليها الكتائب في 1976, فاضطر لمغادرتها كما فعل جميع سكان الحي من الشيعة (1).
برز فضل الله منذ خريف 1983 بوصفه أحد أكثر علماء الشيعة نفوذًا في لبنان وبخلاف مرشده آية الله الخوئي الذي يرفض التدخل في السياسة, مارس فضل الله دورًا فعالاً على الساحة السياسية, وبدا أحيانًا وكأنه يستمتع بوضعه كشخصية سياسية معروفة.
__________
(1) يمكن مراجعة سيرة فضل الله السياسية بشكل مكثف في ((الحركة الإسلامية في لبنان)) ص 246-277.(26/37)
أصبح معروفًا على الصعيد العالمي في عام 1983 عندما ذكر بعض المراسلين -نقلاً عن مصادر إسرائيلية ولبنانية معادية- أن فضل الله متورط أقله ببعض العمليات الإرهابية الموجهة ضد الأمريكيين في السنوات الأخيرة (1).
ويعتبر بشكل واسع قائد حزب الله أو مرشده الروحي, وبصراحة فإن التوصل إلى الحقيقة ليس بالأمر السهل, كما أنه لدى فضل الله من الدوافع التي تحمله على المكر والتضليل ما لدى أعدائه أو يزيد, وعلى أي حال فالحقائق التالية هي حقائق ثابتة.
__________
(1) يعتبر روبين رايت أن السبب الأهم في بروز فضل الله يعود إلى التقارير التي ربطته بتفجير مقر القوات المتعددة الجنسيات في تشرين الأول 1983: بعد التفجير أصبح فضل الله بين ليلة وضحاها واحدًا من أكثر الرجال المعروفين والمهايبن في المنطقة, وأشارت القوات اللبنانية, في تسريبات متعمدة ومحسوبة إلى احتمال أن يكون فضل الله هو الذي أمن السائقين الانتحاريين المبتسمين إلا أنها أكدت دوره في مباركتها في احتفال ديني خاص أقيم ليلة الهجوم على المارينز والقوات الفرنسية, أكدت المصادر الأمريكية والإسرائيلية هذه التقارير رغم اعترافها بأنه ليس لديها ما يثبت صحة ذلك. SACRED Rage. p.91.(26/38)
يزعم فضل الله بشكل ثابت بأنه ليس رئيسًا لأي حزب أو حركة؛ إذ ليس المهم أن يكون رئيسًا أو مرشدًا لحزب الله بقدر ما هو مهم أن تلقى دعوته صدى لها في صفوف الطائفة الشيعية ككل, بالإضافة إلى ذلك تجدر الملاحظة إلى أن دعوته هي دعوة تقرن الدعوة إلى الالتزام بالشريعة الإسلامية بطلب المحافظة على التسامح الديني (مما يتعارض بشكل حاد مع عدم التسامحل الذي يبديه عدد من رجال الدين من الذين يتولون مهامًا محددة في حزب الله) وثمة ما يحمل على الاعتقاد بأن رفض فضل الله خلال زيارة له إلى إيران في شباط 1985 الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية أدى إلى استقباله بشكل بارد, فبينما لا ينفي فضل الله أنه يفضل أن يعيش في ظل دولة إسلامية, إلا أنه لا يعتقد أن الظروف في لبنان ملائمة لإقامة دولة كهذه, وقد عبر عن رأيه هذا بوضوح كلي في عدة مناسبات: ((في هذه المرحلة لا بد لنا أن نميز بين وضع دولة ذات حزب ديني واحد أو وضع دولة ذات أكثرية مطلقة تتبنى وجهة نظر واحدة, حيث الدين هو الدولة من جهة, وبين وضع بلد مثل لبنان الذي هو وضع تنوعي من جهة أخرى)) (1).
__________
(1) من مقابلة في ((المندي مورننغ)) 15-21 تشرين الأول 1984.(26/39)
يرى فضل الله أن إقامة دولة إسلامية هي عملية بطيئة يجب أن تبنى على الحور والتعليم والتفاهم المتبادل, وهو يفترض أنه مع تقدم العملية وعندما ((تعتنق أغلبية الشعب العظمى الإسلام, وعندما تكون هناك ظروف سياسية مواتية, عندها فقط يمكن أن تنشأ جمهورية إسلامية)) (1) إلا أنه يجب أن لا تحسب صبر فضل الله مهادنة فهو يطالب المسلمين بضرورة الالتزام بنهج الإسلام الحياتي بغض النظر عن النظام السياسي الذي يعيشون في ظله, أضف إلى ذلك, اعتباره أن المعضلة النفسية التي يعاني منها المسلمون -هي بالتعارض مع معضلة المسيحيين- معضلة لا تناظرية, إذ ليس لدى المسيحيين, في رأيه شرعة دينية تحتم عليهم العيش في ظل دولة تحكمها المفاهيم الدينية نظرًا للفصل الواضح بين الزمني والروحي في المسيحية, لكن الأمر مختلف تمامًا لدى المسلمين فثمة نص واضح يفرض تجنب هذه الازدواجية: ((إن مشكلة المسلم تكمن في الثنائية الناشئة عن الفرق بين ما هو قانوني على مستوى الدولة وبين ما هو شرعي على مستوى العقيدة, إن مشكلة الإسلام تتمثل في عدم وجود فراغ قانوني وبالتالي فعندما يعيش المسلم في ظل دولة لا تتبنى الإسلام تبقى حياته مرتبكة بفعل الثنائية التي يعيش في ظلها))(2).
__________
(1) من مقابلة في Middle East Insight u, no. 2
(2) انظر المقابلة مع فضل الله في ((المندي مورننغ )) 15-21 تشرين الأول 1984.(26/40)
رغم ما كتب من الدراسات والتحاليل لآراء فضل الله إلا أنه بالمقارنة مع العديد من إخوانه العلماء ليس إنسانًا متطرفًا, وفي الحقيقة فإن مقابلاته تبدو نيرة وغنية وزاخرة بالعروض التفصيلية, وهي تترك على الأقل هامشًا للمساومة, وإذ يعتبر العديد أن آراء السيد محمد حسين فضل الله معتدلة أكثر مما ينبغي, إلا أنه مما له دلالته أن يعتبر بعض من هم في مركز السياسة الشيعية أن له دورًا أساسيًا في تعزيز قيادة الطائفة. أما خلافه مع بري فهو شبيه بخلاف شمس الدين, الذي يبدو أنه قد تفوق عليه في النفوذ (على الأقل في الشارع) في كونه خلاف شخصي من النوع الذي يصعب حله بسهولة.
أما بالنسبة للمزاعم حول دور فضل الله المزعوم في توليد أو تسهيل هجمات إرهابية, فيكفي أن نشير إلى أن أحدًا, لا يعرف ذلك معرفة فعلية, بالطبع لا مجال للإنكار, بأن دعوته قد أثارت نزعة العداء للولايات المتحدة وإسرائيل, فهو نفسه يقر بهذا, لكن أن يكون فضل الله قد لعب دورًا مباشرًا فهذا أمر أقل ما يقال فيه أن أحدًا لم يقم الدليل عليه, فلدى فضل الله نصيبه من الأعداء بشكل مستقل تمامًا عن أي حادثة معينة, وعلى المرء أن يفترض أن هناك كمًا من المعلومات الخاطئة التي تشيعها كافة الأطراف, ولقد كان حادث السيارة المفخخة, على يد أعدائه من الموارنة, في آذار 1985, والذي أودى بحياة ثمانين بريئًا, عامل تذكر رهيب بأنه بغض النظر عن دوره التنظيمي, فمن غير المرجح أن ينتهي الأمر بهذا الرجل إلى النسيان.(26/41)
بالتعارض مع آراء فضل الله العلنية المعتدلة نسبيًا تبنى حزب الله خطًا سياسيًا نضاليًا غير مساوم, يمثل حزب الله رؤية جازمة للمجتمع, عبر عنها في رسالته المفتوحة في شباط 1985, فبخلاف أمل التي ترى في غموض البرنامج وسيلة مفيدة لتجنب الانقسامات القائمة بين مؤيديها, فإن حزب الله يعلن عن هدفه بشكل مباشر وصريح ((إقامة حكم إسلامي في لبنان)) ففي ظل التعقيدات والإرباكات في لبنان المعاصر, يقدم حزب الله رسالة بسيطة ومريحة تصل مباشرة إلى أولئك الذين ملوا سماع وعود السياسيين الطموحين الفارغة, فالجواب موجود في ثقافة الشيعة (التراث الحضاري) ومنابعها الأساسية ((القرآن الكريم والسنة المعصومة والأحكام والفتاوى الصادرة عن الفقيه مرجع التقليد عندنا (الخميني) وهي واضحة, غير معقدة وميسرة للجميع دون استثناء, ولا تحتاج إلى تنظير أو فلسفة, بل جل ما تحتاجه هو الالتزام والتطبيق)) (1).
والخميني هو القائد الذي لا منازع لسلطته, والذي تتجسد فيه الثورة الإسلامية, تعلن الرسالة المفتوحة بوضوح أن حزب الله يقف على أهبة الاستعداد لتنفيذ أوامره (( أننا... نلتزم بأوامره قيادة واحدة حكيمة وعادلة تتمثل بالولي الفقيه الجامع للشرائط, وتتجسد حاضرًا بالإمام المسدد آية الله العظمي روح الله الموسوي الخميني دام ظله, مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة)) (2).
ويرى حزب الله أن الشيعة محاصرون ويواجهون مجموعة من الأعداء الخونة, التي تشمل الكتائب المارونية, وإسرائيل وفرنسا, والاتحاد السوفياتي, والعراق, إلا أن الولايات المتحدة هي المصدر الأساسي لمشاكل الشيعة.
__________
(1) نص الرسالة المفتوحة التي وجهها حزب الله إلى المستضعفين في لبنان والعالم.
(2) المرجع نفسه.(26/42)
((أمريكا وراء كل مصائبنا)) تقول الرسالة المفتوحة, وكل ما عدا مواجهتها هو أمر هامشي, ويلاحظ حزب الله, بكلمات تذكرنا بفرانز فانون, أن النصر مساوٍ للتضحية: ((وعلى هذا الأساس رأينا أن العدوان لا يرد إلا بالتضحيات... والكرامة لا تكون إلا ببذل الدماء, والحرية لا تعطى وإنما تسترد ببذل المهج والأرواح...)) (1).
أما عداوة حزب الله لنبيه بري وللمنظور السياسي الذي يمثله فلا مجال للالتباس فيها, فليس لدى دعاة حزب الله مجال للمساومة مع العدو, سواء كان أمين الجميل أم الولايات المتحدة أم إسرائيل, وهكذا فإن مشاركة بري عام 1982 في لجنة الإنقاذ الوطني ((والتي ليست أكثر من جسر أمريكي إسرائيلي يعبر عليه الكتائب لاضطهاد المستضعفين)) (2) هي مبرر كاف لإدانته, وأكثر من ذلك فإن قبوله الاشتراك في حكومة رشيد كرامي في أيار 1982, هي دليل آخر على تغاضيه عن أخطاء العدو, وبالطبع فهي لا يمكن أن تكون إلا كذلك لدى النيو- مانويين من جماعة حزب الله في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية البائسة، وليس أمرًا بلا دلالة أن يقدم حزب الله بالإضافة إلى فضيلة البساطة الأيديولوجية, مردودًا ماليًا مجزيًا, فمهما كبر رهان المرء على محصلة الصراع السياسي على تجسيد الروح المحركة للشيعة, فلا بد من تغذية الجسد, والحقيقة أن حزب الله لا يعاني -على ما يبدو- من عجز في رأسماله العامل, فالمقاتلون يتلقون راتبًا لا بأس به, رغم أنه لا يكفي وحده لتأمين الولاء الثابت فإنه يساعد بالتأكيد على حشد القوة البشرية في اللحظات الصعبة, ومن الناحية الأخرى فإن أمل تعتمد -بالتعارض مع ندها السياسي, الذي يبدو أنه يتمتع بتمويل سخي من إيران- على الشيعة في لبنان كمصدر أساسي لتمويلها, وفي ظل المناخ الاقتصادي المريع الذي يسود لبنان في منتصف 1986 وفي وقت من المحتمل فيه أن يكون راتب عنصر المليشيا هو مصدر الدخل
__________
(1) المرجع نفسه, ص 11.
(2) المرجع نفسه ص 12-13.(26/43)
الوحيد المتوفر لعائلته, فإن قدرة حزب الله على تجنيد عناصر متفرغة, بينما الكثير من عناصر أمل إما متطوعين أو غير متفرغين, ليس بالأمر البسيط, بالإضافة إلى أنه راكم من الأسلحة والذخيرة ما يكفي لاعتباره -وفقًا للمقاييس اللبنانية- ميليشيا لا يستهان بها (1).
كان لبروز الراديكاليين أثرة العميق على حركة أمل, فرغم أنها لا تزال قادرة على الاحتفاظ بموقعها القيادي, إلا أنها وفي خلال عملية الرد على المنافسين المتطرفين, قد تبنت مواقف أكثر تطرفًا, وما زالت أمل تمثل الوسط في السياسة الشيعية, إلا أن هذا الوسط قد ابتعد كثيرًا عن المكان الذي كان عليه في 1982. إن عملية تجذر الشيعة بشكل عام, وأمل بشكل خاص, تظهر بوضوح في الجنوب, حيث شكل الاحتلال الإسرائيلي دافعًا مهمًا نحو تزايد راديكالية الطائفة.
__________
(1) أحد المراقبين القدامى أثار في رسالة خاصة إلى أن: ((حزب الله قد برز كمنظمة حقيقية بإعلامها, وبذلاتها العسكرية ومكاتبها, وقد قاموا مؤخرًا أوائل صيف 1985 بالتجول في ناقلات الجنود الـ M113 التي تحمل رموز الحزب, وسلاح Sagger المضاد للدابابات وصواريخ الغراد المحمولة على ناقلات الجنود, وقطع المدفعية, مما يجعله قوة عسكرية يحسب لها الحساب بالمقاييس اللبنانية)).(26/44)
الفصل السابع
صنع الأعداء في جنوب لبنان
ما من وجه من وجوه المغامرة الإسرائيلية الفاشلة في لبنان يمثل بوضوح كلي سوء التقدير والسياسة التي ترتد لتهزم صانعيها، بقدر ما تمثلها سياسة إسرائيل في علاقتها مع السكان الشيعة في جنوب لبنان, وليس هذا حكمًا استرجاعيًا نطلقه بعد انقشاع الدخان, بل لعل هذه المحصلة كانت شبه واضحة منذ اليوم الأول للاحتلال (1) فلقد فشل صانعوا السياسة الإسرائيلية في إدراك مدلول التطورات الاجتماعية السياسية الشفافة التي مر بها شيعة الجنوب, ويبدو أنهم تجاهلوا تحذيرات من فهمها بالفعل من المستعربين الإسرائيليين (2).
فمن بين كافة الحماقات التي ارتكبتها إسرائيل في لبنان, كانت أخطاؤها في جنوب لبنان هي الأقل ضرورة والأصعب من حيث إيجاد المبرر لها من وجهة نظر التاريخ, بل وربما الأبعد مدى في تأثيرها, فللمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي يهزم الجيش الإسرائيلي, لا من قبل جيش عامل, بل على يد مقاومة هشة التنظيم وضعيفة التجهيز.
والمفارقة أن يكون الشيعة هم الذين عقدوا بشكل هائل المأزق الإسرائيلي في لبنان, إذ لم يكن لهم مكان أصلاً في السيناريو الأولي لأريل شارون الهادف إلى إنشاء دولة مارونية في لبنان, وحتى عندما برهن الموارنة عن كونهم حليفًا ضعيفًا وغير مستقر, لعب الإسرائيليون الورقة الدرزية, مع أن الشيعة -وخصوصًا النصف المليون تقريبًا الذين يعيشون في الجنوب- كانوا من نواحي عدة, الحلفاء الموضوعيين لإسرائيل, فقد أدركوا بفعل وجودهم في منطقة حدودية متاخمة لشمال إسرائيل, كما أدرك مواطنوهم من المسيحيين والدروز الجنوبيين, سلامة المنطق البراغماتي الذي يدعو للحفاظ على علاقات سلم مع جار متفوق عسكريًا.
__________
(1) انظر: Augustus R. Noton , Israel and South Lebanon, American-Arab Affairs 4 Spring 19823: 23-31.
(2) أبرز مستعربين خدما في جنوب لبنان هما: كلنتون بايلي وموشى شارون.(27/1)
ورغم أن الشيعة كانوا قد أعاروا قواهم البشرية إلى قوات المقاومة الفلسطينية المتمركزة في لبنان قبل الاجتياح بوقت طويل, إلا أنهم تعبوا من دفع ثمن الوجود الفدائي المسلح بين ظهرانيهم, من دمائهم -وأحزانهم وأرزاقهم- وكما رأينا فإنه في عامي 1981 و 1982 انخرط الشيعة في قتال ضار مع الفدائيين محرزين فيه بعض النجاح على الأقل,وفي الواقع فإنه ليس من قبيل المبالغة القول بأنه لو لم تقم إسرائيل بغزوها في عام 1982 لحدثت مواجهة فلسطينية شيعية خطيرة جدًا في لبنان, وذلك كما كان يتوقع قادة أمل في الجنوب, وكما أشارت الصدامات المتصاعدة في عامي 1981-1982, ومن المهم أن نلاحظ أن العديد من القرى التي كانت الأشد صلابة في مواجهة الفلسطينيين برهنت في فترة صعود المقاومة, إثر استطالة إقامة إسرائيل, عن كونها من أهم مراكز المقاومة المناهضة لإسرائيل, مما يشير إلى أن الطائفة الشيعية المعبأة سياسيًا لا ترغب في تحمل أي سيطرة أجنبية, سواء عربية أو أجنبية, وأنها ليست على استعداد لتحمل سلاسل الاحتلال الإسرائيلي بعدما بدأت بنزع الأصفاد الفلسطينية.(27/2)
ومن المهم أن نشدد على أن حالة العداء الشيعي الإسرائيلي لم تكن حتمية, بل أن تراكم الأخطاء خلال عدة سنوات من الاحتلال الإسرائيلي الأخرق, هي التي استعدت الشيعة, ولولاها لما وصل الوضع إلى ما هو عليه الآن, ويؤكد هذا الحكم المستعربون الإسرائيليون الذي خدموا كضباط للشئون العربية في جنوب لبنان (والذين رفض صانعوا السياسة الإسرائيلية الأخذ بنصائحهم). يعبر أحد هؤلاء موشي شارون, أكاديمي محترم بشكل واسع, يدرس مادة التاريخ الإسلامي في الجامعة العبرية, عن هذه النقطة بوضوح فيقول: ((إن الوضع الحالي السيء للعلاقات الإسرائيلية الشيعية لم يكن قائمًا مباشرة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982 كذلك فإن تطوره إلى ما آل إليه لم يكن أمرًا حتميًا, بل على العكس فقد كان أغلب الشيعة في جنوب لبنان مستعدين لإقامة علاقات سلمية إن لم تكن ودية مع إسرائيل )) (1).
__________
(1) Mosh Sharon , Storing Up Troubler with the Shi'ites Jerusalem Post , February 15, 1985.(27/3)
منذ نشوء دولة إسرائيل وحوادث العنف بينها وبين الشيعة قليلة بشكل ملحوظ, لم يكن الشيعة يشعرون بالمودة نحو إسرائيل, إلا أنهم لم يكونوا يبادلونها العداء أيضًا, وفي الحقيقة فإن أحد الأوجه المذهلة في تدهور العلاقة بين الشيعة وبين منظمة التحرير, هي أن الأخيرة كانت تتحمل بالإضافة إلى تبعات أعمالها, المسئولية عن الضربات الانتقامية الإسرائيلية أيضًا (سواء جاء الانتقام الإسرائيلي مباشرة بعد العملية أم لا) ولقد كان هناك ما يحمل على الاعتقاد قبيل الغزو الإسرائيلي في حزيران 1982 بأن إسرائيل قد تصل إلى تسوية مؤقتة مع حركة أمل في الجنوب, أضف إلى ذلك أن أغلب قادة أمل الموجودين في الجنوب كانوا يتوقعون ظهور مثل هذا التدبير؛ إذ يملك الطوفان هدفًا مشتركًا يتمثل في منع إعادة إنشاء الدويلة الفلسطينية في الجنوب, وكلاهما يراهن على عودة الهدوء والاستقرار إلى المنطقة, إلا أن النجاح العسكري قد يولد أحيانًا ثقة زائدة في النفس, يرتد إلى نوع من التعجرف والعنجهية التي إذا ما خالطها شعور بانعدام الأمن قد تؤدي أحيانًا إلى نتائج كارثية, وهذا هو ما حدث بالفعل في جنوب لبنان، عندما نجحت ممارسات إسرائيل بين عامي 1982 – 1985 في توليد مقاومة فعالة ضدها, انخرطت فيها حشود من الأعداء الجدد.
القراءة الخاطئة للعداء الشيعي لمنظمة التحرير الفلسطينية:(27/4)
مبهورة بالاستقبال الودي في حزيران 1982 حاولت إسرائيل تجنيد تنظيم أمل في الجنوب كمليشيا تابعة أو حتى بديلة عن مليشيا الرعاع التابعة لسعد حداد, خصوصًا في المناطق التي لا تتمتع فيها الميليشيا العميلة إلا بنفوذ ضئليل, وتفتقر إلى عدد ولو بسيط من العناصر, اعتبر الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية الإسرائيلية (الشين بيت بشكل رئيسي) فيما يمكن وصفه بسوء التقدير الأعظم, أن نفور الشيعة من الفلسطينيين يشكل بحد ذاته دليلاً حاسمًا على إمكانية إقامة علاقات ودية رسمية بين إسرائيل والشيعة في الجنوب, بينما لم يكن في الواقع لدى أغلبية الشيعة الرغبة في استبدال أجنبي بآخر, لكن هذا النمط من التفكير الحالم ليس مفاجئًا, فلقد أعمت نشوة النصر بصيرة صانعي السياسة الإسرائيلية, إلا أنهم لم يخطئوا في تقدير حجم إمكانية الاستفادة المحدودة من سعد حداد كقائد يتمتع بمصداقية في جنوب لبنان, فبغض النظر عن بعض التقارير الأحادية الجانب في إسرائيل والولايت المتحدة, فإن المسئولين الإسرائيليين أدركوا بشكل جيد أن سعد حداد ومليشياه الضعيفة, كانوا كما يقول مستشار في الجيش الإسرائيلي غير مقبولين لدى غالبية السكان, -أي لدى الشيعة- (1) وكما لاحظ كلينتون بايلي, أكاديمي إسرائيلي عمل كمستشار في الشئون العربية في جنوب لبنان, في كانون الأول 1982, فإن العناصر الشيعية في مليشيا سعد حداد ليست في نظر بقية أبناء الطائفة سوى حثالة المجتمع الشيعي (2).
__________
(1) Clinton Bailey , A change of Partners Jertsalem Post, December 14, 1982.
(2) المرجع نفسه.(27/5)
باءت جهود إسرائيل الخرقاء التي حاولت خلال شهري حزيران وتموز 1982 إلحاق حركة أمل بالفشل, فمل تحاول قيادة أمل الجنوبية إقامة حوار هادئ مع الإسرائيليين, فهي غير قادرة ولا راغبة في السماح لنفسها باتباع نموذج حداد في العمالة الصريحة, يقول فؤاد عجمي, على الشيعة ((أن يكونوا كامرأة القيصر أي فوق الشبهات, فهم متأكدون أن أحدًا لن يغفر لهم إقامة علاقات وثيقة مع الإسرائيليين)) (1) ومع ذلك لم تظهر أي أعمال عسكرية ملموسة خلال صيف 1982 (2) هذه المرحلة كان عمرها قصيرًا وانتهت مع نفاذ صبر الإسرائيليين من قادة أمل, وقيامها باعتقال ثلاثة عشر مسئولاً حركيًا في صيف 1982 مما بدأ عملية استقطاب استمرت حتى فترة متأخرة من العام 1985.
اعترف المسئولون الإسرائيليون لاحقًا, سواء في مقابلات خاصة أجريتها معهم أم في لقاءات عامة, بأنهم يدركون أنه كان بإمكانهم أن يبذلوا جهدًا أكبر للوصول إلى نوع من الترتيبات العملية مع الشيعة (ومع أمل بشكل خاص).
__________
(1) Fouad Ajami, Lebanon and Its Inheriuors , Foreign Affairs 63 Spring 1985: 778-799; quotation at p. 787.
(2) Major James C. Judkins , Jr The Expanding Role of the Shi'a in Lebanon. (ماجستير في العلوم العسكرية من كلية القيادة والأركان العامة في الجيش الأمريكي 1983) ص95.(27/6)
إلا أنهم لم يتخلوا عن تشككهم في أن توجهًا أكثر تنورًا في العلاقة مع الشيعة ما كان ليسفر عن علاقة أكثر تجانسًا, وهو تشكك صحيح إذا أخذ على نطاق محدود, إذ كان من المستحيل أن يتم التوصل إلى عقد صفقة مع الشيعة ما لم تتخل إسرائيل عن سعيها لإنشاء بنية تحتية تؤمن لها السيطرة على الجنوب (بما يضر بمصلحة الحكومة في بيروت ودمشق) وحتى في هذه الحالة لن يكون الاتفاق إلا اتفاقًا ضمنيًا غير معلن, إلا أن صانعي السياسة الإسرائيلية وخصوصًا أولئك الذين كان لديهم يد في الموافقة على الغزو وفي التهليل له, لم يستسيغوا كلمة ((ضمني)) إذ كانوا يتطلعون إلى ما هو أكثر بكثير من مجرد الشراكة الصامتة التي كان العديد من قادة أمل على استعداد للقبول بها.
إنشاء بنية تحتية:(27/7)
أُتبعت المرحلة الأولى بحملة إسرائيلية لإضعاف أمل كحركة ولتجنيد عناصر منها بالإضافة إلى عناصر شيعية أخرى في شبكة من ميليشيات القرى تعمل تحت الإشراف والتوجيه الإسرائيلي, وفي الوقت نفسه رعى الجيش الإسرائيلي عودة عدد من الزعماء الذين طال غيابهم, في محاولة للحد أكثر من نفوذ أمل في المنطقة, فعاد كاظم الخليل, من حزب كميل شمعون (الوطنيين الأحرار) إلى صور بعد غياب سبع سنوات, عندما عاد الخليل في تموز 1982 حاول أن يتصالح مع الحركة, لكن كما قال لي أحد قادة أمل ((فقد تبخرت الصلحة بسرعة على أثر بعض الأعمال الترهيبية العنيفة التي نفذها ابنه بمساعدة الجيش الإسرائيلي)) (1) شكل الخليل مليشيا صغيرة من 40 رجلاً بسلاح ولباس إسرائيليين, لكنه كان قد فقد الكثير من نفوذه السياسي, وفي الحقيقة فإن أغلب الجنوبيين يعتقدون أن لا أمل له بالفوز بأي انتخابات تقرب من أن تكون نزيهة, وشكل جزءًا من النسيج المتكامل للحملة الإسرائيلية الهادفة إلى تمزيق الطائفة الشيعية التي لم تستطع أن تسيطر عليها كطائفة.
والمفارقة أن ما كانت إسرائيل تحاول القيام به هو عكس اتجاه قوى التحديث التي دفعت بالشيعة إلى كسر طوق عزلتهم الاجتماعية والبدء بإيجاد هوية مجتمعية, في وقت لاحق لاحظ إسحاق رابين وزير الدفاع الإسرائيلي منذ 1984, أن الوجود الإسرائيلي في لبنان ((أخرج المارد الشيعي من القمقم)).
لكن الأصح هو أن التغيير الاجتماعي الاقتصادي هو الذي فعل ذلك.
فالبرنامج الإسرائيلي كان من الممكن أن يكتب له النجاح في مرحلة تاريخية سابقة, لكن هذه المرحلة بالذات قد أضحت مجرد ذكرى, وذكرى لا يرغب سوى عدد ضئيل من الشيعة باستعادتها.
__________
(1) بناء على مقابلات خاصة مع مسئولين في أمل في جنوب لبنان في تشرين الأول 1982.(27/8)
في مواجهة عدم تعاون قادة أمل أنشأت إسرائيل منظمة مستقلة اسميًا عن قوات حداد دعيت بـ ((الحرس الوطني لقرى الجنوب)) يهدف توحيد المليشيات التي أنشئت في بعض القرى نتيجة للضغط الإسرائيلي, ورغم بعض النجاحات المحلية المؤقتة, فإن المحاولة ككل باءت بالفشل، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى عدم قدرة عملاء إسرائيل وحداد على تجنيد قادة محترمين محليًا.
فحتى لو أراد هؤلاء التعامل مع إسرائيل في مسعى يهدف إلى استعادة الهدوء إلى بلادهم, لما أقدموا, فهم يعون بشكل عميق, حجم المخاطر والمحاذير المرتبطة بهذا العمل, بالإضافة إلى أن معاملة إسرائيل المميزة لمليشيات حداد أشارت إلى عدم رغبتها في إعطاء مطالب الشيعة وزنها الذي تستحقه, وحتى عندما كانت هذه الميليشيات فاعلة لبعض الوقت فهي لم تعد كونها مجرد مجموعات مزروعة ودخيلة يقودها رجال بعيدون جدًا عن التيار السياسي السائد.(27/9)
أدرك الإسرائيليون أنهم فشلوا, فجددوا خطتهم المليشياوية, وأنشأوا في كانون الثاني 1983 منظمة الجنوب الموحد, التي ما لبث أن تغير اسمها إلى تجمع الجنوب الأوحد (United South Asembly) أو كما عرفت تندرًا فيما بعد بـ (U.S.A) هذا التنظيم, الذي أنشئ على ما يبدو على غرار نموذج روابط القرى في الضفة الغربية, كان من المفترض أن يتألف من لجان قروية من 5-8 أعضاء, على أن تقدم كل قرية حوالي 60 عنصرًا, وبينما لم يلق التجمع أي ترحيب, أدى استخدام التهويل والضغط إلى إنشاء حوالي 30 مليشيا, ففي الصرفند مثلاً, اعتقلت إسرائيل مسئولاً حركيًا محليًا وأبلغت أعيان القرية بأن ثمن إطلاق سراحه هو تشكيل مليشيا في القرية (1) ولم يتوفر من يقود هذه المليشيات في العديد من الحالات إلا الذين كانوا قد اكتسبوا لسبب أو لآخر سمعة سيئة في قراهم, ولقد لاحظ العديد من سكان الجنوب أن الذين كانوا يلتحقون بالمليشيات هم ((الشبيحة)) و((القبضايات)) الذين أرهبوا الجنوب لسنوات خلت (2) وهكذا حوكمت إسرائيل من خلال من اختارت أن تقترن بهم.
__________
(1) تستند هذه المعلومات إلى تقرير رائع لـ Roboin Wright in Chrisfian Science Monitor, SEPTEMBER 8, 1983.
(2) David Hirst, Israel's Strange Partners in the Occupied Zone, Guardian August 14, 185.(27/10)
خدمت الميليشيا هدفين إسرائيليين متكاملين, أولاً: قدمت مبررًا للتدخل الإسرائيلي في جنوب لبنان وغطاء يمكن عملاء الاستخبارات والقوات الإسرائيلية من العمل, فلقد كان واضحًا منذ بداية الاحتلال أن إسرائيل قررت إقامة بنية تحتية تمكنها من السيطرة على جنوب لبنان بأقل تواجد بشري ممكن, هذا لا يعني أن إسرائيل كانت تسعى إلى ضم الجنوب بل إلى أنها كانت تنوي أن تكون القوة المهيمنة في المنطقة (وبأرخص سعر ممكن). ثانيًا وهو ما قد يفسر مورفولوجية هذه المليشيات الإسرائيلية المنشأ التي وإن شكلت بالإكراه إلا أن إسرائيل كانت تأمل في أن تتحول إلى أجهزة تابعة اسميا للحكومة اللبنانية (الأنصار) بينما تحافظ علىولائها الفعلي لإسرائيل, إذ كانت إسرائيل تعد العدة مسبقًا حتى تكون قوات الأنصار التي نصت اتفاقية السابع عشر من أيار على تشكيلها (1) ميليشيا تابعة لإسرائيل بغطاء شرعي لبناني, وهكذا يمكننا إدراك مغزى إعادة تسمية الحرس الوطني في أيار 1983 ((بأنصار جيش لبنان الحر)) أو باختصار الأنصار, مما يجعلها تحمل الاسم نفسه للميليشيا التي أنشأتها الحكومة اللبنانية على الورق إلى حد كبير, قبل عشر سنوات من تاريخه وهي مناورة نفسية ذكية (2) إلا أنه من المشكوك فيه أن تستطيع أي مليشيا أن تلعب دورًا فعالاً في غياب الرعاية الإسرائيلية, فهذه الأجسام الغريبة ليست بالنسبة إلى غالبية الشيعة سوى رمزًا لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي وقد أصبحت مع ازدياد قوة المقاومة هدفًا رئيسيًا لهجماتها.
__________
(1) المرجع نفسه.
(2) استخدمت إذاعة صوت الأمل الاسم الجديد في 13 أيار 1983.(27/11)
شهد أواخر العام 1982 حدوث بعض العمليات الثانوية والمتباعدة إلا أن الوضع في الجنوب بقي هادئًا نسبيًا حتى ربيع 1983 حين أصبح من الواضح أن الاحتلال الإسرائيلي ينوي البقاء فترة طويلة, وهو ما أثبتته اتفاقية السابع عشر من أيار, التي اعتبرت بشكل واسع نوعًا من تسليم السلطة في الجنوب إلى إسرائيل (1) شكل عدد من رجال الدين المحليين خلايا محلية صغيرة, يصعب اختراقها, أمثال الشيخ راغب حرب (الذي اغتيل في شباط 1984) من جبشيت والشيخ عبد الكريم شمس الدين من عرب صاليم, والسيد علي مهدي إبراهيم من عدلون, تألفت هذه الخلايا من الشباب المحلي المناضل الذين برهنوا على عدائهم الشديد للاحتلال الإسرائيلي, الأمر الذي دفع عدد من أعضاء أمل ومناصريهم للالتحاق بهم.
__________
(1) لمقابلة مع قيادي في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية انظر الحرية 22 أيار 1983 يقول هاشم ملحم: إن جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية أنشأت في 16 أيلول 1982 The case for the Lebanese Resistance, AAUG Association of Arab-American University Graduates Mideast Monitor no 3 May 1985; 2-4,6.(27/12)
بدأت قيادة أمل في بيروت, يدفعها القلق من جراء جذب الراديكاليين لمناصريها في بيروت والجنوب على السواء بتبني خط أشد كفاحية في مواجهة جيش الدفاع الإسرائيلي وفي غضون ذلك كان الضغط على قيادة الجنوب يشتد شكل شهر تشرين الأول 1983 نقطة تحول رئيسية على غير صعيد, فهو الشهر الذي ارتكبت فيه إسرائيل إحدى زلاتها الرئيسية, في 16 تشرين الأولى 1983, كان الشيعة يحيون ذكرى عاشوراء (العاشر من شهر محرم) ذكرى استشهاد الإمام الحسين حفيد الرسول في عام 680 ميلادية وأهم يوم ديني في السنة لدى الشيعة, فهو يوم العاطفة الهائلة اليوم الذي يستشعرون فيه مدى معاناة الحسين وشجاعته في مسيرته النضالية ضد الظلم والطغيان, وتعتبر النبطية المركز الأهم للاحتفال بهذه الذكرى في لبنان, وهي بلدة جنوبية مهمة, والمركز الديني لجبل عامل, ففي ذلك اليوم ذي الأهمية الروحية الفائقة, حاولت قافلة عسكرية إسرائيلية اختراق شوارع النبطية التي احتشد فيها ما يزيد عن 60 ألف محتفل بالذكرى والنتيجة بالطبع معروفة, رأى الشيعة في وجود الشاحانات الإسرائيلية نوع من الازدراء بعاشوراء فردوا بعدائية هائلة وأمطروا القافلة بالحجارة وقلبوا الشاحنات, مما ألقى الذعر في قلوب الإسرائيليين فبدأوا بإطلاق النار من أسلحتهم, فقتل شيعيان على الأقل وجرح عدد آخر.(27/13)
قد تبدو هذه الحادثة بسيطة في بلاد فقدت 19 ألف قتييل على يد الغزاة الإسرائيليين, إلا أنها اتخذت أبعادًا هائلة, إذ اعتبرها الشيعة في لبنان رمزًا لانتهاك الحرمات الدينية المقدسة, وتحولت إلى صرخة استنهاض ضد الاحتلال الإسرائيلي, يقول المستعرب الإسرائيلي موشى شارون: إن صديقًا شيعيًا له قد نبهه إلى ضرورة عدم تحول إسرائيل إلى عدو للشيعة, وعدم التحاقها بركب سافكي دماء الحسين, قائلاً: ((لا تنضموا إلى قاتلي الحسين؛ لأنكم إذا حملتم الشيعة على المماهاة بينكم وبين تاريخ معاناتهم فسيوجه نحوكم عداء لا حدود له, وستكونون قد خلفتم لأنفسكم عدوًا تكتسي عدائيتة طابعًا روحيًا صوفيًا وتتميز بزخم لن تتمكنوا من جمحه)) (1).
ومع ذلك, جاءت حادثة النبطية بالرمز الذي يستعيد الماضي, ولاحظ قادة رجال الدين بسرعة العلاقة البينة بين إحياء ذكرى استشهاد الحسين والانتهاك الإسرائيلي, فأصدر الشيخ محمد مهدي شمس الدين فتوى (تفسير أو تأويل مرجعي لواجب ديني) في 17 تشرين الأول 1983 يدعو فيها كافة الشيعة إلى مقاومة مدنية شاملة ضد القوات الإسرائيلية ونبه الشيعة إلى أن الذين يتعاطون مع الإسرائيليين مأواهم جهنم.
ويبدو أن هذه الفتوى, بالإضافة إلى فتاوى أخرى صدرت في الوقت نفسه كفتوى علماء جبل عامل وفتوى المراجع الدينية في صيدا, قد حكمت بالفشل على الاحتلال الإسرائيلي في لبنان (2). وانضمت حادثة النبطية على صغر حجمها وعدد ضحاياها, إلى مثيلاتها من الأحداث التاريخية التي توفر مادة الشعارات الثورية وصرخات الحرب, مجسدة (كحادثة دنشواي في مصر عام 1906, ومعركة بانكر هيل في أمريكا) الاستياء والغضب المتنامي في جنوب لبنان.
__________
(1) Jerusalem Post , February, 15, 185.
(2) حول نص الفتوى انظر النهار 18 تشرين الأول 1983, وحول موقف مختلف العلماء المسلمين في خطبة الجمعة في 21 تشرين الأول 1983 انظر السفيرل 22 تشرين الأول 1983.(27/14)
في يوم الجمعة الذي تلا الحادثة 21 تشرين الأول, أدان رجال الدين المسلمون الإسرائيليين في المساجد في جميع أنحاء البلاد, وجاءت الخطبة الحماسية للشيخ عبد الأمير قبلان المعروف بسياساته المعتدلة وعلاقته الوثيقة بحركة أمل وغريزته الفطرية في التقاط المزاج الشعبي لتضمن وصول الرسالة إلى الجميع:
((إذا وجهنا جميع بنادقنا وقدراتنا وإمكانياتنا ضد العدو الإسرائيلي فسننتصر, كلكم تعرفون ما حدث يوم الأحد في كربلاء لبنان, كربلاء جبل عامل, كلكم تعرفون الاضطرابات التي حدثت في عاشوراء.
إن هذا السيف (سيف الشيعة) لم يحسب حسابًا أن هناك بالونات حرارية وأن هناك جاذبية وآلات مدرعة, فتخطى كل الاعتبارات والخطط العسكرية فإذا بالسيف والكف واللحم العاري يقول: لا للاحتلال, ويؤكدون من جديد كلام الإمام الصدر أن إسرائيل شر مطلق. انتفاضة النبطية أكدت من جديد أن لا حول ولا قوة إلا بالله, فلا حماة ولا دعاة إلا لمن كان مطيعا لله, فعلينا أن نجعل من درس النبطية درسا لكل اللبنانيين وعلينا التعاون من جديد لنعيد اللحمة بيننا)) (1).
__________
(1) السفير, 22 تشرين الأول 1983.(27/15)
قبل حادثة عاشوراء كان الكثير من الهجمات على الإسرائيليين تنفذ من قبل مجموعات صغيرة منشقة, إلا أن الحادثة كانت بمثابة دعوة إلى حمل السلاح لدى العديد من الذين كانوا قد تجنبوا المشاركة الفاعلة, ووجد العديد من قادة أمل, يدفعهم الحرص على عدم تفتت حركتهم الذي يلوح في الأفق وتحضهم الفتوى, أن لا خيار أمامهم إلا تعزيز كفاحيتهم ضد الجيش الإسرائيلي, ونتج عن ذلك ازدياد ملحوظ في عمليات المقاومة, حتى قدرت مصادر مسئولة أنه في عام 1984 كان جندي إسرائيلي واحد يقتل أو يجرح يوميًا في الجنوب, ويشير تقدير للأمم المتحدة أن الإسرائيليين كانوا يواجهون هجومين يوميًا منذ أوائل 1984 وأن المعدل ازداد طوال عام 1984 (1).
في تشرين الثاني 1983, ظهر حجم الفشل الإسرائيلي عندما عقد رجل شيعي, كانت إسرائيل قد اختارته قائدًا للفرقة الشيعية, مؤتمرًا صحافيًا في إحدى ضواحي بيروت, ليعلن أنه كان مضللاً من قِبل الإسرائليين وأنه يسعى للانضمام إلى حركة أمل (2) قبل ذلك بشهر واحد وتحديدًا في 5 تشرين الأول 1983 كان القائد السابق للفرقة (التي ذكر أنها تتألف من 270 رجلاً) المدعو حسين وهبي قد لقي مصرعه في تفجير سيارة في بلدة عدلون في الجنوب (3).
__________
(1) زودني بهذه المعلومات مسئول في الأمم المتحدة, تحدثت أسبوعية بيروت المساء في عددها الصادر في 17 أيلول 1984 عن 70 عملية في أشهر حزيران وتموز وآب 1984.
(2) السفير 1 كانون الأول 1983.
(3) New York Times , October 7, 1983.(27/16)
وفي كانون الثاني 1984, مات سعد حداد قائد الميليشيا الإسرائيلية التجهيز والتدريب والإشراف بمرض السرطان, وعندما لم تجد إسرائيل في الجنوب خليفة له يتمتع ولو بقسط من المهابة والفاعلية سواء لدى الشيعة أم لدى غيرهم, قام أوري لوبراني, منسق الشئون الإسرائيلية في لبنان, بالتنسيق مع بعض كبار المسئولين العسكريين اللبنانيين بالاتفاق مع لواء مسيحي متقاعد هو انطوان لحد للحلول محله (1) تخرج لحد من الكلية الحربية اللبنانية في عام 1952 وخدم في الجنوب حتى بداية الحرب الأهلية في عام 1975, ولحد شمعوني من بلدة دير القمر في الشوف, وفي الواقع فقد يكون داني شمعون صديق شخصي مقرب من لحد, الذي نشط في الجنوب منذ عام 1983, قد لعب دورًا رئيسيًا في تعيينه قائدًا للقوة التي أعيد تسميتها منذ ذلك الحين بجيش لبنان الجنوبي, ومن الجدير بالملاحظة أيضًا أن لحد شريك بالأعمال لإبراهيم طنوس القائد الماروني للجيش اللبناني حتى أوائل عام 1984.
__________
(1) كان لوبراني يعمل سابقًا في إيران كضابط ارتباط إسرائيلي مع عرش الطاووس, وهذا لم يغب عن نظر الجنوبيين, وفي الحلقيقة فإنه على ضوء عمل لوبراني السابق يمكن القول أنه لم تجر أبدًا أي محاولة جدية لإنشاء علاقة مع الشيعة.(27/17)
وبينما علق المسئولون الإسرائيليون آمالاً كبيرة -أقله علنًا- على إمكانية أن يقوم جيش لبنان الجنوبي بالعديد من مهام الجيش الإسرائيلي, إلا أنه كان من الواضح أن هذا النجاح ليس بالأمر المتوقع, إن جيش لحد الذي يتألف من حوالي ألفي رجل على الأكثر 80% منهم موارنة, والباقي ينقسم بشكل شبه متساوي بين الدروز والشيعة, ليس بالمليشيا التي يحسب لها حساب فهي لا تضم إلا قلة من العناصر التي تلقت تدريبًا حسنًا في حين أن الأغلبية لم تلق أي تدريب على الإطلاق, وأعضاؤها في الكثير من المواضع هم الذين لم يستطيعوا -إما لصغر سنهم أو لكبره- أن يخرجوا للبحث عن رزقهم خارج نطاق قراهم, وهي تعتمد, كما كانت على أيام حداد, بشكل حاد على الدعم الإسرائيلي, وتأتمر بأوامر عملاء المخابرات الإسرائيلية, الذين يحرصون على البقاء في الظل.(27/18)
وبينما كانت قوات حداد تتألف أساسًا من عناصر مسيحية نظامية عينت في الجنوب قبل الغزو الإسرائيلي لعام 1978, وهم رجال كانوا يمتلكون تفهمًا معقولاً لضرورة الوفاق الطوائفي ونادرًا ما أثاروا حساسيات الشيعة, لم يبق منها في جيش لحد سوى عدد قليل جدًا, مما جعله يتشكل أساسًا من عناصر القوات اللبنانية المارونية, التي حلت محلها, والتي دعمت بعناصر أخرى من جبل لبنان انتقلت إلى الجنوب بعد الاجتياح الإسرائيلي (1). كانت القوات اللبنانية في عام 1982 وفي جزء من العام 1983 تعمل -خصوصًا في منطقة صيدا- كمنافس لسعد حداد, على كيل الضربات الانتقامية للفلسطينيين, ولقد كانت هذه الأعمال المزرية واللا إنسانية للقوات اللبنانية في المخيمات الفلسطينية وضد أعضاء أمل من الخطورة بحيث أثارت قلق المسئولين في الحكومة اللبنانية والمسئولين الأمنيين الإسرائيليين في آن. ذكر الصحافي روبن رايت, المتمكن في شئون جنوب لبنان, أن تقريرًا سريًا للحكومة اللبنانية نبه مسبقًا إلى أن استفزازات القوات اللبنانية تساعد على جعل احتمال نشوب القتال الشيعي الماروني في أي لحظة هو الاحتمال الأكثر جدية, (2) ولقد أعربت إسرائيل عن قلق مماثل, فطالبت الوحدات المسيحية بمغادرة الجنوب في تموز 1983.
__________
(1) Robin Mannock , Hit and Myth of the Occupation Forces' Policy of Terror in South Lebanon. Daily Star Beirut June 21, 1984. Sce also Scott Macleos. A Dangerous Occupation New York Review of Books , August 16, 1984.
(2) Robin Wright , Christian Science Monitoi , August , 4 1983.(27/19)
وبحسب ناطق باسم القوات اللبنانية فإنها لم تمنحهم سوى أربع وعشرين ساعة ينهون فيها انسحابهم (1) بالطبع سهل رفض القوات اللبنانية, التعاون مع سعد حداد وتفضيلها العمل بشكل مستقل عنه, على إسرائيل اتخاذ مثل هذا القرار لكن رغم إغلاق المكاتب التنظيمية الرسمية فإن عددًا من العناصر بقي في المنطقة, منهم من التحق بالمليشيا التابعة لإسرائيل ومنهم من عمل مرتزقًا لحسابه الخاص, لم تتحسن حظوظ لحد بالنجاح بدخول عناصر من القوات اللبنانية إلى مليشياه, ومن المهم أن نلاحظ أن العلاقات الشيعية المارونية تدهورت بشكل خطير بفعل التجاوزات التي مارستها العناصر المارونية المستوردة ولقد فاقم هذا الأمر العداء الشيعي لإسرائيل, فالقرى المارونية نعمت تاريخيًا بعلاقة حسن الجوار مع المحيط الشيعي المجاور المتفوق عدديًا, إلا أن محاولة القوات اللبنانية الفاشلة في مد نفوذها إلى الجنوب ساعدت على تسريع عملية تراجع الموارنة والشيعة إلى هوياتهم الطائفية وخلق حالة من العداء لم تكن موجودة قبل عام 1982, وبسبب هذه التطورات فإن حماية القرى المارونية من شيعة يرغبون في الانتقام هي إحدى أولى مهام حفظ السلام, إذا ما قدر للجنوب أن ينعم يومًا ما بالسلام.
__________
(1) New York Times , July 29, 1983.(27/20)
في ضوء الحالة المتدهورة التي واجهت الإسرائيليين وعملائهم, فقد تصلح هذه التعليقات لصحافي إسرائيلي للنقش على ضريح الجهود الإسرائيلية في الجنوب: ((صحيح أن القرى والبلدات في جنوب لبنان قد استقبلتنا بالورود والأرز, إلا أنهم يستقبلوننا الآن بالقنابل اليدوية والمتفجرات, لقد حدث شيء ما للطائفة الشيعية, ودباباتنا وناقلات جنودنا المدرعة لم تعد تقابل بالابتسام واللامبالاة, وفرحهم بوصولنا كشعب خلصهم من عبئ الإرهابيين تغير مع الوقت إلى كراهية لاهبة, ويجب ألا نستغرب ذلك فلقد تصرفنا كحكم عسكري بكل ما يتطلبه ذلك, وسببنا معاناة كبيرة للسكان)) (1).
ومع استطالة الوجود الإسرائيلي في لبنان من أشهر إلى سنوات, تزايدت صعوبة عمليات الخلاص, والمفارقة هي أنه بإجبار قيادة الحركة على تعزيز كفاحيتها كانت إسرائيل تساعد على قيامة هذه القيادة, كما قام المسيح من بين الأموات؛ إذ كان بعض القادة مثل داود سليمان داود من العباسية, قد حاولوا حتى بعد حادثة النبطية, أن يقفوا فوق النزاع, لكن مع ازدياد العنف ومع اتضاح دور الحركة المتزايد باطراد بدأ الإسرائيليون بملاحقة المعتدلين, ومع إجبار أشخاص مثل داود على النزول تحت الأرض, عُمِّد هؤلاء قادة للمقاومة, وتمكنوا بالتالي من استلام زمام الأمور مجددًا في الحركة, وهكذا فإن حملة من أجل تدجين وتفتيت حركة أمل جعلت منها عدوًا لدودًا ثابتًا.
إدراك الورطة:
__________
(1) Yisre'el Zamir, The Bluff Called Security Arrangements, al Hamishamar, February 23, 1984.(27/21)
منذ مطلعها تقريبًا وسنة 1984, هي السنة التي تحطمت فيها السياسات القائمة على الأوهام والخداع الذاتي على صخرة الحقيقة الباردة المتمثلة بالتطورات التي حدثت على الأرض في لبنان, مات سعد حداد في كانون الثاني تاركًا فراغًا يصعب ملؤه, وردت حركة أمل وحلفاؤها في شباط على قصف الحكم لإحياء الشيعة في محيط بيروت بالاستيلاء على بيروت الغربية, كاشفين زيف ادعاء أمين الجميل بأنه أكثر من مجرد زعيم سياسي ضيق القاعدة, وترافق ذلك مع نداء لنبيه بري, لقي استجابة واسعة, يدعو فيه الجنود الشيعة لإلقاء سلاحهم مما حول الوحدات ذات الأغلبية الشيعية في الجيش إلى تشكيلات نظامية تابعة لأمل, وفي منتصف الشهر نفسه انسحبت القوات المتعددة الجنسيات من لبنان أثر تلقيها -خلال الخريف الفائت- لعدة ضربات انتقامية على يد السائقين الانتحاريين, حاملة معها الذكريات المريرة الحافلة بالموت والدمار.
مع انسحاب القوات المتعددة الجنسيات من لبنان, كان من السهل رؤية أن سوريا قد استعادت مركزها كقوة مسيطرة في لبنان فسارعت الحكومة اللبنانية الضعيفة, في آذار إلى التكيف مع الحقائق الجديدة الناتجة عن إعادة توزيع السلطة في لبنان ملغية اتفاق السابع عشر من أيار, وبعد ذلك بشهرين تكررت المحاولات لحمل نبيه بري, الذي كان قبل فترة قصيرة زعيمًا منبوذًا لطائفة منبوذة, على الاشتراك في حكومة الوحدة الوطنية, وكان الثمن الذي طلبه بري للاشتراك في الحكومة الجديدة يتمثل في إنشاء وزارة للجنوب يتولاها بنفسه, مما وضعه في مواجهة مباشرة للاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان.(27/22)
بدأت حركة أمل, مدفوعة بأحداث النبطية في الخريف السابق إضافة إلى نشاط أخصامها السياسيين في محاربة إسرائيل, في لعب دور فاعل في محاربة الوجود الإسرائيلي في الجنوب, طوال عام 1984 كان الاستياء من إسرائيل يزداد وفق متواليات هندسية تقريبًا, ومع تطبق إسرائيل لإجراءات أمنية هدفت إلى تعزيز سلامة قواتها, خلقت صعوبات اقتصادية جديدة وتمزقًا مجتمعيًا لم يشهد الجنوب مثله في أي وقت مضى, فبعد نسف مقر مخابراتها في صور في تشرين الثاني الفائت بدأت إسرائيل بعزل الجنوب عن بقية لبنان, جاعلة العبور إلى القطاع الذي تسيطر عليه عملية مضنية تستهلك وقتًا طويلاً ما لبثت أن فاقمت الأشياء وأعاقت التبادل التجاري بشكل خطير, وفي الوقت نفسه كانت إسرائيل تواصل إغراق الجنوب بمنتجاتها الزراعية بأسعار لم تتمكن الفاكهة والخضر المحلية من منافستها (1).
وبحلول منتصف العام كان يمكن قراءة الديناميات الخطرة للوضع في الجنوب بسهولة فائقة, فمع استمرار الاحتلال بأثره السلبي على الاقتصاد والاستقرار السياسي في المنطقة فقدت الثقة بمزايا الاعتدال وأفسح في المجال أمام التطرف, وأي حزب يحاول العمل على استتباب الأمن والنظام, كان يعتبر مجرد أداة مكملة للوجود الإسرائيلي, وهكذا دفعت ضرورات البقاء السياسي والمادي قادة وسطيين إلى المقاومة, وبنتيجة ذلك لم يجد الإسرائيليون قائدًا شيعيًا واحدًا يرغب في الرد على مبادرتهم الهادئة, وبحلول شهر آب كانت أمل قد برهنت عن كونها عدوًا رهيبا يمتلك القدرة على إلحاق الخسائر بالإسرائيليين وعملائهم, (لاحظ رابين في كانون الأول 1984, أن أمل مسئولة عن 80% من الهجمات في الجنوب) وبلغ مجموع القتلى من الإسرائيليين في لبنان في الفترة الواقعة بين شهري آب 1983 وآب 1984 72 جنديًا لقي أغلبهم مصرعه على يد المقاومة في الجنوب.
__________
(1) انظر الحوادث 4 آذار 1983 المستقبل 23 تشرين الأول 1982 والمجلة 23-29 حزيران 1984.(27/23)
ومع تزايد قوة المقاومة صعدت إسرائيل من إجراءاتها المضادة ومنحت مزيدًا من حرية التحرك لعناصر الشين بيت العاملين في المنطقة, فأصبحت العناصر المشتبه بانتمائها للمقاومين هدفًا للاعتقال أو -وكما أفادت مصادر متعددة- القتل ورغم كون معظم الاغتيالت السياسية لم تخلف وراءها سوى ظلال من الشك, إلا أن بعضها عولج بطريقة غير متقنة فاضحة بالتالي دور الشين بيت في تنفيذها, ففي 14 حزيران 1984 مثلاً, اغتال عملاء الشين بيت بدم بارد مرشد محمد النحاس (أصيب بجراج قبل بضعة سنوات في صدام مع منظمة التحرير) في قرية بدياس الجنوبية, ولم يحط بهذه القضية أي غموض بخلاف القضايا الأخرى, فقد غطتها الصحافة بشكل واسع وأكدها جنود اليونفيل الذين راقبوا حركة ثلاث سيارات محملة بعناصر الشين بيت وهي تدخل القرية (1) أدى مقتل نحاس واغتيال حسن الساحلي (الذي لعبت عائلته دورًا فاعلاً في المواجهة مع منظمة التحرير الفلسطينية) في 11 حزيران 1984, إلى نتائج عكسية تمامًا, بما أنهما وفرا دليلاً إضافيًا على نية إسرائيل بتصفية العناصر التي تسعى إلى تحرير الجنوب من أي نفوذ أجنبي, استغلت المقاومة اتجاه الجيش الإسرائيلي إلى الرد على الهجمات المسلحة بتضييق الخناق على القرويين لدفعها إلى القيام بهجمات على قرى لم تعرف باشتراكها بالمقاومة من قبل.
__________
(1) تدعي المصادر العسكرية الإسرائيلية أن نحاس قتل وهو يحاول الهرب من المعتقل تلفزيون القدس 15 آب 1984, إلا أن الروايات الصحافية وتقرير مراقبي الأمم المتحدة الحياديين تدفع إلى الشك في مدى صحة الرواية الإسرائيلية, انظر: Colin Smith , Daeth in Lebanon, Israel Admits Guilt Observer, August 19, 1984, and John Kifner , Southern Lebanon; Atrauma for Both Sides, New York Times, July 22,1984.(27/24)
بعد انتخابات تموز التي جاءت بشيمون بيريز إلى رئاسة الوزراء وإسحاق رابين إلى وزارة الدافع برزت تغيرات أساسية في أهداف إسرائيل المعلنة في لبنان, أهمها تصميم بيريز ورابين على الانسحاب من الجنوب, لكن عدة أشهر مضت قبل أن تنعكس سياسة الحكومة الجديدة على الأرض, وهكذا بينما شهد عام 1984 تقلصًا متزايدًا للأهداف الإسرائيلية في لبنان -خصوصًا بعد إلغاء اتفاقية 17 أيار والانتخابات الإسرائيلية في تموز- لم يدرك بيريز ورابين مدى خطورة المأزق الإسرائيلي في لبنان إلا في أواخر العام نفسه, فبعد محاولة غير ناجحة للتوصل إلى ترتيبات عملية مع حركة أمل -بما في ذلك اقتراح هدنة في تشرين الثاني 1984- (1) بدا واضحًا أنه لا مجال للارتياح إلا عبر الخروج من المستنقع الجنوبي, وفي الواقع فقد خضعت الحسابات الإسرائيلية لتغيير هام, فحتى أواخر عام 1984 كان الإسرائيليون يضعون المعضلة في الإطار التالي:
نريد أن نخرج لكن كيف يتسنى لنا ذلك في ظل المحاذير الأمنية, إلا أنه في أواخر عام 1984 أصبح السؤال على الشكل التالي, كيف يمكننا أن نبقى رغم كل مخاطر البقاء, ولقد تزامن ذلك مع تزايد راديكالية الشيعة وازدياد تقبلهم بالتالي إلى طروحات القادة المتطرفين من خارج حركة أمل, أكثر من ذلك, كان القادة الوسطيون يندفعون بالضرورة وبفعل ضغط المزاج الشعبي نحو تبني موقفًا أكثر نضالية بكثير في مواجهة إسرائيل, وباختصار, فإن الأفق الوحيد لتطور الوضع على الأرض كان يتجه إلى مزيد من التدهور, وبدا احتمال القيام بهجمات داخل إسرائيل أكثر واقعية من أي وقت مضى.
__________
(1) New York Times , November 12, 1984.(27/25)
في 18 كانون الثاني 1985 نجح بيريز في الحصول على موافقة مجلس الوزراء على خطة انسحاب ممرحل من لبنان, قامت جزئيًا على حقيقة كون الأغلبية العظمى من الشيعة هم أعداء لإسرائيل في لبنان وليسوا أعداء لإسرائيل في حد ذاتها. (1)
__________
(1) حول القرار الإسرائيلي في 18 كانون الثاني انظر: Augustus R. Norton , Occupational Bisks and Planned Ritirement: The Israeli Withdranwal from South Lebanon Middle East Insight 4 , no 1 March / April 185: 14-18.
ولعل الحادثة الأسوأ تعريضًا لسمعة إسرائيل, والتي حدثت في ربيع 1985, عندما كانت سياسة القبضة الحديدية في أوجها هي تفجير حسينية قرية معركة في 4 آذار, فرغم أنه لم تبرز أدلة حاسمة تشير إلى تورط إسرائيل في القيام بالعملية, إلا أن العديد من اللبنانيين ورجال الأمم المتحدة يعتقدون أن الأدلة الظرفية الثابتة هي أدلة مقنعة.
كان محمد سعد إنسانًا ملتزمًا يعمل في صمت ويحظى بحب الناس وتقديرهم بخلاف العديد من أقرانه في قيادة حركة أمل, كان سعد متواضعًا وخجولاً, يبدو للمراقف السطحي أنه يفتقد إلى دينامية القائد, لكن الحقيقي هي غير ذلك, كان محمد سعد تلميذًا لمصطفى شمران في مؤسسة جبل عامل, في البرج الشمالي, ولعب منذ أواخر السبعينات دورًا هامًا في حركة أمل.
كنت أعرفه معرفة جيدة, وكنت معجبًا جدًا بإخلاصه وتفانيه وروحه الشجاعة التي لا يعرف الخوف إليها سبيلاً , كان خطيبًا مؤثرًا وأوحد من ثلاثة أو أربعة من قادة أمل في الجنوب الأكثر فعالية, والمؤكد أن أتباعه لن ينسوه بسرعة.
ردًا على حادثة معركة القرية المشهورة بأنها موطن أجداد الإمام الصدر, والصخرة الصلبة في مواجهة الإسرائيليين ومنظمة التحرير في آن, دعا الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى الجهاد الدفاعي ضد إسرائيل انظر السفير 5 آذار 1985.(27/26)
وحاول المسئولون الإسرائيليون -وخصوصًا أورى لوبراني منسق السياسة الإسرائيلية في لبنان طوال مراحل الانسحاب الثلاث- التوصل إلى اتفاق مع حركة أمل, وكما أخبرني لوبراني نفسه في كانون الأول 1984, لم تكن إسرائيل تريد من أمل إلا تحمل مسئولية الأمن في الجنوب، وبحسب تعبيره فقد أرادت أن تجد من تسلمه المفاتيح, لكن تنافس أمل على الساحة اللبنانية مع الأحزاب الشيعية الراديكالية بالإضافة إلى شك أصيل في النوايا الإسرائيلية قضى على أي إمكانية للتوصل إلى أي اتفاق مع إسرائيل.
أدى رفض حركة أمل إلى ازدياد الإحباط في إسرائيل الأمر الذي, أدى بدوره إلى نتائج كارثية على بعض القرى الجنوبية التي عانت من ثقل وطأة الدرس العملي الإسرائيلي المسمى بالقبضة الحديدية, فقد شنت القوات الإسرائيلية حملة قمع وحشي لتظهر للناس ما الذي سيعاني الجنوب منه إذا استخدم كقاعدة انطلاق للهجمات ضد إسرائيل, ولقد أوضح رابين هذه النقطة عدة مرات لمن فاته إدراكها ففي مقابلة له نشرت في آذار قال: ((نريد أن نؤكد للقيادة الشيعية بأنه ليس أمامهم سوى خيارين فقط إما أن يسيطر الهدوء على جانبي الحدود, وإما وفي حال مهاجمتهم لنا تعطل حياتهم بطريقة ترغمهم على التعايش السلمي معنا. تمامًا كما توصلت منظمة التحرير الفلسطينية إلى الاستنتاج نفسه تقريبًا, في عام 1981 إشارة إلى وقف إطلاق النار الذي التزمت فيه منظمة التحرير الفلسطينية في تموز 1981 إلى أيار 1982)) (1).
__________
(1) مقابلة مع رابين: Eytan Gaber, Yedi'ot Aharonot Weekend Supplement, Marmh 15, 1985.(27/27)
تزامن ذلك مع استمرار إسرائيل بالسعي إلى عقد اتفاق مع أمل دون أن تتخلى عن تصعيد سياسة العنف, ولقد ظهر نفاذ صبر إسرائيل في الدعوة إلى عقد اتفاق سري بين أمل وإسرائيل وجهها لوبراني عبر صحيفة النيويورك تايمز, وهي منبر غير تقليدي على الإطلاق للدعوة إلى مفاوضات سرية (1).
أما أمل فكانت ترسل من جهتها إشارات معينة, فقد أعلن مسئوليها في الربيع عن معارضتهم للهجمات الموجهة ضد إسرائيل من جنوب لبنان, كان داود داود (المعروف منذ عام 1980 على الأقل بمعارضته الحازمة للوجود العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان) يتحدث بالنيابة عن الكثيرين من الشيعة الذين يشاطرونه الرأي عندما أعلن أن للفدائيين ملئ الحرية في العمل من أجل فلسطين داخل فلسطين نفسه لا انطلاقًا من جنوب لبنان: ((يمكنهم إذا أرادوا أن ينظموا خلايا مقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة لا في جنوب لبنان, فشعبنا في الجنوب بأغلبيته الشيعية قد عانى بما فيه الكفاية من جراء الحرب الفلسطينية الإسرائيلية)) (2). وأوضح داود -وهو قائد حركي يحظى باحترام واسع وتنبع شعبيته لا من دوره كواحد من أول مرافقي ومعاوني الإمام موسى الصدر فحسب بل وبفضل نزاهته ونكرانه لذاته أيضًا- بما لا يقبل الشك أن أمل لن تتوقف عن مهاجمة الجيش الإسرائيلي وعملائه في لبنان إلا أنه أكد أيضًا على عدم السماح بالهجمات على الأراضي الإسرائيلية, أو استخدام الأسلحة غير المباشرة وخصوصًا صواريخ الكاتيوشا, ضد الحزام الأمني الإسرائيلي, ويبدو أنه يستند إلى كون استخدام هذه الأسلحة في الجنوب
__________
(1) حتى زملاء لوبراني الأقربين دهشوا من قراره الدعوة لمفاوضات سرية من على صفحات الصحف.
(2) عن الـ: New York Times 9 أيار 1985, وحتى السيد محمد حسين فضل الله أشار إلى أن اللبنانيين لا يملكون الوسائل الكفيلة لتحرير فلسطين, وعليهم بالتالي أن لا يحاولوا القيام بذلك.(27/28)
يؤدي إلى استفذاذ إسرئيل؛ لأنها تربط ما بين هذه الأسلحة والهجمات التي كانت تشن على مستوطناتها وبلداتها الحدودية: ((أنا ضد أي قصف من المناطق المحررة إلى المناطق المحتلة, لقد قلت لرجالي أن يذهبوا إلى المناطق المحتلة ويواجهوا الإسرائيليين وجهًا لوجه ويطلقوا النار عليهم من مسدساتهم فهي أكثر فعالية بكثير من إطلاق القذائف من الخارج)) (1).
لم يكن رفض أمل لعودة منظمة التحرير مبنيًا فقط على العداء الناتج عن أكثر من عشرة سنوات من تحمل اليد الغليظة لمنظمة التحرير الفلسطينية بل ولتقديرها وفقًا لحسابات براغماتية أن إسرائيل جدية في تهديدها وأن الشيعة هم الذين سيدفعون ثمن الأعمال العسكرية الإسرائيلية, وهو ما أوضحه عاكف حيدر أكثر من مرة.
((لا لبنان ولا حركة أمل يملكان القوة الكافية لأخذ موقف فيما يتعلق بالمشاكل التي تقسم الفلسطينيين, لقد أيدنا دائمًا وحدة المقاومة الفلسطينية وسوف ندافع عن القضية الفلسطينية حتى النهاية, لكن وجودهم على الأراضي اللبنانية هو مسألة أخرى, إذ لا يوجد بعد الآن أي مكان للفلسطينيين المسلحين في لبنان, إن تحرير لبنان هو مشكلة لبنانية, إننا نشكر الجميع على مساعدتهم لنا, إلا أننا قادرين على التصدي لها بأنفسنا, إننا نرحب بوجود فلسطيني مدني طالما أن مشكلتهم لم تحل, ونقدم لهم إمكانية العمل السياسي والدبلوماسي, لكن على إخواننا الفلسطينيين في المخيمات أن لا يحملوا السلاح)) (2).
__________
(1) Associated Press dispatch Pubished in Daily-News Recorl Harrisonburg, Va. July 5, 1985.
(2) مقابلة مع عاكف حيدر, L'Unite, March 1-1985(27/29)
ذكر القتال الدامي الذي دار داخل المخيمات الفلسطينية وبينها وبين محيطها خلال عامي 1985-1986 أن ملاحظات حيدر لم تكن مجرد تهديد فارغ, وبينما تكبدت أمل خسائر فادحة لم يكن معنى الاشتباكات يحتمل أي لبس, إن أمل لا تنوي السماح بعودة الدور العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي قد لا يقتصر على مواجهة حملة أمل الهادفة لإخضاع أخصامها من السنة في بيروت الغربية, ولكنه قد ينتقل أيضًا إلى الجنوب, خلص نبيه بري هذا الخوف بقوله: ((ما يحاول الفلسطينيون عمله هو تهيئة المسرح للعودة إلى الجنوب وبصراحة لن نسمح بحدوث ذلك)) (1).
__________
(1) نقلت عن النيويورك تايمز, 26 آيار 1985.(27/30)
وفي الجنوب أرفقت أمل كلامها بتبليغ الفلسطينيين في المنطقة رسالة واضحة المضمون (1). فقامت بتنظيم حركة الدخول والخروج من وإلى المخيمات, وعمدت في مناسبة واحدة على الأقل بحركة معدة للفت الأنظار, إلى محاصرة مخيم البص قرب صور, لتتأكد من أن الرسالة قد وصلت إلى ساكنيه, وقامت للغاية ذاتها بالرد على نشاطات حزب الله, مجردة الراديكاليين من سلاحهم ومانعة شحنات السلاح من الوصول إلى الجنوب (مما دفع حزب الله إلى الدعوة إلى جبهة مقاومة متحدة تستثني حركة أمل) ولقد أعلن كبار المسئولين الإسرائيليين حتى قبل سحب الكتلة الإسرائيلية الرئيسية في حزيران 1985، أن أمل تقوم بدور نشط ضد المتطرفين الساعين إلى مهاجمة إسرائيل. (2) ولكن رغم إشارات أمل الواضحة, إضافة إلى إظهارها نيتها في الحفاظ على السلام, لم تشأ إسرائيل أن تترك أمنها في يد غيرها, فبدلاً من الانسحاب الكامل آثرت الاحتفاظ بشريط حدودي, أكبر إلى حد ما من الذي كان تحت سيطرتها منذ عام 1978 حتى اجتياح 1982.
__________
(1) نقلت النيويورك تايمز في عددها الصادر في 26 حزيران 1985 عن عبد المجيد صالح, أحد قادة أمل في الجنوب والذي مارس منذ 1980 نشاطات مناوئة لمنظمة التحرير الفلسطينية, قوله: في اليوم الذي دخلنا فيه صور, أعلنا أنه لن يسمح لأي مقاتل فلسطيني بدخول المنطقة, لقد جذب حزام الأمن الإسرائيلي كافة أنواع المجموعات إلى المنطقة, فإذا لم يكن هناك حزام أمني, لن تأتي أية مجموعة أخرى, لا ترغب أمل في القيام بعمليات داخل إسرائيل ونحن ضد إطلاق الصواريخ, نريد فقط أن تنعم هذه المنطقة بالسلام.
(2) فمثلاً لاحظ قائد القطاع الشمالي للجيش الإسرائيلي الجنرال أوري أور أن أمل قد سيطرت على صيدا والنبطية وأنها لا تسمح بدخول المخربين عن الإذاعة الإسرائيلية في 13 آيار 1985.
وفي 9 أيار أذاع راديو الجيش الإسرائيلي أن أمل تمنع النشاط الفلسطيني المعادي لإسرائيل.(27/31)
طوال عام 1985 كانت قوات لحد تشهد عمليات فرار جماعية تزامنت مع تعرضها لأكثر من 100 عملية شهريًا, في المعدل (تخى عدد العمليات في شهر آذار المائتي عملية) تتراوح بين حوادث القنص وصولاً إلى الألغام المفجرة لاسلكيًا والكمائن, وفي حزيران بات واضحًا أن لحد لن يتمكن بقدراته الذاتية من السيطرة على الشريط الحدودي، فعززت إسرائيل قوته بـ 400 مستشار يشكلون حوالي 25 % من حجم ميليشياه, بالإضافة إلى ذلك تم نشر من كتيبة ميكانيكية إلى اثنتين مع إسنادها المدفعي في القطاع الشرقي من المنطقة الأمنية, كانوا لا يزالون في أماكنهم في نهاية عام 1985, وقال أحد المراقبين المرموقين بعد التقائه ببعض المجندين الشيعة الجدد في مليشيا لحد: ((إنها المرة الأولى التي يتسنى فيها لأحد أن يرى شيعيًا يرتدي اليرملوك (القلنسوة اليهودية))) (1).
الفخ:
يبدو, في الظاهر أن لأمل وإسرائيل عدد من المصالح المشتركة في جنوب لبنان, فرغبة أمل في عودة الهدوء إلى الجنوب تعادل إصرار إسرائيل على المحافظة على استقرار حدودها الشمالية, وكلا الطرفين لا يبدي استعدادًا حتى للنظر في إمكانية عودة الوجود الفلسطيني العسكري الفاعل إلى الجنوب وكلاهما, مصمم على منع حدوث أي انتصار شيعي راديكالي في المنطقة أو حتى في لبنان كله, فتحدي حزب الله يلقي بثقله على جانبي الحدود.
__________
(1) حول القوات الإسرائيلية المتبقية في جنوب لبنان انظر: Uristopher Walker, Incognito Israeli Troops Join SLM Militia as Withdrawal Hopes Fade, Times, June6, 1985 , and Wiliam Claiborne, U.N. Officers in South Lebanon Complain of Israeli Encroachment, Washington Post, September 27, 1985.(27/32)
لقد أدركت إسرائيل ولو متأخرة أن التيار الرئيسي في حركة أمل يشكل قوة سياسية وسطية لا ترغب في استثارة الهجمات الإسرائيلية على لبنان, ومن الناحية الأخرى فقد كانت دروس الاجتياح قاسية على أمل كما على كافة اللبنانيين في الجنوب, فمهما بلغت قسوة سياسة القبضة الحديدية إلا أنها نجحت في إظهار إسرائيل كقوة قادرة على اتباع سياسة لا تعرف الرحمة في الدفاع عن النفس مثلها مثل أي دولة شرق أوسطية أخرى.
من الواضح أن أمل وإسرائيل وقعتا في فخ يشبه الملزمة (الكماشة) بحيث لا يستطيع أي منهما بإرادته الذاتية أن يخرج منه إذ تتحكم بالطرفين القوى الاجتماعية الشعبية التي تحدد حرية كل منهما في الحركة, فالثمن الذي تطلبه إسرائيل للانسحاب الكامل من لبنان هو عملة لا تتعامل أمل بها -أي إبرام صفقة مع إسرائيل- فلو وافقت أمل بشكل علني على الترتيبات الأمنية التي تطالب بها إسرائيل لجازفت باختلال موقعها في المنافسة الدائرة بينها وبين حزب الله للفوز بالقيادة السياسية للطائفة الشيعية, أكثر من ذلك, فإذا كانت سياسة القبضة الحديدية قد حققت الهدف المنشود منها, فسياسة حافظ الأسد قد حققت أيضًا الغاية المنشودة منها مظهرة قدرتها على تعيير دعمها للمجموعات الشيعية المختلفة بحيث تكافئ الذين لا يحيدون عن الخط السوري وتلقن من يحيد عنه دروسًا عملية, وهكذا وانطلاقًا من متطلبات وسطها السياسي, يمكننا القول إن معضلة أمل تبدو واضحة إذ يتعين عليها أن لا تظهر كمدافع عن المصالح الإسرائيلية وعليها في الوقت نفسه أن تقدم نفسها بوصفها القوة الرئيسية المسئولة عن طرد الغزاة الإسرائيليين.(27/33)
من الناحية الأخرى يطغى في إسرائيل شعور بانعدام الأمن يجعل من الصعب عليها أن تراهن على منظمة سياسية بدائية التنظيم ذات قيادة وعضوية غير مستقرة, يصعب التنبؤ بما قد تقوم به, كما أن عددًا من مهندسي الغزو الإسرائيلي ما زالوا أعضاء في الحكومة الاصطناعية التركيب, وهؤلاء ليسوا على أهبة التوقيع على صك الإدانة النهائي للغزو الذي روجوا له ودافعوا عنه وفي حالة شارون -خططوا له وقادوه. فحتى بعد اتخاذ القرار بالانسحاب في كانون الثاني 1985 ورغم طغيان المشاعر الإسرائيلية المطالبة بالخروج من لبنان فإن رجالاً مثل موشي إرينز وأرييل شارون استمروا في محاولة حرف الانسحاب عن وجهة سيره (1).
فالفريقان إذن, وقعا في فخ مميت, لا يستطيع أي منهما أن ينجو منه بقدراته الذاتية والعنصر المأساوي فعلاً هو أن كلي الطرفين يعرف بأنهما قد وقعا في الفخ, فبعض كبار مسئولي أمل قد اعترفوا في مجالسهم الخاصة بهذه المعضلة كما أقر بذلك المسئولون الإسرائيليون, ويشير اتجاه سير الأحداث إلى احتمال نشوء تسوية مؤقتة, إلا أنه من المحتمل أيضًا أن يرتكب أحد الطرفين أو كلاهما خطأ ما يعيد به عملية التجذر والعداء التي سادت في الجنوب في عام 1984 وأوائل 1985 إلى سابق عهدها, هذه المخاطر يعبر عنها خير تعبير الصحافي الإسرائيلي هيرش غودمان: ((أن الخطر في سياسة إسرائيل في الرد الآلي أن الجيش الإسرائيلي قد يجد نفسه يرد على الناس الذين نريد منهم أن يكونوا حلفاء لنا في المنطقة الأمنية الجنوبية, وعلى أعمال لا سلطة لهم عليها في أغلب الأحيان)) (2).
__________
(1) يلاحظ زئيف شيف في مقالة له في صحيفة هارتس في 7 آذار 1985, أن موشى أرينز وأرييل شارون كانا لا يزالان يحثان إسرائيل على اقتطاع أجزاء من الجنوب.
(2) الجيروزالم بوست 17 أيار 1985.(27/34)
إذا تجنبت إسرائيل رد الفعل المبالغ فيه وإذا تمكنت أمل من الاستمرار في ممارسة قيادة فاعلة, فلن تكون المحصلة كارثية بالضرورة, إلا أن كيمياء التسوية المؤقتة دقيقة جدًا ويمكن لأي تحرك إسرائيلي مبالغ فيه أو أي رد فعل متهاون من جانب الحركة أن تفسدها. فلو تم كل شيء على أفضل وجه فإن إسرائيل ستكون من الحكمة بحيث تخفف تدريجيًا من دعمها للقوات العملية حتى يقتصر انتشارها على محيط عملها الطبيعي _أي القرى المسيحية المحاذية للحدود الإسرائيلية- على أن يتزامن ذلك مع بسط أمل لسلطتها على المناطق التي تخليها قوات لحد, لكن الرهان على حدوث كهذا تطورات يبقى رهانًا محفوفًا بالمخاطر, فإمكانية تجدد اندلاع العنف تحوم كالشبح.(27/35)
الملحق –أ-
ميثاق حركة أمل
بسم الله الرحمن الرحيم
إن حركة المحرومين أمل في لبنان تمتد جذورها عبر الزمن مع وجود الإنسان منذ أن كان. إنها طموحه نحو حياة أفضل, تدفعه للتصدي لكل ما يفسد حياته أو يجمد مواهبه أو يهدد مستقبله.
لذلك فإنها حلقة من حركة الإنسان العامة في التاريخ, قادها الأنبياء والأولياء والمصلحون ودفعها المجاهدون وأغناها الشهداء الخالدون.
وهذا الترابط العميق عبر التاريخ والمواكبة الشاملة في أنحاء العالم وهذه التجربة المعاشة للإنسان, كل نسان تعزز حركة المحرومين أمل في لبنان وتنير طريقها وتضمن استمرارها ونجاحها.
وعندما نحاول رسم معالم حركة المحرومين أمل في لبنان بما للبنان من أبعاد حضارية, وبما لهذه الفترة الزمنية الحافلة بالأحداث, وما لهذه المنطقة التي بدأت تدخل مجددًا في التاريخ من بابه الواسع من تفاعلات.
وعندما نحاول أن نرسم معالم هذه الحركة نجد الأبعاد التالية:
إن هذه الحركة تنطلق من الإيمان بالله, بمعناه الحقيقي لا بمفهومه التجريدي فإنه الأساس لكافة نشاطاتنا الحيوية ولعلاقاتنا الإنسانية وهو الذي يحدد باستمرار عزيمتنا وثقتنا ويزيد طموحنا ويصون سلوكنا.
كما وأنها تعتمد على أساس الإيمان بالإنسان, بوجود بحريته وكرامته.
والحقيقة أن الإيمان بالإنسان هو البعد الأرضي للإيمان بالله, بعد لا يمكن فصله عن البعد السماوي والينابيع الأصيلة للأديان تؤكد بإصرار.
أما تراثنا العظيم في لبنان وفي الشرق كله, الحافل بالتجارب الإنسانية الناجحة, المشرق بالبطولات والتضحيات والزاخر بالحضارات والقيم, فهو الذي يرسم الخطوط التفصيلية للطريق, ويؤكد أصالتنا ويعطي سببًا واضحًا لوجودنا وسندًا قاطعًا لمشاركتنا الحضارية.
وبنفس الوقت فإن الاستفادة من التجارب في أقطار الأرض مع الاحتفاظ بالأصالة دليل رغبتنا الأكيدة إلى الكمال والتقدم وقناعتنا بوحدة العائلة البشرية وتفاعلها.(28/1)
إن حركة المحرومين أمل انطلاقًا من هذه المبادئ تؤمن بالحرية الكاملة للمواطن, وتحارب دون هوادة كافة أنواع الظلم من استبداد وإقطاع وتسلط وتصنيف المواطنين, وتعتبر أن نظام الطائفية السياسية في لبنان لم يعط ثماره, وهو الآن يمنع التطور السياسي ويجمد المؤسسات الوطنية ويصنف المواطنين ويزعزع الوحدة الوطنية.
وترفض الحركة الظلم الاقتصادي وأسبابه من احتكار واستثمار الإنسان لأخيه الإنسان وتحول المواطن إلى المستهلك والمجتمع إلى تجمع المستهلكين وحصر النشاطات الاقتصادية في أعمال الربا والتحول إلى سوق للإنتاج العالمي.
وتعتقد الحركة أن توفير الفرص لجميع المواطنين هو أبسط حقوقهم في الوطن, وأن العدالة الاجتماعية الشاملة هي أولى واجبات الدولة.
إن حركة المحرومين أمل هي حركة وطنية تتمسك بالسيادة الوطنية وسلامة أراضي الوطن وتحارب الاستعمار والاعتداءات والمطامع التي يتعرض لها لبنان, والحركة هذه تعتبر أن التمسك بالمصالح القومية وتحرير الأرض العربية وحرية أبناء هذه الأمة, هي من صميم التزاماتها الوطنية لا تنفصل عنها.
وغني عن القول أن صيانة لبنان الجنوبي والدفاع عن تنميته هو جوهر الوطنية وأساسها حيث لا يمكن بقاء الوطن بدون الجنوب ولا تصور المواطنية الحقة بدون الوفاء للجنوب.
وفلسطين الأرض المقدسة, التي تعرضت ولم تزل لجميع أنواع الظلم هي في قلب حركتنا وعقلها, وإن السعي لتحريرها أولى واجباتها وإن الوقوف إلى جانب شعبها وصيانة مقاومته والتلاحم معها شرف الحركة وإيمانها سيما وإن الصهيونية تشكل الخطر الفعلي والمستقبلي على لبنان وعلى القيم التي نؤمن بها وعلى الإنسانية جمعاء, وإنها ترى في لبنان بتعايش الطوائف فيه تحديًا دائمًا لها ومنافسًا قويًا لكيانها.
إن هذه الحركة لا تصنف المواطنين ولا ترفض التعاون مع الأفراد أو الفئات الشريفة التي ترغب في بناء لبنان أفضل.(28/2)
إنها ليست حركة طائفية ولا عملاً خيريًا, ولا موعظة ونصحًا ولا تهدف إلى تحقيق مكاسب فئوية إنها حركة المحرومين جميعًا.
إنها تتبنى الحاجات وتنظر إلى حرمان المواطنين وتدرس الحلول وتتحرك فورًا لأجلها وتناضل إلى جانب المحرومين إلى النهاية.
لذلك فإنها تعتقد أنها حركة للبنانيين الشرفاء جميعًا, أولئك الذين يحسون بالحرمان في حاضرهم وأولئك الذين يشعرون بالقلق على مستقبلهم.
إنها حركة اللبناني نحو الأفضل...
إن العضو في حركة أمل هو الذي يتوفر لديه:
الإيمان بميثاق الحركة والعمل على تنفيذ مبادئها والتحلي بالانضباطية لجهة احترام القيادة وتنفيذ قراراتها.
أن يكون بالغًا وراشدًا.
أن لا يكون منتميًا إلى أي حزب أو تنظيم أو قوة سياسية غيرها, أما إذا كان الراغب منتميًا إلى حزب سياسي أو أي قوة تنظيمية وأوقف نشاطه فيجب إثبات انسحابه من الحزب بواسطة الممارسة العملية والفعالية للقواعد والأسس المبدئية كما يجب تجاوزه مرحلة الاختبار لمدة 6 أشهر.
أن ينصهر قلبًا وقالبًا بمبادئ الحركة وأهدافها وأن يكون مثالاً لهذه المبادئ والأهداف أمام الشعب.
أن يكون مدربًا عندما يكون سليم الجسم.
أن يتحلى بالصفات الخلقية والتربوية والاجتماعية اللائقة.
أن يقسم اليمين الحركي الآتي نصه, أمام القائد أو من يفوضه القائد: أقسم بالله العظيم أنني مؤمن بما ورد في ميثاق حركة أمل الذي اطلعت عليه وإنني أعمل بجميع طاقاتي لتحقيقه وفقًا لما يقره تنظيم الحركة وأن أقوم بخدمة التنظيم مفضلاً مصلحته على منافعي الذاتية معتبرًا أعضاءه إخوتي محتفظًا بما أعلم عنه وديعة لا أبوح بها إلا للتنفيذ, وأن أكون نموذجًا صالحًا في سلوكي الخاص وفي تضحياتي وجهدي وفي التزامي بالقيم ومحبتي للناس، إنني أقسم بالله على ذلك وأشهده وأنبياءه والأولياء والشهداء الصالحين على ما أقول.(28/3)
أن يوافق على عضويته, المكتب التنظيمي ويسجل اسمه في سجل هذا لمكتب بعد تقديم طلب خطي موقع منه.(28/4)
الملحق –ب-
بسم الله الرحمن الرحيم
{ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون
صدق الله العظيم
الرسالة المفتوحة
التي وجهها حزب الله إلى المستضعفين
في لبنان والعالم
مبينًا فيها تصوراته ومنهجه
بمناسبة الذكرى السنوية
الأولى لاستشهاد رمز المقاومة الإسلامية
شيخ الشهداء راغب حرب رضوان الله عليه
بتاريخ 26 جمادى الأول 1405 هـ
الموافق 16 شباط 1985 م
إهداء
إلى المشعل الذي ازداد تألقًا وضياء فأنار للمستضعفين في لبنان, درب الحياة الحرة الكريمة, وأحرق بوهج دمائه الطاهرة جبروت الكيان الصهيوني وأسطورته.
إلى الرائد الذي صدق أهله, فكان قدوة لهم في الجهاد, ولم يبخل عليهم بروحه حتى قضى شهيدًا في سبيل نصرتهم, وشاهدًا على ظلم الاستكبار العاملي وغطرسته.
إلى رمز المقاومة الإسلامية الظافرة والانتفاضة الرائعة التي لا يزال أهلنا يسطرون أروع ملاحمها الحسينية في الجنوب والبقاع الغربي.
إلى الذي بدد أحلام أمريكا في لبنان, وقاوم الاحتلال الإسرائيلي رافعًا لواء العمل بولاية الفقيه القائد الذي كان يحلو له دائمًا أن يصفه بأمير المسلمين عبد الله الخميني.
إلى شيخ الشهداء راغب حرب -رضوان الله عليه- نهدي في ذكاره السنوية هذه الرسالة المفتوحة إلى المستضعفين في العالم, مثبتين بين ثنايا سطورها الخط السياسي الإسلامي الثوري الذي جسده الشهيد السعيد مع إخوانه الشهداء ليكون نهجًا بينًا ودليلاً واضحًا لكل المجاهدين في لبنان, سائلين المولى -سبحانه وتعالى- أن يفرغ علينا صبرًا ويثبت أقدامنا وينصرنا على القوم الظالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حزب الله
بسم الله الرحمن الرحيم
{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقًا}
صدق الله العظيم
من نحن وما هي هويتنا؟(29/1)
أيها المستضعفون الأحرار
إننا أبناء أمة حزب الله في لبنان نحييكم ونخاطب من خلالكم العالم بأسره, شخصيات ومؤسسات, أحزابًا ومنظمات وهيئات سياسية وإنسانية وإعلامية, ولا نستثني أحدًا؛ لأننا حريصون على أن يسمع صوتنا الجميع فيفهموا مقالتنا ويستوعبوا طروحاتنا ويتدارسوا مشروعنا.
إننا أبناء أمة حزب الله نعتبر أنفسنا جزءًا من أمة الإسلام في العالم, التي تواجه أعتى هجمة استكبارية من الغرب والشرق على السواء, بهدف تفريغها من مضمونها الرسالي الذي أنعم الله به عليها لتكون خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله, وبهدف استلاب خيراتها وثرواتها واستثمار طاقاتها وكفاءات أبنائها, والسيطرة على كافة شئونها.
إننا أبناء أمة حزب الله, التي نصر الله طليعتها في إيران وأسست من جديد نواة دولة الإسلام المركزية في العالم.. نلتزم بأوامر قيادة واحدة حكيمة وعادلة تتمثل بالولي الفقيه الجامع للشرائط, وتتجسد حاضرًا بالإمام المسدد آية الله العظمي روح الله الموسوي الخميني دام ظله, مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة.
وعلى هذا الأساس فنحن في لبنان لسنا حزبًا تنظيميًا مغلقًا, ولسنا إطارًا سياسيًا ضيقًا, بل نحن أمة ترتب مع المسلمين في كافة أنحاء العالم برباط عقائدي وسياسي متين هو الإسلام الذي أكمل الله رسالته على يد ختم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم, وارتضاه للعالمين دينًا يتعبدون به إذ قال في القرآن الكريم:
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا}
ومن هنا فإن ما يصيب المسلمين في أفغانستان أو العراق أو الفلبين أو غيرها إنما يصيب جسم أمتنا الإسلامية التي نحن جزء لا يتجزأ منها, ونتحرك لمواجهة انطلاقًا من واجب شرعي أساسًا وفي ضوء تصور سياسي عام تقرره ولاية الفقيه القائد.(29/2)
أما ثقافتنا فمنابعها الأساسية, القرآن الكريم والسنة المعصومة والأحكام والفتاوى الصادرة عن الفقيه مرجع التقليد عندنا, وهي واضحة غير معقدة وميسرة للجميع دون استثناء, ولا يحتاج إلى تنظير أو فلسفة, بل جل ما تحتاجه هو الالتزام والتطبيق.
وأما قدرتنا العسكرية فلا يتخيلن أحد حجمها, وإذ ليس لدينا جهاز عسكري منفصل عن بقية أطراف جسمنا, بل إن كل واحد منا هو جندي ومقاتل حين يدعو داعي الجهاد, وكل واحد منا يتولى مهمته في المعركة وفقًا لتكليفه الشرعي في إطار العمل بولاية الفقيه القائد, والله هو من ورائنا يؤيدنا برعايته ويلقي الرعب في قلوب أعدائنا وينصرنا عليهم بنصره العزيز المؤزر.
العالم المستكبر متفق على حربنا
أيها المستضعفون الأحرار
إن دول العالم المستكبر الظالم في الغرب والشرق قد اجتمعوا على محاربتنا وراحوا يحرضون عملاءهم ضدنا يحاولون تشويه سمعتنا وافتراء الأكاذيب علينا في محاولة خبيثة للفصل بيننا وبين المستضعفين الطيبين, وفي سعي حثيث لتقزيم ومسخ الإنجازات المهمة والكبرى على مستوى مواجهتنا لأمريكا وحلفائها.
لقد حاولت أمريكا عبر عملائها المحليين أن توحي للناس بأن من قضى على غطرستها في لبنان وأخرجها ذليلة خائبة وسحق مؤامراتها على المستضعفين في هذه البلاد, هم ليسوا إلا حفنة من المتعصبين الإرهابيين الذين لا شأن لهم إلا بتفجير محلات الخمور والقمار وآلات اللهو وغير ذلك.
ولكن كنا على يقين بأن مثل هذه الإيحاءات لن تخدع أمتنا؛ لأن العالم بأسره يعلم أن من يفكر بمواجهة أمريكا والاستكبار العالمي لا يلجأ إلى مثل هذه الأعمال الهامشية التي تشغله بالذيل عن الرأس.
أمريكا وراء كل مصائبنا
إننا متوجهون لمحاربة المنكر من جذوره, وأول جذور المنكر أمريكا, ولن تنفع كل المحاولات لجرنا إلى ممارسات هامشية إذا ما قيست بالمواجهة مع أمريكا.(29/3)
فالإمام الخميني القائد أكد ولمرات عديدة أن أمريكا هي سبب كل مصائبنا وهي أم الخبائث, ونحن إذ نحاربها فلا نمارس إلا حقنا المشروع في الدفاع عن إسلامنا وعزة أمتنا.
إننا نعلن بصراحة ووضوح إننا أمة لا تخاف إلا الله ولا ترتضي الظلم والعدوان والمهانة, وإن أمريكا وحلفاءها من دول حلف شمال الأطلسي, والكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين الإسلامية المقدسة, كل هؤلاء مارسوا ويمارسون العدوان علينا باستمرار ويعملون على إذلالنا باستمرار.
ولذا فإننا في حالة تأهب مستمر ومتصاعد من أجل رد العدوان والدفاع عن الدين والوجود والكرامة.
لقد هاجموا بلادنا ودمروا قرانا وذبحوا أطفالنا وهتكوا حرماتنا, وسلطوا على رقابنا جلادين مجرمين ارتكبوا مجازر رهيبة بحق أمتنا, ولا يزالون يدعمون هؤلاء الجزارين حلفاء إسرائيل, ويمنعوننا من تقرير مصيرنا بمحض اختيارنا.
إن قنابلهم كانت تتساقط على أهلنا كالمطر أثناء الاجتياح الصهيوني لبلادنا, ومحاصرة بيروت, وطائراتهم كانت تغير بشكل متواصل في الليل والنهار على المدنيين من أهلنا وعلى أطفالنا ونسائنا وجرحانا, وكانت مناطق الكتائبيين العملاء آمنة من قصف العدو ومركزًا لتوجيه وإرشاد قواته.
وكنا نستصرخ ضمير العالم آنذاك فلم سنمع له حسًا ولم نجد له أثرًا.
هذا الضمير الذي افتقدناه أيام المحنة هو نفسه كان مستنفرًا ويقظًا يوم حوصر الكتائبيون المجرمون في مدينة زحلة البقاعية, ويوم حوصر المتحالفون مع إسرائيل في دير القمر الشوفية, فهالنا الأمر وأيقنا أن هذا الضمير العالمي لا يهتز إلا بناء لطلب الأقوياء واستجابة لمصالح الاستكبار.(29/4)
لقد ذبح الإسرائيليون والكتائبيون عدة آلاف من آبائنا وأطفالنا ونسائنا وإخواننا في صبرا وشاتيلا خلال ليلة واحدة فلم يصدر عن أية منظمة أو هيئة دولية أي استنكار أو شجب عملي لهذه المجزرة البشعة التي ارتكبت بتنسيق مع القوات الأطلسية التي غادرت قبل أيام بل ساعت, المخيمات التي قبل المنهزمون أن يضعوها تحت حماية الذئب استجابة لمناورة الثعلب الأمريكي فيليب حبيب.
وجاءت هذه الاعتداءات المجرمة لتؤكد ما ورد في معتقداتنا الثابتة أنه {ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا}.
لا خيار لنا إلا المواجهة
وعلى هذا الأساس رأينا أن العدوان لا يرد إلا بالتضحيات, والكرامة لا تكون إلا ببذل الدماء, والحرية لا تعطى وإنما تسترد ببذل المهج والأرواح.
فآثرنا الدين والحرية والكرامة على العيش الذليل والخضوع المستمر لأمريكا وحلفائها وللصهاينة وحلفائهم الكتائبيين وانتفضنا لتحرير بلادنا وطرد المستعمرين والغزاة منها وتقرير مصيرنا بأيدينا.
ولم يكن بوسعنا أن نصبر أكثر ما صبرنا عليه, فمحنتنا تجاوزت من السنين عشرًا ولم نر إلا كل طامع أو متملق أو عاجز.
تنسيق صهيوني كتائبي
مائة ألف ضحية هو العدد التقريبي لجرائم أمريكا وإسرائيل والكتائب فينا.
تهجير لنصف مليون مسلم تقريبًا وتدمير شبه كامل لإحيائهم في النبعة وبرج حمود والدكوانة وتل الزعتر وسبنيه وحي الغوارنة وبلاد جبيل التي لا يزال من تبقى من أهلنا فيها يتعرضون للمحنة دون أن تتحرك هيئة عالمية واحدة لإنقاذهم.
واحتلال صهيوني استمر في اغتصابه لأراضي المسلمين حتى وصل إلى احتلال لأكثر من ثلث مساحة لبنان بتنسيق مسبق واتفاق كامل مع الكتائبيين الذين استنكروا محاولات التصد للقوات الغازية, وشاركوا في تنفيذ بعض خطط إسرائيل ليكملوا مشروعها ويعطوها ما تريد ثمنًا لإيصالهم إلى رئاسة الحكم.(29/5)
وهكذا كان فلقد وصل الجزار بشير الجميل إلى سدة رئاسة مستعينًا بإسرائيل والنفطيين العرب وبالزعماء المستزلمين للكتائب من نواب المسلمين وأثر محاولة متقنة لتجميل صورته البشعة في إطار غرفة عمليات سميت بلجنة الإنقاذ, ولم تكن إلا جسرًا أمريكيًا إسرائيليًا عبر عليه الكتائبيون باتجاه التسلط على رقاب المستضعفين.
لكن شعبنالم يستطع الصبر على هذه المهانة, فأباد أحلام الصهاينة وحلفائهم, إلا أن أمريكا أصرت على حماقتها فأوصلت أمين الجميل لخلافة أخيه المقبور وكانت أول إنجازاته تدمير منازل المهجرين, والاعتداء على مساجد المسلمين, وإعطاء الأوامر للجيش بقصف أحياء الضاحية المستضعفة على أهلها, واستدعاء قوات حلف الأطلسي للاستعانة بهم علينا, وتوقيع اتفاقة 17 أيار المشؤوم الذي يجعل من لبنان محمية إسرائيلية ومستعمرة أمريكية.
أعداؤنا الأساسيون
ولم يستطع شعبنا أن يتحمل كل هذه الخيانة فقرر مواجهة أئمة الكفر أمريكا وفرنسا وإسرائيل, ونفذ بحقهم أول عقوبة لهم في 18 نيسان, ثم في 29 تشرين أول 1983 وكان قد بدأ حربًا حقيقية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي ارتقى خلالها إلى مستوى تدمير مركزين أساسيين لحكامه العسكريين, وصعد من مقاومته الإسلامية شعبيًا وعسكريًا حتى أرغم العدو على اتخاذ قرار بالفرار المرحلي وهو قرار تضطر إليه إسرائيل لأول مرة في تاريخ ما سمي بالصراع العربي الإسرائيلي.
وللحقيقة نعلن أن أبناء أمة حزب الله باتوا الآن يعرفون أعداءهم الأساسيين جيدًا في المنطقة: إسرائيل أمريكا, فرنسا والكتائب.
أهدافنا في لبنان
وهم الآن في حالة مواجهة متصاعدة ضدهم حتى تتحقق الأهداف التالية:
تخرج إسرائيل نهائيًا من لبنان كمقدمة لإزالتها نهائيًا من الوجود وتحرير القدس الشريف من براثن الاحتلال.
تخرج أمريكا وفرنسا وحلفاؤها نهائيًا من لبنان وينتهي أي نفوذ لأية دولة استعمارية في البلاد.(29/6)
يرضخ الكتائبيون للحكم العادل ويحاكموا جميعًا على الجرائم التي ارتكبوها بحق المسلمين والمسيحيين بتشجيع من أمريكا وإسرائيل.
يتاح لجميع أبناء شعبينا أن يقرروا مصيرهم ويختاروا بكامل حريتهم شكل نظام الحكم الذي يريدونه, علمًا بأننا لا نخفي التزامنا بحكم الإسلام وندعو الجميع إلى اختيار النظام الإسلامي الذي يكفل وحده العدل والكرامة للجميع ويمنع وحده أية محاولة للتسلل الاستعماري إلى بلادنا من جديد.
أيها الأصدقاء
إذًا هذه هي أهدافنا في لبنان وهؤلاء هم أعداؤنا, أما أصدقاؤنا فهم كل الشعوب المستضعفة في العالم, وهم كل من يحارب أعداءنا ويحرص على عدم الإساءة إلينا أفرادًا كانوا أو أحزابًا أو منظمات, وإننا نتوجه إليهم ونخصهم بهذا الخطاب فنقول:
أيها المحازبون والمنظمون أينما كنت في لبنان وأيًا كانت أفكاركم, إننا متفقون وإياكم على أهداف كبيرة ومهمة, تتمثل في ضرورة إسقاط الهيمنة الأمريكية على البلاد, وطرد الاحتلال الصهيوني الجاثم على رقاب العباد, وضرب كل محاولات التسلط الكتائبي على شئون الحكم والإدارة, وإن كنا نختلف في أساليب المواجهة ومستوى المواجهة.
فتعالوا نترفع عن التخاصم فيما بيننا على الأمور الصغيرة ونفتح أبواب التنافس واسعة أمام تحقيق الأهداف الكبيرة.
فليس مهمًا أن يسيطر حزب على شارع, وإنما المهم أن تتفاعل الجماهير مع هذا الحزب.
وليس المهم أن تكثر الاستعراضات العسكرية على المواطنين, بل المهم أن تكثر العمليات ضد إسرائيل.
وليس المهم أن نصيغ البيانات وندعو إلى مؤتمرات بل المهم أن نجعل من لبنان مقبرة للمشاريع الأمريكية.(29/7)
إنكم تحملون أفكارًا ليست من الإسلام, وليس في هذا ما يحول بيننا وبين التعاون معكم من أجل هذه الأهداف, خصوصًا إننا نشعر بأن الدوافع التي تحرضكم من أجل النضال هي دوافع إسلامية في الأصل, منشؤها الظلم اللاحق بكم من الطاغوت, والاستضعاف الذي يمارس عليكم من قبله, وهذه الدوافع إن تشكلت بأفكار غير إسلامية فلا بد أن تعود إلى جوهرها حين ترون الإسلام الثوري هو الذي يتصدى لقيادة الصراع, ولمقاومة الظلم والاستكبار.
على إننا لا نرتضي منكم تحرشًا ولا استفزاز ولا اعتداءات على أمننا وكرامتنا, ونلتزم معكم بمعالجة أي التباس بالتي هي أحسن أولاً, ونحرص على أن لا تشغلونا بما يعيق تحركنا لأهدافنا.
وستجدونا حريصين على الانفتاح عليكم وستزداد العلاقة معكم كلما ازداد التقارب الفكري فيما بيننا وبينكم وكلما شعرنا باستقلالية قراركم وكلما اقتضت مصلحة الإسلام والمسملين تعزيز هذه العلاقة وتطويرها.
أيها المحازبون المستضعفون
أنتم ممن قصدتم الحق فأخطأتموه, وليس من قصد الحق فأخطأ كمن قصد الباطل فأصابه.
ولذا فإننا نمد أيدينا إليكم ونقول لكم مخلصين: {يا قومنا أجيبوا داعي الله} و {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}.
نلتزم بالإسلام ولا نفرضه بالقوة
أيها المستضعفون الأحرار
إننا أمة التزمت برسالة الإسلام وأحبت للمستضعفين وللناس كافة أن يتدارسوا هذه الرسالة السماوية؛ لأنها تصلح لتحقيق العدل والسلام والطمأنينة في العالم.
والله تعالى ربنا يقول: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم * الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.(29/8)
ولذا فإننا لا نريد أن نفرض الإسلام على أحد, ونكره أن يفرض الآخرون قناعاتهم وأنظمتهم علينا, ولا نريد أن يحكم الإسلام في لبنان بالقوة, كما تحكم المارونية السياسية الآن.
لكننا نؤكد أننا مقتنعون بالإسلام عقيدة ونظامًا, فكرًا وحكمًا, وندعو الجميع إلى التعرف عليه والاحتكام إلى شريعته, كما ندعوهم إلى تبنيه والالتزام بتعاليمه على المستوى الفردي والسياسي والاجتماعي.
وإذا ما أتيح لشعبنا أن يختار بحريته شكل نظام الحكم في لبنان فإنه لن يرجح على الإسلام بديلاً.
ومن هنا فإننا ندعو إلى اعتماد النظام الإسلامي على قاعدة الاختيار الحر والمباشر من قبل الناس, لا على قاعدة الفرض بالقوة كما يخيل للبعض.
ونعلن أننا نطمح أن يكون لبنان جزءًا لا يتجزأ من الخارطة السياسية المعادية لأمريكا والاستكبار العالمي وللصهيونية العالمية, والتي يحكمها الإسلام وقيادته العادلة.
وهذا الطموح هو طموح أمة ليس طموح حزب, واختيار شعب لا اختيار عصابة.
الحد الأدنى لطموحنا في لبنان
وعلى هذا الأساس فإن الحد الأدنى الذي يمكن أن نقبل به على طريق تحقيق هذا الطموح المكلفين بالسعي لتحقيقه شرعًا هو:
إنقاذ لبنان من التبعية للغرب أو للشرق وطرد الاحتلال الصهيوني من أراضيه نهائيًا واعتماد نظام يقرره الشعب, بمحض اختياره وحريته.
لماذا نواجه النظام القائم؟
هذه هي رؤيتنا وتصوراتنا عما نريده في لبنان, وعلى ضوء هذه الرؤية والتصورات نواجه النظام القائم لاعتبارين أساسيين:
لكونه صنيعة الاستكبار العالمي وجزء من الخارطة السياسية المعادية للإسلام.
لكونه تركيبة ظالمة في أساسها لا ينفع معها أي إصلاح أو ترقيع بل لا بد من تغييرها من جذورها {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}.
موقفنا من المعارضة
وفي ضوء الاعتبارين الآنفين نحدد موقفنا من أية معارضة للنظام اللبناني(29/9)
فنعتبر أن كل معارضة تتحرك ضمن خطوط حمر فرضتها القوى المستكبرة هي معارضة شكلية لا بد وأن تلتقي نهاية المطاف مع النظام القائم.
وكل معارضة تتحرك ضمن دائرة الحفاظ, والحرص على الدستور المعمول به حاليًا وتلتزم عدم إجراء أي تغيير أساسي في جذور النظام, هي معارضة شكلية أيضًا لا تحقق مصلحة الجماهير المستضعفة.
وكذلك فإن كل معارضة تتحرك في الواقع التي يريدها النظام أن تتحرك من خلالها ، هي معرضة وهمية ليست إلا لخدمة النظام.
ومن ناحية أخرى, فإن كل طرح للإصلاح السياسي على ضوء النظام الطائفي العفن لا يعنينا فيه شيء تمامًا كما لا يعنينا تشكيل أية حكومة أو اشتراك أية شخصية في أية وزارة تمثل جزءًا من النظام الظالم.
كلمات برسم المسيحيين في لبنان
أيها المستضعفون الشرفاء
إننا نتوجه من خلالكم بكلمات قليلة نضعها برسم المسيحيين في لبنان وبرسم الموارنة على وجه الخصوص.
إن السياسة التي ينتهجها زعماء المارونية السياسية من خلال الجبهة اللبنانية والقوات اللبنانية, لا يمكن أن تحقق السلام والاستقرار للمسيحيين في لبنان؛ لأنها سياسة قائمة على العصبية والامتيازات الطائفية والتحالف مع الاستعمار وإسرائيل.
ولقد أثبتت المحنة اللبنانية أن الامتيازات الطائفية كانت سببًا رئيسيًا من أسباب الانفجار الكبير الذي قوض البلاد, وإن التحالف مع أمريكا وفرنسا وإسرائيل لم يجد نفعًا للمسيحيين يوم احتاجوا لدعم هؤلاء.
ثم إن الأوان قد آن ليخرج المسيحيون المتعصبون من نفق هؤلاء الطائفي ومن أوهام الاستئثار بالامتيازات على حساب الآخرين, وأن يستجيبوا لدعوة السماء فيحتكموا إلى العقل بدل السلاح وإلى القناعة بدل الطائفة.
إننا على يقين بأن رسول الله المسيح عليه الصلاة والسلام براء من المجازر التي ارتكبها الكتائبيون باسمه وباسمكم, وبراء من السياسة الحمقاء التي يعتمدها زعماؤكم للتحكم بنا وبكم.(29/10)
كما وأن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو براء أيضًا ممن يحسب على المسلمين ممن لا يلتزمون بشرع الله ولا يسعون إلى تطبيق أحكامه علينا وعليكم.
فإذا ما راجعتم حساباتكم وعرفتم أن مصلحتكم هي ما تقررونه أنتم بمحض اختياركم لا ما يفرض عليكم بالحديد والنار, حينئذٍ نجدد دعوتنا لكم استجابة لقول الله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا, ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.
يا مسيحيي لبنان
إن كان كبر عليكم أن يشارككم المسلمون في بعض شئون الحكم فإنه والله كبر علينا ذلك أيضًا؛ لأنهم يشاركون في حكم ظالم لنا ولكم, وغير قائم على أحكام الدين ولا على أسس الشريعة التي اكتملت بخاتم النبيين.
وإن كنتم تريدون عدلاً, فمن أولى من الله بالعدل؟ وهو الذي أنزل من السماء رسالة الإسلام على امتداد بعثات الأنبياء من أجل أن يحكموا بين الناس بالقسط ويأخذوا لكل ذي حق حقه...
وإن كان أحد قد ضللكم وعظم لكم الأمور وخوفكم أن ينالكم منا ردود فعل على ما ارتكبه الكتائبيون من جرئم بحقنا, فهذا ما لا مبرر لكم فيه أبدًا, إذ أن المسالمين منكم لا زالوا يعيشون بيننا دون أن يعكر صفوهم أحد.
وإن كنا نقاتل الكتائبيين فلأنهم يشكلون حاجزًا أمام رؤيتكم للحقيقة ويصدونكم عن سبيل الله, ويبغونها في الأرض عوجًا بغير حق وقد استكبروا وعتوا عتوًا كبيرًا...
وإننا نريد لكم الخير وندعوكم إلى الإسلام لتسعدوا في الدنيا والآخرة, فإن أبيتم فما لنا عليكم من سبيل إلا أن تحفظوا عهودكم مع المسلمين ولا تشاركوا في العدوان عليهم.
أيها المسيحيون...
حرروا أفكاركم من رواسب الطائفية البغيضة وجردوا عقولكم من أسر التعصب والانغلاق, وافتحوا بصائركم على ما ندعوكم إليه من الإسلام ففيه نجاتكم وسعادتكم وخير الدنيا والآخرة.(29/11)
ودعوتنا هذه نضعها برسم كل المستضعفين من غير المسلمين, أما المنتسبون للإسلام طائفيًا فندعوهم للالتزام بالإسلام عمليًا, والترفع عن العصبيات التي يمقتها الدين.
ونؤكد للجميع بأن هذا العصر هو عصر انتصار الإسلام والحق, وهزيمة الكفر والباطل, فالتحقوا بركب الحق قبل أن يأتي يوم يعض الظالم على يديه, يقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً, يا ليتني لم أتخذ فلانًا خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً.
قصتنا مع الاستكبار العالمي
... أيها المستضعقون الشرفاء...
وأما قصتنا مع الاستكبار العالمي فنوجزها لكم بهذا الكلمات: إننا نعتقد أن صراع المبادئ بين أمريكا والاتحاد السوفيتي قد ولى منذ زمن بعيد وإلى غير رجعة, فلقد أخفق الطرفان في تحقيق السعادة للبشرية؛ لأن الفكرة التي قدماها للناس, وإن اختلفت من حيث الشكل إلى رأسمالية وشيوعية, إلا أنها التقت في المضمون المادي وقصرت عن علاج مشاكل الإنسانية.
فلا الرأسمالية الغربية ولا الاشتراكية الشرقية نجحتا في إرساء قواعد المجتمع العادل والمطمئن، ولا استطعتا أن تحققا التوازن بين الفرد والمجتمع ولا بين الفطرة البشرية والمصلحة العامة.
وتوصل الطرفان إلى إقرار واعتراف متبادل بهذه الحقيقة وأدركا أنه لم يعد من مجال للصراع الفكري فيما بين المعسكرين, وانعطفا سويًا إلى الصراع حول النفوذ والمصالح مستترين أمام الرأي العام وراء الاختلاف في المبادئ.
وفي ضوء هذا الفهم فإننا نرى أن الصراع الفكري بين المعسكرين قد طوي نهائيًا, وحل محله صراع المصالح والنفوذ بين دول العالم المستكبر التي يتزعمها أمريكا والاتحاد السوفيتي.
وعلى هذا الأساس فالبلدان المستضعفة باتت هي محكم الصراع, والشعوب المستضعفة أصبحت وقوده.(29/12)
ونحن إذ نعتبر الصراع بين الجبارين ناتجًا طبيعيًا للمضمون المادي الذي يدفع كلاً منهما, إلا أننا لا نستطيع أن نقبل بهذا الصراع على حساب مصالح المستضعفين وبلادهم ونواجه كل أطماع وتدخل في شئوننا.
وفي الوقت الذي ندين فيه جرائم أمريكا في فيتنام وإيران ونيكاراغوا وغرينادا وفلسطين ولبنان وغيرهما، ندين أيضًا الغزو السوفيتي لأفغانستان, والتدخل في شئون إيران, ودعم العدوان العراقي وغير ذلك.
أما في لبنان ومنطقة فلسطين فإننا معنيون بمواجهة أمريكا بشكل رئيسي؛ لأنها صاحبة النفوذ الأقوى بين دول الاستكبار العالمي, وكذلك إسرائيل ربيبة الصهيونية العالمية, ومن ثم فإننا معنيون بمواجهة حلفاء أمريكا من دول حلف شمال الأطلسي التي تورطت في مساعدة أمريكا ضد شعوب المنطقة, ونحذر الدول التي لم تتورط بعد, من الانجرار إلى خدمة المصالح الأمريكية على حساب حرية أمتنا ومصالحها.
إسرائيل يجب أن تزول من الوجود
أما إسرائيل فنعتبرها رأس الحربة الأمريكية في عالمنا الإسلامي, وهي عدو غاصب تجب محاربته حتى يعود الحق المغصوب إلى أهله.
وهذا العدو يشكل خطرًا كبيرًا على مستقبل أجيالنا ومصير أمتنا خصوصًا أنه يحمل فكرة استيطانية توسعية بدأ تطبيقها في فلسطين المحتلة ويحاول التمدد والتوسع ليبني دولة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل.
وصراعنا مع إسرائيل الغاصبة ينطلق من فهم عقائدي وتاريخي مؤداه أن هذا الكيان الصهيوني عدواني في نشأته وتكوينه وقائم على أرض مغصوبة وعلى حساب حقوق شعب مسلم.
ولذا فإن مواجهتنا لذا الكيان يجب أن تنتهي بإزالته من الوجود, ومن هنا فإننا لا نعترف بأي اتفاق لوقف إطلاق النار ضده, أو أية اتفاقية هدنة معه, أو أية معاهدة سلام منفردة أو غير منفردة.
وندين بشدة كل مشاريع الوساطة بيننا وبين إسرائيل ونعتبر الوسطاء طرفًا معاديًا؛ لأن وساطتهم لن تخدم إلا الإقرار بشريعة الاحتلال الصهيوني لفلسطين.(29/13)
وعلى هذا الأساس نرفض معاهدة كامب ديفيد, ونرفض مشروع فهد, ومشروع فاس, ومشروع ريغان, ومشروع بريجنيف, والمشروع الفرنسي المصري, وكل مشروع يتضمن اعترافًا ولو ضمنيًا بالكيان الصهيوني.
ونسجل في هذا السياق إدانتنا لكل الدول والمنظمات المنحرفة التي تلهث وراء الحلول الاستسلامية مع العدو وتقبل بمقايضة الأرض بالسلام, ونعتبر ذلك خيانة لدماء الشعب الفلسطيني المسلم ولقضية فلسطين المقدسة.
ومن جهة أخرى فإن الدعوة اليهودية التي أطلقت أخيرا للاستيطان في جنوب لبنان, وكذلك هجرة اليهود الأثيوبيين وغيرهم إلى داخل فلسطين المحتلة, ننظر إليها على أنها جزء من المشروع الإسرائيلي التوسعي في العالم الإسلامي, ومؤشر فعلي على الخطر الناجم من الاعتراف بهذا الكيان أو التعايش معه.
المقاومة الإسلامية المتصاعدة
وحين نتحدث عن إسرائيل الغاصبة لا بد أن نتوقف عند ظاهرة المقاومة الإسلامية التي انطلقت من المناطق اللبنانية المحتلة لتفرض تحولاً تاريخيًا وحضاريًا جديدًا على مجرى الصراع ضد العدو الصهيوني.
فالمقاومة الإسلامية المشرفة التي سطرت ولا تزال, أروع الملاحم والبطولات ضد قوات الغزو الصهيوني, وحطمت بإيمان مجاهديها أسطورة إسرائيل التي لا تقهر, واستطاعت أن توقع الكيان الغاصب في مأزق حقيق من جراء الاستنزاف اليومي له عسكريًا وبشريًا واقتصاديًا اضطر قادته أن يعترفوا بقساوة المواجهة التي يلقونها على أيدي المسلمين.
هذه المقاومة الإسلامية لا بد أن تتواصل وتنمو وتتصاعد بعون الله تعالى, وأن تلقى من المسلمين جميعًا في كافة أقطار العالم كل الدعم والتأييد والمساندة والمشاركة حتى نستطيع أن نجتث الجرثومة السرطانية ونقتلعها من الوجود.(29/14)
وإذ نصر على تأكيد إسلاميتها فإنما يكون ذلك انسجامًا منا مع واقعها الذي يبدو واضحًا أنه إسلامي في الدافع والهدف والمسلك وعمق المواجهة , وهذا لا يلغي وطنيتها أبدًا بل يؤكدها.. على العكس مما لو طمست إسلاميتها فإن وطنيتها تصبح هشة إلى حد كبير.
نداء من أجل مشاركة إسلامية واسعة
إننا ننتهز الفرصة لنوجه نداء حارًا إلى كافة أبناء المسلمين في العالم ندعوهم من خلاله إلى مشاركة إخوانهم في لبنان بشرف القتال ضد الصهاينة المحتلين, إما مباشرة أو من خلال دعم المجاهدين ومساعدتهم, ذلك أن مقاتلة إسرائيل هي مسئولية كل المسلمين في كافة الأقطار والمناطق وليست مسئولية أبناء جبل عامل والبقاع الغربي وحدهم.
لقد استطاعت المقاومة الإسلامية بدماء شهدائها وجهاد أبطالها أن ترغم العدو ولأول مرة في تاريخ الصراع ضده, على اتخاذ قرار بالتراجع والانسحاب من لبنان, دون أي تأثير أمريكي أو غيره, بل على العكس تمامًا, فإن قرار الانسحاب الإسرائيلي أظهر قلقًا أمريكيًا حقيقًا وشكل نقطة انعطاف تاريخية في مجرى الصراع ضد الصهاينة الغاصبين.
وأثبت المجاهدون, من خلال مقاومتهم الإسلامية التي شاركت فيها النساء حيث سلاحها الحجارة والزيت المغلي, والأطفال حيث سلاحهم الصراخ والقبضات العارية، والشيوخ حيث سلاحهم الجسد الضعيف والعص الغليظة, والشباب حيث سلاحهم البندقية والإرادة الصلبة المؤمنة, هؤلاء جميعًا أثبتوا أن الأمة إذا ما تركت تدير أمرها بحريتها قادرة على أن تصنع المعجزات وتغير المتوهم من الأقدار.
سياسة الارتزاق الحكومي والتفاوض الخياني
ونتوقف قليلاً عند الاستعراضات الحكومية التي تبرز في المواسم محاولة أن توهم الناس بمشاركة الحكم في دعم المقاومة ضد الاحتلال لنعلن بوضوح.(29/15)
أن الدعم الإعلامي والكلامي بات شعبنا يمجه ويحتقر أصحابه, وإن صدرت بعض التصريحات عن بعض أركان الحكم القائم, فلا يتوهمن أحد أن الجماهير في غفلة على أن هذه التصريحات لا تمثل موقف الحكم برمته, خصوصًا وأن الحكم ليس في وارد أن يزج جيشه لينال شرف المشاركة في التحرير.
أما الدعم المالي للمقاومة فليس ذا قيمة إذ لم يصل إلى أيدي المجاهدين سلاحًا وذخيرة ونفقات قتال وما شابه...
وإن شعبنا يرفض سياسة الارتزاق على حساب المقاومة وسيأتي يوم يحاكم فيه كل الذين تاجروا بدماء الشهداء الأبطال وبنوا لأنفسهم أمجادًا على حساب جروح المجاهدين...
ولا يمكننا إلا أن نؤكد بأن سياسة التفاوض مع العدو, وهي خيانة كبرى للمقاومة التي يدعي النظام دعمها وتأييدها... وأن إصرار الحكم على دخول المفاوضات مع العدو لم يكن إلا مؤامرة تستهدف الاعتراف بشرعية الاحتلال الصهيوني ومنحه امتيازًا على ما ارتكبه من جرائم بحق المستضعفين في لبنان.
ونقول استطرادًا: إن المقاومة الإسلامية التي أعلنت رفضها الالتزام بأية نتيجة تصدر عن المفاوضات, تؤكد على استمرار الجهاد حتى جلاء الصهاينة عن المناطق المحتلة كمقدمة لإزالتهم من الوجود.
القوات الدولية والدور المشبوه
وإن القوات الدولية التي يسعى الاستكبار العالمي لإحلالها على أراضي المسلمين في المناطق التي سينسحب منها العدو بحيث تشكل حاجزًا أمنيًا يعرقل تحرك المقاومة ويحفظ أمن إسرائيل وقواتها الغازية, هي قوات متواطئة ومرفوضة, وقد نضطر إلى معاملتها كما نعامل قوات الغزو الصهيوني على حد سواء.
وليعلم الجميع أن التزامات النظام الكتائبي المفروض, لا تلزم بأي شكل من الأشكال مجاهدي المقاومة الإسلامية وعلى الدول أن تفكر مليًا قبل أن تتورط في المستنقع الذي غرقت فيه إسرائيل.
أنظمة الانهزام العربي(29/16)
وأما الأنظمة العربية المتهافتة على الصلح مع العدو الصهيوني, فهي أنظمة عاجزة وقاصرة عن مواكبة طموح الأمة وتطلعاتها, ولا تستطيع أن تفكر بمواجهة الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين؛ لأنها نشأت في ظل وصاية استعمارية كان لها الدور الأكبر في تكوين هذه الأنظمة المهترئة.
إن بعض الحكام الرجعيين خصوصًا في الدول النفطية, لا يتورعون أن يجعلوا من بلدانهم قواعد عسكرية لأمريكا وبريطانيا, ولا يخجلون من الاعتماد على خبراء أجانب يعينونهم في مناصب رسمية عليا, وينفذون ما تقرره لهم دوائر ((البيت الأبيض)) من سياسة تهريب الثروات وتوزيعها على المستعمرين بأساليب شتى.
ويدعي بعضهم أنه حامي الشريعة الإسلامية ليغطي خيانته وليبرر استسلامه لإرادة أمريكا, وفي الوقت نفسه يعتبر عبور كتب إسلامي ثوري واحد إلى بلاده أمرًا محرمًا وممنوعًا.
ونتيجة لسياسة الانهزام التي تتبعها هذه الأنظمة الرجعية تجاه إسرائيل فقد استطاعت هذه الأخيرة أن تقنع الكثيرين منها بأنها أصبحت أمرًا واقعًا, لا مجال لعدم الاعتراف بها فضلاً عن الإقرار بضرورة الالتزام بتوفير أمنها.
وسياسة الانهزام هذه هي التي شجعت السادات المقبور أن يرتكب خيانته الكبرى فيبادر إلى مصالحة إسرائيل معاهدة الذل معها.
وسياسة الانهزام هذه هي التي تحكم الآن تحرك مجلس التعاون الخليجي ومحور الأردن مصر والعراق والمنظمة العرافتية.(29/17)
وسياسة الانهزام أمام أمريكا هي التي توجه موقف الحكام الرجعيين من الحرب العدوانية المفروضة على جمهورية الإسلام في إيران, وتقف وراء الدعم غير المحدود لصدام العميل, على مستوى التمويل والتموين الاقتصادي والعسكري ظنًا منهم أن النظام التكريتي المتصهين يمكنه أن يقضي على الثورة الإسلامية ويمنع من انتشار وهجها الثوري ومفاهيمها, وسياسة الانهزام هذه هي التي تدفع الأنظمة الرجعية إلى تجهيل الناس وتمييعهم وتذويب شخصيتهم الإسلامية وقمع أي تحرك إسلامي مناهض لأمريكا وحلفائها في بلادهم, كما إنها هي التي تدفعها إلى الخوف من يقظة المستضعفين ومنعهم من التدخل في شئون السياسة لما في ذلك من خطر كبير على بقاء تلك الأنظمة ناتج عن وعي الشعوب على فساد حكوماتها وارتباطاتها المشبوهة, وعن تعاطف هذه الشعوب مع حركات التحرر في كافة أنحاء العالم الإسلامي والعالم.
إننا نجد في الأنظمة العربية الرجعية ما يشكل حاجزًا أمام تنامي وعي الشعوب الإسلامية ووحدتها, ونعتبرها مسئولة عن عرقلة المحاولات التي تستهدف إبقاء الجرح مفتوحًا والصراع مستمرًا مع العدو الصهيوني.
وأملنا كبير بالشعوب المسلمة التي بدأت تبدي تذمرها بوضوح في معظم البلاد الإسلامية واستطاعت أن تتسلل إلى عالم الثورات لتستفيد من تجاربها وخصوصًا من الثورة الإسلامية الظافرة, وسيأتي اليوم الذي تتساقط فيه هذه الأنظمة الهشة أمام قبضات المستضعفين كما تساقط عرش الطاغوت في إيران.
ولا بد ونحن نخوض معركة شرسة ضد أمريكا وإسرائيل ومخططاتهما في المنطقة, إلا أن نحذر من هذه الأنظمة الرجعية من العمل بالشكل المعاكس لتيار الأمة الناهض والمقاوم للاستعمار والصهيونية, وعليها أن تتعلم من المقاومة الإسلامية في لبنان دروسًا كبيرة في الإصرار على مقاتلة العدو حتى إلحاق الهزيمة به.(29/18)
كما أننا نحذر هذه الأنظمة من التورط بمشاريع استسلام جديدة, وبمشاريع عدوانية تستهدف الثورة الإسلامية الفتية؛ لأن ذلك سيئول بأقطاب هذه الأنظمة إلى نفس المصير الذي لاقاه أنور السادات ومن قبله نوري السعيد وغيرهما.
جبهة عالمية للمستضعفين
ونتوجه إلى كافة الشعوب العربية والإسلامية لنعلن لها أن تجربة المسلمين في إيران الإسلام لم تبق عذرًا لأحد, حين أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن الصدور العارية المدفوعة بإرادة الإيمان قادرة بعون الله الكبير أن تحطم كل حديد الأنظمة الطاغوتية وجبروتها.
لذا فإننا ندعوا هذه الشعوب لتوحد صفوفها وترسم أهدافها وتنهض بكسر القيد الذي يطوق إرادتها وتسقط الحكومات العميلة التي تتسلط عليها..
ونلح على جميع المستضعفين في العالم بضرورة تشكيل جبهة عالمية لهم تضم كافة حركاتهم التحررية بهدف التنسيق فيما بينها تنسيقًا كاملاً شاملاً من أجل تأمين الفعالية لتحركها والتركيز على نقاط ضعف أعدائها.
فإذا كان العالم المستعمر بكافة دوله وأنظمته يجتمعون اليوم على حرب المستضعفين, فإن على المستضعفين أن يجتمعوا لمواجهة مؤامرات قوى الاستكبار في العالم.
وعلى كافة الشعوب المستضعفة وخصوصًا الشعوب العربية والإسلامية أن تدرك بأن الإسلام وحده هو المؤهل ليكون الفكر المقاوم للعدوان, بعدما أثبتت التجارب أن كل الأفكار الوضعية قد طويت إلى الأبد لمصلحة التوافق الأمريكي مع السوفيات وغيرهم.
وقد آن الأوان لندرك أن كل الأفكار الغربية عن أصالة الإنسان وفطرته لا يمكن أن تستجيب لطموحاته أو تنقذه من ظلمات الضلال والجاهلية, ووحده الإسلام يحقق نهوض الإنسان وتقدمه وإبداعه؛ لأنه {يوقد من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء}.
الله الله في وحدة المسلمين
يا أيتها الشعوب المسلمة(29/19)
حاذري من الفتنة الاستعمارية الخبيثة التي تستهدف تمزيق وحدتك لتزرع الشقاق فيما بينك وتثير العصبيات المذهبية السنية والشيعية.
واعلمي أن الاستعمار ما استطاع أن يسيطر على ثروات المسلمين إلا بعد أن سعى في صفوفهم تمزيقًا وتفريقًا, يثير السنة على الشيعة, ويحرض الشيعة على السنة, وأوكل هذه المهمة فيما بعد إلى عملائه من حكام البلاد حينًا, ومن علماء السوء أحيانًا ومن الزعامات التي سلطها على رقاب العباد.
فالله الله في وحدة المسلمين فإنها الصخرة التي تتحطم عليها خطط المستكبرين والمطرقة التي تسحق مؤامرات الظالمين.
فلا تدعوا لسياسة ((فرق تسد)) أن تمارس في بلادكم وقاوموها بالالتفاف حول القرآن الكريم.
{واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا}
{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم}
{واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}.
يا علماء الإسلام
وأنتم يا علماء الإسلام
فإن مسئوليتكم كبيرة جدًا بحجم المصائب التي تحل بالمسلمين, وأنتم خير من يقوم بواجبه في قيادة الأمة نحو الإسلام, وفي توعيتها على ما يخطط له الأعداء للسيطرة عليها ونهب ثرواتها واستعبادها.
ولا شك أنكم تدركون أن المسلمين ينظرون إليكم بصفتكم حملة الأمانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصفتكم ورثة الأنبياء والمرسلين, فكونوا القدوة في الترفع عن بهارج الحياة الدنيا وزخرفها والتوق إلى الجنة والشهادة في سبيل الله.
ولكم في رسول الله أسوة حسنة حيث كان يجوع مع الناس ويشبع مع الناس, وكان يؤم المصلين في المسجد ويتقدم صفوفهم في ساحات الجهاد.
وكان ملجأ لهم في المهمات يستدفئون بتوجيهاته وحلوله وينقدون له واثقين مطمئنين.
يا علماء الإسلام(29/20)
إن الإمام الخميني القائد أكد مرارًا على ضرورة صلاح العالم واهتمامه بتزكية نفسه قبل الآخرين وقال في أكثر من مقام: إن الناس إذا عرفوا أن صاحب حانوت غير صالح, فيقولون: إن فلانًا غير صالح, وإذا عرفوا أن تاجرًا يغش الناس, فيقولون: إن فلانًا غشاش, أما إذا عرفوا أن عالم الدين -لا سمح الله- غير صالح فإنهم سيقولون: إن الدين غير صالح.
فيا علماء الإسلام
لهذا الأمر وغيره فإن مسئوليتكم كبيرة جدًا, فاستعينوا بالله على القيام بها وادعوا الله -عز وجل- بدعاء الإمام علي عليه الصلاة والسلام اللهم إنا لا نسألك حملاً خفيفًا بل نسألك ظهرًا قويًا, وستجدون الأمة خير مستجيب لنداءاتكم وتوجيهاتكم وقيادتكم.
واعلموا أن موقعيتكم في الأمة قد عرف المستعمر أهميتها ولذا فإنها وجه أقوى طعناته إلى صدور العلماء المجاهدين, فدبر مؤامرة شيطانية لإخفاء الإمام السيد موسى الصدر بعدما أحس أنه عقبة كأداء في وجه مخططاته العدوانية, وقتل الفيلسوف الإسلامي الشيخ مرتضى مطهري, وأعدم المرجع الإسلامي الكبير آية الله السيد محمد باقر الصدر؛ حيث أحس منه بخطورة موقفه الذي جسده بهذه الكلمات ((ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب في الإسلام)) وها هو يتربص الدوائر بكل عالم ديني يقوم بواجبه الإسلامي خير قيام.
ومن ناحية أخرى راح الاستعمار يخترق المسلمين بوعاظ للسلاطين لا يخافون الله ويفتون بما لا مجال فيه للفتوى, فيجيزون الصلح مع إسرائيل ويحرمون قتالها ويبررون خيانة الحكام الظالمين.
وما كان المستعمر ليفعل ذلك لولا أهمية تأثير العالم الديني على الناس.
من هنا فإن من أهم مسئولياتكم يا علماء الإسلام أن تربوا المسلمين على الالتزام بأحكام الدين وتوضحوا لهم الخط السياسي الذي يسيرون على هديه, وتقودهم نحو العزة والرفعة, وتهتموا بالحوزات العلمية بحيث تستطيع أن تخرج قادة مخلصين لله وحريصين على نصرة الدين والأمة.
كلمة أخيرة حول المنظمات الدولية(29/21)
وأخيرًا لا بد من كلمة حول المنظمات والهيئات الدولية كمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وغير ذلك.
فإننا نسجل أن هذه المنظمات ليست منبرًا للأمم المستضعفة بشكل عام وتبقى عديمة الفاعلية بسبب هيمنة دول الاستكبار العالمي على قراراتها إجراء أو تعطيلاً.
وما حق النقض الفيتو الذي تحظى به بعض الدول إلا دليلاً على صحة ما نقول.
ومن هنا فإننا لا نتوقع أن يصدر عن هذه المنظمات ما يخدم مصلحة المستضعفين وندعو كل الدول التي تحترم نفسها إلى تبني مشروع إلغاء حق النقض الفيتو لدول الاستكبار.
كما ندعوها إلى تبني مشروع طرد إسرائيل من الأمم المتحدة باعتبارها كيانًا غاصبًا وغير مشروع فضلاً عن كونه معاديًا للنزعة الإنسانية.
أنها المستضعفون الأحرار...
هذه هي تصوراتنا وأهدافنا, وهذه هي القواعد التي تحكم مسيرتنا فمن قبلنا بقبول الحق فالله أولى بالحق, ومن رد علينا نصبر حتى يحكم الله بيننا وبين القوم الظالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حزب الله
SELECTED BIBLIOGRAPHY
Newspapers and Magazines
Daily Star Beirut (1983-1985)
Guardian (1978-1986)
Jerusalem Post (1978-1986)
Monday Morning (Beirut) (1980-1986)
Al-Nahar (1974-1986)
Al-Nahar al-Arabi wa al-Duwali (1980-1986)
New York Times (1943-1986).
al-Safir 1980-1986
Times London 1980-1986
Wall Street Journal 1982-1986
Washington Post 1978-1986
Sources of Translated Materials
Foreign Broadcast Information Service.
Joint Publications Research Service.
Books and Artcles
Abu Iyad Salalh Khalaf and Eric Rouleau My Home, My Land: A Narratrve of the Palestinian Struggle. Translated by Linda Butler Koseoglt. New York: Times Books, 1981.(29/22)
Abu Khalil, As'ad. Druze, Sunni, and Shiite Politrcal Leadership in Presentday Lebanon, Arab Studies Quaruerly 7, no. 4 Fall 1985: 28-58.
Adams , Raymond. Paradoxes of Religious Leadership among the Shi'ites of Lebanon. MERA Forum 6 Winterv 1983: 9-12.
Ajami Fouad. The Arab Predicament: Arab Political Thought and Practics Since 1967. New York: Cacbridge University Press 1981
The End of Pan-Arabish Foreign Affairs 57 Winter 1978-1979: 355-373.
Lebanon and Its Inheritors. Foreign Affairs 63 Spring 1985: 778-799.
The Vanished Iman: Musa Al Sadr and the Shia of Lebanon Ithaca N/Y: Cornell Universrty Press, 1986.
Almond, Gabriel A. Approaches to Developmental. In Crisis, Chouce and Change; Historical Studies of Political Devlopment , ed. Gabriel A. Aomond, Scott C. Flangan, and Robert J. Mundi. Boston: Little, Brown 1973, PP. 1-41.
Almond , Gabriel A. and James S. Coleman, eds, The Politics of the Developing Areas. Princeton: Princeton, University Press, 1960.
Almond , Gabriel A, And G. Bingham Powell , Jr Compatative Politics: A Dveleopmental Approach. Boston: Little , Borwn, 1966.
Alpher, Joseph, ed. Israel's Lebanon Policy: Where to Tel Aviv: Jaffee Center for Stratogrc Studies, Tel Aviv University, August 1984.
Antoun, Richard, and Iliya Harik, eds. Rursl Politics and Social Change in the Middle East, Bloomington:Indiana University Press, 1972.
Apter, David E. The Politics of Modernization. Chicage: University of Chicago Press, 1965.
Arjomand , Said Amir , ed From Nationalism to Revolutionary Islam. Albany: State University of New York Press, 1984.(29/23)
Awwa, Tawfik Yusuf, Death in Beirut, trans. Leslie Mcloughlin. London: Heinemann Educational Books, 1967.
Ayubi, Nazih N. M. The Political Revival of Islam: The Case of Egypt International Journal of Middle East Studies 12 December 1980: 41-499.
Azar , Edard E. Paul Jureidini, Ronald D. Mclaurin , Augusts R. Norton, Robert J. Pranger , Kate Shnayerson , Lewis W. Snider, and Joyce R. Starr. The Emergence of a New Lebanon: Fantasy or reality New York: Praeger Pulishers, 1984.
Baaklini, Abdo I. Legislative and Ploitical Development: Lebanon, 1842-1972 Releigh, N, C Duke University Prsess, 1976
Bailey, Clinton, Facing a Wounnded Tiger. Jerusalem Post Magazine. Clinton, Facing a Wounded Tiger. Jerusalem Post Magazine, March 15-1985.
Ball, George W. Error and Bertayal in Lebanon: An Analysis of Israel's Invasion of Lebanon and Implrcations for U. S. Israeli Relations. Washington , D. C : Foundation for Middle East Peace , 1984.
Bill, James A. Politics in the Middle East. 2d. Boston: Little, Brown, 1984.
Restrgent Islam in the Persian Gulf. Foreign Affairs 63 Fall 1984: 108-127.
Binder , Leonard The Ideological Revelution in the Middlo East. New York: John Wiley and Sons , 1964.
In a Moment of Enthusiasm: Political Power and the Second Stratum in Egypt. Chigago: University of Chicage Press, 1978.
National Integration and Political Development, American Political Science Review 58 September 1964: 622- 631.
Ed, Politics in Lobanon. New York: John Wiloy and Sons , 1966.(29/24)
Review Essay: Political Participation and Political Development. Americal Journal of Sociology 83 Novmber 1977: 751- 760.
Binder , Leonard James S. Cleman , Joseph La Palombara, Lucian W. Pye , Signey Verba, and Myron Weiner. Crises and Sequences in Political Development , Princeto: Princeuon University Press, 1971.
Bulloch, John. Death of a Country: The Civil War in Labanon. London: Weideenfelf and Nicolson , 1977.
Final Confilct: The War in Lebanon. London: Centuty Publishing , 1983.
Calis Raphael. The Shiite Pimpernel. Middle East November 1978: 52-54.
Cameron. David R. Toward a Theory of Political Mobilization. Journal of Politics 36 Februry 1974: 138 – 171.,
Center for the Study of THE Mosern Arab World. Islamic Law and Dar Al-Mashreq Publishers 1978.
Chamie , Joseph , The Lebanese Civil War: An Investigation into the Causes. World Affairs 139 Winter 1976/1977: 171- 188.
Religion and Ferility: Arab Christian – Muslim Differentials. Cambrige, Eng: Cambridge University Press, 1981.
Chara Waddah. Transformations d'une manifestation Religieuse dansun village du Libanaise, 1968.
Cobban, Helena. The Making of Modern Lebanon. Boulder: weastview Press, 1985. COLE , Juan R. I. and Nikki R. Keddie. Eds. Shi'ism and Social Protes. New Haven: Yale University Press, 1986.
Connor , Walker , Nation-Building or Nation-Desteroying. World Politics 24 April 1972: 319- 355.(29/25)
Cotrow , Ralph E. Electoral Issues: Lebanon. In Electoral Issues in the Middle East: Issues , Voters and Elites , ed , Jacob M. Landau, Erugun Ozbudyn , and Frank Tachau Stanford: Hoover Institution Press, 1980, pp 39-68.
Deeb , Marius K, The Lebanese Civil War New York: Praeger , 1980. Lebanon: Prospects for National Reconciliation in the Mid-1980s. Middle East Journal 38 Spring 1984: 267-283.
Lebanon's Continuing Conflict. Current Historuy January 1985: 13-15, 34.
Dekmejian , Richard H. The Anatomy of Islamic Alterantives. Middle East Journal 34 Winter 1978: 1-12.
Consociational Denocracy in Crisis: The Case of Lebanon. Comparative Politics Io January 1978: 251-266.
Patterns of Political Lesdership: Egypt, Israiel , Lebanon, Albany: State University of New York Press, 1975.
Dessouki , Ali E. Hillal , ed Isalmic Resurgence in the Arab World. New York: Praeger Publishers. 1982.
Details about Hizbullah' and Its Leaders. Middle East Reporter, March 22, 2986.
Deutsch, Karl W. Nationalism and Social Communication, An Inquiry Into the Foundations of Nationality. Cambridge: MIT Press, 1996.
Politics and Government: How People Decide Their Fate. 2d. Boston: Houghton Miffin, 1974.
Social Mobilization and Political Development. American Political Scince Review 55 Septomber 1961: 493-514.
Dominguez , Jorge , Political Participation and the Social Mobilization Hy'pothesis: Chile , Mexico , and Cuba , 1800-1825. Journal of Interdisciplinary History 5 Autumn 1974: 237- 266.(29/26)
Early , Evelyn A The Emergence of an Urban Za'im Asocial Network Analysis. Journal of the Social Sciences Kuwait 5 April 1977: 1-25.
Eickelman , Dale F. The Study of Islam in Local Contexts. Contribution to Asian Studies 17 1982: 1-16.
Enayat, Hamid. Modern Islamic Political Thought. Austin: University of Texas , 1982.
Entelis , John P. Ehtnic Conflict and the Reemergence of Radical Christian Nationalism in Lebanon, Journal of Souht Asia and Middle Eastern Studies Spring 1979 , Reprinaed in Religion and Politics in the Middle East , Ed. Michael Curis. Boulder: Westview Press, 1981, pp. 227-245.
Pluralism and Party Transformation in Lebanon: Al Kata'ib 1936-1970. Leiden, the Netherlands: E. J Brill, 1974.
Fadl Allah. Muhammad Hussin. Al Islam wa Mantaq al Quwa. 2d. ed. Beirut: Dar al Islamiya , 1981.
Al Maqawama al Islamiya L: Afaq wa Tatallu'at. 2d ed Bir al-abd, Lebanon: Lebanon: Lajnat Masjid al Imam al Rida , 1986.
Farah Tawfic, Aspects of Consociationism and Modernization: Lebanon as an Exploratory Test Case. Lincoln, Nob: Middle East Research Group. 1975.
Faris. Hani A. BEYOND THE Lebanese Civil War: Historical Issues and the Challenges of Reconstrucion , Weshington, D.C Center for Contemporary Arab Studies , Georgetoun University , April 1982.
Fawaz. Leila Tarazr , Merchants and Migrants in Nineteenth Century Beirut. Cambridge: Harvard University Press, 1983.
Understanding Lebanon , American Scholar 54 Summer 1985: 377-384.
Fischer, Michael M J Islam and the Revolt of the Petit Bourgeoisie. Daedalus III Winter 1982: 101-125.(29/27)
Flotz , William J. MODERNIZATION and Nation Building: The Somral Mobilization Model Remonsrdersr In From National Development to Global Community: Essay in Honor of Karl W. Deutsch, Ed. RiCHARD L. Merritt and Bruce M. Russett. London: George Allen and Unwin , 1981, pp, 25 – 54.
Fuller , Anne H. Buarij: Portrait of a Lebanese Muslim Village , Cambirdge: Harvard Universrty. Center for Middle Eastern Studies, 1969.
Geertsz , Clifford. Old Societies and New States: The Quest for Modernity in Asia and Africa. New York: Free Press, 1963.
Gellner , Ernest. Post Traditional Forcs in Islam: The Turf and Trade and Votes and Peasants. Daedalus Io2 Winter 1973: 191-206.
Gilmour , David, Lebanon: The Fractured Country. New York: St. Martin's Press, 1983.
Gilsenan , Micghael. Recognizing Islam: Religion and Society in the Modern Arab Worgl. New York: Pantheon Books , 1982.
Goodman , Hirsh. A Pragmatic Ideologue. Atlantic September 1983: 22ff 1.
Green Jerrold. Countermobilization as a Revolutionary Form. Compatftive Politics 16 January 1984: 153-169.
Islam. Religiopolitics, and Social Change: A Review Article. Comparative Studies in Society and History 27 April 1985: 312-322.
Islam and Politics: Politics and Islam. Middle East Insight 3, no. 5 1984: 3-7.
Revolution in Iran: The Politics of Countermobilization. New York: Praeger, 1982.
Gutman , Roy. Battle over Lebanon. Foreign Service Journal June 1984: 28-33.
Gutner , Tammi. Sam Lewis and His Middle East Mission. SAISPHERE John Hopkins University School of Adanced Interantional Studies Winter 1986: 12-23.(29/28)
Haddad , Wadi D. Lebanon: The Politics of Revolving Doors. Washington Papers. No. 114. New York and Washington. D. C: Praeger Publishers and the Center for Stratogic and International Studies , George town TUniversity, 1985.
Haddad. William. Divided Lebanon. Current History January 1983.: 15-18ff.
Association of Arab American University Graduates, August 1978.
Haley Edward p. and Lewis W. Snider, eds. Lebanon In crisis: Participants and Issues. Syracuse.: Syracuse University Press, 1979.
Hamadah. Ali, Harakat Amal. al Nahar al Arabi wa al Duwali, Aprile 6-12 1981.
Harik , Iliya , Lebanon: Anatomy of Conflict. Hanover. N. H: American Universities Field Staff Reports , no 49-1981.
The Political Elite as a Strategic Minority. In Leadership and development in Arab Society , ed , Fuad I. Khuri. Beirut: American University of Beirut. Center for Arab and Middle East Studies, 1981. pp. 62-91.
The Political Mobilization of Peasants: a Study of an Egyftian Community. Bloomington: Indianan University Press: 1974.
Voting Behavior: Lebanon. In Electoral Politics in the Middle East: Issues, Voters and Elites , ed Jacob Landau, Ergun Ozbudun , and Frank Tachau, Stanford: Hoover Institution Press, 1980.
Harris , William , The View from Zahle: Security and Economim Concerns in the Cemtral Bekaa: 1980-1985. Middle East Journal 39, no 3 Summer 1985: 270-286.
Heeger Gerald A. The Politics of Under Development. New York: St. Nartin's Press. 1974.(29/29)
Hegland, Mary. Two Images of Husain: Accommodation and Revolution in an Iranian Village In Religion and Politics in Iran: Shi'ism from Quietism to Revolutin, ed Nikki R. Keddle. New Haven YALE University Press, 1983, pp. 218-235.
Hof , Frederic C. Galilee Divided: The Israel – Lebanon Frontier. Boulser: Westview Press, 1985.
Hooglund , Eric. Rural Participation in the Revolution MERIP Reports 87 May 1980: 3-6>
Horowitz , Dan Dual Authority Politics Comparative Politics 14 April 1982: 329-349.
Hourani. Albert H. Syria and Lebanon: A political Essay: London: Oxford University Press, 1946.
Hudson , Michael C. Arab Politics: The Search for Legitimacy. New Haven: yale University Press, 1977.
Democracy and Somial Mobilizationin Lebanese Politics Comparative Politics I January 1969 Reprinted with a Postseript in analyzing the Third World ed Norman W. Provizer. Boston ; G. K. Hall , 1978, pp. 271-391.
Islam and Political Development. In Islam and Development: Religion and Sociopolitical Change ed John L. Esposituo Syracuse: Syracuse University Press, 1980 , pp. 1-24.
Islamic Factor in Syrian and Iraq Politics , In Islam in the Polrtical Process, ed James p. Piscatori , Cambridge Eng: Cambridge University PreSS , 1983. PP. 261-97.
The Lebanon Crisis: The Limits of Consocrational Democracy. Journal 32 Summer 1978: 261-278>
The Precarious Reptblic: Political Monernization in Lebanon New York Random House , 1968.(29/30)
The Precarious Republic Revisited: Revisited: Reflections on The Collawse of Pluralist Politics in Lebanon. Washington. D. C ; Georgetown University Center for Center for Contemporary Arab Studies, Institute of Arab Development , February 1977.
Humphreys , R,StEVEN Islam and Political Values in Saudi Arabia, Egypt and Syria. Middle East Journal 33 Winter 1979: 1-19.
Huntington , Samuel P. The Chanve to Change to Change ; Modernization , Development, and Politics. Comparative Politics 3 April 1971: 283-322.
Political Order in Changing Societies , New Haven: Yale Universiy Press, 1968.
Huntingjon , Samuel P. and Joan M. Nelson. No Easy Choice: political Participation in Deveolping Countries. Cambridge: Harnard University Press. 1976.
Al-Husaini, Sharif , Hizb Allah: Harakat , Askarriya am Siyasiya am Diniya , al-Shira, March 15-1986.
Jaber , Talal, Le discourse Shi'ite sur le Pouvoir, Peuples Mediterranees Mediterranean Peoples 20 July September 1982: 75-92.
Jafri , S. H. M The Origins and Development of Shi'a Islam London: Longman. Liban. 1979.
Johnson , Michael, Famtional Politicd in Lebanon: The Case of the Middle Eastern Studies 14 January 1978 & 75.
Political Bosses and Their Gangs: Zu'ama and Qabadayat in the Sunni Muslim Quarters of Beirut. In Patrons and Clients ed. Ernest Gellner and John Waterbury. London: Duckworuh in Association with the Center for Mediterranean Studies of the American University Field Staff, 1977.(29/31)
Popular Monements and Primordial Loyalties in Beirut. In Sociology of Developing Societies: The Middle East ed , Talal Asad and Roger Owen , New York Monthly Review Press, 1983, pp. 178-194.
Joseph, Suad , Politicization of Religious Sects in Berj Hammoud. Ph. D. dissertation, Columbia Universrty., 1975
Joumbblatt, Kamal I. Speak for Lebanon, Translated by Michael Pallis and Recorded by Philippe Lapousterle, London: Zed Press, 1982.
Judkins. Major James C. Jr. The Expanding Roler of the Shi'a in Lebanon Master of Military Art and Science thesis. U. S. Army.
Command and General Staff College , Fort Leavwor, Ks, 1983.
Jureidini, Paul A. and Ronald k. Mclaurin , The Impact of Social and Generational Change on Lobanese Politics Unpublished Paper , March 1984.
Kazemi, Farhad. Poverty and Revoltuion in IRAN the Urban poor, Urban Marginality and Politics New York University Press. 1980.
Keddie , Nikki R. Iran: Chang in Islam and Change. Inuernational Journal of Middle East Studies II July 1980: 527-542.
Khalaf, Samir Adaptive Modernization: The Case for Lebanon. In Economic Development and Population Growth in the Middle East , ed , Charles A. Cooper and Sidney S. Alexander. New York: American Elsevier press 1972, pp. 657-598.
Changings Forms OF Political Patrronage in Lebanon. In Patrons and Clients in Coditerranean Societies ed, Ernest Gellner and John Waterbury. Lendon: Gerald Duckworth , 1977, pp. 185-205.
On the Demoralization of Public Life in Lebanon , Some Impassioned Reflection Studies in Comparative International Development 17 Spring 1982: 49-72.(29/32)
Parliamentary Elites: Lebanon. In Electoral Issues in the Middle East: Issues, Stanford: Hoover Institution Press, 1980, pp243-271.
Persistence and Chane in 19th Century Islam: A Sociological Essay Beirut: American University of Beirut, 1979.
Khaled , Hasan AL Muslimin fi Lubnan wa al Harb al ahliya. Beirut: Dar al Kindi , 1978.
Khalid , Tarif , Shaydh Ahmad Arif AL Zin and al Irfaan in Intellectual Life in the Arab East, 1980- 1939 ed, Marwan R. Buheiry, Beirut: American University of Beirut , Center for Arab and Middle East Studies , 1981. pp. 110-124.
Khalidi , Walid , Conflict and Violence in Lebanon: Confrontation in the Middle East Cambridge: Harnard University, Center for International Affairs , 1979.
Al Khouri , Touma , The Election Bus. In Modern Arabic Short Storres, ed Denys Johnson Davies Sondon: Hornemann, 1967- pp. 173-181.
Khoury , Elias and Nubar Hovespian Israel's Future in Lebanon. MERIP Report 108-109 Soptember – October 1982: 28-32.
Khuri , Fuad I. The Changing Class Structure in Lebanon. Middle East Journal 23 Winjer 1969: 29-44.
A Compatative Study
A Compartive Study of Migration Pattervs in Two Iebanese Villages Human Organization 26, no. 4 1978: 206-213.
From Village to Suburb: Order and Chande in Greater Beirut.
Chicago University of Chicage Press , 1975.
Ed , Leadershrp and Development in Arab Socicty. Beirtu: American Universty of Beirut , center for Arab and Middle East Studies , 1981.
The Social Dynamrcs of the 1975-1977 War in Lebanon Armed Forces and Society 7 Spring 1981: 383-408.(29/33)
Kifner , John. Life Among the Ruins in Beirut. New York Times Magazine, December 6, 1981.
Koury , Enver M. The Crisis in the Lebanese System: Confessionalism and Chaos, Washington , D C American Enterprise Institute, In, statute for Policy Research June 1976.
Kramer , Martin , Muhammad Husayn Fadlallah. Orient: German Journal for Politics and Economics of the Middle East 26, no 2 June 1985: 147-149.
Ed, Shi'ism Resistance and Revolution Boulder: Westview Press., Forthcoming 1987.
Kravetz, Marm. Le Shiite resurgence Le Matin Paris , May 28, 1982.
Lavran , Aharon , Un Forces and Israel's Security; Modernizing the Middle East. New York Froo Press, 1968.
Lijphart , Arend. Consociational Democracy. World Politics 21 January 1969: 207-255.
Democracy in Plural Societies , New Haven: Yale University Press, 1977.
Lipset, Seymour Martin , ed , Politics and the Social Sciences. New York Oxford University Prsee, 1969.
Lustick, Ian Stability in Deepoy Divided Societios: Conociationisc Versus Contirol. World Politics 31 April 1997: 325-344.
Melaurin. Ronald D. Peace in Lebanon. Unpublished Paper Read at the University of Southern Califernia April 1985.
Macleod , Scott, A Dangerous Occupation , New York Review of Books , August 16, 1984.
Mcrae, Kenneth. Consociational Democracy: political Accomodation in Segmented Societies McCelland and Steward, 1974.
Mannock , Robin Hit andmyth of the Occupation forces Policy of terror in south Lebanon Daily Star Beirut June 21, 1984.(29/34)
Mazzaoui , Michel M. Shi'ism amd Ashura in South Lebanon in Taziyah: Richel ... and Drama in Iran and ed , Peter J. Chelkowski, New York New York University Press and Soroush Press, 1979, pp. 228-237.
Melhem Hisham the Case for the Lebanese Resrstance AAUG Association ef Arab American University Graduate Mideast Monitoi 2no May 1985: 2-4, 6.
Meoson , Robert , and Howard Wolpe, Moernization and the Politics of Communalism: A Theoretical Perspective , American Political Science Review 64 December 1970: 1113- 1130.
Nigeria: Moderization and the Politics , of Commucalism, East Lansing: Michigan stat University Press, 1917.
Meo, Leila MT. Lebanon: Imprebaboe Nation ; A Study in political Development. Bloomington: Indiana University press 1965
Migdle, Joel S, P easavts, P Pressures toward Political and Social Change in the Third world , Princeton: Princeton University Press, 1974.
Mortimer Edward. Faith and Power: The Politics of Islam, New York vintage Books, 1982.
Mountjoy, Alan B. Migrant Werkers in the Arab Middle East, Thris World Quarterly 4 July 1982: 530-531.
Muir , Jim Assad Tightene His Grip on Lebanon Middle East International 249 May 3, 1985: 3-5.
In the lap of the Syrians Middle East Internatioinal 258 September 13, 1985: 8-9.
Lebanon Arena of Conflict Crucible of Peac Middle East Journal 38, no 2 Spring 1984, 205-227.
A Stirk that United Beirut Arabia The Islamic World Review June 1982: 26-27.(29/35)
Al Muqawama al wataniya fi al Janub al Lubnani , Beirut: Dar Iqra. 1984, Nasr , Salim , Backdrop to Civil War The Crisrs of Lebanese Captialism. MERIP Reports 73 December 1978: 3-13.
N ie Norman H G Bingham Powell and Denneth Prewitt. Science Review 63 June 1996: 361-378.
Noruon , Augustus R. Changing Actors And Leadership among the Shiites of Lobanon A nnals of the Amercan Academy of Political nd Social Science ne , 482 November 1985: 109-121. ...
External Intervevtion and the Politics of Lebanon , Washingto. D. C. Wasthington Institute for Values in Public Policy , 1984.
Harakat Amal The Movement of Hope Paper Presented at the annual Meeting of the American Political Science Association, Denver, Colorado, September 2-5 1982, Reviserd edition in Religion and Politics Political Anthropology, 3 ed, Myron J. Aronoff. New Brunswick, N. J. Transaction Books, 1984, PP. 105-131.
Israel and Southe Lebanon. American Arab Affairs 4 Spring 1983: 23-31.
Lebanese Quagmire New Yor Timer Jugy 11, 1984.
Lebanon's Old Politic Must Yirld, to the New New New York Times , January 3, 1984.
Lebanon's Shiites. Political Landscape New Leader March 8, 1982: 8-9.
Lebanon's Shiites. New York Times, April 16-1982.
Militant Preest, and Political Violence Under the Banner of Islam. Armed Forces and Society 9 fall 1982: 3-19.
Political Violence and Shi'a Factionalism in Lebanon Middle East Insight 3, no, 2 1983: 9-16 A Shorter Version Appears in New Outlook: Middle East Monthly Israel January 1984: 19-21.
The Violent Work of Politics in Lebanon Wall Stroot Journal March 18, 1976.(29/36)
Ozbudun , Ergun, Social Change and Political Participation in Turkey. Princeton: Princeton University Press, 1977.
Pakradoui, Karim. La Paix Manquee, Beirut: Editions FMA, 1983.
Pears , Richard Three, years in the Levant , London: Macmillan. 1949.
Peters , Emrys L. Aspects of Rank and Status among Muslrms in a Lebanese Village In Mediterranean , Countrymen: Essays in the Social Anthropolegy of the Mediterranean ed Julian Pitt Rivers , Paris: Mouton 1963, pp. 159-200.
Shifts of Power in a Lebanese Village In Rural Politics and Social Change in the Middle East , ed , Richard Antoun and Iliya Harik, Bloominguon: Indiana University Press, 1972, pp, 165-197.
Picard, Elizabeth , De la Commtnaute' Classe a la Resistance National, Revue Francarse de Sience Politique 35 December 1985: 999-1028.
Polk , William R. The Oponing of South Lobanon, 1788-1840: A study of the Impact of the Wost on the Middle East Cambridge: Harvard University Press, 1963.
Ramazani R. K. Iran's Islamic Revolution and the Persian Gulf. Current History January 1985: 5-8, 40-41.
Randal, Jonathan C. GOING all the Way: Christian Warlords. Israeli Adventurees and the War in Lobanon, New York: Viking Press , 1983.
Al Sadr Beirut: Dar Al Khalud , 1979.
Safa Muhammad Jabri al Tarikh Jabal Amil, Beirut: Dar Al Nahar , 1981.
Salem Elie Adib Sebanon's Political Maze The Search for Peace in a Turbulent land Middle East Journal33 Autumn 1979: 444-463.
Modernization without Revolution: Lebanon's Experience. Indiana University Press, 1973.
Salibi, Kamal S. Caravn Books, 1976.(29/37)
The Modern History of Lebanon New York Frederick A. Praeger publishers, 1965.
Salman, Magida , The Lobanese Communities and Their Little Wars 10 1983: 13-20.
Schiff zeev, and Ehud Yaari Israel's Lobanon war New York Simon and Schuater, 1984.
Sicking Thom and Sheseen Khairallah The Shia Awakoning in sion and Revision in Arab Society , 1974, CEMAN Reports 2 1975: 97-130 Beirut Dar al Mashreq, 1975.
Skocpol , Theda What Makes Peasants Revolutionary? Comparative Politics 14 April 1982: 351-375.
Smith , Donald E. Religion and Political Development Boston: Little, Brown, 1970.
Smock , David R, Aurrey C. Scock the Politics of Pluralism: A comparative Study of Lebanon and Ghana , New York Elsevier, 1975.
Snider , Lewis W, The Lebanese force: their Origins and Role in Lebanon'S Politics Middle East Journal 38 Winter 1984: 1-33.
Political Insfability and Social Changes in Lebanon: Unpublished Paber, January 1984.
Stok Joe, Repru from Lebanon MERIP Reports 118 Ocuober 1983: 3-13.
Suleiman , Michael W. Political Parties Culture Ithaca , N, Y Corell University Press, 1967.
Tabbarah Lina Mikdadi, Survival in Beirut: A Diary of Civil War. Translated by Nadia Hijab London Onyx press , 1979l.
Tabbarah , Riad B, Background to the Lebanese Conflict , Interanuional Journal of comparative Sociology 20 , nos , 1-2 March 1979: 101-121.
Rulletin of the U. N economic Commission for Western Asia 4 1977: 3-25.
Tueni Ghassan. Lebanon ; A New Republic Foreign Affairs 61 Fall 1982: 84-89.
Une Guerre Pour Les autres Paris: editions Lettes, 1985.(29/38)
U. S Congress, House, Subcommittee on Europe and the Middle Eadt of the Commruuee on Forign Affairs Islamic Fundamentalism and Islamic Radicaliem 99th Cong Ist sess, 1985.
Urquhart , David The Lebanon: Mt , S ouria, A History and a Diary, London Thomad Cautley Newby, 1860.
Verba , Sidney and Norman H Nie Participation in America, New York Harper and Roy, 1972.
World Bank , World Development Repotu , New York ; Oxord Universty Press, 1982.
Wright Robin Sacred Rage The Wrath of Militant Islam , New York Simen and Shcuster , 1985.
Zabih Sepeihr Aspects of Terrorism in Iran Annals of the American Academy of political and Science 463 September 1982: 84-94.
Al Zain , Muhammad Hussain , al, Shia fi al Tarikh , Beirut Dar la Athar , 1979.
Zonis, Marvin Iran A theory of Revolution Form Accounts of the Rebolution , World Politics 35 July 1983: 586-606.
Self Objects Self Reprsesntation and Sense Making Crises: Pooitical Instability in the 1980s. Unpublished Paper, 1983.(29/39)
وجاء دور المجوس
2
أمل
والمخيمات الفلسطينية
عبدالله محمد الغريب
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
- فإلى الذين حولوا سماء المخيمات إلى كتلة من النيران ابتهاجاً بنجاح ثورة الخميني.
- وإلى الذين أيدوا ياسر عرفات عندما قال للخميني في أول مرة يزور فيها إيران: (أنت ثائرنا ومرشدنا الأول).
- وإلى الذين رددوا وراء هاني الحسن: (غداً تركيا وبعد غدٍ فلسطين).
- وإلى الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية الذين ما زالوا يحسنون الظن بالخميني ونظامه في إيران، ويعتقدون أنه وشيعته سوف يقاتلون اليهود في فلسطين المحتلة.
- وإلى كثير من أبناء فلسطين الذين كانوا يتمنون انتصار إيران في حربها ضد العراق لأن الطريق إلى تحرير فلسطين يمر من بغداد والكويت والرياض وعمان كما قال الخميني وأركان نظامه.
- وإلى الذين تشيعوا من الفلسطينيين، وإن كانوا أقل من قليل.
- وإلى المسلمين السنة في لبنان – سواء كانوا فلسطينيين أو لبنانيين – الذين خدعهم موسى الصدر وقادة حركة أمل وحزب الله، وانخرط بعضهم في الحزب الأخير.
إلى هؤلاء جميعاً أقدم كتابي الثاني (وجاء دور المجوس) حتى لا يلدغوا من جحر واحد مرات ومرات.
وقد قسمت الكتاب إلى الفصول التالية:
الفصل الأول: عرضت فيه فقرات من كتابي الأول تتصل بموضوعات هذا الكتاب .. وقد ثبت والحمد لله صحة التحليلات التي كتبتها عام 1979 م، بل وبعضها كنت قد كتبته في منتصف السبعينات.
الفصل الثاني: تحدثت فيه عن أهم الاعتداءات على المخيمات الفلسطينية التي سبقت عدوان حركة أمل على صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، كما تحدثت بشيء من الإيجاز عن الفظائع التي ارتكبها المعتدون.(30/1)
الفصل الثالث: ويشتمل على وصف لعدوان أمل على المخيمات، وعرضت صوراً من الفظائع التي ارتكبها الشيعة.
الفصل الرابع: مرحلة ما بعد عدوان أمل، ويحوي الموضوعات الآتية: الاتفاق شيء والممارسات شيء آخر، مجزرة طرابلس، إقفال الملف اللبناني، الشيخ سعيد شعبان ماذا يريد؟!.
الفصل الخامس: شيعة لبنان وحركة أمل، عود على بدء تحدثت في هذا الفصل عن ارتباط شيعة لبنان بشيعة إيران، وبيّنت الأدلة التي تؤكد تعاون شيعة لبنان مع اليهود، والموارنة، والدروز، والنصيريين .. وأجبت عن سؤال مطروح:
هل صحيح أن نظام خميني وقف ضد حركة أمل في عدوانها على المخيمات؟!.
الفصل السادس: تحدثت فيه عن تناقض ياسر عرفات ومساعديه في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كما تحدثت عن موقف الأنظمة العربية من المؤامرة والمتآمرين، وفي الختام وجهت بعض النصائح للشعب الفلسطيني.
أخواني أبناء فلسطين: لقد كنت أعيش معكم فيما ابتلاكم الله به من به من محن ومصائب، وأنا لا أدعوكم إلى حزب أو جماعة، ولا أبغي من وراء ما أكتبه – علم الله – منصباً ولا جاهاً في هذه الدنيا، وإنما أدعوكم إلى الالتزام بدينكم، وعدم اتباع السبل فتضل بكم عن سبيله.
توضيحات وردود
1- صعوبات رافقت نشر الكتاب الأول :
فتن معظم أهل السنة بثورة الخميني، وزعموا أنه ليس طائفياً، ولا يؤمن بعقائد وتصورات سلفه من كبار علماء الإِمامية الاثني عشرية .. وصَدَّق هذه الأقاويل بعض الطيبين من علماء أهل السنة، وكنت ولله الحمد والمنة قد قرأت كتب الخميني وسجلت ملاحظاتي عليها قبل أن يشتهر اسمه ويتألق نجمه، بل وكنت أستغرب التفاف الشيعة حوله مع أنه لم يكن من كبار آياتهم.
وإذن لا بد من نشر ما عندي من علم حول الشيعة وتاريخهم وثورتهم فكنت بهذا الكتاب كمن يسبح ضد التيار.(30/2)
وكنت أعلم أن نشر هذا الكتاب سيجر عليَّ متاعب كثيرة لاسيما وأن بعض أصدقائي كانوا من الذين تورطوا وأيدوا ثورة الرافضة، وتأثر بأقوالهم كثير من الناس، وكان لا بد من نقد أقوالهم ومواقفهم لأن الحق أحب إليَّ منهم.
وعندما انتهيت من تأليف الكتاب لم أجد من يجرؤ على نشره، ولهذا تأخر صدوره عاماً كلاماً، وعندما انتهت طباعته لم تسمح الدول العربية بتوزيعه، وشاء الله أن يطلع عليه نفر من كبار علماء أهل السنة المشهود لهم بالفضل والعلم – ولا نزكي على الله أحداً – فأعجبوا به أشد الإِعجاب، ونصحوا الشباب بقراءته، بل وكان أحدهم يقرر شيئًا منه في درسه العام الذي يحضره مئات الناس، ويدعو لمؤلفه بالخير والتوفيق، ويشهد له بسلامة العقيدة والتحرر من التعصب والهوى .. وعن طريق هؤلاء العلماء دخل بعض البلدان العربية، ولا يزال محظوراً في معظمها.
ومع ذلك لم أطرق أبواب هؤلاء العلماء – رغم تقديري لهم – ولم أطلب منهم أو من غيرهم التوسط من أجل السماح بتوزيع الكتاب، وما اعتدت والحمد لله مثل هذا الأسلوب .. فقليلاً من الحياء يا أصحاب النفوس الضعيفة (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(. [البقرة، 281].
ولا أريد الإطالة في الحديث عن الأثر الذي تركه الكتاب في مشارق الأرض ومغاربها، ولا عن الضجة التي أثارها وكيف أنقذ ناساً كثيراً من التشيع .. وحسبي أنني كتبته إرضاءً لله سبحانه وتعالى، ودفاعاً عن كتاب الله جل وعلا وعن سنة المصطفى (، وزيادة على ذلك فهو والحمد لله كتاب أدلة وأرقام وليس كتاب مجاملات وعواطف، ومن شاء دليلاً على ذلك فليجدد صلته بالكتاب وسيعلم عندئذٍ تفاهة ما يردده أصحاب الأهواء.
2- من المجوس :
قال بعضهم: إنني أطلقت القول بتكفير الشيعة !!.(30/3)
ومن يقرأ الكتاب جيداً يعلم كذب هذا الادعاء، ومن شاء مزيداً من التفصيل فليعد إلى الصفحتين 152 و153 .. فقد أكدت أنه لا يجوز تكفير الشيعة على الإِطلاق، لأن منهم أصحاب رسول الله ( الذين وقفوا في صف علي ابن أبي طالب ( وعن أصحاب رسول الله أجمعين .. والذين قلب بكفرهم هم الإمامية الذين يقولون في القرآن زيادة أو نقصاناً، وينكرون سنة المصطفى (، ويشتمون الصحابة رضوان الله عليهم، وهؤلاء شر من المجوس وهم الذين قصدتهم في قولي: (وجاء دور المجوس) أما عامة الإِمامية الذين لا يظهرون مثل هذه الأقوال فنكل أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى، وهم عندنا من أهل القبلة.
فهل عند هؤلاء المعترضين غير هذا القول؟! وهل عندهم أدلة بأن الذين ينكرون السنة النبوية ويقولون بأن في القرآن زيادة أو نقصاناً هم مسلمون ولا يجوز القول بكفرهم؟!.
ليبينوا لنا أدلتهم أو فليفصحوا عن حقيقة ما يريدون؟! ونصيحتي إلى الشباب الذين يحترمون عقولهم أن لا يعتمدوا في حكمهم على مثل هذه القضايا الخطيرة على قول زيد أو عمرو، ولو كان هذا الذي يعتمدون على قوله داعية أو وجيهًا أو ثقة عندهم .. أنصح الشباب بالبحث والدراسة، وإذا وجدوا حقاً فعليهم أن يعضوا عليه بنواجذهم .. وحذار من التعصب والهوى.
3- رأي في الحرب العراقية الإِيرانية :
عندما صدر كتابي الأول كانت العراق في طليعة الدول التي اعترفت بنظام خميني، واستقبل الرئيس العراقي أحد الآيات كسفير جديد لإِيران في العراق، ومع ذلك فقد تحدثت عن أطماع إيران في العراق ودول الخليج، وعن حرص نظم الآيات على تصدير الثورة، ومن شاء الاستزادة مما كتبت فليراجع من صفحة 297 إلى 376.
ونشبت الحرب بين البلدين بينما كان الكتاب في المطبعة، وأرجو أن ييسر الله لي وقتاً أكتب فيه ما عندي من معلومات ووثائق عن هذه الحرب التي أكلت الأخضر واليابس.
وخلاصة رأيي في هذه الحرب أحددها في الأسطر التالية:(30/4)
- العراق رسمياً هو الذي أعلن الحرب على إيران، وعملياً فلقد بدأت إيران هذه الحرب عندما حركت عملاءها داخل العراق بعد وصول الخميني إلى الحكم بقليل، وقام النظام الإِيراني باعتداءات متكررة على المخافر العراقية.
- هناك فرق واسع بين العراق كشعب والعراق كنظام.
أما العراق كنظام فإنني أتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بكرهه، ولا أعرف نظاماً في العالم الإِسلامي بطش بالدعاة إلى الله من أهل السنة بعد نظام أسد النصيري كنظام صدام التكريتي، وأعتقد بأن ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يتخذ من بغداد مقراً له من أخطر الشخصيات الصليبية التي حاربت الإِسلام والمسلمين في العصر الحديث.
أما العراق كشعب وأرض فليمثل قوة لا يستهان بها، وللجيش العراقي مواقف بطولية في الحروب العربية الإِسرائيلية، وتحييد هذا الجيش خسارة كبيرة للعرب.
- من فضل الله وتوفيقه صمود العراق طوال هذه المدة .. وسقوط العراق يعني اجتياح باطني مجوسي لدول الخليج وبلاد الشام يعيد للأذهان ذكريات الاجتياح القرمطي والعبيدي.
ومن فضل الله أيضًا أن سخر الطاغية صدام ليواجه الطاغية خميني.
- الذين يتوسطون بين البلدين يجهلون العقلية التي يفكر بها الرافضة في القديم والحديث. إن احتلال العراق مسألة حياة أو موت بالنسبة لنظام خميني .. ولن تتوقف هذه الحرب إلا إذا سقط نظام صدام، أو هلك الخميني واختلف الوارثون على تركته، أو إذا أفلس نظامه وانفض عنه حلفاؤه.
- عجبت من موقف بعض الذين يكرهون الرافضة، وقد دفعهم هذا الكره إلى تعليق الآمال العريضة على شخصية صدام، وراحوا يقولون:
إنه يصوم النهار ويقوم الليل .. ليتق الله هؤلاء الناس، أين هذا التغير المزعوم في شخصية صدام؟!.
هل اتخذ قراراً بحل حزب البعث وأعلن براءته منه؟!.
هل نادى بتحكيم شرع الله.
ليس هناك أي تغير في شخصية صدام وفي نظامه، ولا أدري لماذا هذا النفاق؟!.
4- للذين يكتبون عن الرافضة:(30/5)
نبهت ثورة الخميني كثيراً من أهل السنة إلى خطر الرافضة في العالم الإسلامي فانبرى عدد من أصحاب الأقلام إلى الكتابة في هذه المسألة، ونصيحتي لهؤلاء الدعاة أن يهتموا بالأمور التالية:
- شيعة اليوم لا يختلفون عن سلفهم القدامة في الأصول والفروع.
- بيان فساد أصولهم بأسلوب عصري يفهمه شبابنا الذين يصعب عليهم العودة إلى الكتب القديمة.
- شعارهم: التقارب مع أهل السنة يعني تضليل أهل السنة.
- أحوال المسلمين السنة في إيران قبل الثورة وبعدها.
- متابعة مخططاتهم في العالم الإسلامي، وفضح تحالفاتهم مع أعداء الإِسلام من اليهود والنصارى والعلمانيين.
- الأمانة في النقل، وعدم المبالغة في تقدير قيمة ما يكتب .. ويجب أن نعترف بأننا جميعاً عالة على ما كتبه فحول علمائنا، أمثال شيخ الإِسلام ابن تيميه - رحمه الله - في سفره النفيس (منهاج السنة)، وقد ضم هذا الكتاب أهم أقوال وآراء رجال خير القرون في الشيعة وفرقهم .. ومن المؤسف أن بعض الكتاب المحدثين يوهمون القراء بأنهم وحدهم الذين تصدوا للشيعة، ولم يسبقهم أحد إلى قول كذا وكذا .. فهذا منهم غرور ونسأل الله لنا ولهم العفو والعافية.
* * *
وأخيراً: سوف أستمر إن شاء الله في فضح أوكار الرافضة ومخططاتهم ومؤامرتهم في العالم الإسلامي، وسيكون كتابي القادم عن أوضاع المسلمين السنة في إيران، وعن الحرب العراقية الإِيرانية، وأنا أعلم جيداً موقف الرافضة من نشر مثل هذه الكتب، كما أعلم قدرتهم على شراء ضمائر بعض المنسوبين لأهل السنة .. أعلم ذلك كله، ورغم ذلك سأمضي في هذا الطريق.
أما الذين قالوه ما قالوه عن الكتاب ظلماً وكذباً وحسدًا فلن أقول عنهم بالحق ما يعجزون عن قوله عني بالباطل لأنني احتسبت هذا القلم لفضح أعداء الله والدفاع عن الإِسلام، وليس للدفاع عن نفسي، وسأظل أتمثل قول الشاعر:
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً(30/6)
فاللهم تقبل منا واختم بالصالحات أعمالنا.
الفصل الأول
من غير تعليق
الدروز والاجتياح الإسرائيلي
في مقابلة أجرتها مجلة المجتمع الكويتية – في عددها رقم 595 الصادر بتاريخ 30 يناير عام 1403هـ مع الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية صلاح خلف قال عن سبب وصول القوات الإِسرائيلية إلى مشارف بيروت:
(إن عدم وجود عمق لساحة القتال في الجنوب شكل عائقاً لنا، فقد كان المدى الأرضي أحياناً لا يزيد في الجنوب عن أربعين متراً ونحن محاطون بالعدو من البر والجو والبحر وبعد صيدا مباشرة حرمنا من أن نضع مدفعاً واحداً من قبل الدروز، ورئيس الحركة الوطنية بالذات، أما القوات السورية في الجنوب فحسب ادعاء السوريين ليست للقتال).
وقال عن الدروز أيضاً: (أنا لا أستحي أبداً من الحقيقة .. الأخ وليد جنبلاط، رئيس الحركة الوطنية، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني، رفض أن تتواجد أو تنقل أسلحة إلى منطقة نفوذه في الشوف .. قال لنا: إن عنده أسلحة كافية وسيقاوم في الشوف ونحن نعلم أنه كان عنده فعلاً سلاح جيد، لكن الذي حدث أن الأخ وليد وإخواننا الدروز لم يقاتلوا خلال الغزو الأخير .. ورأينا مجيد أرسلان وفيصل أرسلان وجماعتهما بعد أن وعدوا المسلمين بالقتال معهم ضد بشير الجميل والكتائب، تخاذلوا أمام الأموال بينما انحشرنا نحن في شريط ساحلي ضيق من صور لصيدا لبيروت والمعركة الوحيدة التي دارت على مدى خمسة أيام في الشرط الساحلي كانت معركة [خلدة] البطولية التي استشهد فيها خيرة رجالنا والتي كنا فيها وحدنا).
إسرائيل تؤيد التدخل السوري في لبنان
1- صرح شمعون بيريز وزير دفاع [العدو الصهيوني السابق] أن هدف إسرائيل هو نفس هدف دمشق بالنسبة للمسألة اللبنانية، وقال أيضًا: (يجب أن نمنع وقوع لبنان تحت سيطرة منظمة التحرير الفلسطينية).
وكالة الصحافة الفرنسية 29 سبتمبر 1976م(30/7)
2- أعلن إسحاق رابين رئيس وزراء العدو الصهيوني السابق في تصريح نقلته أجهزة إعلامهم: (إن إسرائيل لا تجد سبباً يدعوها لمنع الجيش السوري من التوغل في لبنان، فهذا الجيش يهاجم الفلسطينيين وتدخلنا عندئذٍ سيكون بمثابة تقديم المساعدة للفلسطينيين ويجب علينا ألا نزعج القوات السورية أثناء قتلها للفلسطينيين فهي تقوم بمهمة لا تخفى نتائجها الحسنة!! بالنسبة لنا). وجاء دور المجوس ص 418
3- قال جوناتان راندال في كتابه مأساة لبنان: (وطوال سنة 1976م كانت السفن السورية والإِسرائيلية تقوم بدوريات في قطاعات مختلفة من الساحل اللبناني لمنع تزويد الفلسطينيين بأية إمدادات، وقدمت الدولتان أسلحة وذخيرة للمليشيات المسيحية).
مجلة المجلة، العدد 172 تاريخ 28 مايو 1983م
التعاون اليهودي الشيعي
- (نحن والله نعلم أن حكام طهران أشد خطراً على الإسلام من اليهود ولا ننتظر منهم خيراً، وندرك جيداً أنهم سيتعاونون مع اليهود في حرب المسلمين، وأن الذين يتآمرون على العراق والخليج ولبنان وسورية لن ولن يحاربوا إسرائيل).
وجاء دور المجوس، ص 374، عبد الله محمد الغريب
- قالت وكالة رويتر في تقرير لها من النبطية في 1- 7- 1982م أن القوات الصهيونية، التي احتلت البلدة سمحت لمنظمة (أمل) بأن تحتفظ بالمليشيات الخاصة التابعة لها، وبحمل جميع ما لديها من أسلحة. وصرح أحد قادة مليشيا منظمة (أمل) ويدعى حسن مصطفى (أن هذه الأسلحة ستستخدم في الدفاع عنا ضد الفلسطينيين).
اسمعي يا منظمة التحرير
- ذكرت صحيفة (ريبو بليكا) الإِيطالية أن فلسطينياً من المعاقين لم يكن يستطيع السير منذ سنوات رفع يديه مستغيثاً في شاتيلا أمام عناصر (أمل) طالباً الرحمة، وكان الرد عليه قتله بالمسدسات مثل الكلاب .. وقالت الصحيفة إنها الفظاعة بعينها.
الوطن، عدد 3688، 27 مايو 1985م
اليهود أفضل منهم(30/8)
تصيح سيدة فلسطينية وهي تتفحص صف الجثث الطويل: (اليهود أفضل منهم).
وفتاة لم تتجاوز العشرين من عمرها تنتحب وتصيح مشيرة إلى جثة منتفخة ملفوفة في بطانية خشنة تلطخها الدماء: هذا أخي .. وتشير إلى جثة أخرى: وذلك أخي الثاني .. ثم تشير إلى واحد من مسلحي أمل وتقول: هم فعلوها!! .. أصغر الضحايا .. طفل لم يمهله الموت سوى بضعة شهور .. جثته الصغيرة الطاهرة تكاد لا ترى من القماش الأبيض المتسخ الذي لفت فيه .. هكذا يقول الصليب الأحمر.
بيروت، وكالة –أ- ب، 7 يونيو 1985م
نريد التخلص من الفلسطينيين
قال داني شمعون ابن كميل شمعون: (إننا نريد التخلص من الفلسطينيين سواء بالقوة أو بغيرها، وعلى دول البترول العربية الغنية التي تساندهم (!!) وأن تجد لهم مكاناً في أقطارها، وحتى لو جرد الفلسطينيون من السلاح فإننا لن نوافق على بقائهم في لبنان). صحيفة (هاندلسبلات) الصادرة في روتردام أوائل أغسطس 1976م
وما ذكرته مقطع من مقال نشرته الصحيفة تحت عنوان: (وقف إطلاق النار في لبنان يبقى حلماً).
شعار جديد
(لا إله إلا الله والعرب أعداء الله) شعار ردده متظاهرون من حركة أمل في 2 يونيو 1985م احتفالاً بيوم (النصر) بعد سقوط مخيم صبرا وموت الكثيرين داخله من الجوع.
الوطن الكويتية، العدد تاريخ 3 يونيو 1985م
قوات حبيقة
ذكرت صحيفة (السفير اللبنانية) في عددها الصادر في 16 أبريل 1985م أن بواخر تابعة للقوات اللبنانية – الكتائبية نقلت مسروقات من مناطق تلال شرقي صيدا قيمتها ثلاثة مليارات ليرة لبنانية عبر ساحل الشوف الأسفل إلى الشطر الشرقي من العاصمة.
وأضافت أن هذه البواخر عادت إلى شرق بيروت وهي تحمل المسروقات بعدما كانت قد وصلت إلى مرفأ الجية على ساحل إقليم الخروب في الشوف الأسفل وفي تنقل تعزيزات وأسلحة للقوات اللبنانية – الكتائبية.(30/9)
وكانت أنباء قد ذكرت قبل أسبوع أن منازل نحو أربعة آلاف عائشة مسلمة في مناطق تلال صيدا قد أفرغت من محتوياتها المقدرة بنحو ثلاثة مليارات ليرة.
وأوضحت أن القوات الكتائبية نقلت المسروقات بواسطة الشاحنات إلى ساحل إقليم الخروب ومن هناك جرى نقلها بحراً إلى الحوض الخامس في شرق العاصمة.
وكالة الأنباء الكويتية، وصحيفة الشرق الأوسط 17 أبريل 1985م
أمل وقوات حداد
نشرت مجلة (الأيكونومست) في عددها الصادر في نهاية الشهر السابع من عام 1982م أن 2000 مقاتل من عناصر منظمة (أمل) الشيعية انضمت إلى قوات مليشيا سعد حداد، وتوقعت المجلة أن ينضم عدد أكبر منهم إلى (الحرس الوطني) الذي ترعاه إسرائيل في جنوب لبنان.
بري يتبادل الرسائل مع تل أبيب
أكد وزير الخارجية السويدي (بيير أوبيرت) في جنيف في 24 يونيو 1985م أنه نقل رسالة من رئيس حركة أمل نبيه بري إلى القيادة الإِسرائيلية.
ونسبت (كونا) لأوبيرت قوله للصحفيين صباح 24 يونيو 1985م: (إن تبادل الرسائل بين حركة أمل والقادة الإِسرائيليين جرى يوم الجمعة الماضي إلا أنه رفض إعطاء تفاصيل أخرى). الوطن الكويتية 25 يونيو 1985م
مصالح أمل وإسرائيل واحدة
قالت صحيفة (الجروزاليم بوست) في عددها الصادر بتاريخ 23 مايو 1985م: (إنه لا ينبغي تجاهل تلاقي مصالح أمل وإسرائيل، التي تقوم على أساس الرغبة المشتركة في الحفاظ على منطقة جنوب لبنان وجعلها منطقة آمنة خالية من أي هجمات ضد إسرائيل.
إن إسرائيل ترددت حتى الآن في تسليم أمل مهمة الحفاظ على الأمن والقانون على الحدود بين فلسطين ولبنان، وإن الوقت حان لأن تعهد إسرائيل إلى أمل بهذه المهمة).
ثقة الاستخبارات اليهودية بأمل(30/10)
نقلت وكالة الأنباء في 6 يونيو 1985م عن رئيس الاستخبارات العسكرية اليهودية (أهود برادك) قوله: (إنه على ثقة تامة من أن "أمل" ستكون الجبهة الوحيدة المهيمنة في منطقة الجنوب اللبناني، وأنها ستمنع رجال المنظمات والقوى الوطنية اللبنانية من التواجد في الجنوب والعمل ضد الأهداف الإِسرائيلية).
ماذا تريد إسرائيل من لبنان؟!
قال وزير الاقتصاد الإِسرائيلي دان ميردور: (إن هدف إسرائيل الدائم هو إزالة المخيمات الفلسطينية نهائياً من الوجود، فنحن نريد أن يغادر جميع اللاجئين لبنان وتذويبهم في المجتمعات العربية التي سيذهبون إليها).
السفير اللبنانية، 3 أغسطس 1982م
مؤامرة يهودية .. ولكن من ينفذها
في 25 مايو 1985م دعت صحيفة (البعث السورية الرسمية إلى القضاء على جماعة عرفات نهائياً في المخيمات .. وقالت: (إن ما يجري مؤامرة يهودية أميركية ينفذها عرفات)!!!.
المبحث الثاني
فقرات مختارة من كتابي الأول وجاء دور المجوس
أولاً: أصول لا بد من معرفتها:
1- إن مركز القيادة الشيعة والفرق الباطنية المتفرعة عنها في العالم الإِسلامي هو إيران. أشار الخميني إلى هذه الحقيقة في كتابه (الحكومة الإِسلامية)، وصرح بذلك ما يسمى بآية الله شريعتمداري في لقاء له مع صحيفة السياسة الكويتية تاريخ: 26 يونيو 1987م، بل وقال بالحرف الواحد: (إن زعامة الشيعة في إيران وفي قم بالذات).
وأضاف قائلاً: (لا بد من مجلس أعلى للشيعة في العالم).(30/11)
وإذا كان لا بد من التفريق بين الشاه المخلوع والزعماء الدينيين، فالتنظيم الباطني الرافضي العالمي كان ولا يزال مرتبطاً بالزعماء الدينيين وليس بالشاه، مرتبطاً بهم من خلال [الحسينيات] و [الحوزات العلمية]، ويتولى العلماء الإِيرانيون توجيه وتثقيف الشيعة في معظم بلدان العالم، ونراهم يغيرون ويبدلون في أسمائهم فيحذفون منها الكنية الفارسية، ويضيفون إليها أصلاً عربياً ومن ثم يزعمون أنهم من أصل عربي، ومن آل البيت، وأن جدهم هاجر لإِيران قبل كذا سنة، وأنهم اليوم عادوا إلى وطنهم وأملاكهم، ويشهد لهم بذلك جميع الشيعة من سكان البلد العربي الذي استوطنوا فيه.
2- ليس لخلافات الشاه المخلوع مع الخميني أثر كبير عند أبناء الطائفة خارج إيران، فالمهم ولاء الطائفة وأنصارها للقيادة السياسية والزعامة الدينية في إيران معاً.
مثال: كان لقيادة النظام النصيري في سورية صلات وثيقة مع شاه إيران المخلوع ونظامه، وصارت لهم صلات أوثق وأقوى مع الثورة الجديدة بقيادة الخميني، وليس هناك من يقول: (كيف كانت علاقتهم قوية مع الشاه ثم أصبحت كذلك مع الخميني)؟!. المهم أنهم حلفاء وأنصار للقيادة السياسية الإِيرانية مهما كانت هويتها، وللزعامة الدينية في قم.
3- ليس للخلافات التي كانت قائمة – ولا تزال – بين أسرة بهلوي من جهة والآيات من جهة أخرى، أو بين الآيات والأحزاب المعارضة .. ليس لهذه الخلافات أي تأثير على سياسية إيران الخارجية وأطماعها في عدد من الدول المجاورة.
فالشاه محمد رضا كان ينادي بالبحرين وشط العرب، وكان قد احتل الجزر العربية الثلاثة [طنب الكبرى، والصغرى، وأبي موسى].(30/12)
وجاء زعماء ثورة الخميني فزعموا أن الجزر المحتلة فارسية، وأن الخليج فارسي، وتمادوا أكثر فطالبوا بالبحرين والعراق ومكة والمدينة وجنوب لبنان، بل ويحاولون إقامة امبراطورية شيعية كبرى تمتد لتشمل جميع البلدان الإِسلامية تحت قيادة فارسية كما نص دستورهم مؤخراً. وقال مثل هذا الكلام الدكتور شابور بختيار رئيس وزراء إيران السابق.
4- يتعمد الشيعة والنصيريون وسائر الفرق الباطنية إصدار التصريحات المتضاربة، ويفتعلون الخلافات، فهذا يهدد بتصدير الثورة وبعد أن يصبح هذا التهديد حديث العالم يصدر مسؤولاً آخر تصريحاً يؤكد فيه أن ثورتهم غير قابلة للتصدير، وأن الذي أصدر التصريح الأول ليس مسؤولاً.
ومن ثم فالباطنيون يركبون كل موجة من موجات التحرر والوطنية والثورية والجمهورية وما إلى ذلك من شعارات حديثة، والشعارات التي يرفعونها ليس أكثر من استهلاك محلي، وتخطيط مرحلي، وتراهم يقولون شيئًا ويقصدون شيئًا آخر .. وهذا الأسلوب يتمشى مع عقيدتهم في التقية، ويلائم شدة إيمانهم بالسرية.
لقد كذب الروافض على الله وعلى رسوله (، كما كذبوا على الصحابة وعلى علي وأبنائه رضوان الله عليهم أجمعين، وملأوا التاريخ دساً وافتراءً، وسبق أن نقلنا – في الباب الثاني – أقوال علماء الجرح والتعديل فيهم، فلا يصح اعتقاد الصدق بأقوالهم وأفعالهم.
وهم بعد ذلك أشربوا الغدر، فمن يراقب أحوالهم يرى أنهم يستمرون سنوات طويلة في حركة من الحركات الوطنية، حتى يتمكنوا من السيطرة عليها واحتوائها، فإذا نجحوا في تحقيق هدفهم قلبوا ظهر المجن لشركائهم، وداسوا بأقدامهم الشعارات التي كانوا يطوفون حولها ويدعون الناس إلى تعظيمها وعبادتها.(30/13)
ووصف علماؤنا أسلوبهم هذا فقالوا: (يميلون إلى كل قوم بسبب يوافقهم، ويميزون من يمكن أن يخدعوه ممن لا يمكن، فهم يدخلون على المسلمين من جهة ظلم الأمة لعلي وقتل الحسين رضي الله عنهما، وإن كان المخاطب يهودياً دخلوا عليه من جهة انتظار المسيح ومسيحهم هو المهدي، وإن كان نصرانياً فاعكس وهكذا).
أما السرية فأصل من أصولهم حتى لو كان الحكم لهم، وفي هذا دليل على غموضهم وعدم وضوح أهدافهم، فهم يقولون في أجهزة إعلامهم شيئًا، ويبيتون في الخفاء خلافه، وكل من يتعامل معهم لا بد أن يهيئ نفسه لمفاجآت كثيرة تخالف ما يعرفه عنهم.
5- ينظر الباطنيون الرافضة إلى المسلمين العرب بمنظار الحقد والكراهية، لا لشيء إلا لأنهم هدموا مجد فارس وقهروا سلطان كسري، والتاريخ خير شاهد على عمق تعاونهم مع الكفرة والمشركين والاستعانة بهم ضد السنة المسلمين: (لقد استخدمهم التتار في أبشع مجازر شهدها التاريخ الإِسلامي، وكان زعيمهم نصير الكفر الطوسي وزير [هولاكو]).
واستخدمهم النصارى في الحروب الصليبية المشهورة، وتطوع النصيريون فقاتلوا المسلمين في ساحل بلاد الشام، وعملت الدولة العبيدية المجوسية كل ما تقدر عليه من أجل تثبيت أقدام الصليبيين في مصر، كما قام بعض الأمراء من الشيعة الإِمامية بتسليم مناطقهم للصليبيين دون قتال في بعض أجزاء بلاد الشام.
واستخدمهم البرتغاليون والإنجليز ضد الدولة العثمانية المسلمة وضد المسلمين بشكل عام، ولعب الصفويون دوراً خبيثاً في تمكين الكفرة المستعمرين من ثغور بلاد المسلمين، وسنذكر شواهد كثيرة في الفصول المقبلة على تعاونهم مع الموارنة وأمريكا وإسرائيل كما حصل في حرب لبنان عام 1975م، وكما هو حاصل في إيران اليوم.
إنهم مطايا لأعداء الإِسلام في كل عصر ومصر، وواهم جداً من يحسن الظن بهم ويعتقد بأن شيعة اليوم خير من شيعة الأمس.(30/14)
6- للباطنيين الرافضة جذور اشتراكية قديمة، وما القرامطة إلا غصن من غصون شجرتهم الخبيثة التي غرسها [مزدك]، وجاء أبو حامد القرمطي من بعده ليتعهدها ويرعاها.
ومن الأساليب الخبيثة التي يستخدمها الباطنيون الرافضة في نشر دعوتهم الفوضى فلا يأمن الإِنسان في ظل أنظمتهم على نفسه وماله وعرضه، ويستغلون هذه الفوضى فيعمدون إلى تصفية خصومهم وإرهاب من لم تتم تصفيته.
7- ليس في عقيدتهم أصول تمنعهم من المحرمات أو تردعهم عن فعل المنكرات، فإيمانهم بالتقية جعل منهم أكذب أمة، وعقيدتهم في المتعة جعلت معظمهم زناة بغاة، ووقاحتهم مع أصحاب رسول الله ( سهلت عليهم شتم المؤمنين والافتراء على المتقين.
وبعد: لا بد أن يتذكر القراء هذه الأصول عند قراءة كتب الرافضة، وعند الدخول معهم بحوار، وعند متابعة أنشطتهم وتقويم منهجهم ومخططاتهم. ومن يتصدى للحكم عليهم ويتجاهل هذه الأصول سيجد نفسه أمام تناقضات .. فقد يحكم عليهم من خلال رأي سمعه من أحد زعمائهم، ويقبل هذا الرأي لأنه لا يعلم أن عقيدة هذا الزعيم تبيح له الكذب [التقية]، ومن ثم قد يقرأ رأياً لهذا الزعيم يناقض ما سمعه منه فيقول بكل سذاجة وغفلة عن الرأي الثاني: لقد افترت الجهة التي نقلت عنه(1).
ثانياً: الثورة الإِيرانية ومنظمة التحرير:
كان ياسر عرفات أول من زار طهران مهنئًا، وراح يوزع قبلاته المشهورة على وجوه قادة الثورة وخاطب الخميني قائلاً: (إن ثورة إيران ليست ملكاً للشعب الإِيراني فقط .. إنها ثورتنا أيضًا فنحن نعتبر الإِمام الخميني ثائرنا ومرشدنا الأول [عرفات يقوم مثل هذا الكلام لكاستروا] الذي يلقي بظله ليس على إيران فحسن بل على الأماكن المقدسة والمسجد الأقصى في القدس).
__________
(1) وجاء دور المجوس ص217-224، باختصار يسير.(30/15)
وفي 11 فبراير 1979م تحولت سماء المخيمات الفلسطينية في بيروت والضواحي المحيطة بها إلى كتلة من النيران، فقد أخذ الفلسطينيون والمواطنون اللبنانيون كذلك يطلقون العيارات النارية من مختلف الأسلحة بكثافة غير عادية ابتهاجاً بنجاح ثورة الخميني.
ترى هل نسي قادة المنظمة دور الرافضي الباطني حافظ الأسد وكيف وقف مع الموارنة ضد الفلسطينيين واللبنانيين المسلمين؟!. أم نسوا غدر الصدر بهم عندما انضم إلى الجيش النصيري عند دخوله لبنان، وأمر منظمته أمل وعساكره التي تعمل في جيش لبنان العربي الانضمام إلى الجيش النصيري؟!.
إلى متى يبقى الفلسطينيون سلماً لطلاب الزعامة في العالمين العربي والإِسلامي؟!.
واختارات منظمة التحرير المهرج المعروف [هاني الحسن] ليكون مندوبها في طهران، وناطقاً فضولياً باسم حركة الخميني، ولا يخجل من الوقوف خطيباً في إحدى المظاهرات ويقول: (غداً تركيا وبعد غد فلسطين)(1).
وتركيا السنة عدوة تقليدية لإِيران الرافضة، وهذه هي المهمة التي تريدها حركة الخميني من منظمة التحرير، تريد أن تسخر الفلسطينيين كما سخرهم عبد الناصر من قبل وأوعز إليهم أن يرددوا: تحرير الرياض وعمان ودمشق وبغداد قبل تحرير فلسطين.
وسيستمر هاني الحسن وعرفات وسائر قادة المنظمة بسياسة التضليل والدجل وغسل الأدمغة، ومن فقد إيمانه وعقيدته فقد كل شيء والعياذ بالله(2).
ثالثاً – ظاهرة الصدر والحرب اللبنانية:
موسى الصدر إيراني المولد والجنسية، مواليد عام 1928م تخرج من جامعة طهران، كلية الحقوق والاقتصاد والسياسة، ووصل لبنان عام 1958م نزل ضيفاً على آل شرف الدين في مدينة صور.
__________
(1) هذا الشعار ردده ثوار الخميني، قبل أن يهتف به ببغاء المنظمة في طهران، وليس هدفهم سقوط النظام العلماني في أنقرة، وإنما هدفهم سقوط مذهب أهل السنة والجماعة في تركيا.
(2) وجاء دور المجوس، ص 290-294 باختصار.(30/16)
قال عنه السياسي الإِيراني الدكتور موسى الموسوي: (في عام 1958م أرسل الجنرال بختيار مدير الأمن العام الإِيراني موسى الصدر إلى لبنان وزوده بالأموال اللازمة .. وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ أصبح هذا الشخص رئيساً للمجلس الشيعي الأعلى، وقد صرفت الحكومة الإِيرانية لتوليته هذا المنصب أكثر من مليون ليرة لبنانية).
وقال كامل الأسعد في حديث نشرته مجلة الحوادث اللبنانية في 3 يناير 1975: (لقد أبدى أقطاب النهج [أنصار فؤاد الشهاب من النصارى وضباط المخابرات اللبنانية] الذين كانوا وراء مطلب إنشاء المجلس الإِسلامي الأعلى، تحبيذهم لتعيين السيد موسى الصدر رئيساً للمجلس، والجميع يذكر كيف كان السيد موسى الصدر خلال تلك الفترة التي امتدت عدة سنوات تابعاً للعهد وزعمائه).
وقال الأسعد أيضًا: (إن هناك أكثر من علامة استفهام تدور حول الخطة التي ينفذها السيد موسى الصدر والأشخاص الذين يؤيدونه هنا في الخارج، وأبعاد هذه الخطة في لبنان والخارج).
والذي قاله الأسعد والموسوي موافق لأقوال معظم الذين كتبوا عن الصدر، وقد لمع نجمه في لبنان، ومنحه فؤاد شهاب الجنسية بموجب مرسوم جمهوري مع أنه إيران ابن إيراني.
وفي بداية السبعينات أنشأ الصدر حركة المحرومين ووضع لها شعارات براقة: كالإيمان بالله، الحرية، التراث اللبناني!!، العدالة الاجتماعية، الوطنية، تحرير فلسطين، الحركة لجميع المحرومين وليست خاصة بالشيعة.
وأنشأ جناحاً عسكرياً لحركة المحرومين أسماه [أمل]، وحرص على أن يكون سرياً، بل كان يتظاهر بأنه ضد التسلح، وعندما بدأت الحرب اللبنانية كانت خطة الصدر فيها على الشكل التالي:
له منظمة مسلحة – أمل – في الجنوب وبيروت والبقاع، وكانت هذه المنظمة متعاونة مع القوات الوطنية، وله عناصر كثيرة في جيش لبنان العربي كان من أبرزهم مساعدو أحمد الخطيب، وكان للصدر وشيعته صلات وثيقة مع منظمة التحرير.(30/17)
وأكثر الجهات التي كان يتعاون معها النظام النصيري في سورية، ولقد رأينا في الصفحات الماضية كيف استصدر مرسوماً حكومياً أصبح نصيريو الشمال اللبناني بموجبه شيعة، وعين لهم مفتياً جعفرياً، وكان الصدر الساعد الأيمن لكل مسؤول سوري يدخل لبنان من أجل التوسط في النزاع القائم بين المسلمين اللبنانيين والفلسطينيين من جهة والموازنة من جهة أخرى.
وعندما دخل الجيش النصيري إلى لبنان استبدل الصدر وجهه الوطني الإسلامي بوجه باطني استعماري وقام بالدور التالي:
أمر الضابط إبراهيم شاهين فانشق عن الجيش العربي، وأسس طلائع الجيش اللبناني الموالية لسورية، كما انشق الرائد أحمد المعماري شمال لبنان وانضم إلى الجيش النصيري، وكان جيش لبنان العربي أكبر قوة ترهب الموارنة، فانهار لأنه ما كان يتوقع أن يأتيه الخطر من داخله أي من شاهين وغيره، وأمر الصدر منظمة أمل فتخلت عن القوات الوطنية، وانضم معظم عناصرها إلى جيش الغزاة.
وبدأ الصدر بمهاجمة منظمة التحرير. نقلت وكالة الأنباء الفرنسية في 12 أغسطس 1976م اتهام الصدر للمنظمة بالعمل على قلب النظم العربية الحاكمة وعلى رأسها النظام اللبناني، ودعا الأنظمة إلى مواجهة الخطر الفلسطيني، ونقلت بعض الصحف اللبنانية هذا النصري.
وكانت ضرب الصدر مؤلمة مما جعل مثل المنظمة في القاهرة يصدر تصريحاً يندد فيه بمؤامرة الصدر على الشعب الفلسطيني وتآمره مع الموارنة والنظام السوري.
وما من معركة خاضها جيش لبنان العربي والقوات اللبنانية والفلسطينية إلا ووجدوا ظهورهم مكشوفة أمام الشيعة. فمثلاً خاضوا معركة قرب بعلبك والهرمل فاتصل الشيخ سليمان اليحفوفي المفتي الجعفري هناك بالجيش النصيري وسار أمامه حتى دخل بعلبك فاتحاً على أشلاء المسلمين.(30/18)
وعندما طلب الوزير خدام من زعماء المسلمين أن يوقعوا على ميثاق وطني تكرس بموجبه رئاسة الجمهورية للمارون رفض زعماء المسلمين جميعاً هذا الطلب إلا موسى الصدر فقد وافقه عليه.
وفي 5 أغسطس 1976م نقلت وكالة الأنباء الفرنسية أن الصدر دعا إلى اجتماع ضم أساقفة الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والموارنة الكاثوليك وعدداً من أعيان البقاع ونوابها، وتم عقد الاجتماع في قاعدة رياق الجوية من أجل تشكيل حكومة محلية في المنطقة التي يسيطر عليها السوريون النصيريون.
أدرك الوطنيون اللبنانيون كما أدرك الفلسطينيون حقيقة الدور الذي يقوم به الصدر، فحاولوا اغتياله، وأقدموا على نسف بيته في بعلبك لكنه نجا من الموت، وضاقت عليه الأرض بما رحبت فالتجأ إلى دمِشق وسكن في حي الروضة تحت حراسة إخوانه النصيريون، وصار يمثله في المؤتمرات والمفاوضات في لبنان نائبه الشيخ محمد يعقوب.
وما اكتفى موسى الصدر وشيعته بالتعاون مع حكام سوريا، وإنما أخذوا يطالبون بوقف العمل الفدائي وإخراج الفلسطينيين من الجنوب ومن أجل ذلك وقعت صدامات ونظم الشيعة إضراباً عاماً في صيدا وطالبوا بإخراج المنظمات المسلحة من الجنوب.
وكان الصدر أول من طالب بقوات طوارئ دولية تتمركز في الجنوب، وزعم أن لبنان في هدنة مع إسرائيل ولا يجوز أن يخرقها الفلسطينيون، وعندما جاءت قوات الطوارئ نجح في أن تكون نسبة كبيرة من هذه القوات من إيران، وتعاون معظم زعماء الشيعة في الجنوب مع اليهود وصنيعتهم سعد حداد، وعندما اتخذت الحكومة اللبنانية قراراً بإرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب ثار موضوع تعاون الموارنة مع اليهود، فقال بيار الجميل: (إن الشيعة تعاملوا مع إسرائيل قبل الموارنة، وقال سعد حداد: إن أعيان الشيعة في منطقة الحدود يؤيدون هذه الدولة.(30/19)
ومن أجل ذلك عقد المجلس الشيعي الأعلى اجتماعاً، وأصدر في نهاية الاجتماع بياناً ناشد فيه شيعة الجنوب مساندة الجيش اللبناني الشرعي حتى يتمكن من أداء مهمته، وفي ردهم على اتهامات سعد حداد لهم قالوا: (إن أعيان الشيعة في الجنوب لم يتعاملوا مع اليهود ولكن التزموا الصمت خوفاً من التعرض لعمليات القمع.
أليس من المؤسف بعد هذا كله أن يقبل مؤيدو المنظمة رأي قيادتهم في إعادة التعاون مع النظام النصيري، بل عدد هؤلاء يغنون لأبي سليمان [حافظ الأسد] في أفراحهم.
أليس من المؤلم أن يعتبر زعماء المنظمة اختفاء الصدر مؤامرة إسرائيلية ضد زعيم وطني ناصر القضية الفلسطينية؟! هل رأيتم شعباً كشعبنا يتقرب لجلاديه ويهتف بحياة قاتليه؟!.
رابعاً: موسى الصدر وثورة الخميني:
يزعم آل الخميني وآل الصدر أنهم من آل بيت رسول الله (، وهناك وجوه أخرى للقرابة، فابن الخميني أحمد متزوج من بنت أخت موسى الصدر وابن أخت الصدر مرتضى الطبطبائي متزوج من حفيدة الخميني، ونائب رئيس وزراء إيران الحالي الدكتور صادق الطبطبائي هو ابن شقيقة الصدر، وعاش معه مدة طويلة في لبنان، وكان للصدر صلات قوية مع الدكتور مهدي بازركان والدكتور إبراهيم يازدي، وصادق قطب زاده.
والدكتور مصطفى جمران وزير الدفاع الإيراني من أكبر أعوان موسى الصدر. فلقد كان مديراً لمدرسة في صور أنشأها الصدر، وكان يتولى الإشراف على فروع منظمة [أمل] العسكرية قبل نشوب الثورة الإيرانية.
وزير الدفاع الإيراني كان يسمى في لبنان مصطفى شمران، وفي إيران مصطفى جمران، وهكذا فالتخطيط الشيعي لا يعرف وطناً ففي عام من الأعوام تراه زعيماً لبنانياً، وفي عام آخر تراه زعيماً إيرانياً.(30/20)
وقصارى القول فلقد استفاد شيعة الخميني من المنظمة كثيراً قبل سقوط الشاه، لقد قامت المنظمة بتدريبهم على السلاح والقتال، وقدمت لهم مساعدات مالية وعسكرية، وبعد سقوط الشاه وجد ثوار الخميني أن أفضل شعار يلجأون إليه من أجل الزحف على البلدان العربية المناداة بتحرير القدس وفلسطين.
وسادة قم يحركون منظمة التحرير كما كان كسرى يحرك المناذرة من قبل والعكس غير جائز مطلقًا، لقد حاول قادة المنظمة أن يستغلوا قضية احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية فيتوسطوا بين كارتر والخميني ولكن الأخير أغلق الأبواب بوجوههم ورد عليهم أشد رد وأقبحه.
ويعلم ثوار الخميني أنه ما من طاغوت عربي إلا وقد استغفل الفلسطيني وقضية فلسطين، وأن قادة وكوادر المنظمة لم تأخذ العبرة من استغلال البعثيين والشيوعيين والناصريين لهم.
والمنظمة مستعدة أن تيسر مع حكام طهران الجدد إلى نهاية الشوط ولو أعادوا لهم ذكريات تل الزعتر وجسر الباشا، ومجازر صيد والبقاع ولا ندري إلى متى سيبقى هذا اليوم – عرفات – ينعق أمام الفلسطينيين المسلمين ويقودهم من هلاك إلى هلاك(1).
حقاً لو كانت القيادة الفلسطينية إسلامية لم تخدع مراراً بالصدر والأسد، لأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
---
الفصل الثاني
المبحث الأول
الاعتداءات على المخيمات التي سبقت مجازر أمل
بدأ نشاط منظمة فتح الفدائي في مطلع عام 1965م وقد بعثت عملياتهم الأمل في نفوس المسلمين، واستبشروا خيراً من أول بيان صدر، وقد استهله قادة فتح بقولهم: (اتكالاً على الله، وإيماناً منا بواجب الجهاد المقدس).
وبعد الهزيمة النكراء في الخامس من حزيران سنة 1967م اضطرت دول المواجهة إلى تشجيع العمل الفدائي لأنه الورقة الوحيدة التي يستطيعون استخدامها والمتاجرة بها أمام شعوبهم.
__________
(1) تحدثت عن تصريح كامل الأسعد وغيره من القضاء المهمة في الفصل الخامس من هذا الكتاب (شيعة لبنان وحركة أمل). عود على بدء).(30/21)
ومن أجل أن لا يتجاوز العمل الفدائي الهدف المطلوب سارعوا إلى تأسيس ودعم منظمات مشبوهة ومن ذلك: جبهة التحرير العربية التي أسسها حزب البعث العراقي في أول نيسان 1969م، ومنظمة الصاعقة التي أسسها حزب البعث النصيري السوري بعد حرب الخامس من حزيران 1967م، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي أسسها جورج حبش في تشرين الثاني 1967م، ومنظمة قوات الأنصار التي أسسها الشيوعيون، ومنظمة فلسطين العربية التي أسسها الناصريون.
ومعظم هذه المنظمات وجدت لخدمة أنظمة عربية معينة وجهات أجنبية مشبوهة، وكانت أنشطتها في العواصم العربية وليس داخل الأراضي المحتلة، وسوف نستعرض فيما يلي أهم الاعتداءات على المخيمات الفلسطينية ودور هذه المنظمات المأجورة في هذه المؤامرة.
أولاً: معارك أيلول سنة 1970م :
توترت العلاقات الأردنية الفلسطينية بسبب حوادث الشعب الفلسطيني التي كانت تدبرها الجبهة الشعبية – جورج حبش – وما انشق عنها من جبهات.
لقد رفعت هذه المنظمات الشعار المشهور: إن تحرير فلسطين يبدأ من عمان وبقية العواصم الرجعية، وراحت تتحرش بالنظام الأردني، وتحولت إلى عصابات قطاع طرق، فكانت تفرض الأتاوات وتعتقل الأبرياء، وتوجت تصرفاتها الاستفزازية سلسلة عمليات خطف الطائرات بين 6-9 أيلول 1970م، وبالمظاهرات التي اجتاحت شوارع عمان تنادي بسقوط عبد الناصر الذي وافق على مشروع روجرز للسلام في آب 1970م ولأنه قبل قرار الأمم المتحدة رقم 242 الصادر في 22 نوفمبر 1967م وعندما وقعت الواقعة بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير، هرب جيش ومن على شاكلته وتركوا الشعب الفلسطيني المسلم يواجه الموت والدمار.
وفي معارك أيلول ظهرت بطولات الجيش الأردني فارتكب أبشع المجازر في مخيمات عمان وجرش وفي أربد، وقد اضطر بعض الفلسطينيين إلى الفرار من الأردن إلى الضفة الغربية هرباً من بطش الجيش الأردني.(30/22)
وأسفرت هذه المعارك عن قتل أعداء كبيرة من الجانبين، تجاوزت عدد الذين قتلوا في حرب 1967م، وامتلأت سجون الأردن بالشباب والأحرار أما حبش فقال كلمته المشهورة: (لقد حاربت النظام الأردني العميل بمنظمة فتح).
ومما لا شك فيه أن الجهات الاستعمارية التي حركت حبش وحواتمة وأحمد جبريل هي نفسها التي حركت العملاء داخل النظام الأردني وبخاصة جهاز المخابرات.
وتبيين فيما بعد أن عبد الناصر هو الذي أعطى الملك حسين الضوء الأخضر بعد أن توترت علاقاته مع المنظمة وبعد مظاهرات عمان التي نظمتها المنظمات اليسارية، وقد اعترف كبار قادة فتح بهذه الحقيقة فيما نشر من مذكرات(1)، ومقابلات صحفية، وبعد خروج المنظمة من الأردن أعلن الملك حسين عن مشروع المملكة العربية المتحدة.
ثانياً: معارك 1976م وتل الزعتر:
قام أتباع جورج وحواتمة بالدور نفسه الذي كانوا يقومون به في الأردن وكانت منظمة فتح تضطر أخيراً إلى تأييد اليساريين من الفلسطينيين واللبنانيين وأصبح كمال جنبلاط زعيماً لهذا الاتجاه الجديد في لبنان، ولهذا فقد كثرت الاحتكاكات بين السلطة اللبنانية من جهة ومنظمة التحرير من جهة أخرى منذ عام 1970م وحتى عام 1975م، وبعد اختطاف أربعة من الجنود اللبنانيين أمر سليمان فرنجية رئيس الجمهورية اللبنانية جيشه [وقوامه 15 ألف جندي] بضرب الفلسطينيين.
وقام دبلوماسي أمريكي يصف تلك الحوادث: (كانت تلك المرة الأولى التي رأيت فيها الجيش اللبناني فعالاً. فقد جرى قتال عنيف حيث أمطرت طائرات الهوكر هنتر مخيم برج البراجنة بوابل من النيران)(2).
وبدأت الحرب الأهلية في لبنان بحادث [الأتوبيس في عين الرمانة] في 13 أبريل 1975م، ووجد الفلسطينيون أنفسهم طرفاً في الحرب، بل وكانت منظمة التحرير الفلسطينية وفتح بالذات تتحمل العبء الأكبر في هذه الحرب.
__________
(1) انظر كتاب عرفات إرهابي أم صانع سلام.
(2) مأساة لبنان، جوناثان راندال [عن الرأي العام 20 نوفمبر 1983م].(30/23)
واستطاعت القوات الفلسطينية بالتعاون مع القوات الوطنية اللبنانية دحر الكتائبيين وحلفائهم من الموارنة وألحقوا بهم شر هزيمة، وأطبقت القوات الفلسطينية وجيش لبنان العربي على معظم لبنان.
وهنا جاء التدخل السوري بعد أن أدت منظمة الصاعقة والمخابرات السورية، ومنظمة حزب البعث السوري، ومنظمة أمل دورها المطلوب في توتر الأجواء والتمهيد للدور السوري، قال زهير محسن رئيس منظمة الصاعقة: (إننا نفضل حدوث تدخل سوري واسع النطاق لفرض الاستقرار في لبنان، وسوريا هي وحدها التي تستطيع إنقاذ لبنان)(1).
دخلت القوات السورية وقوامها 30 ألف جندي لبنان في 5 يونيو 1976م، وخاضت معارك طاحنة مع القوات المشتركة، وقد تخلى كمال جنبلاط عن الفلسطينيين في أوقات المحنة ووقف مع دروزه على الحياد، أما الشيعة فقد وقف معظمهم إلى جانب القوات النصيرية الغازية.
وانتصر الجيش النصيري، وانتزع من القوات المشتركة: البقاع، وعكار، والجبل، وصيدا، ومنع المؤن والأسلحة من الوصول إلى المقاومة الفلسطينية.
وكان هناك تعاون وتنسيق بين قوات الكتائب وحلفائها وبين الجيش النصيري والقوات الإسرائيلية خلال حصار تل الزعتر، ومما يجدر ذكره أن حصار تل الزعتر تم سقوط مخيم جسر الباشا، ومخيم عين الحلوة، ومخيم برج حمود ومن المعروف أن بيار الجميل طلب في جلسة مجلس النواب اللبناني في 22 مايو 1975م نقل مخيم تل الزعتر من بيروت الشرقية.
وبدأ حصار القوات المارونية لتل الزعتر في أواخر حزيران، وسقط المخيم في 14 أغسطس 1976م بعد حصار دام أكثر من شهر ونصف وبعد منع الماء والغذاء ورجال منظمة الصليب الأحمر من دخول المخيم.
__________
(1) صحيفة القبس الكويتية 13 أبريل 1976م.(30/24)
أجرت صحيفة الوطن الكويتية استطلاعاً عن لبنان في عدده الصادر في 11 أغسطس 1976م، ونقلت عن الملازم أول أبي عبد الله من القوات الليبية – في قوات الأمن العربية – قوله: (إن القص الذي شهده في المناطق الوطنية وفي صيدا بالذات يدين السوريين ويؤكد تورطهم العسكري لصالح الانعزاليين).
ويضيف الملازم أول حسن من القوات الليبية: (لقد قصفوا المطار أربع مرات، سورية تشجعهم ليكتمل الحصار الذي فرضته على المناطق الوطنية بعد أن أغلقت موانئ صيدا وصور وطرابلس، كنت في المطار وشاهدت جريمة قصفه البشعة وضحاياه كانوا مواطنين أبرياء مدنيين وبينهم أطفال).
وقال الملازم أول طه حسين من القوات السودانية: (نحن سعداء إذ نشعر بمثل هذه الألفة بيننا وبين الجماهير. السوريون متورطون في المؤامرة وكل صاحب ضمير يعترف بهذا).
وقال الملازم أول فتحي حسن: (حصار التجويع ومنع رغيف الخبز ومنع الأدوية جرائم بشعة ترتكب بحق الشعبين اللبناني والفلسطيني).
وقال الملازم محمد خليل من القوات الليبية المرابطة في مشارف الهلالية: (إنها مؤامرة تستهدف المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية في لبنان، وكما نرى بأعيننا تفاصيل المعركة سياسياً وعسكرياً نقول: إن الذين ينفذونها كثيرون وإن النظام السوري متورط فيها).
لقد انطلق الصليبيون الموازنة داخل المخيم كالوحوش الكاسرة، وراحوا يذبحون الأطفال والشيوخ، ويبقرون بطون الحوامل، ويهتكون أعراض الحرائر، وظهرت صورهم [على شاشة التلفاز في معظم بلدان العالم] وهم يشربون كؤوس الخمر احتفالاً بالنصر على الفلسطينيين المسلمين، وكانوا يعلقون صلبانهم في أعناقهم.(30/25)
أما تورط إسرائيل في مذبحة تل الزعتر فأماط اللثام عنها شركاء بيجن في الحكم في جلسة من جلسات الكنيست الإسرائيلي نشرت وقائعها الصحف ووكالات الأنباء العالمية، وتبال الحزبان الاتهامات فشمعون بيريز يتهم بيجن وشركائه بمذبحة صبرا وشاتيلا والآخرون يتهمون بيريز بمذبحة تل الزعتر عندما كان وزيراً للدفاع.
تعليق: أتدرون ماذا فعلت الأنظمة العربية بعد هذه المذبحة الرهيبة ؟؟
عقدت مؤتمر قمة عربية، وتم الاتفاق على إيجاد ما يسمى بالردع العربي في لبنان، وكان في حقيقتها غطاء للوجود النصيري، فالقوات السورية الكبيرة استمرت في احتلال وقهر أل السنة في لبنان، وأضاف العرب إليها بضع مئات غير السوريين، وقد تم انسحابهم من لبنان بعد وقت قصير.
ثمة شيء أكثر غرابة من ذلك، لقد تعهدت الأنظمة العربية بمساعدات ضخمة تقدمها لسوريا النصيرية، كما تعهدت الأنظمة العربية بتغطية نفقات القوات السورية العاملة في لبنان. أليست هذه مكافأة لنظام الأسد على جرائمه التي ارتكبها ضد المسلمين ؟!
أما عرفات وصحبه من قادة فتح فخصتهم هذه الأنظمة بشيء من المساعدات وأطفال تل الزعتر ليسوا أطفاله، وهو لا يخجل من هتك الأعراض، ولو كان من الذين يخجلون ما قبل أن تنقل الصحف ووكالات الأنباء صورته وهو يقبل امرأة في مناسبة من المناسبات الفلسطينية الكثيرة.
والمهم أن مخيم تل الزعتر تم تدميره، وتم القضاء على معظم سكانه، وقليل منهم تمكن من النجاة.
ماذا فعل الجيش النصيري في لبنان ؟
نشرت وكالة رويتر للأنباء في 23 يوليو 1976م التقرير الآتي: (عندما انسحب حوالي 4000 جندي سوري من تلال الهلالية التي تشرف على مدينة صيدا في الأسبوع الماضي تركوا في نفوس السكان المحليين شعوراً بالمرارة والانقباض).(30/26)
وكانت الدبابات السورية قد دخلت صيدا في 7 حزيران بعد أن ظلت هذه المدينة بعيدة عن الصراع بسبب سيطرة اليسار عليها، وقال المدافعون عن صيدا: (إنهم دمروا عدة دبابات سورية أو استولوا عليها وأوقعوا إصابات بين السوريين).
وتشهد المباني التي قصت وواجهات المتاجر التي اسودت بفعل النار وبرج دبابة سورية رفع على شرفة الطبقة الخامسة من أحد المباني على ضراوة القتال الذي دار في هذا الميناء.
وعندما انسحب السوريون إلى التلال المطلة على هذا السهل الساحلي، يبدو كما يقول السكان المحليون أنه كان مزيجاً من القصف العشوائي والضرب الصاروخي المحكم.
ففي مصفاة الزهراني على بعد تسعة كيلو مترات إلى الجنوب من هنا أطلق السوريون وبإحكام كبير 96 صاروخاً تسبب في دمار بالغ واحترقت النار في بعض صهاريجها منذ حوالي أسبوع.
وكان مسئول سوري قد قال في لندن أخيراً: (إن المصفاة دمرت في قتال نشب بين فئات فلسطينية وإن الزعم بأن السوريين دمروها يشكل جزءًا من حملة معادية للسوريين).
ولكن بعض عمال المصفاة ويبلغ عددهم 220 عاملاً قالوا: إنهم مقتنعون بأن السوريين تعمدوا مهاجمة المصفاة التي كانت تكرر تقريباً جميع الوقود المستهلك في المنطقة التي يسيطر عليها التحالف الفلسطيني اللبناني.
وكانت الحكومة اللبنانية تزود السوريين بالوقود من هذه المصفاة خلال حرب سنة 1973م مع إسرائيل بعد أن قصف السلاح الجوي الإسرائيلي مصفاة حمص.
وفي إحدى ضواحي صيدا الجنوبية يشاهد مستشفى أصيب بثلاث قذائف وقال العاملون في المستشفى أن القذيفة الأولى جاءت من مدفع سوري حين كان السوريون يزحفون على صيدا.
وحطمت آخر عملية قصف جزءًا من جدار خلفي للمبنى ودمرت جناحين التجأ المرضى فيهما والموظفون إلى الطبقة الأرضية.(30/27)
وقال طبيب وجد أن من الصعب عليه أن يصدق السوريين هم الذين قصفوا المستشفى إنهم ربما كانوا يحاولون ضرب محطة لتوزيع الوقود غير الشارع. وسئل عن رأيه في الوجود السوري فقال: (إني لست طبيباً(1) ولكنه أضاف يقول: لم تحدث أية مشكلة هنا إلى أن جاء السوريون.
قتلوا الأطفال: ويعتبر خيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين خارج صيدا أكبر مخيم في لبنان إذ يقطنه حوالي 45.000 شخص نصفهم من اللبنانيين الفقراء.
ويضم المخيم ملاجئ كثيرة تحت الأرض كان السكان يستخدمونها في السنوات الماضية اتقاء للغارات الجوية الإسرائيلية التي دمرت 400 منزل. وبدت بعض الأضرار الناجمة عن القذائف.
وقال مواطن فلسطيني: إن المخيم ضرب بالقذائف هنا وهناك وقد قتل صبيّان كانا يلعبان في الشارع هنا.
وقتل ثلاثة أشخاص عندما ضرب صاروخ ذلك البيت، وقتل حوالي 20 من سكان المخيم أو جرحوا نتيجة للقصف.
المقابر تتحكم: وفي المدينة ذاتها ضرب القذائف الأسواق وبعض الأماكن السكنية كما تحطم جزءًا من سور مقبرتها. وكان كثير من الأضرار في مناطق لم تتأثر بقال السابع من يونيو.
ونفى السكان المحليون أن تكون هذه المناطق قد ضربت خلال قتال بين الفدائيين أنفسهم وقالوا لقد وقع اشتباك ثانوي فقط بين فدائيين يناصرون سوريا وآخرون يعارضونها في شهر آيار.
واتهمت سوريا كذلك بضرب مرفأ صيدا مما أثار الفزع في نفوس ربابنة البواخر التي كانت تصل محملة بالأغذية والمؤن الأخرى لتوزع في المناطق التي يسيطر عليها اليساريون.
وقال السكان المحليون أنه ما أن انسحب السوريون حتى أصلح المرفأ وبدأت المؤن تتدفق عليه من جديد.
وقال قائد عسكري فلسطيني محلي: (إن معنويات الجنود السوريين في الهلالية متدهورة).
وكثيرًا ما يطلق رجال المدفعية السورية قنابلهم إلى البحر لتفادي إصابة المدنيين. وقد استبدل ضباط وجنود جدد ببعض ضباط وجنود القوة الأصلية.
__________
(1) المقصود قوله: إني طبيب ولست سياسياً أو عسكرياً.(30/28)
وقال القائد الفلسطيني: (إن كثيراً من المعلومات التي تصل إليه عن خطط القوة السورية وتحركاتها إنما ينقلها إليه قرويون يطلعهم على هذه الخطط والتحركات ضباط سوريون.
وقد انسحب جزء من هذه القوة الآن إلى البقاع بينما انسحب الجزء الآخر إلى بلدة جزين الواقعة على بعد 30 كيلو متراً إلى الشرق من صيدا.
ومن جهة أخرى أقامت القوات السورية المسلحة الموجودة في جنوب لبنان وبالتعاون مع قادة طلائع الجيش العراقي اللبناني مكاتب خاصة للعلاقات العامة في معظم المدن والقرى اللبنانية التي تشرف عليها هذه القوات لتأمين الخدمات العامة وحل مشاكل المواطنين بما فيها القضاء والزواج والطلاق نظراً إلى غياب المؤسسات اللبنانية الرسمية. وتضم هذه المكاتب ضباط من سوريا ومن طلائع جيش لبنان العربي.
وأصدرت الإدارة السياسية التابعة للقوات السورية المسلحة صحيفة يومية أسمتها (الموقف) وصدر في العدد الأول منها ليوزع في أنحاء لبنان ويتضمن آخر المعلومات عن الموقف في الساحة اللبنانية ووجهة نظر سوريا في النزاع القائم في لبنان.
ثالثاً : عملية الليطاني :
هاجمت القوات الإسرائيلية جنوب لبنان في 15 مارس 1978م، وتم ضرب مواقع الفلسطينيين جنوب نهر الليطاني، وأنشأت جيش سعد حداد على الشريط الحدود بتاريخ 28 مارس 1978م.
ونجحت إسرائيل في تجميع الفلسطينيين شمال النهر ليكونوا هدفاً لضربة أخرى ومن الجدير بالذكر أن القوات السورية التي كانت تشرق وتغرب في لبنان لم تحرك ساكناً، ولم تطلق رصاصة واحدة ضد القوات الإسرائيلية.
ومن جهة أخرى فإن عملية الليطاني تمت بين زيارة السادات للقدس، وبين توقع معاهدة [كامب ديفيد] للسلام في أيلول 1978م.
رابعاً: الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م :
كان العدو الإسرائيلي على لبنان متوقعاً، وكان عرفات يصرح بذلك قبل أشهر من وقوع العدوان، ويزعم أنه أعد لكل شيء عدته، وأنه سيلقن إسرائيل درساً لن تنساه.(30/29)
وفي يوم 4 يونيو 1982م بدأت الحرب بغارات جوية على لبنان كله، وتبعها بعد يومين الاجتياح البري بقوة قدرت بحوالي 20 ألف جندي، واكتسحت القوات الإسرائيلية جنوب لبنان بسرعة خاطفة، ثم واصلت سيرها نحو بيروت العاصمة، وهناك استقبلتها القوات المارونية بحفاوة بالغة، وأمدتها بالعون والنصيحة.
وقصفت القوات الغازية بيروت الغربية – بيروت السنة – براً وبحراً وجواً، ومنع الماء والغذاء والدواء والمحروقات والكهرباء عن المسلمين السنة في بيروت العربية، ومن الأمثلة على القصف الشديد الذي تعرضت له بيروت الغربية ما حدث في يوم الأحد 1 أغسطس 1982م حيث استمر القصف الإسرائيلي براً وبحراً وجواً مدة أربع عشرة ساعة متواصلة سقطت خلالها 180 ألف قذيفة أي بمعدل يزيد على 214 قذيفة في الدقيقة الواحدة، وتكرر مثل هذا القصف يومي الثالث والرابع ثم العاشر والثاني عشر من الشهر نفسه.
لقد هدمت المنازل، ورُوع الأطفال، وعاش سكان بيروت المنكوبة أياماً عصيبة، وامتزجت دماء المسلمين اللبنانيين والمسلمين الفلسطينيين، وكانت الخسائر فادحة جداً.
وأخذ رفاق عرفات من الدروز والرافضة والعلمانيين يطالبون بخروج منظمة التحرير من بيروت بل من لبنان كلها، وأدى المبعوث الأمريكي بخروج منظمة التحرير من بيروت بل من لبنان كلها، وأدى المبعوث الأمريكي دوره المطلوب بعد جولات من المحادثات أجراها فيليب حنا في تل أبيب وبيروت ودمشق وعواصم عربية أخرى انتهت بخروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان.
الموقف العربي:
تم عقد مؤتمر طارئ لوزرا الخارجية العرب بعد 23 يوماً من الاجيتاح الإسرائيلي، واختلف أعضاء المؤتمر وتفرقوا دون أن يتخذوا قراراً حاسماً، وما كنا ننتظر منهم غير هذا الموقف المؤسف.(30/30)
أما النظام النصيري فكان دوره دور المتفرج .. وقصفت إسرائيل الصواريخ السورية في البقاع في 9 يونيو 1982م، ودارت معركة جوية هزيلة انتهت بسقوط عدد من الطائرات السورية، وصدر عن القيادة المركزية للجهة الوطنية التقدمية في دمشق بياناً في 19 يونيو 1982م جاء فيه: (إن ما جرى في لبنان ليس نهاية معاركنا وسنناضل لطرد الغزاة .. وجاء في البيان أيضاً: لا يعقل أن نترك الجولان ونعلن الحرب على إسرائيل من لبنان).
وعقد عبد الحليم خدام مؤتمراً صحفياً في 25 يونيو 1982م قال فيه: (إن سوريا حاولت تجنب الحرب نظراً لحدوث اختلال التوازن العسكري في المنطقة نتيجة خروج مصر على الصف العربي بعد التزامها باتفاقية كامب ديفيد).
وفي 20 يوليو 1982م قال حافظ الأسد في كلمة له من دمشق: (إن القوات السورية دخلت إلى لبنان لأداء مهمة محددة هي إنهاء الحرب الأهلية التي فرقته خلال عام 1975م و 1976م ولم تذهب لتحارب إسرائيل من هناك).
هذا ما قاله أسد عبر أجهزة الإعلام، أما ما قاله صراحة لمبعوث عرفات: (أريد أن تهلكوا جميعاً لأنكم أوباش).
وعندئذ أدركت قيادة المنظمة تآمر الأسد عليهم وأنه ينسق أموره ضدهم مع الكتائب وإسرائيل والولايات المتحدة.
أما ليبيا فقد زعمت أن أسباباً جغرافية حالت دون القيام بعمل عسكري ليبي مباشرة على الجبهة الشمالية في لبنان. عن الوكالات 15 يونيو 1982م
أما وليد جنبلاط ودروزه فيكفينا ما قاله عنهم الرجل الثاني في منظمة التحرير صلاح خلف: (إن عدم وجود عمق لساحة القتال في الجنوب شكل عائقاً لنا، فقد كان المدى الأرضي أحياناً لا يزيد في الجنوب عن أربعين متراً ونحن محاطون بالعدو من البر والجو والبحر وبعد صيدا مباشرة حرمنا من أن نضع مدفعاً واحداً من قبل الدروز ورئيس الحركة الوطنية بالذات – أي وليد جنبلاط -، أما القوات السورية في الجنوب فحسب ادعاء السوريين ليست للقتال).(30/31)
وقال أيضاً: (أنا لا أستحي أبداً من الحقيقة .. الأخ وليد جنبلاط رئيس الحركة الوطنية ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي رفض أن تتواجد أو تنقل أسلحة إلى منطقة نفوذه في الشوف .. قال لنا: إن عنده أسلحة كافية وسيقاوم في الشوف ونحن نعلم أنه كان فعلاً سلاح جيد، لكن الذي حدث أن الأخ وليد وإخواننا الدروز لم يقاتلوا خلال الغزو الأخير، ورأينا مجيد أرسلان وفيصل أرسلان وجماعتهم بعد أن وعدوا المسلمين بالقتال معهم ضد بشير الجمل والكتائب، تخاذلوا أمام الأموال بينما انحشرنا نحن في شريط ساحلي ضيق من صور لصيدا لبيروت والمعركة الوحيدة التي دارت على مدى خمسة أيام في الشريط الساحلي كانت معركة [خلده] البطولية التي استشهد فيها خيرة رجالنا والتي كنا فيها وحدنا).
أما الموارنة فبعض قواتهم شاركت في الحرب إلى جانب اليهود، وبعضهم تعاونوا مع اليهود في إحكام الحصار على بيروت، والجيدون فيهم وقفوا على الحياد.
كذلك كان موقف الشيعة فقد عادوا إلى قراهم وحققوا حلمهم في طرد الفلسطينيين من جنوب لبنان، وكانت إذاعة العدو الصهيوني تنقل تصريحات أعيانهم في تأييد إسرائيل.
وجملة القول: فإن إسرائيل خاضت حرباً ضروساً مع المسلمين السُّنَّة وحدهم، وإذا كان بعض الناس سيفسر كلامي هذا تفسيراً طائفياً رغم ما فيه من حقائق لأنني أكتب ما أعتقده وأومن به بصراحة ووضوح.
إذا كان الأمر كذلك عند هؤلاء الناس فنحيلهم على مصادر كثيرة ليست إسلامية، وليس من اهتمامات الانتصار للسُّنة أو الشيعة، ومن هذه المصادر تنقل فقرات من دراسة قدمتها صحيفة الأنباء الكويتية في عددها الصادر بتاريخ 30 أبريل 1985م تحت عنوان: (الإسرائيليون جردوا المنظمات السُّنية من السلاح وحدها).
(لقد حصر الإسرائيليون عملية التجريد من الأسلحة بالفلسطينيين أولاً ثم بالسُّنيين من اللبنانيين دون سواهم).(30/32)
لقد أصر شارون على دخول بيروت الغربية لتجريد [المرابطون] بوصفهم فريقاً لبنانياً محسوباً على المنظمات الفلسطينية.
لماذا أسلحة السُّنة وحدها – وهي أسلحة غير منضبطة في إطار سياسي قال: - تشكل خطراً على الإسرائيليين؟!.
وهل [المرابطون] الخارجون على قاعدة الالتزام الإسلامي السُّني، بالامتناع عن خوض الحرب، من خنادق الطائفية يستحقون مثل هذا المستوى من الاهتمام الإسرائيلي، وهم الذين عدوا بعد الاجتياح مجرد علم ومحطة إذاعة؟!
بعض الناس صفق للمقاومين المغامرين – أي قليلات وجماعاته -، ومعظم القيادات السياسية المحافظة، رأت في الإصرار على مواجهة الدخول الإسرائيلي ضرراً إضافياً يقع على أرواح الناس وممتلكاتها، في وقت رحلت فيه المقاومة الفلسطينية عن بيروت، وتجنب الاشتراكيون – أي الدروز – مواجهة الإسرائيليين في الجبل، وتوقف حركة أمل – أي الشيعة – عند مفترق تحييد الضاحية الجنوبية، وتحول الكتائبيون إلى شرطي مرور للقوات الغازية، وإلى برج مراقبة وحارس حاجز ورأس حربة أحياناً.
... وأدركت القيادات الإسلامية السُّنية، أنها في مواجهة استراتيجية، أوسع مما يرى بالعين المجردة، استراتيجية ترتكز على النظرية الإسرائيلية المساوية بين السُّني اللبناني والفلسطيني المقيم في لبنان، من حيث إلغاء الدور، وتحطيم الفعالية، فالمناطق السُّنية كانت وستبقى، الأرض الخصبة لنمو المقاومة الفلسطينية.
(إن مدرسة الزعامات السياسية، خرجت أشخاصاً، ولم تخرج مؤسسات سياسية، مجموعة أسماء تتناوب على رئاسة الحكومة، بتنافس سطحي، لا يتعدى حدود الذات، وإن ابتعد، فإلى حدود المحلة أو المدينة). ا.هـ
إن صحيفة الأنباء الكويتية ليست إسلامية، وما كانت فيما كتبته تدافع عن أهل السُّنة، وعلى العكس فهي صحيفة قومية علمانية .. ولكن الحقائق أنطقت القائمين عليها كما أنطقت وكالات الأنباء المحلية والعالمية التي غالباً ما تتجاهل القضايا الإسلامية.(30/33)
خامسا: مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982م:
اتفق المبعوث المبعوث الأمريكي [فيليب حبيب] مع النظام الصهيوني من جهة والأنظمة العربية المعنية من جهة أخرى على إخراج منظمة التحرير وقواتها التي تربو على إحدى عشر ألف مقاتل من لبنان.
وصورت أجهزة الإعلام العربية المشبوهة الاتفاق على أنه انتصار للمنظمة وهزيمة منكرة للعدو الصهيوني، وإسرائيل لا تريد في تلك المرحلة أكثر من خروج المنظمة وقواتها العسكرية من لبنان.
وخرج البطل ياسر عرفات [كما يصوره أتباعه] وشركائه من لبنان وتركوا وراءهم النساء والشيوخ والأطفال العزل .. تركوهم بين اليهود والكتائب والباطنيين، وزعموا – عليهم من الله ما يستحقون – أنهم حصلوا على ضمانات بسلامتهم من الولايات المتحدة وجهة عربية أخرى صديقة للولايات المتحدة .. وهم الذين يقولون في كل مناسبة: (الولايات المتحدة الأمريكية أكثر يهودية من اليهود).
وبعد خروج منظمة التحرير من لبنان تم تنفيذ حلقة أخرى من حلقات المؤامرة، حيث تم اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب بشير الجميل، وثبت فيما بعد أن حزب القومي السوري هو الذي نفذ العملية بتكليف من النظام النصيري السوري.
والحزب القومي السوري الذي يسمى الآن بالحزب السوري الاجتماعي – أسسه أنطون سعادة – وهو حزب طائفي دموي استعماري ينادي بوحدة سوريا الكبرى ولا يؤمن بالقومية العربية. واليهود السوريون جزء من الأمة التي يعتز بها أنطون سعادة.
وحزب البعث من ألد أعداء الحزب القومي السوري غير أن حافظ الأسد وطائفته متورطون في هذا الحرب المشبوه، وقد قام الأسد بالإفراج عن قادته كعصام المحايري وغيره وأعطاه صلاحيات واسعة في لبنان.
وفي الفترة الأخيرة أخذ الأسد يلمع قيادة هذا الحزب ويعدهم لدور ما، ومما لا شك فيه أن أعوان أسد في حزب البعث من غير أبناء الطائفة النصيرية يتوجسون خيفة من تعاون زعيمهم مع الحزب القومي السوري المعروف في بلاد الشام.(30/34)
المهم أن مقتل بشير الجميل في تلك الفترة يعني بأن الكتائبيين والقوات اليهودية التي تحتل لبنان وبيروت بذات سيسحقون الفلسطينيين في مخيماتهم، وحافظ الأسد أول من يعرف هذه الحقيقة.
وإذا كنت عند كتابة هذه الأسطر لا أملك أدلة كافية .. ففقدان هذه الأدلة لا يمنعني من إبداء وجهة نظري التي تتلخص فيما يلي:
(إن عملية قتل المجرم بشير الجميل لم تكن عفوية بحال من الأحوال، والحزب الذي نفذ العملية يرتبط بصلات وثيقة مع النظامين النصيري واليهودي، وهذان النظامان لا يؤيدان وجود رئيس قوي يحكم لبنان ولو كان مجرماً لأنهم يخشون من التفات اللبنانيين حوله، وخلال مدة حكمه القصيرة وقعت خلافات بين بشير الجميل من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، أما عداوة النظام السوري له فمعروفة وأكيدة.)
وإذن لا بد من قتله، والذي أتوقعه أن النظامين: اليهودي والنصيري قد خططا معاً لتصفية رئيس الجمهورية اللبنانية بشير الجميل .. ومع ذلك لا أملك أدلة، ولكنها رؤية وسوف يأتينا بالأخبار من لم نزود.
المبحث الثاني
شهود المذبحة(1)
اقتحمت القوات الكتائبية واليهودية مخيمي صبرا وشاتيلا بعد مقتل بشير الجميل ... وارتكب الأوباش مجزرة رهيبة تذكرنا بمجزرة حماة التي سبقتها بقليل.
وفي هذه الأسطر القليلة، سوف أترك المجال لنفر من شهود المجزرة يتحدثون عما رأوا وسمعوا:
الشاهد الأول: سلمان الخليل المسؤول عن دفن الموتى قرب صبرا وشاتيلا.
قال سلمان: (وقعت المجازر يوم الأربعاء، وفي المساء أخذت الجرافات تدفن الضحايا بدون صلاة ولا تكفين ولا غسيل. الدفن جماعي.
__________
(1) أقوال الشهود نشرتها مجلة اليوم السابع التي تصدر من باريس [عن الأنباء 17 سبتمبر 1984م]. وهناك شهود آخرون لا يتسع البحث لنشر أقوالهم.(30/35)
ولم يعرف أحد أي شيء عن الجثث، لم يتعرف يومها أحد على جثة كان قسم منها لونه أسود، وقسم آخر منفوخ بفعل الشمس. كان الآباء والأمهات يأتون إليَّ بصور أبنائهم وذويهم كي أتعرف عليهم لكني لم أكن أفلح في ذلك.
دفنت في يوم واحد عدداً إجمالياً 113 جثة في سبعة خلجان حفرتها الجرافات، وفي إحدى المرات كان شاهداً على الدفن السفير الفرنسي. وكان حاضراً أيضاً الصليب الأحمر والجيش اللبناني والدفاع المدني وكشافة الرسالة والمقاصد. كان السفير الفرنسي يبكي. رأيته يبكي بعيني. كنت في حالة صعبة كالضائع أذهلني المنظر(1).
وعندما دخلت إلى المخيم رأيت [اللحم ملزق على الحيطان]. وتستطيع أن تقول كل أساليب القتل قد استخدمت الساطور، البارودة، الرصاص، العصي، كاتم الصوت، هناك مساحة لاحظتها وهي عبارة عن 200م فيها كثافة دماء حوالي 2ملم – 3ملم مع آثار شعر وأحذية، قيل لي أنه في هذه المساحة قد تجمعت حوالي 40 جثة، نقلت جميعها قبل يوم واحد بالجرافات.
والذين هربوا صوب الغبيري أو صوب الشرق نجوا من القتل، والذين هربوا صوب المدينة الرياضية أو صوب القرى قتلوا أو اعتقلوا والدليل على ذلك أننا دفنا 70 جثة قتل أصحابها في محلة الرمول بالقرب من المدينة الرياضية كان يوجد هناك قوة كبيرة جداً من المسلحين.
يوم الاثنين التالي والأيام اللاحقة للمجزرة، كنت أصلي على الجنازات من الساعة الرابعة صباحاً حتى الساعة السادسة مساءً. كانا يزودونا بكمامات تفادياً للروائح الكريهة، ساعدتنا شركة [أوجيه لبنان] بتقديم الآليات والجرافات.
__________
(1) لا شك أن السفير الفرنسي – ومهما كانت دوافعه – كان قد غامر بنفسه عندما أشرف على دفن القتلى، ترى أين السفراء العرب، لا أعتقد أن أحداً منهم كان مستعداً لمثل هذه المغامرة.(30/36)
كان عمق الخليج الذي نحفره مترين ونصف المتر وطوله حوالي ثلاثين قدماً، وكنا نع كل خمسة جثث فوق بعضها البعض، ونرمي فوقها الكلس والتراب خوفاً من انتشار الروايح المنبعثة منها، ووضعنا أيضاً الأطراف المقطعة من الجثث. أما الأسماء فإنها كانت موجودة مع الصليب الأحمر، ولم تنشرها الصحف لأن الصليب الأحمر كان يخشى من إثارة الرأي العام.
لقد صليت وحدي على 6000 جثة، وهناك ألفا جثة دفنتها الجرافات دون أن أصلي عليها، والجثث المدفونة جماعياً موجودة في مقبرة على مداخل شاتيلا مسورة، ومساحة المكان تبلغ ما يقارب 1500 متر مربع.
لقد ذُهلت عندما صليت على 113 جثة يوم الأحد بعد المجزرة في مكان واحد، بعدها صرت كالضائع الأقوى على مخاطبة أحد، تأثرت كثيراً عليهم لأول مرة في حياتي أرى 113 جثة، لم أكن قادراً على البكاء كي أموه على نفسي.
لقد كان عدد الرجال أكثر من عدد النساء، وكان بين الضحايا من كان عمرة 90 سنة، وما زالت صورته حتى الآن في ذهني، كانت ذقنه طويلة، ومن بين الذين دفناهم أطفال أعمارهم بين 6-7 سنوات ونساء من مختلف الأعمار، كانوا يقتلون كل شيء يتحرك أمامهم.
الشاهد الثاني: فاطمة، عمرها 30 سنة، فقدت في المجزرة أهلها.
* أين كنتِ عندما وقعت المجزرة؟
- بالقرب من المدينة الرياضية، رأيتهم بعيني ينزلون، كانوا مثل الجيش اللبناني، وكانت إسرائيل وراءهم، على زنودهم شارة الكتائب اللبنانية، كانوا شباباً تتراوح أعمارهم بين 20 و25 و27 و30 عاماً.(30/37)
تكمل روايتها: بعد قليل تفاقمت الصحة وخرجنا تحت الرصاص، وتركت منزلي وفيه أغراض بـ 15 ألف ليرة كلها راحت .. صاروا يضربون علينا هاون صغير وأنا لا أخاف من الهاون انبطحنا في الأرض فأصيب زوجي بشظايا الحجارة فحملته على ظهري وركضت صوب مستشفى غزة وبقيت معه في المستشفى .. هناك بدأت أفواج الجرحى تتوافد. رأيت ولداً صغيراً جسمه ملئ بالشظايا وغيره كثيرين .. خفت على أولادي، فعدت إلى المنزل وما أن وصلت حتى أطلقوا النار علي فلم أصب، لكني سرعان ما غادرت البيت إلى (زاروبة) مجاورة صوب منزل أهلي فوجدتهم كلهم مقتولين وجيران أهلي وغيرهم كثيرين .. امرأة حامل فتحوا بطنها، وامرأة أخرى في شهرها الرابع قتلوها على باب الملجأ .. ناس لبنانيين حاملين أعلام بيض قتلوهم .. نسوان أخوتي قتلوهم .. أخي الكبير كان يحمل القتلى والجرحى ويساعد الناس قتلوه .. أمي كانت تحمل 78 ألف ليرة قتلوها .. نسوان قطعوا لهم أياديهم من أجل أساور الذهب وقتلوهم .. كانوا مخدرين يأخذون حقن مورفين في عروقهم.
الشاهد الثالث: فهيمة محمود السعدي، عمرها 24 سنة متزوجة فلسطينية من مخيم صبرا، وزوجها من بيت القاضي، وقد نكبت عائلة القاضي، وقتل منها عدد كبير في مخيمي صبرا وشاتيلا.
تتحدث فهيمة كيف تم اعتقالها كيف تم اعتقالها مع عدد من أهلها، وما تعرضت له من تعذيب، وإهانة، وكيف تم فرز الناس .. وتمضي في حديثها فتقول:(30/38)
النساء اللبنانيات ذهبن إلى مكان يقع بالقرب من السفارة الكويتية، وكان المسلحون هناك (ينفلون نفل وكأن القيامة قائمة)، وقالت لي يما بعد إحدى الأخوات اللبنانيات أن المسلحين كانوا (شربانين) .. بعد ذلك جاءت بهن إلى تجمعنا وقالوا لنا كل شيء سيسير على ما يرام، فمن له علاقة بالمنظمات، سنعتقله والذين لا علاقة لهم سنتركهم .. في هذا الوقت جاءوا بامرأة وزوجها من صبرا وكان حالتها (يوقف شعر الرأس) سألناها عن الأمر فالت: (قتلوا كل الشباب الواقفين في أول صف في صبرا عندها ارتفع العويل والصراخ بين النساء وسادت حالة من الهستيريا .. فهجم علينا أحد المسلحين وقال: التي تريد أن تكمل الصراخ فلتأتي إلى هنا وستصبح عاطلة (ما بدي ولا كلمة. اسكتوا كلكم) وسألنا من أخبركم بالأمر فلم نجب لأنه قد يقتلها خصوصاً بعد أن قتل زوجها وثلاثة من أولادها أمام عينها. الساعة السابعة مساءً قالوا لنا الآن يمكنكم أن تنصرفوا لكن شرط ألا تذهبوا إلى منازلكم (دبروا حالكم في الشوارع والطرقات).
وصلنا إلى حاجز للجيش اللبناني فقال لنا الجنود (شو القصة يا أختي، ليش ماشيين حافيين ومبهدلين) فروينا لهم الأمر قالوا: غير معقول فأكدنا لهم فقالوا إلى أين ستذهبن. قلت إلى أي شارع يه بشر كي يعرف الجميع ماذا حل بنا.
الشاهد الرابع: حنان الخطيب، عمرها 18 سنة، لبنانية. تتحدث عن اعتقالها فتقول:(30/39)
كان عددنا حوالي 20 بنتاً وولداً وشاباً واحداً عمره حوالي 16 سنة، نقلونا إلى المنطقة الشرقية بواسطة كمبون شحن صغير، وكانا قد استبقوا الرجال في الملجأ .. تجولوا بنا في المنطقة الشرقية كلها ونزلونا في مقر لا أعرف لمن [المكان في بكفيا] كانوا يومها في حالة حداد ويقفون على الشرفات ينظرون إلينا .. بعد قليل تقدم أحد الضباط الموجودين هناك وسأل المسلحين (شو جايبين معكم .. كلهم نسوان) فأجابه مسلح: معنا شاب عمره حوالي 16 سنة. ودفعه إلى الضابط الذي خبطه بالأرض ثم حمله إلى مكان لا ندري أين هو. وعاد إلى المسلحين وقال لهم: (ارسلوا النساء وهاتوا الرجال).
وتمضي حنان في الحديث عما شاهدته: في اليوم التالي وكان نهار الجمعة الساعة الرابعة أطلقوا سراحنا فذهبت إلى مستشفى عكا كي أبحث عن أبي، فقيل لي يمكن أن يكون مع الأسرى في الرملة البيضاء، فصدت المكان فلم أجده، عدت إلى المخيم فلم أجد قتلى أو جرحى، وصلت إلى الحرش 25 شخصاً مكومين فوق بعضهم بدون رؤوس عدت إلى البيت فوجدت أبي مقتولاً ورأسه على الحجر وعلى جسمه غطاء أبيض .. بعد ذلك جمعت أغراضي من ذهب ومصاري وقصدت الغبيري وهم كانوا قد تجمعوا في المدينة الرياضية بقيت في الغبيري حتى يوم الأحد حيث عدت واهتميت بدفن والدي.
وعن الذين اعتقلوها تقول حنان: كان لهجتم كسروانية وجنوبية ومعهم ناس بعلبكية.
الشاهد الخامس: صبحية حمد فارس، عمرها 38 سنة، متزوجة قتل زوجها مع ثلاثة من أولادها.
* أين كنتم تسكنون أثناء المجزرة؟
- في مستديرة شاتيلا، ويوم الجمعة بعد المجزرة هربنا إلى الغبيري [حي لبناني ملاصق للمخيمات].
* هل تذكرين كيف دخل المسلحون إلى المخيمات يوم المجزرة؟
- دخلوا من حي عرسال، كانوا يرتدون الزي العسكري الذي يرتديه الجيش اللبناني.(30/40)
وعن محاولة هروبها مع زوجها وأولادها ثم عن اعتقال الكتائب لهم تقول: أخذونا إلى المجلس الحربي الكتائبي، وكانت الساعة قد بلغت السابعة مساءً نزلوا الشباب في ساحة الكرنتينا(1) (وبطحوهم على الأرض) ثم أخذوا يضربونهم بالكرابيج، على مرأى منا، أما نحن فإنهم كانوا يرمون علينا البيض ويرشقونا بالتراب والحجارة والبحص. المهم أنهم عصبوا أعين الشباب وأعادوهم إلى السيارات، وكنا كلما بكينا ينهالون علينا بالضرب ويطلقون النار فوق رؤؤسنا ثم نقلونا بالسيارة بعد أن طردوا سائقها إلى حاجز البربارة، وهناك قالوا لنا اذهبوا ولا تعودوا إلى هنا أبداً، وإذا سئلتم عمن فعل ذلك لا تأتوا على ذكر الكتائب، قولوا جيش لبنان الحر [سعد حداد] ونحن عرفناكم جيداً وعرفنا أسماؤكم، إياكم أن تنطقوا باسمنا وإياكم أن ترجوا، إذا رجعتم إلى بيروت نذهب إلى منازلكم ونقتلكم فيها هناك.
* هل تعتقدي أن إسرائيل شاركت في المجزرة؟
- نعم شاركت بالمجزرة لأنهم كانوا يرغمون الهاربين على العودة إلى المخيم ثم إن الجيش الإسرائيلي كان يحاصر المخيمات ولا يسمح بالخروج منها لأي شخص كان.
الشاهد السادس: يتيم صبرا، كريم عبد يوسف، فتى في الحادية عشرة من عمره، فقد عائلته خلال المجازر، يتحدث عما لقي من مصائب فيقول:
__________
(1) الكرنتينا: مخيم فلسطيني، وفيه مسلمون لبنانيون وفلسطينيون وسوريون تمكن الكتائب من إبادة معظم سكانه وهتك أعراض كثير من المسلمات فيه عام 1976م وتم ذلك بمساعدة سوريا، وأصبح المخيم أثراً بعد عين.(30/41)
اعتقلوا معي حوالي 100 شخص معظمهم أولاد صغار .. بعد قليل طلبوا منا أن نركض في الملعب أثناء ذلك فكرت بالهرب مع صبي كان يركض بجانبي واسمه حسن. قلت لحسن: هل تهرب معي فوافق. قفزنا من مكان فيه أسلاك شائكة وأصبنا بجروح .. لحقونا ولكن ما قدروا يلقطونا. فطعنا مسافة قصيرة فاصطدمنا بثلاثة مسلحين كتائب، خرطشوا علينا الكلاشنات وأعادونا إلى الملعب حيث ضربونا ضرباً مؤلماً، بقينا في الملعب طيلة النهار والليل وفي صباح اليوم التالي أفرجوا عنا وقالوا فليذهب كل شخص إلى منزله .. توجهت إلى بيتنا فوجدت أبي مذبوحاً ومربوطاً بالحبال [هنا أجهش كريم بالبكاء] .. عندما رأيت والدي ضاع عقلي ولم أعد أعرف ماذا أفعل، تذكرت والدتي وأخواتي بحثت عنهم فلم أجدهم. هنا تصاعد إطلاق الرصاص فهربت وعلى الطريق صادفت اثنين (اختيارية) – أي شخصين كبار السن – ذهبت معهما إلى أحد المنازل وهناك أيضاً طوقنا الكتائب وأطلقوا علينا الرصاص .. لكننا استسلمنا لهم بعد أن رفعنا خرقة بيضاء، فأخذونا إلى مركز تجمع الإسرائيليين لكن هؤلاء رفضوا استسلامنا فأعادونا إلى صبرا وقالوا (الذي يدلنا على فدائي نتركه ونعطيه مصاري) التزمت الصمت فقال لي أحدهم: هل تدلنا يا شاطر على فدائيين فنعطيك مصاري ونخلي سبيلك. كان هذا الشخص إسرائيلي لكنه يرتدي ثياب الكتائب. بعد قليل جاء ضابط إسرائيلي أصلع وقال: (امشوا خلفي) .. على الطريق (صرنا نشوف القتلى مرميين على الأرض. اللي مقطوع رأسه، اللي مقطعه اجريه، اللي منفوخ!! امرأة حبلى بقروا بطنها وعلقوها كما تعلق اللحمة عند الجزاء).
* هل عثرت على أمك وأخواتك؟(30/42)
- نعم. كانوا مقتولين. (وما شفتهم كيف اتقتلوا) لكن أخبرني الناس في تلك اللحظة أصبت بالجنون. مات أبي وأمي وأخواتي. تأثرت كثيراً خصوصاً على موت أخواتي لأنني كنت أرى النور من عيونهن. كنت أحبهم أكثر من كل أهلي، بحثت عن أخوتي الشباب فعثرت على أحدهم وكان مشطوباً بالبلطة – أي الفأس – على رأسه، وأخي الثاني كان وجهه مهشماً من الضرب. أخي الثالث سمير لم يمت بل خطف، هكذا قيل لي، وهو الآن مفقود لا أعرف مصيره؟! دفن أهلي دون أن أراهم. والجميع الآن مدفونين في مكان قريب من مدخل شاتيلا، زرتهم يوم العيد (عيد الفطر الماضي) مع بعضهم البعض.
* والآن ماذا تفعل، هل تشتغل؟
- أريد أن أشتغل على [طنبر الكاز] أبيع الكاز.
* أين نمت وأين تنام في هذه الأيام.
- كنت أنام في كل منزل يستقبلني، وأقول يا رب ساعدني. نمت في مداخل البنايات في كوخ على حصيرة صغيرة يمكن أن أنام. هذا هو مصير الطفل الذي يفقد أهله. نزلت بعد المجزرة إلى سوق الخضرة وجمعت مصاري من البائعين .. في أحد الأيام لمحت فتاة تشبه أختي آمال (يمين الله تشبهها) فركضت نحوها كي أضمها فتبين لي أنها ليست هي .. كنت أحمل خضرة على كتفي وأنزلها من الكمبونات الآية من مدينة صور، أصبت بجرح في كتفي من جراء (الإنزال والتحميل) في سوق الخضرة. أرسل الله لي شخصاً اسمه عبده هو الذي جاء بي إلى هذا المنزل (المكان الذي أجريت فيه المقابلة في مخيم صبرا) وغداً سأباشر العمل على (طنبر الكاز). العم أبو سعيد صاحب هذا البيت قال لي أنزل (على الطنبر) لك الربح ولي رأس المال. ووعدني بأن يشتري لي حصاناً نافعاً للشغل.
* هل أنت مرتاح الآن؟(30/43)
- لا، لست مرتاحاً لأنني بلا أهل، زهقت حياتي لا أحد يرعاني ويهتم بي .. إذا وجدت أخي المفقود يمكن أن يتغير كل مجرى حياتي وتصبح أحسن من الآن بكثير. الناس هنا يهزءون بي ويقولون لي (يا مزفت) لأن ملابسي ممزقة ووسخة استعرتها من عند ناس من المخيم. لقد انتهت حيات. الله يسامح الناس الذين يسخرون مني(1).
سادساً: البداوي ونهر البارود :
بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982م، وبعد خروج القوات العسكرية الفلسطينية من بيروت لم يبق للمقاتلين الفلسطينيين موضع قدم في أية دولة من دول المواجهة العربية .. اللهم إلا من كان في شرق لبنان وشمالها.
ومما يجدر ذكره أن شرق لبنان وشماله يقعان تحت استعمار القوات النصيرية الغازية، وتجمع الفلسطينيين في هذا الجزء من لبنان لم يكن مصادفة، وإنما جاء نتيجة لمؤامرة دبرها حافظ الأسد وأسياده في تل أبيب وواشنطن وموسكو.
ومبادرة الأسد يلبسها دوماً لبوس الوطنية والتورية ومحاربة الاستسلام للعدو الصهيوني، ومن هذا المنطلق راح أبو صالح وأحمد جبريل وخالد الفاهوم ينادون بمحاكمة عرفات لخروجه من لبنان وزيارته لمصر واجتماعه برئيسها حسني مبارك، وأقدم النظام السوري على اغتيال قائد القوات العسكرية الفلسطينية أبي صائل، ثم تطور الأمر ودفعت القوات النصيرية بهؤلاء العملاء المأجورين ليرتكبوا جريمة أخرى ضد الفلسطينيين الآمنين في مخيم نهر البارود ومخيم البداوي، وبعد معارك عنيفة بين عرفات ومن معه من جهة، وبين المنشقين عنه والقوات السورية من جهة أخرى .. سقط مخيم نهر البارود في 6 نوفمبر 1983م بأيدي المنشقين والنصيريين .. وتبعه مخيم البداوي في 16 نوفمبر 1983م .. وكانت الخسائر فادحة في هذين المخيمين، ونزح 70% من سكان خيم البداوي وأطراف طرابلس الشمالية في اتجاه عكار والضنية والبقاع وبيروت.
__________
(1) من الملاحظ أن الشهود كانوا يتكلمون العامية، وحرصت على نشر أقوالهم دون أي تفسير أو تدخل من جهتي.(30/44)
وتعرضت طرابلس للقصف الشديد الذي شارك فيه النصيريون وأبناء طائفتهم في بعل محسن كما شارك فيه الرافضة، وخاض الغزاة معارك شرسة مع المسلمين الفلسطينيين واللبنانيين داخل طرابلس، وتعرضت المباني والمؤسسات للهدم .. وبعد حصار مرير دام ستة أسابيع وافق عرفات ومن معه على مغادرة طرابلس أثر وساطة بينه وبين النظام السوري قام بها وزيران عربيان من وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي.
غادر عرفات ومعه أربعة آلاف مقاتل فلسطيني طرابلس في 20 نوفمبر 1983م، وأقلتهم خمس سفن يونانية تحت حماية أسطول حربي فرنسي ومراقبة السفن العسكرية الإسرائيلية، وكان عرفات كعادته يرفع شارات النصر، ويوزع الابتسامات والقبلات على مودعيه، أما الأسلحة الثقيلة فقد وزعها قبل سفره، وجزء منها أخذه الجيش اللبناني ليعود إلى الكتائب.
---
الفصل الثالث
المبحث الأول
عدوان أمل على المخيمات الفلسطينية وصف لسير المعارك
مدخل:
تسري اليوم نشوة غير عادية في المخيمات الفلسطينية وأسباب هذه الفرحة الغامرة كثيرة، فإن غدا الاثنين 20 مايو 1985م سوف يكون الأول من رمضان الذي يعظمه المسلمون جميعاً ويبتهجون بقدومه، وفي اليوم نفسه سوف تتم عملية تبادل الأسرى، وسيتم إطلاق سراح ما يزيد على [1200] معتقل فلسطيني ولبناني، مقابل ثلاثة من الأسرى اليهود، وزيادة على هذا وذاك فقد أخذت اليوم الأحد القوات الصهيونية مواقعها في المحاور الجنوبية لقضاء البقاع الغربي، وهذه هي بداية المرحلة الثالثة والأخيرة من الانسحاب النهائي من لبنان(1) والتي زعم مسؤولون يهود أنها ستكتمل أواخر شهر مايو [آيار] الجاري.
وهكذا تتكامل بواعث الغبطة والحبور عند الفلسطينيين في مخيمات بيروت.
ولكن أيرضى بنو صهيون بهذا .. وهل يقبلون بالانسحاب دون مصائب وكوارث تلحق بالفقراء من أبناء فلسطين في مخيماتهم؟!
__________
(1) لم ينسحب اليهود من جميع الأراضي اللبنانية، ولا يزالون يسيطرون على جزء من الجنوب.(30/45)
اسمعوا الجواب:
تقترب الساعة الآن من التاسعة من مساء يوم الأحد 19 مايو 1985م .. ودورية مسلحة شيعية تابعة لأمل تجوب مخيم صبرا الفلسطيني، توقفت الدورية قرب فتى يحمل مسدساً حربياً – وهي ظاهرة غير غريبة في لبنان – ثم حاولت اعتقاله بحجة أنه حاول تهديدهم، لكنهم فشلوا، وأفلت الفتى من أيديهم وانطلق يعدو هارباً، وتبادل معهم إطلاق النار.
ترى أكانت حرباً عفوية، تسبب فيها غلام طائش، وهل نحن نعيش في عصر داحس والغبراء وأيام الجاهلية .. يوم كانت الحروب المدمرة تقوم ولا تنتهي لأتفه الأسباب؟!
كلا .. كلا .. إن الأمر أكثر عمقاً من هذا التحليل المغرق في السذاجة .. إنه مشهد في عصر أضحت فيه السياسة مسرحية متقنة الإخراج، وسوف نبسط أدلتنا في هذا كله إن شاء الله.
مواقف وتصريحات سبقت الحرب:
- كانت أمل قد رفضت قبل أسبوعين من اندلاع المعارك ورقة عمل عرضتها جبهة الإنقاذ الفلسطيني على نبيه بري، وتنص هذه الورقة على أن تتولى الجبهة أمن المخيمات، علماً بأن الجبهة موالية للنظام النصيري الذي تتلقى أمل منه الدعم والتأييد.
- صرح نبيه بري يوم الأربعاء 22 مايو 1985م أن إعادة السيطرة على المخيمات المحيطة ببيروت، أياً كان اللون الفلسطيني الغالب، يعني فصل الضاحية عن بيروت مرة أخرى، وبالتالي التمهيد لإعادة التوازنات في عاصمة لبنان لغير مصلحة أمل بالتأكيد.
- تحدث إبراهيم .. أحد قادة أمل عن سبب اندلاع الحرب في 21 مايو 1985م فكان مما قاله: (إن الفلسطينيين يريدون أن يستعيدوا حرية العمل التي كانت لهم قبل الاجتياح الإسرائيلي، ورأت أمل أنهم يجلبون الأسلحة .. وعندها بدأ القتال.(30/46)
- سبق الحرب حوادث بين الطرفين افتعلتها أمل من أشهرها احتجاز ثلاثة من الفلسطينيين من مخيم عين الحلوة في صيدا يوم 18 مايو 1985م كما احتجزت أمل المدعو أبو محمد القائد العسكري لحركة (المرابطون) بعد إنزاله من الطائرة في مطار بيروت، وكان في طريقه إلى باريس، وقد رد فلسطينيو عين الحلوة باعتقال أحد مسئولي أمل في الجنوب.
- اشتد الوضع تدهوراً بين الطرفين عندما أقيم مهرجان في مخيم عين الحلوة حره نائب صيدا نزيه البزري، ورئيس التنظيم الناصري المسيطر عسكرياً في صيدا مصطفى سعد، وجرى خلاله إلقاء كلمات أجمعت على التنديد بحركة أمل.
- قبل شهر واحد فقط من هذه المعارك، كانت أمل وبمساعدة الحزب الاشتراكي قد صفت الوجود الفلسطيني، ثم صفت بعد معارك دامية تنظيم (المرابطون) الأمر الذي ضمن لها سيطرة كاملة على أمن بيروت الغربية.
- كان للأعداد الكبيرة التي أفرج عنها اليهود من المعتقلين الفلسطينيين أثر في إثارة مخاوف أمل من قوة مراكز المخيمات عسكرياً، كما أن المنظمات بدأت تسرب عدداً من عناصرها نحو المخيمات والجنوب الأمر الذي يعني استئناف النشاط الفدائي ضد العدو اليهودي، وقد التزمت منظمة أمل بإيقاف مثل هذا النشاط.
وفوق هذا وذاك علينا أن لا ننسى تاريخ أمل مع المنظمات الفلسطينية، ولا عجب في ذلك فهو امتداد لتاريخ الرافضة الذي ذكرنا أمثله من جرائمهم في الجزء الأول من هذا الكتاب.
كيف بدأت الحرب؟!(30/47)
بعد البدايات الأولى لإطلاق النار ليلة الاثنين 20 مايو 1985م اقتحمت ميليشيات أمل مخيمي صبرا وشاتيلا، وقامت باعتقال جميع العناصر في مستشفى غزة، وساقوهم مرفوعي الأيدي إلى مكتب أمل في أرض جلول، كما منعت القوات الشيعية الهلال والصليب الأحمر وسيارات الأجهزة الطبية من دخول المخيمات، وقطعت إمدادات المياه والكهرباء عن المستشفيات الفلسطينية .. وأفاد شهود عيان أن الحرائق شبت في مستشفى غزة. وهذه البداية تعني أن أمل تريد الهلاك والدمار، وليست القضية عندها قضية شاب رفض الانصياع لدورية من دورياتها.
وفي الساعة الخامسة من فجر الاثنين 20 مايو 1985م بدأ مخيم صبرا يتعرض للقصف المركز بمدافع الهاون والأسلحة المباشرة من عيار 106 ملم.
وفي الساعة السابعة من اليوم نفسه تعرض مخيم برج البراجنة لقصف عنيف بقذائف الهاون، وكانت السيطرة في البداية لقوات أمل .. ويظهر أن القيادات العسكرية للمخيمات لم تكن تشعر بالمؤامرة وأبعادها، ولذلك فلم تتحرك جدياً إلا في الساعة التاسعة صباحاً .. ورغم هذا التأخير، فقد تمكنوا من صد الهجوم سريعاً بسبب خبرتهم القتالية الجيدة، والاحتياطات التي علمتهم المجازر السابقة أن يتخذوها تحسباً لمثل هذا الموقف.
لم تأت الساعة الثانية عشرة ظهراً إلا وقوات أمل قد أجبرت على الخروج من مبنى المدينة الرياضية، بل ومن منطقة الفاكهاني عموماً، ومن محيط الجامعة العربية، وتوصل المدافعون عن المخيمات إلى السيطرة على قصر العويني الكائن على طريق المطر، وربطوا مخيم صبرا بمخيم شاتيلا، ثم شقوا الطريق من هذين المخيمين إلى بئر حسن كي يربطوا هذه المخيمات بمخيم برج البراجنة إلى الشرق من طريق المطار.(30/48)
لكن قوات أمل احتفظت بجيب استراتيجي على الزاوية الشرقية لمنطقة شاتيلا ولم تسلم بقية المخيمات الفلسطينية من اشتباكات متقطعة مع أمل ومن معها كما حدث في مخيم الميّه وميّه في الجنوب، ولكن التركيز الكثيف كان على صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة.
موقف جبهة الإنقاذ:
كان تبرير إعلام نظام دمشق لهذه الهجمة هو أن أتباع عرفات الخونة يحاولون العودة والتسلل إلى المخيمات بعد طردهم منها .. ولكن الذي حصل أن جميع المقاتلين أن جميع المقاتلين الفلسطينيين – بما فيهم جبهة الإنقاذ – شاركوا في الدفاع عن المخيمات والسؤال المطروح.
هل تمردت قيادة جبهة الإنقاذ هذه المرة إلى إرادة الأسد ولماذا؟
وجواباً على هذا السؤال نقول:
1- إذا صفى الوجود الفلسطيني في هذه المخيمات فتكون جبهة الإنقاذ قد فقدت ثقلها كلها أو جله على الأقل لأنها لا تملك وجوداً عسكرياً إلا في هذه المخيمات، ولها وجود ضئيل في مخيمات أخرى.
2- واجهت الجبهة نقداً شديداً بسبب المعارك التي خاضتها في مخيمي البداوي ونهر البارود إرضاء للأسد ونظامه المرتد .. لقد سفكوا دماء الأبرياء وارتكبوا أبشع الجرائم وأحطها .. ولا يزال الشعب الفلسطيني يذكر لهم هذه المواقف الدنيئة، ولو استجابوا لأوامر الأسد هذه المرة لفقدوا ما تبقى لهم من أعوان وأنصار.
3- وقادة الجبهة أول من يعلم أنهم لو طلبوا من قواعدهم مساندة أمل أو الوقوف على الحياد لما استجابت لهم هذه القواعد .. وكيف يستجيبون وهم يرون أبناءهم وأخواتهم وأمهاتهم يذبحون كالنعاج.
لهذا ولغيره فإن جبهة الإنقاذ شاركت في المعارك، ودافع رجالها عن أنفسهم وذويهم، ولا ندري هل اتفقوا سلفاً مع أسد على هذا الموقف أم الظروف الحرجة فرضت عليهم خوض المعركة .. ورغم ذلك فكانت تصريحات القادة تتراوح بين الهجوم المقذع على ياسر عرفات ومن معه وبين النقد الهادئ لنظام الأسد، غير أن القيادات التي غادرت دمشق كانت أكثر حرية.
عودة لسياق المعركة:(30/49)
انطلقت حرب أمل المسعورة تحصد الرجال والنساء والأطفال، ولم تتوقف عند هذا الحد وإنما امتدت أيديهم القذرة لتطول المستشفيات ودار العجزة .. لقد أحرقوا بنيرانهم بعض غرف الطابقين الرابع والخامس من مستشفى المقاصد الخيرية كما أحرقوا جزءاً من دار العجزة!!
كانت أمل في وضع متميز لأنها كانت قادرة على الكر والفر، وهي التي كانت تفرض المعركة متى أرادت، أما المقاتلون الفلسطينيون فكانوا يدافعون عن أنفسهم، ولا يملكون التراجع عن مواقعهم .. ورغم ذلك فقد عجزت أمل عن الصمود أمام المقاتلين الفلسطينيين فترة طويلة.
اللواء السادس يدخل المعركة:
أصدر المجرم المحترف نبيه بري أوامره لقادة اللواء السادس في الجيش اللبناني لخوض المعركة وليشارك قوات أمل في ذبح المسلمين السُّنَّة في لبنان .. ولم تمض ساعات إلا واللواء السادس يشارك بكامل طاقاته في المعركة وقد قام بقصف مخيم برج البراجنة من عدة جهات.
ومن الجدير بالذكر أن أفراد اللواء السادس كلهم من طائفة الشيعة، وقد خاض هذا اللواء معارك شرسة ضد المسلمين السُّنَّة في بيوت الغربية.
محاولات وقف إطلاق النار:
كان المسلمون السُّنة من اللبنانيين لا يتوقعن مثل هذه المؤامرة الدنيئة وكانوا يقولون: إنها معركة أفلت زمامها من عقلاء الطرفين .. ولهذا تحركوا لوقف الاقتتال، فأجرى المفتي وسليم الحص وغيرهما اتصالات مكثفة مع نبيه بري من أجل وقف إطلاق النار، فوافق زعيم أمل دون أن يصدر أوامره لرجاله بوقف القصف، ولعله فعل ذلك كي يخفف المقاتلون الفلسطينيون الضغط على جنده.(30/50)
كان هذا الاتفاق الأول قد تم في الساعة العاشرة من صباح الاثنين 20 مايو 1985م ولما لم تجد هذه المحاولة تحرك السياسيون المنتسبون لأهل السنة بفاعلية أكثر وعقدوا اجتماعاً في منزل بري بعد إلحاح شديد وشارك في هذا الاجتماع: الحزب التقدمي الاشتراكي – الدرزي – واتفق المؤتمرون على وقف فوري لإطلاق النار مع تيسير دوريات من الجيش اللبناني في مناطق الاشتباكات.
ولم يكن بري جاداً هذه المرة أيضاً ودليلنا على ذلك أن مناطق الأوزاعي والغبيري كانت في هذه الأثناء تشهد حشوداً عسكرية ضخمة تابعة لقوات أمل الشيعية، وهذا يعني أنه كان يستعد لمعركة ضخمة يثأر فيها في شهر رمضان الفضيل لدماء الحسين (، كما زعم أتباعه وهم يقتحمون المخيمات [ليعد من شاء إلى ما روته وكالات الأنباء عنهم].
إن الحسين ( بريء من هؤلاء المجرمين المنحرفين، بريء من أعمالهم وأخلاقهم وعقائدهم وأساليبهم.
الوقف الثاني لإطلاق النار:
استمرت المعارك بقية اليوم، وفي الليل، وتمكنت أمل من إحراز بعض التقدم لكن ما أن حل الليل حتى تراجعت تحت ضغط المقاتلين الذين استفادوا من حلول الظلام في الحركة بحرية.
وفي الساعة السابعة من صباح الثلاثاء 21 مايو 1985م وجه اللواء السادس نداءات بواسطة مكبرات الصوت إلى سكان المخيمات تطالبهم بإحلالها تجنباً للقصف، وقد سارعت العائلات على الفور بالنزوح من منازلها واللجوء إلى المدارس والمساجد والأحياء الآمنة .. كما دخل الصليب الأحمر المخيمات لإخلاء المصابين، وتم دفن بعض القتلى.
لم تدم هذه الهدنة إلا وقتاً قصيراً، ففي الساعة والنصف عاد القصف مرة أخرى من طرف أمل، وتوقف نقل الجرحى وظلوا ينزفون حتى الموت .. حتى إن بعض التقارير قالت: إن طفلاً من المصابين يموت كل خمس دقائق.(30/51)
وعندما تبيّن لكل ذي عينين هدف أمل التآمري تحركت القوات العسكرية المحسوبة على أهل السنة في لبنان، ففي يوم الثلاثاء 21 مايو 1985م دخلت قوات (شاكر البرجاوي) و(المرابطون) في معارك مع أمل في منطقة الطريق الجديدة، وشارع حمد، ومحيط جامعة بيروت العربية، كما أقاموا نقاط تفتيش مشتركة مع الفلسطينيين في مخيم عين الحلوة خارج صيدا، وقد أربك هذا العمل خطوط أمل الخلفيّة، وكانت المعارك في قمة الضراوة في هذين اليومين: الاثنين والثلاثاء، ويقال أن عدد القتلى وصل في هذين اليومين إلى 100 قتيل و 500 جريح من سكان المخيمات وحدها.
وقف رابع:
بذلت مساع عديدة لوقف نزيف الدم شارك فيها مفتي الجمهورية، ورشيد كرامي، وسليم الحص وغيرهم من أهل السُّنة كما شارك فيها محمد شمس الدين وحسين فضل الله وغيرهما من الرافضة، ونجحوا في ترتيب اجتماع عقد في منزل فضل الله منتصف ليلة الأربعاء 22 مايو 1985م ومثل منظمة أمل في هذا الاجتماع أحمد بعلبكي كما حضره ممثل عن جبهة الإنقاذ .. ويعد هذا أول لقاء مباشر بين الطرفين، ولم يتفقوا في نهاية الاجتماع على حل شامل لكنهم اتفقوا على بندين.
- وقف فوري شامل وحاسم لإطلاق النار.
- فتح الطرقات المؤدية إلى المخيمات والسماح للصليب الأحمر الدولي بإجلاء الجرحى والقتلى.
أما بقية المسائل، كمسألة أمن المخيمات وغيرها فسوف تعالج في أجواء أكثر هدوءاً، وصرح فضل الله للصحف ووكالات الأنباء أن وقف إطلاق النار سيكون هذه المرة ثابتاً وحاسماً ونهائياً.
ولكن الرافضة لا عهد عندهم ولا ضابط يضبطهم .. فوقف إطلاق النار الرابع استمر لمدة ساعات فقط زعمت أمل بعد هذه الساعات القليلة أن نقاط المراقبة التابعة لها رصدت جرافة تعمل على إقامة تحصينات في مخيم شاتيلا بناء على طلب القيادة الفلسطينية في الجبل، فصدرت الأوامر بضرب الجرافة مما أدى لاندلاع شرارة القتال – على حد قول قادة أمل -!!(30/52)
وفي أثناء وقف إطلاق النار الرابع سارع سكان المخيمات إلى الفرار بأطفالهم ونسائهم إلى مناطق ليس فيها رافضة.
تطور جديد:
توترت العلاقات بعض الشيء بين منظمة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي ووقعت بعض الاشتباكات بين الطرفين، وليس لهذا التطور الجديد أي علاقة بالفلسطينيين، فالطرفان مجمعون على تصفية الوجود السني في بيروت الغربية والجنوب والمخيمات، ويبدو أن الدروز باتوا يتوجسون خيفة من ازدياد نفوذ أمل ونمو قواتها العسكرية، ويعرف قوم جنبلاط قصة الثور الأسود الذي قال: (أكلت يوم أكل الثور الأبيض).
وفي 22 مايو 1985م ذهب وليد جنبلاط إلى دمشق ليبحث مع المسؤولين هناك وقف القتال، وفي اليوم نفسه الساعة 12.10 انطلقت راجمات الصواريخ الفلسطينية من بحمدون وشملان وضهور العبادية لتدك موقع أمل في الشياح والغبيري وبئر عبد ومنطقة السمرلاند.
وكان لهذا التطور الجديد أثره الكبير على سير المعارك، وارتبكت قوات أمل وانتشر الرعب بين عناصرها المقاتلين .. ولجأ الكبار إلى إصلاح الخلق في الأدوار المتفق عليها، وبعد الاجتماعات والمشاورات نفى ناطق رسمي باسم الحزب الدرزي أن يكون القصف جاء من مناطقه، واتهم القوات اللبنانية – أي الكتائب – بقصف الضاحية الجنوبية.
وصدرت التعليمات عند القيادة الاشتراكية الدرزية في بيروت إلى قواتهم في الجبل تطلب منها التحرك بسرعة، وممارسة أقصى الضغط على الفلسطينيين لوقف القصف من مواقعهم في الجبل بأية وسيلة ممكنة.
وفي مساء هذا اليوم التقى وفد من جبهة الإنقاذ الفلسطينية مع عبد الحليم خدام نائب الرئيس النصيري، وأكد المجتمعون على أهمية تعزيز العلاقات الاستراتيجية بين الجبهة وحركة أمل والوطنيين اللبنانيين!!
ولا ندري مع من يريد عبد الحليم خدام وزعماء الإنقاذ تعزيز العلاقات!!
أمع الهياكل العظمية المتبقية في المخيمات الفلسطينية الجريحة، أم مع اليتامى والأرامل ومشوهي الحرب؟!
يوم الخميس:(30/53)
في اليوم الرابع للبداية الفعلية للمعارك شنت قوات أحمد جبريل غارات على مواقع حركة أمل في بلدة الجيّة الساحلية وبلدة برجا.
ولجأت أمل إلى استخدام الحرب النفسية، حيث أعلنت عن سقوط مخيمي صبرا وشاتيلا، وراحت تكرر إذاعة الخير في الأيام التالية: 26، 27، 30، 31 مايو، وكانت كاذبة في كل ما زعمته عن سقوط صبرا وشاتيلا، وأخذ نبيه بري يصدر التصريحات العجيبة في هذا اليوم ومن ذلك أنه طلب من أتباعه القضاء على الفلسطينيين خلال ساعة!!
ومن الغرائب أن إذاعة مونت كارلو تذيع بيانات أمل ولا ترد منها شيئاً في حين كانت ترفض إذاعة البيانات الصادرة عن قيادة المنظمة .. ثم تزعم مثل هذه الإذاعات أنها مستقلة وليست طرفاً في مثل هذه الصراعات.
النظام اللبناني:
قصفت القوات الكتائبية المخيمات الفلسطينية بالقذائف المدفعية والصاروخية وذلك من مواقعها الشرقية، وبادرت قيادة الجيش اللبناني ممثلة في ميشيل عون ولأول مرة منذ شهر شباط 1984م إلى إمداد اللواء السادس بالأسلحة والذخائر كاشفة بذلك عن تواطؤها المقصود مع أمل.
أما رئيس الحكومة اللبنانية رشيد كرامي وأمثاله من المحسوبين على السنة فكانوا يصدرون التصريحات الفارغة التي يمتصون بها نقمة الشارع السني لكنهم لا يقدمون شيئاً ولا يقفون مواقف فعالة، وعلى العكس من ذلك فقد بقي كرامي والحص في الوزارة، وكانا يطالبان بتدخل الجيش النصيري، ويعلمان ما الذي فعله الجيش النصيري عندما تدخل عام 1976م.
أما الأحزاب الوطنية واليسارية فهي تخشى أشد الخشية من نمو قوات أمل، وتؤيد كل ما تريده سوريا. ورغم ذلك فقد راحت تطالب بوقف الاقتتال في المخيمات.
يوم السبت:(30/54)
رغم وقوف اللواء السادس مع أمل في خندق واحد، ورغم تعاون القوات الكتائبية والجيش اللبناني مع أمل وتقديم كل عون ومساعدة لها .. رغم هذا وذاك فشلت أمل في حسم المعركة لصالحها، وكان لا بد من موقف تظهر فيه الوجوه الكالحة على حقيقتها، ويتلخص هذا الموقف فيما يلي:
* انضم اللواء الثامن في يوم السبت 25 مايو 1985م إلى أمل في حربها ضد الفلسطينيين,
* طوق جيش النظام النصيري مخيم الجليل الفلسطيني في منطقة البقاع، وقام باعتقال عدد من شباب المخيم.
* أقامت قوات أمل مواقع لها على التلال المطلة على المخيم.
وهكذا تتضح المؤامرة والأطراف المشتركة فيها.
يوم الأحد:
في يوم الأحد 26 مايو تم تقديم أربعة مشاريع مختلفة للحل: مشروع من جبهة الإنقاذ، ومشروع من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والثالث قدمته منظمة أمل، والرابع قدمته الجبهة الديمقراطية الوطنية اللبنانية .. وفشلت المشاريع كلها لأن المتآمرين لم يحققوا أهدافهم، أما المعارك فقد استمرت، كما استمر المجرمون الرافضة في اختطاف وتصفية المدنيين الفلسطينيين داخل المخيمات وخارجها.
وبعد يوم الأحد استمرت المعارك تشتد حيناً وتخف أخرى، والمؤتمرات السياسية لا تختلف عن سير خط المعارك الحربية، ومن الحوادث المهمة في هذه الأيام.
- أحبطت منظمة أمل محاولة لنسف منزل بري يوم الثلاثاء 28 مايو حيث تم تفكيك صاروخين، كانا موجهين إلى منزله من سطح أحد المباني المقابلة للمنزل.
- في يوم الأربعاء 29 مايو طوقت قوات سورية في الشمال مخيمي البارود والبداوي، وذلك بعدما أخلت القوات الفلسطينية مواقعها فيها رضوخاً لتهديد سوري سابق بالإغارة على كافة المواقع إذا لم تنسحب منها القوات خلال 24 ساعة.
- قامت منظمة أمل تحت ضغط الخسائر الكبيرة التي منيت بها في المعارك إلى فرض التجنيد الإجباري في الضاحية الجنوبية من بيروت – وسكان الضاحية شيعة -، كما قامت باعتقال العديد ممن رفضوا هذا التجنيد.(30/55)