ولكن الذي يجب أن ينتبه إليه القارئ هو أن هذه النظرية التي يؤمن بها الشيعة ، لم تظهر في حينها ، ولم تردد على ألسنة رجالهم عقب وفاة النبي ، ولا طوال عهود الخلفاء الراشدين ، ولكنها ظهرت في عصر متأخر أي بعد وقوع الشرخ الكبير في الجماعة الإسلامية ، وانقسامها إلى شيعة يناصرون علي بن أبي طالب ، وأموية تناصر معاوية بن أبي سفيان والي الشام ، فلما ظهر الحزب الشيعي على المسرح السياسي ، بدأ مفكروه يبتدعون الأفكار النظرية ، التي تخدم أهدافهم ، ويجهدون أنفسهم في تطويع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ـ وهو ما يعرف بالتأويل ـ لكي تقدم لنظريتهم السند الشرعي والدلالات التي تؤكد فكرتهم حول الإمامة وانحصارها في بيت علي بن أبي طالب . فزعموا أن الآية القرآنية الكريمة ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) إنما نزلت على رسول الله ، بعد عودته من حجة الوداع ، لكي يبلغ المسلمين بالنص على " إمامة " علي بن أبي طالب ، ويقولون إن النبي ـ وقت نزول الآية ـ كان في مكان يقال له "غدير خم " فأمسك النبي بذراع علي ، ثم خاطب الناس قائلاً : " من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه " .
هذا هو أقوى دليل يستدل به الشيعة على أن علي بن أبي طالب ، منصوص عليه بمقتضى الآية القرآنية والعبارة المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهناك بالطبع استنباطات أخرى مثل قول النبي : " أنا مدينة العلم وعلي بابها " وغيرها من الأحاديث التي تشيد بعلي وترفع من قدره ، ولكن الفكر الشيعي أخد هذه العبارات التي صدرت عن النبي، وجعلوا منها دلالات على أحقية علي في الإمامة وارتفاع قدره على غيره من الصحابة وتعطيه حق الإمامة .(8/17)
وأنت إذا قرأت عبارة النبي في حديث الغدير ـ لو صح ـ فلن تجد فيها ما يشير إلى إمامة علي والنص على خلافته للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فالنبي يدعو إلى موالاة علي ومعاداة من عاداه ، فهل يفهم من هذا النص أي معنى يدل على أن النبي يعين علياً إماماً على المسلمين بعد وفاته ؟ وإذا كان النبي يريد ذلك فلماذا لم ينص على ذلك صراحة ؟ وهل يتصور قيام حائل يحول بين النبي ـ وهو المشروع الأول ـ وبين اسم خليفته !!
وقد تصدى المفكرون الإسلاميون لنظرية الشيعة في الإمامة وناقشوا الأدلة التي يعتمدون عليها فيقول العلامة ابن خلدون : ( إنهم ـ أي الشيعة ـ يؤيدون مذهبهم بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم ، لا يعرفها جهابذة السنة ، ولا نقلة الشريعة ، بل أكثرها موضوع ، أو مطعون فيه ) .
ويرد الشهرستاني على وضعهم حديث الغدير الذي ينسبون فيه إلى النبي النص على إقامة علي بن أبي طالب فيقول :
أولاً : من المحال ، من حيث العادة ، أن يسمع الجم الغفير كلاماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لا ينقلونه ، في مظنة الحاجة وعصيان الأمة بمخالفته ، والدواعي بالضرورة تتوافر على النقل ، خصوصاً وهم في نأنأة الإسلام وطراوة الدين وصفوة القلوب ، وخلوص العقائد من الضغائن والأحقاد ، وإذا كانت الدواعي على النقل موجودة ، والصوارف عنه مفقودة ، دل على أنه لم يكن في الباب نص أصلاً .
ثانياً : لو أن شخصاً كان قد عين ، لكان يجب على ذلك الشخص المعين أن يتحدى بالإمامة ويخاصم عليها ويخوض فيها ، ولم ينقل أن أحداً تصدى للإمامة وادعاها ، نصاً وتسليماً إليه .
* * * * *(8/18)
والثابت تاريخياً أن علي بن أبي طالب امتنع عن مبايعة أبي بكر الصديق ، ولكنه ما لبث أن بايعه بعد فترة قصيرة ، والشيعة أنفسهم لا ينكرون مبايعة علي لأبي بكر ولكنهم يبررونها بأنها كانت على سبيل "التقية " أي أن علياً لم يفعلها إلا مداراة وخوفاً ..!!
وهكذا تجد الضعف واضحاً في كافة الأدلة التي تستند إليها النظرية الشيعية . فهي أدلة لا تصمد أمام النقد التاريخي أو البرهان العقلي ، ولكن الشيعة يتمسكون بها إلى حد الاستشهاد في سبيلها لأنها تخدم غرضهم الأساسي وهو قصر الإمامة على البيت العلوي واعتبار ما عداه باطلاً ، واعتبار كل الخلفاء مغتصبين ، وأنت ترى من هذا العرض أن التشيع في مطلع أمره كان فكرة سياسية بحتة تنتصر لأحد البيوت القرشية في مواجهة البيوت الأخرى . ولكن هذه النظرية السياسية لم تلبث أن تطورت مع الأحداث والتطورات السياسية والاجتماعية والمذهبية ، حتى بات التشيع في نهاية الأمر عقيدة دينية خالصة وتحول التشيع على كهف يأوي إليه الحاقدون والمتربصون بالإسلام ، وكل من يريد الكيد له ، وتجد ذلك في المذاهب الشيعية الغالية ، التي تطرفت إلى المدى الذي ابتعد بها عن حظيرة الإسلام وجعلت الأئمة في مرتبة الأنبياء والآلهة ، وأعني بذلك السبئية والنصيرية والإسماعيلية ، والتي قامت بينها وبين جمهور المسلمين مذابح لم تجف دماؤها بعد .
الفصل الثالث
أفكار منحرفة في ثياب عصرية(8/19)
إن المشكلة التي تعانيها الساحة الفكرية الإسلامية ، في الوقت الحاضر ، إنما تتمثل في انبعاث أفكار قديمة ، في ثياب حديثة وإننا كنا نظن أن أفكار الخوارج قد اندثرت ، بعد انقراضهم من العالم الإسلامي ، ولكن ما حدث هو أن بعض الدعاة الإسلاميين ـ وهم يقلبون البصر في شؤون العالم الإسلامي ويبحثون عن مخرج له من أزمته الراهنة ـ نقبوا في الدفاتر القديمة ونبشوا في تراث الأجداد ، فراقت لهم أفكار الخوارج ونفضوا عنها التراب ، وخلطوها بمزيج من الأفكار الحديثة ، ثم وضعوها في قارورات شفافة ، وقدموها إلى المسلمين المحدثين على أنها الدواء الناجع لكل الهموم التي يعانيها الإسلام والمسلمين . والشيء المثير للدهشة والغرابة ، أن الناس أقبلوا على تعاطي الدواء دون أن يسألوا أين صنع ؟ وكيف صنع ، وما هي مكوناته الأصلية ، وماذا كان مصير الصناع الأول الذين جربوه !! وهل أفلح هذا العقار في علاج الأدواء التي صنع لعلاجها ؟؟ [ وساعد على انتشار هذا الدواء الغريب حاجة الناس إلى ما يشفي أوجاعهم النفسية والاقتصادية والاجتماعية بعد أن أجريت عليهم التجارب من جميع المذاهب والأفكار . فكان مصيرها الفشل والتردي ، ولم يعد أمامهم سوى الحل الإسلامي دون أن يفرقوا بين ما هو صحيح وما هو مزيف ودون أن يشغلوا عقولهم بالبحث في الجذور والأصول .
فأنت ترى من كل هذا أن الجماعات والفرق قد تنقرض وتتلاشى وتصبح مجرد أخبار وحكايات في كتب التاريخ ، ولكن الفكر لا يموت ، ولكنه يبعث حياً إذا تهيأ له المناخ المناسب وإذا توافرت له العقول التي تستخرجه من المتاحف وتقدمه إلى الناس في صورة مغرية .(8/20)
وكل هذا يفرض على ذوي العقول الرشيدة أن يتحملوا مسئوليتهم في كشف الحقائق للناس ، بلا خوف ولا رياء ، ولا مداهنة ، وأن يعرضوا للناس الإسلام الصحيح حتى يتبين لهم الرشد من الغي ، ويفرقوا بين ما يضرهم وما ينفعهم ؛ فالإسلام الصحيح واضح وضوح الشمس في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي مسلك صحابته الأطهار المكرمين ، الذين صحبوه وتلقوا منه الدين نقياً خالصاً من الشوائب والأضاليل ، وتلقاه منهم العلماء الموثوقون ، فعضوا عليه بالنواجذ ، ودفعوا عنه كيد الكائدين ، وحقد المتربصين ، وانحراف المتهوسين الجهلة ، ورسموا لنا الطريق المستقيم وصدق الله العظيم إذ يقول ( وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) .(8/21)
إنني استشعر الحرج الذي يساور قلوب أهل العقل والرشد ، حين يتعرضون للتيارات الفاسدة ، التي تحمل مسوحاً إسلامية ، ويظنون أن المساس بها يؤدي إلى اهتزاز ثقة الناس بالحلول الإسلامية ، ولكنني أرى العكس ، وأرى أن ضمائرهم الدينية تحتم عليهم أن يقوموا بعملية فرز دقيقة لكل ما هو معروض الآن على الساحة الإسلامية من أفكار وتيارات ، وأرى في ذلك تثبيتاً للأفكار الأصلية ، ونفياً للأفكار الضارة ، التي سيؤدي تجاهلها إلى إفساد كل محتويات السلة ، وإتاحة الفرصة للعملة الرديئة المزيفة لطرد العملة الصحيحة ، وفي النهاية لن يصح إلا الصحيح ، وسوف تمضي موجة الانحراف الفكري والفساد العقائدي والهوس الأهوج إلى حيث مضت من قبل موجات وموجات ، ولكن كم سيكلفنا السكوت عنها من دماء وأرواح وفتن كقطع الليل الأسود ؟؟ ولن يعصمنا من كل ذلك سوى الشجاعة في المواجهة عن طريق الكلمة الصريحة الأمينة ، وتنوير العقول والأذهان ، كي تتخلص من الأفكار التي علقت بها سواء عن جهل ، أو عن عاطفة ، وإذا لم نبادر بهذه الحملة التنويرية فسوف تدخل مصر ـ ومن ورائها العالم العربي ـ مرحلة ظلام طويل لا يعلم مداه إلا الله .
والتاريخ خير شاهد على ما أشعر به ، وعندما لوي عنقي إلى الماضي ، فإنني لا أتعسف في تفسير الحاضر ، ولكني أرى المستقبل على ضوء الأحداث التي وقعت فتركت لنا عبرتها ، والشعوب الذكية هي التي تستفيد من ماضيها ، فتعرف ما سيكون ، بما قد كان .(8/22)
وأنا عندما أري انتقاضة الشيعة الإيرانيين وزحفهم البطيء ذا النفس الطويل ، إلى منطقة الخليج والبقاع المقدسة ، من حقي أن أضع هذه التحركات في إطارها التاريخي إلى جوار انتفاضاتهم القديمة ، وسعيهم الدائب إلى إقامة امبراطورية فارسية شيعية تعيد مجد قورش وقمبيز ودارا ، على أنقاض مجد سعد بن أبي وقاص والمقداد والمثنى بن حارثة، صناديد الفتح الإسلامي لبلاد الفرس ، وعندئذ يحق لي أن أتخوف على مستقبل بلادي ، لأنني أعرف جيداً كم يحن الشيعة إلى استرداد مصر إلى حظيرة التشيع ، وأنا عندما أرى طائفة ( البهرة ) تنفق عشرات الملايين من الدولارات على مقصورة الحسين ، والسيدة زينب ، وتجديد مسجد الحاكم بأمر الله ، يكون من حقي أن أشعر بالقلق، لأنني أعرف أن البهرة لم ينفقوا هذه الملايين " لله في لله " ، وليسوا من السذاجة لتجديد مسجد لا يصلون فيه ، ولكنهم لم يفعلوا ما فعلوه إلا ليكون لهم موطيء قدم في مصر المحروسة ، التي حكمها أجدادهم الفاطميون ، في القرن الرابع الهجري ، فمصر لم تمح من قلبوهم ، وستبقى بمثابة الحلم الذي لا يخبو ، حتى أغاخان الكبير ـ زعيم طائفة الأغاخانية الفاطمية ـ عاش حياته المديدة بين الغيد الحسن في العواصم الأوربية فلما مات أوصى بأن يدفنوه في أسوان ، ليكون قبره القابع على ربوة عالية بمثابة المنارة التي يتطلع إليها الإسماعيلية في شرق أفريقيا والهند .
لقد ذوى الوجود الشيعي في مصر منذ 840 سنة ، فلا تحد مصرياً واحداً يؤمن بالتشيع ولم يبق من فترة الحكم الشيعي التي امتدت 205 سنوات سوى آثار تدل عليهم ، الأزهر ، وجامع الحاكم بأمر الله ، وجامع الآمر ، وذكرى الاحتفالات الصاخبة التي كانت تمتد فيها الأسمطة ، وتوزع الحلوى التي أتقنوا صنعها مثل الكنافة والقطايف ولقمة القاضي .
التشيع الحكومي(8/23)
الثابت تاريخياً أن قطاعاً من المصريين اعتنقوا مذهب الشيعة الإسماعيلي أثناء حكم الفاطميين لمصر . بعضهم فعل ذلك عن انسياق عاطفي في حب أهل البيت . وبعضهم فعل ذلك عن انتهازية جرياً وراء لقمة العيش ، وزلفى إلى السلطان الذي جعل اعتناق التشيع جواز المرور إلى شغل الوظائف الحكومية ، وعندئذ لم يعدم الأمر وجود بعض ضعاف النفوس الذين مالأوا السلطة طمعاً في خيراتها ، والثابت تاريخياً أن الحكم الفاطمي دخل مرحلة الضعف والانهيار بعض انقضاء عهد الخلفاء الأوائل المعز ، العزيز ، الحكم ، وبدأ الفناء يدب في أركان النظام في أواسط عهد ( المستنصر ) الذي طالت مدة حكمه فبلغت 65 عاماً ، هي أطول مدة لحاكم في تاريخ الإسلام ففي عهده حدثت الشدة المستنصرية ، التي عانت فيها البلاد المجاعة وساعد النيل من ناحيته على تدهور الأحوال عندما شح فيضانه فبارت الأرض ، ونقصت الغلة ، وانتشرت الأوبئة ، واضطر الناس إلى أكل القطط والكلاب ، فلما انقرضت بدأوا في خطف البشر عن طريق الخطاطيف ، فانهارت السلطة المركزية ، ووقعت البلاد فريسة لصراعات قادة الجند الذين كانوا ينتمون إلى جنسيات متعددة ، فاضطر المستنصر إلى الاستعانة بحاكم عكا القوي الأرمني بدر الجمالي فجاء إلى مصر بجيشه وضبط الأمور ، وأطاح برؤوس قادة الجند في مذبحة شهيرة كانت المثال الذي احتذاه محمد علي حين أطاح بزعماء المماليك ، في مذبحة القلعة ، وبقدوم بدر الجمالي بدأ عصر الوزراء العظام فأصبحت لهم الكلمة الأولى في إدارة شؤون مصر، وتضاءلت إلى جانبهم سلطة الخلفاء الفاطميين حتى انتهت الإدارة إلى الوزيرين الشهيرين ، ضرغام وشاور بن مجير السعدي ، وهو من عرب البوادي ونشب الصراع بينهما في الوقت الذي تعرض فيه الشرق الإسلامي لخطر الحملات الصليبية ، وكانت كل الدلائل تشير إلى أن نظام الحكم الفاطمي في مصر لم يكن عند مستوى الأحداث الجسام التي وقعت وبلغ من جهل الحكام الفاطميين(8/24)
، أنهم تواطأوا مع الصليبيين الذين احتلوا فلسطين نكاية في الأتراك السلاجقة الذين كانوا يحكمون الشام وهم من أهل السنة .
ولم يكن من المقبول أن تستمر الأوضاع على هذا النحو المزري ، وكان لابد أن يظهر البطل الذي يبطل هذا الإفك ، وكان البطل هو صلاح الدين الأيوبي ، الذي جاء إلى مصر جندياً في جيش أبيه وعمه ، من قبل السلطان نور الدين محمود ، ولكن التطورات السريعة ما لبثت أن وضعت صلاح الدين في موضع المسؤولية ، فكان أهلاً لها بكل المعايير.
وبدأ صلاح الدين مهمته التاريخية بالقضاء على " شاور " الوزير الأبله الذي استعان بالصليبيين حتى دخل مصر ، ثم غدر بهم وحاول أن يعوق مسيرتهم فهرب إلى الصعيد بعد أن أشعل النار في الفسطاط وحولها إلى كوم فحم ، وبالقضاء على شاور أصبح صلاح الدين الوزير القوي في حكومة الخليفة الفاطمي ( العاضد ) .
وبدأ شكل النظام المصري في غاية الغرابة والتناقض :
على قمة الدولة خليفة فاطمي شيعي إسماعيلي لا حول له ولا طول، بعد أن دخل النظام مرحلة الفناء ودخل العاضد نفسه مرحلة الاحتضار بعد مرض عضال.
وإلى جانبه وزير سني يملك في يده كل خيوط السلطة، ويحمل على كاهله مسؤولية المواجهة مع الوجود الصليبي ، ويكمل المشوار الذي بدأه في الموصل سيده ، عماد الدين زنكي ومن بعده ابنه نور الدين محمود .
ولم يترك النجم الأيوبي الأمور لتصاريف القدر ، فأعلن سقوط الدولة الفاطمية ، وبهذا القرار الجريء زال من الوجود الحكم الفاطمي لمصر ( سنة 567هـ ) بعد 205 سنوات وعادت مصر، كما كانت منذ دخلها الإسلام سنية خالصة ، بل عميدة للتيار السني، وكان على صلاح الدين أن يحارب في جبهتين : إعداد البلاد لمواجهة حاسمة مع الصليبيين في فلسطين ، ومطاردة فلول الفاطمية التي كانت تعشش في بعض الجيوب في صعيد مصر .(8/25)
ونجح صلاح الدين في الجبهتين ، ولكن الذي يعنينا هنا نجاحه في اقتلاع الجذور الشيعية ، وإتاحة الفرصة أمام المؤسسات السنية لتستعيد نشاطها ، ويعود إليها رونقها الذي خبا طوال العهد الفاطمي ، وعاد المصريون الذين تشيعوا إلى حظيرتهم ، وحل علماء الشرع محل قضاة الشيعة في الأزهر ، ومن يومها أصبح الأزهر عمدة المؤسسات السنية في العالم الإسلامي ، وبؤرة النشاط العلمي والثقافي والأدبي .
ذهب الفاطميون وذهبت دولتهم ، وبقي المصريون على حبهم القديم لأهل البيت ، واستطاع المصريون بفطرتهن السليمة أن يفرقوا بين هذا الحب الخالص ، وبين مذهب مشبوه يتخذ من أهل البيت ستاراً لتنفيذ أغراض مذهبية وقومية هي أبعد ما تكون عن الإسلام الصحيح الذي استقاه المصريون من منابعه النقية .
وتلك هي طبيعة المصريين منذ دخلوا الإسلام ، فنفروا من كل المذاهب والنحل والتيارات ، التي تتعصب لبيت من البيوت حتى لو كان بيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
عرف المسلمون الحب ولكنهم لم يعرفوا التعصب .
واستقام المصريون لأحكام الشرع . وتشربوا روح الإسلام في نقائها وبساطتها وسماحتها ، ونفروا من الغلو والهوس ، ورفضوا الانحياز إلى فريق دون فريق ونأوا بأنفسهم عن الدخول في أتون الصراع الدموي الذي قام بين الفرق والأحزاب المتناحرة على الحكم .
* * * *
هذه الحقيقة التاريخية ينبغي أن نكشف عنها ، ونعتز بها ، لأنها توضح إلى أي مدى فهم المصريون الدين على أنه قوة خلاقة ودعوة إلى بناء الفرد والمجتمع على أساس الفضائل ومكارم الأخلاق ، وليس قوة مدمرة تفرق الناس وتحولهم إلى شيع متناحرة ، وفرق يضرب بعضها وجوه بعض من أجل الحكم ..(8/26)
أقول إن المصريين ـ والمسلمون والمسيحيون سواء في ذلك ـ فهموا الدين على هذا النحو الخلاق ، ونفروا عما سواه من مفاهيم منحرفة .. ولذلك لا تجد في تاريخ المصريين تلك المذابح التي قامت بين أتباع المذاهب المسيحية في أوروبا ـ الكاثوليك والبروتستانت ـ ولا تجد في تاريخ المصريين تلك المواجهات الدموية التي قامت بين أتباع الفرق الإسلامية .
مصر الإسلامية ، هي نفسها مصر المسيحية في فهمها للدين الصحيح ، ورفضها للغلو والتعصب والتناحر ، هكذا وقفت في وجه الإمبراطورية الرومانية ، وهي في عنفوان غرورها . وعندما أرادت بيزنطة المسيحية أن تلعب على وتر التعصب المذهبي وتجبر المصريين على اعتناق مذهبها المنحرف ، رفض الأقباط ، وظلوا على فهمهم للمسيحية كما تلقوا عن القديس مرقص , ودفعوا الثمن غالياً من دماء شهدائهم ومن كفاح رهبانهم.
واتخذ المصريون نفس الموقف المستنير عندما هبت عليهم ريح الخلاف بين الفرق الإسلامية المتناحرة على الحكم , ورفضوا الانحياز إلى أي منها , ولذلك لم يجد الشيعة لهم سوقاً في مصر إلا عن طريق الغزو الفاطمي , وكذلك لم تجد أفكار الخوارج من يعتنقها.
لماذا رفض المصريون دعوى الخوارج ؟
لأنهم شطوا في أفكارهم واغتروا بإيمانهم , فزعموا أنهم وحدهم المؤمنون حقا , ومن خالفهم كافر حتى لو كان مسلماً يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر , المسلم في نظرهم كافر إذا ارتكب معصية وحكموا عليه بأنه مخلد في النار.
هكذا أعلنوها في تبجح وعتو وغرور في وجه إمام الهدى علي بن أبي طالب , كرم الله وجهه الذي كان أول صبي يدخل الإسلام , والذي تربى في كنف النبي صلى الله عليه وسلم , وحكموا عليه بالكفر – كبرت كلمة تخرج من أفواههم – لمجرد أنه قبل التحكيم في خلافه مع معاوية.(8/27)
ولكي نفهم المنابع التي نبت منها الخوارج والعوامل التي أثرت في عقولهم , لنستمع إلى الإمام الجليل الشيخ محمد أبو زهرة وهو يصف لنا القوم وقد جمعوا بين صفات متناقصة هي التقوى والإخلاص والانحراف والهوس والتشدد والخشونة والجفوة والتهور فيقول: إن أكثر الخوارج كانوا من عرب البادية الذين عاشوا في فقر شديد قبيل الإسلام , فلما جاء الإسلام لم تزد حالهم المادية حسنا لأنهم استمروا في باديتهم بشدتها وصعوبة الحياة فيها , وأصاب الإسلام شغاف قلوبهم مع سذاجة في التفكير وضيق في التصور وبعد عن العلوم , فتكوّن من مجموع ذلك نفوس مؤمنة متعصبة لضيق نطاق العقول , ومتهورة ومندفعة لأنها نابعة من الصحراء وزاهدة لأنها لم تجد , إذ النفس التي لا تجد إذا عمرها إيمان ومس وجدانها اعتقاد صحيح انصرفت عن الشهوات المادية وملاذ الحياة , واتجهت إلى نعيم الآخرة وكانت هذه الحياة الخشنة في البيداء دافعة لهم على الخشونة والقسوة والعنف , والنفس صورة لها تألف ولو أنهم عاشوا عيشة رافعة لخفف ذلك من عنفهم وألان صلابتهم ورطب شدتهم.
ويعقد الشيخ أبو زهرة مقارنة بين الخوارج , واليعاقبة الذين قادوا تيار الإرهاب في أثناء الثروة الفرنسية الكبرى فيقول عن الخوارج : (( إنهم ليشبهون – في استحواذ الألفاظ البراقة على عقولهم ومداركهم – اليعاقبة الذين ارتكبوا أقصى الفظائع في الثرة الفرنسية فقد استولت على هؤلاء ألفاظ الحرية والإخاء والمساواة وباسمها قتلوا الناس وأهرقوا الدماء وأولئك استولت عليهم ألفاظ الإيمان ولا حكم إلا لله. والتبرؤ من الظالمين وباسمها أباحوا دماء المسلمين ثم خضبوا الدماء السلامية بنجيع الدماء)).
ثم يقول: ((ومن صفاتهم الإسلامية , حب الفداء والرغبة في الموت والاستهداف للمخاطر من غير داع يدفع إلى ذلك وربما كان منشؤه هوساً عند بعضهم واضطراباً في أعصابهم , لا مجرد شجاعة.(8/28)
أرأيت- عزيزي القاريء أهمية قراءة التاريخ بعين عصرية ؟ وهل وجدت في الأفكار التي تحاصرك الآن صدى لتلك الأفكار القديمة التي لعبت دورها في مسار التاريخ الإسلامي , وكلفت المسلمين غالياً.. من الدماء والأنفس والأموال. وهل اقتنعت بأن أحداث التاريخ سلسة يجر بعضها بعضاً ؟!
أنني أقول دائماً أن قراءة التاريخ ليست متعة ذهنية , نزهة خلوية , للهروب من الواقع . ولكنها أشبه بناقوس يزعج الغافلين ويدعوهم إلى اليقظة والحذر.. ولاعتبار وفهم الحاضر على ضوء الماضي.
أسأل الله يحفظ أرض الكنانة من كل سوء وأن يقيها شر الهوس واضطراب الأعصاب , وأن يحميها من كيد الكائدين , إنه سميع مجيب.
الفصل الرابع
جذور الصراع بين الفرس والعرب
إذا كان التاريخ مجموعة حلقات متصلة , أو سلسلة من الأحداث يفضى احدها إلى الآخر , فإن عصرنا الحالي هو بالوراثة , ابن شرعي للأزمنة الغابرة , ويكون الماضي عاملاً مؤثراً في تشكيل مادة الحوادث التي تجري على مسرح الحياة المعاصرة. قد تستغرق عملية التشكيل والتخليق قروناًُ طوالاً , ولكن المهم أن عملية التخمر تتم تحت السطح حتى تفرز في النهاية أحداثاً جساماً , نتصور أنها نتاج عوامل آنية , وما هي- في الحقيقة- إلا محصلة تفاعلات كيميائية , اختلطت فيها عناصر التاريخ بالجغرافيا السياسية.
وإذا كانت قشرة التاريخ البشري- بالقياس إلى التاريخ الطبيعي- لا تتعدى عدة ألوف من السنين , فأنه يمكننا من خلال تتبع حركة الجماعات الإنسانية وانتقالها وراء الخصب , أن نتلمس الظروف التي جمعت أو فرقت بين هذه الجماعات ومن ثم يمكن أن نضع أيدينا على المفاتيح التي تكشف لنا عن مكنون العلاقات التي قامت بين الجماعات منذ وقت مبكر فحددت نظرة كل منها إلى الآخر , ومن ثم باتت تلك النظرة ضمن التراث التاريخي الذي يخلفه الأجداد للحفدة.(8/29)
إذا كان الأمر كذلك , فإنه يمكننا أن نتفهم عناصر الصراع القائم بين العراق وإيران من خلال تتبع مجرى العلاقات التاريخية بين البلدين والعوامل التي حكمت هذه العلاقات – إن سلباً أو إيجاباً- ففي ذلك تبيان لكثير من الأحداث التي ظهرت الآن على السطح في شكل حرب مدمرة أفاض المحللون السياسيون في كشف أسبابها وأهدافها. ولكن الباحث التاريخي , عند معالجته لأسباب الصدام , يتجاوز الأحداث المعاصرة لينبش في تربة التاريخ , عن جذور الصراع وهو عندما يفعل , فإنما يبحث عن البذور الدفينة التي تخفي على العين المجردة , فتكون أشبه بالميكروب الكامن في حشايا الجسم , يدق على النظرة العجلى , قد يخمن حينا وينشط حينا آخر , ولكنه في جميع الأحوال كامن وموجود يؤدي دوره عندما يتهيأ له المناخ المناسب.
وقصة الصراع بين العراق وإيران موغلة في القدم , ولا نعدو الحقيقة إذا كانت ضمن الفصول الدرامية التي دارت أحداثها على مسرح الشرق القديم , ثم أخذت عروضها تتجدد من خلال دورات زمنية تتعاقب بتعاقب الدول التي توالت على البلدين الجارين.
من المؤكد أن الفتح الإسلامي لفارس-عن طريق العراق- هو أهم وأخطر هذه الدورات الصدامية , ولكنه بالقطع لم يكن أولها , فقد سبقته ملاحم كما لحقته دورات , تشكل في النهاية سلسلة متصلة من صدام الصراع بين القطبين , كتب عليهما أن يتجاورا فتنافرا , حتى انطبقت عليهما القاعدة التي تقول (( إن القطبين المتشابهين متنافران)).
أنه صراع أشباه , مثلما هو صراع أضداد على حد تعبير العلامة جمال حمدان في موسوعته (( شخصية مصر)).
ولا يمكن تفسير هذه المعادلة الصعبة , إلا في ضوء المنابع التاريخية للشعبين.
كلاهما آسيوي ومسلم , وتلك عناصر التشابه.
ولكنهما يختلفان عرقياً:
فأحدهما سامي عربي. اضطرته ظروف الجفاف التي عمت الجزيرة العربية في أعقاب عصر الجليد , إلى الهجرة والاستيطان على ضفاف الرافدين الخصيبة.(8/30)
والآخر آري – إيراني , اضطرته ظروف نفسها إلى هجرة مناطق الاستبس الرعوية في أوساط آسيا , وسكن الهضبة الإيرانية التي تجاور الرافدين .
وبدأت أولى ملاحم الصراع بين الرمل والطين , أو بين الاستبس والريف , أو بين الرعاة وجيرانهم الفلاحين , فمن شأن هذه الجيرة أن تتسم بالاضطراب والقلق والتوتر.
وأقرب مثال يذكرك بتلك الجيرة المضطربة , جيرة الفرنسيين والألمان .. فكلاهما أوروبي , وكلاهما مسيحي , وكلاهما يعيش في كنف الحضارة الغربية , ولكن التنافر يعود إلى الأصول الجنسية والظروف التاريخية التي جمعت بينهما , فالفرنسيون ينتمون إلى مجموعة الشعوب اللاتينية , التي تأثرت بحضارة اليونان , والتي تفتخر بأنها أعرق علماً ومدنية وحضارة , أما الألمان فينتمون إلى العنصر الآري , الذي أغار على أوروبا في القرن الخامس الميلادي , فاكتسح معاقل الحضارة الرومانية , ورغم اندماجهم في سبيكة الشعوب الأوروبية , إلا أن النظرة لديهم لا تزال متأثرة بحركتهم التخريبية ورغبتهم الموروثة في السيادة والتسلط . وربما كان تاريخ أوروبا الحديث هو في خلاصته جاهداً دائباً لكبح هذه النزعة التسليطية التي تبدت في أبشع حالاتها في شكل النازية الهتلرية.
هذا مجرد مثل تقريبي لتوضيح العقد الدفينة التي تفعل فعلها بين الشعوب , ثم لا تلبث أن تتفجر في شكل حروب دامية , وهي عقد لا ينبغي للباحث التاريخي أن يهملها أو يقلل من شأنها.
ونعود إلى جذور الصراع بين العراق وإيران..
هجرة العرب إلى العراق
هناك شبه إجماع بين علماء التاريخ ـ ومنهم توينبي ـ على أن الجفاف الذي عم نصف الكرة الجنوبي بعد انحسار عصر الجليد ، كان حافزاً في قيام الهجرات المتواصلة من جزيرة العرب إلى المناطق الخصيبة التي تبدأ من مصب الرافدين وتمتد شمالاً إلى السهول السورية، ثم تنحرف جنوباً ، فتضم أراضي لبنان وفلسطين ، لتشكل ما يعرف بالهلال الخصيب .(8/31)
حدث ذلك منذ خمسة آلاف عام تقريباً ، عندما انساحت القبائل العربية من اليمن تجاه الشمال في موجات متعاقبة . ثم توزعوا عل أطراف الهلال الخصيب في عصور متتالية ، منهم من توجه شرقاً نحو بلاد الرافدين ، وبصورة خاصة حوض الفرات ، ومنهم من استقر في سوريا وفلسطين ولبنان ، ومنهم من توجه غرباً نحو طور سيناء والحوض الشرقي من دلتا النيل . ولما كانت هذه القبائل على درجة معقولة من فنون الزراعة والري فقد أمكنهم نقل خبراتهم الزراعية القديمة إلى مناطق الاستيطان الجديدة ، وأسسوا العديد من التجمعات الحضارية التي كان أبرزها تلك الحضارة النهرية التي نشأت على ضفاف الدجلة والفرات في وقت معاصر ومشابه لحضارة وادي النيل .
وكما كانت حضارة النيل الفيضية سبباً في ظهور الدولة والحكومة التي تشرف على توزيع المياه وتنظيم شؤون الزراعة والري . فقد أثمرت حضارة الرافدين نشوء الدول والأنظمة والقوانين ، وقد أدى ذلك إلى ظهور قوة قطبية جديدة في العراق في مواجهة القوة القطبية التي ظلت تنفرد بزمام القوة في المنطقة ، ونعني بها قوة مصر الفرعونية ، حتى ليبدو تاريخ الشرق الأوسط منذ ذلك الحين ـ كما يصفه جمال حمدان ـ وكأنه مبارزة تاريخية بين العراق ومصر ، فإذا أضفنا إلى هاتين القوتين النهريتين ، قوة نامية ثالثة هي قوة الحيثيين في آسيا الصغرى ( شبه جزيرة الأناضول ) ، لأمكن لنا أن نتصور مسرح الصراع بين القوى الثلاث التي توزعت على رؤوس مثلث متساوي الأضلاع : مصر ـ العراق ـ آسيا الصغرى . ولسوف تنفرد تلك القوى بتسيير مجرى الأحداث في المنطقة لعدة قرون . وإلى حين ظهور مراكز قوة جديدة على حافة العراق ، والأناضول ، ونعني بهما : فارس واليونان ، أما مصر فقد كان عليها أن تدخل مرحلة البيات التاريخي ، أو مرحلة المستعمرة ذات الألف عام ، بعد أن استوعبت عصرها الإمبراطوري ، وأفرزت أول إمبراطورية في التاريخ .
حضارات العراق القديمة(8/32)
ونعود إلى أرض الرافدين لنرصد مراحل قيام هذه الدول القديمة ، والدور الذي لعبته في تاريخ الشرق العربي . والباحثون العراقيون المحدثون يؤكدون على أن هذه الدول كانت دولاً عربية صميمة في أعراقها وفي لسانها وفي حضارتها وفي ثقافتها ، لأنها قامت على سواعد العرب الذين هاجروا من ديارهم الأصيلة بعد عصر الجفاف ، فنقلوا معهم كل ما اكتسبوه من تراث حضاري عندما كانت الجزيرة العربية تزدهر بالخصب والنماء .
انظر ـ مثلاً ـ إلى ما يقوله الدكتور أحمد سوسة عضو المجمع العلمي العراقي في كتابه ( حضارة العرب ومراحل تطورها عبر العصور) : ( وكانت مستوطنات شعب الجزيرة في عالمه تؤلف عالماً عربياً واحداً يتمايز بقوميته العربية تعززه وحدة جغرافية واحدة مترابطة الأجزاء تضم الجزيرة ( الأم ) وأبناؤها في المهجر ، وقد شمل العالم الجديد حضارة ساحل البحر الأحمر والخليج العربي وخليج عمان من الشرق ، وبحر العرب وخليج عدن من الجنوب والبحر الأبيض من الغرب ، وجبال طوروس من الشمال فسيطر هذا العالم بجماله على طرق المواصلات الصحراوية ، كما سيطر بسفنه على طرق المواصلات البحرية ، وحدث كل ذلك قبل أ، يشهد الشرق الأدنى غزوات الأقوام الآرية ( غير السامية ) وكان تجمع معظم المهاجرين أول الأمر على ضفاف نهر الفرات الغربية ، المجاورة لبادية الشام حيث أسسوا أولى مستوطناتهم في سوريا وصاروا يعرفون هناك بالعموريين الذين أقاموا مملكة واسعة تعرف باسم " عمورو " ) .(8/33)
ثم يقول : ( ويبدو أن الجماعات التي استقرت في سوريا قد ازداد عددها بعد مرور مدة من الزمن نتيجة لنزوح جماعات أخرى إليها بالإضافة إلى تكاثر عدد النازحين الأصليين . هذا عدا تقلص مساحة الأراضي التي كانت تسقى سيحاً نتيجة هبوط مستوى مياه نهر الفرات في هذه المنطقة ، فانتقلت هذه الجماعات جنوباً على طول نهر الفرات حتى استقرت في شمالي المنطقة السومرية في السهل الخصيب ، الممتد بين دجلة والفرات ، وأسست مستوطناتها على ضفتي مجرى الفرات القديم غربي وجنوب بغداد الحالية ، والتي كانت نواة الإمبراطورية الأكادية التي أسسها سرجون في القرن24 قبل الميلاد ، ثم تبعها قيام الإمبراطوريات البابلية والآشورية والكلدانية ) .
ولا بأس من أن ندرج نبذة تاريخية عن هذه الدول الكبرى .
الدولة الآكادية ( 2350 ـ 2159 ق . م ) :
يرى بعض الباحثين العراقيين أن الأكاديين من أقدم القبائل العربية التي نزحت من جزيرة العرب ، واستوطنت في وادي الرافدين منذ أقدم العصور واستقروا في بداية الأمر على ضفة نهر الفرات الغربية في البقعة الممتدة بين دير الزور وهيت ، ثم انحدروا شمالاً مع مجرى الفرات ، حتى اتصلوا ببلاد سومر ، ودام الاحتكاك بين الآكاديين والسومريين ، عدة قرون حتى تمكن الزعيم الآكادي سرجون الأول من القضاء على الدولة السومرية وأسس أول إمبراطورية عربية . فكان أول قائد عربي عرفه التاريخ ، ومؤسس أول مملكة عربية عظيمة في غربي آسيا شملت معظم أقسام الهلال الخصيب وبلاد عيلام ( فارس ) وجزءً مهماً من آسيا الصغرى إلى البحر المتوسط كما سيطرت على موانيء فينيقية وجبال طوروس .
وكانت نهاية هذا الفتح العربي الكبير سرجون العظيم نهاية محزنة بثورة عامة من رعاياه عليه اشترك فيها السومريون والعيلاميون فاضطر سرجون إلى الانتحار .(8/34)
وفي حدود حوالي سنة 2200 ق ، انهارت الدولة الآكادية بسبب هجمات قبائل همجية تعرف بالكوتيين انحدروا من جبال زاغروس .
الدولة البابلية الأولى ( 1894 ـ 1595 ق . م ) :
تألفت هذه الدولة السامية من العموريين العمالقة ، الذين انحدروا من أعالي الفرات واستقروا في بابل ، واستمرت دولتهم في حكم العراق حوالي 300 سنة ، باسم سلالة بابل الأول حكم خلالها أحد عشر ملكاً اشتهر من بينهم ( حمورابي ) صاحب الشريعة البابلية الشهيرة ، وقد بلغت مملكته أوج عظمتها في عهده ، فقد استهل حكمه بشن الحرب على بلاد سومر الجنوبية وضمها إلى مملكته وأسرع في إخضاع دويلات ما بين النهرين مبتدئاً بدولة آشور في الشمال ثم مملكة ماري ثم تقدم شمالاً على الفرات ، فافتتح المدن الغربية من بلاد الشام . وهكذا أسس حمورابي الإمبراطورية البابلية القديمة الواسعة . ولم تقتصر شهرته على أعماله الحربية ، بل امتدت إلى الإصلاحات الإدارية كما عني بالشؤون الدينية والعدل مما أدى إلى ظهور شريعة حمورابي التي تضمنت أول بنود في التشريع والقانون .
الدولة الآشورية ( 1595 ـ 612 ق . م ) :(8/35)
استقرت بعض الجماعات العربية القديمة على طول ضفة نهر دجلة اليمنى ، بين الموصل والشرقاط ، وأسست مدينة أطلقوا عليها اسم (آشور) نسبة إلى الإله الذي يقدسه هؤلاء القوم ، وسرعان ما أقاموا إمارة صغيرة برعت في إقامة مشاريع الري الحجرية ، وكان الآشوريون يتكلمون لغة قريبة من لغة الآكاديين ، ... وكتبوا لغتهم بالخط المسماري ، وفي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد ظهر الحيثيون في آسيا الصغرى واتجه فريق منهم شرقاً إلى بلاد ما بين النهرين ، فوقعت آشور في مهب الريح مما دفعها إلى بناء قواعدها . على أساس حربي ، فأقاموا الجيوش النظامية وبدأوا باستعمال الخيل والعجلات ، وفي النهاية أصبحوا أعظم قوة حربية شهدها العالم القديم ، وتمكن الآشوريون من تأسيس إمبراطورية سامية عظيمة ، بلغت من القوة والازدهار ، بحيث سيطرت في ذروة اتساعها على منطقة الشرق الأوسط كلها ، ومن ضمنها آسيا الصغرى ، وسواحل بحر إيجة ، ومصر والخليج العربي وعيلام عدا فتوحاتهم للمناطق الجبلية في الشرق والشمال حتى أرمينية وقضى الملك سرجون الثاني على المملكة اليهودية في السامرة .
وبعد وفاة آخر ملوك هذه الدولة ( آشور بانيبال سنة 626 ق . م ) دخلت الدولة مرحلة الاحتضار ، وتفككت أصولها وانتهزت بابل الفرصة فأقامت الدولة البابلية ( الثانية ) .
الدولة الكلدانية ( البابلية الثانية 626 ـ 539 ق . م ) :(8/36)
وتكونت من تحالف القبائل الكلدانية مع الحشود الآرامية التي نزحت من سوريا ، ولعبت هذه الدولة دوراً مهماً في تاريخ الشرق الأدني غي القرن السادس قبل الميلاد ، فقد استولت على الدويلات في سوريا وفي فلسطين ، وبلغت أوج ازدهارها في عهد ( نبوخذ نصر ) أعظم الملوك الكلدانيين قاطبة وقد دام حكمه 43 عاماً ، وقام بعدة حملات اكتسبت اثنتان منها شهرة تاريخية ، وهما الحملتان اللتان شنهما على مملكة يهوذا، وسبيه اليهود ، ونقلهم إلى بابل ، ثم تخريبه بيت المقدس (أورشليم ) ، وبعد موت نبوخذ نصر سنة 562 ق . م خلفه ملوك ضعاف ، وجاء احتضار الدولة البابلية في نفس الوقت الذي بزغ فيه نجم (قورش) الأخميني في سماء الهضبة الإيرانية ، وجاء ظهوره إيذاناً بميلاد مركز جديد من مراكز القوى التي سيكون لها شأن في ملحمة الصراع مع الجارة الكبرى .
الشعوب الإيرانية :
تلك كانت قصة الطرف الأول في ملحمة الصراع التاريخي على مسرح الشرق القديم ، فماذا عن الطرف الثاني ؟(8/37)
يعتبر الشعب الإيراني من أشد الشعوب تعقيداً في تركيبه السكاني ، حتى ليصدق عليه وصف " الشعوب " الإيرانية ، ويرجع هذا التعقيد إلى تداخل الأصول والأجناس التي توالت على إيران عبر القرون ، فهناك الفرس ، والكرد ، والترك ، والعرب ، والبلوش ، وهناك كذلك التجمعات القبلية مثل : اللور ، والبختيارية ، والقشقائية ، والشاهسوانية، والكاشفار ... ، إلخ . وكل قبيل ينتمي إلى جنس من الأجناس التي أحاطت بالهضبة الإيرانية واتخذت سبيلها إلى هناك في ظروف تاريخية معينة ، واختلطت من خلال حركتها الرعوية ، وتبادلت الصفات الاجتماعية واللسانية ، حتى لتجد عرباً يتكلمون الفارسية ، وتركاً يتحدثون بالمغولية . ولا تعرف على وجه الدقة الانتماءات العرقية ، للأقوام الأولى التي كانت تسكن إيران في عصور ما قبل التاريخ ، ولكن الدراسات الحديثة تطلق عليهم اسم " القزوينيين " أو " القوقازيين " ولو صح هذا القول لكان معناه أنهم كانوا يقيمون في المناطق المحيطة ببحر الخزر (قزوين) أو في المناطق الجبلية التي تفصل بين بحر قزوين والبحر الأسود .
أما الأصول العرقية للأجناس التي تعيش في إيران حالياً ، فقد توافدت على إيران بدءاً من الألف الثانية قبل الميلاد . واتخذت شكل موجات متعاقبة ، كان أسبقها إلى إيران العنصر (الآري) الذي اختلط بالسكان الأقدمين ، ثم كانت له الغلبة عليهم . ويتمثل العنصر الآري في قبيلين : هما الفرس والميديون ، أما العرب فقد دخلوا إيران مع الفتح الإسلامي في منتصف القرن السابع الميلادي ، والقبائل التركية (الطورانية) ، هاجرت إلى إيران في ما بين القرنين العاشر والرابع عشر تحت ضغط الزحف المغولي .(8/38)
وهناك أقليات عرقية ودينية في إيران مثل الأرمن ، والنساطرة ، واليهود ، والبروتستانت ، والكاثوليك ، وتوجد مستعمرات من البارثيين وهم الإيرانيون الذين لا يزالون يدينون بالمذهب الزرادشتي وهم يقيمون في يزد وكرمان ، وفي مجموعات قليلة في طهران ، وأصفهان ، وشيراز ، وهم مشهورون كأصحاب بساتين وتجار ، وتضم المجموعات الإيرانية عديداً من اللغات واللهجات بالإضافة إلى اللغة الرسمية وهي الفارسية . فالكرد ، واللور ، والبختيارية ، يتكلمون لهجات يبدو أنها مشتقة من الفارسية القديمة ، أو من أي لغة هندو ـ أوربية قديمة أخرى. ولا يزال العرب القاطنون إلى الشمال من رأس الخليج (عربستان) يتكلمون العربية، ويتكلم القشقائيون وجيرانهم الشاهسوانيون ـ في الجنوب العربي ـ لهجة من اللغة التركية ، بينما يتكلم البلوشيون في جنوب الشرق لهجة من الفارسية ، وهذه التجمعات تغلب عليها صفة البداوة ، وتتميز بقوة الأجسام والشجاعة وهم مصدر الفتوة ، في الجيش الإيراني ويعدون عموده الفقري، وانحدر من أصلابهم زعماء الأسر التي حكمت إيران في شتى العصور .
وإذا كان تاريخ إيران موغل في القدم . فإن الذي يعنينا منه في هذا البحث هو الجانب المتعلق بالعراق ، وسوف نعتمد في هذا الجزء على الدراسة التي قام بها باحث أمريكي متخصص في شؤون إيران . هو (دونالد ولبر ) وقدمها عام 1950 ، ونشرها في كتاب عنوانه ( إيران ماضيها وحاضرها ) ، ونفهم منه أن أول مظاهر الاحتكاك بين إيران والعراق تمت في القرن السابع عشر قبل الميلاد . عندما هاجرت طائفة من سكان الهضبة الإيرانية منم موطنها القديم في لورستان ( خراسان حالياً ) إلى بابل ( العراق) فغلبوها على أمرها ، وحكموها حوالي 600 سنة ، كما أقاموا العديد من الإمارات ، والدول المركزية في إقليم ( مان) وفي ( السوس ) حاضرة إقليم فارس ؛ كما بسطوا نفوذهم على أرمينية .(8/39)
حدث كل ذلك قبل أن تبدأ الهجرة ( الآرية ) إلى إيران . والتي تمت على شكل موجات متلاحقة . فجاء أولاً ( الآريون الهنديون ) الذين تحركوا حوالي عام 1500 ق . م من إقليم نهري سيحون وجيحون وأقاموا في أقصى الغرب . ثم جاء ( الإيرانيون ) في حوالي عام 900 ق . م حيث عاشوا في جماعات مستقرة حتى انتهى بهم الأمر إلى تأسيس القرى داخل إيران واتخذوها موطناً لهم ، وكانوا يتحدثون لهجة (هندو ـ أوروبية ) .
واشتملت الهجرة الإيرانية على عدة طوائف أشهرها الميديون ، والفرس ، وبات الجميع خاضعين ـ في البداية ـ للدولة الآشورية ، ولكن سرعان ما اشتد ساعدها فاستقلوا عن آشور ثم قهروها ، إلى أن غلبت على الساحة الإيرانية طائفة ( الأخمينيين ) ، فانتشروا في سهول عيلام وسرعان ما آلت إليهم مقاليد السيادة على هذا الإقليم الذي كان يعرف باسم ( فارس ) .
وجاء بروز زعماء من طراز ( قورش ) الفارسي ، والإسكندر المقدوني ( اليوناني ) على مسرح الشرق الأدنى والأوسط ، علامة عل انتقال مراكز القوة إلى إيران واليونان ـ على التوالي ـ بدلاً من العراق ومصر وستتسابق القوتان الجديدتان على تدمير معالم الحضارتين النهريتين في العراق ومصر .(8/40)
لقد بدأت الدورة الأولى من دورات الصراع بين إيران والعراق ، بانتقال ( قورش ) إلى مركز الزعامة على القبائل الأخمينية في إقليم فارس ـ واستطاع هذا الزعيم الذي كان نائباً للملك أن يدبر ثورة في عام 553 قبل الميلاد ، وأن يبني من القبائل الأخمينية ، جيشاً كبيراً يساعده على تحقيق أحلامه الإمبراطورية ، وقد بدأ قورش حملاته التوسعية بغزو العراق ، فعبر الدجلة ، ثم الفرات ، وقوض أركان الدولة البابلية ثم واصل المسير غرباً ، مخترقا ً الشمال السوري، حتى دخل الأناضول ، واستولى على مملكة ( ليديا ) في آسيا الصغرى وبعد أن بنى أسطولاً بحرياً ضخماً توجه نحو اليونان وفتح ثغورها الواقعة على بحر إيجه ، وبعد عودته من آسيا الصغرى توجه نحو السند ، ومات قورش بعد أن خلف واحدة من أكبر الإمبراطوريات في التاريخ ، وكانت المرة الأولى التي تخرج فيها إيران عن نطاقها المحلي ، وتتوسع على حساب جيرانها ، وكانت تلك أول إشارة على انتقال مركز القوة من العراق إلى إيران . أما مصر فسوف تكون خاتمة مجدها الإمبراطوري على يد ابنه قمبيز .
وقورش هذا يضفي عليه الإيرانيون لقب ( الأعظم ) وقد أحيا الشاه الراحل محمد رضا بهلوي ذكراه في احتفالات أسطورية تمت في عام 1971 في نفس المواقع التي شهدت أمجاد قورش ، وقد فسرت هذه الاحتفالات على أنها ( بروفة) لإحياء النزعة التوسعية التي كان يؤمن بها بهلوي ، فهو لم يكن يتصور إيران إلا إمبراطورية تؤكد عظمة اللقب الذي كان يحمله .
وبعد قورش جاء ابنه قمبيز ؛ فاستهل حكمه بغزو مصر في عام 525 ق . م وهي الغزوة التي ختمت على تاريخ مصر الفرعوني؛ فلم تقم له قائمة بعد ذلك. فعاشت مصر بعدها قرنين تحت حكم أسر أجنبية إلى أن وقعت نهائياً في قبضة الإسكندر المقدوني سنة 333 ق.م، وكانت نهاية قمبيز الانتحار بعد أن أصيب بلوثة عقلية على إثر ضياع جيشه في صحراء سيوه .(8/41)
وتوالى ظهور ملوك الدولة الأخمينية ، الذين ركزوا جهودهم نحو مركز القوة الجديد ، الذي يتنامى على سواحل الجزر اليونانية، وكان أبرز ملوك الفرس ( دارا الأول ) الذي عبر البوسفور واستولى على إقليم تراقيا اليوناني ، ثم عبر الدانوب، ودخل في سلسة من المعارك انتهت بموقعة (مارثون) وبانسحاب الجيش الفارسي إلى آسيا الصغرى، وبعد دارا جاء ابنه ( اكزسيس ) فجدد الحملات على اليونان فأحرق أثينا في عام 480 ق.م ولكن أسطوله دمر في موقعة (سلاميس) فانسحب إلى آسيا الصغرى .
ظهور الإسكندر :
وانتهت الدورة الأولى من دورات القوة بين الفرس واليونان ، عندما ظهر فاتح جديد للعالم ، هو الإسكندر الأكبر ، الذي وضع في مقدمة أهدافه تنفيذ وصية والده فيليب المقدوني بتدمير الدولة الفارسية .
بدأ الإسكندر حملته على إيران فقاد جيشاً قوامه 35 ألف جندي ، والتقى مع الجيش الفارسي بقيادة ( دارا الثالث ) في موقعة أيسوس التي تقع في أقصى شمال الساحل السوري ، وانتهت المعركة بالقضاء على الجيش الفارسي قضاءً تاماً ، وعندما لاحظ دارا أن تيار المعركة يسير ضده هرب . وبدا الإسكندر في مطاردته في الجبال والوديان ، ولكنه بدلاً من أن يواصل مسيره نحو إيران ، انحرف جنوباً إلى مصر ففتحها وبنى الإسكندرية ، ثم عاد إلى سوريا ومنها إلى العراق ، وفي إربل قابل جيشاً فارسياً يبلغ عدده عشرة أضعاف الجيش اليوناني ن فهزمه ، واضطر (دارا) إلى الهرب مره أخرى، ثم اتجه الإسكندر جنوباً ليستولى على بابل . ومنها إلى فارس حيث استولى على الخزائن الملكية سليمة ، وأحرق مدينة فارس انتقاماً من إحراق أثينا ، ثم عاد إلى مطاردة ( دارا ) فتوجه إلى همدان ثم سار في المنحدرات الجبلية ، ولم يلبث أن عثر على جثة الملك الفارسي مقتولاً بأيدي أتباعه .(8/42)
وواصل الإسكندر مسيرته في الهضبة الإيرانية مدفوعاً برغبة ملحة في الوصول إلى نهاية العالم ، فتوجه إلى ( بلخ ) في طريقه إلى الهند، وبعد أن عبر نهر السند رفض جنده المسير معه بعد أن ظلوا غائبين عن موطنهم مقدونيا طوال سبع سنوات . واضطر الإسكندر إلى الموافقة على العودة. وأبحر الجند في نهر السند . ثم سار بهم عبر الأراضي البور القاحلة الممتدة على طول الخليج العربي حتى وصل إلى إقليم فارس . وعندما حط الرحال في مدينة ( السوس ) بدأ ينفذ فكرته في إنشاء دولة عالمية تتحد فيها العناصر المقدونية والإيرانية على أساس المساواة بينهما ، وكان صبغ الشرق بالصبغة اليونانية ( الهلينية ) قد بدأ فعلاً بإنشاء المستعمرات اليونانية ، وقد أشار الإسكندر إلى إقامة اتحاد بين الشعوب حينما تزوج كبرى بنات غريمه دارا الثالث ، وشجع 10 آلاف من جنوده على الزواج من إيرانيات ، ولكن الإسكندر لم يكتب له من طول العمر ما يمكنه من بلوغ مراميه ، إذ مات في بابل ولم يكتمل سنة 33 عاماً ، وتوزعت إمبراطوريته على قواده ؛ فكانت إيران من نصيب ( سلوقس ) الذي بنى لدولته عاصمة أسماها ( سلوقيا ) بالقرب من بغداد الحالية.
بقيت إيران تحت حكم البطالسة ( اليونان ) ثلاثة قرون تعرضت خلالها للاضمحلال ، والضعف ، والتفكك . واستمرت على هذه الحال حتى بداية القرن الثالث الميلادي عندما تمكنت أسرة فارسية من فرض سيطرتها على البلاد. وظهر منها زعيم أعاد إليها مجد قورش . تلك أسرة ( آل ساسان ) التي كان لها في تاريخ إيران شأن كبير، إذ ظلت تحكم إيران لمدة أربعة قرون وكانت نهايتها على يد جيش الفتح الإسلامي.(8/43)
كان أول ملوك هذه الأسرة ( أردشير ) الذي قاد ثورة داخلية في إقليم فارس ، تمكن بعدها من توحيد السلطات في حكومة مركزية عام 224 م ، وعلى عادة الفرس في ربط أنسابهم بملوكهم العظام ، انتسب أردشير إلى الأخمينيين ( وهو نفس ما فعله الضابط رضا خان . والد الشاه الراحل ، الذي استولى على الحكم عام 1925 م فنسب نفسه إلى أسرة فارسية قديمة هي أسرة بهلوي ) . وما إن انتهى أردشير من تنظيم شؤون البلاد ، حتى دخل في سلسلة من الحروب مع الدولة الرومانية ، وهي الحروب التي شغلت العصر الساساني كله الذي استمر أربعة قرون حكم خلالها 44 ملكاً ساسانياً كان أعظمهم ( كسرى الأول ) الملقب بأنو شروان.
استطاع كسرى أن يعيد لفارس مجدها الإمبراطوري الذي زعزعته الحروب مع بيزنطة ، فقسم الإمبراطورية إلى أربعة أقاليم إدارية ، ونظم الضرائب وأقام مشاريع كبرى للري والزراعة ، ونعمت في عهده بالعدل والرفاهية . وشهدت صحوة طارئة ، ولكنها كانت صحوة الموت ، أو صيحة النهاية التي فرضها الفتح الإسلامي ، وينبغي أن نتوقف قليلاً عند هذه الفترة التي مهدت للحدث الجليل ، دخول الإسلام عن طريق العراق.
الفصل الخامس
إيران في ظل الإسلام(8/44)
تعرضت الديار الفارسية لهزة عنيفة في أعقاب وفاة كسرى الأول أنو شروان ، ومن المؤكد أنه كانت هناك إرهاصات لهذا الاضطراب في عهود سابقة تعزى إلى الصراعات بين كهنة الديانات الرسمية الثلاث وهي : الزرادشتية ، والمانوية ، والمزدكية ، وتعزى كذلك إلى التنافس على السلطة : بين طبق الكهنة ، وطبقة الأشراف . ولكن هذه الصراعات لم تتفجر إلا بعد موت أنوشروان ، حتى اضطر وريثه كسرى الثاني ـ وكان صبياً ـ إلى الهرب ، ولم يجد سليل آل ساسان من ملجأ سوى عرش الروم ، العدو اللدود لدولة الفرس ، وقدر إمبراطور الروم ، " موريس " هذا الصنيع لعدوه الصغير ، فأكرمه وتبناه وزوجه إحدى بناته ، ثم ساعده حتى تمكن من العودة إلى عرش آبائه بعد عشر سنوات قضاها في المنفى.
ولكن فترة التهادن بين فارس وبيزنطة لم تستمر طويلاً ، إذ وقعت مؤامرة داخل البلاط الرومي أودت بحياة موريس فهب كسرى الثاني للأخذ بثأر حميه من قاتله الإمبراطور الجديد " فوكاس " ، فجهز جيشاً كبيراً زحف به نحو الشام ، ولكنه بدلاً من أن يواصل السير نحو بيزنطة، عرج إلى الجنوب فدخل القدس وخربها وسرق الصليب المقدس وبعث به إلى بلاده ، ثم تقدم نحو مصر فاحتلها ثم واصل الزحف على طول الساحل الأفريقي .
هذه الحادثة التي اندحر فيها الروم على أيدي الفرس عام 615 م ، ترددت أصداؤها في أرجاء الجزيرة العربية وتسامع بها المسلمون وهم يومئذ في مكة نفر قليل يلتفون حول صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم ويلقون العنت على أيدي مشركي قريش . ولم يستطع المسلمون إخفاء تعاطفهم مع الروم باعتبار أنهم من أهل الكتاب . ولم يستطع المشركون إخفاء شماتتهم في هزيمة الروم . ودخل المسلمون في جدل مع الكفار بلغ حد الرهان على أن غلبة الفرس لن تدوم ، وسيكون النصر للروم .(8/45)
وما هي إلا ساعة حتى نزل الوحي الكريم على قلب الرسول يطمئن المسلمين بقرب غلبة الروم على الفرس في سنوات معدودة ، وخلد القرآن الكريم هذه البشرى في مفتتح سورة الروم ( بسم الله الرحمن الرحيم * آلم * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد * ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ، صدق الله العظيم .
ولم يخلف الله وعده ، فلم تمض بضع سنين حتى كان ( هرقل ) قد تولى شؤون الدولة الرومانية ، بعد أن تخلص من الإمبراطور القاتل فوكاس ، وأعاد تنظيم الجيش ، ثم زحف إلى القدس ، وطرد منها الفرس، ولبث فيها أياماً ، تلقى خلالها رسالة النبي الكريم ، يدعوه فيها إلى الإسلام.(8/46)
وبينما كان كسرى يواصل حملته في شمال إفريقيا ، اخترق هرقل الأراضي الشامية ، حتى بلغ العراق ، فعبر الرافدين ، ونفذ إلى قلب الإمبراطورية الفارسية . حدث ذلك في عام 627 ، وتحقق وعد الله للمسلمين في بضع سنين ، ولقي الفرس هزيمة منكرة ، ضاعفت من عوامل الاضطراب والانهيار الذي عم البلاد ، ولم يكن هذا الاضطراب إلا إيذاناً بأفول نجم الفرس ، وزوال ملك آل ساسان إلى الأبد، وبزوغ شمس الإسلام. من المؤكد أن ظهور الإسلام ، ودخوله أرض فارس عن طريق العراق، يمثل حلقة جديدة من حلقات الصراع التقليدي بين إيران والعراق، بل هو أهم الحلقات وأخطرها ـ كما سبق القول ـ نظراً إلى جسامة الأحداث التي وقت بين الطرفين ، والتي شغلت العصر الإسلامي كله ، ولا تزال ذيولها تفعل فعلها حتى عصرنا الراهن . وحتى نعيد ترتيب الحوادث، علينا أن نتذكر أن العراق كان الجسر الذي عبرت عليه جيوش الإسلام، لتنطلق في شعاب فارس وما وراءها، بعد أن حطمت عرش الأكاسرة، وأن القبائل العربية التي كانت تستوطن ضواحي العراق ( المناذرة )، وتخضع لسيادة الفرس، لعبت دوراً أثناء مراحل الفتح . وليس من شك في أن الفرس تملكهم العجب من غلبة العرب عليهم ، فاعتبروا ذلك ضرباً من سخرية القدر، مما جعلهم ينظرون إلى العراق نظرة ملؤها الغيظ والتربص وتحين الفرص للانتقام. ولكن ذلك لن يتم إلا في عصور تالية للفتح الإسلامي، عندها نجد الفرس قد تسللوا إلى مواقع النفوذ والسلطان، بعد أن نجحوا في التآمر على دولة الأمويين حتى أسقطوها وقامت على سيوفهم دولة بني العباس، فكان منهم الوزراء والقادة ، ولا بأس أن تكون لهم الوزارة إذا عزت الخلافة ، وما أمر البرامكة ببعيد عن الأذهان.(8/47)
على أن هذا الأمر سوف نتعرض له بالتفصيل في موقعه، عند الحديث عن مثالب الصراع بين العرب والفرس، إثر ظهور النعرات الشعوبية وإبان العصر العباسي، وما أدت إليه من تفسخ وانحلال ، تجسد في استهانة الفرس بالخلفاء، وظهور دويلات فارسية شبه مستقلة عن سلطة الخلافة المركزية .
العراق قبل الإسلام :
وأياً كان الأمر في تصوير تلك الضربة القاضية ، التي وجهها المسلمون للفرس ، والتي انتهت بزوال ملكهم ، إلا أن الذي يعنينا في هذا البحث ، هو تشخيص الدوافع التي دفعت بالمسلمين إلى اقتحام أرض فارس .
هل كانت بهدف تأديب الفرس ، على سوء معاملتهم لعرب الضاحية ، وإذلالهم إياهم في عصور سابقة ؟
أم كانت بهدف إزالة عروش الطغيان والجبروت أنى وجدت، سواء في فارس أو في غير فارس ؟
وهل كان الفتح الإسلامي يسعى إلى غلبة القومية العربية على القومية الفارسية .. ؟
أم غلبة دين الإسلام على أديان الوثنية ونشر دعوة التوحيد ؟
وهل كان انتصار المسلمين على الفرس هو انتصار للعرب على الأعاجم ؟
أم انتصار للمؤمنين الموحدين على المجوس ؟
كل هذه الأسئلة تدفعنا إلى مناقشة الوضع التاريخي للعراق قبيل ظهور الإسلام .(8/48)
لم يكن العراق غريباً عن سكان الجزيرة العربية ، ولم تبعد القبائل التي تسكنه في أنسابها عن قبائل الجزيرة ، كان العراق امتداداً لمنازلها ، ودار هجرة من هجراتها ، كانت تنتقل إليه وتسكنه، كما كانت تنتقل إلى الشام وتسكنه ، وكان الفرس هنا كما كان الروم هناك ، يجدون في هذه القبائل التي تقارب حياة الحضر ، وتنشر لوناً من الاستقرار ، أداة من أدواتها ، التي تكفيها بوادي العرب ، تقيم منها هذه الدويلات أو الإمارات، وتجعل منها مقاطعة من مقاطعاتها ، أو ولاية من ولاياتها ، ويكون ما بينها وبينها من الجفاء أو الود ، ومن الأمانة أو الكيد ، تبعاً لما يكون من استقامة السيرة وحسن السريرة ، وتعاقب الملوك أو الأمراء . فلم يستقم الأمر على حال معينة أمداً طويلاً ، وإنما كان هناك أمراء يناصبون الملوك الساسانيين العداء ، وملوك يبذلون الأمراء الود، كان بين الأمراء العرب من لقي حتفه في السجون ، وكان من ملوك الفرس من تربى في قصور العرب وباديتهم ، وبلغ من شدة الصلات بين الفرس والعرب ، أن بهرام جور الأمير الفارسي إنما نشأ في قصور المناذرة وبوادي العرب ، وتعلم لغتهم واعتاد عاداتهم ، وقال الشعر كما يقولون . ولم يقتصر ذلك على بهرام ، وإنما كان طائفة من أبناء البيوتات الفارسية ، الذين عاشوا مع آبائهم في عملات العراق أو اليمن ، يثقفون العربية ويجيدون فنون القول فيها ، على نحو ما يجيد ذلك أبناؤها.(8/49)
ومهما يكن أمر هذه الصلات في الجاهلية ، فقد كان العراق ، كما كان الشام ، بعض أهداف حركة الفتوح الإسلامية ، ولذلك لم يكن خالد بن الوليد يفرغ من حروب الردة ، حتى كتب إليه الخليفة أبو بكر ـ وهو في اليمامة ـ أن يمضي إلى العراق ، فيدخلها من أسفلها . وحتى كتب إلى عياض بن غنم ، ليدخلها من أعلاها ، فأيهما سبق إلى الحيرة، فهو أمير على صاحبه . " فإذا اجتمعتما بالحيرة ، وقد فضضتما مسالح (معسكرات ) فارس , وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم ، فليكن أحدكما ردءاً للمسلمين ، ولصاحبه بالحيرة ، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دراهم ، ومستقر عزمهم .. المدائن .. "
كان الهدف إذن . منذ صدور قرار الفتح ، هو دخول أرض فارس، وما " الحيرة " سوى المدخل والمعبر . وكان العرش الساساني هو البغية والمنال ، وكانت المدائن هي المحطة النهائية لهذا الزحف المقدس .
ولو كان تحرير الحيرة ـ عاصمة عرب الضاحية ـ هو الهدف ، لكان على جيوش الفتح أن تتوقف ، بعد أن أزالت عنها سلطان الفرس ، وهي عملية كان قصاراها أن تتم بعد تلك المعارك الأولى ، التي خاضها المسلمون في ذات السلاسل والمذار والولجة وأليس وغيرها ، والتي انتهت بدخول خالد بن الوليد الحيرة . ولكن خالداً لم يتوقف عن الزحف، وإنما كان عليه أن ينتظر عاماً كاملاً ، انتظاراً لاستكمال العدة ، وتهيئة الجيوش التي تتكافأ مع ضخامة المهمة التي ستوكل إليها ، وهي اقتحام قلب الإمبراطورية الفارسية .
على أن أمر فارس لن يقع على عاتق خالد ، فقد كان عليه أن يمضي إلى الشام ، لقيادة الجيوش الإسلامية في اليرموك ، تنفيذاً لأمر الخليفة أبي بكر الصديق . إنما سيؤول أمر العراق وفارس إلى الصحابي الجليل ، والقائد الملهم ، سعد بن أبي وقاص .(8/50)
وليس من أهداف هذا البحث تتبع الفتح الإسلامي في العراق ، ولا سير الجند وما لاقته من عنف المقاومة أو شراسة القتال . وإنما الذي يعنينا هو الكشف عن هوية هذه الفتوح ، ومضمونها السياسي والديني . هل كانت حرباً قومية بين العرب والعجم ؟ وإذا كان الأمر كذلك فماذا كان موقف عرب العراق من تلك الحرب ، التي تدور على أرضهم ، بين بني جلدتهم وجيرانهم الفرس .. ؟ ولاشك أن موقفهم سيلقي الضوء على هذه القضية الغامضة ، من حيث كانوا يمثلون طليعة العرب قبل صدامهم مع الفرس .
لقد تعود المؤرخون القدامى حين يتحدثون فتح العراق ، أن يسندوا إلى العرب المقيمين في الأطراف والمدن ، دور الشرك المسعف ، الذي لا يفتأ يؤدي لشريكه العون ، ويقيه بعض شر الأعداء الذين يواجههم ، ولا يكاد يبعد مؤرخ شرقي أو مستشرق عن هذا الرأي ، حتى خيل إلينا، أن عرب الأطراف كانوا دائماً التكأة التي اعتمد عليها العرب الفاتحون ، بعد أن حنت الدماء للدماء . إلا أن الدراسات التاريخية الحديثة فطنت إلى مخاطر هذا التخريج ، الذي يصور الأمر على أنه إحياء للنزعات القبلية والقومية . ومن نماذج تلك الدراسات : البحث الذي وضعه شكري فيصل ، وهو أستاذ للتاريخ في الجامعات السورية ، ضمن كتابه ( حركة الفتح الإسلامي في القرن الأول )، واستطاع من خلاله أن يحدد دور عرب الأطراف خلال مراحل الفتح الأولى ، ولم يتجاوب عرب الضاحية مع عرب الجزيرة . لم تتوهج فيهم حرارة الدم ، ولم تخفق عندهم نبضات القرابة . وفي المعارك الأولى في الحفير والمذار لا نجد ذكراً للعرب ؛ لا في القادة ، ولا في الجند، ولا ندري أكانت هذه الأرضون خالية منهم ، لا تنزلها قبائلهم ، أم أن القائل التي تنزلها لم تكن ذات شأن كبير . وبدأت المقاومة منذ كانت الولجة . ويقترن ذكر العرب في هذه المقاومة بذكر نصارى العرب ، كأننا أمام حقيقتين اثنتين :(8/51)
أولاهما : أن موقف عرب العراق كان ضد عرب الفتح .
والثانية : أن هؤلاء العرب ، الذين قاموا وحاربوا ، وكاتبوا الفرس، وكاتبهم الفرس ، واجتمعوا بهم ، واتحدوا معهم ، إنما كانوا أو أكثرهم من العرب النصارى . أتراه كان الدين ، أم كانت الرغبات.. ؟ أكان نصارى العرب يقاومون ، مخافة أن يشاركهم هؤلاء الوافدون الأرض والحياة والرزق ، أم كانوا يقاومون لأن هنالك ديناً جديداً آمنت به الجزيرة ، فهو يوشك أن يظلهم ويطويهم؟
والمعروف أن خالد بن الوليد لم يتوقف عن التقدم شمالاً ، بعد أن فتح الحيرة ، واشتبك مع الفرس ، في سلسلة من المعارك الطاحنة ، في الأنبار وعين التمر والحصيد والخناقس والمصيخ والفراض ودومة الجندل ، حتى بلغ حافة العراق مع الشام . فماذا كان موقف عرب الضاحية في تلك المناطق من جيوش التحرير .. ؟
يقول الدكتور شكري فيصل : إن هؤلاء العرب هم الذين حملوا ـ عن الفرس ـ عبء المقاومة ، ويجمعون لها الأحلاف والأنصار ، ولم يكن خالد يلقى الفرس وحدهم ، ولكنه كان يلقى العرب والفرس . بل كان يلقى في هذه المواقع التي كانت مجاورة للبادية ، من العرب فوق ما يلقى من الفرس ، ولعل العرب كانوا يقاتلونه أحياناً وحدهم من دون الأعاجم .
ثم يقول : وإنه ليستبين واضحاً من خلال المعارك ، أن العرب الضاحية وقفوا في وجه عرب البادية ، جمعوا لهم وجابهوهم وقاتلوهم. لم يمهدوا لهم الطريق إلى العراق ، كما يذهب إلى ذلك كثير من المؤرخين ، حين يعددون العوامل التي سهلت الفتح ، ولم يكونوا معهم ألباً على الفرس ، وإنما كانوا مع الفرس ألباً عليهم ، ويستنزفون قواهم التي كان يجب أن تدخر لقتال الأعاجم .(8/52)
إذا كان ذلك موقف العرب المقيمين ، من العرب الفاتحين ، أفبعد ذلك يمكن وصف هذه الحرب بأنها كانت حرباً قومية ، بين العرب والأعاجم ، وأن هدفها كان تحرير الأراضي العربية ، من المستعمرين الفرس .. !! وهل مما يتسق مع الحقيقة التاريخية أن نعطي هذه الحرب مضموناً قومياً عرقياً هي منه براء .. ؟!
إن مخاطر هذه النزعة سوف تتضح لنا في المراحل التالية ، من تاريخ العلاقات بين العرب والفرس ، في إطار الدولة الإسلامية العالمية.
الفصل السادس :
استعادة المجد القديم
انتهت الدورة الصدامية بين العراق وإيران ، مع ظهور الإسلام ، باندحار الإمبراطورية الفارسية ، وزوال العرش الكسروي ، وانسياح المسلمين ، في عمق الديار الفارسية . فإذا بالإمبراطورية العتيدة ، مجرد إقليم من الأقاليم الإسلامية ، تحكم من المدينة أو دمشق أو بغداد . وهو ما لم يحدث للإمبراطورية الرومانية ، التي بقيت محتفظة بقوامها ،رغم فقدها أعز ممتلكاتها ، الشام ، ومصر ، وساحل الشمال الأفريقي ، والأندلس . كما فشلت كل الحملات البحرية والبرية ، التي شنها المسلمون لاقتحام عاصمتها القسطنطينية ، ولم يتم لهم ذلك ، إلا على أيدي الأتراك العثمانيين، بعد ثمانية قرون من سقوط المدائن ونهاوند .
فماذا كان موقف الفرس من هذا الواقع الجديد ، الذي أحاط بهم ، من حيث لا يحتسبون ، وأخذ بمجامع حياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية . هل استسلموا لهذا الطاريء الخطير ، ورضخوا له ؟ وهل استقام الأمر للعرب الفاتحين ، كما استقام لهم في الأمصار الأخرى ..؟(8/53)
لم يهنأ الحال للمسلمين عقب دخولهم بلاد فارس ، ولم يكن توغلهم في شعابها سهلاً ميسراً ، ولم يلقوا من عنف المقاومة مثلما لقوا في تلك المناطق ، التي لم يكن لهم بها سابق معرفة ، فأقدامهم لم تطرقها ، كما طرقت ارض الشام ومصر ، أضف إلى ذلك طبيعتها القاسية ، فمن جبال تكسوها الثلوج ، إلى منخفضات تغمرها المستنقعات . إلا أن وعورة الطبيعة تهون ، بالقياس إلى عنف المقاومة ، التي واجهتهم من جانب الفرس ، فالمسلمون هنا ـ في فارس ـ يواجهون إمبراطورية ضخمة ، عاصرت التاريخ أحقاباً طويلة ، وبسطت سلطانها على رقعة كبيرة من العالم ، وكان لها جذور عميقة في مجالات الحكم والسياسة ، وفي الإدارة والثقافة . وكانت هذه الجذور تمكن للشعور الإيراني القومي مع الزمن المتصل أن يزكو ، وأن يستعلى ، ولذلك لم يكن يسيراً على هذه الجيوش الإسلامية المتقدمة بعد دجلة أو عبر الخليج ، أن تطوي ذلك كله في حركة سريعة ، بل كان هناك نضال طويل لم يخمد ساعة من زمن ، كان مقاومة سافرة في أول الأمر ، وكان انتفاضاً بعد ذلك ، ثم كان سلسلة من الارتدادات المتلاحقة ، وأخيراً كان ـ بعد أن دخل الكثيرون الإسلام ـ تشبثاً بالنزعة القومية ، التي توشك أن تذوب . ومن هنا كان تفانيهم في المقاومة ، ومن هنا كان هذا التاريخ الطويل الذي استغرق صفحات التاريخ الإسلامي ، واتخذ صوراً مختلفة ، من الصراع الديني والمذهبي والسياسي والاجتماعي والثقافي . ولما كان العراق هو مركز العمليات الحربية الكبرى ، وقاعدة انطلاق القوات العربية المتجهة نحو فارس وما وراءها ، ثم هو بعد ذلك حاضرة الخلافة الإسلامية ، ومصدر الإشعاع الحضاري في النظام الجديد ، فقد كان من الطبيعي أن يكون العراق مسرح الصراع ، وحافة الصدام مع القومية الفارسية المتحفزة ، لاستعادة مجدها القديم . ووجد الفرس أنهم إذا كانوا قد خسروا الجولة في ساحات القتال ، ودخلوا في دين الله أفواجاً ، فإن معارك السياسة(8/54)
والحكم لم تتم فصولاً ، وفيها مجال واسع لنمو النزعة القومية المتأججة ، والمتطلعة إلى مواقع السيادة والنفوذ . وساعدهم على ذلك طبيعة النظام الإسلامي الذي يسوي بين أتباعه جميعاً، ولا يضع اعتباراً كبيراً لمسألة الأصول والأعراق . ولكن الفرس لم يجرؤوا على كشف طموحاتهم طوال عهد الدولة الأموية ، فقد كانت (دولة عربية أعرابية) كما وصفها الجاحظ ، وكانت تضع الموالي والأعاجم في الدرجة الثانية من سلم النظام الاجتماعي والسياسي ، وكان تعصبها للعنصر العربي وتحقيرها للأعاجم كفيلاً بوأد التطلعات القومية . ولكنه ـ من ناحية أخرى ـ حفز هذه العناصر على التآمر على قلب النظام الأموي ، والبحث عن نظام جديد ، يمكنهم من تحقيق مآربهم ، ووجدوا ضالتهم في الدعوة العباسية ، التي قامت في مبدأ أمرها على التنظيمات السرية ، لذا نجد الفرس قد سخروا كل خبراتهم في خدمة هذه الدعوة ، وحمايتها من عيون السلطة الأموية ، حتى تكون ـ في حال نجاحها ـ منفذاً لهم إلى مراكز الحكم . وقبل الحديث عن وضع الفرس في ظل الدولة العباسية ، لنا وقفة عند الظروف التي ولدت فيها دعوة العباسيين ، والتي تمثل مرحلة انتقال هامة في التاريخ الإسلامي .
منشأ الدعوة العباسية(8/55)
كان علي بن عبد الله بن العباس موضع عطف الأمويين ، فاستقدموه وأهله من الحجاز ، وأسكنوهم بلدة ( الحميمة ) القريبة من دمشق ، وأقطعوهم الضياع والعطايا ، وكان الرجل وفياً للمعروف الذي أسدي إليه، فعاش ومات دون أن يبدر منه ما يكدر سلطان بني أمية ، ولكن الخطر كل الخطر جاء من ابنه ( محمد ) ، الذي وضع أسس الدعوة السرية للانقلاب العباسي، ونجح في ضم أبناء عمومته من العلويين دون أن يفصح لهم عن اسم الخليفة المنتظر ، واكتفى بأن أطلق عليه اسماً رمزياً هو ( الرضا من آل محمد ) ، واستفاد محمد من دروس النكبات التي تعرض لها العلويون ، عندما كانوا يكشفون عن حركاتهم ، قبل استكمال قوتهم ، فيتعرضون للعسف والاضطهاد من جانب الأمويين، فاعتمد أسلوب التنظيمات السرية، التي تقوم على الخلايا في القاعدة ، ثم تتدرج هرمياً حتى ترتكز في عدد محدود من القادة المخلصين . ووجد هذا الزعيم أن أصلح مكان لبث دعوته هو إقليم خراسان ، لبعده عن مركز الخلافة في دمشق ، ولوجود تربة مهيأة لتقبل بذور الثورة ورعايتها . وهي تربة القومية الفارسية التي تسعى إلى زوال مجد العرب ، والخلاص من الأمويين ، ثم قيام نظام جديد يقوم على سيوف الفرس ، فيكون لهم حق المشاركة ، إن تعذر عليهم الانفراد بالحكم.(8/56)
ومات محمد عام 125 هجرية ، بعد أن عهد بالأمر إلى ابنه إبراهيم، الملقب بالإمام ، فانتقلت الدعوة على يديه إلى مرحلة متقدمة ، وبلغت درجة عالية من النضج والدقة ، في تحريك الأعوان المتحفزين في خراسان ، وهيأت له الأقدار شاباً فارسياً فذاً في تدبير المؤامرات ، وتنظيم الخلايا ، وقيادة الجيوش ، هو أبو مسلم الخراساني ، وكانت خراسان تعج بالقبائل العربية ، ويتولى أمرها ولاة من العرب ، ولكنهم ابتلوا بداء العصبية القبلية، فأحسن أبو مسلم استغلال هذا الداء الوبيل ، فأجج نار الفتنة بين القبائل ، حتى انفلت الزمام من يديها ، وأصبحت البلاد مهيأة للتفسخ والانحلال وللانقضاض على سلطة الخلافة ، وكان على إمارة خراسان في ذلك الوقت أمير عربي ذكي ، هو نصر بن سيار، استشعر مكامن الخطر التي تدبر في الخفاء ، وعبثاً حاول تجميع القوى العربية ، إذ كان أبو مسلم يفسد عليه خططه عن طريق الدس والوقيعة بين زعماء القبائل ، وانهالت رسائل نصر على دمشق ، تحذر من الخطر المحدق. ولكن صرخاته ذهبت أدراج الرياح ، وكان البيت الأموي ـ على عهد مروان بن محمد ـ قد بلغ غاية الضعف والهزال ، ولم تعد تجدي معه صرخات ابن سيار صحيح أن السلطات الأموية وضعت يدها على الرأس المدبر للحركة العباسية ، وهو إبراهيم الإمام ، وقتلته شر قتلة ، ولكن بعد فوات الأوان ، فقد استشرى أمر الدعوة بين العناصر الفارسية ، وباتت تنظيماتها قادرة على التحرك لقلب نظام الحكم العربي في دمشق . وهو ما حدث في عام 132 هجرية ، عندما قاد أبو مسلم الثورة من خراسان ، وأزاح الجيوش العربية ، التي وقفت في طرقه ، ولم يتوقف حتى أطاح بآخر خلفاء بني أمية ، في معركة الزاب الأكبر ، في أعالي الفرات ، وسقطت في يده ثمرة الخلافة ، فسلمها ناضجة إلى وريث البيت العباسي . ولم يكد العباسيون يتسلمون الحكم ، حتى تنكروا لحلفائهم العلويين الشيعة ، وكشفوا عن اسم الخليفة الجديد ، ولم يكن ( الرضا(8/57)
من آل محمد ) الذي حاربوا الأمويين من أجله سوى سليل البيت العباسي ، عبد الله بن محمد ( شقيق إبراهيم الإمام ) والذي اشتهر بلقب السفاح.
ظاهر الحكم للخلفاء وباطنه للفرس
وانتقل مركز الخلافة بعد الانقلاب العباسي من الشام إلى العراق . وكان ذلك إيذاناً بانتقال السلطة الفعلية من أيدي العرب إلى أيدي الفرس ، ونال الفرس بعض أمنيتهم ، لا أمنيتهم كاملة ، فأمنيتهم الكاملة أن تقوم دولة فارسية بملوكها وعمالها ، ولكن إذا عز عليهم ذلك لاعتبارات خارجة عن إرادتهم ، فلا بأس من أن يكون لهم ما يلي الخلافة من أمور الدولة ، فمنهم الوزراء والكتاب وكبار القادة ومعظم الولاة ، وتحقق لهم ما أرادوا . " ظاهر الحكم للخلفاء وباطنه لنا ، نتولى المناصب العالية، وندير شؤون الدولة ، ونترك لهم أبهة الخلافة ، ومظهرها الخارجي ، فلهم الشكل ولنا الجوهر " وما أمر البرامكة عنك ببعيد ، فعن طريقهم شاع نفوذ الفرس في كل مرافق الدولة ، وأصبح لهم جيوش ، حتى ليروي الطبري " أن الفضل بن يحيى البرمكي ، اتخذ بخراسان جنداً من العجم ، بلغت عدتهم خمسمائة ألف رجل " ويصف ابن خلدون استبداد البرامكة بالدولة ، واحتجابهم أموال الجباية " حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال , فلا يصل إليه , فغلبوه على أمره , وشاركوه في سلطانه , ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه , فعظمت آثارهم, وبعد صيتهم , وعمروا مراتب الدولة وخططها , بالرؤساء من ولده, وصنائعهم , واحتازوها عمن سواهم , من وزارة , وكتابة , وحجابة , وسيف وقلم " .
ولقد أفاض المؤرخون في شرح الأسباب التي دفعت بالرشيد إلى نكبة البرامكة . ولكن يهمنا منها الجانب المتعلق بنفوذ البرامكة ، باعتبارهم طليعية القومية الفارسية المتحفزة إلى إحياء مجدها التالد ؛ حتى أن ابن طباطبا يخلع عليهم وصف ( الدولة البرمكية ) .(8/58)
يرجع تاريخ هذه الأسرة الفارسية العريقة إلى جدها برمك ، الذي كان كاهناً لبيت النار في مدينة بلخ , وهو منصب لا يتولاه سوى أشرف الناس ، قي ظل النظام الفارسي ، الذي جعل المجوسية ( الزرادشتية ) ديناً رسمياً للدولة ، وجعل من سلطة الكهنة سلطة موازية للنبلاء ، فلما انتشرت الدعوة العباسية في خراسان ، اتصل بها خالد بن برمك ، وأصبح من دعائمها المخلصين ، واشترك مع أبي مسلم في قيادة بعض فيالق الجيش الخرساني ، أثناء المعارك مع الجيوش العربية ، فلما انتصر العباسيون ، كان خالد من أوائل المبايعين للسفاح ، فولاه ديوان الخراج ، وديوان الجند ، ثم ارتقى وزيراً له واستمر في خدمة بقية الخلفاء من بعده ، المنصور فالمهدي فالهادي ، الذي عهد إلى يحيى بن خالد بتربية ابنه الرشيد وعاش الرشيد في كنف هذه الأسرة يتثقف ثقافتها، ويرضع ألبانها حقيقة لا مجازاً . فلما تقلد هارون الخلافة ، دعا يحيى بن خالد ، فقال له : " يا أبت ، أنت أجلستني هذا المجلس ، ببركة رأيك ، وحسن تدبيرك ، وقد قلدتك أمر الرعية ، وأخرجته من عنقي إليك ، فاحكم بما ترى ، واستعمل من شئت ، واعزل من رأيت ، فإني غير ناظر معك في شيء " ودفع إليه خاتم الملك . وكان أبناء يحيى : الفضل وجعفر ومحمد وموسى ، هم المتصرفون في شؤون الدولة ، فلا تمر صغيرة ولا كبيرة إلا من تحت أيديهم حيى أن الرشيد قلد الفضل المشرق كله ، من النهروان إلى أقصى بلاد الترك ، وقلد جعفراً المغرب كله من الأنبار إلى أفريقية ، بالإضافة إلى منصبه وزيراً للرشيد ، فأقام جعفر في بغداد ملاصقاً للرشيد ، وأناب عنه من أدار هذه البقاع الشاسعة، كما عهد إلى الفضل بتربية ابنه الأمين ، وإلى جعفر بتربية ابنه المأمون .
عقائد البرامكة(8/59)
كل هذا النفوذ العريض ، دفع الرشيد إلى خشيتهم ، والتخوف من نواياهم ، وفي نظام كالنظام العباسي يأخذ بالشبهة ، كان للهمسات واللمزات وقعها الأثير في سمع الخلفاء ، فأذاع البعض أن البرامكة ملاحدة وثنيون ، يحنون إلى ديانتهم القديمة ، وأنهم يؤيدون العلويين سراً، ويعملون على نقل الخلافة إليهم ، بل ويدبرون لكي يصلوا هم إلى عرش الخلافة . ولقد قيل كلام كثير حول عقائد البرامكة ، وحنينهم إلى الماضي ، وإلى مجد آبائهم الأقدمين . من ذلك أن المنصور لما هم بهدم إيوان كسرى ، استشار خالد بن برمك ، فنصحه بعدم الهدم فقال له المنصور : أبيت إلى ميلا ً إلى العجمية ! ومن ذلك ، أن يحيى بن خالد لما حج مع الرشيد ، أشار عليه بإضاءة الكعبة ، ولكن الرشيد فطن إلى هذه البدعة ، التي تكشف عن حنين البرامكة إلى عبادة النار . وظل الأصمعي يتقرب إلى البرامكة ، ويمدحهم ، فلما نكبوا قال فيهم :
إذا ذكر الشرك في مجلس ... ... أضاءت وجوه بنمي برمك
وإن تليت عندهم آية ... ... أتوا بالأحاديث عن مزدك
ولم يكن البرامكة وحدهم هم وجه فارس في دولة العباسيين ، فلقد كان هناك غيرهم كثيرون ، ولكن البرامكة فاقوهم شهرة بسبب كرمهم الشديد ، وصيتهم الذي ذاع في أرجاء الدولة . ومن الأمور التي ساعدت على بروز الفرس ، استحداث منصب الوزارة ، وهو أول منصب في الدولة يلي الخلافة . فإذا عرفت أن معظم من شغلوا هذا المنصب ، كانوا من الفرس ، لأدركت صحة القول ، الذي يصف الدولة العباسية بأنها كانت دولة فارسية ، خاصة إذا أضفت إلى ذلك ما كان لمنصب الوزارة من جلال الخطر ، واتساع النفوذ .(8/60)
يقول العلامة أحمد أمين : كان الوزير يقوم مقام الخليفة في كل الشؤون ، فينظر في الشؤون الحربية ، وفي الشؤون المالية ، ويكتب الرسائل إلى الجهات المختلفة ، ويوقع على ما يرفع إليه من أوراق ، ولم يفعل العباسيون كما فعل خلفاء الأندلس ، من تعدد الوزراء ، وبالتالي توزيع اختصاصاتهم ، وإنما جمعوا لهم " خطتي السيف والقلم " ، ولما كان من شروط الوزارة أن يكون الوزير قادراً على الكتابة ، بليغاً مطلعاً عالماً ، فقد كان ذلك ـ كما يقول أحمد أمين ـ من أكبر الأسباب في قصر الوزارة على الفرس عالباً . فالعرب كانوا أهل فصاحة لسانية ، أكثر منهم أهل بلاغة كتابية . وكان ظهور الكتاب الفرس في دواوين الخلافة ، من الأمور الشائعة ، حتى في بلاط الأمويين ، فقد كان لكل وزير كاتب ، بل كتاب يعينونه ، ولولاة الأقاليم كتاب ، ولرجال الدولة كتاب ، وكانت هذه الطائفة من الكتاب تؤلف وحدة على رأسها الوزير ، بل وتتدرج في الرقي إلى الوزارة ، معتمدة على كفايتها وبلاغتها ، وكان أكثر هؤلاء الكتاب فرساً ، كالوزراء يحتذون حذو أجدادهم من الفرس ـ حتى في مظاهرهم الخارجية ـ ويروي الجهشياري صورة وصفية عن تمسك هؤلاء الوجهاء الفرس ، بالتقاليد الكسروية فيقول : " إن الفضل بن سهل بن زادا نفروخ ـ ذا الرياستين ـ كان يجلس على كرسي مجنح ، ويحمل فيه إذا أراد الدخول على المأمون ، فلا يزال يحمل ، حتى تقع عين المأمون عليه ، فإذا وقعت وضع الكرسي ، ونزل عنه ، فمشى ، وحمل الكرسي ، حتى يوضع بين يدي المأمون ، ثم يسلم ذو الرياستين، ويعود فيقعد عليه " . ويعقب الجهشياري على هذه الصورة فيقول : "وإنما ذهب ذو الرياستين في ذلك إلى مذهب الأكاسرة ، فإن وزيراً من وزرائها كان يحمل في مثل ذلك الكرسي ، ويقعد بين أيديها عليه ، ويتولى حمله اثنا عشر رجلا من أبناء الملوك " .(8/61)
ويطول بنا الحال ، لو تبعنا أثر النفوذ الفارسي في مناهج الدولة العباسية ، ولكن يمكن القول : إن هذا التأثير لم يكن مقصوراً على شؤون الحكم والسياسة والإدارة ، ولكنه تشعب في كافة مناحي الحياة ، الاجتماعية والثقافية والعلمية والأدبية واللغوية . وكان تأثيرهم في الحضارة العربية أشبه بتأثير اليونان في الرومان ، حتى قال المؤرخون: " إذا كان الرومان قد غلبوا اليونان بالسيف فإن اليونان قد غلبوهم بالعقل". وإذا أردت أن تتلمس مجرى التأثير الفارسي في الثقافة العربية ، فما عليك إلا أن تراجع قائمة العلماء والفقهاء والأدباء الذين خدموا الدين، والعلم والأدب والفن ، فتجد الكثيرين منهم ينحدرون من أصول فارسية .(8/62)
ولكن الذي يعنينا في هذا البحث ، هو النفوذ السياسي ، الذي استشرى في شعاب الدولة العباسية ، الأمر الذي أدى إلى غضبة مكتومة في نفوس القوى العربية المحيطة بقصر الخلافة ، وهي ترى سلطانها يتقلص وينكمش ، بالقياس إلى سلطان الفرس . ولا تنس أن الخلفاء أنفسهم عرب ، لذلك لم يتورعوا عن ضرب القومية الفارسية كلما سنحت لهم الظروف ، وكلما استشعروا الخطر من جانبها ، ولمحوا في تحركاتها شبهة التآمر ، فالسفاح قتل وزيره أبا سلمة الخلال ، والمنصور قتل أبا مسلم الخراساني ، ولم يشفع له دوره المجيد ، في تنفيذ الانقلاب العباسي ، والرشيد عصف بالبرامكة ، والمأمون قتل وزيره الحسن بن سهل ، وهكذا كان الصراع بين العرب والفرس ، ينتهي ـ غالباً ـ بقطف رؤوس القومية الفارسية . حتى إذا جاء المعتصم ـ ابن الرشيد ـ تفتق ذهنه عن خطة جديدة ، يكبح بها جماح القوميتين المتصارعتين : الفرس والعرب ، بإدخال قوة ثالثة إلى مسرح الصراع ، وهي قوة الترك، وما درى أنه استجار من الرمضاء بالنار ، فلم يكد الترك يصلون إلى مراكز القيادة حتى انقلبوا إلى قوة شيطانية مدمرة ، وبدأت مرحلة جديدة ، طابعها الاستهانة بالخلفاء ، وإهانتهم بلغت ذروة البشاعة ، في حادث قتل الخليفة المتوكل ، وكانت أول جريمة اعتداء على حياة الخلفاء العباسيين .(8/63)
ولم يستسلم الفرس لهذا التطور الجديد الذي انتهى بإقصائهم عن مراكز النفوذ ، وأوشك أن يقضي على طموحهم القومي ، وكان الفرس يتميزون عن الترك بالقدرة على التدبير، وحبك الخطط بما لهم من تاريخ عريق في أمور الحكم والسياسة . فبدأوا يحصنون أنفسهم بالرجال والسلاح ، ويقتطعون أجزاء من البلاد ـ خصوصاً بلادهم الفارسية القديمة ـ وجعلوا منها إمارات مستقلة عن سلطة الخلافة ، وقواعد ينطلقون منها ، للوثوب على المناطق المجاورة ، حتى إذا سنحت لهم الفرصة ، اقتحموا بغداد نفسها ، وفرضوا سلطانهم على الخليفة . وكذلك كان . فقد نشأت إمارات فارسية قومية شيعية ، لا تعترف بسلطة الخلافة، إلا في الظاهر .
فدولة طاهرية في خراسان .
ودولة صفارية في فارس .
ودولة سامانية في فارس وما وراء النهر .
ودولة زيارية في جرجان .
أما البويهيون فقد استولوا على فارس ، ثم زحفوا على بغداد ، وأخضعوا الخليفة لسلطانهم ، وإليك تفاصيل هذه المأساة التاريخية .
في عام 334 هـ ، سار معز الدولة بن بويه ، من الأحواز إلى بغداد في خلافة المستكفي ، فملكها ، ومنحه الخليفة المستكفي إمرة الأمراء ، وأعطاه الطوق والسوار وآلة السلطنة ، وأمر بأن يضرب اسمه على الدينار والدرهم . فما أن استتب أمر معز الدولة وقوي أمره ، حتى حجر على الخليفة ، وقدر له معاشاً يومياً ، مثله مثل الواقفين على بابه يسألونه العطاء.(8/64)
ولم يقف الأمر عند هذا الحد من الاستهزاء والتنكيل بخليفة الإسلام، وإنما تطور إلى ما هو أسوأ ، إذ دخل معز الدولة البويهي على الخليفة ، وهو في سرير الملك ، فهب واقفاً ، ووقف معه الحضور ، فتقدم اثنان من جند الفرس إلى المستكفي ، فمد يده إليهما ، ظناً أنهما يريدان تقبيلهما، ولكنهما جذباه من السرير حتى طرحاه على الأرض ، وجراه من عمامته ، ثم انقض جند الفرس على حرم الخليفة ، فنهبوها ، فلم يبق منها شيء ، ومضى معز الدولة إلى منزله ، فساقوا المستكفي إليه ماشياً، فأمر معز الدولة بخلعه ، وسملت عيناه ، وولوا ( المطيع لله ) خليفة ، وقرر معز الدولة كل يوم مائة دينار لنفقته .فلما مات معز الدولة ، سار ابنه بختيار مع الخليفة المطيع سيرة أبيه ، وزاد على ذلك بأن صادر أموال الخليفة ، فقال المطيع : أنا ليس لي غير الخطبة ، فإن أحببتم اعتزلت ، فشدد عليه بختيار، حتى باع قماشه وأخذ منه 400 ألف درهم، وأخيراً خلع المطيع نفسه ، وولى ابنه الطائع ، ولم يلبث الترك أن استجمعوا قوتهم ، فوقع الطائع بين شقي الرحى : الفرس والترك ، فقدم عضد الدولة البويهي بغداد ، فخلع عليه الطائع خلعة السلطنة ، وتوجه بتاج مجوهر ، وطوقه وسوره وقلده سيفاً ، وعقد له لواءين بيده ، وكتب له عهداً قريء بحضرته ، ثم أمر بأن تدق الطبول على باب عضد الدولة في الصبح والمغرب والعشاء ، وأن يخطب له على منابر الحضرة ، وزاد في ألقابه ، وأسند إليه أمور الدولة كلها ، على مشهد من رجالات الدولة ، وقال له : " قد رأيت أن أفوض إليك ما وكل الله إلي من أمور الرعية ، في شرق الأرض وغربها ، وتدبيرها في جميع جهاتها ، سوى خاصتي وأسبابي " . بل طمع عضد الدولة البويهي الشيعي في أن تكون الخلافة في نسله ، فزوج الطائع من ابنته ، ورمى من وراء ذلك ، أن يرزق الخليفة ولداً وتكون الخلافة في بيت بني بويه الفارسي .
ظهور نجم الأتراك السلاجقة(8/65)
استغرقت فترة السيادة الفارسية على الخلافة العباسية أكثر من مائة عام ، تعرضت بعدها للأفول ، نتيجة ظهور قوة الأتراك السلاجقة القادمون من بلاد التركستان ، وزحف زعيمهم طغرل بك على بلاد فارس ، معلناً قيام دولة الترك . وفي عام 447هـ ، دخل بغداد في عهد الخليفة ( القائم ) ، فقلده زمام الأمور ، ودخلت تحت نفوذه البلاد الواقعة من حدود أفغانستان ، إلى حدود الدولة الرومانية ، وفي عهد ابن أخيه ( ألب أرسلان ) دارت إحدى المعارك الهامة مع الروم ، كان النصر فيها حليف الأتراك ، وانهزم الروم ووقع إمبراطورهم رومانوس الرابع في الأسر . ولم تلبث دولة السلاجقة أن تعرضت للضعف والتفكك، بسبب ضعف جحافل المغول ، الذين خرجوا كالإعصار المدمر، من بطن آسيا ، فاجتاحوا المدن الإسلامية التي كانت مزدهرة بمعالم الحضارة : بخارى وسمرقند وبلخ ومرو . ولم يتركوا نبتة خضراء دون أن يقتلعوها ، وقتلوا جميع الكائنات الحية التي كانت بها بما فيها القطط والكلاب ، ثم زحف هولاكو ـ حفيد جنكيز خان ـ على إيران فاكتسحها ، ثم تقدم نحو بغداد فدمرها ، بعد أن ذبح آخر خلفاء بني العباس في عام 656 هـ ، وأنهى عصر الخلافة العباسية ، الذي دام 524 عاماً شهدت خلاله مظاهر القوة ما لم تشهده دولة أخرى ، وعانت من مآثر الضعف ما تحدث بذكره الركبان . وعاشت إيران والعراق عهداً جديداً في ظل الدولة المغولية ، التي كانت عاصمتها تبريز ، وبدأ ملوكها يدخلون الإسلام ، واحداً بعد الآخر ، وكان أبرزهم غازان محمود، الذي التحم مع المماليك المصريين ، في موقعة مرج راهط ، وانتصر فيها المصريون . وكانت دولة المغول ( الإيلخانية ) ، دولة فارسية ، في حضارتها وثقافتها ولغتها ، مما يدل على عمق التأثير الفارسي ، ثم توالى على حكم الدولة المغولية خانات ضعاف ، دب الانقسام بينهم حول الملك ، فتفككت أواصر الدولة ، واستقل الأمراء بحكم ما تحت أيدهم من بلاد . واستغرق حكم ملوك(8/66)
الطوائف حوالي قرنين ونصف قرن إلى أن ظهرت في القرن السادس عشر في شمال إيران ن قوة جديدة هي قوة "الصفويين " الذين جعلوا من التشيع مذهباً رسمياً للدولة الإيرانية لأول مرة في تاريخها .
الخلاف المذهبي بين الدولتين
تنتسب هذه القوة الجديدة إلى مؤسسها الشيخ صفي الدين ، وهو زعيم صوفي ، انتشرت دعوته في أردبيل ، حتى اشتد عودها ، فقام أحد رجالاتها ، واسمه إسماعيل ، بالاستيلاء على تبريز ، ومنها بسط نفوذه على كل بلاد فارس ، بعد أن خلع على نفسه لقب الشاه ، وفي عهده دارت ملحمة جديدة من ملاحم الصدام بين إيران ، والعراق ، فدخل إسماعيل بغداد عام 1505 م دخول الفاتحين ، بعد أن أضاف إلى عناصر الصراع بعداً جديداً ، وهو الخلاف المذهبي ، فقد كانت دولة الصفويين شيعية ، الأمر الذي أثار حفيظة الأتراك العثمانيين ، الذين آلت إليهم زعامة العالم الإسلامي ، بعد سقوط الخلافة في بغداد . يقول دونالد ولبر عن هذه الفترة : وقد أذكى التحول إلى التشيع عداوة الأتراك العثمانيين ضد الشاه إسماعيل الصفوي ، وكانت أولى نتائج هذا الاحتكاك المذهبي غزو إيران بجيش يقوده السلطان سليم الأول ، الذي هزم إسماعيل بالقرب من تبريز عام 1514 م , وقد استمرت الحروب مدة طويلة ، وكان الضغط الخارجي على إيران عاملاً قوياً في توحيد جميع أجزائها ، وإخلاص أهلها للملوك الصفويين ، والمذهب الشيعي ، وحكم المملك الصفوي الثاني ، الشاه ( طهماسب ) من 1524 إلى 1576 : وتمكن من الاحتفاظ بحدوده الشرقية . ولكنه قاسى هزائم عديدة في الغرب ، وعلى يدي السلطان العثماني سليمان القانوني ، الذي استولى على العراق ، وتوغل حتى وصل إلى تبريز وأصفهان ، فنقل الصفوي عاصمته من تبريز إلى قزوين ؛ لينجو من التهديد التركي ، إلى أن ظهر الشاه عباس الكبير ، في عام 1587 ، وكان العثمانيون ـ في الغرب ـ يسيطرون على أذربجان جميعها ، وكان الأتراك الأوزبكيون ـ في الشرق ـ قد غزوا(8/67)
خراسان ، واستولوا على هراه ومشهد ، فأمضى الشاه عباس أولاً ـ معاهدة اعترفت بالمغانم العثمانية ، ثم سار لطرد الأوزبكيين من خراسان ، فلما تخلص منهم توجه غرباً ، وانتصر على العثمانيين ، واسترد أذربيجان وأرمينية وجورجيا ، وبعد وفاته أبرمت معاهدة بين الطرفين سوت مشكلة الحدود الغربية لإيران ، حتى القرن التاسع عشر . وبعد وفاة الشاه عباس الثالث عام 1736 ، انتهى حكم الصفويين ، ودخلت إيران تحت حكم ( نادر شاه ) ، الذي بدأ حياته كقاطع طريق ، ولكنه تمكن من بسط نفوذه على البلاد ، وطرد الأفغان من غرب إيران ، ومن خراسان وهراه ، وعين أفراد أسرته حكاماً على أقاليم إيران ، ثم توغل في أفغانستان ، حتى وصل إلى الهند ، ونهب قصور دلهي ، ثم استدار لفتح العراق ، فاستولى على الموصل والبصرة، ولكنه قتل بيده أحد ضباطه . وبعدها دخلت إيران تحت حكم القاجاريين ، وهي إحدى القبائل السبع التي ساعدت الشاه إسماعيل الصفوي ، فعادت للظهور على المسرح ، بعد مقتل نادر شاه ، واستمرت إيران تحت حكم القاجاريين ، طوال القرن التاسع ، وحتى عام 1925 ، عندما تمكن الضابط رضا خان من تدبير انقلاب أطاح بحكومة طهران ، وأعلن نفسه إمبراطوراً على إيران .
جذور مشكلة شط العرب
أما العراق ، فقد ظل تحت حكم العثمانيين ، حتى أوائل القرن العشرين، واعتبرت أراضيه ضمن ممتلكات الدولة العثمانية ، فهي التي تحدثت باسمه ، وهي التي تنوب عنه كلما أثيرت مشاكل الحدود بين العراق وإيران . وكان أبرز هذه المشاكل ، مشكلة ( شط العرب ) ، التي تحولت إلى بؤرة حية للخلاف والنزاع بين البلدين .(8/68)
ولقد بدأت أهمية شط العرب تظهر ، منذ القرن السادس عشر ، عندما بدأت الدول الأوروبية ـ وفي مقدمتها البرتغال ـ تتجه نحو الشرق ، وتقيم شركة الهند الشرقية ، ودخلت في منافسة علنية مع البرتغال ، انتهت بطرد الأخيرة من المنطقة ، ولكن بقية الدول الأوروبية تتطلع إلى الخليج ، وبالتالي إلى شط العرب ، بحكم موقعه على رأس الخليج ، ثم امتداده على الفرات إلى الشام ، وبذلك يمكن تقصير خطوط التجارة التي تعبر الأراضي المصرية ، ثم البحر الأحمر ، ثم ظهر بطرس الأكبر ، ليضع قواعد بناء روسيا القيصرية ، ونصب عينيه المياه الدافئة ، والتي يمثل الخليج العربي أهم روافدها ، وراح يبحث عن نصيب في السباق المحموم بين الدول الأوروبية ، حول تثبيت مراكزها في الخليج ، ثم أطلق صيحته الشهيرة ، " من يملك الخليج يملك العالم "، ويعني بها أهمية السيطرة على خطوط المواصلات البحرية ، التي تربط بين أوروبا ومستعمراتها في الشرق . وأصبح شط العرب مركزاً تجارياً هاماً للمصالح الأوروبية ، وأصبحت موانيه مرافيء للسفن الأوروبية على اختلاف جنسياتها . ومع هذه الأهمية بدأ الصراع المرير من أجل السيادة عليه .. وبدأ الصراع بين الدول الفارسية والدولة العثمانية . ولم يلبث أن اتسعت دائرة الصراع ، فشملت الدول الأوروبية ذات المصالح الاستعمارية . وسوف نعتمد في تحليل هذا الصراع على كتاب ( التاريخ السياسي لمشكلة الحدود الشرقية للوطن العربي في شط العرب ) للدكتور مصطفى عبد القادر النجار الأستاذ بجامعة البصرة . والكتاب يضم رسالة الدكتوراة التي تقدم بها إلى جامعة عين شمس عام 1973 ، وهو عبارة عن دراسة وثائقية تبحث في الأصول التاريخية لشط العرب من خلال الوثائق الموجودة في وزارة الخارجية البريطانية ، والمتحف البريطاني ، ووزارة الخارجية التركية . والتي تثبت أن السيادة العربية الفعلية ظلت مستمرة في منطقة شط العرب طوال فترة النزاع العثماني ـ الفارسي .(8/69)
ويرى الدكتور النجار أن المنافسة الأوروبية على التفوق التجاري في شط العرب ، وما ترمي إليه من أغراض سياسية ، ثم اتساع نفوذ قبيلة بني كعب على طول شط العرب . قد لفت أنظار الدولتين المتصارعتين آنذاك ، الفارسية ، والعثمانية حول أهمية السيطرة على تلك الربوع . ولما كانت منطقة شط العرب من مناطق الحدود بين الإمبراطوريتين ، لذلك فإنها شهدت صراعاً عنيفاً بين الفرس والعثمانيين. وإذا كانت معاهدة ( قصر شيرين ) سنة 1639 ، أول معاهدة رسمت الحدود بين العراق العثماني وفارس بشكل عام ، إلا أنها أهملت الإشارة إلى الحدود في شط العرب ، الأمر الذي خلق مشكلات معقدة بن الطرفين ازدادت حدتها طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، إلى أن وضعت بريطانيا أول مشروع لتحديد الحدود الفارسية ـ العثمانية في منطقة شط العرب ، وهو المشروع الذي وضعه عالم الآثار هنري لا يارد ، وجعل في شط العرب والمحمرة ( خورمشهر ) تابعين للعراق العثماني ، وجعل نهر بهمشير الذي يؤدي إلى الخليج ( ويوازي شط العرب ) المنفذ المائي الوحيد لفارس ، وهو نهر يفصل جزيرة عبادان عن الساحل الشرقي . ويعترض المشروع بشدة على أي حق للدولة الفارسية في الملاحة في شط العرب ، لأن نهر بهمشير ـ في نظره ـ يسد حاجة الفرس كمنفذ لهم إلى الخليج ، وعليه فإنه اتخذ في تقريره الأخذ بمبدأ الحدود الفعلية على طول الضفة اليسرى ، لأنه خط ثابت جداً من ناحية العدالة .
وعارضت روسيا القيصرية المشروع بشدة ، طمعاً في أن تصبح ضفة شط العرب الشرقية من مناطق نفوذ روسيا ، التي تسهل لها الوصول إلى مياه الخليج الدافئة ، وضغطت تركيا على بريطانيا ، لتقبل المشروع ، ولكن بريطانيا اعترضت نزولاً على إلحاح روسيا ، واقتناعها ـ إلى حد ما ـ بوجهة النظر الروسية الخاصة بضم الضفة الشرقية كلها إلى فارس ، وحتى لا تقف روسيا ضد الأهداف البريطانية لاستغلال منطقة نهر كارون ، لخدمة المصالح البريطانية .(8/70)
والحقيقة أن كلا الدولتين الوسيطتين ـ روسيا ، وبريطانيا ـ كانتا تسعيان إلى تحقيق أهداف تخدم مصالحهما الخاصة ـ ومع ذلك فقد بدأت لجنة تحديد الحدود الرباعية عملها عام 1843 في مدينة أرضروم، وانتهت في عام 1847 ـ بعد مفاوضات شاقة إلى وضع معاهدة ترسم الحدود في شط العرب ، وبمقتضاها تعهدت الحكومة العثمانية رسمياً بالسماح لفارس بوضع يدها بسيادة تامة على مدينة وميناء المحمرة ، وجزيرة عبادان ، والأراضي العراقية على الضفة الشرقية من شط العرب التي تقطنها قبائل معترف بأنها من رعايا فارس ، وفي مقابل ذلك تتنازل الحكومة الفرنسية عن كل ما لها من ادعاءات في مدينة السليمانية، ومنطقتها شهرزور ، وتتعهد رسمياً بأن لا تتدخل في سيادة الحكومة العثمانية على تلك المنطقة ، أو تتجاوز عليها ، وتضمن المعاهدة حرية الملاحة لفارس في شط العرب بملء حريتها ، وذلك من مصب شط العرب في البحر إلى نقطه اتصال حدود الطرفين .
وقبل التوقيع على المعاهدة ، قدمت الحكومة العثمانية إلى الدولتين الوسيطتين مذكرة إيضاحية أكدت فيها أن تنازلها عن مدينة المحمرة وجزيرة عبادان لا يعني أنها تخلت عن أي أرض أخرى ، أو مرافيء يمكن ... أن تقام في المنطفة المذكورة . كما أن تنازلها هذا لا يعني أنها تنازلت عن الأراضي التي تخص الدولة العثمانية في الضفة اليسرى (عربستان) ، حتى في حالة إقامة القبائل الفارسية بشكل جزئي ، أو كلي على الضفة . ولا يحق لفارس تحت أي ادعاء المطالبة بالمناطق الواقعة على الضفة اليمنى من شط العرب .(8/71)
والواقع ـ يقول الدكتور النجار ـ إن موضوع حركة القبائل العربية المستمرة بين ضفتي شط العرب اليسرى ، واليمنى سبب ظروفاً صعبة للغاية بشأن علاقات الحدود العثمانية ـ الفارسية . ولما كانت ضفتا شط العرب يكونان وطناً واحداً بالنسبة لتلك القبائل ، فإن كثيراً من قبائل كعب ، والمحيسن ، وغيرهما من قبائل عربستان ـ ضفة شط العرب اليسرى ـ كانت تسكن على طول ضفة شط العرب اليمنى في البصرة ، ولم يكن إعاقة انتقالها بين الضفتين . وهم في الوقت نفسه يعتبرون رعايا لشيخ المحمرة ، وبالتالي سيكونون رعايا فرساً رغم أنهم لا يحبذون تلك التبعية ، وكان شيخ المحمرة قد منحهم إعفاءات قبلية من الضرائب . وهم في الوقت نفسه يملكون شهادة الجنسية العثمانية التي يعتبرونها مجرد وثيقة إدارية لا علاقة لها بالمسائل القبلية ، وعليه فإنهم أصبحوا رعايا للدولتين ، العثمانية ، والفارسية في آن واحد . وهذا الشذوذ في العلاقات الدولية غير مألوف . ومما يزيد في تعقيد الأمر قضية الخدمة العسكرية العثمانية ، والفارسية . ومن هنا جاء تأكيد الدولة العثمانية ـ في مذكرتها الإيضاحية ـ بعدم إعطاء فارس الحق تحت أي ادعاء المطالبة بهم أو بمناطق سكناهم .(8/72)
وبعد دراسة المذكرة العثمانية أجاب السفيران ( البريطاني والروسي في القسطنطينية ) بأنهما يشاطران الحكومة العثمانية الرأي القائل بأن ترك الحكومة العثمانية لفارس مدينة المحمرة ، وجزيرة عبادان لا يعني تركها أية أراض ، أو موانيء أخرى موجودة في تلك المنطقة ، وأنه سوف لا يكون لفارس الحق بأية حجة كانت في أن تقدم ادعاءات حول المناطق الكائنة على الضفة اليمنى من شط العرب ، حيث تقطن فيها ،أو في تلك عشائر فارسية ، أو أقسام منها . أما بشأن الاستحكامات والحصون ، فلا يستطيعان سوى بيان رأيهما الشخصي وهو أن تعهد الدولتين الإسلاميتين تعهداً متبادلاً بعدم تحصين ضفتي شط العرب معناه ضمان آخر لدوام العلاقات السلمية بين المملكتين .
وقد أجابت الدولة العثمانية ، وفارس على مذكرة السفيرين الروسي، والإنجليزي بالموافقة . وتم توقيع الطرفين على معاهدة أرضروم التي نظمت الحدود بين البلدين ، واستمرت تعتبر الأساس في قضايا الحدود بين العراق وإيران . ولكن الذي حدث ـ في رأي الدكتور النجار ـ أن إيران الحديثة أخذت تحاول التشكيك في المعاهدة ، والطعن فيها ، وتعتبرها قد فرضت عليها من قبل ممثلي روسيا القيصرية ، وبريطانيا ، وادعت بأنهما تصرفا من جهة واحدة من غير إبلاغ فارس بالمذكرة الإيضاحية التي دارت حولها المراسلات ، وأن سفيرها لم يكن مخولاً بالتوقيع على المذكرة الإيضاحية التي قدمها الباب العالي ، وهكذا أبرمت المعاهدة من غير أن يتم قبولها . كما أن الحكومة العثمانية هي الأخرى رفضت الاعتراف بوجود المعاهدة ما لم تضم المذكرة الإيضاحية .(8/73)
أما العراق ، فقد اتخذ موقفاً آخر رغم أن المعاهدة جاءت على حساب حقوقه القومية ، فإنه اعتبر معاهدة أرضروم وثيقة شرعية لا يمكن لإيران الطعن فيها ، وأن توقيعها ، والتصديق عليها ، وتبادل وثائقها قد تم وفقاً للنظم القانونية ، وأن قضية الحدود في شط العرب ليست بدعة تنفرد إيران ، والعراق بها ، وبعد ذلك تعثر تنفيذ بنود المعاهدة حتى بعد أن شكلت لجنة فنية لتحديد الحدود بين الدولتين ، واتفق أعضاء اللجنة على تعليق قضية الحدود إلى أن يوجد حل نهائي لها ، ثم تعثرت مرة أخرى بسبب نشوب حرب القرم ، ثم اشتعال الحرب بين انجلترا وفارس حول أفغانستان ، فتقدم القائد الإنجليزي في شط العرب ، وضرب المحمرة سنة 1857 ، واحتل الضفة الشرقية من شط العرب ، ويقول لوريمر : إن سقوط المحمرة في يد الإنجليز قوبل بالابتهاج في البصرة ، ظناً بإمكانية ضمها للعراق ، ولكن الإنجليز انسحبوا منها مقابل انسحاب الفرس من أفغانستان . وانتهت اللجنة الفنية من وضع خريطة لحدود البلدين ، ولكنها تضمنت بعض الأخطاء ، فرفضت بريطانيا وروسيا توقيعها ، ثم أمكن بعد خمس سنوات وضع "الخريطة الموحدة " وفي عام 1869 عقدت معاهدة بين الدولتين ، العثمانية ، والفارسية ـ وهي آخر معاهدة حدود بين البلدين ـ تعهدت كل منهما بمقتضاها بأن تؤجل التسوية النهائية ، والبقاء على " الحالة الراهنة " وإبقاء القديم على قدمه ، وعدم إنشاء أية أبنية جديدة في مناطق النزاع ، ولما كان مفهوم الحالة الراهنة مختلفاً عليه من الجانبين ، فإن المعاهدة لم تثمر نتائج طيبة ، وظلت حالة التوتر بين البلدين حتى نهاية القرن التاسع عشر ، ولم تخمد طوال العقود السبعة التي انصرمت من القرن العشرين ، وكانت آخر مظاهرها تلك الحرب التي تجري رحاها الآن بين الجارتين .
الفصل السابع
في انتظار الإمام(8/74)
أتوقع أن تثير الفصول التي كتبتها عن جذور الصراع بين إيران والعراق ، شجن بعض الناس ، بقدر ما تثير دهشة البعض الآخر ، الذين لا يتخيلون أن تمتد جذور هذه الحرب الآثمة في تربة التاريخ القديم ، وما بين شجن الرعيل الأول ، ودهشة الفريق الثاني ، أرى لزاماً عليّ أن أتوقف في هذا الفصل مع القراء الأفاضل ، الذين صدمهم إيقاظ التاريخ من رقاده ، ليحكي لنا قصة الصراع القومي بين العرب ، والفرس . وأنا أعرف أن مشاعر هؤلاء القراء سوف تزداد حدة عندما أتحدث عن البعد المذهبي ـ وهو أخطر العناصر وأشدها حساسية ـ ولكن يعزيني أنني لا أكتب كي أكون موضع الرضا من هؤلاء وأولئك، ولكني أكتب لأزيل الغشاوة عن بعض العيون الغافلة ، وسبيلي إلى ذلك طرح العواطف جانباً ، حتى يتيسر للعقل أن يرى الحقيقة مسفرة ، مهما كانت بشعة ، وصعبة ، ومرة .
فمثل هذه القضايا تتطلب ممن يتعرض لها ـ سواء كان كاتباً أو قارئاً ـ أن يتخلى عن مشاعره وميوله ، ويتحرر من المؤثرات القديمة ، وأحلام المستقبل الغامض ، ولا يبقى معه سوى ميزان العقل والمنطق ، وهو ميزان صارم ، ودقيق ، وأمين ، عندئذ سوف تظهر الحقائق أمام عيوننا جلية .. وسوف نكتشف كم كنا مخدوعين حين حكمنا العواطف في أحكامنا على جسيمات الأمور . وسوف تغمر السعادة نفوسنا عندما نضع أيدينا على أصل الداء ، فنبدأ في علاج أمراضنا على أساس من المعرفة الصحيحة .(8/75)
ولا أخفي عليكم أنني أشعر بإشفاق شديد نحو بعض القراء الأعزاء الذين يعيشون بعواطفهم مع الجانب الإيراني ضد العراق ، ومن ورائه معظم العالم العربي ، هؤلاء الذين ملأ اليأس قلوبهم في أوطانهم العربية، فلبوا نداء الثورة البازغ في إيران . وأسلموه عقولهم وقلوبهم ، يحدوهم حلم الانتظار ، انتظار " الإمام " الذي سيأتي في الزمن الرديء ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً ـ ولا أخفي عليكم أنني كنت أحد الذين طربوا لقيام الثورة الإيرانية على أنقاض حكم الطاغوت ، وتوسمت فيها خيراً كثيراً ، وكان الأمل يحدوني في قيام نموذج عصري للدولة الإسلامية المتحررة من العقد المذهبية ، والعرقية ، نموذج يتحقق فيه العدل ، والأمان ، والرقي لكل من يعيش على أرضها ، وكنت أتصور أن تهدأ حدة الثورة وشيكاً لتبدأ عملية إقامة النظام الإسلامي على دعائم القيم والمباديء ، والنظريات التي جاء بها الإسلام من حرية ، وعدالة ، وشورى ، ومساواة ، وتعمير ، وإخاء بين شعوب الأمة الإسلامية ، حتى نقول للعالم الآخر : هذه هي الدولة الإسلامية التي نفخر بها ونتيه ، كما تفخرون بنظمكم الديمقراطية في الغرب ، ونظمكم الاشتراكية في الشرق ، وها هما العدل ، والحرية يلتقيان على أرض الدولة الإسلامية الوليدة .
**
ولكن، ماذا نقول الآن لهؤلاء وأولئك ..؟ وبم نفخر عليهم ..؟؟ هل نقول لهم انظروا إلى شلالات الدم في دجلة والفرات ..؟ انظروا إلى الخراب والأطلال في المدن المهجورة ..؟ انظروا إلى أشلاء المسلمين الممزقة في الفيافي والوهاد ..؟ انظروا إلى أموال المسلمين وهي تنفق على السلاح ، لتدور عجلة المصانع في الغرب، والشرق، وتبقى خزائن المسلمين خاوية على عروشها ..؟
* *(8/76)
عند هذه الأسئلة المنطقية البسيطة سوف أتوقف مع الإخوة الكرام الذين يعيشون بعواطفهم مع حلم الثورة الإسلامية ، وينأون بعقولهم عن واقع الثورة الإيرانية ، وهي تدق بوابة العالم العربي بعنف بحجة الإطاحة برئيس الدولة العراقية ، وتبشر المستضعفين في الأرض العربية بقيام دولة العدل ، والرشاد ، والإخاء على أنقاض دول الظلم ، والفساد.. وأطرح على هؤلاء الأبرياء الأطهار سؤالاً محدداً : هل تتصورون الثورة الإسلامية بركة دماء ..!! وشعلة دمار ..!! وبغياً وعدواناً على المسلمين ..!! وخطفاً وتقتيلاً للأجانب ..!!وإعصاراً تخريبياً شاملاً لا يبقي ولا يذر ..؟؟
هل تتصورون أن هذا النموذج الدموي هو الأسلوب الأمثل لإزالة الفساد ، واقتلاع الظلم ، وإقامة دولة العدل ، والأمان .. ؟ وهل يمكن أن يكون الدم سبيلاً إلى العدل ..؟ وهل يكون الدمار سبيلاً إلى التعمير ..؟ وهل يكون الظلم ـ في معيار الإسلام ـ أداة لإقرار الحق ..؟؟
الحق أقول لكم إن الإسلام لم يفصل بين الغاية، والوسيلة .. وجمع بين العنصرين في إحكام شديد، وجعل من نبل الوسيلة جزءاً لا يتجزأ من شرف المقصد. وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ هو القائل : " ليس من أراد الحق فأخطأه ، كمن أراد الباطل فأصابه " مشيراً بذلك إلى نتيجة معركته مع بني أمية الذين كسبوا الجولة بالخديعة، والرشوة، والضلال .. فخرجوا من المعركة ومعهم الدولة، والجاه، والسلطان .. وخرج هو، ومن معه، بالمباديء، والقيم التي يتصاغر عندها كل سلطان، فكان هو الكاسب الأعظم، وكانوا هم الأخسرين .
إياكم أن تقعوا في فخ الشعارات الدموية البراقة التي تلعب بعواطف المستضعفين والجائعين والبائسين في أوطانهم العربية، وتأسر ألبابهم بحلم الإمام المنتظر الذي سيأتي من خلف الغمام ، ليملأ البطون الجائعة، ويكسي الأجساد العارية، ويقيم المساكن الجاهزة لمن يعيشون في القبور والخيام ومساكن الإيواء.(8/77)
إياكم والانسياق وراء فكرة الهدم والتدمير ، ليتسنى بناء دولة الرخاء والعدل والمساواة !! فالدماء تعزى بالدماء ، والدمار لا يثمر إلا الخراب ، ويستحيل أن يلد الشر خيراً ، واعلموا أن التخريب ليس الوسيلة المثلى لإصلاح المفاسد ، والعلل التي نعانيها في أوطاننا العربية، والإسلام لم يجعل من الهدم ، والتدمير سبيلاً إلى إقامة العدل لأنه يعلم أن الفتنة لا تجلب على المسلمين سوى الفساد ، وضياع لحقوق ، وانتشار المظالم ، والآثام ، وتصارع المسلمين فيما بينهم ، ثم ظهور حكام أشد ظلماً من أسلافهم ، حتى يقول القائل :
رب يوم بكيت منه فلما ... ... صرت في غيره بكيت عليه
وإذا لم تصدقوني ارجعوا إلى التاريخ الإسلامي ، ونقبوا في صفحاته لتعرفوا كم جرت عمليات الهدم ، والتخريب من فتن وكوارث أصابت الإسلام والمسلمين في مقتل .
* * *
ثم .. ما بالنا نتحدث عن فساد حكامنا ، ولا نتحدث عن فساد أنفسنا !! وما بالنا نلقي بكل اللائمة على الحكام ، ولا نلوم الرعية على ما هي عليه من اعوجاج وفساد وضلال وتقولون إن الفساد في السمكة إنما يبدأ من رأسها .. هذا صحيح .. ولكن هل نسيتم أن الحاكم هو نتاج طبيعي للشعب الذي خرج منه ؟ وهل نسيتم القاعدة الإسلامية التي تقول : كما تكونوا يول عليكم ؟ وللإمام علي كرم الله وجهه قولة مأثورة تجسد هذا الارتباط العضوي بين الحاكم ، والمحكومين ، فقد سأله رجل سليط اللسان : ما بال الناس قد اختلفوا عليك ، ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟ فأجابه الإمام العظيم : لأنهما كانا واليين على مثلي ، وأنا وال على مثلك ..!! وتحضرني كلمة شبيه للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان قالها ، وهو يخطب على منبر المدينة إذ قال : أنصفونا يا معشر الرعية تريدون منا أن نسير فيكم سيرة أبي بكر وعمر ! ولا تسيرون في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر !! نسأل الله أن يعين كلاً على كل .(8/78)
هذا هو منطق العدل كما جاء به الإسلام ، وكما فهمه الأئمة العظام ، والعلماء الأجلاء ، وسوف أعرض عليكم موقف إمام أهل السنة الحسن البصري الذي عاش عصر الظلم ، والطغيان في ظل الأمويين ، ومع ذلك لم يكن ينصح بالخروج عليهم لأنه كان يرى أن الخروج يعطل الحدود ويهدم عمود الدين ويؤدي إلى انحلال الدولة الإسلامية ويجعل باس المسلمين بينهم شديداً ، فيتكالب عليهم الأعداء ، ولأنه رأى الدماء تهرق في الخروج من غير حق يقام ، أو مظلمة تدفع ، والناس يخرجون من يد ظالم إلى أظلم ، وكان الحسن يرى أن الطريق المعبد لإصلاح الفساد هو إصلاح حال المحكومين ، إذ رأى الفساد عم الاثنين ، وتعذر عليه إصلاح الحاكم ، واعتقد أنه إذا صلح حال الشعب تبعه حتماً صلاح الحاكم ، وقد سمع مرةً رجلاً يدعو على الحجاج فقال له : لا تفعل يرحمك الله ، إنكم من أنفسكم أوتيتم ، إننا نخاف إن عزل الحجاج أو مات أن تليكم القردة والخنازير ، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عمالكم كأعمالكم ، وكما تكونوا يول عليكم ، وصلني كتابك تذكر ما أنتم فيه من جور العمال ، وأنه ليس ينبغي لمن عمل المعصية أن ينكر العقوبة ، وما أظن الذي أنتم فيه إلا من شؤم الذنوب والسلام " .
هل كان الحسن البصري ممالئاً للسلطة ، راغباً في رضائها ..؟؟ حاشا وكلا ؟ فهو الإمام الشجاع الذي تجرأ على انتقاد طواغيت بني أمية وهم في عز سلطانهم ، وهو الذي سأله سائل على الملأ في مسجد البصرة عن رأيه في الخارجين على الخليفة عبد الملك بن مروان ، فقال له : لا تكن مع هؤلاء ولا هؤلاء ، فقال رجل من أهل الشام أحسب أنه كان مندوباً من المخابرات الأموية : ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد..؟ فغضب الحسن وأشاح بيده ثم قال : ولا مع أمير المؤمنين ..!!(8/79)
وهذا إمامنا العظيم مالك بن أنس الذي عاش نفس الفترة المظلمة، ورأى خروج الخوارج ، وانتفاض العلويين ، وما نجم عن ذلك من نكبات لحقت بالأمة دون أن تجني من وراء ذلك سوى الدمار ، والفساد.. وقد تلقى مالك من أفواه شيوخه أخبار واقعة " الحرة "، وكيف استبيحت مدينة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، ولم تترك فيها حرمة من غير أن تهتك ، وكيف تعرض أولاد ألأنصار للإذلال فسيقوا في الأغلال . ولم يقم حق، ولم يدفع باطل ، كما وعد الثوار . وترامت إليه وقائع الحرب الضروس بين عبد الله بن الزبير ، وعبد الملك بن مروان ، وكيف استبيحت الكعبة المشرفة حتى رميت بالمنجنيق ، وصار الحجاز كله مباءة للعبث ، والفساد، وهي الأرض التي جعلها الله مثابة للناس وأمناً .
كل ذلك دفع الإمام مالك إلى التحرز في النصح بالخروج على الحكام، خصوصاً وأن نتائج الثورة لم تكن خيراً ، ولم يصل الثائرون إلى إقامة العدل الخالص من الظلم ، حتى يقال إن الغاية تبرر الوسيلة ، أو إن الذريعة السيئة يصغر إثمها إزاء النتيجة الطيبة . فالطريقة إثم ، والنتيجة لا خير فيها . ويستنبط الفقيه الجليل الشيخ أبو زهرة من سيرة الإمام مالك أنه لزم الجماعة ولم ير الخروج على الطاعة . وليس معنى ذلك أنه كان يرى السكوت عن ظلم الحاكم ، ولكنه كان يرى أن إصلاح الحاكم بالموعظة الحسنة وقول الحق في إبانة ، أجدى من الخروج عليه، وأن صلاح الحاكم يتبع في أكثر الأحيان صلاح المحكومين ، وأن على العلماء أن يصلحوا الناس ويرشدوهم ، فإن صلحوا جاء صلاح الحاكمين تبعاً لصلاحهم ومهما يكن رأي مالك في الإصلاح فهو لم يناصر أحداً عند الفتن لأن الفريقين في إثم ، فلا يعاون أحدهما على الآخر ..(8/80)
أرأيت إلى هذين الإمامين الجليلين : الحسن ومالك وموقفهما من قضية الثورة والثوار ، وكيف اتحد نفساهما في إطار من التقى والورع والخوف من الله سبحانه وتعالى .. وكلاهما كان ذا سمت حسن ، وذا عقل قوي نافذ ، وبصر بالأمور ، وكلاهما كان يرى أن الموعظة الحسنة أجدى من الثورة والدعوة إلى الفتنة ، وكلاهما كان ينطق بهذه الموعظة عندما يجد من الآذان إصغاء ، وفي القلوب وعياً ، وفي النفوس رشداً .
* * *
وبعد ...
لقد استغرقني الحديث عن الثورة كمنهج للتغير يجتذب المستضعفين والفقراء والمحرومين دون أن يدركوا ما وراء الأكمة من مخاطر وفتن، وهم معذورون في ذلك، فالحديث عن الثورة الدموية ينم عن شجاعة وإقدام، ويخاطب الجانب الإيجابي في النفس الإنسانية، ويحرك المشاعر المتدفقة عند الشباب الذين يمثلون وقود الثورة ومادتها الرئيسية، بينما الحديث عن الإصلاح التدريجي والموعظة الحسنة والنصح القويم لا يجذب سوى الكهول والشيوخ الذين صهرتهم التجارب وصقلتهم المحن والشدائد، ونظروا إلى ما هو أبعد من السطح ، ونفذوا ببصيرتهم إلى الأعماق، فرأوا العناصر الخفية وهي تتفاعل وتتلاطم وتصارع.
ولقد رأيت واجب الأمانة يقتضيني أن أكتب هذه الكلمة لعلها تكون تبصرة لذوي النفوس الطيبة والنوازع الشريفة الذين يحلمون بالتغيير السريع، والطفرة الدموية، وينتظرون قيام الدولة الإسلامية العصرية، التي تحقق لهم الأمن والاستقرار والحياة الكريمة ، ولكن أعود لأسألهم في ختام حديثي : هل رأيتم دولة إسلامية تقوم فوق بركة من الدماء ..!! وإذا قامت هل يكتب لها الاستقرار ..؟ وهل نكون أمناء مع أنفسنا ومع الدين الذي نعتنقه إذا وصفت بأنها إسلامية !!
الفصل الثامن
انتفاضات الشيعة(8/81)
تبين لك مما سبق ، أن الصراع بين الفرس والعرب صراع قديم ، وله جذور عرقية ودينية ، والآن جاء الدور لإلقاء الضوء على البعد المذهبي ، في الصراع القائم حالياً بين إيران والعراق ، وأعني به الصراع بين مذهب التشيع الذي يعتنقه حكام إيران ، ومعهم القطاع الفارسي من القوميات الإيرانية ، ومذهب أهل السنة ، أو مذهب الجمهور الذي يلتزم به النظام العراقي ، ومعه القطاع الأكبر من مسلمي العراق ، ومن خلفهم العالم السني ، بدءاً من الكويت ودول الخليج العربية ومروراً بأرض الحرمين الشريفين ، ومصر .. وانتهاء بالمغرب الأقصى .
الصراع المذهبي ـ الذي يتبرأ منه الطرفان ـ هو أخطر خبايا الصراع المسلح بل هو المادة المشعة التي تحرك مفاعل الطاقة المتفجرة بين الجارتين منذ دخل الفرس الإسلام تحت مذهب التشيع ، ومن يومها لم يرقأ لهم جفن من أجل تحقيق الحلم الأكبر ، حلم إنشاء الدولة الشيعية الكبرى على أنقاض الدولة الساسانية التي حطمها الإسلام في القادسية.(8/82)
وقبل المضي في هذا الحديث، فإن الأمانة تقتضي التوقف برهة لتنزيل غشاوة قد تطرأ على بعض الأعين ونحن نتحدث عن الصدمة التي أصابت الدولة الفارسية بعد هزيمتها أمام الإسلام، والتي كانت من آثارها العميقة ظهور النعرة القومية ، والعمل على إحياء المجد الفارسي القديم، فهذا الموقف من الإسلام لا يمس التيار العام لهذا الشعب العريق الذي اعتنق الإسلام عن صدق، وأقبل عليه عن اقتناع وإيمان، وحمل على كاهله رسالة العالم والفقه والأدب والفن، وقدم إلى الإسلام صفوة العلماء والفقهاء والمفسرين والأئمة الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية في أزهى عصورها، والذين يضيق المقام عن ذكر أسمائهم لأن ذلك يحتاج إلى صحائف معدودة، يكفي أن نذكر الإمام أبا حنيفة في الفقه، والطبري في التفسير والتاريخ، والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في الحديث، وابن سينا والبيروني في الفلسفة، وابن المقفع في البلاغ ، والخليل في اللغة، وواصل بن عطاء في علم الكلام، أولئك هم نجوم المعرفة، وقد انتهت إليهم مقاليد العلم، وخرج جميعهم من أصلاب فارسية، وازدان بهم تاريخ الإسلام ـ وسيظل ـ حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
تلك جملة اعتراضية نضعها في مكانها الصحيح، ونحن نتعرض لشؤون السياسة والحكم في المجتمع الفارسي بعد الإسلام، وقد حفرت لنفسها مجرى خاصاً تراكمت فيه مخلفات التراث القومي، والنزاعات الموروثة، والمعتقدات القديمة.(8/83)
ونخطيء كثيراً إذا تصورنا أن انتقال الفرس ـ أو غير الفرس ـ من أديانهم السابقة، محا نهائياً تصوراتهم السابقة عن نظام الحكم.. فمثل هذا الظن تأباه علوم النفس والاجتماع السياسي، كما أن تاريخ الأديان والمذاهب والدعوات يرفض مثل هذه الافتراضات الساذجة، فالشعوب عندما تعتنق الدين الجديد تبقى في وجدانها أثار من المعتقدات السابقة، حتى المخلصون منهم في اعتناقهم الإسلام، لم يبرأوا تماماً من تقاليدهم وتراثهم السالف، ويظل القديم والجديد يتفاعلان فترة قد تطول أو تقصر حسب درجة الوعي والاستنارة. وعلى هذا الأساس الواقعي انتقل الفرس إلى الإسلام وهم يحملون في صدورهم تصوراً مطبوعاً حول نظام الحكم مستمداً من عقائدهم الدينية . يقول العلامة أحمد أمين: إن الفرس كانوا ينظرون إلى ملوكهم كأنهم كائنات إلهية اصطفاهم الله للحكم بين الناس، وخصهم بالسيادة وأيدهم بروح من عنده ، فهم ظل الله في أرضه، أقامهم على مصالح عباده، وليس لله قبلهم حقوق، وللملوك على الناس السمع والطاعة، وهو معنى يشبه ما عرف في أوروبا بنظرية الحق الإلهي، التي سادت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وينقل أحمد أمين عن الأستاذ (برون) قوله: لم تعتنق نظرية الحق الإلهي بقوة كما اعتنقت في فارس في عهد الملوك الساسانية، وقد كان الأكاسرة يزعمون أن لهم الحق وحدهم في أن يلبسوا تاج الملك بما يجري في عروقهم من دم إلهي.(8/84)
بهذا المفهوم السياسي الموروث اعتنق الفرس الإسلام، فكان من طبيعة الأمور أن ينفروا من التصور الذي جاء به الإسلام للنظام السياسي، ونظرته إلى الحكام من حيث إنهم بشر عاديون يجري اختيارهم وفق إرادة الشعب ولهم على الشعب حق الطاعة حتى ولو كان الحاكم عبداً حبشياً على رأسه زبيبة!! كما هال الفرس أن ننزع الإسلام من الحاكم الحصانة أو العصمة وقرر حق محاسبته إذا أخطأ، وعزله إذا انحرف، وفي كل هذه الأمور وضع وخبراء الفقه السياسي القواعد مستندين إلى روح النص القرآني وسنة الرسول، والواقع العملي، ولكن الفرس ظلوا محافظين على نظريتهم المقدسة إلى الحكام، وظل التعاليم زرادشت تعمل في تشكيل نظرتهم السياسية وتطبعهم بطابعها القوي. وكان زرادشت الذي ظهر في منتصف القرن السابع قبل الميلاد يرى أن تتمثل الزعامتان الدينية والسياسية في البيت الشريف، والزعيم المقدس الذي تجري في عروقه الدماء النبيلة، ويظل الحكم بالتوارث في هذا البيت حفاظاً على وحدة الدولة وقوتها، فإذا اندثرت القبيلة أو انهدم البيت وتصدع الملك، فغلى الفرس أن يتطلعوا إلى ظهور الإمام الذي سيأتي في آخر الزمان ليحي العدل، ويميت الجور، ويرد السنن المقبولة إلى أوضاعها الأولى . والذي تنقاد له الملوك، وتتيسر له الأمور، وينصر الدين الحق.(8/85)
وعندما دخل الإسلام إيران بأفكاره المتحررة، اصطدم بهذه الأفكار السياسية المختلطة بالمعتقدات الدينية، وقد كان من الصعب اقتلاع هذه الأفكار الراسخة في النفسية الإيرانية منذ عشر قرون، كان آخرها القرون الأربعة التي انفردت فيها عائلة آل ساسان بحكم البلاد فظهرت آثارها في العهد الإسلامي في صورة (التشيع) التي تقوم على الحق الوراثي للأئمة ورفض فكرة الاختيار الشعبي للحاكم، فإذا كانت فكرة انتخاب الخليفة جاءت متمشية مع ديمقراطية المسلم العربي، إلا أنها لم تظهر في نظر الفرس إلا بمظهر ثوري غير مطابق لطبيعة الأشياء؛ ولذلك اعترضوا على الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول. وعندما انهار بيت الملك الساساني تحت معاول المسلمين، كان على الفرس أن يصطنعوا بيتاً شريفاً في ظل الإسلام يدينون له بالولاء ويتلمسون لأنفسهم إماماً يحقق لهم أحلامهم في إقامة العدل، ومقاومة الظلم، رغم أن الإسلام حقق لهم ـ ولغيرهم من الشعوب المقهورة ـ فوق ما كانت تتمناه من الرفعة والأمن والتحرر من الطغيان ، ولكنها قوة المؤثرات القومية التي تفوق قوة العقيدة الدينية ـووجد الفرس ضالتهم في البيت العلوي، فتشيعوا له في مواجهة البيوتات الأخرى وجعلوا من علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ المنارة التي يلتفون حولها لتهديهم إلى الحلم القديم، وقد جمع الإمام كل مناقب الشرف والنبل والشجاعة والبلاغة ، فهو ابن عم صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته الغالية فاطمة الزهراء، وأبو سبطيه الحبيبين الحسن والحسين، فأي بيت من بيوت العلية يرقى إلى هذا البيت شرفاً ونسباً!! ثم كان على الفرس أن يصطنعوا لأنفسهم نسباً إلى هذا البيت الشريف ليكون لهم ـ عن طريق هذا النسب ـ حق إحياء العرش الفارسي الذي يجمع بين شرف الدين وعراقة الأصل، ووجدوا ضالتهم في الشريف ابن الشريف علي زين العابدين بن الحسين من زوجته الفارسية (سلافة) بنت الملك يزدجرد، وإليك قصة هذا النسب(8/86)
العجيب بين البيت العلوي الشريف، والشعب الفارسي، والذي يوضح لك حرص الفرس على التنقيب عن أي خيط ينسجون منه عرشاً ودولةً وفق المفاهيم الفارسية.
بنات الملوك :
في آخر معركة من معارك الفتح الإسلامي لإيران ، وهي معركة (جلولاء ) فر الملك ( يزدجرد ) يائساً من القتال ليلقى مصرعه في أحراش الهضبة الإيرانية ، تاركاً وراءه ثلاثاً من بناته وقعن سبايا في أيدي الفاتحين المسلمين ، فانتقلن مع الأسرى إلى المدينة المنورة حسب تعليمات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ليجري توزيعهن على الجند وفقاً لنظم الحرب في ذلك العصر ، وأوشك عمر أن يطبق على الأميرات الثلاث مذهبه في التسوية وتوزيعهن على عامة الجند دون اعتبار لمسألة الحسب والنسب . ولكن علي بن أبي طالب ـ المستشار الصدوق لأمير المؤمنين ـ اعترض على هذه القسمة التي لا تناسب مكانة بنات الملوك ، وأشار على الخليفة أن يجري توزيعهن على أبناء كبار الصحابة الذين يعرفون للناس أقدارها ، واستجاب عمر لنصيحة مستشاره ، فكانت الأولى من نصيب محمد بن أبي بكر الصديق ، وقد أنجبت منه ولدهما عبد الرحمن ، والثانية من نصيب عبد الله بن عمر بن الخطاب وقد أنجبت منه ولدهما سالم ، والثالثة من نصيب الإمام الحسين ابن علي بن أبي طالب ، وقد أنجبت منه ولدهما علي ( السجاد ) المشهور بزين العابدين لورعه وتقواه ، والذي شهد ـ طفلاً ـ مع أبيه مذبحة كربلاء ، وأفلت منها بأعجوبة .(8/87)
كانت كربلاء ( سنة 61 هـ ) صدمة لكل المسلمين في بقاع العالم الإسلامي ، بل كانت صدمة للضمير الإنساني في كل بقاع الأرض، وكانت بمثابة شلال الزيت تدفق على شرارة الطغيان الأموي ليتحول إلى ثورة مكبوتة في النفوس تحولت في كثير من الأوقات إلى انتفاضات دموية، وعلى الرغم من أن كربلاء لم تسفر عن نتيجة حاسمة في الميدان السياسي، إلا أنها كانت ذات أثر عميق أشد العمق في ميدان العقيدة الشيعية . ومن جهة نظر العلامة الأماني ( برو كلمان ) فإن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين ـ والتي لم يكن لها أثر سياسي ـ قد عجلت في التطور الديني للشيعة، فقد أذكت روح التشيع وجعلت الشيعة يشعرون بوجوب توحيد صفوفهم حتى يستطيعوا أن يكونوا قوة فعالة في الميدان السياسي. أما (نيكلسون) فيرى أن يوم كربلاء كان كافياً ليجعل الأمويين يعضون أصابع الندم ، إذ وحد صفوف الشيعة فصاحوا صيحة واحدة: يا لثارات الحسين الذي دوى في كل مكان، وعلى الأخص عند الموالي الفرس الذين تاقوا إلى التخلص من حكم العرب. وتحول التشيع إلى وكر للحاقدين والناقمين والمرتدين عن الإسلام ، وقد غالوا في تقديس الإمام علي حتى بلغوا به درجة التأليه ، ومنهم طائفة النصيرية العلوية التي ينتمي إليها الرئيس السوري حافظ الأسد ومعظم ضباط الجيش السوري وقادة الدولة الذين تتركز فيهم سلطات الدولة العليا، ويرى هؤلاء أن علياً لم يمت وأنه مستقر في السحاب. فالرعد صوته، والبرق ابتسامته، كما تحول التشيع إلى مرتع خصب للفرس الطامعين في إحياء مجد الدولة الفارسية، وتعددت انتفاضات الشيعة خلال القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام، حتى أنه لم تمر سنة حتى يهب أحد العلويين الثائرين ضد النظام الحاكم. وكان الأمويون ومن بعدهم العباسيون يتصدون لهذه الانتفاضات ويوسعونها ضرباً مؤلماً. فكان بعضهم يفر إلى أطراف الدولة ـ شرقاً وغرباً ـ لتدبير المؤامرات وإعداد التنظيمات السرية وشراء العملاء(8/88)
والأعوان، مستخدمين في ذلك اسم البيت العلوي الذي يتمتع بحب المسلمين على اختلاف نزعاتهم ومذاهبهم، ولكن سرعان ما يكتشف الناس أنهم ثاروا لحساب مذاهب مشبوهة تتستر وراء أهل البيت. ولعل أشهر هذه الدعوات ما فعله الشيعة الباطنية الإسماعيلية، عندما نجحوا في إقامة دولة لهم في تونس، ثم انتقلت في عهد المعز لدين الله الفاطمي إلى مصر وحكمتها لمدة قرنين كاملين.
ويضيق المقام عن سرد الانتفاضات الثورية التي قام بها الفرس، لإنشاء دولة مذهبية تحمل فكرهم خارج إطار الخلافة الأموية الموحدة، فإذا عجزوا عن إقامة الدولة، دأبوا على التسلل إلى بلاط الخلفاء العباسيين واحتلال مراكز التأثير حتى يحكموا من وراء ستار الجالس على العرش، فيكون لهم القرار، وللخليفة البصم والتوقيع ، مثلما فعل بنو برمك مع الرشيد ، وبنو سهل مع المأمون ، فلما ضعف سلطان الدولة العباسية وانشطرت إلى دويلات قزمية كان للشيعة الفرس منها نصيب، فظهرت الدولة السامانية في بخارى وامتدت حدودها إلى الخليج الفارسي، ومن حدود الهند إلى مشارف بغداد، وقصدها الشعراء والأدباء وفي طليعتهم الشاعر الفارسي الشهير ( الفردوسي ) صاحب (الشاهنامة) تلك الملحمة الشعرية الكبرى التي يتغنى فيها بأمجاد ملوك الفرس الأقدمين وكان شأنها في إثارة النعرة القومية شأن ملمة هوميروس عند الإغريق .. ولا يزال الإيرانيون حتى اليوم يعتبرونها من مفاخرهم الأدبية لأنها تقص عليهم حكايات الأجداد .(8/89)
وفي طبرستان قامت دويلة على أكتاف مغامر فارسي اسمه مرداويج ، لبس التاج وجلس على سرير من فضة مرصع بالجوهر وقال: أنا أرد دولة العجم ، وأبطل دولة العرب ـ وفي أواخر القرن الثالث أسلم أمير بلخ وكان مجوسياً يعتنق ديانة زرادشت ، وأسلم كثير من الديلم ومنهم الشاعر المعروف مهيار الديلمي الذي أسلم على يد الشريف الرضى عميد الطالبيين في بغداد ، ومهيار هو صاحب القصيدة التي لحنها وغناها الموسيقار محمد عبد الوهاب ، وجاءت تعبيراً قوياً عن القومية الفارسية التي ظلت حية حتى بعد الإسلام ، ويقول فيها :
أعجبت بي بين نادي قومتها ... ... أم سعد فمضت تسأل بي
سرها ما علمت من خلقي ... ... فأرادت علمها ما حسبي
لا تخالي نسباً يخفضني ... ... أنا من يرضيك عند النسب
قومي استولوا على الدهر فتى ... ... ومشوا فوق رؤوس الحقب
عمموا بالشمس هاماتهم ... ... وبنوا أبياتهم بالشهب
قد ورثت المجد عن خير أب ... ... وأخذت الدين عن خير نبي
فجمعت المجد من أطرافه ... ... سؤدد الفرس ودين العرب
وما أن أهل القرن الرابع حتى كان للشيعة دول قوية يعمل لها ألف حساب في العالم السني ، فالبويهيون أقاموا دولة قوية شملت فارس وكرمان وطبرستان ودخلوا بغداد وسملوا عيني الخليفة المستكفي، والقرامطة استولوا على البحرين واقتحموا مكة المكرمة وسرقوا الحجر الأسود وردموا بئر زمزم بجثث الطائفين حول البيت العتيق ، والحشاشون أقاموا مستوطنة مسلحة في شمال إيران على يد الحسن الصباح الذي أطلق أتباعه من الشباب الفدائي لاغتيال رؤوس الحكومة الإسلامية في بغداد.(8/90)
ولقي الكثيرون مصرعهم بهذه الطريقة الجسورة التي أثارت الفزع في النفوس ، وامتد سلطان الشيعة الباطنية إلى الشام ، ولا تزال بقاياهم موجودة في اللاذقية والمناطق الجبلية المغلقة ممثلة في الطائفة النصيرية العلوية التي ينتمي إليها الرئيس الأسد ، وفي نفس الوقت كان الدروز قد اتخذوا من جبال لبنان ملاذاً يحتمون به بعد أن طاردهم المصريون في عصر الحاكم بأمر الله .
* * *
ماذا يعني كل ذلك ..؟؟ إذا أردت أن تستخلص المحصلة النهائية من هذا السرد التاريخي ، فما عليك إلا أن تعكف على خريطة الشرق الأوسط، وترسم خطاً ساخناً يبدأ من حركة آيات الله في إيران ، ويمتد إلى النظام الحاكم في سوريا .. وينحرف جنوباً ليشمل حركة أمل الشيعية ، وحركة الدروز في لبنان ، وبعدها سوف تنكشف لك أمور كنت تجهلها ، وسوف تكتشف أنه ليس صراع أنظمة ، كما يحاول البعض أن يبسط من أسباب الخلاف بين طهران وبغداد ، إنه في الحقيقة صراع قوميات وأعراق ، ومذاهب تستمد جذورها من بطون التاريخ ، وتتحكم في هذا الصراع عقد دفينة في النفوس يستحيل علاجها عن طريق المسكنات أو الدعوات الطيبات لوقف نزيف الدماء الإسلامية . والواضح للعيان أن الجانب الإيراني يستفيد من هذه الدعوات الساذجة ، بل يستخدمها في تخدير الشعوب الإسلامية والعربية ليمضي قدماً نحو هدفه المرسوم ، وهو استعادة مجد الإمبراطورية الفارسية الكبرى ، وهنا ـ فقط ـ يكمن سر استمرار هذه الحرب اللعينة ، وإصرار الجانب الإيراني على المضي فيها مستخدماً استراتيجية النفس الطويل ، تساعده في ذلك إمكانيات مادية وبشرية وطبيعية هائلة ، حتى يتحقق الهدف منها، وتصبح ثمراتها في النهاية أمراً واقعاً يعترف به العالم ، ويقبل به المنهزم.
الحلم الإمبراطوري :(8/91)
الحلم الإمبراطوري ، هو قدس الأقداس في الشخصية الإيرانية ، وهو المحرك الأساسي لها سواء كانت شخصية آية الله الخوميني ، أو محمد رضا بهلوي ، أو إسماعيل الصفوي ، أو كسرى ، أو قمبيز ، أو دارا ، فكل من هؤلاء حمل في باطنه عقدة الحلم الإمبراطوري ، وسعى إلى تحقيقه بقدر ما سمحت به الظروف ، وكل الحكام الذين سوف يجلسون على عرش الطاووس مطالبون باستعادة مجد الإمبراطورية التي أقامها " قورش " العظيم في القرن السادس قبل الميلاد ، وسيطرت على كل البلاد المجاورة لها ، حتى امتد نفوذها إلى الصين . وكلنا يذكر الاحتفالات الأسطورية التي أقامها الشاه محمد رضا بهلوي في مطلع السبعينات إحياء لذكرى " قورش " .. ودعا إليها المشاهير من الملوك والرؤساء والأمراء والأدباء والفنانين، وأقام لهم مدينة من الخيام الشاهانية ليعيشوا عصر " قورش " ، وقدم لهم من أشكال الفنون والأطعمة الفارسية القديمة ما يخلب الألباب ، ثم طالبهم في النهاية بأن يركعوا أمام صنم يمثل " قورش " العظيم ، وكان هذا الاحتفال إيذاناً ببدء عصر التوسع الإيراني على حساب الأرض العربية ، والذي تمثل في استيلاء القوات الشاهانية على ثلاث جزر عربية في الخليج بعد 24 ساعة من انسحاب القوات البريطانية منها ، وكانت صدمة للعرب قابلوها ـ كعادتهم ـ بالاحتجاج والشجب ، وبعد رحيل الشاه وقدوم آيات الله تصور العرب ـ بطيبتهم المعروفة ـ أن آيات الله لن يقبلوا هذه السرقة العلنية وسيعيدوا الحق المسلوب إلى أهله ، ولكن أثبت آيات الله أنهم لا يقلون عن سلفهم رغبة في السطو ، واعتبروا الجزر الثلاث مجرد لقمة مؤقتة انتظاراً للوليمة الكبرى حين يضعون أيديهم على الساحل الغربي من الخليج ، وساروا في نفس الخطة التي بدأها الشاه في العدوان والتوسع داخل الأراضي العربية ، وأعرض آيات الله عن الآمال التي كانت تراود قلوب العرب في قيام شكل جديد من العلاقات في ظل الحكم الإسلامي الجديد ، وخيب(8/92)
الحكام الجدد الظنون فيهم ، وجاوزوا خطة الشاه في العدوان السافر وكانوا أكثر منه جرأة واستجابة لعقدة التوسع التي تتحكم في الشخصية الإيرانية .
ولكي نفهم أبعاد هذه العقدة لابد أن نبحث عنها في تضاعيف التاريخ، وهو خير وعاء للعقد التي تحرك الشعوب ، عندئذ سيتضح لنا أن الشخصية الإيرانية تحكمها معادلات قومية صارمة لا دخل للدين فيها، إنها تفرض نفسها سواء كان الإيرانيون يعتنقون ديانة زرادشت أو ماني أو مزدك ، وسواء كانوا يؤمنون بالأصلين ـ النور والظلمة ـ أو يرددون الشهادتين ـ وليس في ذلك مدعاة للغرابة أو الدهشة ، لأن النزعة القومية أو القبلية أو الشعوبية أو المذهبية قد تكون أقوى من تعاليم الدين ، ونحن نرى في حياتنا اليومية أشكالاً من التقاليد والعادات لا يوافق عليها الدين ـ والذين يستغربون سطوة النعرات القومية على حركة الشعوب يتجاهلون حقائق التاريخ التي هي أشبه بالقوانين الطبيعية التي تفرض نفسها على المجتمع الإنساني ، ويخطئ خطأً بليغاً أولئك الذين يحاولون تبسيط أبعاد الصراع الإيراني العربي بحجة الحفاظ على الوحدة الإسلامية وعدم الرغبة في إحياء الخلافات المذهبية أو القومية القديمة . وبعض أصحاب الأقلام الذين شاركوا في تحليل مسببات هذه الحرب يطالبون العرب بغض الطرف عن العمق المذهبي أو القومي في الصراع الحالي . وينسى هؤلاء ـ أو يتناسون ـ أن المسلمين الفرس لم يعترفوا يوماً بهذه الوحدة الإسلامية ، وكانوا أول من فتح باب الانشقاق في صرح الدول الإسلامية العالمية .(8/93)
والحقائق التي نسردها في هذا البحث ، لا نعرضها من باب التشنيع أو التشهير بهذا الشعب المسلم العريق الذي خرج من أصلابه فطاحل العلماء والفقهاء والفلاسفة والأدباء وكبار رجال العلم والفن ، الذين كانوا زينة الحضارة الإسلامية في أزهى عصورها ، كذلك لا نعرضها بهدف إحياء نعرة الفرقة و الانقسام أو النفخ في نار الصراع المذهبي ـ كما يدعون ـ ولكن نعرضها من باب استدعاء التاريخ ليكشف لنا أبعاد هذه الحرب اللعينة التي أهلكت الحرث والنسل ، وأزهقت عشرات الألوف من أرواح المسلمين ، وأهدرت ثرواتهم ، ودمرت مدنهم ، وشغلتهم عن الخطر الإسرائيلي .. حتى بدأت حرب الخليج وكأنها جزء من المخطط الباطني العالمي الذي يهدف في النهاية إلى تمزيق العالم العربي إلى دويلات هزيلة، وهو نفس الدور الذي تقوم به إسرائيل في الشرق الأوسط .(8/94)
فمنذ نشوء دولة الإسلام الكبرى التي ضمت في ثناياها أشتاتاً من الشعوب القديمة، والفرس يعملون على تفتيتها، والخروج منها، أو عليها، استجابة لتلك النزعة القوية في نفوسهم، نزعة الاستقلال القومي وإعادة مجد الإمبراطورية الفارسية التي قضت عليها معاول الإسلام ـ لقد فعلوا ذلك تحت ستار التشيع حيناً، أو تحت ستار الشعوبية حيناً آخر، ولكنهم في جميع الأحوال لم ينسوا أنهم أحفاد حضارة قديمة، وأنهم من سلالة قورش وقمبيز ودارا وكسرى، وكبر عليهم أن يخضعوا لسلطان العرب الذين كانوا قبيل الإسلام توابع أذلاء يدفعون لهم الجزية، لذلك استغلوا النعرة العربية التي كانت طابع الدولة الأموية، وعملوا على تقويض أركانها بكل ما يستطيعون، وشاركوا في التنظيمات السرية التي انتشرت في الأصقاع الفارسية، وكانت أرض خراسان هي المهد الذي توالدت فيه المؤامرة الكبرى التي كانت تسعى إلى الإطاحة بالأمويين والتمهيد لقيام دولة فارسية، أو دولة تضع الفرس في موضع السيادة والسؤدد. والذين شاركوا في تدبير الانقلاب العباسي كانوا يظنون أنهم يعملون لحساب الجناح العلوي من أهل البيت، ولكن التدبير المحكم بلغ من السرية درجة حجبت عنهم اسم المحرك الحقيقي للثورة ، فلما أسفر الانقلاب عن ظهور البيت العباسي ـ وليس البيت العلوي ـ لم يتردد الفرس عن تأييده وتعزيزه وتمكينه في أرض العراقين ـ العربي والعجمي ـ وتولى قائد الانقلاب أبو مسلم الخراساني بنفسه تصفية بعض عناصر الانقلاب ـ وهم فرس مثلهم ـ بسبب ميلهم إلى الجناح العلوي .. فالهدف الحقيقي للفرس ليس الانحياز إلى هذا البيت أو ذاك من بيوت الأشراف ، ولكن الانحياز إلى الدولة التي تخدم أغراضهم وتحقق لهم حلم السيادة على العرب، فلما أطلت الأحلام الإمبراطورية في نفس أبي مسلم واصطدمت إرادته بإرادة الخليفة المنصور ـ جبار الدولة العباسية ـ كان على الخراساني أن يلحق بالذين قتلهم لأن "السيفين لا يجتمعان في جراب(8/95)
واحد " .. على حد قول المنصور، ورغم القضاء على زعيم الانقلاب فإن الفرس لم يكفوا عن التطلع إلى السيطرة على الدولة التي أقاموها بسيوفهم، ولكن الخلفاء العباسيين ـ وكانوا عرباً أقحاحاً ـ كانوا لهم بالمرصاد، وكانت سيوف هؤلاء الخلفاء الأقوياء الأوائل تطيح برؤوسهم كلما أطلت من مكامنها. وكانت نكبة البرامكة على يد الرشيد هي أكبر عملية تصفية لإحباط آمال الفرس وكبت تطلعاتهم في السيطرة على شؤون الدولة . ورغم ذلك لم يتطرق اليأس إلى نفوس الفرس، وبقي الأمل قضاً طرياً كلما سنحت لهم الفرصة مستغلين حاجة الدولة إلى خبرتهم في الإدارة والتنظيم، وشؤون الحضارة.(8/96)
وجاءت لهم الفرصة الذهبية من خلال الصراع على السلطة بين الأخوين : الأمين والمأمون ، وكان أبوهما هارون الرشيد قد عهد إليهما بالخلافة على التوالي ، ولكن الأمين نقض العهد وسعى إلى خلع أخيه من ولاة العهد ، ونشبت بين الأخوين حرب ضروس ، وانحاز العرب إلى الأمين لأن أمه ـ زبيدة ـ كانت عربية ، بينما راهن الفرس على المأمون لأن أمه كانت فارسية ، وتحولت أرض العراق إلى ساحة للقتال أهدرت فيها دماء الفريقين ، وكانت جيوش المأمون من الفرس بقيادة القائد الفارسي الشهير طاهر بن الحسين الذي طارد الأمين حتى قتله في مياه دجلة وحمل رأسه إلى أخيه ومعه صك الانفراد بالخلافة ، وكان الثمن هو قيام أول إمارة مستقلة للفرس بعد الإسلام على أرض خراسان، ولم يدر المأمون ـ حين وقع بيده وثيقة تأسيس هذه الإمارة الفارسية ـ أنه فتح الباب أمام الدويلات الفارسية التي توالى ظهورها في مراحل لاحقة ، وأدت بالدولة العباسية إلى الانحلال والتفسخ . والكتاب الإيرانيون لا يخفون الدوافع القومية التي كانت تحرك الفرس لإحياء مجدهم القديم ، وإنشاء دويلات فارسية في ثقافتها ولغتها وتقاليدها . من ذلك ما يذكره صادق نشأت ـ وهو باحث إيراني درس في جامعة القاهرة وله مؤلفات جيدة في تاريخ الفرس، فهو يعترف في كتاب له عن إيران بالمشاركة مع مصطفى حجازي، أنه منذ أواخر القرن الأول الهجري أخد الإيرانيون يتطلعون إلى الاستقلال السياسي والثقافي ، فانبرت جماعة من الموالي لبعث القومية الإيرانية في ثوب إسلامي اكتسبته منذ الفتح ، ثم يسرد بعض أسماء هذا الرعيل الأول في عملية البعث القومي ، منهم عبد الحميد الكاتب الشهير ، وحماد الراوية، والأديب عبد الله بن المقفع، والشاعر بشار بن برد، والفقيه ابن أبي ليلى، وأبو سلمة الخلال ـ أول وزير في الدولة العباسية ـ وأبو مسلم الخراساني قائد الانقلاب العباسي، وشيطان الطاق، وأبو عبد الله المورياني ... إلخ، وكان هؤلاء(8/97)
حريصين على إخفاء أغراضهم الحقيقية، بيد أنها كانت تبرز بين آونة وأخرى في فلتات ألسنتهم وفي ثنايا أشعارهم، وتبدو في سلوكهم وتصرفاتهم ، وتبلور هذا الاتجاه في ظهور هدفين أساسيين هما:
الاستقلال السياسي .
الاستقلال الثقافي واللغوي .
ويمضي نشأت في حديثه عن خطة الإيرانيين في تحقيق هذه الأهداف القومية فيقول : كان الإيرانيون يهدفون من وراء تأسيس الخلافة العباسية إلى بلوغ غايتهم في الاستقلال السياسي حين يقيمون دولة يرجع إليهم الفضل الأكبر في إنشائها . وعملوا ـ منذ البداية ـ على أن يجعلوا السياسة في الحكم والثقافة والحياة الاجتماعية تؤدي في النهاية إلى الاستقلال الذاتي ، ولم يصرفهم عن هذا الهدف فتك المنصور بأبي مسلم ، أو نكبة الرشيد بالبرامكة ، فما عتموا أن استفادوا من الفرصة التي سنحت لهم في قيام الفتنة واستفحالها بين الأمين والمأمون .
وبقيام دولة الطاهرية في خراسان قطع الإيرانيون الشوط الأول في كفاحهم في سبيل الوصول إلى الاستقلال ، وبعد ذلك توالت بقية الأشواط.
في زمن الخليفة المعتمد العباسي ـ وفي نفس السنة التي استقل فيها أحمد بن طولون بمصر 254هـ ـ تمكن يعقوب بن الليث الصفار من تأسيس الدولة الصفارية التي عنيت بإحياء الآداب الفارسية ، وظهر فيها أول شاعر نظم شعراً بالفارسية بعد الإسلام، وكان يعقوب يسعى إلى توسيع ملكه بحيث يستولي على بغداد نفسها حتى يعيد بناء المدائن ـ عاصمة الدولة الفارسية القديمة ـ لتصبح عاصمته، وبذلك يعيد للأذهان مجد الحكم الساساني الذي كان قائماً قبل الفتح الإسلامي، وكان هذا الأمير الفارسي يأبى أن يمدحه الشعراء بالعربية ويقول: كيف تمدحونني بلغة لا أفهمها! وهو الذي أمر بنقل ديوان الإنشاء من العربية إلى الفارسية ولذلك يعتبره المؤرخون أول من وضع الأساس للاستقلال السياسي والثقافي الفارسي.(8/98)
ويعتبر السامانيون المؤسسين الحقيقيين للحركة الاستقلالية الإيرانية بمعناها القومي الأصيل . فقد استرجعوا علاقاتهم بماضي بلادهم ، مؤكدين أنهم من سلالة البطل الساساني الفارسي " بهرام " وقد استطاعوا توسيع دولتهم حتى شملت خراسان وسجستان وجرجان وطبرستان والري ( طهران ) وكرمان وبلاد ما وراء النهر . وفي مطلع القرن الرابع الهجري استطاع مرداويج الفارسي أن يستقل بمنطقة جرجان ويقيم الدولة الزيارية ، وسار على نهج ملوك الفرس الأقدمين ، فلبس التاج ، وجلس على سرير من الفضة موشى بالذهب ومرصع بالجوهر ، وكان يقول : أنا أرد دولة العجم ، وأبطل دولة العرب . وفي عام 334 هـ بلغ الفرس أوج نفوذهم على أيدي الدولة البويهية ، التي حكمت غرب إيران ومهدت للمذهب الشيعي الذي أصبح على عهد الصفويين المذهب الرسمي لإيران ، واقتحموا بغداد وفرضوا نفوذهم على الخليفة العباسي الذي بلغ من الضعف والهزال مبلغاً يثير الرثاء ، وتحول إلى ألعوبة في أيدي الأمراء الفرس وقد حققوا حلمهم القديم ، حلم السيادة والتسلط ، والقضاء على دولة العرب .
الفصل التاسع
دماء في الحرم الشريف
لست من مؤيدي المقولة الشهيرة بأن " التاريخ يعيد نفسه " لأنني من المؤمنين بأن حركة التاريخ تسير دائماً إلى الأمام ، وأن عجلة الزمن لا تدور إلى الوراء ، وأن أحداث التاريخ قد تتشابه ، ولكن يستحيل أن تتطابق ، ولو حدث ذلك لتعطلت آلة الزمن ولدارت حول نفسها كما تدور الرحى ، تبدأ من حيث انتهت ، وهذا أمر مستحيل تأباه طبيعة الأشياء .(8/99)
أقول هذا لأدفع عن ذهني وهماً راودني خلال الدقائق التي شاهدت فيها على شاشة التليفزيون زحف الشيعة الإيرانيين على بيت الله الحرام، وانتهاكهم حرمة المدينة المقدسة وهم يرفعون صور آية الله الخوميني، ويطلقون صيحات الحرب، وينهالون على إخوانهم حجاج البيت بالطوب والحجارة والسكاكين، حتى خيل إلي أنني أشهد زحف القرامطة الشيعة بقيادة أبي طاهر الجنابي على الحرم، وقد انهالوا على ضيوف الرحمن ذبحاً وتقتيلاً حتى ردموا بئر زمزم بجثث القتلى، ثم نزعوا الحجر الأسود وعادوا به إلى ديارهم وهم يطلقون صيحات الانتصار على المسلمين الكفار!! حدث ذلك في عام 317 هجرية، ونحن الآن في عام 1407 هجرية.(8/100)
هل يمكن أن تتكرر أحداث التاريخ وتتطابق في تفاصيلها إلى هذا الحد؟ وهل فشل مرور الزمن الطويل في نزع فتيل الحقد المتأصل في نفس التجمعات الشيعية تجاه العالم السني؟ أقول ذلك وأنا أعلم أن هذه الحقائق سوف تغضب ذوي النوايا الحسنة، الذين لا يزالون يعيشون في وهم الوحدة الإسلامية والتقريب بين الفرق الإسلامية لمواجهة العدو المشترك في الشرق والغرب ـ وأقول لهؤلاء الإخوة ذوي النوايا الطيبة: دعوكم من هذه السذاجة وانظروا إلى الخطر الذي يحدق بكم، وانظروا إلى النار التي تشتعل في الخليج منذ ثماني سنوات، وكيف اتسع أوارها حتى أوشك أن يصل إلى الأماكن المقدسة، وانظروا إلى أساطيل الدول العظمى التي تمرح الآن في الخليج " الإسلامي" من الذي تسبب في استدعائها؟ واسألوا أنفسكم عن عمليات النسف والتدمير والسيارات الملغومة التي تهدد أمن الكويت، من الذي يزرعها، وما هو الهدف من ضياع الكويت، غير التهامها والعبور منها إلى بقية دول الخليج والنفاذ إلى قلب الجزيرة العربية؟ واسألوا أنفسكم إذا كنتم تشكون حتى الآن في نوايا حكام طهران ، لماذا يصر آيات الله على استمرار الحرب ضد العراق؟ ولماذا يعملون على اتساع نطاقها؟ وما هو المدى الذي يمكن أن تتوقف عنده عجلة الحرب؟(8/101)
أنا أقول لكم بصراحة: إن المؤسسة الشيعية التي تحكم إيران حالياً، تسير وفق خطة دقيقة ومحكمة هدفها النهائي إقامة الإمبراطورية الفارسية الشيعية الكبرى ،وأن عجلة الحرب لن تتوقف قبل تحقيق هذا الحلم الذي يراود خيال الفرس منذ قرون بعيدة . لا تعجبوا من هذا الكلام، ولا تظنوه مبالغة في تقدير الأمور ، فكثير من الدول والإمبراطوريات كانت في مطلع أمرها مجرد حلم ، أو خيال يعشش في رأس قلة من الأفراد ، ثم لا تلبث الفكرة أن تتحول إلى حقيقة إذا توافرت لها عناصر الجدية والتصميم والإصرار والجرأة . وأقرب مثال ، هو دولة إسرائيل التي كانت عند بداية القرن العشرين مجرد فكرة يهذي بها صحفي نصف مجنون اسمه هيرتزل ، وأصبح الحلم حقيقة على أيدي المغامرين والسفاحين من أمثال ابن جوريون وأشكول وديان وبيجن ـ ولو ألقينا نظرة فاحصة على الحركة الشيعية فسوف نجد كل المؤشرات تدل على أن الإيرانيين ماضون إلى هدفهم بخطى حثيثة ، كما أن كل الحوادث السابقة تدل على أنهم لم يناموا عن الأخذ بثأرهم القديم من العرب ، منذ سقوط القادسية والمدائن ونهاوند . واندحار الإمبراطورية الفارسية أمام جحافل العرب المسلمين .(8/102)
* لماذا هذا الحقد الدفين المتأصل في النفس الإيرانية ضد العرب ؟ لأن الفرس كانوا أصحاب دولة وسلطان وجاه قديم قبل ظهور الإسلام ، وكانت دولتهم " الساسانية " إحدى القوتين العظميين ـ مع دولة الروم البيزنطية ـ وكانت لهم السيادة على العالم القديم ، وكان تاريخ الشرق الأوسط ـ قبيل ظهور الإسلام ـ أشبه بمبارزة صارمة بين الفرس والروم من أجل اقتسام النفوذ ، وكان الفرس ينظرون إلى العرب نظرة احتقار وازدراء ، وهي نظرة موروثة لدى الشعوب ذات الحضارات القديمة إلى الأعراب أو البدو الرحل ، وقصارى ما بلغه العرب في ظل الفرس أنهم كانوا يقدمون الإتاوة إلى عرب الحيرة مقابل الدفاع عن التخوم الفارسية ضد هجمات البدو . وقصة المناذرة العرب مع الأكاسرة من التراث المحفوظ في الشعر العربي وخاصة في معلقة عمرو بن كلثوم . فلما تجلت قوة الإسلام العسكرية والتحمت التحاماً مباشراً مع العسكرية الفارسية العريقة ، تبين للفرس مدى الخواء والانحلال والضعف الذي ينخر في دولتهم . وتبين لهم أن نعرة الاستعلاء لم تكن سوى جعجعة كلامية لم تصمد في ساحات القتال . ففي خلال أسابع قليلة نجح الفتحون العرب ـ على قلة عددهم وضعف إمكاناتهم ـ من شق طريقهم إلى قلب الإمبراطورية . ولم تنجح الجحافل الجرارة في إعاقتهم، وهو ما لم يحدث للروم الذين صمدوا طويلاً أمام الجيوش الإسلامية ، وبرغم تحرير الشام وفلسطين ومصر وليبيا وتونس والمغرب من الاحتلال البيزنطي خلال قرن ، إلا أن قلب الدولة القسطنطينية ، ظل باقياً في أيدي الروم ، ولم يسقط إلا في القرن الخامس عشر الميلادي (1453 م ) على أيدي الأتراك العثمانيين.
* فشتان بين طول النفس عند البيزنطيين ، وسرعة انهيار الفرس. وفي هذه العقدة تتركز محنة الفرس ويتمثل حقدهم الأصيل ضد العرب .(8/103)
لقد اعتنق الفرس الإسلام عن إيمان مثل بقية الشعوب التي وجدت في الإسلام سعادتها الدينية والدنيوية . ولكن عقدة الحقد ضد العرب لم تهدأ في نفوس السادة الذين كانوا يقدسون ملوكهم إلى حد العبادة ، وينظرون إلى دولتهم القديمة نظرة الخلود الأبدي ، وبقي في نفوسهم الحنين إلى إحياء مجدهم القديم في شكل دولة فارسية يحكمها بيت من بيوت العلية الأشراف، ووجد الفرس في فكرة " التشيع " ملاذاً وستاراً يعملون من خلفه على تحقيق أحلامهم القومية ، فالتفوا حول أهل البيت ـ ليس حباً في أهل البيت ـ ولكن لأن هذا التصور يلائم عقيدتهم القديمة في الانضواء تحت زعامة بيت شريف ، أو حاكم تتوافر فيه عناصر الشرف والتقديس . وابتدعوا فكرة " الإمام " الذي تتجسد فيه هذه الصفات والذي سيظهر في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً . ولك أن تعجب أشد العجب من سرعة توالد هذه الفكرة التي تبشر بظهور الإمام القائد من خلال دين لم يمر على نشوئه أكثر من قرن ! ولكنها الرغبة المتأصلة في النفس الفارسية ، والتي تعود في منشئها إلى تراثهم القديم وقد بشر بها زرادشت ـ نبي الفرس الشهير ـ في الإفستا بقوله : سيظهر في آخر الزمان رجل يحيي العدل ويميت الجور ، ويرد السنن المغيرة إلى أوضاعها الأولى ، تناقد له الملوك وتتيسر له الأمور وينصر الدين الحق .(8/104)
ولو أمعنت النظر في كلمات زرادشت فسوف تجد فيها أصلا ً تاريخياً لفكرة " الإمام " التي تمثل حجر الزاوية في الفكر الشيعي وسوف تجد فيها الجذر الحقيقي لفكرة الإمام التي ألبسها الفرس ثوباً إسلامياً ، وهي في الحقيقة تعبر تعبيراً دقيقاً عن الظروف النفسية للفرس ، وحنينهم الدائب إلى معتقداتهم القديمة التي تضفي على الحاكم صفات إلهية ، فإذا مات أنكروا موته وقالوا : إنه دخل السرداب ليظهر قبيل انتهاء العالم ليعيد الحق الضائع إلى أهله ـ والحق الضائع في نظر الفرس هو ذلك السلطان الذي صنعه قورش وقمبيز ودارا وكسرى ،ثم أطاح به العرب بالضربة القاضية ، ويجدون في هذا الحلم عزاء عن الهزيمة وأملاً في المستقبل .
نظرية الخلاص :(8/105)
لقد تحول " الإمام " في نظر الشيعة إلى منقذ ومخلص ، ينقذ الفرس من مرارة الهزيمة ويخلصهم من نير السيادة العربية ـ وفي ذلك يقول السير توماس أرنولد في كتابه ( الدعوة إلى الإسلام ) : إن فكرة التطلع إلى منقذ ومخلص من الأفكار الشائعة في بعض الديانات ، وقد استغلها الفرس وأخذوا يذيعون بين المسلمين أن الأوان قد حان لظهور المهدي المنتظر ، ووجدت فكرة المهدي المنتظر قبولاً عند عامة الناس خصوصاً الفئات الكادحة التي تتعرض لظروف حياة صعبة ، وكان أولئك هم وقود حركة التشيع التي لم تكف عن مناوأة الدولة الإسلامية والعمل بجد وإصرار على تقويض أركانها وأينما نظرت في أي صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي ، فسوف تقف أمام عنوان ثابت اسمه " انتفاضات الشيعة " . تجد ذلك في حركة محمد النفس الذكية بالمدينة المنورة ( عام 145 هـ ) ، وحركات إخوته الثلاثة : إبراهيم بالبصرة ، ويحيى في بلاد الديلم ، وإدريس الذي فر إلى المغرب ونجح في إقامة دولة الأدارسة ( 172 هـ ) ، وحركة الحسين بن علي بالمدينة (169 هـ) ، وحركة محمد بن إبراهيم وأبي السرايا بالكوفة (199 هـ ) ، حركة محمد بن جعفر الصادق في مكة (200 هـ) ، وحركة أبي عبد الله أخي أبي السرايا بالكوفة (202 هـ ) ، وحركة إبراهيم بن موسى الكاظم باليمن (200 هـ ) ، وحركة عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله باليمن (207 هـ ) ، وحركة محمد بن القاسم بن عمرو بن علي زين العابدين في خراسان (219 هـ ) ... حركات متوالية بصفة منتظمة .(8/106)
كل هذه الانتفاضات كانت تهدف إلى أمر واحد وهو إقامة الدولة الشيعية على أنقاض دولة الخلافة ، وكان من شأن هذه الحركات أن تزعزع وحدة العالم الإسلامي وتصرف الدولة عن مواجهة العدو الخارجي لمواجهة الفتن والقلاقل التي تثيرها هذه الانقسامات الداخلية ، بل كان الخلفاء يضطرون إلى إقامة دويلات مستقلة لمواجهة خطر الدويلات المنشقة ، فعل هارون الرشيد ذلك عندما زرع بنفسه دولة الأغالبة في تونس ليصدوا خطر دولة الأدارسة التي انشقت على سلطة الخلافة في المغرب ، وفي بعض مراحل ضعف الخلافة عجزت عن مواجهة الدويلات الشيعية التي ظهرت في الأطراف ، كما حدث لبعض الشيعة الإسماعيلية الذين فروا إلى تونس ونجحوا في إقامة ( الدولة الفاطمية ) التي لم تلبث أن زحفت على مصر واتخذت منها قاعدة للخلافة الفاطمية .
أما أخطر هذه الحركات الشيعية ذات الاتجاه المدمر ، فيتمثل في حركتين كان لهما أكبر الأثر في إشاعة الإرهاب والفتن في أنحاء العالم الإسلامي وزعزعة سلطان الدولة المركزية وهما :
القرامطة الذين احتلوا مكة وذبحوا الحجاج في موسم الحج ، والحشاشون الذين شكلوا فرقاً خاصة لاغتيال زعماء العالم السني .(8/107)
ويرجع ظهور القرامطة إلى رجل غريب الأطوار قدم إلى الكوفة من منطقة خوزستان ( فارس لحالية ) في أواخر القرن الثالث الهجري ، وكان يتظاهر بالتقشف والزهد ويعمل في جدل الخوص ، ويكثر من الصيام والعبادة حتى التف حول خلق كثير من العامة ، وأبلغهم أنه يدعو إلى إمام من أهل البيت ، ويأخذ من كل من دخل مذهبه ديناراً بحجة الإنفاق على الإمام ، واتخذ من أهل القرية اثني عشر نقيباً بثهم في القرى المجاورة لجمع الأنصار حتى كثر أتباعه ، وكان معظمهم من الأجراء الذين يعملون في الزراعة فتكاسلوا عن أعمالهم بعد أن انشغلوا به ، فلما علم الوالي بانصراف الأجراء عن العمل قبض على الرجل وحبسه ، ولكن إحدى جواريه رقت لحاله فسرقت المفتاح من سيدها وأخلت سبيله ، فلما أصبح الوالي وهم بقتله لم يجده ، وشاعت القصة بين العوام فازدادوا بالرجل افتتاناً وقالوا : رفع ثم ظهر في ناحية أخرى، وأشاعوا عنه أن أحداً لا يمكن أن يناله بسوء ، فعظم في أعينهم وأخرج إلى الشام ، ليكسب إلى دعوته أنصاراً جدداً ، وكانت تلك بداية الرجل الذي اشتهر باسم " قرمط " . وتطورت حركة القرامطة وانتشر أمرها في سواحل الخليج ، وأصبح لها نفوذاً على المنطقة كلها بما أشاعوه من إرهاب وقتل وقطع للطرق ، فلما فطنت الدولة العباسية إلى خطرهم وبدأت في التصدي لهم ، كان الوقت قد فات بعد أن أصبحت لهم قوة قادرة على هزيمة جيوش الخلافة .(8/108)
ويصف الأستاذ فيليب حتى حركة القرامطة بأنها ورم خبيث في جسم الخلافة بما أحدثته في الإسلام من فتنة خطيرة ، ويقول : إنه كان لهذه الحركة صبغة اشتراكية أباح فيها قرمط الاشتراكية في الأرض والنساء والأموال ، مما جعلها تروق في عيون طبقات الفلاحين والعمال بالعراق وأحلوا سفك دماء المسلمين في سبيل الوصول إلى أغراضهم ، وتمكنوا في عام 899 م من تأسيس دولة مستقلة على شواطيء خليج فارس الغربي ، أصبحت مصدر تهديد للخلافة في بغداد ، فكانوا يقومون من مقرهم الجديد بغارات على البلدان المجاورة ، حتى بلغوا ساحل عمان ، وبلغ القرامطة الذروة حين احتلوا مكة المكرمة وقلعوا الحجر الأسود وبقي في أيديهم 20 سنة ، وأغرقوا سوريا واليمن وخراسان في بحر من الدماء من خلال الفتن والقلاقل والاضطرابات .(8/109)
وإليك التفاصيل : في سنة 317 هـ سار أبو طاهر الجنابي زعيم القرامطة بجنده إلى مكة فوافاها يوم التروية فلم يرع حرمة البيت الحرام، بل نهب هو وأصحابه أموال الحجاج وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه ، وقلع الحجر الأسود وأنفذه إلى هجر فخرج إليه أمير مكة في جماعة من الأشراف فسألوه في أموالهم فلم يشفعهم فقاتلوه فقتلهم أجمعين ، وقلع باب البيت وطرح القتلى في بئر زمزم ودفن الباقين في المسجد الحرام حيث قتلوا بغير غسل ولا كفن ولا صلى على أحد منهم ، وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه ونهب دور أهل مكة .ولم يحصل في التاريخ أن انتهكت حرمة هذا البيت إلى هذا الحد ، حتى أن المهدي عبد الله العلوي لما علم ذلك كتب إلى أبي طاهر ينكر عليه ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة ويقول : قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلت ، وإن لم ترد على أهل مكة وعلى الحجاج وغيرهم ما أخذت منهم وترد الحجر الأسود إلى مكانه ، وترد كسوة الكعبة فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة . ولما وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الأسود واستعاد ما أمكنه من أموال أهل مكة فرده وقال : إن الناس اقتسموا كسوة الكعبة وأموال الحجاج ولا أقدر على منعهم .
دولة الحشاشين :(8/110)
والحديث عن القرامطة يدعونا إلى الحديث عن الحشاشين ، الذين أقاموا دولتهم في شمال إيران ، لتكون فرعاً من فروع الشجرة الفاطمية الإسماعيلية ، التي كانت قائمة في مصر وحكمتها لمدة قرنين ، تحولت مصر خلالها إلى قاعدة لحركة التشيع الإسماعيلي ، تحج إليها وفود الشيعة الإسماعيلية من كل البقاع ، يتلمسون البركة من الخليفة الإمام الذي تتجمع في شخصيته كل مناقب الكمال . أما الضالعون في أصول المذهب فيلتحقون بالأكاديمية التي أنشأها الحاكم بأمر الله ، ليتلقوا أسرار الدعوة قبل أن ينطلقوا إلى الأمصار لكسب الأنصار وتهيئة الشعوب لتقبل هذه الدعوة الجديدة التي تعد الناس بالرفاهية والخير والعدل .
وكان بين هؤلاء الدعاة الذين التحقوا بالأكاديمية الإسماعيلية شاب إيراني اسمه الحسن الصباح نشأ في أسرة فارسية شيعية على مذهب الاثني عشرية ، ولكنه التقى في صباه بأحد ( الرفاق ) الإسماعيلية الذي نجح في تحويله إلى المذهب الجديد فشد الرحال إلى القاهرة ليدرس المذهب على أيدي فقهائه ، فلما أوشك على التخرج مات الخليفة الفاطمي ـ المستنصر ـ وكان من المفروض أن يعقبه في الخلافة والإمامة ابنه ( نزار ) ولكن انقلاب قصر دبره الوزير الأول الأفضل شاهنشاه أدى إلى إبعاد نزار وتولية أخيه ( المستعلي ) وهو في نفس الوقت ابن أخت الأفضل ، وظل أتباع المستعلي في الحكم وهاجر جناح منهم إلى اليمن والهند ـ حيث لا يزالون هناك حتى الآن ـ وأصبح اسمهم ( البهرة ) وهي الطائفة التي نجحت في استصدار قرار من الرئيس الراحل أنور السادات بإصلاح مسجد الحاكم بأمر الله باعتباره أحد بقايا الحكم الإسماعيلي في مصر . وهم الذين قدموا المقصورة الفضية لكل من ضريحي الإمام الحسين والسيدة زينب تعبيراً عن حنينهم القديم إلى مصر.(8/111)
أما الحسن الصباح فقد رأى في الانقلاب خروجاً على أصول العقيدة الشيعية التي تجعل الإمامة في الأعقاب وبالنص من الإمام إلى أحد أبنائه قبل موته . وزعم الصباح أنه التقى بالخليفة المسنصر قبل موته وسمع منه أن خليفته في الإمامة هو نزار ، فلما وقع الانقلاب اعتزم الصباح أن يكرس حياته من أجل الانتقام للإمام الشرعي ( نزار ) بكل الوسائل بما فيها وسيلة الاغتيال ، وعاد الشاب المتهور إلى إيران ليحقق حلمه في إنشاء تنظيم سري إرهابي ، وإقامة مستوطنة مسلحة بعيدة عن سلطان الخلافة العباسية في بغداد . وخلال سنوات قليلة استطاع الصباح أن يجمع حوله عدداً قليلاً من الأشياع الذين آمنوا بفكرته ونجحوا في الاستيلاء على منطقة جبلية نائية في أقصى شمال إيران بالقرب من بحر قزوين ، وأطلق عليها اسم ( ألموت ) وهي كلمة فارسية معناها ( عش النسر ) وكانت اسماً على مسمى ، فقد كان من الصعب على أي قوات معادية أن تقتحمها ، نظراً لوعورة المكان وصعوبة الوصول إليه وفي عش النسر أقام الحسن الصباح قلعة حصينة ، لتدريب الشباب على عمليات الاغتيال بعد تخديرهم بالحشيش ، وكان ذلك مولد حركة الحشاشين التي دخلت تاريخ الإرهاب من أوسع الأبواب وتركت في تاريخ الإسلام صفحات ملوثة بالدم ، وأشاعت الرعب والفزع في كل أنحاء العالم الإسلامي ، بسبب العمليات الجريئة التي كان يقوم بها (الفدائيون) أثناء اغتيال الخصوم ، ودخلت كلمة ( حشاشين ) قاموس اللغات الأوربية وأصبحت مرادفة لكلمة (Assassin) أي القتلة المأجورون . وبقيت دولة الحشاشين زهاء 171 عاماً وهي تمارس أبشع عمليات الإرهاب والقتل ، ولم يفلت من أيديهم أمير أو وزير أو عالم أو فقيه أو قائد ، كانوا يشتمون فيه روح المعارضة لدعوتهم ، ولم ينقذ العالم من شأفتهم إلا السفاح المغولي ( هولاكو ) أثناء حملته المدمرة على ديار الإسلام فاقتحم قلعة ( ألموت ) وجعل عليها سافلها عام 654 هـ .
دقة التنظيم :(8/112)
لقد قلت : إن تاريخ الإسلام شهد منذ القرن الرابع أخطر حركتين اتخذتا من الإجرام والترويع والإرهاب سبيلاً إلى تحقيق أغراضها الخبيثة ، وهما حركة القرامطة وحركة الحشاشين ، وكلتاهما نشأت في أحضان التشيع وانتسبت إليه ، وقد عرضت ـ في إيجاز شديد ـ لحركة القرامطة منذ نشأتها في العراق وانتشارها على سواحل الخليج ، ثم انتشارهم في الشام وغاراتهم الإجرامية على مكة المكرمة في عام 317هـ في موسم الحج وذبحهم الحجيج داخل الحرم واقتلاعهم الحجر الأسود من جوار الكعبة .
واليوم أضيف أن ظهور القرامطة كان بمثابة ( البروفة ) التاريخية لحركة الحشاشين ، وقد فاق الحشاشون أسلافهم في دقة التنظيم وروعة الأداء ، والجسارة في تنفيذ عملياتهم ، ولكن قبل الدخول في تضاعيف هذه الجماعة الإجرامية نعرض للظروف التي دعت إلى ظهورها ، والعوامل التي أدت بهذا الجناح الشيعي إلى انتهاج العنف والإجرام .(8/113)
والمعروف أن حركة الحشاشين حظيت باهتمام الباحثين والدارسين في كل أنحاء العالم، الذين عكفوا على دراسة آثارهم والوثائق التي عثر عليها بعد تدمير دولتهم، وظهرت مؤلفات عديدة في هذا الصدد، منها المؤلف القيم الذي وضعه الأستاذ برنارد لويس وهو مؤرخ إنجليزي متخصص في تاريخ الدعوة الإسماعيلية، وفي عام 1967 وضع كتابه (الحشاشون) وترجمه زميلنا البحاثة محمد العزب موسى، وقد تتبع المؤلف في كتابه تاريخ فرقة الحشاشين منذ بداياتها الأولى إلى نهايتها، وحول الظروف التاريخية التي أدت إلى ظهورهم ، يقول برنارد لويس: في المرحلة المبكرة من تاريخ الشيعة تعرضت نظرياتها ومنظماتها لتغييرات كثيرة، فقد ظهر عدد كبير من الذين يدعون الانتماء بدرجة أو أخرى لأهل البيت أو ممثليهم، ثم كانوا يختفون عن الأعين بعد أن يضيفوا تفصيلات جديدة إلى الأوصاف الأسطورية للمخلص المنتظر، وكانت برامجهم تتراوح بين المعارضة المعتدلة والبدع الدينية المتطرفة، التي هي أبعد ما تكون عن التعاليم السائدة المقبولة في الإسلام، ومن أهم السمات التي أدخلوها تقديس الأئمة والدعاة، واعتبارهم معصومين وقادرين على الإتيان بالمعجزات ، وكانت نظرياتهم تعكس أفكاراً صوفية واستشراقية، مستمدة من الغنوصية ومذهب ماني، ومختلف الأفكار الإلحادية الإيرانية، واليهودية والمسيحية. ومن العقائد التي أدخلوها فكرة التناسخ وتأليه الأئمة، والإباحة: أي عدم التقيد بأحكام الشريعة ، وفي بعض الأمكنة ـ كما حدث في أجزاء من إيران وسوريا ـ ظهرت ديانات محلية متميزة بذاتها نتيجة لاختلاط تعاليم الشيعة بالعقائد والعبادات المحلية السابقة. وكان البرنامج السياسي لهذه الفرق واضحاً: الإطاحة بالنظام القائم، وتنصيب الإمام المختار.(8/114)
وبعد أن يعرض لويس للانقسام الذي حدث في الحركة الشيعية بعد وفاة الإمام السادس جعفر الصادق، وبعد توزع الشيعة بين ابنيه: موسى الكاظم، وإسماعيل الذي التفت من حوله الطائفة التي اتخذت من اسمه علماً عليها، يقول برنارد لويس: ظل الإسماعيليون يعملون في الخفاء فترة طويلة، لذلك تمكنوا من تكوين فرقة، بزت كل منافسيها في تماسكها وتنظيمها، وجاذبيتها العقلية والعاطفية .
وقد اشتهر الإسماعيليون بالدقة في سرية التنظيم ، حتى أصبح أسلوبهم منهجاً تأخذ به الجماعات السرية التي تعمل في الخفاء ، حيث يندرج الأعضاء في شكل هرم ، يتربع عليه الإمام أو داعي الدعاة الذي هو المساعد المباشر للإمام والمشرف على التنظيم . وكان الدعاة يخضعون لدراسات شاقة ، وكان اختيارهم يتم بعد جهود مضنية بين العناصر التي تتوافر فيها مواهب خاصة بالدعاية ، وفي ذلك يقول العلامة الدكتور محمد كامل حسين في كتابه البديع عن ( الإسماعيلية ): والحق أقول: إني لم أجد في تاريخ العصور الوسطى دولة من الدول ، أو طائفة من الطوائف أولت اهتماماً خاصاً بالدعاية ، وتنظيمها على النحو الذي وجدته عند الطائفة الإسماعيلية ، فلا غرو أن أزعم أنهم أساتذة فن الدعاية في العالم ، وقد جعلوا الدعاية من صميم عقيدتهم وفلسفتهم .(8/115)
وعن طريق الدعاية نجح الحسن الصباح في اجتذاب أعداد هائلة من الشباب حديثي السن ، وألحقهم بقلعته الحصينة في عش النسر ، حيث كانوا يخضعون لدراسات نظرية يتعلمون من خلالها جانباً من أسرار العقيدة الإسماعيلية ، ودراسات عملية يتدربون خلالها على الاغتيال والقتل بالخنجر ، وظلت صورة الحياة داخل قلعة ( ألموت ) أشبه بالأساطير ، حتى قدم الرحالة الشهير ماركو بولو ، وصفاً دقيقاً لهذه القلعة فيما يلي : " هي أكبر وأجمل حديقة يمكن أن تقع عليها عين ، وتقع في واد بين جبلين ، وملأها شيخ الجبل بكل أنواع الفاكهة ، وأقام فيها قصوراً ومقصورات من أروع ما يمكن تخيله ،وجميعها مغطاة برسوم فاتنة ، ومموهة بالذهب ، وجعل فيها جداول تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء ، وأقام على خدمة الحديقة فاتنات من أجمل نساء العالم ، يجدن العزف على مختلف الآلات الموسيقية ، ويغنين بأصوات رخيمة، ويؤدين رقصات تخلب الألباب ، ذلك لأن شيخ الجبل كان يريد أن يوحي لشعبه بأن هذه هي الجنة الحقيقية ، ولذا فقد نظمها بالوصف الذي جاء به محمد للفردوس ، كحديقة جميلة ، تفيض بأنهار من الخمر واللبن والعسل والماء ، ومليئة بالحور العين ، ومن المؤكد أن المسلمين في هذه الجهات يعتقدون أنها الجنة حقاً .(8/116)
ويستطرد الرحالة ماركو بولو في وصفه للقلعة : والآن لا يسمح لأحد بدخول هذه الحديقة إلا لهؤلاء الذين يراد لهم أن يكونوا حشاشين (Ashashin) ، وتوجد قلعة عند مدخل الحديقة ، تبلغ من القوة والمناعة أنها تستطيع مقاومة كل العالم ، وليس هناك طريق آخر للدخول ، وهو يحتفظ في بلاطه بشبان من أبناء المنطقة المجاورة تتراوح أعمارهم بين الثانية عشرة والعشرين ، وهي السن الملائمة للجندية ، وتعود أن يقص عليهم قصصاً عن الجنة كما كان يفعل محمد ، وهم يعتقدون فيه كما يعتقد المسلمون في النبي ، ثم يدخلهم حديقته في مجموعات من أربعة أو ستة أو عشرة أفراد كل مرة ، بعد أن يجعلهم يشربون مخدراً معيناً يسلمهم إلى نعاس عميق ، ثم يأمر برفعهم وحملهم إلى هناك ، وهكذا ، فإنهم عندما يستيقظون يحسبون أنفسهم في الفردوس حقاً . وتغازلهم الفتيات بما يملأ قلوبهم حبوراً ، حتى يشبعن كل رغبات هؤلاء الشبان إلى درجة أنهم يتمنون ألا يغادروا هذا المكان أبداً . وعندما يريد شيخ الجبل اغتيال أحد الأمراء فإنه يستدعي أحد الشبان بعد تخديره ، ويقول اذهب واقتل فلاناً ، وعندما تعود سوف أدخلك إلى الفردوس ، وإذا مت فسوف أبعث ملائكتي لتحملك إلى هناك ، ولذا يسارعون إلى تلبية كل أوامره مهما كانت عسيرة أو قاتلة رغبة منهم في العودة إلى الفردوس ، وهكذا بث شيخ الجبل الرعب في قلوب جميع الأمراء ، وجعلهم يدفعون له الجزية مقابل أن يمنحهم السلام والمودة .(8/117)
ولم يقتصر النشاط العسكري لدولة الحشاشين على هذه الفرقة الفدائية التي تخصصت في اغتيال الخصوم، وإنما أنشأوا جيشاً، ساهم بصورة فعالة في تدعيم دولتهم، والدفاع عنها ضد هجمات الأتراك السلاجقة الذين فشلوا في اقتحام معاقلهم. يؤكد ذلك الدكتور محمد السعيد جمال الدين في كتابه ( دولة الإسماعيلية في إيران ) إذ يقول: إن الجيش الذي كونه الإسماعيلية في إيران كان شيئاً آخر غير المنظمة الرهيبة التي أقاموها، وأطلقوا على أعضائها اسم ( الفداوية ). ونال الفداوية شهرة واسعة منذ اغتيالهم الوزير السلجوقي الشهير (نظام الملك) في سنة 485 هـ، فأوقعوا الخلل والتوتر في نفوس المخالفين لمذهبهم حتى انعدم الأمن، ووصل الأمر إلى أن الملوك والسلاطين لم يجدوا حيلة في حفظ أنفسهم من الفداوية.
ولكن ماذا كانت محصلة كل ذلك ؟
لقد أدى النشاط الفوضوي الذي قام به الإسماعيلية الإيرانيون إلى تقويض أركان الخلافة العباسية ، وإضعاف الدول الإسلامية التي نشأت من حولها ، وانفتح السبيل أمام المغول البرابرة ،لكي ينقضوا كالسيل المنهمر على العالم الإسلامي ، ويحطموا مركز الخلافة العباسية في بغداد ، ويجتثوا جذور الحضارة ، وينشروا الظلم والظلام في كل مكان .
قصة الخُرّميّة(8/118)
وقصة الخُرّميّة في التاريخ الإسلامي لا تقل بشاعة عن قصة القرامطة أو الحشاشين ، وتنتسب هذه الطائفة الإجرامية إلى " بابك " الغلام الفارسي، الذي كان يعمل في خدمة أحد رؤساء الخرمية واسمه "جاويدان"، فلما مات ، قالت أرملته لغلامه بابك: " إن جاويدان قال لي: إن روحي تخرج من بدني وتدخل في بدن بابك ، وأنه سيبلغ أمراً لم يبلغه أحد، وإنه يملك الأرض ، ويقتل الجبابرة، ويرد المزدكية ـ أحد أديان الفرس القديمة ـ وإنه لا دين لمن خالفني فيه .. " . والتف حول بابك جند جاويدان ، وكثر أتباعه ، وما زال نفوذه في ازدياد حتى ملك بلاد أذربيجان، وأخذ يغير منها على القرى المجاورة ، ويسبي النساء ، ويسلب الأموال ، ووجه إليه الخليفة المأمون عدة جيوش فكانت تهزم أمامه ، وبلغ من جرأة بابك أنه اتصل بإمبراطور الروم البيزنطيين ، واتفق معه على غزو البلاد الإسلامية ، واشترك الاثنان في مهاجمة المدن الواقعة على الحدود ، ولم يزل المأمون يوجه جيوشه لمحاربة "بابك"، حتى وفاته سنة 218 دون أن يتمكن من استئصال شأفة بابك ، واستأنف خليفته المعتصم محاربة " بابك " فأرسل إليه جيشاً بقيادة "الأفشين" حتى تمكن من القبض عليه وبعث به إلى سامراء ، وخرج المسلمون يتفرجون عليه وكأنهم في يوم عيد ، وتم القضاء عليه على مشهد من الجمهور.(8/119)
وقد حاول المأمون ـ عبثاً ـ أن يسترضي الشيعة لما رأي انتفاضاتهم أدت إلى تفسخ الدولة وانقسام المسلمين إلى شيع وأحزاب يضرب بعضها وجوه بعض . وبلغ من حرص المأمون على وحدة الأمة أن عهد بولاية عهده إلى الإمام علي الرضا ـ أحد الأئمة الاثني عشر عند الشيعة الإمامية ـ ويعزو الدكتور جمال سرور في كتابه ( الحياة السياسية في الدول الإسلامية ) تصرف المأمون إلى عدة عوامل منها : أن المأمون نشأ منذ نعومة أظفاره في بيئة فارسية ، فأمه " مراجل " فارسية الأصل ، كما أشرف على تربيته في أول الأمر "جعفر البرمكي"، ثم انتقل إلى " الفضل بن سهل " ـ وهما فارسيان يجري التشيع في عروقهما ـ ومن بين العوامل التي حملت المأمون على أخذ البيعة لعلي الرضا أنه كان قد استعرض الفتن التي قامت في الدولة الإسلامية منذ عهد علي بن أبي طالب إلى يومه ، فرآها فرقت كلمة المسلمين ، على حين كان من الواجب عليهم أن يتحدوا ويتركوا التنافس على الخلافة جانباً ويصرفوا جهودهم إلى تنظيم أمورهم الداخلية والخارجية ، ولو ساروا في هذا السبيل لأصبحوا قوة لا يستهان بها ولتوطدت سلطتهم في البلاد التي فتحوها ، لكن هذا التنازع بين البيتين العباسي والعلوي قطع من أوصال الدولة الإسلامية ، وشغل الخلفاء بإخماد ثورات الشيعة العلويين عن القيام بإصلاح حال المسلين ، فرأى المأمون إزاء هذه الحال أنه من الخير أن يفتح الطريق أمام البيتين العباسي والعلوي ، فيختار أحسنهما ، وبذلك يتيسر لهذين البيتين التعاون لمصلحة المسلمين ، لكن غاب عن المأمون أن الخلاف لا ينقطع بهذا الحل ، وأن عصبية كل من العلويين والعباسيين لبيتهم مصدر إثارة الفتن والقلاقل . ولم يتراجع العلويون عن تحقيق هدفهم ، وظلوا يكافحون العباسيين حتى نجحوا نجاحاً يسيراً في إقامة دولة علوية في بلاد المغرب الأقصى " الأدارسة"، ثم واصلوا نضالهم حتى استطاعوا إقامة خلافة شيعية فاطمية في أفريقية لم تلبث أن(8/120)
زحفت على مصر .
دروس المحنة :
والآن .. ما أشبه الليلة البارحة ، وما أشبه قرامطة اليوم بقرامطة أمس عدواناً وبطشاً وترويعاً للآمنين من حجاج البيت الحرام ، يزعمون أنهم تظاهروا في شعاب مكة احتجاجاً على الولايات المتحدة الأمريكية ، فأين هي الولايات المتحدة من مكة المكرمة ؟ وأين البيت الأبيض من بيت الله الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً ؟ ولماذا لم يعبروا المحيط سباحة ليسجلوا احتجاجهم تحت سفح تمثال الحرية الذي يتصدر مدينة نيويورك ، هذا إذا كانوا صادقين في عدائهم للولايات المتحدة ! وكيف سولت لهم ضمائرهم أن يطوفوا حول الحرم وهم يرفعون صور الخوميني؟! فهل أصبح الخوميني نداً لصاحب البيت ـ جل في علاه ـ ؟! وكيف سولت لهم أنفسهم أ، يجعلوا من مناسك الحج ساحة للصراعات السياسية والخلافات المذهبية والحركات الفوضوية ؟!
وأقول لكم في ختام هذا الحديث ما قلته في صدره: انتبهوا أيها المسلمون إلى ما يدبر لكم في الخباء. إن التحركات الشيعية تسير وفق مخطط دقيق، يهدف إلى إثارة الفوضى والقلاقل في منطقة الخليج والجزيرة على أمل أن تسقط في براثن الإمام، حتى يتمكن من إقامة حلمه القديم. وآيات الله الذين يحيطون بالإمامة أسفروا عن وجهتهم في احتلال البقاع المقدسة ، كما ذكر " آية الله منتظري " في رسالته إلى "أية الله خوميني ".
وأقول لكم أيضاً : لا تعولوا على أي من القوتين العظميين ، فكلتاهما لا يضيرها أن تقع المنطقة كلها في براثن الشيطان طالما أن مصالحهما معتبرة ومحترمة ، وليس ببعيد أن تكون القوتان العضميان داخلتين في هذا المخطط .
فهل نفيق من سكوننا ، وننظر إلى ما يدبر لنا ؟ نرجوا أن نفتح عيوننا على الخطر قبل أن يأتي يوم نبكي فيه على ضياع المسجد الحرام، كما بكينا ـ ولا نزال نبكي ـ على ضياع المسجد الأقصى .
الفصل العاشر
التيار السني في مصر(8/121)
من بين التيارات العديدة التي أفرزتها الساحة الإسلامية في القرن الأول ، اختارت مصر التيار السني ليكون منهاج حياة ، ومصدر تشريع، وبرنامج فكر وثقافة . ولم يكن هذا الاختيار محض مصادفة ، كما لم يكن استجابة لقرارات فوقية أملتها السلطة ، ولكنه كان اختياراً تلقائياً يتواءم مع الشخصية المصرية التي فطرت على الاعتدال والوسطية ، والنفور من الشطط الذي كان سمة مشتركة بين الفرقاء . ولقد لجأوا إلى السلاح لفرض أفكارهم بعد أن عز عليهم الحوار بالكلمة، والجدال بالرأي.
هذه الحلقة الغامضة من تاريخ مصر الإسلامية ينبغي أن نجلوها ، لأنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأغوار النفس المصرية التي اهتدت إلى الدين منذ فجر التاريخ الإنساني ، فلا غرابة أن استقبلت مصر الإسلام بنفس الحماس الذي استقبلت به المسيحية ، ثم هي في كل الأحوال تفهم الدين بسليقتها المحبة للخير والفضيلة والتسامح ، ثم كان اختيارها الذكي للتيار السني بما ينطوي عليه من صفات الاعتدال والنقاء والاتزان والوسطية ، حتى ليكاد وصف " الأمة الوسط " ينطبق على الأمة المصرية انطباقاً تاماً .. ولنبدأ القصة من بدايتها .(8/122)
كانت المجتمعات الإسلامية ـ بعد عصر الخلفاء الراشدين ـ تفور بأشتات من المذاهب والأفكار، التي أعلنها الشيعة والخوارج والعثمانية والمرجئة والمعتزلة ، وأخذ كل فريق يشحذ أسلحته لكسب الأشياع والمؤيدين على أمل أن تتاح له فرصة السيادة والقيادة وكانت الأفكار ـ عند نشأتها سياسة بحتة تدور حول مشكلة الحكم ، ولكن سرعان ما لبثت هذه الأفكار مسوحاً دينياً فاختلطت الاجتهادات السياسية بالمباحث اللاهوتية ، وامتزجت مشكلة الخلافة والإمامة بمسائل القضاء والقدر والجبر والاختيا، وكان هذا متوقعاً بالنسبة لدين ينظم شؤون العقيدة الدينية والحياة الدنيوية، فلما حدثت الفتوحات الكبرى ودخل الإسلام بلاداً ذات حضارات وأديان قديمة، وجد المسلمون الفاتحون أنفسهم أمام أشتات من العقائد والمذاهب والفلسفات لم يكن لهم بها سابق عهد، وكان أمراً محتوماً أن تحدث المواجهة بين الدين الجديد وهذا التراث القديم، ولم يكن يتمشى مع مبادئ الإسلام ـ وهو دين يقرر حرية العقيدة وينبذ الإكراه، كما يقرر أسلوب الحوار والجدال مع المخالفين ـ أن تحدث هذه المواجهة عن طريق العنف. ولذلك وجدت التيارات المخالفة المناخ المناسب لكي تعبر عن نفسها، وكان العراق هو المسرح الرئيسي الذي دارت عليه ملحمة الصراع الفكري ، فالعراق بلد قديم كانت أرضه مهداً للديانات والمذاهب الفلسفية: غنوصية وزرادشتية ومزدكية ومانوية، فضلاً عن المؤثرات الهندية واليونانية ، فلما غلب الإسلام على العراق واعتنقه سكانه الأصليون ـ سواء عن إيمان حقيقي أو نفاق خفي ـ بقيت في نفوسهم آثر من معتقداتهم القديمة اختلطت بالدين الجديد، ونشأ من كل ذلك مذاهب جديدة وأفكار مستحدثة ما لبثت أن تجسدت في شكل أحزاب وفرق وتنظيمات مسلحة، كلها يتطلع إلى الحكم حسب رؤيته الجديدة التي تأثرت بالقديم.(8/123)
فالشيعة تأثروا بالأفكار الفارسية التي لا ترى شرعية الحكم إلا في نطاق أسرة ذات حسب ونسب ومجد تليد مثلما كان أيام قورش وأسرة ساسان ، كما تأثروا بفكرة زرادشت التي تبشر بالمخلص الذي سيظهر في آخر الزمان ليحرر الناس من الظلم ويقيم العدل ، وتبلورت أفكارهم في برنامج محدد يعهد بالحكم إلى أسرة علي ابن أبي طالب ، فلما فشلت ثوراتهم المتعددة ابتدعوا فكرة الإمام الغائب في شخص " محمد بن الحنفية " الابن الثالث لعلي ابن أبي طالب ، وقد تبلورت حوله طموحات الشيعة بعد مصرع الإمام الحسين في كربلاء ، ونهض المختار الثقفي ليقود حركة مسلحة عرفت باسم ( الكيسانية ) فلما فشلت قالوا : إن الإمام محمد بن الحنفية دخل السرداب في جبل رضوى ـ بظاهر المدينةـ وبعدها تعددت فكرة الإمام والسرداب عند آخرين.
وفي الكوفة ـ بالعراق ـ نشأت بذرة الخوارج بعد حادث التحكيم ، وشقوا عصا الطاعة على أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب ، ثم اعتزلوه واختاروا لهم إماماً جديداً ، واصطنعوا لأنفسهم مجتمعاً بدأ مثالياً وانتهى إجرامياً ، بعد أن حكموا على كل المسلمين بالكفر والمروق.
وفي البصرة ـ بالعراق أيضاً ـ نشأ تيار الاعتزال انشقاقاً على إمام أهل السنة الحسن البصري ، فأنشأوا لأنفسهم مدرسة فكرية خاصة جعلت من العقل أداة اختبار لكل الأسانيد الدينية بما فيها نصوص القرآن الكريم وأحاديث الرسول، وقام منهجهم على أساس واحد هو إخضاع المنقول للمعقول . وشط المعتزلة في تضخيم مقام العقل، مثلما شطوا في الأبحاث اللاهوتية التي زجت بهم في متاهات ليس لها عائد مفيد على الحياة العملية، فلما تربعوا في السلطة ـ أيام الخليفة المأمون ـ تنكروا لمبادئهم الأصيلة في العدل والحرية واحترام الإرادة الإنسانية ، ونكلوا بمخالفيهم أسوأ تنكيل في مسألة فلسفية دخيلة على العقيدة الإسلامية ، وامتحنوا علماء السنة في أشد محنة وهي المعروفة بمحنة " خلق القرآن.(8/124)
فأنت تلمس في كل هذه الفرق والأحزاب غلواً وتطرفاً في ميدان من أهم الميادين التي حرص الإسلام على صيانته من القهر والإكراه ، وأعني به ميدان الجدل الفكري والخلاف المذهبي ، ورسم الإسلام التقاليد لإدارة الحوار واستمرار الجدال مع المخالفين بالتي هي أحسن .
وبينما كانت قعقعة السلاح تدوي بين أطراف الصراع في الأمصار الإسلامية ، كانت هناك جماعة أخرى قبعت في مدينة الرسول بعيداً عن غبار المعارك ، وجعلت من نفسها كتيبة لحراسة الدين ، وحماية النبع الصافي من الضلال والتشويه ، أولئك هم علماء أهل السنة ، أو أهل الحديث ، أو الجمهور أو السلف الصالح أو أهل الجمود ، كما وصفهم خصومهم ؛ لأنهم رفضوا الانسياق في تيار التأويل ، وتشبثوا بالنصوص ممثلة في القرآن والحديث ، وعكفوا على دراسة التراث الذي تركه فقهاء الصحابة . وفي مسجد الرسول شكلت النواة الأولى لهذا التيار العلمي الذي اجتنب الصراع المذهبي ، وتفرع لدراسة الكتاب والسنة ، وكان قوام النواة المباركة فقهاء المدينة السبعة : عبد الله بن عتبة ، وعروة بن الزبير بن العوام ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وخارجة ابن زيد بن ثابت ، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وأنت ترى معظمهم أحفاد فقهاء الصحابة، فورثوا عنهم العلم والفقه والنقاء في فهم الدين والتمسك بالأصلين العتيدين : القرآن والسنة .(8/125)
وكان لهذا التيار السني ظهور قوى في العراق عن طريق تلاميذ عبد الله ابن مسعود ، وكان من أعظم ثمراته الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ، ثم الإمام أحمد بن حنبل في عصر لاحق . أما أقوى ثمراته في المدينة فكان إمام أهل السنة مالك بن أنس الذي أرسى اللبنات الأولى في صرح الفقه السني ، ووصلت إشعاعاته إلى مصر عن طريق تلاميذ مالك الذين نجحوا في استمالة المصريين إلى مذهب شيخهم ، حدث ذلك في نفس الوقت الذي كان فيه التيار السني قد حفر لنفسه مجرى عميقاً في مصر بأيدي كبار الصحابة ، الذين استوطنوا مصر في عهد عثمان بن عفان ( ذكر السيوطي في حسن المحاضرة أسماء 150 صحابياً نزلوا مصر ) وارتاح المصريون لهذا التيار ووجدوا فيه اعتدالاً يتمشى مع طبيعتهم فتشبثوا به ، واعرضوا عن المذاهب والدعوات الأخرى .(8/126)
وجاء وقت نزحت فيه قوى الصراع إلى مصر : علوية وعثمانية وخوارج ، كل منها يحاول جذب مصر إلى خندقه ، ولكن التيار السني الذي اشتد عوده وترسخت جذوره في النفسية المصرية ، أبى الانحياز إلى أي من المعسكرات المتناحرة والتي ركبت متن الشطط والغلو ، وتمسك المصريون بمبدئهم العتيد ،مبدأ الوسط العدل الذي لا يميل ولا يجنح ، وقد لفتت هذه الظاهرة انتباه المؤرخين فتناولوها بالشرح والتحليل ، من ذلك ما كتبه الدكتور عبد المجيد عابدين في كتابه (لمحات من تاريخ الحياة الفكرية المصرية ) فهو يعزو انصراف المصريين عن الشيعة والخوارج إلى أن " أصحاب الحديث " في مصر عرفوا الطريق الصحيح ، وآمنوا بكل ما انتهى إليهم من مبادئ ، ونظم سياسية ودينية من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء الراشدين من بعده ، وبهذا المبدأ كانوا أشد صيانة لإجماع الأمة ، وحفظها لكلمتها من الفتنة والتفرق ، ذلك أنهم اتبعوا " الأثر " أو الطريق المأثورة الظاهرة التي لم تعبث بها الفرقة ، ولم تحدث فيها بدعة ، ولم يجر عليها انحراف ، وعلى هذا المبدأ كان أهل الحديث ـ مع اعتبار الفارق ـ أقرب إلى قول العثمانية ، وأكثر تعاطفاً معهم ، وأبعد في الرأي والاتجاه عن العلوية أشياع علي بن أبي طالب ، والقدرية قبل أن يعتزلوا ، والخوارج الذين أدانوا الأطراف المتنازعة جميعاً . ومنذ ذلك الحين بدأ تنظيم علمي لأهل الحديث في مصر ، وكان نواة لما سمي فيما بعد ( أهل السنة والجماعة) وكان عليهم أن يقودوا الحركة المحافظة ـ ويمثلها غالبية المسلمين ـ قيادة حكيمة ماهرة تتمشى ومبدأهم ، وتحمي حركتهم من القضايا الفكرية المتطرفة التي نشأت وليدة نزاع حزبي طارئ بين فئات متعددة النزعات والثقافات في داخل المحيط الإسلامي ، وأدرك التيار السني في مصر كلما واصل سيره في خلال العصور ، أن الموقف الوسط في كثير من هذه القضايا أدعى إلى جمع الكلمة وضم الصفوف ، بل هو روح الإسلام كما(8/127)
يتجلى في نصوص القرآن الكريم ، ولم يمنعهم مبدأ تأييد السلطة الشرعية من أن يقفوا موقف الرقيب الناصح والناقد ، يرشدونها إلى الحق والخير ، وينقدون سياستها .
فأنت ترى من هذا العرض التاريخي لبدايات التيار السني في مصر، أنه كان تياراً علمياً بالدرجة الأولى ، ومرتبطاً بعلوم الدين من تفسير وحديث وفقه وتاريخ ، ولم ينغمس في لجة الصراعات المذهبية والخلافات الدموية التي اجتاحت العالم الإسلامي في ذلك العصر ، لذلك أفرخت هذه المرحلة المبكرة رعيلاً من العلماء والفقهاء والمحدثين والمؤرخين ، بينما نضبت عن تخريج علماء في الفلسفة ( علم الكلام ) كما كان الحال في العراق على يد واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وغيرهما من شيوخ المعتزلة ، كذلك لا تجد في تاريخ المصريين المسلمين زعماء يقودون حركات الانقضاض والثورات كما هو الحال عند زعماء الشيعة والخوارج، ولا نجد في تاريخ الفكر الإسلامي المصري تلك النحل التي مالت إلى البدع المنحرفة والعقائد المشبوهة فجنحت إلى الضلال والزيغ والزلل . وإنما تجد صفاء في العقيدة ، وبساطة في التدين ، ونقاء في الضمائر والسرائر . الأمر الذي يدعونا إلى البحث عن جذور هذه الظاهرة في مكونات الشخصية المصرية التي تنامت عبر آلاف السنين ، وكان لها طابعها الخاص في فهم الدين .(8/128)
وتاريخ الأديان يؤكد الرابطة العضوية بين الدين ـ كمجموعة تعاليم ومباديء نظرية ـ وبين البشر الذين يعتنقون هذا الدين ، ويختلفون في تقبله وفهمه وفق ظروفهم الطبيعية والبيئية وموروثاتهم الفكرية ، ولا شك أن الشخصية المصرية المفطورة على التوحيد تلقت المسيحية بطريقة تختلف عن تلقي الشخصية الرومانية الوثنية لنفس الدين ، ولا شك أن الشخصية الجرمانية البدائية كان لها تصور للمسيحية يختلف عن تصور المصريين والرومان ، ونفس الشيء ينطبق على الشعوب التي دخلت الإسلام ومعها تراثها القديم وشخصيتها الذاتية ذات الطابع الخاص. ولعل هذا المعنى يفسر عبارة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد . لقد استقبلت مصر الإسلام بما فيه منها ، فقد عرفت قديماً المعاد والبعث والحساب والعقاب والميزان والجنة والنار ، بل عرفت التسبيح والتنزيه للإله الواحد ، وكان تسبيحها فريداً في زمانه ، نشيداً في كل زمان ، اعتنقت مصر الإسلام بما فيه منها ، وبحسها الحضاري بما فيه من انفتاح على الفكر وانشراح للفكرة ، واحتضان للقيم ، تجاوبت مصر مع الإسلام ، وأخذت منه وأعطته .
وفي رأي الدكتورة نعمات أن إقبال المصريين على الإسلام إنما يعود إلى الصفة المشتركة بين طبيعة مصر وطبيعة الإسلام التي تقوم على البساطة وعدم التعقيد .
مذهب أهل السنة(8/129)
هذا عن تفاعل النفسية المصرية مع الإسلام كدين ، فماذا عن تفاعل الشخصية المصرية مع المذاهب الإسلامية التي اختار منها المصريون مذهب أهل السنة الذي يوائم طبيعتهم في الاعتدال والتوسط !!؟ ونفورهم من دعوات التطرف والشطط ؟ اسمع هذه العبارات الحاسمة التي يعلنها العلام جمال حمدان في سفره الجليل عن شخصية مصر : ليس من قبيل التطرف أو التبسيط ، ولا هو من باب الوهم أو التسطيح ، أن سمة التوسط والاعتدال من أبرز السمات العامة الأساسية في الشخصية المصرية . فالوسطية والتوازن سمات رئيسية عريضة في كل جوانب الوجود المصري تقريباً ، الأرض والناس ، الحضارة والقوة ، الأخذ والعطاء .. إلخ ، وهو يكاد يرى التوسط والاعتدال أن يكونا مترادفين إلى حد ما ، أو بمثابة جانبين لشيء واحد ، وإن كان التوسط ألصق بالأرض ، والاعتدال ألصق بالإنسان : نفسه ونفسيته وعقليته وأخلاقيته، وشخصيته وخامته ومعدنه وجوهره وروحه .. إلخ ، أي تلك الجوانب الداخلية ( الجوانية ) الدفينة والدخائل الغائرة الخفية غير المادية ، أو غير المنظورة ، أو الملموسة بصورة مباشرة .
والاعتدال في الشخصية المصرية لا يقصد به التوازن الخامل ، ولكن يقصد به عدم التطرف أو الجنوح ، وهو بهذا مرادف للمرونة ، ودليل على الحيوية والتكيف والقدرة على التلاؤم . ومن ثم كان قيمة في خلود الشعب المصري واستمرار بقائه .
من أين اكتسب المصري صفات الاعتدال والاتزان والوسطية ؟(8/130)
انظر حولك تجد الجواب . انظر إلى الطبيعة المحيطة بك في بساطتها ووضوحها وسماحتها واعتدالها ، فترى انعكاس كل ذلك على الشخصية المصرية ، فهي طبيعة ودود ، حانية على أبنائها ، أرحم من أن تفجعهم بالكوارث والنكبات والتغلبات الفجائية ، طبيعة مصر خالية من البراكين والزلازل والأعاصير والفيضانات الهوجاء التي تكتسح معها المدن والقرى . كان أقصى ما يفعله النيل أن يعلو فيضانه في بعض السنين وينخفض في السنين العجاف ، في الأولى تعلم الناس فن التعاون على إقامة الجسور ، وفي الثانية تعلموا فضيلة التراحم والتكافل في الأزمات . اخرج إلى أي مكان في مصر تجد بساط الخضرة يمتد أمامك إلى حد الأفق ، ولا تجد تلك الجبال الصماء التي تنعكس قسوتها على قلوب البشر ، وإنما ستجد سماء صافية , وشمساً ساطعة ، ونسمات رقيقة . ولما كانت الحياة في مجملها علاقة جدلية بين الإنسان والطبيعة، فكان أمراً محتوماً أن تكتسب الشخصية المصرية صفات الاعتدال والاتزان والوسطية ، وأن تتفاهم مع الدين بهذه المفاهيم العميقة ، وأي فهم للدين خارج نطاق هذه الحدود فإنما يمثل انكساراً في الشخصية المصرية ، وهوـ على أبسط الفروض ـ حالة مرضية تحتاج إلى علاج وصبر حتى تعود الشخصية المصرية إلى طبيعتها الأصلية .
الفهرس
الموضوع ... ... ... ... ... ... ... ...
الفصل الأول
أحقاد قديمة ... ... ... ... ... ... ... ...
الفصل الثاني
... الفتنة نائمة .. فمن أيقظها ... ... ... ... ...
الفصل الثالث
... أفكار منحرفة في ثياب عصرية ... ... ... ... ...
الفصل الرابع
... جذور الصراع بين الفرس والعرب ... ... ... ...
الفصل الخامس
... إيران في ظل الإسلام ... ... ... ... ... ...
الفصل السادس
... استعادة المجد القديم ... ... ... ... ... ...
الفصل السابع(8/131)
... في انتظار الإمام ... ... ... ... ... ... ...
الفصل الثامن
... انتفاضات الشيعة ... ... ... ... ... ... ...
الفصل التاسع
... دماء في الحرم الشريف ... ... ... ... ... ...
الفصل العاشر
... التيار السني في مصر ... ... ... ... ... ...
رقم الإيداع 3349/88
الترقيم الدولي 2-38-1431-977(8/132)
الطابور الخامس في الاسلام
التخطيط الاستعماري لضرب الاسلام .
تضخيم الثورة .
مقارنة مع الثورات الاخرى في هذا القرن .
تضخيم المرشد .
الاعمال المناقضة للدين .
تشويه صورة الاسلام .
النظام الحاكم في ايران نظام خليط من الفوضوية والشيوعية والنازية والفاشية ولايمت إلى الاسلام بصلة .
وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
الطابور الخامس في الاسلام
ليست هذه اول مرة ينكب الاسلام بمثل ما نكب على يد الحاكمين في ايران والذين صوروا للعالم ان ماجرى ويجري في ظل الجمهورية الاسلامية الايرانية انما هو صورة لواقع الاسلام وحقيقته ، ولكن الخطر الذي الم بسمعة الاسلام في هذه المرة هو ان الاعمال التي ارتكبت باسم الاسلام في ايران كانت انعكاساتها السيئة سريعة وشاملة في الكرة الارضية بسبب سرعة الاتصالات السلكية واللاسلكية واجهزة الاعلام العالمية التي يمتلكها اعداء الاسلام ، والصهيونية العالمية من ورائها ، الامر الذي كان هو المقصود منه لدى الذين خططوا هذا التخطيط الرهيب ، حيث عرفوا الاسلام بدين التخلف وعدو الحضارة وقتل الصغار والكبار .(9/1)
لقد ارتكب ال عثمان في القرون السبعة التي حكموا البلاد الاسلامية في منصب امير المؤمنين من الاجرام ما تقشعر من سماعه الابدان ولكن اعمالهم البشعة كانت محصورة في نطاق دار الخلافة ولم يتجاوز حدود المدن التي كانت ساحة للمآسي والتعسفات الاستبدادية الفردية ، فلم يكن المجتمع البشري يعرف انذاك الصحف والاذاعة والتلفزيون والاقمار الصناعية التي تمد البشرية بمعلومات عن الكراة الاخرى ، فلذلك كانت الاخبار تبقى محصورة في صدور المؤرخين يودعونها في بطون التاريخ ، اما اليوم فالصحافة ووسائل الاعلام العالمية تراقب المجتمع البشري بخيره وشره ، ولا تغادر صغيرة ولاكبيرة الا احصاها ، وفي اقل من بضع ثوان يطلع سكان هذا الكوكب من القطب الشمالي إلى الجنوبي على كل ما تبثه نشرات الاخبار .(9/2)
لقد ظهر الاسلام منذ اواسط هذا القرن في مظهر التجديد الفكري الذي يوحي بمعالجة المشاكل الانسانية التي عجز عن حلها النظامان العملاقان العالميان الرأسمالي والشيوعي وبدأت تظهر كقوة ثالثة في العالم باسم الاسلام تقف ضد مطامع المستعمرين العظام في الدول الاسلامية التي للدول الكبار مطامع عظيمة فيها . وعلينا ان لاننسى ابدا الكلمة التي قالها كلادستون رئيس الوزراء البريطاني في مجلس العموم " ما دام القرآن في ايدي المسلمين ويعملون به لانستطيع من السيطرة عليهم " ثم علينا ان ناخذ درسا بليغا من الحقائق التاريخية وتجاربها وقد يكون من اهم هذه الدروس التي تكشف لنا الواقع الاليم الذي خططه الاستعمار للاسلام والبلاد الاسلامية ، هي الاحداث التي شهدتها القارة الهندية بعد الاستقلال ، لقد استطاع الشعب الهندي مسلمين وهندوس وبقيادة زعيمين كبيرين مهاتما غاندي ومحمد علي جناح طرد الاستعمار البريطاني من بلاده وذلك بعد عشرين عاما من التضحيات الجسام وتمخضت عن تلك الثورة العظيمة التي انتهت إلى اندحار اكبر دولة استعمارية في التاريخ البشري ، ولادة دولتين كبيرتين احداهما الهند بنفوسها البالغة 400 مليون هندوسي وباكستان بنفوسها المائة والعشرين مليون مسلم .
ومنذ عام 1948 أي العام الذي استقلت فيه الشبه القارة الهندية وشهد العالم ولادة الدولتين الجديدتين ، ساد الهند نظام ديمقراطي ثابت احتل موقعه في المجموعة الدولية بوصفه اكبر دولة ديمقراطية في العالم حيث يقف المجتمع البشري موقف الاجلال والاكبار من زعمائها الذين اخلصوا لبلادهم ومنحوها الحرية الحقيقة واطلقوا للشعب حرية اختيار النظام الذي سعى لاجله . اما باكستان الدولة الاسلامية الكبيرة فعلى نقيض اختها التوأم تجد حتى اليوم إلى الديمقراطية والحرية سبيلا .(9/3)
كانت باكستان في السنوات الاربع والثلاثون التي مرت عليها بعد الاستقلال وحتى اليوم مسرحا لاحكام عسكرية وعرفية مبتدأ بالجنرال ايوب ومنتهيا بالجنرال ضياء الحق وبينهما اسكندر ميرزا ويحيى خان وغيرها ، ثم حوادث سياسية عنيفة شطرت البلاد شطرين وقسمتها تقسيما لارجعة فيه إلى التوحيد ابدا . واذا ماشهدت باكستان نوعا من الديمقراطية والحرية في عهد ذو الفقار علي بوتو الذي لم يدم طويلا ، الا ان اعدامه في نهاية المطاف جاء رمزا لانتصار الاستبداد على الحرية التي قدمت قربانها الكبير على مسرح التاريخ بكل شموخ واباء .
نحن نسأل الضالعون بشؤون التاريخ وفلسفته ، ما هو التفسير المقنع لهذا التناقض الصارخ في حياة امة واحدة في ارض واحدة ناضلت سنوات طوال لتحقق استقلالها وحريتها وعندما بلغت ما تريد انشطرت شطرين بسبب الدين ، فنالت احداها الحرية المطلقة وحرمت الاخرى منها ؟…
اليس السبب الرئيسى في حرمان الامة الباكستانية من حقوقها الاساسية وعرقلة مسيرة حريتها هو ان الشعب الباكستاني شعب مسلم ارادت السياسات الاستعمارية الكبرى له الهوان حيثما كان ويكون ، واليس السبب في عدم عرقلة مسيرة الحرية في الهند هو ان الشعب الهندي شعب هندوسي غير مسلم .(9/4)
قد اكون على حق وقد لا اكون ولكنني شخصيا مقتنع بسداد رأي ولا احيد منه قيد انملة ، انه الرأي الذي اريد ان انطلق منه نحو الاحداث في ايران والتي ارتكبت باسم الاسلام وفي ظل حكم رجال الكهنوت الاسلامي ، والسؤال الذي اضعه بكل اختصار : كم كان اعداء الاسلام ينفقون من مال وجهد حتى يصوروا للمجتمع البشري ان الاسلام دين الهمجية والبربرية والوحشية كما صوره الامام الخميني والخمينيون الحاكمون باسم الاسلام وباسم مكاسب الثورة الاسلامية في ايران ؟ كم كان باستطاعة الاستعمار العالمي ان ينفق من مال وجهد حتى يقنع الامة الاسلامية التي تعيش كثير منها في ظروف مشابهة لحكم ال بهلوي ان يحمدوا الله على ما هم فيه ولا يتمنون قط ثورة اسلامية كالتي حدثت في ايران ويعاهدون الله على ان يكونوا مخلصين اوفياء لنظامهم الحاكم مهما كان نوعه وشكله ؟ اليست النكته التي اطلقت في ايران " ان الامام الطالقاني رحمة الله عليه بعث برقية من الجنة إلى الخميني يقول فيها ، التقيت بشاه ايران في الجنة ولكن لم ار احدا من شهداء الثورة الاسلامية الايرانية فيها " لها مغزى عميق يؤيد ما اردت قوله .(9/5)
اني ارى من السذاجة ان يتصور المرء ان رفض الصلح مع العراق الجار المسلم وايقاف الاقتتال بين اخوة مسلمين تجمعهم الجيرة والعقيدة من قبل الخميني مرشد الثورة الاسلامية يأتي في وقت يسافر فيه البابا إلى الفلبين الواقعة في اقصى الارض ليصلح بين الدولة المسيحية ومسلمون ثائرون ضدها في جزر مورو امر اعتباطي واتفاق عفوي لم يخطط له من قبل ، ماذا يقول العالم وكيف يقارن بين نظام روحي اسلامي يريد المزيد من اراقة الدماء ومزيد من الدمار ، ونظام روحي مسيحي يشد رئيسه الرحال مسافة 30 الف ميل لاجل السعي في احلال السلام ومنع اراقة الدماء بين المسلمين والمسيحيين ؟ كما اني لا ارى من الصدفة اطلاقا ان ان تصدر المحاكم الثورية الاسلامية في ايران احكاما بالاعدام على ثلاثة الاف شاب وشابة بينهم فتيات مراهقات لم يبلغن سن الرشد ، وفتيان مراهقون لم يبلغوا الحلم لانهم قالوا " نريد الحرية " او " الموت للخميني " والاحكام تنفذ كلها في الايام نفسها التي اصدرت المحاكم الايطالية حكمها على شاب ارهابي له سجل اسود بالاجرام حاول اغتيال اعظم شخصية دينية في العالم المعاصر وهو البابا جان بول الثاني بالسجن المؤبد .(9/6)
ان توقيت الحاكمين على زمام السلطة في ايران اعمالهم اللاانسانية والبربرية باسم الاسلام في الوقت الذي تقوم الكنيسة المسيحية بعمل انساني عظيم ليست صدفة واعتباطا ، انما هو تخطيط اريد منه الشر كل الشر للاسلام . كما اني لا ارى تضخيم الثورة الاسلامية الايرانية في اجهزة الاعلام العالمية واجهزة الاعلام الخمينية مع امر اعتباطي او غير مقصود ، ان الحجم الذي اعطي للثورة الاسلامية اكثر بكثير من حقيقتها وواقعها حتى ان الوقاحة وصلت عند بعض المسؤولين في النظام الحاكم انهم قالوا ان ثورة الخميني ضد الشاه تأتي بعد ثورة الرسول الكريم ضد الشرك ، والمتتبع لتاريخ الثورات يعلم جيدا ان هذا القرن بالذات شهد ثورات كبيرة وعنيفة يكون حجم الثورة الايرانية بالنسبة لها صغيرا ، فشهدت اندونيسيا ثورة دامية استقل بسببها 120مليون مسلم اندونيسي من سيطرة المملكة المنخفضة (هولندا) ، وثارت الهند ضد اكبر دولة استعمارية في التاريخ ونالت استقلالها ، وثار العراق ضد 400الف جندي انكليزي مدجج بالسلاح ونال استقلاله قبل الثورة الايرانية باربعين عام . وثارت ايران نفسها ضد الانكليز في تأميم البترول وطردوا من ايران قبل الثورة الايرانية بثلاثين عام ، وثارت شعوب اخرى وقدمت التضحيات العظيمات الجسام حتى نالت استقلالها ، فالثورة البلشفية التي ادت إلى سقوط النظام القيصري في روسيا هي اعظم الثورات التي شهدها هذا القرن ، والثورة الصينية بزعامة ماوتسي تونغ ورحلة الاربعين عاما من اعظم الثورات في التاريخ المعاصر ، حيث اصبحت الامة التي بلغ نفوسها ثلثي سكان العالم تظهر بمظهر جديد يتناقض و4الاف عام من الحضارة التي تعود عليها ، ومع انني شخصيا لا احب الشيوعية في أي شكل من اشكالها والنظام الشيوعي هو ابعد شيء إلى قلبي ، ولكن ليس من الحق والانصاف ان يبخس المرء حق الثورات العملاقة وان ادت إلى نتيجة لا يحبها ولايرتضيها في نفسه . فتقييم الحوادث(9/7)
الجسام لا بد وان يقارن بالموضوعية الشاملة لا بالحب والبغض.
واعود إلى ثورة ايران لاقول ان الشعب الايراني لم يكن هو الوحيد الذي ثار بين الشعوب المضطهدة ولا الاول ولا الاخير والثورة حق طبيعي وواجب على المجتمع اذا ما اراد الحياة الكريمة ، والحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الرعد (====) ، ولكن علينا ان لانطمس الواقع والحقيقة ، وهنا اكشف حقيقة لم يستطع احد كشفها في ايران في ظل النظام الحاكم وهي ان الارقام التي كان الخيمني يعطيها عن عدد شهداء الثورة ويقدرها بثمانين الف شهيد كلها كاذبة وغير صحيحة والخميني كان يعرف ذلك لانه طلب من اسر الشهداء في بلاغات اذاعية وصحافية ان يقدموا بمكتبة ما يؤيد كونهم من ذوي الشهداء كما طلب صورة كل شهيد وبيانا عنه حتى يطبع تلك المعلومات في كتاب خاص يصدر باسم شهداء الثورة الاسلامية الايرانية ثم يقدم المكافآت المالية لذويهم ، لم يراجع مكتب الخميني اكثر من الفين وتسعمائة وثمانية وثمانين شخصا فقط بالوثائق طيلة الشهور الستة التي كان المكتب خلالها يعلن نداء الخميني للشعب الايراني كرات ومرات ، وعرف الخميني قبل غيره ان رقم ثمانين الف اكذوبة نيسان ما انزل الله بها من سلطان ، ولذلك الغي مشروع نشر الكتاب للفضيحة التي كانت تلحق به ، اما عدد الثمانين الف فيبقى ثابتا على لسان الخميني لان " كلام الرجل واحد " كما يقول المثل.
لااريد هنا ان اغبن حق الثورة الايرانية فالثورة في ايران نبعت من اعماق الشعب ، وقدم الشعب التضحيات الجسام ، ولكن اعود إلى القول مرة اخرى واقول انه لا ينبغي تضخيم الثورة اكثر مما تتحملها من تضخيم ، فعلى هذا التضخيم الزائد على الحجم والواقع ارتكبت اخطاء جسيمة وعظيمة كانت نتيجتها ما تشاهده البلاد من دمار وانهيار ، استغله الحاكمون المعممون في بسط سلطانهم ونفوذهم الشريرة بذريعة الاحتفاظ على مكاسب الثورة والحفاظ عليها .(9/8)
اما الحجم الذي اعطى للخميني بصفته مرشد الثورة الاسلامية وحامي حماها سواء من قبل الخمينيين او الاجهزة الاعلامية الداخلية والخارجية لايخلو من ذكاء بارع لتشويه سمعة الاسلام الذي يمثله هذا الشخص مهنة ولبوسا وشكلا وقولا ، فبغض النظر من ان الخميني ليس صانع الثورة الايرانية بل الثورة هي التي صنعته لظروف خاصة اشرنا اليها في فصول مختلفة من هذا الكتاب الا اننا نسلم جدلا بما يقوله الخمينيون ونقارن هنا بين الخميني كمرشد للثورة الايرانية وبين زعماء اخرون صنعوا المعجزات والاعاجيب لبلادهم ولكن لم يضخموا لو يفخموا كما ضخم الخميني وفخم ولم يعط لا حد منهم ( حق السلطة الالهية ) كما اعطاه الدستور الايراني للخميني ، كما ان اسم أي واحد من هؤلاء الزعماء لم يذكر في دساتير بلادهم كما ذكر الدستور الايراني اسم الخميني مرات عديدة ، كما انه لم يصنع من احدهم اسطورة القرن كما صنع من الخميني .
ولا اريد ان اقلب صفحات التاريخ للعثور على اسماء زعماء الثورة في قديم الزمان بل اذكر اولئك الذين عاصرهم هذا الجيل من المجتمع البشري والجيل الذي سبقهم فقط ، لقد اسس مهاتما غاندي اكبر دولة ديمقراطية في تاريخ الانسان ، وهي الهند ، واسس محمد علي جناح اكبر دولة اسلامية في التاريخ ، وهي الباكستان ، ولم يتميزوا بشيء عن سائر افراد الشعب الا بالحب الجارف والاخلاص العميق من قبل شعوبهم، ثم تخليدا ابديا في التاريخ ، واحمد سوكارنو مؤسس اندونيسيا الاسلامية كافح الاستعمار الهولندي مكافحة الابطال ، وبفضله استقلت ثاني اكبر دولة اسلامية .(9/9)
العالم يربو نفوسها المائة والعشرين من الملايين ، ولم يفخم على غرار الخميني ، وهذا هو الجنرال ديغول انقذ الامة الفرنسية وفرنسا من السقوط مرتين ولكنه ترك سدة الحكم مكسور الخاطر لان الشعب الفرنسي لم يشاء ان يعطي لزعيمه العظيم ما يتناقض وسلطة الشعب العليا ، وهذا هو ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا انقذ المجتمع البشري من خطر النازية والفاشية ، وكسب اعظم حرب شهدتها الانسانية في تاريخها الطويل ، ويوم ان انتهت الحرب لصالح بريطانيا وحلفائها انتخب الشعب البريطاني حكومة اخرى لا طعنا في الرجل وعظيم خدمته، بل لكي يثبت للعالم ان الشعب هو الذي يصنع المعاجز لا الفرد ، واذا استطاع فرد من ابناء الشعب ان يأتي بجلائل الاعمال فانه استطاع ذلك بمساعدة الشعب ومساندته .
اذن هذا التضخيم للثورة ، وهذا التضخيم لمرشدها ليس امرا اعتباطيا او غير مقصود منه ، انه تخطيط دقيق لتسليط الضوء على ما يجري في ايران بقيادة الخميني والخمينيين الحاكمين والصاق اعمالهم بالاسلام تشويها له وازداراء به في حين ان الاسلام ورسوله براء منها . ان الاعمال الهمجية التي ارتكبت في ايران باسم الاسلام واعطت ذلك الانطباع المقصود الذي اشرنا اليه كانت النتيجة المتوخاة منها اظهار الاسلام بمظهر الدين المتخلف ، والنظام البربري الذي لا يليق بالانسان والمناقض مع كرامته وحقوقه في كل زمان ومكان ، وقد كان تضخيم الثورة وتضخيم مرشدها بالصورة التي شهدها العالم سببا في تضخيم بشاعة وفداحة الاعمال التي ترتكب فيها باسم الاسلام ، فكلما الصقت بالاسلام اعمالا بشعة وارتكبت باسمه احكاما جائرة واعمالا همجية ، نجح المخططون في تخطيطهم نجاحا وعظيما ، ونجح المنفذون في ارضاء سيدهم ، ومن هنا جاءت تسمية الحاكمين في ايران بالطابور الخامس .(9/10)
وحقا اقول هنا انه لم تستطع زمرة قط من هدم الاسلام بمثل الزمرة الخمينية في غابر الزمان ولا في مستقبله ، لقد نجح الخمينيون الحاكمون باسم الدين في ايران في غضون ثلاث سنوات من هدم معنويات الاسلام اكثر مما فعله اتاتورك في تركيا ورضا بهلوي في ايران من حكمها الذي كرسوه طيلة عشرين عاما لمحاربة الدين بالنار والحديد ، فعندما ولى كل منهما وعادت الحرية إلى الشعبين التركي والايراني ، عاد الاسلام إلى موقعه الطبيعي في البلدين بل زاد ايمان الناس وتعلقه به اكثر من قبل .
لقد اعطت سياسة محاربة الدين على يد اناس غير محسوبين عليه نتيجة تناقض ما ارادها المخططون ، فكان التخطيط الجديد الناجح الباهر ضرب الاسلام بالطابور الخامس وهدمه من الداخل على يد اناس ينتمون اليه في ظاهر الاحوال . ولكي اكون واضحا وصريحا فيما ذهبت اليه من القول رأيت من الضرورة ان اضع النقاط على الحروف واعدد هنا قائمة بالاعمال التي صدرت من هذه الزمرة وكلها تتناقض مع الاسلام ولكنها ارتكبت لتشويه صورته وسمعته وقد باركها مرشد الثورة الاسلامية (الامام الخميني) ليسد الطريق على الذين يريدون الدفاع عن الاسلام .
(1)
تعريف الاسلام بانه دين الحقد والحرب واراقة الدماء ، وقال الخميني مرشد الثورة الاسلامية " ان الاسلام بدأ بالدم ولا يصلح امره الا بالمزيد من اراقة الدماء " . وسياسة الجمهورية الاسلامية الايرانية منذ تأسيسها حتى الان هي السير في هذا الطريق الذي رسمه مرشدها ، قتل الشعب والاخوة والجيران ، فليس قتل الاقليات التي تطالب بحقوقها ، وقتل الفئات السياسية التي تطالب بحريتها ، والحرب مع الجيران الذين يقترحون السلام ويرفضه الخميني الا شاهدا واضحا على سياسة النظام الحاكم باسم الاسلام في ايران . والاسلام دين السلام والصلح والعفو والمغفرة ، واسم هذا الدين جاء شاهدا ودليلا على مغزاه وواقعه الداعي إلى السلام والصلح .(9/11)
ان الآيات الكريمات التي جاءت في القرآن الكريم وهي تأمر بالسلام والصلح والعفو واحياء النفس والنهي عن اراقة الدماء تربوا على مائتين وخمس وستين آية نستشهد ببعض تلك الآيات البينات :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) سورة البقرة 208 .
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) سورة الحجرات آية 10 .
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) سورة ال عمران 159 .
(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) سورة النساء 93 .
(مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) سورة المائدة 32 .
اما سيرة الرسول العظيم والتي هي الحجة على المسلمين واتخذت مصدرا من مصادر التشريع الاسلامي فهي اوضح من الشمس في رائعة النهار كما تشهد بها كتب السيرة النبوية ، فهذا هو رسول الله يدخل مكة فاتحا ويخاطب اهلها الذين حاربوه وشردوه وقتلوا اعز الناس إلى قلبه من اهل بيته وصحابته بقوله " اذهبوا فانتم الطلقاء " . كما انها صلى الله عليه واله وسلم اردف دار شيخ الامويين أبي سفيان بالكعبة وقال " من دخل دار ابي سفيان فهو امن " وابو سفيان حارب الرسول عشرين عاما وقاد المعارك بنفسه ضد النبي ، وكان السبب الرئيسي في كثير من المحن التي المت بالاسلام .(9/12)
ودخل ابو سفيان في الاسلام كارها ، وبعد ان ايقن ان راية الرسول اصبحت ترفرف على الجزيرة ولا مناص له من الدخول في الدين الجديد ، وقبل الرسول العظيم اسلام ابي سفيان واعطاه المكانة التي كان يستحقها بين عشيرته واهل بلده ، وجعل بيته مرادفا للكعبة ، وهكذا اثبت الرسول العظيم ان الحقد لا يجد إلى قلبه سبيلا وان دينة دين الرحمة والعفو والمغفرة والاخاء والكرم . ووقف الرسول مرة اخرى في حجة الوداع امام الجموع المحتشدة من المسلمين وكان عددهم يقدر بمائة وعشرين الفا وخطب فيهم تلك الخطبة اليتيمة التي سجلتها كتب السيرة باحرف من نور ، وقد جاء فيها " كل دم في الجاهلية تحت قدمي هذا " وهكذا جعل الرسول العظيم الاحقاد تحت قدميه لبناء المدينة الفاضلة التي كان يدعو اليها خالية من كل حقد وكراهية . وبعد كل هذا هل يستطيع فرد مهما وصل به الحقد والكراهية ضد الاسلام ان يصف هذا الدين بدين القتل واراقة الدماء .
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ).
(2)
تعريف الاسلام بانه دين الاستبداد وسلب الحريات .
وهي السياسة التي اتبعتها الجمهورية الاسلامية في ايران باسم الاسلام في كل مجالات الحياة الخاصة والعامة وباركها مرشد الثورة عندما قال " ساقطع لسان من يقول كلمة ضد الجمهورية " وليت شعري ان اعرف كيف يمكن ان يكون الاسلام دين الاستبداد وقرآن المسلمين يقول :
(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ).
ويقول(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)) .(9/13)
ويقول(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
ويقول (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) .
ويقول (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) .
وهذا رسول الاسلام كان يجلس دائريا حتى لايكون لمجلسه صدر او ذيل ، وهذا هو الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال مؤنبا لقوم ظلموا فتيانهم " لماذا تستعبدون الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا " . وهذا علي بن ابي طالب عليه السلام اختصم مع يهودي من يهود الكوفة إلى شريح القاضي ، وجلس امير المؤمنين الذي كانت امتداد دولته نصف الكرة الارضية انذاك مع يهودي من رعاياه امام قاضي الكوفة الذي يقضي بامره ، وكان منصوبا من قبله ، كخصمين متساويين في كل الحقوق ورضخ إلى الحكم الذي اصدره القاضي ضده برحابة الصدر وطيب الخاطر ، ولكنه قال لقاضيه معاتبا " لقد اساءني شيء واحد فقط ، وهو انك كنت تخاطبني بالكنية وتخاطب اليهودي بالاسم ، وليتك كنت تعدل حتى في مناداة المتخاصمين " .
(3)
تعريف الاسلام بانه دين بعيد عن العدالة والرحمة كما هي الحالة في محاكمات محكمة الثورة من اعدام الصبية والشيوخ والنساء الحوامل والمرضى والجرحى بتهم سياسية ، ومحاكمة واعدام مائة شخص في مائة دقيقة ، وقد بارك مرشد الثورة هذا العمل الاجرامي المغاير للانسانية بقوله " ان هؤلاء المجرمين لا يحتاجون إلى المحاكمة وينبغي ان ينالوا عقابهم في الشارع او المكان الذي يلقى فيه القبض عليهم فورا " وهذا هو قرآن المسلمين يقول …
(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) .
( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ) .
(وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) .
(إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) .(9/14)
(وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) .
وانا اتسأل من كل مسلم ومسلمة له او لها المام باحكام الاسلام ودستوره ويقرأ هذه الايات البينات ويستوعبها هل يجد فيها حرفا واحدا يمت بصلة ولو من البعيد البعيد إلى ما يحدث في محاكم الثورة الاسلامية باسم الاسلام ، ام انها تتناقض تناقضا صارخا مع الاحكام الجائرة البربرية التي ارتكبتها تلك المحاكم باسم الاسلام .
(4)
تعريف الاسلام بانه دين مصادرة الاموال وسلبها من الناس ظلما وعدوانا ، كما ارتكبها الطغاة في ايران باسم الاسلام وباركها مرشد الثورة بقوله " اموال الاثرياء كلها جمعت من الحرام ويجب مصادرتها لمصلحة المستضعفين " ، ولذلك صودرت اموال كبار التجار وارباب الصناعات لصالح المستضعفين ، اما من هم المستضعفين فعلمه عند الله ، الا اننا ندري ان دائرة المستضعفين انفقت الملايين على اصحاب الهروات والاوباش الذين يستخدمون العصي والهروات ضد الفئات الدينية والسياسية المعارضة سواء في تنظيم التظاهرات لتأييد السلطة الحاكمة او الهجوم البربري على بيوتهم ونواديهم ومجالسهم . واما الاسلام فيعتبر الاستيلاء على اموال الناس بغير رضاهم سرقة ونهبا . والاية الكريمة تقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) .
(5)
تعريف الاسلام بانه دين الكذب والخدعة :(9/15)
كما فعل مرشد الثورة وكذب امام العالم وانكر شراء الاسلحة والعتاد من اسرائيل وهكذا عندما اعطى المواثيق المغلظة بالايمان لشعب ايران بانه لا هو ولا زمرته يطمعون في الحكم وعندما استسلمت لهم البلاد دمروها تدميرا . اما سياسة الجمهورية الاسلامية فهي تطابق سيرة مرشدها ، كلها كذب ودجل وخداع ، وهنا اروي تلك القصة التي يعرفها اكثر ابناء الشعب الايراني والتي حدثت اثناء انتخابات الرئاسة الثالثة ، فقبل ان تنتهي المدة المحددة لانتخاب رئيس الجمهورية بسويعات قليلة كانت النتائج تشير إلى ان عدد الذين اشتركوا في انتخاب رئيس الجمهورية لا يتجاوز مليوني شخص مع ان الخميني وكل جهازه وضعوا ثقلهم في الميدان وحثوا الناس على الاشتراك في انتخاب مرشحهم بما في ذلك تجنيد الموظفين والعمال للاشتراك في الانتخابات بسيارات حكومية ، فحضر احمد إلى وزير الداخلية وقال للوزير المعمم والملتحي الشيخ الكني " لو ان ابي عرف ان الشعب احجم من الاشتراك في انتخابات الرئاسة بهذه الصورة السلبية فانه سيموت غدا افعلوا شيئا لانقاذ حياة ابي وسمعة الجمهورية الاسلامية معا " فاستعان الشيخ الوزير بفئة من انصار العهد القديم التي كانت مهمتها تزوير الانتخابات بالصورة التي تأمرها السلطة في عهد الشاه . وبالفعل استطاعت تلك الفئة في اقل من خمس ساعات ان تضيف 14 مليون صوت إلى الاصوات الموجودة في صناديق الاقتراع فحصلت المعجزة التي كان يريدها احمد وزمرة الخميني ، واعلنت النتائج بانتخاب علي خامنة رئيسا للجمهورية بستة عشر مليونا من الاصوات ، واما الآيات الكريمات التي وردت في القرآن الكريم وكلها تنهي عن الخدعة والكذب فانها اكثر من مائة اية نستشهد ببعضها في هذا المجال .
تقول الاية الكريمة في سورة البقرة (يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ)(9/16)
ويقول ايضا في سورة النساء (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)
ويقول سبحانه وتعالى في سورة التوبة (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ)
(6)
تعريف الاسلام بانه دين التجسس والفتنة :
كما امر به مرشد الثورة طلب من الاب ان يتجسس ضد ابنه ، ومن الام ضد اولادها ، ومن الجيران ضد الجيران ، ومن الابن ضد والديه حتى يكتشف النظام الحاكم نوايا المعارضين الذين يريدون تقويضه ، او محل اختفائهم او تجمعاتهم ، والاية الكريمة تنهي عن التجسس وعن الفتنة ، فيقول سبحانه وتعالى في سورة الحجرات (وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً) .
ويقول تعالى في سورة البقرة (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) .
ويقول تعالى في مكان اخر من السورة نفسها (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) .
(7)
تعريف الاسلام بانه دين الشتم والسب والقذف وبذيء الكلام :
وهي السياسة الاعلامية للجمهورية الاسلامية الايرانية ويباركها مرشد الثورة بنفسه ، في خطبه بالكلام البذيء والجارح والسب على زعماء الاسلام والمنطقة العربية ومعارضي حكمه ، في حين ان الاسلام ينهى عن ذلك نهيا باتا .
فتقول الاية الكريمة (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) .
وتقول (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) .
ورسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول " انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق " .
(8)
تعريف الاسلام بانه دين الفرقة والاختلاف :(9/17)
كما هي السياسة المتبعة من قبل الحاكمين في ايران ، ويباركها مرشد الثورة بتهديد الزعماء المسلمين بتصدير الثورة إلى بلادهم وتهديدهم بالويل والثبور ، في حين ان الاسلام دين الوحدة والاتحاد وبني الاسلام على كلمتين " كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة " ، ويقول الحق سبحانه وتعالى في سورة ال عمران (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
ويقول سبحانه وتعالى (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) .
(9)
تعريف الاسلام بانه ضد العلم والمعرفة والحضارة :
كما هي السياسة المتبعة لدى الحكام الجهلة في ايران وباركها مرشدهم عندما امر بغلق الجامعات واخراج العلماء منها وهدم المباني الاثرية وبيع الخزانة الاثرية ونفائسها ، في حين ان الاسلام دين العلم والمعرفة والحضارة ، وكتاب المسلمين ينص على وجوب التعليم كما تقول الاية الكريمة (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) .
وتقول ايضا (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) .
ويقول الرسول العظيم " اطلُبوا العِلْمَ مِن المَهْدِ إلى اللَّحْدِ " .
ويقول صلى الله عليه واله وسلم " اطلبوا العِلم ولو بِالصين " .
(10)
تعريف الاسلام بانه دين الظلم والجور والتوحض والبربرية :
وهي السياسة القمعية اللاانسانية التي ارتكبها الخمينيون الحاكمون بحق الشعب الامن باسم الاسلام وباسم الله الرحمن الرحيم ، فالمجازر البشعة الجماعية التي ارتكبوها بحق القوميات المختلفة والفئات السياسية المناهضة للنظام واعدام الصغار من الفتيان والفتيات على غرار ما فعله بل بت في كمبوديا وبوكاسا في افريقيا الوسطى ، وهكذا قتل النساء الحوامل والاجهاز على الجريح ، ورجم النساء بتهمة الزنا .(9/18)
قد اظهرت الاسلام امام العالم بانه دين التخلف والتوحش ، وقد جاءت مباركة مرشد الثورة لتلك الاعمال الهمجية دليلا على تضلعه في المؤامرة على الاسلام ، اليس هو القائل " اقتلوا المناوئين للنظام حيثما وجدتموهم لان هؤلاء المجرمين لايحتاجون إلى محاكمة " والاسلام دين الرأفة والرحمة والعدالة والفضيلة ، وهذا هو كتاب المسلمين وقرآنهم ينطق بالحق ويدحض ما فعلته الزمرة الملحدة باسم الاسلام ، فتقول الاية الكريمة في سورة ال عمران (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وتقول في سورة الاسراء (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) .
ويقول سبحانه وتعالى في سورة يونس (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) .
ويقول سبحانه (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء) .
ويقول تعالى مخاطبا النبي الكريم (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .
ويخاطبه في مكان اخر (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) .
ويخاطبه سبحانه وتعالى (كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) .(9/19)
وهنا اتساءل من اولئك الذين اتخذوا اعمال الطغمة الحاكمة في ايران دليلا على انها تمثل واقع الاسلام ، ما هو وجه الشبه بين ما اقترفه اولئك الطغاة وبين ما ينص عليه دستور الاسلام العظيم في الرحمة والرأفة وكرامة الانسان والتحلي بالاخلاق الفاضلة الكريمة ؟ وبعد كل ما اسلفناه واثبتناه بصورة قاطعة واكيدة ان هذه الزمرة ارتكبت باسم الاسلام ما يتناقض مع الاسلام وسيرة الرسول العظيم ، واوردنا دلائل واضحة من القرآن الكريم ما لا يستطيع احد انكاره او رفضه الا المكابر والذي في قلبه مرض ، نود هنا ان نضيف موضوعا آخر ذات اهمية كبيرة ارجوا ان ينتفع منه المغفلين الذين اغفلتهم الشعوذة الحاكمة باسم الاسلام في أي مكان من الارض وهو ان الخميني والخمينيين المتربعين على كراسي الحكم يطبلون ويزمرون بلا حياء وخجل ان نظامهم يطابق الاسلام وانه تجسيد لما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وانا اتسأل من اولئك المغفلين وارجو من الله ان يعينهم على التمييز بين الحق والباطل ، ما هو الشبه بين النظام الحاكم في ايران باسم الاسلام وما كان عليه الحكم في عهد الرسول العظيم ؟ متى كان في عهد الرسول العظيم مناصبا باسم رئيس الجمهورية ، ورئيس الوزراء ، والوزراء ، ومرشد الثورة ، ومجلس للنواب يسن القوانين ، ومحاكم الثورة ، واللجان الثورية ، ودائرة الامن العامة (ساواما) بدلا من السافاك القديم ، ومجلس الخبراء ، وعشرات من المناصب المستحدثة الاخرى التي تمثل البيروقراطية الغربية .
ان هذا النظام الرئاسي والمؤسسات التابعة له نظام روماني قديم انتشر في سائر البلاد الاوربية بعد تحوير كبير في المحتوى ، وانبثق منه النظام الديموقراطي الغربي السائد حاليا في كثير من البلاد الاوربية ، وقد دخل البلاد الاسلامية والعربية منذ ابان هذا القرن وبعد ان ذهبت الخلافة الاسلامية في تركيا ادراج الرياح .(9/20)
ان هذا النظام القائم في ايران لا يمت بصلة إلى الاسلام شكلا ومضمونا وانه افتراء على الاسلام بلا شك وجدال ، ان النظام السائد في الصدر الاول الاسلامي كان يتمثل في الرسول الكريم او الخليفة ثم الولاة والقضاة والجند وبيت المال فقط ، وما هو اليوم موجود في ايران كنظام فهو خليط من الفوضوية والاستبداد وصورة مزيفة من الديمقراطية الغربية وتطبيق لبعض المبادئ الماركسية باسم الاسلام ، ومن ثم مناصب وصفات ما انزل الله بها من سلطان ، وهكذا يرزح شعب في ظل البغي والطغيان باسم الله الغفور الرؤوف الرحيم الكريم ، (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) .
صدق الله العلي العظيم(9/21)
العلاقة الحميمة
بين
الصحابة وآل البيت
(رضي الله عنهم أجمعين)
منقولة من كتب الشيعة المعتمدة
إعداد
سليمان بن صالح الخراشي
1425
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ؛ نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..
أما بعد : فقد قال الله تعالى في وصف آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بأنهم ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) ، قال الشيخ ابن سعدي – رحمه الله - : ( أي متحابون متراحمون متعاطفون كالجسد الواحد ، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه ) ( تيسير الكريم الرحمن 7/111) . وقد تواترت الأخبار بتأكيد هذا الأمر بينهم . وما قد يحدث بينهم من خلاف فهو من قبيل الخلاف الإجتهادي الذي يُعذر المخطئ فيه – ولله الحمد - .
وقد كانت العلاقة الحميمة بين آل البيت وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بادية للعيان ،واضحة الأثر عند كل منصف ، وقد استفاضت الآثار عنهم بهذا الأمر ؛ سواء عند أهل السنة أو الشيعة .
إلا أن الشيعة – هداهم الله – لم يعجبهم هذه العلاقة الحميمة بين الفئتين ، فراحوا يفترون الأكاذيب والأباطيل التي تصور تلك العلاقة بغير صورتها الحقيقية .
ولكن فاتهم في غمرة هذه الأكاذيب أن ينتبهوا إلى أن كتبهم المعتمدة ، وآثارهم المتصلة بآل البيت حافلة بتوثيق تلك العلاقة الحميمة !!
وهذا ما لا يستطيعون له دفعًا ؛ إلا أن يقولوا قولتهم المشهورة إذا أعيتهم الحقيقة بأن ( هذا من باب التقية ) !! ولا أدري ممَ يتقي أئمة آل البيت الأبطال الشجعان باعترافهم !(10/1)
وقد أحببت في هذه الرسالة أن ألخص بعض الكتب التي اهتمت بهذه العلاقة الحميمة بين الصحابة وآل البيت – رضي الله عنهم أجمعين – وذلك باعتماد كتب الشيعة الموثوقة عندهم فقط ؛ لكي يتبين شباب الشيعة – وفقهم الله للحق – ماهم عليه من انحراف تجاه صحابة نبيهم صلى الله عليه وسلم بسبب ركام الأباطيل التي حجبوا بها عن رؤية الحق .
وأنصح أخيرًا كل باحث عن الحق بقراءة رسالة ( رحماء بينهم ) للشيخ الفاضل صالح الدرويش – حفظه الله - .
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
كتبه / سليمان بن صالح الخراشي
مدح علي رضي الله عنه للصحابة :
يقول - رضي الله عنه -: ( لقد رأيت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فما أرى أحداً يشبههم منكم! لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم! كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم! إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب، ورجاء للثواب)[نهج البلاغة ص143 دار الكتاب بيروت 1387ه بتحقيق صبحي صالح، ومثل ذلك ورد في "الإرشاد" ص126].(10/2)
وهاهو يمدح أصحاب النبي عامة، ويرجحهم على أصحابه وشيعته الذين خذلوه في الحروب والقتال، وجبنوا عن لقاء العدو ومواجهتهم، وقعدوا عنه وتركوه وحده، فيقول موازناً بينهم وبين صحابة رسول الله: ( ولقد كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا: ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً، ومضياً على اللقم، وصبراً على مضض الألم، وجداً في جهاد العدو، ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما: أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه، ومتبوئا أوطانه. ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم، ما قام للدين عمود، ولا اخضر للإيمان عود. وأيم الله لتحتلبنها دماً، ولتتبعنها ندماً) . ["نهج البلاغة" بتحقيق صبحي صالح ص91، 92 ط بيروت].
ويذكرهم أيضاً مقابل شيعته المتخاذلين، ويأسف على ذهابهم بقوله: ( أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه، وهيجوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً وصفاً صفاً، بعض هلك وبعض نجا، لا يبشرون بالأحياء ولا يعزون عن الموتى، مرة العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين، أولئك إخواني الذاهبون، فحق لنا أن نظمأ إليهم ونعض الأيدي على فراقهم) . ["نهج البلاغة" بتحقيق صبحي صالح ص177، 178].
ويمدح المهاجرين من الصحابة في جواب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فيقول:( فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم ) . ["نهج البلاغة" ص383 بتحقيق صبحي صالح].
ويقول أيضاً: ( وفي المهاجرين خير كثير تعرفه، جزاهم الله خير الجزاء) . ["نهج البلاغة" ص383 بتحقيق صبحي صالح].(10/3)
كما مدح الأنصار من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام بقوله : ( هم والله ربوا الإسلام كما يربي الفلو مع غنائهم، بأيديهم السباط، وألسنتهم السلاط) . ["نهج البلاغة" ص557 تحقيق صبحي صالح].
ومدحهم مدحاً بالغاً موازناً أصحابه ومعاوية مع أنصار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( أما بعد! أيها الناس: فوالله لأهل مصركم في الأمصار أكثر من الأنصار في العرب، وما كانوا يوم أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمنعوه ومن معه من المهاجرين حتى يبلغ رسالات ربه إلا قبيلتين صغير مولدها، وما هما بأقدم العرب ميلاداً، ولا بأكثرهم عدداً، فلما آووا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ونصروا الله ودينه، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وتحالفت عليهم اليهود، وغزتهم اليهود والقبائل قبيلة بعد قبيلة، فتجردوا لنصرة دين الله، وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل وما بينهم وبين اليهود من العهود، ونصبوا لأهل نجد وتهامة وأهل مكة واليمامة وأهل الحزن والسهل [وأقاموا] قناة الدين، وتصبروا تحت أحلاس الجلاد حتى دانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - العرب، ورأى فيهم قرة العين قبل أن يقبضه الله إليه، فأنتم في الناس أكثر من أولئك في أهل ذلك الزمان من العرب) . ["الغارات" ج2 ص479، 480].
ويروي المجلسي عن الطوسي رواية موثوقة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لأصحابه: ( أوصيكم في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا تسبوهم، فإنهم أصحاب نبيكم، وهم أصحابه الذين لم يبتدعوا في الدين شيئاً، ولم يوقروا صاحب بدعة، نعم! أوصاني رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في هؤلاء) . ["حياة القلوب للمجلسي" ج2 ص621].(10/4)
ويمدح المهاجرين والأنصار معاً حيث يجعل في أيديهم الخيار لتعيين الإمام وانتخابه، وهم أهل الحل والعقد في القرن الأول من بين المسلمين وليس لأحد أن يرد عليهم، ويتصرف بدونهم، ويعرض عن كلمتهم، لأنهم هم الأهل للمسلمين والأساس ، فيقول :(إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى) . ["نهج البلاغة" ج3 ص7 ط بيروت تحقيق محمد عبده وص367 تحقيق صبحي].
آل البيت يمدحون الصحابة :(10/5)
وهاهو علي بن الحسين الملقب بزين العابدين - الإمام المعصوم الرابع عندالشيعة ، وسيد أهل البيت في زمانه - يذكر أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، ويدعو لهم في صلاته بالرحمة والمغفرة لنصرتهم سيد الخلق في نشر دعوة التوحيد وتبليغ رسالة الله إلى خلقه فيقول: ( فاذكرهم منك بمغفرة ورضوان اللهم وأصحاب محمد خاصة، الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الحق عليك، وكانوا من ذلك لك وإليك، واشكرهم على هجرتهم فيك ديارهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ، ومن كثرة في اعتزاز دينك إلى أقله، اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان خير جزائك، الذين قصدوا سمتهم، وتحروا جهتهم، لو مضوا إلى شاكلتهم لم يثنهم ريب في بصيرتهم، ولم يختلجهم شك في قفو آثارهم والائتمام بهداية منارهم مكانفين وموازرين لهم، يدينون بدينهم، ويهتدون بهديهم، يتفقون عليهم، ولا يتهمونهم فيما أدوا إليهم" [صحيفة كاملة لزين العابدين ص13 ط الهند 1248ه].
ويقول الحسن العسكري - الإمام الحادي عشر عند الشيعة - في تفسيره: ( إن كليم الله موسى سأل ربه : هل في أصحاب الأنبياء أكرم عندك من صحابتي؟ قال الله: يا موسى! أما عملت أن فضل صحابة محمد - صلى الله عليه وسلم - على جميع صحابة المرسلين كفضل محمد - صلى الله عليه وسلم - على جميع المرسلين والنبيين) .[تفسير الحسن العسكري ص65 ط الهند، وأيضاً "البرهان" ج3 ص228، واللفظ له].(10/6)
وكتب بعد ذلك في تفسير الحسن العسكري ( إن رجلاً ممن يبغض آل محمد وأصحابه الخيرين أو واحداً منهم يعذبه الله عذاباً لو قسم على مثل عدد خلق الله لأهلكهم أجمعين) .[تفسير الحسن العسكري ص196].
ولأجل ذلك قال جده الأكبر علي بن موسى الملقب بالرضا - الإمام الثامن عند الشيعة - حينما سئل "عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهديتم ، وعن قوله عليه السلام: دعوا لي أصحابي:؟ فقال: هذا صحيح) . [نص ما ذكره الرضا نقلاً عن كتاب "عيون أخبار الرضا" لابن بابويه القمي الملقب بالصدوق تحت قول النبي: أصحابي كالنجوم ج2 ص87].
وإليكم ما قاله ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن عم علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس - فقيه أهل البيت وعامل علي رضي الله عنه - في حق الصحابة: ( إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خص نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بصحابة آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال: { رحماء بينهم } الآية، قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه، وقويت أسبابه، وظهرت آلاء الله، واستقر دينه، ووضحت أعلامه، وأذل بهم الشرك، وأزال رؤوسه ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها) . ["مروج الذهب" ج3 ص52، 53 دار الأندلس بيروت].(10/7)
ويروي محمد الباقر رواية تنفى النفاق عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتثبت لهم الإيمان ومحبة الله عز وجل كما أوردها العياشي والبحراني في تفسيريهما تحت قول الله عز وجل: { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } :عن سلام قال: كنت عند أبي جعفر، فدخل عليه حمران بن أعين، فسأله عن أشياء، فلما هم حمران بالقيام قال لأبي جعفر عليه السلام: أخبرك أطال الله بقاك وأمتعنا بك، إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا، وتسلوا أنفسنا عن الدنيا، وتهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك، فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا؟ قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: إنما هي القلوب مرة يصعب عليها الأمر ومرة يسهل، ثم قال أبو جعفر: أما إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله نخاف علينا النفاق، قال: فقال لهم: ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إنا إذا كنا عندك فذكرتنا روعنا، ووجلنا، نسينا الدنيا وزهدنا فيها حتى كأنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك، ودخلنا هذه البيوت، وشممنا الأولاد، ورأينا العيال والأهل والمال، يكاد أن نحول عن الحال التي كنا عليها عندك، وحتى كأنا لم نكن على شيء، أفتخاف علينا أن يكون هذا النفاق؟ فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كلا، هذا من خطوات الشيطان. ليرغبنكم في الدنيا، والله لو أنكم تدومون على الحال التي تكونون عليها وأنتم عندي في الحال التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيتم على الماء، ولولا أنكم تذنبون، فتستغفرون الله لخلق الله خلقاً لكي يذنبوا، ثم يستغفروا، فيغفر الله لهم، إن المؤمن مفتن تواب، أما تسمع لقوله: { إن الله يحب التوابين } وقال: { استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } ) . ["تفسير العياشي" ج1 ص109، و "البرهان" ج1 ص215].(10/8)
وأما ابن الباقر جعفر الملقب بالصادق فإنه يقول: ( كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنى عشر ألفا، ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم ير فيهم قدري ولا مرجئ ولا حروري ولا معتزلي، ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار ويقولون: اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير) . ["كتاب الخصال" للقمي ص640 ط مكتبة الصدوق طهران].
موقف أهل البيت من أبي بكرالصديق:
يقول علي بن أبى طالب رضي الله عنه وهو يذكر بيعة أبي بكر الصديق بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( عند انثيال الناس - أي انصبابهم من كل وجه كما ينثال التراب - على أبى بكر، وإجفالهم إليه ليبايعوه: فمشيت عند ذلك إلى أبى بكر، فبايعته ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق وكانت "كلمة الله هي العلياولو كره الكافرون " ، فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسر، وسدد، وقارب، واقتصد، فصحبته مناصحاً، وأطعته فيما أطاع الله [ فيه ] جاهداً) . ["الغارات" ج1 ص307 تحت عنوان "رسالة علي عليه السلام إلى أصحابه بعد مقتل محمد بن أبي بكر"].(10/9)
ويذكر في رسالة أخرى أرسلها إلى أهل مصر مع عامله الذي استعمله عليها قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري: ( بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين، سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. أما بعد! فإن الله بحسن صنعه وتقديره وتدبيره اختار الإسلام ديناً لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرسل إلى عباده و خص من انتخب من خلقه، فكان مما أكرم الله عز وجل به هذه الأمة وخصهم [ به ] من الفضيلة أن بعث محمداً - - صلى الله عليه وسلم - - [ إليهم ] فعلمهم الكتاب والحكمة والسنة والفرائض، وأدّبهم لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما [ لا ] يتفرقوا، وزكاهم لكيما يتطهروا، فلما قضى من ذلك ما عليه قبضة الله [ إليه ، فعليه ] صلوات الله وسلامه ورحمته ورضوانه إنه حميد مجيد. ثم إن المسلمين من بعده استخلفوا امرأين منهم صالحين عملاً بالكتاب وأحسنا السيرة ولم يتعديا السنة ثم توفاهما الله فرحمهما الله) . ["الغارات" ج1 ص210 ومثله باختلاف يسير في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، و"ناسخ التواريخ" ج3 كتاب2 ص241 ط إيران، و"مجمع البحار" للمجلسي].
ويقول أيضاً وهو يذكر خلافة الصديق وسيرته : ( فاختار المسلمون بعده (أي النبي - صلى الله عليه وسلم -) رجلاً منهم، فقارب وسدد بحسب استطاعة على خوف وجد) . ["شرح نهج البلاغة" للميثم البحراني ص400].
ولم اختار المسلمون أبا بكر خليفة للنبي وإماماً لهم ؟
يجيب على هذا السؤال علي والزبير بن العوام رضي الله عنهما بقولهما: ( وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار وثاني اثنين، وإنا لنعرف له سنه، ولقد أمره رسول الله بالصلاة وهو حي) . ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد الشيعي ج1 ص332].
ومعنى ذلك أن خلافته كانت بإيعاز الرسول عليه السلام.(10/10)
وعلي بن أبى طالب رضي الله عنه قال هذا القول رداً على أبي سفيان حين حرضه على طلب الخلافة كما ذكر ابن أبى الحديد : ( جاء أبو سفيان إلى علي عليه السلام، فقال: وليتم على هذا الأمر أذل بيت في قريش، أما والله لئن شئت لأملأنها على أبي فصيل خيلاً ورجلاً، فقال علي عليه السلام: طالما غششت الإسلام وأهله، فما ضررتهم شيئاً، لا حاجة لنا إلى خيلك ورجلك، لولا أنا رأينا أبا بكر لها أهلاً لما تركناه ) . ["شرح ابن أبي الحديد" ج1 ص130].
ولقد كررّ هذا القول ومثله مرات كرات، وأثبتته كتب الشيعة في صدورها ؛ وهو أن علياً كان يعدّ الصديق أهلاً للخلافة، وأحق الناس بها، لفضائله الجمة ومناقبه الكثيرة حتى حينما قيل له قرب وفاته بعد ما طعنه ابن ملجم : ألا توصي؟ قال: ما أوصى رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فأوصي، ولكن قال ( أي صلى الله عليه وسلم ) : إن أراد الله خيراً فيجمعهم على خيرهم بعد نبيهم) . ["تلخيص الشافي" للطوسي ج2 ص372 ط النجف].
وأورد مثل هذه الرواية شيخ الشيعة المسمى "علم الهدى" في كتابه الشافي : ( عن أمير المؤمنين عليه السلام لما قيل له: ألا توصي؟ فقال: ما أوصى رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فأوصي، ولكن إذا أراد الله بالناس خيراً استجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم) . ["الشافي" ص171 ط النجف].(10/11)
فهذا علي بن أبى طالب رضي الله عنه يتمنى لشيعته وأنصاره أن يوفقهم الله لرجل خيّر صالح كما وفق الأمة الإسلامية المجيدة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لرجل خيّر صالح هو أبوبكر الصديق رضي الله عنه إمام الهدى، وشيخ الإسلام، ورجل قريش، والمقتدى به بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسب ما سماه سيد أهل البيت زوج الزهراء رضي الله عنهما كما رواه السيد مرتضى علم الهدى في كتابه عن جعفر بن محمد عن أبيه ( أن رجلاً من قريش جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: سمعتك تقول في الخطبة آنفا: اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين، فمن هما؟ قال: حبيباي، وعماك أبو بكر وعمر، وإماما الهدى، وشيخا الإسلام. ورجلا قريش، والمتقدى بهما بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من اقتدى بهما عصم، ومن اتبع آثارهما هدى إلى صراط المستقيم) . ["تلخيص الشافي" ج2 ص428].
وقد كرر في نفس الكتاب ( أن علياً عليه السلام قال في خطبته: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر) ، ولم لا يقول هذا وهو الذي روى "إننا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على جبل حراء إذ تحرك الجبل، فقال له: قر، فإنه ليس عليك إلا نبي وصدّيق وشهيد" ["الاحتجاج" للطبرسي].
فهذا هو رأى علي رضي الله عنه في أبي بكر.
فالمفروض من القوم الذين يدعون موالاته وبنيه أن يتبعوه وأولاده في آرائهم ومعتقداتهم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفقائه.
رأى أهل البيت في أبي بكرالصديق:
قال ابن عباس وهو يذكر الصديق: ( رحم الله أبا بكر، كان والله للفقراء رحيماً، وللقرآن تالياً، وعن المنكر ناهياً، وبدينه عارفاً، ومن الله خائفاً، وعن المنهيات زاجراً، وبالمعروف آمراً، وبالليل قائماً، وبالنهار صائماً، فاق أصحابه ورعاً وكفافاً، وسادهم زهداً وعفافاً) . ["ناسخ التواريخ" ج5 كتاب2 ص143، 144 ط طهران].(10/12)
ويقول الحسن بن علي - الإمام المعصوم الثاني عند الشيعة، والذي أوجب الله اتباعه عليهم حسب زعمهم - يقول - وينسبه إلى رسول الله عليه السلام أنه قال - : ( إن أبا بكر مني بمنزلة السمع) . ["عيون الأخبار" ج1 ص313، أيضاً "كتاب معاني الأخبار" ص110 ط إيران].
وكان الحسن يوقر أبا بكر وعمر كثيرًا ، إلى حد أنه جعل من أحد الشروط على معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنهما لما تنازل له ( أنه يعمل ويحكم في الناس بكتاب الله وسنة رسول الله، وسيرة الخلفاء الراشدين ، - وفي النسخة الأخرى - الخلفاء الصالحين) . ["منتهى الآمال" ص212 ج2 ط إيران].
وأما الإمام الرابع للشيعة : علي بن الحسين بن علي، فقد روي عنه أنه جاء إليه نفر من العراق، فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما فرغوا من كلامهم قال لهم: ألا تخبروني أنتم { المهاجرون الأولون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً أولئك هم الصادقون } ؟ قالوا: لا، قال: فأنتم { الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ؟ قالوا: لا، قال: أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم: { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا } ، اخرجوا عني، فعل الله بكم) . ["كشف الغمة" للأربلي ج2 ص78 ط تبريز إيران].
وأما ابن زين العابدين محمد بن على بن الحسين الملقب بالباقر - الإمام الخامس المعصوم عند الشيعة - فسئل عن حلية السيف كما رواه علي بن عيسى الأربلي في كتابه "كشف الغمة":(10/13)
(عن أبى عبد الله الجعفي عن عروة بن عبد الله قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام عن حلية السيف؟ فقال: لا بأس به، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه، قال: قلت: وتقول الصديق؟ فوثب وثبة، واستقبل القبلة، فقال: نعم الصديق، فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله له قولاً في الدنيا والآخرة ) . ["كشف الغمة" ج2 ص147].
ولم يقل هذا إلا لأن جده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناطق بالوحي سماه الصديق كما رواه البحراني الشيعي في تفسيره "البرهان" عن علي بن إبراهيم، قال: حدثني أبي عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار قال لأبي بكر: كأني أنظر إلى سفينة جعفر وأصحابه تعوم في البحر، وأنظر إلى الأنصار محبتين (مخبتين خ) في أفنيتهم، فقال أبو بكر: وتراهم يا رسول الله؟ قال: نعم! قال: فأرنيهم، فمسح على عينيه فرآهم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنت الصديق ) .["البرهان" ج2 ص125].
ويروي الطبرسي عن الباقر أنه قال: ( ولست بمنكر فضل أبى بكر، ولست بمنكر فضل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر) .["الاحتجاج" للطبرسي ص230 تحت عنوان "احتجاج أبي جعفر بن علي الثاني في الأنواع الشتى من العلوم الدينية" ط مشهد كربلاء].
وسئل جعفر الصادق عن أبى بكر وعمر: ( يا ابن رسول الله! ما تقول في حق أبى بكر وعمر؟ فقال عليه السلام: إمامان عادلان قاسطان، كانا على حق، وماتا عليه، فعليهما رحمة الله يوم القيامة ) . ["إحقاق الحق" للشوشتري ج1 ص16 ط مصر].(10/14)
وروى عنه الكليني في الفروع حديثاً طويلاً ذكر فيه ( وقال أبو بكر عند موته حيث قيل له: أوصِ، فقال: أوصي بالخمس والخمس كثير، فإن الله تعالى قد رضي بالخمس، فأوصي بالخمس، وقد جعل الله عز وجل له الثلث عند موته، ولو علم أن الثلث خير له أوصى به، ثم من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبو ذر رضي الله عنهما، فأما سلمان فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنته حتى يحضر عطاؤه من قابل. فقيل له: يا أبا عبد الله! أنت في زهدك تصنع هذا، وأنت لا تدرى لعلك تموت اليوم أو غداً؟ فكان جوابه أن قال: مالكم لا ترجون لي بقاء كما خفتم على الفناء، أما علمتم يا جهلة أن النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت، وأما أبو ذر فكانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم، وأنزل به ضيف، أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة، نحر لهم الجزور أو من الشياه على قدر ما يذهب عنهم بقرم اللحم، فيقسمه بينهم، ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضل عليهم، ومن أزهد من هؤلاء وقد قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال؟ ) . [كتاب المعيشة "الفروع من الكافي" ج5 ص68].
فأثبت أن منزلة الصديق في الزهد من بين الأمة المنزلة الأولى، وبعده يأتي أبو ذر وسلمان.
وروى عنه الأربلي أنه كان يقول: ( لقد ولدنى أبو بكر مرتين) .["كشف الغمة" ج2 ص161].
لأن أمه : أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبى بكر وأمها (أي أم فروة) أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر. ["فرق الشيعة" للنوبختي ص78].
ويروي السيد مرتضى في كتابه "الشافي" عن جعفر بن محمد أنه كان يتولاهما، ويأتي القبر فيسلم عليهما مع تسليمه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ["كتاب الشافي" ص238، أيضاً "شرح نهج البلاغة" ج4 ص140 ط بيروت].(10/15)
ويقول إمام الشيعة المعروف بالحسن العسكري - الإمام الحادي عشر المعصوم عندهم - وهو يسرد واقعة الهجرة : ( أن رسول الله بعد أن سأل علياً رضي الله عنه عن النوم على فراشه قال لأبى بكر رضي الله عنه: أرضيت أن تكون معي يا أبا بكر تطلب كما أطلب، وتعرف بأنك أنت الذي تحملني على ما أدعيه فتحمل عني أنواع العذاب؟ قال أبو بكر: يا رسول الله! أما أنا لو عشت عمر الدنيا أعذب في جميعها أشد عذاب لا ينزل عليّ موت صريح ولا فرح ميخ وكان ذلك في محبتك لكان ذلك أحب إلي من أن أتنعم فيها وأنا مالك لجميع مماليك ملوكها في مخالفتك، وهل أنا ومالي وولدي إلا فداءك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا جرم أن اطلع الله على قلبك، ووجد موافقاً لما جرى على لسانك جعلك مني بمنزلة السمع والبصر، والرأس من الجسد، والروح من البدن ) . ["تفسير الحسن العسكري" ص164، 165 ط إيران].
وهاهو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب شقيق محمد الباقر وعم جعفر الصادق الذي قيل فيه: كان حليف القرآن" ["الإرشاد" للمفيد ص268 تحت عنوان "ذكر أخوته" – أي الباقر -].
"واعتقد كثير من الشيعة فيه بالإمامة، وكان سبب اعتقادهم ذلك فيه خروجه بالسيف" ["الإرشاد" للمفيد ص268].
فهاهو زيد يسأل عن أبى بكر وعمر ما تقول فيهما ؟ قال: ما أقول فيهما إلا خيراً كما لم أسمع فيهما من أهل بيتي (بيت النبوة) إلا خيراً، ما ظلمانا ولا أحد غيرنا، وعملاً بكتاب الله وسنة رسوله ) .["ناسخ التواريخ" ج2 ص590 تحت عنوان "أحوال الإمام زين العابدين"].
فلما سمع الشيعة منه هذه المقالة رفضوه، فقال زيد: رفضونا اليوم، ولذلك سموا بالرافضة. ["ناسخ التواريخ" ج2 ص590].
ويقول سلمان الفارسي رضي الله عنه – وهو ممن تعظمهم الشيعة - : إن رسول الله كان يقول في صحابته: ما سبقكم أبو بكر بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه. ["مجالس المؤمنين" للشوشتري ص89].
خلافة أبي بكرالصديق:(10/16)
وبعد ما ذكرنا أهل بيت النبي وموقفهم وآرائهم تجاه سيد الخلق بعد أنبياء الله ورسله أبي بكر الصديق رضي الله عنه نريد أن نذكر أنه لم يكن خلاف بينه وبين أهل البيت في مسألة خلافة النبي وإمارة المؤمنين وإمامة المسلمين، وأن أهل البيت بايعوه كما بايعه غيرهم، وساروا في مركبه، ومشوا في موكبه، وقاسموه هموم المسلمين وآلامهم، وشاركوه في صلاح الأمة وفلاحها، وكان علي رضي الله عنه أحد المستشارين المقربين إليه، يشترك في قضايا الدولة وأمور الناس، ويشير عليه بالأنفع والأصلح حسب فهمه ورأيه. ويتبادل به الأفكار والآراء، لا يمنعه مانع ولا يعوقه عائق، يصلي خلفه، ويعمل بأوامره، ويقضي بقضاياه، ويستدل بأحكامه ويستند، ثم ويسمي أبناءه بأسمائه حباً له وتيمناً باسمه وتودداً إليه.
وفوق ذلك كله يصاهر أهل البيت به وبأولاده، ويتزوجون منهم ويزوجون بهم، ويتبادلون ما بينهم التحف والصلات، ويجري بينهم من المعاملات ما يجري بين الأقرباء المتحابين والأحباء المتقاربين ، وكل ذلك مما روته كتب الشيعة – ولله الحمد - .
فقد استدل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على صحة خلافته وانعقادها كما يذكر وهو يردّ على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أمير الشام بقوله : ( إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى) . ["نهج البلاغة" ص366، 367 ط بيروت بتحقيق صبحي صالح].
وقال: ( إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنما الخيار للناس قل أن يبايعوا، فإذا بايعوا فلا خيار) . ["ناسخ التواريخ" ج3 الجزء2].(10/17)
وهذا النص واضح في معناه، لا غموض فيه ولا إشكال بأن الإمامة والخلافة تنعقد باتفاق المسلمين واجتماعهم على شخص، وخاصة في العصر الأول باجتماع الأنصار والمهاجرين، فإنهم اجتمعوا على أبي بكر وعمر، فلم يبق للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، كما ذكرنا قريباً روايتين عن علي بن أبى طالب في الغارات للثقفي بأن الناس انثالوا على أبي بكر، وأجفلوا إليه، فلم يكن إلا أن يقر ويعترف بخلافته وإمامته.
وهناك رواية أخرى في غير "الغارات" تقر بهذا عن علي أنه قال وهو يذكر أمر الخلافة والإمامة: (رضينا عن الله قضائه، وسلمنا لله أمره …. فنظرت في أمري فإذا طاعتي سبقت بيعتي إذ الميثاق في عنقي لغيري) . ["نهج البلاغة" ص81 خطبة 37 ط بيروت بتحقيق صبحي صالح].
ولما رأى ذلك تقدم إلى الصديق، وبايعه كما بايعه المهاجرون والأنصار، والكلام من فيه وهو يومئذ أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، ولا يتقي الناس، ولا يظهر إلا ما يبطنه لعدم دواعي التقية حسب أوهام القوم، وهو يذكر الأحداث الماضية فيقول: ( فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر، فبايعته، ونهضت في تلك الأحداث … فتولى أبو بكر تلك الأمور وسدد ويسر وقارب واقتصد، فصحبته مناصحاً، وأطعته فيما أطاع الله جاهداً ) . ["منار الهدى" لعلي البحراني الشيعي ص373، أيضاً "ناسخ التواريخ" ج3 ص532].
ولأجل ذلك رد على أبي سفيان والعباس حينما عرضا عليه الخلافة لأنه لا حق له بعد ما انعقدت للصديق .
وكتب إلى أمير الشام معاوية بن أبى سفيان : (وذكرت أن الله اجتبى له من المسلمين أعواناً أيّدهم به، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام كما زعمت ، وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة الصديق وخليفة الخليفة الفاروق، ولعمري إن مكانهما في الإسلام لعظيم، وإن المصائب بهما لجرح في الإسلام شديد يرحمهما الله، وجزاهم الله بأحسن ما عملا) . [ابن ميثم شرح نهج البلاغة ط إيران ص488].(10/18)
وروى الطوسي عن علي أنه لما اجتمع بالمهزومين في الجمل قال لهم: ( فبايعتم أبا بكر، وعدلتم عني، فبايعت أبا بكر كما بايعتموه …..، فبايعت عمر كما بايعتموه فوفيت له بيعته ….. فبايعتم عثمان فبايعته وأنا جالس في بيتي، ثم أتيتموني غير داع لكم ولا مستكره لأحد منكم فبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر وعثمان، فما جعلكم أحق أن تفوا لأبى بكر وعمر وعثمان ببيعتهم منكم ببيعتي) . ["الأمالي" لشيخ الطائفة الطوسي ج2 ص121 ط نجف].
وينقل الطبرسي أيضاً عن محمد الباقر ما يقطع أن علياً كان مقراً بخلافة أبي بكر، ومعترفاً بإمامته، ومبايعاً له بإمارته كما يذكر أن أسامة بن زيد حب رسول الله لما أراد الخروج انتقل رسول الله إلى الملأ الأعلى ( فلما ورد الكتاب على أسامة انصرف بمن معه حتى دخل المدينة، فلما رأى اجتماع الخلق على أبي بكر انطلق إلى علي بن أبى طالب (ع) فقال: ما هذا ؟ قال له علي (ع) : هذا ما ترى، قال أسامة: فهل بايعته؟ فقال: نعم) .["الاحتجاج" للطبرسي ص50 ط مشهد عراق].
ولقد أقر بذلك شيعي متأخر وإمام من أئمة القوم هو محمد حسين آل كاشف الغطاء بقوله: ( وحين رأى – أي علي - أن الخليفة الأول والثاني بذلا أقصى الجهد في نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجيوش وتوسيع الفتوح، ولم يستأثروا ولم يستبدوا بايع وسالم) . ["أصل الشيعة وأصولها" ط دار البحار بيروت 1960 ص91].
ويروي ابن أبي الحديد أن عليًا والزبير قالا بعد مبايعتهما أبي بكر : ( وإنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف له سنه، ولقد أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة بالناس وهو حي) . ["شرح نهج البلاغة" لأبي أبي الحديد ج1 ص132].
وأورد ابن أبي الحديد رواية أخرى مشابهة في شرحه ] ج1 ص134، 135].
إقتداء علي بالصديق في الصلوات وقبوله الهدايا منه:(10/19)
ولقد كان علي رضي الله عنه راضياً بخلافة الصديق ومشاركاً له في معاملاته وقضاياه، قابلاً منه الهدايا، رافعاً إليه الشكاوى، مصلياً خلفه، عاملاً معه ، محباً له، مبغضاً من يبغضه.
فقد ذكرنا قبل أن علياً قال للقوم حينما أرادوه خليفة وأميراً: وأنا لكم وزيراً خير لكم منى أميرا. ["نهج البلاغة" ص136 تحقيق صبحي صالح].
يذكرهم أيام الصديق والفاروق حينما كان مستشاراً مسموعاً، ومشيراً منفذاً كلمته . كما يروي اليعقوبي الشيعي في تاريخه وهو يذكر أيام خلافة الصديق ( وأراد أبو بكر أن يغزو الروم فشارو جماعة من أصحاب رسول الله، فقدموا وأخروا، فاستشار علي بن أبى طالب فأشار أن يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت؟ فقال: بشرت بخير، فقام أبو بكر في الناس خطيباً، وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم ) .["تاريخ اليعقوبي" ص132، 133 ج2 ط بيروت 1960م].
وفى رواية ( سأل الصديق علياً كيف ومن أين تبشر؟ قال: من النبي حيث سمعته يبشر بتلك البشارة، فقال أبو بكر: سررتني بما أسمعتني من رسول الله يا أبا الحسن! يسرّك الله) . ["تاريخ التواريخ" ج2 كتاب 2 ص158 تحت عنوان "عزام أبي بكر"].(10/20)
ويؤيد ذلك عالم الشيعة محمد بن النعمان العكبري الملقب بالشيخ المفيد حيث بوّب باباً خاصاً في كتابه "الإرشاد" لقضايا أمير المؤمنين عليه السلام في إمارة أبي بكر.ثم ذكر عدة روايات عن قضايا علي في خلافة أبي بكر، ومنها ( أن رجلاً رفع إلى أبي بكر وقد شرب الخمر، فأراد أن يقيم عليه الحد فقال له: إني شربتها ولا علم لي بتحريمها لأني نشأت بين قوم يستحلونها ولم أعلم بتحريمها حتى الآن ، فارتج علي أبي بكر الأمر بالحكم عليه ولم يعلم وجه القضاء فيه، فأشار عليه بعض من حضر أن يستخبر أمير المؤمنين عليه السلام عن الحكم في ذلك، فأرسل إليه من سأله عنه، فقال أمير المؤمنين: مر رجلين ثقتين من المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار ويناشدانهم هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فإن شهد بذلك رجلان منهم فأقم الحد عليه، وإن لم يشهد أحد بذلك فاستتبه وخلّ سبيله، ففعل ذلك أبو بكر فلم يشهد أحد من المهاجرين والأنصار أنه تلا عليه آية التحريم، ولا أخبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فاستتابه أبو بكر وخلى سبيله وسلم لعلي (عليه السلام) في القضاء به) . ["الإرشاد" للمفيد ص107 ط إيران].
وكان علي يمتثل أوامره كما حدث أن وفداً من الكفار جاءوا إلى المدينة المنورة، ورأوا بالمسلمين ضعفاً وقلة لذهابهم إلى الجهات المختلفة للجهاد واستئصال شأفة المرتدين والبغاة الطغاة، فأحس منهم الصديق خطراً على عاصمة الإسلام والمسلمين، فأمر الصديق بحراسة المدينة وجعل الحرس على أنقابها يبيتون بالجيوش، وأمر علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود أن يرأسوا هؤلاء الحراس، وبقوا كذلك حتى أمنوا منهم. ["شرح نهج البلاغة" ج4 ص228 تبريز].(10/21)
وللتعاطف والتوادد والوئام الكامل بينهما :كان علىّ وهو سيد أهل البيت يتقبل من أبي بكر الهدايا دأب الأخوة المتحابين ؛ كما قبل الصهباء الجارية التي سبيت في معركة عين التمر، وولدت له عمر ورقية ، حيث قالت كتب الشيعة ( وأما عمر ورقية فإنهما من سبيئة من تغلب يقال لها الصهباء سبيت في خلافة أبى بكر وإمارة خالد بن الوليد بعين التمر) . ["شرح نهج البلاغة" ج2 ص718، أيضاً "عمدة الطالب" ط نجف ص361].
( وكانت اسمها أم حبيب بنت ربيعة) .["الإرشاد" ص186].
وأيضاً منحه الصديق خولة بنت جعفر بن قيس التي أسرت مع من أسر في حرب اليمامة وولدت له أفضل أولاده بعد الحسنين :محمد بن الحنفية.
( وهى من سبي أهل الردة وبها يعرف ابنها ونسب إليها محمد بن الحنفية) . ["عمدة الطالب" الفصل الثالث ص352، أيضاً "حق اليقين" ص213].
كما وردت روايات عديدة في قبوله هو وأولاده الهدايا المالية والخمس وأموال الفيء من الصديق رضي الله عنهم أجمعين، وكان علي هو القاسم والمتولي في عهده على الخمس والفيء ، وكانت هذه الأموال بيد علي، ثم كانت بيد الحسن، ثم بيد الحسين، ثم الحسن بن الحسن، ثم زيد بن الحسن. ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحدد ج4 ص118].
وكان يؤدي الصلوات الخمس في المسجد خلف الصديق، راضياً بإمامته، ومظهراً للناس اتفاقه ووئامه معه. ["الاحتجاج" للطبرسي 53، أيضاً كتاب سليم بن قيس ص253، أيضاً "مرآة العقول" للمجلسي ص388 ط إيران].
مساعدة الصديق في تزويج علي من فاطمة:(10/22)
وكان للصديق مَنّ على عليّ رضي الله عنهما حيث توسط له في زواجه من فاطمة رضي الله عنها وساعده فيه، كما كان هو أحد الشهود على نكاحه بطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا يرويه أحد أعاظم الشيعة ويسمى بشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي ( عن الضحاك بن مزاحم أنه قال: سمعت علي بن أبى طالب يقول: أتاني أبو بكر وعمر، فقالا: لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له فاطمة، قال: فأتيته، فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك، ثم قال: ما جاء بك يا علي وما حاجتك؟ قال: فذكرت له قرابتي وقدمي في الإسلام ونصرتي له وجهادي، فقال : يا علي! صدقت، فأنت أفضل مما تذكر، فقلت: يا رسول الله! فاطمة تزوجنيها) . ["الأمالي" للطوسي ج1 ص38].(10/23)
وأما المجلسي فيذكر هذه الواقعة ويزيدها بياناً ووضوحاً حيث يقول: ( في يوم من الأيام كان أبو بكر وعمر وسعد بن معاذ جلوساً في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتذاكروا ما بينهم بزواج فاطمة عليها السلام .فقال أبو بكر: أشراف قريش طلبوا زواجها عن النبي ولكن الرسول قال لهم بأن الأمر في ذلك إلى الله - ونظن أنها لعلي بن أبي طالب - وأما علي بن أبي طالب فلم يتقدم بطلبها إلى رسول الله لأجل فقره وعدم ماله، ثم قال أبو بكر لعمر وسعد: هيا بنا إلى علي بن أبي طالب لنشجعه ونكلفه بأن يطلب ذلك من النبي، وإن مانعه الفقر نساعده في ذلك.فأجاب سعد : ما أحسن ما فكرت به، فذهبوا إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام …… فلما وصلوا إليه سألهم ما الذي أتى بكم في هذا الوقت؟ قال أبو بكر: يا أبا الحسن! ليس هناك خصلة خير إلا وأنت سابق بها …… فما الذي يمنعك أن تطلب من الرسول ابنته فاطمة؟ فلما سمع عليّ هذا الكلام من أبي بكر نزلت الدموع من عينيه وسكبت، وقال: قشرت جروحي ونبشت وهيجت الأماني والأحلام التي كتمتها منذ أمد، فمن الذي لا يريد الزواج منها؟، ولكن يمنعني من ذلك فقري واستحي منه بأن أقول له وأنا في هذا الحال ... الخ ) . ["جلاء العيون" للملا مجلسي ج1 ص169 ط كتابفروشي إسلامية طهران، ترجمة من الفارسية].(10/24)
ثم وأكثر من ذلك أن الصديق أبا بكر هو الذي حرض علياً على زواج فاطمة رضي الله عنهم، وهو الذي ساعده المساعدة الفعلية لذلك، وهو الذي هيأ له أسباب الزواج وأعدها بأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يروي الطوسي : أن علياً باع درعه وأتى بثمنه إلى الرسول، ثم قبضه رسول الله من الدراهم بكلتا يديه، فأعطاها أبا بكر وقال: ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت، أردفه بعمار بن ياسر وبعدة من أصحابه، فحضروا السوق، فكانوا يعرضون الشيء مما يصلح فلا يشترونه حتى يعرضوه على أبي بكر، فإن استصلحه اشتروه... حتى إذا استكمل الشراء حمل أبو بكر بعض المتاع، وحمل أصحاب رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) الذين كانوا معه الباقي. ["الأمالي" ج1 ص39، أيضاً "مناقب" لابن شهر آشوب المازندراني ج2 ص20 ط الهند، أيضاً "جلاء العيون" فارسي ج1 ص176].(10/25)
بل إنالصديق ورفاقه كانوا شهوداً على زواجه بنص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطلب منه كما يذكر الخوارزمي الشيعي والمجلسي والأربلي ( أن الصديق والفاروق وسعد بن معاذ لما أرسلوا علياً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - انتظروه في المسجد ليسمعوا منه ما يثلج صدورهم من إجابة الرسول وقبوله ذلك الأمر، فكان كما كانوا يتوقعون، فيقول علي: فخرجت من عند رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وأنا لا أعقل فرحاً وسروراً، فاستقبلني أبو بكر وعمر، وقالا لي: ما وراءك؟ فقلت: زوجني رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ابنته فاطمة …… ففرحا بذلك فرحاً شديداً ورجعا معي إلى المسجد فلما توسطناه حتى لحق بنا رسول الله، وإن وجهه يتهلل سروراً وفرحاً، فقال: يا بلال! فأجابه فقال: لبيك يا رسول الله! قال: اجمع إلي المهاجرين والأنصار، فجمعهم ثم رقي درجة من المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: معاشر الناس إن جبرائيل أتاني آنفا وأخبرني عن ربي عز وجل أنه جمع ملائكته عند البيت المعمور، وكان أشهدهم جميعاً أنه زوج أمته فاطمة ابنة رسول الله من عبده علي بن أبى طالب، وأمرني أن أزوجه في الأرض وأشهدكم على ذلك) . ["المناقب" للخوارزمي ص251، 252، أيضاً "كشف الغمة ج1 ص358، أيضاً "بحار الأنوار" للمجلسي ج10 ص38، 39، أيضاً جلاء العيون" ج1 ص184].
ويكشف النقاب عن الشهود الأربلي في كتابه "كشف الغمة" حيث يروي: ( عن أنس أنه قال كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فغشيه الوحى، فلما أفاق قال لي: يا أنس! أتدري ما جاءني به جبرائيل من عند صاحب العرش؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم.(10/26)
قال: أمرني أن أزوج فاطمة من علي، فانطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وبعددهم من الأنصار، قال: فانطلقت فدعوتهم له، فلما أن أخذوا مجالسهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن حمد الله وأثنى عليه ثم إني أشهدكم أني زوجت فاطمة من عليّ على أربعمائة مثقال فضة) . ["كشف الغمة" ج1 ص348، 349 ط تبريز، "بحار الأنوار" ج1 ص47، 48].
ولما ولد لهما الحسن كان أبو بكر الصديق يحمله على عاتقه، ويداعبه ويلاعبه ويقول: بأبي شبيه بالنبي ..غير شبيه بعلي) .["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص117].
وكانت العلاقات وطيدة إلى حد أن زوجة أبى بكر أسماء بنت عميس هي التي كانت تمرّض فاطمة بنت النبي عليه السلام ورضي الله عنها في مرض موتها، وكانت معها حتى الأنفاس الأخيرة ، فروت كتب الشيعة: (وكان (علي) يمرضها بنفسه، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس رحمها الله على استمرار بذلك) . ["الأمالي" للطوسي ج1 ص107].
و(وصتها بوصايا في كفنها ودفنها وتشييع جنازتها فعمات أسماء بها) . ["جلاء العيون" ص235، 242].
و(هي التي كانت عندها حتى النفس الأخير، وهى التي نعت علياً بوفاتها ) . ["جلاء العيون" ص237].
و( كانت شريكة في غسلها) . ["كشف الغمة" ج1 ص504].
وكان أبوبكرالصديق دائم الاتصال بعلي ليسأله عن أحوال فاطمة:
( فمرضت (أي فاطمة رضي الله عنها) وكان علي (ع) يصلي في المسجد الصلوات الخمس، فلما صلى قال له أبو بكر وعمر: كيف بنت رسول الله؟) . ["كتاب سليم بن قيس" ص353].
و( لما قبضت فاطمة من يومها فارتجت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله، فأقبل أبو بكر وعمر يعزيان علياً ويقولان: يا أبا الحسن! لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله ) . ["كتاب سليم بن قيس" ص255].
المصاهرات بين الصديق وآل البيت:(10/27)
وكانت العلاقات وثيقة أكيدة بين بيت النبوة وبيت الصديق لا يتصور معها التباعد والاختلاف مهما نسج الأفاكون الأساطير والأباطيل، { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } [سورة العنكبوت الآية41].
فالصديقة عائشة بنت الصديق أبى بكر كانت زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن أحب الناس إليه مهما احترق الحساد ونقم المخالفون، فإنها حقيقة ثابتة، وهى طاهرة مطهرة - بشهادة القرآن - مهما جحدها المبطلون وأنكرها المنكرون.
ثم أسماء بنت عميس التي جاء ذكرها آنفا كانت زوجة لجعفر بن أبي طالب شقيق علي، فمات عنها فتزوجها الصديق وولدت له ولداً سماه محمداً الذي ولاه علي على مصر، ولما مات أبو بكر تزوجها علي بن أبى طالب فولدت له ولداً سماه يحيى.
وحفيدة الصديق كانت متزوجة من محمد الباقر - الإمام الخامس عند الشيعة وحفيد علي رضي الله عنه - كما يذكر الكليني في أصوله تحت عنوان مولد جعفر:(ولد أبو عبد الله عليه السلام سنة ثلاث وثمانين ومضى في شوال من سنة ثمان وأربعين ومائة وله خمس وستون سنة، ودفن بالبقيع في القبر الذي دفن فيه أبوه وجده والحسن بن علي عليهم السلام وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر) . ["كتاب الحجة من الأصول في الكافي ج1 ص472، ومثله في "الفرق" للنوبختي].
ويقول ابن عنبة عن جعفر : ( أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر. ولهذا كان الصادق عليه السلام يقول: ولدني أبو بكر مرتين ). ] عمدة الطالب ، ص 195، ط طهران 1961م [ .(10/28)
كما أن القاسم بن محمد بن أبي بكر حفيد أبي بكر، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حفيد علي كانا ابني خالة كما يذكر المفيد وهو يذكر علي بن الحسين بقوله: والإمام بعد الحسن بن علي (ع) ابنه أبو محمد علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام، وكان يكنى أيضا أبا الحسن. وأمه شاه زنان بنت يزدجردبن شهريار بن كسرى ويقال: إن اسمها كان شهر بانويه وكان أمير المؤمنين (ع) ولى حريث بن جابر الحنفي جانباً من المشرق، فبعث إليه بنتي يزدجردبن شهريار بن كسرى ، فنحل ابنه الحسين (ع) شاه زنان منهما فأولدها زين العابدين (ع) ونحل الأخرى محمد بن أبي بكر، فولدت له القاسم بن محمد بن أبى بكر فهما ابنا خالة) . ["الإرشاد" للمفيد ص253 ومثله في "كشف الغمة" و"منتهى الآمال" للشيخ عباس القمي ج2 ص3].
وأما المجلسي فذكر ذلك في "جلاء العيون" ولكنه صحح الروايات التي جاء بها المفيد وابن بابويه بأن شهربانو لم تكن سبيت في عهد علي كما ذكره المفيد ولا في عهد عثمان كما ذكره ابن بابويه القمي، بل كانت من سبايا عمر كما رواه القطب الراوندي ، ثم يقر بعد ذلك بأن قاسم بن محمد بن أبي بكر وزين العابدين بن الحسين بن علي هما ابنا خالة . ["جلاء العيون" الفارسي ص673، 674].
وذكر أهل الأنساب والتاريخ قرابة أخرى وهى تزويج حفصة بنت عبد الرحمن بن الصديق من الحسين بن علي بن أبى طالب رضي الله عنهم بعد عبد الله بن الزبير أو قبله.
ثم إن محمد بن أبي بكر من أسماء بنت عميس كان ربيب علي وحبيبه، وولاه إمرة مصر في عصره.
( وكان علي عليه السلام يقول: محمد ابني من ظهر أبي بكر) .["الدرة النجفية" للدنبلي الشيعي شرح نهج البلاغة ص113 ص إيران].(10/29)
وكان من حب أهل البيت للصديق والتوادد فيما بينهم أنهم سموا أبناءهم بأسماء أبي بكر رضي الله عنه، فأولهم علي بن أبي طالب حيث سمى أحد أبنائه بأبي بكر كما يذكر المفيد تحت عنوان "ذكر أولاد أمير المؤمنين (ع) وعددهم وأسماءهم ومختصر من أخبارهم" :
( 12- محمد الأصغر المكنى بأبي بكر 13- عبيد الله، الشهيدان مع أخيهما الحسين (ع) بالطف أمهما ليلى بنت مسعود الدارمية) .["الإرشاد" ص186].
وقال اليعقوبي: ( وكان له من الولد الذكور أربعة عشر ذكر الحسن والحسين …… وعبيد الله وأبو بكر لا عقب لهما أمهما ليلى بنت مسعود الحنظلية من بني تيم) .["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص213].
وذكر الأصفهاني في "مقاتل الطالبيين" تحت عنوان "ذكر خبر الحسين بن علي بن أبي طالب ومقتله ومن قتل معه من أهله" وكان منهم ( أبو بكر بن علي بن أبي طالب وأمه يعلى بنت مسعود ….. ذكر أبو جعفر أن رجلاً من همدان قتله، وذكر المدائني أنه وجد في ساقيه مقتولاً، لا يدري من قتله ) . ["مقاتل الطالبيين" لأبي الفرج الأصفهاني الشيعي ط دار المعرفة بيروت ص142، ومثله في "كشف الغمة" ج2 ص64، "جلاء العيون" للمجلسي ص582].
وهل هذا إلا دليل حب ومؤاخاة وإعظام وتقدير من عليّ للصديق رضي الله عنهما؟!
والجدير بالذكر أنه ولد له هذا الولد بعد تولية الصديق الخلافة والإمامة، بل وبعد وفاته كما هو معروف بداهة.
وهل يوجد في الشيعة اليوم الزاعمين حب علي وأولاده رجل يسمي بهذا الاسم؟! وهل هم موالون له أم مخالفون ؟!
ولم يختص عليّ بهذه المحبة والصداقة لأبي بكر، بل تابعه بنوه من بعده ومشوا مشيه ونهجوا منهجه.
فهذا هو أكبر أنجاله وابن فاطمة وسبط الرسول الحسن بن علي - الإمام المعصوم الثاني عند الشيعة - يسمي أحد أبنائه بهذا الاسم كما ذكره اليعقوبي:(10/30)
( وكان للحسن من الولد ثمانية ذكور وهم الحسن بن الحسن وأمه خولة …… وأبو بكر وعبد الرحمن لأمهات أولاد شتى وطلحة وعبيد الله) . ["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص228، منتهى الآمال ج1 ص240].
ويذكر الأصفهاني ( أن أبا بكر بن الحسن بن علي بن أبي طالب أيضاً كان ممن قتل في كربلاء مع الحسين قتله عقبة الغنوي) .["مقاتل الطالبيين" ص87].
والحسين بن علي أيضاً سمى أحد أبنائه باسم الصديق كما يذكر ذلك المؤرخ الشيعي المشهور المسعودي في "التنبيه والإشراف" عند ذكر المقتولين مع الحسين في كربلاء.
( وممن قتلوا في كربلاء من ولد الحسين ثلاثة، علي الأكبر وعبد الله الصبي وأبو بكر بنوا الحسين بن علي) .["التنبيه والإشراف" ص263].
وقيل:(إن زين العابدين بن الحسن كان يكنى بأبي بكر أيضاً) .["كشف الغمة" ج2 ص74].
وأيضاً حسن بن الحسن بن علي، أي حفيد علي بن أبي طالب سمى أحد أبنائه أبا بكر كما رواه الأصفهاني عن محمد بن علي حمزة العلوي أن ممن قتل مع إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كان أبو بكر بن الحسن بن الحسن.] "مقاتل الطالبيين" ، ص 188 ط دار المعرفة ، بيروت [ .
والإمام السابع عند الشيعة موسى بن جعفر الملقب بالكاظم أيضاً سمى أحد أبنائه بأبي بكر.] " كشف الغمة " ج 2 ص 217 [ .
ويذكر الأصفهاني أن علي الرضا – الإمام الثامن عند الشيعة - كان يكنى بأبي بكر، ويروي عن عيسى بن مهران عن أبي الصلت الهروي أنه قال: سألني المأمون يوماً عن مسألة، فقلت: قال فيها أبو بكرنا، قال عيسى بن مهران: قلت لأبي الصلت: من أبو بكركم؟ فقال: علي بن موسى الرضا كان يكنى بها وأمه أم ولد.["مقاتل الطالبين" ص561، 562].
والجدير بالذكر أن موسى الكاظم سمى إحدى بناته باسم بنت الصديق، الصديقة عائشة كما ذكر المفيد تحت عنوان "ذكر عدد أولاد موسى بن جعفر وطرف من أخبارهم":(10/31)
( وكان لأبي الحسن موسى عليه السلام سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى منهم علي بن موسى الرضا عليهما السلام …… وفاطمة …… وعائشة وأم سلمة ) . ["الإرشاد" ص302، 303، "الفصول المهمة" 242، "كشف الغمة" ج2 ص237].
كما سمى جده علي بن الحسين إحدى بناته: عائشة. ["كشف الغمة" ج2 ص90].
وأيضاً - الإمام العاشر المعصوم عندهم حسب زعمهم - علي بن محمد الهادي أبو الحسن - سمى إحدى بناته بعائشة، يقول المفيد: ( وتوفي أبو الحسن عليهما السلام في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، ودفن في داره بسرّ من رأى، وخلف من الولد أبا محمد الحسن ابنه …. وابنته عائشة) . ["كشف الغمة" ص334، و"الفصول المهمة" ص283].
أخيرًا نودّ أن نذكر بأن هناك في بني هاشم كثيرًا ممن تسموا أو سموا أبناءهم بأبي بكر ، نذكر منهم ابن الأخ لعلي بن أبي طالب وهو عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب فإنه سمى أحد أبنائه أيضاً باسم أبي بكر كما ذكره الأصفهاني في مقاتله:
( قتل أبو بكر بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يوم الحرة في الوقعة بين مسرف بن عقبة وبين أهل المدينة ).] "مقاتل الطالبيين " ص 123 [ .
وهذا من علامات الحب والود بين القوم خلاف ما يزعمه الشيعة من العداوة والبغضاء، والقتال الشديد والجدال الدائم بينهم.
موقف أهل البيت من عمرالفاروق:
وأما عمر بن الخطاب، فارس الإسلام وأمير المؤمنين، عبقري الملة، وفاتح القيصرية، وهازم الكسروية، فقد كان محبوباً إلى أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - :
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يذكر الفاروق وولايته :( ووليهم وال، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه) . ["نهج البلاغة" بتحقيق صبحي الصالح تحت عنوان "غريب كلامه المحتاج إلى التفسير" ص557 ط دار الكتاب بيروت، أيضاً "نهج البلاغة بتحقيق الشيخ محمد عبده ج4 ص107 ط دار المعرفة بيروت].(10/32)
وقال الميثم البحراني الشيعي، شارح نهج البلاغة، وكذلك الدنبلي شرحاً لهذا الكلام: (إن الوالي عمر بن الخطاب، وضربه بجرانه كناية بالوصف المستعار عن استقراره وتمكنه كتمكن العير البارك من الأرض) . ["شرح نهج البلاغة" لابن الميثم ج5 ص463، أيضاً "الدرة النجفية" ص394].
ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي الشيعي تحت هذه الخطبة، ويذكرها من أولها : ( وهذا الوالي هو عمر بن الخطاب، وهذا الكلام من خطبة خطبها في أيام خلافته طويلة يذكر فيها قربه من النبي - صلى الله عليه وسلم - واختصاصه له، وإفضائه بأسراره إليه .. ) .["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج4 ص519].
فانظر إلى عليّ كيف يقر ويعترف بأن الدين قد استقر في عهد عمر ، والإسلام قد تمكن في الأرض في أيام خلافته الميمونة، فهل لمتمسك من الشيعة يتمسك بقول علي بن أبي طالب - الإمام المعصوم عندهم الذي لا يخطئ –؟!
وهذه الخطبة التي مدح فيها عمر ألقاها في أيام خلافته حيث لم يكن هناك ضرورة للتقية الشيعية التي ألصقوها تهمة بخيار الخلائق رضوان الله ورحمته عليهم.
وكم هناك من خطب لعليّ منقولة في نهج البلاغة، تدل على نفس المعنى بأن الفاروق كان سبباً لعز الدين، ورفعة الإسلام، وعظمة المسلمين، وتوسعة البلاد الإسلامية، وأنه أقام الناس على المحجة البيضاء، واستأصل الفتنة، وقوم العوج وأزهق الباطل، وأحيا السنة طائعاً لله خائفاً منه، فانظر إلى ابن عم رسول الله ووالد سبطيه وهو يبالغ في مدح الفاروق، ويقول:
( لله بلاء فلان، فقد قوم الأود، وداوى العمد وخلف الفتنة، وأقام السنة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته، واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي بها الضال، ولا المستيقن المهتدي ) . ["نهج البلاغة" تحقيق صبحي صالح ص350، "نهج البلاغة" تحقيق محمد عبده ج2 ص322].(10/33)
يقول ابن أبي الحديد: (وفلان المكنى عنه : عمر بن الخطاب، وقد وجدت النسخة التي بخط الرضى أبي الحسن جامع نهج البلاغة وتحت فلان عمر ….. وسألت عنه النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي فقال لي: هو عمر، فقلت له: أثنى عليه أمير المؤمنين عليه السلام؟ فقال: نعم ) . ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج3 ص92 جزء12].
ومثله ذكر ابن الميثم [انظر لذلك شرح نهج البلاغة لابن الميثم ج4 ص96، 97] والدنبلي وعلي نقي في الدرة النجفية [ص257] وشرح النهج الفارسي [ج4 ص712].
فلينظر كيف يعلن علي رضى الله عنه على ملأ الشهود أن الفاروق رضي الله عنه قوم العوج، وعالج المرض، وعامل بالطريقة النبوية، وسبق الفتنة وتركها خلفا، لم يدركها هو، ولا الفتنة أدركته، وانتقل إلى ربه وليس عليه ما يلام عليه، أصاب خير الولاية والخلافة، ولحق الرفيق الأعلى، ولم يلوث في القتل والقتال الذي حدث بين المسلمين طائعاً لله، غير عاص، واتقى الله في أداء حقه، ولم يقصر فيه ولم يظلم.
فهذا هو الذي يليق أن يضرب الدين في عصره العطن.
ولقد استشارعمر عليا في الخروج إلى غزو الروم فقال له:
( إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهره الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى، كنت ردأ للناس ومثابة للمسلمين) . ["نهج البلاغة" تحقيق صبحي صالح ص193].
ويكتب ابن أبي الحديد تحته شرحاً : ( أشار عليه السلام أن لا يشخص بنفسه حذراً أن يصاب فيذهب المسلمون كلهم لذهاب الرأس، بل يبعث أميراً من جانبه على الناس ويقيم هو في المدينة، فإن هزموا كان مرجعهم إليه ) . ["شرح نهج البلاغة" ج2 جزء8 ص369، 370].(10/34)
فمن يقرأ هذه الخطبة يتبين له الحب المتدفق من علي للفاروق والحرص على شخصه وحياته، والرجاء والتمني لبقائه في الحكم والخلافة ذخرا للإسلام والمسلمين رغم أنوف المبغضين والطاعنين فيه، ثم الجدير بالذكر أن الفاروق رضي الله عنه كان مصمماًعلى المسير إلى المعركة بنفسه والمرتضى علي رضي الله عنه كان يعرف ذلك، ومع ذلك أراد منعه قدر المستطاع لما كان يراه سبباً لعز الإسلام ومجده وشموخه، وأن لا يمسه سوء حتى لا تنقلب على الإسلام ودولته قالة ولا تدور عليهم الدائرة، وأكثر من ذلك أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان يريد أن ينيب عنه في العاصمة الإسلامية علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، فكانت فرصة ذهبية ليأخذ علي زمام الأمور ويسترد الحقوق الموهومة التي يزعم الشيعة أنها سلبت!! ولكنه رضي الله عنه لم يفعل ليتأكد لك أيها القارئ أنه لم يكن بينهما سوى الحب والود ، لا كما يزعم الشيعة هداهم الله .
و لما استشار عمر عليا في الشخوص لقتال الفرس بنفسه منعه من ذلك وقال له:
( إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة. وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعدّه وأمدّه، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه ، فإن انقطع النظام تفرق الخرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً. والعرب اليوم، وإن كانوا قليلاً، فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع! فكن قطباً واستدر الرحا بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك.(10/35)
إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك، وطمعهم فيك. فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره. وأما ما ذكرت من عددهم، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة ) . ["نهج البلاغة" بتحقيق صبحي ص203، 204 تحت عنوان "ومن كلام له (أي علي) عليه السلام وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه"].
وأيضاً أشار بذلك إلى دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب - رواه المجلسي في "بحار الأنوار" عن محمد الباقر –" ["بحار الأنوار" ج4 كتاب السماء والعالم] فإن دعاء الرسول لا بد له أن يقبل.
فقد نبّه سيد أهل البيت بأن الفاروق ليس كواحد من الناس، بل إنه قطب، وعليه يدور رحى الإسلام والعرب المسلمين، فلولا القطب ليس للرحى أن تدور، وأنى لها ذلك؟ ولذلك يلح عليه بقوله: فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها: لأنهم يعرفون أن الفاروق هو الأصل، فإن استؤصل لا يبقى للفرع أثر، وأنه القطب، فإن كسر تنكسر الرحى ولا تدور.
وكان علي رضي الله عنه يعتقد أن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وكان يرى بأنه محدّث بأخبار الرسول، ولذلك لم يكن يخالف سيرته وعمله حتى وفي الأمور الصغيرة والتافهة، وقد نقل الدينوري الشيعي أنه لما قدم الكوفة (قيل له: يا أمير المؤمنين! أتنزل القصر؟ قال: لا حاجة لي في نزوله، لأن عمر بن الخطاب كان يبغضه، ولكني نازل الرحبة، ثم أقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى ركعتين، ثم نزل الرحبة ) . ["الأخبار الطوال" لأحمد بن داؤد الدينوري ص152].(10/36)
وكذلك لما تكلم في رد فدك أبى أن يعمل خلاف ما فعله عمر، فهذا هو السيد مرتضى يقول: ( فلما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب (ع) كلم في رد فدك، فقال: إني لأستحي من الله أن أردّ شيئاً منع منه أبو بكر، وأمضاه عمر ) . ["كتاب الشافي في الإمامة" ص213، أيضاً "شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد].
وننقل هنا روايات ثلاث تأييداً لهاتين الروايتين نقلناها من كتب القوم.
الأولى : عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال: لا أعلم علياً خالف عمر، ولا غيّر شيئاً مما صنع حين قدم الكوفة" ["رياض النضرة" لمحب الطبري ج2 ص85].
والرواية الثانية "أن أهل نجران جاءوا إلى علي يشتكون ما فعل بهم عمر، فقال في جوابهم: إن عمر كان رشيد الأمر، فلا أغير شيئاً صنعه عمر" ["البيهقي" ج10 ص130، "الكامل" لابن أثير ج2 ص201 ط مصر، "التاريخ الكبير" للإمام البخاري ج4 ص145 ط الهند، "كتاب الخراج" لابن آدم ص23 ط مصر، "كتاب الأموال" ص98، "فتوح البلدان" ص74].
والرواية الثالثة أن علياً قال حين قدم الكوفة: ما كنت لأحل عقدة شدها عمر" ["كتاب الخراج" لابن آدم ص23، أيضاً "فتوح البلدان" للبلاذري ص74 ط مصر].
وما كان كل هذا إلا لأنه يراه رجلاً ملهماً حسب إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ورجلاً مسدداً يدور معه الحق أينما دار.(10/37)
وأورد ابن أبي الحديد ( أن الفاروق لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي الفارسي دخل عليه ابنا عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم فقال ابن عباس: فسمعنا صوت أم كلثوم (بنت علي رضي الله عنه) : واعمراه، وكان معها نسوة يبكين فارتج البيت بكاء، فقال عمر: ويل أم عمر إن الله لم يغفر له، فقلت: والله! إني لأرجو أن لا تراها إلا مقدار ما قال الله تعالى: { وإن منكم إلا واردها } : إن كنت ما علمنا لأمير المؤمنين وسيد المسلمين تقضي بالكتاب وتقسم بالسوية، فأعجبه قولي، فاستوى جالساً فقال: أتشهد لي بهذا ياابن عباس؟ فكعكعت أي جبنت، فضرب عليّ عليه السلام بين كتفي وقال: اشهد، وفى رواية لم تجزع يا أمير المؤمنين؟ فوالله لقد كان إسلامك عزاً، وإمارتك فخراً، ولقد ملأت الأرض عدلاً، فقال: أتشهد لي بذلك يا ابن عباس! قال: فكأنه كره الشهادة فتوقف، فقال له علي عليه السلام: قل: نعم، وأنا معك، فقال: نعم) . ["ابن أبي الحديد" ج3 ص146، ومثل هذا في "كتاب الآثار" ص207، "سيرة عمر" لابن الجوزي ص193 ط مصر].
وأكثر من هذا أن علياً - وهو الإمام المعصوم الأول عند القوم - كان يؤمن بأن عمر من أهل الجنة لما سمعه من لسان خيرة خلق الله محمد المصطفى الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم -، ولأجل ذلك كان يتمنى بأن يلقى الله بالأعمال التي عملها الفاروق عمر رضي الله عنه في حياته، كما رواه كل من السيد مرتضى وأبو جعفر الطوسي وابن بابويه وابن أبي الحديد:
( لما غسل عمر وكفن دخل علي عليه السلام فقال: ما على الأرض أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى (أي المكفون) بين أظهركم ) .["كتاب الشافي" لعلم الهدى ص171، و"تلخيص الشافي" للطوسي ج2 ص428 ط إيران، و"معاني الأخبار" للصدوق ص117 ط إيران].
وقدوردت هذه الرواية في كتب السنة بتمامها .(10/38)
وأما ابن أبي الحديد فيذكر (طعن أمير المؤمنين فانصرف الناس وهو في دمه مسجى لم يصل الفجر بعد، فقيل: يا أمير المؤمنين! الصلاة، فرفع رأسه وقال: لاها الله إذن، لا حظ لامرئ في الإسلام ضيع صلاته، ثم وثب ليقوم فانبعث جرحه دماً فقال: هاتوا لي عمامة، فعصب جرحه، ثم صلى وذكر، ثم التفت إلى ابنه عبد الله وقال: ضع خدي إلى الأرض يا عبد الله! قال عبد الله: فلم أعجل بها وظننت أنها إختلاس من عقله، فقالها مرة أخرى: ضع خدّي إلى الأرض يا بني، فلم أفعل، فقال الثالثة: ضع خدّي إلى الأرض لا أم لك، فعرفت أنه مجتمع العقل، ولم يمنعه أن يضعه هو إلا ما به من الغلبة، فوضعت خدّه إلى الأرض حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من أضعاف التراب ، وبكى حتى نظرت إلى الطين قد لصق بعينه، فأصغيت أذني لأسمع ما يقول فسمعته يقول: يا ويل عمر وويل أم عمر إن لم يتجاوز الله عنه، وقد جاء في رواية أن علياً عليه السلام جاء حتى وقف عليه فقال: ما أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى) . ["شرح النهج" لابن أبي الحديد ج3 ص147].
فهل هناك أكثر من هذا ؟
نعم! هناك أكثر وأكثر، لقد شهد علي رضي الله عنه: ( إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر) .["كتاب الشافي" ج2 ص428].
وقال فيه وفي أبي بكر في رسالته: ( إنهما إماما الهدى، وشيخا الإسلام، والمقتدى بهما بعد رسول الله، ومن اقتدى بهما عصم) .["تلخيص الشافي" للطوسي ج2 ص428].
وأيضا روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( إن أبا بكر مني بمنزلة السمع، وإن عمر مني بمنزلة البصر) . ["عيون أخبار الرضا" لابن بابويه القمي ج1 ص313، أيضاً "معاني الأخبار" للقمي ص110، أيضاً "تفسير الحسن العسكري"].
والجدير بالذكر أن هذه الرواية رواها عليّ عن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وقد رواها عن علي ابنه الحسن رضي الله عنهما.
مدح أهل البيت للفاروق :(10/39)
يقول ابن عباس رضي الله عنهما : ( رحم الله أبا حفص كان والله حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومنتهى الإحسان، ومحل الإيمان، وكهف الضعفاء، ومعقل الحنفاء، وقام بحق الله صابراً محتسباً حتى أوضح الدين، وفتح البلاد، وآمن العباد) . ["مروج الذهب" للمسعودي الشيعي ج3 ص51، "ناسخ التواريخ" ج2 ص144 ط إيران].
وقد بالغ في مدحه سائر أهل البيت كما مرعند ذكر الصديق رضي الله عنه.
ولقد أورد الكليني في كتاب "الروضة من الكافي أن جعفر بن محمد - الإمام السادس المعصوم لدى الشيعة - لم يكن يتولاهما فحسب، بل كان يأمر أتباعه بولايتهما أيضاً، فيقول صاحبه المشهور لدى القوم أبو بصير: كنت جالساً عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخلت علينا أم خالد التي كان قطعها يوسف بن عمر تستأذن عليه. فقال أبو عبد الله عليه السلام: أيسرّك أن تسمع كلامها؟ قال: فقلت: نعم، قال: فأذن لها. قال: وأجلسني على الطنفسة، قال: ثم دخلت فتكلمت فإذا امرأة بليغة، فسألته عنهما (أي أبى بكر وعمر) فقال لها : توليهما، قالت : فأقول لربي إذا لقيته : إنك أمرتني بولايتهما؟ قال : نعم. ["الروضة من الكافي" ج8 ص101 ط إيران تحت عنوان "حديث أبي بصير مع المرأة"].
فهذا هو جعفر الصادق الذي جعلوا مذهبهم على اسمه، وشريعتهم على رسمه، حيث سموا أنفسهم جعفريين، ومذهبهم الجعفري، لا يكتفي بتولى أبي بكر وعمر، بل يأمر أتباعه أيضاً بتوليهما، فرحمة الله عليهم جميعاً، ورحمة ربنا على من يمتثل أمره وأمر آبائه في ولاية أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وغيرهما من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه ورضوانه عليهم أجمعين.
تزويج علي ابنته أم كلثوم من عمر – رضي الله عنهم جميعًا - :(10/40)
ولأجل هذه المحبة والعلاقة الحميمة بينهما : زوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنته التي ولدتها فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفاروق رضي الله عنه حينما سأله الزواج منها ؛ رضى به ، وثقة فيه ، وإقراراً بفضائله ومناقبه، واعترافاً بمحاسنه وجمال سيرته، وإظهاراً للعلاقات الوطيدة الطيبة والصلات المحكمة المباركة ما يحرق قلوب الحساد ، ولقد أقر بهذا الزواج كافة أهل التاريخ والأنساب وجميع محدثي الشيعة وفقهائهم ومكابريهم ومجادليهم وأئمتهم المعصومين حسب زعمهم :
يقول المؤرخ الشيعي أحمد بن أبي يعقوب في تاريخه تحت ذكر حوادث سنة 17 من خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
( وفي هذه السنة خطب عمر إلى علي بن أبي طالب أم كلثوم بنت علي، وأمها فاطمة بنت رسول الله، فقال علي: إنها صغيرة! فقال: إني لم أرد حيث ذهبت. لكني سمعت رسول الله يقول: كل نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري، فأردت أن يكون لي سبب وصهر برسول الله، فتزوجها وأمهرها عشرة آلاف دينار) . [تاريخ اليعقوبي ج2 ص149، 150].
وأقر بهذا الزواج أصحاب الصحاح الأربعة الشيعية أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني في كافيه
وروى أيضاً عن سليمان بن خالد أنه قال :سألت أبا عبد الله عليه السلام - جعفر الصادق - عن امرأة توفي زوجها أين تعتد؟ في بيت زوجها أو حيث شاءت؟ قال : بلى حيث شاءت، ثم قال : إن علياً لمّا مات عمر أتى أم كلثوم فأخذ بيدها فانطلق بها إلى بيته.["الكافي في الفروع" كتاب الطلاق، باب المتوفى عنها زوجها ج6 ص115، 116، وفي نفس الباب رواية أخرى عن ذلك، وأورد هذه الرواية شيخ الطائفة الطوسي في صحيحه "الاستبصار"، أبواب العدة، باب المتوفى عنها زوجها ج3 ص353، ورواية ثانية عن معاوية بن عمار، وأوردهما في "تهذيب الأحكام" باب في عدة النساء ج8 ص161].(10/41)
وهناك رواية أخرى رواها الطوسي عن جعفر - الإمام السادس عندهم - عن أبيه الباقر أنه قال:
( ماتت أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر بن الخطاب في ساعة واحدة لا يدرى أيهما هلك قبل، فلم يورث أحدهما من الآخر، وصلي عليهما جميعاً ) . ["تهذيب الأحكام" كتاب الميراث، باب ميراث الغرقى والمهدوم، ج9 ص262].
وذكر هذا الزواج من محدثي الشيعة وفقهائها السيد مرتضى علم الهدى في كتابه "الشافي" [ص116] وفى كتابه "تنزيه الأنبياء" [ص141 ط إيران]، وابن شهر آشوب في كتابه "مناقب آل أبي طالب" [ج3 ص162 ط بمبئى الهند] والأربلي في "كشف الغمة في معرفة الأئمة" [ص10 ط إيران القديم] وابن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" [ج3 ص124] ومقدس الأردبيلي في "حديقة الشيعة" [ص277 ط طهران] والقاضي نور الله الشوشتري الذى يسمونه بالشهيد الثالث في كتابه "مجالس المؤمنين" [ص76 ط إيران القديم، أيضاً ص82].
ويقول وهو يذكر المقداد بن الأسود: ( إن النبي أعطى بنته لعثمان، وإن الولي زوج بنته من عمر) . ["مجالس المؤمنين" ص85].
وأيضاً ذكر هذا الزواج في كتابه "مصائب النواصب" [ص170 ط طهران]، وأيضاً ذكره نعمة الله الجزائري في كتابه "الأنوار النعمانية" والملا باقر المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" [باب أحوال أولاده وأزواجه ص621 ط طهران]، والمؤرخ الشيعي المرزا عباس علي القلي في تاريخه ["تاريخ طراز مذهب مظفري" فارسي، باب حكاية تزويج أم كلثوم من عمر بن الخطاب]، ومحمد جواد الشري في كتابه ["أمير المؤمنين" ص217 تحت عنوان "علي في عهد عمر" ط بيروت]، والعباسي القمي في "منتهى الآمال" [ج1 ص186 فصل6 تحت عنوان "ذكر أولاد أمير المؤمنين" ط إيران القديم] وغيرهم ممن يبلغ عددهم حد التواتر، ولا ينكر ذلك إلا مكابر أوجاهل .(10/42)
ولقد استدل بهذا الزواج فقهاء الشيعة على أنه يجوز نكاح الهاشمية من غير الهاشمي، فكتب الحلّي في شرائع الإسلام ( ويجوز نكاح الحرة العبد، والعربية العجمي، والهاشمية غير الهاشمي) . ["شرائع الإسلام" في الفقه الجعفري للحلي، كتاب النكاح، المتوفى 672].
وكتب تحت هذا شارح الشرائع زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني ( وزوج النبي ابنته عثمان، وزوج ابنته زينب بأبي العاص بن الربيع، وليسا من بني هاشم، وكذلك زوّج علي ابنته أم كلثوم من عمر، وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين، وتزوج مصعب بن الزبير أختها سكينة، وكلهم من غير بني هاشم ) . ["مسالك الأفهام" شرح شرائع الإسلام، باب لواحق العقد ج1].
ونريد أن نختم الكلام في هذا الموضوع برواية ابن أبي الحديد المعتزلي الشيعي: قال :( إن عمر بن الخطاب وجه إلى ملك الروم بريداً، فاشترت أم كلثوم امرأة عمر طيباً بدنانير، وجعلته في قارورتين وأهدتهما إلى امرأة ملك الروم، فرجع البريد إليها ومعه ملء القارورتين جواهر، فدخل عليها عمر وقد صبت الجواهر في حجرها، فقال : من أين لك هذا؟ فأخبرته فقبض عليه وقال : هذا للمسلمين، قالت : كيف وهو عوض هديتي؟ قال : بيني وبينك، أبوك، فقال علي عليه السلام : لك منه بقيمة دينارك والباقي للمسلمين جملة لأن بريد المسلمين حمله ) .["شرح نهج البلاغة" ج4 ص575 ط بيروت 1375ه].
ولقد ذكر هذا الزواج علماء الأنساب والتراجم أيضاً مثل البلاذري في "أنساب الأشراف" [ج1 ص428 ط مصر]، وابن حزم في "جمهرة أنساب العرب" [ص37، 38 ط مصر]، والبغدادي في كتابه "المحبر" [تحت عنوان أصهار علي ص56 و437 ط دكن]، والدينوري في "المعارف" [تحت عنوان بنات علي ص92 ط مصر وأيضاً ص79، 80 تحت عنوان أولاد عمر بن الخطاب]، وغيرهم.
إكرام الفاروق أهل البيت واحترامه إياهم:(10/43)
ولم تكن هذه العلاقات من طرف واحد ، بل كل الأطراف كانوا معتنين بهذه العلاقات ؛ فكان الفاروق يجل أهل بيت النبي- صلى الله عليه وسلم - أكثر مما كان يجل أهل بيته هو، وكان يحترمهم ويقدمهم في الحقوق والعطاء على نفسه وأهل بيته، ولقد ذكر المؤرخون قاطبة أن الفاروق لما عيّن الوظائف المالية والعطاءات من بيت المال قدّم على الجميع بني هاشم لقرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولاحترامه أهل بيته عليه الصلاة والسلام.
فها هو اليعقوبي يذكر ذلك بقوله :
( ودون عمر الدواوين، وفرض العطاء سنة 20، وقال : قد كثرت الأموال فأشير عليه أن يجعل ديواناً، فدعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، و جبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف [وكلهم أقرباء علي]، وقال : اكتبوا الناس على منازلهم وابدأوا ببني عبد مناف، فكتب أول الناس علي بن أبي طالب في خمسة آلاف، والحسن بن علي في ثلاثة آلاف، والحسين بن علي في ثلاثة آلاف ، ولنفسه أربعة آلاف .. وكان أول مال أعطاه مالاً قدم به أبو هريرة من البحرين مبلغه سبعمائة ألف درهم، قال (يعنى الفاروق): اكتبوا الناس على منازلهم، واكتبوا بني عبد مناف، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم أتبعوهم عمر بن الخطاب وقومه، فلما نظر عمر قال : وددت والله أني هكذا في القرابة برسول الله، ولكن ابدأوا برسول الله ثم الأقرب فالأقرب منه حتى تضعوا عمر بحيث وضعه الله ) . ["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص153 ط بيروت].(10/44)
وأما ابن أبي الحديد فقال : ( لا بل أبدأ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و بأهله، ثم الأقرب فالأقرب، فبدأ ببني هاشم، ثم ببني عبد المطلب ثم بعبد شمس ونوفل، ثم بسائر بطون قريش، فقسم عمر مروطاً بين نساء المدينة، فبقي منها مرط حسن، فقال بعض من عنده : أعط هذا يا أمير المؤمنين ابنة رسول الله التي عندك - يعنون أم كلثوم بنت علي عليه السلام - فقال : أم سليط أهديه فإنها ممن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت تزفر لنا يوم أحد قرباً ) . ["نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج3 ص113، 114].
ولقد ثبت أن الفاروق كان يقدر ويكرم أهل البيت، ويكن لهم من الاحترام ما لا يكن للآخرين، حتى أهل بيته وخاصته.
وذكر أن ابنة يزدجرد كسرى إيران أكبر ملوك العالم آنذاك لما سبيت مع أسارى إيران أرسلت مع من أرسل إلى أمير المؤمنين وخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر الفاروق رضي الله عنه، وتطلع الناس إليها وظنوا أنها تعطى وتنفل إلى ابن أمير المؤمنين والمجاهد الباسل الذي قاتل تحت لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوات عديدة، لأنه هو الذي كان لها كفوا، ولكن الفاروق لم يخصها لنفسه ولالابنه ولا لأحد من أهل بيته، بل رجح أهل بيت النبوة فأعطاها للحسين بن علي رضي الله عنهما، وهى التي ولدت علي بن الحسين رضي الله عنه الذي بقي وحيداً من أبناء الحسين في كربلاء حياً وأنجب وتسلسل منه نسله .
ولقد ذكر ذلك نسابة شيعي مشهورهوابن عنبة وقال : (إن اسمها شهربانو قيل : نهبت في فسخ المدائن فنفلها عمر بن الخطاب من الحسين عليه السلام ) . ["عمدة الطالب في أنساب أبي طالب" الفصل الثاني تحت عنوان عقب الحسين ص192].
كما ذكر ذلك محدث الشيعة المعروف في صحيحه الكافي في الأصول، عن محمد الباقر أنه قال :(10/45)
( لما قدمت بنت يزدجرد على عمر أشرف لها عذارى المدينة، وأشرق المسجد بضوئها لما دخلته، فلما نظر إليها عمر غطت وجهها وقالت : أف بيروج باداهرمز، فقال عمر : أتشتمنى هذه وهمّ بها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : ليس ذلك لك، خيرها رجلاً من المسلمين وأحسبها بفيئه، فخيرها فجاءت حتى وضعت يدها على رأس الحسين عليه السلام، فقال لها أمير المؤمنين : ما اسمك؟ فقالت : جهان شاه، فقال لها أمير المؤمنين : بل شهربانويه، ثم قال للحسين : يا أبا عبد الله! لتلدن لك منها خير أهل الأرض، فولدت على بن الحسين عليه السلام، وكان يقال لعلي بن الحسين عليه السلام : ابن الخيرتين، فخيرة الله من العرب هاشم ومن العجم فارس. وروي أن أبا الأسود الدائلي قال فيه :
وإن غلاماً بين كسرى وهاشم
لأكرم من نيطت عليه التمائم) . ["الأصول من الكافي" ج1 ص467، ناسخ التواريخ ج10 ص3، 4].
وقبل ذلك ساعد أباه علياً في زواجه من فاطمة رضي الله عنهما كما مر سابقاً.
و كان الفاروق يأخذ غلة فدك ويدفع إليهم منها ما يكفيهم، ويقسم الباقي . ["شرح نهج البلاغة" لابن ميثم ج5 ص107، أيضاً "الدرة النجفية" ص332، وابن أبي الحديد أيضاً].
ومن إكرامه وتقديره لأهل البيت ما ذكره ابن أبي الحديد عن يحيى بن سعيد أنه قال : ( أمر عمر الحسين بن علي أن يأتيه في بعض الحاجة فلقي الحسين عليه السلام عبد الله بن عمر فسأله من أين جاء؟ قال : استأذنت على أبي فلم يأذن لي فرجع الحسين ولقيه عمر من الغد، فقال : ما منعك أن تأتيني؟ قال: قد أتيتك، ولكن أخبرني ابنك عبد الله أنه لم يؤذن له عليك فرجعت، فقال عمر : وأنت عندي مثله؟ وهل أنبت الشعر على الرأس غيركم) .["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج3 ص110].(10/46)
وكان يقول في عامة بني هاشم ما رواه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي أنه قال : ( قال عمر بن الخطاب : عيادة بني هاشم سنة، وزيارتهم نافلة ) . ["الآمالي" للطوسي ج2 ص345 ط نجف].
... ونقل الطوسي والصدوق أن عمر لم يكن يستمع إلى أحد بطعن في علي بن أبي طالب ولم يكن يتحمله، ومرة ( وقع رجل في علىّ عليه السلام بمحضر من عمر، فقال : تعرف صاحب هذا القبر؟ - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - لا تذكر علياً إلا بخير، فإنك إن آذيته آذيت هذا في قبره ) . ["الآمالي" للطوسي ج2 ص46، أيضاً "الآمالي" للصدوق ص324، ومثله ورد في مناقب لابن شهر آشوب ج2 ص154 ط الهند].
حب آل البيت ومبايعتهم للفاروق :
وكان أهل بيت النبوة يتبادلون معه هذا الحب والتقدير والاحترام، ولم يستمعوا ولم يصغوا إلى من يتكلم فيه، أو يطعنه بطعنة، أو يعرّض به بتعريض، بل تبرؤا ممن فعل هذا، وأنكروا عليه كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى.
وأكثر من ذلك كافئوه على احترامه لهم وتقديره بهم حتى أعطوه ثمرة من ثمار النبوة، وزوّجوها منه، وأطاعوه، وأخلصوا له الوفاء والطاعة، وناصحوه، وشاوروه بأحسن ما رأوه، واستوزرهم فرضوا، وأنابهم فقبلوا نيابته، وجاهدوا تحت رايته، ولم يتأخروا في تقديم النصيحة له وما يطلب منهم وفق الكتاب والسنة، وبذلوا له كل غال وثمين .
فها هو علي بن أبي طالب يقر بذلك في رسالته التي أرسلها إلى أصحابه بمصر بعد مقتل محمد بن أبي بكر عامله على مصر، فيقول بعد ذكر الأحداث التي وقعت عقب وفاة الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه :
( فتولى أبو بكر تلك الأمور …… فلما احتضر بعث إلى عمر، فولاّه فسمعنا وأطعنا وناصحنا - ثم يمدحه حسب عادته أنه لا يذكره إلا ويبالغ في مدحه – وتولى عمر الأمر، وكان مرضي السيرة، ميمون النقيبة ) . ["الغارات" للثقفي ج1 ص307، والنقيبة هي النفس].(10/47)
أي لم نتأخر في بيعته، ولم نبخل بالسمع والطاعة والمناصحة، لأن سيرته كانت طيبة، ونفسه كان ميموناً مباركاً، ناجحاً في أفعاله، مظفراً في مطالبه.
ولقد أثبت هذا الطوسي في أماليه حيث يروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : ( فبايعت عمر كما بايعتموه، فوفيت له بيعته حتى لما قتل جعلني سادس ستة، ودخلت حيث أدخلني ) . ["الأمالي" للطوسي ج2 ص121 ط نجف].
فبايعه علي بن أبي طالب، وسمع له، وأطاعه، وناصحه، ورضي بما أمر به، ودخل اللجنة التي جعلها لانتخاب الخليفة ، وكان وزيره ومشيره وقاضيه، وعمل بمشورته دون غيره كما ذكر اليعقوبي المؤرخ الشيعي :
( إن عمر شاور أصحاب رسول الله في سواد الكوفة، فقال له بعضهم : تقسمها بيننا، فشاور علياً، فقال : إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء! ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال : وفقك الله! هذا الرأي ) .["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص151، 152].
وكذلك وردت الروايات الكثيرة في المسائل القضائية أن عمر يرجح قضاء علي ، ولقد بوب شيخ الشيعة المفيد باباً مستقلاً بعنوان "ذكر ما جاء من قضاياه في إمرة عمر بن الخطاب" وأورد تحته قضايا مختلفة كثيرة حكم فيها عمر بقضاء علي رضي الله عنهما، ومنها :
( أن عمر أتى بحامل قد زنت فأمر برجمها فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : هب أن لك سبيلاً عليها أي سبيل لك على ما في بطنها ؟ والله تعالى يقول: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ؟ فقال عمر : لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن ، ثم قال : فما أصنع بها؟ قال : احتط عليها حتى تلد، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم عليها الحد، فسرى بذلك عن عمر وعول الحكم به على أمير المؤمنين عليه السلام ) . ["الإرشاد" ص109].
وأيضا ذكر المفيد :(10/48)
أن عمر استدعى امرأة كانت تتحدث عندها الرجال، فلما جاءها رسله فزعت وارتاعت وخرجت معهم فأملصت ووقع إلى الأرض ولدها يستهل ثم مات ، فبلغ عمر ذلك فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الحكم في ذلك فقالوا بأجمعهم : نراك مؤدباً، ولم ترد إلا خيراً، ولا شيء عليك في ذلك ، وأمير المؤمنين عليه السلام جالس لا يتكلم في ذلك، فقال له عمر : ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ فقال : قد سمعت ما قالوا : قال : فما عندك؟ قال : قد قال القوم ما سمعت، قال : أقسمت عليك لتقولن ما عندك، قال : إن كان القوم قاربوك فقد غشوك وإن كانوا ارتاؤا فقد قصروا الدية على عاقلتك لأن قتل الصبى خطأ تعلق بك ، فقال : أنت والله نصحتني من بينهم والله لا تبرح حتى تجري الدية على بني عدي ، ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام . ["الإرشاد" ص110].
وأيضاً ( عن يونس عن الحسن أن عمر أتى بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم برجمها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك ، إن الله تعالى يقول: { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } ويقول جل قائلاً: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } فإذا تمت المرأة الرضاعة سنتين، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً، كان الحمل منها ستة أشهر، فخلى عمر سبيل المرأة وثبت الحكم بذلك فعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنه إلى يومنا هذا ) . ["الإرشاد" ص110].(10/49)
وأيضاً : ( إن امرأة شهد عليها الشهود أنهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطأها ليس ببعل لها، فأمر عمر برجمها وكانت ذات بعل، فقالت : اللهم إنك تعلم أني بريئة، فغضب عمر وقال : وتجرح الشهود أيضاً ! فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ردوها واسألوها فلعل لها عذراً، فردت وسئلت عن حالها فقالت : كان لأهلي إبل فخرجت في إبل أهلي وحملت معي ماء ولم يكن في إبل أهلي لبن وخرج خليطنا وكان في إبله لبن، فنفذ مائي فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أمكنه من نفسي فأبيت، فلما كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي كرها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : الله أكبر { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } فلما سمع ذلك عمر خلى سبيلها) .] " الإرشاد " ص 312[ .
فعمل الفاروق في جميع هذه القضايا بقضاء عليّ، ونفّذ ما قاله لأنه كان يقول حسب رواية شيعية : ( علي أقضانا ) . ["الأمالي" للطوسي ج1 ص256 ط نجف].
أفبعد هذا يمكن القول بأن علياً كان يخالف عمر رضى الله عنهما، أو كان بينهما شيء؟!
وهل يتصور أن شخصاً لا يعترف ولا يقرّ بولاية أحد وخلافته ثم يشترك معه في الشورى وفي المسائل المهمة والنوائب الملمة، ويبدي رأيه الصائب، ويؤخذ بقوله ويقضى به بين الناس، وينفذ قضاؤه ؟!
وأكثر من ذلك : أن عليًا كان ينوب عنه في الحكم والحكومة أحيانًا ؛ حيث أنابه عمر سنة 15 من الهجرة لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين فشاور أصحابه فمنعه علي، وقال له : لا تخرج بنفسك، إنك تريد عدواً كلباً، فقال عمر : إني أبادر بجهاز العدو موت العباس بن عبد المطلب ، إنكم لو فقدتم العباس لينقض بكم الشر ، كما ينتقض الحبل".
فشخص عمر إلى الشام.
( وإن علياً عليه السلام هو كان المستخلف على المدينة ) . ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج2 جزء 8 ص370].(10/50)
ولقد ذكر المؤرخون أن الفاروق رضي الله عنه أناب عليًا رضي الله عنه ثلاث مرات في الحكم على عاصمة المؤمنين : سنة 14 من الهجرة عندما أراد غزو العراق بنفسه. وسنة 15 عند شخوصه لقتال الروم. وعند خروجه إلى أيلة سنة 17 من الهجرة . [انظر : "البداية والنهاية" لابن كثير ج7 ص35 وص55 ط بيروت، وأيضاً "الطبري" ج4 ص83، وص159 ط بيروت].
ولأجل ذلك قال علي رضي الله عنه لما عزموا على بيعته:( أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً ) . [نهج البلاغة ص136 تحقيق صبحي].
يشير بذلك إلى وزارته أيام الصديق وأيام الفاروق رضي الله عنهم.
ولأجل ذلك كان يقاتل هو وبنوه وأهله وذووه تحت راية عمر، ويقبلون منه الغنائم والهدايا والجواري والسبايا، ولو لم تكن خلافته حقاً لما كان القتال تحت رايته جهاداً، ولم يكن الجواري والإماء جوارياً وإماءً، ولم يجز قبولها والتمتع بها، وقد ثبت هذا كله كما ذكرناه سابقاً .
ومن ذلك ما روى الشيعة أن الحسن بن علي سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام قاتل تحت لواء الفاروق، وجاهد أيام خلافته وتحت توجيهاته وإرشاداته في الجيش الذي أرسل إلى غزو إيران ويقولون : إن في أصفهان مسجداً يعرف بلسان الأرض! ولقد سمي بهذا الاسم لأن الحسن لما جاء إلى أصفهان أيام خلافة عمر بن الخطاب مجاهداً في سبيل الله غازياً وفاتحاً لهذه البلاد مع عساكر الإسلام نزل في موضع هذا المسجد فتكلمت معه الأرض – كما يزعمون - فسميت هذه البقعة لسان الأرض لتكلمها معه . [انظر : "تتمة المنتهى" للعباس القمي ص390 ط إيران].(10/51)
وأخيراً نريد أن نختم هذا البحث بمظهر يدل دلالة واضحة على حب أهل البيت للفاروق رضوان الله عليهم أجمعين، وذلك المظهر هو تسمية أهل البيت أبناءهم باسم الفاروق عمر، حباً وإعجاباً بشخصيته، وتقديراً لما أتى به من الأفعال الطيبة والمكارم العظيمة، ولما قدم للإسلام من الخدمات الجليلة، وإقراراً بالصلات الودية الوطيدة التي تربطه بأهل بيت النبوة، والرحم، والصهر القائم بينه وبينهم.
فأول من سمى ابنه باسمه : الإمام الأول عند الشيعة ؛ وهو علي رضي الله عنه ، فقد سمى ابنه من أم حبيب بنت ربيعة البكرية - التي منحها له أبو بكر رضي الله عنه- : عمر ، كما ذكر ذلك المفيد واليعقوبي والمجلسي والأصفهاني وصاحب الفصول، يقول المفيد في باب "ذكر أولاد أمير المؤمنين وعددهم وأسماءهم": ( فأولاد أمير المؤمنين سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى (1) الحسن (2) الحسين …….(6) عمر (7) رقية كانا توأمين أمهما أم حبيب بنت ربيعة ) . ["الإرشاد" للمفيد ص176].
ويقول اليعقوبي : ( وكان له من الولد الذكور أربعة عشر ذكراً الحسن والحسين ومحسن مات صغيراً، أمهم فاطمة بنت رسول الله ….. وعمر، أمه أم حبيب بنت ربيعة البكرية ) . ["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص213، كذلك "مقاتل الطالبيين" ص84 ط بيروت].
وأما المجلسي فيذكرأن ( عمر بن علي من الذين قتلوا مع الحسين في كربلاء، وأمه أم البنين بنت الحزام الكلابية ) . ["جلاء العيون" فارسي، ذكر من قتل مع الحسين بكربلاء ص570].(10/52)
وصاحب الفصول يقول تحت ذكر أولاد علي بن أبي طالب : ( وعمر من التغلبية، وهى الصهباء بنت ربيعة من السبي الذي أغار عليه خالد بن الوليد بعين التمر، وعمّر عمر هذا حتى بلغ خمسة وثمانين سنة فحاز نصف ميراث علي عليه السلام، وذلك أن جميع إخوته وأشقائه وهم عبد الله وجعفر وعثمان قتلوا جميعهم قبله مع الحسين (ع) بالطف فورثهم ) . ["الفصول المهمة" منشورات الأعلمي طهران ص143، "عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب" ص361 ط نجف، "تحفة الإهاب" ص251، 252، "كشف الغمة" ج1 ص575].
ولقد تبعه في هذا الحب لعمر بن الخطاب ابنه الحسن فسمى أحد أبنائه عمر أيضاً.
يقول المفيد في باب "ذكر ولد الحسن بن علي عليهما السلام وعددهم وأسماؤهم".
( أولاد الحسن بن علي (ع) خمسة عشر ولداً ذكراً وأنثى (1) زيد …. (5) عمر (6) قاسم (7) عبد الله أمهم أم ولد ) .["الإرشاد" ص194، "تاريخ اليعقوبي" ج2 ص228، "عمدة الطالب" ص81، "منتهى الآمال" ج1 ص240 "الفصول المهمة" ص166].
ويقول المجلسي :
( كان عمر بن الحسن ممن استشهد مع الحسين بكربلاء ) . ["جلاء العيون" ص582].
ولكن الأصفهاني يرى أنه لم يقتل، بل كان ممن أسر فيقول :
( وحمل أهله (الحسين بعد قتله) أسرى وفيهم عمر، وزيد، والحسن بنو الحسن بن علي بن أبي طالب ) .["مقاتل الطالبين" ص119].
وكذلك ابنه الثاني الحسين رضي الله عنه أيضاً سمى أحد أبنائه باسم عمر، كما ذكر المجلسي تحت ذكر من قتل من أهل البيت مع الحسين بكربلاء ( قتل من أبناء الحسين كما هو المشهور علي الأكبر، وعبد الله الذي استشهد في حجره، وبعضهم قالوا : أيضاً قتل من أبنائه هو عمر وزيد ) . ["جلاء العيون" للمجلسي ص582].(10/53)
ومن بعد الحسين ابنه علي الملقب بزين العابدين سمى أحد أبنائه أيضاً :عمر، كما قال المفيد في باب "ذكر ولد علي عليه السلام" : ( ولد علي بن الحسين عليهما السلام خمسة عشر ولداً (1) محمد المكنى بأبي جعفر الباقر (ع) أمه أم عبد الله بنت الحسن … (6) عمر لام ولد ) . ["الإرشاد" ص261، "كشف الغمة" ج2 ص105، "عمدة الطالب" ص194، "منتهى الآمال" ج2 ص43، "الفصول المهمة" ص209].
وأما الأصفهاني فيذكر أن عمر هذا كان من أشقاء زيد بن على من أمه وأبيه كما يقول تحت ترجمة زيد بن على : ( وزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب …. وأمه أم ولد أهداها المختار بن أبي عبيد لعلي بن الحسين فولدت له زيداً وعمر وعلياً وخديجة ……. اشترى المختار جارية بثلاثين ألفاً، فقال لها : أدبري فأدبرت، ثم قال لها : أقبلي فأقبلت، ثم قال : ما أدري أحداً أحق بها من علي بن الحسين فبعث بها إليه وهى أم زيد بن على ) . ["مقاتل الطالبين" ص127].
والجدير بالذكر أن كثيراً من أولاد عمر هذا خرجوا على العباسيين مع من خرج من أبناء عمومتهم ["وتفاصيل هذا موجودة في "المقاتل"].
وكذلك موسى بن جعفر الملقب بالكاظم - الإمام السابع لدى الشيعة - سمى أحد أبنائه : عمر ؛ كما ذكر الأربلي تحت عنوان أولاده ["كشف الغمة" ص216].
فهؤلاء الأئمة الخمسة لدى الشيعة يظهرون لعمر الفاروق ما يكنونه في صدورهم من حب وولاء حتى بعد وفاته ؛ فيسمون أبناءهم باسمه – رضي الله عنهم أجمعين - . شاهدين بفعلهم هذا على كذب ما تحوكه الشيعة من أساطير وخرافات حول العداوة بينهم ، مما لا يصدقها عاقل عرف دين وأخلاق الصحابة رضي الله عنهم .
وبعد هؤلاء : سرى هذا الاسم في أولادهم كما في كتب الأنساب والتاريخ والسير، وأورد بعضاً منها الأصفهاني في "المقاتل" والأربلي في "كشف الغمة" ، يقول الأصفهاني:(10/54)
فمن الذين خرجوا طلباً للحكم والحكومة من الطالبيين مثل يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي خرج أيام المستعين.
وعمر بن إسحاق بن الحسن بن علي بن الحسين "الذي خرج مع الحسين المعروف بصاحب فخ أيام موسى الهادي" .["مقاتل الطالبين" للأصفهاني ص456 ط بيروت].
و"عمر بن الحسن بن علي بن الحسن بن الحسين بن الحسن" ["مقاتل الطالبين" أيضاً ص446].
وغيرهم كثير ، ولكننا اكتفينا بالخمسة الأول لما لهم من مكانة عند القوم لقولهم بعصمتهم وإمامتهم .
موقف أهل البيت من عثمان رضي الله عنه:
وأما ذو النورين ثالث الخلفاء الراشدين، وصاحب الجود والحياء، حب رسول الله وزوج ابنتيه رقية وأم كلثوم، وعديم النظير في هذا الشرف الذي لم ينله الأولون ولا الآخرون في أمة من الأمم، وعديل علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، وأول مهاجر بعد خليل الله عليه السلام، الذي حمل راية الإسلام وأداها إلى آفاق لم تبلغ إليها من قبل، وفتح على المسلمين مدناً جديدة وبلاداً واسعة شاسعة، وأمد المسلمين من جيبه الخاص بإمدادات كثيرة، واشترى لهم بئر رومة حينما لم يكن لهم بئر يسقون منها الماء بعد هجرتهم إلى طيبة التي طيبها الله بقدوم صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، كما اشترى لهم أرضاً يبنون عليها المسجد الذي هو آخر مساجد الأنبياء.
ولم تكن إمداداته هذه ومساعداته لعامة المسلمين ومصالحهم ؛ مثل تجهيز جيش العسرة وغيرها فحسب ، بل كان خيراً، جواداً، كريماً، منفقاً الأموال وناثرها ،حتى على الخاصة كما كان على العامة.(10/55)
وهو الذي ساعد عليًا في زواجه، وأعطاه جميع النفقات كما يقر بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه بنفسه( إني لما تقدمت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طالباً منه زواج فاطمة قال لي : بع درعك وائتني بثمنها حتى أهيئ لك ولابنتي فاطمة ما يصلحكما، قال علي : فأخذت درعي فانطلقت به إلى السوق فبعته بأربع مائة درهم سود هجرية من عثمان بن عفان، فلما قبضت الدراهم منه وقبض الدرع مني قال : يا أبا الحسن! ألست أولى بالدرع منك وأنت أولى بالدراهم مني؟ فقلت : نعم، قال : فإن هذا الدرع هدية مني إليك، فأخذت الدرع والدراهم وأقبلت إلى رسول الله فطرحت الدرع والدراهم بين يديه، وأخبرته بما كان من أمر عثمان فدعا له النبي بخير ) . ["المناقب" للخوارزمي ص252، 253 ط نجف، "كشف الغمة" للأربلي ج1 ص359، و"بحار الأنوار" للمجلسي ص39، 40 ط إيران].
ولأجل ذلك كان ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عباس يقول: ( رحم الله أبا عمرو (عثمان بن عفان) كان والله أكرم الحفدة وأفضل البررة، هجاداً بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهاضاً عند كل مكرمة، سباقاً إلى كل منحة، حبيباً، أبياً، وفياً : صاحب جيش العسرة، خِتن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .["تاريخ المسعودي" ج3 ص51 ط مصر، أيضاً "ناسخ التواريخ" للمرزه محمد تقي ج5 ص144 ط طهران].
وقد أشهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن أشهدهم على زواج علي من فاطمة – كما سبق – حيث يروي الشيعة عن أنس ( أنه قال له عليه الصلاة والسلام : انطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان ….. وبعددهم من الأنصار، قال : فانطلقت فدعوتهم له، فلما أن أخذوا مجالسهم قال ….. إني أشهدكم أنى قد زوجت فاطمة من علي على أربعمائة مثقال من فضة ) .["كشف الغمة" ج1 ص358، أيضاً "المناقب" للخوارزمي ص252، و"بحار الأنوار" للمجلسي ج10 ص38].(10/56)
ويفتخر الشيعة بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوج عليًا إحدى بناته ، وأدخله بذلك في أصهاره وأرحامه، وهذا الذي جعلهم يقولون بأفضليته وإمامته وخلافته بعده، فكيف بمن زوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنتين من بناته ؟! وهو عثمان رضي الله عنه ، حيث تزوج رقية بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وبعد وفاتها زوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته الثانية أم كلثوم رضي الله عنها ، كما يقر ويعترف بذلك علماء الشيعة أيضاً، فها هو المجلسي يذكر ذلك في كتابه "حياة القلوب" نقلاً عن ابن بابويه القمي بسنده الصحيح المعتمد عندهم بقوله :
( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولد له من خديجة القاسم، وعبد الله الملقب بالطاهر، وأم كلثوم، ورقية، وزينب، وفاطمة، وتزوج علي من فاطمة، وأبو العاص بن ربيعة من زينب، وكان رجلاً من بني أمية ، كما تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم وماتت قبل أن يدخل بها، ثم لما أراد الرسول خروجه إلى بدر زوّجه من رقية ) . ["حياة القلوب" للمجلسي ج2 ص588 باب 51].
وأورد الحميري رواية عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : ( لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خديجة: القاسم والطاهر وأم كلثوم ورقية وفاطمة وزينب، فتزوج علي عليه السلام فاطمة عليها السلام، وتزوج أبو العاص بن ربيعة وهو من بني أمية زينباً، وتزوج عثمان بن عفان أم كلثوم ولم يدخل بها حتى هلكت، وزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكانها رقية ) . ["قرب الإسناد" ص6، 7].
وروى مثل هذه الرواية العباس القمي في "منتهى الآمال" عن جعفر الصادق، والمامقاني في "تنقيح الرجال" ["المنتهى" ج1 ص108، "التنقيح" ج3 ص73].
وأقر بذلك الشري حيث كتب :(10/57)
( وما كان عثمان دون الشيخين صحبة ولا سابقة، فهو من المسلمين الموقرين، وهو صهر الرسول مرتين، تزوج ابنة الرسول رقية، وولد له منها ولد، عبد الله توفي وعمره ست سنين وكانت أمه توفيت قبل وفاته، وزوجه النبي بنته الثانية أم كلثوم، فلم تلبث أم كلثوم معه طويلاً وتوفيت في أيام أبيها ) . [كتاب "أمير المؤمنين" لمحمد جواد الشيعي تحت عنوان علي في عهد عثمان ص256].
ولقد ذكر المسعودي تحت ذكر أولاده - صلى الله عليه وسلم - :
( وكل أولاده من خديجة خلا إبراهيم وولد له - صلى الله عليه وسلم - القاسم، وبه كان يكنى وكان أكبر بنيه سناً، ورقية وأم كلثوم، وكانتا تحت عتبة وعتيبة ابني أبى لهب (عمه) فطلقاهما لخبر يطول ذكره فتزوجهما عثمان بن عفان واحدة بعد واحده ) . ["مروج الذهب" ج2 ص298 ط مصر].
هذا ولقد شهد بذلك علي بن أبي طالب أيضاً ، حيث قال مخاطبًا عثمان : (وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب بأولى بالعمل منك، وأنت أقرب إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وشيجة رحم منهما، وقد نلت من صهره ما لم ينالا) . ["نهج البلاغة" تحقيق صبحي صالح ص234].
هذا وقد أنزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الفؤاد كما رووا عنه أنه قال ( إن أبا بكر مني بمنزلة السمع، وإن عمر مني بمنزلة البصر، وإن عثمان مني بمنزلة الفؤاد ) . ["عيون أخبار الرضا" ج1 ص303 ط طهران].
... ولقد مدحه جعفر الصادق بقوله : ( ينادي مناد من السماء أول النهار ألا إن علياً صلوات الله عليه وشيعته هم الفائزون، قال: وينادي مناد آخر النهار ألا إن عثمان وشيعته هم الفائزون ) . ["الكافي في الفروع" ج8 ص209].(10/58)
ويبين جعفر أيضاً مقام عثمان بن عفان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثقته فيه، ونيابته عنه، وإخلاص عثمان للنبي عليه السلام والوفاء والاتباع له ، كما يبين إحدى الميزات التي امتاز بها عثمان دون غيره، وهي جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى يديه لعثمان، وبيعته بنفسه عنه، وذلك في قصة صلح الحديبية حيث يقول :
( فأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : انطلق إلى قومك من المؤمنين فبشرهم بما وعدني ربي من فتح مكة، فلما انطلق عثمان لقي أبان بن سعيد فتأخر عن السرج فحمل عثمان بين يديه ودخل عثمان فأعلمهم وكانت المناوشة، فجلس سهيل بن عمرو عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلس عثمان في عسكر المشركين وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين، وضرب بإحدى يديه على الأخرى لعثمان، وقال المسلمون : طوبى لعثمان قد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ما كان ليفعل، فلما جاء عثمان قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أطفت بالبيت؟ فقال : ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يطف به، ثم ذكر القصة وما فيها ) .["كتاب الروضة من الكافي" ج8 ص325، 326].
فهل هناك طاعة فوق هذه الطاعة ؟! حيث دخل الحرم ولم يطف بالبيت لأن سيده ومولاه رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يطف به.
وذكر مثل ذلك المجلسي في كتابه "حياة القلوب" قال : ( لما وصل الخبر إلى رسول الله بأن عثمان قتله المشركون. قال الرسول : لا أتحرك من ههنا إلا بعد قتال من قتلوا عثمان ،فاتكأ بالشجرة، وأخذ البيعة لعثمان.. ثم ذكر القصة بتمامها ) . ["حياة القلوب" ج2 ص424 ط طهران].
مبايعة علي لعثمان رضي الله عنهما :(10/59)
وكان علي يرى صحة إمامته وخلافته لاجتماع المهاجرين والأنصار عليه، وكان يعد خلافته من الله رضى، ولم يكن لأحد الخيار أن يرد بيعته بعد ذلك، أو ينكر إمامته حاضراً كان أم غائباً ؛ كما قال في إحدى خطاباته رداً على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما : ( إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان لله رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى ) . ["نهج البلاغة" ص368 تحقيق صبحي].
وكان أحد الستة الذين عينهم الفاروق ليختار منهم خليفة المسلمين وأمير المؤمنين، ولما بايعه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعد ما استشار أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار، ورأى بأنهم لا يريدون غير عثمان بن عفان رضي الله عنه بايعه أول من بايعه، ثم تبعه علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
( فأول من بايع عثمان عبد الرحمن بن عوف ثم علي بن أبي طالب ) . ["طبقات ابن سعد" ج3 ص42 ط ليدن، أيضاً "البخاري" باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان].
ويذكر ذلك علي رضي الله عنه بقوله : ( فبايعتم عثمان فبايعته ) . ["الأمالي" للطوسي ج2 الجزء18 ص121 ط نجف].
وكان من المخلصين الأوفياء له، مناصحاً: مستشاراً، أو قاضياً ، كما كان في خلافة الصديق والفاروق، ولقد بوب محدثو الشيعة ومؤرخوها أبواباً مستقلة ذكروا فيها أقضية علي في خلافة ذي النورين رضي الله عنهم أجمعين.
ولقد ذكر المفيد في "الإرشاد" تحت عنوان "قضايا علي في زمن إمارة عثمان" عدة قضايا حكم بها علي ونفذها عثمان رضي الله عنه فيقول :(10/60)
( إن امرأة نكحها شيخ كبير فحملت، فزعم الشيخ أنه لم يصل إليها وأنكر حملها، فالتبس الأمر على عثمان، وسأل المرأة هل افتضك الشيخ؟ وكانت بكراً قالت : لا، فقال عثمان : أقيموا عليها الحد، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : إن للمرأة سمين سم للمحيض وسم للبول، فلعل الشيخ كان ينال منها فسال ماؤه في سم المحيض، فحملت منه، فاسأل الرجل عن ذلك؟ فسئل، فقال : قد كنت أنزل الماء في قبلها من غير وصول إليها بالافتضاض فقال أمير المؤمنين عليه السلام : الحمل له والولد ولده، ورأى عقوبته على الإنكار فصار عثمان إلى قضائه بذلك وتعجب منه ) . ["الإرشاد" ص122، 113 ط مكتبة بصيرتي قم ، إيران].
وأيضا ( إن رجلاً كانت له سرية فأولدها ثم اعتزلها وأنكحها عبداً له ثم توفي السيد فعتقت بملك ابنها لها وورث ولدها زوجها، ثم توفي الابن فورثت من ولدها زوجها فارتفعا إلى عثمان يختصمان تقول : هذا عبدي ويقول : هي امرأتي، ولست مفرجاً عنها، فقال عثمان : هذه مشكلة ، وأمير المؤمنين حاضر ، فقال عليه السلام : سلوها هل جامعها بعد ميراثها له ؟ فقالت : لا، فقال : لو أعلم أنه فعل ذلك لعذبته، اذهبي فإنه عبدك، ليس له عليك سبيل، إن شئت أن تسترقيه أو تعتقيه أو تبيعه فذلك لك ) . ["الإرشاد" ص113].
وروى الكليني عن أبي جعفر محمد الباقر أنه قال :
( إن الوليد بن عقبة حين شهد عليه بشرب الخمر قال عثمان لعلي عليه السلام : اقض بينه وبين هؤلاء الذين زعموا أنه شرب الخمر ، فأمر علي عليه السلام فجلد بسوط له شعبتان أربعين جلدة ) . ["الكافي في الفروع" ج7 ص215 باب ما يجب فيه الحد من الشراب].
وقد ذكر اليعقوبي ( أن الوليد لما قدم على عثمان، قال : من يضربه؟ فاحجم الناس لقرابته وكان أخا عثمان لأمه، فقام عليّ فضربه ) . ["تاريخ اليعقوبي" الشيعي ج2 ص165].(10/61)
ولا يكون هذا الفعل والعمل إلا ممن يقرّ ويصحّح خلافة الخليفة، ويتمثل أوامر الأمير، ويشارك الحاكم في حكمه، وكان علي بن أبي طالب وأولاده، وبنو هاشم معه، يطاوعون الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ويدل على ذلك قول علي رضي الله عنه لما أراده الناس على البيعة بعد استشهاد الإمام المظلوم ذي النورين رضي الله عنه، ( دعوني والتمسوا غيري … وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ) . ["نهج البلاغة" تحقيق صبحي صالح ص136].
ذو النورين وعلاقاته مع أهل البيت:
ويدل على العلاقة الحميمة بينهم وبين عثمان رضي الله عنهم : قبول الهاشميين المناصب في خلافته ؛ كقبول المغيرة بن نوفل بن حارث بن عبد المطلب القضاء. ["الاستيعاب"، "أسد الغابة" "الإصابة" وغيرها].
وقبول الحارث بن نوفل أيضاً ["الطبقات"، و"الإصابة"].
وقبول عبد الله بن عباس الإمارة على الحج سنة 35 .["تاريخ اليعقوبي" ج2 ص176].
وجهادهم تحت رايته، وفي العساكر والجيوش التي يسيرها ويجهزها لمحاربة الكفار وأعداء الأمة الإسلامية، فقد اشترك عبدالله بن عباس ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - في المعارك الإسلامية الواقعة في أفريقيا سنة 26 من الهجرة .["الكامل لابن الأثير" ج3 ص45].
واشترك كل من الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب في معارك برقة وطرابلس تحت قيادة عبد الله بن أبى سرح .["تاريخ ابن خلدون" ج2 ص103].
واشترك كل من الحسن والحسين وعبد الله بن عباس تحت راية سعيد بن العاص الأموي في غزوات خراسان وطبرستان وجرجان . ["تاريخ الطبري"، "الكامل لابن الأثير"، "البداية والنهاية"، "تاريخ ابن خلدون"].
وغير ذلك من الغزوات والمعارك.
وكان عثمان يهدي إليهم الغنائم والهدايا ، كما كان يبعث إليهم الجواري والخدام.(10/62)
ولقد نقل المامقاني عن الرضا - الإمام الثامن عندهم - أنه قال : ( إن عبد الله بن عامر بن كريز لما افتتح خراسان أصاب ابنتين ليزدجرد ابن شهريار ملك الأعاجم، فبعث بهما إلى عثمان بن عفان فوهب إحداهما للحسن والأخرى للحسين فماتتا عندهما نفساوين ) . ["تنقيح المقال في علم الرجال" للمامقاني ج3 ص80 ط طهران].
فكان عثمان بن عفان يكرم الحسن والحسين ويحبهما، وهما كذلك ، ويشهد لهذا أنه لما حوصر من قبل البغاة، أرسل عليّ ابنيه الحسن والحسين وقال لهما : ( اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحداً يصل إليه ) . ["أنساب الأشراف" للبلاذري ج5 ص68، 69 ط مصر].
وبعث عدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أبناءهم ليمنعوا الناس الدخول على عثمان، وكان فيمن ذهب للدفاع عنه ولزم الباب ابن عم عليّ :عبد الله بن عباس، ولما أمّره ذو النورين في تلك الأيام على الحج قال : ( والله يا أمير المؤمنين! لجهاد هؤلاء أحب إلي من الحج، فأقسم عليه لينطلقن ) . ["تاريخ الأمم والملوك" أحوال سنة 35].
بل اشترك علي رضي الله عنه أول الأمر بنفسه في الدفاع عنه ( فقد حضر هو بنفسه مراراً، وطرد الناس عنه، وأنفذ إليه ولديه وابن أخيه عبد الله بن جعفر ) . ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج10 ص581 ط قديم إيران].
( وانعزل عنه بعد أن دافع عنه طويلاً بيده ولسانه فلم يمكن الدفع ) . ["شرح ابن ميثم البحراني" ج4 ص354 ط طهران].
و( نابذهم بيده ولسانه وبأولاده فلم يغن شيئاً ) .["شرح ابن أبي الحديد" تحت "بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر"].
وقد ذكر ذلك نفسه حيث قال : ( والله لقد دفعت عنه حتى حسبت أن أكون آثما ) . ["شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد ج3 ص286].
لأن ذا النورين منعهم عن الدفاع وقال : أعزم عليكم لما رجعتم فدفعتم أسلحتكم، ولزمتم بيوتكم . ["تاريخ خليفة بن خياط" ج1 ص151، 152 ط عراق].(10/63)
( ومانعهم الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة ….. وجماعة معهم من أبناء الأنصار فزجرهم عثمان، وقال : أنتم في حل من نصرتي ) . ["شرح النهج" تحت عنوان محاصرة عثمان ومنعه الماء].
وجرح فيمن جرح من أهل البيت وأبناء الصحابة الحسن بن علي رضي الله عنهما وقنبر مولاه . ["الأنساب" للبلاذي ج5 ج95، "البداية" تحت "قتلة عثمان"].
ولما منع البغاة الطغاة عنه الماء خاطبهم عليّ بقوله :
( أيها الناس! إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، إن فارس والروم لتؤسر فتطعم فتسقي، فوالله لا تقطعوا الماء عن الرجل، وبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء مع فتية من بني هاشم ) . ["ناسخ التواريخ" ج2 ص531، ومثله في "أنساب الأشراف"، للبلاذري ج5 ص69].(10/64)
وقال المسعودي : ( فلما بلغ علياً أنهم يريدون قتله بعث بابنيه الحسن والحسين مع مواليه بالسلاح إلى بابه لنصرته، وأمرهم أن يمنعوه منهم، وبعث الزبير ابنه عبد الله، وطلحة ابنه محمداً، وأكثر أبناء الصحابة أرسلهم آباؤهم اقتداء بما ذكرنا، فصدوهم عن الدار، فرمى من وصفنا بالسهام، واشتبك القوم، وجرح الحسن، وشج قنبر، وجرح محمد بن طلحة، فخشي القوم أن يتعصب بنو هاشم وبنو أمية، فتركوا القوم في القتال على الباب، ومضى نفر منهم إلى دار قوم من الأنصار فتسوروا عليها، وكان ممن وصل إليه محمد بن أبي بكر ورجلان آخران، وعند عثمان زوجته، وأهله ومواليه مشاغل بالقتال، فأخذ محمد بن أبي بكر بلحيته، فقال : يا محمد! والله لو رآك أبوك لساءه مكانك، فتراخت يده، وخرج عنه إلى الدار، ودخل رجلان فوجداه فقتلاه، وكان المصحف بين يديه يقرأ فيه، فصعدت امرأته فصرخت وقالت: قد قتل أمير المؤمنين، فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما من بني أمية، فوجدوه قد فاضت نفسه رضي الله عنه ، فبكوا، فبلغ ذلك علياً وطلحة والزبير وسعداً وغيرهم من المهاجرين والأنصار، فاسترجع القوم، ودخل علي الدار، وهو كالواله الحزين وقال لابنيه : كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ولطم الحسن وضرب صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير ) . ["مروج الذهب" للمسعودي ج2 ص344 ط بيروت].
ثم كان هو وأهله ممن دفنوه ليلاً، وصلوا عليه كما يذكر ابن أبي الحديد المعتزلي الشيعي :
( فخرج به ناس يسير من أهله ومعهم الحسن بن علي وابن الزبير وأبو جهم بن حذيفة بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطاً من حيطان المدينة يعرف بحش كوكب وهو خارج البقيع فصلوا عليه ) . [شرح النهج لابن أبي الحديد الشيعي ج1 ص97 ط قديم إيران وج1 ص198 ط بيروت].(10/65)
وكان من حب أهل البيت له أنهم زوجوا بناتهم من أبنائه اقتداء بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - الذي زوجه ابنتيه كما سبق ، وسموا أبناءهم باسمه ، فقد ذكر المفيد أن واحداً من أبناء علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان اسمه عثمان :
( فأولاد أمير المؤمنين سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى (1) الحسن (2)الحسين …(10) عثمان أمه أم البنين بنت حزام بن خالد بن ورام ) . ["الإرشاد" للمفيد ص186 تحت عنوان "ذكر أولاد أمير المؤمنين"].
وذكر الأصفهاني أنه قتل مع أخيه الحسين بكربلاء.
( قتل عثمان بن علي وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وقال الضحاك : إن خولى بن يزيد رمى عثمان بن علي بسهم فأوهطه (أي أضعفه) وشد عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله وأخذ رأسه ) . ["مقاتل الطالبيين" ص83، "عمدة الطالب" ص356 ط النجف، و"تاريخ اليعقوبي" ج2 ص213].
فهذا هو ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه صهر رسول الله وحبيبه في الدنيا والآخرة، وحبيب أهل البيت وابن عمهم وعمتهم، وقريبهم، يحبهم ويحبونه كصاحبيه الصديق والفاروق ،
كما بيناه من كتب الشيعة أنفسهم، ومن المصادر الأصلية الموثوقة المعتمدة لديهم بذكر الصفحات والمجلدات.
ختامًا : أسأل الله أن نكون ممن قال الله تعالى عنهم ( والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ) .
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .(10/66)
مقدمة
كتب فضيلة الشيخ محمد بن عبد القادر آزاد إمام المسجد الملكي "بادشاهي مسجد " بلاهور ـ باكستان ورئيس مجلس علماء باكستان وإمام مؤتمر القمة الإسلامي الثاني المنعقد في 22 فبراير سنة 1974 م بلاهور باكستان كتب هذا الرجل رسالة إلى رؤساء الدول الإسلامية وعلماء المسلمين في كافة بقاع الأرض ، والرسالة التي كتبها هذا العالم حول الثورة الإيرانية أقرب إلى صرخة الاستغاثة لدرء الخطر الداهم الذى يوشك أن يعم العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه من جراء الثورة الإيرانية.
والرجل ذو بصيرة نافذة تعرض إلى أعماق الأمور ولا يتوقف عند ظواهر الأشياء، وقد أدرك هذا العالم ما يمكن في الثورة الإيرانية من أخطار يمكن أن يصاب بها العالم الإسلامي في الصميم، وهو بحكم مسئوليته العلمية ومنزلته الدينية ومكانته بين المسلمين صرخ بالنصيحة في هذه الرسالة صراخاً حتى تصل إلى كل أذن في أي بقعة من بقاع العالم الإسلامي حتى لا يقع تحت طائلة السكوت على الباطل وحجب النصيحة وترك الخطر يزحف على المسلمين وهم غافلون .
والرجل لم يكتب رسالته إلى حكام المسلمين وعلمائهم
ليستعديهم على الثورة الإيرانية حتى يعلنوا الحرب عليها وإنما الهدف من ذلك هو التبصير بالعيوب والأخطاء والأخطار حتى نتدارك الأمر قبل فوات الأوان عسى أن يستطيع المسلمون ـ علماء وحكام - أن يردوا الثورة الإيرانية إلى مسارها الصحيح لتكون الثورة للمسلمين لا ثورة على المسلمين ولتكون شوكة في جنت أعداء الإسلام وغصة في حلوقهم بدلاً من أن تكون شوكة في جنب الدول الإسلامية وغصة في حلوقهم ولنأخذ مكانها الطبيعي في صفوف الأمة الإسلامية في إطار الوحدة الإسلامية التي ينادي بها قادة الثورة الإيرانية وفي مقدمتهم الإمام الخميني نفسه .(11/1)
ولم يتوجه هذا العالم الجليل بهذه الرسالة إلى علماء المسلمين وحكامهم إلا بعد أن استوعب الثورة الإيرانية حقائق وأهدافاً ووسائل واتجاهات سمعاً وقراءة ومشاهدة ، وإلا بعد أن قابل قادة الثورة الإيرانية في غيران ومنهم الإمام الخميني نفسه وسمع منهم وأسمعهم وناقشهم وقدم لهم النصيحة الخالصة لوجه الله تعالى المرة بعد المرة إما مباشرة وجهاً لوجه، وإما في تقديم المتقرحات وتوجيهات المؤتمرات ولما لم يجد صدى لنصائحه مقترحاته وتوصياته ونداءاته توجه إلى رؤساء العالم الإسلامي وعلمائهم صارخاً مستغيثاً يدق أجراس الخطر دقاً عنيفاً متتابعاً ليوقظ النائمين ولينبه الغافلين عسى أن يفيقوا فيتداركوا الأمر قبل فوات الأوان .
الرسالة
يا رؤساء الدول الإسلامية وعلماء الإسلام والمسلمين في أنحاء العالم .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،، وبعد :
فإنني أبعث إليكم بهذه الرسالة الخاصة لتتفكروا في هذه الفتنة العظيمة التي قامت من رقادها لتبعث الذعر والهلع والفزع في العالم الإسلامي، لست أدري كيف يغفل علماء المسلمين وحكامهم عن هذه الفتنة الثائرة كالبركان المتفجر بالحمم الملتهبة ؟ أهي غفلة عن حقيقة هذه الفتنة أم تغافل عنها اتقاءً لشرها وابتعاداً عن نارها ؟
إن الغفلة عن الخطر تقود إلى الوقوع فيه وإن التغافل لن ينجي من الشر ولا يحمي من النار، فالغفلة والتغافل كلاهما شر مستطير، والتغافل ليس سياسة ولا كياسة ولا فطنة، فاتقاء الخطر لا يكون بالتغافل عنه ولكن يكون بمواجهة إن لم يكن هناك سبيل إلا مواجهته .
والأخوة الإسلامية وحسن الجوار يوجبان علينا تقديم النصح وتصحيح المسار ودرء الظلم ، أما التغافل والمداراة
والسكوت من الظلم فلا علاقة لها بحسن الجوار ولا بالأخوة الإسلامية .(11/2)
إن الثورة الإيرانية مضى عليها وقت كاف للحكم لها أو عليها وإني لأعجب كيف يظل علماء المسلمين ورؤساؤهم غافلين كل الغفلة- أو متغافلين كل هذا التغافل - عن هذه الفتنة الخمينية .
وأول من فهم هذه الفتنة وحقائقها وحذر منها هو الرئيس المصري الراحل " أنور السادات " وقد أصدر بياناً نشرته الجرائد العالمية في ابتداء ظهور هذه الفتنة، وقال : إن هذه الثورة التي ظهرت من بلاد فرنسا ليس ثورة إسلامية بل هي ثورة شيعية هدفها السيطرة على العالم الإسلامي، وعلى المسلمين أن يقفوا صفاً واحداً ضد هذه الثورة حتى لا تحقق أهدافها .
ثم جاء البيان الثاني من " الملك حسين " ملك الأردن، فقد أشار إلى أن هدف هذه الثورة هو القضاء على أهل السنة في أنحاء العالم الإسلامي حتى يسود النظام الشيعي في كل الدول الإسلامية ويصبح العالم الإسلامي كله تحت راية الحكم الشيعي بإيران .
يا رؤساء الدول الإسلامية وعلماء المسلمين :
لقد زرت إيران مرتين ورأيت فيها أموراً مخالفة لروح الإسلام وأهدافه وشريعته مخالفة صريحة لا لبس فيها .
فالمرة الأولى :
كانت في عيد الثورة الإيرانية الثالث في فبراير سنة 1980، وإليكم ما رأينا آنذاك :
أولا: رأينا على جدران فندق " هلتون " في طهران ثوباً أبيض كتب عليها العبارة التالية :
" سنحرر الكعبة والقدس فلسطين من أيدي الكفار "
وهذه العبارة تعني أن المملكة العربية السعودية وإسرائيل سواء بسواء في نظر الثورة الإيرانية !! فاليهود يحتلون فلسطين والقدس، والمملكة العربية السعودية تحتل الكعبة في نظرهم !! واليود والسعوديون كلاهما كفار ضد الثورة الإيرانية !! ومن هنا وجب على الثورة الإيرانية أن تحرر جميع الأماكن المقدسة من أيدي الكفار ( اليهود والسعوديون !!) (1) والفرق الوحيد بينهما عند الإيرانيين أن
______________________________(11/3)
(1) السعوديون شعب مسلم يرفع راية التوحيد والشريعة … وليس من حق أحد تكفيره أو مساواته بأعداء الله اليهود … إلا إذا كانت ثورة الخميني - وفق مبادئها - ترى المسلمين السنة كلهم - والسعوديين بالتالي - كفاراً ، وهذا ما تصرح به كتب الشيعة .
ملخص الخطاب الافتتاحي للرئيس الإيراني
قال الرئيس الإيراني " على خامنئي " في خطابه الافتتاحي:
الحمد لله لقد تحقق في إيران بفضل الثورة الخمينية - تنفيذ النظام الإسلامي، فعمت بركاته كل أنحاء إيران، وتستطيعون أن تروا أثر ذلك في الأسواق ومختلف مناحي الحياة في إيران، ولكنا -والأسف يملأ صدورنا- نرى العالم الإسلامي من حولنا حتى هذه اللحظة يخضع لسيطرة " أمريكا " أو سيطرة " الاتحاد السوفيتي " ، ومن واجب العلماء ( أئمة الجمعة والجماعات ) أن يخرجوا هؤلاء الشياطين من بلادهم .
ونحن من جانبنا قد وجهنا الدعوة إلى كل الأحزاب في البلاد الإسلامية وطالبناها أن تشعل شرارة ثورة على منهج الثورة الخمينية فتطيح بالحكام الأذناب " لأمريكا" و" روسيا" وتتولى مقاليد الحكم بنفسها دون أن تسلم زمامها إلى النظام الشيوعي أو النظام الرأسمالي .
ولكن تبين لنا مع الأسف الشديد أنهم غير قادرين على هذه المهمة الجسيمة التي لا ينهض بعبئها إلا أولو العزم من الرجال الصادقين المخلصين، وإن دعوتنا إلى الأحزاب المرتبطة بالنفوذ الأجنبي لم تجدد استجابة قط، فهم غير قادرين على إعلان الثورة على حكام بلادهم كما ثرنا نحن بقيادة الإمام " الخميني "
على شاه إيران وأخرجناه منها صاغراً ذليلاً وتولينا مقاليد الحكم في بلادنا وتخلصنا من نفوذ روسيا وأمريكا معاً .(11/4)
ولهذا نحن نعلق الآمال على علماء المسلمين ( أئمة الجمعة والجماعات ) في التخلص من الطغاة، فهم وحدهم الذين يستطيعون ذلك لأنهم هم المصلحون وهم ورثة الأنبياء الذين تستجيب الشعوب لندائهم وتثق فيهم وتسعى وراءهم وتلقي إليهم مقاليد أمرها راضية مطمئنة كما حدث في إيران .
انطلقوا أيها العلماء من هذا المؤتمر الثورة الإسلامية الإيرانية الخمينية إلى بلادكم كي تفوزوا بتخليص شعوبكم من الحكام الشياطين ومن النفوذ الأجنبي الذي يمسك برقابكم ورقاب شعوبكم، وإن تكاسلتم فلا بد أن يسألكم الله تعالى يوم القيامة، يوم الجمع الأكبر عن تقصيركم في حق أنفسكم وحق بلادكم وحق شعوبكم وحق دينكم وحق لله تعالى عليكم، فماذا يكون جوابكم يومئذ ؟!
ملخص خطاب آية الله منتظري
لم يحضر " آية الله منتظري" في هذا المؤتمر برغم أنه الداعي إليه . ويرجع عدم حضوره إلى خوفه على حياته ذلك أن قلوب الناس تشتغل غضباً عليه وتغلي مراجلها وتثور
براكينها ضده، " آية الله منتظري " هو نائب " الخميني" ولم تمنع مكانته في إيران والثورة الإيرانية من تفكير الناس في قتله لما ارتكبه في حقهم من فظائع وجرائم، ولهذا دعا كل المشاركين في المؤتمر من الأئمة والخطباء إلى بيته في "قم " .
وخطب فيهم مراراً نفس الأفكار والمعاني التي يرددها من قبله رئيس الدولة الإيراني، وكرر الدعوة إلى الأئمة والخطباء بأن يذهبوا إلى بلادهم بالثورة الإيرانية الخمينية ويقودوا حركة تغيير حكوماتهم فوراً ، فهذا هو واجب العلماء الأول الذي سيسألون عنه أما الله تعالى يوم القيامة، ومن قصر في هذا فقد قصر في فريضة واجبة سيكون الحساب عليها يوم القيامة عسير، ولن يجدوا لهم جواباً مقبولاً ولا عذراً مستساغاً .
ملخص خطاب آية الله قمي آذري مندوب الحاضر العلمية قم(11/5)
كان خطاب "آية الله قمي آذري" يتعلق بالوعود الفضفاضة لأئمة الجمعة والجماعات فيما إذا قادوا الثورة ضد حكوماتهم، ولقد تعمد أن يكون خطابه في جميع المشاركين في المؤتمر حتى يكون بلاغه إليهم بلاغاً مباشراً ليطمئنوا إلى أن إيران سوف تمد لهم يد العون المادي والمعنوي وأنهم سوف يعينونهم
بل يضمنون لهم تولي المناصب الكبرى، ومن مات فلأولاده من بعده رزقهم وكسوتهم ومأواهم وضمان مستقبلهم، ومن أخفقت ثورته فهم سنده وظهره وملاذه وملجؤه، فلا خوف إذاً من الإقدام على الثورة ضد الحكومات القائمة بالفعل .
قال: أيها العلماء لا تخافوا من أمر تدبير الموارد المالية التي تساعدكم على قيادة الثورات الخمينية في بلادكم فقد أعددنا صندوقاً للمعونات المالية من إيراد البترول الإيراني بمعدل إيراد يوم في الأسبوع لمساعدة من يعمل على الإطاحة بحكومة بلاده من العلماء، ومن أصيب منكم أيها العلماء، وهو في ثورته على حكام بلاده فنحن على استعداد أن نرسل لكم ولعيالكم ولإداراتكم كل المعونة اللازمة لكم .
إن هذه المعونة لازمة للثورة وضرورية لنجاحها، ونحن نضمنها لكم، ونضمن لكم أيضاً أن تتولوا حكم بلادكم بعد الإطاحة بحكوماتكم الفاسدة العميلة !!
مخلص خطاب آية الله الخميني
اجتمع " آية الله الخميني " مع جميع الأعضاء المشاركين في المؤتمر في بيته المسمى ( حسينية حماران ) في طهران وخطب فيهم مردداً نفس كلام الرئيس الإيراني" آية الله منتظري"
بل قل إن شئت آية الله للرئيس الإيراني " على خامنئي " ونائب الخميني " آية الله منتظري " كانا يرددان أفكار الخميني وآراءه".(11/6)
قال الإمام الخميني لأئمة الجمعة والجماعات: اذهبوا إلى بلادكم بهذه الثورة الإسلامية، وأنا أريد منكم أن تخطبوا أول خطبة جمعة ضد حكوماتكم وتثيروا شعوبكم ضد هذه الحكومات وضد الحكومة الأمريكية، فإن فعلتم ذلك فقد أديتم حق الله عليكم وبرئت ذمتكم من تبعه السكوت على هذه الحكومات الظالمة الفاسدة العميلة وإن أخفق مسعاكم وتعرضتم للتعذيب والسجن والقهر برهنتم على صدق إيمانكم، وإن لم تفعلوا فأنتم منافقون!!
وقد خطب في هذا المؤتمر خطباء آخرون من إيران، ورددوا نفس الكلام ونفس الدعوة ضد حكومات المسلمين عامة وضد العراق والمملكة العربية السعودية خاصة .
وهكذا اتضحت أهداف هذا المؤتمر الذي أقاموا لأئمة الجمعة والجماعات، إنهم أرادوا أن يستخدموا هؤلاء العلماء أدوات لتحقيق مآربهم للوصول إلى أغراضهم بعروض مالية من بترول الشعب الإيراني ووعود زائفة بالتمكن من الحكم
والمناصب الكبرى فهل سوف تسلم لهم الثورة الإيرانية بقيام حكومة سنية يحكمها علماء أهل السنة أو أنها سوف تفرض عليهم التبعية الكاملة للنظام الإيراني وتفرض عليهم وعلى شعوبهم المذهب الشيعي في مقابل المساعدات المالية والوصول إلى كراسي الحكم ؟!
إن دعوتهم كانت صريحة واضحة في كل الخطب: المطلوب قيام ثورة خمينية في كل بلاد المسلمين ، أي المطلوب أن يسود المذهب الشيعي بلاد المسلمين، والثمن إيراد يوم من كل أسبوع من بترول الشعب الإيراني !!(11/7)
وحتى يستطيع المؤتمر أن يحقق أهدافه أعدوا نظاماً صارماً لإحكام السيطرة الكاملة على المشاركين في المؤتمر، فلا أحد يخرج من قاعة المؤتمر من المشاركين فيه ولا أحد يدخل عليهم من غير المشاركين في المؤتمر، بل لا يستطيع أحد أن يخرج من الفندق ويتجول في الشوارع أو الأسواق أو يقابل صديقاً أو حتى قريباً، ولقد سمعت أن سفير " ماليزيا" في طهران ذهب إلى مطار طهران لاستقبال الوفد الماليزي فحيل بينه وبين الوفد ورده مسئولو المطار من غير أن يتمكن من مقابلة الوفد .
ومضى هذا أن جميع المشاركين في المؤتمر كالأسرى،
شأنهم شأن الشعب الإيراني كله الذي يعيش في الأسر داخل بلده إيران !!
ولأن الأسير يحيا حياة مهينة ذليلة ولأنه يحيا غريباً حتى ولو كان بين أهله وذويه فإن لا يمكن مع هذه الحالة أن يكون له ولاء لأسرة، وإذا افتقد الولاء افتقد العطاء وقل الإنتاج، وهذه هي حالة الشعب الإيراني الآن، فالاقتصاد الإيراني كان على درجة من القوة يعرفها خبراء الاقتصاد ويلمسها الرجل العادي إذا تجول في أنحاء إيران، ولكن ماذا ترى الآن بعد سنوات قليلة من قيام الثورة الخمينية ؟
إن التجارة الآن ليست هي التجارة التي كانت، فما أبعد الفرق بين الرواج الذي كانت عليه التجارة في إيران والكساد الذي تعيشه الآن (1) .
والصناعة تقهقرت إلى الوراء بسرعة تردي الصخور الضخمة من شاهق جبل .
والتعليم لم يعد كما كان، فالمبالغ المخصصة له تضاءلت، والشباب الصغير وجه وجهة أخرى غير العلم والتعليم ، فقد
ساقوه إلى الحروب ليكون وقود أطماع الثورة الإيرانية .
ومن الطبيعي تبعاً لذلك أن تنخفض قيمة العملة الإيرانية انخفاضاً لا مثيل له من قبل .(11/8)
والحاجات اليومية الضرورية للشعب الإيراني وفي مقدمتها المواد الغذائية فقد أصبحت على حالة من الندرة لم يسبق لها مثيل، وإنه لا يستطيع أحد الحصول على ضروريات الحياة إلا بعد ضياع يوم أو نصفه وقوفاً في الصفوف الطويلة انتظاراً لدوره، ولا بد من مثل هذه الأحوال من اختفاء السلع والمضاربة عليها وارتفع أسعارها ارتفاعاً فاحشاً .
وقد حتمت ندرة السلع واختفاؤها قادة الثورة الإيرانية أن يضعوا في كل حارة مندوباً للخميني يرجع إليه من يريد الحصول على ما يحتاج إليه ويحصل على إذن منه وهذا باب خبيث للتحكم في الناس عن طريق التحكم في الأقوات نقلته الثورة الإيرانية من النظام الشيوعي (2) ، وكأنه قدر على علماء
إيران وآيات الله فيها أن يأخذوا أسوأ ما في النظام الشيوعي وأسوأ ما في النظام الأمريكي للتحكم المطلق في الشعب الإيراني ومطاردة المعارضين لهم وتعذيبهم وإهدار دمائهم إذا دعت الضرورة إلى ذلك !!
ولم تستبيح في إيران حرمات المسلمين " السنة " وحدهم وإنما استبيحت أيضا حرمات المساجد.
أما مساجد أهل السنة فمنها ما هدم ومنها ما أطلق الرصاص على المصلين فيه، وأما مساجد أهل الشيعة فإن آيات الله يدخنون فيها السجائر كما سبق أن ذكرنا ويعلقون فيها صور الخميني وصور آيات الله الآخرين، وقد قلت لبعض علماء إيران: لو استوليتم - لا قدر الله - على المسجد الحرام - هذا هدف معلن لثورتكم - والمسجد النبوي، فهل ستعلقون في داخلهما صور الخميني والآيات الأخرى كما تفعلون في مساجد إيران ؟ قالوا: نعم ليس في هذا من حرج، نحن نذهب بهذه الصور، إلى كل المساجد ولا يختلف الحرمان الشريفان عن أي مسجد من المساجد في هذا الأمر عندنا .(11/9)
فقلت لهم: لا حقق الله لكم أمنية لا نفذ لكم رغبة في شأن الحرمين الشريفين أو غيرهما لأنكم تريدون أن تدخلوا الصور والتماثيل في بيت الله الحرام مرة أخرى كما فعل مشركو مكة من قبلكم، فقالوا: أنتم لا تفهمون أساليب الثورة الإيرانية .
( ونحن نحمد الله تعالى على هذا الجهل بأساليب الثورة الإيرانية ) !!
والواقع أننا ما رأينا أثراً للإسلام في الشوارع الإيرانية
ولا في الأسواق الإيرانية . فالإسلام بعيد كل البعد عن حركة الحياة اليومية في إيران، وهذا متناقض لمزاعمهم أن الإسلام قد عاد إلى الحياة الإيرانية في كل مدينة وقرية وحارة .
أما الزنا فإنا لا نزعم انتشاره في إيران بصورته المعروفة، وهذه المسألة يصعب الخوض فيها حتى لا نكون ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وما يذاع ويشيع عن هذه الأمور لا ينبغي أن يقوم عليه حكم أو يؤسس عليه تحور. ولكنه من ناحية أخرى موجود في إيران ومنتشر جداً - في رأي جميع علماء أهل السنة - في صورة ( نكاح المتعة) وهو نكاح لا تقوم به أسر ولا تبنى به بيوت ولا يعرف له استقرار وإنما هو نكاح لقضاء الشهوة وحدها وليس هذا هو الهدف الأول من النكاح في الإسلام، وفي كثير من البيوتات تنتشر الخمور، وتنتشر في بعض الفنادق .
وحكومة آيات الله العظمى مشغولة عن هذا كله أو هي تغض الطرف عن هذا كله في الوقت الذي تعلن فيه ليل ونهار أن إيران تعيش الإسلام وتطبق الإسلام وتحيا بالإسلام .
إن هذه الحكومة قد اكتفت بالقبضة السياسية الحديدية والاستيلاء على إيراد بترول إيران تاركه الشعب يتضرر جوعاً ويفعل ما يشاء حينما يشاء ، ولهذا غادر إيران كثيرون نجاة
بأنفسهم وبدينهم وفراراً من ظلم الخميني وجبروته، وحتى لا يقال لهم يوم القيامة :( فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها )) (3) .(11/10)
ونتيجة لهذا كله امتلأ الشارع الإيراني غيظاً، وفي كل مكان من إيران تغلي المشاعر وتفور وتترقب لحظة الانتقام من ( آية الله الخميني) ومن آيات الله العظمى، ولهذا لا يستطيع الخميني أن يخرج من بيته قدماً أو قدمين خوفاً على حياته وكذلك نائبه( آية الله منتظري ) .
والبيت الذي يسكن فيه الخميني محاط من كل جوانبه ولمسافة ميلين من كل جانب بحراسة مشددة، ولو كان الخميني محبوباً لدى شعبه كما يزعم فلماذا لا يحتمي بحب الناس له ؟ ولماذا يتخذ له حراسة مشددة على هذه الصورة ؟ إلا ما أبعد الفرق بين المزاعم والحقائق !!
والحكومة الإيرانية تقوم بين الحين والحين يعمل مؤتمرات في الدول الأخرى دون إذن من حكومات هذه الدول، وهذه أمور مخالفة لأبسط قواعد الذوق ومخالفة الأمر الدين الإسلامي . وليس من الإسلام أن يدخل الإنسان بيتاً من البيوت إلا بعد أن
يستأذن من أهله ، بل حتى يستأنس ويسلم فلا يكفي الإذن المجرد وإنما يجب أن يكون هناك استئناس بك وبشاشة في الوجه والسرور باللقاء ، بل إن ما تقيمه حكومة آيات الله العظمى في البلاد الإسلامية من مؤتمرات بدون إذن حكومات هذه الدول ليعد اعتداءً قانوناً صريحاً على حقوق هذه الدول، وما أظن أن هناك قانوناً دولياً يجيز هذا، ولكن يبدو أن حكومة الثورة الخمينية لا تقيم وزناً للذوق العام ولا للعرف ولا لتعاليم الدين الإسلامي ولا للقانون الدولي، فهي - فيما يبدو- في نظر نفسها فوق هذا كله .
______________________________
(1) ولا يعني هذا أننا نتعاطف مع عهد الطاغية شاه إيران، ولكن الخطأ لا يصحح بالخطأ وقد كان المأمول أن تتفرغ الثورة الإيرانية لبناء شعبها وتقديم نموذج . . وليس القتل .
(2) وممارسة الأحزاب والجماعات الحاكمة في البد العربية الثورية التقدمية إلى الخلف !!
(3) النساء الآية:97 .
ومن المؤتمرات التي أقامتها بدون إذن حكومات البلاد
1- مؤتمر الحج في الهند عام 1402هـ .(11/11)
2- المؤتمر الإسلامي في بنجلاديش عام 1403هـ .
وفي هذه المؤتمرات يحضر بعض العلماء الإيرانيين ليحرضوا المشاركين في هذه المؤتمرات على الثورة ضد الحكومات الإسلامية عام والمملكة العربية السعودية خاصة يحدث هذا في الوقت الذي تعلن فيه إيران ليل ونهار أنها حريصة على وحدة الأمة الإسلامية، وأنها نبح صوتها من دعوة المسلين إلى الوحدة وتتباكى وتتأسف لأن البلاد الإسلامية لا تستجيب لدعوتها لأنها لا تريد الوحدة الإسلامية !! ( فإن لله وإنا إليه راجعون ) .
ومن منطلق إيماني بالله وواجبي نحو المسلمين عامة نهضت بما ينبغي أن أنهض به عندما انتخبت نائباً لرئيس لجنة الاقتراحات في المؤتمر العالمي لأئمة الجمعة والجماعات فعارضت أهداف هذا المؤتمر، وناقشت في هذه اللجنة أمور ؟ شتى، كما قدمت اقتراحات متعددة نلخصها فيما يلي :
أولاً: سألت الطريقة تفتتون وحدة المسلمين وتفسدون في الأرض ولا تصلحون .
ثانياً: ضرت المثل بقرار الحكومة الإيرانية باعتقال جميع علماء السنة الذين قاوموا هذه الثورة الظالمة مثل العلامة " ضيائي " ومفتي " أحمد زاده " وهؤلاء من كبار علماء أهل السنة في إيران ، حتى المرجع الديني الشيعي آية الله ( شريعة مداري ) لم يسلم من الأذى فحبس في بيته هو أضرابه ومنعوا من الخروج واللقاء مع الناس واتهموه بالنفاق .
ثالثاً: رغم إعلان الحومة العراقية في الأمم المتحدة وفي مؤتمر دول الانحياز انسحاب جيوشها من الأراضي الإيرانية
التي احتلتها رغم كونها منتصرة في جميع ميادين القتال فإن الحكومة الإيرانية مازالت تشن الهجوم على العراق وتصر على القتال من طرق واحد وبهذا تتحمل إيران مسئولية دماء المسلمين المراقة من الطرفين .(11/12)
رابعاً: إن تنصيب إيران " لباقر حكيم " رئيساً لمجلس الثورة العراقية ومواصلة إيران للحرب في منطقة مندلي بهدف تغيير الحكومة العراقية الحالية وقيام حكم جديد في العراق معناه رغبة غيران في ابتلاع العراق وضم أرضه إلى إيران وهي سياسة توسعية لا يقرها العرف القانون الدولي .
خامساً: إن تدريب الأسرى العراقيين في سجون إيران بقيادة الحرب الأهلية بين السنة والشيعة داخل العراق، ومن ثم مدها إلى دول الخليج وسائر الدول العربية والإسلامية .
سادساً: إن الحكومة الإيرانية الحالية تهدف إلى السيطرة على العالم الإسلامي بأسره لا سيما العراق والسعودية ودول الخليج وباكستان .
سابعاً: وجهت الحكومة الإيرانية إلى الجنود الإيرانيين من أهل السنة تهمة الخيانة واعتبرتهم بغاة وعصاه ومن أعوان
الشاه وحكمت عليهم بالإعدام، وهذا أمر خطير يعوق وحدة الأمة الإسلامية ويفرق كلمتها ويزيد من تمزقها .
ثامناً: عندما رأينا السلاح الإسرائيلي في يد الجنود الإيرانيين ازداد يقيننا أن هذه الثورة قامت لقتل المسلمين وتمزيق وحدتهم .
تاسعاً: إذا كان الخميني مخلصاً في دعوته لوحدة الأمة الإسلامية فعليه أن يعلن على رؤوس الأشهاد أن أبا بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين كانوا مسلمين، وأن على كل مسلم - سني أو شيعي - أن يحترمهم احتراماً كاملاً لا يقل عن احترام على بن أبي طالب رضي الله عنه وبذلك تضيق الفجوة بين السنة والشيعة .
الحادي عشر: منذ ثلاث سنوات وعد الخميني في لقاء مع وفد أهل السنة برئاسة " بزاهدان" بإعطاء قطعة أرض يشاد عليها مسجد لأهل السنة في طهران ورغم دفع ثمنها فقد أصدر أمراً باغتصاب الثمن المدفوع والسجن لمن سدد هذا الثمن، ورغم مطالبتي للخميني في العام الماضي بإنجاز وعده لأهل(11/13)
السنة فوجئت في المؤتمر الذي حضرته هذا العام يقول بعض أنصاره : لو أعطينا قطعة الأرض ليقام عليها المسجد لأهل السنة فإنه يصبح ( مسجداً ضراراً ) .
الثاني عشر: اعتاد أهل السنة منذ عشر سنوات إقامة صلاة العيدين في ميدان عام في طهران، ولكن العام بعد أن منحوا التصريح الرسمي بالصلاة في عيد الفطر، وتجمع المصلون حضرت قوات الشرطة وفرقت المصلين باستخدام الهراوات والعصى . الثالث عشر: يقول أهل السنة والشيعة بحرق الكتب التي تتضمن السب في عقائد الطرف الآخر تعبيراً عن حسن النوايا، وذلك بتأثير الضغوط الشيعية القاهرة ...
الرابع عشر: نظراً لأن أهل السنة يبلغون (33 في المائة) من سكان إيران وتبلغ نسبة الشيعة ( 67 في المائة ) من سكان إيران لهذا نقترح من أجل والوحدة الأمة أن يتولى علماء الشيعة خطبة الجمعة لمدة ( 3 جمع ) في كل شهر في المسجد الجامع بطهران، أما الجمعة الرابعة فيقوم بالخطابة فيها إمام أهل السنة وذلك في الميدان العام الذي تقام فيه صلاة الجمعة في مدينة طهران لجميع سكانها .
الخامس عشر: ضرورة تمثيل أهل السنة في الوزرات
الإيرانية والبرلمان والإدارات الحكومية والمجالس العليا والمحلية والشرطة والجيش حيث إنهم محرومون كلية من هذه المناصب والوظائف اللهم إلا بنسبة ضئيلة جداً . السادس عشر: صدر دستور الجمهورية الإسلامية متضمناً أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام وأن المذهب الرسمي هو المذهب الاثنى عشري ومن ثم يتضمن أن يكون كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء من المسلمين سواء كان شيعياً أم من أهل السنة وبذلك تكون هذه الثورة ثورة إسلامية . ولو من الناحية الرسمية ...
وقد قلت لهم: إذا قام الإمام الخميني بتنفيذ هذه الاقتراحات فإن شعوب العالم الإسلامي سوف ترى في الإمام الخميني رجل وحدة الأمة الإسلامية .(11/14)
وإن لم يقم الإمام الخميني بتنفيذ هذه الاقتراحات فسوف يفهم جميع مسلمي العالم بأن الثورة الإيرانية ليست ثورة إسلامية بل هي ثورة شيعية أو ( ثورة الشيعة ) فقط. وبعد أن قدمت هذه الاقتراحات أمام الجنة انقسمت الجنة ثم حلت اللجنة، وقال أعوان الخميني إن الشيخ ( محمد عبد القادر آزاد) من جواسيس السعودية ومن المنافقين .
وقد ازداد النزاع بيني وبين المنظمين للمؤتمر بعد ذلك وذهبت شخصياً إلى جميع غرف علماء أهل السنة وأهل
التشيع في الفندق وتكلمت معهم موضحاً جميع الحقائق حول الثورة الخمينية وطابعها، والحمد الله فقد فهم بعض العلماء كلماتنا وعندما حان موعد إعداد البيان المشترك كان معنا مائة من علماء أهل السنة ولم يوقعوا على أي بيان آخر خاصة الذي يتضمن التوصية التاسعة التي تنادي ( بوقاحة) بتخليص الحرمين الشريفين من الحكم السعودية والحكومة السعودية .
وبذلك فشل هذا المؤتمر بعون الله تبارك وتعالى وبتوفيقه. ولكن الخميني مازال يسعى للإفساد في جميع دول الإسلام ويسعى لاغتيال سائر رؤساء الدول الإسلامية ويتمنى أن تنصبه ( خليفة الله ) في العالم الإسلامي .. ولا خلافة لله في الإسلام اللهم إلا الخلافة العامة للإنسان على الأرض .
خلاصة أفكار الخميني
1- يقول الخميني: إن رؤساء الدول الإسلامية كلهم غير مسلمين إلا ( حافظ الأسد ) وإنه قد كتب بيده خطابا موجهاً إلى (أنديرا غاندي ) وذكر فيه أن ( مهاتما غاندي ) رئيس الهنودكية سابقاً كان المبلغ الأول لتعليمات سيدنا علي رضي الله عنه في الهند !!، وأنه يعتز بصلاته مع الهندوكية في الهند، !! وقد طبع هذا الخطاب في الجرائد العالمية .
2- وقد طبع بيان الخميني في ( طهران تايمز) الذي قال فيه إن محمداً قد فضل في هداية الشعوب العربية!! ( والعياذ بالله) وسينجح الإمام المهدي في هداية الإنسانية !! (1) .(11/15)
3- وقد طبع بيان الخميني في جرائد العالم، وهو البيات الذي قال فيه: الإيمان والجهاد في عساكره أكثر من الإيمان والجهاد في عساكر سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وعساكر سيدنا علي رضي الله عنه .
4- كما طبع بيانه في جرائد العالم الذي قال فيه أن جسد
علي رضي الله عنه منذ انتقل من النجف الأشرف، والإمام الحسين من كربلاء، وقد استقر في " قم " وذلك لأجل الخميني .
5- وقد جاء الخميني بعقيدة لا أصل لها في مذهب الشيعة وهي عقيدة ( ولاية الفقيه ) والتي ستنتهي بإقامة حكومة الجبابرة .
فيا رؤساء الدول الإسلامية ويا علماء الأمة الإسلامية:
( لا بد لكم أن تفكروا في خطر هذه الفتنة الكبرى، وأن تجتمعوا لتقاوموا الفتنة الخمينية، وإلا حكمتكم ثورات انقلابية شيعية، وعاد ( القرامطة ) يقتلون شعوبكم حول الكعبة ... ويومئذ ربما لا يعود الحجر الأسود مرة أخرى ... إلى يوم القيامة ! ) .
والله على ما أقول شهيد .
محمد عبد القادر آزاد
رئيس مجلس علماء باكستان
الإمام الأكبر " بادشاهي مسجد بلاهور"
إمام مؤتمر القمة الإسلامي الثاني 22/فبراير 1974م بلاهور
______________________________
(1) انظر في هذا الكتاب " صورتان متضادتان " للشيخ أبو الحسن الندوي، وكتاب " الثورة الإيرانية في ميزان الإسلام" لمحمد منظور النعماني .(11/16)
الفرق بين الفِرق
تأليف
صدر الإسلام، الأصولي ، العالم، المتفنن
عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي،
الإسفرائني ، التميمي المتوفى
في عام 429 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله فاطر الخلق وموجده ومظهر الحق ومنجده الذي جعل الحق وزرا لمن اعتقده وعمرا لمن اعتمده وجعل الباطل مزلا لمن ابتغاه ومذلا لمن اقتضاه والصلاة والسلام على الصفوة الصافية والقدوة الهادية محمد وآله خيار الورى ومنار الهدى. سألتم أسعدكم الله مطلوبكم شرح معنى الخبر المأثور عن النبي في افتراق الامة ثلاثا وسبعين فرقة منها واحدة ناجية تصير الى جنة عاليه وبواقيها عادية تصير الى الهاوية والنار الحامية وطلبتم الفرق بين الفرقة الناجية التي لا يزل بها القدم ولا تزول عنها النعم وبين فرق الضلال الذين يرون ظلام الظلم نورا واعتقاد الحق ثبورا وسيصلون سعيرا ولا يجدون من الله نصيرا.
فرأيت إسعافكم بمطلوبكم من الواجب في إبانة الدين القويم والصراط المستقيم وتمييزها من الأهواء المنكوسة والآراء المعكوسة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من يحيا عن بينة فأودعت مطلوبكم مضمون هذا الكتاب وقسمت مضمونه خمسة ابواب هذه ترجمتها:
باب في بيان الحديث المأثور في افتراق الأمة ثلاثا وسبعين فرقة
باب في بيان فرق الأمة على الجملة ومن ليس منها على الجملة
باب في بيان فضائح كل فرقة من فرق الاهواء الضالة
باب في بيان الفرق التي انتسبت الى الاسلام وليست منها
باب في بيان الفرقة الناجية وتحقيق نجاتها وبيان محاسن دينه فهذه جملة ابواب هذا الكتاب وسنذكر في كل باب منها مقتضاه على شرطه إن شاء الله تعالى.
{الباب الاول}:
في بيان الحديث المأثور في افتراق الأمة(12/1)
أخبرنا أبو سهل بشر بن أحمد بن بشار الإسفراءينى قال أخبرنا عبد الله بن ناجية قال حدثنا وهب بن بقية عن خالد ابن عبد الله عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله {افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة}.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن على بن زياد السميذى العدل الثقة قال أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال حدثنا الهيثم بن خارجة قال حدثنا إسماعيل بن عباس عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله {ليأتين على أمتى ما أتى على بنى إسرائيل تفرق بنو اسرائيل على اثنتين وسبعين ملة وستفترق امتى على ثلاث وسبعين ملة تزيد عليهم ملة كلهم في النار الا ملة واحدة قالوا يا رسول الله من الملة الواحدة التي تنقلب قال ما أنا عليه وأصحابي}.
أخبرنا القاضي أبو محمد عبد الله بن عمر المالكي قال حدثنا أبي عن أبيه قال حدثنا الوليد بن مسلمة قال حدثنا الاوزاعي قال حدثنا قتادة عن انس عن النبي قال {إن بنى إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن امتى ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهى الجماعة}.
قال عبد القاهر للحديث الوارد في افتراق الامة أسانيد كثيرة وقد رواه عن النبي جماعة من الصحابة كأنس بن مالك وأبي هريرة وأبي الدرداء وجابر وأبي سعيد الخدري وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي امامة ووائله بن الاسقع وغيرهم.
ما روي عن الصحابة من ذم بعض الفرق
وقد روى عن الخلفاء الراشدين أنهم ذكروا افتراق الامة بعدهم فرقا وذكروا أن الفرقة الناجية منها فرقة واحدة وسائرها على الضلال في الدنيا والبوار في الآخرة.
وروى عن النبي ذم القدرية وأنهم مجوس هذه الامة وروى عنه ذم المرجئة مع القدرية وروى عنه أيضا ذم المارقين وهم الخوارج.(12/2)
وروى عن أعلام الصحابة ذم القدرية والمرجئة والخوارج المارقة وقد ذكرهم على رضى الله عنه في خطبته المعروفة بالزهراء وبرىء فيها من اهل النهراوان.
وقد علم كل ذي عقل من أصحاب المقالات المنسوبة الى أن النبي عليه السلام لم يرد بالفرق المذمومة التي أهل النار فرق الفقهاء الذين اختلفوا في فروع الفقه مع اتفاقهم على اصول الدين لان المسلمين فيما اختلفوا فيه من فروع الحلال والحرام على قولين:
أحدهما قول من يرى تصويب المجتهدين كلهم في فروع الفقه وفرق الفقه كلها عندهم مصيبون.
والثاني قول من يرى في كل فرع تصويب واحد من المتخلفين فيه وتخطئة الباقين من غير تضليل منه للمخطىء فيه.
بيان مراد الرسول من ذكر الفرق المذمومة
وإنما فصل النبي عليه السلام بذكر الفرق المذمومة فرق أصحاب الأهواء الضالة الذين خالفوا الفرقة الناجية في ابواب العدل والتوحيد أو في الوعد والوعيد أو في بابى القدر والاستطاعة أو في تقدير الخير والشر أو في باب الهداية والضلالة أو في باب الإرادة والمشيئة أو في باب الروية والإدراك أو في باب صفات لله عز وجل وأسمائه وأوصافه أو في باب من أبواب التعديل والتجويز أو في باب من أبواب النبوة وشروطها ونحوها من الابواب التي اتفق عليها أهل السنة والجماعة من فريقى الرأى والحديث على أصل واحد خالفهم فيها أهل الأهواء الضالة من القدرية والخوارج والروافض والنجارية والجهمية والمجسمة والمشبهة ومن جرى من فرق الضلال فان المختلفين في العدل والتوحيد والقبور والاسلاف متحدو الروية والصفات والتعديل والتجويز وفى شروط النبوة والإمامة يكفر بعضهم بعضا.
فصح تأويل الحديث المروى في افتراق الأمة ثلاثا وسبعين فرقة الى هذا النوع من الاختلاف دون الانواع التي اختلفت فيها ائمة الفقه من فروع الاحكام في أبواب الحلال والحرام أو ليس فيما بينهم تكفير ولا تضليل فيما اختلفوا فيه من احكام الفروع.(12/3)
وسنذكر الفرق التي رجع اليهم تأويل الخبر المروى في افتراق الامة في الباب الذي يلى ما نحن فيه إن شاء الله عز وجل.
{الباب الثاني من أبواب هذا الكتاب}:
في كيفية افتراق الامة ثلاثا وسبعين
وفى ضمنه بيان الفرق الذين يجمعهم اسم ملة الاسلام في الجملة. ويقع في هذا الباب فصلان:
أحدهما في بيان المعنى الجامع للفرق المختلفة في اسم ملة الاسلام في الجملة والفصل.
الثاني في بيان كيفية اختلاف الامة وتحصيل عدد فرقها الثلاث وسبعين وسنذكر في كل واحد من هذين الفصلين مقتضاه ان شاء الله عز وجل
{الفصل الاول}:
في بيان المعنى الجامع للفرق المختلفة في اسم ملة الاسلام
على الجملة قبل التفصيل
اختلف المنتسبون الى الاسلام في الذين يدخلون بالاسم العام في ملة الاسلام.
فزعم أبو القاسم الكعبى في مقالاته أن قول القائل امة الاسلام تقع على كل مقر بنبوة محمد وان كل ما جاء به حق كائنا قوله بعد ذلك ما كان.
وزعم قوم أن أمة الإسلام كل من يرى وجوب الصلاة الى جهة الكعبة وزعمت الكرامية مجسمة خراسان أن امة الاسلام جامعة لكل من أقر بشهادتي الاسلام لفظا وقالوا كل من قال لا اله الا الله محمد رسول الله فهو مؤمن حقا وهو من أهل ملة الاسلام سواء كان مخلصا فيه أو منافقا مضمر الكفر فيه والزندقة ولهذا زعموا أن المنافقين في عهد رسول الله كانوا مؤمنين حقا وكان ايمانهم كايمان جبريل وميكاءيل والانبياء والملائكة مع اعتقادهم النفاق وإظهار الشهادتين.(12/4)
وهذا القول مع قول الكعبى في تفسيراته الاسلام ينتقض بقول العيسوية من يهود أصبهان فانهم يقرون بنبوة نبينا محمد وبأن كل ما جاء به حق ولكنهم زعموا انه بعث الى العرب لا الى بنى اسرائيل وقالوا ايضا محمد رسول الله وما هم معدودين في فرق الاسلام وقوم من موشكانية اليهود حكوا عن زعيمهم المعروف بشاركان أنه قال أن محمدا رسول الله الى العرب والى سائر الناس ما خلا اليهود وأنه قال أن القرآن حق وكل الاذان والإقامة والصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج الكعبة كل ذلك حق غير أنه مشروع للمسلمين دون اليهود وربما فعل ذلك بعض الشاركانية قد أقروا بشهادتي أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله واقروا بأن دينه حق وما هم مع ذلك من أمة الاسلام لقولهم بان شريعة الاسلام لا تلزمهم.
وأما قول من قال ان اسم ملة الاسلام امر واقع على كل من يرى وجوب الصلاة الى الكعبة المنصوبة بمكة فقد رضى بعض فقهاء الحجاز هذا القول وأنكره أصحاب الرأى لما روى عن أبي حنيفة أن صحح إيمان من أقر بوجوب الصلاة الى الكعبة وشك في موضعها وأصحاب الحديث لا يصححون إيمان من شك في موضع الكعبة كما لا يصححون إيمان من شك في وجوب الصلاة الى الكعبة.
والصحيح عندنا أن أمة الاسلام تجمع المقرين بحدوث العالم وتوحيد صانعه وقدمه وصفاته وعدله وحكمته ونفى التشبيه عنه وبنبوة محمد ورسالته الى الكافة وبتأييد شريعته وبأن كل ما جاء به حق وبأن القرآن منبع أحكام الشريعة وأن الكعبة هي القبلة التي تجب الصلاة اليها فكل من أقر بذلك كله ولم يشبه ببدعة تؤدى الى الكفر فهو السنى الموحد.(12/5)
وأن ضم الى الاقوال بما ذكرناه بدعة شنعاء نظر: فإن كان على بدعة الباطنية أو البيانية أو المغيرة او الخطابية الذين يعتقدون إلهية الائمة او إلهية بعض الأئمة او كان على مذاهب الحلول أو على بعض مذاهب اهل التناسخ او على مذهب الميمونية من الخوارج الذين أباحوا نكاح بنات البنات وبنات البنين أو على مذهب اليزيدية من الاباضية في قولها بان شريعة الاسلام تنسخ في آخر الزمان أو أباح ما نص القرآن على تحريمه أو حرم ما أباحه القرآن نصا لا يحتمل التأويل فليس هو من أمة الاسلام ولا كرامة له.
وان كانت بدعته من جنس بدع المعتزلة أو الخوارج أو الرافضة الامامية أو الزيدية أو من بدع البخارية أو الجهمية أو الضرارية أو المجسمة فهو من الامة في بعض الاحكام وهو جواز دفنه في مقابر المسلمين وفى ألا يمنع حظه من الفىء والغنيمة ان غزا مع المسلمين وفي ألا يمنع من الصلاة في المساجد وليس من الامة في احكام سواها وذلك ألا تجوز الصلاة عليه ولا خلفه ولا تحل ذبيحته ولا نكاحه لامرأة سنية ولا يحل للسنى أن يتزوج المرأة منهم اذا كانت على اعتقادهم وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخوارج علينا ثلاث لا نبدؤكم بقتال ولا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم من الفىء ما دامت أيديكم مع أيدينا والله أعلم.
{الفصل الثاني من هذا الباب}:
في بيان كيفية اختلاف الامة وتحصيل عدد فرقها الثلاث والسبعين
كان المسلمون عند وفاة رسول الله على منهاج واحد في اصول الدين وفروعه غير من أظهر وفاقا وأضمر نفاقا.(12/6)
وأول خلاف وقع منهم اختلافهم في موت النبي عليه السلام فزعم قوم منهم أنه لم يمت وإنما أراد الله تعالى رفعه اليه كما رفع عيسى بن مريم اليه وزال هذا الخلاف وأقر الجميع بموته حين تلا عليهم أبو بكر الصديق قول الله لرسوله عليه السلام {إنك ميت وإنهم ميتون} وقال لهم من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ومن كان يعبد رب محمد فانه حي لا يموت.
ثم اختلفوا بعد ذلك في موضع دفن النبي فأراد أهل مكة رده الى مكة لانها مولده ومبعثه وقبلته وموضع نسله وبها قبر جده إسماعيل عليه السلام وأراد أهل المدينة دفنه بها لأنها دار هجرته ودار أنصاره وقال آخرون بنقله الى أرض القدس ودفنه ببيت المقدس عند قبر جده إبراهيم الخليل عليه السلام وزال هذا الخلاف بأن روى لهم أبو بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الأنبياء يدفنون حيث يقبضون} فدفنوه في حجرته بالمدينة.
ثم اختلفوا بعد ذلك في الامامة وأذعنت الانصار الى البيعة لسعد بن عبادة الخزرجي وقالت قريش ان الإمامة لا تكون الا في قريش ثم أذعنت الانصار لقريش لما روى لهم قول النبي الأئمة من قريش وهذا الخلاف باق الى اليوم لان ضرارا او الخوارج قالوا بجواز الإمامة في غير قريش.
ثم اختلفوا بعد ذلك في شأن فدك وفى توريث التركات عن الانبياء عليهم السلام ثم نفذ في ذلك قضاء ابي بكر بروايته عن النبي عليه الصلاة والسلام {ان الانبياء لا يورثون}.
ثم اختلفوا بعد ذلك في ما نعى وجوب الزكاة ثم اتفقوا على رأي أبي بكر في وجوب قتالهم.
ثم اشتغلوا بعد ذلك بقتال طليحة حين تبنى وارتد حتى انهزم الى الشام ثم رجع في أيام عمر الى الاسلام وشهد مع سعد بن أبي وقاص حرب القادسية وشهد بعد ذلك حرب نهاوند وقتل بها شهيدا.
ثم اشتغلوا بعد ذلك بقتال مسيلمة الكذاب الى أن كفى الله تعالى امره وأمر سجاح المتنبية وأمر الاسود بن زيد العنسى.(12/7)
ثم اشتغلوا بعد ذلك بقتل سائر المرتدين الى أن كفى الله تعالى أمرهم.
ثم اشتغلوا بعد ذلك بقتال الروم والعجم وفتح الله تعالى لهم الفتوح وهم في اثناء ذلك كله على كلمة واحدة في أبواب العدل والتوحيد والوعد والوعيد وفى سائر اصول الدين وانما كانوا يختلفون في فروع الفقه كميراث الجد مع الاخوة والأخوات مع الأب والأم او مع الأب وكمسائل العدل والكلالة والرد وتعصيب الأخوات من الأب والأم او من الأب مع البنت او بنت الابن وكاختلافهم في جر الولا وفى مسئلة الحرام ونحوها مما لم يورث اختلافهم فيه تضليلا ولا تفسيقا وكانوا على هذه الجملة في ايام أبي بكر وعمر وست سنين من خلافة عثمان.
ثم اختلفوا بعد ذلك في أمر عثمان لأشياء نقموها منه حتى أقدم لاجلها ظالموه على قتله.
ثم اختلفوا بعد قتله في قاتليه وخاذليه اختلافا باقيا الى يومنا هذا.
ثم اختلفوا بعد ذلك في شأن على واصحاب الجمل وفي شأن معاوية واهل صفين وفي حكم الحكمين أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص اختلافا باقيا الى اليوم.
ثم حدث في زمان المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية فى القدر والاستطاعة من معبد الجهنى وغيلان الدمشقي والجعد بن درهم وتبرأ منهم المتأخرون من الصحابة كعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وابن عباس وأنس بن مالك وعبد الله ابن ابى اوفى وعقبة بن عامر الجهني وأقرانهم واوصوا اخلافهم بأن لا يسلموا على القدرية ولا يصلوا على جنائزهم ولا يعودوا مرضاهم.
ثم اختلفت الخوارج بعد ذلك فيما بينها فصارت مقدار عشرين فرقة كل واحدة تكفر سائرها.(12/8)
ثم حدث في ايام الحسن البصري خلاف واصل بن عطا الغزال في القدر وفى المنزلة بين المنزلتين وانضم اليه عمرو بن عبيد بن باب في بدعته فطردهما الحسن عن مجلسه فاعتزلا عن سارية من سواري مسجد البصرة فقيل لهما ولاتباعهما معتزلة لاعتزالهم قول الامة في دعواها ان الفاسق من امة الإسلام لا مؤمن ولا كافر.
واما الروافض فان السبابية منهم اظهروا بدعتهم في زمان على رضي الله عنه فقال بعضهم لعلى انت الامة فاحرق علي قوما منهم ونفى ابن سبأ الى ساباط المدائن وهذه الفرقة ليست من فرق امة الاسلام لتسميتهم عليا الها.
ثم افترقت الرافضة بعد زمان علي رضي الله عنه اربعة اصناف زيدية وإمامية وكيسانية وغلاة وافترقت الزيدية فرقا والامامية فرقا والغلاة فرقا كل فرقة منها تكفر سائرها وجميع فرق الغلاة منهم خارجون عن فرق الإسلام. فاما فرق الزيدية وفرق الامامية فمعدودون في فرق الامة.
وافترقت النجارية بناحية الري بعد الزعفراني فرقا يكفر بعضها بعضا.
وظهر خلاف البكرية من بكر من اخت عبد الواحد بن زياد وخلاف الضرارية من ضرار بن عمرو وخلاف الجهمية من جهم بن صفوان وكان ظهور جهم وبكر وضرار في ايام ظهور واصل بن عطا في ضلالته.
وظهرت دعوة الباطنية في ايام المأمون من حمران قومط ومن عبد الله بن ميمون القداح وليست الباطنية من فرق ملة الاسلام بل هي من فرق المجوس على ما نبينه بعد هذا وظهروا في ايام محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان خلاف الكرامية المجسمة.
فاما الزيدية من الرافضة فمطمعها ثلاث فرق وهى الجارودية والسليمانية وقد يقال الحريرية ايضا والبترية وهذه الفرق الثلاث يجمعها القول بإمامة زيد بن على بن الحسين بن على بن ابى طالب في ايام خروجه وكان ذلك في زمان هشام بن عبد الملك.(12/9)
والكيسانية منهم فرق كثيرة ترجع عن التحصيل الى فرقتين إحداهما تزعم ان محمد بن الحنفية هي لم يمت وهم على انتظاره ويزعمون انه المهدى المنتظر والفرقة الثانية منهم مقرون باماميته في وقته وبموته وينقلون الإمامة بعد موته الى غيره ويختلفون بعد ذلك في المنقول اليه.
واما الامامية المفارقة للزيدية والكسائية والغلاة فانها خمس عشرة فرقة وهن المحمدية والباقرية والناوسية والشميطية والعمارية والاسماعيلية والمباركية والموسوية والقطعية والاثنى عشرية والهشامية من اتباع هشام بن الحكم او من اتباع هشام بن سالم الجواليقى والزرارية من اتباع زرارة بن أعين واليونسية من اتباع يونس القمى والشيطانية من اتباع شيطان الطاق والكاملية من اتباع أبي كامل وهو أفحشهم قولا فى على وفى سائر الصحابة رضى الله عنهم.
فهذه عشرون فرقة من فرق الروافض منها ثلاث زيدية وفرقتان من الكيسانية وخمس عشرة فرقة من الإمامية.
فاما غلاتهم الذين قالوا بإلهية الائمة واباحوا محرمات الشريعة واسقطوا وجوب فرائض الشريعة كالبيانية والمغيرية والجناحية والمنصورية والخطابية والحلولية ومن جرى مجراهم فما هم من فرق الاسلام وان كانوا منتسبين اليه وسنذكرها في باب مفرد بعد هذا الباب.
وأما الخوارج فانها لما اختلفت صارت عشرين فرقة وهذه أسماؤها المحكمة الاولى والازارقة ثم النجدات ثم الصفرية ثم العجاردة.
وقد افترقت العجاردة فيما بينها فرقا كثيرة منها الخازمية والشعيبية والمعلومية والمجهولية والمعبدية والرشيدية والمكرمية والحمزية والابراهيمية والواقفة.
وافترقت الأباضية منها فرقا حفصية وحارثية ويزيدية واصحاب طاعة لا يراد الله بها.
واليزيدية منهم اتباع ابن يزيد بن أنيس ليست من فرق الاسلام لقولها بان شريعة الاسلام تنسخ في آخر الزمان بنبى يبعث من العجم.(12/10)
وكذلك في جملة العجاردة فرقة يقال لها الميمونية ليست من فرق الاسلام لانها أباحت نكاح بنات البنات وبنات البنين كما أباحته المجوس وسنذكر اليزيدية والميمونية في جملة الذين انتسبوا الى الاسلام وما هم منهم ولا من فرقهم.
واما القدرية المعتزلة عن الحق فقد افترقت عشرين فرقة كل فرقة منها تكفر سائرها وهذه اسماء فرقها واصلية وعمرية والهذيلية والنظامية والاموارية والعمرية والثمامية والجاحظية والحايطية والحمارية والخياطية والسحامية واصحاب صالح قبة والمويسية والكعبية والجبائية والبهشيمية المنسوبة الى أبي هاشم ابن الجبائى فهي ثنتان وعشرون فرقة ثنتان منها ليستا من فرق الاسلام وهما الحايطية والحمارية وسنذكرهما في الفرق التي انتسبت الى الاسلام وليست منها.
وأما المرجئة فثلاثة اصناف:
صنف منهم قالوا بالإرجاء في الايمان وبالقدر على مذاهب القدرية فهم معدودون في القدرية والمرجئة كأبي شمر المرجىء ومحمد بن شبيب البصرى والخالدى.
وصنف منهم قالوا بالإرجاء في الايمان ومالوا الى قول جهم في الاعمال والاكساب فهم من جملة الجهمية والمرجئة.
وصنف منهم خالصة في الإرجاء من غير قدروهم خمس فرق يونسية وغسانية وثوبانية وتومنية ومريسية.
وأما النجارية فانها اليوم بالري اكثر من عشر فرق ومرجعها في الأصل الى ثلاث فرق برغونية زغفرانية ومستدركة.
وأما البكرية والضرارية فكل واحدة منها فرقة واحدة ليس لها تبع كثير والجهمية ايضا فرقة واحدة.
والكرامية بخراسان ثلاث فرق حقاقية وطرايقية واسحافية لكن هذه الغرق الثلاث منها لا يكفر بعضها بعضا فعددناها كلها فرقة واحدة.
فهذه الجملة التي ذكرناها تشتمل على ثنتين وسبعين فرقة منها عشرون روافض وعشرون خوارج وعشرون قدرية وعشر مرجئة وثلاث نجارية وبكرية وضرارية وجهمية وكرامية فهذه ثنتان وسبعون فرقة.(12/11)
فاما الفرقة الثالثة والسبعون فهي أهل السنة والجماعة من فريقى الرأي والحديث دون من يشترى لهو الحديث وفقهاء هذين الفريقين وقراؤهم ومحدثوهم ومتكلمو أهل الحديث منهم كلهم متفقون على مقالة واحدة في توحيد الصانع وصفاته وعدله وحكمته وفي اسمائه وصفاته وفى ابواب النبوة والإمامة وفى احكام العقبى وفى سائر اصول الدين وانما يختلفون في الحلال والحرام من فروع الاحكام وليس بينهم فيما اختلفوا فيه منها تضليل ولا تفسيق وهم الفرقة الناجية ويجمعها الاقرار بتوحيد الصانع وقدمه وقدم صفاته الأزلية واجازة رؤيته من غير تشبيه ولا تعطيل مع الاقرار بكتب الله ورسله وبتأييد شريعة الاسلام واباحة ما أباحه القرآن وتحريم ما حرمه القرآن مع قيود ما صح من سنة رسول الله واعتقاد الحشر والنشر وسؤال الملكين في القبر والاقرار بالحوض والميزان.
فمن قال بهذه الجهة التي ذكرناها ولم يخلط ايمانه بها بشيء من بدع الخوارج والروافض والقدرية وسائر اهل الاهواء فهو من جملة الفرقة الناجية ان ختم الله له بها وقد دخل في هذه الجملة جمهور الامة وسوادها الأعظم من اصحاب مالك والشافعي وأبى حنيفة والأوزاعى والثورى وأهل الظاهر.
فهذا بيان ما اردنا بيانه في هذا الباب ونذكر في الباب الذي يليه تفصيل مقالة كل فرقة من فرق الاهواء الذين ذكرناهم ان شاء الله عز وجل.
{الباب الثالث من أبواب هذا الكتاب}:
في بيان تفصيل مقالات فرق الاهواء وبيان فضائح كل فرقة منها على التفصيل
هذا باب يشتمل على فصول ثمانية وهذه ترجمتها:
فصل في بيان مقالات فرق الرقض
فصل في بيان مقالات فرق الخوارج
فصل في بيان مقالات فرق الاعتزال والقدر
فصل في بيان مقالات فرق المرجئة
فصل في بيان مقالات فرق النجارية
فصل في بيان مقالات الضرارية والبكرية والجهمية
فصل في بيان مقالات الكرامية(12/12)
فصل في بيان مقالات المشبهة الداخلة في غمار الفرق التي ذكرناها.
وسنذكر في كل فصل منها مقتضاه على شرطه ان شاء الله عز وجل.
{الفصل الاول من فصول هذا الباب}:
في بيان مقالات فرق الرفْض
قد ذكرنا قبل هذا ان الزيدية منهم ثلاث فرق والكيسانية منهم فرقتان والامامية منهم خمس عشرة فرقة ونبدأ بذكر الزيدية ثم الامامية ثم الكيسانية على الترتيب ان شاء الله عز وجل.
ذكر الجارودية من الزيدية:
اولا اتباع المعروف بأبي الجارود وقد زعموا ان النبي نص على امامة على بالوصف دون الاسم وزعموا ايضا ان الصحابة كفروا بتركهم بيعة على وقالوا ايضا ان الحسن بن على كان هو الامام بعد على ثم أخوة الحسين كان إماما بعد الحسن.
وافترقت الجارودية في هذا الترتيب فرقتين فرقة قالت إن عليا نص على إمامة ابنه الحسن ثم نص الحسن على إمامة أخيه الحسين بعده ثم صارت الامامة بعد الحسن والحسين شورى في ولدي الحسن والحسين فمن خرج منهم شاهرا سيفه داعيا الى دينه وكان عالما ورعا فهو الإمام وزعمت الفرقة الثانية منهم أن النبي هو الذي نص على إمامة الحسن بعد على وإمامة الحسين بعد الحسن.
ثم افترقت الجارودية بعد هذا في الامام المنتظر فرقا:
منهم من لم يعين واحدا بالانتظار وقال كل من شهر سيفه ودعا الى دينه من ولدى الحسن والحسين فهو الامام.
ومنهم من ينتظر محمد بن عبد الله بن الحسن بن على بن أبي طالب ولا يصدق بقتله ولا بموته ويزعم انه هو المهدى المنتظر الذي يخرج فيملك الارض وقول هؤلاء فيه كقول المحمدية من الإمامية في انتظارها محمد بن عبد الله بن الحسن بن على.
ومنهم من ينتظر محمد بن القاسم صاحب الطالقان ولا يصدق بموته.
ومنهم من ينتظر محمد بن عمر الذي خرج بالكوفة ولا يصدق بقتله ولا بموته.
فهذا قول الجارودية وتكفيرهم واجب لتكفيرهم اصحاب رسول الله عليه السلام.(12/13)
ذكر السليمانية أو الجريرية منهم:
هؤلاء اتباع سليمان بن جرير الزيدي الذي قال ان الإمامة شورى وأنها تنعقد بعقد رجلين من خيار الامة وأجاز إمامة المفضول واثبت إمامة ابي بكر وعمر وزعم أن الامة تركت الاصلح في البيعة لهما لان عليا كان اولى بالإمامة منهما الا أن الخطأ في بيعتهما لم يوجب كفرا ولا فسقا وكفر سليمان بن جرير بالاحداث التي نقمها الناقمون منه وأهل السنة يكفرون سليمان بن جرير من اجل أنه كفر عثمان رضي الله عنه.
ذكر البترية منهم:
هؤلاء اتباع رجلين أحدهما الحسن بن صالح بن حي والاخير كثير المنوا الملقب بالأبتر وقولهم كقول سليمان بن جرير في هذا الباب غير أنهم توقفوا في عثمان ولم يقدموا على ذمة ولا على مدحه وهؤلاء احسن حالا عند أهل السنة من أصحاب سليمان بن جرير وقد أخرج مسلم بن الحجاج حديث الحسن بن صالح بن حي في مسنده الصحيح ولم يخرج محمد بن اسماعيل البخاري حديثه في الصحيح ولكنه قال في كتاب التاريخ الكبير الحسن بن صالح بن حي الكوفى سمع سماك بن حرب ومات سنة سبع وستين ومائة وهو من ثغور همذان وكنيته ابو عبد الله.
قال عبد القاهر هؤلاء البترية والسليمانية من الزيدية كلهم يكفرون الجارودية من الزيدية لاقرار الجارودية على تكفير أبي بكر وعمر والجارودية يكفرون السليمانية والبترية لتركهما تكفير أبي بكر وعمر.
وحكى شيخنا أبو الحسن الاشعري في مقالته عن قوم من الزيدية يقال لهم اليعقوبية اتباع رجل اسمه يعقوب أنهم كانوا يتولون ابا بكر وعمر ولكنهم لا يتبرءون ممن تبرأ منهما.(12/14)
قال عبد القاهر اجتمعت الفرق الثلاث الذين ذكرناهم من الزيدية على القول بأن أصحاب الكبائر من الامة يكونون مخلدين في النار فهم من هذا الوجه كالخوارج الذين أيأسوا أسراء المذنبين من رحمة الله تعالى {ولا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون} إنما قيل لهذه الفرق الثلاث واتباعها "زيدية" لقولهم بإمامة زيد بن علي بن الحسن بن على بن ابى طالب في وقته وإمامة ابنه يحيى بن زيد بعد زيد وكان زيد ابن علي قد بايعه على إمامته خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة وخرج بهم على والى العراق وهو يوسف بن عمر الثقفى عامل هشام بن عبد الملك على العراقيين فلما استمر القتال بينه وبين يوسف بن عمر الثقفى قالوا له انا ننصرك على اعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر اللذين ظلما جدك على ابن أبي طالب فقال زيد إني لا أقول فيهما إلا خيرا وما سمعت أبي يقول فيهما الا خيرا وانما خرجت على بنى امية الذين قاتلوا جدى الحسين وأغاروا على المدينة يوم الحرة ثم رموا بيتا لله بحجر المنجنيق والنار ففارقوه عند ذلك حتى قال لهم رفضتموني ومن يومئذ سموا رافضة وثبت معه نصر بن حريمة العنسى ومعاوية بن اسحاق بن يزيد بن حارثة في مقدار مائتى رجل وقاتلوا جند يوسف بن عمر الثقفى حتى قتلوا عن آخرهم وقتل زيد ثم نبش من قبره وصلب ثم أحرق بعد ذلك.
وهرب ابنه يحيى بن يزيد الى خراسان وخرج بناحية الجوزجانى على نصر بن بشار والى خراسان فبعث نصر بن بشار اليه مسلم ابن احوز المازنى في ثلاثة آلاف رجل فقتلوا يحيى بن زيد ومشهده بجوزجان معروف.
قال عبد القاهر روافض الكوفة موصوفون بالغدر والبخل وقد سار المثل بهم فيهما حتى قيل أبخل من كوفى وأغدر من كوفى والمشهور من غدرهم ثلاثة أشياء:(12/15)
أحدها أنهم بعد قتل على رضي الله عنه بايعوا ابنه الحسن فلما توجه لقتال معاوية غدروا به في ساباط المدائن فطعنه سنان الجعفى في جنبه فصرعه عن فرسه وكان ذلك أحد أسباب مصالحته معاوية.
والثاني أنهم كاتبوا الحسين بن علي رضي الله عنه ودعوه الى الكوفة لينصروه على يزيد بن معاوية فاغتر بهم وخرج اليهم فلما بلغ كربلاء غدروا به وصاروا مع عبيد الله بن زياد يدا واحدة عليه حتى قتل الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء.
والثالث غدرهم يزيد بن على بن الحسين بن على بن أبي طالب بعد أن خرجوا معه على يوسف بن عمر ثم نكثوا بيعته وأسلموه عند اشتداد القتال حتى قتل وكان من امره ما كان
ذكر الكيسانية من الرافضة:
هؤلاء اتباع المختار بن ابى عبيد الثقفى الذي قام بثأر الحسين بن على بن ابي طالب وقتل اكثر الذين قتلوا حسينا بكربلاء وكان المختار ويقال له كيسان وقيل أنه أخذ مقالته عن مولى لعلى رضي الله عنه كان اسمه كيسان.
وافترقت الكيسابية فرقا يجمعها شيئان:
أحدهما قولهم بإمامة محمد ابن الحنفية وإليه كان يدعو المختار بن ابى عبيد.
والثاني قولهم بجواز البدء على الله عز وجل ولهذه البدعه قال بتكفيرهم كل من لا يجيز البدء على الله سبحانه.
واختلفت الكيسانية في سبب إمامة محمد ابن الحنفية فزعم بعضهم أنه كان إماما بعد أبيه على بن أبى طالب رضى الله عنه واستدل على ذلك بان عليا دفع إليه الراية يوم الجمل وقال له:
اطعَنْهُم طعن ابيك تحمد >< لا خير في الحرب اذا لم تزبد
وقال آخرون منهم: إن الامامة بعد على كانت لابنه الحسن ثم للحسين بعد الحسن ثم صارت الى محمد بن الحنفية بعد اخيه الحسين بوصية اخيه الحسين اليه حين هرب من المدينة الى مكة حين طولب بالبيعة ليزيد بن معاوية.
ثم افترق الذين قالوا بإمامة محمد ابن الحنفية.(12/16)
فزعم قوم منهم يقال لهم الكربية اصحاب ابى كرب الضرير ان محمد بن الحنفية حى لم يمت وانه في جبل رضوى وعنده عين من الماء وعين من العسل يأخذ منهما رزقه وعن يمينه أسد وعن يساره نمر يحفظانه من أعدائه الى وقت خروجه وهو المهدى المنتظر.
وذهب الباقون من الكيسانية الى الاقرار بموت محمد بن الحنفية واختلفوا في الامام بعده فمنهم من زعم أن الامامة بعده رجعت الى ابن اخيه على بن الحسين زين العابدين ومنهم من قال برجوعها بعده الى ابى هاشم عبد الله ابن محمد بن الحنفية.
واختلف هؤلاء في الامام بعد ابى هاشم فمنهم من نقلها الى أبي محمد بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بوصية ابى هاشم اليه وهذا قول الروندية ومنهم من زعم أن الامامة بعد أبي هاشم صارت الى بيان بن سمعان وزعموا أن روح الله تعالى كانت في ابى هاشم ثم انتقلت منه الى بيان ومنهم من زعم ان تلك الروح انتقلت من ابي هاشم الى عبد الله بن عمرو بن حرب وادعت هذه الفرقة إلهية عبد الله بن عمرو بن حرب.
والبيانية والحربية كلتاهما من فرق الغلاة نذكرهما في الباب الذي نذكر فيه فرق الغلاة وكان كثير الشاعر على مذهب الكيسانية الذين ادعوا حياة محمد بن الحنفية ولم يصدقوا بموته ولذا قال في قصيدة له:
ألا إن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء
على والثلاثة من بنيه هم الاسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط ايمان وبر وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانا برضوى عنده عسل وماء
قال عبد القاهر أجبناه عن أبياته هذه بقولنا:
ولاة الحق أربعة ولكن لثاني اثنين قد سبق العلاء
وفاروق الورى أضحى إماما وذو النونين بعد له الولاء
على بعدهم أضحى إماما بترتيبي لهم نزل القضاء
ومبغض من ذكرناه لعين وفى نار الجحيم له الجزاء(12/17)
وأهل الرفض قوم كالنصارى حيار بي ما لحيرتهم دواء
وقال كثير أيضا في رفضه:
برئت الى الإله من ابن أروى ومن دين الخوارج أجمعينا
ومن عمر برئت ومن عتيق غداة دعى أمير المؤمنينا
وقد أجبناه عن هذين البيتين:
برئت من الإله ببغض قوم بهم أحيا الإله المؤمنينا
وما ضر ابن أروى منك بغض وبغض البر دين الكافرينا
ابو بكر به جدلى إمام على زعم الروافض اجمعينا
وفاروق الورى عمر بحق يقال له أمير المؤمنينا
وقال كثير في قصيدة أيضا:
ألا قل للوصى فدتك نفسي أطلت بذلك الجبل المقاما
أضر بمعشر والوك منا وسموك الخليفة والإماما
وعادوا فيك اهل الأرض طرا مقامك عندهم ستين عاما
وما ذاق بن خولة طعم موت ولا وارت له ارض عظاما
لقد أمسى بمجرى شعب رضوى تراجعه الملائكة الكلاما
وإن له لرزقا من إماما وأشربة يعل بها الطعاما
وقد أجبناه عن هذا الشعر بقولنا:
لقد أفنيت عمرك بانتظار لمن وارى التراب له عظاما
فليس بشعب رضواء إمام تراجعه الملائكة الكلاما
ولا من عنده عسل وماء وأشربة يعل بها الطعاما
وقد ذاق ابن خولة طعم موت كما قد ذاق والده الحماما
ولو خلد أمرؤ لعلو مجد لعاش المصطفى ابدا وداما
وكان الشاعر المعروف بالسيد الحميرى ايضا على مذهب الكيسانية الذين ينتظرون محمد بن الحنفية ويزعمون أنه محبوس بجبل رضوى الى أن يؤذن له بالخروج ولهذا قال في شعر له:
ولكن كل من فى الأرض فان بذا حكم الذى خلق الإماما(12/18)
وكان أول من قام بدعوة الكيسائية الى إمامة محمد بن الحنفية المختار بن أبي عبيد الثقفى وكان السبب في ذلك أن عبيد الله بن زياد لما فرغ من قتل مسلم بن عقيل وفرغ من قتل الحسين بن على رضى الله عنه رفع اليه ان المختار بن أبي عبيد كان ممن خرج مع مسلم بن عقيل ثم اختفى فأمر باحضاره فلما دخل عليه رماه بعمود كان في يده فشتر عينه وحبسه فتشفع اليه في امره قوم فأخرجه من الحبس وقال له قد أجلتك ثلاثة أيام فان خرجت فيها من الكوفة والا ضربت عنقك فخرج المختار هاربا من الكوفة الى مكة وبايع عبد الله بن الزبير وبقى معه الى ان قاتل بن الزبير جند يزيد بن معاوية الذين كانوا تحت راية الحصين بن نمير السكوتى واشتدت نكاية المختار في تلك الحروب على اهل الشام ثم مات يزيد بن معاوية ورجع جند الشام الى الشام واستقام لابن الزبير ولاية الحجاز واليمن والعراق وفارس ولقى المختار من ابن الزبير جفوة فهرب منه الى الكوفة وواليها يومئذ عبد الله بن يزيد الانصارى من قبل عبد الله بن الزبير فلما دخل الكوفة بعث رسله الى شيعة الكوفة ونواحيها الى المدائن ودعاهم الى البيعة له ووعدهم انه يخرج طالبا بثأر الحسين بن على رضى الله عنه ودعاهم الى محمد بن الحنفية وزعم ان ابن الحنفية قد استخلفه وأنه قد أمرهم بطاعته وعزل ابن الزبير في خلال ذلك عبد الله بن يزيد الانصارى عن الكوفة وولاها عبد الله بن مطيع العدوي واجتمع الى المختار من بايعه في السر وكانوا زهاء سبعة عشر الف رجل ودخل في بيعته عبيد الله بن الحر الذي لم يكن في زمانه أشجع منه وابراهيم بن ملك الاشتر ولم يكن في شيعة الكوفة أجمل منه ولا أكثر منه تبعا فخرج به على والى الكوفة عبد الله بن مبطع وهو يؤمئذ في عشرين الف ودامت الحرب بينهما اياما ووقعت الهزيمة في آخرها على الزيدية واستولى المختار على الكوفة ونواحيها وقتل كل من كان بالكوفة من الذين قاتلوا الحسين بن على بكربلاء ثم خطب(12/19)
الناس فقال في خطبته:
الحمد لله الذى وعد وليه النصر وعدوه الخسر وجعلهما فيهما الى آخر الدهر قضاء مقضيا ووعدا مأتيا يا أيها الناس قد سمعنا دعوة الداعي وقبلنا قول الداعي فكم من باغ وباغية وقتلى في الواعيه فهلموا عباد الله الى بيعه الهدى ومجاهدة العدى فانى انا المسلط على المحلين والطالب بثأر ابن بنت خاتم النبيين.
ثم نزل عن منبره وانغذ بصاحب شرطته الى دار عمر بن سعد حتى أخذ رأسه ثم أخذ رأس ابنه جعفر بن عمر وهو ابن أخت المختار وقال ذاك برأس الحسين وهذا برأس ابن الحسين الكبير ثم بعث بإبراهيم بن ملك الاشتر مع ستة آلاف رجل الى حرب عبيد الله بن زياد وهو يومئذ بالموصل في ثمانين الف من جند الشام قد ولاه عليهم عبد الملك بن مروان فلما التقى الجيشان على باب الموصل انهزم جند الشام وقتل منهم سبعون الف في المعركة وقتل عبيد الله بن زياد والحصين بن نمير السكوتى وانفذ ابراهيم بن الاشتر برؤوسهم الى المختار فلما تمت للمختار ولاية الكوفة والجزيرة والماهين الى حدود ارمينية تكهن بعد ذلك وسجع كأسجاع الكهنة وحكى ايضا انه ادعى نزول الوحى عليه.
فمن اسجاعه قوله اما والذي أنزل القرآن وبين الفرقان وشرع الاديان وكره العصيان لاقتلن النعاة من أزد عمان ومذحج وهمذان ونهد وخولان وبكر وهزان وثعل ونبهان وعبس وذبيان وقيس وعيلان.
ثم قال وحق السميع العليم العلى العظيم العزيز الحكيم الرحمن الرحيم لاعركن عرك الاديم أشراف بنى تميم.
ثم رفع خبر المختار الى ابن الحنفية وخاف من جهة الفتنة في الدين فأراد قدوم العراق ليصير اليه الذين اعتقدوا إمامته وسمع المختار ذلك فخاف من قدومه العراق ذهاب رياسته وولايته فقال لجنده انا على بيعة المهدى ولكن للمهدى علامة وهو أن يضرب بالسيف ضربة فان لم يقطع السيف جلده فهو المهدى وانتهى قوله هذا الى ابن الحنفية فأقام بمكة خوفا من ان يقتله المختار بالكوفة.(12/20)
ثم ان المختار خدعته السبابية الغلاة من الرافضة فقالوا له انت حجة هذا الزمان وحملوه على دعوى النبوة فادعاها عند خواصه وزعم أن الوحى ينزل عليه وسجع بعد ذلك فقال أما وتمشى السحاب الشديد العقاب السريع الحساب الغزير الوهاب القدير الغلاب لانبشن قبر ابن شهاب المفترى الكذاب المجرم المرتاب ثم ورب العالمين ورب البلد الامين لأقتلن الشاعر المهين وراجز المارقين واولياء الكافرين وأعوان الظالمين وإخوان الشياطين الذين اجتمعوا على الاباطيل وتقولوا على الاقاويل الاخطوبى لذوى الاخلاق الحميدة والافعال الشديدة والاراء العتيدة والنفوس السعيدة.
ثم خطب بعد ذلك فقال في خطبته الحمد لله الذي جعلني بصيرا ونور قلبي تنويرا والله لاحرقن بالمصر دورا ولانبشن بها قبورا ولأشفين منها صدورا وكفى بالله هاديا ونصيرا.
ثم أقسم فقال برب الحرم والبيت المحرم والركن المكرم والمسجد المعظم وحق ذي القلم ليرفعن لي علم من هنا الى أضم ثم الى اكناف ذي سلم.
ثم قال اما ورب السماء لينزلن نار من السماء فليحرقن دار أسماء فأنهى هذا القول الى أسماء بن خارجة فقال قد سجع بي أبو إسحاق وأنه سيحرق داري وهرب من داره وبعث المختار الى داره من أحرقها بالليل وأظهر من عنده ان نارا من السماء نزلت فاحرقها.
ثم إن اهل الكوفة خرجوا على المختار لما تكهن واجتمعت السبابية اليه مع عبيد اهل الكوفة لانه وعدهم أن يعطيهم أموال ساداتهم وقاتل بهم الخارجين عليه فظفر بهم وقتل منهم الكثير وأسر جماعة منهم وكان في الأسراء رجل يقال له سراقة بن مرداس البارقى فقدم الى المختار وخاف البارقى أن يأمر بقتله فقال للذين أسروه وقدموه الى المختار ما أنتم أسرتمونا ولا أنتم هزمتمونا بعدتكم وانما هزمنا الملائكة الذين رأيناهم على الخيل البلق فوق عسكركم فأعجب المختار قوله هذا فاطلق عنه فلحق مصعب بن الزبير بالبصرة وكتب منها الى المختار هذه الابيات:(12/21)
ألا أبلغ أبا إسحق أنى رأيت البلق دهما مصمتات
أرى عينى ما لم تنظراه كلانا عالم بالترهات
كفرت بوحيكم وجعلت نذرا على قتالكم حتى الممات
وفى هذا الذي ذكرناه بيان سبب كهانة المختار ودعواه الوحى اليه.
واما سبب قوله بجواز البدء على الله عز وجل فهو أن ابراهيم بن الأشتر لما بلغه أن المختار تكهن وادعى نزول الوحي اليه قعد عن نصرته واستولى لنفسه على بلاد الجزيرة وعلم مصعب ابن الزبير ان ابراهيم بن الاشتر لا ينصر المختار فطمع عند ذلك في قهر المختار ولحق به عبيد الله بن الحر الجعفى ومحمد بن الاشعث الكندي واكثر سادات الكوفة غيظا منهم على المختار لاستيلائه على اموالهم وعبيدهم واطمعوا مصعبا في أخذ الكوفة قهرا فخرج مصعب من البصرة في سبعة آلاف رجل من عنده سوى من انضم اليه من سادات الكوفة وجعل على مقدمته المهلب بن ابى صفرة مع اتباعه من الأزد وجعل أعنة الخيل الى عبيد الله بن معمر التيمى وجعل الأحنف بن قيس على خيل تميم فلما انتهى خبرهم الى المختار اخرج صاحبه احمد ابن شميط الى قتال مصعب في ثلاثة آلاف رجل من نخبة عسكره وأخبرهم بان الظفر يكون لهم وزعم أن الوحى قد نزل عليه بذلك فالتقى الجيشان بالمدائن وانهزم اصحاب المختار وقتل اميرهم ابن شميط واكثر قواد المختار ورجع فلولهم الى المختار وقالوا له لم تعدنا بالنصر على عدونا فقال ان الله تعالى كان قد وعدني ذلك لكنه بدا له واستدل على الله بقول الله عز وجل {يمحو الله ما يشاء ويثبت}. فهذا كان سبب قول الكيسانية بالبداء.(12/22)
ثم ان المختار باشر قتال مصعب بن الزبير بنفسه بالمذار من ناحية الكوفة وقتل في تلك الواقعة محمد بن الأشعث الكندي قال المختار طابت نفسي بقتله ان لم يكن قد بقى من قتلة الحسين غيره ولا ابالى بالموت بعد هذا ثم وقعت الهزيمة على المختار واصحابه فانهزموا الى دار الامامة بالكوفة وتحصن فيها مع اربعمائة من اتباعه وحاصرهم مصعب فيها ثلاثة ايام حتى فنى طعامهم ثم خرجوا اليه في اليوم الرابع مستقتلين فقتلوا وقتل المختار معهم قتله أخوان يقال لهما طارف وطريف ابنا عبد الله بن دجاجة من بنى حنيفة وقال أعشى همدان في ذلك:
لقد نبئت والأنباء تنمي بما لآقى الكوارث بالمذار
وما إن سرنى اهلاك قومي وان كانوا وحقك في خسار
ولكنى سررت بما يلاقى أبو إسحق من خزى وعار
فهذا بيان سبب قول الكيسانية بجواز البدء على الله عز وجل.
واختلفت الكيسانية الذين انتظروا محمد بن الحنفية وزعموا انه حى محبوس بجبل رضوى الى ان يؤذن له بالخروج واختلفوا في سبب حبسه هنالك بزعمهم.
فمنهم من قال لله في امره سر لا يعلمه الا هو ولا يعرف سبب حبسه.
ومنهم من قال إن الله تعالى عاقبة بالحبس لخروجه بعد قتل الحسين بن على الى يزيد ابن معاوية وطلبه الأمان منه وأخذه عطاء ثم لخروجه في وجه ابن الزبير من مكة الى عبد الملك بن مروان هاربا من ابن الزبير وزعموا ان صاحبه عامر بن واثلة الكناني سار بين يديه وقال في ذلك المسير لأتباعه:
يا إخواني يا شيعتى لا تبعدوا >< ووازروا المهدى كيما تهتدوا
محمد الخيرات يا محمد >< انت الإمام الطاهر المسدد
لا ابن الزبير السامرى الملحد >< ولا الذي نحن اليه نقصد(12/23)
وقالوا: انه كان يجب عليه ان يقاتل ابن الزبير ولا يهرب فعصى ربه بتركه قتاله وعصاه بقصده عبدالملك بن مروان وكان قد عصاه قبل ذلك بقصده يزيد بن معاوية ثم إنه رجع من طريقه الى ابن مروان الى الطائف ومات بها ابن عباس ودفنه ابن الحنفية بالطائف ثم سار منها الى الذر فلما بلغ شعب رضوى اختلفوا فيه فزعم المقرون بموته انه مات فيه وزعم المنتظرون له أن الله حبسه هنالك وغيبه عن عيون الناس عقوبة له على الذنوب التى أضافوها اليه الى أن يؤذن له بالخروج وهو المهدى المنتظر.
ذكر الامامية من الرافضة:
هؤلاء الامامية المخالفة للزيدية والكيسانية والغلاة خمس عشرة فرقة كاملية ومحمدية وباقرية وناوسية وشميطية وعمارية واسماعيلية ومباركية وموسوية وقطيعية واثنى عشرية وهشامية وزرارية ويونسية وشيطانية.
ذكر الكاملية منهم:
هؤلاء أتباع رجل من الرافضة كان يعرف بأبى كامل وكان يزعم أن الصحابة كفروا بتركهم بيعة على وكفر على بتركه قتالهم وكان يلزمه قتالهم كما لزمه قتال اصحاب صفين وكان بشار بن برد الشاعر الأعمى على هذا المذهب وروى انه قيل له ما تقول في الصحابة قال كفروا فقيل له فما تقول في على فتمثل بقول الشاعر:
وما شر الثلاثة ام عمر بصاحبك الذى لا تصبحينا
وحكى أصحاب المقالات عن بشار أنه ضم الى ضلالته في تكفير الصحابة وتكفير على معهم ضلالتين أخريين:
إحداهما قوله يرجع برجعة الاموات الى الدنيا قبل يوم القيامة كما ذهب اليه اصحاب الرجعة من الرافضة.
والثانية قوله بتصويب إبليس في تفضيل النار على الارض واستدلوا على ذلك بقول بشار في شعر له:
الأرض مظلمة والنار مشرفة والنار معبودة مذ كانت النار
وقد رد عليه صفوان الأنصاري في قصيدته التي قال فيها:
زعمت بأن النار اكرم عنصرا وفى الأرض تحيا في الحجارة والزند(12/24)
ويخلق في أرحامها وارومها أعاجيب لا تحصى بخط ولا عقد
وفى القعر من لج البحار منافع من اللؤلؤ المكنون والعنبر الورد
ولا بد من أرض لكل مطير وكل سبوح في العمائر ذي خد
كذلك وما ينساخ في الارض ماشيا على بطنه يمشى المجانب للقصد
وفى فلك الاجبال فوق مقطم زبرجد املاك الورى ساعة الحشد
وفى الحرة [الرجلاءكم من] معادن لهن مغارات يتحبس بالنقد
من الذهب الإبريز والفضة التي تروق وتغنى ذا القناعة والزهد
وكل فلذ من نحاس وآنك ومن زنبق حى ونوشادر سندى
وفيها روانيخ وشب ومرتب ومزمر قشا غير كاب ولا مكدى
وفيها ضروب القار والزفت والمها وأصناف كبريت مطاولة الوقد
ومن أثمد جوز وكلس وفضة ومن توتيا في معاربها هندى
وكل يواقيت الانام وحليها من الارض والاحجار فاخرة المجد
وفيها مقام الحل والركن والصفا ومستلم الحجاج من جنه الخلد
مفاخر للطين الذى كان أصلنا ونحن بنوه غير شك ولا جحد
فذلك تدبير ونفع وحكمة وأوضح برهان على الواحد الفرد
فيا بن حليف الشؤم واللؤم والعمى وابعد خلق الله من طرق الرشد
اتهجو أبا بكر وتخلع بعده عليا وتعزو كل ذاك الى برد
كأنك غضبان على الدين كله وطالب ذحل لا يبيت على حقد
تواتب أقمارا وأنت مشوه وأقرب خلق الله من نسب القرد
وقد هجا حماد عجرد بشارا وقال في هجائه:
ويا أقبح من قرد اذا عمى القرد
وقيل ان بشارا ما جزع من شىء جزعة من هذا البيت وقال يرانى فيصفنى ولا أراه فأصفه.
قال عبد القاهر أكفر هؤلاء الكاملية من وجهين:
أحدهما من جهة تكفيرها جميع الصحابة من غير تخصيص.(12/25)
والثاني من جهة تفضيلها النار على الارض وقد ذكرنا بعض فضائح بشار بن برد وقد فعل الله به ما استحقه وذلك أنه هجا المهدى فأمر به حتى غرق في دجلة ذلك له خزى في الدنيا ولأهل ضلالته فى الآخرة عذاب أليم.
ذكر المحمدية:
وهؤلاء ينتظرون محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن على بن أبي طالب ولا يصدقون بقتله ولا بموته ويزعمون أنه في جبل حاجر من ناحية نجد الى ان يؤمر بالخروج وكان المغيرة بن سعيد العجلى في صلاته في التشبيه يقول لأصحابه إن المهدى المنتظر محمد بن عبد الله بن الحسن ابن الحسين بن على ويستدل على ذلك بان اسمه محمد كاسم رسول الله واسم ابيه عبد الله كاسم أبى رسول الله وقال في الحديث عن النبي عليه السلام قوله في المهدى {ان اسمه يوافق اسمى واسم ابيه اسم ابى}. فلما اظهر محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن على دعوته بالمدينة استولى على مكة والمدينة واستولى اخوه ابرهيم بن عبد الله على البصرة واستولى أخوهما الثالث وهو ادريس بن عبد الله على بعض بلاد المغرب وكان ذلك في زمان الخليفة أبى جعفر المنصور فبعث المنصور الى حرب محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بعيسى بن موسى في جيش كثيف وقاتلوا محمدا بالمدينة وقتلوه في المعركة ثم أنفذ بعيسى بن موسى ايضا الى حرب ابراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن على مع جنده فقتلوا ابراهيم بباب حمرين على ستة عشر فرسخا من الكوفة ومات في تلك الفتنة إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بارض المغرب وقيل إنه سم بها ومات عبد الله بن الحسن بن الحسين والد اولئك الاخوة الثلاث في سجن المنصور وقبره
بالقادسية وهو مشهد معروف يزار.
فلما قتل محمد بن عبد الله ابن الحسن بن الحسين بالمدينة اختلفت المغيرية فيه فرقتين:(12/26)
فرقة أقروا بقتله وتبرءوا من المغيرة بن سعيد العجلى وقالوا إنه كذب في قوله إن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين هو المهدى الذى ملك الارض لانه قتل وما ملك الأرض.
وفرقة منهم ثبتت على موالاة المغيرة بن سعيد العجلى وقالت إنه صدق في قوله إن المهدى محمد بن عبد الله وإنه لم يقتل وإنما غاب عن عيون الناس وهو في جبل حاجر من ناحية نجد مقيم هناك الى ان يؤمر بالخروج فيخرج ويملك الارض وتعقد البيعة بمكة بين الركن والمقام ويحيا له من الاموات سبعة عشر رجلا يعطى كل واحد منهم حرفا من حروف الاسم الأعظم فيهزمون الجيوش وزعم هؤلاء أن الذي قتله جند عيسى بن موسى بالمدينة لم يكن محمد بن عبد الله بن الحسن.
فهذه الطائفة يقال لهم المحمدية لانتظارهم محمد بن عبد الله بن الحسن.
وكان جابر بن يزيد الجعفى على هذا المذهب وكان يقول برجعة الاموات الى الدنيا قبل القيامة وفى ذلك قال شاعر هذه الفرقة في شعر له:
الى يوم يؤوب الناس فيه الى دنياهم قبل الحساب
وقال أصحابنا لهذه الطائفة إن أجزتم ان يكون المقتول بالمدينة غير محمد بن عبد الله بن الحسن واجزتم ان يكون المقتول هنا شيطانا تصور للناس في صورة محمد بن عبد الله بن الحسن فأجيزوا بأن يكون المقتولون بكربلاء غير الحسين وأصحابه وإنما كانوا شياطين تصوروا للناس بصور الحسين واصحابه وانتظروا حسينا كما انتظرتم محمد بن عبد الله بن الحسن او انتظروا عليا كما انتظرته السبابية منكم الذين زعموا أنه في السحاب والذى قتله عبد الرحمن بن ملجم كان شيطانا تصور للناس بصورة على وهذا مالا انفصال لهم عنه والحمد لله على ذلك.
ذكر الباقرية منهم:(12/27)
هؤلاء قوم ساقوا الإمامة من على ابن ابى طالب رضى الله عنه في اولاده الى محمد بن على المعروف بالباقر وقالوا ان عليا نص على امامة ابنه الحسن ونص الحسن على امامة اخيه الحسين ونص الحسين على امامة ابنه على بن الحسين زين العابدين ونص زين العابدين على إمامة محمد بن على المعروف بالباقر وزعموا انه هو المهدى المنتظر بما روى أن النبي عليه السلام قال لجابر بن عبد الله الانصارى انك تلقاه فاقرأه منى السلام وكان جابر آخر من مات بالمدينة من الصحابة وكان قد عمى في آخر عمره وكان يمشى في المدينة ويقول يا باقر يا باقر متى ألقاك فمر يوما في بعض سكك المدينة. إلخ [ ناقص]
ذكر الناووسية
وهم أتباع رجل من أهل البصرة كان ينتسب إلى ناووس بها، وهم يسوقون الإمامة إلى جعفر الصادق بنص الباقر عليه، وزعموا أنه لم يمت، وأنه المهدي المنتظر، وزعم قوم [ناقص]
ذكر الشميطية
وهم منسوبون إلى يحيى بن شميط، [ناقص]
ذكر العمارية:
وهم منسوبون إلى زعيم منهم يسمى عمّارا، [ناقص]
ذكر الإسماعيلية:
وهؤلاء ساقوا الإمامة إلى جعفر، وزعموا أن الإمام بعده ابنه إسماعيل، وافترق هؤلاء فرقتين:
فرقة منتظر لإسماعيل بن جعفر، مع اتفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه.
وفرقة قالت: كان الإمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر حيث] ان جعفرا نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده فلما مات اسماعيل في حاة أبيه علمنا أنه إنما نصب ابنه اسماعيل للدلالة على امامة ابنه محمد بن إسماعيل.
والى هذا القول مالت الاسماعيلية من الباطنية وسنذكرهم في فرق الغلاة بعد هذا
ذكر الموسوية منهم:(12/28)
هؤلاء الذين ساقوا الإمامة الى جعفر ثم زعموا أن الامام بعد جعفر كان ابنه موسى بن جعفر وزعموا أن موسى بن جعفر حي لم يمت وانه هو المهدي المنتظر وقالوا إنه دخل دار الرشيد ولم يخرج منها وقد علمنا إمامته وشككنا فى موته فلا نحكم في موته إلا بيقين.
فقيل لهذه الفرقة الموسوية اذا شككتم في حياته وموته فشكوا في امامته ولا تقطعوا القول بانه باق وانه هو المهدى المنتظر هذا مع علمكم بأن مشهد موسى بن جعفر معروف في الجانب الغربي من بغداد يزار.
ويقال لهذه الفرقة "موسوية" لانتظارها موسى بن جعفر. ويقال لها "الممطورة" ايضا لان يونس بن عبد الرحمن القمى كان من القطيعية وناظر بعض الموسوية فقال في بعض كلامه انتم أهون على عينى من الكلاب الممطورة.
ذكر المباركية:
هؤلاء يريدون الإمامة في ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر كدعوى الباطنية فيه وقد ذكر أصحاب الانساب في كتبهم أن محمد بن إسماعيل بن جعفر مات ولم يعقب
ذكر القطعية منهم:
هؤلاء ساقوا الإمامة من جعفر الصادق الى ابنه موسى وقطعوا بموت موسى وزعموا أن الامام بعده سبط محمد بن الحسن الذى هو سبط على بن موسى الرضا ويقال لهم الاثنا عشرية ايضا لدعواهم أن الامام المنتظر هو الثانى عشر من نسبه الى على بن أبي طالب رضي الله عنه واختلفوا في سن هذا الثانى عشر عند موت ابنه فمنهم من قال كان ابن أربع سنين ومنهم من قال كان ابن ثمانى سنين واختلفوا في حكمه في ذلك الوقت فمنهم من زعم أنه في ذلك الوقت كان إماما عالما بجميع ما يجب أن يعمله الإمام وكان مفروض الطاعة على الناس ومنهم من قال كان في ذلك الوقت إماما على معنى ان الامام لا يكون غيره وكانت الاحكام يومئذ الى العلماء من اهل مذهبه الى أوان بلوغه فلما بلغ تحققت إمامته ووجبت طاعته وهو الآن الإمام الواجب طاعته وان كان غائبا
ذكر الهشامية منهم:(12/29)
هؤلاء فرقتان فرقة تنسب الى هشام ابن الحكم الرافض والفرقة الثانية تنسب الى هشام بن سالم الجواليقى وكلتا الفرقتان قد ضمت الى خيرتها في الامامة وضلالتها في التجسيم وبدعتها فى التشبيه.
ذكر قول هشام بن الحكم زعم هشام بن الحكم ان معبوده جسم ذو حد ونهاية وانه طويل عريض عميق وأن طوله مثل عرضه مثل عمقه ولم يثبت طولا غير الطويل ولا عرضا غير العريض وقال ليس ذهابه في جهة الطول أزيد على ذهابه في جهة العرض وزعم ايضا أنه نور ساطع يتلألأ كالسبيكة الصافية من الفضة وكاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها وزعم ايضا 4 أنه ذو لون وطعم ورائحة ومجسة وان لونه هو طعمه وطعمه هو رائحته ورائحته هو مجسته ولم يثبت لونا وطعما هما نفسه بل زعم انه هو اللون وهو الطعم ثم قال قد كان الله ولا مكان ثم خلق المكان بان تحرك فحدث مكانه بحركته فصار فيه ومكانه هو العرش.
وحكى بعضهم عن هشام أن قال في معبوده أنه سبعة اشبار بشبر نفسه كأنه قاسه على الانسان لأن كل انسان في الغالب من العادة سبعة اشبار بشبر نفسه.
وذكر ابو الهذيل في بعض كتبه انه لقى هشام بن الحكم في مكة عند جبل أبي قبيس فسأله أيهما أكبر معبوده أم هذا الجبل قال فاشار الى ان الجبل يوفى عليه تعالى ان الجبل أعظم منه
وحكى ابن الروندى في بعض كتبه عن هشام انه قال بين الله وبين الاجسام المحسوسة تشابه من بعض الوجوه لولا ذلك ما دلت عليه.
وذكر الجاحظ في بعض كتبه عن هشام انه قال ان الله عز وجل انما يعلم ما تحت الثرى بالشعاع المتصل منه والذاهب في عمق الأرض وقالوا لولا مماسة شعاعه لما وراء الاجسام السائرة لما رأى ما وراءها ولا علمها.
وذكر ابو عيسى الوراق في كتابه أن بعض أصحاب هشام أجابه الى أن الله عز وجل مماس لعرشه لا يفصل عن العرش ولا يفصل العرش عنه.(12/30)
وقد روى أن هشاما مع ضلالته في التوحيد ضل في صفات الله أيضا فأحال القول بأن الله لم يزل عالما بالاشياء.
وزعم أنه علم الاشياء بعد أن لم يكن عالما بها بعلم وان العلم صفة له ليست هي هو ولا غيره ولا بعضه. قال ولا يقال لعلمه انه قديم ولا محدث لانه صفة وزعم ان الصفة لا توصف.
وقال ايضا في قدرة الله وسمعه وبصره وحياته وإرادته انها لا قديمة ولا محدثة لان الصفة لا توصف وقال فيها انها هى هو ولا غيره.
وقال ايضا لو كان لم يزل عالما بالمعلومات لكانت المعلومات أزلية لانه لا يصح عالم الا بمعلوم موجود كأنه أحال تعلق العلم بالمعدوم وقال ايضا لو كان عالما بما يفعله عباده قبل وقوع الافعال منهم لم يصح منه الا اختيار العباد وتكليفهم.
وكان هشام يقول في القرآن انه لا خالق ولا مخلوق ولا يقال انه غير مخلوق لانه صفة والصفة لا توصف عنده.
واختلفت الرواية عنه في أفعال العباد فروى عنه انها مخلوقة لله عز وجل وروى عنه انها معان وليست بأشياء ولا أجسام لان الشيء عنده لا يكون إلا جسما.
وكان هشام يجيز على الانبياء العصيان مع قوله بعصمة الائمة من الذنوب وزعم ان نبيه صلى الله عليه وسلم عصى ربه عز وجل في أخذ الفدا من أسارى بدر غير أن الله عز وجل عفى عنه وتأول على ذلك قول الله تعالى {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}. وفرق في ذلك بين النبي والإمام بان النبي إذا عصى اتاه الوحى بالتنبيه على خطاياه والإمام لا ينزل عليه الوحى فيجب أن يكون معصوما عن المعصية.
وكان هشام على مذهب الإمامية في الامامة وأكفره سائر الامامية باجازته المعصية على الانبياء وكان هشام يقول بنفى نهاية أجزاء الجسم وعنه أخذ النظام إبطال الجزء الذى لا يتجزى.
وحكى زرقان عنه في مقالته أنه قال بمداخلة الاجسام بعضها في بعض كما أجاز النظام تداخل الجسمين اللطيفين في حيز واحد.(12/31)
وحكى عنه زرقان انه قال الانسان شيئان بدن وروح والبدن موات والروح حساسة مدركة فاعلة وهى نور من الانوار.
وقال هشام في سبيل الزلزلة ان الارض مركبة من طبائع مختلفة يمسك بعضها بعضا فاذا ضعفت طبيعة منها غلبت الاخرى فكانت الزلزلة فان ازدادت الطبيعة ضعفا كان الخسف.
وحكى زرقان عنه أنه أجاز المشى على الماء لغير نبى مع قوله بأنه لا يجوز ظهور الاعلام المعجزة على غير نبى.
ذكر هشام بن سالم الجواليقى هذا الجواليقى مع رفضه على مذهب الاماميه مفرط في التجسيم والتشبيه لأنه زعم أن معبوده على صورة الانسان ولكنه ليس بلحم ولا دم بل هو نور ساطع بياضا.
وزعم انه ذو حواس خمس كحواس الانسان وله يد ورجل وعين وأذن وأنف وفم وانه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة وأن نصفه الأعلى مجوف ونصفه الاسفل مصمت
وحكى ابو عيسى الوراق أنه زعم أن لمعبوده وفرة سوداء وانه نور اسود وباقيه نور أبيض.
وحكى شيخنا أبو الحسن الاشعرى في مقالاته: أن هشام بن سالم قال في ارادة الله تعالى بمثل قول هشام بن الحكم فيها وهى أن ارادته حركة وهى معنى لا هى الله ولا غيره وان الله تعالى اذا أراد شيئا تحرك فكان ما أراد.
قال ووافقهما أبو مالك الحضرمى وعلى بن ميثم وهما من شيوخ الروافض ان ارادة الله تعالى حركة غير انهما قالا إن إرادة الله تعالى غير
وحكى ايضا عن الجواليقى أنه قال في أفعال العباد أنها أجسام لانه لا شىء في العالم إلا الاجسام وأجاز ان يفعل العباد الاجسام وروى مثل هذا القول عن شيطان الطاق ايضا.
ذكر الزرارية منهم:(12/32)
هؤلاء اتباع على زرارة بن أعين وكان على مذهب القحضية القائلين بامامة عبد الله بن جعفر ثم انتقل الى مذهب الموسوية وبدعته المنسوبة اليه قوله بان الله عز وجل لم يكن حيا ولا قادرا ولا سميعا ولا بصيرا ولا عالما ولا مريدا حتى خلق لنفسه حياة وقدرة وعلما وإرادة وسمعا وبصرا فصار بعد أن خلق لنفسه هذه الصفات حيا قادرا عالما مريدا سميعا بصيرا وعلى منوال هذا الضال نسجت القدرية البصرية بحدوث الله وحدوث كلامه وعليه نسجت الكرامية قولها بحدوث قول الله وإرادته وإدراكاته.
ذكر اليونسية منهم:
هؤلاء اتباع يونس بن عبد الرحمن القمى وكان في الامامية على مذهب القطيعية الذين قطعوا بموت موسى بن جعفر وهو الذي لقب الواقفة في موت موسى بالكلاب الممطورة وأفرط يونس هذا في باب التشبيه فزعم ان الله عز وجل يحمله حملة عرشه وهو أقوى منهم كما ان الكرسى يحمله رجلاه وهو أقوى من رجليه واستدل على أنه محمول بقول ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية وقال اصحابنا الآية دلالة على ان العرش هو المحمول دون الرب تعالى.
ذكر الشيطانية منهم:
هؤلاء أتباع محمد بن النعمان الرافضى الملقب بشيطان الطاق الى ابنه موسى وقطع بموت موسى وانتظر بعض أسباطه وشارك هشام بن سالم الجواليقى في دعواهما أن أفعال العباد أجسام وأن العبد يصح أن يفعل الجسم وشارك هشام بن الحكم وتكليفهم وزعم أيضا أن الله تعالى إنما يعلم الاشياء اذا قدرها وأرادها ولا يكون قبل تقديره الاشياء عالما بها، وإلا ما صح تكليف العباد.
قال عبد القاهر قد ذكرنا في هذا الفصل فرق الرفض بين الزيدية والكيسانية والامامية والكيسانية منهم اليوم مغمورون في غمار أخلاط الزيدية والامامية وبين الزيدية والامامية منهم معاداة تورث تضليل بعضهم بعضا وقال بعض الشعراء الإمامية يهجى الزيدية:
يا أيها الزيدية المهملة إمامكم ذا آفة مرسله(12/33)
يا ضماث الحق تبا لكم غصتم فأخرجتم لنا جندله
فاجابه شاعر الزيدية:
إمامنا منتصب قائم لا كالذى يطلب بالعربلة
كل إمام لا يرى جهرة ليس يساوى عندنا خردلة
قال عبد القاهر قد أجبنا الفريقين عن شعرهما بقولنا:
يا أيها الرافضة المبطلة دعواكم من أصلها مبطلة
إمامكم ان غاب في ظلمة فاستدركوا الغائب بالمشعله
أو كان مغمورا باغماركم فاستخرجوا المغمور بالغربلة
لكن إمام الحق في قولنا من سنة أو أية منزلة
وفيهما للمهتدى مقنع كفى بهذين لنا منزله
{الفصل الثاني}
من فصول هذا الباب
في بيان مقالات فرق الخوارج
قد ذكرنا قبل هذا أن الخوارج عشرون فرقة وهذه أسماؤها المحكمة الاولى الأزارقة والنجدات والصفرية ثم العجاردة المفترقة فرقا منها الخازمية والشعيبية والمعلومية والمجهولية وأصحاب طاعة لا يراد الله تعالى بها والصلتية والاخنسية والشيبية والشيبانية والمعبدية والرشيدية والمكرمية والخمرية والشمراخية والابراهيمية والوافقة والاباضية منهم افترقت فرقا معظمها فريقان حفصية وحادثية فأما اليزيدية من الأباضية والميمونية من العجاردة فانها فرقتنا من غلاة الكفرة الخارجين عن فرق الامة وسنذكرهما في باب ذكر فرق الغلاة بعد هذا ان شاء الله عز وجل.
وقد اختلفوا فيما يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها فذكر الكعبى في مقالاته أن الذى يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها إكفار على وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وكل من رضى بتحكيم الحكمين والإكفار بارتكاب الذنوب ووجوب الخروج على الإمام الجائر.(12/34)
وقال شيخنا أبو الحسن الذى يجمعها إكفار على وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين ومن رضى بالتحكيم وصوب الحكمين او أحدهما ووجوب الخروج على السلطان الجائر ولم يرض ما حكاه الكعبى من إجماعهم على تكفير مرتكبى الذنوب الصواب ما حكاه شيخنا أبو الحسن عنهم وقد أخطأ الكعبى في دعواه إجماع الخوارج على تكفير مرتكبى الذنوب منهم وذلك ان النجدات من الخوراج لا يكفرون أصحاب الحدود من موافقتهم.
وقد قال قوم من الخوارج ان التكفير انما يكون بالذنوب التي ليس فيها وعيد مخصوص فاما الذى فيه حد او عيد في القرآن فلا يزاد صاحبه على الاسم الذى ورد فيه مثل تسميته زانيا وسارقا ونحو ذلك.
وقد قالت النجدات إن صاحب الكبيرة من موافقتهم كافر نعمة وليس فيه كفر دين.
وفى هذا بيان خطإ الكعبى في حكايته عن جميع الخوارج تكفير أصحاب الذنوب كلهم منهم ومن غيرهم.
وإنما الصواب فيما يجمع الخوارج كلها ما حكاه شيخنا الحسن رحمه الله من تكفيرهم عليا وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين ومن صوبهما او صوب احدهما أو رضى بالتحكيم ونذكر الآن تفصيل كل فرقة منهم إن شاء الله عز وجل.
ذكر المحكمة الأولى منهم: يقال للخوارج محكمة وشراة.
واختلفوا في اول من تشرى منهم فقيل عروة بن حدير أخو مرادس الخارجى وقيل اولهم يزيد بن عاصم المحاذى وقيل رجل من ربيعة من بنى يشكر كان مع على بصفين فلما رأى اتفاق الفريقين على الحكمين استوى على فرسه وحمل على أصحاب معاوية وقتل منهم رجلا وحمل على أصحاب على وقتل منهم رجلا ثم نادى بأعلى صوته ألا إنى قد خلعت عليا ومعاوية وبرئت من حكمهما ثم قاتل أصحاب على حتى قتله قوم من همذان.(12/35)
ثم إن الخوارج بعد رجوع على من صفين الى الكوفة انحازوا الى حرورا وهم يومئذ اثنا عشر الفا ولذلك سميت الخوارج حرورية وزعيمهم يومئذ عبد الله بن كوا وشبت بن ربعى وخرج اليهم على وناظرهم ووضحت حجته عليهم فاستأمن اليه ابن الكوا مع عشرة من الفرسان وانحاز الباقون منهم الى النهروان وأمروا على أنفسهم رجلين أحدهما عبد الله بن وهب الراسبى والآخر حرقوص بن زهير البجلي العرني المعروف بذى الثدية والتقوا في طريقهم الى نهروان برجل رأوه يهرب منهم فأحاطوا به وقالوا له من أنت قال انا عبد الله بن حباب بن الأرت فقالوا له حدثنا حديثا سمعته عن أبيك عن رسول الله فقال سمعت أبي يقول قال رسول الله ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشى والماشى خير من الساعى فمن استطاع ان يكون فيها مقتولا فلا يكونن قاتلا فشد عليه رجل من الخوارج يقال له مسمع بن قدلي بسيفه فقتله فجرى دمه فوق ماء النهر كالشراك الى الجانب الآخر ثم إنهم دخلوا منزله وكان في القرية التى قتلوه على بابها فقتلوا ولده وجاريته أم ولده ثم عسكروا بنهروان وانتهى خبرهم الى على رضي الله عنه فسار اليهم في أربعة ألف من أصحابه وبين يديه عدى بن حاتم الطائى وهو يقول:
نسير اذا ما كاع قوم وبلدوا برايات صدق كالنسور الخوافق
الى شر قوم من شراة تحزبوا وعادوا إله الناس رب المشارق
طغاة عماة مارقين عن الهدى وكل ينفى قوله غير صادق
وفينا على ذو المعالى يقودنا اليهم جهارا بالسيوف البوارق(12/36)
فلما قرب على منهم أرسل اليهم على: أن سلموا قاتل عبد الله ابن حباب فأرسلوا اليه إنا كلنا قتله ولئن ظفرنا بك قتلناك فأتاهم على في جيشه وبرزوا اليه يجمعهم فقال لهم قبل القتال ماذا نقمتم منى فقالوا له اول ما نقمنا منك أنا قاتلنا بين يديك يوم الجمل فلما انهزم أصحاب الجمل أبحت لنا ما وجدنا في عسكرهم من المال ومنعتنا من سبى نسائهم وذراريهم فكيف استحللت مالهم دون النساء والذرية فقال إنما أبحت لكم أموالهم بدلا عما كانوا أغاروا عليه من بيت مال البصرة قبل قدومى عليهم والنساء والذرية لم يقاتلونا وكان لهم حكم الاسلام بحكم دار الاسلام ولم يكن منهم ردة عن الاسلام ولا يجوز استرقاق من لم يكفر وبعد لو أبحت لكم النساء أيكم يأخذ عائشة فى سهمه فخجل القوم من هذا ثم قالوا له نقمنا عليك محو إمرة أمير المؤمنين على اسمك في الكتاب بينك وبين معاوية لما نازعك معاوية في ذلك فقال فعلت مثل ما فعل رسول الله يوم الحديبية حين قال له سهيل بن عمرو لو علمت انك رسول الله لما نازعتك ولكن اكتب باسمك واسم ابيك فكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو وأخبرنى رسول الله ان لى منهم يوما مثل ذلك فكانت قصتى في هذا مع الأبناء قصة رسول الله مع الآباء فقالوا له فلم قلت للحكمين إن كنت اهلا للخلافة فأثبتانى فإن كنت في شك من خلافتك فغيرك بالشك فيك اولى فقال إنما أردت بذلك النصفة لمعاوية ولو قلت للحكمين احكما لى بالخلافة لم يرض بذلك معاوية وقد دعا رسول الله عليه السلام نصارى نجران الى المباهلة وقال لهم {تعالوا ندع ابناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين}. فانصفهم بذلك عن نفسه ولو قال ابتهل فاجعل لعنة الله عليكم لم يرض النصارى بذلك لذلك أنصفت انا معاوية من نفسى ولم أدر غدر عمرو بن العاص قالوا فلم حكمت الحكمين في حق كان لك فقال وجدت رسول الله قد حكم سعد بن معاذ فى(12/37)
بنى قريظة ولو شاء لم يفعل وأقمت أنا أيضا حكما لكن حكم رسول الله عليه السلام حكم بالعدل وحكمى خدع حتى كان من الامر ما كان فهل عندكم شيء سوى هذا فسكت القوم وقال اكثرهم صدق والله وقالوا التوبة واستأمن اليه منهم يومئذ ثمانية الف وانفرد منهم أربعة الآف بقتاله مع عبد الله بن وهب الراسبى وحرقوص بن زهير البجلى وقال على للذين استأمنوا اليه اعتزلونى في هذا اليوم وقاتل الخوارج بالذين قدموا معه من الكوفة وقال لاصحاب قاتلوهم فوالذى نفسى بيده لا يقتل منا عشرة ولا ينجو عشرة منهم فقتل من أصحاب على يومئذ تسعة وهم دويبية بن وبرة البجلى وسعد بن مجالد السيبعى وعبد الله بن حماد الجهيرى ورقانة بن وائل الارجى والفياض بن خليل الازدى وكبسوم بن سلمة الجهنى وعتبة بن عبيد الخلاوني وجميع بن جشم الكندى وحبيب بن عاصم الأودى قتل هؤلاء التسعة تحت راية على رضى الله عنه فحسب وبرز حرقوص بن زهير الى على وقال يا بن أبى طالب والله لا نريد بقتالك إلا وجه الله والدار الآخرة وقال له على بل مثلكم كما قال الله عز وجل {هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}. منهم أنتم ورب الكعبة ثم حمل عليهم في أصحابه وقتل عبد الله بن وهب في المبارزة وصرع ذو الثدية عن فرسه وقتلت الخوارج يومئذ فلم يفلت منهم غير تسعة أنفس صار منهم رجلان الى سجستان ومن اتباعهما خوارج سجستان ورجلان صارا الى اليمن ومن أتباعهما أباضية اليمن ورجلان صارا الى عمان ومن اتباعهما خوارج عمان ورجلان صارا الى ناحية الجزيرة ومن اتباعهما كان خوارج الجزيرة ورجل منهم صار الى تل مورون وقال على لاصحابه يومئذ اطلبوا ذا الثدية فوجدوه تحت دالية ورأوا تحت يده عند الابط مثل ثدى المراة فقال صدق الله ورسوله وأمر فقتل.(12/38)
فهذه قصة المحكمة الاولى وكان دينهم كفار على وعثمان وأصحاب الجمل ومعاوية واصحابه والحكمين ومن رضى بالتحكيم وإكفار كل ذى ذنب ومعصية.
ثم خرج على على بعد ذلك من الخوراج جماعة كانوا على رأي المحكمة الاولى منهم أشرس بن عوف وخرج عليه بالأنبار وغلفة التيمى من تيم عدى خرج عليه بماسيذان والاشهب بن بشر العرنى خرج عليه بحر جرايا وسعد بن قفل خرج عليه بالمدائن وابو مريم السعدى خرج عليه في سواد الكوفة فاخرج على الى كل واحد منهم جيشا مع قائد حتى قتلوا أولئك الخوارج ثم قتل على رضي الله عنه في تلك السنة في شهر رمضان سنة ثمانى وثلاثين من الهجرة.
فلما استوت الولاية لمعاوية خرج عليه وعلى من بعده الى زمان الازارقة قوم كانوا على رأى المحكمة الأولى.
منهم عبد الله بن جوشا الطائى خرج على معاوية بالنخيلة من سواد الكوفة فأخرج معاوية اليه اهل الكوفة حتى قتلوا اولئك الخوراج.
ثم خرج عليه حوثرة بن وداع الأسدى وكان من المستأمنين الى على يوم النهروان في سنة احدى وأربعين.
ثم خرج قروة بن نوفل الأشجعى المستورد بن علقمة التميمى على المغيرة بن شعبة وهو يومئذ امير الكوفة من قبل معاوية فقتلا في حربه.
ثم خرج معاذ بن جرير على المغيرة فقتل في حربه.
ثم خرج زياد بن خراش العجلى على زياد بن أبيه فقتل في حربه.
وخرج قريب بن مرة على عبيد الله بن زياد وخرج عليه ايضا زحاف بن رحر الطائى واستعرضا الناس في الطريق بالسيف فأخرج بن زياد اليهما بعباد بن الحصين الحيطى في جيش فقتلوا اولئك الخوارج.
فهؤلاء هم الخوارج الذين عاونوا على المحكمة الاولى قبل فتنة الأزارقة والله اعلم.
ذكر الأزارقة منهم:
هؤلاء اتباع نافع بن الازرق الحنفى المكنى بأبى راشد ولم تكن للخوارج قط فرقة اكثر عددا ولا أشد منهم شوكة.
والذى جمعهم من الدين أشياء:(12/39)
منها قولهم بأن مخالفيهم من هذه الامة مشركون وكانت المحكمة الاولى يقولون إنهم كفرة لا مشركون.
ومنها قولهم إن القعدة ممن كان على رأيهم عن الهجرة اليهم مشركون وإن كانوا على رأيهم وكانت المحكمة الاولى لا يكفرون القعدة عنهم اذا كانوا على رأيهم.
ومنها أنهم أوجبوا امتحان من قصد عسكرهم إذا ادعى أنه منهم أن يدفع اليه اسير من مخالفيهم وأمروه بقتله فإن قتله صدقوه في دعواه أنه منهم وان لم يقتله قالوا هذا منافق ومشرك وقتلوه.
ومنها أنهم استباحوا قتل نساء مخالفيهم وقتل أطفالهم وزعموا أن الاطفال مشركون وقطعوا بأن أطفال مخالفيهم مخلدون في النار.
واختلفوا في أول من أحدث ما انفردت الأزارقة به من إكفار القعدة عنهم ومن امتحان من قصد عسكرهم.
فمنهم من زعم أن أول من أحدث ذلك منهم عبد ربه الكبير ومنهم من قال عبد ربه الصغير.
ومنهم من قال أول من قال ذلك رجل منهم اسمه عبد الله ابن الوضين وخالف نافع بن الأزرق في ذلك واستتابه منه فلما مات ابن الوضين رجع نافع واتباعه الى قوله وقالوا كان الصواب معه ولم يكفر نافع نفسه بخلافه إياه حين خالفه وأكفر من يخالفه بعد ذلك ولم يتبرأ من المحكمة الاولى في تركهم إكفار القعدة عنهم وقال ان هذا شىء ما زلنا دونهم وأكفر من يخالفهم بعد ذلك في اكفار القعدة عنهم.
وزعم نافع واتباعه أن دار مخالفيهم دار كفر ويجوز فيها قتل الأطفال والنساء وأنكرت الأزارقة الرجم واستحلوا كفر الأمانة التي أمر الله تعالى بأدائها وقالوا ان مخالفينا مشركون فلا يلزمنا إذا امانتنا إليهم ولم يقيموا الحد على قاذف الرجل المحصن وأقاموه على قاذف المحصنات من النساء وقطعوا يد السارق في القليل والكثير ولم يعتبروا في السرقة نصابا.(12/40)
وأكفرتهم الأمة في هذه البدع التي أحدثوها بعد كفرهم الذى شاركوا فيه المحكمة الاولى فباءوا بكفر على كفر كمن باء بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين.
ثم الازارقة بعد اجتماعها على البدع التى حكيناها عنهم بايعوا نافع بن الازرق وسموه أمير المؤمنين وانضم اليهم خوارج عمان واليمان فصاروا اكثر من عشرين ألفا واستولوا على الأهواز وما وراءها من أرض فارس وكرمان وجبوا خراجها وعامل البصرة يومئذ عبد الله بن الحرث الخزاعى من قبل عبد الله بن الزبير فأخرج عبد الله بن الحرث جيشا مع مسلم بن عبس بن كريز بن حبيب بن عبد شمس لحرب الأزارقة فاقتتل الفريقان بدولاب الاهواز فقتل مسلم ابن عبس وأكثر أصحابه فخرج الى حربهم من البصرة عثمان ابن عبيد الله بن معمر التميمى فى ألفى فارس فهزمته الازارقة فخرج اليهم حارثة بن بدر الفدانى في ثلاثة آلاف من جند البصرة فهزمتهم الازارقة فكتب عبد الله بن الزبير من مكة الى المهلب ابن أبي صفرة وهو يومئذ بخراسان يأمره بحرب الازارقة وولاه ذلك فرجع المهلب الى البصرة وانتخب من جندها عشرة آلاف وانضم اليه قومه من الأزد فصار في عشرين ألفا وخرج وقاتل الأزارقة وهزمهم عن دولاب الأهواز إلى الأهواز ومات نافع ابن الأزرق في تلك الهزيمة وبايعت الأزارقة بعده عبيد الله بن مأمون التميمى وقاتلهم المهلب بعد ذلك بالاهواز فقتل عبيد الله بن مأمون في تلك الواقعة وقتل ايضا أخوه عثمان بن مأمون مع ثلثمائة من أشد الازارقة وانهزم الباقون منهم الى ايدج وبايعوا قطرى بن الفجاءة وسموه أمير المؤمنين وقاتلهم المهلب بعد ذلك حروبا كانت سجالا وانهزمت الأزارقة في آخرها الى سابور من أرض فارس وجعلوها دار هجرتهم وثبت المهلب وبنوه وأتباعهم على قتالهم تسع عشرة سنة بعضها في أيام عبد الله بن الزبير وباقيها في زمان خلافة عبد الملك بن مروان وولاية الحجاج على العراق وقرر الحجاج المهلب على حرب الازارقة فدامت الحرب في(12/41)
تلك السنين بين المهلب وبين الازارقة كرا وفرا فيما بين فارس والاهواز الى أن وقع الخلاف بين الازارقة ففارق عبد ربه الكبير قطريا وصار الى واد بجيرفت كرمين في سبعة آلاف رجل وفارقه عبد ربه الصغير في أربعة آلاف وصار الى ناحية اخرى من كرمان وبقى قطري في بضعة عشر ألف رجل بأرض فارس وقاتله المهلب بها وهزمه الى أرض كرمان وتبعه وقاتله بأرض كرمان وهزمه منها الى الرى ثم قاتل عبد ربه الكبير فقتله وبعث بابنه يزيد بن المهلب الى عبد ربه الصغير فأتى عليه وعلى اصحابه وبعث الحجاج سفين بن الأبرد الكلبى في جيش كثيف الى قطرى بعد أن انحاز من الرى الى طبرستان فقتلوه بها وانفذوا برأسه الى الحجاج وكان عبيدة بن هلال اليشكرى قد فارق قطريا وانحاز الى قومس فتبعه سفين بن الابرد وحاصره في حصن قومس الى ان قتله وقتل اتباعه وطهر الله بذلك الارض من الازارقة والحمد لله على ذلك.
ذكر النجدات منهم:
هؤلاء اتباع نجدة بن عامر الحنفى وكان السبب في رياسته وزعامته أن نافع بن الازرق لما أظهر البراءة من القعدة عنه ان كانوا على رايه وسماهم مشركين واستحل قتل أطفال مخالفيه ونسائهم وفارقه أبو قديل وعطية الحنفى وراشد الطويل ومقلاص وأيوب الأزرق وجماعة من اتباعهم وذهبوا الى اليمامة فاستقبلهم نجدة بن عامر في جند من الخوارج يريدون اللحوق بعسكر نافع فاخبروهم بأحداث نافع وردوهم الى اليمامة وبايعوا بها نجدة بن عامر وأكفروا من قال بإكفار القعدة منهم عن الهجرة اليهم وأكفروا من قال بإمامة نافع وأقاموا على إمامة نجدة الى أن اختلفوا عليه في امور نقموها منه فلما اختلفوا عليه صاروا ثلاث فرق:
فرقة صارت مع عطية بن الأسود الحنفى الى سجستان وتبعهم خوارج سجستان ولهذا قيل لخوارج سجستان في ذلك الوقت عطوية.
وفرقة صارت مع أبي قديل حربا على نجدة وهم الذين قتلوا نجدة.(12/42)
وفرقة عدروا نجدة في احداثه وأقاموا على إمامته والذى نقمه على نجدة اتباعه أشياء:
منها انه بعث جيشا في غزو البر وجيشا في غزو البحر ففضل الذين بعثهم في البر على الذين بعثهم في البحر في الرزق والعطا.
ومنها أنه بعث جيشا فأغاروا على مدينة الرسول عليه السلام وأصابوا منها جارية من بنات عثمان بن عفان فكتب اليه عبد الملك في شأنها فاشتراها من الذى كانت في يديه وردها الى عبد الملك بن مروان فقالوا له إنك رددت جارية لنا على عدونا.
ومنها أنه عذر أهل الخطأ في الاجتهاد بالجهالات وكان السبب في ذلك أنه بعث ابنه المطرح مع جند من عسكره الى القطيف فأغاروا عليها وسبوا منها النساء والذرية وقوموا النساء على أنفسهم ونكحوهن قبل إخراج الخمس من الغنيمة وقالوا ان دخلت النساء في قسمنا فهو مرادنا وان زادت فيمهن على نصيبنا من الغنيمة غرمنا الزيادة من أموالنا فلما رجعوا الى نجدة سألوه عما فعلوا من وطء النساء ومن أكل طعام الغنيمة قبل إخراج الخمس منها وقبل قسمة أربعة أخماسها بين الغانمين فقال لهم لم يكن لكم ذلك فقالوا لم نعلم ان ذلك لا يحل لنا فعذرهم بالجهالة ثم قال ان الدين أمران أحدهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وتحريم دماء المسلمين وتحريم غصب اموال المسلمين والإقرار بما جاء من عند الله تعالى جملة فهذا واجب معرفته على كل مكلف وما سواه فالناس معذورون بجهالته حتى يقيم عليه الحجة في الحلال والحرام فمن استحل باجتهاده شيئا محرما فهو معذور ومن خاف من العذاب على المجتهد المخطىء قبل قيام الحجة عليه فهو كافر.
ومن بدع نجدة ايضا انه تولى اصحاب الحدود من موافقيه وقال لعل الله يعذبهم بذنوبهم في غير نار جهنم ثم يدخلهم الجنة وزعم أن النار يدخلها من خالفه في دينه.
ومن ضلالاته أيضا أنه أسقط حد الخمر.(12/43)
ومنها ايضا أنه قال من نظر نظرة صغيرة أو كذب كذبة صغيرة وأصر عليها فهو مشرك ومن زنى وسرق وشرب الخمر غير مصر عليه فهو مسلم اذا كان من موافقيه على دينه.
فلما أحدث هذا الإحداث وعذر اتباعه بالجهالات استتابه أكثر أتباعه من إحداثه وقالوا له اخرج الى المسجد وتب من إحداثك ففعل ذلك.
ثم ان قوما منهم ندموا على استتابته وانضموا الى العاذرين له وقالوا له أنت الإمام ولك الاجتهاد ولم يكن لنا ان نستتيبك فتب من توبتك واستتب الذين استتابوك وإلا نابذناك ففعل ذلك فافترق عليه أصحابه وخلعه اكثرهم وقالوا له اختر لنا إماما فاختار أبا فديك وصار راشد الطويل مع أبى فديك يدا واحدة فلما استولى أبو فديك على اليمامة علم ان أصحاب نجدة اذا عادوا من غزواتهم أعادوا نجدة الى الإمارة فطلب عبده ليقتله فاختفى نجدة في دار بعض عاذريه ينتظر رجوع عساكره الذين كان قد فرقهم في سواحل الشام ونواحى اليمن ونادى منادى أبى فديك من دلنا على نجدة فله عشرة آلاف درهم وأى مملوك دلنا عليه فهو حر فدلت عليه أمة للذين كان نجدة عندهم فأنفذ أبو فديك راشدا الطويل في عسكر اليه فكسبوه وحملوا رأسه الى أبى فديك.
فلما قتل نجدة صارت النجدات بعده ثلاث فرق:
فرقة أكفرته وصارت الى أبى فديك كراشد الطويل وأبى بيهس وأبى الشمراخ واتباعهم.
وفرقة عذرته فيما فعل وهم النجدات اليوم.
وفرقة من النجدات بعدوا عن اليمامة وكانوا بناحية البصرة شكوا فيما حكى من احداث نجدة توقفوا في أمره وقالوا لا ندري هل أحدث تلك الأحداث ام لا فلا نبرأ منه الا باليقين.
وبقى ابو فديك بعد قتل نجدة الى ان بعث اليه عبد الملك بن مروان يعمر بن عبيد الله بن معمر التيميى في جند فقتلوا أبا فديك وبعثوا برأسه الى عبد الملك بن مروان فهذه قصة النجدات.
ذكر الصفرية من الخوارج:(12/44)
هؤلاء اتباع زياد بن الأصفر وقولهم في الجملة كقول الأزارقة في أن أصحاب الذنوب مشركون غير أن الصفرية لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم والأزارقة يرون ذلك وقد زعمت فرقة من الصفرية أن ما كان من الأعمال عليه حد واقع لا يسمى صاحبه الا بالاسم الموضوع له كزان وسارق وقاذف وقاتل عمد وليس صاحبه كافرا ولا مشركا وكل ذنب ليس فيه حد كترك الصلاة والصوم فهو كفر وصاحبه كافر وان المواعن كذا المذنب اسم الايمان في الوجهين جميعا وفرقة ثالثة من الصفرية قالت بقول من قال من البيهسية ان صاحب الذنب لا يحكم عليه بالكفر حتى يرفع الى الوالي فيحده فصارت الصفرية على هذا التقدير ثلاث فرق:
فرقة تزعم أن صاحب كل ذنب مشرك كما قالت الازارقة.
والثانية تزعم أن اسم الكفر واقع على صاحب دين ليس فيه حد والمحدود في ذنبه خارج عن الايمان وغير داخل في الكفر.
والثالثة تزعم أن اسم الكفر يقع على صاحب الذنب اذا حده الوالي على ذنبه.
وهذه الفرق الثلاث من الصفرية يخالفون الأزارقة في الاطفال والنساء كما بيناه قبل هذا وكل الصفرية يقولون بموالاة عبد الله بن وهب الراسبى وحرقوص بن زهير واتباعهما من المحكمة الاولى ويقولون بإمامة ابى بلال مرداس الخارجى بعدهم وبإمامة عمران بن حطان السدويسي بعد ابى بلال.(12/45)
فأما ابو بلال مرداس فإنه خرج في أيام يزيد بن معاوية بناحية البصرة على عبيد الله بن زياد فبعث اليه عبيد الله بن زياد بزرعة بن مسلم العامرى في ألفى فارس وكان زرعة يميل الى قول الخوارج فلما اصطف الفريقان للقتال قال زرعة لأبى بلال أنتم على الحق ولكنا نخاف من ابن زياد أن يسقط عطانا فلا بد لنا من قتالكم فقال له أبو بلال وددت لو كنت قبلت فيكم قول أخى عروة فإنه اشار على بالاستعراض لكم كما استعرض قريب وزحاف الناس في طرقهم بالسيف ولكنى خالفتهما وخالفت أخى ثم حمل ابو بلال وأتباعه على زرعة وجنده فهزموهم ثم إن عبيد الله بن زياد بعث اليه بعباد بن أخضر التميمى فقاتل ابا بلال بنوج وقتله مع اتباعه فلما ورد على ابن زياد خبر قتل أبى بلال قتل من وجدهم بالبصرة من الصفرية وظفر بعروة أخى مرداس فقال له يا عدو الله أشرت على اخيك مرداس بالاستعراض للناس فقد انتقم الله تعالى للناس منك ومن أخيك ثم أمر به فقطعت يداه ورجلاه وصلبه.
فلما قتل مرداس اتخذت الصفرية عمران بن حطان إماما وهو الذى رثى مرداسا بقصائد يقول في بعضها:
أنكرت بعدك ما قد كنت اعرفه ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
وكان عمران بن حطان هذا ناسكا شاعرا شديدا في مذهب الصفرية وبلغ من خبثة في غزوة على رضي الله عنه أنه رثى عبد الرحمن بن ملجم وقال في ضربه عليا:
يا ضربة من منيب ما أراد بها الا ليبلغ قردى العرش رضوانا
إنى لأذكره يوما فأحسبه أو في البرية عند الله ميزانا
قال عبد القاهر وقد أجبناه عن شعره هذا بقولنا:
يا ضربة من كفور ما استفاد بها إلا الجداء بما يصليه نيرانا
إنى لألعنه دينا وألعن من يرجو له أبدا عفوا وغفرانا
ذاك الشقي لأشفى الناس كلهم أخفهم عند رب الناس ميزانا
ذكر العجاردة من الخوارج:(12/46)
العجاردة كلها أتباع عبد الكريم بن عجرد وكان عبد الكريم من اتباع عطيه بن الاسود الحنفى وقد كانت العجاردة مفترقة عشر فرق يجمعهاالقول بأن الطفل يدعى إذا بلغ وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يدعى الىالاسلام أو يصفه هو وفارقوا الازارقة في شيء آخر وهو ان الازارقة استحلت أموال مخالفيهم بكل حال والعجاردة لا يرون أموال مخالفيهم فيئا الا بعد قتل صاحبه فكانت العجاردة على هذه الجملة الى ان افترقت فرقها التى نذكرها بعد هذا.
ذكر الخازمية منهم
هؤلاء أكثر عجاردة سجستان وقد قالوا في باب القدر والاستطاعة والمشيئة بقول أهل السنة أن لا خالق إلا الله ولا يكون إلا ما شاء الله وأن الاستطاعة مع الفعل وأكفر والميمونية الذين قالوا في باب القدر والاستطاعة بقول القدرية المعتزلة عن الحق.
ثم إن الخازمية خالفوا أكثر الخوارج في الولاية والعداوة وقالوا انهما صفتان لله تعالى وإن الله عز وجل إنما يتولى العبد على ما هو صائر اليه من الايمان وإن كان في أكثر عمره كافرا ويرى منه ما يصير اليه من الكفر فى آخر عمره وإن كان فى أكثر عمره مؤمنا وان الله تعالى لم يزل محبا لأوليائه ومبغضا لأعدائه وهذا القول منهم موافقا لقول أهل السنة فى الموافاة غير ان أهل السنة ألزموا الخازمية على قولها بالموافاة ان يكون على وطلحة والزبير وعثمان من أهل الجنة لانهم من أهل بيعة الرضوان الذين قال الله تعالى فيهم {لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} وقالوا لهم اذا كان الرضا من الله تعالى عن العبد انما يكون على علم انه يموت على الايمان وجب ان يكون المبايعون تحت الشجرة على هذه الصفة وكان على وطلحة والزبير منهم وكان عثمان يومئذ أسيرا فبايع له النبي وجعل يده بدلا عن يده وصح بهذا بطلان قول من أكفر هؤلاء الاربعة.
ذكر الشعيبية منهم(12/47)
قول هؤلاء فى باب القدر والاستطاعة والمشيئة كقول الخازمية وانما ظهر ذكر الشعيبية حين نازع زعيمهم المعروف بشعيب رجلا من الخوارج اسمه ميمون وكان السبب في ذلك أنه كان لميمون على شعيب مال فتقاضاه فقال له شعيب أعطيكه ان شاء الله فقال له ميمون قد شاء الله ذلك الساعة فقال شعيب لو كان قد شاء ذلك لم استطع ألا اعطيكه فقال ميمون قد أمرك الله بذلك وكل ما أمر به فقد شاءه وما لم يشأ لم يأمر به فافترقت العجاردة عند ذلك فتبع قوم شعيبا وتبع آخرون ميمونا وكتبوا في ذلك الى عبد الكريم بن عجرد وهو يومئذ في حبس السلطان فكتب في جوابهم إنما نقول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا نلحق بالله سواء فوصل الجواب اليهم بعد موت ابن عجرد وادعى ميمون أنه قال بقوله لأنه قال لا نلحق بالله سوءا وقال شعيب بل قال بقولى لأنه قال نقول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ومالت الخازمية وأكثر العجاردة الى شعيب ومالت الحمزية مع القدرية الى ميمون.
ثم زادت الميمونية على كفرها في القدر نوعا من المجوسية فأباحوا نكاح بنات البنات وبنات البنين ورأوا قتال السلطان ومن رضي بحكمه فرضا فأما من أنكره فلا يرون قتله إلا اذا أغار عليهم أو طعن في دينهم أو كان دليلا للسلطان.
وسنذكر الميمونية في جملة فرق الغلاة الخارجين عن الملة في باب بعد هذا إن شاء الله عز وجل.
وقد كان من جملة الميمونة رجل يقال له خلف ثم أنه خالف الميمونية في القدر والاستطاعة والمشيئة وقال في هذه الثلاثة بقول أهل السنة وتبعه على ذلك خوارج كرمان ومكران فيقال لهم الخلفية وهم الذين قاتلوا حمزة ابن اكرك الخارجى في أرض كرمان.
ذكر الخلفية منهم(12/48)
هم أتباع خلف الذى قاتل حمزة الخارجى والخلفية لا يرون القتال إلا مع إمام منهم وقد كفوا أيديهم عن القتال لفقدهم من يصلح للإمامة منهم وصارت الخلفية الى قول الأزارقة في شىء واحد وهو دعواهم أن أطفال مخالفيهم في النار.
ذكر المعلومية والمجهولية منهم
هاتان فرقتان من جملة الخازمية ثم أن المعلومية منهما خالفت سلفها في شيئين:
أحدهما دعواها أن من لم يعرف الله تعالى بجميع أسمائه فهو جاهل به والجاهل به كافر.
والثانى أنهم قالوا إن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى، ولكنهم قالوا في الاستطاعة والمشيئة بقول اهل السنة فى أن الاستطاعة مع الفعل وأنه لا يكون إلا ما شاء الله.
وهذه الفرقة تدعى إمامة من كان على دينها وخرج بسيفة على اعدائه من غير براءة فهم عن القعدة عنهم.
وأما المجهولية منهم فقولهم كقول المعلومية غير أنهم قالوا من عرف الله ببعض اسمائه فقد عرفه وأكفروا المعلومية منهم في هذا الباب.
ذكر الصلتية منهم:
هؤلاء منسوبون الى صلت بن عثمان وقيل صلت بن أبى الصلت وكان من العجاردة غير أنه قال إذا استجاب لنا الرجل وأسلم توليناه وبرئنا من أطفاله لأنه ليس لهم إسلام حتى يدركوا فيدعون حينئذ الى الاسلام فيقبلونه وبازاء هذه الفرقة فرقة اخرى وهى التاسعة من العجاردة زعموا أنه ليس لأطفال المؤمنين ولا لأطفال المشركين ولاية ولا عداوة حتى يدركوا فيدعوا الى الاسلام فيقبلوا او ينكروا
ذكر الحمزية منهم:(12/49)
هؤلاء اتباع حمزة بن أكرك الذي عاث سجستان وخراسان ومكران وقهستان وكرمان وهزم الجيوش الكثيرة وكان في الاصل من العجاردة الخازمية ثم خالفهم في باب القدر والاستطاعة فقال فيها بقول القدرية فأكفرته الخازمية في ذلك ثم زعم مع ذلك أن أطفال المشركين في النار فأكفرته القدرية في ذلك ثم إنه والى القعدة من الخوراج مع قوله بتكفير من لا يوافقه على قتال مخالفيه من فرق هذه الامة مع قوله بأنهم مشركون وكان اذا قاتل قوما وهزمهم أمر باحراق أموالهم وعقد دوابهم وكان مع ذلك يقتل الاسراء من مخالفيهم وكان ظهوره في أيام هارون الرشيد فى سنة تسع وسبعين ومائة وبقى الناس في فتنته الى أن مضى صدر من أيام خلافة المأمون ولما استولى على بعض البلدان جعل قاضيه أبا يحيى يوسف بن بشار وصاحب جيشه رجلا اسمه جيويه بن معبد وصاحب حرسه عمرو بن صاعد وكان معه جماعة من شعراء الخوارج كطلحة بن فهد وأبى الجلندى وأقرانهم وبدأ بقتال البيهسية من الخوارج وقتل الكثير منهم فسموه عند ذلك أمير المؤمنين وقال الشاعر طلحة بن فهد في ذلك:
أمير المؤمنين على رشاد وغير هداية نعم الأمير
امير يفضل الامراء فضلا كما فضل السها القمر المنير(12/50)
ثم ان حمزة أسرى سرية الى الخازمية من الخوارج بناحية فلجرد فقتل منهم مقتلة عظيمة ثم قصد بنفسه هراة فمنعه اهلها من دخولها فاستعرض الناس خارج المدينة وقتل منهم الكثير فخرج اليه عمرو بن يزيد الازدى وهو يومئذ والى هراة مع جنده فدامت الحرب بينهم شهورا وقتل من ارض هراة جماعة وقتل من أصحاب هيصم الشاري وكان داعية حمزة يدعو الناس الى ضلالته ثم أغار حمزة على كروخ من رستاق هراة واحرق أموالهم وعقر أشجارهم ثم حارب عمرو بن يزيد الأزدى بقرب بوشبخ وقتل عمر ثم انتصب على بن عيسى بن هاديان وهو يومئذ والى خراسان لحرب حمزة فانهزم منه الى ارض سجستان بعد ان قتل من قواده ستون رجلا سوى اتباعه فلما وصل الى سجستان منعه أهل زرنخ عن دخول البلد فاستعرض الناس بالسيف في صحراء البلد ثم تنكر لأهل زرنخ بان ألبس أصحابه السواد يوهمهم انهم أصحاب السلطان وأنذرهم بذلك منذر فمنعوه من دخول البلدة فعقر نخلهم في سوادهم وقتل المجتازين فى صحاريهم ثم قصد نهر شعبة وقتل بها الكثير من الخوارج الخلفية وعقر اشجارهم وأحرق أموالهم وانهزم منه رئيس للخلفية اسمه مسعود بن قيس وعبر فى هزيمته واديا وغرق فيه وشك أتباعه في موته وهم ينتظرونه الى اليوم ثم رجع حمزة من كرمان وأغار في طريقه على رستاق بست من رساتيق نيسابور وكان بها قوم من الخوارج الثعالبة فقتلهم حمزة ودامت فتنة بخراسان وكرمان وقهستان وسجستان الى آخر ايام الرشيد وصدر من خلافة المأمون لاشتغال حند أكثر خراسان بقتال رافع بن ليث بن نصر بن سيان على باب سمرقند فلما تمكن المأمون من الخلافة كتب الى حمزة كتابا استدعاه فيه الى طاعته فما ازداد الا عتوا في امره فبعث المأمون بطاهر بن الحسين لقتال حمزة فدارت بين طاهر وحمزة حروب قتل فيها من الفريقين مقدار ثلاثين ألفا أكثرهم من اتباع حمزة وانهزم فيها حمزة الى كرمان وأتى طاهر على القعدة عن حمزة ممن كان على رأيه وظفر بثلثمائة منهم فأمر(12/51)
بشد كل رجل منهم بالحبال بين شجرتين قد جذبت رؤوس بعضها الى بعض ثم قطع الرجل بين الشجرتين فرجعت كل واحدة من الشجرتين بالنصف من بدن المشدود عليها ثم ان المأمون استدعى طاهر بن الحسين من خراسان وبعث به الى منصبه فطمع حمزة في خراسان فأقبل فى جيشه من كرمان فخرج اليه عبد الرحمن النيسابورى في عشرين الف رجل من غزاة نيسابور ونواحيها فهزموا حمزة باذن الله وقتلوا الالوف من أصحابه وانفلت منهم حمزة جريحا ومات في هزيمته هذه وأراح الله عز وجل منه ومن أتباعه العباد بعد ذلك وكانت هذه الواقعة التى هلك بعدها حمزة الخارجى القدرى من مفاخر اهل نيسابور والحمد لله على ذلك.
ذكر الثعالبة منهم
هؤلاء اتباع ثعلبة بن مشكان والثعالبة تدعى إمامته بعد عبد الكريم بن عجرد ويزعم أن عبد الكريم بن عجرد كان إماما قيل أن خالفه ثعلبة في حكم الاطفال فلما اختلفا في ذلك كفر بن عجرد وصار ثعلبة إماما والسبب في اختلافهما أن رجلا من العجاردة خطب الى ثعلبة بنته فقال له بين مهرها فأرسل الخاطب امرأة الى ام تلك البنت يسألها هل بلغت البنت فإن كانت قد بلغت ووصفت الاسلام على الشرط الذى تعتبره العجاردة لم يبال كم كان مهرها فقالت امها هى مسلمة في الولاية بلغت أم لم تبلغ فاخبر بذلك عبد الكريم بن عجرد وثعلبة بن مشكان فاختار عبد الكريم البراءة من الاطفال قبل البلوغ وقال ثعلبة نحن على ولايتهم صغارا وكبارا الى أن يبين لنا منهم إنكار للحق فلما اختلفا في ذلك برىء كل واحد منهما من صاحبه وصار أتباع كل واحد منهما فرقا وقد ذكرنا فرق العجاردة قبل هذا.
وصارت الثعالبة بعد ذلك ست فرق:
فرقة أقامت على إمامة ثعلبة ولم تقل بإمامة أحد بعده ولم يكترثوا لما ظهر فيهم من خلاف الاخنسية والمعبدية.
ذكر المعبدية منهم:(12/52)
والفرقة الثانية منهم معبدية قالت بإمامة رجل منهم بعد ثعلبة اسمه معبد خالف جمهور الثعالبة فى أخذ الزكاة من العبيد العبيد فى إعطائهم منها واكفر من لم يقل بذلك وأكفره سائر الثعالبة في قوله
الأخنسية:
والفرقة الثالثة منهم الاخنسية اتباع رجل منهم كان يعرف بالأخنس وكان في بدء أمره على قول الثعالبة في موالاة الأطفال ثم خنس من بينهم فقال يجب علينا ان نتوقف عن جميع من فى دار التقية الا من عرفنا منه ايمانا فنوليه عليه او كفرا فبرئنا منه وقالوا بتحريم القتل والاغتيال في السروان يبدأ أحد من أهل القبلة بقتال حتى يدعى إلا من عرفوه بعينه وصار له تبع على هذا القول وبرىء من سائر الثعالبة وبرىءمنه سائرهم
الشيبانية:
منهم والفرقة الرابعة من الثعالبة شيبانية هم اتباع شيبان بن سلمة الخارجى الذى خرج في ايام أبى مسلم صاحب دولة بنى العباس وأعان أبا مسلم على أعدائه فى حروبه وكان مع ذلك يقول بتشبيه الله سبحانه لخلقه فأكفره سائر الثعالبة مع أهل السنة في قوله بالتشبيه وأكفرته الخوارج كلها في معاونته أبا مسلم والذين أكفروه من الثعالبة يقال لهم زيادية أصحاب زياد بن عبد الرحمن والشيبانية يزعمون أن شيبان تاب من ذنوبه وقالت الزيادية إن ذنوبه كان منها مظالم العباد التى لا تسقط بالتوبة وأنه أعان أبا مسلم على قتاله مع الثعالبة كما أعانه على قتاله مع بنى أمية.
ذكر الرُشيدية منهم:
والفرقة الخامسة من الثعالبة يقال لهم رشيدية نسبوا الى رجل اسمه رشيد وانفردوا بأن قالوا فيما سقى بالعيون والانهار الجارية نصف العشر وإنما يجب العشر الكامل فيما سقته السماء فحسب وخالفهم زياد بن عبد الرحمن فأوجب فيما سقى بالعيون والأنهار الجارية العشر الكامل
ذكر المكرمية منهم:(12/53)
والفرقة الثالثة من الثعالبة يقال لهم المكرمية اتباع أبى مكرم زعموا ان تارك الصلاة كافر لا لاجل ترك الصلاة لكن لجهله بالله عز وجل وزعموا ان كل ذي ذنب جاهل بالله والجهل بالله كفر وقالوا ايضا بالموافاة في الولاية والعداء.
فهذا بيان فرق الثعالبة وبيان اقوالها.
ذكر الاباضية وفرقها:
أجمعت الاباضية على القول بامامة عبد الله بن أباض وافترقت فيما بينها فرقا يجمعها القول بأن كفار هذه الامة يعنون بذلك مخالفيهم من هذه الامة براء من الشرك والإيمان وانهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار وأجازوا شهادتهم وحرموا دماءهم في السر واستحلوها فى العلانية وصححوا منا كحنهم والتوارث منهم وزعموا انهم في ذلك محاربون لله ولرسوله لا يدينون دين الحق وقالوا باستحلال بعض اموالهم دون بعض والذى استحلوه الخيل والسلاح فأما الذهب والفضة فانهم يردونهما على أصحابهما عند الغنيمة.
ثم افترقت الاباضية فيما بينهم أربع فرق وهى الحفصية والحارثية واليزيدية وأصحاب طاعة لا يراد الله بها.
واليزيدية منهم غلاة لقولهم بنسخ شريعة الاسلام في آخر الزمان وسنذكرهم في باب فرق الغلاة المنتسبين الى الاسلام بعد هذا.
وانما نذكر في هذا الباب الحفصية والحارثية وأصحاب طاعة لا يراد الله بها
ذكر الحفصية منهم:(12/54)
هؤلاء قالوا بامامة حفص بن أبي المقدام وهو الذى زعم أن بين الشرك والايمان معرفة الله تعالى وحدها فمن عرفه ثم كفر بما سواه من رسول او جنة او نار او عمل بجميع المحرمات من قتل النفس واستحلال الزنا وسائر المحرمات فهو كافر برىء من الشرك ومن جهل بالله تعالى وأنكره فهو مشرك وتأول هؤلاء فى عثمان بن عفان مثل تأول الرافضة في ابى بكر وعمر وزعموا ان عليا هو الذى انزل الله تعالى فيه {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو الد الخصام}. وأن عبد الرحمن بن ملجم هو الذى أنزل الله فيه {ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله}.
ثم قالوا بعد هذا كله ان الإيمان بالكتب والرسل متصل بتوحيد الله عز وجل فمن كفر بذلك فقد اشرك بالله عز وجل وهذا نقيض قولهم إن الفصل بين الشرك والايمان معرفة الله تعالى وحده وأن من عرفه فقد برىء من الشرك وإن كفر بما سواه من رسول او جنة أو نار فصار قولهم في هذا الباب متناقضا.
ذكر الحارثية منهم:
هؤلاء اتباع حارث بن مزيد الأباضي وهم الذين قالوا في باب القدر بمثل قول المعتزلة وزعموا ايضا أن الاستطاعة قبل الفعل وأكفرهم سائر الأباضية في ذلك لان جمهورهم على قول أهل السنة فى ان الله تعالى خالق أعمال العباد وفى أن الاستطاعة مع الفعل.
وزعمت الحارثية انه لم يكن لهم إمام بعد المحكمة الاولى إلا عبد الله بن أباضى وبعده حارث ابن مزيد الاباضى
ذكر اصحاب طاعة لا يراد الله بها:
زعم هؤلاء أنه يصح وجود طاعات كثيرة ممن لا يريد الله تعالى بها كما قاله ابو الهزيل وأتباعه من القدرية.(12/55)
وقال أصحابنا أن ذلك لا يصح إلا في طاعة واحدة وهو النظر الاول فإن صاحبه اذا استذل به كان مطيعا لله تعالى في فعله وإن لم يقصد به التقرب الى الله تعالى لاستحالة تقربه اليه قبل معرفته فاذا عرف الله تعالى فلا يصح منه بعد معرفته طاعة منه لله تعالى الا بعد قصده التقرب بها اليه.
وزعمت الأباضية كلها أن دور مخالفيهم من أهل مكة دار توحيد الا معسكر السلطان فإنه دار بغى عندهم.
واختلفوا في النفاق على ثلاثة أقوال:
فقال فريق منهم إن النفاق براءة من الشرك والايمان جميعا واحتجوا بقول الله عز وجل في المنافقين {مذبذين بين ذلك لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا}.
وفرقة منهم قالت كل نفاق شرك لأنه يضاد التوحيد وفرقة ثالثة قالت لا نزيل اسم النفاق عن موضعه ولا نسمى بالنفاق غير القوم الذين سماهم الله تعالى منافقين.
ومن قال منهم بأن المنافق ليس بمشرك زعم أن المنافقين على عهد رسول الله كانوا موحدين وكانوا أصحاب كبائر فكفروا وإن لم يدخلوا في حد الشرك.
قال عبد القاهر بعد الجملة التى حكيناها عنهم شذوذ من الأقوال انفردوا بها:
منها أن فريقا منهم زعموا أن لا حجة لله تعالى على الخلائق في التحويد وغيره الا بالخبر وما يقوم مقام الخبر من إشارة وايماء.
ومنها أن قوما منهم قالوا كل من دخل فى دين الاسلام وجبت عليه الشرائع والاحكام سمعها أو عرفها أو لم يسمعها ولم يعرفها وقال سائر الامة لا يأثم بترك ما لم يقف عليه منها إلا أن ثبتت عليه الحجة فيه.
ومنها أن قوما منهم قالوا بجواز ان يبعث الله تعالى الى خلقه رسولا بلا دليل يدل على صدقة.
ومنها ان قوما منهم قالوا من ورد عليه الخبر بأن الله تعالى قد حرم الخمر او ان القبلة قد حولت فعليه ان يعلم ان الذى أخبره به مؤمن او كافر وعليه ان يعلم ذلك بالخبر وليس عليه ان يعلم أن ذلك عليه بالخبر.(12/56)
ومنها قول بعضهم ليس على الناس المشى الى الصلاة ولا الركوب والمسير للحج ولا شيء من الاسباب التى يتوصل بها الى أداء الواجب وانما يجب عليهم فعل الطاعات الواجبة بأعيانها دون اسبابها الموصلة اليها.
ومنها قولهم جميعا بوجوب استتابة مخالفيهم في تنزيل او تأويل فان تابوا والا قتلوا سواء كان ذلك الخلاف فيما يسع جهله او فيما لا يسع جهله.
وقالوا من زنى او سرق أقيم عليه الحد ثم استتيب فان تاب والا قتل.
وقالوا ان العالم يفنى كله اذا افنى الله اهل التكليف ولا يجوز الا ذلك لأنه انما خلقه لهم.
وأجازت الاباضية وقوع حكمين مختلفين فى شيء واحد من وجهين كمن دخل زرعا بغير إذن مالكه فان الله قد نهاه عن الخروج منه اذا كان خروجه منه مفسدا للزرع وقد أمره به.
وقالوا لا يتبع المدبر في الحرب اذا كان من أهل القبلة وكان موحدا ولا نقبل منهم امرأة ولا ذرية وأباحوا قتل المشبهه واتباع مدبرهم وسبى نسائهم وذراريهم وقالوا ان هذا كما فعله ابو بكر بأهل الردة.(12/57)
وقد كان من الاباضية رجل يعرف بابراهيم دعا قوما من اهل مذهبة الى داره وأمر جارية له كانت على مذهبه بشيء فأبطأت عليه فحلف ليبيعنها في الاعراب فقال له رجل منهم اسمه ميمون وليس هو صاحب الميمونية من العجاردة كيف تبيع جارية مؤمنة الى الكفرة فقال له ابراهيم ان الله تعالى قد أحل البيع وقد مضى أصحابنا وهم يستحلون ذلك فتبرأ منهم ميمون وتوقف آخرون منهم فى ذلك وكتبوا بذلك الى علمائهم فأجابوهم بأن بيعها حلال وبأنه يستتاب ميمون ويستتاب من توقف فى ابراهيم فصاروا في هذا ثلاث فرق إبراهيمية وميمونية واقفة وتبع إبراهيم على إجازة هذا البيع قوم يقال لهم الضحاكية وأجازوا نكاح المسلمة من كفار قومهم في دار التقية فأما فى دار حكمهم فلا يستحلون ذلك وقوم منهم توقفوا في هذه المسلمة وفى أمر الزوجة وقالوا ان ماتت لم نصل عليها ولم نأخذ ميراثها لأنا لا ندري ما حالها.
وتبع بعد هؤلاء الإبراهيمية قوم يقال لهم البيهسية أصحاب أبى بيهس هيصم بن عامر قالوا ان ميمونا كفر بأن حرم بيع الأمة في دار التقية من كفار قومنا وكفرت الواقفة بأن لم يعرفوا كفر ميمون وصواب إبراهيم وكفر إبراهيم بأن لم يتبرأ من الواقفة.
قالوا وذلك أن الوقوف بما يسع على الأبدان وانما الوقوف على الحكم بعينه مالم يوافقه أحد فاذا وافقه أحد من المسلمين لم يسع من حضر ذلك إلا أن يعرف من عرف الحق ودان به ومن أظهر الباطل ودان به.
ثم ان البيهسية قالت: ان من واقع ذنبا لم نشهد عليه بالكفر حتى يرفع الى الوالى ويحد ولا نسميه قبل الرفع الى الوالى مؤمنا ولا كافرا.
وقال بعض البيهسية فاذا كفر الإمام كفرت الرعية وقال بعضهم كل شراب حلال الأصل موضوع عمن سكر منه كل ما كان منه في السكر من ترك الصلاة والشتم لله عز وجل وليس فيه حد ولا كفر ما دام في سكره.
وقال قوم من البيهسية يقال لهم العوفية السكر كفر اذا كان معه غيره من ترك الصلاة ونحوه.(12/58)
وافترقت العوفية من البيهسية فرقتين فرقة قالت من رجع عنا من دار هجرته ومن الجهاد الى حال القعود برئنا منه وفرقة قالت بل تتولاه لانه رجع إلى أمر كان مباحا له قبل هجرته الينا وكلا الفريقين قال اذا كفر الإمام كفرت الرعية الغائب منهم والشاهد.
وللأباضية والبيهسية بعد هذا مذاهب قد ذكرناها في كتاب الملل والنحل وفيما ذكرنا منه في هذا الكتاب كفاية.
ذكر الشبيبية منهم:
هؤلاء يعرفون بالشبيبية لانتسابهم الى شبيب بن يزيد الشيبانى المكنى بأبى الصحارى ويعرفون بالصالحية أيضا لانتسابهم الى صالح بن مشرح الخارجي.
وكان شبيب بن يزيد الخارجى من اصحاب صالح ثم تولى الأمر بعده على جنده وكان السبب في ذلك أن صالح بن مشرح التميمى كان مخالفا للازارقة وقد قال انه كان صفريا وقيل إنه لم يكن صفريا ولا أزرقيا وكان خروجه على بشر بن مروان فى أيام ولايته على العراق من جهة أخيه عبد الملك بن مروان وبعث بشر اليه بالحارث بن عمير وذكر المواينى أن خروج صالح كان على الحجاج بن يوسف وأن الحجاج بعث بالحارث بن عمير الى قتاله وأن القتال وقع بين الفريقين على باب حصن حلولا وانهزم صالح جريحا فلما أشرف على الموت قال لاصحابه قد استخلفت عليكم شبيبا وأعلم أن فيكم من هو أفقه منه ولكنه رجل شجاع مهيب في عدوكم فليعنه الفقيه منكم بفقهه ثم مات وبايع أتباعه شبيبا الى أن خالف صالحا فى شيء واحد وهو أنه مع أتباعه أجازوا إمامة المرأة منهم اذا قامت بأمورهم وخرجت على مخالفيهم وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب الى أن قتلت واستدلوا على ذلك بأن شبيبا لما دخل الكوفة أقام أمه على منبر الكوفة حتى خطبت.(12/59)
وذكر أصحاب التواريخ أن شبيبا في ابتداء أمره قصد الشام ونزل على روح بن زنباع وقال له سل أمير المؤمنين أن يفرض لى في أهل الشرف فإن لى في بنى شيبان تبعا كثيرا فسأل روح بن زنباع عبد الملك بن مروان ذلك فقال هذا رجل لا أعرفه وأخشى أن يكون حروريا فذكر روح لشبيب أن عبد الملك بن مروان ذكر أنه لا يعرفه فقال سيعرفنى بعد هذا ورجع الى بنى شيبان وجمع من الخوارج الصالحية مقدار الف رجل واستولى بهم على ما بين كسكر والمدائن فبعث الحجاج اليه بعبيد بن أبىالمخارق المتنبى فى الف فارس فهزمه شبيب فوجه اليه بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فهزمه شبيب وبعث بعتاب بن ورقاء التميمى فقتله شبيب وما زال كذلك حتى هزم للحجاج عشرين جيشا في مدة سنتين ثم إنه كبس الكوفة ليلا ومعه الف من الخوارج ومعه أمة غزالة وامرأته جهزية فى مائتين من نساء الخوارج قد اعتقلن الرماح وتقلدن السيوف فلما كبس الكوفة ليلا قصد المسجد الجامع وقتل حراس المسجد والمعتكفين فيه ونصب امه غزالة على المنبر حتى خطبت وقال خزيم بن فاتك الأسدى فى ذلك:
أقامت غزالة سوق الضرار لأهل العراقين حولا قميطا
سمت للعراقين في جيشها فلاق العراقان منها طيطا(12/60)
وصبر الحجاج لهم في داره لان جيشه كانوا متفرقين إلى أن اجتمع جنده إليه بعد الصبح وصلى شبيب بأصحابه فى المسجد وقرأ فى ركعتى الصبح سورتى البقرة وآل عمران ثم وافاه الحجاج في أربعة آلاف من جنده واقتتل الفريقان فى سوق الكوفة إلى أن قتل أصحاب شبيب وانهزم شبيب فيمن بقى معه الى الأنبار فوجه الحجاج فى طلبه جيشا فهزموا شبيبا من الأنبار الى الأهواز وبعث الحجاج سفين بن الأبرد الكليبى فى ثلاثة آلاف لطلب شبيب فنزل سفين على شط الدجيل وركب شبيب جسر الدجيل ليعبر اليه وأمر سفين أصحابه بقطع حبال الجسر فاستدار الجسر وغرق شبيب مع فرسه وهو يقول {ذلك تقدير العزيز العليم} وبايع أصحاب شبيب فى الجانب الآخر من الدجيل غزالة أم شبيب وعقد سفين بن الأبرد الجسر وعبر مع جنده الى أولئك الخوارج وقتل اكثرهم وقتل غزالة ام شبيب وامرأته جهيزه وأسر الباقين من اتباع شبيب وأمر الغواصين بإخراج شبيب من الماء وأخذ رأسه وانفذه مع الاسرى الى الحجاج فلما وقف الاسرى بين يدى الحجاج أمر بقتل رجل منهم قال له اسمع مني بيتين أختم بهما عملي ثم أنشأ يقول:
أبرأ الى الله من عمرو وشيعته ومن على ومن أصحاب صفين
ومن معاوية الطاغى وشيعته لا بارك الله في القوم الملاعين
فأمر بقتله وبقتل جماعة منهم وأطلق الباقين.(12/61)
قال عبد القاهر يقال للشبيبة من الخوراج أنكرتم على أم المؤمنين عائشة خروجها الى البصرة مع جندها الذى كل واحد منهم محرم لها لأنها أم جميع المؤمنين فى القرآن وزعمتم أنها كفرت بذلك وتلوتم عليها قول الله تعالى وقرن فى بيوتكن فهلا تلوتم هذه الآية على غزالة أم شبيب وهلا قلتم بكفرها وكفر من خرجن معها من نساء الخوارج الى قتال جيوش الحجاج فان أجزتم لهن ذلك لانه كان معهن أزواجهن او بنوهن واخوتهن فقد كان مع عائشة أخوها عبد الرحمن وابن اختها عبد الله بن الزبير وكل واحد منهم محرم لها وجميع المسلمين بنوها وكل واحد محرم لها فهلا أجزتم لها ذلك على ان من أجاز منكم إمامة غزالة فإمامتها لائقة به وبدينه والحمد لله على العصمة من البدعة.
{الفصل الثالث من فصول هذا الباب}
في بيان مقالات فرق الضلال من القدرية المعتزلة عن الحق
وهم عشرون فرقة
قد ذكرنا قبل هذا أن المعتزلة افترقت فيما بينها عشرين فرقة كل فرقة منها تكفر سائرها وهن الواصلية والعمرية والهذيلية والنظامية والاسوارية والمعمرية والاسكافية والجعفرية والبشرية والمرادارية والهشامية والتمامية والجاحظية والحايطية والحمارية والخياطية واصحاب صالح قبة والمويسية والشحامية والكعبية والجبابية والبهشمية المنسوبة الى أبى هاشم بن الحبالى فهذه ثنتان وعشرون فرقة فرقتان منها من جملة فرق الغلاة في الكفر نذكرها فى الباب الذى نذكر فيه فرق الغلاة وهما الحايطية والحماريه وعشرون منها قدرية محضة يجمعها كلها فى بدعتها امور:
منها نفيها كلها عن الله عز وجل صفاته الازلية وقولها بأنه ليس لله عز وجل علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا صفة أزلية وزادوا على هذا بقولهم ان الله تعالى لم يكن له في الازل اسم ولا صفة.(12/62)
ومنها قولهم باستحالة رؤية الله عز وجل بالابصار وزعموا أنه لا يرى نفسه ولا يراه غيره واختلفوا فيه هل هو راء نغيره أم لا فأجازه قوم منهم وأباه قوم آخرون منهم.
ومنها اتفاقهم على القول بحدوث كلام الله عز وجل وحدوث أمره ونهيه وخبره وكلهم يزعمون ان كلام الله عز وجل حادث واكثرهم اليوم يسمون كلامه مخلوقا.
ومنها قولهم جميعا بأن الله تعالى غير خالق لأكساب الناس ولا لشىء من أعمال الحيوانات وقد زعموا ان الناس هم الذين يقدرون أكسابهم وانه ليس لله عز وجل فى اكسابهم ولا فى اعمار سائر الحيوانات صنع ولا تقدير ولأجل هذا القول سماهم المسلمون قدرية.
ومنها اتفاقهم على دعواهم فى الفاسق من أمة الاسلام بالمنزلة بين المنزلتين وهى انه فاسق لا مؤمن ولا كافر ولاجل هذا سماهم المسلمون معتزلة لاعتزالهم قول الأمة بأسرها.
ومنها قولهم ان كل ما لم يأمر الله تعالى به او نهى عنه من أعمال العباد لم يشأ الله شيئا منها.
وزعم الكعبى فى مقالاته أن المعتزلة اجتمعت على أن الله عز وجل شىء لا كالاشياء وأنه خالق الأجسام والأعراض وأنه خلق كل ما خلقه لا من شىء وعلى أن العباد يفعلون أعمالهم بالقدر التى خلقها الله سبحانه وتعالى فيهم قال وأجمعوا على أنه لا يغفر لمرتكبى الكبائر بلا توبة.
وفى هذا الفصل من كلام الكعبى غلط منه على أصحابه من وجوه:
منها قوله إن المعتزلة اجتمعت على أن الله تعالى شيء لا كالاشياء وليست هذه الخاصية لله تعالى وحده عند جميع المعتزلة فإن الجبائى وابنه أبا هاشم قد قالا إن كل قدرة محدثة شىء لا كالاشياء ولم يخصوا ربهم بهذا المدح.(12/63)
ومنها حكايته عن جميع المعتزلة قولها بأن الله عز وجل خالق الأجسام والأعراض وقد علم أن الاصم من المعتزلة ينفى الأعراض كلها وأن المعروف منهم بمعمر يزعم ان الله تعالى لم يخلق شيئا من الأعراض وأن ثمامة يزعم أن الاعراض المتولدة لا فاعل لها فكيف يصح دعواه إجماع المعتزلة على أن الله سبحانه خالق الأجسام والأعراض وفيهم من ينكر وجود الأعراض وفيهم من يثبت الأعراض ويزعم أن الله تعالى لم يخلق شيئا منها وفيهم من يزعم أن المتولدات أعراض لا فاعل لها والكعبى مع سائر المعتزلة زعموا أن الله تعالى لم يخلق أعمال العباد وهي أعراض عند من أثبت الأعراض فبان غلط الكعبى فى هذا الفصل على أصحابه.
ومنها دعوى إجماع المعتزلة على أن الله خلق ما خلق لا من شىء وكيف يصح اجماعهم على ذلك والكعبى مع سائر المعتزلة سوى الصالحى يزعمون أن الحوادث كلها كانت قبل حدوثها أشياء والبصريون منهم يزعمون ان الجواهر والاعراض كانت فى حال عدمها جواهر وأعراضا وأشياء والواجب على هذا الفصل ان يكون الله خلق الشيء لا من شيء وإنما يصح القول بانه خلق الشىء لا من شىء على اصول اصحابنا الصفاتية الذين أنكروا كون المعدوم شيئا.
واما دعوى إجماع المعتزلة على ان العباد يفعلون أفاعلهم بالقدر التي خلقها الله تعالى فيهم فغلط منه عليهم لان معمرا منهم زعم أن القدرة فعل الجسم القادر بها وليست من فعل الله تعالى والاصم منهم ينفى وجود القدرة لأنه ينفى الأعراض كلها.
وكذلك دعوى إجماع المعتزلة على أن الله سبحانه لا يغفر لمرتكبى الكبائر من غير توبة منهم غلط منه عليهم لان محمد بن شبيب البصرى والصالحى والخالدى هؤلاء الثلاثة من شيوخ المعتزلة وهم واقفية فى وعيد مرتكبى الكبائر وقد أجازوا من الله تعالى مغفرة ذنوبهم من غير توبة.
فبان بما ذكرناه غلط الكعبى فيما حكاه عن المعتزلة وصح ان المعتزلة يجمعها ما حكيناه عنهم مما أجمعوا عليه.(12/64)
فاما الذى اختلفوا فيه فيما بينهم فعلى ما نذكره في تفصيل فرقهم إن شاء الله عز وجل.
ذكر الواصلية منهم:
هؤلاء اتباع واصل بن عطا الغزال رأس المعتزلة وداعيهم الى بدعتهم بعد معبد الجهنى وغيلان الدمشقى.
وكان واصل من منتابى مجلس الحسن البصرى فى زمان فتنة الازارقة وكان الناس يومئذ مختلفين فى أصحاب الذنوب من امة الاسلام على فرق.
فرقة تزعم أن كل مرتكب لذنب صغير او كبير مشرك بالله وكان هذا قول الازارقة من الخوراج وزعم هؤلاء ان اطفال المشركين مشركون ولذلك استحلوا قتل اطفال مخالفيهم وقتل نسائهم سواء كانوا من امة الاسلام او من غيرهم. وكانت الصفرية من الخوارج يقولون فى مرتكبى الذنوب بأنهم كفرة مشركون كما قالته الازارقة غير أنهم خالفوا الازارقة فى الاطفال.
وزعمت النجدات من الخوارج ان صاحب الذنب الذى اجمعت الامة على تحريمه كافر مشرك وصاحب الذنب الذى اختلفت الامة فيه حكم على اجتهاد اهل الفقه فيه وعذروا مرتكب مالا يعلم تحريمه بجهالة تحريمه الى ان تقوم الحجة عليه فيه.
وكانت الاباضية من الخوارج يقولون ان مرتكب ما فيه الوعيد مع معرفته بالله عز وجل وبما جاء من عنده كافر كفران نعمة وليس بكافر كفر شرك.
وزعم قوم من اهل ذلك العصر ان صاحب الكبيرة من هذه الامة منافق والمنافق شر من الكافر المظهر لكفره.
وكان علماء التابعين فى ذلك العصر مع أكثر الامة يقولون إن صاحب الكبيرة من أمة الاسلام مؤمن لما فيه من معرفته بالرسل والكتب المنزلة من الله تعالى ولمعرفته بأن كل ما جاء من عند الله حق ولكنه فاسق بكبيرته وفسقه لا ينفى عنه اسم الايمان والإسلام.(12/65)
وعلى هذا القول الخامس مضى سلف الامة من الصحابة وأعلام التابعين فلما ظهرت فتنة الأزارقة بالبصرة والأهواز واختلف الناس عند ذلك فى أصحاب الذنوب على الوجوه الخمسة التي ذكرناها خرج واصل بن عطا عن قول جميع الفرق المتقدمة وزعم أن الفاسق من هذه الامة لا مؤمن ولا كافر وجعل الفسق منزلة بين منزلتى الكفر والايمان فلما سمع الحسن البصرى من واصل بدعته هذه التى خالف بها أقوال الفرق قبله طرده عن مجلسه فاعتزل عند سارية من سوارى مسجد البصرة وانضم اليه قرينه فى الضلالة عمرو ابن عبيد بن باب كعبد صريخه امه فقال الناس يومئذ فيهماانهما قد اعتزلا قول الامة وسمى أتباعهما من يومئذ "معتزلة".
ثم إنهما أظهرا بدعتهما فى المنزلة بين المنزلتين وضما اليها دعوة الناس الى قول القدرية على رأى معبد الجهنى فقال الناس يومئذ لواصل إنه مع كفره قدرى وجرى المثل بذلك فى كل كافر قدرى.
ثم ان واصلا وعمرا وافقا الخوارج فى تأييد عقاب صاحب الكبيرة فى النار مع قولهما بأنه موحد وليس بمشرك ولا كافر، ولهذا قيل للمعتزلة إنهم مخانيث الخوارج لان الخوارج لما رأو لأهل الذنوب الخلود في النار سموهم كفرة وحاربوهم والمعتزلة رأت لهم الخلود فى النار ولم تجسر على تسميتهم كفرة ولا جسرت على قتال اهل فرقة منهم فضلا عن قتال جمهور مخالفيهم ولهذا نسب إسحاق بن سويد العدري واصلا وعمرو بن عبيد الى الخوارج لاتفاقهم على تأييد عقاب أصحاب الذنوب فقال فى بعض قصائده:
برئت من الخوارج لست منهم من الغزال منهم وابن باب
ومن قوم اذا ذكروا عليا يردون السلام على السحاب(12/66)
ثم ان واصلا فارق السلف ببدعة ثالثة وذلك أنه وجد اهل عصره مختلفين فى على وأصحابه وفى طلحة والزبير وعائشة وسائر أصحاب الجمل فزعمت الخوارج ان طلحة والزبير وعائشة وأتباعهم يوم الجمل كفروا بقتالهم عليا وأن عليا كان على الحق فى قتال أصحاب الجمل وفى قتال اصحاب معاوية بصفين الى وقت التحكيم ثم كفر بالتحكيم وكان اهل السنة والجماعة يقولون بصحة إسلام الفريقين فى حرب الجمل وقالوا ان عليا كان على الحق فى قتالهم واصحاب الجمل كانوا عصاة مخطئين فى قتال على ولم يكن خطؤهم كفرا ولا فسقا يسقط شهادتهم وأجازوا الحكم بشهادة عذلين من كل فرقة من الفريقين وخرج واصل عن قول الفريقين وزعم ان فرقة من الفريقين فسقة لا بأعيانهم وأنه لا يعرف الفسقة منهما وأجازوا ان يكون ا لفسقة من الفريقين عليا واتباعه كالحسن والحسين وابن عباس وعمار بن ياسر وأبى أيوب الأنصارى وسائر من كان مع على يوم الجمل وأجاز كون الفسقة من الفريقين عائشة وطلحة والزبير وسائر اصحاب الجمل ثم قال فى تحقق شكه فى الفريقين لو شهد على وطلحة او على والزبير ورجل من أصحاب على ورجل من اصحاب الجمل عندى على باقة بقل لم أحكم بشهادتهما لعلمى بأن احدهما فاسق لا بعينه كما لا أحكم بشهادة المتلاعنين لعلمى بان احدهما فاسق لا بعينه ولو شهد رجلان من احد الفريقين ايهما كان قبلت شهادتهما.
ولقد سخنت عيون الرافضة القائلين بالاعتزال بشك شيخ المعتزلة فى عدالة على واتباعه ومقالة واصل فى الجملة كما قلنا فى بعض أشعارنا:
مقالة ما وصلت بواصل بل قطع الله به أوصالها
وسنذكر تمام أبيات هذه القصيدةبعد هذا إن شاء الله غز وجل.
ذكر العمرية منهم:
هؤلاء أتباع عمرو بن عبيد بن باب مولى بنى تميم وكان جده من سبى كامل وما ظهرت البدع والضلالات فى الأديان إلا من ابناء السبايا كما روى فى الخبر.(12/67)
وقد شارك عمرو واصلا فى بدعة القدر وفى ضلالة قولهما بالمنزلة بين المنزلتين وفى ردهما شهادة رجلين أحدهما من أصحاب الجمل والآخر من أصحاب على وزاد عمرو على واصل فى هذه البدعة فقال بفسق كلتا الفرقتين المتقاتلتين يوم الجمل وذلك أن واصلا إنما رد شهادة رجلين أحدهما من أصحاب الجمل والآخر من أصحاب على رضى الله عنه وقبل شهادة رجلين كلاهما من أحد الفريقين وزعم عمرو أن شهادتهما مردودة وإن كانا من فريق واحد لأنه قال بفسق الفريقين جميعا.
وقد افترقت القدرية بعد واصل وعمرو فى هذه المسألة فقال النظام ومعمر والجاحظ فى فريقى يوم الجمل بقول واصل وقال حوشب وهاشم الأوقص نجت القادة وهلكت الاتباع وقال أهل السنة والجماعة بتصويب على وأتباعه يوم الجمل وقالوا إن الزبير رجع عن القتال يومئذ تائبا فلما بلغ وادى السباع قتله بها عمرو بن حرمون غرة وبشر على قاتله بالنار وهم طلحة بالرجوع فرماه مروان بن الحكم وكان مع أصحاب الجمل بسهم قتله وعائشة رضى الله عنها قصدت الإصلاح بين الفريقين فغلبها بنو أزد وبنو ضبة على أمرها حتى كان من الأمر ما كان ومن قال بتكفير الفريقين أو أحدهما فهو الكافر دونهم هذا قول أهل السنة فيهم والحمد لله على ذلك.
ذكر الهذيلية منهم:
هؤلاء أتباع أبى الهذيل محمد بن الهذيل المعروف بالعلاف كان مولى لعبد القيس وقد جرى على منهاج ابناء السبايا لظهور اكثر البدع منهم وفضائحه تترى تكفره فيها سائر فرق الامة من أصحابه فى الاعتزال ومن غيرهم وللمعروف بالمرداد من المعتزلة كتاب كبير فيه فضائح أبى الهذيل وفى تكفيره بما انفرد به من ضلالاته وللجبائى ايضا كتاب فى الرد على أبى الهذيل فى المخلوق ويكفره فيه ولجعفر بن حرب أيضا وهو المشهور فى زعماء المعتزلة كتاب سماه توبيخ أبى الهذيل وأشار الى تكفير أبى الهذيل وذكر فيه ان قوله يجر الى قول الذهرية.(12/68)
فمن فضائح أبى الهذيل قوله بفناء مقدورات الله عز وجل حتى لا يكون بعد فناء مقدوراته قادرا على شىء ولأجل هذا زعم ان نعيم أهل الجنة واهل النار يفنيان ويبقى حينئذ أهل الجنة وأهل النار خامدين لا يقدرون على شىء ولا يقدر الله عز وجل فى تلك الحال على إحياء ميت ولا على إماته حى ولا على تحريك ساكن ولا على تسكين متحرك ولا على إحداث شىء ولا على إفناء شىء مع صحة عقول الاحياء فى ذلك الوقت.
وقوله فى هذا الباب شر من قول من قال بفناء الجنة والنار كما ذهب اليه جهم لان جهما وإن قال بفنائهما فقد قال بأن الله عز وجل قادر بعد فنائهما على ان يخلق أمثالهما وأبو الهذيل يزعم أن ربه لا يقدر بعد فناء مقدوراته على شىء.
وقد شنع المعروف منهم بالمرداد على أبى الهذيل فى هذه المسألة فقال يلزمه اذا كان ولى الله عز وجل فى الجنة قد يناول باحدى يديه الكاس وبالاخرى بعض التحف ثم حضر وقت السكون الدائم ان يبقى ولى لله عز وجل ابدا على هيئة المصلوب.
وقد اعتذر ابو الحسين الخياط عن أبى الهذيل فى هذا الباب باعتذارين:
احدهما دعواه ان أبا الهذيل اشار الى أن الله عز وجل عند قرب انتهاء مقدوراته يجمع فى اهل الجنة اللذات كلها فيبقون على ذلك فى سكون دائم.
واعتذاره الثانى دعواه ان ابا الهذيل انه كان يقول هذا القول مجادلا به خصومه البحث عن جوابه.
واعتذاره الاول عنه باطل من وجهين:
أحدهما أنه يوجب اجتماع لذتين متضادتين فى محل واحد فى وقت واحد وذلك محال كاستحالة اجتماع لذة وألم فى محل واحد.
والوجه الثانى أن هذه الاعتذار لو صح لوجب ان يكون اهل الجنة بعد فناء مقدورات الله عز وجل أحسن من حالها فى حال كونه قادرا.(12/69)
وأما دعواه ان أبا الهذيل إنما قال بفناء المقدورات مجادلا به معتقدا لذلك فالفاضل بيننا وبين المعتذر عنه كتب أبو الهذيل وأشار فى كتابه الذى سماه بالحجج إلى ماحكيناه عنه وذكر فى كتابه المعروف بكتاب القوالب بابا فى الرد على الدهرية وذكر فيه قولهم للموحدين اذا جاز أن يكون بعد كل حركة حركة سواها لا إلى آخر وبعد كل حادث حادث آخر لا إلى غاية فهلا صح قول من زعم أن حركة الا وقبلها حركة ولا حادث إلا وقبله حادث لا عن أول لا حالت قبله وأجاب عن هذا الالزام بتسويته بينهما وقال كما أن الحوادث لها ابتداء لم يكن قبلها حادث كذلك لها آخر لا يكون بعده حادث ولاجل هذا قال بفناء مقدورات الله عز وجل وسائر المتكلمين من أصناف فرق الاسلام فرقوا بين الحوادث الماضية والحوادث المستقبلة بفروق واضحة لم يهتد اليها أبو الهذيل فارتكب لاجل جهله بها قوله بفناء المقدورات وقد ذكرنا تلك الفروق الواضحة فى باب الدلالة على حدوث العالم في كتبنا المؤلفة فى ذلك(12/70)
والفضيحة الثانية من فضائح أبى الهذيل قوله بأن أهل الآخرة مضطرون الى ما يكون منهم وان أهل الجنة مضطرون الى أكلهم وشربهم وجماعهم وأن أهل النار مضطرون الى أقوالهم وليس لأحد فى الآخرة من الخلق قدرة على اكتساب فعل ولا على اكتساب قول والله عز وجل خالق أقوالهم وحركاتهم وسائر ما يوصفون به وكانت القدرية يعيبون جهما فى قوله ان العباد فى الدنيا مضطرون الى ما يكون منهم وينكرون على أصحابنا قولهم بأن الله عز وجل خالق اكساب العباد ويقولون لاصحابنا اذا كان هو خالق ظلم العباد وجب ان يكون ظالما واذا خلق كذب الانسان وجب ان يكون كاذبا فهلا قالوا لأبى الهذيل اذا قلت أن الله عز وجل يخلق فى الآخرة كذب اهل النار فى قولهم {والله ربنا ما كنا مشركين} وجب ان يكون هو الكاذب بهذا القول ان كان الكاذب عندهم من فعل الكذب ولا يتوجه علينا هذا الالزام لأنا لا نقول ان الكاذب والظالم من خلق الكذب والظلم ولكنا نقول ان الظالم من قام به الظلم والكاذب من قام به الكذب لا من فعله.
وقد اعتذر الخياط عن أبى الهذيل فى بدعته هذه بأن قال ان الآخرة دار جزاء وليست بدار تكليف فلو كان اهل الآخرة مكتسبين لاعمالهم لكانوا مكلفين ولوقع ثوابهم وعقابهم فى دار سواها فيقال للخياط هل ترضى بهذا الاعتذار من أبى الهذيل ام تسخطه فان رضيته فقل فيه بمثل قوله وذلك خلاف قولك وان سخطته فلا معنى لاعتذارك عنه فى شىء تكفره.(12/71)
وقلنا لابى الهذيل ما تنكر من كون أهل الآخرة مكتسبين لاعمالهم وان يكونوا فيها مأمورين للشكر لله عز وجل على نعمه ولا يكونوا مأمورين بصلاة ولا زكاة ولا صيام ولا يكونوا منتهين عن المعاصى ويكون ثوابهم على الشكر وترك المعصية دوام النعيم عليهم وما انكرت عليهم من أنهم يكونون فى الاخرة منهيين عن المعاصى ومعصومين منها كما قال أصحابنا مع أكثر الشيعة ان الانبياء عليهم السلام كانوا فى الدنيا منتهين عن المعاصى ومعصومين عنها وكذلك الملائكة منتهون عن المعاصى ومعصومون عنها ولذلك قال الله عز وجل فيهم {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}.
والفضيحة الثالثة من فضائحه قوله بطاعات كثيرة لا يراد الله عز وجل بها كما ذهب اليه قوم من الخوارج الاباضية وقد زعم أن ليس فى الارض هدى ولا زنديق الا وهو مطيع لله تعالى فى أشباه كثيرة وان عصاه من جهة كفره وقال أهل السنة والجماعة ان الطاعة لله عز وجل ممن لا يعرفه انما تصح فى شىء واحد وهو النظر والاستدلال الواجب عليه قبل وصوله الى معرفة الله فان يفعل ذلك يكن مطيعا لله تعالى لأنه قد أمره به وان لم يكن قصد بفعله لذلك النظر الاول التقرب به الى الله عز وجل ولا تصح منه طاعة لله تعالى سواها الا اذا قصد بها التقرب بها اليه لانه يمكنه ذلك اذا توصل بالنظر الاول الى معرفة الله تعالى ولا يمكنه قبل النظر الاول التقرب به اليه اذا لم يكن عارفا به قبل نظره واستدلاله.(12/72)
واستدل أبو الهذيل على دعواه صحة وقوع طاعات الله تعالى ممن لا يعرفه بأن قال ان أوامر الله تعالى بازائها زواجره فلو كان من لا يعرفه فعل ترك جميع أوامره وجب ان يكون قد صار الى جميع زواجره وان يكون من ترك جميع الطاعات قد صار الى جميع المعاصى ولو كان كذلك لصار الدهرى يهوديا ونصرانيا ومجوسيا وعلى اديان سائر الكفرة واذا صار المجوسى تاركا لكل كفر سوى المجوسية علمنا أنه عارض بمجوسيته التى قد نهى عنها ومطيع لله عز وجل بترك ما تركه من انواع الكفر لانه مأمور بتركها.
فقلت له ليس الامر فى أوامر الله تعالى وزواجره على ما ظننته ولكن لا خصلة من الطاعة الا ويضادها معاص متضادة ولا خصلة من الايمان الا ويضادها خصال متضادة كل نوع منها يضاد النوع الآخر كما يضادها الطاعة وذلك بمنزلة القيام والقعود والاضطجاع والاستلقاء وقد يخرج عن القعود من لا يصير الى جميع اضداده وانما يخرج من القعود بنوع واحد من أضداده كذلك يخرج عن كل طاعة لله تعالى بنوع واحد من الكفر المضاد للطاعات كلها لان ذلك النوع من الكفر يضاد نوعا آخر من الكفر كما يضاد سائر الطاعات وهذا واضح فى نفسه وان جهله أبو الهذيل.
والفضيحة الرابعة من فضائحه قوله بأن علم الله سبحانه وتعالى هو الله وقدرته هى هو.
ويلزمه على هذا القول أن يكون الله تعالى علما وقدرة ولو كان هو علما وقدرة لاستحال ان يكون عالما قادرا لان العلم لا يكون عالما والقدرة لا تكون قادرة.
ويلزمه ايضا اذا قال ان علم الله هو الله وقدرته هى هو ان يقول ان علمه هو قدرته ولو كان علمه قدرته لوجب ان يكون كل معلوم له مقدورا له وهذا يوجب ان يكون رأيه مقدورا له لانه معلوم له وهذا كفر فما يؤدى اليه مثله.(12/73)
والفضيحة الخامسة تقسيمه كلام الله عز وجل الى ما يحتاج الى محل والى مالا يحتاج الى محل وقد زعم ان قول الله سبحانه للشىء كن حادث لا فى محل وسائر كلامه حادث فى جسم من الاجسام وكل كلامه عنده اعراض وقد زعم ان قوله للشىء كن من جنس قول الانسان كن ففرق بين عرضين من جنس واحد فى حاجة احدهما الى محل واستغناء الآخر عن المحل فاما قوله بحدوث ارادة الله سبحانه لا فى محل وقد شاركه فيه المعتزلة البصرية مع قولهم بأنها من جنس واحد ارادتنا المفتقرة الى المحل.
ووجود كلمة لا فى محل يوجب ان لا يكون بعض المتكلمين بان يتكلم بها أولى من بعض وليس لأبى الهذيل ان يقول ان فاعلها أولى بان يتكلم بها من غيره لانه قد قال بان الله تعالى يخلق فى الآخرة كلام أهل الجنة وكلام أهل النار ولا يكون متكلما بكلامهم فقد أداه قوله بوجود كلمة لا فى محل الى تصحيح كلام لا لمتكلم وهذا محال فما يؤدى اليه مثله.
والفضيحة السادسة من فضائحه قوله ان الحجة من طريق الاخبار فيما غاب عن الحواس من آيات الانبياء عليهم السلام وفيما سواها لا تثبت بأقل من عشرين نفسا فيهم واحد من اهل الجنة او أكثر ولم يوجب بأخبار الكفرة والفسقة حجة وان بلغوا عدد التواتر الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب اذا لم يكن فيهم واحد من أهل الجنة وزعم أن خبر ما دون الاربعة لا يوجب حكما ومن فوق الاربعة الى العشرين قد يصح وقوع العلم بخبرهم وقد لا يقع العلم بخبرهم وخبر العشرين اذا كان فيهم واحد من اهل الجنة يجب وقوع العلم منه لا محالة.
واستدل على ان العشرين حجة بقول الله تعالى {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين}. وقال لم يبح لهم قتالهم الا وهم عليهم حجة.
وهذا يوجب عليه ان يكون خبر الواحد حجة موجبة للعلم لأن الواحد فى ذلك الوقت كان له قتال العشرة من المشركين فيكون جواز قتاله لهم دليلا على كونه حجة عليهم.(12/74)
قال عبد القاهر ما أراد ابو الهذيل باعتباره عشرين فى الحجة من جهة الخبر اذا كان فيهم واحد من أهل الجنة إلا تعطيل الاخبار الواردة فى الاحكام الشرعية عن فوائدها لانه أراد بقوله ينبغي ان يكون فيهم واحد من أهل الجنة واحد يكون على بدعته فى الاعتزال والقدر وفى فناء مقدورات الله عز وجل لان من لم يقل بذلك لا يكون عنده مؤمنا ولا من أهل الجنة ولم يقل قبل أبى الهذيل أحد على بدعة أبى الهذيل حتى تكون روايته فى جملة العشرين على شرطه.
والفضيحةالسابعة انه فرق بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح فقال لا يجوز وجود أفعال القلوب من الفاعل مع قدرته عليه ولا مع موته وأجاز وجود أفعال الجوارح من الفاعل منا بعد موته وبعد عدم قدرته ان كان حيا لم يمت وزعم ان الميت والعاجز يجوز ان يكونا فاعلين لافعال الجوارح بالقدرة التي كانت موجودة قبل الموت والعجز.
وزعم الجبائى وابنه أبو هشام ان أفعال القلوب فى هذا الباب كأفعال الجوارح فى انه يصح وجودها بعد فناء القدرة عليها ومع وجود العجز عنها.
وقول الجبائى وابنه فى هذا الباب شر من قول ابى الهذيل غير ان ابا الهذيل سبق الى القول باجازة كون الميت والعاجز فاعلين لأفعال الجوارح ونسج الجبائى وابنه على منواله فى هذه البدعة وقاسا عليه إجازة كون العاجز فاعلا لأفعال القلوب ومؤسس البدعة عليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة من غير نقصان يدخل فى وزن العاملين بها(12/75)
الفضيحة الثامنة من فضائحه إنما لما وقف على اختلاف الناس فى المعارف هل هى ضرورية أم اكتسابية ترك قول من زعم انها كلها ضرورية وقول من زعم أنها كلها كسبية وقول من قال ان المعلوم منها بالحواس والبداية ضرورية وما علم منها بالاستدلال اكتسابية واختار لنفسه قولا خارجا عن أقوال السلف فقال المعارف ضربان أحدهما باضطرار وهو معرفة الله عز وجل ومعرفة الدليل الداعى الى معرفته وما بعدها من العلوم الواقعة عن الحواس أو القياس فهو علم اختيار واكتساب.
ثم انه بنى على ذلك قوله فى مهلة المعرفة فخالف فيها سائر الامة فقال فى الطفل انه لا يلزمه فى الحال الثانية من حال معرفته بنفسه أن يأتى بجميع معارف التوحيد والعدل بلا فصل وكذلك عليه ان يأتى مع معرفته بتوحيد الله سبحانه وعدله بمعرفة جميع ما كلفه الله تعالى بفعله حتى ان لم يأت بذلك كله فى الحال الثانية من معرفته بنفسه ومات فى الحال الثالثة مات كافرا وعدوا لله تعالى مستحقا للخلود فى النار واما معرفته بما لا يعرف الا بالسمع من جهة الاخبار فعليه ان يأتى بمعرفة ذلك فى الحال الثانية من سماعه للخبر الذى يكون حجة قاطعة للعذر.
وكان بشر بن المعتمر يقول عليه ان يأتى بالمعارف العقلية فى الحال الثالثة مع معرفته بنفسه لان الحال الثانية حال نظر وفكر فان لم يأت بها فى الحال الثالثة ومات فى الحال الرابعة كان عدوا لله تعالى مستحقا للخلود فى النار.
فهذان القدريان اللذان انكرا على الازارقة قولهما بان اطفال مخالفيهم فى النار وعلى من زعم ان أطفال المشركين فى النار قد زعما ان اطفال المؤمنين اذا ماتوا فى الحال الثالثة او الرابعة من معرفتهم بأنفسهم قبل اتيانهم بالمعارف العقلية كفرة مخلدون فى النار من غير كفر اعتقدوه.
الفضيحة التاسعة من فضائحه انه أجاز حركة الجسم الكثير الاجزاء بحركة تحل فى بعض اجزائه ولم يخبر مثل هذا فى اللون(12/76)
وقال سائر المتكلمين ان الجزء الذى قامت به الحركة هو المتحرك بها دون غيره من اجزاء الجملة كما ان الجزء الذى يقوم به السواد هو الاسود به دون غيره من اجزاء الجملة وان تحركت الجملة كان فى كل جزء منها حركة كما لو اسودت الجملة كان فى كل جزء منها سواد.
الفضيحة العاشرة من فضائحه قوله بان الجزء الذى لا يتجزأ لا يصح قيام اللون به اذا كان منفردا ولا تصح رؤيته اذا لم يكن فيه لون.
وهذا يوجب عليه ان الله تعالى لو خلق جزءا منفردا لم يكن رائيا له.
والحمد لله الذى انقذ اهل السنة من البدع التى حليناها فى هذا الباب من أبى الهذيل.
ذكر النظامية منهم:(12/77)
هؤلاء اتباع أبى اسحق ابراهيم بن سيار المعروف بالنظام والمعتزلة يموهون على الاغمار بديته يوهمون انه كان نظاما للكلام المنثور والشعر الموزون وانما كان ينظم الخرز في سوق البصرة ولاجل ذلك قيل له النظام وكان فى زمان شبابه قد عاشر قوما من الثنوية وقوما من السمتية القائلين بتكافؤ الادلة وخالط بعد كبره قوما من ملحدة الفلاسفة ثم خالط هشام بن الحكم الرافضى فاخذ عن هشام وعن ملحدة الفلاسفة قوله بابطال الجزء الذى لا يتجزأ ثم بنى عليه قوله بالطفرة التى لم يسبق اليها وهم احد قبله واخذ من الثنوية قوله بان فاعل العدل لا يقدر على فعل الجور والكذب واخذ من هشام بن الحكم ايضا قوله بان الالوان والطعوم والروائح والاصوات اجسام وبنى على هذه البدعة قوله بتداخل الاجسام فى حيز واحد ودلين مذاهب الثنوية وبدع الفلاسفة وشبه الملحدة فى دين الاسلام وأعجب بقول البراهمة بابطال النبوات ولم يجسر على اظهار هذا القول خوفا من السيف فانكر اعجاز القران فى نظمه وانكر ما روى فى معجزات نبينا من انشقاق القمر وتسبيح الحصا فى يده ونبوع الماء من بين اصابعه ليتوصل بانكار معجزات نبينا عليه السلام الى انكار نبوته ثم انه استثقل احكام شريعة الاسلام فى فروعها ولم يجسر على اظهار رفعها فابطل الطرق الدالة عليها فانكر لاجل ذلك حجة الاجماع وحجة القياس فى الفروع الشرعية وانكر الحجة من الاخبار التى لا توجب والعلم الضرورى.(12/78)
ثم انه علم اجماع الصحابة على الاجتهادفى الفروع الشرعية فذكرهم بما يقرؤه غدا من صحيفة مخازيه وطعن فى فتاوى اعلام الصحابة رضى الله عنهم وجميع فرق الامة من فريقى الرأى والحديث مع الخوارج والشيعة والنجارية واكثر المعتزلة متفقون على تكفير النظام وانما تبعه فى ضلالته شرذمة من القدرية كالاسوارى وابن حايط وفضل الحدثى والجاحظ مع مخالفة كل واحد منهم له فى بعض ضلالاته وزيادة بعضهم عليه فيها واعجاب هؤلاء النفر اليسير به كاعجاب الجعل بدحروجته
وقد قال بتكفيره اكثر شيوخ المعتزلة منهم أبو الهذيل فانه قال بتكفيره فى كتابه المعروف بالرد على النظام وفى كتابه عليه فى الاعراض والانسان والجزء الذى لا يتجزأ.
ومنهم الجبائى كفر النظام فى قوله ان المتولدات من افعال الله بإيجاب الخلقة والجبائى فى هذا الباب هو الكافر دون غيره غير انا أردنا أن نذكر تكفير شيوخ المعتزلة بعضها بعضا وكفره الجبائى فى احالته قدرة الله تعالى على الظلم وكفره فى قوله بالطبائع وله فى ذلك كتاب عليه وعلى معمر فى الطبائع.
ومنهم الاسكافى له كتاب على النظام كفره فيه فى اكثر مذاهبه.
ومنهم جعفر بن حرب صنف كتابا فى تكفير النظام بابطاله الجزء الذى لا يتجزأ.
واما كتب اهل السنة والجماعة فى تكفيره فالله يحصيها ولشيخنا ابى الحسن الاشعرى رحمه الله فى تكفير النظام ثلاثة كتب وللقلانسى عليه كتب ورسائل.
وللقاضى ابى بكر محمد بن أبى الطيب الاشعرى رحمه الله كتاب كبير فى بعض اصول النظام وقد أشار الى ضلالاته فى كتاب اكفار المتأولين ونحن نذكر فى هذا الكتاب ما هو المشهور من فضائح النظام:(12/79)
فاولها قوله بان الله عز وجل لا يقدر ان يفعل بعباده خلاف ما فيه صلاحهم ولا يقدر على ان ينقص من نعيم اهل الجنة ذرة لان نعيمهم صلاح لهم والنقصان مما فيه الصلاح ظلم عنده ولا يقدر ان يزيد فى عذاب اهل النار ذرة ولا على ان ينقص من عذابهم شيئا وزعم ايضا ان الله تعالى لا يقدر على ان يخرج احدا من اهل الجنة عنها ولا يقدر على ان يلقى فى النار من ليس من اهل النار.
وقال لو وقف طفل على شفير جهنم لم يكن الله قادرا على القائه فيها وقدر الطفل على القاء نفسه فيها وقدرت الزبانية ايضا على القائه فيها.
ثم زاد على هذا بان قال ان الله تعالى لا يقدر على ان يعمى بصيرا او يزمن صحيحا او يفقر غنيا اذا علم ان البصر والصحة والغنى اصلح لهم وكذلك لا يقدر على ان يغنى فقيرا او يصحح زمنا اذا علم ان المرض والزمانة والفقر اصلح لهم.
ثم زاد على هذا ان قال انه لا يقدر على ان يخلق حية او عقربا او جسما يعلم ان خلق غيره اصلح من خلقه.
وقد أكفرته البصرية من المعتزلة فى هذا القول وقالوا ان القادر على العدل يجب ان يكون قادرا على الظلم والقادر على الصدق يجب ان يكون قادرا على الكذب وان لم يفعل الظلم والكذب لقبحهما او غناه عنهما وعلم بغناه عنهما لان القدرة على الشيء يجب ان يكون قدرة على صده فاذا قال النظام ان الله تعالى لا يقدر على الظلم والكذب لزمه ان لا يكون قادرا على الصدق والعدل والقول بانه لا يقدر على العدل كفر فما يؤدى اليه مثله.
وقالوا ايضا لا فرق بين قول النظام إنه يكون من الله تعالى مالا يقدر على صده ولا على تركه وبين قول من زعم انه مطبوع على فعل لا يصح منه خلافه وهذا كفر فما يؤدى اليه مثله.(12/80)
ومن عجائب النظام فى هذه المسألة انه صنف كتابا على الثنوية وتعجب فيه من قول المانوية بان النور يأمر اشكاله المختلفة بالظلمة يفعل الخير وهي مما لا تقدر على الشر ولا يصح منها فعل الشرور وتعجب من ذم الثنوية الظلمة على فعل الشر مع قولها بان الظلمة لا تستطيع فعل الخير ولا تقدر الا على الشر فيقال له اذا كان الله عندك مشكورا على فعل العدل والصدق وهو غير قادر على فعل الظلم والكذب فما وجه انكارك على الثنوية ذم الظلم على الشر وهى عندهم لا تعذر على خلاف ذلك.
الفضيحة الثانية من فضائحه قوله ان الانسان هو الروح وهو جسم لطيف فداخل لهذا الجسم الكثيف مع قوله بان الروح هى الحياة المشابكة لهذا الجسد وقد زعم انه فى الجسد على سبيل المداخلة وانه جوهر واحد غير مختلف ولا متضاد وفى قوله هذا فضائح له:
منها ان الانسان على هذا القول لا يرى على الحقيقة وانما يرى الجسد الذى فيه الانسان ومنها انه يوجب ان الصحابة ما رأوا رسول الله وانما رأوا قالبا فيه الرسول.
ومنها يوجب ان لا يكون احد قد رأى اباه وامه وانما رأى قالبيهما.
ومنها انه اذا قال فى الانسان انه ليس هو الجسد الظاهر وانما هو روح مداخل للجسد لزمه ان يقول فى الجماد ايضا انه ليس هو جسده وانما هو روح فى جسده وهو الحياة المشابكة للجسد وكذلك القول فى الفرس وسائر البهائم وجميع الطيور والحشرات واصناف الحيوانات وكذلك القول فى الملائكة والجن والانس والشياطين وهذا يوجب ان احدا ما رأى حمارا ولا فرسا ولا طيرا ولا نوعا من الحيوان ويوجب ايضا ان لا يكون النبى رأى ملكا ويوجب ان الملائكة لا يرى بعضهم بعضا وانما رأى الراؤون قوالب هذه الاشياء التى ذكرناها.(12/81)
ومنها انه اذا قال ان الروح التى في الجسد هى الانسان وهى الفاعلة دون الجسد الذى هو قالبه لزمه ان يقول ان الروح هى الزانية والسارقة والقاتلة فاذا جلد الجسد وقطعت يده صار المقطوع غير السارق والمجلود غير الزانى وفى هذا غنى ويقول الله عز وجل {الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} وقوله {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} وكفاه بعناد القرآن خزيا.
الفضيحة الثالثة من فضائحه قوله بان الروح التى هي الانسان بزعمه مستطيع بنفسه حى بنفسه وانما يعجز لآفة تدخل عليه والعجز عنده جسم ولا يخلو من ان يقول فى العاجز والميت انهما نفس الانسان الذى يكون حيا قادرا او يقول ان الميت العاجز جسده فان قال ان الانسان هو الذى يعجز ويموت أبطل قوله بأن الانسان حى بنفسه ومستطيع بنفسه لوجود نفسه فى حال موته وعجزه ميته او عاجزه وان زعم ان الروح هى قوى بنفسه وان الجسد هو الذى يموت ويعجز غير الذى كان حيا قادرا ويجب على هذا القول ان لا يكون الله تعالى قادرا على احياء ميت ولا على اماتة حى ولا على اقدار عاجز ولا على تعجيز قادر لان الحى عنده لا يموت والقوى لا يعجز وقد وصف الله تعالى نفسه بانه يحيى الموتى وان زعم ان الروح حى قوى بنفسه وانما تموت وتعجز لأنه تدخل عليه لم ينفصل ممن يزعم انها ميتة عاجزة بنفسها وانما تحيى وتقوى بحياة وقدرة تدخلان عليهما.
الفضيحة الرابعة من فضائحه قوله ان الروح جنس واحد وافعاله جنس واحد وان الاجسام ضربان حى وميت وان الحى منها يستحيل ان يصير ميتا والميت يستحيل ان يصير حيا وانما اخذ هذا القول من الثنوية والبرهانية الذين زعموا ان النور حي خفيف من شأنه الصعود ابدا وان الظلام موات ثقيل من شأنه التسفل ابدا وان الثقيل الميت محال ان يصير خفيفا وان الخفيف الحى محال ان يصير ثقيلا ميتا.(12/82)
الفضحية الخامسة من فضائحه دعواه ان الحيوان كله جنس واحد لاتفاق حمية منه فى تدريك الادراك وزعم ان العمل اذا اتفق دل اتفاقه على اتفاق ما ولده وزعم ايضا ان الجنس الواحد لا يكون منه عملان مختلفان كما لا يكون من النار تسخين وتبريد ولا من الثلج تسخين وتبريد وهذا تحقيق قول الثنوية ان النور يفعل الخير ولا يكون منه الشر والظلام يفعل الشر ولا يكون منه الخير لان الفاعل الواحد لا يفعل فعلين مختلفين كما لا يقع من النار تسخين وتبريد ولا من الثلج تسخين وتبريد.
ومن العجب انه صنف كتابا على الثنوية ألزمهم فيه استحالة مزاج النور والظلمة اذا كانا مختلفين فى الجنس والعمل وكانت جهات تحركهما مختلفة ثم زعم مع ذلك ان الخفيف والثقيل من الاجسام مع اختلافهما فى جنسيهما واختلاف جهتى حركتهما تتداخلان والمداخلة فى حيز واحد اعظم من المزاج الذى انكره على الثنوية.
الفضيحة السادسة من فضائحه قوله بان النار من شأنها ان تعلو بطباعها على كل شىء وانها اذا شملت من الشوائب الحابسة لها فى هذا العالم ارتفعت حتى تجاوز السماوات والعرش الا ان يكون من جنسها ما تتصل به فلا تفارقه.
وقال فى الروح ايضا انه اذا كان فارق الجسد ارتفع ويستحيل منها غير ذلك وهذا بعينه قول الثنوية اذ الذى شاب من اجزاء النور باجزاء الظلمة اذا انفصل منها ارتفع الى عالم النور فان كان يثبت فوق السماء نورا تتصل به الارواح فهو ثنوى وان كان يثبت فوق الهواء نارا يخلص اليها النيران المرتفعة فى الهواء فهو من جملة الطبيعيين الذين زعموا ان مسافة الهواء فى الارتفاع عن الاعراض ستة عشر ميلا وفوقها نار متصلة بفلك القمر يلحق بها ما يرتفع من لهب النار فهو اما ثنوى واما طبيعي يدلس نفسه فى غمار المسلمين.(12/83)
الفضيحة السابعة من فضائحه قوله بان افعال الحيوان كلها من جنس واحد وهى كلها حركة وسكون والسكون عنده حركة اعتماد والعلوم والارادات عنده من جملة الحركات وهى الاعراض والاعراض كلها عنده جنس واحد وهى كلها حركات فاما الالوان والطعوم والاصوات والخواطر فهن عنده اجسام مختلفة به ومتداخلة ونتيجة قوله بان افعال الحيوان جنس واحد توجب عليه ان يكون الايمان مثل الكفر والعلم مثل الجهل والحب مثل البغض وان يكون فعل النبى عليه السلام بالمؤمنين مثل فعل ابليس بالكافرين وان يكون دعوة النبى عليه السلام الى دين الله تعالى مثل دعوة ابليس إلى الضلالة وقد قال فى بعض كتبه ان هذه الافعال كلها جنس واحد وانما اختلفت اسماؤها لاختلاف احكامها وهى فى الجنس واحد لانها كلها افعال الحيوانات ولا يفعل الحيوان عنده فعلين مختلفين كما لا يكون من النار تبريد وتسخين.
ويلزمه على هذا الاصل ان لا يغضب على من شتمه ولعنه لان قول القائل لعن الله النظام عند النظام مثل قوله رحمه الله وقوله انه ولد زنى كقوله انه ولد حلال فان رضى لنفسه بمثل هذا المذهب فهو أهل له ولما يلزمه عليه.
الفضيحة الثامنة من فضائحه قوله بان الالوان والطعوم والروائح والاصوات والخواطر أجسام واجازته تداخل الاجسام الكثيرة في حيز واحد وقد انكر على هشام بن الحكم قوله بان العلوم والارادات والحركات اجسام وقال لو كانت هذه الثلاثة اجساما لم يجتمع فى شىء واحد ولا فى حيز واحد وهو يقول ان اللون والطعم والصوت اجسام متداخلة فى حيز واحد وينقض بمذهب اعتلاله على خصمه ومن أجاز مداخلة الاجسام فى حيز واحد لزمه اجازة دخول الجمل فى سم الخياط.(12/84)
الفضيحة التاسعة من فضائحه قوله فى الاصوات وذلك انه زعم انه ليس فى الارض اثنان سمعا صوتا واحدا الا على معنى انهما سمعا جنسا واحدا من الصوت كما يأكلان جنسا واحدا من الطعام وان كان مأكول احدهما غير ماكول الآخر وانما ألجأه الى هذا القول دعواه ان الصوت لا يسمع الا بهجومه على الروح من جهة السمع ولا يجوز ان يهجم من قطعه واحدة على سمعين متباينين وشبه ذلك بالماء المصبوب على قوم يصيب كل واحد منهم غير ما يصيب الآخر.
ويلزمه على هذا الاصل ان لا يكون احد سمع كلمة واحدة من الله تعالى ولا من رسوله لان مسموع كل واحد من السامعين خير من صوت المتكلم بالكلمة الواحدة والكلمة الواحدة ربما كانت من حرفين وبعض الحرفين لا يكون كلمة عنده وان زعم ان الصوت لا يكون كلاما مسموعا الا اذا كان من حروف لزمه ان لا يسمع الجماعة حرفا واحدا لان الحرف الواحد لا ينقسم حروفا كثيرة على عدد السامعين.
الفضيحة العاشرة من فضائحه قول بانقسام كل جزء لا الى نهايةوفى ضمن هذا القول احالة كون الله تعالى محيطا بآخر العالم عالما بها وذلك قول الله تعالى {وأحاط بما لديهم وأحصى كل شىء عددا}.
ومن عجائبه انه انكر على المانوية قولهم بان الهمامة التى هي روح الظلمة عندهم قطعت بلادها ووافت الفضيحة العليا من العليا حتى شاهدت النور وقال لهم ان كانت بلادها لا تتناهى من جهة السفل فكيف قطعتها الهمامة لان قطع ما لا نهاية له محال ثم زعم مع ذلك ان الروح اذا فارق البدن قطع العالم الى فوق مع قوله بان المقطوع من العالم غير متناهية الاجزاء بل كل قطعة منها غير متناهية الاجزاء فكيف قطعها الروح فى وقت متناه ولاجل هذا الالزام قال بالطفرة التى لم يسبق اليها من أهل الاهواء غيره.(12/85)
واعجب من هذا انه الزم الثنوية بتناهى النور والظلمة من كل جهة من الجهات الست من اجل قولهم بتناهى كل واحد منها من جهة ملاقاته للآخر فهل استدل بتناهى كل جسم من جميع جهات اطرافه على تناهى اجزائه فى الوسط واذا كان تناهى الجسم من جهاته الست لا يدل عنده على تناهيه فى الوسط لم ينفصل من الثنوية اذا قالوا ان تناهى كل واحد من النور والظلمة من جهة الملاقاة لا يدل على تناهيهما من سائر الجهات.
الفضيحة الحادية عشرة من فضائحه قوله بالطفرة وهى دعواه ان الجسم قد يكون في مكان ثم يصير منه الى المكان الثالث او العاشر منه من غير مرور بالامكنة المتوسطة بينه وبين العاشر ومن غير ان يصير معدوما فى الأول ومعادا فى العاشر.
ونحن نتحاكم اليه فى بطلان هذا القول ان انصف من نفسه وان كان التحكيم بعد أبى موسى الاشعرى وعمرو بن العاص تضييعا للحزم.
الفضيحة الثانية عشرة من فضائحه هى التى تكاد السماوات يتفطرن منه وهى دعواه انه لا يعلم باخبار الله عز وجل ولا باخبار رسوله عليه السلام ولا باخبار اهل دينه شىء على الحقيقة ودعواه ان الاجسام والالوان لا يعلمان بالاخبار.
والذى الجأه الى هذا القول الشنيع قوله بان المعلومات ضربان محسوس وغير محسوس والمحسوس منها اجسام ولا يصح العلم بها الا من جهة الحس والحس عنده لا يقع الا على جسم واللون والطعم والرائحة والصوت عنده اجسام قال ولهذا ادركت بالحواس واما غير المحسوس فضربان قديم وأعراض وليس طريق العلم بهما الخبر وانما يعلمان بالقياس والنظر دون الحس والخبر.
فقيل له على هذا الاصل كيف عرفت ان محمدا كان فى الدنيا وكذلك سائر الانبياء والملوك وان كانت الاخبار عندك لا يعلم بها شىء.(12/86)
فقال ان الذين شاهدوا النبى عليه السلام اقتطعوا منه حين رأوه قطعة توزعوها بينهم وصلوها بارواحهم فلما اخبروا التابعين عن وجوده خرج منهم بعض تلك القطعة فاتصل بارواح التابعون لاتصال ارواحهم ببعضه وهكذا قصة الناقلون عن التابعين ومن نقلوا عنهم الى ان وصل الينا.
فقيل فقد علمت اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة ان نبينا عليه السلام كان فى الدنيا أفتزعم ان قطعة منه اتصلت بارواح الكفرة فالتزم ذلك فالزم ان يكون أهل الجنة اذا اطلعوا على اهل النار ورآهم اهل النار وخاطب كل واحد من الفريقين الفريق الآخر ان تنفصل قطعة من ارواح كل واحد منهم فيتصل بأرواح الفريق الآخر فيدخل الجنة قطع كثيرة من ابدان اهل النار وارواحهم ويدخل النار قطع كثيرة من ابدان أهل الجنة وارواحهم وكفاه بالتزام هذه البدعة خزيا.
الفضيحة الثالثة عشرة من فضائحه ما حكاه الجاحظ عنه من قوله تتجدد الجواهر والاجسام حالا بعد حال وان الله تعالى يخلق الدنيا وما فيها فى كل حال من غير ان يفنيها ويعيدها.
وذكر ابو الحسين الخياط فى كتابه على ابن الروندى ان الجاحظ غلط فى حكاية هذا القول على النظام.
فيقال له ان صدق الجاحظ عليه فى هذه الحكاية فاحكم بحبل النظام وحمقه والحادة فيه وان كذب عليه فاحكم بمجون الجاحظ وسفهه وهو شيخ المعتزلة وفيلسوفها ونحن لا ننكر كذب المعتزلة على أسلافها اذا كانوا كاذبين على ربهم ونبيهم.(12/87)
الفضيحة الرابعة عشر من فضائحه قوله بأن الله تعالى خلق الناس والبهائم وسائر الحيوان وأصناف النبات والجواهر المعدنية كلها فى وقت واحد وان خلق آدم عليه السلام لم يتقدم على خلق اولاده ولا تقدم خلق الامهات على خلق الأولاد وزعم أن الله تعالى خلق ذلك أجمع فى وقت واحد غير أن اكثر بعض الاشياء فى بعض فالتقدم والتأخر إنما يقع فى ظهورها من أماكنها وفى هذا تكذيب منه لما اجتمع عليه من سلف الامة مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى والسامرة من أن الله تعالى خلق اللوح والقلم قبل خلق السموات والارض وانما اختلفت المسلمون فى السماء والأرض أيتهما خلقت أولا فخالف النظام المسلمين وأهل الكتاب فى ذلك وخالف فيه أكثر المعتزلة لأن المعتزلة البصرية زعمت أن الله تعالى خلق إرادته قبل مرادته وأقر سائرهم بخلق بعض أجسام العالم قبل بعض وزعم أبو الهذيل أنه خلق قوله للشىء كن لا فى محل قبل أن خلق الأجسام والأعراض وقول النظام بالظهور والكمون فى الاجسام وتداخلها شر من قول الزهرية الذين زعموا أن الاعراض كلها كامنة فى الاجسام وإنما يتعين الوصف على الأجسام بظهور بعض الاعراض وكمون بعضها وفى كل واحد من المذهبين تطريق الدهرية الى إنكار حدوث الأجسام والأعراض بدعواهم وجود جميعها فى كل حال على شرط كمون بعضها وظهور بعضها من غير حدوث شىء منها فى حال الظهور وهذا إلحاد وكفر وما يؤدى الى الضلالة فهو مثلها.
الفضيحة الخامسة عشرة من فضائحه قوله أن نظم القرآن وحسن تأليف كلماته ليس بمعجزة للنبى عليه السلام ولا دلالة على صدقه فى دعواه النبوة وإنما وجه الدلالة منه على صدقه ما فيه من الاخبار عن الغيوب فأما نظم القرآن وحسن تأليف آياته فإن العباد قادرون على مثله وعلى ما هو أحسن منه فى النظم والتأليف.(12/88)
وفى هذا عناد منه لقول الله تعالى {لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}. ولم يكن غرض منكر إعجاز القرآن إلا إنكار نبوة من تحدى العرب بأن يعارضوه بمثله.
الفضيحة السادسة عشرة من فضائحه قوله بأن الخبر المتواتر مع خروج ناقليه عند سامع الخبر عن الحصر ومع اختلاف همم الناقلين واختلاف دواعيهم يجوز ان يقع كذب هذا مع قوله بأن من أخبار الآحاد ما يوجب العلم الضرورى.
وقد كفره أصحابنا مع موافقيه فى الاعتزال فى هذا المذهب الذى صار اليه.
الفضيحة السابعة عشرة من فضائحه تجويزه إجماع الامة فى كل عصر وفى جميع الاعصار على الخطأ من جهة الرأى والاستدلال.
ويلزمه على هذا الاصل ان لايثق بشىء مما اجتمعت الامة عليه لجواز خطئهم فيه عنده واذا كانت احكام الشريعة منها ما أخذه المسلمون عن خبر متواتر ومنها ما أخذوه عن أخبار الاحاد ومنها ما أجمعوا عليه وأخذوه عن اجتهاد وقياس وكان النظام واقعا لحجة التواتر ولحجة الإجماع وإبطل القياس وخبر الواحد اذا لم يوجد العلم الضرورى فكأنه أراد إبطال أحكام فروع الشريعة لإبطاله طرقها.
والفضيحة الثامنة عشرة دعواه فى باب الوعيد أن من غصب أو سرق مائة وتسعة وتسعين درهما لم يفسق بذلك حتى يكون ما سرقه او غصبه وخان فيه مائتى درهم فصاعدا.(12/89)
فان كان قد بنى هذا القول على ما يقطع فيه اليد فى السرقة فما جعل احد نصاب القطع فى السرقة مائتى درهم بل قال قوم فى نصاب القطع إنه ربع دينار او قيمته وبه قال الشافعى وأصحابه وقال مالك بربع دينار او ثلاثة دراهم وقال ابو حنيفة بوجوب القطع فى عشرة دراهم فصاعدا واعتبره قوم باربعين درهما او قيمتها وأوجبت الاباضية القطع في قليل السرقة وكثيرها وما اعتبر احد نصاب القطع بمائتى درهم ولو كان التفسيق معتبرا بنصاب القطع لما فسق الغاصب لألوف دنانير لأنه لا قطع على الغاصب المجاهر ولوجب أن لا يفسق من سرق الالوف من غير حرز او من الابن لأنه لا قطع فى هذين الوجهين.
وان كان إنما بنى تحديد المائتين فى الفسق على ان المائتين نصاب للزكاة لزمه تفسيق من سرق اربعين شاة بوجوب الزكاة فيها وان كانت قيمتها دون مائتى درهم واذا لم يكن للقياس فى تحديده محال ولم يدل عليه نص من القرآن والسنة الصحيحة لم يكن مأخوذا الا من وسوسة شيطانه الذى دعاه الى ضلالته.
الفضيحة التاسعة عشرة من فضائحه قوله فى الايمان ان اجتناب الكبيرة فحسب.
ونتيجة هذا القول ان الأقوال والأفعال ليس شىء منها إيمانا والصلاة عنده أفعالها ليست بإيمان ولا من الايمان وانما الايمان فيها ترك الكبائر فيها.
وكان يقول مع هذا ان الفعل والترك كلاهما طاعة والناس قبله فريقان فريق قالوا ان الصلاة كلها من الايمان وفريق قالوا ليس شىء من الصلاة ايمانا وقد فارق هو الفريقين فزعم ان الصلاة ليست من الايمان وترك الكبائر فيها من الايمان(12/90)
الفضيحة العشرون من فضائحه قوله فى باب المعاد بان العقارب والحيات والخنافس والذباب والذبان والجعلان والكلاب والخنازير وسائر السباع والحشرات تحشر الى الجنة وزعم أن كل من وكل ما تفضل الله عليه بالجنة لا يكون لبعضهم على بعض درجة فى التفضيل وزعم انه ليس لابراهيم بن رسول الله فى الجنة تفضيل درجة على درجات أطفال المؤمنين ولا لاطفال المؤمنين فيها تفضيل بدرجة او نعمة او مرتبة على الحيات والعقارب والخنافس لانه لا عمل لهم كما لا عمل لها فحجر على رب العالمين ان يتفضل على اولاد الانبياء بزيادة نعمة لا يتفضل بمثلها على الحشرات ثم لم يرض بهذا الحجر حتى زعم انه لا يقدر على ذلك وزعم ايضا انه لا يتفضل على الانبياء عليهم السلام الا بمثل ما يتفضل به على البهائم لأن باب الفضل عنده لا يختلف فيه العالمون وغيرهم وانما يختلفون فى الثواب والجزاء لاختلاف مراتبهم فى الاعمال.
وينبغى للنظام على قول هذا الاصل ان لا يغضب على من قال له حشرك الله مع الكلاب والخنازير والحيات والعقارب الى مأواها ونحن ندعو له بهذا الدعاء رضى به لنفسه.
الفضيحة الحادية والعشرون من فضائحه أنه لما ابتدع ضلالاته فى العلوم العقلية أدخل فى أبواب الفقه ايضا ضلالات له لم يسبق اليها.
منها قوله إن الطلاق لا ينفع بشىء من الكنايات كقول الرجل لامرأته أنت خلية او برية او حبلك على غاربك او الحقي بأهلك او اغتدى او نحوها من كنايات الطلاق عند الفقهاء سواء نوى بها الطلاق او لم ينوه.
وقد أجمع فقهاء الامة على وقوع الطلاق بها اذا قارنتها نية الطلاق وقد قال فقهاء العراق إن كنايات الطلاق فى حال الغضب كصريح الطلاق فى وقوع الطلاق بهما من غير نية.
ومنها قوله فى الظهار ان من ظاهر من امرأته بذكر البطن او الفرج لم يكن مظاهرا.
وهذا فيه خلاف قول الامة بأسرها.(12/91)
والشأن فى أنه كان يقول بتفسيق أبى موسى الاشعرى فى حكمه ثم اختار قوله فى أن النوم لا ينقض الطهارة اذا لم يكن معها حدث على قول الجمهور الأعظم بأن النوم مضطجعا ينقض الوضوء وانما اختلفوا فى النوم قاعدا وراكعا وساجدا وسامح فيه أبو حنفية وأوجبه اكثر اصحاب الشافعى من طريق القياس.
ومنها أنه زعم أن من ترك صلاة مفروضة عمدا لم يصح قضاؤه لها ولم يجب عليه قضاؤها.
وهذا عند سائر الامة كفر ككفر من زعم أن الصلوات الخمس غير مفروضة وفى فقهاء الامة من قال فيمن فاتته صلاة مفروضة أنه يلزمه قضاء صلوات يوم وليلة وقال سعيد بن المسيب من ترك صلاة مفروضة حتى فات وقتها قضى الف صلاة وقد بلغ من تعظيم شأن الصلاة أن بعض الفقهاء افتى بكفر من ينكرها عامدا وان لم يستحل تركها كما ذهب اليه احمد بن حنبل وقال الشافعى بوجوب قتل تاركها عمدا وان لم يحكم بكفره اذا تركها كسلا لا استحلالاتة وقال ابو حنيفة بحبس تارك الصلاة وتعذيبه الى ان يصلى.
وخلاف النظام للامة فى وجوب قضاء المتروكة من فرائض الصلاة بمنزلة خلاف الزنادقة فى وجوب الصلاة ولا اعتبار بالخلافين.
ثم ان النظام مع ضلالاته التى حكيناها عنه طعن فى اخبار الصحابة والتابعين من اجل فتاويهم بالاجتهاد فذكر الجاحظ عنه فى كتاب المعارف وفى كتابه المعروف بالفتيا أنه عاب اصحاب الحديث ورواياتهم احاديث ابى هريرة وزعم أن أبا هريرة كان اكذب الناس وطعن فى الفاروق عمر رضى عنه وزعم انه شك يوم الحديبية فى دينه وشك يوم وفاة النبى وانه كان فيمن نفر بالنبى عليه السلام ليلة العقبة وأنه ضرب فاطمة ومنع ميراث الفترة وانكر عليه تغريب نصر بن الحجاج من المدينة الى البصرة وزعم أنه ابدع صلاة التراويح ونهى عن متعة الحج وحرم نكاح الموالى للعربيات.(12/92)
وعاب عثمان بايوآئه الحكم بن العاص الى المدينة واستعماله الوليد بن عقبة على الكوفة حتى صلى بالناس وهو سكران وعابه بأن أعان سعيد بن العاص بأربعين الف درهم على نكاح عقده وزعم أنه استأثر بالحمى.
ثم ذكر عليا رضى الله عنه وزعم انه سئل عن بقرة قتلت حمارا فقال اقول فيها برأيى ثم قال بجهله من هو حتى يقضى برأيه.
وعاب ابن مسعود فى قوله فى حديث تزويج بنت واشتف اقول فيها برأيى فان كان صوابا فمن الله عز وجل وان كان خطأ فمنى وكذبه فى روايته عن النبى عليه السلام أنه قال {السعيد من سعد فى بطن أمه والشقى من شقى فى بطن أم} وكذبه ايضا فى روايته انشقاق القمر وفى رواية الجن ليلة الجن.
فهذا قوله فى اخيار الصحابة وفى اهل بيعة الرضوان الذين انزل الله تعالى فيهم {لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}. ومن غضب على من رضى الله عنه فهو المغضوب عليه دونه.
ثم أنه قال فى كتابه ان الذين حكموا بالرأى من الصحابة اما ان يكونوا قد ظنوا أن ذلك جائر لهم وجهلوا تحريم الحكم بالرأى فى الفتيا عليهم وإما ارادوا أن يذكروا بالخلاف وأن يكونوا رؤساء فى المذاهب فاختاروا لذلك القول بالرأى فنسبهم الى إبثار الهوى على الدين وما للصحابة رضى الله عنهم عند هذا الملحد الفرى ذنب غير أنهم كانوا موحدين لا يقولون بكفر القدرية الذين ادعوا مع الله خالقين كثيرين.
وانما انكر على ابن مسعود روايته أن السعيد من سعد فى بطن أمه والشقى من شقى في بطن أمه لأن هذا اخلاف قول القدرية فى دعواها من السعادة والشقاوة ليستا من قضاء الله عز وجل وقدره.(12/93)
واما إنكاره انشقاق القمر فإنما كره منه ثبوت معجزة لنبينا عليه عليه السلام كما انكر معجزته فى نظم القرآن فإن كان أحال انشقاق القمر مع ذكر الله عز وجل ذلك فى القرآن مع قوله من طريق العقل فقد زعم أن جامع اجزاء القمر لا يقدر على تفريقها وان اجاز انشقاق القمر فى القدرة والإمكان فما الذى اوجب كذب ابن مسعود فى روايته انشقاق القمر مع ذكر الله عز وجل ذلك فى القرآن مع قوله {اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} فقول النظام بانشقاق القمر لم يكن اصلا شر من قول المشركين الذين قالوا لما رأوا انشقاقه زعموا أن ذلك واقع بسحر ومنكر وجود المعجزة شر ممن تأولها على غير وجهها.
وأما انكاره رؤية الجن اصلا لزمه أن لا يرى بعض الجن بعضا وان اجاز رؤيتهم فما الذى أوجب تكذيب ابن مسعود فى دعواه رؤيتهم.
ثم ان النظام مع ما حكيناه من ضلالاته كان افسق خلق الله عز وجل وأجرأهم على الذنوب العظام وعلى إدمان شرب المسكر وقد ذكر عبد الله بن مسلم بن قتيبه رحمه الله فى كتاب مختلف الحديث أن النظام كان يغدو على مسكر ويروح على مسكر وانشد قوله فى الخمر :
ما زلت آخذ روح الزق فى لطف واستبيح دما من غير مذبوح
حتى انتشيت ولى روحان فى بدن والزق مطرح جسم بلا روح
ومثله فى طعنه على اخبار الصحابة مع بدعته مع بدعته فى أقواله وضلالته فى أفعاله كما قيل فى الامثال السائرة ان من كان فى دينه دميما وفى اصله لئيما لم يترك لنفسه عارا يهيما الا نحله كريما واستباح به حريما وهل يضر السحاب نباح الكلاب ؟ وكما لايضر السحاب نباح الكلاب كذلك لا يضر الأبرار ذم الأشرار، وما مثله في طعنه على أخيار الصحابة مع بدعته وضلالته إلا كما قال حسان بن ثابت:
ما أبالى أنبّ بالحزن تيسٌ >< أم لحاني بظهر غيب لئيم
وقال غيره:
ما ضرّ تغلب وائلٍ أهجوتها >< أم بلتَ حيث تناطح البحران(12/94)
ذكر الأسوارية منهم:
وهم أتباع على الأسواري، وكان من أتباع أبي الهذيل، ثم انتقل إلى مذهب النظام، وزاد عليه في الضلالة، بأن قال: إن ما علم الله أن لايكون لم يكن مقدورا لله تعالى، وهذا القول منه يوجب أن تكون قدرة الله متناهية، ومن كان قدرته متناهية كان ذاته متناهية، والقول به كفر من قائله.
ذكر المعمرية منهم:
وهم أتباع معمر بن عبّاد السلميّ، وكان رأسا للملحدة، وذنَبا للقدرية. وفضائحه على الأعداد كثيرة الأمداد.
منها أنه كان يقول: إن الله تعالى لم يخلق شيئا من الأعراض، من لون أو طعم، أو رائحة، أوحياة، أوموت، أوسمع، أوبصر، وإنه لم يخلق شيئا من صفات الأجسام، وهذا خلاف قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، وخلاف قوله تعالى في صفة نفسه: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وكان يزعم أن الله إنما خلق الأجسام، ثم إن الأجسام أحدثت الأعراض باعتبار أن كل ما سبق من حياة وموت وسمع وبصر ولون وطعم ورائحة ماهو إلا عرض فى الجسم من فعل الجسم بطبعه والاصوات عنده فعل الاجسام المصوبة بطباعها وفناء الجسم عنده فعل الجسم بطبعه وصلاح الزروع وفسادها من فعل الزروع عنده وزعم ايضا ان فناء كل فان فعل له بطبعه وزعم ان ليس لله تعالى في الاعراض صنع ولا تقدير
وفى قوله ان الله تعالى لم يخلق حياة ولا موتا تكذيب منه لوصف الله سبحانه نفسه بأن يحيى ويميت وكيف يحيى ويميت من لا يخلق حياة ولا موتا.(12/95)
الفضيحة الثانية من فضائحه انه لما زعم أن الله تعالى لم يخلق شيئا من الاعراض وانكر مع ذلك صفات لله تعالى الازلية كما أنكرها سائر المعتزلة لزمه على هذه البدعة أن لا يكون لله تعالى كلام اذ لم يمكنه أن يقول إن كلامه صفة له أزلية كما قال أهل السنة والجماعة لأنه لا يثبت لله تعالى صفة ازلية ولم يمكنه أن يقول إن كلامه فعله كما قاله سائر المعتزلة لأن الله سبحانه عنده لم يفعل شيئا من الاعراض والقرآن عنده فعل الجسم الذى حل الكلام فيه وليس هو فعلا لله تعالى ولا صفة له فليس يصح على اصله أن يكون له كلام على معنى الصفة ولا على معنى الفعل واذا لم يكن له كلام لم يكن له امر ونهى وتكليف وهذا يؤدى الى رفع التكليف والى رفع احكام الشريعة وما أراد غيره لأنه قال بما يؤدى اليه
الفضيحة الثالثة من فضائحه دعواه أن كل نوع من الأعراض الموجودة فى الاجسام لا نهاية لعدده وذلك أنه قال اذا كان المتحرك متحركا بحركة قامت به فتلك الحركة اختصت بمحله لمعنى سواها وذلك المعنى ايضا يختص بمحله لمعنى سواه وكذلك القول فى اختصاص كل معنى بمحله لمعنى سواه لا الى نهاية وكذلك اللون والطعم والرائحة وكل عرض يختص بمحله لمعنى سواه وذلك المعنى ايضا يختص بمحله لمعنى سواه لا الى نهاية.
وحكى الكعبى عنه فى مقالاته أن الحركة عنده انما خالفت السكون لمعنى سواها وكذلك السكون خالف الحركة لمعنى سواه وان هذين المعنيين مختلفان لمعنيين غيرهما ثم هذا القياس معتبر عنده لا الى نهاية.
وفى هذا القول إلحاد من وجهين:
احدهما قوله بحوادث لا نهاية لها وهذا يوجب وجود حوادث لا يحصيها الله تعالى وذلك عناد لقول الله تعالى {وأحصى كل شىء عددا}.(12/96)
والثانى إن قوله بحدوث أعراض لا نهاية لها يؤديه الى القول بأن الجسم أقدر من الله لأن الله عنده أنه ما خلق غير الاجسام وهى محصورة عندنا وعنده والجسم اذا فعل عرضا فقد فعل عرضا فقد فعل معه مالا نهاية له من الاعراض ومن خلق ما لا نهاية له ينبغى أن يكون أقدر مما لا يخلق إلا متناهيا فى العدد.
وقد اعتذر الكعبى عنه فى مقالاته بأن قال إن معمرا كان يقول إن الانسان لا فعل له غير الإرادة وسائر الاعراض أفعال الاجسام بالطباع.
فان صحت هذه الرواية عنه لزمه ان يكون الطبع الذى نسب اليه فعل الاعراض اقوى من الله عز وجل لأن افعال الله اجسام محصورة وافعال الطباع أصناف من الاعراض كل صنف منها غير محصور العدد وعلى أن قول معمر بأعراض لا نهاية لها تطريق لاصحاب الظهور والكمون على المسلمين فى حدوث الأعراض وذلك أن المسلمين استدلوا على حدوث الاعراض فى الأجسام بتعاقب المتضادات منها على الاجسام وأنكر أصحاب الكمون والظهور حدوث الاعراض وزعموا أنها كلها موجودة فى الاجسام فاذا ظهر فى الجسم بعض الاعراض كمن فيه ضده واذا كمن فيه العرض ظهر ضده فقال لهم المقصدون لو كمن العرض تارة وظهر تارة لكان ظهوره بعد الكمون وكمونه بعد الظهور لمعنى سواه والا افتقر ذلك المعنى فى ظهوره وكمونه الى معنى سواه لا الى نهاية واذا بطل اجتماع ما لا نهاية له من الاعراض فى الجسم الواحد صح تعاقبها على الجسم من جهة حدوثها فيه لا من جهة الكمون والظهور واذا قال معمر يجوز اجتماع مالا نهاية له من الاعراض فى الجسم لم يصح له دفع اصحاب الكمون والظهور عن دعواهم وجود اعراض لا نهاية لها من اجناس الكمون والظهور فى محل واحد وسوق هذا الاصل يؤدى الى القول بقدم الاعراض وذلك كفر فما يؤدى اليه مثله.(12/97)
الفضيحة الرابعة من فضائحه قوله فى الانسان إنه شىء غير هذا الجسد المحسوس وهو حى عالم قادر مختار وليس هو متحركا ولا ساكنا ولا متلونا ولا يرى ولا يلمس ولا يحل موضعا دون موضع ولا يحويه مكان دون مكان.
فاذا قيل له أتقول إن الانسان فى هذا الجسد أم فى السماء أم فى الارض أم فى الجنة أم فى النار؟.
قال لا اطلق شيئا من ذلك ولكنى أقول إنه فى الجسد مدبر وفى الجنة منعم او فى النار معذب وليس هو فى شيء من هذه الاشياء حالا ولا متمكنا لأنه ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ولا ذى وزن فوصف الانسان بما يوصف به الاله سبحانه لأنه وصفه بأنه حى عالم قادر حكيم وهذه الاوصاف واجبة لله تعالى ثم نزه الانسان عن أن يكون متحركا او ساكنا او حارا او باردا او رطبا او يابسا او ذا لون او وزن او طعم او رائحة والله سبحانه منزه عن هذه الاوصاف وكما زعم أن الانسان فى الجسد مدبر له لا على معنى الحلول والتمكن فيه كذلك الاله عنده فى كل مكان على معنى أن مدبر له عالم بما يجرى فيه لا على معنى الحلول والتمكن فيه فكأنه أراد أن يعبد الانسان لوصفه إياه بما يوصف الاله به فلم يحسن على اظهار القول بذلك فقال بما يؤدى اليه ثم إن هذا القول يوجب عليه أن لا يرى إنسان إنسانا ويوجب أن لا يكون الصحابة رأوا رسول الله وكفاه بذلك خزيا.
الفضيحة الخامسة من فضائحه قوله بأن الله لا يجوز أن يقول فيه انه قديم مع وصفه إياه بأنه موجود أزلي.
الفضيحة السادسة من فضائحه امتناعه عن القول بأن الله تعالى يعلم نفسه لا من شرط المعلوم عنده ان يكون غير العالم به وهذا يبطل عليه بذكر الذاكر نفسه لأنه اذا جاز ان يذكر الذاكر نفسه جاز ان يعلم العالم نفسه وقد افتخر الكعبى فى مقالاته بان معمرا من شيوخه فى الاعتزال ومن افتخر بمثله وهبناه منه وتمثلنا بقول الشاعر:
هل مشتر والسعيد بايعه هل بايع والسعيد من وهبا
ذكر البشرية منهم:(12/98)
هؤلاء اتباع بشر بن المعتمر وقال اخوانه من القدرية بتكفيره فى امور هو فيها مصيب عند القدرية.
فما كفرته القدرية فيه قوله بان الله تعالى قادر على لطف لو فعله بالكافر لآمن طوعا.
وكفروه ايضا فى قوله بأن الله تعالى لو خلق العقلاء ابتداء فى الجنة وتفضل عليهم بذلك لكان ذلك أصلح لهم.
وكفروه ايضا بقوله ان الله لو علم من عبد انه لو أبقاه لآمن كان إبقاؤه اياه اصلح له من ان يميته كافرا.
وكفروه ايضا بقوله ان الله تعالى لم يزل مريدا.
وفى قوله ان الله تعالى اذا علم حدوث شىء من افعال العباد ولم يمنع منه فقد أراد حدوثه.
والحق فى هذه المسائل الخمس كفرت المعتزلة البصرية فيها بشرا مع بشر والمكفرون له فيها هم الكفرة ونحن نكفر بشرا فى أمور شعواها كذا كل واحد منها بدعة شنعاء.
أولها قول بشر بان الله تعالى ما والى مؤمنا فى حال إيمانه ولا عادى كافرا فى حال كفره.
ويجب تكفيره فى هذا على قول جميع الامة اما على قول أصحابنا فلأنا نقول إن الله تعالى لم يزل مواليا لمن علم أنه يكون وليا له اذا وجد ومعاديا لمن علم اذا وجد كفر ومات على كفره يكون معاديا له قبل كفره وفى حال كفره وبعد موته واما على اصول المعتزلة غير بشر فلأنهم قالوا ان الله لم يكن مواليا لاحد قبل وجود الطاعة منه فكان فى حال وجود طاعته مواليا له وكان معاديا للكافر فى حال وجود الكفر منه فإن ارتد المؤمن صار الله تعالى معاديا له بعد ان كان مواليا له عندهم.(12/99)
وزعم بشر أن الله تعالى لا يكون مواليا للمطيع فى حال وجود طاعته ولا معاديا للكافر فى حال وجود كفره وانما يوالى المطيع فى الحالة الثانية من وجود طاعته ويعادى الكافر فى الحالة الثانية من وجود كفره واستدل على ذلك بأن قال لو جاز ان يوالى المطيع فى حال طاعته وجاز ان يعادى الكافر فى حال وجود كفره لجاز ان يثيب المطيع فى حال طاعته ويعاقب الكافر فى حال كفره فقال اصحابنا لو فعل ذلك لجاز فقال لو جاز ذلك لجاز ان يمسخ الكافر فى حال كفره فقلنا له لو فعل ذلك لجاز.
الفضيحة الثانية من فضائح بشر إفراطه بالقول فى التولد حتى زعم انه يصح من الانسان ان يفعل الالوان والطعوم والروائح والرؤية والسمع وسائر الادراكات على سبيل التولد اذا فعل اسبابها وكذلك قوله فى الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.
وقد كفره اصحابنا وسائر المعتزلة فى دعواه ان الانسان قد يخترع الألوان والطعوم والروائح والادراكات.
الفضيحة الثالثة من فضائحه قوله بأن الله تعالى قد يغفر للانسان ذنوبه ثم يعود فيما غفر له فيعذبه عليه اذا عاد الى معصيته فسئل على هذا عن كافر تاب عن كفره ثم شرب الخمر بعد توبته عن كفره من غير استحلال منه للخمر وغامضه الموت قبل توبته عن شرب الخمر هل يعذبه الله تعالى في القيمة على الكفر الذى قد تاب منه فقال نعم فقيل له يجب على هذا أن يكون عذاب من هو على ملة الاسلام مثل عذاب الكافر فالتزم ذلك.
الفضيحة الرابعة من فضائحه قوله بأن الله تعالى يقدر على ان يعذب الطفل ظالما له فى تعذيبه اياه فانه لو فعل ذلك لكان الطفل بالغا عاقلا مستحقا للعذاب.
وهذا فى التقدير كأنه يقول ان الله تعالى قادر على ان يظلم ولو ظلم لكان بذلك الظلم عادلا واول هذا الكلام ينقض آخره.
وأصحابنا يقولون ان الله تعالى قادر على تعذيب الطفل ولو فعل ذلك كان عدلا منه فلا يناقض قولهم فى هذا الباب وقوله بشر فيه متناقض.(12/100)
الفضيحة الخامسة من فضائحه قوله بان الحركة تحصل وليس بالجسم فى المكان الاول ولا فى المكان الثانى ولكن الجسم يتحرك به من الاول الى الثانى.
وهذا قول غير معقول فى نفسه واختلف المتكلمون قبله فى الحركة هل هو معنى أم لا فنفاها بقاة الاعراض واختلف الذين اثبتوا الاعراض فى وقت وجود الحركة فمنهم من زعم انها توجد فى الجسم وهو فى المكان الأولى فينتقل بها عن الاول الى الثاني وبه قال النظام وأبو شمر الممرجئ ومنهم من قال ان الحركة تحصل فى الجسم وهو في المكان الثانى لانها اول كون فى المكان الثانى وهذا قول ابى الهذيل والجبائي وابنه أبي هاشم وبه قال شيخنا ابو الحسن الاشعرى رحمه الله ومنهم من قال ان الحركة كونان فى مكانين احدهما يوجد فى المتحرك وهو فى المكان الاول والثانى يوجد فيه وهو فى المكان الثانى وهذا قول الروندى وبه قال شيخنا ابو العباس القلانسى وقد خرج قول بشر بن المعتمر عن هذه الاقوال بدعواه ان الحركة تحصل وليس الجسم فى المكان الاول ولا فى الثانى مع علمنا بأنه لا واسطة بين حالى كونه فى المكان الاول وكونه فى المكان الثانى وقوله هذا غير معقول له فكيف يكون معقولا لغيره؟.
ذكر الهشامية منهم:
هؤلاء اتباع هشام بن عمرو القوطى وفضائحه بعد ضلالته بالقدر تترى.
منها أنه حرم على الناس أن يقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل من جهة تسميته بالوكيل وقد نطق القرآن بهذا الاسم لله تعالى وذكر ذلك فى السنة الواردة فى تسعة وتسعين اسما من الله تعالى فاذا لم يجز اطلاق هذا الاسم على الله تعالى مع نزول القرآن به ومع ورود السنة الصحيحة به فأى اسم بعده يطلق عليه.
وقد كان اصحابنا يتعجبون من المعتزلة البصرية فى اطلاقها على الله عز وجل من الاسماء مالم يذكر فى القرآن والسنة اذا دل عليه القياس وزاد هذا التعجب بمنع القوطى عن اطلاق الله تعالى بما قد نطق به القرآن والسنة.(12/101)
واعتذر الخياط عن القوطى بأن قال ان هشاما كان يقول حسبنا الله ونعم المتوكل بدلا من الوكيل وزعم ان وكيلا يقتضى موكلا فوقه وهذا من علامات جهل هشام والمعتذر عنه بمعانى الاسماء فى اللغة وذلك ان الوكيل فى اللغة بمعنى الكافى لانه يكفى موكله أمر ما وكله فيه وهذا معنى قولهم حسبنا الله ونعم الوكيل ومعنى حسبنا كافينا وواجب ان يكون ما بعد نعم موافقا لما قبله كقول القائل الله رازقنا ونعم الرازق ولا يقال الله رازقنا ونعم الغافر ولأن الله تعالى قال {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} أى كافيه وقد يكون الوكيل ايضا بمعنى الحفيظ ومنه قوله تعالى {قل لست عليكم بوكيل} اى حفيظ ويقال فى نقيض الحفيظ رجل وكل ووكل اي بليد والوكال البلادة واذا كان الوكيل بمعنى الحفيظ وكان الله عز وجل كافيا وحفيظا لم يكن للمنع من إطلاق الوكيل فى اسمائه معنى.
والعجب من هشام فى انه أجاز ان يكتب لله عز وجل هذا الاسم وان يقرأ به القرآن ولم يجز أن يدعى به فى غير قراءة القرآن.
الفضيحة الثانية من فضائح القوطى امتناعه من اطلاق كثير مما نطق به القرآن فمنع الناس من ان يقولوا ان الله تعالى عز وجل الف بين قلوب المؤمنين وأضل الفاسقين وهذا عناد منه لقول الله عز وجل {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} ولقوله تعالى {ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} وقوله {وما يضل به الا الفاسقين}. ومنع ان يقول فى القرآن انه عمى على الكافرين.(12/102)
ووافقه صاحبه عباد بن سليمان العمرى فى هذه الضلالة فمنع الناس أن يقولوا ان الله تعالى خلق الكافر لأن الكافر اسم لشيئين إنسان وكفره وهو غير خالق لكفره عنده ويلزمه على هذا القياس ان لا يقول ان الله تعالى خلق المؤمن لان المؤمن اسم لشيئين انسان وايمان والله عنده غير خالق لإيمانه ويلزمه على قياس هذا الاصل ان لا يقول إن احدا قتل كافرا او ضربه لان الكافر اسم للانسان وكفره والكفر لا يكون مقتولا ولا مضروبا.
ومنع عباد من ان يقال ان الله تعالى ثالث كل اثنين ورابع كل ثلاثة وهذا عناد منه لقول الله عز وجل {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة الا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيئ عليم}.
وكان يمنع ان يقال ان الله عز وجل أملى الكافرين وفى هذا عناد منه لقوله عز وجل {إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين}. فان كان عباد قد أخذ هذه الضلالة عن استاذه هشام فالعصا من العصية ولن تلد الحية الا الحية وان انفرد بها دونه فقد قاس التلميذ ما منع من اطلافه على ما منع استاذه من اطلاق اسم الوكيل والكفيل على الله تعالى.
الفضيحة الثالثة من فضائح القوطى قوله بأن الأعراض لا يدل شىء منها على الله تعالى وكذلك قال صاحبه عباد وزعما ان فلق البحر وقلب العصا حية وانشقاق القمر ونجى السحر والمشى على الماء لا يدل شىء من ذلك على صدق الرسول فى دعواه الرسالة.
وزعم القوطى ان الدليل على الله تعالى يجب ان يكون محسوسا والاجسام محسوسة فهى الأدلة على الله تعالى وهى اعراض معلوم بدلائل نظرية فلو دلت على الله تعالى لأحتاج كل دليل منها الى دليل سواه لا الى نهاية.(12/103)
فقيل له يلزمك على هذا الاستدلال أن تقول إن الاعراض لا تدل على شىء من الاشياء ولا على حكم من الاحكام لانها لو دلت على شىء او على حكم لاحتاجت فى دلالتها على مدلولها الى دلالة على صحة دلالتها عليه واحتاج كل دليل الى دليل لا الى نهاية.
فان صار الى ان الاعراض لا تدل على شىء ولا على حكم ابطال دلالة كلام الله تعالى وكلام رسوله على الحلال والحرام والوعد والوعيد.
على ان من الاعراض ما يعلم وجوده بالضرورة كالالوان والطعوم والروائح والحركة والسكون فيلزمه ان تكون هذه الاعراض المعلومة بالضرورة دلالة على الله سبحانه لانها محسوسة كما دلت الاجسام عليه لانها محسوسة فان قال ان الاعراض غير محسوسة لان نفاة الاعراض قد انكروا وجودها قيل فالنجارية والضرارية قد انكروا وجود جسم لا يكون عرضا لدعواهم ان الاجسام اعراض مجتمعة فيجب على قياس قولك ان لا تكون الاجسام معلومة بالضرورة وان لا سببحانه.
الفضيحة الرابعة من فضائح القوطى قوله بالمقطوع والموصول وذلك قوله لو أن رجلا أسبغ الوضوء وافتتح الصلاة متقربا بها الى الله سبحانه عازما على اتمامها ثم قرأ فركع فسجد مخلصا لله تعالى فى ذلك كله غير انه قطعها فى آخرها ان اول صلاته وآخرها معصية قد نهاه الله تعالى عنها وحرمها عليه وليس له سبيل قبل دخوله فيها الى العلم بانها معصية فيجتنبها.
واجتمعت الامة قبله على أن ما مضى منها كانت طاعة لله تعالى وإن لم تكن صلاة كاملة كما لو مات فيها كان الماضى منها طاعة وان لم تكن صلاة كاملة.
الفضيحة الخامسة من فضائحه إنكاره حصار عثمان وقتله بالغلبة والقهر وزعم أن شرذمة قليلة قتلوه غرة من غير حصار مشهور.
ومنكر حصار عثمان مع تواتر الاخباربه كمنكر وقعتى بدر وأحد مع تواتر الاخبار بهما وكمنكر المعجزات التى تواترت الاخبار بها.(12/104)
الفضيحة السادسة من فضائحه قوله فى باب الامة ان الامة اذا اجتمعت كلمتها وتركت الظلم والفساد احتاجت الى إمام بسوسها واذا عصت وفجرت وقتلت امامها لم تعقد الامامة لاحد فى تلك الحال.
وانما أراد الطعن فى امامة على لانها عقدت له فى حال الفتنة وبعد قتل امام قبله.
وهذا قريب من قول الأصم منهم إن الامامة لا تنعقد الا بإجماع عليه وإنما قصد بهذا الطعن فى امامة على رضى الله عنه لأن الامة لم تجتمع عليه لثبوت أهل الشام على خلافه الى أن مات فانكر امامة على مع قوله بامامة معاوية لاجتماع الناس عليه بعد قتل على رضي الله عنه.
وقرت عيون الرافضة المائلين الى الاعتزال بطعن شيوخ المعتزلة فى امامة على وبعد شك زعيمهم واصل فى شهادة على وأصحابه.
الفضيحة السابعة من فضائح القوطى قوله بتكفير من قال ان الجنة والنار مخلوقتان وأخلافه من المعتزلة شكوا فى وجودها اليوم ولم يقولوا بتكفير من قال انهما مخلوقان.
والمثبتون لخلقهما يكفرون من أنكرهما ويقسمون بالله تعالى ان من أنكرهما لا يدخل الجنة ولا ينجو من النار.
الفضيحة الثامنة من فضائحه انكاره افتضاض الابكار فى الجنة ومن انكر ذلك يحرم ذلك بل يحرم عليه دخول الجنة فضلا عن افتضاض الابكار فيها.
وكان الفوطى مع ضلالاته التى حكيناها عنه يرى قتل مخالفيه فى السر غيلة وان كانوا من أهل ملة الاسلام.
فماذا على أهل السنة إذا قالوا فى هذا القوطى وأتباعه إن دماءهم وأموالهم حلال للمسلمين وفيه الخمس وليس على قاتل الواحد منهم قود ولا دية ولا كفارة بل لقاتله عند الله تعالى القربة والزافى والحمد لله على ذلك.
ذكر المردادية منهم:
هؤلاء اتباع عيسى بن صبيح المعروف بابى موسى المردار وكان يقال له راهب المعتزلة وهذا اللقب لائق به ان كان المراد به مأخوذا من رهبانية النصارى ولقبه بالمردار لائق به ايضا وهو فى الجملة كما قيل:(12/105)
وقل ما أبصرت عيناك من رجل الا ومعناه ان فكرت فى لقبه
وكان هذا المردار يزعم ان الناس قادرون على ان يأتوا بمثل هذا القرآن وبما هو افصح منه كما قاله النظام.
وفى هذا عناد منهما لقول الله عز وجل {قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}.
وكان المردار مع ضلالته يقول بتكفير من لابس السلطان ويزعم انه لا يرث ولا يورث.
وكان اسلافه من المعتزلة يقولون فيمن لابس السلطان من موافقيهم فى القدر والاعتزال انه فاسق لا مؤمن ولا كافر وافتى المردار بانه كافر.
والعجب من من سلطان زمانه كيف ترك قتله مع تكفيره إياه وتكفير من خالطه.
وكان يزعم ايضا ان الله قادر على ان يظلم ويكذب ولو فعل مقدوره من الظلم والكذب لكان الها ظالما كاذبا.
وحكى ابو زفر عن المردار انه أجاز وقوع فعل واحد من فاعلين مخلوقين على سبيل التولد مع انكاره على أهل السنة ما أجازوه من وقوع فعل من فاعلين احدهما خالق والآخر مكتسب.
وزعم المردار أيضا أن من أجاز رؤية الله تعالى بالابصار بلا كيف فهو كافر والشاك فى كفره كافر وكذلك الشاك فى الشاك لا الى نهاية والباقون من المعتزلة انما قالوا بتكفير من أجاز الرؤية على جهة المقابلة او على اتصال شعاع بصر الرائى بالمرئى.
والذين اثبتوا الرؤية مجمعون على تكفير المردار وتكفير الشاك في كفره وقد حكت المعتزله عن المردار انه لما حضرته الوفاة اوصى أن يتصدق بماله ولا يدفع شىء منه الى ورثته.
وقد اعتذر أبو الحسين الخياط عن ذلك بأن قال كان فى ماله شبه وكان للمساكين فيه حق وقد وصفه فى هذا الاعتذار بانه كان غاصبا وخائنا للمساكين والغاصب عند المعتزلة فاسق مخلد فى النار وقد اكفره سائر المعتزلة فى قوله بتولد فعل واحد من فاعلين.(12/106)
وقد اكفر هو أبا الهذيل فى قوله بفناء مقدورات الله عز وجل وصنف فيه كتابا واكفر استاذه بشر بن المعتمر فى قوله بتوليد الالوان والطعوم والروائح والادراكات واكفر النظام فى قوله بأن المتولدات من فعل الله وقال يلزمه ان يكون قول النصارى المسيح ابن الله من فعل الله فهذا راهب المعتزلة قد قال بتكفير شيوخه وقال شيوخه بتكفيره وكلا الفريقين محق فى تكفير صاحبه.
ذكر الجعفرية منهم:
هؤلاء اتباع جعفر ابن احدهما جعفر ابن حرب والآخر جعفر بن مبشر وكلاهما للضلالة رأس وللجهالة اساس.
اما جعفر بن مبشر فانه زعم ان فى فساق هذه الامة من هو شر من اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة هذا مع قوله بأن الفاسق موحد وليس بمؤمن ولا كافر فجعل الموحد الذى ليس بكافر شرا من الثنوى الكافر.
واقل ما نقابل به على هذا القول ان نقول له انك عندنا شر من كل كافر على جديد الارض.
وزعم ايضا ان اجماع الصحابة على ضرب شارب الخمر الحد وقع خطأ لانهم أجمعوا عليه برأيهم فشارك ببدعته هطه نجدات الخوارج فى انكارها حد الخمر.
وقد أجمع فقهاء الامة على تكفير من أنكر حد الخمر النىء وانما اختلفوا فى حد شارب النبيذ اذا لم يسكر منه فأما اذا سكر منه فعليه الحد عند فريقى الرأى والحديث على رغم من انكر ذلك.
وزعم ابن مبشر ايضا ان من سرق حبة اوما دونها فهو فاسق مخلد فى النار وخالف بذلك اسلافه الذين قالوا بغفران الصغائر عند اجتناب الكبائر.
وزعم ايضا ان تأييد المذنبين فى النار من موجبات العقول وخالف بذلك اسلافه الذين قالوا ان ذلك معلوم بالشرع دون العقل.(12/107)
وزعم ايضا ان رجلا لو بعث الى امرأة يخطبها ليتزوجها وجاءته المرأة فوثب عليها فوطئها من غير عقد انه لا حد عليها لأنها جاءته على سبيل النكاح واوجب الحد على الرجل لانه قصد الزنى ولم يعلم هذا الجاهل ان المطاوعة للزانى زانية اذا لم تكن مكرهة وانما اختلف الفقهاء فيمن اكره امرأة على الزنى فمنهم من أوجب للمرأة مهرا وأوجب على الرجل حدا وبه قال الشافعى وفقهاء الحجاز ومنهم من أسقط الحد على الرجل لأجل وجوب المهر عليه ولم يقل احد من سلف الامة بسقوط الحد عن المطاوعة للزانى كما قاله ابن مبشر وكفاه بخلاف الاجماع خزيا.
واما جعفر بن حرب فانه جرى على ضلالات استاذه المردار وزاد عليه قوله بان بعض الجملة غير الجملة وهذا يوجب عليه ان تكون الجملة غير نفسها اذ كان كل بعض منها غيرها.
وكان يزعم ان الممنوع من العقل قادر على العقل وليس يقدر على شىء وهكذا حكى عنه الشعبي فى مقالاته ويلزمه على هذا الاصل ان يجيز كون العالم بشيئ ليس غير عالم به.
قال عبد القاهر لابن حرب كتاب فى بيان ضلالاته وقد نقضنا عليه وسمينا نقضنا عليه بكتاب الحرب على ابن حرب وفيه نقض اصوله وفصوله بحمد الله ومنه.
ذكر الاسكافية منهم:
هؤلاء اتباع محمد بن عبد الله الاسكافى وكان قد أخذ ضلالته فى القدر عن جعفر بن حرب ثم خالفه فى بعض فروعه وزعم ان الله تعالى يوصف بالقدرة على ظلم الاطفال والمجانين ولا يوصف بالقدرة على ظلم العقلاء فخرج عن قول النظام بأنه لا يقدر على الظلم والكذب وخرج عن قول من قال من أسلافه انه يقدر على الظلم والكذب ولكنه لا يفعلهما لعلمه بقبحهما وغناه عنهما وجعل بين القولين منزلة فزعم انه انما يقدر على ظلم من لا عقل له ولا يقدر على ظلم العقلاء واكفره اسلافه فى ذلك واكفرهم هو فى خلافه.(12/108)
ومن تدقيقه فى ضلالته قوله بانه يجوز ان يقال ان الله يكلم العباد ولا يجوز ان يقال انه يتكلم وسماه مكلما ولم يسمه متكلما وزعم ان متكلما يوهم ان الكلام قام به ومكلم لا يوهم ذلك كما ان متحركا يقتضى قيام الحركة به ومتكلما يقتضى قيام الكلام به فصحيح عندنا وكلام الله تعالى عندنا قائم به واما أسلافه من القدرية فانهم يقولون له ان اعتلالك هذا يوجب عليك ان يكون المتكلم من بدن الانسان لسانه فحسب لان الكلام عندك يحل فيه بل يوجب عليك احالة اجراء اسم المتكلم على شىء لان الكلام عندك وعند سائر المعتزلة له حروف ولا يصح ان يكون حرف واحد كلاما ومحل كل حرف من حروف الكلام غير محل الحرف الآخر فيعنى على اعتلالك ان لا يكون الانسان متكلما ولا جزء منه على قود اعتلالك ان الله تعالى لم يكن متكلما لان الكلام لا يقوم به عندك.
وقد فخم بعض المعتزلة من الاسكافى بان زعم ان محمد بن الحسن رآه ماشيا فنزل عن فرسه وهذا كذب من قائله لان الاسكافى لم يكن فى زمان محمد بن الحسن ومات محمد بن الحسن بالرى فى خلافة هرون الرشيد ولم يدرك الاسكافى زمان الرشيد ولو أدرك زمان محمد لم يكن محمد ينزل لمثله عن فرسه مع تكفيره اياه وقد روى هشام بن عبيد الله الرازى عن محمد بن الحسن ان من صلى خلف المعتزلى يعيد صلاته وروى هشام ايضا عن يحيى ابن اكثم عن أبى يوسف انه سئل عن المعتزلة فقال هم الزنادقة وقد اشار الشافعى فى كتاب القياس الى رجوعه عن قبول شهادة المعتزلة وأهل الاهواء وبه قال مالك وفقهاء المدينة فكيف يصح من ائمة الاسلام اكرام القدرية بالنزول لهم مع قولهم بتكفيرهم ؟
ذكر الثمامية منهم:
هؤلاء اتباع ثمامة بن اشرس النميرى من مواليهم وكان زعيم القدرية فى زمان المأمون والمعتصم والواثق وقيل انه هو الذى اغوى المأمون بان دعاه الى الاعتزال.
وانفرد عن سائر اسلاف المعتزلة ببدعتين اكفرته الامة كلها فيها:(12/109)
احداهما انه لما شاركه اصحاب المعارف فى دعواهم ان المعارف ضرورية زعم ان من لم يضطره الله تعالى الى معرفته لم يكن مأمورا بالمعرفة ولا منهيا عن الكفر وكان مخلوقا للسحرة والاعتبارية فحسب كسائر الحيوانات التى ليست بمكلفة.
وزعم لاجل ذلك ان عوام الدهرية والنصارى والزنادقة يصيرون فى الآخرة ترابا.
وزعم ان الآخرة انما هى دار ثواب او عقاب وليس فيها لمن مات طفلا ولا لمن يعرف الله تعالى بالضرورة طاعة يستحقون بها ثوابا ولا معصية يستحقون عليها عقابا فيصيرون حينئذ ترابا اذ لم يكن لهم حظ فى ثواب ولا عقاب.
والبدعة الثانية من بدع ثمامة قوله بان الافعال المتولدة افعال لا فاعل لها.
وهذه الضلالة تجر الى انكار صانع العالم لانه لو صح وجود فعل بلا فاعل لصح وجود كل فعل بلا فاعل ولم يكن حينئذ من الافعال دلالة على فاعلها ولا كان فى حدوث العالم دلالة على صانعة كما لو أجاز انسان وجود كتابة لا من كاتب ووجود منسوخ ومبنى لا من بان أوناسخ.
ويقال له اذا كان كلام الانسان عندك متولدا ولا فاعل له عندك فلم تلوم الانسان على كذبه وعلى كلمة الكفر وهو عندك غير فاعل للكذب ولا لكلمة الكفر ؟.
ومن فضائح ثمامة ايضا انه كان يقول فى دار الاسلام انها دار شرك وكان يحرم السبى لان المسبى عنده ما عصى ربه اذا لم يعرفه وانما العاصى عنده من عرف ربه بالضرورة ثم جحده او عصاه.
وفى هذا اقرار منه على نفسه بانه ولد زنى لانه كان من الموالى وكانت امه مسبية ووطء من لا يجوز سبيها على حكم السبى الحرام زنى والمولود منه ولد زنى فبدعة ثمامة على هذا التقدير لائق بنسبه.
وقد حكى أصحاب التواريخ عن سخافة ثمامة ومجونة أمورا عجيبة:(12/110)
منها ما ذكره عبد الله بن مسلم عن قتيبة فى كتاب مختلف الحديث ذكر فيه ان ثمامة بن اشرس رأى الناس يوم جمعة يتعادون الى المسجد الجامع لخوفهم فوت الصلاة فقال لرفيق له انظر الى هؤلاء الحمير والبقر ثم قال ماذا صنع ذاك العربى بالناس يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحكى الجاحظ فى كتاب المضاحك ان المأمون ركب يوما فرأى ثمامة سكران قد وقع فى الطين فقال له ثمامة قال أى والله قال ألا تستحى قال لا والله قال عليك لعنة الله قال تترى ثم تترى.
وذكر الجاحظ ايضا ان غلام ثمامة قال يوما لثمامة قم صل فتغافل فقال له قد ضاق الوقت فقم وصل واسترح فقال انا مستريح إن تركتنى.
وذكر صاحب تاريخ المراوزة ان ثمامة بن أشرس سعى الى الواثق باحمد بن نصر المروزى وذكر له ان يكفر من ينكر رؤية الله تعالى ومن يقول يخلق القرآن فاعتصم من بدعة القدرية فقتله ثم ندم على قتله وعاتب ثمامة وابن داوود وابن الزيات فى ذلك وكانوا قد أشاروا عليه بقتله فقال له ابن الزيات وان لم يكن قتله صوابا فقتلنى الله تعالى بين الماء والنار وقال ابن أبى داود حبسنى الله تعالى في جلدى ان لم يكن قتله صوابا وقال ثمامة سلط الله تعالى على السيوف ان لم تكن أنت مصيبا فى قتله فاستجاب الله تعالى دعاء كل واحد منهم فى نفسه أما ابن الزيات فانه قتل فى الحمام وسقط فى اثوابه فمات بين لماء والنار وأما ابن أبى داود فان المتوكل رحمة الله حبسه فاصابه فى حبسه الفالج فبقى فى جلده محبوسا بالفالج الى ان مات وأما ثمامة فانه خرج الى مكة فرآه الخزاعيون بين الصفا والمروه فنادى رجل منهم فقال يا آل خزاعة هذا الذى سعى بصاحبكم احمد بن فهر وسعى فى دمه فاجتمع عليه بنو خزاعة بسيوفهم حتى قتلوه ثم اخرجوا جيفتة من الحرم فاكلته السباع خارجا من الحرم فكان كما قال الله تعالى {فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا}.
ذكر الجاحظية منهم:(12/111)
هؤلاء اتباع عمرو بن يحيى الجاحظ وهم الذين اغتروا بحسن بذله هكذا الجاحظ فى كتبه التى لها ترجمة تروق بلا معنى واسم يهول ولو عرفوا جهالاته فى ضلالاته لاستغفروا لله تعالى من تسميتهم اياه انسانا فضلا عن ان ينسبوا اليه احسانا.
فمن ضلالاته المنسوبة اليه ما حكاه الكعبى عنه فى مقالاته مع افتخاره به من قوله ان المعارف كلها طباع وهى مع ذلك فعل للعباد وليست باختيار لهم.
قالوا ووافق ثمامة فى ان لا فعل للعباد الا الارادة وان سائر الافعال تنسب الى العباد على معنى انها وقعت منهم طباعا وانها وجبت بارادتهم.
قال وزعم ايضا انه لا يجوز ان يبلغ احد فلا يعرف الله تعالى والكفار عنده من معاند ومن عارف قد استغرقه حبه لمذهبه فهو لا يشكر بما عنده من المعرفة بخالقه وبصدق رسله.
فان صدق الكعبى على الجاحظ فى أن لا فعل للانسان الا الارادة لزمه ان لا يكون الانسان مصليا ولا صائما ولا حاجا ولا زانيا ولا سارقا ولا قاذفا ولا قاتلا لانه لم يفعل عنده صلاة ولا صوما ولا حجا ولا زنى ولا سرقة ولا قتلا ولا قذفا لان هذه الافعال عنده غير الارادة.
واذا كانت هذه الافعال التى ذكرناها عنده طباعا لا كسبا لزمه ان لا يكون للانسان عليها ثواب ولا عقاب لان الانسان لا يثاب ولا يعاقب على ما لا يكون كسبا له كما لا يثاب ولا يعاقب على لونه وتركيب بدنه اذا لم يكن ذلك من كسبه.
ومن فضائح الجاحظ ايضا قوله باستحالة عدم الاجسام بعد حدوثها وهذا يوجب القول بان الله سبحانه وتعالى يقدر على خلق شىء ولا يقدر على افنائه وانه لا يصح بقاؤه بعد ان خلق الخلق منفردا كما كان منفردا قبل ان خلق الخلق.
ونحن وان قلنا ان الله لا يفنى الجنة ونعيمها والنار وعذابها ولسنا نجعل ذلك بان الله عز وجل قادر على افناء ذلك كله وانما نقول بدوام الجنة والنار بطريق الخبر.(12/112)
ومن فضائح الجاحظ ايضا قوله بان الله لا يدخل النار احدا وانما النار تجذب اهلها الى نفسها بطبعها ثم تمسكهم فى نفسها على الخلود.
ويلزمه على هذا القول ان يقول فى الجنة انها تجذب اهلها الى نفسها بطبعها وان الله لا يدخل احدا الجنة فان قال بذلك قطع الرغبة الى الله فى الثواب وابطل فائدة الدعاء وان قال {ان الله تعالى هو يدخل اهل الجنة الجنة} لزمه القول بان يدخل النار اهلها.
وقد افتخر الكعبى بالجاحظ وزعم انه من شيوخ المعتزلة وافتخر بتصانيفه الكثيرة وزعم انه كنانى من بنى كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر.
فيقال له ان كان كنانيا كما زعمت فلم صنفت كتاب مفاخر القحطانية على الكنانية وسائر العدنانية وان كان عربيا فلم صنف كتاب فضل الموالى على العرب وقد ذكر فى كتابه المسى بمفاخر قحطان على عدنان اشعارا كثيرة من هجاء القحطانية للعدنانية ومن رضى بهجو آبائه كمن هجا أباه وقد أحسن جحظة في هجاء ابن بسام الذى هجا اباه فقال من كان يهجو أباه فهجوه قد كفاه لو انه من أبيه ما كان يهجو اباه.
واما كتبه المزخرفة فاصناف منها كتابة فى حيل اللصوص وقد علم بها الفسقة وجوه السرقة ومنها كتابه فى عشر الصناعات وقد افسد به على التجار سلعهم ومنها كتابه فى النواميس وهو ذريعة للمحتالين يجتلبون بها ودائع الناس واموالهم ومنها كتابه فى الفتيا وهو مشحون بطعن استاذه النظام على اعلام الصحابة ومنها كتبه فى القحاب والكلاب واللاطة وفى حيل المكدين ومعانى هذه الكتب لائقة به وبصفته واسرته ومنها كتاب طبائع الحيوان وقد سلخ فيه معانى كتاب الحيوان لارسطاطاليس وضم اليه ما ذكره المدائنى من حكم العرب وأشعارها فى منافع الحيوان ثم انه شحن الكتاب بمناظرة بين الكلب والديك والاشتغال بمثل هذه المناظرة يضيع الوقت بالغث ومن افتخر بالجاحظ سلمناه اليه.
وقول اهل السنة فى الجاحظ كقول الشاعر فيه:(12/113)
لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا ما كان الا دون قبح الجاحظ
رجل يتوب عن الجحيم بنفسه وهو القذى فى كل طرف لاحظ
ذكر الشحامية منهم:
هؤلاء اتباع أبى يعقوب الشحام وكان استاذ الجبائى وضلالاته كضلالات الجبائى غير انه أجاز كون مقدور واحد لقادرين وامتنع الجبائى وابنه من ذلك وقد ظن بعض أن الاغبياء قول الشحام كقول الصفاتية فى مقدور لقادرين وبين القولين فرق واضح وذلك ان الشحام اجاز كون مقدور واحد لقادرين يصح ان يحدثه كل واحد منهما على البدل وكذلك حكاه الكعبى فى كتاب عيون المسائل على أبى الهذيل والصفاتية لا يثبتون خالقين وانما يجيزون كون مقدور واحد لقادرين أحدهما خالقه والآخر مكتسب له وليس الخالق مكتسبا ولا المكتسب خالقا وفى هذا بيان الفرق بين الفرقين على اختلاف الطريقين.
ذكر الخياطية منهم:
هؤلاء اتباع ابى الحسين الخياط الذى كان استاذ الكعبى في ضلالته وشارك الخياط سائر القدرية فى اكثر ضلالاتها وانفرد عنهم بقول من لم يسبق اليه فى المعدوم وذلك ان المعتزلة اختلفوا فى تسمية المعدوم شيئا منهم من قال لا يصح ان يكون المعدوم معلوما ومذكورا ولا يصح كونه شيئا ولا ذاتا ولا جوهرا ولا عرضا وهذا اختيار الصالحى منهم وهو موافق لاهل السنة فى المنع فى تسمية المعدوم شيئا وزعم آخرون من المعتزلة ان المعدوم شىء ومعلوم ومذكور وليس بجوهر ولا عرض وهذا اختيار الكعبى منهم وزعم الجبائى ابنه ابو هاشم ان كل وصف يستحقه الحادث لنفسه او لجنسه فان الوصف ثابت له فى حال عدمه وزعم ان الجوهر كان فى حال عدمه جوهرا وكان العرض فى حال عدمه عرضا وكان السواد سوادا والبياض بياضا فى حال عدمهما وامتنع هؤلاء كلهم عن تسمية المعدوم جسما من قبل ان الجسم عندهم مركب وفيه تأليف وطول وعرض وعمق ولا يجوز وصف معدوم بما يوجب قيام معنى به.(12/114)
وفارق الخياط فى هذا الباب جميع المعتزلة وسائر فرق الامة فزعم ان الجسم فى حال عدمه يكون جسما لانه يجوز ان يكون فى حال حدوثه جسما ولم يجز ان يكون المعدوم متحركا لان الجسم فى حال حدوثه لا يصح ان يكون متحركا عنده فقال كل وصف يجوز ثبوته فى حال الحدوث فهو ثابت له فى حال عدمه.
ويلزمه على هذا الاعتلال ان يكون الانسان قبل حدوثه انسانا لان الله تعالى لو احدثه على صورة الانسان بكمالها من غير نقل له فى الاصلاب والارحام ومن غير تغيير له من صورة الى صورة اخرى يصح ذلك
وكان هؤلاء الخياطية يقال لهم لمعدومية لافراطهم بوصفهم المعدوم باكثر اوصاف الموجودات وهذا اللقب لائق بهم.
وقد نقض الجبائى على الخياط قوله بان الجسم جسم قبل حدوثه فى كتاب مفرد وذكر ان قوله بذلك يؤديه الى القول بقدم الاجسام.
وهذا الالزام متوجه على الخياط ويتوجه مثله على الجبائى وابنه فى قولهما بان الجواهر والاعراض كانت فى حال العدم اعراضا وجواهر فاذا قالوا لم تزل اعيانا وجواهر واعراضا ولم يكن حدوثها لمعنى سوى اعيانها فقد لزمهم القول بوجودها فى الازل وصاروا فى تحقيق معنى قول الذين قالوا بقدم الجواهر والاعراض.
وكان الخياطي مع ضلالته فى القدر وفى المعدومات منكر الحجة فى اخبار الآحاد وما اراد بانكاره الا انكار اكثر احكام الشريعة فان اكثر فروض الفقه مبنية على اخبار من اخبار الآحاد.
وللكعبى عليه كتاب فى حجة اخبار الاحاد وقد ضلل فيه من انكر الحجة فيها وقلنا للكعبى يكفيك من الخزى والعار انتسابك الى استاذ تقر بضلالته
ذكر الكعبية منهم:(12/115)
هؤلاء اتباع ابى القاسم عبد الله بن احمد ابن محمود البنحى المعروف بالكعبى وكان حاطب قبل يدعى فى انواع العلوم على الخصوص والعموم ولم يحظ فى شىء منها باسراره ولم يحط بظاهره فضلا عن باطنه وخالف البصريين من المعتزلة فى احوال كثيرة منها ان البصريين منهم اقروا بان الله تعالى يرى خلقه من الاجسام والالوان وانكروا ان يرى نفسه كما انكروا ان يراه غيره وزعم الكعبى ان الله تعالى لا يرى نفسه ولا غيره الا على معنى علمه بنفسه وبغيره وتبع النظام فى قوله ان الله تعالى لا يرى شيئا فى الحقيقة.
ومنها ان البصريين منهم مع اصحابنا فى ان الله عز وجل سامع للكلام والاصوات على الحقيقة لا على معنى انه عالم بهما وزعم الكعبى والبغداديون من المعتزلة ان الله تعالى لا يسمع شيئا على معنى الادراك المسمى بالسمع وتأولوا وصفه بالسميع البصير على معنى انه عليم بالمسموعات التى يسمعها غيره والمرئيات التي يراها غيره.
ومنها ان البصريين منهم مع اصحابنا فى ان الله عز وجل مريد على الحقيقة غير ان اصحابنا قالوا انه لم يزل مريدا بارادة ازلية وزعم البصريون من المعتزلة انه يريد بارادة حادثة لا فى محل وخرج الكعبى والنظام واتباعهما عن هذين القولين وزعموا انه ليست لله تعالى ارادة على الحقيقة وزعموا انه اذا قيل ان الله عز وجل اراد شيئا من فعله فمعناه انه فعله واذا قيل انه اراد من عنده فعلا فمعناه انه امره به وقالوا ان وصفه بالارادة فى الوجهين جميعا مجاز كما ان وصف الجدار بالارادة في قول الله تعالى {جدارا يريد ان ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا} مجاز وقد اكفرهم البصريون مع اصحابنا فى نفيهم ارادة الله عز وجل.(12/116)
ومنها ان الكعبى زعم ان المقتول ليس بميت وعاند قول الله تعالى {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} وسائر الامة مجمعون على ان كل مقتول ميت وان صح ميت غير مقتول.
ومنها ان الكعبى على قول من اوجب على الله تعالى فعل الاصلح فى باب التكليف.
ومنها ان البصريين مع اصحابنا فى ان الاستطاعة معنى غير صحة البدن والسلامة من الافات وزعم الكعبى انها ليست غير الصحة والسلامة.
والبصريون من المعتزلة يكفرون البغداديين منهم والبغداديون يكفرون البصريين وكلا الفريقين صادق فى تكفير الفريق الاخر كما بيناه فى كتاب فضائح القدرية.
ذكر الجبائية منهم:
هؤلاء أتباع أبى على الجبائى الذى أهوى اهل خوزستان وكانت المعتزلة البصرية فى زمانه على مذهبه ثم انتقلوا بعده ألى مذهب ابنه أبى هاشم.
فمن ضلالات الجبائى انه سمى الله عز وجل مطيعا لعبده اذا فعل مرادا لعبد وكان سبب ذلك انه قال يوما لشيخنا أبى الحسن الاشعرى رحمه الله ما معنى الطاعة عندك فقال موافقة الامر وسأله عن قوله فيها فقال الجبائى حقيقة الطاعة عندى موافقة الارادة وكل من فعل مراد غيره فقد اطاعه فقال شيخنا ابو الحسن رحمه الله يلزمك على هذا الأصل ان يكون الله تعالى مطيعا لعبده اذا فعل مراده فالزم ذلك فقال له شيخنا رحمه الله خالفت إجماع المسلمين وكفرت برب العالمين ولو جاز ان يكون الله تعالى مطيعا لعبده لجاز ان يكون خاضعا له تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ثم ان الجبائى زعم ان اسماء الله تعالى جارية على القياس وأجاز إشتقاق اسم له من كل فعل فعله والزمه شيخنا ابو الحسن رحمه الله ان يسميه بمحبل النساء لانه خالق الحبل فيهن فالتزم ذلك فقال له بدعتك هذه أشنع من ضلالة النصارى فى تسمية الله أبا لعيسى مع امتناعهم من القول بأنه محبل مريم.(12/117)
ومن ضلالات الجبائى ايضا انه أجاز وجود عرض واحد فى امكنة كثيرة وفى اكثر من الف ألف مكان وذلك انه أجاز وجود كلام واحد فى الف ألف محل.
وزعم ان الكلام المكتوب فى محل اذا كتب لي غيره كان موجودا فى المحلين من غير انتقال منه غير المكان الأول الى الثانى ومن غير حدوث في الثانى وكذلك ان كتبت فى ألف مكان او الف ألف وزعم هو وابنه أبو هاشم أن الله تعالى اذا أراد أن يفنى العالم خلق عرضا لا فى محل أفنى به جميع الاجسام والجواهر ولا يصح فى قدرة الله تعالى ان يفنى بعض الجواهر مع بقاء بعضها وقد خلقها تفاريق ولا يقدر على إفنائها تفاريق.
وقد حكى ان شيخنا أبا الحسن رحمه الله قال للجبائى اذا زعمت ان الله تعالى قد شاكل ما أمر به فما تقول فى رجل له على غيره حق يماطله فيه فقال له والله لاعطينك حقك غدا إن شاء الله ثم لم يعطه حقه فى غده فقال يحنث فى يمينه لان الله تعالى قد شاء ان يعطيه حقه فيه فقال له خالفت إجماع المسلمين قبلك لانهم اتفقوا قبلك على ان من قرن يمينه بمشيئة الله عز وجل لم يحنث اذا لم يقر به.
ذكر البهشمية:
هؤلاء اتباع أبى هاشم والجبائى واكثر معتزلة عصرنا على مذهبه لدعوة ابن عباد وزير آل بويه اليه ويقال لهم الدمية لقولهم باستحقاق الدم واالعقاب لا على فعل وقد شاركوا المعتزلة فى اكثر ضلالاتها وانفردوا عنهم بفضائح لم يسبقوا اليها.(12/118)
منها قولهم باستحقاق الدم والعقاب لا على فعل وذلك انهم زعموا ان القادر منها يجوز اان يخلو من الفعل والشرك مع ارتفاع الموانع من الفعل والذى الجأهم الى ذلك أن اصحابنا قالوا للمعتزلة اذا اجزتم تقدم الاستطاعة على الفعل لزمتكم التسوية بين الوقتين والاوقات الكثيرة فى تقدمها عليه فكانوا يختلفون في الجواب عن هذا الالزام فمنهم من كان يوجب وقوع الفعل او ضده بالاستطاعة في الحال الثانية من حال حدوث الاستطاعة الى وقت حدوث الفعل ويوجب وقوع الفعل او ضده عند عدم الموانع ويزعم مع ذلك ان القدرة لا تكون قدرته عليه فى حال حدوثه ومنهم من اجاز عدم القدرة مثل حدوث الفعل ومع حدوث العجز الذى هو ضد القدرة التي قد عدمت بعد وجودها ورأى أبو هاشم بن الجبائى توجه الزام أصحابنا عليهم في التسوية بين الوقتين والاوقات الكثيرة فى جواز تقدم الاستطاعة على الفعل ان جاز تقدمها عليه ولم يجد للمعتزلة عنه انفصالا صحيحا فالتزم التسوية وأجاز بقاء المستطيع ابدا مع بقاء قدرته وتوفر الآية وارتفاع الموانع عنه عاليها من الفعل والترك فقيل له على هذا الاصل أرأيت لو كان هذا القادر مكلفا ومات قبل ان يفعل بقدرته طاعة له معصية ماذا يكون حاله فقال يستحق الذم والعقاب الدائم لا على فعل ولكن من أجل أنه لم يفعل ما أمر به مع قدرته عليه وتوفر الآية فيه وارتفاع الموانع منه فقيل له كيف استحق العقاب بأن لم يفعل ما أمر به وان لم يفعل ما نهى عنه دون ان يستحق الثواب بأن لم يفعل ما نهى عنه وان لم يفعل ما أمر به.
وكان اسلافه من المعتزلة يكفرون من يقول إن الله تعالى يعذب العاصى على اكتساب معصية لم يخترعها العاصى وقالوا الآن إن تكفير أبى هاشم في قوله بعقاب من ليس فيه معصية لا من فعله ولا من فعل غيره اولى.(12/119)
والثانى انه سمى من لم يفعل ما أمر به عاصيا وان لم يفعل معصية ولم يوقع اسم المطيع الا على من فعل طاعة ولو صح عارض بلا معصية لصح مطيع بلا طاعة او لصح كافر بلا كفر.
ثم إنه مع هذه البدع الشنعاء زعم ان هذا المكلف لو تغير تغيرا قبيحا لا يستحق بذلك قسطين من العذاب أحدهما للقبيح الذى فعله والثانى لأنه لم يفعل الحسن الذى أمر به ولو تغير تغيرا حسنا وفعل مثل أفعال الانبياء وكان الله تعالى قد أمره بشىء فلم يفعل ولا فعل ضده لصار مخلدا.
وسائر المعتزلة يكفرونه في هذه المواضيع الثلاثة:
أحدها استحقاق العقاب لا على فعل.
والثانى استحقاق قسطين من العذاب اذا تغير تغيرا قبيحا.
والثالث في قوله انه لو تغير تغيرا حسنا وأطاع بمثل طاعة الانبياء عليهم السلام ولم يفعل شيئا واحدا مما أمره الله تعالى به ولا ضده لا يستحق الخلود في النار.
وألزمه اصحابنا في الحدود مثل قوله في القسطين حتى يكون عليه حدان حد الزنى الذى قد فعله والثانى لأنه لم يفعل ما وجب عليه من ترك الزنى وكذلك القول فى حدود القذف والقصاص وشرب الخمر وألزموه إيجاب كفارتين على المفطر في شهر رمضان إحداهما لفطرة الموجب للكفارة والثانية بأن لم يفعل ما وجب عليه من الصوم والكف عن الفطر.
فلما رأى ابن الجبائى توجه هذا الالزام عليه في بدعته هذه ارتكب ما هو أشنع منها فرارا من ايجاب حدين وكفارتين في فعل واحد فقال إنما نهى عن الزنى والشرب والقذف فأما ترك هذه الافعال فغير واجب عليه.(12/120)
وألزموه ايضا القول بثلاثه أقساط واكثر لا الى نهاية لانه اثبت قسطين فيما هو متولد عنده قسطا لانه لم يفعله وقسطا لانه لم يفعل سببه وقد وجدنا من المسببات ما يتولد عنده من اسباب كثيرة يتقدمه كاصابة الهدف بالسهم فانها يتولد عنده من حركات كثيرة يفعلها الرمى في السهم وكل حركة منها سبب لما يليها الى الاصابة ولو كانت مائة حركة فالمائة منها سبب الاصابة فيبقى على أصله اذا أمره الله تعالى بالاصابة فلم يفعلها ان يستحق مائة قسط وقسطا آخر الواحد منها ان لم يفعل الاصابة والمائة لانه لم يفعل تلك الحركات.
ومن اصله ايضا انه اذا كان مأمورا بالكلام فلم يفعله استحق عليه قسطين قسطا لانه لم يفعل الكلام وقسطا لانه لم يفعل سببه ولو انه فعل ضد سبب الكلام لا يستحق قسطين وقام هذا عنده مقام السبب الذي لم يفعله فقلنا له هل استحق ثلاثة اقساط قسطا لانه لم يفعل الكلام وقسطا لانه لم يفعل سببه وقسطا لانه ضد سبب الكلام.
وقد حكى بعض أصحابنا عنه انه لم يكن يثبت القسطين إلا في ترك سبب الكلام وحده وقد نص في كتاب استحقاق الذمة على خلافه وقال فيه كل ماله ترك مخصوص فحكمه حكم سبب الكلام وما ليس له ترك مخصوص فحكمه حكم ترك العطية الواجبة كالزكاة والكفارة وقضاء الدين ورد المظالم واراد بهذا ان الزكاة والكفارة وما اشبههما لا تقع بجارحة مخصوصة ولا له ترك واحد مخصوص بل لو صلى او حج أو فعل غير ذلك كان جميعه تركا للزكاة والكلام سبب تركه مخصوص فكان تركه قبيحا فاذا ترك سبب الكلام استحق لاجله قسطا وليس للعطية ترك قبيح فلم يستحق عليه قسطا آخر اكثر من ان يستحق الذم لانه لم يود.
فيقال له ان لم يكن ترك الصلاة والزكاة قبيحا وجب ان يكون حسنا وهذا خروج عن الدين فما يؤدي اليه مثله.(12/121)
ومن مناقضاته في هذا الباب انه سمى من لم يفعل ما وجب عليه ظالما وان لم يوجد منه ظلم وكذلك سماه كافرا وفاسقا وتوقف في تسميته إياه عاصيا فأجاز أن يخلد الله في النار عبدا لم يستحق اسم عاص وتسميته اياه فاسقا وكافرا يوجب عليه تسميته بالعاصى وامتناعه من هذه التسمية يمنعه من تسميته فاسقا وكافرا.
ومن مناقضاته فيه ايضا ما خالف فيه الاجماع بفرقة بين الجزاء والثواب حتى انه قال يجوز ان يكون في الجنة ثواب كثير لا يكون جزاء ويكون في النار عقاب كثير لا يكون جزاء وانما امتنع من تسميته جزاء لان الجزاء لا يكون الا على فعل وعنده انه قد يكون عقاب لا على فعل وقيل له اذا لم يكن جزاء الا على فعل ما تنكر انه لا ثواب ولا عقاب إلا على فعل.
والفضيحة الثانية من فضائح أبى هاشم قوله باستحقاق الذم والشكر على فعل الغير فزعم ان زيدا لو أمر عمرا بأن يعطى غيره فأعطاه استحق الشكر على فعل الغير من قابض العطية على العطية التى هى فعل غيره وكذلك لو أمره بمعصية ففعلها لا يستحق الذم على نفس المعصية التى هي فعل غيره وليس قوله في هذه كقول سائر فرق الامة انه يستحق الشكر او الذم على امره إباه به لا على الفعل المأمور به الذى هو فعل غيره وهذا المبتدع يوجب له شكرين أو ذمين أحدهما على الامر الذى هو فعله والآخر على المأمور به الذى هو فعل غيره وكيف يصح هذا القول على مذهبه مع انكاره على اصحاب الكسب قولهم بأن الله تعالى يخلق اكساب عباده ثم يثيبهم او يعاقبهم عليها ويقال له ما أنكرت على هذا الاصل الذى هو فعل غيره انفردت به من قول الازارقة ان الله تعالى يعذب طفل المشرك على فعل أبيه وقيل اذا أجزت ذلك فأجز أن يستحق العبد الشكر والثواب على فعل فعله الله تعالى عند فعل العبد مثل ان يسقى او يطعم من قد اشرف على الهلاك فيعيش ويحيى فيستحق الشكر والثواب على نفس الحياة والشبع والرى الذى هو من فعل الله تعالى.(12/122)
الفضيحة الثالثة من فضائحه قوله في التوبة لانها لا تصح مع ذنب مع الاصرار على قبيح آخر يعلمه قبيحا او يعتقده قبيحا وان كان حسنا وزعم ايضا ان التوبة من الفضائح لا تصح مع الاصرار على منع حبة تجب عليه وعول فيه على دعواه في الشاهد ان من قتل ابنا لغيره وزنى بحرمته يحسن منه قبوله توبة من احد الذنبين مع اصراره على الآخر وهذه دعوى غير مسلمة له في الشاهد بل يحسن في الشاهد قبوله التوبة من ذنب مع العقاب على الآخر كالإمام يعقه ابنه ويسرق أموال الناس ويزنى بجواريه ثم يعتذر الى أبيه في العقوق فيقبل توبته في العقوق عقوقه وفيما خانه فيه من ماله ويقطع يده في مال غيره ويجلده في الزنى.
ومما عول عليه في هذا الباب قوله أنما وجب عليه ترك القبيح لقبحه فاذا اصر على قبح آخر لم يكن تاركا للقبح المتروك من أجل قبحه.
وقلنا له ما تنكر ان يكون وجوب ترك القبيح لازالة عقابه عن نفسه فيصح خلاصه من عقاب ما تاب عنه وان عوقب على مال يتب عنه ؟
وقلنا له اكثر ما فى هذا الباب أن يكون التائب عن بعض ذنوبه قد ناقض وتاب عن ذنبه لقبحه وأصر على قبيح آخر فلم لا تصح توبته من الذى تاب منه كما أن الخارجي وغيره ممن يعتقد اعتقادات فاسدة وعنده انها حسنة يصح عندك من التوبة عن قبائح يعلم قبحها مع اصراره على قبائح قد اعتقد حسنها ويلزمك على أصلك هذا اذا قلت انه مأمور باجتناب كل ما اعتقده قبيحا أن تقول في الواحد منا اذا اعتقد قبح مذاهب أبى هاشم وزنى وسرق أن لا يصح توبته الا بترك جميع ما اعتقده قبيحا فيكون مأمورا باجتناب الزنى والسرقة وباجتناب مذاهب أبى هاشم كلها لاعتقاده قبحها.
وقد سأله أصحابنا عن يهودى اسلم وتاب عن جميع القبائح غير انه أصر على منع حبة فضة من مستحقها عليه من غير استحلالها ولا جحود لها هل صحت توبته من الكفر فان قال نعم نقض اعتلاله وان قال لا عاند اجماع الامة.(12/123)
ومن قوله أنه لم يصح اسلامه وانه كافر على يهوديته التى كانت قبل توبته ثم انه لم تجر عليه احكام اليهود فزعم انه غير تائب من اليهودية بل هو مصر عليها وهو مع ذلك ليس يهوديا.
وهذه مناقضة بينة وقيل له ان كان مصرا على يهوديته فأبح ذبيحته وخذ الجزية منه وذلك خلاف قول الامة.
والفضيحة الرابعة من فضائحه قوله في التوبة ايضا إنها لا تصح عن الذنب بعد العجز عن مثله فلا يصح عنده توبة من خرس لسانه عن الكذب ولا توبة من جب ذكره عن الزنى.
وهذا خلاف قول جميع الامة قبله وقيل له أرأيت لو اعتقد أنه لو كان له لسان وذكر لكذب وزنى كان ذلك من معصيته فاذا قال نعم قيل فكذلك اذا اعتقد انه لو كان له آلة الكذب والزنى لم يعص الله تعالى بهما وجب ان يكون ذلك من طاعة وتوبة.
وكان ابو هاشم مع افراطه في الوعيد أفسق أهل زمانه وكان مصرا على شرب الخمر وقيل انه مات في سكره حتى قال فيه بعض المرجئة:
يعيب القول بالإرجاء حتى يرى بعض الرجاء من الجرائر
واعظم من ذوي الارجاء جرما وعبدي كذا أصر على الكبائر
والفضيحة الخامسة من فضائحه قوله في الارادة المشروطة واصلها عنده قوله بانه لا يجوز أن يكون شىء واحد مرادا من وجه مكروها من وجه آخر والذى الجأه الى ذلك أن تكلم على من قال بالجهات في الكسب والخلق فقال لا تخلو الوجهة التى هى الكسب من أن تكون موجودة أو معدومة فان كان ذلك الوجه معدوما كان فيه إثبات شىء واحد موجودا ومعدوما وإن كان موجودا لم يخل من أن يكون مخلوقا أم لا فان كان مخلوقا ثبت أنه مخلوق من كل وجه وان لم يكن مخلوقا صار العقل قديما من وجه خلقا من وجه آخر وهذا محال فألزم على هذا كون الشىء مرادا من وجه مكروها من وجه آخر.(12/124)
وقيل له إن الإرادة عندك لا تتعلق بالشىء إلا على وجهة الحدوث وكذلك الكراهة فاذا كان مرادا من جهة مكروها من جهة أخرى وجب أن يكون المريد قد اراد ما اراد وكره ما اراد وهذا متناقض فقال لا يكون المريد للشىء مريدا له إلا من جميع وجوهه حتى لا يجوز أن يكرهه من وجه فألزم عليه المعلوم والمجهول اذ لا ينكر كون شىء واحد معلوما من وجه مجهولا من وجه آخر.
ولما ارتكب قوله بأن الشىء الواحد لا يكون مرادا من جهة مكروها من جهة أخرى حلت على نفسه مسائل فيها هدم اصول المعتزلة وقد ارتكب اكثرها.
منها انه يلزمه ان يكون من القبائح العظام ما لم يكرهه الله تعالى ومن الحسن الجميل مالم يرده وذلك انه اذا كان السجود لله تعالى عبادة عبادة الصنم مع ان السجود للصنم قبيح عظيم وكذلك اذا اراد أن يكون القول بأن محمدا رسول الله إخبارا عن محمد بن عبد الله وجب أن لا يكرهه ان يكون إخبارا عن محمد آخر مع كون ذلك كفرا ولزمه اذا كره الله تعالى ان يكون السجود عبادة للصنم ان لا يريد كونه عبادة لله تعالى مع كونه عبادة لله طاعة حسنة وركب هذا كله وذكر فى جامعه الكبير أن السجود للصنم لم يكرهه الله تعالى وأبى ان يكون الشىء الواحد مرادا مكروها من وجهين مختلفين وقال فيه أما ابو على يعنى أباه فانه يجيز ذلك وهو عندى غير مستمر على الاصول لأن الارادة لا تتناول الشىء إلا على طريق الحدوث عندنا وعنده فلو اراد حدوثه وكره لوجب ان يكون قد كره ما اراد اللهم إلا أن يكون له حدوثان.
وهذا الذى عول عليه على اصلنا باطل لان الارادة عندنا قد تتعلق بالمراد على وجه الحدوث وعلى غير وجه الحدوث وليس اما اباه ما ألزمه وله عن إلزامه جواب وقلب.(12/125)
اما الجواب فان اباه لم يرد بقوله إن الإرادة تتعلق بالشىء على وجه الحدوث ما ذهب اليه أبو هاشم وانما أراد بذلك انها تتعلق به فى حال حدوثه بحدوثه او بصفة يكون عليها فى حال الحدوث مثل أن يريد حدوثه ويريد كونه طاعة لله تعالى وهى صفة عليها يكون فى حال الحدوث وهذا كقولهم إن الأمر والخبر لا يكونان امرا وخبرا إلا بالارادة إما إرادةالمأمور به على أصل أبى هاشم وغيره او إرادة كونه امرا وخبرا كما قاله ابن الاخشيد منهم لأن الله تعالى قد قال {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن} وقد اراد حدوث كلامه وأراد الأيمان منهم وليس قولهم فليؤمن مع ذلك امرا بل هو تهديد لأنه لم يرد كون هذا القول امرا وكذلك الخبر لا يكون خبرا عندهم وحتى يريد كونه خبرا عن زيد دون عمرو مع أن هذا السبب بإرادة لحدوث الشىء وبان بهذا أن كراهة الله تعالى ان يكون السجود عبادة للصنم غير ارادته لحدوثه فلم يلزم ما ذكره ابو هاشم من كونه مرادا من الوجه الذى كرهه.
ووجه القلب عليه أن يقال إن الله تعالى قد نهى عن السجود للصنم وقد نص عليه وقد 2 ثبت من أصل المعتزلة أن الله تعالى لا يأمر إلا بحدوث الشىء ولا ينهى إلا عن حدوثه وقد ثبت أنه أمر بالسجود عبادة له فيلزمه ان يكون قد نهى عنه من الوجه الذى امر به لانه لا ينهى الا عن إحداث الشىء وليس للسجود الا حدوث واحد ولو كان له حدوثان لزمه أن يكون محدثا من وجه غير محدث من وجه آخر فلزمه فى الامر والنهى ما ألزم إياه والتجار فى الارادة والكراهة.(12/126)
والفضيحة السادسة من فضائحه قوله بالاحوال التى كفره فيها مشاركوه فى الاعتزال فضلا عن سائر الفرق والذى ألجأه اليها سؤال أصحابنا قدماء المعتزلة عن العالم منا هل فارق الجاهل بما علمه لنفسه او لعلة وأبطلوا مفارقته إياه لنفسه مع كونهما من جنس واحد وبطل ان تكون مفارقته إياه لا لنفسه ولا لعلة لانه لا يكون حينئذ بمفارقته له أولى من آخر سواه فثبت أنه إنما فارقه فى كونه عالما لمعنى ما ووجب ايضا ان يكون لله تعالى فى مفارقة الجاهل معنى او صفة بها فارقه فزعم أنه إنما فارقه لحال كان عليها فأثبت الحال فى ثلاثة مواضع أحدها الموصوف الذى يكون موصوفا لنفسه فاستحق ذلك الوصف لحال كان عليها والثانى الموصوف بالشىء لمعنى صار مختصا بذلك المعنى لحال والثالث ما يستحقه لا لنفسه ولا لمعنى فيختص بذلك الوصف دون غيره عنده لحال وأحوجه الى هذا سؤال معمر فى المعانى لما قال إن علم زيد اختص به دون عمر ولنفسه او لمعنى اولا لنفسه اولا لمعنى فان كان لنفسه وجب ان يكون لجميع العلوم به اختصاص لكونها علوما وان كان لمعنى صح قول معمر فى تعلق كل معنى بمعنى لا الى نهاية وان كان لا لنفسه ولا لمعنى لم يكن اختصاصه به أولى من اختصاصه بغيره وقال ابو هاشم انما اختص به لحال.
وقال اصحابنا ان علم زيد اختص به لعينه لا لكونه علما ولا لكون زيدكما تقول ان السواد سواد لعينه لا لان له نفسا وعينا.
ثم قالوا لابى هاشم هل تعلم الاحوال اولا تعلمها فقال لا من قبل انه لو قال انها معلومة لزمه اثباتها اشياء اذ لا يعلم عنده إلا ما يكون شيئا ثم ان لم يقل بانها احوال متغايرة لان التغاير إنما يقع بين الاشياء والذوات ثم انه لا يقول فى الاحوال انها موجودة ولا انها معدومة ولا انها قديمة ولا محدثة ولا معلومة ولا مجهولة ولا تقول انها مذكورة مع ذكره لها بقوله انها غير مذكورة وهذا متناقض.(12/127)
وزعم ايضا ان العالم له فى كل معلوم حال لا يقال فيها انها حالة مع المعلوم الآخر ولاجل هذا زعم ان احوال البارى عز وجل فى معلوماته لا نهاية لها وكذلك احواله فى مقدوراته لا نهاية لها كما ان مقدوراته لا نهاية لها.
وقال له اصحابنا ما انكرت ان يكون لمعلوم واحد احوال بلا نهاية لصحة تعلق المعلوم بكل عالم يوجد لا الى نهاية وقالوا له هل احوال البارى من عمل غيره ام هى هو فاجاب بانها لا هى هو ولا غيره فقالوا له فلم انكرت على الصفاتية قولهم فى صفات الله عز وجل فى الازل انها لا هى ولا غيره.
والفضيحة السابعة من فضائحه قوله نبغى جملة من الأعراض التى اثبتها اكثر مثبتى الأعراض كالبقاء والإدراك والكدرة والألم والشك وقد زعم ان الألم الذى يلحق الانسان عند المصيبة والألم الذى يجده عند شرب الدواء الكريه ليس بمعنى اكثر من ادراك ما ينفر عنه الطبع والادراك ليس بمعنى عنده ومثله ادراك جواهر اهل النار وكذلك اللذات عنده ليست بمعنى ولا هى اكثر من ادراك المشتهى والادراك ليس بمعنى وقال فى الألم الذى يحدث عند الوباء إنه معنى كالألم عند الضرب واستدل على ذلك بانه واقع تحت الحسن وهذا من عجائبه لأن ألم الضرب بالخشب والألم بسعوط الخردل والتلدع بالنار وشرب الصبر سواء فى الحسن ويلزمه اذا نفى كون الملذة معنى ألا يزيد لذات اهل الثواب فى الجنة على لذات الاطفال التى نالوها بالفضل لاستحالة ان يكون لا شىء اكثر من لا شىء وقد قال ان اللذة فى نفسها نفع وحسن فاثبت نفعا وحسنا ليس بشىء وقال كل ألم ضرر وجاء من هذا ان الضرر ما ليس شىء عنده.(12/128)
والفضيحة الثامنة من فضائحه قوله فى باب الفناء ان الله تعالى لا يقدر على ان يفنى من العالم ذرة مع بقاء السماوات والارض وبناه على اصله فى دعواه ان الاجسام لا تفنى الا بفناء يخلقه الله تعالى لا فى محل يكون ضدا لجميع الاجسام لأنه لا يختص ببعض الجواهر دون بعض اذ ليس هو قائما بشىء منها فاذا كان ضدا لها نفاها كلها وحسبه من الفضيحة فى هذا قوله بأن الله يقدر على إفناء جملة لا يقدر على افناء بعضها.
والفضيحة التاسعة قوله بأن الطهارة غير واجبة والذى الجأه الى ذلك ان سأل نفسه عن الطهارة بماء مغصوب على قوله وقول ابيه بأن الصلاة فى الارض المغصوبة فاسدة واجاب بأن الطهارة بالماء المغصوب صحيحة وفرق بينها وبين الصلاة فى الدار المغصوبة بأن قال ان الطهارة غير واجبة وانما امر الله تعالى العبد بأن يصلى اذا كان متطهرا ثم استدل على ان الطهارة غير واجبة بان غيره لو طهره مع كونه صحيحا اجزاه ثم انه طرد هذا الاعتلال فى الحج فزعم ان الوقوف والطوف والسعى غير واجب فى الحج لان ذلك كله مجزيه اذا اتى به راكبا ولزمه على هذا الاصل ألا تكون الزكاة واجبة ولا الكفارة والنذور وقضاء الديون لان وكيله ينوب عنه فيها وفى هذا ارفع احكام الشريعة.
وبان بما ذكرناه فى هذا الفصل تكفير زعماء المعتزلة بعضها لبعض واكثرهم يكفرون اتباعهم المقلدين لهم ومثلهم فى ذلك كما قاله الله تعالى {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} واما مثل اتباعهم معهم فقول الله تعالى {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا}.(12/129)
ومن مكابرات زعمائهم مكابرة النظام فى الطفرة وقوله بأن الجسم يصير من المكان الاول الى الثالث او العاشر من غير ضرورة بالوسط ومكابرة اصحاب التوالد منهم فى دعواهم ان الموتى يقتلون الاحياء على الحقيقهومكابرة جمهورهم في دعواهم ان الذى يقدر على ان يرتفع من الارض شبرا قادر على ان يرتفع فوق السماوات السبع وان المقيد المغلول يداه قادر على صعوده الى السماء وان البقه الصغيرة تقدر على شرب القران كذا بمثله وبما هو افصح منه.
وزعم المعروف منهم بقاسم الدمشقى أن حروف الصدق هى حروف الكذب وان الحروف التى فى قول القائل لا أله إلا الله هى التى فى قول من يقول المسيح اله وان الحروف التى فى القران هى التي فى كتاب زردشت المجوس باعيانها لا على معنى انها مثلها ومن لم يعد هذه الوجوه مكابرات للعقول لم يكن له ان يعد انكار السوفسطائية للمحسوسات مكابرة.
وقد حكى أصحاب المقالات ان سبعة من زعماء القدرية اجتمعوا فى مجلس وتكلموا فى قدرة الله تعالى على الظلم والكذب وافترقوا عن تكفير كل واحد منهم لسائرهم.(12/130)
وذلك ان قائلا منهم قال للنظام فى ذلك المجلس هل يقدر الله تعالى على ما وقع منه لكان جورا وكذبا منه فقال لو قدر عليه لم ندر لعله قد جار اوكذب فيما مضى او يجوز ويكذب فى المستقبل او جار فى بعض اطراف الارض ولم يكن لنا من جوره وكذبه امان الا من جهة حسن الظن به قال ما دليل يؤمننا من وقوع ذلك منه فلا سبيل اليه فقال له علي الاسوارى يلزمك على هذا الاعتلال ان لا يكون قادرا على ما علم انه لا يفعله أو أخبر بانه لا يفعله لانه لو قدر على ذلك لم يأمن وقوعه منه فيما مضى او فى المستقبل فقال النظام هذا الالزام فما قولك فيه فقال أنا أسوى بينهما وأقول انه لا يقدر على ما علم ان لا يفعله او اخبر بانه لا يفعله كما أقول أنا وأنت انه لا يقدر على الظلم والكذب فقال النظام للاسوارى قولك الحاد وكفر وقال أبو الهذيل للاسوارى ما تقول فى فرعون ومن علم الله تعالى منهم انهم لا يؤمنون هل كانوا قادرين على الايمان أم لا فان زعمت انهم لم يقدروا عليه فقد كلفهم الله تعالى ما لم يطيقوه وهذا عندك كفر وان قلت انهم كانوا قادرين عليه فما يؤمنك من ان يكون قد وقع من بعضهم ما علم الله تعالى ان لا يقع او اخبر بانه لا يقع منه على قول اعتلالك واعتلال النظام انكار كما انكر قدرة الله تعالى على الظلم والكذب فقال لابى الهذيل هذا الالزام لنا فما جوابك عنه فقال انا أقول ان الله تعالى قادر على ان يظلم ويكذب وعلى ان يفعل ما علم انه لا يفعله فقالا له أرأيت لو فعل الظلم والكذب كيف يكون مكنون حال الدلائل التى دلت على ان الله تعالى لا يظلم ولا يكذب فقال هذا محال فقالا له كيف يكون المحال مقدورا لله تعالى ولم احلت وقوع ذلك منه مع كونه مقدورا له فقال لانه لا يقع الا عن آفة تدخل عليه ومحال دخول الافات على الله تعالى فقالا له ومحال ايضا ان يكون قادرا على ما يقع منه الا عن آفة تدخل عليه فبهت الثلاثة فقال لهم بشر كل ما انتم فيه تخليط فقال(12/131)
له أبو الهذيل فما تقول أنت تزعم ان الله تعالى يقدر ان يعذب الطفل ام تقول هذا يقول هذا يعنى النظام فقال أقول بانه قادر على ذلك فقال أرأيت لو فعل ما قدر عليه من تعذيب الطفل ظالما له فى تعذيبه لكان الطفل بالغا عاقلا عاصيا مستحقا للعقاب الذي اوقعه الله تعالى به وكانت الدلائل بحالها فى دلالتها على عدله فقال له ابو الهذيل سخنت عينك كيف تكون عبادة لا تفعل ما تقدر عليه من الظلم فقال له المردار انك قد انكرت على استاذى فكرا وقد غلط الاستاذ فقال له بشر فكيف تقول قال اقول ان الله تعالى قادر على الظلم والكذب ولو فعل ذلك لكان الها ظالما كاذبا فقال له بشر فهل كان مستحقا للعبادة ام لا فان استحقها فالعبادة شكر للمعبود واذا ظلم استحق الذم لا الشكر وان لم يستحق العبادة فكيف يكون ربا لا يستحق العبادة فقال لهم الاشبح انا أقول انه قادر على ان يظلم ويكذب ولو ظلم وكذب لكان عادلا كما انه قادر على ان يفعل ما علم انه لا يفعله علم لو فعله كان عالما بان يفعله فقال له الاسكافى كيف ينقلب الجور عدلا فقال كيف تقول انت فقال أقول لو فعل الجور والكذب ما كان الفعل موجودا وكان ذلك واقعا لمجنون أو منقوص فقال له جعفر بن حرب كانك تقول ان الله تعالى انما يقدر على ظلم المجانين ولا يقدر على ظلم العقلاء فافترق القوم يومئذ عن انقطاع كل واحد منهم ولما انتهت نوبة الاعتزال الى الجبائى وابنه امسكا عن الجواب فى هذه المسألة بنصح(12/132)
وقد ذكر بعض أصحاب أبى هاشم فى كتابه هذه المسألة فقال من قال لنا ايصح وقوع ما يقدر الله تعالى عليه من الظلم والكذب قلنا له يصح ذلك لانه لو لم يصح وقوعه منه ما كان قادرا عليه لان القدرة على المحال محال فان قال أفيجوز وقوعه منه قلنا لا يجوز وقوعه منه لقبحه وغناه عنه وعلمه بغناه عنه فان قال أخبرونا لو وقع مقدوره من الظلم والكذب كيف كان يكون حاله فى نفسه هل كان يدل وقوع الظلم منه على جهله او حاجته قلنا محال ذلك لانا قد علمناه عالما غنيا فان قال فلو وقع منه الظلم والكذب هل كان يجوز ان يقال ان ذلك لا يدل على جهله وحاجته قلنا لايوصف بذلك لانا قد عرفنا دلالة الظلم على جهل فاعله او حاجته فان قال فكانكم لا تجيبون عن سؤال من سألكم عن دلالة وقوع الظلم والكذب ممن على جهل وحاجة باثبات ولا نفى قلنا كذلك تقول.
فهؤلاء زعماء قدرية عصرنا قد اقروا بعجزهم وعجز أسلافهم عن الجواب فى هذه المسألة ولو وفقوا للصواب فيها لرجعوا الى قول أصحابنا بان الله قادر على كل مقدور وان كل مقدور له لو وقع منه لم يكن ظلما منه ولو احالوا الكذب عليه كما أحاله أصحابنا لتخلصوا عن الالزام الذى توجه عليهم فى هذه المسألة.
وكان الجبائى يعتذر فى امتناعه عن الجواب فى هذه المسألة بنعم او لا بان يقول مثال هذا ان قائلا لو قال اخبرونى عن النبى لو فعل الكذب لكان يدل على انه ليس بنبى او لا يدل على ذلك وزعم ان الجواب فى ذلك مستحيل وهذا ظن منه على اصله فاما على أصل أهل السنة فان النبى كان معصوما عن الكذب والظلم ولم يكن قادرا عليهما والمعتزلة غير النظام والاسوارى قد وصفوا الله تعالى بالقدرة على الظلم والكذب فلزمهم الجواب عن سؤال من سألهم عن وقوع مقدوره منهما هل يدل على الجهل والحاجة أولا يدل على ذلك بنعم اولا وأيهما أجابوا به نقضوا به أصولهم.
والحمد لله الذى أنقذنا من ضلالتهم المؤدية الى مناقضاتهم(12/133)
{الفصل الرابع من فصول هذا الباب}
في بيان الفرق المرجئة وتفصيل مذاهبهم
والمرجئة ثلاثة أصناف:
صنف منهم قالوا بالارجاء فى الايمان وما يقدر على مذاهب القدرية المعتزلة كغيلان وأبى شمر ومحمد ابن أبي شبيب البصرى وهؤلاء داخلون فى مضمون الخبر الوارد فى لعن القدرية والمرجئة يستحقون اللعنة من وجهين وصنف منهم قالوا بالارجاء بالايمان وبالخبر فى الاعمال على مذهب جهم ابن صفوان فهم اذا من جملة الجهمية والصنف الثالث منهم خارجون عن الخبر والقدرية وهم فيما بينهم خمس فرق اليونسية 2 والغسانية والثوبانية والتومنية والمريسية وانما سموا مرجئة لانهم أخروا العمل عن الايمان والارجاء بمعنى التأخير يقال ارجيت وارجائه اذا اخرته وروى عن النبى انه قال لعنت المرجئة على لسان سبعين نبيا قيل من المرجئة يا رسول الله قال الذين يقولون الايمان كلام يعنى الذين زعموا ان الايمان هو اقرار وحده دون غيره والفرق الخمس التى ذكرناها من المرجئة تضل كل فرقة منها اختها ويضللها سائر الفرق وسنذكرها على التفصيل ان شاء الله عز وجل.
ذكر اليونسية منهم :
هؤلاء اتباع يونس بن عون الذى زعم ان الايمان فى القلب واللسان وانه هو المعرفة بالله تعالى والمحبة والخضوع له بالقلب والإقرار باللسان أنه واحد ليس كمثله شىء مالم تقم حجة الرسل عليهم السلام فان قامت عليهم حجتهم بالتصديق لهم ومعرفة ما جاء من عندهم في الجملة من الايمان وليست معرفة تفصيل ما جاء من عندهم أيمانا ولا من جملته وزعم هؤلاء أن كل خصلة من خصال الايمان ليست بأيمان ولا بعض إيمان ومجموعها ايمان.
ذكر الغسانية منهم:(12/134)
هؤلاء اتباع غسان المرجىء الذى زعم أن الايمان هو الإقرار او المحبة لله تعالى وتعظيمه وترك الاستكبار عليه وقال انه يزيد ولا ينقص وفارق اليونسية بأن سمى كل خصلة من الأيمان بعض الأيمان وزعم غسان هذا فى كتابه ان قوله فى هذا الكتاب كقول أبى حنيفة فيه وهذا غلط منه عليه لأن أبا حنيفة قال إن الايمان هو المعرفة والاقرار بالله تعالى وبرسله وبما جاء من الله تعالى ورسله فى الجملة دون التفصيل وانه لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس فيه وغسان قد قال بأنه يزيد ولا ينقص.
ذكر التومنية منهم:
هؤلاء اتباع أبى معاذ التومنى الذى زعم ان الايمان ما عصم من الكفر وهو اسم لخصال من تركها أو ترك خصلة منها كفر ومجموع تلك الخصال إيمان ولا يقال للخصلة منها أيمان ولا بعض أيمان.
وقال كل ما لم تجتمع الامة على كفره بتركه من الفرائض فهو من شرع الأيمان وليس بأيمان.
وزعم ان تارك الفريضة التى ليست بأيمان يقال له فسق ولا يقال له فاسق على الاطلاق اذا لم يتركها جاحدا.
وزعم ايضا أن من لطم نبيا او قتله كفر لا من أجل لطمه وقتله لكن من أجل عداوته وبغضه له واستخفاقه بحقه
ذكر الثوبانية منهم:
هؤلاء اتباع أبى ثوبان المرجىء الذى زعم ان الايمان هو الإقرار والمعرفة بالله وبرسله وبكل ما يجب فى العقل فعله وما جاز فى العقل ان لا يفعل فليست المعرفة من الايمان.
وفارقوا اليونسية والغسانية بإيجابهم فى العقل شيئا قبل ورود الشرع بوجوبه.
ذكر المريسية منهم:
هؤلاء مرجئة بغداد من أتباع بشر المريسى وكان فى الفقه على رأى أبى يوسف القاضى غير أنه لما أظهر قوله بخلق القرآن هجره أبو يوسف وضللته الصفاتية فى ذلك ولما وافقوا الصفاتية فى القول بان الله تعالى خالق اكساب العباد وفى ان الاستطاعة مع الفعل اكفرته المعتزلة فى ذلك فصار مهجور الصفاتية والمعتزلة معا.(12/135)
وكان يقول فى الايمان انه هو التصديق بالقلب واللسان جميعا كما قال ابن الروندى فى ان الكفر هو الجحد والانكار وزعما ان السجود للصنم ليس بكفر ولكنه دلالة على الكفر.
فهؤلاء الفرق الخمس هم المرجئة الخارجة عن الخبر والقدر واما المرجئة القدرية كأبى شمر وابن شبيب وغيلان وصالح قبة فقد اختلفوا فى الايمان.
فقال أبو شمر الايمان هو المعرفة والاقرار بالله تعالى وبما جاء من عنده مما اجتمعت عليه الامة كالصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ووطء المحارم ونحو ذلك وما عرف بالعقل من عدل الايمان وتوحيد ونفى التشبيه عند وأراد بالعقل قوله بالقدر وأراد بالتوحيد نفيه عن الله تعالى صفاته الأزلية.
قال كل ذلك إيمان والشاك فيه كافر والشاك فى الشاك أيضا كافر ثم كذلك أبدا وزعم أن هذه المعرفة لا تكون ايمانا الا مع الاقرار.
وكان أبو شمر مع بدعته هذه لا يقول لمن فسق من موافقيه في القدر انه فاسق مطلقا ولكنه كان يقول إنه فاسق فى كذا.
وهذه الفرقة عند أهل السنة والجماعة أكفر أصناف المرجئة لانها جمعت بين ضلالتى القدر والارجاء والعدل الذى أشار اليه أبو شمر شرك على الحقيقة لانه اراد به اثبات خالقين كبيرين غير الله تعالى وتوحيده الذى اشار اليه تعطيل لانه اراد به نفى علم الله تعالى وقدرته ورؤيته وسائر صفاته الازلية وقوله فى مخالفيه إنهم كفرة وان الشاك فى كفرهم كافر مقابل بقول أهل السنة فيه إنه كافر وان الشاك فى كفره كافر.
وكان غيلان القدرى يجمع بين القدر والارجاء ويزعم أن الايمان هو المعرفة الثانية بالله تعالى والمحبة والخضوع والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء من الله تعالى.
وزعم ان المعرفة الاولى اضطرار وليس بايمان.
وحكى زرقان فى مقالاته عن غيلان أن الايمان هو الاقرار باللسان وان المعرفة بالله تعالى ضرورية فعل الله تعالى وليست من الايمان.(12/136)
وزعم غيلان أن الايمان لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس فيه وزعم محمد بن شبيب أن الايمان هو الاقرار بالله والمعرفة برسله وبجميع ما جاء من عند الله تعالى مما نص عليه المسلمون من الصلاة والزكاة والصيام والحج وكل ما لم يختلفوا فيه.
وقال ان الايمان يتبعض ويتفاضل الناس فيه والخصلة الواحدة من الايمان قد تكون بعض الايمان وتاركها يكفر بترك بعض الايمان ولا يكون مؤمنا باصابة كله.
وزعم الصالحى أن الايمان هو المعفرقة بالله تعالى فقط والكفر هو الجهل به فقط وأن قول القائل ان الله تعالى ثالث ثلاثة ليس بكفر لكنه لا يظهر الا من كافر ومن جحد الرسل لا يكون مؤمنا لا من أجل أن ذلك محال لكن الرسول قال {من لا يؤمن بى فليس مؤمنا بالله تعالى}.
وزعم ان الصلاة والزكاة والصيام والحج طاعات وليست بعبادة لله تعالى وأن لا عبادة له الا الايمان به وهو معرفته والايمان عنده خصلة واحدة لا تزيد ولا تنقص وكذلك الكفر خصلة واحدة.
فهذه اقوال المرجئة فى الايمان الذى تأخيرهم الاعمال عن الايمان سموا مرجئة.
{الفصل الخامس}
فى ذكر مقالات الفرق النجارية
هؤلاء اتباع الحسين بن محمد النجار، وقد وافقوا أصحابنا فى أصول ووافقوا القدرية فى اصول وانفردوا باصول لهم.
فالذى وافقوا فيه أصحابنا قولهم معنا بان الله تعالى خالق اكساب العباد وأن الاستطاعة مع الفعل وانه لا يحدث فى العالم الا ما يريده الله تعالى.
ووافقونا ايضا فى أبواب الوعيد وجواز المغفرة لاهل الذنوب وفى اكثر أبواب التعديل والتحوبر.
وأما الذى وافقوا فيه القدرية فنفى علم الله تعالى وقدرته وحياته وسائر صفاته الازلية وإحالة رؤيته بالابصار والقول بحدوث كلام الله تعالى.
واكفرتهم القدرية فيما وافقوا فيه أصحابنا وأكفرهم أصحابنا فيما وافقوا فيه القدرية.(12/137)
والذى يجمع النجارية فى الايمان قولهم بان الايمان هو المعرفة بالله تعالى وبرسله وفرائضه التى أجمع عليها المسلمون والخضوع له والإقرار باللسان فمن جهل شيئا من ذلك بعد قيام الحجة به عليه او عرفه ولم يقر به فقد كفر.
وقالوا كل خصلة من خصال الأيمان طاعة وليست بايمان ومجموعها ايمان وليست خصلة منها عند الانفراد ايمانا ولا طاعة.
وقالوا ان الايمان يزيد ولا ينقص.
وزعم النجار أن الجسم اعراض مجتمعة وهى الأعراض التى لا ينفك الجسم عنها كاللون والطعم والرائحة وسائر مالا يخلو الجسم منه ومن ضده فأما الذى يخلو الجسم منه ومن ضده كالعلم والجهل ونحوهما فليس شىء منها بعضا للجسم.
وزعم ايضا ان كلام الله تعالى عرض اذا قرىء وجسم اذا كتب وانه لو كتب بالدم صار ذلك الدم المقطع قطيع حروف الكلام كلاما لله تعالى بعد ان لم يكن كلاما حين كان دما مسفوحا فهذه اصول النجارية.
وافترقوا بعد هذا فيما بينهم فى العبادة عن خلق القرآن وفى حكم أقوال مخالفيهم فرقا كبيرة كل فرقة منها تكفر سائرها والمشهورون منها ثلاث فرق وهى البرغوثية والزعفرانية والمستدركة من الزعفرانية.
ذكر البرغوثية منهم:
هؤلاء اتباع محمد بن عيسى الملقب ببرغوث وكان على مذهب النجار فى اكثر مذاهبه وخالفه فى تسمية المكتسب فاعلا فامتنع منه واطلقه النجار وخالفه فى تسمية المكتسب فاعلا فامتنع منه واطلقه النجار وخالفه ايضا فى المتوالدات فزعم انها فعل لله تعالى بايجاب الطبع على معنى ان الله تعالى طبع الحجر طبعا يذهب إذا وقع وطبع الحيوان طبعا يألم اذا ضرب وقال النجار فى المتولدات بمثل قول اصحابنا فيها انها من فعل الله تعالى باختيار لا من طبع الجسم الذى سموه مولدا.
ذكر الزعفرانية منهم:(12/138)
هؤلاء اتباع الزعفرانى الذى كان بالرى وكان يناقض بآخر كلامه اوله فيقول ان كلام الله تعالى غيره وكل ما هو غير الله تعالى مخلوق ثم يقول مع ذلك الكلب خير ممن يقول كلام الله مخلوق.
وذكر بعض أصحاب التواريخ أن هذا الزعفرانى أراد أن يشهر نفسه فى الآفاق فأكترى رجلا على أن يخرج الى مكة ويسبه ويلعنه فى مواسم مكة ليشتهر ذكره عند حجيج الآفاق وقد بلغ حمق أتباعه بالرى أن قوما منهم لا يأكلون العنجد حرمة للزعفرانى ويزعمون انه كان يحب ذلك وقالوا لا نأكل محبوبه.
ذكر المستدركة منهم:
هؤلاء قوم من النجارية يزعمون انهم استدركوا ما خفى على اسلافهم لان اسلافهم منعوا اطلاق القول بأن القرآن مخلوق وزعمت المستدركة أنه مخلوق ثم افترقوا فيما بينهم فرقتين:
فرقة زعمت أن النبى عليه السلام قد قال ان كلام الله مخلوق على ترتيب هذه الحروف ولكنه اعتقد ذلك بهذه اللفظة على ترتيبه حروفها ومن لم يقل إن النبى عليه السلام قال ذلك على ترتيب هذه الحروف فهو كافر.
وقالت الفرقة الثانية منهم إن النبى عليه السلام لم يقل كلام الله مخلوق على ترتيب هذه الحروف ولكنه اعتقد ذلك ودل عليه ومن زعم أنه قال إن كلام الله مخلوق بهذه اللفظة فهو كافر.
ومن هؤلاء المستدركة قوم بالرى يزعمون أن أقوال مخالفيهم كلها كذب حتى لو قال الواحد منهم فى الشمس انها شمس لكان كاذبا فيه.
قال عبد القاهر ناظرت بعض هذه الطائفة بالرى فقلت له اخبرنى عن قولى لك أنت إنسان عاقل مولود من نكاح لا من سفاح هل أكون صادقا فيه فقال أنت كاذب فى هذا القول فقلت له أنت صادق فى هذا الجواب فسكت خجلا والحمد لله على ذلك
{الفصل السادس من فصول هذا الباب}
في ذكر الجهمية والبكرية والضرارية وبيان مذاهبها(12/139)
الجهمية: اتباع جهم بن صفوان الذى قال بالاجبار والاضطرار الى الاعمال وانكر الاستطاعات كلها وزعم ان الجنة والنار تبيدان وتفنيان وزعم أيضا ان الايمان هو المعرفة بالله تعالى فقط وان الكفر هو الجهل به فقط وقال لافعل ولا عمل لاحد غير الله تعالى وانما تنسب الاعمال الى المخلوقين على المجاز كما يقال زالت الشمس ودارت الرحى من غير أن يكونا فاعلين او مستطيعين لما وصفتا به وزعم ايضا أن علم الله تعالى حادث وامتنع من وصف الله تعالى بانه شىء او حى او عالم أو مريد وقال لا أصفه يجوز اطلاقه على غيره كشىء موجود وحى وعالم ومريد ونحو ذلك ووصفه بانه قادر وموجود وفاعل وخالق ومحيى ومميت لان هذه الاوصاف مختصة به وحده وقال بحدوث كلام الله تعالى كما قالته القدرية ولم يسم الله تعالى متكلما به.
واكفره أصحابنا فى جميع ضلالاته واكفرتة القدرية فى قوله بان الله تعالى خالق اعمال العباد فاتفق أصناف الامة على تكفيره.
وكان جهم مع ضلالاته التى ذكرناها يحمل السلاح ويقاتل السلطان وخرج مع شريح بن الحرث على نصر بن يسار وقتله سلم بن اجون المازنى فى آخر زمان بنى مروان واتباعه اليوم بنهوند وخرج اليهم فى زماننا اسماعيل بن ابراهيم بن كبوس الشيرازى الديلى فدعاهم الى مذهب شيخنا ابى الحسن الاشعرى فاجابه قوم منهم وصاروا مع اهل السنة يدا واحدة والحمد له على ذلك.
واما البكرية، فاتباع بكر بن اخت عبد الواحد بن زيد وكان يوافق النظام فى دعواه ان الانسان هو الروح دون الجسد الذى فيه الروح ويوافق اصحابنا فى ابطال القول بالتولد وفى ان الله تعالى هو المخترع الألم عند الضرب وأجاز وقوع الضرب من غير حدوث ألم وقطع بعدها كما أجاز ذلك أصحابنا.
وانفرد بضلالات اكفرته الامة فيها.
منها منها قوله بأن الله تعالى يرى فى القيامة في صورة يخلقها وان يكلم عباده من تلك الصورة.(12/140)
ومنها قوله فى الكبائر الواقعة من اهل القبلة انها نفاق وان صاحب الكبيرة منافق وعابد للشيطان وان كان من اهل الصلاة وزعم ايضا انه مع كونه منافقا مكذب لله تعالى جاحد له وان يكون فى الدرك الاسفل من النار مخلدا فيها وانه مع ذلك مسلم ومؤمن ثم انه طرد قوله في هذه البدعة فقال في على وطلحة والزبير ان ذنوبهم كانت كفرا وشركا غير انهم كانوا مغفورا لهم لما روى في الخبر {ان الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.
ومن ضلالاته ايضا ما عاند فيه العقلاء فزعم أن الاطفال فى المهد لا يألمون وان قطعوا او حرقوا وأجاز ان يكونوا فى وقت الضرب والقطع والاحراق متلذذين مع ظهور البكاء والصياح منهم.
ومنها انه أبدع فى الفقه تحريم اكل الثوم والبصل وأوجب الوضوء من قرقرة البطن ولا اعتبار عند أهل السنة بخلاف اهل الاهواء فى الفقه.
واما الضرارية، فهم اتباع ضرار بن عمرو الذى وافق اصحابنا فى ان افعال العباد مخلوقة لله تعالى واكساب للعباد وفى ابطال القول بالتولد ووافق المعتزلة فى ان الاستطاعة قبل الفعل وزاد عليهم بقوله انها قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل وانها بعض المستطيع ووافق النجار فى دعواهما ان الجسم اعراض مجتمعة من لون وطعم ورائحة ونحوها من الاعراض التى لا يخلو الجسم منها.
وانفرد باشياء منكرة:
منها قوله بان الله تعالى يرى فى القيامة بحاسة سادسة يرى بها المؤمنون ماهية الإله وقال لله تعالى ماهية لا يعرفها غيره يراها المؤمنون بحاسة سادسة وتبعه على هذا القول حفص القرد.
وانه أنكر حرف ابن مسعود وحرف ابى بن كعب وشهد بأن الله تعالى لم ينزلهما فنسب هذين الامامين من الصحابة الى الضلالة فى مصحفيهما.
ومنها أنه شك فى جميع عامة المسلمين وقال لا أدرى لعل سرائر العامة كلها شرك وكفر.(12/141)
ومنها قوله ان معنى قولنا ان الله تعالى عالم حى هو انه ليس بجاهل ولا ميت وكذلك قياسه فى سائر اوصاف الله تعالى من غير إثبات معنى أو فائدة سوى نفى الوصف بنقيض تلك الاوصاف عنه.
{الفصل السابع من هذا الباب}
فى ذكر مقالات الكرامية وبيان أوصافها
الكرامية بخراسان ثلاثة أصناف: حقاقية وطرايقية واسحاقية
وهذه الفرق الثلاث لا يكفر بعضها بعضا وان أكفرها سائر الفرق فلهذا عددناها فرقه واحدة.
وزعيمها المعروف محمد بن كرام كان مطرودا من سخستان الى غرجستان وكان أتباعه فى وقته أوغاد شورين وافشين ووردوا مع نيسابور فى زمان ولاية محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر وتبعه على بدعته من أهل سواد نيسابور شرذمة من حوكة القرى والدّهم.
وضلالات أتباعه اليوم متنوعة أنواعا لا نعدها ارباعا ولا اسباعا لكنا نزيد على الآلاف آلافا ونذكر منها المشهور الذى هو بالقبح مذكور.
فمنها ان ابن كرام دعا اتباعه الى تجسيم معبوده وزعم انه جسم له حد ونهاية من تحته والجهة التى منها يلاقى عرشه وهذا شبيه بقول الثنوية إن معبودهم الذى سموه نورا يتناهى من الجهة التى يلاقى الكلام وان لم يتناه من خمس جهات وقد وصف ابن كرام معبوده فى بعض كتبه بأنه جوهر كما زعمت النصارى ان الله تعالى جوهر وذلك أنه قال فى خطبة كتابه المعروف بكتاب عذاب القبر إن الله تعالى احدى الذات احدى الجواهر وأتباعه اليوم لا يبوحون باطلاق لفظ الجوهر على الله تعالى عند العامة خوفا من الشناعة عند الاشاعة واطلاقهم عليه اسم الجسم اشنع من اسم الجوهر وامتناعهم من تسميته جوهرا مع قولهم بأنه جسم كامتناع تسمية شيطان الطاق الرافض من تسميته الاله جسما مع قوله بأنه على صورة الانسان وليس على الخذلان فى سواء الاختيار قياس.(12/142)
وقد ذكر ابن كرام فى كتابه ان الله تعالى مماس لعرشه وان العرش مكان له وأبدل أصحابه لفظ الماسة بلفظ الملاقاة منه للعرش وقالوا لا يصح وجود جسم بينه وبين العرش إلا بان يحيط العرش الى اسفل وهذا معنى المماسة التى امتنعوا من لفظها.
واختلف أصحابه فى معنى الاستواء المذكور فى قوله {الرحمن على العرش استوى}.
فمنهم من زعم أن كل العرش مكان له وانه لو خلق بازاء العرش عروشا موازية لعرشه لصارت العروش كلها مكانا له لانه أكبر منها كلها وهذا القول يوجب عليهم ان يكون عرشه اليوم كبعضه فى عرضه.
ومنهم من قال إنه لا يزيد على عرشه فى جهة المماسة ولا يفضل منه شىء على العرش وهذا يقتضى ان يكون عرضه كعرض العرش.
وكان من الكرامية بنيسابور ورجل يعرف بابراهيم ابن مهاجر بنصر هذا القول ويناظر عليه.
وزعم ابن كرام وأتباعه أن معبودهم محل للحوادث وزعموا أن أقواله وارادته وإدراكاته للمرئيات وإدراكاته للمسموعات زملاقاته للصحيفة العليا من العالم أعراض حادثة فيه وهو محل لتلك الحوادث الحادثة فيه وسموا قوله للشىء كن خلقا للمخلوق وإحداثا للمحدث واعلاما للذى يعدم بعد وجوده ومنعوا من وصف الأعراض الحادثة فيه بأنها مخلوقة او مفعولة او محدثة.
وزعموا ايضا أنه لا يحدث فى العالم جسم ولا عرض إلا بعد حدوث أعراض كثيرة فى ذات معبودهم منها ارادة لحدوث ذلك الحادث ومنها قوله لذلك الحادث كن على الوجه الذى علم حدوثه عليه وذلك القول فى نفسه حروف كثيرة كل حرف منها عرض حادث فيه ومنها رؤية تحدث فيه يرى بها ذلك الحادث ولو لم يحدث فيه الرؤية لم ير ذلك الحادث ومنها استماعه لذلك الحادث ان كان مسموعا.(12/143)
وزعموا ايضا أنه لا يعدم من العالم شىء من الاعراض الا بعد حدوث أعراض كثيرة فى معبودهم منها ارادة لعدمه ومنها قوله لما يريد عدمه كن معدوما او افن وهذا القول فى نفسه حروف كل حرف منها عرض حادث فيه فصارت الحوادث الحادثة فى ذات الاله عندهم أضعاف أضعاف الحوادث من اجسام العالم وأعراضها.
واختلفت الكرامية فى جواز العدم فى تلك الحوادث الحادثة فى ذات الإله بزعمهم فأجاز بعضهم عدمها وأجاز عدمها أكثرهم واجمع الفريقان منهم على أن ذات الاله لا يخلو فى المستقبل عن حلول الحوادث فيه وان كان قد خلا منها فى الأزل وهذا نظير قول اصحاب الهيولى إن الهيولى كانت فى الازل جوهرا خاليا من الاعراض ثم حدثت الاعراض فيها وهى لا تخلو منها فى المستقبل.
واختلفت الكرامية فى جواز العدم على أجسام العالم فأحال ذلك اكثرهم وضاهوا بذلك من زعم من الدهرية والفلاسفة أن الفلك والكواكب طبيعة خامسة لا تقبل الفساد والفناء.
وكان الناس يتعجبون من قول المعتزلة البصرية إن الله تعالى يقدر على افناء الاجسام كلها دفعة واحدة ولا يقدر على افناء بعضها مع بقاء بعض منها وزال هذا التعجب بقول من زعم من الكرامية انه لا يقدر على إعدام جسم بحال.
وأعجب من هذا كله أن ابن كرام وصف معبوده بالثقل وذلك انه قال فى كتاب عذاب القبر فى تفسير قول الله عز وجل {إذا السماء انفطرت} انها انفطرت من ثقل الرحمن عليها.(12/144)
ثم إن ابن كرام واكثر أتباعه زعموا ان الله تعالى لم يزل موصوفا باسمائه المشتقة من افعاله عند أهل اللغة مع استحالة وجود الافعال فى الازل فزعموا أنه لم يزل خالقا رازقا منعما من غير وجود خلق ورزق ونعمة منه وزعموا أنه لم يزل خالقا بخالقية فيه ورازقا برازقية فيه وقالوا ان خالقيته قدرته على الخلق ورازقيته قدرته على الرزق والقدرة قديمة والخلق والرزق حادثان فيه بقدرته وقالوا بالخلق يصير المخلوق من العالم مخلوقا وبذلك الرزق الحادث فيه يصير المرزوق مرزوقا.
وأعجب من هذا فرقهم بين المتكلم والقائل وبين الكلام والقول وذلك أنهم قالوا ان الله تعالى لم يزل متكلما قائلا ثم فرقوا بين الاسمين فى المعنى فقالوا انه لم يزل متكلما بكلام هو قدرته على القول ولم يزل قائلا بقائلية لا يقول والقائلية قدرته على القول وقوله حروف حادثة فيه فقول الله تعالى عندهم حادث فيه وكلامه قديم.
قال عبد القاهر ناظرت بعضهم فى هذه المسألة فقلت له اذا زعمت ان الكلام هو القدرة على القول والساكت عندك قادر على القول فى حال سكوته لزمك على هذا القول ان يكون الساكت متكلما فالتزم ذلك.
ومن تدقيق الكرامية فى هذا الباب قولهم انا نقول ان الله تعالى لم يزل خالقا رازقا على الاطلاق ولا نقول بالاضافة ان لم يزل خالقا للمخلوقين ورازقا للمرزوقين وانما نذكر هذه الاضافة عند وجود المخلوقين والمرزوقين.
وقالوا على هذا القياس ان الله تعالى لم يزل معبودا ولم يكن فى الازل معبود العابدين وانما صار معبود العابدين عند وجود العابدين ووجود عبادتهم له.
ثم ان ابن كرام ذكر فى كتابه المعروف بعذاب القبر بابا له ترجمة عجيبة فقال باب فى كيفوفية الله عز وجل ولا يدري العاقل مماذا يتعجب أعن جسارته على اطلاق لفظ الكيفية فى صفات الله تعالى ام من قبح عبارته عن الكيفية بالكيفوفية وله من جنس هذه العبارة أشكال.(12/145)
منها قوله فى باب الرد على أصحاب الحديث فى الايمان فان قالوا صحوفيتهم الايمان قول وعمل قيل لهم كذا.
وكذا وقد عبر عن مكان معبوده فى بعض كتبه بالحيثوثية وهذه العبارات السخيفة لائقة بمذهبه السخيف.
ثم انه مع أصحابه تكلموا فى مقدورات الله تعالى فزعموا انه لا يقدر الا على الحوادث التي تحدث فى ذاته من ارادته وأقواله وادراكاته وملاقاته لما يلاقيه فاما المخلوقات من اجسام العالم وأعراضها فليس شىء منها مقدورا لله تعالى ولم يكن الله تعالى قادرا على شىء منها مع كونها مخلوقة وانما خلق كل مخلوق من العالم بقوله كن لا بقدرته.
وهذه بدعة لم يسبقوا اليها لان الناس قبلهم اختلفوا فى مقدورات الله تعالى على مذاهب أهل السنة والجماعة كل مخلوق كان مقدورا لله تعالى قبل حدوثه وهو محدث جميع الحوادث بقدرته وزعم معمر أن الاجسام كلها كانت مقدورة له قبل أن خلقها وليست الاعراض مخلوقة له ولا مقدورة له وقال اكثر المعتزلة ان الاجسام والالوان والطعوم والروائح وسائر أجناس الاعراض كانت مقدورة لله تعالى وانما امتنعوا من وصفه بالقدرة على مقدورت غيره وقالت الجهمية الحوادث كلها مقدورة لله تعالى ولا قادر ولا فاعل غيره وما قال أحد قبل الكرامية باختصاص قدرة الاله بحوادث تحدث فى ذاته بزعمهم تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
ثم انهم تكلموا فى باب التعديل والتحوير بعجائب.
منها قولهم يجب ان يكون اول شىء خلقه الله تعالى جسما حيا يصح منه الاعتبار وزعموا أنه لو بدأ بخلق الجمادات لم يكن حكيما وزادوا فى هذه البدعة على القدرية فى قولها لا بد من أن يكون فى الخلق من يصح منه الاعتبار وليس بواجب أن يكون اول الخلق حيا يصح منه الاعتبار.
وقد ردوا ببدعتهم هذه الاخبار الصحيحة فى أن أول شىء خلقه تعالى اللوح والقلم ثم أجرى القلم على اللوح بما هو كائن الى يوم القيامة.(12/146)
وقالوا لو خلق الله تعالى الخلق وكان فى معلومه انه لا يؤمن به احد منهم لكان خلقه إياهم عبثا وانما حسن منه خلق جميعهم لعلمه بأيمان بعضهم.
وقال أهل السنة لو خلق الكفرة دون المؤمنين او خلق المؤمنين دون الكفرة جاز ولم يقدح ذلك فى حكمته.
وزعمت الكرامية أنه لا يجوز فى حكمة الله تعالى احترام الطفل الذى يعلم أنه إن ابقاه الى زمان بلوغه آمن ولا احترام الكافر الذى لو ابقاه الى مدة آمن إلا أن يكون فى احترامه إياه قبل وقت ايمانه صلاح لغيره.
ويلزمهم على هذا القول ان يكون الله تعالى انما احترام إبراهيم بن النبى قبل بلوغه لانه علم انه لو أبقاه لم يؤمن وفى هذا قدح منهم فى كل من مات من ذرارى الانبياء طفلا.
ومن جهالاتهم فى باب النبوة والرسالة قولهم بأن النبوة والرسالة صفتان حالتان فى النبى والرسول سوى الوحى اليه وسوى معجزاته وسوى عصمته عن المعصية وزعموا أن من فعل فيه تلك الصفة وجب على الله تعالى إرساله وفرقوا بين الرسول والمرسل بان الرسول من قامت به تلك الصفة والمرسل هو المأمور باداء الرسالة.
ثم انهم خاضوا فى باب عصمة الانبياء عليهم السلام فقالوا كل ذنب اسقط العدالة أو أوجب حدا منهم معصومون منه غير معصومين مما دون ذلك وقال بعضهم لا يجوز الخطأ عليهم فى التبليغ وأجاز ذلك بعضهم وزعم أن النبى عليه السلام أخطأ فى تبليغ قوله {ومناة الثالثة الأخرى} حتى قال بعده {تلك الغرانيق العلى [وإن] شفاعتها ترتجى}.
وقال اهل السنة ان تلك الكلمة كانت من تلاوة الشيطان القاها فى خلال تلاوة النبى وقد قال شيخنا ابو الحسن الأشعرى فى بعض كتبه إن الانبياء بعد النبوة معصومون من الكبائر والصغائر.(12/147)
وزعمت الكرامية ايضا أن النبى اذا ظهرت دعوته فمن سمعها منه او بلغه خبره لزمه تصديقه والاقرار به من غير توقف على معرفة دليله وقد سرقوا هذه البدعة من أباضية الخوارج الذين قالوا ان قول النبى عليه السلام انا نبي فنفسه حجة لا يحتاج معها الى برهان.
وزعمت الكرامية أيضا أن من لم تبلغه دعوة الرسل لزمه أن يعتقد موجبات العقول وأن يعتقد أن الله تعالى أرسل رسلا الى خلقه.
وقد سبقهم اكثر القدرية الى القول بوجوب اعتقاد موجبات العقول ولم يقل احد قبلهم بوجوب اعتقاد وجود الرسل قبل ورود الخبر عنهم بوجودهم.
وزعمت الكرامية ايضا ان الله تعالى لو اقتصر على رسول واحد من أول زمان التكليف الى القيامة وأدام شريعة الرسول الاول لم يكن حكيما.
وقال اهل السنة لو فعل ذلك جاز لما قد جاز منه لامة شريعة خاتم النبيين الى القيامة.
ثم ان ابن كرام خاض فى باب الامامة فأجاز كون امامين فى وقت واحد مع وقوع الجدال وتعاطى القتال ومع الاختلاف فى الاحكام واشار فى بعض كتبه الى أن عليا ومعاوية كانا إمامين فى وقت واحد ووجب على أتباع كل واحد منهما طاعة صاحبه وإن كان احدهما عادلا والآخر باغيا وقال أتباعه إن عليا كان إماما على وفق السنة وكان معاوية إماما على خلاف السنة وكانت طاعة كل واحد منهما واجبة على أتباعه فيا عجبا من طاعة واجبة [على] خلاف السنة.(12/148)
ثم إن الكرامية خاضوا فى باب الايمان فزعموا انه إقرار فرد على الابتداء وان تكريره لا يكون إيمانا الا من المرتد اذا أقر به بقدرته وزعموا ايضا انه هو الاقرار السابق في الذر الاول فى طلب النبى عليه السلام وهو قولهم بلى وزعموا ان ذلك القول باق ابدا لا يدون الا بالردة وزعموا ايضا ان المقر بالشهادتين مؤمن حقا وان اعتقد الكفر بالرسالة وزعموا ايضا أن المنافقين الذين انزل الله تعالى فى تكفيرهم آيات كثيرة كانوا مؤمنين حقا وأن ايمانهم كان كايمان الانبياء والملائكة وقالوا فى اهل الاهواء من مخالفيهم ومخالفى أهل السنة أن عذابهم فى الآخرة غير مؤبد واهل الاهواء يرون خلود الكرامية فى النار.
ثم ان ابن كرام ابدع فى الفقه حماقات لم يسبق اليها.
منها قوله فى صلاة المسافر ان يكفيه تكبيرتان من غير ركوع ولا سجود ولا قيام ولا قعود ولا تشهد ولا سلام.
ومنها قوله بصحبة الصلاة فى ثوب كله نجس وعلى ارض نجسة ومع نجاسة ظاهر البدن وانما أوجب الطهارة عن الأحداث دون الانجاس ومنها قوله بأن غسل الميت والصلاة عليه سنتان غير مفروضتين وإنما الواجب كفنه ودفنه.
ومنها قوله بصحة الصلاة المفروضة والصوم المفروض والحج المفروض بلانية وزعم ان نية الاسلام فى الابتداء كافية عن نية كل فريضة من فرائض الاسلام.(12/149)
وكان فى عصرنا شيخ للكرامية يعرف بابراهيم بن مهاجر اخترع ضلالة لم يسبق اليها فزعم ان اسماء الله عز وجل كلها اعراض فيه وكذلك اسم كل مسمى عرض فيه فزعم ان الله تعالى عرض حال فى جسم قديم والرحمن عرض آخر والرحيم عرض ثالث والخالق عرض رابع وكذلك كل اسم لله تعالى عرض غير الآخر فالله تعالى عنده غير الرحمن والرحمن غير الرحيم والخالق غير الرازق وزعم ايضا ان الزانى عرض فى الجسم الذى يضاف اليه الزنى والسارق عرض في الذى يضاف اليه السرقة وليس الجسم زانيا ولا سارقا فالمجلود والمقطوع عنده غير الزانى والسارق وزعم ايضا أن الحركة والمتحرك عرضان في الجسم وكذلك السواد والاسود عرضان في الجسم وكذلك العلم والعالم والقدرة والقادر والحى والحياة كل ذلك أعراض غير الاجسام فالعلم عنده لا يقوم بالعالم وانما يقوم بمحل العالم والحركة لا تقوم بالمتحرك وانما تقوم بمحل المتحرك.
قال عبد القاهر ناظرت ابن مهاجر هذا في مجلس ناصر الدولة أبى الحسن محمد بن 4 ابراهيم بن سيمجور صاحب جيش السامانية في سنة سبعين وثلثمائة في هذه المسألة الزمته فيها ان يكون المحدود في الزنى غير الزانى والمقطوع في السرقة غير السارق فالتزم ذلك فالزمته أن يكون معبوده عرضا لان المعبود عنده اسم واسماء الله تعالى عنده أعراض حالة في جسم قديم فقال المعبود عرض في جسم القديم وأنا اعبد الجسم دون العرض فقلت له أنت اذن لا تعبد الله عز وجل لان الله تعالى عندك عرض وقد زعمت أنك تعبد الجسم دن العرض.
وفضائح الكرامية على الاعداد كثيرة الامداد وفيما ذكرنا منها في هذا الفصل كفاية والله اعلم.
{الفصل الثامن}
فى بيان مذاهب المشبهة من أصناف شتى
اعلموا أسعدكم الله ان المشبهة صنفان صنف شبهوا ذات البارى بذات غيره وصنف آخرون شبهوا صفاته بصفات غيره وكل صنف من هذين الصنفين مفترقون على أصناف شتى.(12/150)
والمشبهة الذين ضلوا فى تشبيه ذاته بغيره أصناف مختلفة، وأول ظهور التشبيه صادر عن أصناف من الروافض الغلاة.
فمنهم السبابية الذين سموا عليا الها وشبهوه بذات الاله ولما احرق قوما منهم قالوا له الآن علمنا انك اله لان النار لا يعذب بها الا الله.
ومنهم البيانية اتباع بيان بن سمعان الذى زعم أن معبوده انسان من ثور على صورة الانسان فى اعضائه وانه يفنى كله الا وجهه.
ومنهم المغيرية اتباع المغيرة بن سعيد العجلى الذى زعم ان معبوده ذو اعضاء وأن اعضاءه على صور حروف الهجاء.
ومنهم المنصورية اتباع أبى منصور العجلي الذى شبه نفسه بربه وزعم أنه صعد الى السماء وزعم ايضا أن الله مسح يده على رأسه وقال له يا نبى بلغ عنى.
ومنهم الخطابية الذين قالوا بالاهية الائمة وبالاهية أبى الخطاب الاسدى.
ومنهم الذين قالوا بالاهية عبد الله بن معاوية ابن عبد الله بن جعفر ومنهم الحلولية الذين قالوا بحلول الله فى أشخاص الائمة وعبدوا الائمة لاجل ذلك.
ومنهم الحلولية الحكمانية المنسوبة الى أبى حكمان الدمشقى الذى زعم أن الاله يحل في كل صورة حسنة وكان يسجد لكل صورة حسنة.
ومنهم المقنعية المبيضة بما وراء نهر جيحون فى دعواهم ان المقنع كان الها وانه مصور فى كل زمان بصورة مخصوصة.
ومنهم العذاقرة الذين قالوا بالاهية ابن أبى العذاقر المقتول ببغداد.
وهذه الاصناف الذين ذكرناهم فى هذا الفصل كلهم خارجون عن دين الاسلام وان انتسبوا فى الظاهر اليه.
وسنذكر تفصيل مقالة كل صنف منهم فى الباب الرابع من أبواب هذا الكتاب اذا انتهينا اليه ان شاء الله عز وجل.
وبعد هذا فرق من المشبهة عدهم المتكلمون فى فرق الملة لا قرارهم بلزوم أحكام القرآن واقرارهم بوجوب أركان شريعة الاسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج عليهم واقرارهم بتحريم المحرمات عليهم وان ضلوا وكفروا فى بعض الاصوال العقلية.(12/151)
ومن هذا الصنف هشامية منتسبة الى هشام بن الحكم الرافضى الذى شبه معبوده بالانسان وزعم لاجل ذلك أنه سبعة أشبار بشبر نفسه وأنه جسم ذو حد ونهاية وأنه طويل عريض عميق وذو لون وطعم ورائحة وقد روى عنه ان معبوده كسكيبة الفضة وكاللؤلؤة المستديرة وروى عنه أنه أشار الى أن جبل ابى قبيس أعظم منه وروى عنه انه زعم ان الشعاع من معبوده متصل بما يراه ومقالته فى هذا التشبيه على التفصيل الذى ذكرناه فى تفصيل أقوال الامامية قبل هذا.
ومنهم الهشامية المنسوبة إلى هشام بن سالم الجواليقى الذى زعم ان معبوده على صورة الانسان وان نصفه الأعلى مجوف ونصفه الاسفل مصمت وأن له شعرة سوداء وقلبا تنبع منه الحكمة.
ومنهم اليونسية المنسوبة الى يونس بن عبد الرحمن القمى الذى زعم ان الله تعالى يحمله حملة عرشه وان كان هو أقوى منهم كما ان الكركى تحمله رجلاه وهو أقوى من رجليه.
ومنهم المشبهة المنسوبة الى داوود الجوارى الذى وصف معبوده بجميع أعضاء الانسان الا الفرج واللحية.
ومنهم الابراهيمية المنسوبة الى ابراهيم بن أبى يحيى الاسلمى وكان من جملة رواة الاخبار غير انه ضل فى التشبيه نسب الى الكذب في كثير من رواياته.
ومنهم الحايطية من القدرية وهم منسوبون الى احمد بن حايط وكان من المعتزلة المنتسبة الى النظام ثم انه شبه عيسى بن مريم بربه وزعم انه الاله الثانى وأنه هو الذى يحاسب الخلق فى القيامة.
ومنهم الكرامية فى دعواها أن الله تعالى جسم له حد ونهاية وأنه محل الحوادث وأنه مماس لعرشه وقد بينا تفصيل مقالاتهم قبل هذا بما فيه كفاية فهؤلاء مشبهة لله تعالى بخلقه فى ذاته.
فأما المشبهة لصفاته بصفات المخلوقين فاصناف(12/152)
منهم الذين شبهوا ارادة الله تعالى بإرادة خلقه وهذا قول المعتزلة البصرية الذين زعموا ان الله تعالى عز وجل يريد مراده بارادة حادثة وزعموا أن ارادته من جنس ارادتنا ثم ناقضوا هذه الدعوى بأن قالوا يجوز حدوث إرادة الله عز وجل لا فى محل ولا يصح حدوث إرادتنا الا فى محل وهذا ينقض قولهم إن ارادته من جنس ارادتنا لأن الشيئين اذا كانا متماثلين ومن جنس واحد جاز على كل واحد منهما ما يجوز على الآخر واستحال فى كل واحد منهما ما يستحيل على الآخر.
وزادت الكرامية على المعتزلة البصرية فى تشبيه ارادة الله تعالى بارادات عباده وزعموا ان ارادته من جنس ارادتنا وانها حادثة فيه كما تحدث ارادتنا فينا وزعموا لاجل ذلك ان الله تعالى محل للحوادث تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ومنهم الذين شبهوا كلام الله عز وجل بكلام خلقه فزعموا ان كلام الله تعالى اصوات وحروف من جنس الاصوال والحروف المنسوبة الى العباد وقالوا بحدوث كلامه واحال جمهورهم سوى الجبائي بقاء كلام الله تعالى وقال النظام منهم ليس في نظم كلام الله سبحانه اعجاز كما ليس فى نظم كلام العباد اعجاز وزعم اكثر المعتزلة ان الزنج والترك والخزد قادرون على الاتيان بمثل نظم القرآن وبما هو افصح منه وانما عدموا العلم بتأليف نظمه وذلك العلم مما يصح ان يكون مقدورا لهم.
وشاركت الكرامية المعتزلة فى دعواها حدوث قول الله عز وجل مع فرقها بين القول والكلام فى دعواها ان قول الله سبحانه من جنس اصوات العباد وحروفهم وان كلامه قدرته على احداث القول وزادت على المعتزلة قولها بحدوث قول الله عز وجل فى ذاته بناء على اصلهم فى جواز كون الاله محلا للحوادث.(12/153)
ومنهم الزرارية اتباع زرارة بن اعين الرافضى فى دعواها حدوث جميع صفات الله عز وجل وانها من جنس صفاتنا وزعموا ان الله تعالى لم يكن فى الازل حيا ولا عالما ولا قادرا ولا مريدا ولا سميعا ولا بصيرا وانما استحق هذه الاوصاف حين احدث لنفسه حياة وقدرة وعلما وارادة وسمعا وبصرا كما ان الواحد منا يصير حيا قادرا سميعا بصيرا مريدا عند حدوث الحياة والقدرة والارادة والعلم والسمع والبصر فيه.
ومنهم الذين قالوا من الروافض بأن الله تعالى لا يعلم الشىء حتى يكون فاوجبوا حدوث علمه كما يجب حدوث علم العالم منا.
وهذا باب ان اطلناه طال ونشر الاذيال وقد بينا تفصيل اقوال المعتزلة والمشبهة واقوال سائر الاهواء في كتابنا المعروف بكتاب الملل والنحل وفيما ذكرنا منها في هذا الباب كفاية والله اعلم.
{الباب الرابع من ابواب هذا الكتاب}
في بيان الفرق التي انتسبت الى الاسلام وليست منها
الكلام فى هذا الباب يدور على اختلاف المتكلمين فيمن يعد من امة الاسلام وملته وقد ذكرنا قبل هذا ان بعض الناس زعم ان اسم ملة الاسلام واقع على كل مقر بنبوة محمد وان كل ما جاء به حق كائنا قوله بعد ذلك ما كان وهذا اختبار الكعبى فى مقالته وزعمت الكرامية ان اسم امة الاسلام واقع على كل من قال لا اله الا الله محمد رسول الله سواء أخلص فى ذلك واعتقد خلافه وهذان الفريقان يلزمهما ادخال العيسوية من اليهود والشاذكانية منهم فى ملة الاسلام لانهم يقولون لا اله الا الله محمد رسول الله ويزعمون ان محمدا كان مبعوثا الى العرب وقد أقروا بان ما جاء به حق.
وقال بعض فقهاء اهل الحديث اسم امة الاسلام واقع على كل من اعتقد وجوب الصلوات الخمس إلى الكعبة.
وهذا غير صحيح لان اكثر المرتدين الذين ارتدوا باسقاط الزكاة فى عهد الصحابة كانوا يرون وجوب الصلاة الى الكعبة وانما ارتدوا باسقاط وجوب الزكاة وهم المرتدون من بنى كنده وتميم.(12/154)
فاما المرتدون من بنى حنيفة وبنى اسعد فانهم كفروا من وجهين احدهما اسقاط وجوب الزكاة والثانى دعواهم نبوة مسيلمة وطليحة واسقط بنو حنيفة وجوب صلاة الصبح وصلاة المغرب فازدادوا كفرا على كفر.
والصحيح عندنا ان اسم ملة الاسلام واقع على كل من أقر بحدوث العالم وتوحيد صانعه وقدمه وانه عادل حكيم مع نفى التشبيه والتعطيل عنه وأقر مع ذلك بنبوة جميع انبيائه وبصحة نبوة محمد ورسالته الى الكافة وبتأييد شريعته وبأن كل ما جاء به حق وبأن القرآن منبع احكام شريعته وبوجوب الصلوات الخمس الى الكعبة وبوجوب الزكاة وصوم رمضان وحج البيت على الجملة فكل من أقر بذلك فهو داخل في اهل ملة الاسلام وينظر فيه بعد ذلك فان لم يخلط ايمانه ببدعة شنعاء تؤدى الى الكفر فهو الموحد السنى وان ضم الى ذلك بدعة شنعاء نظر:
فان كان على بدعة الباطنية او البيانية أو المغيرية أو المنصورية أو الجناحية أو السبابية أو الخطابية من الرافضة أو كان على دين الحلولية أو على دين اصحاب التناسخ أو على دين الميمونية أواليزيدية من الخوارج أو على دين الحايطية أو الحمارية من القدرية أو كان ممن يحرم شيئا مما نص القرآن على إباحته باسمه أو أباح ما حرم القرآن باسمه فليس هو من جملة امة الاسلام.
وان كانت بدعته من جنس بدع الرافضة الزيدية أو الرافضة الامامية أو من جنس بدع اكثر الخوارج او من جنس بدع المعتزلة أو من جنس بدع النجارية أو الجهمية أو الضرارية أو المجسمة من الامة كان من جملة امة الاسلام في بعض الاحكام وهو ان يدفن في مقابر المسلمين ويدفع اليه سهمه من الغنيمة إن غزا مع المسلمين ولا يمنع من دخول مساجد المسلمين ومن الصلاة فيها ويخرج في بعض الاحكام عن حكم امة الاسلام وذلك أنه لا تجوز الصلاة عليه ولا الصلاة على خلفه ولا تحل ذبيحته ولا تحل المرأة منهم للسنى ولا يصح نكاح السنية من احد منهم.(12/155)
والفرق المنتسبة الى الاسلام في الظاهر مع خروجها عن جملة الامة عشرون فرقة هذه ترجمتها:
سبابية وبيانية وحربية ومغيرية ومنصورية وجناحية وخطابية وغرابية ومفوضية وحلولية واصحاب التناسخ وحايطية وحمادية ومقنعية ورزامية ويزيدية وميمونية وباطنية وحلاجية وعذاقرية واصحاب اباحة ربما انشعبت الفرقة الواحدة من هذه الفرق اصنافا كثيرة نذكرها على التفصيل في فصول مهدية ان شاء الله عز وجل.
{الفصل الاول من فصول هذا الباب}
فى ذكر قول السبئية وبيان خروجها عن ملة الاسلام
السبئية اتباع عبد الله بن سبا الذى غلا في على رضى الله عنه وزعم انه كان نبيا ثم غلا فيه حتى زعم انه إله ودعا الى ذلك قوما من غواة الكوفة ورفع خبرهم الى على رضى الله عنه فامر باحراق قوم منهم في حفرتين حتى قال بعض الشعراء في ذلك:
لترم بى الحوادث حيث شاءت إذا لم ترم بى في الحفرتين
ثم ان عليا رضى الله عنه خاف من احراق الباقين منهم شماتة اهل الشام وخاف اختلاف اصحابه عليه فنفى ابن سبا الى ساباط المدائن فلما قتل على رضى الله عنه زعم ابن سبا ان المقتول لم يكن عليا وإنما كان شيطانا تصور للناس في صورة على وان عليا صعد الى السماء كما صعد اليها عيسى بن مريم عليه السلام وقال كما كذبت اليهود النصارى في دعواها قتل عيسى كذلك كذبت النواصب والخوارج في دعواها قتل على وإنما رأت اليهود والنصارى شخصا مصلوبا شبهوه بعيسى كذلك القائلون بقتل على رأوا قتيلا يشبه عليا فظنوا انه على على قد صعد الى السماء وانه سينزل الى الدنيا وينتقم من أعدائه.
وزعم بعض السبابية أن عليا في السحاب وان الرعد صوته والبرق صوته ومن سمع من هؤلاء صوت الرعد قال عليك السلام يا أمير المؤمنين.(12/156)
وقد روى عن عامر بن شراحبيل الشعبى ان ابن سبا قيل له ان عليا قد قتل فقال إن جئتمونا بدماغه في صرة لم نصدق بموته لا يموت حتى ينزل من السماء ويملك الارض بحذافيرها.
وهذه الطائفة تزعم ان المهدى المنتظر إنما هو على دون غيره وفي هذه الطائفة قال اسحاق بن سويد العدوى قصيدته برىء فيها من الخوارج والروافض والقدرية منها هذه الابيات:
برئت من الخوارج لست منهم من الغزال منهم وابن باب
ومن قوم اذا ذكروا عليا يردون السلام على السحاب
ولكنى أحب بكل قلبى واعلم ان ذاك من الصواب
رسول الله والصديق حبا به أرجو غدا حسن الثواب
وقد ذكر الشعبى ان عبد الله بن السوداء كان يعين السبابية على قولها وكان ابن السوداء فى الاصل يهوديا من اهل الحيرة فاظهر الاسلام واراد ان يكون له عند اهل الكوفة سوق ورياسة فذكر لهم انه وجد في التوراة ان لكل نبى وصيا وان عليا وصي محمد وانه خير الاوصياء كما ان محمدا خير الانبياء فلما سمع ذلك منه شيعه على قالوا لعلى انه من محبيك فرفع على قدره واجلسه تحت درجة منبره ثم بلغه عنه غلوه فيه فهم بقتله فنهاه ابن عباس عن ذلك وقال له ان قتلته اختلف عليك اصحابك وانت عازم على العود الى قتال اهل الشام وتحتاج الى مداراة اصحابك فلما خشى من قتله ومن قتل ابن سبا الفتنة التى خافها ابن عباس نفاهما الى المدائن فافتتن بهما الرعاع بعد قتل على رضى الله عنه وقال لهم ابن السوداء والله لينبعن لعلى في مسجد الكوفة عينان تفيض إحداهما عسلا والاخرى سمنا ويغترف منهما شيعته.
وقال المحققون من أهل السنة ان ابن السوداء كان على هوى دين اليهود واراد ان يفسد على المسلمين دينهم بتأويلاته في على واولاده لكي يعتقدوا فيه ما اعتقدت النصارى في عيسى عليه السلام فانتسب الى الرافضة السبابية حين وجدهم أعرف أهل الاهواء في الكفر ودلس ضلالته في تأويلاته.(12/157)
قال عبد القاهر كيف يكون من فرق الاسلام قوم يزعمون أن عليا كان آلها او نبيا ولئن جاز ادخال هؤلاء فى جملة فرق الاسلام جاز ادخال الذين ادعوا نبوة مسيلمة الكذاب فى فرق الاسلام قلنا للسبابية ان كان مقتول عبد الرحمن بن ملجم شيطانا تصور للناس في صورة على فلم لعنتم ابن ملجم وهلا مدحتموه فإن قاتل الشيطان محمود على فعله غير مذموم به وقلنا لهم كيف يصح دعواكم ان الرعد صوت على والبرق صوته وقد كان صوت الرعد مسموعا والبرق محسوسا في زمن الفلاسفة قبل زمان الاسلام ولهذا ذكروا الرعد والبرق في كتبهم واختلفوا في علتهما ويقال لابن السوداء ليس على عندك وعند الذين تميل اليهم من اليهود اعظم رتبة من موسى وهارون ويوشع بن نون وقد صح موت هؤلاء الثلاثة ولم ينبع لهم من الارض عسل ولا سمن بحال نبوع الماء العذب من الحجر الصلد لموسى وقومه في التيه فما الذى عصم عليا من الموت وقد مات ابنه الحسين واصحابه بكر بلاء عطشا ولم ينبع لهم ماء فضلا عن عسل وسمن
{الفصل الثانى من فصول هذا الباب}
في ذكر البيانية من الغلاة وبيان خروجها عن فرق الاسلام
هؤلاء اتباع بيان بن سمعان التميمى وهم الذين زعموا ان الامامة صارت من محمد بن الحنفية الى ابنه ابى هاشم عبد الله ابن محمد ثم صارت من ابى هاشم الى بيان بن سمعان بوصيته اليه
واختلف هؤلاء في بيان زعيمهم.
فمنهم من زعم انه كان نبيا وانه نسخ بعض شريعة محمد ومنهم من زعم انه كان إلها وذكر هؤلاء ان بيانا قال لهم ان روح الإله تناسخت فى الانبياء والائمة حتى صارت الى ابى هاشم عبد الله ابن محمد بن الحنفية ثم انتقلت اليه منه يعنى نفسه فادعى لنفسه الربوبية على مذهب الحلولية وزعم ايضا انه هو المذكور فى القرآن فى قوله {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} وقال انا البيان وانا الهدى والموعظة.(12/158)
وكان يزعم أنه يعرف الاسم الاعظم وانه يهزم به العساكر وانه يدعو به الزهرة فتجيبه.
ثم انه زعم ان الاله الازلى رجل من نور وانه يفنى كله غير وجهه وتأول على زعم قوله {كل شىء هالك الا وجهه} وقوله {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك}.
ورفع خبر بيان هذا الى خالد بن عبد الله القشري فى زمان ولايته فى العراق فاحتال على بيان حتى ظفر به وصلبه وقال له ان كنت تهزم الجيوش بالاسم الذى تعرفه فاهزم به اعوانى عنك.
وهذه الفرقة خارجة عن جميع فرق الاسلام لدعواها الاهية زعيمها بيان كما خرج عابدو الاصنام عن فرق الاسلام ومن زعم منهم ان بيانا كان نبيا فهو كمن زعم ان مسيلمة كان نبيا وكلا الفريقين خارجان عن فرق الاسلام ويقال للبيانية اذا جاز فناء بعض الاله فما المانع من فناء وجهه فاما قوله {كل شىء هالك الا وجهه} فمعناه راجع الى بطلان كل عمل لم يقصد به وجه الله عز وجل وقوله {ويبقى} معناه ويبقى ربك لانه قال بعده {ذو الجلال والاكرام} بالرفع على البدل من الوجه ولو كان الوجه مضافا الى الرب لقال ذى الجلال بخفض ذى لان نعت المخفوض يكون مخفوضا وهذا واضح فى نفسه والحمد لله.
{الفصل الثالث}:
فى ذكر المغيرية من الغلاة وبيان خروجها عن جملة فرق الاسلام
هؤلاء اتباع المغيرة بن سعيد العجلى وكان يظهر في بدء امره مولاة الامامية ويزعم ان الامامة بعد على والحسن والحسين الى سبطه محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن الحسن بن على وزعم انه هو المهدى المنتظر واستدل على ذلك بالخبر الذى ذكر ان اسم المهدى يوافق اسم النبى واسم ابيه يوافق اسم ابن النبى عليه السلام وقتله الرافضة على دعوته اياهم الى انتظار محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن ابن على.
ثم انه أظهر لهم بعد رياسته عليهم انواعا من الكفر الصريح.
منها دعواه النبوة ودعواه علمه بالاسم الاعظم وزعم انه يحيى به الموتى ويهزم به الجيوش.(12/159)
ومنها افراطه فى التشبيه وذلك انه زعم ان معبوده رجل من نور على رأسه تاج من نور وله اعضاء وقلب ينبع منه الحكمة.
وزعم ايضا ان اعضاءه على صور حروف الهجاء وان الالف منها مثال قدميه والعين على صورة عينه وشبه الهاء بالفرج.
ومنها انه تكلم في بدء الخلق فزعم ان الله تعالى لما اراد ان يخلق العالم تكلم باسمه الاعظم فطار ذلك الاسم ووقع تاجا على رأسه وتأول على ذلك قوله {سبح اسم ربك الاعلى} وزعم ان الاسم الاعلى انما هو ذلك التاج ثم انه بعد وقوع التاج على رأسه كتب باصبعه على كفه اعمال عباده ثم نظر فيها فغضب من معاصيهم فعرق فاجتمع من عرقه بحران احدهما مظلم مالح والآخر عذب نير ثم اطلع في البحر فابصر ظله فذهب ليأخذه فطار فانتزع عينى ظله فخلق منهما الشمس والقمر وافنى باقى ظله وقال لا ينبغى ان يكون معى إله غيرى ثم خلق الخلق من البحرين فخلق الشيعة من البحر العذب النير فهم المؤمنون وخلق الكفرة وهم اعداء الشيعة من البحر المظلم المالح.
وزعم ايضا ان الله تعالى خلق الناس قبل اجسادهم فكان اول ما خلق فيها ظل محمد قال فذلك قوله {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} قال ثم ارسل ظل محمد الى أظلال الناس ثم عرض على السماوات والجبال ان يمنعن على بن ابى طالب من ظالميه فأبين ذلك فعرض ذلك على الناس فامر عمر ابا بكر ان يتحمل نصره على ومنعه من اعدائه وان يغدر به فى الدنيا وضمن له ان يعينه على القدرية على شرط ان يجعل له الخلافة بعده ففعل ابو بكر ذلك قال فذلك تأويل قوله {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}. فزعم ان الظلوم الجهول ابو بكر وتأول فى عمر قول الله تعالى {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إنى برىء منك} والشيطان عنده عمر.(12/160)
وكان المغيرة مع ضلالاته التى حكيناها عنه يأمر أصحابه بانتظار محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن على وسمع خالد بن عبد الله القشرى يخبره وضلالاته فطلبه.
[فلما قتل المغيرة بقى اتباعه على انتظار محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن فلما اظهر محمد هذا دعوته بالمدينة بعث اليها ابو جعفر المنصور بصاحب جيشه عيسى بن موسى مع جيش كثيف فقتلوا محمدا بعد غلبته على مكة والمدينة وكان اخوه ابراهيم بن عبد الله قد غلب على ارض المغرب فاما محمد بن عبد الله بن الحسن فقتل بالمدينة فى الحرب واما ابراهيم بن عبد الله يسير الرحال واتباعه من المعتزلة وضمنوا له النصرة على جند المنصور فلما التقى الجمعان بناحمرى وهي على ستة عشر فرسخا من الكوفة قتل ابراهيم وانهزمت المعتزلة عنه ولحقه شؤمهم وتولى قتالهم من اصحاب المنصور عيسى بن موسى وسلم ابن قتيبة واما أخوه الرئيس فانه مات بارض المغرب وقيل انه سم وذكر بعض اصحاب التواريخ ان سليمان بن جرير الزيدي سمه ثم هرب الى العراق فلما قتل محمد ابن عبد الله بن الحسين بن الحسن اختلف المغيرية فى المغيرة فهربت منه فرقة منهم ولعنوه وقالوا انه كذب فى دعواه ان محمد بن عبد الله بن الحسن هو المهدى الذى يملك الارض لانه قتل ولم يملك الارض ولا عشرها وفرقة ثبتت على موالاة المغيرة وقالت ان صدق فى ان محمد بن عبد الله بن الحسن هو المهدى المنتظر وانه لم يقتل بل هو فى جبل من جبال حاجز مقيم الى ان يؤمر بالخروج فاذا خرج عقدت له البيعة بمكة بين الركن والمقام ويحيى له سبعة عشر رجلا يعطى كل رجل منهم حرفا واحدا من حروف الاسم الاعظم فيهزمون الجيوش ويملكون الارض وزعم هؤلاء ان الذى قتله جند] المنصور بالمدينة انما كان شيطانا تمثل للناس بصورة محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن وهؤلاء يقال لهم المحمدية من الرافضة لانتظارهم محمد ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن.(12/161)
وكان جابر الجعفي على هذا المذهب وادعى وصية المغيرة بن سعيد اليه بذلك فلما مات جابر ادعى بكر الاعور الهجرى القتات وصية جابر اليه وزعم انه لا يموت واكل بذلك اموال المغيرية على وجه السخرية منهم فلما مات بكر علموا انه كان كاذبا في دعواه فلعنوه.
قال عبد القاهر كيف يعد في فرق الاسلام قوم شبهوا معبودهم بحروف الهجاء وادعوا نبوة زعيمهم لو كان هؤلاء من الامة لصح قول من يزعم ان القائلين بنبوة مسيلمة وطلحة كانوا من الامة.
ويقال للمغيرية ان انكرتم قتل محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن على وزعمتم ان المقتول كان شيطانا تصور فى صورته فبم تنفصلون ممن يزعم ان الحسين بن على واصحابه لم يقتلوا بكر بلاء بل غابوا وقتل شياطين تصوروا بصورتهم فانتظروا حسينا فانه اعلى رتبة من ابن اخيه محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن وانتظروا عليا ولا تصدقوا بقتله كما انتظرته السبابية فان عليا اجل من بنيه وهذا مالا انفصال لهم عنه.
{الفصل الرابع من هذا الباب}
فى ذكر الحربية وبيان خروجهم عن فرق الامة
هؤلاء اتباع عبد الله بن عمر بن حرب الكندى وكان على دين البيانية في دعواها ان روح الاله تناسخت فى الانبياء والائمة الى ان انتهت الى ابى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ثم زعمت الحربية ان تلك الروح انتقلت من عبد الله بن محمد بن الحنفية الى عبد الله بن عمرو بن حرب وادعت الحربيه في زعيمها عبد الله بن عمرو بن حرب مثل دعوى البيانية فى بيان بن سمعان وكلتا الفرقتين كافرة بربها وليست من فرق الاسلام كما ان سائر الحلولية خارجة عن فرق الاسلام.
{الفصل الخامس من هذا الباب}
فى ذكر المنصورية وبيان خروجها عن جملة فرق الاسلام(12/162)
هؤلاء اتباع أبى منصور العجلى الذى زعم ان الامامة دارت فى اولاد على حتى انتهت الى ابى جعفر بن محمد بن على بن الحسين ابن على المعروف بالباقر وادعى هذا العجلى انه خليفة الباقر ثم الحد فى دعواه فزعم انه عرج به الى السماء وان الله تعالى مسح بيده على رأسه وقال له يا بنى بلغ عنى ثم انزله الى الارض وزعم انه الكسف الساقط من السماء المذكور فى قوله {وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم}.
وكفرت هذه الطائفة بالقيامة والجنة والنار وتأولوا الجنة على نعيم الدنيا والنار على محن الناس فى الدنيا واستحلوا مع هذه الضلالة خنق مخالفيهم.
واستمرت فتنتهم على عادتهم الى ان وقف يوسف ابن عمر الثقفى وأتى العراق فى زمانه على عورات المنصورية فاخذ ابا منصور العجلى وصلبه.
وهذه الفرقة ايضا غير معدودة في فرق الاسلام لكفرها بالقيامة والجنة والنار.
{الفصل السادس من هذا الباب}
فى ذكر الجناحية من الغلاة وبيان خروجها عن فرق الاسلام
هؤلاء اتباع عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب وكان سبب اتباعهم له ان المغيرية الذين تبرءوا من المغيرة بن سعيد بعد قتل محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن على خرجوا من الكوفة الى المدينة يطلبون اماما فلقيهم عبد الله بن معاوية ابن عبد الله بن جعفر فدعاهم الى نفسه وزعم انه هو الامام بعد على واولاده من صلبه فبايعوه على امامته ورجعوا الى الكوفة وحكوا لاتباعهم ان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر زعم انه رب وان روح الاله كانت فى آدم ثم في شيث ثم دارت للناس بتلك الصورة وزعموا ايضا ان كل مؤمن يوحى اليه وتأولوا على ذلك قول الله تعالى {وما كان لنفس ان تموت الا باذن الله} اي بوحى منه اليه واستدلوا ايضا بقوله {وإذ أوحيت الى الحواريين} وادعوا في انفسهم انهم هم الحواريون وذكروا قول الله تعالى وأوحى ربك الى النحل.(12/163)
وقالوا اذا جاز الوحى الى النحل فالوحى الينا اولى بالجواز وزعموا ايضا ان فيهم من هو افضل من جبريل وميكائيل ومحمد وزعموا ايضا انهم لا يموتون وان الواحد منهم اذا بلغ النهاية في دينه رفع الى الملكوت وزعموا انهم يرون المرفوعين منهم غدوة وعشية والفرقة الثالثة منهم عجرية اتباع عمير بن بيان العجلى قالوا بتكذيب الذين قالوا منهم انهم لا يموتون وقالوا انا نموت ولكن لا يزال خلف منا في الارض ائمة انبياء وعبدوا جعفرا وسموه ربا
والفرقة الرابعة منهم مفضلية لانتسابهم الى رجل كان يقال له مفضل الصيرفى قالوا بالاهية جعفر دون نبوته وتبرءوا من ابى الخطاب لبراءة جعفر منه
والفرقة الخامسة منهم خطابية مطلقة ثبتت على موالاة أبى الخطاب في دعاويه كلها وانكرت امامة من بعده قال عبد القاهر ان الباضية والمنصورية والجناحية والخطابية قد اكفروا أبا بكر وعمر وعثمان واكثر الصحابة باخراجهم عليا من الامامة في عصرهم وهم قد أخرجوا الامامة عن اولاد على في اعصار زعمائهم فيقال لهم اذا كان على في وقته اولى بالامامة من سائر الصحابة فهلا كان اولاده اولى بها من زعمائهم في اعصارهم وليس العجب من هؤلاء الضالين وانا العجب من علوية قتلوا هؤلاء مع استبدادهم دونهم بالامامة.
{الفصل السابع من هذا الباب}
في ذكر الغرابية والمفوضية والذمية وبيان خروجهم عن فرق الامة(12/164)
الغرابية قوم زعموا ان الله عز وجل ارسل جبريل عليه السلام الى على فغلط فى طريقه فذهب الى محمد لانه كان يشبهه وقالوا كان اشبه به من الغراب بالغراب والذباب بالذباب وزعموا ان عليا كان الرسول واولاده بعده هم الرسل وهذه الفرقة تقول لاتباعها العنوا صاحب الريش يعنون جبريل عليه السلام وكفر هذه الفرقة اكثر من كفر اليهود الذين قالوا لرسول الله من يأتيك بالوحى من الله تعالى فقال جبريل فقالوا انا لا نحب جبريل لانه ينزل بالعذاب وقالوا لو اتاك بالوحى ميخائيل الذى لا ينزل الا بالرحمة لآمنا بك فاليهود مع كفرهم بالنبى ومع عداوتهم لجبريل عليه السلام لا يلعنون جبريل وانما يزعمون انه من ملائكة العذاب دون الرحمة والغرابية من الرافضة يلعنون جبريل ومحمدا عليهما السلام وقد قال الله تعالى {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين}. فى هذا تحقيق اسم الكافر لمبغض بعض الملائكة ولا يجوز ادخال من سماهم الله كافرين فى جملة فرق المسلمين.
واما المفوضة من الرافضة فقوم زعموا ان الله تعالى خلق محمدا ثم فوض اليه تدبير العالم وتدبيره فهو الذى خلق العالم دون الله تعالى ثم فوض محمد تدبير العالم الى على بن ابى طالب فهو المدبر الثالث.
وهذه الفرقة شر من المجوس الذين زعموا ان الاله خلق الشيطان ثم ان الشيطان خلق الشرور وشر من النصارى الذين سموا عيسى عليه السلام مدبرا ثانيا فمن عد مفوضة الرافضة من فرق الاسلام فهو بمنزلة من عد المجوس والنصارى من فرق الاسلام.
واما الذمية منهم فقوم زعموا ان عليا هو الله وشتموا محمدا وزعموا ان عليا بعثه ليثنى عنه فادعى الامر لنفسه وهذه خارجة عن فرق الاسلام لكفرها بنبوة محمد من الله تعالى.
{الفصل الثامن من هذا الباب}
في ذكر الشريعية والنميرية من الرافضة(12/165)
الشريعية اتباع رجل كان يعرف بالشريعي وهو الذى زعم ان الله تعالى حل في خمسة اشخاص وهم النبى وعلى وفاطمة والحسن والحسين وزعموا ان هؤلاء الخمسة آلهة ولها اضداد خمسة واختلفوا في اضدادها فمنهم من زعم انها محمودة لانه لا يعرف فضل الاشخاص التى فيها الاله الا باضدادها ومنهم من زعم ان الاضداد مذمومة وحكى عن الشريعى انه ادعى يوما ان الاله حل فيه.
وكان بعده من اتباعه رجل يعرف بالنميرى حكى عنه انه ادعى في نفسه ان الله تعالى حل فيه
فهذه ثمانى فرق من الروافض الغلاة خارجة عن جميع فرق الاسلام لاثباتهم الى غير الله
ومن اعجب الاشياء ان الخطابية زعمت ان جعفر الصادق قد اودعهم جلدا فيه علم كل ما يحتاجون اليه من الغيب وسموا ذلك الجلد جعفرا وزعموا انه لا يقرأ ما فيه الا من كان منهم وقد ذكر ذلك هارون بن سعد العجلي في شعره فقال:
ألم تر ان الرافضين تفرقوا فكلهم من جعفر قال منكرا
فطائفة قالوا إله ومنهم طوائف سمته النبى المطهرا
ومن عجب لم اقضه جلد جعفر برئت الى الرحمن ممن يجفعرا
برئت الى الرحمن من كل رافض يصير بباب الكفر في الدين اعورا
اذا كف اهل الحق عن بدعة مضوا عليها وان يمضوا الى الحق قصرا
ولو قيل ان الفيل ضب لصدقوا ولو قيل زنجى تحول احمرا
واخلف من يوم البعير فانه اذا هو للاقبال وجه ادبرا
فقبح اقوام رموه بعزبة كما قال فى عيسى القرا من تنصرا
{الفصل التاسع من هذا الباب}
في ذكر اصناف الحلولية وبيان خروجها عن فرق الاسلام(12/166)
الحلولية في الجملة عشر فرق كلها كانت في دولة الاسلام وغرض جميعها القصد الى افساد القول بتوحيد الصانع وتفضيل فرقها في الاكثر يرجع الى غلاة الروافض وذلك ان السبابية والبيانية والجناحية والخطابية والنميرية منهم باجمعها حلولية وظهر بعدهم المقنعية بما وراء نهر جيحون وظهر قوم بمرق يقال لهم رزامية وقوم يقال لهم بركوكية وظهر بعدهم قوم من الحلولية يقال لهم حلمانية وقوم يقال لهم حلاجيه ينسبون الى الحسين بن منصور المعروف بالحلاج وقوم يقال لهم العذاقرة ينسبون الى ابن ابى العذاقرى وتبع هؤلاء الحلولية قوم من الخرمية شاركوهم في استباحة المحرمات واسقاط المفروضات ونحن نذكر تفصيلهم على الاختصار.
اما السبابية فانما دخلت في جملة الحلولية لقولها بان عليا صار الها بحلول روح الاله فيه.
وكذلك البيانية زعمت ان روح الاله دارت فى الانبياء والائمة حتى انتهت الى على ثم دارت الى محمد بن الحنفية ثم صارت الى ابنه أبى هاشم ثم حلت بعده فى بيان بن سمعان وادعوا بذلك إلاهية بيان بن سمعان.
وكذلك الجناحية منهم حلولية لدعواها ان روح الاله دارت فى على واولاده ثم صارت الى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر فكفرت بدعواها حلول روح الاله فى زعيمها وكفرت مع ذلك بالقيامة والجنة والنار.
والخطابية كلها حلولية لدعواها حلول روح الاله فى جعفر الصادق وبعده فى أبى الخطاب الاسدى فهذه الطائفة كافرة من هذه الجهة ومن جهة دعواها ان الحسن والحسين واولادهما ابناء الله واحباؤه ومن ادعى منهم فى نفسه انه من ابناء الله فهو اكفر من سائر الخطابية.
والشريعية والنميرية منهم حلولية لدعواها ان روح الاله حلت فى خمس اشخاص النبي وعلى وفاطمة والحسن والحسين لدعواها ان هؤلاء الاشخاص الخمسة آلهة.(12/167)
واما الرزامية فقوم بمرو افرطوا فى موالاة ابى مسلم صاحب دولة بنى العباس وساقوا الامامة من أبى هاشم اليه ثم ساقوها من محمد ابن على الى أخيه عبد الله بن على السفاح ثم زعموا ان الامامة بعد السفاح صارت الى أبى مسلم واقروا مع ذلك بقتل ابى مسلم وموته الافرقة منهم يقال لهم ابو مسلمية افرطوا فى ابى مسلم غاية الافراط وزعموا انه صار الها بحلول روح الاله فيه وزعموا ان ابا مسلم خير من جبريل وميكائيل وسائر الملائكة وزعموا ايضا ان أبا مسلم حي لم يمت وهم على انتظاره وهؤلاء بمرو وهرات يعرفون بالبركوكية فاذا سئل هؤلاء عن الذى قتله المنصور قالوا كان شيطانا تصور للناس فى صورة أبى مسلم.(12/168)
واما المقنعية فهم المبيضة بماء وراء نهر جيحون وكان زعيمهم المعروف بالمقنع رجلا اعور فصاروا بمرو من أهل قرية يقال لهم كازه كيمن دات وكان قد عرف شيئا من الهندسة والحيل والنيرنجات وكان على دين الرزامية بمرو ثم ادعى لنفسه الإلهية واحتجب عن الناس ببرقع من حرير واغتر به أهل جبل ابلاق وقوم من الصعد ودامت فتنته على المسلمين مقدار اربع عشرة سنة وعاونه كفرة الاتراك الخلجية على المسلمين للغارة عليهم وهزموا عساكر كثيرة من عساكر المسلمين فى ايام المهدى بن المنصور وكان المقنع قد اباح لاتباعه المحرمات وحرم عليهم القول بالتحريم واسقط عنهم الصلاة والصيام وسائر العبادات وزعم لاتباعه انه هو الاله وانه كان قد تصور مرة فى صورة آدم ثم تصور فى وقت آخر بصورة نوح وفى وقت آخر بصورة ابراهيم ثم تردد فى صور الانبياء الى محمد ثم تصور بعده فى صورة على وانتقل بعد ذلك فى صور اولاده ثم تصور بعد ذلك فى صورة أبى مسلم ثم انه زعم أنه فى زمانه الذى كان فيه قد تصور بصورة هشام بن حكيم وكان اسمه هاشم بن حكيم وقال انى انما انتقل فى الصور لان عبادى لا يطيقون رؤيتى فى صورتى التى انا عليها ومن رآنى احترق بنورى وكان له حصن عظيم وثيق بناحية كثير ويحشب فى جبل يقال له سيام وكان عرض جدار سورها اكثر من مائة آجرة دونها خندق 100 كثيرة وكان معه أهل الصعد والاتراك الخلجية وجهز المهدى اليهم صاحب جيشه معاذ بن مسلم فى سبعين الف من المقاتلة واتبعهم لسعيد بن عمرو الحرش ثم افرد سعيدا بالقتال وبتدبير الحرب فقاتله سنين واتخذ سعيد من الحديد والخشب مائتى سلم ليضعها على عرض خندق المقنع ليعبر عليها رجاله واستدعى من مولتان الهند عشرة آلاف جلد جاموس وحشاها رملا وكبس بها خندق المقنع وقاتل جند المقنع من وراء خندقه فاستأمن منهم اليه ثلاثون الفا وقتل الباقون منهم واحرق المقنع نفسه فى تنور فى حصنه قد اذاب فيه النحاس مع السكر حتى ذاب فيه(12/169)
وافتتن به اصحابه بعد ذلك لما لم يجدوا له جثة ولا رمادا وزعموا انه صعد الى السماء واتباعه اليوم فى جبال ابلاق اكره اهلها ولهم فى كل قرية من قراهم مسجد لا يصلون فيه ولكن يكترون مؤذنا يؤذن فيه وهم يستحلون الميتة والخنزير وكل واحد منهم يستمتع بامرأة غيره وان ظفروا بمسلم لم يره المؤذن الذى فى مسجدهم قتلوه واخفوه غير انهم مقهورون بعامة المسلمين فى ناحيتهم والحمد لله على ذلك.
واما الحلمانية من الحلولية فهم المنسوبون الى ابى حلمان الدمشقى وكان اصله من فارس ومنشؤه حلب واظهر بدعته بدمشق فنسب لذلك اليها وكان كفره من وجهين:
احدهما انه كان يقول بحلول الاله فى الاشخاص الحسنة وكان مع اصحابه اذا رأوا صورة حسنة سجدوا لها يوهمون ان الاله قد حل فيها.
والوجه الثانى من كفره قوله بالاباحة ودعواه ان من عرف الاله على الوصف الذى يعتقده هو زال عنه الخطر والتحريم واستباح كل ما يستلذه ويشتهيه.(12/170)
قال عبد القاهر رأيت بعض هؤلاء الحلمانية يستدل على جواز حلول الاله فى الاجساد بقول الله تعالى للملائكة فى آدم {فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين} وكان يزعم ان الاله انما أمر الملائكة بالسجود لآدم لانه كان قد حل فى آدم وانما حله لانه خلقه فى احسن تقويم ولهذا قال {ولقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم} فقلت له اخبرنى عن الآية التى استدللت بها فى امر الله الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام والآية الناطقة بان الانسان مخلوق فى احسن تقويم هل اريد بهما جميع الناس على العموم ام اريد بهما انسان بعينه فقال ما الذى يلزمنى على كل واحد من القولين ان قلت به فقلت ان قلت ان المراد بهما كل الناس على العموم لزمك ان تسجد لكل انسان وان كان قبيح الصورة لدعواك ان الاله حل فى جميع الناس وان قلت ان المراد به انسان بعينه وهو آدم عليه السلام دون غيره فلم تسجد لغيره من اصحاب الصور الحسنة ولم تسجد للفرس الرابع والشجرة المثمرة وذوات الصور الحسنة من الطيور والبهائم وربما كان لهب الناس فى صورة فان استجزت السجود له فقد جمعت بين ضلالة الحلولية وضلالة عابدى النار واذا لم تسجد للنار ولا للماء ولا للهواء ولا للسماء مع حسن صور هذه الاشياء فى بعض الاحوال فلا تسجد للاشخاص الحسنة الصور.
وقلت له ايضا ان الصور الحسنة في العالم كثيرة وليس بعضها بحلول الاله فيه اولى من بعض وان زعمت ان الاله حال فى جميع الصور الحسنة فهل ذلك الحلول على طريق قيام العرض بالجسم او على طريق كون الجسم فى الجسم به ويستحيل حلول عرض واحد فى محال كثيرة ويستحيل كون شىء واحد فى امكنة كثيرة واذا استحال هذا استحال ما يؤدى اليه.(12/171)
واما الحلاجية فمنسوبون الى أبى المغيث الحسين بن منصور المعروف بالحلاج وكان من ارض فارس من مدينة يقال لها البيضاء وكان فى بدء امره مشغولا بكلام الصوفية وكانت عباراته حينئذ من الجنس الذى تسميه الصوفية الشطح وهو الذى يحتمل معنيين احدهما حسن محمود والآخر قبح مذموم وكان يدعى انواع العلوم على الخصوص والعموم وافتتن به قوم من اهل بغداد وقوم من اهل طالقان خراسان.
وقد اختلف فيه المتكلمون والفقهاء والصوفية فاما المتكلمون فاكثرهم على تكفيره وعلى انه كان على مذاهب الحلولية وقبله قوم من متكلمى السالمية بالبصرة ولسبوه الى حقائق معانى الصوفية وكان القاضى ابو بكر محمد بن الطيب الاشعرى رحمه الله نسبه الى معاطاة الحيل والمخاريق وذكر فى كتابه الذى أبان فيه عجز المعتزلة عن تصحيح دلائل النبوة على اصولهم مخاريق الحلاج ووجوه حيله.
واختلف الفقهاء أيضا فى شأن الحلاج فتوقف فيه ابو العباس بن سريح لما استفتى فى دمه وافتى ابو بكر بن داود بجواز قتله.
واختلف فيه مشايخ الصوفية فبرىء منه عمرو بن عثمان المكى وأبو يعقوب الاقطع وجماعة منهم وقال عمرو بن عثمان كنت اماشيه يوما فقرأت شيئا من القرآن فقال يمكننى ان اقول مثل هذا وروى ان الحلاج مر يوما على الجنيد فقال له انا الحق فقال الجنيد أنت بالحق اية خشبة تقسد فتحقق فيه ما قال الجنيد لانه صلب بعد ذلك وقبله جماعة من الصوفية منهم أبوالعباس بن عطا ببغداد وأبو عبد الله بن خفيف بفارس وأبو القاسم النصرابادى بنيسابور وفارس الدينورى بناحيته.(12/172)
والذين نسبوه الى الكفر والى دين الحلولية حكوا عليه انه قال من هذب نفسه فى الطاعة وصبر على اللذات والشهوات ارتقى الى مقام المقربين ثم لا يزال يصفو ويرتقى فى درجات المصافات حتى يصفو عن البشرية فاذا لم يبق فيه من البشرية حظ حل فيه روح الاله الذى حل فى عيسى بن مريم ولم يرد حينئذ شيئا الا كان كما اراد وكان جميع فعله فعل الله تعالى.
وزعموا ان الحلاج ادعى لنفسه هذه الرتبة.
وذكر انه ظفروا بكتب له الى اتباع عنوانها من الهو هورب الارباب المتصور فى كل صورة الى عبده فلان فظفروا بكتب اتباعه اليه وفيها {يا ذات اللذات ومنتهى غاية الشهوات تشهد انك المتصور فى كل زمان بصورة وفى زماننا هذا بصورة الحسين بن منصور ونحن نستجير لك ونرجو رحمتك يا علام الغيوب}.
وذكروا انه استمال ببغداد جماعة من حاشية الخليفة ومن حرمه حتى خاف الخليفة وهو جعفر المقتدر بالله معرة فتنته فحبسه واستفتى الفقهاء فى دمه واستروح الى فتوى أبى بكر ابن داود بآباحة دمه فقدم الى حامد بن العباس بضربه الف صوت وبقطع يديه ورجليه وصلبه بعد ذلك عند جسر بغداد ففعل به ذلك يوم الثلاثاء لست بقين من ذى القعدة سنة تسع وثلثمائة ثم انزل من جذعه الذى صلب عليه بعد ثلاث واحرق وطرح رماده فى الدجلة.
وزعم بعض المنسوبين اليه انه حي لم يقتل وانما قتل من ألقى عليه شبهه.
والذين تولوه من الصوفية وزعموا انه كشف له احوال من الكرامة فاظهرها للناس فعوقب بتسليط منكرى الكرامات عليه لتبقى حاله على التلبيس.
وزعم هؤلاء ان حقيقة التصوف حال ظاهرها تلبيس وباطنها تقديس واستدلوا على تقديس باطن الحلاج بما روى انه قال عند قطع يديه ورجليه حسب الواحد افراد الواحد وبأنه سئل يوما عن ذنبه فانشأ يقول:
ثلاثة احرف لا عجم فيها ومعجومان وانقطع الكلام
وأشار بذلك الى التوحيد.(12/173)
واما العذاقرة فقوم ببغداد اتباع رجل ظهر ببغداد فى ايام الراضى بن المقتدر فى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة وكان معروفا بابن أبى العذاقر واسمه محمد بن على السلمقانى وادعى حلول روح الاله فيه وسمى نفسه روح القدس ووضع لاتباعه كتابا سماه بالحاسة السادسة وصرح فيه برفع الشريعة واباح اللواط وزعم انه ايلاج الفاضل نوره فى المفضول واباح اتباعه له حرمهم طمعا فى ايلاجه نوره فيهن وظفر الراضي بالله به وبجماعة من اتباعه منهم الحسين بن القسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وابو عمران ابراهيم بن محمد بن احمد بن المنجم ووجد كتبهما اليه يخاطبانه فيها بالرب والمولى ويصفانه بالقدرة على ما يشاء واقروا بذلك بحضرة الفقهاء ومنهم ابو العباس احمد بن عمر بن سريج وابو الفرح المالكى وجماعة من الائمة فاعترفوا بذلك وامر المعروف منهم بالحسين بن القسم بن عبيد الله بالبراءة من ابن أبى العذاقر بأن يصفعه ففعل ذلك واظهر التوبة وافتى ابن سريج بجواز قبول توبته على مذهب الشافعي رحمه الله وافتى المالكيون برد توبة الزنديق بعد العثور عليه فامر الراضى بحبسه الى ان ينظر فى امره وأمر بقتل ابن ابى العذاقر وصاحبه ابى عون فقال له ابن ابي العذاقر امهلنى ثلاثة ايام لينزل فيها براءتى من السماء او نقمة على اعدائى وأشار الفقهاء على الراضى بتعجيل قتلهما فصلبهما ثم احرقهما بعد ذلك وطرح رمادهما فى الدجلة.
{الفصل الحادي عشر}
من فصول هذا الباب
فى ذكر اصحاب الاباحة من الخرمية وبيان خروجهم عن جملة فرق الاسلام
فهؤلاء صنفان، صنف منهم كانوا قبل دولة الاسلام كالمزدكية الذين استباحوا المحرمات وزعموا ان الناس شركاء فى الاموال والنساء ودامت فتنة هؤلاء الى ان قتلهم انوشروان فى زمانه.
والصنف الثانى خرمدينية ظهروا في دولة الاسلام وهم فريقان بابكية وما زيارية وكلتاهما معروفة بالمحمرة.(12/174)
فالبابكية منهم اتباع بابك الخزى الذى ظهر في جبل اليدين بناحية اذربيجان وكثر بها اتباعه واستباحوا المحرمات وقتلوا الكثير من المسلمين وجهز اليه خلفاء بنى العباس جيوشا كثيرة مع الفشين الحاجب ومحمد بن يوسف التعرى وابى دلف العجلى واقرانهم وبقيت العساكر في وجهه مقدار عشرين سنة الى ان أخذ بابك واخوه اسحق بن ابرهيم وصلبا بعين من راى في ايام المعتصم واتهم الفشين الحاجب بممالأة بابك في حربه وقتل لأجل ذلك.
واما المازبارية منهم فهم اتباعما زيار الذى اظهر دين المحمرة بجرجان.
وللبابكيه في جبلهم ليلة عيد لهم يجتمعون فيها على الخمر والزمر وتختلط فيها رجالهم ونساؤهم فاذا أطفئت سرجهم ونيرانهم افتض فيها الرجال والنساء على تقدير من عزبز.
والبابكية ينسبون أصل دينهم الى أمير كان لهم في الجاهلية اسمه شروين ويزعمون ان اباه كان من الزنج وامه بعض بنات ملوك الفرس ويزعمون ان شروين كان افضل من محمد ومن سائر الانبياء وقد بنوا في جبلهم مساجد للمسلمين يؤذن فيها المسلمون وهم يعلمون أولادهم القرآن لكنهم لا يصلون في السر ولا يصومون في شهر رمضان ولا يرون جهاد الكفرة.
وكانت فتنة مازيار قد عظمت في ناحيته الى ان اخذ في ايام المعتصم ايضا وصلب بسر من رأى بحذاء بابك الخزى.
واتباع مازيار اليوم في جبلهم اكرة من يليهم من سواد جرجان يظهرون الاسلام ويضمرون خلافه والله المستعان على اهل الزيغ والطغيان.
{الفصل الثانى عشر}
من فصول هذا الباب
فى ذكر اصحاب التناسخ من اهل الاهواء وبيان خروجهم عن فرق الاسلام
القائلون بالتناسخ اصناف: صنف من الفلاسفة وصنف من السمنية وهذان الصنفان كانا قبل دولة الاسلام.
وصنفان اخران ظهرا في دولة الاسلام أحدهما من جملة القدرية والآخر من جملة الرافضة الغالية.(12/175)
فاصحاب التناسخ من السمنية قالوا بقدم العالم وقالوا ايضا بابطال النظر والاستدلال وزعموا انه لا معلوم الا من جهة الحواس الخمس وانكر اكثرهم المعاد والبعث بعد الموت وقال فريق منهم بتناسخ الارواح في الصور المختلفة واجازوا ان ينقل روح الانسان الى كلب وروح الكلب الى انسان وقد حكى اقلوطرخس مثل هذا القول عن بعض الفلاسفة وزعموا ان من أذنب في قالب ناله العقاب على ذلك الذنب في قالب آخر وكذلك القول في الثواب عندهم ومن اعجب الاشياء دعوى السمنية في التناسخ الذى لا يعلم بالحواس مع قولهم انه لا معلوم الا من جهة الحواس.
وقد ذهبت المانوية ايضا الى التناسخ وذلك ان مانيا قال في بعض كتبه إن الارواح التى تفارق الاجسام نوعان أرواح الصديقين وأرواح أهل الضلالة فأرواح الصديقين اذا فارقت أجسادها سرت في عمود الصبح الى النور الذى فوق الفلك فبقيت في ذلك العالم على السرور الدائم وأرواح أهل الضلال اذا فارقت الاجساد وأرادت اللحوق بالنور الأعلى ردت منعكسة إلى السفل فتتناسخ في أجسام الحيوانات الى ان تصفو من شوائب الظلمة ثم تلتحق بالنور العالى.
وذكر أصحاب المقالات عن سقراط وافلاطن واتباعهما من الفلاسفة انهم قالوا بتناسخ الأرواح على تفصيل قد حكيناه عنهم فى كتاب الملل والنحل.
وقال بعض اليهود بالتناسخ وزعم انه وجد في كتاب دانيال ان الله تعالى مسخ بختنصر في سبع صور من صور البهائم والسباع وعذبه فيها كلها ثم بعثه في آخرها موحدا.
وأما أهل التناسخ في دولة الاسلام فان البيانية والجناحية والخطابية والروندية من الروافض الحلولية كلها قالت بتناسخ روح الاله في الائمة بزعمهم.
وأول من قال بهذه الضلالة السبابية من الرافضة لدعواهم أن عليا صار الها حين حل روح الاله فيه
وزعمت البيانية منهم ان روح الاله دارت في الانبياء ثم في الائمة الى ان صارت في بيان بن سمعان.(12/176)
وادعت الجناحية منهم مثل ذلك في عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر.
وكذلك دعوى الخطابية في ابن الخطاب وكذلك دعوى قوم من الروندية في ابى مسلم صاحب دولة بنى العباس.
فهؤلاء يقولون بتناسخ روح الاله دون أرواح الناس تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
واما أهل التناسخ من القدرية فجماعة منهم أحمد بن حايط وكان معتزليا منتسبا الى النظام وكان على بدعته في الفطرة وفي نفى الجزء الذى يتجزأ وفي نفى قدرة الله تعالى على الزيادة في نعيم أهل الجنة أو في عذاب أهل النار وزاد على النظام في ضلالته في التناسخ.
ومنهم احمد بن ايوب بن يانوش وكان تلميذ احمد بن حايط في التناسخ لكنهما اختلفا بعد في كيفية التناسخ.
ومنهم محمد بن احمد القطحي وافتخر بأنه كان منهم في التناسخ والاعتزال.
ومنهم عبد الكريم بن ابى العوجاء وكان خال معن بن زائدة وجمع بين أربعة أنواع من الضلالة أحدها انه كان يرى في السردين المانوية من الثنوية والثانى قوله بالتناسخ والثلث ميله الى الرافضة في الامامة والرابع قوله بالقدر في ابواب التعديل والتحوير وكان وضع أحاديث كثيرة باسانيد يغتر بها من لا معرفة له بالجرح والتعديل وتلك الاحاديث التى وضعها كلها ضلالات في التشبيه والتعطيل وفي بعضها تغيير أحكام الشريعة وهو الذى أفسد على الرافضة صوم رمضان بالهلال وردهم عن اعتبار الاهلة بحساب وضعه لهم ونسب ذلك الحساب الى جعفر الصادق ورفع خبر هذا الضال الى أبى جعفر بن محمد بن سليمان عامل المنصور على الكوفة فامر بقتله فقال لن يقتلونى لقد وضعت أربعة ألف حديث أحللت بها الحرام وحرمت بها الحلال وفطرت الرافضة في يوم من أيام صومهم وصومتهم في يوم من أيام فطرهم.(12/177)
وتفصيل قول هؤلاء في التناسخ ان احمد بن حايط زعم ان الله تعالى ابدع خلقة أصحابه سالمين عقلاء بالغين في دار سوى الدنيا التي هم فيها اليوم واكمل عقولهم وخلق فيهم معرفته والعلم به واسبغ عليهم نعمه.
وزعم ان الانسان المأمور المنهى المنعم عليه هو الروح التي في الجسم وان الاجسام قوالب للأرواح.
وزعم ان الروح هي الحي القادر العالم وان الحيوان كله جنس واحد.
وزعم ايضا ان جميع انواع الحيوان محتمل للتكليف وكان قد توجه الامر والنهي عليهم على اختلاف صورهم ولغاتهم وقال ان الله تعالى لما كلفهم في الدار التي خلقهم فيها شكره على ما انعم به عليهم أطاعه بعضهم في جميع ما امرهم به وعصاه بعضهم في جميع ما أمرهم به فمن اطاعه في جميع ما امره به أقره في دار النعيم التي ابتدأه فيها ومن عصاه في جميع ما أمره به أخرجه من دار النعيم الى دار العذاب الدائم وهى النار ومن أطاعه في بعض ما أمره به وعصاه في بعض ما أمره به أخرجه الى الدنيا وألبسه بعض هذه الاجسام التي هي القوالب الكثيفة وابتلاه بالبأساء والضراء والشدة والرجاء واللذات والآلام في صور مختلفة من صور الناس والطيور والبهائم والسباع والحشرات وغيرها على مقادير ذنوبهم ومعاصيهم في الدار الاولى التى خلقهم فيها فمن كانت معاصيه في تلك الدار أقل وطاعاته اكثر كانت صورته في الدنيا احسن ومن كانت طاعاته في تلك الدار أقل ومعاصيه اكثر صار قالبه في الدنيا أقبح.
ثم زعم ان الروح لا يزال في هذه الدنيا يتكرر في قوالب وصور مختلفة ما دامت طاعاته مشوبة بذنوبه وعلى قدر طاعاته وذنوبه يكون منازل قوالبه فى الانسانية والبيهمية ثم لا يزال من الله تعالى رسول الى كل نوع من الحيوان وتكليف للحيوان ابدا الى ان يتمحض عمل الحيوان طاعات فيرد الى دار النعيم الدائم وهى الدار التى خلق فيها او يمحض عمله معاصى فينقل الى النار الدائم عذابها(12/178)
فهذا قول ابن حايط فى تناسخ الارواح.
وقال احمد بن ايوب بن بانوش ان الله تعالى خلق الخلق كله دفعه واحدة وحكى عنه بعض اصحابه أن الله تعالى خلق أولا الاجزاء المقدرة التي كل واحد منها جزء لا يتجزأ وزعم ان تلك الاجزاء كانت أحياء عاقلة وان الله تعالى كان قد سوى بينهم فى جميع امورهم اذ لم يستحق واحد منهم تفضيلا على غيره ولا كان من احد منهم جناية يؤخر لاجلها عن غيره قال ثم انه خيرهم بين ان يمتحنهم بعد اسباغ النعمة عليهم بالطاعات ليستحقوا بها الثواب عليها لان منزلة الاستحقاق أشرف من منزلة التفضيل وبين ان يتركهم في تلك الدار تفضلا عليه بها فاختار بعضهم المحبة واباها بعضهم فمن اباها تركه فى الدار الاولى على حاله فيها ومن اختار الامتحان امتحنه فى الدنيا ولما امتحن الذين اختاروا الامتحان عصاه بعضهم وأطاعه بعضهم فمن عصاه حطه الى رتبة هى دون المنزلة التى خلقوا فيها ومن اطاعه رفعه الى رتبة اعلى من المنزلة التى خلق عليها ثم كررهم فى الاشخاص والقوالب إلى ان صار قوم منهم اناسا وآخرون صاروا بهائم أو سباعا بذنوبهم ومن صار منهم الى البهيمية ارتفع عنه التكليف وكان يخالف ابن حايط فى تكليف البهائم ثم قال فى البهائم انها لا تزال تتردد فى الصور القبيحة وتلقى المكاره من الذبح والتسخير الى ان تستوفى ما تستحق من العقاب بذنوبها ثم تعاد الى الحالة الاولى ثم يخبرهم الله تعالى تخييرا ثانيا فى الامتحان فان اختاروه اعاد تكليفهم على الحال التى وصنفاها وان امتنعوا منه تركوا على حالهم غير مكلفين وزعم ان من المكلفين من يعمل الطاعات حتى يستحق ان يكون نبيا او ملكا فيفعل الله تعالى ذلك به.(12/179)
وزعم القحطى منهم ان الله تعالى لم يعرض عليهم فى اول امرهم التكليف بل هم سألوه الرفع عن درجاتهم والتفاضل بينهم فاخبرهم بانهم لا يصفون بذلك الا بعد التكليف والامتحان وانهم وان كلفوا فعصوا استحقوا العقاب فابوا الامتحان قال فذلك قوله {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فابين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا}.
وزعم ابو مسلم الحرانى ان الله تعالى خلق الارواح وكلف منها من علم انه يطيعه دون من يعصيه وان العصاة إنما عصوه ابتداء فعوقبوا بالنسخ والمسخ فى الاجساد المختلفة على مقادير ذنوبهم.
فهذا تفصيل قول اصحاب التناسخ وقد نقضنا عللهم فى كتاب الملل والنحل بما فيه
{الفصل الثالث عشر}
من فصول هذا الباب
فى بيان ضلالات الحايطية من القدرية وبيان خروجهم عن فرق الامة
هؤلاء اتباع احمد بن حايط القدرى وكان من اصحاب النظام فى الاعتزال وقد ذكرنا قوله فى التناسخ قبل هذا ونذكر فى هذا الفصل ضلالاته فى توحيد الصانع.
وذلك ان ابن حايط وفضلا الحدثى زعما ان للخلق ربين وخالقين احدهما قديم وهو الله سبحانه والآخر مخلوق وهو عيسى بن مريم وزعما ان المسيح ابن الله على معنى النبى دون الولادة وزعما ايضا ان المسيح هو الذى يحاسب الخلق فى الآخرة وهو الذى عناه الله بقوله {وجاء ربك والملك صفا صفا} وهو الذى يأتى {في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور} وهو الذى خلق آدم على صورة نفسه وذلك تأويل ما روى ان الله تعالى خلق الها على صورته وزعم انه هو الذى عناه النبى بقوله ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر وهو الذى عناه بقول ان الله تعالى خلق العقل فقال له أقبل فأقبل وقال له أدبر فأدبر فقال ما خلقت خلقا اكرم منك وبك اعطى وبك آخذ وقالا ان المسيح تذرع جسدا وكان قبل التذرع عقلا.(12/180)
قال عبد القاهر قد شارك هذان الكافران الثنوية والمجوس فى دعوى خالقين وقولهم شر من قولهم لان الثنوية والمجوس اضافوا اختراع جميع الخيرات الى الله تعالى وانما اضافوا فعل الشرور الى الظلمة والى الشيطان واضاف ابن حايط وفضل الحدثى فعل الخيرات كلها الى عيسى بن مريم واضافا اليه محاسبة الخلق فى الآخرة والعجب فى قولهما ان عيسى خلق جده آدم عليه السلام فيا عجبا من فرع يخلق اصله ومن عد هذين الضالين من فرق الاسلام كمن عد النصارى من فرق الاسلام
{الفصل الرابع عشر}
من فصول هذا الباب
في ذكر الحمارية من القدرية وبيان خروجهم عن فرق الأمة
هؤلاء قوم من معتزلة عسكر مكرم اختاروا من بدع اصناف القدرية ضلالات مخصوصة.
فاخذوا من ابن حايط قوله بتناسخ الأرواح في الاجساد والقوالب.
واخذوا من عباد بن سليمان الضميري قوله بان الذين مسخهم الله قردة وخنازير كانوا بعد المسخ ناسا وكانوا معتقدين للكفر بعد المسخ.
واخذوا من جعد بن درهم الذى ضحى به خالد بن عبد الله القسري قوله بان النظر الذى يوجب المعرفة تكون تلك المعرفة فعلا لا فاعل لها.
ثم زعموا بعد ذلك ان الخمر ليست من فعل الله تعالى وإنما هي من فعل الخمار لأن الله تعالى لا يفعل ما يكون سبب المعصية.
وزعموا ان الانسان قد يخلق أنواعا من الحيوانات كاللحم اذا دفنه الانسان او يضعه في الشمس فيدود زعموا ان تلك الديدان من خلق الانسان وكذلك العقارب التي تظهر من التبن تحت الآجر زعموا انها من اختراع من جمع بين الآجر والتبن.
وهؤلاء شر من المجوس الذين اضافوا اختراع الحيات والحشرات والسموم الى الشيطان ومن عدهم من فرق الامة كمن عد المجوس من فرق الامة
{الفصل الخامس عشر}
من فصول هذا الباب
في ذكر اليزيدية من الخوارج وبيان خروجهم عن فرق الاسلام(12/181)
هؤلاء اتباع يزيد بن ابى أنيسة الخارجي وكان من البصرة ثم انتقل الى نون من ارض فارس وكان على رأي الاباضية من الخوارج ثم انه خرج عن قول جميع الامة لدعواه ان الله عز وجل يبعث رسولا من العجم وينزل عليه كتابا من السماء وينسخ بشرعه شريعة محمد وزعم ان اتباع ذلك النبى المنتظر هم الصابئون المذكورون فى القرآن فاما المسمون بالصابئة من اهل واسط وحران فما هم الصابئون المذكورون في القرآن وكان مع هذه الضلالة يتولى من شهد لمحمد بالنبوة من اهل الكتاب وان لم يدخل في دينه وسماهم بذلك مؤمنين وعلى هذا القول يجب ان يكون العيسوية والرعيانية من اليهود مؤمنين لانهم أقروا بنبوة محمد عليه السلام ولم يدخلوا في دينه.
وليس بجائز ان يعد في فرق الاسلام من يعد اليهود من المسلمين وكيف يعد من فرق الاسلام من يقول بنسخ شريعة الاسلام.
{الفصل السادس عشر}
من فصول هذا الباب
فى ذكر الميمونية من الخوارج وبيان خروجهم عن فرق الاسلام
هؤلاء اتباع رجل من الخوارج الشخرية كان اسمه ميمونا وكان على مذهب العجاردة من الخوارج ثم انه خالف العجاردة فى الارادة والقدر والاستطاعة وقال في هذه الابواب الثلاثة بقول القدرية المعتزلة عن الحق وزعم مع ذلك أن أطفال المشركين فى الجنة.
ولو بقى ميمون هذا على البدع التى حكيناها عنه ولم يزد عليها ضلالة سواها لنسبناه الى الخوارج لقوله بتكفير على وطلحة والزبير وعائشة وعثمان وقوله بتكفير أصحاب الذنوب والى القدرية لقوله فى باب الارادة والقدر والاستطاعة بأقوال القدرية فيها.(12/182)
ولكنه زاد على القدرية وعلى الخوارج بضلالة اشتقها من دين المجوس وذلك أنه أباح نكاح بنات الاولاد من الاجداد وبنات أولاد الاخوة والاخوات وقال انما ذكر الله تعالى فى تحريم النساء بالنسب الامهات والبنات والاخوات والعمات والخالات وبنات الاخ وبنات الاخوات ولم يذكر بنات البنات ولا بنات البنين ولا بنات أولاد الاخوة ولا بنات أولاد الاخوات فان طرد قياسه فى امهات الامهات وامهات الآباء والأجداد المخض فى المجوسية وان لم يجر نكاح الجدات وقاس الجدات على الامهات لزمه قياس بنات الاولاد على بنات الصلب وان لم يطرد قياسه فى هذا الباب نقض اعتلاله.
وحكى الكرابيسى عن الميمونية من الخوارج انهم انكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن ومنكر بعض القرآن كمنكر كله.
ومن استحل بعض ذوات المحارم فى حكم المجوس ولا يكون المجوسى معدودا فى فرق الاسلام.
{الفصل السابع عشر}
من فصول هذا الباب
فى ذكر الباطنية وبيان خروجهم عن جميع فرق الاسلام
اعلموا اسعدكم الله ضرر الباطنية على فرق المسلمين اعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوز عليهم بل اعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم بل اعظم من ضرر الدجال الذى يظهر في آخر الزمان لأن الذين ضلوا عن الدين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم الى يومنا اكثر من الذين يضلون بالدجال فى وقت ظهوره لان فتنة الدجال لا تزيد مدتها على اربعين يوما وفضائح الباطنية اكثر من عدد الرمل والقطر.(12/183)
وقد حكى أصحاب المقالات أن الذين أسسوا دعوة الباطنية جماعة منهم ميمون بن ديصان المعروف بالقداح وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق وكان من الاهواز ومنهم محمد بن الحسين الملقب بذيذان وميمون بن ديصان فى سجن والى العراق اسسوا فى ذلك السجن مذاهب الباطنية ثم ظهرت دعوتهم بعد خلاصهم من السجن من جهة المعروف بذيذان وابتدأ بالدعوة من ناحية فدخل فى دينه جماعة من اكراد الجيل مع اهل الجبل المعروف بالبدين ثم رحل ميمون بن ديصان الى ناحية المغرب وانتسب فى تلك الناحية الى عقيل بن ابى طالب وزعم انه من نسله فلما دخل فى دعوته قوم من غلاة الرفض والحلولية منهم ادعى انه من ولد محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق فقيل الاغبياء ذلك منه على أصحاب الانتساب بان محمد بن اسماعيل بن جعفر مات ولم يعقب عند علماء الأنساب.
ثم ظهر فى دعوته الى دين الباطنية رجل يقال له حمدان قرمط لقب بذلك لقرمطه فى خطه او فى خطوه وكان فى ابتداء أمره اكارا من اكرة سواد الكوفة واليه تنسب القرامطة.
ثم ظهر بعده فى الدعوة الى البدعة ابو سعيد الجنابى وكان من مستجيبة حمدان وتغلب على ناحية البحرين ودخل فى دعوته بنو سنير.
ثم لما تمادت الايام بهم ظهر المعروف منهم بسعيد بن الحسين ابن احمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان القداح فغير اسم نفسه ونسبه وقال لاتباعه أنا عبيد الله بن الحسن بن محمد بن اسماعيل ابن جعفر الصادق ثم ظهرت فتنته بالمغرب واولاده اليوم مستولون على أعمال مصر.
وظهر منهم المعروف بابن كرويه بن مهرويه الدندانى وكان من تلامذة حمدان قرمط وظهر مأمون اخو حمدان قرمط بارض فارس وقرامطة فارس يقال لهم المأمونية لاجل ذلك.
ودخل أرض الديلم رجل من الباطنية يعرف بابى حاتم فاستجاب له جماعة من الديلم منهم أسفار بن شرويه.(12/184)
وظهر بنيسابور داعية لهم يعرف بالشعرانى فقتل بها فى ولاية أبى بكر بن محتاج عليها وكان الشعرانى قد دعا الحسين بن على المروردى قام بدعوته بعده محمد بن احمد النسفى داعية أهل ما وراء النهر وابو يعقوب السجزلى المعروف ببندانه وصنف النسفى لهم كتاب المحصول وصنف لهم ابو يعقوب كتاب اساس الدعوة وكتاب تأويل الشرائع وكتاب كشف الاسرار وقتل النسفى والمعروف ببندانه على ضلالتهما.
وذكر أصحاب التواريخ أن دعوة الباطنية ظهرت أولا فى زمان المأمون وانتشرت فى زمان المعتصم وذكروا انه دخل فى دعوتهم الافشين صاحب جيش المعتصم وكان مراهنا لبابك الخرمى وكان الخرمى مستعصيا بناحية البدين وكان أهل جبله خرمية على طريقة المزدكية فصارت الخرمية مع الباطنية يدا واحدة واجتمع مع بابك من أهل البدين وممن انضم اليهم من الديلم مقدار ثلثمائة الف رجل وأخرج الخليفة لقتالهم الافشين فظنه ناصحا للمسلمين وكان فى سره مع بابك وتوانى فى القتال معه ودله على عورات عساكر المسلمين وقتل الكثير منهم ثم لحقت الأمداد بالافشين ولحق به محمد بن يوسف الثغرى وابو دلف القسم بن عيسى العجلى ولحق به بعد ذلك قواد عبد الله ابن طاهر واشتدت شوكة البابكية والقرامطة على عسكر المسلمين حتى بنوا لانفسهم البلدة المعروفة ببيرزند خوفا من بيان البابكية ودامت الحرب بين الفريقين سنين كثيرة الى ان أظفر الله المسلمين بالبابكية فأسر بابك وصلب بسر من رأى سنة ثلاث وعشرين ومائتين ثم اخذ أخوه اسحاق وصلب ببغداد مع المازيار صاحب المحمرة بطبرستان وجرجان ولما قتل بابك ظهر للخليفة غدر الافشين وخيانته للمسلمين فى حروبه مع بابك فامر بقتله وصلبه فصلب لذلك.(12/185)
وذكر اصحاب التواريخ ان الذين وضعوا اساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس وكانوا مائلين الى دين اسلافهم ولم يجسروا على إظهاره خوفا من سيوف المسلمين فوضع الأغمال منهم اساسا من قبلها منهم صار فى الباطن الى تفصيل اديان المجوس وتأولوا آيات القرآن وسنن النبى عليه السلام على موافقة اساسهم وبيان ذلك ان الثنوية زعمت ان النور والظلمة صانعان قديمان والنور منهما فاعل الخيرات والمنافع والظلام فاعل الشرور والمضار وان الاجسام ممتزجة من النور والظلمة وكل واحد منهما مشتمل على اربع طبائع وهى الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والاصلان الاولان مع الطبائع الاربع مدبرات هذا العالم وشاركهم المجوس في اعتقاد صانعين غير أنهم زعموا ان أحد الصانعين قديم وهو الاله الفاعل للخيرات والآخر شيطان محدث فاعل للشرور وذكر زعماء الباطنية فى كتبهم ان الاله خلق النفس فالاله هو الاول والنفس هو الثانى وهما مدبرا هذا العالم وسموهما الاول والثانى وربما سموهما العقل والنفس ثم قالوا انهما يدبران هذا العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الاول وقولهم ان الاول والثانى يدبران العالم هو بعينه قول المجوس باضافة الحوادث صانعين احدهما قديم والآخر محدث الا أن الباطنية عبرت عن الصانعين بالاول والثانى وعبر المجوس عنهما بيزدان وأهر من فهذا هو الذى يدور في قلوب الباطنية ووضعوا اساسا يؤدى اليه.
ولم يمكنهم إظهار عبادة الثيران فاحتالوا بأن قالوا للمسلمين ينبغى ان تجمر المساجد كلها وأن تكون فى كل مسجد مجمرة يوضع عليها الند والعود فى كل حال وكانت البرامكة قد زينوا للرشيد أن يتخذ فى جوف الكعبة مجمرة يتبخر عليها العود أبدا فعلم الرشيد أنهم أرادوا من ذلك عبادة النار فى الكعبة وأن تصير الكعبة بيت نار فكان ذلك أحد أسباب قبض الرشيد على البرامكة.(12/186)
ثم ان الباطنية لما تأولت اصول الدين على الشرك احتالت ايضا لتأويل أحكام الشريعة على وجوه تؤدى الى رفع الشريعة أو الى مثل أحكام المجوس والذى يدل على ان هذا مرادهم بتأويل الشريعة أنهم قد اباحوا لاتباعهم نكاح البنات والاخوات وأباحوا شرب الخمر وجميع اللذات.
ويؤكد ذلك ان الغلام الذى ظهر منهم بالبحر بن والاحساء بعد سليمان بن الحسين القرمطى سن لأتباعه اللواط وأوجب قتل الغلام الذى يمتنع على من يريد الفجور به وأمر بقطع يد من اطفأ نارا بيده وبقطع لسان من اطفأها بنفخة وهذا الغلام هو المعروف بابن أبى زكريا الطامى وكان ظهوره فى سنة تسع عشرة وثلثمائة وطالت فتنته الى أن سلط الله تعالى عليه من ذبحه على فراشه.
ويؤكد ما قلناه من ميل الباطنية الى دين المجوس أنا لا نجد على ظهر الارض مجوسيا إلا وهو مواد لهم منتظر لظهورهم على الديار يظنون أن الملك يعود اليهم بذلك وربما استدل أغمارهم على ذلك بما يرويه المجوس عن زرادشت أنه قال لكتتاسب ان الملك يزول عن الفرس الى الروم واليونانية ثم يعود الى الفرس ثم يزول عن الفرس الى العرب ثم يعود الى الفرس وساعده جاماسب المنجم على ذلك وزعم ان الملك يعود الى العجم لتمام الف وخمسمائة سنة من وقت ظهور زرادشت.(12/187)
وكان فى الباطنية رجل يعرف بأبى عبد الله العردى يدعى علم النحوم ويتعصب للمجوس وصنف كتابا وذكر فيه ان القرن الثامن عشر من مولد محمد يوافق الالف العاشر وهو نوبة المشترى والقوس وقال عند ذلك يخرج انسان يعيد الدولة المجوسية ويستولى على الارض كلها وزعم انه يملك مدة سبع قرانات وقالوا قد تحقق حكم زرادشت وجاماسب فى زوال ملك العجم الى الروم واليونانية فى ايام الاسكندر ثم عاد الى العجم بعد ثلثمائة سنة ثم زال بعد ذلك ملك العجم الى العرب وسيعود الى العجم لتمام المدة التى ذكرها جاما سب وقد وافق الوقت الذى ذكروه ايام المكتفى والمقتدر وأخلف موعدهم وما رجع الملك فيه الى المجوس وكانت القرامطة قبل هذا الميقات يتواعدون فيما بينهم ظهور المنتظر فى القران السابع فى المثلثة النارية.
وخرج منهم سليمان بن الحسين من الاحياء على هذه الدعوى وتعرض للحجيج وأسرف فى القتل منهم ثم دخل مكة وقتل من كان فى الطواف وأغار على استار الكعبة وطرح القتلى فى بئر زمزم وكسر عساكر كثيرة من عساكر المسلمين وانهزم فى بعض حروبه الى هجر فكتب للمسلمين قصيدته يقول فيها:
أغركم منى رجوعى الى هجر عما قليل سوف يأتيكم الخبر
اذا طلع المريخ فى ارض بابل وقارنه النجمات فالحذر الحذر
ألست أنا المذكور فى الكتب كلها ألست أنا المبعوث فى سورة الزمر
سأملك أهل الأرض شرقا ومغربا الى قيروان الروم والترك والخزر
واراد بالنجمين زحل والمشترى وقد وجد هذا القران فى سنى ظهوره ولم يملك من الارض شيئا غير بلدته التى خرج منها وطمع فى ان يملك سبع قرانات وما ملك سبع سنين بل قتل بهيت رمته امرأة من سطحها بلبنة على رأسه فدمغته وقتيل النساء أخس قتيل واهون فقيد.(12/188)
وفى آخر سنة ألف ومائتين واربعين للاسكندر تم من تاريخ زرادشت ألف وخمسائة سنة وما عاد فيها ملك الارض الى المجوس بل اتسع بعدها نطاق الاسلام فى الأرض وفتح الله تعالى للمسلمين بعدها بلاد بلا ساعون وارض التيب واكثر نواحى الصين ثم فتح لهم بعدها جميع ارض الهند من لمفات الى قنوح وصارت أرض الهند الى سيتر سيقا بحرها من رقعة الاسلام فى أيام أمين الدولة أمين الملة محمود بن سبكتين رحمه الله وفى هذا زعم انوف الباطنية والمجوس الجاماسبية الذين حكموا بعود الملك اليهم فذاقوا وبال أمرهم وكان عاقبة امانيهم بوارا لهم بحمد الله ومنه.
ثم ان الباطنية خرج منهم عبيد الله بن الحسن بناحية القيروان وخدع قوما من كتامه وقوما من المصامدة وشرذمة من أغنام بربر بحبل ونيرنجات آظهرها لهم كروية الخيالات بالليل من خلف الرداء والازار وظن الاغمار أنها معجزة له فتبعوه لاجلها على بدعته فاستولى بهم على بلاد المغرب ثم خرج المعروف منهم بابى سعيد الحسين بن بهرام على أهل الاحساء والقطيف والبحرين فأتى باتباعه على اعدائه وسبى نساءهم وذراريهم واحرق المصاحف والمساجد ثم استولى على هجر وقتل رجالها واستعبد ذراريهم ونساءهم ثم ظهر المعروف منهم بالصناديقى باليمن وقتل الكثير من اهلها حتى قتل الاطفال والنساء وانضم اليه المعروف منهم بابن الفضل فى اتباعه ثم ان الله تعالى سلط عليهما وعلى اتباعهما الاكلة والطاعون فماتوا بهما.(12/189)
ثم خرج بالشام حفيد لميمون بن ديصان يقال له ابو القاسم بن مهرويه وقالا لمن تبعهما هذا وقت ملكنا وكان ذلك سنة تسع وثمانين ومائتين فقصدهم سبك صاحب المعتضد فقتلوا سبكا فى الحرب ودخلوا مدينة الرصافة واحرقوا مسجدها الجامع وقصدوا بعد ذلك دمشق فاستقبلهم الحمامى غلام بن طيون وهزمهم الى الرقة فخرج اليهم محمد بن سليمان كاتب المكتفى فى جند من اجناد المكتفى فهزمهم وقتل منهم الالوف فانهزم الحسن بن زكريا بن مهرويه الى الرملة فقبض عليه والى الرملة فبعث به وبجماعة من اتباعه الى المكتفى فقتلهم ببغداد فى الشارع باشد عذاب.
ثم انقطعت بقتلهم شوكة القرامطة الى سنة عشر وثلثمائة.
وظهر بعدها فتنة سليمان بن الحسن فى سنة احدى عشرة وثلثمائة فانه كبس فيها البصرة وقتل اميرها سبكا المقلجى ونقل اموال البصرة الى البحرين.
وفى سنة اثنتى عشرة وثلثمائة وقع على الحجيج فى المتهيبر لعشر بقين من المحرم وقتل اكثر الحجيج وسبى الحرم والذرارى ثم دخل الكوفة فى سنة ثلاث عشرة وثلثمائة فقتل الناس وانتهب الاموال.
وفى سنة خمس عشرة وثلثمائة حارب ابن أبى الساج وأسره وهزم أصحابه.
وفى سنة سبع عشرة وثلثمائة دخل مكة وقتل من وجده فى الطواف وقيل انه قتل بها ثلاثة آلاف وأخرج منها سبعمائة بكر واقتلع الحجر الاسود وحمله الى البحرين ثم ردفها الى الكوفة ورد بعد ذلك من الكوفة الى مكة على يد ابى إسحاق إبراهيم بن محمد ابن يحيى مزكي نيسابور فى سنة تسع وعشرين وثلثمائة.
وقصد سليمان ابن الحسن بغداد فى سنة ثمانى عشرة وثلثمائة فلما ورد هيت رمته امرأة من سطحها بلبنة فقتلته وانقطعت بعد ذلك شوكة القرامطة وصاروا بعد قتل سليمان بن الحسن مبدرقين للحجيج من الكوفة والبصرة الى مكة فحضاة ومال مضمون لهم إلى ان غلبهم الأصغر العقيلى على بعض ديارهم.(12/190)
وكانت ولاية مصر واعمالها للاخشادية وانضم بعضهم الى ابن عبيد الله الباطنى الذى كان قد استولى على قيروان ودخلوا مصر فى سنة ثلاث وستين وثلثمائة وابتنوا بها مدينة سموها القاهرة يسكنها اهل بدعته واهل مصر ثابتون على السنة الى يومنا وان اطاعوا صاحب القاهرة فى اداء خراجهم اليه.
وكان ابو شجاع فناخسرو بن بويه قد تأهب لقصد مصر وانتزاعها من ايدي الباطنية وكتب على اعلامه بالسواد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين الطائع لله أمير المؤمنين ادخلوا مصر ان شاء الله آمنين وقال قصيدة أولها:
أما ترى الاقدار لى طوائعا قواضيا لى بالعيان كالخبر
ويشهد الانام لى بأنى ذاك الذى يرجى وذاك المنتظر
لنصرة الاسلام والداعي الى خليفة الله الإمام المفتخر
فلما خرج مضاربه للخروج الى مصر غامضه الاجل فمضى لسبيله فلما قضى فناخسرو نحبه طمع زعيم مصر فى ملوك نواحى الشرق فكاتبهم يدعوهم الى البيعة له فاجاب قابوس بن وشمكين عن كتابه بقوله انى لا اذكرك الا على المستراح وأجابه ناصر الدولة ابو الحسن محمد بن ابراهيم بن سيمجور بان كتب على ظهر كتابه اليه {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون} الى آخر السورة وأجابه نوح بن منصور والى خراسان بقتل دعاته الى بدعته ودخل فى دعوته بعض ولاة الجرجانية من ارض خوارزم فكان دخوله فى دينه شؤما عليه فى ذهاب ملكه وقتله اصحابه ثم استولى يمين الدولة وامين الملة محمود بن سبكتكين على ارضهم وقتل من كان بها من دعاة الباطنية وكان ابو على بن سيمجور قد وافقهم فى السر فذاق وبال امره في ذلك وقبض عليه والى خراسان نوح بن منصور وبعث به الى سبكتكين فقتل بناحية غزنه.(12/191)
وكان ابو القسم الحسن بن على الملقب بد الشمند داعية ابى على بن سيمجور الى مذهب الباطنية وظفر به بكفوزن صاحاحب جيش السامانية بنيسابور فقتله ودفن فى مكان لا يعرف.
وكان اميرك الطوسى والى ناحية ثارويه قد دخل فى دعوة الباطنية فأسر وحمل الى غزته وقتل بها فى الليلة التى قتل فيها ابو على بن سيمجور.
وكان اهل مولتان من ارض الهند داخلين فى دعوة الباطنية فقصدهم محمود رحمه الله فى عسكره وقتل منهم الالوف وقطع ايدى ألف منهم وباد بذلك نصراء الباطنية من تلك الباطنية ومن هذا بيان شؤم الباطنية على منتحليها فليعتبر بذلك المعتبرون.
وقد اختلف المتكلمون فى بيان اغراض الباطنية فى دعوتها الى بدعتها.
فذهب اكثرهم الى ان غرض الباطنية الدعوة الى دين المجوس بالتأويلات التى يتأولون عليها القرآن والسنة واستدلوا على ذلك بان زعيمهم الاول ميمون بن ديصان كان مجوسيا من سبى الاهواز ودعا ابنه عبد الله بن ميمون الناس الى دين ابيه واستدلوا ايضا بان داعيهم المعروف بالبزدي قال فى كتابه المعروف بالمحصول ان المبدع الأول أبدع النفس ثم إن الأول والثانى مدبر العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأربع وهذا فى التحقيق معنى قول المجوس ان أليزدان خلق اهرمن وانه مع اهرمن مدبران للعالم غير ان أليزدان فاعل الخيرات واهرمن فاعل الشرور.
ومنهم من نسب الباطنية الى الصابئين الذين هم بحران واستدل على ذلك بان حمدان قرمط داعية الباطنية بعد ميمون بن ديصان كان من الصابئة الحرانية واستدل ايضا بان صابئة حران يكتمون اديانهم ولا يظهرونها إلا لمن كان منهم والباطنية ايضا لا يظهرون دينهم الا لمن كان منهم بعد احلافهم اياه على ان لا يذكر اسرارهم لغيرهم.
قال عبد القاهر الذى يصح عندي من دين الباطنية انهم دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع كلها لميلها الى استباحة كل ما يميل اليه الطبع.(12/192)
والدليل على انهم كما ذكرناه ما قرأته في كتابهم المترجم بالسياسة والبلاغ الاكيد والناموس الاعظم وهي رسالة عبيد الله بن الحسن القيرواني الى سليمان بن الحسن بن سعيد الجناني اوصاه فيها بان قال له ادع الناس بان تتقرب اليهم بما يميلون اليه وأوهم كل واحد منهم بأنك منهم فمن انست منه رشدا فاكشف له الغطاء واذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به فعلى الفلاسفة معولنا وانا وإياهم مجمعون على ان نواميس الانبياء وعلى القول بقدم العالم لو ماما يخالفنا فيه بعضهم من ان للعالم مدبرا لا يعرفه.
وذكر فى هذا الكتاب إبطال القول بالمعاد والعقاب وذكر فيها ان الجنة نعيم الدنيا وان العذاب انما هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والحج والجهاد.
وقال ايضا فى هذه الرسالة إن اهل الشرائع يعبدون إلها لا يعرفونه ولا يحصلون منه إلا على اسم بلا جسم.
وقال فيها ايضا اكرم الدهرية فانهم منا ونحن منهم وفى هذا تحقيق نسبة الباطنية الى الدهرية والذى يؤكد هذا ان المجوس يدعون نبوة زرادشت ونزول الوحي عليه من الله تعالى والصائبين يدعون نبوة هرمس وواليس ودوروتيوس وافلاطن وجماعة من الفلاسفة وسائر اصحاب الشرائع كل صنف منهم مقرون بنزول الوحي من السماء على الذين اقروا بنبوتهم ويقولون ان ذلك الوحى شامل للامر والنهى والخبر عن عاقبة بعد الموت وعن ثواب وعقاب وجنه ونار يكون فيها الجزاء عن الاعمال السالفة والباطنية يرفضون المعجزات وينكرون نزول الملائكة من السماء بالوحى والامر والنهى بل ينكرون ان يكون فى السماء ملك وانما يتأولون الملائكة على دعائهم الى بدعتهم ويتأولون الشياطين على مخالفيهم والابالسة على مخالفيهم.(12/193)
ويزعمون ان الانبياء قوم أحبوا الزعامة فساسوا العامة بالنواميس والحيل طلبا للزعامة بدعوى النبوة والامامة وكل واحد منهم صاحب دور مسبع اذا انقضى دوره سبعة تبعهم فى دور آخر واذا ذكروا النبى والوحى قالوا ان النبى هو الناطق والوحى اساسه الفاتق والى الفاتق تأويل نطق الناطق على ما تراه يميل اليه هواه فمن صار الى تأويله الباطن فهو من الملائكة البرره ومن عمل بالظاهر فهو من الشياطين الكفرة.
ثم تأولوا لكل ركن من اركان الشريعة تأويلا يورث تضليلا فزعموا ان معنى الصلاة موالاة امامهم والحج زيارته وادمان خدمته والمراد بالصوم الامساك عن افشاء سر الامام دون الامساك عن الطعام والزنى عندهم افشاء سرهم بغير عهد وميثاق.
وزعموا ان من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها وتأولوا فى ذلك قوله {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} وحملوا اليقين على معرفة التأويل.
وقد قال القيروانى في رسالته الى سليمان بن الحسن انى اوصيك بتشكيك الناس فى القرآن والتوراة والزبور والانجيل وبدعوتهم الى ابطال الشرائع والى ابطال المعاد والنشور من القبور وابطال الملائكة فى السماء وابطال الجن فى الارض واوصيك بان تدعوهم الى القول بانه قد كان قبل آدم بشر كثير فان ذلك عون لك على القول بقدم العالم.
وفى هذا تحقيق دعوانا على الباطنية انهم دهرية يقولون بقدم العالم ويجحدون الصانع ويدل على دعوانا عليهم القول بابطال الشرائع ان القيروانى قال أيضا فى رسالته الى سليمان بن الحسن وينبغى ان تحيط علما بمخاريق الانبياء ومناقضاتهم فى اقوالهم كعيسى بن مريم قال لليهود لا ارفع شريعة موسى ثم رفعها بتحريم الاحد بدلا من السبت واباح العمل فى السبت وابدل قبلة موسى بخلاف جهتها ولهذا قتلته البلاد لما اختلفت كلمته.(12/194)
ثم قال له ولا تكن كصاحب الامة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال الروح من امر ربى لما لم يحضره جواب المسألة ولا تكن كموسى فى دعواه التى لم يكن له عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعبذة ولما لم يجد المحق فى زمانه عنده برهانا قال له لئن اتخذت إلها غيرى وقال لقومه انا ربكم الاعلى لانه كان صاحب الزمان فى وقته.
ثم قال فى آخر رسالته وما العجب من شىء كالعجب من رجل يدعى العقل ثم يكون له اخت او بنت حسناء وليست له زوجة فى حسنها فيحرمها على نفسه وينكحها من اجنبى ولو عقل الجاهل لعلم انه أحق باخته وبنته من الاجنبى ما وجه ذلك الا ان صاحبهم حرم عليهم الطيبات وخوفهم بغائب لا يعقل وهو الاله الذى يزعمونه واخبرهم بكون مالا يرونه ابدا من البعث من القبور والحساب والجنة والنار حتى استعبدهم بذلك عاجلا وجعلهم له فى حياته ولذريته بعد وفاته خولا واستباح بذلك بقوله {لا اسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى} فكان امره معهم نقدا وأمرهم معه نسيئة وقد استعجل منهم بدل ارواحهم واموالهم على انتظار موعد لا يكون وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها وهل النار وعذابها إلا ما فيه اصحاب الشرائع من التعب والنصب فى الصلاة والصيام والجهاد والحج.
ثم قال لسليمان بن الحسن فى هذه الرسالة وانت واخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس وفى هذه الدنيا ورثتم نعيمها ولذاتها المحرمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع اصحاب النواميس فهنيئا لكم ما نلتم من الراحة عن امرهم.
وفى هذا الذى ذكرناه دلالة على ان غرض الباطنية القول بمذاهب الدهرية واستباحة المحرمات وترك العبادات.
ثم ان الباطنية لهم فى اصطياد الاغنام ودعوتهم الى بدعتهم حيل على مراتب سموها التفرس والتأنيس والتشكيك والتعليق والربط والتدليس والتأسيس والمواثيق بالايمان والعهود وآخرها الخلع والسلخ.(12/195)
فاما التفرس فانهم قالوا من شرط الداعى الى بدعتهم ان يكون قويا على التلبيس وعارفا بوجوه تأويل الظواهر ليردها الى الباطن ويكون مع ذلك مخبرا بين من يجوز من يطمع فيه وفى اغوائه وبين من لا مطمع فيه ولهذا قالوا فى وصاياهم للدعاة الى بدعتهم لا تتكلموا فى بيت فيه سراج بعنون بالسراج من يعرف علم الكلام ووجوه النظر والمقاييس وقالوا ايضا لدعاتهم لا تطرحوا بذركم فى ارض سبخة وارادوا بذلك منع دعاتهم عن اظهار بدعتهم عند من لا يؤثر فيهم بدعتهم كما لا يؤثر البذر فى الارض السبخة شيئا وسموا قلوب اتباعهم الاغنام ارضا زاكية لانها تقبل بدعتهم وهذا المثل بالعكس اولى وذلك ان القلوب الزاكية هى القابلة للدين القويم والصراط المستقيم وهى التى لا تصدأ بشبه اهل الضلال كالذهب الابريز الذى لا يصدأ فى الماء ولا يبلى فى التراب ولا ينقص فى النار والارض السبخة كقلوب الباطنية وسائر الزنادقة الذين لا يزجرهم عقل ولا يردعهم شرع منهم ارجاس أنجاس أموات غير أحياء {ان هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا} قد قسم لهم الحظ من الرزق من قسم رزق الخنازير فى مراعيها وأباح طعمه العنب فى براريها {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}.
وقالوا ايضا من شرط الداعى الى مذهبهم ان يكون عارفا بالوجوه التي تدعى بها الاصناف فليست دعوة الاصناف من وجه واحد بل لكل صنف من الناس وجهه يدعى منه الى مذهب الباطن.
فمن رآه الداعى مائلا الى العبادات حمله على الزهد والعبادة ثم سأله عن معانى العبادات وعلل الفرائض وشككه فيها.
ومن رآه ذا مجون وخلاعة قال له العبادة باله وحماقته وانما الفطنة فى نيل اللذات وتمثل له بقول الشاعر:
من راقب الناس مات هما وفاز باللذة الجسور
ومن رآه شكا فى دينه او فى المعاد والثواب والعقاب صرح له بنفى ذلك وحمله على استباحة المحرمات واستروح معه الى قول الشاعر الماجن:(12/196)
أأترك لذة الصهباء صرفا لما وعدوه من لحم وخمر
حياة ثم موت ثم نشر حديث خرافة يا ام عمرو
ومن رآه من غلاة الرافضة كالسبابية والبيانية والمغيرية والمنصورية والخطابية لم يحتج معه الى تأويل الآيات والاخبار لانهم يتأولونها معهم على وفق ضلالتهم.
ومن رآه من الرافضة زيديا او اماميا مائلا الى الطعن فى اخبار الصحابة دخل عليه من جهة شتم الصحابة وزين له بغض بنى تيم لأن ابا بكر منهم وبغض بنى عدى لان عمر بن الخطاب كان منهم وحثه على بغض بنى أمية لانه كان منهم عثمان ومعاوية وربما استروح الباطنى فى عصرنا هذا الى قول اسماعيل بن عباد:
دخول النار فى حب الوصى وفى تفضيل أولاد النبى
أحب الى من جنات عدن اخلدها بتيم أو عدى
قال عبد القاهر قد أجبنا هذا القائل بقولنا فيه:
أتطمع فى دخول جنات عدن وأنت عدو تيم أو عدى
وهم تركوك أشقى من ثمود وهم تركوك أفضح من دعى
وفى نار الجحيم غدا ستصلى اذا عاداك صديق النبي
ومن رآه الداعى مائلا الى أبى بكر وعمر مدحهما عنده وقال لهما حظ فى تأويل الشرعية ولهذا استصحب النبى أبا بكر الى الغار ثم الى المدينة وأفضى اليه فى الغار تأويل شريعته فاذا سأله الموالى لأبى بكر وعمر عن التأويل المذكور لأبى بكر وعمر اخذ عليه العهود والمواثيق فى كتمان ما يظهره له ثم ذكر له على التدريج بعض التأويلات فان قبلها منه اظهر له الباقى وان لم يقبل منه التأويل الاول ربطه فى الباقى وكتمه عنه وشك الغر من أجل ذلك فى اركان الشريعة.
والذين يروج عليهم مذهب الباطنية أصناف احدها العامة الذين قتلت بصائرهم بأصول العلم والنظر كالنبط والاكراد وأولاد المجوس.
والصنف الثانى الشعوبية الذين يرون تفضيل العجم على العرب ويتمنون عود الملك الى العجم.(12/197)
والصنف الثالث اغنام بنى ربيعة من اجل غيظهم على مضر لخروج النبى منهم ولهذا قال عبد الله بن خازم السلمى فى خطبته بخراسان ان ربيعة لم تزل غضابا على الله مذ بعث نبيه من مضر ومن أجل حسد ربيعة لمضر بايعت بنو حنيفة مسيلمة الكذاب طمعا فى ان يكون فى بنى ربيعة نبى كما كان من بنى مضر نبى فاذا استأنس الاعجمى الغر او الربعى الحاسد المطز يقول الباطنى له قومك أحق بالملك من مضر سأله عن السبب فى عود الملك الى قومه فاذا سأله عن ذلك قال له ان الشريعة المضرية لها نهاية وقد دنا انقضاؤها وبعد انقضائها يعود الملك اليكم ثم ذكر له تأويل إنكار شريعة الاسلام على التدريج فاذا قبل ذلك منه صار ملحدا خرسا واستثقل العبادات واستطاب استحلال المحرمات فهذا بيان درجة التفرس منهم.
ودرجة التأنيس قربية من درجة التفرس عندهم وهى تزيين ما عليه الانسان من مذهبه فى عينه ثم سؤاله بعد ذلك عن تأويل ما هو عليه وتشكيكه اياه فى اصول دينه فاذا سأله المدعو عن ذلك قال علم ذلك عند الامام ووصل بذلك منه الى درجة التشكيك حتى صار المدعو الى اعتقاد ان المراد بالظواهر والسنن غير مقتضاها فى اللغة وهان عليه بذلك ارتكاب المحظورات وترك العبادات.
والربط عندهم تعليق نفس المدعو بطلب تأويل اركان الشريعة فإما ان يقبل منهم تأويلها على وجه يؤول الى رفعها وإما ان يبقى على الشك والحيرة فيها.(12/198)
ودرجة التدليس منهم قولهم للغر الجاهل بأصول النظر والاستدلال ان الظواهر عذاب وباطنها فيه الرحمة وذكر له قوله فى القرآن {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} فاذا سألهم الغر عن تأويل باطن الباب قالوا جرت سنة الله تعالى فى أخذ العهد والميثاق على رسله ولذلك قال {واذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} وذكروا له قوله {ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون} فاذا حلف الغر لهم بالايمان المغلظة وبالطلاق والعتق وبسبيل الاموال فقد ربطوه بها وذكروا له من تأويل الظواهر ما يؤدى الى رفعها بزعمهم فان قبل الاحمق ذلك منهم دخل فى دين الزنادقة باطلا واستتر بالاسلام ظاهرا وان نفر الحالف عن اعتقاد تأويلات الباطنية الزنادقة كتمها عليهم لانه قد حلف لهم على كتمان ما اظهروه لهم من اسرارهم واذا قبلها منهم فقد حلفوه وسلخوه عن دين الاسلام وقالوا له حينئذ ان الظاهر كالقشر والباطن كاللب واللب خير من القشر.
قال عبد القاهر حكى له بعض من كان دخل فى دعوة الباطنية ثم وفقه الله تعالى لرشده وهداه الى حل ايمانهم أنهم لما وثقوا منه بايمانه قالوا له ان المسمين بالانبياء كنوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد وكل من ادعى النبوة كانوا أصحاب نواميس ومخاريق احبوا الزعامة على العامة فخدعوهم بنيرنجات واستعبدوهم بشرائعهم.(12/199)
قال هذا الحاكى لى ثم ناقض الذى كشف لى هذا السر بان قال له ينبغى أن تعلم أن محمد بن اسماعيل بن جعفر هو الذى نادى موسى بن عمران من الشجرة فقال له {إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى} قال فقلت سخنت عينك تدعونى الى الكفر برب قديم الخالق للعالم ثم تدعونى مع ذلك الى الاقرار بربوبية انسان مخلوق وتزعم انه كان قبل ولادته الها مرسلا لموسى فان كان موسى عندك رازقا فالذى زعمت انه ارسله اكذب فقال لى انك لا تفلح أبدا وندم على افشاء اسراره الى وتبت من بدعتهم.(12/200)
فهذا بيان وجه حيلهم على اتباعهم وأما ايمانهم فان داعيهم يقول للحالف جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسله وما أخذ الله تعالى من النبيين من عهد وميثاق انك تستر ما تسمعه منى وما تعلمه من امرى ومن أمر الامام الذى هو صاحب زمانك وأمر أشياعه واتباعه فى هذا البلد وفى سائر البلدان وامر المطيعين له من الذكور والاناث فلا تظهر من ذلك قليلا ولا كثيرا ولا تظهر شيئا يدل عليه من كتابة او اشارة إلا ما أذن لك فيه الامام صاحب الزمان او أذن لك فى اظهاره المأذون له فى دعوته فتعمل فى ذلك حينئذ بمقدار ما يؤذن لك فيه وقد جعلت على نفسك الوفاء بذلك وألزمته نفسك فى حالتى الرضاء والغضب والرغبة والرهبة قال نعم فاذا قال نعم قال له وجعلت على نفسك أن تمنعنى وجميع من اسميه لك مما تمنع منه نفسك بعهد الله تعالى وميثاقه عليك وذمته وذمة رسله وتنصحهم نصحا ظاهرا وباطنا وألا تخون الامام وأولياءه واهل دعوته فى أنفسهم ولا فى أموالهم وأنك لا تتأول فى هذه الايمان تأويلا ولا تعتقد ما يحلها وإنك إن فعلت شيئا من ذلك فانت برىء من الله ورسله وملائكته ومن جميع ما أنزل الله تعالى من كتبه وانك ان خالفت فى شىء مما ذكرناه لك فلله عليك ان تحج الى بيته مائة حجة ماشيا نذرا واجبا وكل ما تملكه فى الوقت الذى أنت فيه صدقة على الفقراء والمساكين وكل مملوك يكون فى ملكك يوم تخالف فيه او بعده يكون حرا وكل امرأة لك الآن او يوم مخالفتك او تتزوجها بعد ذلك تكون طالقا منك ثلاث طلقات والله تعالى الشاهد على نيتك وعقد ضميرك فيما حلفت به فاذا قال نعم قال له كفى بالله شهيدا بيننا وبينك فاذا حلف الغر بهذه الايمان ظن انه لا يمكن حلها ولن يعلم الغر انه ليس لايمانهم عندهم مقدار ولا حرمة وانهم لا يرون فيها ولا فى حلها إثما ولا كفارة ولا عارا ولا عقابا فى الآخرة وكيف يكون لليمين بالله وبكتبه ورسله عندهم حرمة وهم لا يقرون بإله قديم بل(12/201)
يقرون بحدوث العالم ولا يثبتون كتابا منزلا من السماء ولا رسولا ينزل عليه الوحي من السماء وكيف يكون لايمان المسلمين عندهم حرمة ومن دينهم أن الله الرحمن الرحيم انما هو زعيمهم الذي يدعو اليه ومن مال منهم الى دين المجوس زعم أن الإله نور بازائه شيطان قد غلبه ونازعه فى ملكه وكيف يكون لنذر الحج والعمرة عندهم مقدار وهم لا يرون للكعبة مقدارا ويسخرون بمن يحج ويعتمر وكيف يكون للطلاق عندهم حرمة وهم يستحلون كل امرأة من غير عقد فهذا بيان حكم الايمان عندهم
فأما حكم الايمان عند المسلمين فإنا نقول كل يمين يحلف بها الحالف ابتداء بطوع نفسه فهو على نيته وكل يمين يحلف بها عند قاض او سلطان يحلفه ينظر فيها فان كانت يمينا فى دعوى لمدع شيئا على الحالف المنكر وكان المدعى ظالما للمدعى عليه فيمن الحالف على نيته وان كان المدعى محقا والمنكر ظالما للمدعى فيمين المنكر على نية القاضى او السلطان الذي أحلفه ويكون الحالف خائنا فى يمينه.
واذا صحت هذه المقدمة فالباحث عن دين الباطنية اذا قصد اظهار بدعتهم للناس او اراد النقض عليهم معذور فى يمينه وتكون يمينه على نيته فاذا استثنى بقلبه مشيئة الله تعالى فيها لم ينعقد عليه ايمانه ولم يحنث فيها باظهاره أسرار الباطنية للناس ولم تطلق نساؤه ولا تعتق مماليكه ولا تلزمه صدقة بذلك وليس زعيم الباطنية عند المسلمين إماما ومن اظهر سره لم يظهر سر امام وانما اظهر سر كافر زنديق وقد جاء فى ذكر الحديث المأثور اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس فهذا بيان حيلتهم على الاغمار بالايمان.(12/202)
فاما احتيالهم على الأغمار بالتشكيك فمن جهة أنهم يسألونهم عن مسائل من احكام الشريعة يوهمونهم فيها خلاف معانيها الظاهرة وربما سألوهم عن مسائل فى المحسوسات يوهمون ان فيها علوما لا يحيط بها إلا زعيمهم فمن مسائلهم قول الداعى منهم للغر لم صار للانسان أذنان ولسان واحد ولم صار للرجل ذكر واحد وخصيتان ولم صارت الأعصاب متصلة لدماغ والأوراد متصلة بالكبد والشرايين متصلة بالقلب ولم صار الانسان مخصوصا بنبات الشعر على جفنيه الأعلى والاسفل وسائر الحيوان ينبت الشعر على جفنه الأعلى دون الاسفل ولم صار ثدى الانسان على صدره وثدى البهائم على بطونها ولماذا لم يكن للفرس غدد ولا كرش ولا كعب وما الفرق بين الحيوان الذى يبيض ولا يلد ولا يبيض وبماذا يميز بين السمكة النهرية والسمكة البحرية ونحو هذا كثير يوهمون ان العلم بذلك عند زعيمهم.
ومن مسائلهم فى القرآن سؤالهم عن معاني حروف الهجاء فى أوائل السور كقوله الم وحم وطس وبس وطه وكهيعص وربما قالو ما معنى كل حرف من حروف الهجاء ولم صارت حروف الهجاء تسعة وعشرين حرفا ولم عجم بعضها بالنقط وخلا بعض من النقط ولم جاز وصل بعضها بما بعدها بحرف وربما للغر ما معنى قوله {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} ولم جعل الله تعالى أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة ؟ وما معنى قوله {عليها تسعة عشر} ومافائدة هذا العدد ؟ وربما سألوا عن آيات أوهموا فيها التناقض، وزعموا انه لا يعرف تأويلها الا زعيمهم، كقوله {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} مع قوله فى موضع آخر {فوربك لنسألنهم أجمعين}.(12/203)
ومنها مسائلهم فى أحكام الفقه كقولهم لم صارت صلاة الصبح ركعتين والظهر اربعا والمغرب ثلاثا ولم صار فى كل ركعة ركوع واحد وسجدتان ولم كان الوضوء على اربعة اعضاء والتيمم على عضوين ولم وجب الغسل من المنى وهو عند اكثر المسلمين طاهر ولم يجب الغسل من البول مع نجاسته عند الجميع ولم أعادت الحائض ما تركت من الصيام ولم تعد ما تركت من الصلاة ولم كانت العقوبة فى السرقة بقطع اليد وفى الزنى بالجلد وهلا قطع الفرج الذى به زنى فى الزنى كما قطعت اليد التى بها سرق فى السرقة فاذا سمع الغر منهم هذه الاسئلة ورجع اليهم فى تأويلها قالوا له علمها عند امامنا وعند المأذون له فى كشف أسرارنا فاذا تقرر عند الغر ان امامهم او ما دونه هو العالم بتأويله اعتقد ان المراد بظواهر القرآن والسنة غير ظاهرها فاخرجوه بهذه الحيلة عن العمل باحكام الشريعة فاذا اعتاد ترك العبادة واستحل المحرمات كشفوا له القناع وقالوا له لو كان لنا اله قديم غنى عن كل شىء لم يكن له فائدة فى ركوع العباد وسجودهم ولا فى طوافهم حول بيت من حجر ولا فى سعى بين جبلين فاذا قبل منهم ذلك فقد انسلخ عن توحيد ربه وصار جاحدا له زنديقا.
قال عبد القاهر والكلام عليهم فى مسائلهم التي يسألون عنها عند قصدهم الى تشكيك الاغمار فى اصول الدين من وجهين:(12/204)
أحدهما أن يقال لهم انكم لا تخلون من أحد أمرين اما أن تقروا بحدوث العالم وتثبتوا له صانعا قديما عالما حكيما يكون له تكليف عباده ما شاء كيف شاء وإما ان تنكروا ذلك وتقولوا بقدم العالم ونفى الصانع فان اعتقدتم قدم العالم ونفى الصانع فلا معنى لقولكم لم فرض الله كذا ولم حرم كذا ولم خلق كذا ولم جعل كذا على مقدار كذا اذا لم تقروا باله فرض شيئا أو حرمه او خلق شيئا او قدره ويصير الكلام بيننا وبينكم كالكلام بيننا وبين الدهرية فى حدوث العالم وإن أقررتم بحدوث العالم وتوحيد صانعه وأجزتم له تكليف عباده ما شاء من الاعمال كان جواز ذلك جوابا لكم عن قولكم لم فرض ولم حرم كذا لاقراركم بجواز ذلك منه إن أقررتم به ويجواز تكليفه وكذلك سؤالهم عن خاصية المحسوسات يبطل إن أقروا بصانع احدثها وان أنكرواالصانع فلا معنى لقولهم لم خلق الله ذلك مع انكارهم أن يكون لذلك صانع قديم.
والوجه الثانى من الكلام عليهم فيما سألوا عنه من عجائب خلق الحيوان ان يقال لهم كيف يكون زعماء الباطنية مخصوصين بمعرفة علل ذلك وقد ذكرته الاطباء والفلاسفة فى كتبهم وصنف ارسطا طاليس فى طبائع الحيوان كتابا وما ذكرت الفلاسفة من هذا النوع شيئا إلا مسروقا من حكماء العرب الذين كانوا قبل زمان الفلاسفة من العرب القحطانية والجرهمية والطسمية وسائر الاصناف الحميرية وقد ذكرت العرب فى اشعارها وأمثالها جميع طبائع الحيوان ولم يكن فى زمانها باطنى ولا زعيم للباطنية وإنما أخذ ارسطاطاليس الفرق بين ما يلد وما يبيض من قول العرب فى أمثالها كل شرقاء ولود وكل صكاء بيوض ولهذا كان الخفاش من الطير ولودا لا يبوضا لان لها أذنا شرقاء وكل ذات أذن صكاء بيوض كالحية والضب والطيور البائضة.(12/205)
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى وعبد الملك بن قريب الأصمعى أن العرب قالت بتحريمها فى الجاهلية أن كل حيوان لعينيه أهداب على الجفن الأعلى دون الاسفل لا الانسان فان اهدابه على الجفن الأعلى والاسفل وقالوا كل حيوان ألقى فى الماء يسبح فيه إلا الإنسان والقرد والفرس الاعسر فانه يغرق فيه إلا أن يتعلم الانسان السباحة.
وقالوا في الانسان انه اذا قطع رأسه وألقى فى الماء انتصب قائما فى وسط الماء وقالوا كل طائر كفه فى رجليه وكف الانسان والقرد فى اليد وكل ذى أربع ركبته فى يده وركبتا الانسان فى رجليه وقالوا ليس للفرس غدد ولا كرش ولا طحال ولا كعب وليس للبعير مرارة وليس للظليم مخ وكذلك طير الماء وحيتان البحر ليس لها ألسن ولا أدمغة وقد يكون حوت النهر ذا لسان ودماغ وقالوا ان السموك كلها لا رئة لها كذلك ولا تتنفس وقالت العرب من تجاربها ان الضأن تضع فى السنة مرة وتفرد ولا تتيم والماعز تضع فى السنة مرتين وتضع الواحدة والاثنتين والثلاثة والعدد والنماء والبركة فى الضأن اكثر منها فى الماعز وقالوا ايضا اذا رعت الضان نبتا وفصيلا نبت ولا ينبت ما يأكله الماعز لأن الضأن تقرضه بأسنانها والماعز تقلعه من أصله وقالوا ان الماعز اذا حملت انزلت اللبن اول الحمل الى الضرع والضائنية لا تنزل اللبن الا عند الولادة وقالوا إن اصوات الذكور من كل جنس أجهر من اصوات الاناث الا المعزى فان اصوات اناثها اجهر من اصوات ذكورها.(12/206)
ومن امثال العرب فى الحيوان فهو لهم كل ثور افطس وكل بعير اعلم وكل ذى ناب افرج وقالوا بالتجربة ان الاسد لا يأكل شيئا حامضا ولا يدنو من النار ولا يدنو من الحامض وقالوا ان حمل الكلب ستون يوما فان وضعت حملها لأقل من ذلك لم تكد اولادها تعيش وقالوا ان اناث الكلاب يحضن لسبعة اشهر ثم ان الكلبة تحيض فى كل سبعة ايام وعلامة حيضها ورم اثغارها وقالوا فى الكلب انه لا يلقى من اسنانه شيئا الا الثامن وقالوا فى الذئب انه ينام باجدى عينيه ويحترس بالاخرى ولذلك قال فيه حميد بن ثور:
ينام باحدى مقلتيه ويتقى باخرى المنايا فهو يقظان نائم
والارنب تنام مفتوحة العينين وقالوا ليس في الحيوان ما لسانه مقلوب الا الفيل وليس في ذوات الاربع ماثديه على صدره الا الفيل وقالوا ان الفيل تضع لسبع سنين والحمار لسنة والبقرة في ذلك كالمرأة وقالوا في قضيب الارنب والثعلب انه عظم وقالوا كل ذى رجلين اذا انكسرت احداهما قام على الاخرى وعرج الا الظليم فانه اذا انكسرت احدى رجليه جثم في مكانه ولهذا قال الشاعر فى نفسه واخيه:
فانى واياه كرجلى نعامة على ما بنامن ذى غنى وذى فقر
يريد لا غنى لأحدهما عن صاحبه وقالوا في النعامة أنها تبيض من ثلاثين بيضة الى اربعين لكنها تخرج ثلاثين منها تحضن عليها كخيط ممدود على الاستواء وربما تركت بيضها وحضنت بيض غيرها ولهذا قال فيها ابن هرمة:
كتاركة بيضها بالعرا وملبسة بيض اخرى جناحا(12/207)
وقالوا فى الفرج والفروج انهما يخلقان من البياض والصفرة غذاؤهما وقالوا فى القطا انها لا تضع الا فردا وفى العقاب انها تضع ثلاث بيضات فتخرج بيضتين وتطرح واحدة فيخرجها الطير المعروف بكاسى العظام ولهذا قيل فى المثل أبر من كاسى العظام وقالوا فى الضب انها تضع سبعين بيضة ولكنها ولكنها تأكل ما خرج من الحسولة عن البيض إلا الحسل الذى يعدو ويهرب منها ولهذا قالوا فى المثل أعق من ضب والضب لا يرد الماء ولهذا قالوا فى المثل اروى من ضب وقالوا في الضب إنه ذو ذكرين وللأنثى من الضباب فرجان من قبل وقالوا في الحية لها لسانان ولسانها اسود على اختلاف الوان قشرها والحيات كلها تكره ريح السذاب والبنفسج وتعجب بريح التفاح والبطيخ والجرو والخرذل واللبن والخمر وقالوا في الضفادع انها لا تصيح الا وفي افواهها الماء ولا تصيح في دجلة بحال وان صاحت في الفرات وسائر الانهار وقال الشاعر فى الضفدع:
يدخل في الاشداق ما ينضفه حتى ينق والنقيق يتلفه
يعنى ان نقيقها يدل عليها الحية فتصيدها فتأكلها وقالوا ان الضفادع لا عظام لها وقالوا في الجعل انه اذا دفن في الورد سكن كالميت فاذا اعيد الى الروث تحرك.
فهذا وما جرى مجراه من خواص الحيوانات وغيرها قد عرفته العرب في جاهليتها بالتجارب من غير رجوع منها الى زعماء الباطنية بل عرفوها قبل وجود الباطنية في الدنيا باحقاب كثيرة وفي هذا بيان كذب الباطنية في دعواها أن زعماءها مخصصون بمعرفة أسرار الاشياء وخواصها وقد بينا خروجهم عن جميع فرق الاسلام بما فيه كفاية والحمد لله على ذلك.
{الباب الخامس}
من ابواب هذا الكتاب
في بيان اوصاف الفرقة الناجية وتحقيق النجاة لها وبيان محاسنها
هذا باب يشتمل على فصول هذه ترجمتها
فصل في بيان أصناف فرق السنة والجماعه
فصل فى بيان تحقيق النجاة لاهل السنة والجماعة
فصل فى بيان الاصول التي اجتمع عليها اهل السنة والجماعه(12/208)
فصل فى بيان قول اهل السنة فى السلف الصالح من الأمة
فصل في بيان عصمة أهل السنة عن تكفير بعضهم بعضا
فصل في بيان فضائل أهل السنة وأنواع علومهم وذكر أئمتهم
فصل في بيان آثار أهل السنة في الدين والدنيا وذكر مفاخرهم فيهما.
فهذه فصول هذا الباب، وسنذكر فى كل منها مقتضاه بعون الله وتوفيقه.
{الفصل الأول}
من فصول هذا الباب
في بيان أصناف أهل السنة والجماعة
اعلموا أسعدكم الله أن أهل السنة والجماعة ثمانية أصناف من الناس:
صنف منهم أحاطوا علما بأبواب التوحيد والنبوة وأحكام الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، وشروط الإجتهاد، والإمامة، والزعامة، وسلكوا في هذا النوع من العلم طرق الصفاتية من المتكلمين الذين تبرءوا من التشبيه والتعطيل، ومن بدع الرافضة والخوارج والجهية والنجارية وسائر أهل الأهواء الضالة.
والصنف الثاني منهم: أئمة الفقه من فريقي الرأي والحديث، من الذين اعتقدوا في أصول الدين مذاهب الصفاتية في الله وفي صفاته الأزلية، وتبرءوا من القدر والإعتزال، وأثبتوا رؤية الله تعالى بالأبصار من غير تشبيه ولا تعطيل، وأثبتوا الحشر من القبور، مع إثبات السؤال في القبر، زمع إثبات الحزض والصراط والشفاعة وغفران الذنوب التى دون الشرك.
وقالوا: بدوام نعيم الجنة على أهلها، ودوام عذاب النار على الكفرة،
وقالوا: بإمامة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأحسنوا الثناء على السلف الصالح من الأمة، ورأوا وجوب الجمعة خلف الأئمة الذين تبرءوا من أهل الأهواء الضالة، وروأوا وجوب استنباط أحكام الشريعة من القرآن والسنة ومن إجماع الصحابة، ورأوا جواز المسح على الخفين، ووقوع الطلاق الثلاث، ورأوا تحريم المتعة، ورأوا وجوب طاعة السلطان فيما ليس بمعصية.(12/209)
ويدخل في هذه الجماعة أصحاب مالك والشافعي والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وابن أبي ليلى وأصحاب أبي ثور وأصحاب أحمد بن حنبل وأهل الظاهر وسائر الفقهاء الذين اعتقدوا في الأبواب العقلية أصول الصفاتية، ولم يخلطوا فقهه بشيء من بدع أهل الأهواء الضالة.
والصنف الثالث منهم: هم الذين أحاطوا علما بطرق الأخبار والسنن المأثورة عن النبي عليه السلام، وميزوا بين الصحيح والسقيم منها، وعرفوا أسباب الجرح والتعديل، ولم يخلطوا علمهم بذلك بشيء من بدع أهل الأهواء الضالة.
والصنف الرابع منهم قوم احاطوا علما باكثر ابواب الادب والنحو والتصريف وجروا على سمت أئمة اللغة كالخليل وابى عمرو بن العلاء وسيبويه والفراء والاخفش والأصمعى والمازنى وأبى عبيد وسائر ائمة النحو من الكوفيين والبصريين الذين لم يخلطوا علمهم بذلك بشىء من بدع القدرية او الرافضة او الخوارج ومن مال منهم الى شىء من الاهواء الضالة لم يكن من اهل السنة ولا كان قوله حجة فى اللغة والنحو.
والصنف الخامس منهم هم الذين أحاطوا علما بوجوه قراءات القرآن وبوجوه تفسير آيات القرآن وتأويلها على وفق مذاهب اهل السنة دون تأويلات اهل الاهواء الضالة
والصنف السادس منهم الزهاد الصوفية الذين ابصروا فاقصروا واختبروا فاعتبروا ورضوا بالمقدور وقنعوا بالميسور وعلموا ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك مسئول عن الخير والشر ومحاسب على مثاقيل الذر فاعدوا خير الاعتداد ليوم المعاد وجرى كلامهم فى طريقى العبارة والاشارة على سمت اهل الحديث دون من يشترى لهو الحديث لا يعملون الخير رياء ولا يتركونه حياء دينهم التوحيد ونفى التشبيه ومذهبهم التفويض الى الله تعالى والتوكل عليه والتسليم لامره والقناعة بما رزقوا والإعراض عن الاعتراض عليه {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.(12/210)
السابع منهم قوم مرابطون فى ثغور المسلمين فى وجوه الكفرة يجاهدون اعداء المسلمين ويحمون حمى المسلمين ويذبون عن حريمهم وديارهم ويظهرون فى ثغورهم مذاهب اهل السنة والجماعة وهم الذين انزل الله تعالى فيهم قوله {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} زادهم الله تعالى توفيقا بفضله ومنه.
والصنف الثامن منهم عامة البلدان التى غلب فيها شعائر اهل السنة دون عامة البقاع التى ظهر فيها شعار اهل الاهواء الضالة.
وانما اردنا بهذه الصنف من العامة عامة اعتقدوا تصويب علماء السنة والجماعة فى ابواب العدل والتوحيد والوعد والوعيد ورجعوا اليهم فى معالم دينهم وقلدوهم في فروع الحلال والحرام ولم يعتقدوا شيئا من بدع اهل الاهواء الضالة وهؤلاء هم الذين سمتهم الصوفية حشو الجنة.
فهؤلاء اصناف اهل السنة والجماعة ومجموعهم اصحاب الدين القويم والصراط المستقيم ثبتهم الله تعالى بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة انه بالإجابة جدير وعليها قدير.
{الفصل الثانى}
من فصول هذا الباب
فى بيان تحقيق النجاة لاهل السنة والجماعة
قد ذكرنا فى الباب الاول من هذا الكتاب ان النبى عليه السلام لما ذكر افتراق امته بعده ثلاثا وسبعين فرقة وأخبر ان فرقة واحدة منها ناجية سئل عن الفرقة الناجية وعن صفتها فأشار الى الذين هم على ما عليه هو واصحابه ولسنا نجد اليوم من فرق الامة من هم على موافقة الصحابة رضى الله عنهم غير اهل السنة والجماعة من فقهاء الامة ومتكلميهم الصفاتية دون الرافضة والقدرية والخوارج والجهمية والنجارية والمشبهة والغلاة والحلولية.(12/211)
اما القدرية فكيف يكونون موافقيه للصحابة وقد طعن زعيمهم النظام فى اكثر الصحابة وأسقط عدالة ابن مسعود ونسبه الى الضلال من اجل روايته عن النبى صلى الله عليه وسلم {ان السعيد من سعد فى بطن امه والشقى من شقى فى بطن امه} وروايته انشقاق القمر وما ذاك منه الا لانكاره معجزات النبى عليه السلام وطعن فى فتاوى عمر رضى الله عنه من اجل انه حد فى الخمر ثمانين ونفى نصر بن الحجاج الى البصرة حين خاف فتنته نساء المدينة به وما هذا منه الا لقلة غيرته على الحرم وطعن فى فتاوى على رضى الله عنه لقوله فى امهات الاولاد ثم رأيت أنهن يبعن وقال من هو حتى يحكم برأيه وثلب عثمان رضى الله عنه لقوله فى الخرقا بقسم المال بين الجد والام والاخت ثلاثا بالسوية ونسب ابا هريرة الى الكذب من اجل ان الكثير من رواياته على خلاف مذاهب القدرية وطعن فى فتاوى كل من افتى من الصحابة بالاجتهاد وقال ان ذلك منهم انما كان لأجل امرين إما لجهلهم بان ذلك لا يحل لهم وإما لانهم ارادوا ان يكونوا زعماء وارباب مذاهب تنسب اليهم فنسب اخيار الصحابة الى الجهل او النفاق والجاهل باحكام الدين عنده كافر والمتعمد للخلاف بلا حجة عنده منافق كافر او فاسق فاجر وكلاهما من أهل النار على الخلود فاوجب بزعمه على أعلام الصحابة الخلود فى النار التى هو بها أولى ثم انه أبطل اجماع الصحابة ولم ير حجة وأجاز اجتماع الامة على الضلالة فكيف يكون على سمت الصحابة مقتديا بهم من يرى مخالفة جميعهم واجبا اذا كان رأيه خلاف رأيهم.(12/212)
وكان زعيمهم واصل بن عطا الغزال يشك فى عدالة على وابنيه وابن عباس وطلحة والزبير وعائشة وكل من شهد حرب الجمل من الفريقين ولذلك قال لو شهد عندي على وطلحة على باقة بقل لم احكم بشهادتهما لعلمى بان احدهما فاسق ولا أعرفه بعينه فجائز على اصله أن يكون على واتباعه فاسقين مخلدين فى النار وجائز ان يكون الفريق الآخر الذين كانوا أصحاب الجمل فى النار خالدين فشك فى عدالة على وطلحة والزبير مع شهادة النبى عليه السلام لهؤلاء الثلاثة بالجنة ومع دخولهم فى بيعة الرضوان وفى جملة الذين قال الله تعالى فيهم {لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما فى بطونهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا}.
وكان عمرو بن عبيد يقول بقول واصل فى فريقي الجمل وزاد عليه القول بالقطع على فسق كل فرقة من الفرقتين وذلك ان واصلا إنما قطع بفسق أحد الفريقين ولم يحكم بشهادة رجلين أحدهما من أصحاب على والآخر من أصحاب الجمل وقبل شهادة رجلين من أصحاب على وشهادة رجلين من أصحاب الجمل وقال عمرو بن عبيد لا أقبل شهادة الجماعة منهم سواء كانوا من أحد الفريقين وكان بعضهم من حزب على وبعضهم من حزب الجمل فاعتقد فسق الفريقين جميعا.
وواجب على أصله ان يكون على وابناه وابن عباس وعمار وأبو أيوب الانصارى وخزيمة بن ثابت الانصارى الذى جعل رسول الله شهادته بمنزلة شهادة رجلين عدلين وسائر أصحاب على مع طلحة والزبير وعائشة وسائر اصحاب الجمل فاسقين مخلدين فى النار وفيهم من الصحابة الوف وقد كان مع على خمسة وعشرون بدريا واكثر اصحاب أحد وستمائة من الانصار وجماعة من المهاجرين الاولين.(12/213)
وقد كان أبو الهذيل والجاحظ واكثر القدرية فى هذا الباب على رأى واصل بن عطا فيهم فكيف يكون مقتديا بالصحابة من يفسق اكثرهم ويراهم من أهل النار ومن لا يرى شهادتهم مقبولة كيف يقبل روايتهم ومن رد رواياتهم ورد شهاداتهم خرج عن سمتهم ومتابعتهم وانما يقتدى بهم من يعمل برواياتهم ويقبل شهاداتهم كدأب أهل السنة والجماعة فى ذلك.
واما الخوارج فقد اكفروا عليا وابنيه وابن عباس وابا أيوب الانصارى واكفروا ايضا عثمان وعائشة وطلحة والزبير واكفروا كل من لم يفارق عليا ومعاوية بعد التحكيم واكفروا كل ذى ذنب من الامة ولا يكون على سمت الصحابة من يقول بتكفير اكثرها.
واما الغلاة من الروافض كالسبابية والبيانية والمغيرية والمنصورية والجناحية والخطابية وسائر الحلولية فقد بينا خروجهم عن فرق الاسلام وبينا أنهم فى عداد عبدة الاصنام أو فى عداد الحلولية من النصارى وليس لعبدة الاصنام ولا للنصارى وسائر الكفرة بالصحابة اسوة ولا قدوة.
واما الزيدية منهم فالجارودية منهم يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان واكثر الصحابة ولا يقتدى بهم من يكفر اكثرهم.
والسليمانية والبترية من الزيدية يكفرون عثمان او يوقفون فيه ويفسقون ناصريه ويكفرون اكثر اصحاب الجمل.
واما الامامية منهم فقد زعم اكثرهم أن الصحابة ارتدت بعد النبى سوى على وابنيه ومقدار ثلاثة عشر منهم.
وزعمت الكاملية منهم أن عليا ايضا ارتد وكفر بتركه قتالهم فكيف يكون على سمت الصحابة من يقول بتكفيرهم.(12/214)
ثم نقول كيف يكون الرافضة والخوارج والقدرية والجهمية والنجارية والبكرية والضرارية موافقين للصحابة وهم بأجمعهم لا يقبلون شيئا مما روى عن الصحابة فى أحكام الشريعة لامتناعهم من قبول روايات الحديث والسير والمغازى من اجل تكفيرهم لأصحاب الحديث الذين هم نقلة الاخبار والآثار ورواه التواريخ والسير ومن اجل تكفيرهم فقهاء الامة الذين ضبطوا آثار الصحابة وقاسوا فروعهم على فتاوى الصحابة.
ولم يكن بحمد الله ومنه فى الخوارج ولا فى الروافض ولا فى الجهمية ولا فى القدرية ولا فى المجسمة ولا فى سائر اهل الاهواء الضالة قط إمام فى الفقه ولا إمام فى رواية الحديث ولا إمام فى اللغة والنحو ولا موثوق به فى نقل المغازى والسير والتواريخ ولا إمام في الوعظ والتذكير ولا إمام فى التأويل والتفسير وانما كان أئمة هذه العلوم على الخصوص والعموم من اهل السنة والجماعة واهل الاهواء الضالة اذا ردوا الروايات الواردة عن الصحابة فى احكامهم وسيرهم لم يصح اقتداؤهم بهم متى لم يشاهدوهم ولم يقبلوا رواية اهل الرواية عنهم.
وبان من هذا أن المقتدين بالصحابة من يعمل بما قد صح بالرواية الصحيحة في احكامهم وسيرهم وذلك سنة اهل السنة دون ذوى السنة وصح بصحة ما ذكرناه تحقيق نجاتهم كحكم النبى بنجاة المقتدين باصحابه والحمد لله على ذلك.
{الفصل الثالث}
من فصول هذا الباب
في بيان الاصول التى اجتمعت عليها اهل السنة
قد اتفق جمهور اهل السنة والجماعة على اصول من اركان الدين
كل ركن منها يجب على كل عاقل بالغ معرفة حقيقته ولكل ركن منها شعب وفي شعبها مسائل اتفق اهل السنة فيها على قول واحد وضللوا من خالفهم فيها.
واول الاركان التى رأوها من اصول الدين اثبات الحقائق والعلوم على الخصوص والعموم
والركن الثانى هو العلم بحدوث العالم في اقسامه من اعراضه واجسامه
والركن الثالث فى معرفة صانع العالم وصفات ذاته(12/215)
والركن الرابع في معرفة صفاته الازلية
والركن الخامس في معرفة اسمائه واوصافه
والركن السادس في معرفة عدله وحكمته
والركن السابع في معرفة رسله وانبيائه
والركن الثامن في معرفة معجزات الانبياء وكرامات الاولياء
والركن التاسع في معرفة ما أجمعت الامة عليه من اركان شريعة الاسلام
والركن العاشر في معرفة احكام الامر والنهى والتكليف
والركن الحادى عشر في معرفة فناء العباد وأحكامهم فى المعاد
والركن الثانى عشر في معرفة الخلافة والامامة وشروط الزعامة
والركن الثالث عشر كذا في احكام الايمان والاسلام في الجملة
والركن الرابع عشر في معرفة احكام الاولياء ومراتب الأئمة الاتقياء
والركن الخامس عشر في معرفة احكام الاعداء من الكفرة واهل الاهواء.
فهذه اصول اتفق أهل السنة على قواعدها وضللوا من خالفهم فيها وفى كل ركن منها مسائل اصول ومسائل فروع وهم يجمعون على اصولها وربما اختلفوا فى بعض فروعها اختلافا لا يوجب تضليلا ولا تفسيقا.
فأما الركن الاول فى اثبات الحقائق والعلوم،
فقد اجمعوا على اثبات العلوم معانى قائمة بالعلماء وقالوا بتضليل نفاة العلم وسائر الاعراض وبتجهيل السوفسطائية الذين ينفون العلم وينفون حقائق الاشياء كلها وعدوهم معاندين لما قد علموه بالضرورة وكذلك السوفسطائية الذين شكوا فى وجود الحقائق وكذلك الذين قالوا منهم بان حقائق الاشياء تابعة للاعتقاد وصححوا جميع الاعتقادات مع تضادها وتنافيها وهذه الفرق الثلاث كلها كفرة معاندة لموجبات العقول الضرورية.(12/216)
وقال أهل السنة ان علوم الناس وعلوم سائر الحيوانات ثلاثة انواع علم بديهى وعلم حسى وعلم استدلالى وقالوا من جحد العلوم البديهية او العلوم الحسية الواقعة من جهة الحواس الخمس فهو معاند ومن انكر العلوم النظرية الواقعة عن النظر والاستدلال نظر فيه فان كان من السمنية المنكرة للنظر في العلوم العقلية فهو كافر ملحد وحكمه حكم الدهرية لقوله معهم بقدم العالم وانكار الصانع مع زيادته عليهم القول بابطال الاديان كلها وان كان ممن يقول بالنظر في العقليات وينكر القياس في فروع الاحكام الشرعية كأهل الظاهر لم يكفر بانكار القياس الشرعى.
وقالوا بان الحواس التى يدرك بها المحسوسات خمس وهى حاسة البصر لادراك المرئيات وحاسة السمع لادراك المسموعات وحاسة الذوق لادراك الطعوم وحاسة الشم لادراك الروائح وحاسة اللمس لادراك الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة بها.
وقالوا ان الاوراكات الواقعة من جهة هذه الحواس معانى قائمة بالآلات التى تسمى حواس وضللوا ابا هاشم بن الجباى فى قوله ان الادراك ليس بمعنى ولا عرض ولا شىء سوى المدرك.
وقالوا ان الخبر المتواتر طريق العلم الضرورى بصحة ما تواتر عنه الخبر اذا كان المخبر عنه مما يشاهد ويدرك بالحس والضرورة كالعلم بصحة وجود ما تواتر الخبر فيه من البلدان التى لم يدخلها السامع المخبر عنها او كعلمنا بوجود الانبياء والملوك الذين كانوا قبلنا فاما صحة دعاوى الانبياء في النبوة فمعلوم لنا بالحجج النظرية.
واكفروا من انكر من السمنية وقوع العلم من جهة التواتر.
وقالوا ان الاخبار التى يلزمنا العمل بها ثلاثة انواع تواتر وآحاد ومتوسط بينهما مستفيض.(12/217)
فالخبر المتواتر الذى يستحيل التواطؤ على وضعه يوجب العلم الضروري بصحة مخبره وبهذا النوع من الاخبار علمنا البلدان التى لم ندخلها وبها عرفنا الملوك والانبياء والقرون الذين كانوا قبلنا وبه يعرف الانسان والديه اللذين هو منسوب اليهما.
وأما اخبار الآحاد فمتى صح اسنادها وكانت متونها غير مستحيلة في العقل كانت موجبة للعمل بها دون العلم وكانت بمنزلة شهادة العدول عند الحاكم فى انه يلزمه الحكم بها فى الظاهر وان لم يعلم صدقهم فى الشهادة.
وبهذا النوع من الخبر اثبت الفقهاء اكثر فروع الاحكام الشرعية فى العبادات والمعاملات وسائر ابواب الحلال والحرام وضللوا من اسقط وجوب العمل باخبار الآحاد في الجملة من الرافضة والخوارج وسائر اهل الاهواء.
واما الخبر المستفيض المتوسط بين التواتر والآحاد فانه يشارك التواتر فى ايجابه للعلم والعمل ويفارقه من حيث ان العلم الواقع عنه يكون علما مكتسبا نظريا والعلم الواقع عن التواتر يكون ضروريا غير مكتسب.
وهذا النوع من الخبر على اقسام:
منها اخبار الانبياء فى انفسهم وكذلك خبر من أخبر النبى عن صدقه يكون العلم لصدقه مكتسبا
ومنها الخبر المنتشر من بعض الناس اذا اخبر به بحضرة قوم لا يصح منهم التواطؤ على الكذب وادعى عليهم وقوع ما اخبر عنه بحضرتهم فاذا لم ينكر عليه احد منهم علمنا صدقة فيه.
وبهذا النوع من الاخبار علمنا معجزة نبينا فى انشقاق القمر وتسبيح الحصا فى يده وحنين الجذع اليه لما فارقه واشباعه الخلق الكثير من الطعام اليسير ونحو ذلك من معجزاته غير القرآن المعجز نظمه فان ثبوت القرآن وظهوره عليه وعجز العرب والعجم عن المعارضة بمثله معلوم بالتواتر الموجب للعلم الضروري.
ومنها أخبار مستفيضة بين ائمة الحديث والفقه وهم مجمعون على صحتها كالاخبار في الشفاعة والحساب والحوض والصراط والميزان وعذاب القبر وسؤال الملكين فى القبر.(12/218)
وكذلك الأخبار المستفيضة فى كثير من احكام الفقه كنصب الزكاة واخبار الهوا وحد الخمر فى الجملة والاخبار فى المسح على الخفين وفى الرجم وما أشبه ذلك مما اجمع الفقهاء على قبول الاخبار فيها وعلى العمل بمضمونها.
وضللوا من خالف فيها من أهل الاهواء كتضليل الخوارج في انكارها الرجم وتضليل من انكر من النجدات حد الخمر وتضليل من انكر المسح على الخفين وتكفير من أنكر الرؤية والحوض والشفاعة وعذاب القبر.
وكذلك ضللوا الخوارج الذين قطعوا يد السارق في القليل والكثير من الحرز وغير الحرز كردهم الاخبار الصحاح في اعتبار النصاب والحرز في القطع.
وكما ضللوا من رد الخبر المستفيض ضللوا من ثبت على حكم خبر اتفق الفقهاء من فريقي الرأى والحديث على نسخه كتضليل الرافضة في المتعة التى قد نسخت إباحتها.
واتفق أهل السنة على أن الله تعالى كلف العباد معرفته وأمرهم بها وأنه أمرهم بمعرفة رسوله وكتابه والعمل بما يدل عليه الكتاب والسنة وأكفروا من زعم من القدرية والرافضة أن الله تعالى ما كلف أحدا معرفته كما ذهب اليه ثمامة والجاحظ وطائفة من الرافضة.
واتفقوا على أن كل علم كسبى نظرى يجوز أن يجعلنا الله تعالى مضطرين الى العلم بمعلومه واكفروا من زعم من المعتزلة أن المعرفة بالله عز وجل فى الآخرة مكتسبة من غير اضطرار الى معرفتة.
واتفقوا على أن اصول احكام الشريعة القرآن والسنة وإجماع السلف واكفروا من زعم من الرافضة أن لا حجة اليوم في القرآن والسنة لدعواه فيها أن الصحابة غيروا بعض القرآن وحرفوا بعضه واكفروا الخوارج الذين ردوا جميع السنن التى رواها نقلة الاخبار لقولهم بتكفير ناقليها واكفروا النظام في انكاره حجة الاجماع وحجة التواتر وقوله بجواز اجتماع الامة على الضلالة وجواز تواطؤ أهل التواتر على وضع الكذب.
فهذا بيان ما اتفق عليه أهل السنة من مسائل الركن الأول.(12/219)
واما الركن الثانى وهو الكلام فى حدوث العالم،
فقد أجمعوا على ان العالم كل شىء هو غير الله عز وجل وعلى ان كل ما هو غير الله تعالى وغير صفاته الازلية مخلوق مصنوع وعلى ان صانعه ليس بمخلوق ولا مصنوع ولا هو من جنس العالم ولا من جنس شىء من اجزاء العالم واجمعوا على ان اجزاء العالم قسمان جواهر واعراض خلاف قول نفاة الاعراض فى نفيها الاعراض واجمعوا على ان كل جوهر جزء لا يتجزأ واكفروا النظام والفلاسفة الذين قالوا بانقسام كل جزء الى أجزاء بلا نهاية لان هذا يقتضى الا تكون اجزاؤها محصورة عند الله تعالى وفي هذا رد قوله {وأحصى كل شىء عددا} وقالوا باثبات الملائكة والجن والشياطين في اجناس حيوانات العالم واكفروا من انكرهم من الفلاسفة والباطنية وقالوا بتجانس الجواهر والاجسام وقالوا إن اختلافها في الصور والالوان والطعوم والروائح انما هو لاختلاف الاعراض القائمة بها.
وضللوا من قال باختلاف الاجسام لاختلاف الطبائع وضللوا ايضا من قال من الفلاسفة بخمس طبائع وزعم ان الفلك طبيعة خامسة لا تقبل الكون والفساد كما ذهب اليه ارسطاطاليس.
وضللوا من قال من الثنوية إن الاجسام نوعان نور وظلمة وان الخير من النور والشر من الظلمة وان فاعل الخير والصدق لا يفعل الشر والكذب وفاعل الشر والكذب لا يفعل الخير والصدق.
وسألناهم عن رجل قال أنا شرير وظلمة من القائل لهذا القول فان قالوا هو النور فقد كذب وان قالوا هو الظلمة فقد صدق وفي هذا بطلان قولهم ان النور لا يكذب والظلام لا يصدق
وهذا الزم لهم على اصولهم فاما نحن فانا لا نثبت النور والظلمة فاعلين قديمين بل نقول انهما مخلوقان لا فعل لهما.(12/220)
واتفق أهل السنة على اختلاف اجناس الاعراض واكفروا النظام في قوله إن الاعراض كلها جنس واحد وانها كلها حركات لان هذا يوجب عليه ان يكون الايمان من جنس الكفر والعلم من جنس الجهل والقول من جنس السكوت وان يكون فعل النبى من جنس فعل الشيطان الرجيم وينبغى له على هذا الاصل الا يغضب على من لعنه وشتمه لان قول القائل لعن الله النظام عنده من جنس قوله رحمه الله.
واتفقوا على حدوث الاعراض فى الاجسام واكفروا من زعم من الدهرية انها كامنة في الاجسام وانما يظهر بعضها عند كمون ضده في محله.
واتفقوا على ان كل عرض حادث في محل وان العرض لا يقوم بنفسه واكفروا من قال من المعتزلة البصرية بحدوث ارادة الله سبحانه لا في محل وبحدوث فناء الاجسام لا فى محل واكفروا ابا الهذيل في قوله ان قول الله عز وجل للشىء كن عرض حادث لا في محل.
واتفقوا على أن الاجسام لا تخلوا ولم تخل قط من الاعراض المتعاقبة عليها واكفروا من قال من أصحاب الهيولي ان الهيولي كانت في الازل خالية من الاعراض ثم حدثت فيها الاعراض حتى صارت على صورة العالم وهذا القول غاية في الاستحالة لان حلول العرض فى الجوهر يغير صفته ولا يزيد فى عدده فلو كان هيولى العالم جوهرا واحدا لم يصر جواهر كثيرة بحلول الاعراض فيها.
وأجمعوا على وقوف الارض وسكونها وان حركتها انما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها خلاف قول من زعم من الدهرية أن الارض تهوى أبدا ولو كانت كذلك لوجب الا يلحق الحجر الذى نلقيه من ايدينا الارض أبدا لان الخفيف لا يلحق ما هو أثقل منه فى انحداره.(12/221)
وأجمعوا على أن الارض متناهية الأطراف من الجهات كلها وكذلك السماء متناهية الاقطار من الجهات الست خلاف قول من زعم من الدهرية انه لا نهاية للارض من اسفل ولا عن اليمين واليسار ولا من خلف ولا من امام وانما نهايتها من الجهة التي تلاقى الهواء من فوقها وزعموا ان السماء ايضا متناهية من تحتها ولا نهاية لها من خمس جهات سوى جهة السفل وبطلان قولهم ظاهر من جهة عود الشمس الى مشرقها كل يوم وقطعها جرم السماء وما فوق الارض فى يوم وليلة ولا يصح قطع ما لا نهاية لها من المساقة فى الامكنة فى زمان متناه.
وأجمعوا على ان السماوات سبع سماوات طباق خلاف قول من زعم من الفلاسفة والمنجمين انها تسع واجمعوا انها ليست بكرية تدور حول الارض خلاف قول من زعم انها كرات بعضها فى جوف بعض وان الارض فى وسطها كمركز الكرة فى جوفها ومن قال بهذا لم يثبت فوق السماوات عرشا ولا ملائكة ولا شيئا مما يثبته الموجودون فوق السماوات عرشا ولا ملائكة ولا شيئا مما يثبته الموجودون فوق السماوات.
وأجمعوا ايضا على جواز الفنا على العالم كله من طريق القدر والامكان وانما قالوا بتأييد الجنة ونعيمها وتأييد جهنم وعذابها من طريق الشرع واجازوا ايضا فناء بعض الاجسام دون بعض واكفروا ابا الهذيل بقوله بانقطاع نعيم الجنة وعذاب النار واكفروا من قال من الجهمية بفناء الجنة والنار واكفروا الجباي وابنه ابى هاشم في قولهما ان الله لا يقدر على افناء بعض الاجسام مع ابقاء بعضها وانما يقدر على افناء جميعها بفناء يخلقه لا في محل.
وقالوا في الركن الثالث وهو الكلام فى صانع العالم وصفاته الذاتية التى استحقها لذاته ان الحوادث كلها لا بد لها من محدث صانع واكفروا ثمامة واتباعه من القدرية في قولهم ان الافعال المتولدة لا فاعل لها.(12/222)
وقالوا ان صانع العالم خالق الاجسام والاعراض واكفروا معمرا واتباعه من القدرية في قولهم ان الله تعالى لم يخلق شيئا من الاعراض وانما خلق الاجسام وان الاجسام هى الخالقة للاعراض في انفسها.
وقالوا ان الحوادث قبل حدوثها لم تكن أشياء ولا اعيانا ولا جواهر ولا اعراضا خلاف قول القدرية في دعواها ان المعدومات في حال عدمها اشياء وقد زعم البصريون منهم ان الجواهر والاعراض كانت قبل حدوثها جواهر واعراضا وقول هؤلاء يؤدى الى القول بقدم العالم والقول الذى يؤدى الى الكفر كفر في نفسه.
وقالوا ان صانع العالم قديم لم يزل موجودا خلاف قول المجوس في قولهم بصانعين احدهما شيطان محدث وخلاف قول الغلاة من الروافض الذين قالوا في على جوهر مخلوق محدث بانه صار الها صانعا بحلول روح الإله فيه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
وقالوا بنفى النهاية والحد عن صانع العالم خلاف قول هشام بن الحكم الرافضى في دعواه ان معبوده سبعة اشبار بشبر نفسه وخلاف قول من زعم من الكرامية انه ذو نهاية من الجهة التى تلاقى منها العرش ولا نهاية له من خمس جهات سواها.
واجمعوا على احالة وصفه بالصورة والاعضاء خلاف قول من زعم من غلاة الروافض ومن اتباع داوود الحوالى انه على صورة الانسان وقد زعم هشام بن سالم الجواليقى واتباعه من الرافضة ان معبودهم على صورة الانسان وعلى راسه وفرة سوداء وهو نور اسود وان نصفه الاعلى مجوف ونصفه الاسفل مصمت وخلاف قول المغيرية من الرافضة في دعواهم أن اعضاء معبودهم على صورة حروف الهجاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
واجمعوا على انه لا يحويه مكان ولا يجرى عليه زمان خلاف قول من زعم من الشهامية والكرامية انه مماس لعرشه وقد قال امير المؤمنين على رضي الله عنه ان الله تعالى خلق العرش اظهارا لقدرته لا مكانا لذاته وقال ايضا قد كان ولا مكان وهو الآن على ما كان.(12/223)
واجمعوا على نفى الآفات والغموم والآلام واللذات عنه وعلى نفى الحركة والسكون عنه خلاف قول الهشامية من الرافضة في قولها بجواز الحركة عليه وفي دعواهم ان مكانه حدوث من حركته وخلاف قول من اجاز عليه التعب والراحة والغم والسرور والملالة كما حكى عن ابى شعيب الناسك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
واجمعوا على ان الله تعالى غنى عن خلقه لا يجتلب بخلقه الى نفسه نفعا ولا يدفع بهم عن نفسه ضررا وهذا خلاف قول المجوس في دعواهم ان الله انما خلق الملائكة ليدفع بهم عن نفسه أذى الشيطان وأذى اعوانه.
واجمعوا على ان صانع العالم واحد خلاف قول الثنوية بصانعين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة وخلاف قول المجوس بصانعين احدهما اله قديم اسمه عندهم بزدان والآخر شيطان رجيم اسمه أهرمن وخلاف قول المفوضة من غلاة الروافض فى ان الله تعالى فوض تدبير العالم الى على فهو الخالق الثانى وخلاف قول الحايطية من القدرية اتباع احمد بن حايط فى قولهم إن الله تعالى فوض تدبير العالم على عيسى بن مريم وانه هو الخالق الثانى وقد استقصينا وجوه دلائل الموحدين على توحيد الصانع فى كتاب الملل والنحل.
وقالوا في الركن الرابع وهو الكلام في الصفات القائمة بالله عز وجل أن علم الله تعالى وقدرته وحياته وارادته وسمعه وبصره وكلامه صفات له أزلية ونعوت له أبدية.
وقد نفت المعتزلة عنه جميع الصفات الازلية وقالوا ليس له قدرة ولا علم ولا حياة ولا رؤية ولا ادراك للمسموعات واثبتوا له كلاما محدثا ونفى البغداديون عنه الارادة وأثبت البصريون منهم له ارادة حادثة لا في محل.
وقلنا لهم في نفى الصفة نفى الموصون كما أن فى نفى الفعل نفى الفاعل وفي نفى الكلام نفى المتكلم.(12/224)
واجمع اهل السنة على ان قدرة الله تعالى على المقدورات كلها قدرة واحدة يقدر بها على جميع القدورات على طريق الاختراع دون الاكتساب خلاف قول الكرامية فى دعواها أن الله تعالى انما يقدر بقدرته على الحوادث التى تحدث فى ذاته فاما الحوادث الموجودة فى العالم فانما خلقها الله تعالى باقواله لا بقدرته وخلاف قول البصريين من القدرية فى دعواها ان الله سبحانه لا يقدر على مقدورات عباده ولا على مقدورات سائر الحيوانات.
وأجمع اهل السنة على ان مقدورات الله تعالى لا تفنى خلاف قول أبى الهذيل واتباعه من القدر فى دعواه ان قدرة الله تعالى تنتهى الى حال تفنى بمقدوراته فيها ولا يقدر بعدها على شىء ولا يملك حينئذ لاحد على ضر ولا نفع وزعم ان أهل الجنة وأهل النار فى تلك الحال يبقون جمودا فى سكون ذاتهم تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
وقد زعم الاسوارى واتباعه من المعتزلة أن الله تعالى إنما يقدر على أن يفعل ما قد علم انه يفعل فاما ما علم أنه لا يفعله أو اخبر عن نفسه بانه لا يفعله فانه لا يقدر على فعله تعالى الله عن قوله علوا كبيرا.
واجمع اهل السنة على أن علم الله تعالى واحد يعلم به جميع المعلومات على تفصيلها من غير حس ولا بديهة ولا استدلال عليه وزعم معمر واتباعه من القدرية أن الله تعالى لا يقال انه عالم بنفسه ومن العجائب عالم بغيره ولا يكون عالما بنفسه.
وزعم قوم من الرافضة ان الله تعالى لا يعلم الشىء قبل كونه.
وزعم زرارة بن أعين واتباعه من الرافضة أن علم الله تعالى وقدرته وحياته وسائر صفاته حوادث وانه لم يكن حيا ولا قادرا ولا عالما حتى خلق لنفسه حياة وقدرة وعلما وارادة وسمعا وبصرا.(12/225)
وأجمعوا على ان سمعه وبصره محيطان بجميع المسموعات والمرئيات وان الله تعالى لم يزل رائيا لنفسه وسامعا لكلام نفسه وهذا خلاف قول القدرية البغدادية فى دعواهم ان الله تعالى ليس براء ولا سامع على الحقيقة وانما يقال يرى ويسمع على معنى انه يعلم المرئى والمسموع وخلاف قول المعتزلة فى دعواها ان الله تعالى يرى غيره ولا يرى نفسه وخلاف قول الجباى فى فرقه بين السميع والسامع وبين البصير والمبصر حتى قال انه كان فى الأزل سميعا بصيرا ولم يكن فى الازل سامعا ولا مبصرا وهذا الفرق يمكن عكسه عليه فلا يجد من لزوم عكسه انفصالا.
وأجمع اهل السنة على أن الله تعالى يكون مرئيا للمؤمنين في الآخرة وقالوا بجواز رؤيته في كل حال ولكل حى من طريق العقل ووجوب رؤيته للمؤمنين خاصة في الآخرة من طريق الخبر وهذا خلاف قول من أحال رؤيته من القدرية والجهمية وخلاف قول من زعم أنه يرى في الآخرة بحاسة سادسة كما ذهب اليه ضرار بن عمرو وخلاف قول من زعم ان الكفرة ايضا يرونه كما قاله ابن سالم البصرى وقد استقصينا مسائل الرؤية فى كتاب مفرد
واجمع اهل السنة على ان ارادة الله تعالى مشيئته واختياره وعلى ان ارادته للشىء كراهة لعدمه كما قالوا ان امره بالشىء نهى عن تركه وقالوا ايضا ان ارادته نافذة في جميع مراداته على حسب علمه بها فما علم كونه منها اراد كونه في الوقت الذى علم انه يكون فيه وما علم انه لا يكون اراد ألا يكون وقالوا إنه لا يحدث في العالم شىء الا بارادته ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وزعمت القدرية البصرية ان الله تعالى قد شاء مالم يكن وزعمت القدرية البصرية ان الله تعالى قد شاء ما لم يكن وقد كان ما لم يشأ وهذا القول يؤدى الى ان يكون مقهورا مكرها على حدوث ما كره حدوثه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.(12/226)
واجمع أهل السنة على ان حياة الإله سبحانه بلا روح ولا اغتذاء وأن الأرواح كلها مخلوقة خلاف قول النصارى في دعواها قدم أب وابن وروح.
وأجمعوا على أن الحياة شرط في العلم والقدرة والإرادة والرؤية والسمع وان من ليس بحى لا يصح ان يكون عالما قادرا مريدا سامعا مبصرا خلاف قول الصالحي واتباعه من القدرية في دعواهم جواز وجود العلم والقدرة والرؤية والارادة في الميت.
وأجمعوا على أن كلام الله عز وجل صفة له أزلية وانه غير مخلوق ولا محدث ولا حادث خلاف قول القدرية في دعواهم ان الله تعالى خلق كلامه في جسم من الاجسام وخلاف قول الكرامية في دعواهم ان أقواله حادثة في ذاته خلاف قول أبى الهذيل ان قوله للشىء كن لا في محل وسائر كلامه محدث في اجسام.
وقلنا لا يجوز حدوث كلامه فيه لانه ليس بمحل للحوادث ولا في غيره لانه يوجب ان يكون غيره به متكلما آمرا ناهيا ولا في غير محل لان الصفة لا تقوم بنفسها فبطل حدوث كلامه وصح ان صفته له ازلية.
وقالوا في الركن الخامس وهو الكلام في اسماء الله تعالى وأوصافه ان مأخذ اسماء الله تعالى التوقيف عليها إما بالقرآن واما بالسنة الصحيحة واما باجماع الامة عليه ولا يجوز اطلاق اسم عليه من طريق القياس وهذا خلاف قول المعتزلة البصرية في اجازتها اطلاق الاسماء عليه بالقياس وقد افرط الجباى في هذا الباب حتى سمى الله مطيعا لعبده اذا اعطاه مراده وسماه محبلا للنساء اذا خلق فيهن الحبل وضللته الامة في هذه الجسارة التى تورثه الخسارة.
فقال اهل السنة قد جاءت السنة الصحيحة بان لله تعالى تسعة وتسعين اسما وان من احصاها دخل الجنة ولم يرد باحصائها ذكر عددها والعبارة عنها فان الكافر قد يذكرها حاكيا لها ولا يكون من اهل الجنة وانما اراد باحصائها العلم بها واعتقاد معانيها من قولهم فلان ذو حصاة واطإة كذا اذا كان ذا علم وعقل.(12/227)
وقالوا ان اسماء الله تعالى على ثلاثة اقسام قسم منها يدل على ذاته كالواحد والغنى والاول والآخر والجليل والجميل وسائر ما استحقه من الاوصاف لنفسه.
وقسم منها يفيد صفاته الأزلية القائمة بذاته كالحى والقادر والعالم والمريد والسميع والبصير وسائر الاوصاف المشتقة من صفاته القائمة بذاته وهذا القسم من اسمائه مع القسم الذى قبله لم يزل الله تعالى بهما موصوفا وكلاهما من اوصافه الأزلية.
وقسم منها مشتق من افعاله كالخالق والرازق والعادل ونحو ذلك وكل اسم اشتق من فعله لم يكن موصوفا به قبل وجود افعاله وقد يكون من اسمائه ما يحتمل معنيين أحدهما صفة ازلية والآخر فعل له كالحكيم إن أخذناه من الحكمة التى هى العلم كان من اسمائه الازلية وان أخذناه من احكام افعاله واتقانها كان مشتقا من فعله ولم يكن من أوصافه الازلية.
وقالوا في الركن السادس وهو الكلام في عدل الاله سبحانه وحكمته ان الله سبحانه خالق الاجسام والاعراض خيرها وشرها وانه خالق اكساب العباد ولا خالق غير الله.
وهذا خلاف قول من زعم من القدرية أن الله تعالى لم يخلق شيئا من اكساب العباد وخلاف قول الجهمية ان العباد غير مكتسبين ولا قادرين على اكسابهم فمن زعم ان العباد خالقون لاكسابهم فهو قدرى مشرك بربه لدعواه ان العباد يخلقون مثل خلق الله من الاعراض التى هى الحركات والسكون فى العلوم والارادات ولاقوال والاصوات وقد قال الله عز وجل فى ذم اصحاب هذا القول {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء وهو الواحد القهار} ومن زعم أن العبد لا استطاعة له على الكسب وليس هو معامل ولا مكتسب فهو جبرى والعدل خارج عن الخبر والقدر ومن قال أن العبد مكتسب لعمله والله سبحانه خالق لكسبه فهو سنى عدلى منزه عن الجبر والقدر.(12/228)
وأجمع اهل السنة على ابطال قول أصحاب التولد فى دعواهم ان الانسان قد يفعل فى نفسه شيئا يتولد منه فعل فى غيره خلاف قول اكثر القدرية بان الانسان قد يفعل فى غيره افعالا تتولد عن اسباب يفعلها فى نفسه وخلاف قول من زعم من القدرية ان المتولدات افعال لا فاعل لها كما ذهب اليه ثمامة.
وأجمعوا على ان الانسان يصح منه اكتساب الحركة والسكون والارادة والقول والعلم والفكر وما يجرى مجرى هذه الاعراض التى ذكرناها وعلى انه لا يصح منه اكتساب الالوان والطعوم والروائح والادراكات خلاف قول بشر بن المعتمر واتباعه من المعتزلة في دعواهم ان الانسان قد يفعل الالوان والطعوم والروائح على سبيل التولد وزعموا ايضا انه يصح منه فعل الرؤية في العين وفعل ادرك المسموع فى محل السمع وأفحش من هذا قول معمر القدري بان الله تعالى لم يخلق شيئا من الاعراض وان الاعراض كلها من افعال الاجسام وكفاه بهذه الضلالة خزيا.
وقال اهل السنة ان الهداية من الله تعالى على وجهين:
احدهما من جهة ابانة الحق والدعاء اليه ونصب الادلة عليه وعلى هذا الوجه يصح اضافة الهداية الى الرسل والى كل داع الى دين الله عز وجل لانهم يرشدون اهل التكليف الى الله تعالى وهذا تأويل قول الله عز وجل في رسوله {وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم} اى تدعو اليه.
والوجه الثانى من هداية الله سبحانه لعباده خلق الاهتداء في قلوبهم كما ذكره في قوله {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} وهذا النوع من الهداية لا يقدر عليه الا الله تعالى.
والهداية الاولى من الله تعالى شاملة لجميع المكلفين والهداية الثانية من خاصته للمهتدين وفى تحقيق ذلك نزل قول الله تعالى {والله يدعو إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم}.(12/229)
والاضلال من الله تعالى عند اهل السنة على معنى خلق الضلال في قلوب اهل الضلال كقوله {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا}.
وقالوا من أضله الله فبعدله ومن هداه فبفضله وهذا خلاف قول القدرية في دعواها ان الهداية من الله تعالى على معنى الارشاد والدعاء الى الحق وليس اليه من هداية القلوب شىء وزعموا ان الاضلال منه على وجهين احدهما التسمية بان يسمى الضلال ضلالا والثانى على معنى جزاء اهل الضلال على ضلالتهم ولو صح ما قالوا لوجب أن يقال انه اضل الكافرين لانه سماهم ضالين ولوجب ان يقال ان ابليس أضل الانبياء المؤمنين لانه سماهم ضالين ولزمهم ان يكون من أقام الحدود على الزناة والسارقين والمرتدين مضلا لهم لانه قد جازاهم على ضلالتهم وهذا فاسد فما يؤدى اليه مثله.
وقال أهل السنة في الآجال ان كل من مات حتف انفه أو قتل فانما مات باجله الذى جعله الله أجلا لعمره والله تعالى قادر على ابقائه والزيادة في عمره لكنه متى لم يبقه الى مدة لم تكن المدة التى لم يبقه اليها أجلاله وهذا كما ان المراة التى يتزوجها من قبل موته وهذا كما أن المرأة التي يتزوجها قبل موته لم تكن امرأة له وان كان الله سبحانه قادرا على أن يزوجها من قبل موته وهذا خلاف قول من زعم من القدرية ان المقتول مقطوع عليه اجله وخلاف قول من زعم منهم أن المقتول ليس بميت وجحد فائدة قول الله تعالى {كل نفس ذائقة الموت} وهذه بدعة ذهب اليها الكعبى وكفى بها خزيا.
وقال اهل السنة في الارزاق بما هى عليه الآن وان كل من أكل شيئا او شربه فانما تناول رزقه حلالا كان أو حراما خلاف قول من زعم من القدرية ان الانسان قد يأكل رزق غيره.
وقالوا في ابتداء التكليف ان الله تعالى لو لم يكلف عباده شيئا كان عدلا منه خلاف قول من زعم من القدرية أنه لو لم يكلفهم لم يكن حكيما.(12/230)
وقالوا لو زاد في تكليف العباد على ما كلفهم او نقص بعض ما كلفهم كان جائزا خلاف قول من ابى ذلك من القدرية.
وكذلك لو لم يخلق الخلق لم يلزمه بذلك خروج عن الحكمة وكان السابق حينئذ في علمه انه لا يخلق.
وقالوا لو خلق الله تعالى الجمادات دون الاحياء جاز ذلك منه خلاف قول من قال من القدرية أنه لو لم يخلق الاحياء لم يكن حكيما.
وقالوا لو خلق الله تعالى عباده كلهم في الجنة لكان ذلك فضلا منه خلاف قول من زعم من القدرية انه لو فعل ذلك لم يكن حكيما وهذا حجر منهم على الله سبحانه ونحن لا نرى الحجر عليه بل نقول له الامر والنهى وله القضاء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وقال في الركن السابع المفروض في النبوة والرسالة اثبات الرسل من الله تعالى الى خلقه خلاف قول البراهمة المنكرين لهم مع قولهم بتوحيد الصانع
وقالوا في الفرق بين الرسول والنبى ان كل من نزل عليه الوحى من الله تعالى على لسان ملك من الملائكة وكان مؤيدا بنوع من الكرامات الناقضة للعادات فهو نبى ومن حصلت له هذه الصفة وخص ايضا بشرع جديد او بفسخ بعض احكام شريعة كانت قبله فهو رسول.
وقالوا ان الانبياء كثير والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر واول الرسل ابو جميع البشر وهو آدم عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم خلاف قول المجوس في دعواهم ابو جميع البشر كيكومرت الملقب بكل شاة وخلاف قولهم ان اجزاء الرسل زراذست وخلاف قول من زعم من الخرمية ان الرسل تترى لا آخر لهم.
وقالوا بنبوة موسى في زمانه خلاف قول منكريه من البراهمة والمانوية الذين انكروه مع اقرار المانوية بعيسى عليه السلام.
وقالوا بنبوة عيسى عليه السلام خلاف قول منكريه من اليهود والبراهمة.(12/231)
وانكروا قتل عيسى واثبتوا رفعه الى السماء وقالوا انه ينزل الى الارض بعد خروج الدجال فيقتل الدجال ويقتل الخنزير ويريق الخمور ويستقبل في صلاته الكعبة ويؤيد شريعة محمد ويحيى ما احياه القرآن ويميت ما أماته القرآن.
وقالوا بتكفير كل متنبئ سواء كان قبل الاسلام كزراذشت ويود اسف ومانى وديصان ومزفيورومزدك أو بعده كمسيلمة وستجارح والاسود ثم يزيد العنسى وسائر من كان بعدهم من المتنبين.
وقالوا بتكفير من ادعى للانبياء الاهية او ادعى الائمة الخلافة نبوة او الاهية كالسبابية والبيانية والمغيرية والمنصورية والخطابية ومن جرى مجراهم.
وقالوا بتفضيل الانبياء على الملائكة خلاف قول الحسين بن الفضل مع اكثر القدرية بتفضيل الملائكة على الانبياء.
وقالوا بتفضيل الانبياء على الاولياء من امم الانبياء خلاف قول من زعم ان في الاولياء من هو افضل من الانبياء.
وقالوا بعصمة الانبياء عن الذنوب وتأولوا ما روى عنهم من زلاتهم على انها كانت قبل النبوة خلاف قول من أجاز عليهم الصغائر وخلاف قول الهشامية من الروافض الذين أجازوا عليهم الذنوب مع قولهم بعصمة الامام من الذنوب.
وقالوا في الركن الثامن المضاف الى المعجزات والكرامات ان المعجزة أمر يظهر بخلاف العادة على يدى مدعى النبوة مع تحديه قومه بها ومع عجز قومه عن معارضته بمثلها على وجه يدل على صدقة فى زمان التكليف.
وقالوا لا بد للنبى من معجزة واحدة تدل على صدقه قاذا ظهرت عليه معجزة واحدة تدل على صدقه وعجزوا عن معارضته بمثلها فقد لزمتهم الحجة فى وجوب تصديقه ووجوب طاعته فان طالبوه بمعجزة سواها فالأمر الى الله عز وجل إن شاء أيده بها وان شاء عاقب المطالبين له بها لتركهم الايمان بمن قد ظهرت دلالة صدقه وهذا خلاف قول من زعم من القدرية ان النبى عليه السلام لا يحتاج الى معجزة اكثر من استقامة شريعته كما ذهب اليه ثمامة.(12/232)
وقالوا الصادق فى دعوى النبوة يجوز ظهور معجزة التصديق عليه ولا يجوز ظهور معجزة التصديق على المتنبى فى دعوى النبوة ويجوز أن يظهر عليه معجزة تدل على كذبه كنطق شجرة او عضو من أعضائه بتكذيبه وقالوا يجوز ظهور الكرامات على الاولياء وجعلوها دلالة على الصدق فى احوالهم كما كانت معجزات الانبياء دلالة على صدقهم فى دعاويهم.
وقالوا على صاحب المعجزة إظهارها والتحدى بها وصاحب الكرامات لا يتحدى بها غيره وربما كتمها وصاحب المعجزة مأمون العاقبة وصاحب الكرامة لا يأمن تغيير عاقبته كما تغيرت عاقبة بلعم بن باعورا بعد ظهور كراماته وأنكرت القدرية كرامات الاولياء لانهم لم يجدوا من فرقهم ذا كرامة.
وقالوا باعجاز القرآن في نظمه خلاف قول من زعم من القدرية ان لا إعجاز في نظم القرآن كما ذهب اليه النظام وقالوا في معجزات محمد بانشقاق القمر وتسبيح الحصا في يده ونبوع الماء من بين اصابعه واشباعه الخلق الكثير من الطعام اليسير ونحو ذلك وقد خالف النظام واتباعه من القدرية ذلك.
وقالوا في الركن التاسع المضاف الى أركان شريعة الاسلام إن الاسلام مبنى على خمسة اركان شهادة أن لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام.
وقالوا من اسقط وجوب ركن من هذه الأركان الخمسة أو تأولها على معنى موالاة قوم كما تأولوا عليها المنصورية والجناحية من غلاة الرافضة فهو كافر.
وقالوا في الصلوات المفروصة انها خمس وأكفروا من اسقط وجوب بعضها وكان مسيلمة الكذاب قد أسقط وجوب صلاتى الصبح والمغرب وجعل سقوطها مهرا لامرأته سجاح المتنبية فكفر وألحد.
وقالوا بوجوب عقد صلاة الجمعة واكفروا من الخوارج والروافض من قال لا جمعة اليوم حتى يظهر إمامهم الذى ينتظرونه.(12/233)
وقالوا بوجوب زكاة الاعيان فى الذهب والورق والإبل والبقر والغنم اذا كانت هذه الاصناف الثلاثة من النعم سائمة وأوجبوها في الحبوب المقتاتة التى يزرعها الناس ويتخذونها قوتا وأوجبوها في ثمار النخيل والأعناب فمن قال لا زكاة في هذه الاشياء التى ذكرناها كفر ومن أثبت زكاتها في الجملة وكان خلافه في نصبها على ما اختلف فيه فقهاء الامة لم يكفر.
وقالوا بوجوب صوم رمضان وحرموا الفطر فيه إلا بعذر صغر أو جنون أو مرض او سفر أو نحو ذلك من الأعذار.
وقالوا باعتبار شهر الصيام من رؤية هلال رمضان أو بكمال شعبان ثلاثين يوما ولم يفطروا في آخره الا برؤية هلال شوال او بكمال ايام رمضان ثلاثين يوما وضللوا من صام من الروافض قبل الهلال بيوم وافطر قبل الفطر بيوم.
وقالوا بوجوب الحج في العمرة مرة واحدة على من استطاع اليه سبيلا واكفروا من أسقط وجوبها من الباطنية ولم يكفروا من أسقط وجوب العمرة لاختلاف الأمة في وجوبها.
وقالوا من شرط صحة الصلوات الطهارة وستر العورة ودخول الوقت الوقت واستقبال القبلة على حسب الامكان ومن اسقط اعتبار هذه الشروط أو اعتبار شىء منها مع الامكان كفر وقالوا بوجوب الجهاد مع الاعداء للاسلام حتى يسلموا أو يؤدى الجزية منهم من يجوز قبول الجزية منه.
وقالوا بجواز البيع وتحريم الربا وضللوا من اباح الربا فى الجملة.
وقالوا بان الفروج لا تستباح إلا بنكاح صحيح او ملك يمين واكفروا المعبضية والمحمرة والخرمية الذين اباحوا الزنى واكفروا ايضا من تأول المحرمات على قوم زعم ان موالاتهم حرام.
وقالوا بوجوب اقامة حد الزنى والسرقة والخمر والقذف واكفروا من اسقط حد الخمر والرجم من الخوارج.(12/234)
وقالوا اصول احكام الشريعة الكتاب والسنة واجماع السلف واكفروا من لم ير اجماع الصحابة حجة واكفروا الخوارج فى ردهم حجج الاجماع والسنن واكفروا من قال من الروافض لا حجة فى شىء من ذلك وانما الحجة فى قول الامام الذى ينتظرونه وهؤلاء اليوم حيارى فى التيه وكفاهم بذلك خزيا.
وقالوا في الركن العاشر المضاف الى الامر والنهى أن افعال المكلفين خمسة اقسام واجب ومحظور ومسنون ومكروه ومباح.
فالواجب ما أمر الله تعالى به على وجه اللزوم وتاركه مستحق للعقاب على تركه.
والمحظور ما نهى الله عنه وفاعله يستحق العقاب على فعله.
والمسنون ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
والمكروه ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله.
والمباح ما ليس فى فعله ثواب ولا عقاب وليس فى تركه ثواب ولا عقاب.
وهذا كله في افعال المكلفين فاما افعال البهائم والمجانين والاطفال فانها لا توصف بالاباحة والوجوب والخطر بحال.
وقالوا ان كل ما وجب على المكلف من معرفة او قول او فعل فانما وجب عليه بامر الله تعالى اياه به وكل ما حرم عليه فعله فبنهى الله تعالى اياه عنه ولو لم يرد الامر والنهى من الله تعالى على عباده لم يجب عليهم شىء ولم يحرم عليهم شىء.
وهذا خلاف قول من زعم من البراهمة والقدرية أن التكليف يتوجه على العاقل بخاطرين بقلبه.
احدهما من قبل الله سبحانه يدعوه به الى النظر والاستدلال.
والآخر من قبل الشيطان يدعوه به الى العصيان وينهاه به عن طاعة الخاطر الاول.
وهذا يوجب عليهم ان يكون ذلك الشيطان مكلفا بخاطرين احدهما من قبل الله تعالى والآخر من قبل شيطان آخر ثم يكون القول فى الشيطان الآخر كالقول فى الاول حتى يتسلل ذلك بشياطين لا الى نهاية وهذا محال وما يؤدى الى المحال محال.
وقالوا فى الركن الحادى عشر المضاف الى فناء العباد واحكامهم فى المعاد(12/235)
ان الله سبحانه قادر على افناء جميع العالم جملة وعلى افناء بعض الاجسام مع بقاء بعضها خلاف قول من زعم من القدرية البصرية انه يقدر على افناء كل الاجسام بفناء يخلقه لا فى محل ولا يقدر على افناء بعض الاجسام مع بقاء بعضها.
وقالوا ان الله عز وجل يعيد فى الآخرة الناس وسائر الحيوانات التى ماتت فى الدنيا خلاف قول من زعم انه انما يعيد الناس دون الاحياء الباقين.
وقالوا بخلق الجنة والنار، خلاف قول من زعم انهما غير مخلوقتين.
وقالوا بدوام نعيم الجنة على اهلها ودوام عذاب النار على المشركين والمنافقين خلاف قول من زعم انهما يفنيان كما زعم جهم وخلاف قول ابى الهذيل القدري بفناء مقدورات الله تعالى فيهما وفى غيرهما.
وقالوا بان الخلود فى النار لا يكون الا للكفرة خلاف قول القدرية والخوارج بتخليد كل من دخل النار فيها.
وقالوا بان القدرية والخوارج يخلدون في النار ولا يخرجون منها وكيف يغفر الله تعالى لمن يقول ليس لله ان يغفر ويخرج من النار من دخلها.
وقالوا باثبات السؤال فى القبر وبعذاب القبر لأهل العذاب وقطعوا بان المنكرين لعذاب القبر يعذبون فى القبر.
وقالوا بالحوض والصراط والميزان ومن انكر ذلك حرم الشرب من الحوض ودحضت قدمه من الصراط الى نار جهنم.
وقالوا باثبات الشفاعة من النبى ومن صلحاء امته للمذنبين من المسلمين ولمن كان فى قلبه ذرة من الايمان والمنكرون للشفاعة يحرمون الشفاعة.
وقالوا في الركن الثانى عشر المضاف الى الخلافة والامامة ان الامامة فرض واجب على الامة لاجل إقامة الامام ينصب لهم القضاة والامناء ويضبط ثغورهم ويغزى جيوشهم ويقسم الفىء بينهم وينتصف لمظلومهم من ظالمهم.(12/236)
وقالوا بأن طريق عقد الامامة للامام فى هذه الامة الاختيار بالاجتهاد وقالوا ليس من النبى نص على امامة واحد بعينه خلاف قول من زعم من الرافضة انه نص على امامة على رضى الله عنه نصا مقطوعا بصحته ولو كان كما قالوه لنقل ذلك نقل مثله ولا ينفصل من ادعى ذلك فى على مع عدم التواتر فى نقله ممن ادعى مثله فى أبى بكر او غيره مع دعم النقل فيه.
وقالوا من شرط الامامة النسب من قريش وهم بنو النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان خلاف قول من زعم من الضرارية أن الامامة تصلح فى جميع أصناف العرب وفى الموالى والعجم وخلاف قول الخوارج بامامة زعمائهم الذين كانوا من ربيعة وغيرهم كنافع بن الازرق الحنفى ونجدة بن عامر الحنفى وعبد الله بن وهب الراسى وحرفوص بن زهير النجلى وشبيب بن يزيد الشيبانى وأمثالهم عنادا منهم لقول النبى صلى الله عليه وسلم {الائمة من قريش}.
وقالوا من شرط الامام العلم والعدالة والسياسة وأوجبوا من العلم له مقدار ما يصير به من اهل الاجتهاد فى الاحكام الشرعية وأوجبوا من عدالته أن يكون ممن يجوز حكم الحاكم بشهادته وذلك بأن يكون عدلا في دينه مصلحا لماله وحاله غير مرتكب لكبيرة ولا مصر على صغيرة ولا تارك للمروءة في جل اسبابه وليس من شرطه العصمة من الذنوب كلها خلاف قول من زعم من الامامية أن الامام يكون معصوما من الذنوب كلها وقد اجازوا له في حال التقية أن يقول لست بامام وهو إمام وقد اباحوا له الكذب في هذا مع قولهم بعصمته من الكذب.
وقالوا ان الامامة تنعقد بمن يعقدها لمن يصلح للامامة اذا كان العاقد من أهل الاجتهاد والعدالة.
وقالوا لا تصح الامامة الا لواحد فى جميع ارض الاسلام الا أن يكون بين الصقعين حاجز من بحر أو عدو لا يطاق ولم يقدر أهل كل واحد من الصقعين على نصرة اهل الصقع الآخر فحينئذ يجوز لأهل صقع عقد الامامة لواحد يصلح لها منهم.(12/237)
وقالوا بامامة أبى بكر الصديق بعد النبى خلاف قول من اثبتها لعلى وحده من الرافضة وخلاف قول الروندية الذين أثبتوا إمامة العباس بعده
وقالوا بتفضيل أبى بكر وعمر وعلى من بعدهما وإنما اختلفوا في التفاضل بين على وعثمان رضى الله عنهما.
وقالوا بموالاة عثمان وتبرءوا ممن اكفره.
وقالوا بامامة على في وقته وقالوا بتصويب على في حروبه بالبصرة وبصفين وبنهروان.
وقالوا بان طلحة والزبير تابا ورجعا عن قتال على لكن الزبير قتله عمرو بن حرمون بوادى السباع بعد منصرفه من الحرب وطلحة لما هم بالانصراف رماه مروان بن الحكم وكان مع أصحاب الجمل بسهم فقتله.
وقالوا إن عائشة رضي الله عنها قصدت الاصلاح بعد الفريقين فغلبها بنو ضبة والأزد على رايها وقاتلوا عليا دون اذنها حتى كان من الأمر ما كان.
وقالوا في صفين إن الصواب كان مع على رضى الله عنه وأن معاوية وأصحابه بغوا عليه بتأويل أخطئوا فيه ولم يكفروا بخطئهم.
وقالوا إن عليا أصاب في التحكيم غير أن الحكمين أخطأ في خلع على من غير سبب أوجب خلعه وخدع أحد الحكمين الآخر.
وقالوا بمروق أهل النهروان عن الدين لان النبى صلى الله عليه وسلم سماهم مارقين لانهم اكفروا عليا وعثمان وعائشة وابن عباس وطلحة والزبير وسائر من تبع عليا بعد التحكيم واكفروا كل ذنب من المسلمين ومن اكفر المسلمين واكفر أخيار الصحابة فهو الكافر منهم.
وقالوا في الركن الثالث عشر المضاف الى الايمان والاسلام إن اصل الايمان المعرفة والتصديق بالقلب وانما اختلفوا في تسمية الاقرار وطاعات الاعضاء الظاهرة ايمانا مع اتفاقهم على وجوب جميع الطاعات المفروضة وعلى استحباب النوافل المشروعة خلاف قول الكرامية الذين زعموا أن الايمان هو الاقرار الفرد سواء كان معه اخلاص او نفاق وخلاف قول من زعم من القدرية والخوراج ان اسم المؤمن يزول عن مرتكبى الذنوب.(12/238)
وقالوا ان اسم الايمان لا يزول بذنب دون الكفر ومن كان ذنبه دون الكفر فهو مؤمن وان فسق بمعصيته.
وقالوا لا يحل قتل امرىء مسلم الا باحدى ثلاث من ردة او زنى بعد احصان او قصاص بمقتول هو كفره وهذا خلاف قول الخوارج فى اباحة قتل كل عاص لله تعالى.
ولو كان المذنبون كلهم كفرة لكانوا مرتدين عن الاسلام ولو كانوا كذلك لكان الواجب قتلهم دون اقامة الحدود عليهم ولم يكن لوجوب قطع يد السارق وجلد القاذف ورجم الزانى المحصن فائدة لان المرتد ليس له حد الا القتل.
وقالوا في الركن الرابع عشر المضاف الى الاولياء والأئمة أن الملائكة معصومون عن الذنوب لقول الله تعالى فيهم {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون مايؤمرون}.
وقال اكثرهم بفضل الانبياء على الملائكة خلاف قول من فضل الملائكة على الانبياء والتزم من اجل ذلك فضل الزبانية على اولى العزم من الرسل.
وقالوا بفضل الانبياء على الاولياء من الامم خلاف قول من فضل بعض الاولياء على بعض الانبياء من الكرامية.
واختلف اهل السنة فى امامة المفضول فأباها شيخنا ابو الحسن الاشعرى وأجازها القلانسى.
وقالوا بموالاة العشرة من اصحاب النبى عليه السلام وقطعوا بأنهم من اهل الجنة وهم الخلفاء الاربعة وطلحة والزبير وسعد بن أبى وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن ثقيل وعبد الرحمن وأبو عبيدة ابن الجراح.
وقالوا بموالاة كل من شهد بدرا مع النبى عليه السلام وقطعوا بانهم من اهل الجنة وكذلك القول فيمن شهد معه احدا إلا رجلا اسمه قزمان فانه قتل باحد جماعة من المشركين وقتل نفسه وكان ينسب الى النفاق وكذلك كل من شهد بيعة الرضوان بالحديبية من اهل الجنة.
وقالوا قد صح الخبر بان سبعين الفا من هذه الامة يدخلون الجنة بلا حساب وان كل واحد منهم يشفع فى سبعين الفا وقد دخل في هذه الجملة عكاشة بن محصن.(12/239)
وقالوا بموالاة كل من مات على دين الاسلام ولم يكن قبل موته على بدعة من ضلالات اهل الاهواء الضالة.
وقالوا فى الركن الخامس عشر المضاف الى احكام أعداء الدين أن اعداء دين الاسلام صنفان صنف كانوا قبل ظهور دولة الاسلام وصنف ظهروا فى دولة الاسلام وتستروا بالاسلام فى الظاهر وكادوا المسلمين وابتغوا غوائلهم.
فالذين كانوا قبل الاسلام اصناف تختلف فيهم الاوصاف.
منهم عبدة الاصنام والاوثان.
ومنهم عبدة انسان مخصوص كالذين عبدوا جمشيذ والذين عبدوا نمروذ بن كنعان والذين عبدوا فرعون ومن جرى مجراهم.
ومنهم الذين عبدوا كل ما استحسنوا من الصور على مذاهب الحلولية فى دعواها حلول روح الإله بزعمهم فى الصور الحسنة.
ومنهم الذين عبدوا الشمس أو القمر أو الكواكب جملة او بعض الكواكب خصوصا ومنهم الذين عبدوا الملائكة وسموها بنات الله وفيهم نزل قول الله تعالى {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى}.
ومنهم من عبد شيطانا مريدا ومنهم قوم عبدوا البقر ومنهم الذين عبدوا النيران.
وحكم جميع عبدة الاصنام والناس والملائكة والنجوم والنيران تحريم ذبائحهم ونكاح نسائهم على المسلمين.
واختلفوا في قبول الجزية منهم فقال الشافعى لا تقبل منهم الجزية وانما يجوز قبولها من اهل الكتاب أو ممن له شبهة كتاب وقال مالك وابو حنيفة بجواز قبولها منهم غير أن مالكا استثنى القرشى منهم واستثنى أبو حنيفة العربى منهم.(12/240)
ومن أصناف الكفرة قبل الاسلام السوفسطائية المنكرة للحقائق ومنهم السمنية القائلون بقدم العالم مع انكارهم للنظر والاستدلال ودعواهم انه لا يعلم شىء الا من طرق الحواس الخمس ومنهم الدهرية القائلون بقدم العالم ومنهم القائلون بقدم هيولى العالم مع اقرارهم بحدوث الأعراض منها ومنهم الفلاسفة الذين قالوا بقدم العالم وأنكروا الصانع وبه قال منهم بيثاغورس وقاوذروس ومنهم الفلاسفة الذين أقروا بصانع قديم ولكنهم زعموا ان صنعه قديم معه وقالوا بقدم الصانع والمصنوع كما ذهب اليه ابن قلس ومنهم الفلاسفة الذين قالوا بقدم الطبائع الاربع والعناصر الاربعة التى هى الارض والماء والنار والهواء ومنهم الذين قالوا بقدم هذه الاربعة وقدم الافلاك والكواكب معها وزعم ان الفلك طبيعة خامسة وانها لا تقبل الكون والفساد لا فى الجملة ولا فى التفصيل.
وقد اجمع المسلمون على ان هؤلاء الاصناف الذين ذكرناهم لا يحل للمسلمين اكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم واختلفوا في قبول الجزية منهم فمن قبلها من اهل الاوثان قبلها منهم ومن لم يقبلها من اهل الاوثان لم يقبلها منهم وبه قال الشافعى واصحابه.
وقالوا فى المجوس انهم اربع فرق زروانية ومسخية وخرمدينية وبهافريدية وذبائح جميعهم حرام وكذلك نكاح نسائهم حرام وقد اجمع الشافعى ومالك وأبو حنيفة والأوزاعى والثورى على جواز قبول الجزية من الروزانية والمسخية منهم وانما اختلفوا في مقدار دياتهم فقال الشافعى دية المجوسى خمس دية اليهودى والنصرانى ودية اليهودى والنصرانى ثلث دية المسلم فدية المجوسى اذا خمس دية المسلم وقال ابو حنيفة دية المجوسى واليهودى والنصرانى كدية المسلم.
واما المزدكية من المجوس فلا يجوز قبول الجزية منهم لانهم فارقوا دين المجوس الاصلية باستباحة المحرمات كلها وبقولهم ان الناس كلهم شركاء فى الاموال والنساء وفى سائر اللذات.(12/241)
وكذلك البهافريدية لا يجوز قبول الجزية منهم وان كانوا احسن قولا من المجوس الاصلية لان دينهم ظهر من زعيمهم بها فريد فى دولة الاسلام وكل كفر ظهر بعد دولة الاسلام فلا يجوز اخذ الجزية من اهله.
واختلف الفقهاء في الصابئين من الكفرة فقال اكثرهم ان حكمهم في الذبيحة والنكاح والجزية كحكم النصارى في جواز ذلك كله ومنهم من قال إن من قال من الصابئين بقدم الهيولى فحكمه كحكم اصحاب الهيولى كما ذكرناه قبل هذا ومن قال منهم بحدوث العالم وكان الخلاف معه في صفات الصانع فحكمة حكم النصارى وبه نقول.
واجمع اصحاب الشافعى على ان البراهمة الذين ينكرون جميع الانبياء والرسل لا تحل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم وان وافقوا المسلمين في حدوث العالم وتوحيد صانعه والخلاف في قبول الجزية منهم كالاخلاف في قبولها من اهل الاوثان.
وأجمع فقهاء الاسلام على استباحة ذبائح اليهود والسامرة والنصارى وعلى جواز نكاح نسائهم وعلى جواز قبول الجزية منهم.
وانما اختلفوا في مقدار الجزية فقال الشافعى ان بذل كل حالم منهم دينار واحدا حقن دمه وقال ابو حنيفة على الموسر منهم ثمانية واربعون درهما وعلى المتوسط اربعة وعشرون وعلى الفقير اثنا عشر.
واختلفوا في حدودهم فقال الشافعى انها كحدود المسلمين ويرجم الزانى منهم اذا كان محصنا وقال ابو حنيفة لا رجم عليهم.
واختلفوا في ديانهم فقال الشافعى دية الرجل منهم ثلث دية المسلم ودية المرأة منهم ثلث دية المرأة المسلمة وقال مالك دية الكتابي نصف دية المسلم وقال ابو حنيفة كدية المسلم سواء.
واختلفوا في جريان القصاص بينهم فقال الشافعى لا يقتل مؤمن بكافر بحال وقال ابو حنيفة يقتل المسلم بالذمى ولا يقتل المستأمن.
واختلفوا ايضا في وجوب الجزية على الشيخ الفانى منهم فأوجبها الشافعى ولم يوجبها ابو حنيفة الا على من كان منهم ذا تدبير في الحروب.(12/242)
واختلفوا في الثنوية من المانوية والديصانية والمرقيونية الذين قالوا بقدم النور والظلمة وزعموا أن العالم مركب منهما وأن الخير والنفع من النور وأن الشر والضرر من الظلام فزعم بعض الفقهاء ان حكمهم كالمجوس واباح اخذ الجزية منهم مع تحريم ذبائحهم ونسائهم والصحيح عندنا ان حكمهم في النكاح والذبيحة والجزية كحكم عبدة الاصنام والاوثان وقد بينا ذلك قبل هذا.
واما الكفرة الذين ظهروا في دولة الاسلام واستتروا بظاهر الاسلام واغتالوا المسلمين في السر كالغلاة من الرافضة السبابية والبيانية والمغيرية والمنصورية والجناحية والخطابية وسائر الحلولية والباطنية والمقنعية والمبيضة بما وراء نهر جيحون والمحمرة باذربيجان ومحمرة طبرستان والذين قالوا بتناسخ الارواح من اتباع ابن أبى العوجاء ومن قال بقول أحمد بن حايط من المعتزلة ومن قال بقول اليزيدية من الخوارج الذين زعموا أن شريعة الاسلام تنسخ بشرع نبى من العجم ومن قال بقول الميمونية من الخوارج الذين أباحوا نكاح بنات البنين وبنات البنات ومن قال بمذاهب العزاقرة من أهل بغداد وقال بقول الحلاجية الغلاة فى مذهب الحلولية او قال بقول البركوكية او الرزامية المفرطة فى ابى مسلم صاحب دولة بنى العباس او قال بقول الكاملية الذين اكفروا الصحابة بتركها بيعة علي واكفروا عليا بتركه قتالهم فان حكم هذه الطوائف التى ذكرناها حكم المرتدين عن الدين ولا تحل ذبائحهم ولا يحل نكاح المرأة منهم ولا يجوز تقريرهم فى دار الاسلام بالجزية بل يجب استتابتهم فان تابوا والا وجب قتلهم واستغنام اموالهم.(12/243)
واختلفوا في استرقاق نسائهم وذراريهم فأباح ذلك ابو حنيفة وطائفة من اصحاب الشافعى منهم ابو اسحاق المروزى صاحب الشرح واباح بعضهم ومن اباح ذلك استدل بان خالد بن الوليد لما قاتل بنى حنيفة وفرغ من قتل مسيلمة الكذاب صالح بنى حنيفة على الصفراء والبيضاء وعلى ربع السبى من النساء والذرية وانفذهم الى المدينة وكان منهم خولة أم محمد بن الحنيفة.
وأما اهل الاهواء من الجارودية والهشامية والنجارية والجهمية والامامية الذين اكفروا أخيار الصحابة والقدرية المعتزلة عن الحق والبكرية المنسوبة الى بكر ابن اخت عبد الواحد والضرارية والمشبهة كلها والخوارج فانا نكفرهم كما يكفرون اهل السنة ولا تجوز الصلاة عليهم عندنا ولا الصلاة خلفهم.
واختلف أصحابنا في التوارث منهم فقال بعضهم نرثهم ولا يرثوننا وبناه على قول معاذ بن جبل ان المسلم يرث من الكافر والكافر لا يرث من المسلم والصحيح عندنا ان اموالهم فيء لا توارث بينهم وبين السنى وقد روى ان شيخنا أبا عبد الله الحرث بن اسد المحاسبى يأخذ من ميراث ابيه شيئا لان اباه كان قدريا.
وقد أشار الشافعى الى بطلان صلاة من صلى خلف من يقول بخلق القرآن ونفى الرؤية.
وروى هشام بن عبد الله الرازى عن محمد ابن الحسن انه قال فيمن صلى خلف من يقول بخلق القرآن انه يعيد الصلاة.
وروى يحيى بن اكثم ان أبا يوسف سئل عن المعتزلة فقال هم الزنادقة.
واشار الشافعى في كتاب الشهادات الى جواز شهادة اهل الاهواء إلا الخطابية الذين اجازوا شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم واشار في كتاب القياس الى رجوعه عن قبول شهادة المعتزلة وسائر اهل الاهواء.
ورد مالك شهادة اهل الاهواء في رواية اشهب عن ابن القسم والحرث بن مسكين عن مالك انه قال في المعتزلة زنادقة لا يستتابون بل يقتلون(12/244)
واما المعاملة معهم بالبيع والشراء فحكم ذلك عند اهل السنة كحكم عقود المفاوضة بين المسلمين الذين فى اطراف الثغور وبين اهل الحرب وان كان قتلهم مباحا ولا يجوز ان يبيع المسلم منهم مصحفا ولا عبدا مسلما في الصحيح من مذهب الشافعى.
واختلف اصحاب الشافعى في حكم القدرية المعتزلة عن الحق فمنهم من قال حكمهم حكم المجوس لقول النبى عليه السلام في القدرية انهم مجوس هذه الامة فعلى هذا القول يجوز اخذ الجزية منهم ومنهم من قال حكمهم حكم المرتدين وعلى هذا لا تؤخذ منهم الجزية بل يستتابون فان تابوا والا وجب على المسلمين قتلهم.
وقد استقصينا بيان احكام اهل الاهواء فى كتاب الملل والنحل وذكرنا في هذا الكتاب طرفا من احكامهم عند اهل السنة وفيه كفاية والله اعلم.
{الفصل الرابع}
من فصول هذا الباب
قولنا في السلف الصالح من الامة
أجمع اهل السنة على ايمان المهاجرين والانصار من الصحابة هذا خلاف قول من زعم من الرافضة أن الصحابة كفرت بتركها بيعة على وخلاف قول الكاملية فى تكفير على بتركه قتالهم.
واجمع اهل السنة على أن الذين ارتدوا بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم من كندة وحنيفة وفزارة وبنى اسد وبنى قشير وبنى بكر ابن وائل لم يكونوا من الانصار ولا من المهاجرين قبل فتح مكة وانما أطلق الشرع اسم المهاجرين على من هاجر الى النبى صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة واولئك بحمد الله ومنه درجوا على الدين القويم والصراط المستقيم.
وأجمع اهل السنة على أن من شهد مع رسول الله بدرا من اهل الجنة وكذلك كل من شهد معه بيعة الرضوان بالحديبية.
وقالوا بما ورد به الخبر بأن سبيعن الفا من امة الاسلام يدخلون الجنة بلا حساب منهم عكاشة بن محصن وأن كل واحد منهم يشفع في سبعين الفا.
وقالوا بموالاة اقوام وردت الاخبار بأنهم من أهل الجنة وأن لهم الشفاعة في جماعة من الامة منهم اويس القرنى والخبر فيهم مشهور.(12/245)
وقالوا بتكفير كل من اكفر واحد من العشرة الذين شهد لهم النبى بالجنة.
وقالوا بموالاة جميع ازواج رسول الله واكفروا من اكفرهن أو اكفر بعضهن.
وقالوا بموالاة الحسن والحسين
والمشهورين من اسباط رسول الله عليه السلام كالحسن بن الحسن وعبد الله بن الحسن وعلى بن الحسين زين العابدين ومحمد بن على بن الحسين المعروف بالباقر وهو الذى بلغه جابر بن عبد الله الانصارى سلام رسول الله عليه السلام عليه وجعفر بن محمد المعروف بالصادق وموسى بن جعفر وعلى بن موسى الرضا وكذلك قولهم في سائر اولاد على من صلبه كالعباس وعمر ومحمد بن الحنفية وسائر من درج على سنن آبائه الطاهرين دون من مال منهم الى اعتزال او رفض ودون من انتسب اليهم وأسرف في عداوته وظلمه كالبرقعى الذى عدا على اهل البصرة ظلما وعدوانا واكثر النسابين على أنه كان دعيا فيهم ولم يكن منهم.
وقالوا بموالاة اعلام التابعين للصحابة باحسان وهم الذين قال الله تعالى فيهم {يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}.
وقالوا في كل من اظهر اصول اهل السنة.
وانما تبرءوا من اهل الملل الخارجة عن الاسلام ومن اهل الأهواء الضالة مع انتسابها الى الاسلام كالقدرية والمرجئة والرافضة والخوارج والجهمية والنجارية والمجسمة وقد تقدم بيان تفصيل هذه الجملة في الفصل الذى قبل هذا الفصل بما فيه كفاية.
{الفصل الخامس}
من فصول هذا الباب
في بيان عصمة الله أهل السنة عن تكفير بعضهم بعضا(12/246)
أهل السنة لا يكفر بعضهم بعضا، وليس بينهم خلاف يوجب التبرى والتكفير. فهم إذن أهل الجماعة القائمون بالحق، والله تعالى يحفظ الحق وأهله، فلا يقعون في تنابذ وتناقض، وليس فريق من فرق المخالفين إلا وفيهم تكفير بعضهم لبعض، وتبرى بعضهم من بعض، كالخوارج، والروافض، والقدرية، حتى اجتمع سبعة منهم في مجلس واحد فافترقوا عن تكفير بعضهم بعضا، وكانوا بمنزلة اليهود والنصارى حين كفر بعضهم بعضا، حتى قالت اليهود: {لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}.
وقد عصم الله أهل السنة من أن يقولوا في أسلاف هذه الأمة منكرا، أو يطعنوا فيهم طعنا، فلا يقولون في المهاجرين، والأنصار، وأعلام الدين، ولا في أهل بدر، وأحد، وأهل بيعة الرضوان، إلا أحسن المقال، ولا في جميع من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ولا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وأولاده، وأحفاده، مثل الحسن والحسين، والمشاهير من ذرياتهم، مثل عبد الله ابن الحسن، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى الرضا عليهم السلام، ومن جرى منهم على السداد من غير تبديل ولا تغيير، ولا في الخلفاء الراشدين، ولم يستجيزوا أن يطعنوا في واحد منهم.(12/247)
وكذلك في أعلام التابعين، وأتباع التابعين الذين صانهم الله تعالى عن التلوث بالبدع، وإظهار شيء من المنكرات، ولا يحكمون في عوامّ المسلمين إلا بظاهر إيمانهم، ولا يقولون بتكفير واحد منهم إلا أن يتبين منه ما يوجب تكفيره، ويصدقون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لاَيَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، أخرجه البخاري، وقد ورد أنه يشفع كل واحد منهم في عدد ربيعة ومضر، ويوجبون على أنفسهم الدعاء لمن سلف من هذه الأمة، كمت أمر الله تعالى في كتابه حيث قال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِللاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
{الفصل السادس}
من فصول هذا الباب
في بيان فضائل أهل السنة وأنواع علومهم وأئمتهم
اعلم أنه لا خصلة من الخصال التى تعدّ فى المفاخر لأهل الإسلام من المعارف والعلوم، وأنواع الإجتهادات، إلا ولأهل السهنة والجماعة في ميدانها القدح المعلى والسهم الأوفر، فدونك أئمة أصول الدين وعلماء الكلام من أهل السنة.
فأول متكلميهم من الصحابة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حيث ناظر الخوارج في مسائل الوعد والوعيد، وناظر القدرية في المشيئة والإستطاعة والقدر، ثم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث تبرأ من معبد الجهني في نفيه القدر.
وأول متكلمي أهل السنة من التابعين عمر بن عبد العزيز، وله رسالة بليغة في الردّ على القدرية، ثم زيد بن على زين العابدين، وله كتاب في الردّ على القدرية، ثم الحسن البصري، ورسالته إلى عمر بن عبد العزيز في ذم القدرية معروفة، ثم الشعبي، وكان أشد الناس على القدرية، ثم الزهري، وهو الذي أفتى عبد الملك بن مروان بدماء القدرية.(12/248)
ومن بعد هذه الطبقة جعفر بن محمد الصادق، وله كتاب الرد على القدرية، وكتاب الرد على الخوارج، ورسالة في الرد على الغلاة من الروافض.
وأول متكلميهم من الفقهاء وأرباب المذاهب: أبو حنيفة، والشافعي، فإن أبا حنيفة له كتاب في الرد على القدرية سماه "كتاب الفقه الأكبر"، وله رسالة أملاه في نصرة قول أهل السنة إن الإستطاعة مع الفعل، ولكنه قال: إنها تصلح للضدين، وعلى هذا قوم من أصحابنا، وللشافعي كتابان في الكلام، أحدهما: في تصحيح النبوة والرد على الجهمية، والثاني: في الرد على أهل الأهواء.
فأما المريسي من أصحاب أبي حنيفة فإنما وافق المعتزلة في خلق القرآن وأكفرهم في خلق الأفعال.
ثم من بعد الشافعي تلامذته الجامعون بين علم الفقه والكلام، وكان أبو العباس بن سُريج أبرع الجماعة في هذه العلوم، وله نقض كتاب الجاروف على القائلين بتكافؤ الأدلة.
ثم من بعده الإمام أبو الحسن الأشعري الذي صار شَجًى في حلوق القدرية.
ومن تلامذته المشهورين أبو الحسن الباهلي، وأبو عبد الله بن مجاهد، وهما اللذان أثمرا تلامذتهم إلى اليوم شموس الزمان وأئمة العصر، كأبي بكر محمد بن الطيب [الباقلاني]، وأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرايني، وابن فورك.
وقبل هذه الطبقة: أبو على الثقفي، وفي زمانه كان إمام السنة أبو العباس القلانسي الذي زادت تصانيفه في الكلام على مائة وخمسين كتابا، وقد أدركنا منهم في عصرنا ابنَ مجاهد، وابن الطيب، وابن فورك، وإبراهيم بن محمد رضي الله عن الجميع، وهم القادة السادة في هذا العلم.
وأما أئمة الفقه في عهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم فقد ملأوا العالم علما، وليس بينهم من يناصر السنة والجماعة، وهم أشهر من نار على علَم، ففي سرد أسمائهم طول.(12/249)
وأما أئمة الحديث والإسناد فهم سائرون على هذا المهيع الرشيد، لا يوصم أحد منهم ببدعة، وفي طبقاتهم كتب خاصة تغنى عن ذكر أسمائهم هنا، وآثرهم الخالدة لم تزل بأيدى حملة العلم مدى الدهر، وكذلك أئمة الإرشاد والتصوف كانوا على توالى القرون على هذا المنهج السديد في المعتقد.
وكذلك جمهرة أهل النحو واللغة والأدب كانوا على معتقد أهل السنة، فمن الكوفيين: المفضل الضبي، وابن الأعرابي، والرؤاسي، والكسائي، والفراء، وأبو عبيد قاسم بن سلاّم، وعلي بن المبارك اللحياني، وأبو عمرو الشيباني، وإبراهيم الحربي، وثعلب، وابن الأنباري، وابن مقسم، وأحمد بم فارس، كانوا كلهم من أهل السنة.
ومن البصريين: أبو الأسود الدؤلي، ويحيى بن معمر، وعيسى بن عمر الثقفي، وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وبعدهم أبو عمرو بن العلاء الذي قال له عمرو بن عبيد القدري: وقد ورد من الله تعالى الوعد والوعيد، والله تعالى يصدق وعده ووعيده، فأراد بهذا الكلام أن ينصر بدعته التي ابتدعها في أن العصاة من المؤمنين خالدون مخلدون في النار، فقال أبو عمرو بن العلاء: فأين أنت من قول العرب: إن الكريم إذا أوعد عفا، وإذا وعد وفي، وافتخار قائلهم بالعفو عند الوعيد حيث قال:
وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إبعادي ومنجز موعدي
فعده من الكرم لا من الخلق المذموم، وكذا الخليل بن أحمد، وخلف الأحمر، ويونس بن حبيب، وسيبويه، والأخفش، والأصمعي، وأبي زيد الأنصاري، والزجاج، والمازني، والمبرد، وأبي حاتم السجستاني، وابن دريد، والأزهري، وغيرهم من أئمة الأدب، لم يكن بينهم أحد إلا وله إنكار على أهل البدعة شديد، وبُعْد عن بدعهم بعيد، ولم يكن في مشاهيرهم من تدنّس بشيء من بدع الروافض والخوارج والقدرية.(12/250)
وكذلك أئمة القراء وحملة التفسير بالرواية من عهد الصحابة إلى عهد محمد بن جرير الطبري وأقرانه ومن بعدهم، كانوا كلهم من أهل السنة، وكذلك المفسرون بالدراية إلا بعض أفراد من أهل البدعة.
وكذلك مشاهير علماء المغازى، والسير، والتواريخ، ونقد الأخبار، وحملة الرواية من أهل السنة والجماعة.
فيظهر بذلك أن جماه الفضل في العلوم في أهل السنة والجماعة، حشرنا الله سبحانه في زمرتهم.
{الفصل السابع}
من فصول هذا الباب
في بيان آثار أهل السنة في الدين والدنيا وذكر مفاخرهم فيهما
ألمنا ببعض آثار أهل السنة فى شتى العلوم، بحيث يظهر من ذلك أنهم لا يلحقون فى هذا المضمار، ومؤلفاتهم في الدين والدنيا فخر خالد مدى الدهر للأمة المحمدية، وأما آثارهم العمرانية في بلاد الإسلام فمشهور ماثلة أمام الباحثين، خالدة في بطون التواريخ بحيث لا يلحقهم في ذلك لاحق، كالمساجد والمدارس والقصور والرباطات والمصانع والمستشفيات وسائر المبانى المؤسسة في بلاد السنة، وليس لسوى أهل السنة عمل يذكر في ذلك.
وقد بنى الوليد بن عبد الملك المسجد النبوي، ومسجد دمشق على أبدع نظام، وكان سنيا، وبنى أخوه مسلمة المسجد بقسطنطينية، وكا سنيا، وكل ما في الحرمين وسائر الحواضر من شواهق الآثار فمن عمل أهل السنة.
وأما سعي بعض العبيديين في عمارات فشيء لا يذكر أمام أعمال ملوك السنة على اختلاف الدول، على أنه لاموقع لما كانوا يبنونه مع سوء اعتقادهم، كما قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْر}، ولا يتسع المقام لسرد ما لأهل السنة من الآثار الفاخرة في الدين والدنيا.
وفي هذه الإلمامة كفاية في استذكار مآثر أهل السنة التي لا آخر لها في ناحيتي الدين والدنيا، ولله الحمد، وله الفضل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أحمعين.(12/251)
الملل والنحل
القسم الأول
أرباب الديانات والملل من المسلمين وأهل الكتاب وممن له شبهة كتاب
نتكلم ههنا في معنى الدين والملة والشرعية والمنهاج والإسلام والحنيفية والسنة والجماعة فإنها عبارات وردت في التنزيل ولكل واحدة منها معنى يخصها وحقيقة توافقها لغة واصطلاحا وقد بينا معنى الدين : أنه الطاعة والانقياد وقد قال الله تعالى : " إن الدين عند الله الإسلام " وقد يرد بمعنى الجزاء يقال : كما تدين تدان أي كما تفعل تجازى وقد يرد بمعنى الحساب يوم المعاد والتناد قال تعالى : " ذلك الدين القيم " فالمتدين : هو المسلم المطيع المقر بالجزاء والحساب يوم التناد والمعاد قال الله تعالى : " ورضيت لكم الإسلام ديناً " ولما كان نوع الإنسان محتاجاً إلى اجتماع مع آخر من بني جنسه في إقامة معاشه الاستعداد لمعاده وذلك الاجتماع يجب أن يكون على شكل يحصل به التمانع والتعاون حتى يحفظ بالتمانع ما هو له ويحصل بالتعاون ما ليس له فصورة الاجتماع على هذه الهيئة هي : الملة .
والطريق الخاص الذي يوصل إلى هذه الهيئة هو المنهاج الشرعة والسنة .
والاتفاق على تلك السنة هي الجماعة قال الله تعالى : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " ثم كيفية التقرير الأول والتكميل بالتقرير الثاني بحيث يكون مصدقاً كل واحد ما بين يديه من الشرائع الماضية والسنن السالفة تقديراً للأمر على الخلق وتوفيقا ًللدين على الفطرة - فمن خاصية النبوة : لا يشاركهم فيها غيرهم .
وقد قيل : إن الله عز وجل أسس دينه على مثال خلقه ليستدل بخلقه على دينه وبدينه على خلقه .
الجزء الأول المسلمون
قد ذكرنا معنى الإسلام .(13/1)
ونفرق ها هنا بينه وبين الإيمان والإحسان ونبين : ما المبدأ وما الوسط وما الكمال - بالخبر المعروف في دعوة جبريل عليه السلام حيث جاء على صورة أعرابي وجلس حتى ألصق ركبته بركبة النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " يا رسول الله ! ما الإسلام " فقال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان ويحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " قال : " صدقت " ثم قال : " ما الإيمان " قال عليه السلام : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك " قال : " صدقت " .
ثم قال : " متى الساعة " قال عليه السلام : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " .
ثم قام وخرج فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم " .
ففرق في التفريق بين الإسلام والإيمان .
والإسلام قد يرد بمعنى الاستسلام ظاهرا ويشترك فيه المؤمن والمنافق .
قال الله تعالى : " قالت الأعراب آمنا : قل : لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " ففرق التنزيل بينهما .
فإذا كان الإسلام بمعنى التسليم والانقياد ظاهراً موضع الاشتراك فهو المبدأ .
ثم إذا كان الإخلاص معه بأن يصدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويقر عقداً بأن القدر خيره وشره من الله تعالى بمعنى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه كان مؤمناً حقاً .
ثم إذا جمع بين الإسلام والتصديق وقرن المجاهدة بالمشاهدة وصار غيبه شهادة فهو الكمال .
فكان الإسلام : مبدأ والإيمان : وسطاً والإحسان : كمالاً .
وعلى هذا شمل لفظ المسلمين : الناجي والهالك .(13/2)
وقد يرد الإسلام وقرينه الإحسان قال الله تعالى : " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن " يحمل قوله تعالى : " ورضيت لكم الإسلام ديناً " وقوله : " إن الدين عند الله الإسلام " وقوله : " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " وقوله : " فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " وعلى هذا خص الإسلام بالفرقة الناجية .
والله أعلم .
أهل الأصول المختلفون في : التوحيد والعدل والوعد والوعيد والسمع والعقل .
نتكلم ها هنا في معنى الأصول : معرفة الباري تعالى بوحدانيته وصفاته ومعرفة الرسل بآياتهم وبيناتهم .
وبالجملة : كل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول .
ومن المعلوم أن الدين إذا كان منقسماً إلى معرفة وطاعة والمعرفة أصل والطاعة فرع فمن تكلم في المعرفة والتوحيد كان أصولياً ومن تكلم في الطاعة والشريعة كان فروعياً .
فالأصول : هو موضوع علم الكلام والفروع : هو موضوع علم الفقه .
وقال بعض العقلاء : كل ما هو معقول ويتوصل إليه بالنظر والاستدلال فهو من الأصول .
وكل ما هو مظنون ويتوصل إليه بالقياس والاجتهاد فهو من الفروع .
وأما التوحيد فقد قال أهل السنة وجميع الصفاتية : إن الله تعالى واحد في ذاته : لا قسيم لهن وواحد في صفاته الأزلية : لا نظير له، وواحد في أفعاله : لا شريك له، وقال أهل العدل : إن الله تعالى واحد في ذاته : لا قسمة ولا صفة له، وواحد في أفعاله : لا شريك له فلا قديم غير ذاته : ولا قسيم له في أفعاله ومحال وجود قديمين ومقدور بين قادرين وذلك هو التوحيد .
وأما العدل فعلى مذهب أهل السنة أن الله تعالى عدل في أفعاله بمعنى أنه متصرف في ملكه وملكه : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
فالعدل : وضع الشيء موضعه وهو التصرف في الملك على مقتضى المشيئة والعلم والظلم بضده فلا يتصور منه جور الحكم وظلم في التصرف .(13/3)
وعلى مذهب أهل الاعتزال : العدل : ما يقتضيه العقل من الحكمة وهو إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة .
وأما الوعد والوعيد فقد قال أهل السنة : الوعد والوعيد كلامه الأزلي وعد على ما أمر وأوعد ما نهى فكل من نجا واستوجب الثواب فبوعده وكل من هلك واستوجب العقاب فبوعيده فلا يجب عليه شيء من قضية العقل .
وقال أهل العدل : لا كلام في الأزل وإنما أمر ونهى ووعد وأوعد بكلام محدث فمن نجا فبفعله استحق الثواب ومن خسر فبفعله استوجب العقاب والعقل من حيث الحكمة يقتضي ذلك .
وأما السمع والعقل فقد قال أهل السنة : الواجبات كلها بالسمع والمعارف كلها بالعقل .
فالعقل لا يحسن ولا يقبح ولا يقتضى ولا يوجب والسمع لا يعرف أي لا يوجد المعرفة بل يوجب .
وقال أهل العدل : المعارف كلها معقولة بالعقل واجبة بنظر العقل وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع والحسن والقبح : صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح .
فهذه القواعد هي المسائل التي تكلم فيها أهل الأصول .
وسنذكر مذهب كل طائفة مفصلاً إن شاء الله تعالى .
ولكل علم موضوع ومسائل نذكرهما بأقصى الإمكان إن شاء الله تعالى .
المعتزلة وغيرهم : من الجبرية والصفاتية والمختلطة منهم .
الفريقان من : المعتزلة والصفاتية : متقابلا نتقابل التضاد وكذلك : القدرية والجبرية والمرجئة والوعيدية والشيعة والخوارج .
وهذا التضاد بين كل فريق وفريق كان حاصلاً في كل زمان ولكل فرقة : مقالة على حيالها .
وكتب صنفوها ودولة عاونتهم وصولة طاوعتهم .
الباب الأول المعتزلة
ويسمون : أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية والعدلية .
وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركاً وقالوا : لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى إحترازاً من وصمة اللقب إذ كان من الذم به متفقاً عليه لقول النبي عليه السلام : " القدرية مجوس هذه الأمة " .(13/4)
وكانت الصفاتية تعارضهم : بالاتفاق على أن الجبرية والقدرية متقابلتان تقابل التضاد فكيف يطلق لفظ الضد على الضد وقد قال النبي عليه السلام : " القدرية : خصماء الله في القدر " والخصومة في القدر وانقسام الخير والشر على ما فعل الله وفعل العبد لن يتصور على مذهب من يقول بالتسليم والتوكل وإحالة الأحوال كلها على القدر المحتوم والحكم المحكوم .
والذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد : القول بأن الله تعالى قديم والقدم أخص وصف ذاته ونفا الصفات القديمة أصلاً فقالوا : هو عالم بذاته قادر بذاته حي بذاته لا بعلم وقدرة وحياة : هي صفات قديمة ومعان قائمة به لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الإلهية .
واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه فإن ما وجد في لمحل عرض قد فنى في الحال .
واتفقوا على أن الإرادة والسمع والبصر : ليست معاني قائمة بذاته لكن اختلفوا في وجوه وجودها ومحامل معانيها كما سيأتي .
واتفقوا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار ونفى التشبيه عنه من كل وجه : ومكانا وصورة وجسماً وتحيزاً وانتقالاً وزوالاً وتغيراً وتأثراً وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيه .
وسموا هذا النمط : توحيداً .
واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة .
والرب تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية لأنه لو خلق الظلم كان ظالماً كما لو خلق العدل كان عادلاً .
واتفقوا على أنه الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد .
وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه خلاف عندهم .
وسموا هذا النمط : عدلاً .
واتفقوا على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة : استحق الثواب والعوض والتفضل معنى آخر وراء الثواب .(13/5)
وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها : استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار .
وسموا هذا النمط : وعدا ووعيداً .
واتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة : واجبة قبل ورود السمع والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك .
وورود التكاليف ألطاف للباري تعلى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهم السلام : امتحاناً واختباراً " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة " .
واختلفوا في الإمامة والقول فيها : نصاً واختباراً كما سيأتي عند كل طائفة .
والآن نذكر ما يختص بطائفة طائفة من المقالة التي تميزت بها عن أصحابها .
الواصلية
أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال الألثغ كان تلميذاً للحسن البصري يقرأ عليه العلوم الأخبار وكانا في أيام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك .
وبالمغرب في أيام أبي جعفر المنصور .
ويقال لهم : الواصلية .
واعتزالهم يدور على أربعة قواعد :
القاعدة الأولى : القول بنفي صفات الباري تعالى من العلم والقدرة والإرادة والحياة .
وكانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر وهو الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين قال : " ومن أثبت معنى وصفة قديمة فقد أثبت إلهين " .
وإنما شرعت أصحابه فيها بعد مطالعة كتب الفلاسفة وانتهى نظرهم فيها إلى رد جميع الصفات إلى كونه : عالماً قادراً ثم الحكم بأنهما صفتان ذاتيتان هما : اعتباران للذات القديمة كما قال الجبائي أو حالان كما قال أبو هاشم .
وميل أبو الحسين البصري إلى ردهما إلى صفة واحدة وهي العالمية وذلك عين مذهب الفلاسفة وسنذكر تفصيل ذلك .
وكان السلف يخالفهم في ذلك إذ وجدوا الصفات مذكورة في الكتاب والسنة .
القاعدة الثانية : القول بالقدر : وغنما سلكوا في ذلك مسلك معبد الجهني وغيلان الدمشقي .(13/6)
وقرر واصل بن عطاء هذه القاعدة أكثر مما كان يقرر قاعدة الصفات فقال إن الباري تعالى حكيم عادل لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمرن ويحتم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليه فالعبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والمعصية وهو المجازى على فعله والرب تعالى أقدره على ذلك كله .
وأفعال العباد محصورة في : الحركات والسكنات والاعتمادات والنظر والعلم قال : ويستحيل أن يخاطب العبد بالفعل وهو لا يمكنه أن يفعل ولا هو يحس من نفسه الاقتدار والفعل ومن أنكره فقد أنكر الضرورة واستدل بآيات على هذه الكلمات .
ورأيت رسالة نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبد الملك بن مروان وقد سأله عن القول بالقدر والجبر فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدرية واستدل فيها بآيات من الكتاب ودلائل من العقل ولعلها لواصل ابن عطاء فما كان الحسن ممن يخالف السلف في أن القدر خيره وشره من الله تعالى فإن هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم .
والعجب ! أنه حمل هذا اللفظ الوارد في الخبر على : البلاء والعافية والشدة والرخاء والمرض والشفاء والموت والحياة إلى غير ذلك من أفعال الله تعالى دون : الخير والشر والحسن والقبيح الصادرين من اكتساب العباد .
وكذلك أورده جماعة من المعتزلة في المقالة عن أصحابهم .(13/7)
القاعدة الثالثة : القول بالمنزلة بين المنزلتين والسبب فيه أنه دخل واحد على الحسن البصري فقال : يا إمام الدين ! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء : أنا لا أقول : صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً بل هو في منزلة بين المنزلتين : لا مؤمن ولا كافر ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن فقال الحسن : اعتزل عنا واصل فسمي هو وأصحابه : معتزلة .
ووجه تقريره انه قال : إن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سمى المرء مؤمناً وهو اسم مدح والاسم لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح فلا يسمى مؤمناً وليس هو بكافر مطلقا أيضاً لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالداً فيها إذ ليس في الآخرة إلا فريقان : فريق في الجنة وفريق في السعير لكنه يخفف عنه العذاب وتكون دركته فوق دركة الكفار .
وتابعه على ذلك عمرو بن عبيد بعد أن كان موافقاً له في القدر وإنكار الصفات .
القاعدة الرابعة : قوله في الفريقين من أصحاب الجمل وأ صحاب صفين : إن أحدهما مخطئ بعينه وكذلك قوله في عثمان وقاتليه وخاذليه .(13/8)
قال : إن أحد الفريقين فاسق لا محالة كما أن أحد المتلاعنين فاسق لا محالة لكن لا بعينه وقد عرفت قوله في الفاسق وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين فلم يجوز قبول شهادة علي وطلحة والزبير على باقة بقل وجوز أن يكون عثمان وعلي على الخطأ .
هذا قولهَ ! وهو رئيس المعتزلة ومبدأ الطريقة في أعلام الصحابة وأئمة العترة .
ووافقه عمرو بن عبيد على مذهبه وزاد عليه في تفسيق أحد الفريقين لا بعينه بأن قال : لو شهد رجلان من أحد الفريقين مثل علي ورجل من عسكره أو طلحة والزبير : لم تقبل شهادتهما وفيه تفسيق الفريقين وكونهما من أهل النار .
وكان عمرو بن عبيد من رواة الحديث معروفاً بالزهد .
وواصل مشهوراً بالفضل والأدب الهذيلية أصحاب أبي الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف : شيخ المعتزلة ومقدم الطائفة ومقرر الطريقة والمناظر عليها أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء .
ويقال : أخذ واصل بن عطاء عن أبي هاشم عبد الله بن محمد الحنفية ويقال : أخذه عن الحسن بن أبي الحسن البصري .
وإنما انفرد عن أصحابه بعشر قواعد : الأولى : أن الباري تعالى عالم بعلمه وعلمه بذاته قادر بقدرة وقدرته ذاته حي بحياة وحياته ذاته .
وإما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الذين اعتقدوا : أن ذاته واحدة لا ثرة فيها بوجه وإنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته بل هي ذاته وترجع إلى أسلوب أو اللوازم كما سيأتي .
والفرق بين قول القائل : عالم بذاته لا بعلم وبين قول القائل : عالم بعلم هو ذاته أن الأول نفى الصفة والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة أو إثبات صفة هي بعينها ذات .
وإذ أثبت أبو الهذيل هذه الصفات وجوهاً للذات فهي بعينها أقانيم النصارى أو أحوال أبي هاشم .
الثانية : أنه أثبت إرادات لا محل لها يكون الباري تعالى مريداً بها .(13/9)
وهو أول من أحدث هذه المقالة وتابعه عليها المتأخرون .
الثالثة : قال في كلام الباري تعالى : إن بعضه لا في محل وهو قوله كن وبعضه في محل كالأمر والنهي والخبر والإستخبار .
وكأن أمر التكوين عنده غير أمر التكليف .
الرابعة : قوله في القدر مثل ما قاله أصحابه إلا أنه قد ري الأولى جبري الآخرة فإن مذهبه في حركات أهل الخلدين في الآخرة : أنها كلها ضرورية لا قدرة للعباد عليها وكلها مخلوقة للباري تعالى إذ كانت مكتسبة للعباد لكانوا مكلفين بها .
الخامسة : قوله إن حركات أهل الخلدين تنقطع وإنهم يصيرون إلى سكون دائم خموداً وتجتمع للذات قي ذلك السكون لأهل الجنة وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار .
وهذا قريب من مذهب جهم : إذ حكم بفناء الجنة والنار .
وإنما التزم أبو الهديل هذا المذهب لأنه لما ألزم في مسألة حدوث العالم : أن الحوادث التي لا أول لها كالحوادث التي لا آخر لها إذ كل واحدة لا تتناهى قال : إني لا أقول بحركات لا تتناهى آخراً كما لا أقول بحركات لا تتناهى أولاً بل يصيرون إلى سكون دائم وكأنه ظن أن ما لزمه في الحركة لا يلزمه في السكون .
السادسة : قوله في الاستطاعة : إنها عرض من الأعراض غير السلامة والصحة وفرق بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح فقال لا يصح وجود أفعال القلوب منه مع عدم القدرة فالاستطاعة معها في حال الفعل .
وجوز ذلك في أفعال الجوارح وقال بتقدمها فيفعل بها في الحال الأولى وإن لم يوجد الفعل إلا في الحالة الثانية قال : فحال يفعل غير حال فعل .
ثم ما تولد من فعل العبد فهو فعله غير اللون والطعم والرائحة ما لا يعرف كيفيته .
وقال في الإدراك والعلم الحادثين في غيره عند إسماعه وتعليمه : إن الله تعالى يبدعهما فيه وليسا من أفعال العباد .(13/10)
السابعة : قوله في المكلف قبل ورود السمع : إنه يجب عليه أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر وإن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبداً ويعلم أيضاً حسن الحسن وقبح القبيح فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل والإعراض عن القبيح كالكذب والجور .
وقال أيضاً بطاعات لا يراد بها الله تعالى ولا يقصد بها التقرب إليه كالقصد إلى النظر الأول والنظر الأول فإنه لم يعرف الله بعد والفعل عبادة وقال في المكره : إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما أكره عليه فله أن يكذب ويكون وزره موضوعاً عنه .
الثامنة : قوله في الآجال والأرزاق : إن الرجل إن لم يقتل مات في ذلك الوقت ولا يجوز أن يزاد في العمر أو ينقص .
والأرزاق على وجهين : أحدهما : ما خلق الله تعالى من الأمور المنتفع بها يجوز أن يقال خلقها رزقاً للعباد فعلى هذا من قال : إن أحداً أكل أو انتفع بما لم يخلقه الله رزقاً فقد أخطأ لما فيه : أن في الأجسام ما لم يخلقه الله تعالى .
والثاني : ما حكم الله به من هذه الأرزاق للعباد فما أحل منها فهو رزقه وما حرم فليس رزقاً أي ليس مأموراً بتناوله .
التاسعة : حكى الكعبي عنه أنه قال : إرادة الله غير المراد فإرادته لما خلق : هي خلقه له وخلقه للشيء عنده غير الشيء بل الخلق عنده قول لا في محل .
وقال إنه تعالى لم يزل سميعاً بصيراً بمعنى سيسمع وسيبصر وكذلك لم يزل : غفوراً رحيماً محسناً خالقاً رازقاً معاقباً موالياً معادياً آمراً ناهياً بمعنى أن ذلك سيكون منه .
العاشرة : حكى الكعبي عنه أنه قال : الحجة لا تقوم فيما غاب إلا بخبر عشرين فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر ولا تخلو الأرض عن جماعة هم فيها أولياء الله : معصومون لا يكذبون ولا يرتكبون الكبائر فهم الحجة لا التواتر إذ يجوز أن يكذب جماعة ممن لا يحصون عدداً إذا لم يكونوا أولياء الله ول يكن فيهم واحد معصوم .(13/11)
وصحب أبا الهذيل أبو يعقوب الشحام والآدمي وهما على مقالته .
وكان سنه مائة سنه توفي في أول خلافة المتوكل سنة خمس وثلاثين ومائتين .
النظامية
أصحاب إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام قد طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة وانفرد عن أصحابه بمسائل : الأولى مها : أنه زاد على القول بالقدر خيره وشره منا قوله : إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي وليست هي مقدورة للباري تعالى خلافاً لأصحابه فإنهم قضوا بأنه غير قادر عليها لكنه لا يفعلها لأنها قبيحة .
ومذهب النظام : أن القبح إذا كان صفة للقبيح وهو المانع من الإضافة إليه فعلاً ففي تجويزك وقوع القبيح منه قبح أيضاً فيجب أن يكون مانعاً ففاعل العدل لا يوصف بالقدرة على الظلم .
وزاد أيضاً على هذا الإختباط فقال : إنما يقدر على فعل ما يعلم أن فيه صلاحا لعباده ولا يقدر على أن يفعل بعباده في الدنيا ما ليس في صلاحهم هذا في تعلق قدرته بما يتعلق بأمور الدنيا وأما أمور الآخرة فقال : لا يوصف الباري تعالى بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل الجنة ولا أن يخرج أحداً من أهل الجنة وليس ذلك مقدوراً له .
وقد ألزم عليه : إن يكون الباري تعالى مطبوعاً مجبوراً على ما يفعله فإن القادر على الحقيقة : من يتخير بين الفعل والترك فأجاب : إن الذي ألزمتموني في القدرة يلزمكم في الفعل فإن عندكم يستحيل إن يفعله وإن يفعله وإن كان مقدوراً فلا فرق .
وإنما أخذ هذه المقالة من قدماء الفلاسفة حيث قضوا بأن الجواد لا يجوز أن يدخر شيئا لا يفعله فما أبدعه وأوجده هو المقدور ولو كان في علمه تعالى ومقدوره ما هو أحسن وأكمل مما أبدعه : نظاماً وترتيباً وصلاحاً
لفعله .(13/12)
الثانية : قوله في الإرادة : إن الباري تعالى ليس موصوفاً بها على الحقيقة فإذا وصف بها شرعاً في أفعاله فالمراد بذلك : أنه خالقها ومنشئها على حسب ما علم وإذا وصف بكونه مريداً لأفعال العباد فالمعنى به أنه آمر بها وناه عنها .
وعنه أخذ الكعبي مذهبه في الإرادة .
الثالثة : قوله : إن أفعال العباد كلها حركات فحسب والسكون حركة اعتماد والعلوم والإرادات حركات النفس ز لم يرد بهذه الحركة حركة النقلة وإنما الحركة عنده مبدأ تغير ما كما قالت الفلاسفة : من إثبات حركات في الكيف والكم والوضع والأين والمتى إلى أخواتها .
الرابعة : وافقهم أيضاً في قولهم : إن الإنسان في الحقيقة هو النفس والروح والبدن آلتها وقالبها .
غير أنه تقاصر عن إدراك مذهبهم فمال إلى قول الطبيعيين منهم : إن الروح جسم لطيف مشابك للبدن مداخل للقالب بأجزائه مداخلة المائية في الورد والهنية في السمسم والمينة في اللبن وقال : إن الروح هي التي لها : قوة واستطاعة وحياة ومشيئة وهي مستطيعة بنفسها والاستطاعة قبل الفعل .
الخامسة : حكى الكعبي عنه أنه قال : إن كل ما جاوز حد القدرة من الفعل فهو من فعل الله تعالى بإيجاب الخلقة أي إن الله تعالى طبع الحجر طبعاً وخلقه خلقة إذا دفعته اندفع وإذا بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طبعاً .
وله في الجواهر وأحكامها خبط ومذهب يخالف .
السادسة : وافق الفلاسفة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ .(13/13)
وأحدث القول بالطفرة لما ألزم مشى نملة على صخرة من طرف إلى طرف أنها قطعت ما لا يتناهى فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى قال : تقطع بعضها بالمشي وبعضها بالطفرة وشبه ذلك بحبل شد على خشبة معترضة وسط البئر طوله خمسون ذراعاً علق عليه معلاق فيجر به الحبل المتوسط فإن الدلو يصل إلى رأس البئر وقد قطع مائة ذراع بحبل طوله خمسون ذراعاً في زمان واحد وليس ذلك إلا أن بعض القطع بالطفرة ولم يعلم أن الطفرة قطع مسافة أيضاً موازية لمسافة فالإلزام لا يندفع عنه وإنما الرق بين المشي والطفرة يرجع إلى سرعة الزمان وبطئه .
السابعة : قال : إن الجواهر مؤلفة من أعراض اجتمعت ووافق هشام بن الحكم في قوله : أن الألوان والطعوم والروائح أجسام فتارة يقضي بكون الأجسام أعراضاً وتارة يقضي بكون الأعراض أجساماً لا غير .
الثامنة : من مذهبه : أن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن : معادن ونباتاً وحيواناً وإنساناً ولم يتقدم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها .
وإنما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة .
وأكثر ميله - أبداً - إلى تقرير .
التاسعة : قوله في إعجاز القرآن : إنه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة ومنع العرب عن الاهتمام به جبراً وتعجيزاً حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله : بلاغة وفصاحة ونظماً .
العاشرة : قوله في الإجماع : إنه ليس بحجة في الشرع وكذلك القياس في الأحكام الشرعية لا يجوز أن يكون حجة وإنما الحجة في قول الإمام المعصوم .(13/14)
الحادية عشرة : ميله إلى الرفض ووقيعته في كبار الصحابة قال : أولاً : لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهراً أو مكشوفاً وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على علي رضي الله عنه في مواضع وأظهره إظهاراً لم يشتبه على الجماعة إلا أن عمر كتم ذلك وهو الذي تولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة .
ونسبه إلى الشك يوم الحديبية في سؤاله الرسول عليه السلام حين قال : ألسنا على الحق أليسوا على الباطل قال : نعم قال عمر : فلم نعطي الدنية في ديننا قال : هذا شك وتردد في الدين ووجدان حرج في النفس مما قضى وحكم .
وزاد في الفرية فقال : إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح : أحرقوا دارها بمن فيها وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين .
وقال : تغريبه نصر بن لحجاج من المدينة إلى البصرة وإبداعه التراويح ونهيه عن متعة الحج ومصادرته العمال .
كل ذلك أحداث .
ثم وقع في أمير المؤمنين عثمان وذكر أحداثه : من رده الحكيم بن أمية إلى المدينة وهو طريد رسول الله عليه السلام ونفيه أبا ذر إلى الربذة وهو صديق رسول الله وتقليده الوليد بن عقبه الكوفة وهو من أفسد الناس ومعاوية الشام وعبد الله بن عامر البصرة وتزويجه مروان بن الحكم ابنته وهم أفسدوا عليه أمره وضربه عبد الله بن مسعود على إحضار المصحف وعلى القول الذي شاقه به .
كل ذلك أحداثه .
ثم زاد على خزيه ذلك بأن عاب علياً وعبد الله بن مسعود لقولهما : أقول فيها برأيي وكذب ابن مسعود في روايته : السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وفي روايته : انشقاق القمر وفي تشبيهه الجن بالزط وقد أنكر الجن رأساً .
إلى غير ذلك من الوقيعة الفاحشة في لصحابة رضي الله عنهم أجمعين .
الثانية عشرة : قوله في المفكر قبل ورود السمع : أنه إذا كان عاقلاً متمكناً من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال .(13/15)
وقال بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما يتصرف فيه من أفعاله .
وقال : لا بد من خاطرين أحدهما يأمر بالإقدام والآخر بالكف ليصح الاختيار .
الثالثة عشرة : قد تكلم في مسائل العد والوعيد .
وزعم أن من خان في مائة وتسعين درهماً بالسرقة أو الظلم لم يفسق بذلك حتى تبلغ خيانته نصاب الزكاة وهو مائتا درهم فصاعداً فحينئذ يفسق وكذلك في سائر نصب الزكاة وقال في المعاد : إن الفضل على الأطفال كالفضل على البهائم .
ووافقه الأسواري في جميع ما ذهب إليه وزاد عليه بأن قال : إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على ما علم أنه لا يفعله ولا على ما أخبر أنه لا يفعله : مع أن الإنسان قادر على ذلك لأن قدرة العبد صالحة للضد ين ومن المعلوم أن أحد الضد ين واقع في المعلوم أنه سيوجد دون الثاني .
والخطاب لا ينقطع عن أبي لهب وإن أخبر الرب تعالى بأنه : سيصلى ناراً ذات لهب .
ووافقه أبو جعفر الإسكافي وأصحابه من المعتزلة .
وزاد عليه بأن قال : إن الله تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء وإنما يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين .
وكذلك الجعفران : جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وافقاه وما زادا عليه إلا أن جعفر بن مبشر قال : في فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس وزعم أن إجماع الصحابة على حد شارب الخمر كان خطأ إذ المعتبر في الحدود : النص والتوقيف .
وزعم أن سارق الحبة الواحدة فاسق منخلع عن الإيمان .
وكان محمد بن شبيب وأبو شمر وموسى بن عمران : من أصحاب النظام إلا أنهم خالفوه في الوعيد وفي المنزلة بين المنزلتين : وقالوا : صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بمجرد ارتكاب الكبيرة .
وكان ابن مبشر يقول في الوعيد : إن استحقاق العقاب والخلود في النار بالفكر يعرف قبل ورود السمع .
وسائر أصحابه يقولون : التخليد لا يعرف إلا بالسمع .
ومن أصحاب النظام : الفضل الحدثي وأحمد بن خابط .(13/16)
قال الرواندي : إنهما كانا يزعمان أن للخلق خالقين : أحدهما قديم وهو الباري تعالى والثاني محدث وهو المسيح عليه السلام لقوله إذ تخلق من الطين كهيئة الطير " .
وكذبه لكعبي في رواية الحدثي خاصة لحسن اعتقاده فيه .
الخابطية والحدثية
الخابطية : أصحاب احمد بن خابط وكذلك الحثية أصحاب الفضل الحدثي : كانا من أصحاب النظام وطالعا كتب الفلاسفة أيضاً وضما إلى مذهب النظام ثلاث بدع :
البدعة الأولى : إثبات حكم من أحكام الإلهية في المسيح عليه السلام موافقة النصارى على اعتقادهم : أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة وهو المراد بقوله تعالى : " وجاء ربك والملك صفاً صفاً " .
وهو الذي يأتي ظلل من الغمام وهو المعني بقوله تعالى : " أو يأتي ربك " .
وهو المراد بقول النبي عليه السلام : " إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن " .
وبقوله : " يضع الجبار قدمه في النار " .
وزعم أحمد بن خابط : أن المسيح تدرع بالجسد الجسماني وهو الكلمة القديمة المتجسدة كما قالت النصارى .
البدعة الثانية : القول بالتناسخ : زعما أن الله تعالى أبدع خلقه : أصحاء سالمين عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار التي هم فيها اليوم وخلق فيهم معرفته والعلم به وأسبغ عليهم نعمته ولا يجوز أن يكون أول ما يخلقه إلا : عاقلاً ناظراً معتبراً وابتدأ هو بتكليف شكره فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به وعصاه بعضهم في جميع ذلك وأطاعه بعضهم في البعض دون البعض فمن أطاعه في الكل أقره في دار النعيم التي أبدأهم فيها ومن أطاعه في البعض وعصاه في البعض أخرجه إلى دار الدنيا فألبسه هذه الأجسام الكثيفة وابتلاه : بالبأساء والضراء والشدة والرخاء والآلام واللذات .(13/17)
على صور مختلفة من صمر الناس وسائر الحيوانات على قدر ذنوبهم فمن كانت معصيته أقل وطاعته أكثر كانت صورته أحسن وآلامه أقل ومن كانت ذنوبه أكثر كانت صورته أقبح وآلامه أكثر .
ثم لا يزال يكون الحيوان في الدنيا : كرة بعد كرة وصورة بعد أخرى مادامت في زمانهما شيخ المعتزلة أحمد بن أيوب بن مانوس وهو أيضاً من تلامذة النظام وقال أيضاً مثل ما قال أحمد بن خابط في التناسخ وخلق البرية دفعة واحدة إلا أنه قال : متى صارت النوبة إلى البهيمية ارتفعت التكاليف ومتى صارت النوبة إلى رتبة النبوة والملك ارتفعت التكاليف أيضاً وصارت النوبتان عالم الجزاء .
ومن مذهبهما أن الديار خمس داران للثواب إحداهما : فيها أكل وشرب وبعال وجنات وأنهار .
والثانية : دار فوق هذه الدار ليس فيها أكل ولا شرب ولا بعال بل ملاذ روحانية وروح وريحان غير جسمانية .
والثالثة : دار العقاب المحض وهي نار جهنم ليس فيها ترتيب بل هي على نمط التساوي .
والرابعة : دار الابتداء التي خلق الخلق فيها قبل أن يهبطوا إلى دار الدنيا وهي الجنة الأولى .
والخامسة : دار الابتلاء وهي التي كلف الخلق فيها بعد أن اجترحوا في الأولى .
وهذا التكوير والتكرير لا يزال في الدنيا حتى يمتلئ المكيالان : مكيال الخير ومكيال الشر فإذا امتلأ مكيال لخير صار العمل كله طاعة والمطيع خيرا خالصاً فينقل إلى الجنة ولم يلبث طرفة عين فإن مطل الغنى ظلم وفي الحديث : " أعطوا الأجير أجره قبل إن يجف عرقه " .
وإذا امتلأ مكيال الشر صار العمل كله معصية والعاصي شريراً محضاً فينقل إلى النار ولم يلبث طرفة عين وذلك قوله تعالى : فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستفيدون .(13/18)
البدعة الثالثة : حملهما كل ما ورد في الخبر : من رؤية الباري تعالى مثل قوله عليه السلام : " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته " على رؤية العقل الأول الذي هو أول مبدع وهو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات وإياه على النبي عليه السلام بقوله : " أول ما خلق الله تعالى العقل فقال له : أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك ! بك أعز وبك أذل وبك أعطي وبك أمنع فهو الذي يظهر يوم القيامة وترتفع الحجب بينه وبين الصور التي فاضت منه فيرونه كمثل القمر ليلة البدر فأما واهب العقل فلا يرى البتة .
ولا يشبه إلا مبدع بمبدع .
وقال ابن خابط إن كل نوع من أنواع الحيوانات أمة على حيالها لقوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم وفي كل أمة رسول من نوعه لقوله تعالى : " وإن من أمة إلا خلا فيها نذير .
ولهما طريقة أخرى في التناسخ وكأنهما مزجا كلام التناسخية والفلاسفة والمعتزلة ببعضها البعض .
البشرية
أصحاب بشر بن المعتمر كان من أفضل علماء المعتزلة .
وهو الذي أحدث القول بالتولد وأفرط فيه .
وانفرد عن أصحابه بمسائل ست :
الأولى منها : أنه زعم أن اللون والطعم والرائحة ز الإدراكات كلها : من السمع والرؤية .
يجوز أن تحصل متولدة من فعل العبد إذا كانت أسبابها من فعله وإنما أخذ هذا من الطبيعيين إلا أنهم لا يفرقون بين المتولد والمباشر بالقدرة وربما لا يثبتون القدرة على منهاج المتكلمين .
وقوة الفعل وقوة الانفعال : غير القدرة التي يثبتها المتكلم .
الثانية : قوله : إن الاستطاعة : هي سلامة البنية وصحة الجوارح وتخليتها من الآفات وقال : لا أقول يفعل بها في الحالة الأولى ولا في الحالة الثانية لكني أقول : الإنسان يفعل والفعل لا يكون إلا . . .(13/19)
الثالثة : قوله : إن الله تعالى قادر على تعذيب الطفل ولو فعل ذلك كان ظالما إياه إلا أنه لا يستحسن أن يقال ذلك في حقه بل يقال : لو فعل ذلك كان الطفل : بالغاً عاقلاً عاصياً بمعصية ارتكبها مستحقاً للعقاب وهذا كلام متناقض .
الرابعة : حكى الكعبي عنه أنه قال : إرادة الله تعالى : فعل من أفعاله وهي على وجهين : صفة ذات وصفة فعل : فأما صفة الذات فهي : أن الله تعالى لم يزل مريداً لجميع أفعاله ولجميع الطاعات من عباده فإنه حكيم ولا يجوز أن يعلم الحكيم صلاحاً وخيراً ولا يريده .
وأما صفة الفعل فإن أراد بها فعل نفسه في حال إحداثه فهي خلقه له وهي قبل الخلق لأن ما به يكون الشيء لا يجوز أن يكون معه وإن أراد بها فعل عباده فهي : الأمر به .
الخامسة : قال إن عند الله تعالى لطفاً لو أتى به لآمن جميع من في الأرض إيماناً يستحقون عليه الثواب استحقاقهم لو آمنوا من غير وجوده وأكثر منه وليس على الله تعالى أن يفعل ذلك بعباده .
ولا يجب عليه رعاية الأصلح لأنه لا غاية لما يقدر عليه من الصلاح فما من أصلح إلا وفوقه أصلح وإنما عليه أن يمكن العبد القدرة والاستطاعة ويزيح العلل بالدعوة والرسالة .
والمفكر قبل ورود السمع يعلم الباري تعالى بالنظر والاستدلال وإذا كان مختارا ًفي فعله فيستغني عن الخاطرين لأن الخاطرين لا يكونان من قبل الله تعالى وإنما هما من قبل الشيطان السادسة : قال : من تاب عن كبيرة ثم راجعها عاد استحقاقه العقوبة الأولى فإنه قبل توبته بشرط أن لا يعود .
المعمرية
أصحاب معمر بن عباد السلمى وهو من أعظم القدرية فرية : في تدقيق القول بنفي الصفات ونفي القدر خيره وشره من الله تعالى والتكفير والتضليل على ذلك .(13/20)
وانفرد عن أصحابه بمسائل : منها : أنه قال : إن الله تعالى لم يخلق شيئاً غير الأجسام فأما الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام : إما طبعاً كالنار التي تحدث الإحراق والشمس والحرارة والقمر التلوين وإما اختياراً كالحيوان يحدث الحركة والسكون والاجتماع والافتراق .
ومن العجب أن حدوث الجسم وفناءه عنده عرضان فكيف يقول : إنها من فعل الأجسام وإذا لم يحدث الباري تعالى عرضاً فلم يحدث الجسم وفناءه فإن الحدوث عرض فيلزمه أن لا يكون لله تعالى فعل أصلاً .
ثم ألزم : أن كلام الباري تعالى : إما عرض أو جسم .
فإن قال : هو عرض فقد أحدثه الباري تعالى فإن المتكلم على أصله هو من فعل الكلام أو ما يلزمه : أن لا يكون لله تعالى كلام هو عرض وإن قال هو جسم فقد أبطل قوله : إنه أحدثه في محل فإن الجسم لا يقوم بالجسم فإذا لم يقل هو بإثبات الأزلية ولا قال بخلق الأعراض فلا يكون لله تعالى كلام يتكلم به على مقتضى مذهبه .
وإذا لم يكن له كلام لم يكن له آمراً ناهياً وإذا لم يكن أمر ونهي لم تكن شريعة أصلاً فأدى واهبه إلى خزي عظيم .
ومنها : أنه قال : إن الأعراض لا تتناهى في كل نوع .
وقال كل عرض قام بمحل فإنما يقوم به لمعنى أوجب القيام وذلك يؤدي إلى التسلسل .
وعن هذه المسألة هو وأصحابه : أصحاب المعاني .
وزاد على ذلك فقال : الحركة إنما خالفت السكون لا بذاتها بل بمعنى أوجب المخالفة وكذلك مغايرة : المثل ومماثلته وتضاد الضد الضد كل ذلك عنده بمعنى .
ومنها : ما حكى الكعبي عنه : أن الإرادة من الله تعالى للشيء غير الله وغير خلقه للشيء وغير : الأمر والأخبار والحكم فأشار إلى أمر مجهول لا يعرف .
وقال : ليس للإنسان فعل سوى الإرادة : مباشرة كانت أو توليداً وأفعاله التكليفية : من القيام والقعود والحركة والسكون في الخير والشر .(13/21)
كلها مستندة إلى إرادته لا على طريق المباشرة ولا على طريق التوليد وهذا عجب غير أنه إنما بناه على مذهبه في حقيقة الإنسان .
وعنده : الإنسان معنى أو جوهر غير الجسد وهو : عالم قادر مختار حكيم ليس بمتحرك ولا ساكن ولا متكون ولا متمكن ولا يرى ولا يمس ولا يحس ولا يجس ولا يحل موضعاً دون موضع ولا يحويه مكان ولا يحصره زمان لكنه مدبر للجسد وعلاقته مع البدن علاقة التدبير والتصرف .
وإنما أخذ هذا القول من الفلاسفة حيث قضوا بإثبات النفس الإنسانية أمراً ما هو جوهر قائم بنفسه : لا متحيز ولا متمكن وأثبتوا من جنس ذلك موجودات عقلية مثل العقول المفارقة .
ثم لما كان ميل معمر بن عباد إلى مذهب الفلاسفة ميز بين أفعال النفس التي سماها إنساناً وبين القالب الذي هو جسده فقال : فعل النفس هو الإرادة فحسب النفس إنسان ففعل الإنسان هو لإرادة وما سوى ذلك : من الحركات والسكنات والاعتمادات - فهي من فعل الجسد .
ومنها : أنه كان ينكر القول : بأن الله تعالى قديم لأن قديم أخذ من قدم يقدم فهو قديم وهو فعل كقولك : أخذ منه ما قدم وما حدث .
وقال أيضاً : هو يشعر بالتقادم الزماني ووجود الباري تعالى ليس زماني .
ويحكى عنه أيضاً : أنه قال : الخلق غير المخلوق والإحداث غير المحدث .
وحكى جعفر بن حرب عنه أنه قال : إن الله تعالى محال أن يعرف نفسه لأنه يؤدي إلى أن لا يكون العالم والمعلوم واحداً ومحال أن يعلم غيره كما يقال : محال أن يقدر على الموجود من حيث هو موجود .
ولعل هذا النقل فيه خلل فإن عاقلاً ما لا يتكلم بمثل هذا الكلام الغير المعقول .
لعمري ! لما كان الرجل يميل إلى الفلاسفة .(13/22)
ومن مذهبهم : أنه ليس علم الباري تعالى علماً انفعالياً أي تابعاً للمعلوم بل علمه علم فعلي فهو من حيث هو فاعل وعلمه هو الذي أوجب الفعل وإنما يتعلق بالموجود حال حدوثه لا محالة ولا يجوز تعلقه المعدوم على استمرار عدمه وانه علم وعقل وكونه : عقلاً وعاقلاً ومعقولاً شيء واحد فقال ابن عباد : لا يقال : يعلم نفسه لأنه يؤدي إلى تمايز بين العالم والمعلوم ولا يعلم غيره لأنه يؤدي إلى كون علمه من غيره يحصل .
فإما لا يصح النقل وإما أن يحمل على مثل هذا المحمل .
ولسنا من رجال ابن عباد فنطلب لكلامه وجهاً .
المزدارية
أصحاب عيسى بن صبيح المكنى بابي موسى الملقب بالمرداد .
وقد تلمذ لبشر بن المعتمر وأخذ العلم منه وتزهد ويسمى راهب المعتزلة .
وإنما انفرد عن أصحابه بمسائل :
الأولى منها : قوله في القدر : إن الله تعالى يقدر على أن يكذب ويظلم ولو كذب وظلم كان إلهاً كاذباً وظالماً تعالى الله عن قوله .
والثانية قوله في التولد : مثل قول أستاذه وزاد عليه : بأن جوز وقوع فعل واحد من فاعلين على سبيل التولد .
والثالثة قوله في القرآن : إن الناس قادرون على فعل القرآن : فصاحة ونظما وبلاغة وهو الذي بالغ في القول بخلق القرآن وكفر من قال بقدمه بأنه قد أثبت قديمين .
وكفر أيضاً من لابس السلطان وزعم أنه لا يرث ولا يورث وكفر أيضاً من قال : إن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى ومن قال : إنه يرى بالأبصار وغلا في التكفير حتى قال : هم كافرون في قولهم : لا إله إلا الله .
وقد سأله إبراهيم بن السندي مرة عن أهل الأرض جميعاً فكفرهم فأقبل عليه إبراهيم وقال : الجنة التي عرضها السموات والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاثة وافقوك ! فخزي ولم يحر جواباً .
وقد تلمذ له أيضاً : الجعفران وأبو زفر ومحمد بن سويد .
وصحب : أبو جعفر محمد ابن عبد الله الإسكافي وعيسى ابن الهيثم : جعفر بن حرب الأشج .(13/23)
وحكى الكعبي عن الجعفرين أنهما قالا : إن الله تعالى خلق القرآن في اللوح المحفوظ ولا يجوز أن ينقل إذ يستحيل أن يكون الشيء الواحد في مكانين في حالة واحدة وما نقرأه فهو حكاية عن المكتوب الأول في اللوح المحفوظ وذلك فعلنا وخلقنا .
قال : وهو الذي اختاره من الأقوال المختلفة في القرآن .
وقالا في تحسين العقل وتقبيحه : إن العقل يوجب معرفة الله تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشرع وعليه أن يعلم أنه قصر ولم يعرفه ولم يشكره : عاقبه عقوبة دائمة فأثبت التخليد واجباً بالعقل .
أصحاب ثمامة بن أشرس النميري
كان جامعاً بين سخافة الدين وخلاعة النفس مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين .
وانفرد عن أصحابه بمسائل : منها : قوله : إن الأفعال المتولدة لا فاعل لها إذ م يمكنها إضافتها إلى فاعل أسبابها حتى يلزمه أن يضيف الفعل إلى ميت مثل ما إذا فعل السبب ومات ووجد المتولد بعده .
ولم يمكنه إضافتها إلى الله تعالى لأنه يؤدي إلى فعل القبيح وذلك محال .
فتحير فيه وقال : المتولدات أفعال لا فاعل لها .
ومنها : قوله في الكفار والمشركين والمجوس واليهود والنصارى والزنادقة والدهرية : إنهم يصيرون في القيامة تراباً وكذلك قوله في البهائم والطيور وأطفال المؤمنين .
ومنها : قوله : الاستطاعة هي السلامة وصحة الجوارح وتخليتها من الآفات وهي قبل الفعل .
ومنها : قوله : إن المعرفة متولدة من النظر وهو فعل لا فاعل له كسائر المتولدات .
ومنها : قوله في تحسين العقل وتقبيحه وإيجاب المعرفة قبل ورود السمع : مثل قول أصحابه غير أنه زاد عليهم فقال : من الكفار من لا يعلم خالقه وهو معذور .(13/24)
وقال : إن المعارف كلها ضرورية وإن من لم يضطر إلى معرفة الله سبحانه وتعالى فليس هو مأموراً بها وإنما خلق للعبرة ومنها : قوله : لا فعل للإنسان إلا الإرادة وماعداها فهو حدث لا محدث له .
وحكى ابن الرواندي عنه أنه قال : العالم فعل الله تعالى بطباعه ولعله أراد بذلك ما تريده الفلاسفة : من الإيجاب بالذات دون الفلاسفة من القول بقدم العالم إذ الموجب لا ينفك عن الموجب .
وكان ثمامة في أيام المأمون وكان عنده بمكان .
الهشامية
أصحاب هشام بن عمرو الفوطي .
ومبالغته في القدر أشد وأكثر من مبالغة أصحابه .
وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الباري تعالى وإن ورد بها التنزيل .
منها قوله : إن الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين بل هم المؤتلفون باختيارهم وقد ورد في التنزيل : " ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم " .
ومنها قوله : إن الله لا يحبب الإيمان إلى المؤمنين ولا يزينه في قلوبهم وقد قال تعالى : " حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم " .
ومبالغته في نفي إضافات : الطبع والختم والسد وأمثالها - أشد وأصعب وقد ورد بجميعها التنزيل قال الله تعالى : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " .
وقال : " بل طبع الله عليها بكفرهم " .
وقال : " وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً " .
وليت شعري ! ما يعتقده الرجل إنكار ألفاظ التنزيل وكونها وحياً من الله تعالى فبكون تصريحاً بالكفر ! أو إنكار ظواهرها من نسبتها إلى الباري تعال ووجوب تأويلها وذلك عين مذهب أصحابه ومن بدعه في الدلالة على الباري تعالى قوله : إن الأعراض لا تدل على كونه خالقاً ولا تصلح الأعراض دلالات بل الأجسام تدل على كونه خالقاً .
وهذا أيضاً عجب .
ومن بدعه في الإمامة قوله : إنها لا تنعقد في أيام الفتنة واختلاف الناس وإنما يجوز عقدها في حال الاتفاق والسلامة .(13/25)
وكذلك أبو بكر الأصم من أصحابه كان يقول : الإمامة لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم .
وإنما أراد بذلك الطعن في إمامة علي - رضي الله عنه إذ كانت البيعة في أيام الفتنة من غير اتفاق من جميع أصحابه إذ بقى في كل طرف طائفة على خلافة .
ومن بدعه : أن الجنة والنار ليستا مخلوقتين الآن إذ لا فائدة في وجودهما وهما جميعاً خاليتان ممن ينتفع ويتضرر بهما وبقيت هذه المسألة منه اعتقاداً للمعتزلة .
وكان يقول بالموافاة وأن الإيمان هو الذي يوافي الموت .
وقال : من أطاع الله جميع عمره وقد علم الله أنه يأتي بما يحبط أعماله ولو بكبيرة لم يكن مستحقاً للوعد وكذلك على العكس .
وصاحبه عباد من المعتزلة وكان يمتنع من إطلاق القول بأن الله تعالى خلق الكافر لأن الكافر : كفر وإنسان والله تعالى لا يخلق الكفر .
وقال النبوة جزاء على عمل وإنها باقية ما بقيت الدنيا .
وحكى الأشعري عن عباد أنه زعم : أنه لا يقال : إن الله تعالى لم يزل قائلاً ولا غير قائل .
ووافقه الإسكافي على ذلك .
قالا : ولا يسمى متكلماً .
وكان الفوطي يقول : إن الأشياء قبل كونها : معدومة وليست أشياء وهي بعد أن تعدم عن وجود تسمى أشياء .
ولهذا المعنى كان يمنع القول : بأن الله تعالى قد كان لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها فإنها لا تسمى أشياء .
قال : وكان يجوز القتل والغيلة على المخالفين لمذهبه وأخذ أموالهم غصباً وسرقة لاعتقاده كفرهم واستباحة دمائهم وأموالهم .
الجاحظية
أصحاب عمرو بن بحر أبي عثمان الجاحظ .
كان من فضلاء المعتزلة والمصنفين لهم وقد طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلط وروج كثير أمن مقالاتهم بعباراته البليغة وحسن براعته اللطيفة .
وكان في أيام المعتصم والمتوكل .(13/26)
وانفرد عن أصحابه بمسائل : منها : قوله : إن المعارف كلها ضرورية طباع وليس شيء من ذلك من أفعال العباد وليس للعبد كسب سوى الإرادة وتحصل أفعاله منه طباعاً كما قال ثمامة .
ونقل عنه أيضاً : أنه أنكر أصل الإرادة وكونها جنساً من الأعراض فقال : إذا انتهى السهو عن الفاعل وكان عالماً بما يفعله فهو المريد على التحقيق وأما الإرادة المتعلقة بفعل الغير فهو ميل النفس إليه .
وزاد على ذلك بإثبات الطبائع للأجسام كما قال الطبيعيون من الفلاسفة وأثبت لها أفعالاً مخصوصة بها .
وقال باستحالة عدم الجواهر فالأعراض تتبدل والجواهر لا يجوز أن تفنى ومنها : قوله في أهل النار : إنهم لا يخلدون فيها عذاباً بل يصيرون إلى طبيعة النار .
وكان يقول : البار تجذب أهلها إلى نفسها من غير أن يدخل أحد فيها .
ومذهبه : مذهب الفلاسفة في نفي الصفات وفي إثبات القدر خيره وشره من العبد : مذهب المعتزلة .
وحكى الكعبي عنه أنه قال : يوصف الباري تعالى بأنه مريد بمعنى أنه لا يصح عليه السهو في أفعاله ولا الجهل ولا يجوز أن يغلب ويقهر .
وقال : إن الخلق كلهم من العقلاء عالمون بأن الله تعالى خالقهم وعارفون بأنهم محتاجون إلى النبي وهم محجوجون بمعرفتهم .
ثم هم صنفان : عالم بالتوحيد وجاهل به فالجاهل معذور والعالم محجوج .
ومن انتحل دين الإسلام فإن اعتقد أن الله تعالى ليس بجسم ولا صورة ولا يرى بالأبصار وهو عدل لا يجوز ولا يريد المعاصي وبعد الاعتقاد واليقين أقر بذلك كله فهو مسلم حقاً .
وإن لم ينظر في شيء من ذلك كله واعتقد أن الله تعالى ربه وان محمداً رسول الله فهو مؤمن لا لوم عليه ولا تكليف عليه غير ذلك .
وحكى ابن الرواندي عنه أنه قال : إن للقرآن جسداً يجوز أن يقلب مرة رجلاً ومرة حيواناً وهذا مثل ما يحكى عن أبي بكر الأصم أنه زعم : أن القرآن جسم مخلوق .
وأنكر الأعراض أصلاً وأنكر صفات الباري تعالى .(13/27)
ومذهب الجاحظ هو بعينه مذهب الفلاسفة إلا أن الميل منه ومن أصحابه إلى الطبيعيين منهم أكثر من الإلهيين .
أصحاب أبى الحسين ابن أبي عمرو الخياط
أستاذ أبي القاسم بن محمد الكعبي وهما من معتزلة بغداد على مذهب واحد إلا أن الخياط غالى في إثبات المعدوم شيئاً وقال : الشيء ما يعلم ويخبر عنه والجوهر جوهر في العدم والعرض عرض في العدم وكذلك أطلق جميع أسماء الأجناس والأصناف حتى قال : السواد سواد في العدم فلم يبق إلا صفة الوجود أو الصفات التي تلزم الوجود والحدوث وأطلق على المعدوم لفظ الثبوت وقال في نفي الصفات عن الباري مثل ما قال أصحابه وكذا القول في القدر والسمع والعقل .
وانفرد الكعبي عن أستاذه بمسائل : منها : قوله : إن إرادة الباري تعالى ليست صفة قائمة بذاته ولا هو مريد لذاته ولا إرادته حادثة في محل أو في لا محل بل إذا أطلق عليه أنه مريد فمعناه أنه : عالم قادر غير مكره في فعله ولا كاره .
ثم إذا قيل : هو مريد لأفعال عباده فالمراد به : أنه آمر بها راض عنها .
وقوله في كونه سميعاً بصيرا ًراجع إلى ذلك أيضاً فهو سميع بمعنى أنه : عالم بالمسموعات وبصير بمعنى انه : عالم بالمبصرات .
وقوله في الرؤية كقول أصحابه : نفياً وإحالة غير أن أصحابه قالوا : يرى الباري تعالى ذاته ويرى المرئيات وكونه مدركاً لذلك زائد على كونه عالماً .
وقد أنكر الكعبي ذلك قال : معنى قولنا : يرى ذاته ويرى المرئيات : أنه عالم بها فقط .
الجبائية والبهشمية
أصحاب أبي على محمد بن عبد الوهاب الجبائي وابنه أبي هاشم عبد السلام وهما من معتزلة البصرة .(13/28)
انفردا عن أصحابهما بمسائل وانفرد أحدهما عن صاحبه بمسائل أما المسائل التي انفردا بها عن أصحابهما : فمنها : أنهما أثبتا إرادات حادثة لا في محل يكون الباري تعالى بها موصوفا مريداً وتعظيماً لا في محل إذا أراد أن يعظم ذاته وفناء لا في محل إذا أراد أن يفني العالم .
وأخص أوصاف هذه الصفات يرجع غليه من حيث إنه تعالى أيضاً لا في محل .
وإثبات موجودات هي أعراض أو في حكم الأعراض لا محل لها كإثبات موجودات هي جواهر أو في حكم الجواهر لا مكان لها وذلك قريب من مذهب الفلاسفة حيث أثبتوا عقلاً هو جوهر لا في محل ولا في مكان وكذلك النفس الكلية والعقول المفارقة .
ومنها : أنهما حكما بكونه تعالى متكلما بكلام يخلقه في محل وحقيقة الكلام عندهما : أصوات مقطعة وحروف منظومة والمتكلم من فعل الكلام لا من قام به الكلام .
إلا أن الجبائي خالف أصحابه خصوصاً بقوله : يحدث الله تعالى عند قراءة كل قارئ كلاماً لنفسه في محل القراءة وذلك حين ألزم : أن الذي يقرؤه القارئ ليس بكلام الله والمسموع منه ليس من كلام الله فالتزم هذا المحال : من إثبات أمر غير معقول ولا مسموع وهو إثبات كلامين في محل واحد .
واتفقا على : نفي رؤية الله تعالى في بالأبصار في دار القرار وعلى القول إثبات الفعل للعبد خلقاً وإبداعاً وإضافة الخير الشر والطاعة والمعصية إليه استقلالاً واستبداداً وان الاستطاعة قبل الفل وهي : قدرة زائدة على سلامة البنية وصحة الجوارح وأثبتا البنية شرطاً في قيام المعاني التي يشترط في ثبوتها الحياة وأثبتا شريعة عقلية وردا الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل ولا يهتدي إليها فكر وبمقتضى العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي إلا أن التأقيت والتخليد فيه يعرف بالسمع .(13/29)
والإيمان عندهما اسم مدح وهو عبارة عن خصال الخير التي إذا اجتمعت في شخص سمي بها : مؤمناً ومن ارتكب كبيرة فهو في الحال يسمى فاسقاً : لا مؤمناً ولا كافراً وإن لم يتب ومات عليها فهو مخلد في النار .
واتفقا على أن الله تعالى لم يدخر عن عباده شيئا مما علم أنه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة والتوبة من الصلاح والأصح واللطف لأنه : قادر عالم جواد حكيم : لا يضره الإعطاء ولا ينقص من خزائنه المنح ولا يزيد في ملكه الادخار .
وليس الأصلح هو الألذ بل هو : الأعود في العاقبة والأصوب في العاجلة وإن كان ذلك مؤلماً ومكروهاً وذلك : كالحجامة والفصد وشرب الأدوية ولا يقال : إنه تعالى يقدر على شيء هو أصلح مما فعله بعبده .
والتكاليف كلها ألطاف وبعثة الأنبياء وشرع الشرائع وتمهيد الأحكام ومما تخالفا فيه : أما في صفات الباري تعالى فقال الجبائي : الباري تعالى عالم لذاته قادر حي .
لذاته ومعنى قوله لذاته أي لا يقتضي كونه عالماً صفة هي : علم أو حال توجب كونه عالماً .
وعند أبي هاشم : هو عالم لذاته بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتاً موجوداً وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها فأثبت أحوالاً هي صفات : لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة أي : هي على حيا لهالا تعرف كذلك بل مع الذات .
قال والعقل يدرك فرقاً ضرورياً بين معرفة الشيء مطلقاً وبين معرفته على صفة فليس منم عرف الذات عرف كونه عالماً ولا من عرف الجوهر عرف الجوهر عرف كونه متحيزا قابلاً للعرض .(13/30)
ولا شك أن الإنسان يدرك اشتراك الموجودات في قضية وافترقتا في قضية وبالضرورة يعلم أن ما اشتركت فيه غير ما افترقت به وهذه القضايا العقلية لا ينكرها عاقل وهي لا ترجع إلى الذات ولا إلى أعراض وراء الذات فإنه يؤدي إلى قيام العرض بالعرض فتعين بالضرورة أنها أحوال فكون العالم عالما حال هي صفة وراء كونه ذاتاً أي المفهوم منها غير المفهوم من الذات وكذلك كونه : قادراً حياً .
ثم أثبت للباري تعالى حالة أخرى أوجبت تلك الأحوال .
وخالفه والده وسائر منكري الأحوال في ذلك وردوا الاشتراك والافتراق إلى الألفاظ وأسماء الأجناس وقالوا : أليست الأحوال تشترك في كونها أحوالاً وتفترق في خصائص كذلك نقول في الصفات وإلا فيؤدي إلى إثبات الحال للحال ويفضي إلى التسلسل .
بل هي راجعة إما إلى مجرد الألفاظ إذ وضعت في الأصل على وجه يشترك فيها الكثير لا أن مفهومها معنى أو صفة ثابتة في الذات على وجه يشمل أشياء ويشترك فيها الكثير فإن ذلك مستحيل .
أو يرجع ذلك إلى وجوه واعتبارات عقلية هي المفهومة من قضايا الاشتراك والافتراق وتلك الوجوه : كالنسب والإضافات والقرب والبعد وغير ذلك مما لا يعد صفات بالاتفاق .
وهذا هو اختيار أبي الحسن البصري وأبي الحسن الأشعري .
ورتبوا على هذه المسألة : مسألة أن المعدوم شيء فمن يثبت كونه شيئاً كما نقلنا عن جماعة من المعتزلة فلا يبقى من صفات الثبوت إلا كونه موجوداً فعلى ذلك لا يثبت للقدرة في إيجادها أثراً ما سوى الوجود .
والوجود على مذهب نفاة الأحوال لا يرجع إلا إلى اللفظ المجرد وعلى مذهب مثبتي الأحوال هو حالة لا توصف بالوجود ولا بالعدم وهذا كما ترى من التناقض والاستحالة ومن نفاة الأحوال من يثبته شيئاً ولا يسميه بصفات الأجناس .
وعند الجبائي : أخص وصف الباري تعالى هو القدم والاشتراك في الأخص يوجب الاشتراك في الأعم .(13/31)
وليت شعري ! كيف يمكن إثباته : الاشتراك الافتراق والعموم والخصوص - حقيقة وهو من نفاة الأحوال فأما على مذهب أبي هاشم فلعمري هو مطرد غير أن القدم إذا بحث عن حقيقته واختلفا في كونه سميعاً بصيراً فقال الجبائي : معنى كونه سميعاً بصيراً : أنه حي لا آفة به .
وخالفه ابنه وسائر أصحابه : أما ابنه فصار إلى أن كونه سميعاً حالة وكزنه بصيراً حالة وكونه بصيراً حالة سوى كونه عالماً لاختلاف : القضيتين والمفهومين والمتعلقين والأثرين .
وقال غيره من أصحابه : معناه كونه مدركا للمبصرات مدركاً للمسموعات .
واختلفا أيضاً في بعض مسائل اللطف فقال الجبائي فيمن يعلم الباري تعالى من حاله أنه لو آمن مع اللطف لكان ثوابه أقل لقلة مشقته ولو أمن بلا لطف لكان ويسوى بينه وبين من المعلوم من حاله أنه لا يفعل الطاعة على كل وجه إلا مع اللطف ويقول : إذ لو كلفه مع عدم اللطف لوجب أن يكون مستفسداً حاله غير مزيح لعلته .
ويخالفه أبو هاشم في بعض المواضع في هذه المسألة قال : يحسن منه تعالى أن يكلفه الإيمان على أشق لا وجهين بلا لطف .
واختلفا في فعل الألم للعوض فقال الجبائي : يجوز ذلك ابتداء لأجل العوض والاعتبار جميعاً .
وتفصيل مذهب الجبائي في الأعواض على وجهين :
أحدهما أنه يقول : يجوز التفضل بمثل الأعواض غير أنه تعالى علم أنه لا ينفعه عوض إلا على ألم متقدم .
والوجه الثاني : أنه إنما يحسن ذلك لأن العوض مستحق والتفضل غير مستحق .
والثواب عندهم ينفصل عن التفضل بأمرين : أحدهما : تعظيم وإجلال للمثاب يقترن بالنعيم والثاني : قدر زائد على التفضل فلم يجب إذاً إجراء العوض مجرى الثواب لأنه لا يتميز عن التفضل بزيادة مقدار ولا بزيادة صفة .
وقال ابنه : يحسن الابتداء بمثل العوض تفضلاً والعوض منقطع غير دائم .(13/32)
وقال الجبائي : يجوز أن يقع الانتصاف من الله تعالى للمظلوم من الظالم بأعواض يتفضل بها عليه إذا لم يكن للظالم على الله عوض لشيء ضره به .
وزعم أبو هاشم : أن التفضل لا يقع به نتصاف لأن التفضل ليس يجب عليه فعله .
وقال الجبائي وابنه : لا يجب على الله شيء لعباده في الدنيا إذا لم يكلفهم عقلاً وشرعاً فأما إذا كلفهم : فعل الواجب في عقولهم واجتناب القبائح وخلق فيهم الشهوة للقبيح والنفور من الحسن وركب فيهم الأخلاق الذميمة فإنه يجب عليه عند هذا التكليف إكمال العقل ونصب الأدلة والقدرة والاستطاعة وتهيئة الآلة بحيث يكون مزيحاً لعللهم فيما أمرهم .
ويجب عليه أن يفعل بهم : أدعى الأمور إلى فعل ما كلفهم به وأزجر الأشياء لهم عن فعل القبيح الذي نهاهم عنه ولهم في مسائل هذا الباب خبط طويل .
وأما كلام جميع المعتزلة البغداديين في النبوة والإمامة فيخالف كلام البصريين فإن مكن شيوخهم من يميل إلى الروافض ومنهم من يميل إلى الخوارج .
والجبائي وأبو هاشم قد وافقا أهل السنة في الإمامة غير أنهم ينكرون الكرامات أصلا للأولياء : من الصحابة وغيرهم .
ويبالغون في عصمة الأنبياء عليهم السلام عن الذنوب : كبائرها وصغائرها حتى منع الجبائي القصد إلى الذنب إلا على تأويل .
والمتأخرون من المعتزلة مثل القاضي عبد الجبار وغيره انتهجوا أدلة الشيوخ واعترض على ذلك بالتزييف والإبطال وافرد عنهم بمسائل : منها نفي الحال ومنها نفي المعدوم شيئاً ومنها نفي الألوان أعراضاً ومنها قوله : كلها إلى كون الباري تعالى : عالماً قادرا مدركاً .
وله ميل إلى مذهب هشام بن الحكم في أن الأشياء لا تعلم قبل كونها .
والرجل فلسفي المذهب إلا أنه روج كلامه على المعتزلة في معرض الكلام فراج عليهم لقلة معرفتهم بمسالك المذاهب .
الباب الثاني : الجبرية(13/33)
الجبر : هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى والجبرية أصناف : فالجبرية الخالصة : هي التي لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً والجبرية المتوسطة : هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلاً فأما من أثبت للقدرة أثراً ما في لفعل وسمى ذلك كسباً فليس بجبري .
والمعتزلة يسمون من لم يثبت للقدرة الحادثة أثراً في الإبداع والإحداث استقلالاً : جبرياً ويلزمهم أن يسموا من قال من أصحابهم بأن المتولدات أفعال لا فاعل لها : جبرياً إذ لم يثبتوا للقدرة الحادثة فيها أثراً .
والمصنفون في المقالات عدوا النجارية والضرارية : من الجبرية وكذلك جماعة الكلابية : من الصفاتية .
والأشعرية سموهم تارة حشوية وتارة جبرية .
ونحن سمعنا إقرارهم على أصحابهم من النجارية والضرارية فعددناهم من الجبرية ولم نسمع إقرارهم على غيرهم فعددناهم من الصفاتية .
الجهمية
أصحاب جهم بن صفوان وهو من الجبرية الخالصة .
ظهرت بدعته بترمذ وقتله سالم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني أمية : وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم بأشياء : منها قوله : لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه لأن ذلك يقضي تشبيهاً فنفى كونه : حياً عالماً وأثبت كونه : قادراً فاعلاً خالقاً لأنه لا يوصف شيء من خلقه : بالقدرة والفعل والخلق .
ومنها لإثباته علوماً حادثة للباري تعالى لا في محل قال : لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه لأنه لو علم ثم خلق ! أفبقي علمه على ما كان أم لم يبق فإن بقى فهو جهل فإن العلم بأن سيوجد غير العلم بأن قد وجد وإن لم يبق فقد تغير والمتغير مخلوق ليس بقديم .(13/34)
ووافق في هذا مذهب هشام بن الحكم كما تقرر قال : وإذا ثبت حدوث العلم فليس يخلو : إما أن يحدث في ذاته تعالى وذلك يؤدي إلى التغير في ذاته وأن يكون محلاً للحوادث وإما أ يحدث في محل فيكون المحل موصوفا به لا الباري تعالى .
فتعين أنه لا محل له فأثبت علوما حادثة بعدد الموجودات المعلومة .
ومنها قوله في القدرة الحادثة : إن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله : لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات كما يقال : أثمرت الأشجار وجرى الماء وتحرك الحجر وطلعت الشمس وغربت وتغيمت السماء وأمطرت واهتزت الأرض وأنبتت إلى غير ذلك .
والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال كلها جبر قال : وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً .
ومنها قوله : إن حركات أهل الخلدين تنقطع والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما وتلذذ أهل الجنة بنعيمها وتألم أهل النار بحميمها إذ لا تتصور حركات لا تتناهى آخراً كما لا تتصور حركات حركات لا تتناهى أولاً وحمل قوله تعالى : خالدين فيها على المبالغة والتأكيد دون الحقيقة في التخليد كما يقول : خلد الله ملك فلان واستشهد على الانقطاع بقوله تعالى : " خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك " .
فالآية اشتملت على شريطة واستثناء .
والخلود والتأييد لا شرط فيه ولا استثناء .
ومنها قوله : من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده لأن العلم والمعرفة لا يزلان بالجحد فهو مؤمن قال : ولا يتفاضل أهله فيه فإيمان الأنبياء وإيمان الأمة على نمط واحد إذ المعارف لا تتفاضل .
وكان السلف كلهم من أشد الرادين عليه .
ونسبته إلى التعطيل المحض .(13/35)
وهو أيضاً موافق للمعتزلة في نفي الرؤية وإثبات خلق الكلام وإيجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع .
النجارية
أصحاب الحسين بن محمد النجار وأكثر معتزلة الري وما حواليها على مذهبه وهم وإن اختلفوا أصنافاّ غلا أنهم لم يختلفوا في المسائل التي عددناها أصولاً وهم برغوثية وزعفرانية ومستدركة وافقوا المعتزلة في نفي الصفات : من العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر ووافقوا الصفاتية في خلق الأعمال .
قال النجار : الباري تعالى مريد لنفسه كما هو عالم لنفسه فألزم عموم التعلق فالتزم وقال : هو مريد الخير والشر والنفع والضر .
وقال أيضاً : معنى كونه مريداً أنه غير مستكره ولا مغلوب .
وقال : هو خالق أعمال العباد : خيرها وشرها حسنها وقبيحها والعبد مكتسب لها .
وأثبت تأثيراً للقدرة الحادثة وسمى ذلك كسباً على حسب ما يثبته الأشعري ووافقه أيضاً في أن الاستطاعة مع الفعل .
وأما في مسألة الرؤية فأنكر رؤية الله تعالى بالأبصار وأحالها غير أنه قال : يجوز أن يحول الله تعالى القوة التي في القلب - من المعرفة - إلى العين فيعرف الله تعالى بها فيكون ذلك رؤية .
وقال بحدوث الكلام لكنه انفرد عن المعتزلة بأشياء : منها قوله : إن كلام الباري تعالى إذا قرئ فهو عرض وإذا كتب فهو جسم .
ومن العجب أن الزعفرانية قالت : كلام الله عيره وكل ما هو غيره ح فهو مخلوق ومع ذلك قالت : كل من قال : إن القرآن مخلوق فهو كافر ولعلهم أرادوا بذلك : الاختلاف وإلا فالتناقض ظاهر .
والمستدركة منهم زعموا : أن كلامه غيره وهو مخلوق لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كلام الله غير مخلوق " والسلف عن آخرهم أجمعوا على هذه العبارة فوافقناهم وحملنا قولهم غير مخلوق أي : على هذا الترتيب والنظم من الحروف والأصوات بل هو مخلوق غير هذه الحروف بعينها وهذه حكاية عنها .(13/36)
وحكى الكعبي عن النجار أنه قال : الباري تعالى بكل مكان ذاتاً وموجوداً لا وقال في المفكر قبل ورود السمع مثل ما قالت المعتزلة : أنه يجب عليه تحصيل المعرفة بالنظر والاستدلال .
وقال في الإيمان إنه عبارة عن التصديق ومن ارتكب كبيرة ومات عليها من غير توبة عوقب على ذلك ويجب أن يخرج من النار فليس من العدل التسوية بينه وبين الكفار في الخلود .
ومحمد بن عيسى الملقب ببرغوث وبشر بن غياث المريسي والحسين النجار : متقاربون في المذهب .
وكلهم أثبتوا كونه تعالى مريداً - لم يزل - لكل ما علم أنه سيحدث من : خير وشر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية .
وعامة المعتزلة يأبون ذلك .
الضرارية
أصحاب ضرار بن عمرو وحفص الفرد واتفقا : في التعطيل وعلى أنهما قالا : الباري تعالى قادر على معنى أنه ليس بجاهل ولا عاجز .
وأثبتا لله سبحانه ماهية لا يعلمها إلا هو وقالا : إن هذه المقالة محكية عن أبي حنيفة رحمه الله وجماعة من أصحابه وأرادا بذلك : أنه يعلم نفسه شهادة لا بدليل ولا خبرن ونحن نعلمه بدليل وخبر .
وأثبتا حاسة سادسة للإنسان يرى بها الباري تعالى يوم الثواب في الجنة .
وقالا : أفعال العباد مخلوقة للباري تعالى حقيقة والعبد مكتسبها حقيقة وجوزاً حصول فعل بين فاعلين .
وقالا : يجوز أن يقلب الله تعالى الأعراض أجساماً والاستطاعة والعجز بعض الجسم وهو جسم ولا محالة بنفي زمانين .
وقالا : الحجة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإجماع فقط فما ينقل عنه في أحكام الدين من طريق أخبار الآحاد فغير مقبول .
ويحكى عن ضرار : أنه كان ينكر حرف عبد الله بن مسعود وحرف أبي بن كعب ويقطع بأن الله تعالى لم ينزله .
وقال في المفكر قبل ورود السمع : إنه لا يجب عليه بعقله شيء حتى يأتيه الرسول فيأمره وينهاه ولا يجب على لله تعالى شيء بحكم العقل .(13/37)
وزعم ضرار أيضاً : أن الإمامة تصلح في غير قريش حتى إذا اجتمع قرشي ونبطي قدمنا النبطي إذ هو أقل عدداً وأضعف وسيلة فيمكننا خلعه إذا خالف الشريعة .
والمعتزلة وإن جوزوا الإمامة في غير قريش إلا أنهم لا يجوزون تقديم النبطي على القرشي .
الباب الثالث الصفاتية
اعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقا واحداً .
وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل : اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك إلا أنهم يقولون : هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها : صفات خبرية .
ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون سمى السلف : صفاتية والمعتزلة : معطلة فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها وما ورد به الخبر فافترقوا فيه فرقتين فمنهم من أوله على وجه يحتمل اللفظ ذلك ومنهم من توقف في التأويل .
وقال : عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء .
فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها وقطعنا بذلك إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه مثل قوله تعالى : " الرحمن على العرش استوى " ومثل قوله : " خلقت بيدي " ومثل قوله : " وجاء ربك إلى غير ذلك " ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه : لا شريك له وليس كمثله شيء وذلك قد أثبتناه يقيناً .
ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف فقالوا : لابد من إجرائها على ظاهرها والقول بتفسيرها كما وردت من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر فوقعوا في التشبيه الصرف وذلك على خلاف ما أعتقده السلف .(13/38)
ولقد كان التشبيه صرفاً خالصاً في اليهود لا في كلهم بل في القرائين منهم إذ وجدوا في التوراة ألفاظاً كثيرة تدل على ذلك .
ثم الشيعة في هذه الشريعة وقعوا في غلو وتقصير : أما الغلو فتشبيه بعض أئمتهم بالإله تعالى وتقدس وأما التقصير فتشبيه الغلة بواحد من الخلق .
ولما ظهرت المعتزلة والمتكلمون من السلف رجعت بعض الروافض عن الغلو والتقصير ووقعت في الاعتزال وتخطت جماعة من السلف إلى التفسير الظاهر فوقعت في التشبيه .
وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل ولا تهدفوا للتشبيه فمنهم : مالك ابن أنس رضي الله عنهما إذ قال : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة .
ومثل أحمد بن حنبل رحمه الله .
وسفيان الثوري وداود بن علي الأصفهاني ومن تابعهم .
حتى انتهى الزمان إلى : عبد الله بن سعيد الكلابي وأبي العباس القلانسي والحارث بن أسد المحاسبي وهؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية وصنف بعضهم ودرس بعض .
حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة فأيد مقالتهم بمناهج كلامية وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة .
وانتقلت سمة الصفاتية إلى الاشعرية .
ولما كانت المشبهة والكرامية : من مثبتي الصفات عددناهم : فرقتين من جملة الصفاتية .
الأشاعرة
أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المنتسب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما .
وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان يقرر عين ما يقرر الأشعري أبو الحسن في مذهبه .(13/39)
وقد جرت مناظرة بين عمرو بن العاص وبينه : فقال عمرو : أين أجد أحداً أحاكم إليه ربي فقال أبو موسى : أنا ذلك المتحاكم إليه فقال عمرو : أو يقدر على شيئاً ثم يعذبني عليه قال : نعم قال عمرو : ولم قال : لا يظلمك فسكت عمرو ولم يحر جواباً .
قال الأشعري : الإنسان إذا فكر في خلقته : من أي شيء ابتدأ وكيف دار في أطوار الخلقة طوراً بعد طور حتى وصل إلى كمال الخلقة وعرف يقيناً : أنه بذاته لم يكن ليدبر خلقته وينقله من درجة إلى درجة ويرقيه من نقص إلى كمال .
علم بالضرورة أن له : صانعاً قادراً عالماً مريداً إذ لا يتصور حدوث هذه الأفعال المحكمة من طبع لظهور آثار الاختيار في الفطرة وتبين آثار الإحكام والإتقان في الخلقة فله صفات دلت أفعاله عليها لا يمكن جحدها وكما دلت الأفعال على كونه : عالماً قادراً مريداً .
دلت على : العلم والقدرة والإرادة لأن وجه الدلالة لا يختلف شاهداً وغائباً وأيضاً لا معنى للعلم حقيقة إلا أنه ذو علم ولا للقادر إلا أنه ذو قدرة ولا للمريد ألا أنه ذو إرادة فيحصل بالعلم والإحكام والإتقان ويحصل بالقدرة الوقوع والحدوث ويحصل بالإرادة التخصيص بوقت دون وقت وقدر دون قدر وشكل دون شكل .
وهذه الصفات لن يتصور أن يوصف بها الذات إلا وأن يكون الذات حياً بحياة للدليل الذي ذكرناه .
وألزم منكري الصفات إلزاماً لامحيص لهم عنه وهو : أنكم وافقتمونا - بقيام الدليل - على كونه عالماً قادراً فلا يخلو : إما أن يكون المفهومان من الصفتين واحداً أو زائداً فإن كان واحداً فيجب أن يعلم بقادريته ويقدر بعالميته ويكون من علم الذات مطلقاً علم كونه عالما قادراً وليس الأمر كذلك فعلم أن الاعتبارين مختلفان فلا يخلو : إما أن يرجع الاختلاف إلى مجرد اللفظ أو إلى الحال أو إلى الصفة .(13/40)
وبطل رجوعه إلى اللفظ المجرد فإن العقل يقضي باختلاف مفهومين معقولين ولو قدر عدم الألفاظ رأساً ما ارتاب العقل فيما تصوره .
وبطل رجوعه إلى الحال فإن إثبات صفة لا توصف بالوجود ولا بالعدم إثبات واسطة بين : الوجود والعدم والإثبات والنفي وذلك محال .
فتعين الرجوع إلى صفة قائمة بالذات وذلك : مذهبه .
على أن القاضي أبا بكر الباقلاني من أصحاب الأشعري قد ردد قوله في إثبات الحال ونفيها وتقرر رأيه على الإثبات ومع ذلك أثبت الصفات معاني قائمة به لا أحوالاً .
وقال : الحال الذي أثبته أبو هاشم هو الذي نسميه صفة : خصوصاً إذا أثبت حالة أوجبت تلك الصفات .
قال أبو الحسن : الباري تعالى : عالم بعلم قادر بقدرة حي بحياة مريد بإرادة متكلم بكلام سميع بسمع بصير ببصر وله في البقاء اختلاف رأي .
قال : وهذه الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى لا يقال : هي هو ولا : هي غيره ولا : لا هو ولا : لا غيره .
والدليل على أنه متكلم بكلام قديم ومريد بإرادة قديمة : أنه قد قام الدليل على أنه تعالى ملك والملك من له الأمر والنهي فهو آمر نله فلا يخلو : إما أن يكون آمراً بأمر قديم أو بأمر محدث وإن كان محدثاً فلا يخلو : إما أن يحدثه في ذاته أو في محل أو لا في محل .
ويستحيل أن يحدثه في ذاته لأنه يؤدي إلى أن يكون محلاً للحوادث وذلك محال ويستحيل أن يحدثه في محل لأنه يوجب أن يكون المحل به موصوفاً ويستحيل أن يحدثه لا في محل لان ذلك غير معقول فتعين أنه : قديم قائم به صفة له .
وكذلك التقسيم في الغدارة والسمع والبصر .
قال : وعلمه واحد يتعلق بجميع المعلومات : المستحيل والجائز والواجب والموجود والمعدوم .
وقدرته واحدة تتعلق بجميع ما يصلح وجوده من الجائزات .
وإرادته واحدة تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص .(13/41)
وكلامه واحد هو : أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه لا إلى عدد في نفس الكلام والعبارات .
والألفاظ المذلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء عليهم السلام دلالات على الكلام الأزلي والدلالة مخلوقة محدثة والمدلول قديم أزلي .
والفرق بين القراءة والمقروء والتلاوة والمتلو : كالفرق بين الذكر والمذكور فالذكر محدث والمذكور قديم .
وخالف الأشعري بهذا التدقيق جماعة من الحشوية إذ أنهم قضوا بكون الحروف والكلمات قديمة .
والكلام عند الأشعري : معنى قائم بالنفس سوى العبارة والعبارة دلالة عليه من الإنسان فالمتكلم عنده من قام بالكلام وعند المعتزلة من فعل الكلام غير أن العبارة تسمى كلاماً : إما بالمجاز وإما باشتراك اللفظ .
قال : وإرادته : واحدة قديمة أزلية متعلقة بجميع المرادات من أفعاله الخاصة وأفعال عباده من حيث إنها مخلوقة له لا من حيث أنها مكتسبة لهم فعن هذا قال : أراد الجميع خيرها وشرها ونفعها وضرها وكما أراد وعلم أراد من العباد ما علم وأمر القلم حتى كتب في اللوح المحفوظ فذلك حكمه وقضاؤه وقدره الذي لا يتغير ولا يتبدل .
وخلاف المعلوم : مقدور الجنس محال الوقوع .
وتكليف ما لا يطاق جائز على مذهبه للعلة التي ذكرناها ولأن الاستطاعة عنده عرض والعرض لا يبقى زمانين : ففي حال التكليف لا يكون المكلف قط قادراً لأن المكلف من يقدر على إحداث ما أمر به .
فأما أن يجوز ذلك في حق من لا قدرة له أصلاً على الفعل فمحال إذ الإنسان يجد في نفسه تفرقة ضرورية بين حركات الرعدة والرعشة وبين حركات الاختيار والإرادة .
والتفرقة راجعة إلى أن الحركات الاختيارية حاصلة تحت القدرة متوقفة على اختيار القادر فعن هذا قال : المكتسب هو المقدور بالقدرة الحاصلة والحاصل تحت القدرة الحادثة .(13/42)
ثم على أصل أبي الحسن : لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل محدث حتى تصلح لإحداث : الألوان والطعوم والروائح وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام فيؤدي إلى تجويز وقوع السماء على الأرض بالقدرة الحادثة .
غير أن الله تعالى أجرى سنته بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها أو معها : الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له ويسمى هذا الفعل كسباً فيكون خلقاً من الله تعالى : إتباعاً وإحداثا وكسبا من العبد : حصولاً تحت قدرته .
والقاضي أبي بكر الباقلاني تحظى عن هذا القدر قليلاً فقال : الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد لكن ليست تقتصر صفات الفعل أو وجوهه واعتباراته على جهة الحدوث فقط بل ههنا وجوه أخر هن وراء الحدوث من كون الجوهر : متحيزاً قابلاً للعرض ومن كون العرض عرضاً ولوناً وسواداً .
وغير ذلك وهذه أحوال عند مثبتي الأحوال .
قال : فجهة كون الفعل حاصلاً بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبة خاصة .
ويسمى ذلك : كسباً وذلك هو أثر القدرة الحادثة .
قال : وإذا جاز على أصل المعتزلة : أن يكون تأثير القدرة أو القادرية القديمة في حال : هو الحدوث والوجود أو في وجه منن وجوه الفعل فلم لا يجوز أن يكون تأثير القدرة الحادثة في حال : هو صفة للحادث أو في وجه من وجوه الفعل وهو كون الحركة مثلا على هيئة مخصوصة وذلك أن المفهوم من الحركة مطلقاً ومن العرض مطلقاً غير المفهوم من القيام والقعود وهما حالتان متمايزتان فإن كل قيام حركة وليس كل حركة قياماً .
ومن المعلوم : أن الإنسان يفرق فرقاً ضرورياً بين قولنا : أوجد وبين قولنا : صلى وصام وقعد وقام .(13/43)
وكما لا يجوز أن يضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد فكذلك لا يجوز أن يضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى فأثبت القاضي تأثيرً للقدرة الحادثة .
وأثرها : هي الحالة الخاصة وهي جهة من جهات الفعل حصلت من تعلق القدرة الحادثة بالفعل وتلك الجهة هي المعينة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب فإن الوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثواب وعقاب خصوصا على أصل المعتزلة فإن جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء والحسن والقبح صفتان ذاتيتان مراء الوجود فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن ولا قبيح .
قال : فإذا جاز لكم إثبات صفتين : هما حالتان .
جاز إثبات حالة : هي متعلق القدرة الحادثة .
ومن قال : هي حالة مجهولة فبينا بقدر الإمكان جهتها وعرفناها آي هي ومثلناها كيف هي .
ثم أن إمام الحرمين أبا المعالي الجويني تخطى عن هذا البيان قليلاً قال : أما نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباه العقل والحس وأما إثبات قدرة لا أثر لها بوجه فهو كنفي القدرة أصلاً وأما إثبات تأثير في حالة لا يفعل فهو كنفي التأثير خصوصاً والأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم .
فلا بد إذا من نسبة فعل البدع إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم والإنسان كما يحس من نفسه والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر .
حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب فهو : الخالق للأسباب ومسبباتها المستغني عن الإطلاق فإن كل سبب مهما استغنى من وجه محتاج من وجه والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر .
وهذا الرأي إنما أخذ من الحكماء الإلهيين وأبرزه في معرض الكلام .
وليس يختص نسبة السبب إلى المسبب على أصله بالفعل والقدرة بل كل ما يوجد من الحوادث فذلك حكمه .(13/44)
وحينئذ يلزم القول : بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً .
وليس ذلك مذهب الإسلاميين .
كيف ورأى المحققين من الحكماء : أن الجسم لا يؤثر فبي إيجاد الجسم قالوا : الجسم لا يجوز أن يصدر عن جسم ولا عن قوة ما في الجسم فإن الجسم مركب من مادة وصورة فلو أثر لأثر بجهتيه أعني بمادته وصورته والمادة لها طبيعة عدمية فلو أثرت لأثرت بمشاركة العدم والتالي محال فالمقدم إذاً محال فنقيضه حق وهو أن الجسم وقوة ما في الجسم : لا يجوز أن يؤثر في جسم .
وتخطى من هو أشد تحققاً وأغوص تفكيراً عن الجسم وقوة ما في الجسم إلى كل ما هو جائز بذاته فقال : كل ما هو جائز بذاته لا يجوز أنن يحدث شيئاً ما فإنه لو أحدث لأحدث بمشاركة الجواز والجواز له طبيعة عدمية فلو خلى الجائز وذاته كان عدماً فلو أثر الجواز بمشاركة العدم لأدى إلى أن يؤثر العدم في الوجود وذلك محال .
فإذاً لا موجد على الحقيقة إلا واجب الوجود لذاته وما سواه من الأسباب معدات لقبول الوجود لا محدثات لحقيقة الجود ولهذا شرح سنذكره .
ومن العجب : أن مأخذ كلام الإمام أبي المعالي إذا كان بهذه المثابة فكيف يمكن إضافة الفعل إلى الأسباب حقيقة ! هذا ونعود إلى كلام صاحب المقالة .
قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري : إذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى لا يشاركه في الخلق غيره فأخص وصفه تعالى هو : القدرة على الاختراع .
قال : وهذا هو تفسير اسمه تعالى الله .
وقال الأستاذ أبو اسحق الإسفرايني : أخص وصفه هو : كون يوجب تمييزه عن الأكوان كلها .(13/45)
وقال بعضهم : نعلم يقيناً : أن ما من موجود إلا ويتميز عن غيره بأمر ما وإلا فيقتضي أن تكون الموجودات كلها مشتركة متساوية والباري تعالى موجود فيجب أن يتميز عن سائر الموجودات بأخص وصف إلا أن العقل لا ينتهي إلى معرفة ذلك الأخص ولم يرد به سمع فنتوقف ثم : هل يجوز أن يدركه العقل ففيه خلاف أيضاً .
وهذا قريب من مذهب ضرار غير أن ضراراً أطلق لفظ الماهية عليه تعالى وهو من حيث العبارة منكر .
ومن مذهب الأشعري : أن كل موجود يصح أن يرى : فإن المصحح للرؤية إنما هو موجود والباري تعالى موجود فيصح أن يرى وقد ورد السمع بأن المؤمنين يرونه في الآخرة قال الله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها .
إلى غير ذلك من الآيات والأخبار .
قال : ولا يجوز أن تتعلق به الرؤية على : جهة ومكان وصورة ومقابلة واتصال شعاع أو على سبيل انطباع فإن كل ذلك مستحيل .
وله قولان في ماهية الرؤية :
أحدهما : أنه علم مخصوص ويعني بالخصوص أنه متعلق بالوجود دون العدم
والثاني : أنه إدراك وراء العلم لا يقتضي تأثيراً في المدرك ولا تأثراً عنه .
وأثبت أن السمع والبصر للباري تعالى صفتان أزليتان هما إدراكان وراء العلم يتعلقان بالمدركات الخاصة بكل واحد بشرط الوجود .
وأثبت اليدين والوجه صفات خبرية فيقول : ورد بذلك السمع فيجب الإقرار به كما ورد .
وصاغوه إلى طريقة السلف من نرك التعرض للتأويل وله قول أيضاً في جواز التأويل .
ومذهبه في الوعد والوعيد والأسماء والأحكام والسمع والعقل : مخالف للمعتزلة من كل وجه .
قال : الإيمان هو التصديق بالجنان وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه فمن صدق بالقلب أي : أقر بوحدانية الله تعالى واعترف بالرسل تصديقاً لهم فيما جاءوا به من عند الله تعالى بالقلب صح إيمانه حتى لو مات عليه في الحال كان مؤمناً ناجياً ولا يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك .(13/46)
وصاحب الكبيرة : إذا خرج من الدنيا من غير توبة يكون حكمه إلى الله تعالى : إما أن يغفر له برحمته وإما أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال : " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " .
وإما أن يعذبه بمقدار جرمه ثم يدخله الجنة برحمته ولا يجوز أن يخلد في النار مع الكفار لما ورد به السمع : بالإخراج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان .
قال : ولو تاب فلا أقول : بأنه يجب على الله تعالى قبول توبته بحكم العقل إذ هو الموجب فلا يجب عليه شيء بلى : ورود السمع بقبول توبة التائبين وإجابة دعوة المضطرين .
وهو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلو أدخل الخلائق بأجمعهم في الجنة لم يكن حيفاً ولو أدخلهم النار لم يكن جوراً إذ الظلم هو : التصرف فيما لا يملكه المتصرف أو وضع الشيء في غير موضعه وهو المالك المطلق فلا يتصور منه ظلم ولا ينسب إليه جور .
قال : والواجبات كلها سمعية والعقل لا يوجب شيئاً ولا يقتضي تحسينا ًو لا تقبيحاً فمعرفة الله تعالى : بالعقل تحصل وبالسمع : تجب قال الله تعالى : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " .
وكذلك : شكر المنعم وإثابة المطيع وعقاب العاصي يجب بالسمع دون العقل .
ولا يجب على الله تعالى شيء ما بالعقل : لا الصلاح ولا أصلح ولا اللطف .
وكل ما يقتضيه العقل من جهة الحكمة الموجبة فيقتضي نقيضه من وجه آخر .
وأصل التكليف لم يكن واجباً على الله تعالى إذ لم يرجع إليه نفع ولا اندفع به عنه ضر .
وهو قادر على مجازاة العبيد : ثواباً وعقاباً وقادر على الإفضال عليهم ابتداء : تكرماً وتفضلاً .
والثواب والنعيم واللطف كله منه فضل والعقاب والعذاب كله عدل : " لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون " .(13/47)
وإبعاث الرسل من القضايا الجائزة لا الواجبة ولا المستحيلة ولكن بعد الانبعاث تأييدهم بالمعجزات وعصمتهم من الموبقات من جملة الواجبات إذ لا بد من طريق للمستمع يسلكه ليعرف به صدق المدعي ولا بد من إزاحة العلل فلا يقع في التكليف تناقض .
والمعجزة : فعل خارق للعادة مقترن بالتحدي سليم عن المعارضة يتنزل منزلة التصديق بالقول من حيث القرينة وهو منقسم إلى خرق المعتاد وإلى إثبات غير المعتاد .
والكرامات للأولياء حق وهو من وجه : تصديق للأنبياء وتأكيد للمعجزات .
والإيمان والطاعة بتوفيق الله تعالى والكفر والمعصية بخذلانه والتوفيق عنده : خلق القدرة على الطاعة والخذلان عنده : خلق القدرة على المعصية .
وعند بعض أصحابه : تيسير أسباب الخير هو التوفيق وبضده الخذلان .
وما ورد به السمع من الأخبار عن الأمور الغائبة مثل : القلم واللوح والعرش والكرسي والجنة والنار فيجب إجراؤها على ظاهرها والإيمان بها كما جاءت إذ لا استحالة في إثباتها .
وما ورد من الأخبار عن الأمور المستقبلة في الآخرة مثل سؤال القبر والثواب والعقاب فيه ومثل : الميزان والحساب والصراط وانقسام الفريقين : فريق في الجنة وفريق في السعير .
حتى يجب الاعتراف بها وإجراؤها على ظاهرها إذ لا استحالة في وجودها .
والقرآن عنده معجز من حيث : البلاغة والنظم والفصاحة إذ خير العرب بين السيف وبين المعارضة فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة .
ومن أصحابه من اعتقد أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف الدواعي وهو المنع من المعارضة ومن جهة الإخبار عن الغيب .
وقال : الإمامة تثبت باتفاق والاختيار دون النص والتعيين إذ لو كان ثم نص لما خفي والدواعي تتوفر على نقله .(13/48)
واتفقوا في سقيفة بني ساعدة على أبي بكر رضي الله عنه ثم اتفقوا بعد تعيين أبي بكر على عمر رضي الله عنه واتفقوا بعد الشورى على عثمان رضي الله وقال : لا نقول في عائشة وطلحة والزبير : إلا أنهم رجعوا عن الخطأ والزبير من العشرة الأوائل المبشرين بالجنة .
ولا نقول في حق معاوية وعمرو بن العاص : إلا أنهما بغيا على الإمام الحق فقاتلهم علي مقاتلة أهل البغي .
وأما أهل النهران فهم الشراة المارقون على الدين بخبر النبي صلى الله عليه وسلم .
ولقد كان علي رضي الله عنه على الحق في جميع أحواله يدور الحق معه حيث دار .
المشبهة
اعلم أن السلف من أصحاب الحديث لما رأوا توغل المعتزلة في علم الكلام ومخالفة السنة التي عهدوها من الأئمة الراشدين ونصرهم : جماعة من أمراء بني أمية على قولهم بالقدر وجماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن .
تحيروا في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في متشابهات : آيات الكتاب الحكيم وأخبار النبي الأمين صلى الله عليه وسلم .
فأما أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني وجماعة من أئمة السلف فجروا على منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث مثل : مالك بن أنس ومقاتل إ بن سليمان وسلكوا طريق السلامة فقالوا : نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة ولا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعاً أن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات وأن كل ما تمثل في الوهم فإنه خالقه ومقدوره .
وكانوا يحترزون عن التشبيه إلى غاية أن قالوا : من حرك يده عند قراءة له تعالى : : " خلقت بيدي " أو أشار بإصبعيه عند روايته : قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن .
وجب قطع يده وقلع إصبعيه .(13/49)
وقالوا : إنما توقفنا في تفسير الآيات وتأويلها لأمرين : أحدهما : المنع الوارد في التنزيل في قوله تعالى : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب " فنحن نحترز عن الزيغ .
والثاني : أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق والقول في صفات الباري بالظن غير جائز فربما أولنا الآية على غير مراد الباري تعالى فوقعنا في الزيغ بل نقول كما قال الراسخون في العلم : كل من عند ربنا : آمنا بظاهره وصدقنا بباطنه ووكلنا علمه إلى الله تعالى ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك إذ ليس ذلك من شرائط الإيمان وأركانه .
واحتاط بعضهم أكثر احتياط حتى لم يقرأ : اليد بالفارسية ولا الوجه ولا الاستواء ولا ما ورد من جنس ذلك .
بل إن احتاج في ذكرها إلى عبارة عبر عنها بما ورد : لفظا بلفظ .
فهذا هو طريق السلامة وليس هو من التشبيه في شيء .
غير أن جماعة من الشيعة الغالية وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل : الهشاميين من الشيعة ومثل : مضر وكهمس وجهم الهخيمي وغيرهم من الحشوية قالوا : معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض : إما روحانية وأما جسمانية .
ويجوز عليه : الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن .
فأما مشبهة الشيعة فستأتي مقالاتهم في باب المغالاة .
وأما مشبهة الحشوية فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن : مضر وكهمس وأحمد الهجيمي : أنهم أجازوا على ربهم : الملامسة والمصافحة وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا ز الآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص والاتحاد المحض .
وحكى الكعبي عن بعضهم : أنه كان يجوز الرؤية في دار الدنيا وأن يزوروه ويزورهم .
وحكى عن داود الجواربي أنه قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك .(13/50)
وقال : إن معبوده : جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء من : يد ورجل ورأس ولسان وعينين وأذنين ومع ذلك : جسم لا كالأجسام ولحم لا كاللحوم ودم لا كالدماء وكذلك سائر الصفات وهو : لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء .
وحكى عنه أنه قال : هو : أجوف من أعلاه إلى صدره مصمت ما سوى ذلك وأن له وفرة سوداء وله شعر قطط .
وأما ما ورد في التنزيل من : اللإستواء والوجه واليدين والجنب والمجيء والإتيان والفوقية .
وغير ذلك فأجروها على ظاهرها أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام .
وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه السلام : " خلق آدم على صورة الرحمن " وقوله : " وضع يده أو كفه على كتفي " وقوله : " حتى وجدت برد أنامله على كتفي " .
إلى غير ذلك .
اجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام .
وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي عليه السلام وأكثرها مقتبسة من اليهود فإن التشبيه فيهم طباع حتى قالوا : اشتكت عيناه فعادته الملائكة وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه وإن العرش ليئط من تحته كأطيط الحل الجديد وإنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع .
وروى المشبهة عن النبي عليه السلام أنه قال : " لقيني ربي فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله " .
وزادوا على التشبيه قولهم في القرآن : إن الحروف والأصوات والرقوم المكتوبة قديمة أزلية وقالوا : لا يعقل كلام بحروف ولا كلم واستدلوا بأخبار منها ما رووا عن النبي عليه السلام : ينادي الله تعالى يوم القيامة بصوت يسمعه الأولون والآخرون ورووا : أن موسى عليه السلام كان يسمع كلام الله كجر السلاسل .
قالوا : وأجمعت السلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال هو مخلوق فهو كافر بالله ولا نعرف من القرآن إلا ما هو بين أظهرنا فنبصره ونسمعه ونقرؤه ونكتبه .(13/51)
والمخالفون في ذلك : أما المعتزلة فوافقونا على أن هذا الذي في أيدينا كلام الله وخالفونا في القدم وهم محجوجون بإجماع الأمة .
وأما الأشعرية فوافقونا على أن القرآن قديم وخالفونا في أن الذي في أيدينا كلام الله وهم محجوجون أيضاً بإجماع الأمة : أن المشار غليه هو كلام الله .
فأما إثبات كلام هو صفة قائمة بذات الباري تعالى : لا نبصرها ولا نكتبها ولا نقرؤها ولا نسمعها فهو مخالفة الإجماع من كل وجه .
فنحن نعتقد : أن ما بين الدفتين كلام الله أنزله على لسان جبريل عليه السلام فهو : المكتوب في المصاحف وهو المكتوب في اللوح المحفوظ وهو الذي يسمعه المؤمنون في الجنة من الباري تعالى بغير حجاب ولا واسطة وذلك معنى قوله تعالى : " سلام قولاً من رب رحيم " وهو قوله تعالى لموسى عليه السلام : " يا موسى إني أنا الله رب العالمين " ومناجاته من غير واسطة حتى قال تعالى : " وكلم الله موسى تكليما " وقال : " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " .
وروى عن النبي علليه السلام أنه قال : " إن الله تعالى كتب التوراة بيده وخلق جنة عدن بيده وخلق آدم بيده " .
وفي التنزيل : وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء .
قالوا : فنحن لا نريد من أنفسنا شيئاً ولا نتدارك بعقولنا أمراً لم يتعرض له السلف قالوا : ما بين الدفتين كلام لله قلنا : هو كذلك واستشهدوا عليه بقوله تعالى : " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " ومن المعلوم : أنه ما سمع إلا هذا الذي نقرؤه .
وقال تعالى : " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين " .
وقال : " في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة " .
وقال : " إنا أنزلناه في ليلة القدر " .
وقال : " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " .(13/52)
إلى غير ذلك من الآيات .
ومن المشبهة من مال إلى مذهب الحلولية وقال : يجوز أن يظهر الباري تعالى بصورة شخص كما كان جبريل عليه السلام ينزل في صورة أعرابي وقد تمثل لمريم بشراً سوياً وعليه حمل قول النبي عليه السلام " رأيت ربي في أحسن صورة " .
وفي التوراة عن موسى عليه السلام : شافهت الله تعالى فقال لي : كذا .
والغلاة من الشيعة مذهبهم الحلول .
ثم الحلول : قد يكون بجزء وقد يكون بكل على ما سيأتي في تفصيل مذاهبهم إن شاء الله تعالى .
الكرامية
أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام وإنما عددناه من الصفاتية لأنه كان ممن يثبت الصفات غلا أنه ينتهي فيها إلى التجسيم والتشبيه .
وقد ذكرنا : كيفية خروجه وانتسابه إلى أهل السنة فيما قدمناه ذكره .
وهم طوائف بلغ عددهم إلى اثنتي عشرة فرقة وأصولها ستة : العابدية والتونية والزرينية والإسحاقية والواحدية وأقربهم : الهيصمية .
ولكل واحدة منهم رأي إلا أنه لما يصدر ذلك من علماء معتبرين بل عن سفهاء أغتام جاهلين لم نفردها مذهباً وأوردنا مذهب صاحب نص أبو عبد الله على أن معبوده على العرش استقراراً وعلى أنه بجهة فوق ذاتاً .
وأطلق عليه اسم الجوهر فقال في كتابه المسمى عذاب القبر : إنه إحدى الذات إحدى الجوهر وغناه مماس للعرش من الصفحة العليا .
وجوز : وقال بعضهم : امتلأ العرش به .
وصار المتأخر ون منهم : إلى أنه تعالى بجهة فوق وأنه محاذ للعرش .
ثم اختلفوا : فقالت العابدية : إن بينه وبين العرش من البعد والمسافة لو قدر مشغولا بالجواهر لاتصلت به .
وقال محمد بن الهيصم : إن ابنه وبين العرش بعداً لا يتناهى وإنه مباين للعالم بينوية أزلية .
ونفى التحيز والمحاذاة وأثبت الفوقية والمباينة .
وأطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه .
والمقاربون منهم قالوا : نعني بكونه جسماً : أنه قائم بذاته وهذا هو حد الجسم عندهم .(13/53)
وبنوا على هذا أن من حكم القائلين بأنفسهما : أن يكونا متجاورين أو متباينين فقضى بعضهم بالتجاور مع العرش وحكم بعضهم بالتباين .
وربما قالوا : كل موجودين فإما أن يكون أحدهما بحيث الآخر كالعرض مع الجوهر وإما أن يكون بجهة منه والباري تعالى ليس بعرض إذ هو قائم بنفسه فيجب أن يكون بجهة من العالم ثم أعلى الجهات وأشرفها جهة فوق فقلنا هو بجهة فوق الذات حتى إذا رئي رئي من تلك الجهة ثم لهم اختلافات في النهاية فمن المجسمة من أثبت النهاية له من ست جهات ومنهم من أثبت النهاية له من جهة تحت ومنهم من أنكر النهاية له فقال : هو عظيم .
ولهم في معنى العظمة خلاف والعرش تحته وهو فوق كله على الوجه الذي هو فوق جزء منه وقال بعضهم : معنى عظمته أنه يلاقي مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد وهو يلاقي جميع أجزاء العرش وهو العلي العظيم .
ومن مذهبهم جميعاً : جواز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى .
ومن أصلهم : أن ما يحدث في ذاته فإنما يحدث بقدرته وما يحدث مبايناً لذاته فغنما يحدث بقدرته من الأقوال والإرادات ويعنون بالمحدث : ما باين ذاته من الجواهر والأعراض .
ويفرقون بين الخلق والمخلوق والإيجاد والموجود والموجد وكذلك بين الإعدام والمعدوم : فالمخلوق : إنما يصير معدوماً بالإعدام الواقع في ذاته بالقدرة .
وزعموا : أن في ذاته سبحانه حوادث كثيرة مثل : الإخبار عن الأمور الماضية والآتية والكتب المنزلة على الرسل عليهم السلام والقصص والوعد والوعيد والأحكام ز من ذلك المسمعات والمبصرات فيما يجوز أن يسمع ويبصر .
والإيجاد والإعدام : هو القول بالإرادة وذلك قوله : كن للشيء الذي يريد كونه .(13/54)
وإرادته لوجود ذلك الشيء وقوله للشيء كن صورتان : وفشر محمد بن الهيصم الإيجاد والإعدام : بالإرادة والإيثار قال : وذلك مشروط بالقول شرعاً إذ ورد في التنزيل : " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " وقوله : " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن فيكون " .
وعلى قول الأكثرين منهم : الخلق عبارة عن القول والإرادة .
ثم اختلفوا في التفصيل : فقال بعضهم : لكل موجود إيجاد ولكل معدوم إعدام .
وقال بعضهم : إيجاد واحد يصلح لموجودين إذا كانا من جنس واحد وإذا اختلف الجنس تعدد الإيجاد .
وألزم بعضهم : لو افتقر كل موجود أو كل جنس إلى إيجاد فليفتقر كل إيجاد إلى قدرة فالتزم تعدد القدرة بتعدد الإيجاد .
وقال بعضهم أيضاً : تتعدد القدرة بعدد أجناس المحدثات وأكثرهم على أنها تتعدد بعدد أجناس الحوادث التي تحدث في ذاته من : الكاف والنون والإرادة والسمع والتبصر .
ومنهم من أثبت لله تعالى السمع والبصر أزلاً والتسمعات والتبصرات هي إضافة المدركات إليهما .
وقد أثبتوا لله تعالى مشيئة قديمة متعلقة بأصول المحدثات وبالحوادث التي تحدث في ذاته وأثبتوا إرادات حادثة تتعلق بتفاصيل الحدثات .
وأجمعوا على أن الحوادث لا توجب لله تعالى وصفاً ولا هي صفات له فتحدث في ذاته هذه لحوادث من : الأقوال والإرادات والتسمعات والتبصرات ولا يصير بها : قائلاً ولا مريداً ولا سميعاً ولا بصيراً ولا يصير بخلق هذه الحوادث : محدثاً ولا خالقاً .
وإنما هو : قائل بقائليته وخالق بخالقيته ومريد بمريديته وذلك قدرته على هذه الأشياء .
ومن أصلهم : أن الحوادث التي يحدثها في ذاته واجبة البقاء حتى يستحيل عدمها إذ لو جاز عليها العدم لتعاقبت على ذاته الحوادث ولشارك الجوهر في هذه القضية أيضاً فلو قدر عدمها فلا يخلو : إما أن يقدر عدمها بالقدرة أو بإعدام يخلقه في ذاته .(13/55)
ولا يجوز أن يكون عدمها بالقدرة لأنه يؤدي إلى ثبوت المعدوم في ذاته وشرط الموجود والمعدوم أن يكونا مباينين لذاته ولو جاز وقوع معدوم في ذاته بالقدرة من غير واسطة إعدام لجاز حصول سائر المعلومات بلا قدرة .
ثم يجب طرد ذلك في الموجد حتى يجوز وقوع موجد محدث في ذاته وذلك محال عندهم ولو فرض عدا معا بالإعدام لجاز تقدير عدم ذلك الإعدام فيتسلسل فارتكبوا في ثاني حال ثبوت الإحداث بلا فصل ولا اثر للإحداث في حال بقائه .
ومن أصلهم : أن ما يحدث في ذاته من الأمر فمنقسم إلى ك أمر التكوين وهو فعل التكليف ونهى التكليف وهي أفعال من حيث دلت على القدرة ولا يقع تحتها مفعولات .
هذا هو تفصيل مذاهبهم في محل الحوادث .
وقد اجتهد ابن الهيصم في إرمام مقالة أبي عبد الله في كل مسالة حتى ردها من المحال الفاحش إلى نوع يفهم فينا بين العقلاء : مثل التجسيم فإنه قال : أراد بالجسم : القائم بالذات .
ومثل الفوقية فإنه حملها على العون وأثبت البينوية غير المتناهية وذلك الخلاء الذي أثبته بعض الفلاسفة .
ومثل الاستواء فإنه : نفى المجاورة والمماسة والتمكن بالذات .
غير مسألة محل الحوادث فإنها لم تقبل الرمة فالتزمها كما ذكرنا وهي من أشنع المحالات عقلاً .
وعند القوم : أن الحوادث تزيد على عدد المحدثات بكثير فيكون في ذاته أكثر من عدد المحدثات عوالم من الحوادث وذلك محال شنيع .
ومما أجمعوا عليه من إثبات الصفات قولهم : الباري تعالى : عالم بعلم قادر بقدرة حي بحياة شاء بمشيئة وجميع هذه الصفات : صفات قديمة أزلية قائمة بذاته .
وربما زادوا السمع والبصر كما أثبته الأشعري .
وربما زادوا الوجه واليدين : صفات قديمة قائمة به وقالوا : له يد لا كالأيدي ووجه لا كالوجوه .
وأثبتوا جواز رؤيته من جهة فوق دون سائر الجهات .(13/56)
وزعم ابن الهيصم : أن الذي أطلقه المشبهة على الله عز وجل من الهيئة والصورة والجوف والاستدارة والوفرة والمصافحة والمعانقة ونحو ذلك .
لا يشبه سائر ما أطلقه الكرامية من : أنه خلق آدم بيده وأنه استوى على عرشه وأنه يجيء يوم القيامة لمحاسبة الخلق .
وذلك أنا لا نعتقد من ذلك شيئاً على معنى فاسد : من جارحتين وعضوين تفسيراً لليدين ولا مطابقة للمكان واستقلال العرش بالرحمن تفسيراً للاستواء ولا تردداً في الأماكن التي تحيط به تفسيراً للمجيء وإنما ذهبنا في ذلك على إطلاق ما أطلقه القرآن فقط من غير تكييف وتشبيه وما لم يرد به القرآن والخبر فلا نطلقه كما أطلقه سائر المشبهة والمجسمة .
وقال الباري تعالى عالم في الأزل بما سيكون على الوجه الذي يكون وشاء لتنفيذ علمه في معلوماته فلا ينقلب علمه جهلاً ومريد لما يخلق في الوقت الذي يخلق بإرادة حادثة وقائل لكل ما يحدث بقوله كن حتى يحدث وهو الفرق بين الإحداث والمحدث والخلق والمخلوق .
وقال : نحن نثبت القدر خيره وشره من الله تعالى وأنه : أراد الكائنات كلها خيرها وشرها وخلق الموجودات كلها حسنها وقبيحها .
في إثبات فائدة زائدة على كونه مفعولاً مخلوقاً للباري تعالى تلك الفائدة هي مورد التكليف والمورد هو المقابل بالثواب والعقاب .
واتفقوا على أن العقل يحسن ويقبح قبل الشرع وتجب معرفة الله تعالى بالعقل كما قالت المعتزلة إلا أنهم لم يثبتوا رعية الصلح ة الأصلح واللطف عقلاً كما قالت المعتزلة .
وقالوا : الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب .
ودون سائر الأعمال .
وفرقوا بين تسمية المؤمن مؤمناً فيما يرجع إلى أحكام الظاهر والتكليف وفيما يرجع إلى أحكام الآخرة والجزاء فالمنافق عندهم : مؤمن في الدنيا على الحقيقة مستحق للعقاب الأبدي في الآخرة .
وقالوا في الإمامة : إنها تثبت بإجماع الأمة دون النص والتعيين كما قال أهل السنة .(13/57)
إلا أنهم جوزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين وغرضهم : إثبات إمامة معاوية في الشام باتفاق جماعة من أصحابه وإثبات أمير المؤمنين علي بالمدينة والعراقيين باتفاق جماعة من أصحابه .
ورأوا تصويب معاوية فيما استبد به من الأحكام الشرعية : قتالاً على طلب قتله عثمان رضي الله عنه واستقلالاً ببيت المال .
ومذهبهم الأصلي اتهام علي رضي الله عنه في الصبر على ما جرى مع عثمان رضي الله عنه والسكوت عنه وذلك : عرق نزع .
الباب الرابع الخوارج
الخوارج والمرجئة والوعيدية : كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى : خارجياً سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان .
والمرجئة : صف آخر تكلموا في الإيمان والعمل إلا أنهم وافقوا الخوارج في بعض المسائل التي تتعلق بالإمامة .
والوعيدية : داخلة في الخوارج وهم القائلون : بتكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار فذكرنا مذاهبهم في أثناء مذاهب الخوارج .
اعلم أن أول من خرج على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه جماعة ممن كان معه في حرب صفين وأشدهم خروجاً عليه ومروقاً من الدين : الأشعث ابن قيس الكندي ومسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي حين قالوا : القوم يدعوننا إلى كتاب الله وأنت تدعونا إلى السيف .
حتى قال : أنا أعلم بما في كتاب الله ! انفروا إلى بقية الأحزاب ! انفروا إلى من يقول : كذب الله ورسوله وأنتم تقولوا : صدق الله ورسوله قالوا : لترجعن الأشتر عن قتال المسلمين وإلا فعلنا بك مثل ما فعلنا بعثمان فاضطر إلى رد الأشتر بعد أن هزم الجمع وولوا مدبرين وما بقي منهم إلا شرذمة قليلة فيها حشاشة قوة فامتثل الأشتر أمره .(13/58)
وكان من أمر الحكمين : أن الخوارج حملوه على التحكيم أولاً وكان يريد أن يبعث عبد الله بن عباس رضي الله عنه فما رضي الخوارج بذلك وقالوا هو منك وحملوه على بعث أبو موسى الأشعري على أن يحكم بكتاب الله تعالى فجرى الأمر على خلاف ما رضي به فلما لم يرض بذلك خرجت الخوارج عليه وقالوا : لم حكمت الرجال ! لا حكم غلا لله .
وهم المارقون الذين اجتمعوا بالنهر وان .
وكبار الفرق منهم : المحكمة والأزارقة والنجدات والبهسية والعجاردة والثعالبة والإباضية والصفرية والباقون فروعهم .
ويجمعهم : القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما ويقدمون ذلك على كل طاعة ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك ويكفرون أصحاب الكبائر ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة : حقاً واجباً .
هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حين جرى أمر المحكمين واجتمعوا بحروراء من ناحية الكوفة ورأسهم : عبد الله بن الكواء وعتاب بن الأعور وعبد الله بن وهب الراسي وعروة بن جرير ويزيد ابن عاصم المحاربي وحرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية .
وكانوا يومئذ في اثني عشر ألف رجل أهل صلاة وصيام أعني يوم النهر وان .
وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم وصوم أحدكم في جنب صيامهم ولكن لا يجاوز إيمانهم ترقيهم .
فهم : المارقة الذين قال فيهم : سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يمرقون على الدين كما يمرق السهم من الرمية .
وهم الذين أولهم : ذو الخويصرة وآخرهم : ذو الثدية .
وإنما خروجهم في الزمن الأول على أمرين : أحدهما بدعتهم في الإمامة إذ جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش وكل من نصبوه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور : كان إماماً ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه وإن غير السيرة .(13/59)
وجوزوا أن لا يكون في العالم إماماً أصلاً وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون : عبداً أو حراً أو نبطياً أو قرشياً .
والبدعة الثانية : أنهم قالوا : أخطأ علي في التحكيم إذ حكم الرجال ولا حكم إلا بالله .
وقد كذبوا على علي رضي الله عنه من وجهين : أحدهما في التحكيم أنه حكم الرجال وليس ذلك صدقاً لأنهم هم الذين حملوه على التحكيم .
والثاني : أن تحكيم الرجال جائز فإن القوم هم الحاكمون في هذه المسألة وهم رجال ولهذا قال علي رضي الله عنه : كلمة حق أريد بها باطل .
وتخطوا عن هذه التخطئة إلى التكفير ولعنوا علياً رضي الله عنه فيما قاتل : الناكثين والقاسطين والمارقين : فقاتل الناكثين واغتنم أموالهم وما سبى ذراريهم ونساؤهم وقتل مقاتلة من القاسطين وما اغتنم ولا سبى .
ثم رضي بالتحكيم وقاتل مقاتلة المارقين واغتنم أموالهم وسبى ذراريهم .
وطعنوا في عثمان رضي الله عنه للأحداث التي عدوها عليه .
وطعنوا في أصحاب الجمل وأصحاب صفين .
فقاتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان مقاتلة شديدة فما افلت منهم إلا أقل من عشرة وما قتل من السلمين إلا أقل من عشرة فانهزم اثنان منهم إلى عمان واثنان إلى كرمان واثنان إلى سجستان واثنان إلى الجزيرة وواحد إلى تل مورون باليمن .
وظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع منهم وبقيت إلى اليوم .
أول من بويع من الخوارج بالإمامة : عبد الله بن وهب الراسي في منزل زيد بن حصين بايعه : عبد الله بن الكواء وعروة بن جرير ويزيد ابن عاصم المحاربي وجماعة معهم .
وكان يمتنع عليهم تحرجاً ويستقبلهم ويومئ إلى غيره تحرزاً فلم يقنعوا فلا به وكان يوصف برأي ونجدة فتبرأ من الحكمين وممن رضي بقولهما وصوب أمرهما .
وأكفروا أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه وقالوا : إنه ترك حكم الله وحكم الرجال .(13/60)
وقيل : إن أول من تلفظ بهذا رجل من بني سعد بن زيد بن مناة بن تميم يقال له : الحجاج بن عبيد الله يلقب بالبرك وهو الذي ضرب معاوية على إليته لما سمع بذكر الحكمين وقال : أتحكم في دين الله لا حكم إلا لله فلنحكم بما حكم الله في القرآن به فسمعها رجل فقال : طعن والله فأنفذ ! فسموا : المحكمة بذلك .
ولما سمع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه هذه الكلمة قال كلمة عدل أريد بها جور إنما يقولون لا إمارة ولابد من إمارة بر أو فاجر .
ويقال : إن أول سيف سل من سيوف الخوارج سيف : عروة بن أذينة وذلك أنه أقبل على الأشعث ابن قيس فقال : ما هذه الدنية يا أشعث وما هذا التحكيم أشرط أحدكم أوثق من شرط الله تعالى ! ثم شهر السيف والأشعث مولي فضرب به عجز البغلة فشبت البغلة فنفرت اليمانية فلما رأى ذلك الأحنف : مشى هو وأصحابه إلى الأشعث فسألوه الصفح ففعل .
وعروة بن أذينة نجا بعد ذلك من حرب النهران وبقي إلى أيام معاوية ثم أتى إلى زياد بن أبيه ومعه مولى له فسأله زياد عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال فيهما خيراً وسأله عن عثمان فقال : كنت أوالي عثمان على أحواله في خلافته ست سنين ثم تبرأت منه بعد ذلك للأحداث التي أحدثها وشهد عليه بالكفر وسأله عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فقال : كنت أتولاه إلى أن حكم الحكمين ثم تبرأت منه بعد ذلك وشهد عليه بالكفر وسأله عن معاوية فسبه سباً قبيحاً ثم سأله عن نفسه فقال : أولك لريبة وآخرك لدعوة وأنت فيما بينهما عاص ربك فأمر زياد بضرب عنقه .
ثم دعا مولاه فقال له : صف لي أمره واصدقن فقال : أأطنب أم أختصر فقال : بل اختصر فقال : ما أتيته بطعام في نهار قط ولا فرشت له فراشاً بليل قط .
هذه معاملته واجتهاده وذلك خبثه واعتقاده .
الأزارقة(13/61)
أصحاب أبي رشد نافع بن الأزرق الذين خرجوا مع نافع من الصرة إلى الأهواز فغلبوا عليها وعلى كورها وما وراءها من بلدان : فارس وكرمان في أيام عبد الله بن الزبير وقتلوا عماله فيها بهذه النواحي .
وكان مع نافع من أمراء الخوارج : عطية بن الأسود الحنفي وعبد الله بن ماخون وأخواه عثمان والزبير وعمر ابن عمير العنبري وقطري بن الفجاءة المازني وعبيدة بن هلال اليشكري وأخوه محرز بن هلال وصخر بن حبيب التيمي وصالح بن مخراق العبدي وعبد ربه الكبير وعبد ربه الصغير .
في زهاء ثلاثين ألف فارس ممن يرى رأيهم وينخرط في سلكهم .
فأنفذ إليهم عبد الله بن الحرث بن نوفل النوفلي بصاحب جيشه : مسلم بن عبيس بن كريز ابن حبيب فقتله الخوارج وهزموا أصحابه .
فأخرج إليهم أيضاً عثمان بن عبد الله ابن معمر التميميح فهزموه .
فأخرج إليهم حارثة بن بدر العتابي في جيش كثيف فهزموه وخشي أهل البصرة على أنفسهم وبلدهم من الخوارج .
فأخرج إليهم المهلب بن أبي صفرة فبقي في حرب الأزارقة تسع عشرة سنة إلى أن فرغ من أمرهم في أيام الحجاج ومات نافع قبل وقائع المهلب مع الأزارقة وبايعوا بعده قطري بن الفجاءة المازنين وسموه : أمير المؤمنين .
وبدع الأزارقة ثمانية :
إحداهما : أنه أكفر علياً رضي الله عنه وقال : إن الله أنزل في شأنه : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام " وصوب : عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله وقال : إن الله تعالى أنزل في شأنه : " ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله " .(13/62)
وقال عمران بن حطان وهو ك مفتي الخوارج وزاهدها وشاعرها الأكبر في ضربة ابن ملجم لعنه الله لعلي رضي الله عنه : يا ضربة من منيب ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوماً فأحسبه أفى البرية عند الله ميزانا وعلى هذه البدعة مضت الأزارقة وزادوا عليه تكفير : عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وسائر المسلمين معهم وتخليدهم في النار جميعاً .
والثانية : أنه أكفر القعدة وهو أول من أظهر البراءة من القعدة عن القتال وإن كان موافقاً له على دينه وأكفر من لم يهاجر غليه .
والثالثة : إباحته قتل الأطفال المخالفين والنسوان منهم .
والرابعة : إسقاطه الرجم عن الزاني إذ ليس في القرآن ذكره وإسقاطه حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء .
والخامسة : حكمه بأن أطفال المشركين في النار مع آبائهم .
والسادسة : أن التقية غير جائزة في قول ولا عمل .
والسابعة : تجويزه أن يبعث الله تعالى نبياً يعلم أنه يكفر بعد نبوته أو كان كافراً قبل البعثة .
والكبائر والصغائر : إذا كانت بمثابة عنده فهي كفر .
والثامنة : اجتمعت الأزارقة على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر ملة خرج به عن الإسلام جملة ويكون مخلداً في النار مع سائر الكفار واستدلوا بكفر إبليس وقالوا : ما ارتكب إلا كبيرة حيث أمر بالسجود لآدم عليه السلام فامتنع وإلا فهو عارف بوحدانية الله تعالى .
أصحاب نجدة بن عامر الحنفي
وقيل : عاصم وكان من شأنه أنه خرج مع اليمامة مع عسكره يريد اللحوق بالأزارقة فاستقبله : أبو فديك وعطية ابن الأسود الحنفي في الطائفة الذين خالفوا نافع بن الأزرق فأخبروه بما أحدثه نافع من الخلاف : بتكفير العقدة عنه وسائر الأحداث والبدع وبايعوا نجدة وسموه أمير المؤمنين .(13/63)
ثم اختلفوا على نجدة فأكفره قوم منهم لأمور نقموها عليه منها أنه بعث ابنه مع جيش إلى أهل القطيف فقتلوا رجالهم وسبوا نساءهم وقو موها على أنفسهم وقالوا : إن صارت قيمتهن في حصصنا فذلك وإلا رددنا الفضل ونكحوهن قبل القسمة وأكلوا من الغنيمة قبل القسمة .
فلما رجعوا إلى نجدة وأخبروه بذلك قال : لم يسعمك ما فعلتم قالوا : لم نعلم أن ذلك لا يسعنا فعذرهم بجهالتهم .
واتلف أصحابه بذلك فمنهم من وافقه وعذر بالجهالات في الحكم الاجتهادي وقالوا : الدين أمران : أحدهما : معرفة الله تعالى ومعرفة رسله عليهم السلام وتحريم دماء المسلمين يعنون موافقيهم والإقرار بما جاء من عند الله جملة .
فهذا واجب على الجميع والجهل به لا يعذر فيه .
والثاني : ما سوى ذلك : فالناس معذورون فيه .
إلى أن تقوم عليهم الحجة في الحلال والحرام .
قالوا : ومن جوز العذاب على المجتهد المخطىء في الأحكام قبل قيام الحجة عليه فهو كافر واستحل نجدة بن عامر دماء أهل العبد والذمة وأموالهم في حال التقية وحكم بالبراءة ممن حرمها .
قال : وأصحاب الحدود من موافقيه لعل الله تعالى يعفو عنهم ومن نظر نظرة أو كذب كذبة صغيرة أو كبيرة أصر عليها فهو مشرك ومن زنى وشرب وسرق غير مصر عليه فهو غير مشرك وغلظ على الناس في حد الخمر تغليظا شديداً .
ولما كاتب عبد الملك بن مروان وأعطاه الرضى : نقم عليه أصحابه فيه فاستتابوه فأظهر التوبة فتركوا النقمة عليه والتعرض له .
وندمت طائفة على هذه الاستتابة وقالوا : أخطأنا وما كان لنا أن نستتيب الإمام وما كان له أن يتوب باستتابتنا إياه : أخطأنا من ذلك وأظهروه الخطأ وقالوا له : تب من توبتك وإلا نابذناك فتاب من توبته .
وفارقه : أبو فديك وعطية ووثب عليه أبو فديك فقتله .(13/64)
ثم برئ أبو فديك وعطية من أبي فديك انفذ مروان بن عبد الملك : عمرو بن عبيد الله بن معمر من التميمي مع جيش إلى حرب أبي فديك فحاربه أياماً فقتله ولحق عطية بأرض سجستان ويقال لأصحابه : الطوية ومن أصحابه : عبد الكريم بن عجرد زعيم العجاردة .
وإنما قيل للنجدات : العاذرية لأنهم عذروا بالجهلات في أحكام الفروع .
وحكى الكعبي عن النجدات : أن التقية جائزة في القول والعمل كله وإن كان في قتل النفوس .
قال : وأجمعت النجدات على أنه لا حاجة للناس إلى إمام قط وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم فإن هم ثم افترقوا بعد نجدة إلى : عطوية وفديكية وبرئ كل واحد منهما عن صاحبه بعد قتل نجدة وصارت الدار لأبي فديك إلا من تولى نجدة .
وأهل سجستان وخراسان وكرمان وقهستان من الخوارج على مذهب عطية .
وقيل : كان نجدة بن عامر ونافع بن الأزرق قد اجتمعا بمكة مع الخوارج على ابن الزبير ثم تفرقا عنه .
واختلف نافع ونجدة : فصار نافع إلى البصرة ونجدة إلى اليمامة .
وكان سبب اختلافهما أن نافعاً قال : التقية لا تحل والقعود عن القتال كفر واحتج بقول الله تعالى : " إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله " وبقوله تعالى : " يقاتلون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " .
وخالفه نجدة وقال : التقية جائزة واحتج بقول الله تعالى : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " وبقوله تعالى : " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه " : وقال : القعود جائز والجهاد إذا أمكنه أفضل قال الله تعالى : " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً " .
وقال نافع : هذا في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين كانوا مقهورين وأما في غيرهم مع الإمكان فالقعود كفر لقول الله تعالى : " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " .
البيهسية(13/65)
أصحاب أبي بيهس الهيصم بن جابر وهو أحد بني سعد بن ضبيعة وقد كان الحجاج طلبه أيام الوليد فهرب إلى المدينة فطلبه فيها عثمان بن حيان المزني فظفر به وحبسه وكان يسامره إلى أن ورد كتاب الوليد بأن يقطع يديه ورجليه ثم يقتله ففعل به ذلك .
وكفر أبو بهس : إبراهيم وميمون في اختلافهما في بيع الأمة وكذلك كفر الواقفية .
وزعم : أنه لا يسلم أحد حتى يقر بمعرفة الله تعالى ومعرفة رسله ومعرفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والولاية لأولياء الله تعالى والبراءة من أعداء الله .
فمن جملة ما ورد به الشرع وحكم به : ما حرم الله وجاء به الوعيد فلا يسعه إلا : معرفته بعينه وتفسيره والاحتراز عنه .
ومنه ما ينبغي أن يعرف باسمه ولا يضره ألا يعرفه بتفسيره حتى يبتلي ويجب أن يقف عندما لا يعلم ولا يأتي بشيء إلا بعلم .
وبرئ أبو بهس عن الواقفية لقولهم : إنا نقف فيمن واقف الحرام وهو لا يعلم أحلالاً واقع أم حراماً قال : كان من حقه أن يعلم ذلك والإيمان : هو أن يعلم كل حق وباطل وإن الإيمان هو العلم بالقلب دون القول والعمل .
ويحكى عنه أنه قال : الإيمان : هو الإقرار والعلم وليس هو أحد الأمرين دون الآخر .
وعامة البيهسية على أن العلم والإقرار والعمل كله إيمان وذهب قوم منهم إلى أنه لا يحرم سوى ما ورد في قوله تعالى : " قل لا أجد فيما أوحى إلى محرماً على طاعم يطعمه .
الآية " وما سوى ذلك ومن البيهسية قوم يقال لهم : العونية وهم فرقتان : فرقة تقول : من رجع من دار الهجرة إلى القعود برئنا منه وفرقة تقول : بل نتولاهم لأنهم رجعوا إلى أمر كان حلالاً لهم .
والفرقتان اجتمعتا على أن الإمام إذا كفر كفرت الرعية : الغائب منهم والشاهد .
ومن البيهسية صنف يقال لهم : أصحاب التفسير زعموا : أن من شهد من المسلمين شهادة أخذ : بتفسيرها وكيفيتها .(13/66)
وصنف يقال لهم : أصحاب السؤال : قالوا : إن الرجل يكون مسلماً : إذا شهد الشهادتين وتبرأ وتولى وآمن بما جاء من عند الله جملة وإن لم يعم فيسأل ما افترض الله عليه ولا يضره أن لا يعلم حتى يبتلي به فيسأل وإن واقع حراماً لم يعلم تحريمه فقد كفر وقالوا في الأطفال بقول الثعلبية : إن أطفال المؤمنين مؤمنون وأطفال الكافرين كافرون .
ووافقوا القدرية في القدر وقالوا : إن الله تعالى فوض إلى العباد فليس لله في أعمال العباد مشيئة .
فبرئت منهم عامة البيهسية .
وقال بعض البيهسية : إن واقع الرجل حراما لم يحكم بكفره حتى يرفع أمره إلى الإمام الوالي ويحده وكل ما ليس فيه حد فهو مغفور .
وقال بعضهم : إن السكر إذا كان من شراب حلال فلا يؤاخذ صاحبه بما قال فيه وفعل .
وقالت العونية : السكر كفر ولا يشهدون أنه كفر ما لم ينضم إليه كبيرة أخرى : من ترك الصلاة أو قذف المحصن .
أصحاب صالح بن مسرح
ولم يبلغنا عنه أنه أحدث قولاً تميز به عن أصحابه فخرج على بشر بن مروان فبعث إليه بشر الحارث بن عميرة أو الأشعث بن عميرة الهمذاني أنفذه الحجاج لقتاله فأصابت صالحا جراحة في قصر جلولاء
فاستخلف مكانه شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني المكنى بأبي الصحارى وهو الذي غلب على الكوفة وقتل من جيش الحجاج أربعة وعشرين أميراً كلهم أمراء الجيوش ثم انهزم إلى الأهواز وغرق في نهر الأهواز وهو يقول : ذلك تقدير العزيز العليم .
وذكر اليمان : أن الشبيبية يسمون : مرجئة الخوارج لما ذهبوا إليه من الوقف في أمر صالح .
ويحكى عنه : أنه برئ منه وفارقه ثم خرج يدعي الإمامة لنفسه .
ومذهب شبيب ما ذكرناه .
من مذاهب البيهسية إلا أن شوكته وقوته ومقاماته مع المخالفين .
مما لم يكن لخارج من الخوارج .
وقصته مذكورة في التواريخ .
العجاردة
أصحاب عبد الكريم بن عجرد .(13/67)
وافق النجدات في بدعهم وقيل : إنه كان من أصحاب أبي بيهس ثم خالفه وتفرد بقوله : تجب البراءة عن الطفل حتى يدعى إلى الإسلام ويجب دعاؤه إذا بلغ وأطفال المشركين في النار مع آبائهم ولا يرى المال فيئاً حتى يقتل صاحبه وهم يتولون القعدة إذا عرفوهم بالديانة ويرون الهجرة فضيلة لا فريضة ويكفرون بالكبائر ويحكى عنهم : أنهم ينكرون كون سورة يوسف من القرآن ويزعمون أنها قصة من القصص قالوا : ولا يجوز أن تكون قصة العشق من القرآن .
ثم إن العجاردة : افترقوا أصنافاً ولكل صنف مذهب على حياله إلا أنهم لما كانوا من جملة العجاردة أوردناهم على حكم التفصيل بالجدول والضلع وهم : الصلتية : أصحاب عثمان بن أبي الصلت والصلت بن أبي الصلت .
تفردوا عن العجاردة بأن الرجل إذا أسلم توليناه وتبرأنا من أطفاله حتى يدركوا فيقبلوا الإسلام .
ويحكى عن جماعة منهم : أنهم قالوا : ليس لأطفال المشركين والمسلمين ولاية ولا عداوة حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام فيقروا أو ينكروا .
الميمونية
أصحاب ميمون بن خالد .
كان من جملة العجاردة إلا أنه تفرد عنهم : بإثبات القدر خيره وشره من العبد .
وإثبات الفعل للعبد : خلقاً وإبداعاً .
وإثبات الاستطاعة قبل الفعل .
والقول بأن الله تعالى يريد الخير دون الشر وليس له مشيئة في معاصي العباد .
وذكر الحسين الكرابيسي في كتابه الذي حكى فيه مقالات الخوارج : أن الميمونية يجيزون نكاح بنات البنات وبنات أولاد الاخوة والأخوات وقالوا : إن الله تعالى حرم نكاح البنات وبنات الاخوة والأخوات ولم يحرم نكاح بنات أولاد هؤلاء .
وحكى الكعبي والأشعري عن الميمونية إنكارها كون سورة يوسف من القرآن .
وقالوا بوجوب قتال السلطان وحده ومن رضي بحكمه فأما من أنكره فلا يجوز قتاله : إلا إذا أعان عليه أو طعن في دين الخوارج أو صار دليلاً للسلطان وأطفال الحمزية : أصحاب : حمزة بن أدرك .(13/68)
وافقوا الميمونية في القدر وفي سائر : بدعها .
إلا في أطفال مخالفيهم والمشركين فإنهم قالوا : هؤلاء كلهم في النار .
وكان حمزة من أصحاب الحسين بن الرقاد الذي خرج بسجستان من أهل أوق وخالفه خلف الخارجي في القول بالقدر واستحقاق الرئاسة فبرئ كل واحد منهما عن صاحبه .
وجوز حمزة إمامين في عصر واحد ما لم تجتمع الكلمة ولم تقهر الأعداء .
الخلفية
أصحاب خلف الخارجي وهم من خوارج كرمان ومكران .
خالفوا الحمزية في القول بالقدر وأضافوا القدر خيره وشره إلى الله تعالى وسلكوا في ذلك مذهب أهل السنة وقالوا : الحمزية ناقضوا حيث قالوا : لو عذب الله العباد على أفعال قدرها عليهم أو على ما لم يفعلوه كان ظالماً .
وقضوا بأن أطفال المشركين في النار ولا عمل لهم ولا ترك .
وهذا من أعجب ما يعتقد من التناقض !
الأطرافية
فرقة على مذهب حمزة في القول بالقدر .
غلا أنهم عذروا أصحاب الأطراف في ترك ما لم يعرفوه من الشريعة إذا أتوا بما يعرف لزومه من طريق العقل .
وأثبتوا واجبات عقلية كما قالت القدرية .
ورئيسهم : غالب بن شاذك من سجستان .
وخالفهم عبد الله السديورى وتبرأ منهم .
الشعيبية
أصحاب شعيب بن محمد وكان مع ميمون من جملة العجاردة غلا أنه برئ منه حين أظهر القول بالقدر .
قال شعيب : إن الله تعالى خالق أعمال العباد .
والعبد : مكتسب لها : قدرة وإرادة مسئول عنها : خيراً وشراً مجازى عليها : ثواباً وعقاباً .
ولا يكون شئ في الوجود إلا بمشيئة الله تعالى .
وهو : على بدع الخوارج في الإمامة والوعيد وعلى بدع العجاردة في : حكم الأطفال وحكم القعدة ة الولي والتبري .
الحازمية
أصحاب حازم بن علي .
أخذوا بقول شعيب في أن الله تعالى خالق أعمال العباد ولا يكون في سلطانه إلا ما يشاء .(13/69)
وقالوا بالموافاة وأن الله تعالى : إنما يتولى العباد على ما علم أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من الإيمان ويتبرأ منهم على ما علم أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من الكفر .
وأنه سبحانه لم يزل محباً لأوليائه مبغضاً لأعدائه .
ويحكى عنهم أنهم يتوقفون في أمر علي رضي الله عنه ولا يصرحون بالبراءة عنه .
ويصرحون بالبراءة في حق غيره .
الثعالبة
أصحاب ثعلبة بن عامر .
كان مع عبد الكريم بن عجرد يداً واحدة إلى أن اختلفا في أمر الأطفال فقال ثعلبة : إنا على ولايتهم : صغاراً وكباراً حتى نرى منهم إنكاراً للحق ورضاً بالجور .
فتبرأت العجاردة من ثعلبة .
ونقل عنه أيضاً أنه قال : ليس له حكم في حال الطفولة من ولاية وعداوة حتى يدركوا ويدعوا فإن قبلوا فذاكن وإن أنكروا كفروا .
وكان يرى : أخذ الزكاة من عبيدهم إذا استغنوا وإعطاءهم منها إذا افتقروا .
الأخنسية : أصحاب : أخنس بن قيس .
من جملة الثعالبة .
وانفرد عنهم بأن قال : أتوقف في جميع من كان في دار التقية من أهل القبلة إلا من عرف منه إيمان فأتولاه عليه أو كفر فتبرأ منه .
وحرموا الاغتيال والقتل والسرقة في السر .
ولا يبدأ أحد من أهل القبلة بالقتال حتى يدعي إلى الدين فإن امتنع قوتل سور من عرفوه بعينه على خلاف قولهم .
وقيل إنهم جوزوا : تزويج المسلمات من مشركي قومهم : أصحاب الكبائر .
وهم على أصول الخوارج في سائر المسائل .
المعبدية
أصحاب معبد بن عبد الرحمن كان من جملة الثعالبة .
خالف الأخنس في الخطأ الذي وقع له تزويج المسلمات من مشرك .
وخالف ثعلبة فيما حكم من أخذ الزكاة من عبيدهم وقال : غني لا أبرأ منه بذلك ولا ادع اجتهادي في خلافه .
وجوزوا أن تصير سهام الصدقة سهماً واحداً وفي حال التقية .
الرشيدية
أصحاب رشيد الطوسي ويقال لهم العشرية .(13/70)
وأصلهم : أن الثعالبة كانوا يوجبون فيما سقى بالأنهار والقنى نصف العشر فأخبرهم زياد بن عبد الرحمن : أن فيه العشر ولا تجوز البراءة ممن قال : فيه نصف العشر قبل هذا .
فقال : رشيد إن لم تجز البرءة منهم فإنا نعمل بما عملوا فافترقوا في ذلك فرقتين .
الشيبانية
أصحاب شيبان بن سلمة .
الخارج في أيام أبي مسلم وهو المعين له ولعلي بن الكرماني على نصر بن سيار وكان من الثعالبة فلما أعانهما برئت منه الخوارج .
فلما قتل شيبان ذكر قوم توبته فقالت الثعالبة : لا تصح توبته لأنه قتل الموافقين لنا في المذهب وأخذ أموالهم ولا تقبل توبة من : قتل مسلماً وأخذ ماله إلا بأن يقتص من نفسه ويرد الأموال أو يوهب له ذلك .
ومن مذهب شيبان : أنه قال بالجبر ووافق جهم بن صفوان في مذهبه إلى الجبر ونفى القدرة الحادثة .
وينقل عن زياد ابن عبد الرحمن الشيباني أبي خالد : أنه قال : إن الله تعالى لم يعلم حتى خلق لنفسه علماً وأن الأشياء إنما تصير معلومة له عند حدوثها ووجودها .
ونقل عنه أنه تبرأ من شيبان وأكفره حين نصر الرجلين .
فوقعت عامة الشيبانية : بجرحان ونسا وأرمينية .
والذي تولى شيبان وقال بتوبته : عطية الجرجاني وأصحابه .
المكرمية
أصحاب مكرم بن عبد الله العجلي كان من جملة الثعالبة وتفرد عنهم بأن قال : تارك الصلاة : كافر لا من أجل ترك الصلاة ولكن من أجل جهله بالله تعالى .
وطرد هذا في كل كبيرة يرتكبها الإنسان وقال غنما يكفر لجهله بالله تعالى وذلك أن العرف بوحدانية الله تعالى وأنه اطلع على سره وعلانيته المجازى على طاعته ومعصيته أن يتصور منه الإقدام على المعصية والاجتراء على الخالفة ما لم يغفل عن هذه المعرفة ولا يبالي بالتكليف منه وعن هذا قال النبي عليه السلام : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " .
الخبو .
وخالفوه الثعالبة في هذا القول .(13/71)
وقالوا : بإيمان الموافاة والحكم بأن الله تعالى إنما يتولى عباده ويعاديهم على ما هم صائرون إليه من موافاة الموت لا على أعمالهم التي هم فيها فإن ذلك ليس بموثوق به إصراراً عليه ما لم يصل المرء إلى آخر عمره ونهاية أجله فحينئذ إن بقى على ما يعتقده فذلك هو الإيمان فنواليه وإن لم يبق فنعاديه وكذلك في حق الله تعالى : حكم الموالاة والمعاداة على ما علم منه حال الموافاة .
وكلهم على هذا القول .
المعلومية والمجهولية
كانوا في الأصل حازمية إلا أن المعلومية قالت : من لم يعرف الله تعالى بجميع أسمائه وصفاته فهو جاهل به حتى يصير عالماً بجميع ذلك فيكون مؤمناً .
وقالت : الاستطاعة مع الفعل والفعل مخلوق للعبد فبرئت منهم الحازمية .
وأما المجهولية فإنهم قالوا : من علم بعض أسماء الله تعالى وصفاته وجهل بعضها فقد عرفه تعالى .
وقالت : إن أفعال العباد البدعية : أصحاب : يحيى بن أصدم .
أبدعوا : القول بأن نقطع على أنفسنا بأن من اعتقد اعتقادنا فهو من أهل الجنة ولا نقول : إن شاء الله فإن ذلك شك في الاعتقاد ومن قال : أنا مؤمن إن شاء الله فهو شاك .
فنحن من أهل الجنة قطعاً من غير ذلك .
الإباضية
أصحاب : عبد الله بن إباض الذي خرج في أيام مروان بن محمد فوجه إليه عبد الله بن محمد بن عطية فقاتله بتبالة .
وقيل إن عبد الله بن يحيى الإباضي كان رفيقاً له في جميع أحواله وأقواله .
قال : إن مخالفينا من أهل القبلة كفار غير مشركين ومناكحتهم جائزة وموارثتهم حلال وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال وما سواه حرام .
وحرام قتلهم وسبيهم في السر غيلة إلا بعد نصب القتال وإقامة الحجة .
وقالوا : إن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار التوحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي وأجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم .
وقالوا في مرتكبي الكبائر : إنهم موحدون لا مؤمنون .(13/72)
وحكى الكعبي عنهم : أن الاستطاعة عرض من الأعراض وهي قبل الفعل بها يحصل الفعل .
وأفعال العباد : مخلوقة لله تعالى : إحداثاً وإبداعاً ومكتسبة للعبد : حقيقة لا مجازاً .
ولا يسمون إمامهم : أمير المؤمنين ولا أنفسهم : مهاجرين .
وقالوا : العالم يفنى كله إذا فني أهل التكليف .
قال : واجمعوا على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفركفر النعمة لا كفر الملة .
وتوقفوا في أطفال المشركين وجوزوا تعذيبهم على سبيل الانتقام وأجازوا أن يدخلوا الجنة تفضلاً .
وحكى الكعبي عنهم : إنهم قالوا بطاعة لا يراد بها الله تعالى كما قال أبو الهذيل .
ثم اختلفوا في النفاق : أيسمى شركاً أم لا قالوا : إن المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا موحدين إلا أنهم ارتكبوا الكبائر فكفروا بالكبر لا بالشرك .
وقالوا : كل شئ أمر الله تعالى به فهو : عام ليس بخاص وقد أمر به المؤمن والكافر وليس في القرآن بخصوص .
وقالوا : لا يخلق الله تعالى شيئا إلا دليلاً على وحدانيته ولا بد أن يدل به واحداً .
وقال قوم منهم : يجوز أن يخلق الله تعالى رسولاً بلا دليل ويكلف العباد بما يوحي غليه إظهار المعجزة ولا يجب على الله تعالى ذلك إلى أن يخلق دليلاً ويظهر معجزة .
وهم جماعة متفرقون في مذاهبهم تفرق : الثعالبة والعجاردة .
الحفصية
وهم أصحاب : حفص بن أبي المقدام .
تميز عنهم بأنه قال : إن بين الشرك والإيمان خصلة واحدة وهي معرفة الله تعالى وحده فمن عرفهن ثم كفر بما سواه : رسول أو كتاب أو قيامه أو جنة أو نار أو ارتكب الكبائر : من الزنا والسرقة وشرب الخمر .
فهو كافر لكنه بريء من الشرك .
الحارثية
أصحاب الحارث الإباضي .
خالف الإباضية : في قوله بالقدر على مذهب المعتزلة وفي الاستطاعة قبل الفعل وفي إثبات طاعة لا يراد بها الله تعالى .
اليزيدية(13/73)
أصحاب يزيد بن أنيسة الذي قال بتولي المحكمة الأولى قبل الأزارقة وتبرأ ممن بعدهم الإباضية فإنه لا يتولاهم .
وزعم أن الله تعالى سيبعث رسولاً من العجم وينزل عليه كتاباً قد كتب في السماء وينزل عليه جملة واحدة ويترك شريعة المصطفى محمد عليه السلام ويكون على ملة الصابئة المذكورة في القرآن وليست هي الصائبة الموجودة : الكتاب بالنبوة وإن لم يدخل في دينه .
وقال : إن أصحاب الحدود : من موافقيه وغيرهم : كفار مشركون .
وكل ذنب صغير أو كبير فهو شرك .
الصفرية الزيادية
أصحاب زياد بن صفر .
خالفوا : الأزارقة والنجدات والإباضية في أمور منها : أنهم لم يكفوا القعدة عن القتال إذا كانوا موافقين في الدين والاعتقاد ولم يسقطوا الرجم ولم يحكموا بقتل أطفال المشركون وتكفيرهم وتخليدهم في النار .
وقالوا : التقية جائزة قي القول دون العمل .
وقالوا : ما كان من الأعمال عليه حد واقع فلا يتعدى بأهله الاسم الذي لزمه به الحد كالزنا والسرقة والقذف فيسمى زانياً سارقاً قاذفاً لا : كافراً مشركاً .
وما كان من الكبائر مما ليس فيه حد لعظم قدره مثل : ترك الصلاة والفرار من الزحف فإنه يكفر بذلك .
ونقل عن الضحاك منهم : أنه يجوز تزويج المسلمات من كفار قومهم في دار التقية دون دار العلانية .
ورأى زياد ابن الأصفر جميع الصدقات سهماً واحداً في حال التقية .
ويحكى عنه أنه قال : نحن مؤمنون عند أنفسنا ولا ندري ! لعلنا خرجنا من الإيمان عند الله .
وقال : الشرك شركان : شرك هو : طاعة الشيطان وشرك هو : عبادة الأوثان .
والكفر كفران : كفر بإنكار النعمة وكفر بإنكار الربوبية .
والبراءة براءتان : براءة من أهل الحدود سنة وبراءة من أهل الجحود فريضة .
ولنختتم المذاهب بذكر تتمة رجال الخوارج : من المتقدمين : عكرمة وأبو هارون العبدي وأبو الشعثاء وإسماعيل بن سميع .(13/74)
ومن المتأخرين : اليمان بن رباب : ثعلبي ثم : بيهسي وعبد الله بن يزيد ومحمد بن حرب ويحيى بن كامل .
إباضية .
ومن شعرائهم : عمران بن حطان وحبيب بن مرة صاحب الضحاك بن قيس .
ومنهم أيضاً : جهم بن صفوان وأبو مروان غيلان بن مسلم ومحمد بن عيسى : برغوث وأبو الحسين كلثوم بن حبيب المهلبي وأبو بكر محمد بن عبد الله بن شبيب البصري وعلي بن حرملة وصالح قبة بن صبيح بن عمرو ومويس بن عمران البصري وأبو عبد الله بن مسلمة وأبو عبد الرحمن بن مسلمة والفضل بن عيسى الرقاشي وأبو زكريا يحيى بن أصفح وأبو الحسين محمد بن مسلم الصالحي وأبو محمد عبد الله بن محمد بن الحسن الخالدي ومحمد بن صدقة وأبو الحسين علي بن زيد الإباضي وأبو عبد الله محمد بن كرام وكلثوم بن حبيب المرادي البصري .
والذين اعتزلوا إلى جانب فلم يكونوا مع علي رضي الله عنه في حروبه ولا مع خصومه وقالوا : لا ندخل في غمار الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم : عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأسامة ابن زيد حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال قيس بن حازم : كنت مع علي رضي الله عنه في جميع أحواله وحروبه حتى قال يوم صفين : " انفروا إلى بقية الأحزاب انفروا إلى من يقول : كذب الله ورسوله وأنتم تقولون : صدق الله ورسوله " .
فعرفت أي شيء كان يعتقد في الجماعة : فاعتزلت عنه .
الباب الخامس المرجئة
الإرجاء على معنيين : أحدهما بمعنى : التأخير كما في قوله تعالى : " قالوا : أرجه وأخاه " أي : أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد .
وأما بالمعنى الثاني فظاهر فإنهم كانوا يقولون : لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة .(13/75)
وقيل : الإرجاء : تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة فلا يقضي عليه بحكم ما في الدنيا : من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار : فعلى هذا : المرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان .
وقيل : الإرجاء : تأخير علي رضي الله عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة فعلى هذا : المرجئة والشيعة فرقتان متقابلتان .
والمرجئة : أصناف أربعة :
مرجئة الخوارج ومرجئة القدرية
ومرجئة الجبرية وكذلك الغيلانية أصحاب غيلان الدمشقي أول من أحدث القول بالقدر والإرجاء .
ونحن إنما نعد مقالات المرجئة الخالصة منهم .
اليونسية
أصحاب : يونس بن عون النميري .
زعم أن الإيمان هو : المعرفة بالله والخضوع له وترك الاستكبار عليه والمحبة بالقلب فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن وما سوى ذلك من الطاعة فليس من الإيمان ولا يضر تركها حقيقة الإيمان ولا يعذب على ذلك إذا كان الإيمان خالصاً واليقين صادقاً .
وزعم أن إبليس كان عارفاً بالله وحده غير انه كفر باستكباره عليه : أبى واستكبر وكان من الكافرين .
قال : ومن تمكن في قلبه : الخضوع لله والمحبة له على خلوص ويقين : لم يخالفه في معصية وغن صدرت منه معصية فلا تضره بيقينه وإخلاصه .
إنما يدخل الجنة بإخلاصه ومحبته لا بعمله وطاعته العبيدية : أصحاب : عبيد المكتئب .
حكي عنه أنه قال : مادون الشرك مغفور لا محالة وغن العبد إذا مات على توحيده لا يضره ما اقترف من الآثام واجترح من السيئات .
وحكى اليمان عن عبيد المكتئب وأصحابه : انهم قالوا : إن علم الله تعالى لم يزل شيئاً غيره وغن كلامه لم يزل شيئاً غيره وكذلك دين الله لم يزل شيئا ًغيره .
وزعم أن الله تعالى عن قولهم على صورة إنسان وحمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم على صورة الرحمن " .
الغسانية
أصحاب غسان الكوفي .(13/76)
زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وبرسله والإقرار بما أنزل الله وبما جاء به لرسول .
في الجملة دون التفصيل .
والإيمان : لا يزيد ولا ينقص .
وزعم أن قائلاً لو قال : أعلم أن الله تعالى قد حرم أكل الخنزير ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه : هذه الشاة أم غيرها كان مؤمناً .
لو قال : أعلم أن الله تعالى قد فرض الحج إلى الكعبة غير أني لا أدري أين الكعبة ولعله بالهند : كان مؤمناً .
ومقصودة : أن أمثال هذه الاعتقادات أمور وراء الإيمان لا أنه كان شاكاً في هذه الأمور فإن عاقلاً لا يستجيز من عقله أن يشك في أن ومن العجيب ! أن غسان كان يحكي عن حنيفة رحمه الله مثل مذهبه ويعده من المرجئة ولعله كذب كذلك عليه .
لعمري ! كان يقال لأبي حنيفة وأصحابه : مرجئة السنة .
وعده كثير من أصحاب المقالات : من جملة المرجئة ولعل السبب فيه : أنه لما كان يقول : الإيمان : هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص : ظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان .
والرجل مع تخريجه في العمل كيف يفتي بترك العمل ! .
وله سبب آخر والمعتزلة كانوا يلقبون كل من خالفهم في القدر : مرجئاً وكذلك الوعيدية من الخوارج فلا يبعد أن اللقب إنما لزمه من فريقي : المعتزلة والخوارج .
والله أعلم .
الثوبانية
أصحاب : أبي ثوبان المرجئ .
الذين زعموا : إن الإيمان هو : المعرفة والإقرار بالله تعالى وبرسله عليهم السلام وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله وما جاز في العقل تركه فليس من الإيمان .
وأخر العمل كله عن الإيمان .
ومن القائلين بمقالة أبي ثوبان هذا : أبي مروان غيلان بن مروان الدمشقي وأبي شمر ومويس بن عمران والفضل الرقاشي ومحمد بن شبيب والعتابي وصالح قبة .(13/77)
وكان غيلان يقول بالقدر خيره وشره من العبد وفي الإمامة : إنه تصلح في غير قريش وكل من كان قائماً بالكتاب والسنة كان مستحقاً لها وأنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة .
والعجب أن الأمة أجمعت على أنها لا تصلح لغير قريش وبهذا دفعت الأنصار عن قولهم : منا والجماعة التي عددناها اتفقوا على أن الله تعالى لو عفا عن عاص في القيامة : عفا عن كل مؤمن عاص هو في مثل حاله وإن أخرج من النار واحداً : أخرج من هو في مثل حاله .
ومن العجب أنهم لم يجزموا القول بأن المؤمنين من أهل التوحيد يخرجون من النار لا محالة .
ويحكى عن مقاتل بن سليمان : أن المعصية لا تضر صاحب التوحيد والإيمان وأنه لا يدخل النار مؤمن .
والصحيح من الثقل عنه : أن المؤمن العاصي ربه يعذب يوم القيامة على الصراط وهو على متن جهنم يصيبه لفح النار وحرها ولهيبها فيتألم بذلك على قدر معصيته ثم يدخل الجنة ومثل ذلك بالحبة على المقلاة المؤججة بالنار .
ونقل عن زياد بن غياث المريسي أه قال : إذا دخل أصحاب الكبائر النار فإنهم سيخرجون عنها بعد أن يعذبوا بذنوبهم وأما التخليد فيها فمحال وليس بعدل .
وقيل : إن أول من قال بالإرجاء : الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب وكان يكتب فيه الكتب في الأمصار .
غلا أمه ما أخر العمل عن الإيمان كما قالت المرجئة اليونسية والعبيدية لكنه حكم بأن صاحب الكبيرة لا يكفر إذ الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإيمان حتى يزول الإيمان بزوالها .
التومينية
أصحاب : أبي المعاذ التومني زعم أن الإيمان هو ما عصم عن الكفر وهو اسم لخصال إذا تركها التارك كفر وكذلك لو ترك خصلة واحدة منها كفر ولا يقال للخصلة الواحدة منها إيمان ولا بعض إيمان .
وكل معصية كبيرة أو صغيرة لم يجمع عليها المسلمون بأنها كفر لا يقال لصاحبها : فاسق ولكن يقال : فسق وعصى .(13/78)
وقال : وتلك الخصال هي المعرفة والتصديق والمحبة والإخلاص والإقرار بما جاء به الرسول .
قال : ومن ترك الصلاة وصيام مستحلاً كفر ومن تركهما على نية القضاء لم يكفر .
ومن قتل نبياً أو لطمه كفر لا من أجل القتل واللطم ولكن من أجل : الاستخفاف والعداوة والبغض .
وإلى هذا المذهب ميل : ابن الرواندي وبشر الريسي قالا : الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان جميعاً والكفر هو الجحود والإنكار .
والسجود للشمس والقمر والصنم ليس بكفر في نفسه ولكنه علامة الكفر .
الصالحية
أصحاب : صالح بن عمر الصالحي .
والصالحي ومحمد بن شبيب وأبو شمر وغيلان : كلهم جمعوا بين القدر والإرجاء .
ونحن وإن شرطنا أن نورد مذاهب المرجئة الخالصة إلا أنه بدا لنا في هؤلاء لانفرادهم عن المرجئة بأشياء .
فأما الصالحي فقال : الإيمان هو المعرفة بالله تعالى على الإطلاق وهو أن للعالم صانعاً فقط والكفر هو الجهل به على الإطلاق قال : وقول القائل ثالث ثلاثة ليس بكفر لكنه لا يظهر غلا من كافر .
وزعم : أن معرفة الله تعالى هي المحبة والخضوع له ويصح ذلك مع حجة الرسول .
ويصح في العقل أن يؤمن بالله ولا يؤمن برسله غير أن الرسول عليه السلام قد قال : " من لا يؤمن بي فليس بمؤمن بالله تعالى " .
وزعم : أن الصلاة ليست بعبادة الله تعالى وأنه لا عبادة له إلا الإيمان به وهو معرفته وهو خصلة واحدة : لا يزيد ولا ينقص وكذلك الكفر خصلة واحدة : لا يزيد ولا ينقص .
وأما أبو شمر المرجئ القدري فإنه زعم : أن الإيمان هو المعرفة بالله عز وجل والمحبة والخضوع له بالقلب والإقرار به : أنه واحد ليس كمثله شيء ما لم تقم عليه حجة الأنبياء عليهم السلام فإذا قامت الحجة فالإقرار بهم وتصديقم من الإيمان والمعرفة والإقرار بما جاءوا به من عند الله غير داخل في الإيمان الأصلي .(13/79)
وليست كل خصلة من خصال الإيمان إيماناً ولا بعض إيمان فإذا اجتمعت كانت كلها إيماناً .
وشرط في خصال الإيمان معرفة العدل يريد به : القدر خيره وشره من العبد من غير أن يضاف إلى الباري تعالى منه شيء .
وأما غيلان بن مروان من القدرية المرجئة فإنه زعم أن الإيمان هو : المعرفة الثانية بالله تعالى والمحبة والخضوع له والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء من عند الله .
والمعرفة الأولى فطرية ضرورية .
فالمعرفة على أصله نوعان : فطرية وهي علمه بأن للعالم صانعاً ولنفسه خالقاً وهذه المعرفة لا تسمى إيماناً إنما الإيمان هو المعرفة الثانية المكتسبة .
تتمة رجال المرجئة كما نقل الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب وسعيد بن جبير وطلق بن حبيب وعمرو بم مرة ومحارب بن زياد ومقاتل بن سليمان وذر وعمرو بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وقديد بن جعفر .
وهؤلاء كلهم : أئمة الحديث لم يكفروا أصحاب الكبائر الكبيرة ولم يحكموا بتخليده في النار خلافاً للخوارج والقدرية .
الباب السادس الشيعة
الشيعة هم : الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته : نصاً ووصية إما جلياً وإما خفياً .
واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده .
وقالوا : ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم بل هي قضية أصولية وهي ركن الدين لا يجوز للرسل عليهم السلام إغفاله وإهماله ولا تفويضه إلى العامة وإرساله .
ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر والقول بالتولي والتبري : قولاً وفعلاً وعقداً إلا في حال التقية .
ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك .
ولهم في تعدية الإمامة : كلام وخلاف كثير وعند كل تعدية وتوقف : مقالة ومذهب وخبط .(13/80)
وهم خمس فرق : كيسانية وزيدية وأمامية وغلاة وإسماعيلية .
وبعضهم يميل في الأصول إلى الاعتزال وبعضهم إلى السنة وبعضهم إلى التشبيه .
الكيسانية
أصحاب : كيسان مولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقيل : تلمذ للسيد : محمد بن الحنيفة رضي الله عنه .
يعتقدون فيه اعتقاداً فوق حده ودرجته من إحاطته بالعلوم كلها واقتباسه من السيدين الأسرار بجملتها من علم التأويل والباطن وعلم الآفاق والأنفس .
ويجمعهم القول بأن الدين طاعة رجل حتى حملهم ذلك على تأويل الأركان الشرعية من الصلاة والصيام والزكاة والحج .
و غير ذلك .
على رجال فحملهم بعضهم على ترك القضايا الشرعية بعد الوصول إلى طاعة الرجل وحمل بعضهم على ضعف الاعتقاد بالقيامة وحمل بعضهم على القول بالتناسخ والحلول والرجعة بعد الموت .
فمن مقتصر على واحد معتقد أنه : لا يموت ولا يجوز أن يموت حتى يرجع ومن معد حقيقة الإمامة على غيره ثم : متحسر عليه متحير فيه ومن مدع حكم الإمامة وليس هنا الشجرة .
وكلهم حيارى متقطعون .
ومن اعتقد أن الدين طاعة رجل ولا رجل له فلا دين له .
نعوذ بالله من الحيرة والحور بعد الكور .
رب ! أهدنا السبيل .
المختارية
أصحاب : المختار بن عبيد الثقفي كان خارجياً ثم صار زبيرياً ثم صار شيعياً وكيسانياً .
قال بإمامة محمد بن الحنيفة بعد أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما وقيل لا بل بعد الحسن والحسين رضي الله عنهما وكان يدعو الناس إليه وكان يظهر انه من رجاله ودعاته ويذكر علوماً مزخرفة بترهاته ينوطها به .
وكان يظهر أنه من رجاله ودعاته ويذكر علوما مزخرفة بترهات ينوطها به .
ولما وقف محمد بن الحنفية على ذلك : تبرأ منه وأظهر لأصحابه أنه غنما لمس على الخلق ذلك ليتمشى أمره ويجتمع الناس عليه .(13/81)
وإنما انتظم له ما انتظم بأمرين : أحدهما انتسابه إلى محمد بن الحنفية : علماً ودعوة والثاني قيامه بثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما واشتغاله ليلاً ونهاراً بقتال الظلمة الذين اجتمعوا على قتل الحسين .
فمن مذهب المختار : أنه يجوز البداء على الله تعالى والبداء له معان : البداء في العلم وهو أن يظهر له خلاف ما علم ولا أظن عاقلاً يعتقد هذا الاعتقاد والبداء في الأمر وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بشيء آخر بعده بخلاف ذلك .
ومن لم يجوز النسخ ظن أن الأوامر المختلفة في الأوقات المختلفة متناسخة .
وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبداء بأنه كان يدعى علم ما يحدث من الأحوال : إما بوحي يوحى إليه وإما برسالة من قبل الإمام فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة فإن وافق كونه قوله : جعله دليلاً على صدق دعواه وإن لم يوافق قال : قد بدى لربكم .
وكان لا يفرق بين النسخ والبداء قال : إذا جاز النسخ في الأحكام : جاز البداء في الأخبار .
وقد قيل : إن السيد محمد بن الحنفية تبرأ من المختار حين وصل إليه أنه قد لبس على الناس : أنه من دعاته ورجاله وتبرأ من الضلالات التي ابتدعها المختار من : التأويلات الفاسدة والمخاريق المموهة .
فمن مخاريقه : أنه كان عنده كرسي قديم قد غشاه بالديباج وزينه بأنواع الزينة وقال : هذا من ذخائر أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وهو عندنا بمنزلة التابوت لبني إسرائيل وكان إذا حارب خصومه يضعه في براح الصف ويقول : قاتلوا ولكم الظفر والنصرة وهذا الكرسي محله فيكم محل التابوت في بني إسرائيل وفيه السكينة والبقية والملائكة من فوقكم ينزلون مدداً لكم .
وحديث الحمامات البيض : معروف .(13/82)
والأسجاع التي ألفها أبرد تأليف : مشهورة وإنما حمله على الانتساب إلى محمد بن الحنيفة كان : كثير العلم غزير المعرفة وقاد الفكر مصيب الخاطر في العواقب قد أخبره أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن أحوال الملاحم وأطلعه على مدارج المعالم وقد اختار العزلة : فآثر الخمول على الشهرة .
وقد قيل : إنه كان مستودعا علم الإمامة حتى سلم الأمانة إلى أهلها وما فارق الدنيا إلا وقد وكان السيد الحميري وكثير عزة الشاعر : من شيعته قال كثير فيه : ألا أن الأئمة من قريش ولاة الحق : أربعة سواء : علي والثلاثة من بينه هم الأسباط ليس بهم خفاء سبط : سبط الإيمان وبر وسبط : غيبته كربلاء ز سبط : لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمه اللواء تغيب لا يرى فيهم زماناً برضوى عنده عسل وماء وكان السيد الحميري أيضاً يعتقد فيه : أنه لم يمت وأنه في جبل : رضوى بين أسد ونمر يحفظانه وعنده عينان نضاختان تجريان بماء وعسل وأنه يعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً .
وهذا هو أول حكم بالغيبة والعودة بعد الغيبة حكم به الشيعة .
وجرى ذلك في بعض الجماعة حتى اعتقدوه : ديناً وركناً من أركان التشيع .
ثم اختلف الكيسانية بعد انتقال محمد بن الحنفيةفي سوق الإمامة وصار كل اختلاف مذهباً : الهاشمية
أتباع أبي هاشم بن محمد بن الحنفية .
قالوا : بانتقال محمد ابن الحنفية إلى رحمة الله ورضوانه وانتقال الإمامة منه إلى ابنه أبي هاشم .
قالوا : فإنه أفضى إليه أسرار العلوم وأطلعه على : مناهج على الباطن .
قالوا : إن لكل ظاهر باطناً ولكل شخص روحاً ولكل تنزيل تأويلاًن ولكل مثال في هذا العالم حقيقة في ذلك العالم .
والمنتشر في الآفاق من الحكم والأسرار مجتمع في الشخص الإنساني وهو : العلم الذي استأثر علي رضي الله عنه به ابنه : محمد بن الحنفية وهو أفضى ذلك السر إلى ابنه أبي هاشم .(13/83)
وكل من اجتمع فيه هذا العلم فهو الإمام حقاً .
واختلفت بعد أبي هاشم شيعته : خمس فرق : فرقة قالت : أم أبا هاشم مات - منصرفاً من الشام بأرض الشراة وأوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله لن عباس وأجرت في أولاده الوصية حتى صارت الخلافة إلى بني العباس .
قالوا ولهم في الخلافة حق لاتصال النسب وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وعمه العباس أولى بالوراثة .
وفرقة قالت : إن الإمامة بعد موت أبي هاشم لابن أخيه : الحسن بن علي ابن محمد بن الحنفية .
وفرقة قالت : لا بل إن أبا هاشم أوصى إلى أخيه : علي بن محمد وعلي أوصى إلى أبنه : الحسن فالإمامة عندهم في بني الحنفية : لا تخرج إلى غيرهم .
وفرقة قالت : إن أبا هاشم أوصى إلى عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي وإن الإمامة خرجت من أبي هاشم إلى عبد الله وتحولت روح أبي هاشم إليه .
والرجل ما كان يرجع إلى علم وديانة فاطلع بعض القوم إلى خيانته وكذبه فأعرضوا عنه وقالوا بإمامة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب .
وكان من مذهب عبد الله : أن الأرواح تتناسخ من شخص إلى شخص وإن الثواب والعقاب : في هذه الأشخاص إما أشخاص بني آدم وإما أشخاص الحيوانات .
قال : وروح الله تناسخت حتى وصلت إليه وحلت فيه .
وادعى الإلهية والنبوة معاً وأنه يعلم الغيب .
فعبده شيعته الحمقى وكفروا بالقيامة لاعتقادهم : أن التناسخ يكون في الدنيا والثواب والعقاب في هذه الأشخاص وتأول قول الله تعالى : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا .
الآية " على أن من وصل إلى الإمام وعرفه : ارتفع عنه الحرج في جميع ما يطعمن ووصل إلى الكمال والبلاغ .
وعنه نشأتك الحزمية والمزدكية بالعراق .
وهلك عبد الله بخرسان وافترقت أصحابه فمنهم من قال : إنه بعد حي لم يمت ويرجع .(13/84)
ومنهم من قال بل مات وتحولت روحه إلى إسحاق بن زيد بن الحارث الأنصاري وهم الحارثية : الذين يبيحون المحرمات ويعيشون عيش من لا تكليف عليه .
وبين أصحاب عبد الله بن معاوية وبين أصحاب محمد بن علي : خلاف شديد في الإمامة فإن كل واحد منهما يدعي الوصية من أبي هاشم إليه ولم يثبت الوصية على قاعدة تعتمد .
البيانية
أتباع بيان بن سمعان التميمي .
قالوا بانتقال الإمامة من أبي هاشم إليه .
وهو : من الغلاة القائلين بإلهية أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال : حل في علي جزء إلهي واتحد بجسده : فنه كان يعلم الغيب إذ أخبر عن آلماكم وصح الخبر وب كان يحارب الكفار وله النصرة والظفر وبه قلع باب خيبر وعن هذا قال : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولا بحركة غذائية ولكن قلعته بحركة رحمانية ملكوتية بنور ربها مضيئة .
فالقوة الملكوتي في نفسه كالمصباح من المشكاة والنور الإلهي كالنور من المصباح .
قال : وربما يظهر علي في بعض الأزمان وقال في تفسير قوله تعالى : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام " : أراد به علياً فهو الذي يأتي في الظل والرعد صوته والبرق تبسمه .
ثم ادعى بيان : أنه قد انتقل إليه الجزء الإلهي بنوع من التناسخ ولذلك استحق أن يكون إماماً : وخليفة وذلك الجزء هو الذي استحق به آدم عليه السلام سجود الملائكة .
وزعم : أن معبوده على صورة إنسان : عضواً فعضواً وجزءاً فجزءاً .
وقال : يهلك كله إلا وجهه لقوله تعالى : " كل شيء هالك إلا وجهه " .
ومع هذا الخزي الفاحش كتب إلى محمد بن علي بن الحسين الباقر رضي الله عنهم ودعاه إلى نفسه وفي كتابه : أسلم تسلم ويرتقي من سلم فإنك لا تدري حيث يجعل الله النبوة .
فأمر الباقر : أن يأكل الرسول قرطاسه الذي جاء به فأكلهن فمات في الحال .
وكان اسم ذلك الرسول : عمر بن أبي عفيف .(13/85)
وقد اجتمعت طائفة على بيان بن سمعان ودانوا به وبمذهبه فقتله خالد ابن عبد الله القسري على ذلك وقيل : أحرقه والكوفي المعروف بالمعروف ابن سعيد بالنار معاً .
الرزامية : أتباع : رزام بن رزم .
ساقوا الإمامة : من علي إلى ابنه محمد ثم إلى ابنه هاشم ثم إلى علي بن عبد الله ابن عباس بالوصية ثم ساقوها إلى محمد بن علي وأوصى محمد إلى ابنه : إبراهيم الإمام وهو صاحب : أبي مسلم الذي دعا إليه وقال إمامته .
وهؤلاء ظهروا بخرا سان في أيام أبي مسلم حتى قيل : إن أبا مسلم كان على هذا المذهب لأنهم ساقوا الإمامة إلى أبي مسلم : فقالوا : له حظ الإمامة وادعوا : حلول روح الإله فيه ولهذا : أيده على بني أمية حتى قتلهم عن بكرة أبيهم وأصلهم .
وقالوا بتناسخ الأرواح .
والمقنع الذي ادعى الإلهية لنفسه على مخاريق أخرجها كان في الأول على هذا المذهب وتابعه مبيضه ما وراء النهر وهؤلاء : صنف من الخرمية دانوا بترك الفرائض وقالوا : الدين : معرفة الإمام فقط .
ومنهم من قال : الدين أمران : معرفة الإمام وأداء الأمانة ومن حصل له الأمران فقد وصل إلى الكمال وارتفع عنه التكليف .
ومن هؤلاء : من ساق الغمامة إلى محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية : وصية وكان أبة مسلم صاحب الدولة على مذهب الكيسانية في الأول واقتبس من دعاتهم العلوم التي اختصوا بها وأحس منهم أن هذه العلوم مستودعة فيهم فكان يطلب المستقر فيه فبعث إلى الصادق : جعفر بن محمد رضي الله عنهما : أني قد أظهرت الكلمة ودعوت الناس عن موالاة بني أمية إلى موالاة أهل البيت فإن رغبت فيه فلا مزيد عليك .
فكتب إليه الصادق رضي الله عنه : ما أنت من رجالي ولا الزمان زماني .
فحاد أبو مسلم إلى أبي العباس عبد الله ابن محمد السفاح وقلده أمر الخلافة .
الزيدية(13/86)
أتباع : زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم .
ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم إلا أنهم جوزوا أن يكون كل : فاطمي عالم زاهد شجاع سخي خرج بالإمامة أن يكون غماماً واجب الطاعة سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين رضي الله عنهما .
وعن هذا جوز قوم منهم : إمامة محمد وإبراهيم الإمامين ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن اللذين خرجا غي أيام المنصور وقتلا على ذلك وجوزوا : خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة .
وزيد بن علي - لما كان مذهبه هذا المذهب أراد أن يحصل الأصول والفروع حتى يتحلى بالعلم فتلمذ في الأصول لواصل بن عطاء الغزال الألثغ رأس المعتزلة ورئيسهم مع اعتقاد واصل : أن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجل وأهل الشام ما كان على يقين من الصواب وأن أحد الفريقين كان على الخطأ لا بعينه .
فاقتبس منه الاعتزال وصارت أصحابه كلهم : معتزلة .
وكان من مذهبه : جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل فقال : كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه أفضل الصحابة إلا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها وقاعدة دينية راعوها : من تسكين نائرة الفتنة وتطيب قلوب العامة فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة : كان قريباً وسيف أمير المؤمنين علىّ عن دماء المشركين من قريش وغيرهم لم يجف بعد والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي .
فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد فكانت المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين والؤدة والتقدم بالسن والسبق في الإسلام والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ألا ترى انه لما أراد في مرضه الذي مات فيه تقليد الأمر عمر بن الخطاب لشدته وصلابته وغلظه في الدين وفظاظته على الأعداء .(13/87)
حتى سكنهم أبو بكر بقوله : " لو سألني ربي لقلت : وليت عليهم خيرهم : لهم " .
وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماماً والأفضل قائم فيرجع إايه في الأحكام ويحكم بحكمه في القضايا .
ولما سمعت شيعة الكوفة هذه المقالة منه وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين : رفضوه حتى أتى قدره عليه فسميت رافضة .
وجرت بينه وبين أخيه الباقر : محمد بن علي مناظرات لا من هذا الوجه بل : من حيث كان يتلمذ لواصل بن عطاء ويقتبس العلم ممن يجوز الخطأ على جده في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ومن حيث يتكلم في القدر على غير ما ذهب غليه أهل البيت ومن حيث إنه كان يشترط الخروج شرطاً في كون الإمام إماماً حتى قال له يوماً : على مقضى مذهبك : والدك ليس بإمام فإنه لم يخرج قط ولا تعرض للخروج .
ولما قتل زيد بن علي وصلب قام بالإمامة بعده يحيى بن زيد ومضى إلى خراسان واجتمعت عليه جماعة كثيرة .
وقد وصل إليه الخبر من الصادق جعفر بن محمد بأنه يقتل كما قتل أبوه ويصلب كما صلب أبوه فجرى عليه الأمر كما أخبر .
وقد فوض الأمر بعده إلى محمد وإبراهيم الإمامين وخرجا بالمدينة ومضى إبراهيم إلى البصرة واجتمع الناس عليهما وقتلا أيضاً .
وأخبرهم الصادق بجميع ما تم عليهم وعرفهم : أن آباءه رضي الله عنهم أخبروه بذلك كله وأن بني أمية يتطاولن على الناس حتى لو طاولتهم الجبال لطالوا عليها وهم يستشعرون بغض أهل البيت .
ولا يجوز أن يخرج واحد من أهل البيت حتى يأذن الله تعالى بزوال ملكهم وكان يشير إلى أبي العباس وإلى أبى جعفر : ابني محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس .
وقال : إنا لا نخوض في الأمر حتى يتلاعب به هذا وأولاده وأشار إلى المنصور .
فزيد بن علي قتل بكناسة الكوفة قتله هشام بن عبد الملك ويحيى بن زيد قتل بجوزجان خراسان قتله أميرها ومحمد الإمام قتل بالمدينة قتله عيسى بن هامان وإبراهيم الإمام قتل بالبصرة .(13/88)
أمر بقتلهما المنصور .
ولم ينتظم أمر الزيدية بعد ذلك حتى ظهر بخراسان صاحبهم : ناصر الأطروش فطلب مكانه ليقتل فاختفى واعتزل الأمر وصار إلى بلاد اليلم والجبل ولم يتحلوا بدين الإسلام بعد فدعا الناس دعوة إلى الإسلامعلى مذهب زيد بن عليح فدانوا بذلكن ونشئوا عليهن وبقيت الزيدية في تلك البلاد ظاهرين .
وكان يخرج واحد بعد واحد من الأئمة ويلي أمرهم .
وخالفوا بني أعمامهم من الموسوية في مسائل الأصول ومالت أكثر الزيدية بعد ذلك عن القول بإمامة المفضول وطعنت في الصحابة طعن الإمامية .
وهم أصناف ثلاثة : جاروديةن وسليمانيةن وبترية .
والصالحية منهم والترية : على مذهب واحد .
الجارودية
أصحاب أبي الجارود : زياد بن أبي زيادز زعموا : أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي رضي الله عنه بالوصف دون التسمية وهو الإمام بعده .
والناس قصروا حيث لم يتعرفوا بذلك .
وقد خالف الجارود في هذه المقالة إمامة : زيد بن علي فإنه لم يعتقد هذا واختلفت الجارودية في : التوقف والسوق .
فساق بعضهم الإمامة من علي إلى الحسن ثم إلى الحسين ثم إلى علي ابن الحسين : زين العابدين ثم إلى ابنه : زيد بن علي ثم منه إلى الإمام : محمد ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب و قالوا بإمامته .
وكان أبو حنيفة رحمه الله على بيعته ومن جملة شيعتح حتى رفع الأمر إلى المنصور فحبسه حبس الأبدن حتى مات في الحبس .
وقيل إنه إنما بايع محمد ابن عبد الله الإمام في أيام المنصور ولما قتل محمد بالمدينة .
فتم عليه مأتم .(13/89)
والذين قالوا بإمامة محمد بن عبد الله الإمام : اختلفوا : فمنهم من قال : إنه لم يقتل وهو بعد حي وسيخرج فيملأ الأرض عدلاً ومنهم من أقر بموته وساق الإمامة إلى محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي ابن الحسين بن علي صاحب الطالقان وقد أسر في أيام المعتصم وحمل إليهح فحبسه في داره حتى مات ومنهم مكن قال بإمامة يحيى بن عمر صاحب الكوفة فخرج ودعا الناس واجتمع عليه خلق كثيرن وقتل في أيام المستعين وحمل رأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر .
حتى قال فيه بعض العلوية : قتلت أعز من ركب المطايا و جئتك أستلينك في الكلام و عز علي أن ألقاك إلا و فيما بيننا حد الحسام وأما أبو الجارود فكان يسمى : سرحوب سماه بذاك أبو جعفر محمد بن علي الباقر .
وسرجوب : شيطان أعمى يسكن البحر قاله الباقر : تفسيراً .
ومن أصحاب أبي الجارود : فضيل الرسان وأبو خالد الواسطي .
وهم مختلفون في الأحكام والسير فبعضهم يزعم : أن علم ولد الحسن والحسين رضي الله عنهما كعلم النبي صلى الله عليه وسلم فيحصل لهم العلم قبل التعلم : فطرة وضرورة .
و بعضهم يزعم : أن العلم مشترك فيهم وفي غيرهم وجائز أن يؤخذ عنهم وعن غيرهم من العامة .
السليمانية اصحاب : سليمان بن جرير وكان يقول : إن الإمامة شورى فيما بين الخلقن ويصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين وإنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل .
وأثبت إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عتهما حقاً باختيار الأمة حقاً اجتهادياً .
وربما كان يقول : إن الأمة أخطأت في البيعت لهما مع وجود علي رضي الله عنه خطأ لا يبلغ درجة الفسق وذلك الخطا : خطأ اجتهادي .(13/90)
غير أنه طعن في عثمان رضي الله عنهم بإقدامهم على قتال علي رضي الله عنه ثم إنه طعن في الرافضة فقال : إن إئمة الرافضة قد وضعوا مقالتين لشيعتهم ثم لا يظهر أحد قط عليهم : إحداهما : القول بالبداء فإذا أظهروا قولاً : أنه سيكون والثانية : التقية فكل ما ارادوا تكلموا به فإذا قيل لهم في ذلك : إنه ليس بحق وظهر لهم البطلان قالوا : إنما قلناه : تقية وفعلناه : تقية .
وتابعه على القول بجواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل : قوم من المعتزلة منهم : جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وكثير النوى وهو من أصحاب الحديث .
قالوا : الإمامة من مصالح الدين : ليس يحتاج إليها لمعرفة الله تعالى وتوحيده فإن ذلك حاصل بالعقل لكنها يحتاج إليها : لإقامة الحدود والقضاء بين المتحاكمين وولاية اليتامى والأيامي وحفظ البيضة وإعلاء الكلمة ونصب القتال مع أعداء الدين وحتى يكون للمسلمين جماعة ولا يكون الأمر فوضى بين العامة فلا يشترط فيها أن يكون الإمام : أفضل الأمة علماً وأقدمهم عهداً وأسدهم رأياً وحكمة إذا الحاجة تنسد بقيام المفضول مع وجود الفاضل والأفضل .
ومالت جماعة من أهل السنة إلى ذلك حتى جوزوا : أن يكون الإمام غير مجتهدن ولا خبير بمواقع الإجتهاد ولكن يجب أن يكون معه من يكون من أهل الإجتهاد : فيراجعه في الأحكام ويستقي منه في الحلال والحرام ويجب أن يكون في الجملة ذا راي متين وبصر في الحوادث نافذ .
الصالحية والبترية : الصالحية : أصحاب الحسن بن صالح بن حي .
والبترية : أصحاب كثير النوى الأبتر .
وهما متفقان في المذهب .
وقولهم في الإمامة كقول السليمانية إلا أنهم توقفوا في أمر عثمان : أهو مؤمن أم كافر قالوا : إذا سمعنا الأخبار الواردة في حقه وكونه من العشرة المشرين في الجنة وإذا رأينا الأحداث التي أحدثها : من استهتاره بتربية بني أمية وبني مروان واستبداده بأمور لم توافق سيرة الصحابة .(13/91)
قلنا : يجب أن نحكم بكفره فتحيرنا في أمره وتوقفنا في حالهن ووكلناه إلى أحكم الحاكمين .
وأما علي فهو أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاهم بالإمامة لكنه سلم الأمر لهم راضياً وفوض إليهم الأمر طائعاً وترك حقه راغباً .
فنحن راضون بما رضى وهم الذين جوزوا : إمامة المفضول وتأخير الفضل والافضل إذا كان الأفضل راضياً بذلك .
وقالوا : من شهر سيفه من أولاد الحسن والحسين رضي الله عنهما وكان : عالماً زاهداً شجاعاً فهو الإمام وشرط بعضهم صباحة الوجه .
ولهم خبط عظيم في إمامين وجدت فيهما هذه الشرائط وشهرا سيفهما : ينظر إلى الأفضل والأزهد وإن تساويا : ينظر إلى الأمتن رأياً والأحزم أمراً وإن تساويا تقابلا فينقلب الأمر عليهم كلا ويعود الطلب جذعاً والإمام مأموماً والأمير مأموراً .
ولو كانا في قطرين : افرد كل واحد منهم بقطره ويكون واجب الطاعة في قومه .
ولو أفتى أحدهما بخلاف ما يفتي الآخر كان كل واحد منهما مصيباً وإن أفتى وأكثرهم في زماننا مقلدون لا يرجعون إلى رأي أو اجتهاد : أما في الأصول فيرون راي المعتزلة : حذو القذة بالقذة ويعظمون أئمة الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة أهل البيت .
وأما في الفروع فهم على مذهب أبي حنيفة إلا في مسائل قليلة يوافقون فيها الشافعي رحمه الله والشيعة .
رجال الزيدية
أبو الجارود : زياد بن المنذر العبدي لعنه جعفر ابن محمد الصادق رضي الله عنه والحسن بن صالح بن حي ومقاتل بن سليمانن والداعي ناصر الحق : الحسن بن علي بن الحسن بن زيد ابن عمر بن الحسين بن علي والداعي الآخر صاحب طبرستان : الحسين بن زيد ابن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي ومحمد بن نصر .
الإمامية هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي عليه السلام : نصاً ظاهراً وتعييناً صادقاً من غير تعريض بالوصف بل إشارة إليه بالعين .(13/92)
قالوا : وما كان في الدين والإسلام أمر أهم من تعيين الإمام حتى تكون مفارقته الدنيا على فراغ قلب من أمر الأمة فإنه إنما بعث : لرفع الخلاف وتقرير الوفاق فلا يجوز أن يفارق الأمة ويتركهم هملاً : يرى كل واحد منهم رأياً ويسلك كل منهم طريقاً لا يوافقه في ذلك غيره بل يجب أن يعين شخصاً هو المرجوع إليهن وينص على واحد هو الموثوق به والمعول عليه .
وقد عين علياً رضي الله عنه في مواضع : تعريضاً وفي مواضع : تصريحاً .
أما تعريضاته فمثل : أن بعث أبا بكر ليقرأ سورة براءة على الناس في المشهد وبعث بعده علياً ليكون هو القارىء عليهمن والمبلغ عنه إليهم وقال : نزل على جبريل عليه السلام فقال : يبلغه رجل منك أو قال : من قومك وهو يدل على تقديمه علياً عليه .
ومثل أن كان يؤمر على أبي بكر وعمر غيرهما مكن الصحابة في البوثح وقد أمر عليهما : عمرو بن العاص في بعث وأسامة بن زيد في بعث وما أمر على علي أحداً قط .
واما تصريحاته فمثل ما جرى في نأنأة الإسلام حين قال : من الذي يبايعني على ماله فبايعته جماعة ثم قال : من الذي يبايعني على روحه وهو وصي عنه يده غليه فبايعه على روحه ووفى بذلك حتى كانت قريش تعير أبا طالب : أنه أمر عليك ابنك .
ز مثل : ما جرى في كمال الغسلام وانتظام الحال فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس : فلما وصل إلى غدير خم أمر بالدوحات فقممن ونادوا : الصلاة جامعة .
ثم قال عليه السلام وهو على الرحال : " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم : وال من والاه وعاد من عاداه واصر من نصرهن واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار .
ألا هل بلغت : ثلاثاً " .
فإنا ننظر : من كان النبي صلى الله عليه وسلم مولى له وبأي معنى فنطرد ذلك في حق علي رضي الله عنه .
وقد فهمت الصحابة من التولية ما فهمناه حتى قال عمر حين استقبل علياً : طوبى لك يا علي ! أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة .(13/93)
قالوا : و قول النبي عليه السلام : " أقضاكم علي " نص في الإمامة فإن الإمامة لا معنى لها إلا أن يكون : أقضى القضاة في كل حادثة والحاكم على المتخاصمين في كل واقعة وهو معنى قول الله سبحانه وتعالى : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " قالوا فأولوا الأمر : من إليه القضاء والحكم .
حتى وفي مسألة الخلافة لما تخاصمت المهاجرون والأنصار كان القاضي في ذلك هو : أمير المؤمنين على دون غيره فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما حكم لكل واحد من الصحابة بأخص وصف له فقال : أفرضكم زيد وأقرؤكم له وهو قوله : " أقضاكم على " والقضاء يستدعي كل علم وما ليس كل علم يستدعي القضاء .
ثم إن الإمامية تخطت عن هذه الدرجة إلى الوقيعة في كبار الصحابة : طعناً وتكفيراً وأقله : ظلماً وعدواناً .
وقد شهدت نصوص القرلان على عدالتهمن والرضا عن جملتهم قال الله تعالى : " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة .
" وكانوا إذ ذاك ألفاً وأربعمائة وقال الله تعالى على المهاجرين والأنصارن والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وقال : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وقال تعالى : " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم " .
وفي ذلك دليل على عظم قدرهم عند الله تعالى وكرامتهم ودرجتهم عند السول صلى الله عليه وسلم .(13/94)
فليت شعري ! كيف يستجير ذو دين الطعن فيهم ونسبة الكفر إليهم ! وقد قال النبي عليه السلام : عشرة من أصحابي في الجنة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن ابي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن ابن عوف وأبو عبيدة بن الجراح إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في حق كا واحد منهم على انفرادز وإن نقلت هنات من بعضهم فليتدبر النقل فإن أكاذيب الروافض كثيرة وإحداث المحدثين كثيرة .
ثم إن الإمامية لم يثبتوا في تعيين الأئمة بعد : الحسن والحسين وعلي بن الحسين رضي الله عنهم على رأي واحد بل اختلافاتهم أكثر من اختلافات الفرق كلها حتى قال بعضهم : إن نيفاً وسبعين فرقة من الفرق المذكورة في الخبر هو في الشيعةخاصة ومن عداهم فهم خارجون عن الأمة .
وهم متفقون في الإمامة وسوقها إلى جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه ومختلفون في المنصوص عليه بعده من أولاده وقيل : ستة : محمد وغسحاق وعبد الله وموسى وإسماعيل وعلي .
ومن ادعى منهم النص والتعيين : محمد وبد الله وموسى وإسماعيل .
ثم : منهم من مات ولم يعقب ومنهم من مات وأعقب .
ومنهم من قال بالتوقف والإنتظار والرجعة .
ومنهم من قال بالسوق والتعدية كما سيأتي ذكر اختلافاتهم عند ذكر طائفة طائفةز وكانوا في الأول على مذهب أئمتهم في الأصولن ثم لما اختلفت الروايات عن أئمتهم وتمتدى الزمان : اختارت كل فرقة منهم طريقة فصارت الإمامية بعضها : إمكا وعيدية وإما تفضيلية وبعضها إخبارية : أما مشبهةح وغما سلفية .
ومن ضل الطريق وتاه لم يبال الله به في أي واد هلك .
الباقرية والجعفرية الواقفة
أتباع : محمد الباقر بن علي زين العابدين وابنه جعفر الصادق .
قالوا بإمامتهما وإمامة والدهما : زين العابدين .
إلا أن منهم من توقف على واحد منهما وما ساق الإمامة إلى أولادهما ومنهم من ساق .(13/95)
وإنما ميزنا هذه : فرقة دون الأصناف المتشيعة التي نذكرها لأن من الشيعة من توقف على الباقر وقال برجعته كما توقف القئلون بإمامة أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق وهو ذو علم غزير في الدينن وأدب كامل في الحكمة وزهد بالغ في الدنيا وورع تام عن الشهوات وقد أقام بالمدينة مدة : يفيد الشيعة المنتمين إليه ويفيض علىالموالين له أسرار العلوم ثم دخل العراق وأقام بها مدة : ما تعرض للإمامة قط ولا نازع أحداً في الخلافة قط .
ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ومن تعلى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط .
وقيل : من أنس بالله توحش عن الناس ومن استأنس بغير الله نهبه الوسواس .
وهو من جانب الأب : يت سب إلى شجرة النبوة ومن جانب الأم : ينتسب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
وقد تبرأ عما كان ينسب إليه بعض الرافضة وحماقاتهم من القول بالغيبة والرجعة والبداء والتناسخ والحلول والتشبيه .
لكن الشيعة بعده افترقوا وانتحل كل واحد منهم مذهباً وأراد أن يروجه على أصحابه فنسبه إليه وربطه به .
والسيد برىء من ذلكن ومن الاعتزالن والقدر أيضاً .
هذا قوله في الإرادة : " إن الله تعالى أراد بنا شيئاً وأراد منا شيئاً فما أراده بناك طواه عنا وما أراده منا : أظهره لنا فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا ! .
وهذا قوله في القدر : هو أمر بين أمرين : لا جبرن ولا تفويض .
وكان يقول في الدعاء : اللهم لك الحمد إن أطعتك ولك الحجة إن عصيتك لا صنع لين ولا لغيري في إحسان ولا حجة لي ولا لغيري في إساءة .
فنذكر الأصناف الذين اختلفوا فيه ونعدهم لا على أنهم من تفاصيل أشياعه : بل : على أنهم الناووسية اتباع رجل يقال له : ناووس وقيل : نسبوا إلى قرية : ناوسا .(13/96)
قالت : إن الصادق حي بعد ولن يموت حتى يظهر فيظهر أمره وهو القائم المهدين ورووا عنه أنه قال : لو رأيتم رأسي يدهده عليكم من الجبل فلا تصدقوا فإني : صاحبكمن صاحب السيف .
وحكى أبو حامد الزوزني : أن النووسية زعمت أن علياً باق وستنشق الأرض عنه قبل يوم القيامة فيملأ الأرض عدلاً .
الأفطحية
قالوا بانتقال الإمامة من الصادق إلى ابنه : عبد الله الأفطح وهو أخوه إسماعيل من أبيه وأمه وأمهما : فاطمة بنت الحسين ابن الحسن بن علي وكان أسن أولاد الصادق .
زعموا أنه قال : الإمامة في أكبر أولاد الإمام .
وقال : الإمام من يجلس مجلسي وهو الذي جلس مجلسه والإمام : لا يغسله ولا يصلى عليه ولا يأخذ خاتمه ولا يواريه إلا الإمام وهو الذي تولى ذلك كله .
ودفع الصادق وديعة إلى بعض أصحابه وأمره أن يدفعها إلى من يطلبها منه وان يتخذه إماماً وماتن ولم يعقب ولداً ذكراً .
الشميطية اتباع : يحيى بن أبي شميط .
قالوا : إن جعفراً قال : إن صاحبكم اسمه اسم نبيكم .
وقد قال له والداه رضوان الله عليهما : إن ولد لك ولد فسميته باسمي فهو الإمام فالإمام بعده : ابنه محمد .
الإسماعيلية
الواقفة قالوا : إن الإمام بعد جعفر : إسماعيل نصاً عليه باتفاق من أولاده إلا أنهم اختلفوا في موته في حال أبيه : فمنهم من قال : لم يمت إلا أنه أظهر موته تقية من خلفاء بني العباس وأنه عقد محضراً وأشهد عليه عامل المنصور بالمديوة .
ومنهم من قال : موته صحيح والنص لا يرجع قهقري والفائدة في النص بقاء الإمامة في أولاد المنصوص عليه دون غيرهم .
فالإمام بعد إسماعيل : محمد ابن إسماعيل .
وهؤلاء يقال لهم : المباركية .
ثم منهم من وقف على محمد ابن إسماعيل وقال برجعته بعد غيبته .
ومنهم من ساق الإمامة في المستورين منهم ثم في الظاهرين القائمين من بعدهم وهم الباطنية وسنذكر مذاهبهم على الإنفراد .(13/97)
و إنما مذهب هذه الفرقة : الوقف على إسماعيل بن جعفر أو محمد بن إسماعيل .
والأسماعيلية المشهورة في الفرق منهم هم : الباطنية التعليمية اللذين لهم مقالة مفردة فرقةواحدة قالت بإمامة موسى بن جعفر نصاً عليه بالإسم حيث قال الصادق رضي اللع عنه : سابعكم قائمكم وقيل : أن أولاد الصادق على تفرق : فمن ميت في حال حياة أبيه ولم يعقب ومن مختلف في موته ومن قائم بعد موته مدة يسيرة ومن ميت غير معقب .
وكان موسى هو الذي تولى الأمر وقام بعد موت أبيه : رجعوا إليه واجتمعوا عليه مثل : المفضل بن عمر وزرارة بن أعين وعمار الساباطي .
وروت الموسوية عن الصادق رضي الله عنه أنه قال لبعض أصحابه : عد الأيام فعدها من الأحد .
حتى بلغ السبت فقال له كم عددت فقال : سبعة : سبت السبوت وشمس الدهور ونور الشهور : من لا يلهو ولا يلعب وهو سابعكم قائمكم هذا وأشار إلى ولده : موسى الكاظم .
وقال فيه أيضاً : إنه شبيه بعيسى عليه السلام .
ثم إن موسى لما خرج وأظهر الإمامة : حمله هارون الرشيد من المدينة فحبسه عند عيسى بن جعفر ثم أشخصه إلى بغداد فحبسه عند السندي بن شاهك .
وقيل : إن يحيى بن خالد بن برمك سمه في رطب فقتله وهو في الحبس .
ثم أخرج ودفن في مقابر قريش ببغداد .
واختلفت الشيعة بعده : فمنهم من توقف في موته وقال : لا ندري أمات أم لم يمت ! ويقال لهم المطمورة سماهم بذلك علي بن إسماعيل فقال : ما أنتم إلا كلاب مطمورة .
ومنهم من قطع بموته ويقال لهم القطيعة .
ومنهم من توقف الإثنا عشرية إن الذين قطعوا بموت موسى الكاظم بن جعفر الصادق وسموا : قطعية ساقوا الإمامة بعده في أولاده فقالوا : الإمام بعد موسى الكاظم ولده : علي الرضي ومشهده بطوس .
ثم بعده : محمد النقي الجواد أيضاً وهو في مقابر قريش ببغداد ثم بعده : علي بن محمد النقي ومشهده بقم .
وبعده : الحسن العسكري الزكي .(13/98)
وبعده ابنه : محمد القائم المنتظر الذي هو بسر من رأى وهو الثاني عشر .
هذا هو طريق الإثني عشرية في زماننا .
إلا أن الاختلافات التي وقعت في حال كل واحد من هؤلاء الإثني عشرية و المنازعات التي جرت بينهم وبين إخوتهم وبني أعمامهم .
وجب ذكرها لئلا يشذ عنا مذهب لم نذكره و مقاغلة لم نوردها .
فاعلم أن الشيعة من قال بإمامة : أحمد بن موسى بن جعفر دون أخيه : علي الرضي .
ومن قال بعلي : شك أولاً في محمد بن علي إذ مات أبوه وهو صغير غير مستحق للإمامة ولا علم عنده بمناهجها .
وثبت قوم على إمامته .
واختلفوا بعد موته أيضاً : فقال قوم بإمامة موسى بن محمد .
وقال قوم آخرون بإمامة : علي بن محمد ويقولون : هو العسكري .
واختلفوا بعد موته أيضاً : فقال قوم بإمامة جعفر بن علي وقال قوم بإمامة محمد بن علي وقال قوم بإمامة الحسن بن علي .
وكان لهم رئيس يقال له : علي بن فلان الطاحن وكان من أهل الكلام : قوى أسباب جعفر ابن علي وأمال الناس إليه وأعانه فارس بن حاتم بن ماهويه وذلك أن علياً قد مات وخلف الحسن العسكري .
قالوا : امتحنا الحسن فلم نجد عنده علماً ولقبوا من قال بإمامة الحسن : الحمارية وقوموا أمر جعفر بعد موت الحسن واحتجوا بأن الحسن مات بلا خلف فبطلت إمامته ولأنه لم يعقب والإمام لا يموت إلا ويكون له خلف وعقب .
وحاز جعفر ميراث الحسن بعد دعاوى ادعاها عليه : أنه فعل ذلك من حبل في جوار أبيه وغيرهم .
وانكشف أمره عند السلطان والرعية وخواص الناس وعوامهم .
وتشتت كلمة من قال بإمامة الحسن وتفرقوا أصنافاً كثيرة منهم : الحسن بن علي بن فضال وهو من أجل أصحابهم وفقهائهم كثير الفقه والحديث .
ثم قالوا بإمامة جعفر : بعلي بن جعفر وفاطمة بنت علي : أخت جعفر .
وقال قوم بإمامة علي بن جعفر دون فاطمة السيدة .
ثم اختلفوا بعد موت علي وفاطمة اختلافاً كثيراً .(13/99)
وغلا بعضهم في الإمامة غلواً كأبي الخطاب الأسدي .
وأما الذين قالوا بإمامة الحسن فافترقوا بعد موته إحدى عشرة فرقة وليست لهم ألقاب مشهورة ولكنا نذكر أقاويلهم :
الفرقة الأولى : قالت : إن الحسن لم يمت وهو : القائم ولا يجوز أن يموت ولا ولد له ظاهراً لأن الأرض لا تخلو من إمام وقد ثبت عندنا : أن القائم له غيبتان وهذه إحدى الغيبتين وسيظهر الثانية : قالت : إن الحسن مات ولكنه يحيا وهو القئم لأنا رأينا أن معنى القائم : هو القيام بعد الموت فنقطع بموت الحسن ولا نشك فيه ولا ولد له فيجب أن يحيا بعد المرت .
الثالثة : قالت : إن الحسن قد مات وأوصى إلى جعفر أخيه ورجعت الإمامة إلى جعفر .
الرابعة : قالت : إن الحسن قد مات والإمام جعفر وإنا كنا مخطئين في الائتمام به إذ لم يكن إماماً فلما مات ولا عقب له تبينا : أن جعفر كان محقاً في دعواه والحسن مبطلاً .
الخامسة : قالت : إن الحسن قد مات : وكنا مخطئين في القول به وإن الإمام كان محمد بن علي أخا الحسن وجعفر ولما ظهر لنا فسق جعفر وإعلانه به وعلمنا أن الجحسن كان على مثل حاله إلا أنه كان يتستر : عرفنا أنهما لم يكونا إمامين فرجعنا إلى محمد ووجدنا له عقباً وعرفنا أنه كان هو الإمام دون أخويه .
السادسة : قالت : إن الحسن كان له ابن وليس الأمر على ما ذكروا : أنه مات ولم يعقب بل ولد له ولد قبل وفاة أبيه بسنتين فاستتر خوفاً من جعفر وغيره من الأعداء واسمه محمد وهو : الإمام القائم الحجة المنتظر .
السابعة : قالت : إن له إبناً ولكنه ولد بعد موته بثمانية أشهر وقول من ادعى أنه مات وله ابن باطل لا ذلك لو كان لم يخف ولا يجوز مكابرة العيان .(13/100)
الثامنة : قالت : صحت وفاة الحسن وصح أن لا ولد له وبطل ما ادعى : من الحبل في سرية له فثبت أن الإمام بعد الحسن غير موجود وهو جائز في المقولات : أن يرفع الله الحجة عن أهل الأرض لمعاصيهم وهي : فترة وزمان لا إمام فيه والأرض اليوم بلا حجة كما كانت الفترة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم .
التاسعة : قالت : إن الحسن قد مات وصح موته وقد اختلف الناس هذه الاختلافات ولا ندري كيف هو ولا نشك أنه قد ولد له ابن ولا ندري : قبل موته أو بعد موته إلا أنا نعلم يقيناً : أن الأرض لا تخلو من حجة وهو : الخلف الغائب فنحن نتولاه ونتمسك به باسمه حتى يظهر بصورته .
العاشرة : قالت : نعلم أن الحسن قد مات ولا بد للناس من إمام فلا تخلو الأرض من حجةن ولا ندري : من ولده أم من ولد غيره الحادية عشرة : فرقة : توقفت في هذا التخابط وقالت : لا ندري على القطع حقيقة الحال لكنا نقطع في الرضي ونقول بإمامته .
وفي كل موضع اختلفت الشيعة فيه : فنحن من الواقفة في ذلك إلى أن يظهر الله الحجة ويظهر بصورته فلا يشك في إمامته من أبصره ولا يحتاج إلى معجزة وكرامة وبينة بل معجزته : اتباع الناس بأسرهم إياه من غير منازعة ولا مدافعة .
ومن العجب ! أنهم قالوا : الغيبة قد امتدت مائتين ونيفاً وخمسين سنة وصاحبنا قال : إن خرج القائم وقد طعن في الأربعين فليس بصاحبكم ولسنا ندري كيف تنقضي مائتان ونيف وخمسون سنة في أربعين سنة ! .
وإذا سئل القوم عن مدة الغيبة : كيف تتصور قالوا : أليس الخضر وإلياس عليهما السلام يعيشان في الدنيا من آلا السنين لا يحتاجان إلى طعام وشراب فلم لا يجوز ذلك في واحد من إهل البيت
قيل لهم : ومع اختلافكم هذا كيف يصح لكم دعوى الغيبة .(13/101)
ثم الخضر عليه السلام ليس مكلفاً بضمان جماعة والإمام عندكم : ضامن مكلفبالهداية والعدل والجماعة مكلفون بالإقتداء به والإستنان بسنته ومن لا يرى كيف يقتدى به .
فلهذا صارت الإمامية متمسكين بالعدلية في الأصول وبالمشبهة في الصفات متحيرين تائهين .
وبين الإخباريو منهم والكلامية : سيف وتكفير .
وكذلك بين التضيلية والوعيدية : قتال وتضليل .
أعاذنا الله من الحيرة .
ومن العجب ! أن القائلين بإمامة النتظر مع هذا الإختلاف العظيم الذي بينت : لا يسحيون فيدعون فيه أحكام الإلوهية ويتأولون قوله تعالى : عليه : " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة " .
قالوا : هو الإمام المنظر الذي يرد إليه علم الساعة ويدعون فيه أنه لا يغيب عنا وسيخبرنا بأحوالنا حين يحاسب الخلق .
إلى تحكمات باردة وكلمات عن العقول شاردة .
لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر : إلا واضعاً كف حائر على ذقن أوقاعاً سن نادم أسامي الأئمةالإثني عشرية عند الإمامية : المرتضى والمجتبى والشهيد والسجاد والباقر والصادق والكاظم والرضي والتقي والنقي والزكي والحجة القائم المنتظر .
الغالية
هؤلاء هم الذين غالوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقية وحكموا فيهم بأحكام الإلهية فربما شبهوا واحداً من الأئمة بالإله و ربما شبهوا الإله بالخلق .
وهم على طرفي الغلو والتقصير .
وإنما نشأت شبهاتهم من مذاهب الحلولية ومذاهب التناسخية ومذاهب اليهود والنصارى إذ اليهود شبهت الخالق بالخلق والنصارى شبهت الخلق بالخالق .
فسرت هذه الشبهات في أذهان الشيعة الغلاة حتى حكمت بأحكام الإلهية في حق بعض الأئمة .
وكان التشبيه بالأصل والوضع في الشيعةن وإنما عادت إلى بعض أهل الشنة بعد ذلك وتمكن الإعتزال فيهم لما رأوا أن ذلك أقرب إلى المعقول وأبعد من التشبيه والحلول .(13/102)
وبدع الغلاة محصورة في أربع : التشبيه والبداء والرجعة والتناسخ .
ولهم ألقاب وبكل بلد لقب : فيقال لهم بأصبهان : الخرمية والكوذية وبالري : المزدكية والسنباذية وبأذربيجان : الدقولية وبموضع : المحمرة وبما وراء النهر : المبيضة .
وهم أحد عشر صنفاً : السبائية أصحاب عبد الله بن سبأ الذي قال لعلي كرم الله وجهه : أنت أنت يعني : أنت الإله فنفاه إلى المدائن .
زعموا : أنه كان يهودياً فأسلم وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وصي موسى عليهما السلام مثل ما قال في علي رضي الله عنه .
وهو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي رضي الله عنه .
ومنه انشعبت أصناف الغلاة .
زعم ان علياً حي لم يمت ففيه الجزء الإلهي ولا يجوز أن يستولي عليه وهو الذي يجيء في السحاب والرعد صوته والبرق تبسمه : وأنه سينزل إلى الأرض بعد ذلك فيملأ الرض عدلاً كما ملئت جوراً .
وإنما أظهر ابن سبا هذه المقالة بعد انتقال علي رضي الله عنه واجتمعت عليع جماعة وهو أول فرقة قالت بالتوقف والغيبة والرجعة وقالت بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي رضي الله عنه .
قال : وهذا المعنى مما كان يعرفه فيه حين فقأ عين واحد بالحد في الحرم ورفعت القصة إليه : ماذا أقول في يد الله فقأت عينا في حرم الله فأطلق عمر اسم الإلهية عليه لما عرف منه ذلك .
الكاملية أصحاب أبي كاملز أكفر جميع الصحابة بتركها بيعة علي رضي الله عنه .
وطعن في علي أيضاً بتركه طلب حقه ولم يعذره في القعود قال : وكان عليه أن يخرج ويظهر الحق على أنه غلا في حقه .
وكان يقول : الإمامة نور يتناسخ من شخص لى شخص وذلك النور : في شخص يكون نبوة وفي شخص يكون إمامة وربما تتناسخ الإمامة فتصير نبوةز وقال بتناسخ الأرواح وقت الموت .
والغلاة على أصنافها كلهم متفقون على : التناسخن والحلول .(13/103)
ولقد كان التناسخ مقالة لفرقة في كل ملة تلقوها من : المجوس المزدكية والهند البرهمية ومن الفلاسفة والصائبة .
ومذهبهم : أن الله تعالى قائم بكل زمان ناطق بكل لسان ظاهر في كل شخص من أشخاص البشر وذلك بمعنى الحلول .
وقد يكون الحلول بجزء وقد يكون بكل : أما الحلول بجزء فهو كإشراق الشمس في كوة أو كغشراقها على البللور أما الحلول بكل فهو كظهور ملك بشخص أو شيطان بحيوان .
ومراتب التناسخ أربع : النسخ والمسخ والفسخ والرسخ .
وسيأتي شرح ذلك عند ذكر فرقهم من المجوس على التفصيل .
وأعلى المراتب : مرتبة الملكية أو النبوة وأسفل الوراتب : الشيطانية أو الجنية .
وهذا أبو كامل كان يقول بالتناسخ ظاهراً من غير تفصيل مذهبهم .
العلبائية أصحاب : العلباء بن ذراع الدوسي وقال قوم : هو الأسدي .
وكان يفضل علياً على النبي صلى الله عليه وسلم وزعم أنه الذي بعث محمداً يعني علياً وسماه إلهاً .
وكان يقول بذم محمد صلى الله عليه وسلم وزعم أنه بعث ليدعو إلى علي فدعا إلى نفسه .
ويسمون هذه الفرقة : الذمية .
ومنهم من قال بإلهيتهما جميعاً ويقدمون علياً في أحكام إلهية ويسمونهم : العينية .
ومنهم من قال : بإلهيتهما جميعاً ويفضلون محمداً في الإلهية ويسمونهم : الميمية .
ومنههم من قال بالإلهية لجملة أشخاص أصحاب الكساء : محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين .
وقالوا خمستهم شيءواحد والروح حالة فيهم بالسوية لا فضل لواحد منهم على الآخر وكرهوا أن يقولوا : فاطمة بالتأنيث بل قالوا : فاطم بلا هاء وفي ذلك يقول بعض شعرائهم : توليت بعد الله في الدين خمسة : نبياً وسبطية وشيخلً وفاطماً .
المغيرية أصحاب : المغيرة بن سعيد العجلي .
ادعى أن الإمامة بعد محمد بن علي بن الحسين في : محمد النفس الزكية بن عبد الله ابن الحسن بن الحسن الخارج بالمدينة وزعم أنه حي لم يمت .(13/104)
وكان المغيرة مولى لخالد بن عبد الله القسري وادعى الإمامة لنفسه بعد الإمام محمد وبعد ذلك ادعى النبوة لنفسه واستحل المحارم وغلا في حق علي رضي الله عنه غلواً لا يعتقده عاقل .
وزاد على ذلك قوله بالتشبيه فقال : إن الله تعالى صورة وجسم ذو أعضاء على مثال حروف الهجاء وصورته صورة رجل من نور على رأسه تاج من نور وله قلب تنبع منه الحكمة .
وزعم أن الله تعالى لما أراد خلق العالم تكلم بالأسم الأعظم فطار فوقع على رأسه تاجاً قال : وذلك قوله : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى .
ثم اطلع على أعمال العباد وقد كتبها على كفه فغضب من المعاصي فعرق فاجتمع من عرقه بحران : أحدهما مالح والآخر عذب والمالح مظلم والعذب نير .
ثم اطلع في البحر النير فأبصر ظله فانتزع عين ظله فخلق منها الشمس والقمر كله من البحرين فخلق المؤمنون من البحر النير وخلقالكفار من البحر المظلم وخلق ظلال الناس أول ما خلق وأول ما خلق هو ظل محمدج عليه السلام وظل علي قبل خلق ظلال الكل .
ثم عرض على السموات والأرض والجبال أن يحملن الأمانة وهي أن يمنعن علي بن أبي طالب من الإمامةن فأبين ذلك ثم عرض ذلك على الناس فأمر عمر بن الخطاب أبا بكر أن يتحمل منعه من ذلك وضمن له أن يعينه على الغدر به على شرط أن يجعل الخلافة له من بعده فقبل منه وأقدما على المنع متظاهرين فذلك قوله تعالى : " وحملها الإنسان إنه طكان ظلوماً جهولاً : .
وزعم أنه نزل في حق عمر قولع تعالى : " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك " .
ولما أن قتل المغيرة اختلف أصحابه : فمنهم من قال بانتظاره ورجعته ومنهم من قال بانتظار إمامة : محمد كما كان يقول بانتظاره .
وقد قال المغيرة بإمامة أي جعفر محمد بن علي رضي اللع عنهما ثم غلا فيه وقال بإلهيته فتبرأ منه الباقر ولعنه .(13/105)
وقد قال المغيرة لأصحابه : انتظروه فإنه يرجع وجبريل وميكائيل يبايعانه بين الركن والمقام وزعم : أنه يحيي الموتى .
المنصورية
أصحاب أبي منصور العجلي وهو الذي عزا بنفسه إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر في الأول فلما تبرأ منه الباقر وطرده زعم أنه هو الإمام ودعا الناس إلى نفسه ولما توفي الباقر قال : انتقلت الإمامة غلي وتظاهر بذلك .
وخرجت جماعة منهم بالكوفة في بني كندة حتى وقف يوسف بن عمر الثقفي والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك علىقصته وخبث دعوته فأخذه وصلبه .
زعم أبو منصور العجلي : أن علياً رضي الله عنه هو الكسف الساقط من السماء وربما قال : الكسف الساقط من السماء هو الله تعالى .
وزعم حين ادعى الإمامة لنفسه أنه عرج به إلى السماء ورأى معبوده فمسح بيده راسه وقال له : يا بني ! أنزل فبلغ عني ثم أهبطه إلى الأرض فهو الكسف الساقط من السماء .
وزعم أيضاً : أن الرسل لا تنقطع أبداً والرسالة لا تنقطع .
وزعم : أن الجنة رجل أمرنا بموالاته وهو إمام الوقت وأن النار رجل أمرنا بمعاداته وهو خصم الإمام
وتأول المحرمات كلها على أسماء رجال أمرنا الله تعالى بمعاداتهم .
وتأول الفرائض على أسماء رجال أمرنا بموالاتهم .
واستحل بأصحابه : قتل مخالفيهم وأخذ أموالهم واستحلال نسائهم .
وهخم صنف من الخرمية .
وإنما مقصودهم من حمل الفرائض والمحرمات على أسماء رجال : هو أن من ظفر بذلك الرجل وعرفه فقد سقط عنه التكليف وارتفع الخطاب إذ قد وصل إلى الجنة وبلغ الكمال .
ومما أبدعه العجلي أنه قال : إن أول ما خلق الله تعالى هو عيسى ابن مريم عليه السلام ثم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
الخطابية(13/106)
أصحاب ابي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع مولى بني أسد وهو الذي عزا نفسه إلى أبي عبد الله جعفر ابم محمد الصادق رضي الله عنهن فلما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه : تبرأ منه ولعنه وأمر أصحابه بالبراءة منه وشدد القول في ذلكن وبالغ في التبري منهن واللعن إليه فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه .
زعم أبو الخطاب : أن الأئمة أنبياء ثم آلهةن وقال بإلهية جعفر بن محمد وإلهية ىبائه رضي اللع عنهم وهم أبناء الله وأحباؤه .
والإلهية نور في النبوة والنبوة نور في الإمانة ولا يخلو العالم من هذه الآثار والأنوارز وزعم أن جعفراً هو الإله في زمانه وليس هو المحسوس الذي يرونه ولكن لما نزل إلى هذا العالم : لبس تلك الصورة فرآه الناس فيها .
ولما توقف عيسى بن موسى صاحب المنصور عى خبث دعوته : قتله بسبخة الكوفة .
وافترقت الخطابية بعدة فرقاً : فزعمت فرقة : أن الإمام بعد أبي الخطاب رجل يقال له : معمر ودانوا به كما دانوا بأبي الخطاب .
وزعموا أن الدنيا لا تفنى وأن الجنة هي التي تصيب الناس من خير ونعمة وعافية وأن النار : هي التي تصيب الناس من شر ومشقة وبلية .
واستحلوا : الخمر والزنا وسائر المحرمات .
ودانوا بترك الصلاة والفرئض وتسمى هذه الفرقة المعمرية .
وزعمت طائفة : أن الإمام بعد أبي الخطاب : بزيغ .
وكان يزعم : أن جعفراً هو الإله أي ظهر الإله بصورته للخلق .
وزعم : أن كل مؤمن يوحى إليه من الله و تأول قول الله تعالى : " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " أي : بوحي إليه من الله وكذلك قوله تعالى : " وأوحى ربك إلى النحل " .
وزعم : أن من أصحابه من هو أقضل من جبريل وميكائيل .
و زعم : أن الإنسان إذل بلغ الكمال لا يقال له : إنه قد مات : ولكن الواحد منهم إذا بلغ النهاية قيل : رجع إلى الملكوت .(13/107)
وادعوا كلهم معاينة أمواتهم وزعموا أنهم يرونهم : بكرة ةوعشياً .
وتسمى هذه الطائفة : البزيغية .
وزعمت طائفة : أن الإمام بعد أبي الخطاب : عمير بن بيان العجلي وقالوا : كما قالت الطائفة الأولى إلا أنهم اعترفوا بأنهم يموتون وكانوا قد نصبوا خيمة بكناسة الكوفة يجتمعون فيها على عبادة الصادق رضي الله عنهح فرفع خبرهم إلى يزيد بن عمر بن هبيرة فأخذ عميراً فصلبه في كناسة الكوفة .
وتسمى هذه الطائفة : العجليةن والعميرية أيضاً .
وزعمت طائفة : أن الإمام بعد أبي الخطاب مفضل الصيرفي .
وكانوا يقولون بربوبية جعفر دون نبوته ورسالته .
وتسمى هذه الفرقة المفضلية .
وتبرأ من هؤلاء لكهم جعفر بن محمد لصادق رضي الله عنه وطردهم ولعنهم فإن القوم كلهم : حيارى ضالون جاهلون بحال الأئمة تائهون .
الكيالية
أتباع : أحمد بن الكيال وكان من دعاة واحد من أهل البيت بعد جعفر بن محمد الصادق وأظنه منالأئمة المستورين .
ولعله سمع كلمات علمية برأيه الفائل وفكره العاطلن وأبدع مقالة في كل باب علمي على قاعدة غير مسموعة ولا معقولة وربما عاند الحس في بعض المواضع .
ولما وقفوا على بدعته : تبرءوا منه ولعنوه وأمروا شيعتهم بمنابذته وترك مخالطته .
ولما عرف الكيال ذلك منهم : صرف الدعوة إلى نفسه وادعى الإمامة أولاً ثم ادعى أنه القائم ثانياً .
وكان من مذهبه : أن كل من قدر الآفاق على الأنفس وأمكنه أن يبين مناهج العالمين أعني : عالم الآفاق وهو العالم العلوين وعالم الأنفس وهو العالم السفلي .
كان هو : الإمام وأن كل من قرر الكل في ذاته وأمكنه أن يبين كل كلي في شخصه المعين الجزئي .
كان هو : القائم .
قال : ولم يوجد في زمن من الأزمان أحد يقرر هذا التقرير إلا : أحمد الكيال فكان هو : القائم .(13/108)
وإنما قتله من انتمى إليه أولاً على بدعته ذلك : أنه هو الإمام ثم القائم وبقيت من مقالته في العالم تصانيف عربية وأعجمية كلها : مزخرفة مردودة : شرعاً وعقلاً .
قال الكيال : العوالم ثلاثة : العالم الأعلى والعالم الأدنى والعالم الإنساني .
وأثبت في العالم الأعلى خمسة أماكن : الأول : مكان الأماكن وهو مكان فارغ لا يسكنه موجود ولا يدبره روحاني مكان النفس الأعلى ودونه : مكان النفس الناطقة ودونه : مكان النفس الحيوانية ودونه : مكان النفس الإنسانية .
قال : وأرادت النفس الإنسانية الصعود إلى عالم النفس الأعلى فصعدتن وخرقت المكانين اعني : الحيوانية والناطقة فلما قربت من الوصول إلى عالم النفس الأعلى : كلت وانحسرت وتحيرت وتعفنتن واستحالت أجزاؤها .
فأهبطت إلى العالم السفلي ومضت عليها أكوار وأدوار و هي في تلك الحالة من العفونة والاستحالة ثم ساحت عليها النفس الأعلى وأفاضت عليها من أنوارهاجزءاً فحدثت التراكيب في هذا العالم وحدثت : السماوات والأرض والمركبات : من المعادن والنبات والحيوان والإنسان ووقعت في بلايا هذا التركيب : تارة سروراً وتارة غماً وتارة فرحاً وتارة ترحاً وطوروا سلامة وعافية وطوراً بلية ومحنة .
حتى يظهر : القائم ويردها إلى حال الكمال وتنحل التراكيب وتبطل المتضادات ويظهر الروحاني على الجسماني وما ذلك القائم إلا : أحمد الكيال .
ثم دل على تعيين ذاته بأضعف ما يتصور وأوهى ما يقدر وهو أن اسم أحمد مطابق للعوالم الأربعة : فالألف من اسمه في مقابلة النفس الأعلى والحاء في مقابلة النفس الناطقة والميم في مقابلة النفس الحيوانية والدال في مقابلة النفس الإنسانية .
قال : والعوالم الأربعة هي المبادىء ثم أثبت في مقابلة العوالم العلوية : العالم السفلي الجسماني قال : فالسماء خالية في مقابلة مكان الأماكن ودونها النار ودونها الهواء ودونه الأرض ودونها الماء .(13/109)
وهذه الأربعة في مقابلة العوالم الأربعة .
ثم قال : الإنسان في مقابلة النار والطائر في مقابلة الهواء والحيوان في مقابلة الأرض والحوت في مقابلة الماء وكذلك ما في معناه .
فجعل مركز الماء أسفل المراكز والحوت أخس المركبات .
ثم قابل العالم الإنساني الذي هو أحد الثلاثة وهو عالم الأنفس مع آفاق العالمين الأولين : الروحاني والجسماني قال : الحواس المركبة فيه خمس : فالسمع : في مقابلة : مكان الأماكن : إذ هو فارغ وفي مقابلة السماء .
والبصر : في مقابلة : النفس الأعلى من الروحاني وفي مقابلة النار من الجسماني وفيه إنسان العين لأن الإنسان مختص بالنار .
والشم : في مقابلة : الناطق من الروحاني والهواء من الجسماني لأن الشم من الهواء : يتروح ويتنشم .
والذوق : في مقابلة : الحيواني من الروحاني والأرض من الجسمانين والحيوان مختص بالأرض واللمس : في مقابلة : الإنساني من الروحاني والماء من الجسماني والحوت مختص بالماء واللمس بالحوت .
وربما عبر عن اللمس بالكتابة .
ثم قال : أحمد هو : ألف وحاء وميم ودال وهو في مقابلة العالمين : أما في مقابلة العالم العلوي الروحاني فقد ذكرناه .
وأما في مقابلة العالم السفلي الجسماني فالألف تدل على الإنسان والحاء تدل على الحيوان والميم على الطائر والدال على الحوت فالألف من حيث استقامة القامة : كالإنسان والحاء : كالحيوان لأنه معوج منكوس ولأن الحاء من إبتداء اسم الحيوان والميم : تشبه رأس الطائر والدال : تشبه ذنب الحوت .
ثم قال : إن الباري تعالى إنما خلق الإنسان على شكل اسم : أحمد : فالقامة : مثل الألف واليدان : مثل الحاء والبطن : مثل الميم والرجلان : مثل الدال .
ثم من العجب أنه قال : إن الأنبياء هم قادة أهل التقليد وأهل التقليد عميان .(13/110)
والقائم قائد أهل الصيرة وأهل البصيرة أولوا الألباب وإنما سحصلون البصائر بمقابلة فكيف يرضى أن يعتقدها ! وأعجب من هذا كله : تأويلاته الفاسدة ومقابلاته بين الفرائض الشرعية والأحكام الدينية وبين موجودات عالمي الآفاق والأنفس .
واعاؤه أنه منفرد بها .
وكيف يصح له ذلك وقد سبقه كثير من أهل العلم بتقرير ذلك لا على الوجه المزيف الذي قرره الكيال وحمله الميزان على العالمين والصراط على نفسه والجنة على الوصول إلى علمع من البصائر والنار على الوصول إلى ما يضاده ! ولما كانت أصول علمه ماذكرناه : فانظر كيف يكون حال الفروع ! الهشامية أصحاب : الهشامين : هشام بن الحكم صاحب المقالة في التشبيه وهشام بن سالم الجواليقي الذي نسج على منواله في التشبيه .
وكان هشام بن الحكم من متكلمي الشيعة وجرت بينه وبين أبي هذيل مناظرات في علم الكلام : منها في التشبيه ومنها في تعلق علم الباري تعالى .
حكى ابن الرواندي عن هشام أنه قال : إن بين معبوده وبين الأجسام تشابهاً ما بوجه من الوجوه ولولا ذلك لما دلت عليه .
وحكى الكعبي عنه أنه قال : هو جسم ذو أبعاض له قددر من الأقدار ولكن لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء .
ونقل عنه أنه قال : هو : سبعة أشبار بشبر نفسه وأنه في مكان مخصوص وجهة مخصوصة وأنه يتحرك وحركته فعله وليست من مكان إلى مكان .
وقال : هو متناه بالذات غير متناه بالقدرة .
وحكى عنه أبو عيسى الوراق أنه قال : إن الله تعالى مماس لعرشه لا يفضل منه شيء عن العرش ولا يفضل من العرش شيء عنه .
ومن مذهب هشام انه قال : لم يزل الباري تعالى عالماً بنفسه ويعلم الأشياء بعد كونها بعلم : لا يقال فيه : إنه محدث أو قديم لأنه صفة والصفة لا توصف ولا يقال فيه : هو هو أو غيره أو بعضه .
وليس قوله في القدرة والحياة كقوله في العلم إلا أنه لا يقول بحدوثهما .(13/111)
قال : ويريد الأشياء وإرادته حركة : ليست هي عين الله ولا هي غيره .
وقال في كلام الباري تعالى : إنه صفة الباري تعالى ولا يجوز أن يقال : هو مخلوق أو غير مخلوق .
وقال : الأعراض لا تصلح ان تكون دلالة على الله تعالى لأن منها ما يثبت استدلالاً وما يستدل على الباري تعالى يجب أن يكون ضروري الوجود لا استدلالياً .
وقال : الاستطاعة : كل ما لا يكون الفعل إلا به : كالآلات والجوارح والوقت والمكان .
وقال هشام بن سالم إنه تعالى على صورة إنسان : أعلاه مجوف وأسفله مصمت وهو نور ساطع يتلألأ وله حواس خمس ويد ورجل وأنف وأدذن وعين وفم وله وفرة سوداء : هي نور أسود لكنه ليس بلحم ولا دم .
وقال هشام بن سالم : الاستطاعة بعض المستطيع .
وقد نقل عنه : أنه أجاز المعصية على الأنبياء مع قوله بعصمة الأئمة .
ويفرق بينهما بأن النبي يوحى إليه فينبه على وجه الخطأ فيتوب منه والإمام لا يوحى إليه فتجب عصمته .
وغلا هشام بن الحكم في حق علي رضي الله عنه حتى قال : إنه إله واجب الطاعة .
وهذا هشام بن الحكم صاحب عور في الأصول لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة فإن الرجل وراء ما يلزم به على الخصم ودون ما يظهره من التشبيه .
وذلك انه ألزم الغلاف فقال : إنك تقول : الباري تعالى عالم بعلم وعلمه ذاته فيشارك المحدثات في أنه عالم بعلم ويباينها في أن علمه ذاته فيكون عالماً لا كالعالمين فلم لا تقول : إنه جسم لا كالأجسام وصورة لا كالصور وله قدر لا كالأقدار .
إلى غير ذلك ووافقه زرارة بن أعين في حدوث علم اللع تعالى وزاد عليه بحدوث : قدرته وحياته و سائر صفاته وإنه لم يكن قبل حدوث هذه الصفات : عالماً ولا قادراً ولا حياً ولا سميعاً ولا بصيراً ولا مريداً ولا متكلماً .(13/112)
وكان يقول بإمامة عبد الله بن جعفر فلما فاوضه في مسائل ولم يجده بها ملياً رجع إلى موسى بن جعفر وقيل أيضاً : غنه لم يقل بإمامته إلا أنه أشار إلى المصحف وقال : هذا إمامي وإنه كان قد التوى على عبد الله بن جعفر بعض الإلتواء .
وحكى عن الزرارية : أن المعرفة ضرورية وأنه لا يسع جهل الأئمة فإن معارفهم كلها فطرية ضرورية وكل ما يعرفه غيرهم بالنظر فهو عندهم أولي ضروري وفطرياتهم لا يدركها غيرهم .
النعمانية
أصحاب : محمد بن النعمان أبي جعفر الأحول الملقب بشيطان الطاق : وهم : الشيطانية أيضاً .
والشيعت تقول : هو مؤمن الطاق .
وهو تلميذ الباقر : محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم وأفضى إليه أسراراً من أحواله وعلومه .
وما يحكى عنه في التشبيه فهو غير صحيح .
قيل : وافق هشام بن الحكم في أن الله تعالى لا يعلم شيئاً حتى يكون .
قال محمد بن النعمان : إن الله عالم في نفسه ليس بجاهل ولكنه إنما يعلم الأشياء إذا قدرها وأرادها فأما من قبل أن يقدرها ويريدها فمحال أن يعلمها لا لأنه ليس بعالم ولكن الشيء لا يكون شيئاً حتى يقدره وينشئه بالتقدير والتقدير عنده : الإرادة والإرادة : فعله تعالى .
وقال : إن الله تعالى نور على صورة إنسان رباني ونفى أن يكون جسماً لكنه قال : قد ورد في الخبر : إن الله خلق آدم على صورته وعلى صورة الرحمن فلا بد من تصديق الخبر .
ويحكى عن مقاتل بن سليمان : مثل مقالته في الصورة .
وكذلك يحكى عن : داود الجواربي ونعيم بن حماد المصري وغيرهما من أصحاب الحديث : أنه تعالى ذو صورة وأعضاء .
ويحكى عن داود أنه قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك فإن في الأخبار ما يثبت ذلك .(13/113)
وقد صنف ابن النعمان كتبأ جمة للشيعة منها افعل لم فعلت و : منها افعل لا تفعل ويذكر فيها : أن كبار الفرق أربعة : الفرقة الأولى عنده : القدرية الفرقة الثانية عنده : الخوارج الفرقة الثالثة عنده : العامة الفرقة الرابعة عنده : الشيعة .
ثم عين الشيعة بالنجاة في الآخرة من هذه الفرق .
وذكر عن هشام بن سالم ومحمد بن النعمان : أنهما أمسكا عن الكلام في الله ورويا عمن يوجبان تصديقه : أنه سئل عن قول الله تعالى : " وأن إلى ربك المنتهى " قال : إذا بلغ الكلامإلى الله تعالى فأمسكوا فأمسكا عن القول في الله والتفكر فيه حتى ماتا .
هذا نقل الوراق .
ومن جملة الشيعة : اليونسية أصحاب : يونس بن عبد الرحمن القمي مولى آل يقطين .
زعم أن الملائكة تحمل العرش والعرش يحمل الرب تعالى إذ قد ورد في الخبر : أن الملائكة تئط أحياناً من وطأة عظمة الله تعالى على العرش .
وهو من مشبهة الشيعة وقد صنف لهم كتباً في ذلك .
النصيرية والإسحاقية
من جملة غلاة الشيعة ولهم جماعة ينصرون مذهبهم ويذبون عن أصحاب مقالاتهم وبينهم خلاف في كيفية إطلاق الإلهية على الأئمة من أهل البيت .
قالوا : ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمر لا ينكره عاقل : أما في جانب الخير فكظهور جبريل عليه السلام ببعض الأشخاص والتصور بصورة أعرابي والتمثل بصورة البشر .
وأما في جانب الشر فكظهور الشيطان بصورة إنسان حتى يعمل الشر بصورته وظهور الجن بصورة بشر حتى يتكلم بلسانه .
فكذلك نقول : إن الله تعالى ظهر بصورة أشخاص .
ولما لم يكن بعد رشول الله صلى الله عليه وسلم شخص أفضل من علي رضي الله عنه وبعده أولاده المخصوصون وهم خير البرية فظهر الحق بصورتهم ونطق بلسانهم وأخذ بأيديهم فعن هذا أطلقنا اسم الإلهية عليهم .(13/114)
وإنما أثبتنا هذا الإختصاص لعلي رضي الله عنه دون غيره لأنه كان مخصوصاً بتأييد غلهي من عند الله تعالى فيما يتعلق بباطن الأسرار .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " .
و عن هذا كان قتال المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقتال المنافقين إلى علي رضي الله عنه .
وعن هذا : شبهه بعيسى بن مريم عليه السلام فقال صلى الله عليه وسلم : لولا أن يقول الناس فيك ما قالوا في عيسى بن مريم عليه السلام : لقلت فيك مقالاً .
وربما أثبتوا له شركة في الرسالة إذ قال النبي عليه السلام : " فيكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله ألا وهو خاصف النعل " .
فعلم التأويل وقتال المنافقين ومكالمة الجن وقلع باب خيبر لا بقوة جسدانية : من أدل الدليل على أن فيه جزءاً إلهياً وقوة ربانية .
ويمون هو الذي ظهر الإله بصورته وخلق بيديه وأمر بلسانه وعن هذا قالوا : كان موجوداً قبل خلق السموات والأرض .
قال : كنا أظله على يمين العرش فسبحنا فسبحت الملائكة بتسبيحنا فتلك الظلال وتلك الصور التي تنبىء عن الظلال : هي حقيقته وهي مشرقة بنور الرب تعالى إشراقاً لا ينفصل عنها سواء كانت في هذا العالمن أو في ذلك العالم .
وعن هذا : قال علي رضي اللع عنه : أنا من أحمد كالضوء من الضوء يعني : لا فرق بين النورين إلا أن أحدهما سابق والثاني لا حق به تال له .
قالوا : وهذا يدل على نوع من الشركة .
فالنصيرية : أميل إلى تقرير : الجزء الإلهي .
ولهم اختلافات كثيرة أخر : لا نذكرها .
وقد أنجزت الفرق الإسلامية وما بقيت إلا فرقة البطنية وقد أوردهم أصحاب التصانيف في كتب المقالات : إما خارجة عن الفرق وإما داخلة فيها .
وبالجملة : هم قوم يخالفون الإثنتين والسبعين فرقة .(13/115)
رجال الشيعة ومصنفي كتبهم من المحدثين : فمنالزيدية أبو خالد الواسطي ومنصمور بن الأسود وهارون بن سعد العجلي .
جارودية .
ووكيع بن الجراح ويحيى بن آدم وعبيد الله بن موسى وعلي بن صالح والفضل بن دكين وأبو حنيفة .
بترية .
و خرج محمد بن عجلان مع محمد الإمام .
وخرج : إبراهين بن سعيد وعباد بن عوام ويزيد بن هارةون والعلاء ابن ؤاشد وهشيم بن بشير والعوام بن حوشب ومستلم بن سعيد مع إبراهيم الإمامة .
ومن الإمامية وسائر أصناف الشيعة
سالم بن أبي الجعد وسالم ابن أبي حفصة وسلمة بن كهيل وثوير بن أبي فاختة وحبيب بن أبي ثابت وأبو المقدام وشعبة والأعمش وجابر الجعفي وأبو عبد الله الجدلي وأبو غسحاق السبيعي والمغيرة وطاووس والشعبي وعلقمة وهبيرةابن بريم وحبة العرني والحارث الأعور .
ومن مؤلفي كتبهم : هشام بن الحكم وعلي بن منصور ويونس ابن عبد الرحمن والشكال والفضل بن شاذان والحسين بن إشكاب ومحمد بن عبد الرحمن وابن قبة وأبو سهل النوبختي وأحمد بن يحيى الرواندي .
ومن المتأخرين : أبو جعفر الطوسي .
الإسماعيلية
قد ذكرنا أن الإسماعيلية امتازت عن الموسوية وعن الإثني عشرية بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر .
قالوا : لم يتزوج الصادق رضي الله عنه على أمه بواحدة من النساء ولا تسري بجارية كسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق خديجة رضي الله عنها وكسنة علي رضي الله عنه في حق فاطمة رضي الله عنها .
وقد ذكرنا : اختلافاتهم في موته في حال حياة أبيه : فمنهم من قال : إنه مات وإنما فائدة النص عليه : انتقال الإمامة منه إلى أولاده خاصة كما نص موسى على هارون عليهما السللام ثم مات هارون في حال حياة أخيه .(13/116)
وإنما فائدة النص انتقال الإمامة منه إلى أولاده فإن النص لا يرجع قهقرى والقول بالبداء محال ولا ينص الإمام على واحد من أولاده إلا بعد السماع من آبائه والتعيين لا يجوز على الإبهام والجهالة .
ومنهم من قال : إنه لم يمت ولكنه أظهر موته تقية عليه حتى لا يقصد بالقتل ولهذا القول دلالات : منها أن محمداً كان صغيراً وهو أخوه لأمه مضى إلى السرير الذي كان إسماعيل نائماً عليه ورفع الملاءة فأبصره وقد فتح عينيه فعاد إلى أبيه مفزعاً وقال : عاش أخي عاش أخي .
.
.
قال والده : إن أولاد الرسول عليه السلام كذا تكون حالهم في الآخرة .
قالوا ومنها السبب في الإشهاد على موته وكتب المحضر عليه ولم نعهد ميتاً سجل على موته وعن هذا : لما رفع إلى المنصور : أن إسماعيل بن جعفر رئي بالبصرة وقد مر على مقعد فدعا له فبرىء بإذن الله تعالى : بعث المنصور إلى الصادق : أن إسماعيل بن جعفر في الأحياء وأنه رئي بالبصرة : أنفذ السجل إليه وعليه شهادة عاملة بالمدينة .
قالوا : وبعد إسماعيل محمد بن إسماعيل السا بع التام وإنما تم دور السبعة به ثم ابتدى منه بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد سراً .
ويظهرون الدعاة جهراً .
قالوا : ولن تخلو الأرض قط من إمام حي قائم : إما ظاهر مكشوف وإما باطن مستور .
فإذا كان الإمام ظاهراً جاز أن يكون حجته مستوراً .
وإذا كان الإمام مستوراً فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين .
وقالو إن الأمة تدور أحكامهم على سبعة سبعة : كأيام الأسبوع والسموات السبع والكواكب السبعة والنقباء تدور أحكامهم على إثني عشر .
قالوا : وعن هذا وقعت الشبهة للإمامية القطعية حيث قرروا عدد النقباء للأئمة .
ثم بعد الأئمة المستورين كان ظهور المهدي بالله والقائم بأمر الله وأولادهم : نصاً بعد نص على إمام بعد إمام .
ومن مذهبهم : أن من مات ولم يعرف إمام زمانه : مات ميتة جاهلية .(13/117)
وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية .
ولهم دعوة في كل زمانن ومقالة جديدة بكل لسان .
فتذكر مقالاتهم القديمة ونذكر بعدها دعوة صاحب الدعوة الجديدة .
وأشهر ألقابهم الباطنية وإنما لزمهم هذا اللقب لحطمهم لأن : لكل ظاهر باطناً ولكل تنزيل تأويلاً .
ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم قوم : فبالعراق يسمون : الباطنيةن والقرامطة والمزدكية وبخراسان التعليمية والملحدة ثم إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج .
فقالوا في الباري تعالى : إنا لا نقول : هو موجود ولا لا موجود ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز .
وكذلك في جميع الصفات فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجه التي أطلقناها عليه وذلك تشبيه فلم يمكن الحكم بالإثبات المطلق بل هو : إله المتقابلين وخالق المتخاصمينن والحاكم بين المتضادين .
ونقلوا في هذا نصاً عن محمد بن علي بن الباقر انه قال : لما وهب العلم للعالمين قيل : هو عالمن ولما وهب القدرة للقادرين قيل : قو قادر فهو : عالمن قادر بمعنى أنه وهب العلم والقدرة لا بمعنى أنه قام به العلم والقدرةن أو وصف بالعلم والقدرة .
فقيل فيهم : إنهم نفاة الصفات حقيقة معطلة الذات عن جميع الصفات .
وكذلك نقول في القدم : إنه ليس بقديم ولا محدث بل القديم : أمرهن وكلمتهن والمحدث : خلقه وفطرته .
لأبدع بالأمر العقل الأول الذي هو تام بالفعلن ثم بتوسطه أبدع النفس التاي الذي هو غير تام .
ونسبة النفس إلى العقل : إما نسبة النطفة إلى تمام الخلقة والبيض إلى الطير وإما نسبة الولد إلى الوالدن والنتيجة إلى المنتج وإما نسبة الذكر إلى الانثى والزوج إلى الزوج .(13/118)
قالوا : ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى حركة من النقص إلى الكمال واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة فحدثت الأفلاك السماوية وتحركت حركة استقامة بتدبير النفس أيضاً فتركبت المركبات : من المعادن والنبات والحيوان والإنسان واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان .
وكان من نوع الإنسان متميزاً عن سائر الموجودات بالإستعداد الخاص لفيض تلك الأنوار وكان عالمه في مقابلة العالم كله .
وفي العالم العلوي : عقل ونفس كلي فوجب أن يكون في هذا العالم : عقل مشخص هو كل وحكمه حكم الشخص الكامل البالغ ويسمونه : الناطق .
المتوجه إلى الكمال أو حكم النطفة المتوجهة إلى التمام أو حكم الأنثى المزدوجة بالذكر ويسمونه : الأساس .
وهو الوصي .
قالوا : وكما تحركت الأفلاك والطبائع بتحريك النفس والعقلح كذلك تحركت النفوس والاشخاص بالشرائع بتحريك النبي والوصي في كل زمان دائراً على سبعة سبعة حتى ينتهي إلى الدور الأخير ويدخل زمان القيامةن وترتفع التكاليف وتضمحل السنن والشرائع .
وإنما هذه الحركات الفلكية والسنن الشرعية لتبلغ النفس إلى حال كمالها وكمالها : بلوغها إلى درجة العقل و اتحادها به ووصولها إلى مرتبته فعلاًح وذلك هو القيامة الكبرى .
فتنحل تراكيب الأفالك والعناصر والمركبات وتنشق السماء وتتناثر الكواكب وتبدل الأرض غير الأرض وتطوى السماء كطي السجل للكتاب المرقوم وفيه يحاسب الخلق ويتميز الخير عن الشر والمطيع عن العاصين وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي وجزيئات الباطل بالشيطان المضل المبطل .
فمن وقت الحركة لى وقت السكون : هو المبدأ ومن وقت السكون إلى ما لا نهاية له : هو الكمال ثم قالوا : ما من فريضة وسنة وحكم من الأحكام الشرعية : من بيع وإجارةن وهبة ونكاح وطلاق وجراح وقصاص ودية .(13/119)
إلا وله وزان من العالم : عدداً في مقابلة عدد وحكماً في كطابقة حكم فإن الشرائع عوالم روحانية أمرية والوالم شرائع جسمانية خلقية .
وكذلك التركيبات في الحروف والكلمات : على وزان التركيبات في الصور والأجسام والحروف المفردة نسبتها إلى المركبات من الكلمات : كالبسائط المجردة إلى المركبات من الأجسام .
ولكل حرف : وزان في العالم وطبيعة يخصها وتأثير من حيث تلك الخاصية في النفوس .
فعن هذا صارت العلوم المستفادة من الكلمات التعليمية غذاء للنفوس كما صارت الأغذية المستفادة من الطبائع الخلقية غذاء للابدان وقد قدر الله تعالى : أن يكون غذاء كل موجود مما خلق منه فعلى هذا الوزن صاروا إلى : ذكر أعداد الكلمات والآيات وأن التسمية مركبة من سبعة وإثني عشر وأن التهليل مركب من أربع كلمات في إحدى الشهادتين وثلاث كلمات في الشهادة الثانية وسبع قطع في الأولى وست في الثانية وإثني عشر حرفاً في الأولى وإثني عشر حرفاً في الثانية .
وكذلك في كل آية أمكنهم استخراج ذلك مما لا يعمل العاقل فكرته فيه إلا ويعجز عن ذلك خوفاً من مقابلته بضدهز وهذه المقابلات كانت طريقة أسلافهم قد صنفوا فيها كتباً .
ودعوا الناس إلى إمام في كل زمان : يعرف موازنات هذه العلوم ويهتدي إلى مدارج هذه الأوضاع والرسوم .
ثم إن أصحاب الدعوة الجديدة : تنكبوا هذه الطريقة حين أظهر الحسن بن محمد بن الصباح دعوته وقصر على الإلزامات كلمته واستظهر بالرجال وتحصن بالقلاع .
وكان بدء صعوده على قلعة : ألموت في شهر شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وذلك بعد أن هاجر إلى بلاد إمامة وتلقى منه كيفية الدعوى لأبناء زمانه .
فعاد ودعا الناس أول دعوة إلى تعيين : إمام صادق قائم في كل زمان وتمييز الفرقة الناجية عن سائر الفرق بهذه النكتة وهي : أن لهم إماماً وليس لغيرهم إمام .(13/120)
وإنما تعود خلاصة كلامه بعد ترديد القول فيه : عوداً على بدء بالعربية والعجمية إلى هذا الحرف .
ونحن ننقل ماكتبه بالعجمية إلى العربية .
ولا معاب على الناقل والموفق من اتبع الحق واجتنب فنبدأ بالفصول الأربعة التي ابتدأ بها دعوته وكتبها عجمية فعربتها : الأول : قال : للمفتي في معرفت اللع تعالى أحد قولين : إما أن يقول : أعرف الباري تعالى بمجرد العقل والنظر من غير احتياج إلى تعليم معلم وإما أن يقول : لا طريق إلى المعرفة مع العقل والنظر إلا بتعليم معلم قال : و من أفتى بالأول فليس له الإنكار على عقل غيره ونظره فإنه متى أنكر فقد علم والإنكار تعليم ودليل على أن المنكر عليه محتاج إلى غيره .
قال : والقسمان ضروريان لأن الإنسان إذا أفتى بفتوى أو قال قولاً فإما أن يقول من نفسه أو من غيره وكذلك إذا اعتقد عقداً : فإما أن يعتقده من نفسه أو من غيره .
هذا هو الفصل الأول وهو كسر على : أصحاب الرأي والعقل .
وذكر في الفصل الثاني : أنه إذا ثبت الإحتياج إلى معلم أفيصلح كل معلم على الإطلاق أم لا بد من معلم صادق .
قال : ومن قال : إنه يصلح كل معلم ما ساغ له الإنكار على معلم خصمه وإذا أنكر فقد سلم أنه لا بد من معلم صادق معتمد .
قيل : وهذا كسر على : أصحاب الحديث .
وذكر في الفصل الثالث : أنه إذا ثبت الإحتياج إلى معلم صادق أفلا بد من معرفة المعلم أولاً والظفر به ثم التعلم منه أم جاز التعلم من كل معلم من غير تعيين شخصه وتبيين صدقه والثاني رجوع إلى الأول .
ومن لن يمكنه سلوك الطريق إلا بمقدم ورفيق فالرفيق ثم الطريق .
وهو وذكر في الفصل الرابع أن الناس فرقتان فرقة قالت : نحن نحتاج في معرفة الباري تعالى إلى معلم صادق ويجب تعيينه وتشخيصه أولاً ثم التعلم منه .
وفرقة أخذت في كل علم من معلم وغير معلم .(13/121)
وقد تبين بالمقدمات السابقة : أن الحق مع الفرقة الأولى فرئيسهم يجب أن يكون رئيس المحقين وإذ تبين ان الباطل مع الفرقة الثانية فرؤساؤهم يجب أن يكونوا رؤساء المبطلين .
قال : وهذه الطريقة هي التي عرفنا بها المحق بالحق معرفة مجملة ثم نعرف بعد ذلك الحق بالمحق معرفة مفصلة حتى لا يلزم دوران المسائل .
وإنما عنى بالحه ههما : الإحتياج وبالمحق المحتاج إليه .
وقال : بالإحتياج عرفنا الإمام وبالإمام عرفنا مقادير الإحتياج كما بالجواز عرفنا الوجوب أي واجب الوجود وبه عرفنا مقادير الجواز في الجائزات .
قال : والطريق إلى التوحيد كذلك حذو القذة بالقذة .
ثم ذكر فصولاً في تقرير مذهبه : إما تمهيداً وإما كسراً على المذاهب وأكثرها : كسر وإلزامن واستدلال بالإختلاف على البطلان وبالإتفاق على الحق .
منها فصل الحق والباطل : الصغيرن والكبير يذكر أن في العالم حقاً وباطلاًز ثم يذكر أن علامة الحق هي الوحدة وعلامة الباطل هي الكثرة .
وأن الوحدة مع التعليم والكثرة مع الرأي .
والتعليم مع الجماعة والجماعة مع الإمام .
والرأي في الفرق المختلفة وهي مع رؤسائهم .
وجعل الحق والباطل والتشابه بينهما من وجه والتمايز بينهما من وجه والتضاد في الطرفين والترتب فيأحد الطرفين .
ميزاناً يزن به جميع ما يتكلم فيه .
قال : وإنما أنشأت هذا الميزان من كلمة الشهادة وتركيبها منالنفي والإثبات حق .
ووزن بذلك : الخير والشر والصدق والكذب .
وسائر المتضادات .
ونكتته : أن يرجع في كل مقالة وكلمة إلى إثبات المعلم وأن التوحيد هو : التوحيد والنبوة معاً حتى يكون توحيداً وأن النبوة هي : النبوة والإمامة معاً حتى تكون نبوة .
وهذا هو منتهى كلامه .
وقد منع العوام عن الخوض في العلوم وكذلك الخواص عن مطالعة الكتب المتقدمة إلا من عرف : كيفية الحال في كل كتاب ودرجة الرجال في كل علم .(13/122)
ولم يتعد بأصحابه في الإلهيات عن قوله : إن إلهنا إله محمد .
قال : وأنتم تقولون : إلهنا إله العقول أي : ما هدى غليه عقل كل عاقل .
فإن قيل لواحد منهم : ما تقول في الباري تعالى وأنه هل هو : واحد أم كثير عالم أم لا قادر أم لا .
لم يجب إلا بهذا القدر : إن إلهي : إله محمد وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون والرسول هو الهادي إليه .
وكم قد ناظرت القوم على المقدمات المذكورة فلم يتخطوا عن قولهم : أفنحتاج إليك أو وكم قد ساهلت القوم في الإحتياج وقلت : أين المحتاج إليه وأي شيء يقرر لي في الإهيات وماذا يرسم لي في المقولات .
إذ المعلم لا يعنى لعينه وإنما يعنى ليعلم وقد سددتم باب العلم وفتحتم باب التسليم والتقليد وليس يرضى عاقل بأن يعتقد مذهباً على غير بصيرة وأن يسلك طريقً من غير بينة .
وإن كانت : مبادىء الكلام تحكيمات وعوقبها تسليمات فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما .
الباب السابع أهل الفروع المختلفون في الأحكام الشرعية والإجتهادية
اعلم أن أصول الإجتهاد وأركانه أربعة : الكتاب والسنة والإجماع والقياس .
وربما تعود إلى إثنين
وإنما تلقوا صحة هذه الأركان وانحصارها : من إجماع الصحابة رضي الله عنهم وتلقوا أصلالإجتهاد والقياس وجوزوا منهم أيضاً فإن العلم قد حصل بالتواتر أنهم إذا وقعت حادثة شرعية من حلال أو حرام : فزعوا إلى الإجتهاد واتدؤا بكتاب الله تعالى فإن وجدوا فيه بصاً أو ظاهراً تمسكوا به وأجروا حكمك الحادثة على مقتضاه وإن لم يجدوا فيه نصاً أو ظاهراً : فزعوا إلى السنة فإن روى لهم في ذلك خبر أخذوا به ونزلوا على حكمه وإن لم يجدوا الخبر : فزعوا إلى الإجتهاد .(13/123)
فكانت أركان الإجتهاد عندهم : اثنين أو ثلاثة ولنا بعدهم : أربعة إذ وجب علينا : الأخذ بمقتضى إجماعهم واتفاقهم والجرى على مناهج اجتهادهم .
وربما كان إجماعهم على حادثة غجماعاً اجتهادياً وربما كان إجماعاً مطلقاً لم يصرح فيه الإجتهاد وعل الوجهين جميعاً : فالإجماع حجة شرعية لإجماعهم على التمسك ل بالإجماع على التمسك بالإجماع .
ونحن نعلم : أن الصحابة رضي الله عتهم الذين هم الأئمة الراشدون : لا يجتمعون على ضلال وقد قال النبي صلى الله عليع وسلم : لا تجتمع أمتي على ضلالة .
ولكن الإجماع لا يخلو عن نص خفي أو جلى : قد اختصه لأنا على القطع نعلم أن الصدر الأول لا يجمعون على أمر إلا عن تثبت وتوقيف فإما أن يكون ذلك النص فسي نس الحادثة التي اتفقوا على حكمها من غير بيان ما يستند إليه حكمها وإما أن يكون النص في أن الإجماع حجة ومخالفة الإجماع بدعة .
وبالجملة : مستند الإجماع نص : خفي أو جلي : لا محالة وإلا فيؤدي إلى إثبات الأحكام المرسلة ومستند الإجتهاد والقياس هو : الإجماع وهو أيضاً مستند إلى نص مخصوص في جواز الإجتهاد .
فرجعت الأصول الأربعة في الحقيقة إلى إثنتين وربما ترجع إلى واحد وهو قول الله تعالىز وبالجملة : نعلم قطعاً ويقيناً أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات : مما لايقبل الحصر والعد ونعلم قطعاً أيضاً أنه لم يرد في كل حادثة نص ولا يتصور ذلك أيضاً والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية ولا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى .
علم قطعاً : أن الإجتهاد والقياس واجب الإعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة إجتهاد .
ثم لا يجوز أن يكون الإجتهاد مرسلاً : خارجاً عن ضبط الشرع فإن القياس المرسل شرع آخر وإثبات حكم من غير مستند وضع آخر والشارع هو الواضع للأحكام فيجب على المجتهد أن لا يعدل في اجتهاده عن هذه الأركان .
وشرائط الإجتهاد خمسة(13/124)
معرفة قدر صالح من اللغة بحيث يمكنه فهم لغات العرب والتمييز بين الألفاظ الوضعية والإستعارية والنص والظاهر والعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمفصل وفحوى الخطاب ومفهوم الكلام ومايدل على مفهومه بالمطابقة وما يدل بالتضمن وما يدل بالإستتباع فإن هذه المعرفة كالآلة التي بها يحصل الشيء ومن لم يحكم الآلة والأداة لم يصل إلى تمام الصنعة .
ثم : معرفة تفسير القرآن خصوصاً مايتعلق بالإحكام وما ورد من الأخبار في معاني الآيات ومارئي من الصحابة المعتبرين : كيف سلكوا مناهجها وأي معنى فهموا من مدارجها ولو جهل تفسير سائر الآيات التي تتعلق بالمواعظ والقصص قيل : لم يضره ذلك في الإجتهاد فإن من الصحابة من كان لا يدري تلك المواعظ ولم يتعلم بعد جميع القرآن وكان من أهل الإجتهاد .
ثم : معرفة الأخبار : بمتونها وأسانيدها والإحاطة بأحوال النقلة والواة : عدولها وثقاتها ومطعونها ومردودها والإحاطة بالوقائع الخاصة فيها وما هو عام ورد في حادثة خاصة وما هو خاص عمم في الكل حكمه .
ثم الفرق بين : الواجب والندب والإباحة الخطر والكراهة حتى لا يشذ عنه وجه من هذه الوجوه ولا يختلط عليه باب بباب .
ثم : معرفة مواقع إجماع الصحابة والتابعين وتابع التابعين من السلف الصالحين حتى لا يقع اجتهاده في مخالفة الإجماع .
ثم : التهدي إلى مواضع الأقيسة وكيفية النظر والتردد فيها : من طلب أصل أولاً ثم طلب معنى مخيل يستنبط منه فيعلق الحكم عليه أو شبه يغلب على الظن فيلحق الحكم به .
فهذه : خمس شرائط لابد من مراعاتها حتى يكون المجتهد مجتهداً واجب الغتباع والتقليد في حق العامي وإلا فكل حكم لم يستند إلى قياس واجتهاد مثل ما ذكرنا فهو مرسل مهمل .
قالوا : فإذا حصل المجتهد هذه المعارف : ساغ له الإجتهاد ويكون الحكم الذي أدى إليه اجتهاده سائغاً في الشرع ووجب على العامي تقليده والأخذ بفتواه .(13/125)
وقد استفاض الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بعث معاذاً إلى اليمن قال : يا معاذ ! بم تحكم قال : بكتاب الله قال : فإن لم تجد قال : فبسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال : أجتهد برأيي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضاه .
وقد روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن قلت : يا رسول الله ! كيف أقضي بين الناس وأنا حدث السن فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على صدري وقال : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فما شككت بعد ذلك في قضاء بين اثنين .
أحكام المجتهدين : في الأصول والفروع ثم اختلف أهل الأصول في تصويب المجتهدين في الأصول والفروع .
فعامة أهل الأصول على أن الناظر في المسائل الأصولية والأحكام العقلية اليقينية القطعية : يجب أن يكون متعين الغصابة فالمصيب فيها واحد بعينه .
ولا يجوز أن يختلف المختلفان في حكم عقلي حقيقة الإختلاف : بالنفي والإثبات على شرط التقابل المذكور بحيث ينفي أحدهما ما يثبته الآخر بعينه من الوجه الذي يثبته في الوقت الذي يثبته إلا وأن يقتسما : الصدق والكذب والحق والباطل سواء كان الإختلاف : بين أهل الأصول في الإسلام أو بين أهل الإسلام وبين أهل الملل والنحل الخارجة عن الإسلام فإن المختلف فيه : لا يحتمل توارد الصدق والكذب والصواب والخطإ عليه في حالة واحدة .(13/126)
وهو مثل قول أحد المخبرين : زيد في هذه الدار في هذه الساعة فإنا نعلم قطعاً : أن أحد المخبرين صادق و الآخر كاذب لأن المخبر عنه لا يحتمل اجتماع الحالتين فيه معاً فيكون زيد في الدار ولا يكون في الدارز لعمري ! قد يختلف المختلفان في حكم عقلي في مسألة ويكون محل الإختلاف مشتركاً وشرط القضيتين نافذاً فحينئذ يمكن أن يصوب المتنازعتان ويرتفع النزاع بينهما برفع الإشتراك أو يعود النزاع إلى أحد الطرفين : مثال ذلك : المختلفان في مسالة الكلام ليسا يتواردان على معنى واحد بالنفي والإثبات فغن الذي قال : هو مخلوق أراد به : أن الكلام هو الحروف والأصوات في اللسان والرقوم والكلمات في الكتابة قال : وهذا مخلوق .
والذي قال : ليس بمخلوق لم يرد به الحروف والرقوم وإنما أراد به معنى آخر فلم يتواردا بالتنازع في الخلق على معنى واحد .
وكذلك في مسألة الرؤية فإن النافي قال : الرؤية غنما هي : اتصال شعاع بالمرئي وهو لا يجوز في حق الباري تعالى .
فلم يتوارد النفي والغثبات على معنى واحد ألا إذا رجع الكلام إلى إثبات حقيقة الرؤية فيتفقان أولاً على أنها ما هي ثم يتكلمان : نفياًن وإثباتاً .
وكذلك في مسألة الكلام يرجعان إلى إثبات ماهية الكلام ثم يتكلمان : نفياً وغثباتاً وإلا فيمكن أن تصدق القضيتان .
وقد صار أبو الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد ناظر في الأصول مصيب لأنه أدى ما كلف به من المبالغة في تسديد النظر في المنظور فيه وإن كان متعيناً : نفياً وإثباتاً إلا انه أصاب من وجه .
وإنما ذكر هذا في الإسلاميين من الفرقن وأما الخارجون عن الملة فقد تقررت النصوص والغجماع على كفرهم وخطئه .
وكان سياق مذهبه يقتضي تصويب كل مجتهد على الإطلاق إلا أن النصوص والإجماع صدته عن تصويب كل ناظر وتصديق كل قائل .(13/127)
وللاصوليينك خلاف في تكفير أهل الأهواء مع قطعهم بأن المصيب واحد بعينه لأن التكفير : حكم شرعي والتصويب : حكم عقلي فمن مبالغ متعصب لمذهبه : كفر وضلل مخالفه ومن متسائل متألف : لم يكفر .
ومن كفر : قرن كل مذهب ومقالة واحد من أهل الأهواء والملل كتقرين القدرية بالمجوس وتقرين المشبهة باليهود وتقرين الرافضة بالنصارى وأجرى حكم هؤلاء فيهم من المناكحةو أكل الذبيحة .
ومن تساهل ولم يكفر : قضى بالتضليل وحكم بأنهم هلكى في الآخرة .
واختلفوا في اللعن على حسب اختلافهم في التكفير والتضليل .
وكذلك من خرج على الإمام الحق بغياً وعدواناً فغن كان صدر خروجه : عن تأول وإجتهاد سمي : باغياً : مخطئاً .
ثم البغي : هل يوجب اللعن فعند أهل السنة : إذا لم يخرج بالبغي عن الإيمان لم يستوجب اللعن .
وعند المعتزلة : يستحق اللعن بحكم فسقه والفاسق خارج عن الإيمان .
وإن كان صدر خروجه عن : البغي والحسد والمروق عن الدين فإجماع المسلمين استحق : اللعن باللسان والقتل بالسيف والسنان .
وأما المجتهدون في الفروع فاختلفوا في الأحكام الشرعية : من الحلال والحرام ومواقع الإختلاف مظان غلبات الظنون بحيث يمكن تصويب كل مجتهد فيها .
وإنما يبتني ذلك على أصل وهو أنا نبحث هل لله تعالى حكم في كل حادثة أم لا .
فمن الأصوليين من صار إلى أن لا حكم لله تعالى في الوقائع المجتهد فيها حكماً بعينه قبل الإجتهاد : من جواز وحظر وحلال وحرام وإنما حكمه تعالى : ما أدى إليه اجتهاد المجتهد وأن هذا الحكم منوط بهذا السبب فما لم يوجد السبب لم يثبت الحكم خصوصاً على مذهب من قال : إن الجواز والحظر لا يرجعان إلى صفات في الذات وإنما هي راجعة إلى أقوال الشارع : افعل لا تفعل .
وعلى هذا المذهب : كل مجتهد مصيب في الحكم .(13/128)
ومن الأصوليين من صار إلى أن لله تعالى في كل حادثة حكماً بعينه قبل الإجتهاد : من جواز وحظر بل وفي كل حركة يتحرك بها الإنسان حكم تكليف من : تحليل وتحريم وإنما يرتاده المجتهد بالطلب والإجتهاد إذ الطلب لا بد له من مطلوب والإجتهاد يجب أن يكون من شيء إلى شيء إذ الطلب لا بد له من مطلوب والإجتهاد يجب بين النصوص والظاوهر والعمومات وبين المسائل المجمع عليها فيطلب الرابطة المعنوية أو التقريب من حيث الأحكام والصور حتى يثبت في المجتهد فيه مثل ما يلفيه في المتفق عليه .
ولو لم يكن له مطلوب معين : كيف يصح منه الطلب على هذا الوجه .
فعلى هذا المذهب : المصيب واحد من المجتهدين في الحكم المطلوب وإن كان الثاني معذوراً نوع عذر إذ لم يقصر في الإجتهادز ثم : هل يتعين المصيب أم لا فأكثرهم على أنه لا يتعين فالمصيب واحد لا بعينه .
ومن الأصوليين من فصل الأمر فيه فقال : ينظر في المجتهد بعينه خطأ لا يبلغ تضليلً والمتمسك بالخبر الصحيح والنص الظاهر مصيب بعينه .
وإن لم تكن مخالفة النص ظاهرة : فلم يكن مخطئا بعينه بل كل واحد منهما مصي في إجتهاده وأحدهما مصيب في الحكم لا بعينه .
والمسالة مشكلة والقضية معضلة .
حكم الإجتهاد والتقليد والمجتهد والمقلد ثم الإجتهاد من فروض الكفايات لا من فروض الأعيان : إذا اشتغل بتتحصيله واحد سقط الفرض عن الجميع وإن قصر فيه أهل عصر : عصوا بتركه وأشرفوا على خطر عظيم فإن الأحكام الشرعية الإجتهادية إذاكانت مترتبة على الإجتهاد ترتب المسبب على السبب : كانت الأحكام عاطلة والآراء كلها فائلة .
فلا بد إذاً من مجتهد .
وإذا اجتهد المجتهدان وأدى اجتهاد كل واحد منهما إلى خلاف ما أدى إليه اجتهاد الآخر فلا يجوز لأحدهما تقليد الآخر .(13/129)
وكذلك إذا اجتهد مجتهد واحد في حادثة وأدى اجتهاده إلى جواز أو خطر ثم حدثت تلك الحادثة بعينها في وقت آخر فلا يجوز له أن يأخذ باجتهاده الأول إذ يجوز أن يبدو له في الإجتهاد الثاني ما أغفله في الإجتهاد الأول .
وأما العامي فيجب عليه تقليد المجتهد وإنما مذهبه فيما يسأله : مذهب من يسأله عنه .
هذا هو الأصل إلا أن علماء الفريقين : لم يجوزوا أن يأخذ العامي الحنفي إلا بمذهب أبي حنيفة والعامي الشافعي إلا بمذهب الشافعي لأن الحكم بأن لا مذهب للعامي وأن مذهبه مذهب المفتي : يؤدي إلى خلط وخبط فلهذا لم يجوزوا ذلك .
وإذا كان مجتهدان في بلد : اجتهد العامي فيهما حتى يختار الأفضل والأروع ويأخذ بفتواه .
وإذا أفتى المفتي على مذهبه وحكم به قاض من القضاة على مقتضى فتواه ثبت الحكم على المذاهب كلها وكان القضاء إذا اتصل بالفتوى ألزم الحكم كالقبض مثلاً إذا اتصل بالعقد .
ثم العامي بأي شيء يعرف أن المجتهد قد وصل إلى حد الإجتهاد وكذلك المجتهد نفسه متى يعرف أنه استكمل شرائط الإجتهاد .
ففيه نظر .
ومن اصحاب الظاهر مثل : داود الأصفهاني وغيره : من لم يجوز القياس والإجتهاد في الأحكام وقال : الأصول هي الكتاب والسنة والإجماع فقط ومنع أن يكون القياس أصلاًمن الأصول وقال : إن أول من قاس إبليس وظن أن القياس أمر خارج عن مضمون الكتاب والسنتة .
ولم يدر أنه : طلب حكم الشرع من مناهج الشرع ولم تنضبط قط شريعة من الشرائع إلا باقتران الإجتهاد بها لأن من ضرورة الإنتشار في العالم : الحكم بأن الإجتهاد معتبر .
وقد رأينا الصحابة رضي الله عنهم : كيف اجتهدوا وكم قاسوا خصوصاً في مسائل المواريث : من توريث الإخوة مع الجد وكيفية توريث الكلالة وذلك مما لايخفى على المتدبر لأحوالهم .(13/130)
أصناف المجتهدين ثم المجتهدون من أئمة الأمة : محصورون في صنفين لا يعدوان إلى ثالث : أصحاب الحديث وهم : أهل الحجاز هم : أصحاب مالك بن أنس وأصحاب محمد بن إدريس الشافعي وأصحاب سفيان الثوري وأصحاب أحمد بن حنبل وأصحاب داود بن علي بن محمد الأصفهاني .
وإنما سموا : أصحاب الحديث لأن عنايتهم : بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدود : خبراً أو أثراً وقد قال الشافعي : إذا وجدتم لي مذهباً ووجدتم خبراًعلى خلاف مذهبي فاعلموا أن مذهبي : ذلك الخبر .
ومن أصحابه : أبو إبراهيم إسماعيل ابن يحيى المزني والربيع بن سليمان الجيزي وحرملة بن يحيى التجيبي والربيع ابن سليمان المرادي وأبو يعقوب البويطي والحسن بن محمد بن الصباح الزعفرانين ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي .
وهم لا يزيدون على اجتهاده اجتهاداً بل يتصرفون فيما نقل عنه : توجيهاً واستنباطاً ويصدرون عن رأيه جملة فلا يخالفونه البتة .
أصحاب الرأي : وهم : أهل العراق هم : أصحاب ابي حنيفة النعمان بن ثابت .
ومن أصحابه : محمد بن الحسن وأبو يوسف يعقوب ابن إبراهيم بن محمد القاضي وأبو مطيع البلخي وبشر المريسي .
وإنما سموا : أصحاب الرأي لأن أكثر عنايتهم : بتحصيل وجه القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار .
وقد قال أبو حنيفة : علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى ولنا ما رأينا .
وهؤلاء ربما يزيدون على إجتهاده غجتهاداً ويخالفونه في الحكم الغجتهادي .
والمسائل التي خالفوه فيها : معروفة .
تفرقة وتذكرة : إعلم أن بين الفريقين اختلافات كثيرة في الفروع ولهم فيها تصانيف وعليها مناظرات .(13/131)
وقد بلغت النهاية في مناهج الظنون حتى كأنهم قد أشرفوا على القطع واليقين .
وليس يلزم من ذلك : تكفير ولا تضليل بل كل مجتهد مصيب كما ذكرنا قبل هذا .
الجزء الثاني أهل الكتاب الخارجون عن الملة الحيفية والشريعة الإسلامية
ممن يقول : بشريعة وأحكام وحدود وأعلام .
وهم قد انقسموا : إلى من له كتاب محقق مثل التوراة والإنجيل وعن هذا يخاطبهم التنزيل بأقل الكتاب .
وإلى من له شبهة كتاب مثل : المجوس والمانوية فإن الصحف التي أنزلت على إبراهيم عليه السلام قد رفعت إلى السماء لأحداث أحدثها بهم نحو اليهود والنصارى إذ هم : من أهل الكتاب ولكن لا يجوز مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم فإن الكتاب قد رفع عنهم .
فنحن : نقدم ذكر أهل الكتاب لتقدمهم بالكتاب .
ونؤخر ذكر من له شبهة كتاب .
أهل الكتاب والأميون
الفرقتان المتقابلتان قبل المبعث هم : أهل الكتاب والأميون والأمي : من لا يعرف الكتابة .
وكانت اليهود والنصارى بالمدينة والأميون بمكة .
وأهل الكتاب : كانوا ينصرون دين الأسباط ويذهبون مذهب بني إسرائيل والأميون كانوا ينصرون دين القبائل ويذهبون مذهب بني إسماعيل وكان النور المنحدر منه إلى بني إسرائيل ظاهراً والنور المنحدر منه إلى بني غسماعيل مخفياً .
كان يستدل على النور الظاهر بظهور الأشخاص .
وإظهار النبوة في شخص شخص ويستدل على النور المخفي بغبانة المناسك والعلامات وستر الحال في الأشخاص .
وقبلة الفرقة الأولى : بيت المقدس وقبلة الفرقة الثانية : بيت الله الحرام الذي وضع للناس بمكة مباركاً وهدى للعالمين .
وشريعة الأولى : ظواهر الأحكام وشريعة الثانية : رعاية المشاعر الحرام .
وخصماء الفريق الثاني : المشركون مثل عبدة الأصنام والأوثان .
فتقابل الفريقان وصح التقسيم بهذين التقابلين .
اليهود والنصارى
وهاتان الأمتان : من كبار اهل الكتاب .(13/132)
والأمة اليهودية أكبر لأن الشريعة كانت لموسى عليه السلام وجميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بذلك مكلفين بالتزام أحكام التوراة .
والإنجيل النازل على المسيح عليه السلام : لا يتضمن أحكاماً ولا يستبطن حلالاًو لا حراماً ولكنه : رموز وأمثال ومواعظ ومزاجر وما سواها من الشرائع والأحكام فمحالة على التوراة كما سنبين فكانت اليهود لهذه القضية لم ينقادوا لعيسى بن مريم عليه السلام وادعوا عليه : أنه كان ماموراً بمتابعة موسى عليه السلام وموافقة التوراة فغير وبدل وعدوا عليه تلك التغييرات : منها : تغيير السبت إلى الأحد ومنها : تغيير أكل لحم الخنزير وكان حراماً في التوراة ومنها : الختان والغسل .
وغير ذلك .
والمسلمون قد بينوا أن الأمتين : قد بدلوا وحرفوا وإلا فعيسى عليه السلام كان مقرراً لما جاء به موسى عليه السلام وكلاهما مبشران بمقدم نبينا محمد نبي الرحمة صلوات الله عليهم أجمعين وقد أمرهم أئمتهم وأنبياؤهم وكتابهم بذلك .
وإنما بنى أسلافهم الحصون والقلاع بقرب المدينة لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي آخر الزمان فأمروهم بمهاجرة أوطانهم بالشام إلى تلك القلاع والبقاع حتى إذا ظهر وأعلن الحق بفاران وهاجر لى دار هجرته يثرب : هجروه وتركوا نصره وذلك قوله تعالى : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .
وإنما الخلاف بين اليهود والنصارى ما كان يرتفع إلا بحكمه إذ كانت اليهود تقول : ليست النصارى كل شيء ومانت النصارى تقول : ليست اليهود على شيء وهو يتلون الكتاب وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم : لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما كان يمكنهم إقامتها إلا بإقامة القرآن الحكيم وبحكم نبي الحمة رسول آخر الزمان فلما أبوا ذلك وكفروا بآيات الله .(13/133)
{ ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله }
الآية .
الباب الأول اليهود
خاصة هاد الرجل : أي رجع وتاب وإنما لزمهم هذا الاسم لقول موسى عليه السلام : إنا هدنا إليك أي رجعنا وتضرعنا .
وهم : أمة موسى عليه السلام وكتابهم التوراة وهو أول كتاب نزل من السماء أعني : أن ما كان ينزل على إبراهيم وغير من الأنبياء عليهم السلام ما كان يسمى كتاباً بل صحفاً وقد ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تعالى خلق آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده " فأثبت لها اختصاصاً آخر سوى سائر الكتب .
وقد اشتمل ذلك على أسفار : فيذكر مبتدأ الخلق في السفر الأول ثم يذكر : الأحكام والحدود والأحوال والقصص والمواعظ والأذكار .
في سفر سفر .
وأنزل عليه أيضاً الألواح على شبه مختصر ما في التوراة تشتمل على الأقسام العلمية والعملية قال الله تعالى : " وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة " : إشارة إلى تمام القسم العلمي وتفصيلاً لكل شيء : إشارة إلى تمام القسم العلمي .
قالوا : و كان موسى عليه السلام قد أفضى بأسرار التوراة والألواح لى يوشع ابن نون : وصيه وفتاه والقائم بالأمر من بعده ليفضي بها إلى أولاد هارون لأن الأمر كان مشتركاً بينه وبين أخيه هارون عليهما السلام إذ قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام في دعائه حين أوحى ليه أولاً : " وأشركه في أمري " وكان هو الةصي .
فلما مات هارون في حال حياة موسى : انتقات الصية إلى يوشع بن نون وديعة ليوصلها إلى شبير وشبر : ابني هارون قراراً و ذلك أن الوضية والإمامة : بعضها مستقر وبغعضها مستودع .
واليهود تدعي أن الشريعة لا تكون غلا واحدة وهي ابتدأت بموسى عليه السلام وتمت به فلم تكن قبله شريعة إلا حدود عقلية وأحكام مصلحية .(13/134)
ولا يجيزوا النسخ أصلاً قالوا : فلا يكون بعد شريعة أصلاً لأن النسخ في الأوامر بداء ولا يجوز البداء على الله تعالى .
و مسائلهم تدور على : جواز النسخ ومنعه وعلى التشبيه ونفيه والقول بالقدر والجبرن وتجويز الرجعة واستحالتها .
وأما التشبيه فلأنهم وجدوا التوراة ملئت من المتشابهات مثل : الصورة والمشافهة والتكليم جهراً والنزول على طور سينا انتقالاً والاستواء على العرش استقراراً وجواز الرؤية فوقاً .
وغير ذلك .
وأما القول بالقدر فهم مختلفون فيه حسب اختلاف الفريقين في الإسلام فالربانيون منهم كالمعتزلة فينا والقراءون كالمجبرة والمشبهة .
وأما جواز الرجعة : فإنما وقع لهم من أمرين : أحدهما حديث عزير عليه السلام إذ أماته الله مائة عام ثم بعثه والثاني حديث هارون عليه السلام إذ مات في التيه وقد نسبوا موسى إلى قتله بألواحه قالوا : حسده لأن اليهود كانوا أميل إليه منهم إلى موسى .
واختلفوا في حال موته : فمنهم من قال : إنه مات وسيرجع : ومنهم من قال : غاب وسيرجع .
واعلم أن التوراة قد اشتملت بأسرها على دلالات وآيات تدل على كون شريعة نبينا المصطفى عليه السلام : حقاً وكون صاحب الشريعة صادقاً بله ما حروفوه وغيروه وبدلوه : إما تحريفاً من حيث : الكتابة والصورة .
وإما تحريفاً من حيث : التفسير والتأويل .
وأظهرها : ذكر غبراهيم عليه السلام ة ابنه إسماعيل ودعاؤه في حقه وفي حق ذريته وإجابة الرب تعالى إياه : أني باركت على إسماعيل وأولاده وجعلت فيهم الخير كله وسأظهرهم على الأمم كلها وسأبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتي .
واليهود معترفون بهذا القضية إلا أنهم يقولون : أجابه بالملك دون النبوة والرسالة .(13/135)
وقد ألزمتهم : أن الملك الذي سلمتم : أهو ملك بعدل وحق أم لا : فإن لم يكن بعدل أو حق فكيف يمن على إبراهيم عليه السلام بملك في أولاده وه هو جور وظلم وإن سلمتم العدل والصدق من حيث الملك فالملك يجب أن يكون صادقاً على الله تعالى فيما يدعيه ويقوله وكيف يكون الكاذب على الله تعالى صاحب عدل وحق .
غذ لا ظلم أشد من الكذب على الله تعالى ففي تكذيبه تجويره وفي التجوير رفع المنة بالنعمة وذلك : خلف .
ومن العجب أن التوراة : أن الأسباط من بني إسرائيل كانوا يراجعون القبائل من بني إسماعيل ويعلمون أن في ذلك الشعب علماً لدنياً لم تشتمل التوراة عليه .
وورد في التواريخ : أن أولاد إسماعيل عليه السلام كانوا يسمون : إل الله وأهل الله وأولاد إسرائيل : آل يعقوب وآل موسى وآل هارون .
.
وذلك : كسر عظيم .
وقد ورد في التوراة : أن الله تعالى : جاء من طور سيناء وظهر بساعير وعلن بفاران وساعير : جبال بيت المقدس التي كانت مظهر عيسى عليه السلام .
وفاران : جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى صلى الله عليه وسلم .
ولما كانت الأسرار الإلهية والأنوار الربانية في : الوحي التنزيل والمناجاة والتاويل على مراتب ثلاث : مبدأ وسط وكمال والمجيء أشبه بالوسط والإعلان أشبه بالكمال عبرت التوراة : عن طلوع صبح الشريعة والتنزيل : بالمجيء من طور سيناء وعن طلوع الشمس : بالظهور على ساعير وعن البلوغ إلى درجة الكمال : بالاستواء والإعلان على فاران .
وفي هذه الكلمات : إثبات نبوة المسيح عليه السلام والمصطفى محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد قال المسيح في الإنجيل : ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها قال صاحب التوراة : النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص وأنا أقول : إذالطمك أخوك على خدك الأيمن فضع له خدك الأيسر .(13/136)
والشريعة الأخيرة وردت بالأمرين جميعاً : أما القصاص ففي قوله تعالى : " كتب عليكم القصاص في القتلى " .
واما العفو ففي قوله تعالى : " وأن تعفوا أقرب للتقوى " .
ففي التوراة : أحكام السياسة الظاهرة العامة وفي الإنجيل : أحكام السياسة الباطنة الخاصة وفي القرآن أحكام السياستين جميعاً : " ولكم في القصاص حياة " إشارة إلى تحقيق السياسة الظاهرة وقوله تعالى : " وأن تعفوا أقرب للتقوى " وقوله : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " : إشارة إلى تحقيق السياسة الباطنة وقد قال عليه السلام : " هو أن تعفو عمن ظلمك ومن العجب ! أن من رأى غيره : يصدق ما عنده ويكمله ويرقيه من درجة إلى درجة كيف يسوغ له تكذيبه والنسخ في الحقيقة ليس إبطالاً بل هو تكميل .
وفي التوراة : أحكام عامة وأحكام خاصة : إما بأشخاص وإما بأزمان وإذا انتهى الزمان لم يبق ذلك لا محالة ولا يقال : إنه : إبطال أو بداء .
كذلك ها هنا .
وأما السبت فلو أن اليهود عرفوا : لم ورد التكليف بملازمة السبت وهو يوم أي شخص من الأشخاص وفي مقابلة أية حالة من الأحوال وجزئي أي زمان عرفوا : أن الشريعة الأخيرة : حق وأنها جاءت لتقرير السبت بذلك وبأن موسى عليه السلام بنى بيتاً وصور فيه صوراً وأشخاصاً وبين مراتب الصور وأشار إلى تلك الرموز .
ولكن لما فقدوا الباب باب حطة ولم يمكنهم التسور على سنن اللصوص : تحيروا تائهين وتاهوا متحيرين فاختلفوا على إحدى وسبعين فرقة .
ونحن نذكر منها : أشهرها وأظهرها عندهم ونترك الباقي هملاً .
والله الموفق .
العنانية
نسبوا إلى رجل يقال له : عثمان بن داود راس الجالوت .(13/137)
يخالفون سائر اليهود في السبت والأعياد وينهون عن أكل الطير والظباء والسمك والجراد ويذبحون الحيوان على القفا ويصدقون عيسى عليه السلام في مواعظه وإشاراته ويقولون : إنه لم يخالف التوراة البتة بل قررها ودعا الناس إليها وهو من بني إسرائيل المتعبدين بالتوراة ومن المستجيبين لمسى عليه السلام إلا أنهم لا يقولون بنبوته ورسالته .
ومن هؤلاء من يقول : إن عيسى عليه السلام لم يدع : أنه نبي مرسل وليس من بني إسرائيل وليس هو صاحب شريعة ناسخة لشريعة موسى عليه السلام بل هو أولياء الله المخلصين العارفين بأحكام التوراة .
وليس الإنجيل كتاباً غنزل عليه وحياً من الله تعالى بل هو : جمع أحواله من مبدئه إلى كماله وإنما جمعه من أصحابه الحواريين فكيف يكون كتاباً منزلاً .
قالوا : و اليهود ظلموه حيث : كذبوه أولاً ولم يعرفوا بعد دعواه وقتلوه آخراً ولم يعلموا بعد محله ومغزاه .
وقد ورد في التوراة ذكر المشيحا في مواضع كثيرة وذلك هو : المسيح ولكن لم ترد النبوة ولا الشريعة الناسخة .
وورد فارقليط وهو الرجل العالم وكذلك ورد ذكره في الإنجيل فوجب حمله على ما وجد .
وعلى من ادعى غير ذلك تحقيقه وحده .
العيسوية نسبوا إلى أبي عيسى : إسحاق بن يعقوب الأصفهاني وقيل : إن اسمه : عوفيد ألوهيم أي : عابد الله .
كان في زمن المنصور وابتدأ دعوته في زمن ىخر ملوك بني أمية : مروان بن محمد الحمار فأتبعه بشر كثير من اليهود وادعوا له آيات ومعجزات وزعموا : أنه لما حورب خط على أصحابه خطاً بعود آس وقال : أقيموا في هذا الخطن فليس ينالكم عدو بسلاح فكان العدو يحملون عليهم حتى إذا بلغوا الخط رجعوا عنهم خوفاً من طلسم أو عزيمة ربما وضعها ثم إن أبا عيسى خرج من الخط وحده على فرسه فقاتل وقتل من المسلمين كثيراً وذهب إلى أصحاب موسى بن عمران الذين هم وراء النهر الرمل ليسمعهم كلام الله .(13/138)
وقيل : إنه لما حارب أصحاب المنصور بالري : قتل وقتل أصحابه .
زعم أبو عيسى : أنه نبي وأنه : رسول المسيح المنتظر .
وزعم : أن للمسيح خمسة من الرسل يأتون قبله واحداً بعد واحد .
وزعم : أن الله تعالى كلمه وكلفه أن يخلص بني إسرائيل من أيدي الأمم العاصين والملوك الظالمين .
و زعم : أن المسيح افضل ولد آدم وأنه أعلى منزلة من الأنبياء الماضين وإذ هو رسوله فهو أفضل الكل أيضاً .
وكان يوجب تصديق المسيح ويعظم دعوة الداعي ويزعم أيضاً : أن الداعي هو المسيح .
وحرم في كتابه : الذبائح كلها ونهى عن أكل كل ذي روح على الإطلاق : طيراًكان أو بهيمة .
وأوجب عشر صلوات وأمر أصحابه بإقامتها وذكر أوقاتها .
وخالف اليهود في كثير من أحكام الشريعة الكثيرة المذكورة في التوراة .
وتوراة الناس : هي التي جمعها ثلاثون حبراً لبعض ملوك الروم حتى لا يتصرف فيها كل جاهل المقاربة واليوذعانية نسبوا إلى : يوذعان منن همذان : وقيل : كان اسمه : يهوذا .
كان يحث على الزهد وتكثير الصلاة وينهى عن اللحوم والأنبذة وفيما نقل عنه : تعظيم أمر الداعي .
وكان يزعم أن للتوراة : ظاهراً وباطناً وتنزيلاً وتأويلاً .
وخالف بتأويلاته عامة اليهود وخالفهم في التشبيه ومال إلى القدر وأثبت الفعل حقيقة للعبد وقدر الثواب والعقاب عليه وشدد في ذلك .
ومنهم : الموشكانية أصحاب : موشكان .
كان على مذهب يوذعان غير أنه كان يوجب الخروج على مخالفيه ونصب القتال معهم فخرج في تسعة عشر رجلاً فقتل بناحية : قم .
وذكر عن جماعة من الموشكانية : أنهم أثبتوا نبوة المصطفى محمد عليه السلام إلى العرب وسائر الناس سوى اليهود لأنهم أهل ملة وكتاب .(13/139)
وزعمت فرقة من المقاربة : أن الله تعالى خاطب الأنبياء عليهم السلام بواسطة ملك اختاره وقدمه على جميع الخلائق واستخلفه عليهم وقالوا : كل ما في التوراة وسائر الكتب من وصف الله تعالى فهو خبر عن ذلك الملك وإلا فلا يجوز أن يوصف الله تعالى بوصف .
قالوا : وإن الذي كلم موسى عليه السلام تكليماً : هو ذلك الملك والشجرة المذكورة في التوراة : هو ذلك الملك .
ويتعالى الرب تعالى عن أن يكلم بشراً تكليماً .
وحمل جميع ما ورد في التوراة : من طلب الرؤية وشافهت الله وجاء الله و طلع الله في السحاب وكتب التوراة بيده واستوى على العرشس قراراً وله صورة آدم وشعر قطط و وفرة سوداء و انه بكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه وأنه ضحك الجبار حتى بدت نواجذه .
إلى غير ذلك على ذلك الملك
قال : ويجوز في العادة أن يبعث ملكاً روحانياً من جملة خواصه ويلقي عليه اسمه ويقول : هذا هو رسولي ومكانه فيكم مكاني وقوله قولي وأمره أمري وظهوره عليكم ظهوري كذلك يكون حال ذلك الملك .
وقيل إن أرنوس حيث قال في المسيح إنه هو الله وإنه صفوة العالم أخذ قوله من هؤلاء وكانوا قبل أرنوس بأربعمائة سنة وهم أصحاب زهد وتقشف .
وقيل صاحب هذه المقالة هو : بنيامين النهاوندي : قرر لهم هذا المذهب وأعلمهم أن الآيات المتشابهات في التوراة كلها مؤولة وأنه تعالى لا يوصف بأوصاف البشر ولا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يبهه شيء منها وأن المراد بهذه الكلمات الواردة في التوراة : ذلك الملك المعظم .
وهذا كما يحمل في القرآن : المجيء والإتيان على إتيان ملك من الملائكة وهو كما قال تعالى في حق مريم عليها السلام : " فنفخنا فيها من روحنا " وفي موضع آخر : " فنفخنا فيه روحنا " وإنما النافخ جبريل عليه السلام حين تمثل لها بشراً سوياً ليهب لها غلاماً زكياً .(13/140)
السامرة هؤلاء قوم يسكنون : جبال بيت المقدس وقرى من اعمال مصر ويتقشفون في الطهارة أكثر من تقشف سائر اليهود .
أثبتوا نبوة : موسى وهارون ويوشع بن نون عليهم السلام وأنكروا نبوة من بعدهم من الأنبياء إلا نبياً واحداً وقالوا : التوراة ما بشرت إلا بنبي واحد يأتي من بعد موسى يصدق ما بين يديه من التوراة ويحكم بحكمها ولا يخالفها البتة .
وظهر في السامرة رجل يقال له : الألفان ادعى النبوة وزعم أنه هو الذي بشر به موسى عليه السلام وأنه هو الكوكب الدري الذي ورد في التوراة : أنه يضيء ضوء القمر وكان ظهوره قبل المسيح عليه السلام بقريب من مائة سنة .
وافترقت السامرة : إلى دوستانية وهم : الألفانية وإلى كوستانية .
والوستانية معناها : الفرقة المتفرقة الكاذبة .
والكوستانية معناها : الجماعة الصادقة وهم يقرون بالآخرة والثواب والعقاب فيها .
والدوستانية تزهم أن الثواب والعقاب في الدنيا .
وبين الفريقين اختلاف في الأحكام والشرائع .
وقبلة السامرة جبل يقال له غريزيم بين بيت المقدس ونابلس .
قالوا : إن الله تعالى أمر داود أن يبني بيت المقدس بجبل نابلس وهو الطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام فتحول داود إلى إيلياء وبنى البيت ثمة وخالف الأمر فظلم والسامرة توجهوا إلى تلك القبلة دون سائر اليهود .
ولغتهم غير لغة اليهود .
وزعموا : أن التوراة كان بلسانهم وهي قريبة من العبرانية فهذه أربع فرق : هم الكبار وانشعبت منهم الفرق إلى إحدى وسبعين فرقة .
وهم بأسرهم أجمعوا على : أن في التوراة بشارة بواحد بعد موسى وأ نما افتراقهم : إما في تعيين ذلك الواحد أو في الزيادة على ذلك الواحد وذكر المشيحا وآثره ظاهر في الأسفار وخرج واحد من آخر الزمان هو : الكوكب المضيء الذي تشرق الأرض بنوره أيضاً : متفق عليه .
واليهود على انتظاره والسبت يوم ذلك الرجل وهو يوم الاستواء بعد الخلق .(13/141)
وقد اجتمعت اليهود عن آخرهم على أن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض استوى على عرشه مستلقياً على قفاه واضعاً إحدى رجليه على الأخرى .
وقالت فرقة منهم : إن ستة الأيام التي خلق الله تعالى فيها السموات والأرض : هي ستة آلاف سنة فإن يوماً عند الله كألف سنة مما تعدون بالسير القمري وذلك هو ما مضى من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا وبه يتم الخلق .
ثم إذا بلغ الخلق إلى النهاية : ابتدأ الأمر ومن ابتداء الأمر يكون الاستواء على العرش والفراغ من الخلق وليس ذلك أمراً : كان و مضى بل هو في المستقبل إذا عددنا الأيام بالألوف .
الباب الثاني النصارى
النصارى : أمة المسيح عيسى بن مريم : رسول الله وكلمته عليه السلام وهو المبعوث حقاً بعد موسى عليه السلام المبشر به في التوراة .
وكانت له آيات ظاهرة وبينات زاهرة ودلائل باهرة مثل : غحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ونفس وجوده وفطرته : آية كاملة على صدقه وذلك : حصوله من غير نطفة سابقاً ونطقه البين من غير تعليم سالف .
وجميع الأنبياء بلاغ وحيهم أربعون سنة وقد أوحى الله تعالى إليه : إنطاقاً في المهد وأوحى إليه : إبلاغاً عند الثلاثين .
وكانت مدة دعوته : ثلاث سنين وثلاثة أشهر و ثلاثة أيام .
فلما رفع إلى السماء اختلف الحواريون وغيرهم فيه وإنما اختلافاتهم تعود إلى أمرين : أحدهما : كيفية نزوله واتصاله برمه وتجسد الكلمة والثاني : كيفية صعوده واتصاله بالملائكة وتوحد الكلمة .
أما الأول فإنهم قضوا بتجسد الكلمة و لهم في كيفية الاتحاد والتجسد كلام : فمنهم من قال : أشرق على جسدي إشراق النور على الجسم المشف و منهم من قال : انطبع فيهم انطباع النقش في الشمع ومنهم من قال : ظهر به ظهوراً الروحاني بالجسماني ومنهم من قال : تدرع اللاهوت بالناسوت ومنهم من قال : مازجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن الماء والماء اللبن .(13/142)
وأثبتوا لله تعالى أقانيم ثلاثة قالوا : الباري تعالى جوهر واحد يعنون به : القائم بالنفس لا التحيز والحجمية فهو : واحد بالجوهرية : ثلاثة بالأقنومية ويعنون بالأقانيم الصفات : كالوجود والحياة والعلم وسموها : الأب والابن وروح القدس وإنما العلم تدرع وتجسد دون سائر الأقانيم .
وقالوا في الصعود : إنه قتل وصلب قتله اليهود : حسداً وبغياً وإنكاراً لنبوته ودرجته ولكن القتل ما ورد على الجزء اللاهوتي و إنما ورد على الجزء الناسوتي .
قالوا : وكمال الشخص الإنساني في ثلاثة أشياء : نبوة وإمامة وملكة وغيره من الأنبياء كانوا موصوفين بهذه الصفات الثلاث أو ببعضها والمسيح عليه السلام درجته فوق ذلك : لأنه : الابن الوحيد فلا نظير له ولا قياس له إلى غيره من الأنبياء و هو الذي به غفرت ذلة آدم عليه السلام وهو الذي يحاسب الخلق .
ولهم في النزول اختلاف .
فمنهم من يقول : ينزل قبل يوم القيامة كما قال أهل الإسلام ومنهم من يقول : لا زول له إلا يوم الحساب .
وهو بعد أن قتل وصلب نزل ورأى شخصه شمعون الصفا وكلمه وأوصى إليه ثم فارق الدنيا وصعد إلى السماء .
فكان وصيه : شمعون الصفا وهو أفضل الحواريين علماًو زهداً وأدباً غير ان فولوس شوش أمره وصير نفسه شريكاً له وغير أوضاع كلامه وخلطه بكلام الفلاسفة ووساوس خاطرة .
ورأيت رسالة فولوس التي كتبها إلى اليونانيين : أنكم تظنون أن مكان عيسى عليه السلام كمكان سائر الأنبياء و ليس كذلك بل إنه مثله مثل ملكيزداق وهو ملك السلام الذي كان إبراهيم عليه السلام يعطى إليه العشور وكان يبارك على إبراهيم ويمسح رأسه .
ومن العجب : أنه نقل في الأناجيل : أن الرب تعالى قال : انك أنت الابن الوحيد ومن كان وحيداً كيف يمثل بواحد من البشر ! .
ثم أن أربعة من الحواريين اجتمعوا وجمع كل واحد منهم جمعاً سماه : الأنجيل وهم : متى ولوقا ومرقس ويوحنا .(13/143)
وخاتمة إنجيل متى أنه قال : إني أرسلكم إلى الأمم كما أرسلني أبي إليكم فاذهبوا وادعوا الأمم باسم : الأب والابن وروح القدس .
وفاتحة إنجيل يوحنا : على القديم الأزلي قد كانت الكلمة وهو ذا الكلمة كانت عند الله والله هو كان الكلمة وكل كان بيده .
ثم افترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة وكبار فرقهم ثلاثة : الملكانية والنسطورية واليعقوبية .
وانشعبت منها : الإليانية والبليارسية والمقدانوسية والسبالية والبوطنوسية والبولية .
على سائر الفرق
الملكانية أصحاب : ملكا الذي ظهر بأرض الروم والستولى عليها .
و معظم الروم ملكانية .
قالوا : إن الكلمة احدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته : ويعنون بالكلمة : أقنوم العلم ويعنون بروح القدس : أقنوم الحياة ولا يسمون العلم قبل تدرعه ابناً بل المسيح مع ما تدرع به ابن : فقال بعضهم : إن الكلمة ما زجت جسد المسيح كما يمازج الخمر أو الماء اللبن .
وصرحت الملكانية : بأن جوهر غير الأقانيم وذلك كالموصوف والصفة وعن هذا صرحوا بفثبات التثليث وأخبر عنهم القرآن : " لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة " .
وقالت الملكانية : إن المسيح ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم أزلين وقد ولدت مريم عليها السلام إلهاً أزلياً والقتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معاً .
وأطلقوا لفظ الأبوة والنبوة على الله عز وجل وعلى المسيح لما وجددوا في الإنجيل حيث قال : إنك أنت الابن الوحيد وحيث قال له شمعون الصفا : إنك ابن الله حقاً .
ولعل ذلك من مجاز اللغة كما يقال لطلاب الدنيا : أبناء الدنيا ولطلاب الىخرة : أبناء الآخرة وقد قال المسيح عليه السلام للحواريين : أنا أقول لكم : أحبوا اعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لاجل من يؤذيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي تشرق شمسه كما أن اباكم الذي في السماء تام .(13/144)
وقال : انظروا صدقاتكم فلا تعطوها قدام الناس لترءوهم فلا يكون لكم اجر عند ابيكم الذي في السماء .
وقال حين كان يصلب : أذهب إلى أبي وابيكم .
ولما قال أريوس : القديم هو اللهن والمسيح هو مخلوق اجتمعت : البطارقةن والمطارنةن والأساقفة في بلد فسطنطينية بمحضر من ملكهم وكانوا ثلاثمائة وثمانية رجلاً واتفقوا على هذه الكلمة : اعتقاداً ودعوة وذلك قولهم : نؤمن بالله الواحد : الآب : مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد : يسوع المسيح : ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء من أجلنان ومن أجل معشر الناس .
ومن أجل خلاصنا : نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً وحبل به وولد من مريم البتول وقتل وصلب أيام فيلاطوسن ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وجلي عن يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء .
ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه وبمعمودية واحدة : لغفران الخطايا وبجماعةواحدة قدسية مسيحية جاثليقية وبقيام أبداننا وبالحياة الدائمة أبد الىبدين .
هذا هو الإتفاق الأول على هذه الكلمات وفيه إشارة لى حشر الأبدان .
وفي النصارى من قال بحشر الارواح دون الأبدان وقال إن عاقبة الأشرار في القيامة : غم وحزن الجهل وعاقبة الأخيار : سرور وفرح العلم .
وأنكروا أن يكون في الجنة : نكاح وأكل وشربز وقالمار إسحاق منهم إن الله تعالى وعد المطيعين وتوعد العاصين ولا يجوز أن يخلف الوعد لأنه لا يليق بالكريم ولكن يخلف الوعيد فلا يعذب العصاة ويرجع الخلق إلى سرور وسعادة ونعيم وعمم في الكل إذ العقاب الأبدي لا يليق بالجواد الحق تعالى .
النسطورية أصحاب : نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه .(13/145)
وإضافته إليهم إضافة المعتزلة إلى هذه الشريعة .
قال : إن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة : الوجود والعلم والحياة وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات ولا هي هو .
واتحدت الكلمة بجسد عيسى عليه السلام : لا على طريق الامتزاج كما قالت الملكانية ولا على طريق الظهور به كما قالت اليعقوبية ولكن كإشراق الشمس في كوة على بلورة وكظهور النقش في الشمع إذا طبع بالخاتم .
واشبه المذاهب بمذهب نسطور في الأقانيم : احوال أبي هاشم من المعتزلة فإنه يثبت خواص مختلفة لشيء هو مركباً من جنسين بل هو : بسيط وواحد .
ويعنى بالحياة والعلم : أقنومين جوهرين أي اصبين مبدأين للعالم ثم فسر العلم بالنطق والكلمة .
ويرجع منتهى كلامه إلى إثبات كونه تعالى : موجوداًن حياً ناطقاً كما تقول الفلاسفة في حد الإنسان غلا أن هذه المعاني وبعضهم يثبت لله تعالى صفات أخر بمنزلة القدرة والإرادة ونحوهما ولم يجعلوها أقانيم كما جعلوا الحياة والعلم أقنومين .
ومنهم من أطلق القول بأن كل واحد من الأقانيم الثلاثة : حي ناطق إله .
وزعم الباقون : أن اسم الإله لا يطلق على كل واحد من الأقانيم .
وزعموا : أن الابن لم يزل متولداً من الأب وإنماتجسد واتحد بجسد المسيح حين ولد والحدوث راجع إلى الجسد والناسوت فهو : إله وإنسان اتحدا وهما : جوهرانن أقنومان طبيعتان : جوهر قديم وجوهر محدث : إله تام وإنسان تام ولم يبطل الاتحاد قدم القديم ولا حدوث المحدث لكنهما صارا : مسيحاً واحداً طبيعة واحدة .
وربما بدلوا العبارة فوضعوا مكان الجوهر : الطبيعة ومكان الأقنوم : الشخص .
وأما قولهم في : القتل والصلب فيخالف قول الملكانية واليعقوبية قالوا : إن القتل وقع على المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته لان الإله لا تحله الآلام .(13/146)
وبوطينوس وبولس الشمشاطي يقولان : إن الإله واحد وإن المسيح ابتدأ من مريم عليها السلام وإنه : عبد صالح مخلوق إلا أن الله تعالى شرفه وكرمه لطاعته وسماه ابناً على التبني لا على الولادة والاتحاد .
ومن النسطورية قوم يقال لهم : المصلين قالوا في المسيح مثل ما قال نسطور إلا انهم قالوا : إذا اجتهد الرجل في العبادة وترك التغذي باللحم والدسم ورفض الشهوات الحيوانية والنفسانية : تصفى جوهره حتى يبلغ ملكوت السماوات ويرى الله تعالى جهراً وينكشف له ما في الغيب : فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .
ومن النسطورية مكن ينفي التشبيه ويثبت القول بالقدر : خيره وشره من العبد كما قالت القدرية .
اليعقوبية
أصحاب : يعقوب .
قالوا بالأقانيم الثلاثة كما ذكرنا إلا أنهم قالوا : انقلبت الكلمة لحماً .
ودماً فصار الإله هو المسيح وهو الظاهر بجسده بل هو : هو .
وعنهم أخبرنا القرآن الكريم : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم .
فمنهم من قال : إن المسيح هو الله تعالى .
ومنهم من قال : ظهر اللاهوت بالناسوت فصار ناسوت المسيح مظهر الجوهر لا على طريق حلول جزء فيه ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة بل صار هو : هو وهذا كما يقال : ظهر الملك بصورة إنسان أو ظهر الشيطان بصورة حيوان وكما أخبر التنزيل عن جبريل عليه السلام : فتمثل لها بشراً سوياً .
وزعم أكثر اليعقوبية : أن المسيح جوهر واحد .(13/147)
أقنوم واحد إلا أنه من جوهرين وربما قالوا : طبيعة واحدة من طبيعتين فجوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركيباً كما تركبت النفس والبدن فصارا جوهراً واحداً أقنوم واحداً وهو إنسان كله وإله كله فيقال : الإنسان صار إلهاً ولا ينعكس فلا يقال : الإله صار إنساناً كالفحمة تطرح في النار فيقال : صارت الفحمة ناراً ولا يقال : صارت النار فحمة وهي في الحقيقة : لا نار مطلقة ولا فحمة مطلقة بل هي : جمرة .
وزعموا : أن الكلمة اتحدت بالإنسان الجزئي لا الكلي .
ربما عبروا عن الاتحاد بالإمتزاج والأدراع والحلول كحلول صورة الإنسان في المرآة المجلوة .
وأجمع أصحاب التثليث كلهم على أن القديم لا يجوز أن يتحد بالمحدث إلا أن الأقنوم الثاني الذي هو الكلمة اتحدت دون سائر الأقانيم .
وأجمعوا كلهم على أن المسيح عليه السلام ولد من مريم عليها السلام وقتل وصلب ثم اختلفوا في كيفية ذلك فقالت الملكانية واليعقوبية : إن الذي ولد من مريم هو الإله فالملكانية لما اعتقدت أن المسيح ناسوت كلي أزلي قالوا : إن مريم إنسان جزئي والجزئي لا يلد الكلي و إنما ولده الأقنوم القديم .
واليعقوبية لما اعتقدت أن المسيح هو جوهر من جوهرينن وهو إلهن وهو المولود قالوا : إن مريم ولدت إلهاً .
تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً .
وكذلك قالوا في القتل والصلب : إنه وقع على الجوهر الذي هو من جوهرين قالوا : ولو وقع على وزعم بعضهم : أنانثبت وجهين للجوهر القديم فالمسيح : قديم من وجه محدث من وجه .
وزعم قوم من اليعقوبية : أن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئاً لكنها مرت بها كالماء بالميزاب وما ظهر بها من شخص المسيح في الأعين فهو كالخيال والصورة في المرآة وإلا فما كان جسماً متجسماً كثيفاً في الحقيقة .
وكذلك القتل والصلب إنما وقع على الخيال والحسبان وهؤلاء يقال لهم : الإليانية .(13/148)
وهم قوم بالشام واليمن وأرمينية قالوا : وإنما صلب الإله من أجلنا حتى يخلصنا .
وزعم بعضهم : أن الكلمة كانت تداخل جسم المسيح عليه السلام أحياناً فتصدر عنه الآيات : ن إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وتفارقه في بعض الأوقات فترد عليه الآلام في بعض الأوقات فترد عليه الآلام والأوجاع .
ومنهم بليارس وأصحابه حكى عنه أنه كان يقول : إذا صار الناس إلى الملكوت الأعلى : أكلوا ألف سنة وشربوان وناكحوا ثم صاروا إلى النعم التي وعدهم آريوسح وكلها : لذة وراحة وسرور وحبور لا أكل فيهان ولا شرب ولا نكاح .
وزعم مقدانيوس أن الجوهر القديم جوهر واحد أقنوم واحد له ثلاث خواصن واتحد بكليته بجسد عيسى بن مريم عليهما السلام .
وزعم آريوس : أن الله واحد سماه : آبا وأن المسيح كلمة الله وابنه : على طريق الاصطفاء وهو مخلوق قبل خلق العالم وهو خالق الأشياء .
وزعم : أن لله تعالى روحاًمخلوقة أكبر منسائر الأرواح وأنها واسطة بين الآب والابن تؤدي غليه الوحي .
وزعم أن المسيح ابتدأ : جوهراً لطيفاً روحانياً خالصاً غير مركب ولا ممزوج بشيء من الطبائع الأربع وإنما تدرع بالطبائع الأربع عند الاتحاد بالجسم المأخوذ من مريم .
وهذا آريوس قبل الفرق الثلاث فتبرءوا منه لمخالفتهم إياه في المذهب .
الجزء الثالث من له شبهة كتاب
قد بينا كيفية تحقيق الكتاب وميزنا بين حقيقة الكتاب وشبهة الكتاب وأن الصحف التي كانت لإبراهيم عليه السلام كانت : شبهة كتاب وفيها : مناهج علمية ومسالك عملية : أما العلميات فتقرير كيفية الخلق والإبداع وتسوية المخلوقات على سنة نظام وقوام تحصل منها حكمته الأزلية وتنفذ فيها مشيئته السرمدية ثم تقرير التقدير والهداية عليها ليتقدركل نوع وصنف بقدره المحكوم والمحتوم ويقبل هدايته السارية في العالم بقدر استعداده المعلوم .(13/149)
والعلم كل العلم لا يعدو هذين النوعين وذلك قوله تعالى : " سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " وقال عز وجل خبراً عن إبراهيم عليه السلام : " الذي خلقني فهو يهدين " وخبراً عن موسى عليه السلام : " الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " .
وأما العمليات : فتزكية النفوس عن درن الشبهات وذكر الله تعالى بإقامة العبادات ورفض الشهوات الدنيوية وإيثار السعادات الأخروية ولن يحصل البلوغ إلى كمال المعاد إلا بإقامة هذين الركنين أعني : الطهارة والشهادة .
والعمل كل العمل لا يعدو هذين النوعين وذلك قوله تعالى : " قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى " .
ثم قال عز من قائل : " إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى " فبين ان الذي اشتملت عليه الصحف : هو الذي اشتملت عليه هذه السورة .
وبالحقيقة : هذا هو الإعجاز الحقيقي .
المجوس وأصحاب الإثنين والمانوية وسائر فرقهم المجوسية : يقال لها : الدين الأكبر والملة العظمى إذا كانت دعوةالأنبياء عليهم السلام بعد إبراهيم الخليل عليه السلام لم تكن في العموم كالدعوة الخليلية ولم يثبت لها من : القوة والشوكة والملك والسيف .
مثل الملة الحنيفية إذا كانت ملوك العجم كلها على ملة إبراهيم عليه السلام وجميع من كان في زمان كل واحد منهم من الرعايا في البلاد على أديان ملوكهم وكان لملوكهم مرجع هو : موبذ موبذان يعني : أعلم العلماء وأقدم الحكماء يصدرون عن أمره ولا يخالفونه ولا يرجعون إلاإلى رأيه ويعظمونه تعظيم السلاطين لخلفاء الوقت .
وكانت دعوة بني إسرائيل أكثرها في بلاد الشام وما وراءها من المغرب وقلما سرى من ذلك إلى بلاد العجم .(13/150)
وكانت الفرق في زمان إبراهيم الخليل عليه السلام راجعة إلى صنفين إثنين فالصابئة كانت تقول : إنا نحتاج : في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه : إلى متوسط لكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانياً لا جسمانياً وذلك : لزكاء الروحانيات وطهارتها وقربها من رب الأرباب والجسماني بشر مثلنا : يأكل مما نأكل ويشرب مما نشرب يماثلنا في المادة والصورة قالوا : ولئن اطعمتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون .
والحنفاء : كانت تقول : إنا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر تكون درجته : في الطهارة والعصمة والتأييدن والحكمة : فوق الروحانيات : يماثلنا من حيث البشرية ويمايزنا من حيث الروحانية فيتلقى الوحي بطرف الروحانية ويلقى إلى نوع الإنسان بطرف البشرية وذلك قوله تعالى : " قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " وقال عن ذكره : " قل سبحان ربي : هل كنت إلا بشراً رسولاً " .
ثم لما لم يتطرق للصابئة الاقتصار على الروحانيات البحتة والتقرب إليها بأعيانها والتلقي عنها بذواتها .
فزعت جماعة إلى هياكلها : وهي السيارات السبع وبعض الثوابت .
فصابئة النبط والفرس والروم : مفزعها السيارات و صابئة الهند : مفزعها الثوابت .
و سنذكر مذاهبهم على التفصيل على قدر الإمكان بتوفيق الله تعالى .
وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئاً .
والفرقة الأولى : هم عبدة الكواكب والثانية : هم عبدة ولما كان الخليل عليه السلام مكلفاً بكسر المذهبين على الفرقتين و تقرير الحنيفية السمحة السهلة : احتج على عبدة الأصنام : قولاً وفعلاً : كسراً من حيث القول وكسراً من حيث الفعل فقال لأبيه آزر : يا أبت ! لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً .
.
الآيات .(13/151)
حتى : جعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم وذلك إلزام من حيث الفعل وإفحام من حيث الكسر .
ففرغ من ذلك كما قال الله تعالى : " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم " وابتدإ بإبطال مذاهب عبدة الكواكب على صيغة الموافقة : كما قال تعالى : " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض " : أي كما آتيناه الحجة كذلك نريه المحجة فساق الإلزام على أصحاب الهياكل مساق الموافقة في المبدأ والمخالفة في النهاية ليكون الإلزام أبلغ والإفحام أقوى وإلا فإبراهيم الخليل عليه السلام : لم يكن في قوله : هذا ربي : مشركاً كما لم يكن في قوله : بل فعله كبيرهم هذا : كاذباً .
وسوق الكلام من جهة الإلزام غير سوقه على جهة الإلتزام .
فلما أظهر الحجة وبين المحجة : قرر الحنيفية التي هي الملة الكبرى والشريعة العظمى وذلك هو الدين القيم .
وكان الانبياء من أولاده كلهم يقررون الحنيفية وبالخصوص صاحب شرعنا محمد صلوات الله عليه : كان في تقريرها قد بلغ النهاية القصوى وأصحاب المرمى وأصمى .
ومن العجب ! ان التوحيد من أخص أركان الحنيفية ولهذا : نفي الشرك بكل موضع ثم إن التثنية اختصت بالمجوس حتى أثبتوا أصلين إثنين مدبرين قديمين : يقتسمان : الخير والشر والنفع والضر والصلاح والفساد .
يسمون أحدهما : النور والآخر : الظلمة .
وبالفارسية : يزدان وأهرمن .
ولهم في ذلك تفصيل مذهب .
ومسائل المجوس كلها تدور على قاعدتين إثنتين : إحداهما : بيان سبب امتزاج النور بالضلمة والثانية : بيان سبب خلاص النور من الظلمة .
وجعلوا : الامتزاج مبدأ والخلاص معاداً .
الباب الأول
المجوس
أثبتوا أصلين كما ذكرنا إلا أن المجوس الأصلية زعموا : أن الأصلين لا يجوز أن يكونا قديمين أزليين بل النور ازلي والظلمة محدثة .(13/152)
ثم لهم اختلاف في سبب حدوثها : أمن النور حدثت ! والنور لا يحدث شراً جزئياً فكيف يحدث أصل الشر أم من شيء آخر ! ولا شيء يشرك النور في الإحداث والقدم .
وبهذا يظهر خبط المجوس .
وهؤلاء يقولون : المبدأ الأول من الأشخاص : كيومرث وربما يقولون : زروان الكبير والنبي الثاني : زردشت والكيومرثية يقولون : كيومرث هو آدم عليه السلام وتفسير كيومرث هو : الحي الناطق .
وقد ورد في تواريخ الهند والعجم : أن كيومرث هو آدم عليه السلام .
ويخالفهم سائر أصحاب التواريخ .
الكيومرثية أصحاب المقدم الأول : كيومرث .
أثبتوا أصلين : يزدان وأهرمن وقالوا : يزدان أزلي قديم وأهرمن محدث مخلوق وقالوا : إن سبب خلق أهرمن أن يزدانن فكر في نفسه : أنه لو كان لي منازع كيف يكون وهذه الفكرة كانت رديئة غير مناسبة لطبيعة النور فحدث الظلام من هذه الفكرة وسمى : أهرمن وكان مطبوعاً على الشر و الفتنة والفساد والفسق والضرر والإضرار فخرج على النور وخالفه طبيعة وفعلاً وجرت محاربة بين عسكر النور وعسكر الظلمة .
ثم إن الملائكة توسطوا فصالحوا على أن يكون العالم السفلي خالصاً لأهرمن سبعة آلاف سنة ثم يخلى العالم ويسلمه إلى النور والذين كانوا في الدنيا قبل الصلح أبادهم وأهلكهم .
ثم بدأ برجل يقال له : كيومرثن وحيوان يقال له : ثور فقتلهما فنبت من مسقط ذلك الرجل ريباس وخرج من أصل ريباس : رجل يسمى ميشة وامراة اسمها : ميشانة وهما أبوا البشر ونبت من مسقط الثور : الأنعام وسائر الحيوانات .
وزعموا : أن النور خير الناس وهو أرواح بلا أجساد بين أن يرفعهم عن مواضع أهرمن وبين أن يلبسهم الأجساد فيحاربون أهرمن فاختاروا لبس الأجساد ومحاربة أهرمن .
على أن تكون لهم النصرة من عند النور والظفر بجنود أهرمن وحسن العاقبة .
وعند الظفر به وإهلاك جنوده : تكون القيامة .
فذاك : سبب الامتزاج وهذا : سبب الخلاص .(13/153)
الزروانية قالوا : إن النور أبدع أشخاصاً من نور كلها : روحانية نورانية ربانية ولكن الشخص الأعظم اسمه زروان شك في شيء من الأشياء فحدث أهرمن الشيطان من ذلك الشك .
وقال بعضهم : لا بل إن زروان الكبير قام فزمزم تسعة آلاف وتسعمائة وتسعاً وتسعين سنة ليكون له ابن فلم يكن ثم حدث نفسه وفكر وقال : لعل هذا العلم ليس بشيء فحدث أهرمن من ذلك الهم الواحد وحدث هرمز من ذلك العلم فكانا جميعاً في بطن واحد وكان هرمز أقرب من باب الخروج فاحتالاهرمن الشيطان حتى شق بطن أمه فخرج قبله وأخذ الدنيا .
وقيل : إنه لما مثل بين يدي زروان فابصره ورأى ما فيه من الخبث والشرارة والفساد : أبغضه ولعنه وطرده فمضى واستولى على الدنيا .
وأما هرمز فبقى زماناً لا يد له عليه وهو الذي اتخذه قوم ربا وعبدوه لما وجدوا فيه من : الخير والطهارة والصلاح وحسن الأخلاق .
وزعم بعض الزروانية : أنه لم يزل كان مع الله شيء رديء : إما فكرة رديئة وإما عفونة رديئة وذلك هو مصدر الشيطان .
وزعموا أن الدنيا كانت سليمة من : الشرور والآفات والفتن والمحن .
وكان بمعزل عن السماء فاحتال حتى خرق السماء وصعد .
وقال بعضهم : كان هو في السماء والأرض خالية عنه فاحتال حتى خرق السماء ونزل إلى الأرض بجنوده كلها فهرب النور بملائكته واتبعه الشيطان حتى حاصره في جنته وحاربه ثلاثة آلاف سنة لا يصل الشيطان إلى الرب تعالى ثم توسط الملائكة وتصالحا : على أن يكون إبليس وجنوده في قرار الأرض تسعة آلاف سنة بالثلاثة آلاف التي قاتله فيها ثم يخرج إلى موضعه .
ورأى الرب تعالى عن قولهم الصلاح في احتمال المكروه من إبليس وجنوده وأن لا ينقض الشرط حتى تنقضي المدة المضروبة للصلح .
فالناس في : البلايا والفتن والخزايا والمحن .
إلى انقضاء المدةن ثم يعودون إلى النعيم الأول .
وشرط إبليس عليه : أن يمكنه من أشياء يفعلها ويطلقه في أفعال رديئة يباشرها .(13/154)
فلما فرغا من الشرط : أشهدا عليهما عدلين ودفعا سيفهما إليهما وقالا لهما : من نكث فاقتلاه بهذا السيف .
ولست أظن عاقلاً يعتقد هذا الرأي الفائل ويرى هذا الإعتقاد المضمحل الباطل ولعله كان رمزاً إلى ما يتصور في العقل .
ومن عرف الله سبحانه وتعالى بجلاله وكبريائه : لم يسمح بهذه الترهات عقله ولم يسمع مثل هذه الترهات سمعه .
وأقب من هذا ما حكاه أبو حامد الزوزني : أن المجوس زعمت أن إبليس كان لم يزل في الظلمة والجو خلاء بمعزل عن سلطان اللهن ثم لم يزل يزحف ويقرب بحيله حتى رأى النور فوثب وثبة فصار في سلطان الله في النور وأدخل معه هذه الآفات والشرور فخلق الله تعالى هذا العالم شبكة له فوقع فيها وصار متعلقاً بها لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه فهو محبوس في هذا العالم مضرب في الحبس يرمى بالآفات والمحن والفتن إلى خلق الله تعالى فمن أحياه الله رماه بالموت ومن أصحه رماه بالسقم ومن سره رماه بالحزن فلا يزال كذلك إلى يوم القيامة وفي كل يوم ينقص سلطانه حتى لا تبقى له قوة .
فإذا كانت القيامة : ذهب سلطانه وخمدت نيرانه وزالت قوته و اضمحلت قدرته .
فيطرحه في الجو والجو ظلمة ليس لها حد ولا منتهى .
ثم يجمع الله تعالى اهل الأديان فيحاسبهم ويجازيهم على طاعة الشيطان وعصيانه .
وأما المسخية فقالت : إن النور كان وحده نوراً محضاً ثم انمسخ بعضه فصار ظلمة .
وكذلك الخرمدينية : قالوا بأصلين ولهم ميل إلى التناسخ والحلول .
وهم لا يقولون : بأحكام وحلال وحرام .
ولقد كان في كل أمة من الأمم قوم مثل : الإباحية والمزدكية والزنادقة الزرداشتية أولئك هم أصحاب زرددشت ابن بورشب الذي ظهر في زمان كشتاسب ابن لهراسب الملك وأبوه كان من أذربيجان وأمه من الري واسمها : دغدوية .
زعموا : أن لهم أنبياء وملوكاً : او لهم كيومرث وكان أول من ملك الأرض وكان مقامه بإصطخر .(13/155)
وبعده : أوشهنك بن فراوك ونزل أرض الهند وكانت له دعوة ثمة .
وبعده : طهمورث وظهرت الصابئة في أول سنة من ملكه .
وبعده : أخوه جم الملك .
ثم بعده أنبياء وملوك منهم منوجهر ونزل بابل وأقام بها .
وزعموا أن موسى عليه السلام ظهر في زمانه .
حتى انتهى الملك إلى كشتاسب بن لهراسب وظهر في زمانه زردشت الحكيم .
وزعموا : أن الله عز وجل خلق من وقت ما في الصحف الأولى والكتاب الأعلى من ملكوته خلقاً روحانياً فلما مضت ثلاثة آلاف سنة أنفذ مشيئته في صورة من نور متلألأ على تركيب صورة الإنسان و أحف به سبعين من الملائكة المكرمين وخلق الشمس والقمر والكواكب والارض وبني آدم غير متحركة ثلاثة آلاف سنة .
ثم جعل روح زردشت في شجرة أنشأها في أعلى عليين وأحف بها سبعين من الملائكة المكرمين وغرسها في قلة جبل من جبال أذربيجان يعرف باسمويذخر ثم مازج شبح زردشت بلبن بقرة فشربه أبو زردشت فصار : نطفة ثم مضغة في رحم أمه فقصدها الشيطان وعيرها فسمعت أمه نداء من السماء فيه دلالة على برئها فبرئت
ثم لما ولد ضحكك ضحكة تبينها من حضر فاحتالوا على زردشت حتى وضعوه بين مدرجة البقر ومدرجة الخيل ومدرجة الذئب فكان ينهض كل واحد منهم لحمايته من جنسه .
ونشأ بعد ذلك إلى أن بلغ ثلاثين سنة فبعثه الله تعالى : نبياً ورسولاً إلى الخلق .
فدعا : كشتاسب الملك فأجابه إلى دينه .
وكان دينه : عبادة اله والكفر بالشيطان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الخبائث .
وقال : النور والظلمة أصلان متضادان وكذلك يزدان وأهرمن وهما مبدأ موجودات العالمن وحصلت التراكيب من امتزاجهما وحدثت الصور من التراكيب المختلفة .
والباري تعالى خالق النور والظلمة ومبدعهما وهو واحد : لا شريك له ولاضد ولا ند ولا يجوزأن ينسب إليه وجود الظلمة كما قالت الزروانية .(13/156)
لكن : الخير والشر والصلاح والفساد والطهارة والخبث : إنما حصلت من امتزاج النور والظلمة ولو لم يمتزجا لما كان وجود العالم .
وهما : يتقاومان ويتغالبان .
إلى أن يغلب النور الظلمة والخير الشر ثم يتخلص الخير إلى عالمه والشر ينحط إلى عالمه وذلك هو : سبب الخلاص والباري تعالى هو الذي مزجهما وخلطهما لحكمة رآها في التراكيب .
وربما جعل النور أصلاً وقال : وجوده وجود حقيقي وأما الظلمة فتبع كالظل بالنسبة إلى الشخص فإته يرى أنه موجود وليس بموجود حقيقة فأبدع النور وحصل الظلام تبعاً لأن من ضرورة الوجود التضاد فوجوده ضروري وواقع في الخلق لا بالقصد الأول كما ذكرنا في الشخص والظل .
وله كتاب قد صنفه وقيل : إن ذلك أنزل عليه وهو : زند أوستا يقسم العالم قسمين : مبنة وكيتي يعني : الروحاني والجسماني أو : الروح الشخص .
وكما قسم الخلق إلى عالمين يقول : غنما في العالم ينقسم قسمين : بخشش وكنش يريد به : التقدير والفعل وكل واحد مقدر على الثاني .
ثم يتكلم في موارد التكليف وهي : حركات الإنسان فيقسمها ثلاثة أقسام : منش وكويش وكنش يعني بذلك : الإعتقاد والقول والعمل وبالثلاثة يتم التكليف فإذا قصر الإنسان فيها خرج عن الدين والطاعة وإذا جرى في هذه الحركات على مقتضى الأمر والشريعة فاز الفوز الأكبر .
وتدعي الزردشتية له معجزات كثيرة منها : دخول قوائم فرس كشتاسب في بطنه وكان زردشت في الحبس فأطلقه فانطلقت قوائم الفرس .
ومنها : أنه مر على أعمى بالدينور فقال : خذوا حشيشة وصفها لهم واعصروا ماءها في عينه فإنه يبصر ففعلوا فأبصر الأعمى .
وهذا من جملة معرفتهم بخاصية الحشيشة .
وليس من المعجزات في شيء ! .
ومن المجوس الزردشتية صنف يقال لهم : السيسانية والبهافريدية رئيس رجل يقال له سيسان من رستاق نيسابور من ناحية يقال لها : خواف .
خرج في أيام أبي مسلم صاحب الدولة .(13/157)
كان زمزمياً في الأصل يعبد النيرانح ثم ترك ذلكن ودعا المجوس إلى : ترك الزمزمة ورفض عبادة النيران .
ووضع لهم كتاباً وأمرهم فيه بإرسال الشعور وحرم عليهم : الأمهات والبنات والأخوات وحرم عليهم الخمر وأمرهم باستقبال الشمس عند السجود على ركبة واحدة وهم : يتخذون الرباطات ويتباذلون الأموال ولا يأمكلون الميتة ولا يذبحون الحيوان حتى يهرم .
وهم أعدى خلق الله للمجوس الزمازمة .
ثم إن موبذ المجوس رفعه إلى أبي مسلم فقتله على باب الجامع بنيسابور .
وقال أصحابه : إنه صعد إلى السماء على برذون اصفر وأنه سينزل على البرذون فينتقم من أعدائه .
وهؤلاء اقروا بنبوة زردشت وعظموا الملوك الذين يعظمهم زردشت .
ومما خبر به زردشت في كتاب زند أوستا أنه قال : سيظهر في آخر الزمان رجل اسمه أشيزريكا ومعناه : الرجل العالم يزين العالم بالدين والعدل ثم يظهر في زمانه بتيارهن فيوقع الآفة في أمره وملكه عشرين سنة ثم يظهر بعد ذلك أشيزريكا عالاى أهل العالم ويحيي العدل ويميت الجور ويرد السنن المغيرة إلى أوضاعها الأول وتنقاد له الملوك وتتيسر له الأمور وينصر الدين الحق ويحصل في زمانه : الأمن والدعة وسكون الفتن وزوال المحن .
مقالة زردشت في المبادىء وقد نقل الجيهاني في مقالة من المقالات لزردشت في المبادىء : أن دين زردشت : هو الدعوة إلى دين مارسيان وأن معبوده : أورمزد والملائكة المتوسطون في رسالاته إليه : بهمن و أرديبهشت وشهريورن وإ سفندارمز وخرداد ومرداد .
وقد رآهم زردشت واستفاد منهم العلوم .
وجرت مساءلات بينه وبين أورمزد من غير توسط : أولهما : قال زردشت : ما الشيء الذي كان ويكون وهو الآن موجود .
قال اورمزد : أنا والدين والكلام أما الدين فعمل أورمزد وكلامه وإيمانه وأما الكلام فكلامهن والدين أفضل من الكلام إذ العمل أفضل من القول .(13/158)
وأول من أبدع من الملائكة : بهمن وعلمه الدين وخصه بموضع النور مكاناً وأقنعه بذاته ذاتاً فالمبادىء على هذا الرأي ثلاثة .
السؤال الثاني : قال : لم لم تخلق الأشياء كلها في زمان غير متناه إذ قد جعلت الزمان نصفين : نصفه متناه ونصفه غير متناه فلو خلقتها في زمان غير متناه : كان لا يستحيل شيء منها .
قال أورمزد : فإذاً كان لا يمكن أن تفنى ثم آفات الأثيم إبليس .
السؤال الثالث : قال : مما ذا خلقت هذا العالم .
قال أورمزد : خلقت جميع هذا العالم من نفسي : أما أنفس الابرار فمن شعر رأسي وأما السماء فمن أم رأسي والظفر والمعاضد فمن جهتي والشمس فمن عيني والقمر فمن أنفي والكواكب فمن لساني وسروس وسائر الملائكة فمن أذني والأرض فمن عصب رجلي .
وأريت هذا الدين أولاً كيومرث فشعر به وحفظه من غير تعلم ولا مدارسة .
قال زردشت : فلماذا أريت هذا الدين كيومرث بالوهم وألقيته إلي بالقول .
قال : أورمزد : لأنك تحتاج أن تتعلم هذا الدين وتعلمه غيرك وكيومرث لم يجد من يقبله فأمسك عن التكلم وهذا خير لك لأني أقول وأنت تسمع وأنت تقول والناس يسمعون ويقبلون .
فقال زردشت لأورمزد : هل أريت هذا الدين أحداً قبلي غير كيومرث قال : بلى ! أريت هذا الدين جم خمسين نجماً مخمساً من أجل إنكاره الضحاك .
قال : إذاً كنت عالماً أنه لا يقبله فلماذا أريته قال : لو لم أره لما صار إليك وقد أريته أيضاً : أفريدون وكيكاوس وكيقباد وكشتاسب .
قالزردشت : خلقك العالم و ترويجك الدين لأي شيء قال : لأن فناء العفريت الأثيم لا يمكن إلا بخلق العالم وترويج الدين ولو لم يتروج أمر الدين لما أمكن أن تتروج أمور العالم .
فلما إخذ زردشت الدين من أورمز الوهاب واستحكمه وعمل به وزمزم في بيت أبيه عليه .(13/159)
وغاظ ذلك كون الأثيم وأقلقه إذ كان شريراً ممتلئاً موتاً وظلمة وبلاء ومحنة فدعا بشياطنه وأسماؤهم : يرى ديوانياخ ديويهمان زوش ونومر بفنارديو وأمرهم جميعاً بالمسير إلى زردشت وقتله فعلم زردشت بذلك فقرأ وزموم وأراق الماء على يد مارسيان فانهزموا عنه مقهورين .
وجرت محاربات أخرى فهزمهم زردشت بإحدى وعشرين آية من كتابه : أوستا وتوارت الشياطين عن الناس .
ولما بلغ زردشت مبلغ الكمال بأربعين سنة وتمت له المخاطبات في سبع عودات إلى أورمزد اكمل فيها معرفة شرائع دين الله وفرائضه وسسنه .
أمره الله بالمسير إلى كشتاسب الملك وإظهار ذكر الله واسمه فنفذ لأمر الله ودعا ملكين كانا بذلك الصقعة يقال لهما : فوربماراى وبيويدست فدعاهما إلى دين الله والكفر بالشيطان وفعل الخير واجتناب الشر فلم يقبلا قوله وأخذتهما العزة بالإثم فجاءتهما ريح فحملتهما من الأرض ووقفت بهما في الهواء واجتمع الناس ينظرون إليهما فقشيهما الطير من كل ناحية واتوا على لحومهما وسقطت عظامهما على الأرض .
ولما بلغ كشتاسب لقي منه كل ما أنبأه بهأورمزد من الحبس والبلاء حتى حدث أمر الفرس الذيدخلت قوائمه في باطن بدنه حتى لم ير أثرها في جسده واستبهم حاله على الناس وتحيروا وأخرجه كشتاسب من الحبس وسأله الحال فقال : تلك آية من آيات صدقى الذي أخبرني به إلهي وخالقي وشارطهم على الإيمان به إن هو دعا وأخرج قوائم الفرس وشرطوا ودعا باسم الله فخرجت قوائم الفرس كما كانت فآمن به كشتاسب وأمر بجمع علماء أهل زمانه من : بابل وإيران شهر وأمرهم بمحاورة زردشت فناظروه فاعترفوا له بالفضيلةز قال : ومما جاء به زردشت المصطفى من دين مارسيان : أن إلهه أورمزد لم يزل ولم يزل معه شيء سماه : أسنى أسنه وهو شيء مضيء حوله وهو فوق وأن إبليس لم يزل معه شيء سماه : أستا أستاه وهو مظلم حوله .
وهو أسفل .(13/160)
وأول ما خلق الله من الملائكة : بهمن ثم أررديهشت ثم شهريور ثم اسفندارمز ثم خرداد ثم مرداد .
وخلق بعضهم من بعض كما يؤخذ السراج من السراج من غير أن ينقص من الأول شيء وقال لهم : من ربكم وخالقكم فقالوا : أنت ربنا وخالقنا .
وعلم أورمزد أن إبليس ستيتحرك من ظلمته فأعلم بذلك الملائكة وبدأ بإعداد ما يورطه ويدفع شره وأذاه عن عالمه ويبطل إرادته فخلق السماء في خمسة وأربعين يوماً وسمى : كاهينازاى شورم ومهناه : ظهور ضمائر أهل الدنيا .
إلى سائر الكاهينازات المذكورات عندهم وخلق الأرض في خمسة وأربعين يوماً وأول من ابتعثه أورمزد إلى الأرض : كيومرث وقد كان يستنشق النسيم ثلاثة آلاف سنة ثم أخرجه في قامة ثلاثة رجال .
ولما ان جاء وقت تحريك إبليس في ظلمته ارتفع ورأى النور وطمع في الإستيلاء على أسنى أورمزد و تصييره مظلماً ودخل السماء يكيد ثم لكيومرث ثلاثين سنة وصارت نطفته ثلاثة أقسام قسم : أمر الله الأرض أن تحفظه وقسم : أمر سروس الملك أن يحفظه وثلث : اختطفته الشياطين .
وأمر أورمزد بسد الثقوب التي صعد منها إبليس فبقي داخل السماء منقطعاً عن أصله وقوته فانتصب لمنابذة أورمزد ورام الصعود إلى الجنان فدفعه عن ذلك قدر ثلاثة آلاف سنة ثم أعلمه أنه يسعى في الباطل والخسار وبروم ما لا يقدر عليه .
واتفق الأمر بينهما على أن يبقى إبليس وجنوده في قرار الضوء تسعة آلاف سنة ويروى سبعة آلاف سنة ثم يبطل ويحتمل خلقه الأذى في هذه السنين ويصبرون عليه وعلى ما ينالهم : من الفقر والبلاء والموت وسائر الآفات ليعوضهم منها الحياة الدائمة في الجنان .(13/161)
واشترط إبليس لنفسه وشياطينه ثمانية عشر شرطاً : الأول منها : أن تصير معيشة خلقه من خلق الله والثاني : أن يكون ممن خلقه على خلق الله والثالث : أن يصلت خلقه على خلق الله والرابع : أن يخلط جوهر خلقه بجوهر خلق الله والخامس : أن يصير له السبيل لى أن يأخذ الطين الذي في خلق الله والسادس : أن يصير له من النور الذي في خلق الله ما يريد والسابع : أن يصير له من الرياح التي في خلق الله حاجته والثامن : ان يصير له من الرطوبة التي في خلق الله والتاسع : أن يصير له من النار التي في خلق الله والعاشر : أن يصير له من المودة والمصاهرة التي في خلق الله ليخلط الأشرار بالأخيار والحادي عشر : أن يصير له من العقل والبصر الذي في خلق الله ليعرف خلقه مسالك المنافع والمضار والثاني عشر : ان يصير له من العدل الذي في خلق الله ليجعل للأشرار فيه نصيباً والثالث عشر : أن تخفى على الناس معرفة عمل الصالحين والأشرار إلى يوم القيامة والحساب والرابع عشر : أن يصير له السبيل إلى أن يبلغ بأهل بيت الشرارة والخبث غاية الغنى والدرجات ويصيرهم عند الناس صالحين والخامس عشر : أن يصير له السبيل إلى أن يعمر من أهل الدنيا من أراد من خلقه ألف سنة او ثلاثة ىلاف سنة ويصيرهم أغنياء أقوياء قادرين على ما يريدون وأن يلهم الناس حتى يكونوا بإعطاء الأشرار أسخى منهم بإعطاء الأخيار وأطيب نفساً والسابع عشر : أن يصير له السبيل إلى إفناء أهل بيت الصالحين حتى لا يعرف منهم أحد بعد ثلاثمائةو خمسن سنة والثامن عشر : أن يملك امر من : يحيي الأموات ويبقى الأخيار وينفي الأشرار إلى يوم القيامة .
فتمت البيعة واقاما عليها ودفعا سيفيهما إلى عدلين على أن يقتلا من رجع عن شرطه .
وأمر الله تعالى : الشمس والقمر والكواكب .
أن تجري لمعرفة : الأيام والشهور والأعوام .
التي جعلها عدة الإنظارو الإمهال .(13/162)
ومما نص عليه زردشت : ان للعالم قوة إلهية هي المدبرة لجميع ما في العالم المنتهية مبادئها إلى كمالاتها .
وهذه القوة تسمى : مشاسبند وهي : على لسان الصابئة : المدبر الأقرب وعلى لسان الفلاسفة : العقل الفعال ومنه : الفيض الإلهي والعناية الربانية وعلى لسان المانوية : الأرواح الطيبة وعلى لسان العرب : الملائكة وعلى لسان الشرع والكتاب الإلهي : الروح : تنزل الملائكة والروح فيها .
وأثبت غيره : منشاه ومنشاية ويعني بهما : آدم وحواء في العالم الجسماني والعقل والنفس في العالم الروحاني .
الثنوية هؤلاء : هم أصحاب الإثنين الأزليين .
يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان بخلاف المجوس فإنهم قالوا : بحدوث الظلام وذكرواسبب حدوثه .
وهؤلاء قالوا : بتساويهما في القدم واختلافهما : في الجوهر والطبع والفعل والحيز والمكان والأجناس والابدان والارواح .
المانوية
أصحاب ماني بن فاتك الحكيم الذي ظهر في زمان سابور بن أردشير وقتله بهرام بن هرمز بن سابور وذلك بعد عيسى بن مريم عليه السلام .
أحدث ديناً بين المجوسية والنصرانية و كان يقول بنبوة المسيح عليه السلام ولا يقول بنبوة موسى عليه السلام .
حكى محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق وكان في الأصل مجوسياً عارفاً بمذاهب القوم : ان الحكيم ماني زعم : أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين : أحدهماا نور والآخر ظلمة وأنهما : أزليان لم يزالا ولن يزالا وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم وزعم أنهما لم يزالا : قويين حساسين دراكين سميعين بصيرين وهما مع ذلك : في النفسن والصورة والفعل والتدبير .
متضادان .
وفي الحيز : متحاذيان : تحاذي الشخص والظل .
وإنما تتبين جواهرهما وأفعالهما : في هذا النور جوهره : حسن فاضل كريم صاف نقي طيب الريح الظلمة جوهرها : قبيح ناقص لئيم كدر خبيث منتن الريح النور حسن المنظر .
الظلمة قبيحة المنظر .(13/163)
النور نفسه : خيرة كريمة حكيمة نافعة عالمة .
الظلمة نفسها : شريرة لئيمة سفيهة ضارة جاهلة .
النور فعله : الخير والصلاح والنفع والسرور والترتيب والنظام والإتفاق .
الظلمة فعلها : الشر والفساد والضر والغم والتشويش والتتبير والإختلاف .
النور جهته : جهة فوق وأكثرهم على أنه مرتفع من ناحية الشمال و زعم بعضهم أنه تجنب الظلمة .
الظلمة جهتها : جهة تحت وأكثرهم على أنها منحطة من ناحية الجنوب وزعم بعضهم أنها تجنب النور .
النور أجناسه خمسة : أربعة منها أبدان والخامس روحه فالأبدان هي : النار والنور والريح والماء وروحها النسيم وهي تتحرك في هذه الأبدان .
الظلمة أجناسها خمسة : أربعة منها أبدان والخامس روحها .
فالأبدان هي : الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان وتدعى الهامة وهي تتحرك في هذه الأبدان .
النور صفاته حية خيرة طاهرة زكية .
وقال بعضهم : كون النور لم يزل على مثال هذا العالم : له أرض وجو .
فأرض النور : لم تزل لطيفة على غير صورة الأرض وشعاعها كشعاع الشمس ورائحتها أطيب رائحة وألوانها ألوان قوس قزح .
وقال بعضهم : لا شيء إلا الجسم والأجسام على ثلاثة أنواع : أرض النور : أرض وهي خمسة .
وهناك جسم آخر الطف منه وهو : الجو وهو نفس النور .
وجسم آخر وهو ألطف منه وهو النسيم .
قال : ولم يزل يولد النور ملائكة وآلهة وأولياء لا على سبيل المناكحة بل كما تتولد الحكمة من الحكيم والمنطق الطيب من الناطق .
قال : وملك ذلك العالم : هو روحه .
ويجمع عالمه : الخير والحمد والنور .
الظلمة صفاتها ميتة شريرة نجسة دنسة .
و قال بعضهم : كون الظلمة لم تزل على مثال هذا العالم : لها ارض وجو .
فأرض الظلمة : لم تزل كثيفة على غير صورة هذه الأرض بل هي أكثف وأصلب ورائحتها كريهة أنتن الروائح وألوانها ألوان السواد .
وقال بعضهم : لا شيء إلا الجسم .(13/164)
والأجسام على ثلاثة أنواع : أرض الظلمة وجسم آخر أظلم منه وهو الجو .
وجسم آخر اظلم منه وهو السموم روح النور .
قال : ولم تزل تولد الظلمة شياطين وأراكنة وعفاريت لا على سبيل لا على سبيل المناكحة بل كما تتولد الحشرات من العفونات القذرة .
قال : وملك ذلك العالم هو : روحه الشر والذميمة والظلمة .
ثم اختلفت المانوية في : المزاج وسببه والخلاص وسببه : قال بعضهم : إن النور والظلام امتزجا بالخبط والإتفاق لا بالقصد والإختيار .
وقال أكثرهم : إن سبب المزاج أن أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغلن فنظرت الروح فرأت النور فبعثت الأبدان على ممازجة النور فأجابتها لإسراعها إلى الشر فلما رأى ذلك ملك النور وجه إليها ملكاً من ملائكته في خمسة أجناس من أجناسها الخمسة فاختلطت الخمسة النورية بالخمسة الظلامية : فخالط الدخان النسيم وإنما الحياة والروح في هذا العالم من النسيم والهلاك والآفات من الدخان و خالط الحريق النار والنور الظلمة والسموم الريح والضباب الماء .
فما في العالم من : منفعة وخير وبركة فمن أجناس النور ومافيه من : مضرة وشر وفساد فمن أجناس الظلمة .
فلما رأى ملك النور هذا الإمتزاج أمر ملكاً من ملائكته فخلق هذا العالم على هذه الهيئة لتخلص أجناس النور من أجناس الظلمة .
وإنما سارت الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب لاستصفاء أجزاء النور من أجزاء الظلمة : فالشمس تصطفي النور الذي امتزج بشياطين الحر والقمر يصطفي النور الذي امتزج بشياطين البرد والنسيم الذي في الأرض لا يزال يرتفع لأن من شأنها الارتفاع إلى عالمها وكذلك جميع أجزاء النور أبداً في الصعود والارتفاع وأجزاء الظلمة أبداً في النزول والتسفل .
حتى تتخلص الأجزاء من الأجزاء ويبطل الامتزاج وتنحل التراكيب ويصل كل إلى كله وعالمه وذلك هو القيامة والمعاد .(13/165)
قال : ومما يعين في التخليص والتمييز ورفع أجزاء النور : التسبيح والتقديس والكلام الطيب وأعمال البر فترتفع بذلك الأجزاء النورية في عمود الصبح إلى فلك القمر ولا يزال القمر يقبل ذلك من أول الشهر إلى نصفه فيمتلىء فيصير بدراً ثم يؤدي إلى الشمس إلى آخر الشهر وتدفع الشمس إلى نور فوقها .
فيسري ذلك في العالم .
إلى أن يصل إلى النور الأعلى الخالص .
ولا يزال يفعل ذلك حتى لا يبقي من أجزاء النور شيء في هذا العالم إلا قدر يسير منعقد لاتقدر الشمس والقمر على استصفائه فعند ذلك يرتفع الملك الذي يحمل الأرض ويدع الملك الذي يجذب السماوات فيسقط الأعلى على الأسفل ثم توقد نار حتى يضطرم الأعلى والأسفل ولا تزال تضطرم حتى يتحلل ما فيها من النور وتكون مدة الاضطرام : ألفاً وأربعمائة وثمانياًو ستين سنة .
و ذكر الحكيم ماني في باب الألف من الجبلة وفي أول الشابرقان : أن ملك عالم النور في كل أرضه لا يخلو منه شيء وأنه ظاهر باطن وأنه لا نهاية له إلا من حيث تناهى أرضه إلى أرض عدوه .
و قال أيضاً : الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والمزاج المحدث هو : الخير والشر .
وقد فرض ماني على أصحابه : العشر في الأموال كلها والصلوات الأربع في اليوم والليلة والدعاء إلى الحق .
وترك : الكذب والقتل والسرقة والزنا والبخل والسحر وعبادة الأوثان وان يأتي على ذي روح ما يكره أن يؤتى إليه بمثله .
واعتقاده في الشرائع والأنبياء : ان أول من بعث الله تعالى بالعلم والحكمة .
آدم أبو البشر ثم بعث شيثا بعده ثم نوحاً بعده ثم إبراهيم بعده عليهم الصلاة والسلام .
ثم بعث بالبددة إلى أرض الهند وزردشت إلى أرض فارس والمسيح كلمة الله وروحه إلى أرض الروم والمغرب وبولس بعد المسيح إليهم ثم يأتي خاتم النبيين إلى أرض العرب .(13/166)
وزعم أبو سعيد المانوي رئيس من رؤسائهم : أن الذي مضى من المزاج إلى الوقت الذي هو فيه وهو سنة إحدى وسبعين ومائتين من الهجرة : أحد عشر ألفاً وسبعمائة سنة وأن الذي بقي إلى وقت الخلاص : ثلاثمائة سنة .
وعلى مذهبه مدة المزاج .
اثنا عشر الف سنة فيكون قد بقي من المدة خمسون سنة في زماننا هذا : وهو غحدى وعشرون وخمسمائة هجرية .
فنحن في آخر المزاج وبدء الخلاص فغلى الخلاص الكلي وانحلال التراكيب خمسون سنة ! .
المزدكية اصحاب : مزدك ومزدك هو الذي ظهر في أيام قباذ والد أنوشروان فدعا قباذ إلى مذهبه فأجابه .
وطلع أنوشروان على : خزييه وافترائه فطلبه فوجده فقتله .
حكى الوراق : أن قول المزدكية كقول كثير من المانوية : في الكومين والأصلين إلا أن مزدك كان يقول : إن النور يفعل بالقصد والاختيار والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق .
والنور : عالم حساس والظلام : جاهل أعمى .
وإن المزاج كان على الاتفاق والخبط لا بالقصد والاختيار وكذلك الخلاص إنما يقع بالاتفاق دون الاختيار .
وكان مزدك ينهي الناس عن : المخالفة والمباغضة والقتال ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب : النساء والأموال أحل النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركة فيهما كاشتراكهم في : الماء والنار والكلأ .
وحكى عنه : انه أمر بقتل الأنفس ليخلصها من الشر ومزاج الظلمة .
ومذهبه في الاصول والأركان انها ثلاثة : الماء والأرض والنار .
ولما اختلطت حدث عنها : مدبر الخيرن ومدبر الشر فما كان من صفوها فهو مدبر الخير وما كان من كدرها فهو مدبر الشر .
وروي عنه : أن معبوده قاعد على كرسيه في العالم الأعلى على هيئة قعود خسرو في العالم الأسفل وبين يديه أربع قوى : قوة التمييز والفهم والحفظ والسرور كان بين يدي خسرو أربعة أشخاص : موبذان والهربد الأكبر والأصهبدن والرامشكر .(13/167)
وتلك الأربع يدبرون امر العالم بسبعة من وراءهم : سالار وبيشكار وبالون وكازران ودستور وكوذك .
وهذه السبعة تدور في إثني عشر روحانيين : خوانندهن ودهنده وستاننده وبرنده خور ننده ودونده وخيزنده وكشنده وزننده وكنندهن وآبنده و شونده وباينده .
و كل إنسان اجتمعت له هذه القوى الأربع والسبع والإثنا عشر : صار ربانياً في العالم السفلي و ارتفع عنه التكليف .
قال : وإن خسرو العالم الأعلى إنما يدبر بالحروف التي مجموعها الاسم الأعظم ومن تصور من تلك الحروف شيئاً انفتح له السر الأكبر ومن حرم ذلك بقي في عمى الجهل والنسيان والبلادة والغم : في مقابلة القوى الأربع الروحانية .
وهم فرق : الكوذية وابو مسلمية والماهانية والإسبيد خانمكية .
والكوذية بنواحي : الأهواز وفارس وشهرزور والآخر بنواحي : سغدسمرقند والشاش وإيلاق .
الديلصانية أصحاب ديصان .
اثبتوا اصلين : نوراً وظلاماً فالنور : يفعل الخير قصداً واختياراً والظلام : يفعل الشر طبعاً واضطراراً فما كان من : خير ونفع وطيب وحسن فمن النور وما كان من : شر وضرر ونتن وقبح فمن الظلام .
وزعموا أن النور : حي عالم قادرن حساس دراك ومنه تكون الحركة والحياة .
والظلام : ميت جاهل عاجز جمام موات لا فعل له ولا تمييز وزعموا أن الشر يقع منه طباعاً وخرقاً وزعموا أن النور جنس واحد وكذلك الظلام جنس واحد وأن ادراك النور ادراك متفق فإن سمعه وبصره وسائر حواسه : شيء واحد فسمعه هو بصره وبصره هو حواسه وإن ما قيل : سميع بصير لاختلاف التركيب لا لأنهما في نفسهما شيئان مختلفان .
وزعموا : أن اللون هو الطعم وهو الرائحة وهو المحسة وإنما وجده لوناً لأن الظلم خالطته ضرباً من المخالطة ووجده طعماً لأنها خالطته بخلاف ذلك الضرب وكذلك القول في لون الظلمة وطعمها ورائحتها ومحستها .(13/168)
وزعموا : أن النور بياض كله وأن الظلام سواد كله وزعموا : أن النور لم يزل يلقي الظلمة بأسفل صفحة منه وأن الظلمة لم تزل تلقاه بأعلى صفحة منها .
واختلفوا في المزاج والخلاص : فزعم بعضهم أن النور داخل الظلمة والظلمة تلقاه بخشونة وغلظ فتاذى بها وأحب أن يرققها ويلينها ثم يتخلص منها وليس ذلك لاختالف جنسهما ولكن كما أن المنشار جنسه حديد وصفحته لينة وأسنانه خشنة فاللين في النور والخشونة في الظلمة وهما جنس واحد فتلطف النور بلينه حتى يدخل تلك الفرج فما أمكنه إلا بتلك الخشونة فلا يتصور الوصول إلى كمال وجود إلا بلين وخشونة .
وقال بعضهم : بل الظلام لما احتال حتى تشبثت بالنور من أسفل صفحته فاجتهد النور حتى يتخلص منه ويدفعه عن نفسه فاعتمد عليه فلجج فيه وذلك بمنزلة الإنسان الذي يريد الخروج من وحل وقع فيه فيعتمد على رجله ليخرج فيزداد لجوجاً فيه .
فاحتاج النور إلى زمان ليعالج التخلص منه والتفرد بعالمه .
وقال بعضهم : إن النور إنما دخل أجزاء الظلام اختياراً ليصلحها ويستخرج منها أجزاء صالحة لعالمه فلما دخل تشبثت به زماناً فصار يفعل الجور والقبيح اضطراراً لا اختياراً ولو افرد في عالم ما كان يحصل منه إلا الخير المحض والحسن البحت .
وفرق بين الفعل الاضطراري وبين الفعل الاختياري .
المرقيونية أصحاب : مرقيون .
أثبتوا أصلين قديمين متضادين : أحدهما النورن والثاني الظلمة و أثبتوا أصلاً ثالثاً هو : المعدل الجامع وهو سبب المزاج فإن المتنافرين المتضادين لا يمتزجان إلا بجامع .(13/169)
وقالوا : إن الجامع دون النور في المرتبة وفوق الظلمة وحصل من الإجتماع والامتزاج هذا العام ومنهم من يقول الامتزاج إنما حصل بين الظلمة والمعدل إذ هو أقرب منها فامتزجت به لتطيب به وتلتذ بملاذه فبعث النور إلى العالم الممتزج روحاً مسيحية وهو روح الله وابنه : تحنناً على المعدل الجامع السليم الواقع في شبكة الظلام الرجيم حتى يخلصه من حبائل الشياطين فمن اتبعه فلم يلامس النساء ولم يقرب الزهومات : أفلت ونجا ومن خالفه : خسر وهلك .
قالوا : وإنما أثبتنا المعدل لأن النور الذي هو الله تعالى : لا يجوز عليه مخالطة الشياطين وأيضاً فإن الضدين يتنافران طبعاً ويتمانعان ذاتاً ونفساً فكيف يجوز اجتماعهما وامتزاجهما فلا بد من معدل يكون بمنزلة دون النور وفوق الظلام فيقع الامتزاج منه .
وهذا على خلاف ما قالته المانوية وإن كان ديصان أقدم وإنما أخذ ماني منه مذهبه وخالفه في المعدل .
وهو أيضاً خلاف ما قال زردشت فإنه يثبت التضاد بين النور والظلمة ويثبت المعدل كالحاكم على الخصمين الجامع بين المتضادين : لا يجوز أن يكون طبعه وجوهره من أحد الضدين : وهو الله عز وجل الذي لا ضد له ولا ند .
وحكى محمد بن شبيب عن الديصانية أنهم زعموا : أن المعدل هو الإنسان الحساس الدراك إذ هو ليس بنور محض ولا ظلام محض .
حكي عنهم : أنهم يرون المناكحةة وكل ما فيه منفعة لبدنه وروحه حراماً ويحترزرن عن ذبح الحيوان لما فيه من الألم .
وحكي عن قوم من الثنوية : أن النور والظلمة لا يزالا حيين إلا أن النور حساس عالم والظلام جاهل أعمى والنور يتحرك حركة مستوية مستقيمة والظلام يتحرك حركة عجرفية خرقاء معوجة .(13/170)
فبينا هما كذلك إذ هجم بعض هامات الظلام على حاشية من حواشي النور فابتلع النور منه قطعة على الجهل لا على القصد والعلم ثم إن النور الأعظم دبر في الخلاص فبنى هذا العالم ليستخلص ما امتزج به من النور ولا يمكنه استخلاصه إلا بهذا التدبير .
الكينوية والصيامية والتناسخية منهم : حكي جماعة من المتكلمين أن الكينوية زعموا أن الأصول ثلاثة : النار والأرض والماء .
وإنما حدثت الموجودات من هذه الأصول دون الأصلي الذين أثبتهما الثنوية .
قالوا : والنار بطبعها : خيرة نورانية والماء ضدها في الطبع فما كان من خير في هذا العالم فمن النار وما كان من شر فمن الماء والأرض متوسطة .
وهؤلاء يتعصبون للنار شديداً من حيث أنها : علوية نورانية لطيفة : لا وجود إلا بها ولا بقاء إلا بإمدادها .
والماء يخالفها في الطبع فيخالفها في الفعل والأرض متوسطة بينهما .
فتركيب العالم من هذه الأصول .
والصيامية منهم : أمسكوا عن طيبات الرزق وتجردوا لعبادة الله وتوجهوا في عباداتهم إلى النيران تعظيماً لها وأمسكوا أيضاً عن النكاح والذبائح .
والتناسخية منهم : قالوا بتناسخ الأرواح في الأجساد والانتقال من شخص إلى شخص وما يلقي الإنسان من : الراحة والتعب والدعة والنصب : فمرتب على ما أسلفه من قبل وهو في بدن آخر جزاء على ذلك .
والإنسان أبداً في أحد أمرين : إما في فعل وإما في جزاء .
وما هو فيه : فإما مكافئة على عمل قدمه وإما عمل ينتظر المكافأة علية .
والجنة والنار في هذه الأبدان وأعلى عليين : درجة النبوة وأسفل السافلين : دركة الحية فلا وجود أعلى من درجة الرسالة ولا وجود أسفل من دركة الحية .
ومنهم من يقول : الدرجة الأعلى درجة الملائكة والأسفل دركة الشياطين .(13/171)
ويخالفون بهذا المذهب سائر الثنوية فإنهم يعنون بأيام الخلاص : رجوع أجزاء النور إلى عالمه الشريف الحميد وبقاء أجزاء الظلام في عالمه الخسيس الذميم .
وأما بيوت النيران للمجوس : فأول بيت بناه أفريدون : بيت نار بطوس وآخر بمدينة بخارى هو بردسون .
واتخذ بهن بيتاً بسجستان يدعى : كركوا .
ولهم بيت نار آخر في نواحي بخارى يدعى قباذان وبيت نار يسمى كويسة بين فارس وأصبهان بناه كيخسرو .
وآخر بقومس يسمى : جرير .
وبيت نار يسمى كنكدز بناه سياوش في مشرق الصين .
وآخر بأرجان من فارس واتخذه أرجان جد كشتاسب وهذه البيوت كات قبل زردشت .
ثم جدد زردشت بيت نار بنيسابور وآخر بنسة .
وأمر كشتاسب أن يكلب ناراً كان يعظمها جم فوجدها بمدينة خوارزم فنقلها إلى دارابجرد وتسمى أذرخرهو المجوس يعظمونها أكثر من غيرها .
وكيخسرو لما خرج إلى غزو أفراسياب عظمها وسجد لها ويقال : إن انوشروان هو الذي نقلها إلى كاريان فتركوا بعضها وحملوا بعضها إلى نسا .
وفي بلاد الروم على أبواب قسطنطينية : بيت نار اتخذه سابور ابن أردشير فلم يزل كذلك إلى أيام المهدي وبيت نار بإستينيا على قرب مدينة السلام لبوران بنت كسرى .
وكذلك بالهند والصين : بيوت نيران .
وأما اليونانيون : فكان لهم ثلاثة أبيات ليست فيها نار وقد ذكرناها : والمجوس إنما يعظمون النار لمعان فيها منها : أنها جوهر شريف علوي ومنها : أنها ما أحرقت الخليل إبراهيم عليه السلام ومنها : ظنهم أن التعظيم لها ينجيهم في المعاد من عذاب النار .
وبالجملة هي : قبلة لهمن هذا آخر تفصيل أرباب الديانات والملل .
وبعد هذا شرح آهل الأهواء والنحل والحمد لله وحده
القسم الثاني
أهل الأهواء والنحل من الصابئة والفلاسفة وآراء العرب في الجاهلية وآراء الهند وهؤلاء : يقابلون أرباب الديانات تقابل التضاد كما ذكرنا .(13/172)
واعتمادهم على : الفطرة السليمة والعقل الكامل والذهن الصافي .
فمن : معطل بطال لا يرد عليه فكره براد ولا يهديه عقله ونظره إلى اعتقاد ولا يرشده فكره وذهنه إلى معاد قد ألف المحسوس وركن إليه وظن أنه لا عالم سوى ما هو فيه : من مطعم شهين ومنظر بهي ولا عالم وراء هذا المحسوس .
وهؤلاء : هم الطبيعيون الدهريون لا يثبتون معقولاً .
ومن : محصل نوع تحصيل قد ترقى عن المحسوس وأثبت المعقول لكنه لا يقول بحدود وأحكام وشريعة وإسلام ويظن أنه إذا حصل المعقول وأثبت للعالم مبدأً ومعاداً : وصل إلى الكمال المطلوب من جنسه فتكون سعادته على قدر إحاطته وعلمه وشقاوته بقدر سفاهته وجهله .
وعقله هو المستبد بتحصيل هذه السعادة ووضعه هو المستعد لقبول تلك الشقاوة .
وهؤلاء : هم الفلاسفة الإلهيون قالوا : الشرائع وأصحابها : أمرر مصلحية عامية والحدود والأحكام والحلال والحرام : أمور وضعية وأصحاب الشرائع : رجال لهم حكم عملية وربما يؤيدون من عند واهب الصور بإثبات أحكام ووضع حلال وحرام : مصلحة للعباد وعمارة للبلاد وما يخبرون عنه من الأمور الكائنة في حال من أحوال عالم الروحانيين من : الملائكة والعرش والكرسي واللوح والقلم .
فإنما هي أمور معقولة لهم قد عبروا عنها بصورة خيالية جسمانية وكذلك ما يخبرون به من أحوال المعاد من الجنة والنار مثل : قصور وأنهار وطور وثمار في الجنة فترغيبات للعوام بما يميل إليه طباعهم وسلاسل وأغلال وخزي ونكال في النار فترهيبات للعوام بما ينزجر عنه طباعهم وإلا ففي العالم العلوي لا يتصور أشكال جسمانية وصور جرمانية .
وهذا أحسن ما يعتقدونه في الأنبياء عليهم السلام لست أعني بهم : الذين أخذوا علومهم من مشكاة النبوة وغنما أعني بهؤلاء : الذين كانوا في الزمن الأول : دهرية وحشيشية وطبيعية وإلهيية قد اغتروا بحكمهم واستقلوا بأهوائهم وبدعهم .(13/173)
ثم يتلوهم ويقرب منهم : قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية وربما أخذوا أصولها وقوانينها من مؤيد بالوحي إلا انهم اقتصروا على الأول منهم وما نفذوا إلى الآخر .
وهؤلاء : هم الصابئة الأولى الذين قالوا بعاذيمون وهرمس وهما : شيث وإدريس عليهما السلام ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء عليهم السلام والتقسيم الضابط أن نقول : من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول وهم : السوفسطائية .
ومنهم من يقول بالمحسوس ولا يقول بالمعقول وهم : الطبيعية .
ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول ولا يقول بحدود وأحكام وهم : الفلاسفة الدهرية .
ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والأحكام ولا يقول بالشريعة والإسلام وهم : الصابئة .
ومنهم من يقول بهذه كلها وبشريعة ما وإسلام ولا يقول بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهم : المجوس واليهود والنصارى .
ومنهم من يقول بهذه كلها وهم : المسلمون .
ونحن قد فرغنا عمن يقول بالشرائع والأديان فنتكلم الآن فيمن لا يقول بها ويستبد برأيه وهواه في مقابلتهم .
الجزء الأول الصابئة
قد ذكرنا فيما تقدم أن الصبوة في مقابلة الحنيفية .
وفي اللغة : صبأ الرجل : إذا مال وزاغ فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء .
قيل لهم : الصابئة .
وقد يقال : صبأ الرجل إذا عشق وهوى .
وهم يقولون : الصبوة : هي الانحلال عن قيد الرجال .
وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين .
والصابئة تدعي : أن مذهبها هو الاكتساب والحنفاء تدعي : أن مذهبها هو الفطرة .
فدعوة الصابئة إلى الاكتساب ودعوة الحنفاء إلى الفطرة .
الباب الأول أصحاب الروحانيات
وفي العبارة لغتان : روحاني بالضم من الروح وروحاني بالفتح من الروح .
والروح والروح متقاربان فكأن الروح : جوهر والروح : حالته الخاصة به .(13/174)
مذهب أصحاب الروحانيات ومذهب هؤلاء : أن للعالم صانعاً فاطراً حكيماً مقدساً عن سمات الحدثان .
والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه وهم : الروحانيونن المطهرون المقدسون : جوهراً وفعلاً وحالةً .
أما الجوهر : فهم المقدسون عن المواد الجسمانية المبرأ ونعن القوى الجسدانية المنزهون عن الحركات المكانية والتغيرات الزمانية قد جبلوا على الطهارة وفطروا على التقديس والتسبيح : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
وإنما أرشدنا إليهم معلمنا الأول عاذيمون وهرمس .
فنحن نتقرب إليهم ونتوكل عليهم وهم أربابنا وآلهتنا ووسائلنا وشفعاؤنا عند الله وهو رب الأرباب وإله الآلهة : رب كل شيء وملكه .
فالواجب علينا : أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية حتى تحصل مناسبة ما : بيننا وبين الروحانيات فحينئذ نسأل حاجاتنا منهم ونعرض أحوالنا عليهم ونصبو في جميع أمورنا إليهم فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم .
وهذا التطهير والتهذيب ليس يحصل غلا باكتسابنا ورياضتنا وفطامنا أنفسنا عن دنيات الشهوات باستمداد من جهة الروحانيات .
والاستمداد هو التضرع والابتهال بالدعوات وإقامة الصلوات وبذل الزكوات والصيام عن المطعومات والمشروبات وتقريب القرابين والذبائح وتبخير البخورات وتعزيم العزائم فيحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة بل يكون حكمنا وحكم من يدعي الوحي على وتيرة واحدة .
قالوا : والأنبياء أمثالنا في النوع وأشكالنا في الصورة : يشاركوننا في المادة يأكلون مما نأكل ويشربون مما نشرب ويساهموننا في الصورة : أناس بشر مثلنا فمن أين لنا طاعتهم وبأية مزية لهم لزمت متابعته : ولأن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون .
مقالتهم .(13/175)
وأما الفعل فقالوا : الروحانيات : هم الأسباب المتوسطون في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حال إلى حال وتوجيه المخلوقات من مبدأ إلى كمال يستمدون القوة من الحضرة القديسة ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية .
فمنها مدبرات الكراكب السبعة السيارة في أفلاكها وهي هياكلها فلكل روحاني هيكل ولكل هيكل فلك ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به نسبة الروح إلى الجسد فهو ربه ومدبره ومديره .
وكانوا يسمون الهياكل : أرباباً وربما يسمونها : آباء والعناصر : أمهات .
ففعل الروحانيات : تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات فيتبعها قوى جسمانية وتركب عليها نفوس روحانية مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان .
ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحاني كلي وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئي فمع جنس المطر ملك ومع كل قطرة ملك .
ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجو : مما يصعد من الأرض فينزل مثل : الأمطار والثلوج والبرد والرياح .
ومما ينزل من السماء مثل : الصواعق والشهب .
ومما يحدث في الجو من الرعد والبرق والسحاب والضباب وقوس قزح وذوات الأذناب والهالة والمجرة .
ومما يحدث في الأرض مثل : الزلازل والمياه والأبخرة .
إلى غير ذلك .
ومنها متوسطات القوى السارية في جميع الموجودات ومدبرات الهداية الشائعة في جميع الكائنات حتى لا نرى موجوداً ما خالياً عن قوة وهداية إذا كان قابلاً لهما .
قالوا : وأما الحالة : فأحوال الروحانيات من الروح والريحان والنعمة واللذة والراحة والبهجة والسرور في جوار رب الأرباب .
كيف يخفي .
ثم طعامهم وشرابهم : التسبيح والتقديس والتهليل والتمجيد والتحميد .(13/176)
وأنهم بذكر الله تعالى وطاعته فمن قائم ومن راكع ومن ساجد ومن قاعد لا يريد تبديل حالته لما هو فيه من البهجة واللذة ومن خاشع بصره لا يرفع ومن ناظر لا يغمض ومن ساكن لا يتحرك ومن متحرك لا يسكن ومن كروبي في عالم القبض ومن روحاني في عالم البسط .
لا يعصون الله ما أمرهم .
ويفعلون ما يؤمرون .
مناظرات بين الصابئة والحنفاء وقد جري مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء في المفاضلة بين الروحاني المحض وبين البشرية النبوية .
ونحن أردنا أن نوردها على شكل سؤال وجواب .
وفيها فوائد لا تحصى : قالت الصابئة الروحانيات أبدعت إبداعاً لا من شيء : لا مادة ولا هيولى وهي كلها جوهر واحد على صنف واحد وجواهرها أنوار محضة لا ظلام فيها وهي من شدة ضيائها : لا يدركها الحس ولا ينالها البصر ومن غاية لطافتها : يحار فيها العقل ولا يجول فيها الخيال .
ونوع الإنسان : مركب من العناصر الأربعة مؤلف من مادة وصورة والعناصر متضادة ومزدوجة بطباعها : اثنان منها مزدوجان واثنان مكنها متضادان .
ومن التضاد يصدر الاختلاف والهرج ومن الازدواج يحصل الفساد والمرج .
فما هو مبدع لا من شيء لا يكون كمخترع منشئ .
والمادة والهيولى سنخ الشر ومنبع الفساد فالمركب منها ومن الصورة : كيف يكون كمحض الصورة والظلام : كيف يساوي النور والمحتاج إلى الازدواج والمضطر في هوة الاختلاف : كيف يرقي إلى درجة المستغني عنهما ! أجابت الحنفاء بأن قالت : بم عرفتم معاشرة الصابئة وجود هذه الروحانيات والحس ما دلكم عليه والدليل ما أرشدكم إليه .
قالوا : عرفنا وجودها وتعرفنا أحوالها من عاذيمون وهرمس : شيث وإدريس عليهما السلام .
قالت الحنفاء : لقد ناقضتم وضع مذهبكم : فإن غرضكم في ترجيح الروحاني على الجسماني نفي متوسط البشري فصار نفيكم إثباتاً .
وعاد إنكاركم إقراراً .(13/177)
ثم من الذي يسلم أن المبدع لا من شيء اشرف من المخترع من شيء ! بل وجانب الروحاني أمر واحد .
وجانب الجسماني أمران : أحدهما نفسه وروحه والثاني حسه وجسده فهو من حيث الروح مبدع بأمر الله تعالى ومن حيث الجسد مخترع بخلقه ففيه أثران : أمري وخلقي : قولي .
وفعلي .
فساوى الروحاني بجهة وفضله بجهة خصوصاً إذا كانت جهته الخلقية ما نقصت الجهة الأخرى : بل كملت وطهرت .
وإنما الخطأ عرض لكم من وجهين : أحدهما : أنكم فاضلتم بين الروحاني المجرد والجسماني المجرد فحكمتم بأن الفضل للروحاني وصدقتم .
لكن المفاضلة بين الروحاني المجرد .
والجسماني والروحاني المجتمع ولا يحكم عاقل بأن الفضل للروحاني المجرد : فإنه بطرف ساواه وبطرف سبقه والفرض فيما إذا لم يدنس بالمادة ولوازمها ولم تؤثر فيه أحكام التضاد والازدواج بل كان مستخدماً لها بحيث لا تنازعه في شيء يريده ويرضاه بل صارت معينات له على الغرض الذي لأجله : حصل التركيب وعطلت الوحدة والبساطة وذلك تخليص النفوس التي تدنست بالمادة ولوزمها وصارت العلائق عوائق .
وليت شعري ! ماذا يشين اللباس الحسن الشخص الجميل وكيف يزري اللفظ الرائق بالمعنى المستقيم ونعم ما قيل : إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها فليس إلى حسن الثناء سبيل هذا كمن خاير بين اللفظ المجرد والمعنى المجرد : اختار المعنى قيل له : لا بل خاير بين المعنى المجرد والعبارة والمعنى حتى لا يشكل إذ المعنى اللطيف في العبارة الرشيقة أشرف من المعنى المجرد .(13/178)
والوجه الثاني : أنكم ما تصورتم من النبوة إلا كمالاً وتماماً فحسب ولم يقع بصركم على أنها كمال هو مكمل غيره ففاضلتم بين كمالين مطلقاًن وما حكمتم إلا بالتساوي وترجيح جانب الروحاني ! ونحن نقول : ما قولكم في كمالين : أحدهما كامل والثاني كامل ومكمل عالماً : أيهما أفضل قالت الصابئة نوع الإنسان ليس يخلو من قوتي الشهوة والغضب و هما ينزعان إلى البهيمية والسبعية وينازعان النفس الإنسانية إلى طباعها فيثور من الشهوية : الحرص والأمل ومن الغضبية : الكبر والحسد .
إلى غيرهما من الأخلاق الذميمة .
فكيف يماثل من هذه صفته نوع الملائكة المطهرين عنهما وعن لوازمهما ولواحقهما : صافية أوضاعهم عن النوازع الحيوانية كلها خالية طباعهم عن القواطع البشرية بأسرها لم يحملهم الغضب على حب الجاه ولا حملتهم الشهوة على حب الماء بل طباعهم مجبولة على المحبة والموافقة وجواهرهم مفطورة على الألفة والاتحاد ! أجابت الحنفاء بأن هذه المغالطة مثل الأولى حذو النعل بالنعل : فإن في طرف البشرية نفسين : نفس حيوانية لها قوتان : قوة الغضب وقوة الشهوة ونفس إنسانية لها قوتان : قوة علمية وقوة عملية .
وبتينك القوتين لها أن تجمع وتمنع وبهاتين القوتين لها أن تقسم الأمور وتفصل الأحوال ثم تعرض الأقسام والأحوال على العقل .
فيختار العقل الذي هو كالبصر النافذ له : من العقائد : الحق دون الباطل ومن الأقوال : الصدق دون الكذب ومن الأفعال : الخير دون الشر ويختار بقوته العملية من لوازم القوى الغضبية : الشدة الشجاعة والحمية دون الذلة والجبن والنذالة ويختار بها أيضاً من لوازم القوة الشهوية : التآلف والتودد والبذاذة دون الشرة والمهانة والخساسة .
فيكون من أشد الناس حمية على خصمه وعدوه ومن أرحم الناس تذللاً وتواضعاً لوليه وصديقه .(13/179)
وإذا بلغ هذا الكمال فقد استخدم القوتين واستعملهما في جانب الخير ثم يترقى منه إلى إرشاد الخلائق في تزكية النفوس عن العلائق وإطلاقها عن قيد الشهوة والغضب وإبلاغها إلى حد الكمال .
ومن المعلوم أن كل نفس شريفة عالية زكية هذه حالها لا تكون كنفس لا تنازعها قوة أخرى على خلاف طباعها وحكم العنين العاجز في امتناعه عن تنفيذ الشهوة لا يكون كحكم المتصوم الزاهد المتورع في إمساكه عن قضاء الوطر مع القدرة عليه فإن الأول : مضطر عاجز والثاني : مختار قادر حسن الاختيار .
جميل التصرف .
وليس الكمال والشرف في فقدان القوتين وإنما الكمال كله في استخدام القوتين .
فنفس النبي عليه السلام كنفوس الروحانيين : فطرة ووضعاً وبذلك الوجه وقعت الشركة .
وفضلها وتقدمها : باستخدام القوتين التي دونها فلم تستخدمه قالت الصابئة : الروحانيات صور مجردة عن المواد .
وإن قدر لها أشخاص تتعلق بها : تصرفاً وتدبيراً لا ممازجة ولا مخالطة فأشخاصها نورانية أو هياكل كما ذكرنا والفرض أنها إذا كانت صوراً مجردة كانت موجودات بالفعل لا بالقوة : كاملة لا ناقصة والمتوسط يجب أن يكون كاملاً حتى يكمل غيره .
وأما الموجودات البشرية فصور في مواد وإن قدر لها نفوس فنفوسها : إما مزاجية وإما خارجة عن المزاج .
والفرض أنها إذا كانت صوراً في مواد كانت موجودات بالقوة لا بالفعل ناقصة لا كاملة والمخرج من القوة إلى الفعل يجب أن يكون أمراً بالفعل ويجب أن يكون غير ذات ما يحتاج إلى الخروج فإن ما بالقوة لا يخرج بذاته من القوة إلى الفعل بل بغيره .(13/180)
والروحانيات هي المحتاج إليها حتى تخرج الجسمانيات إلى الفعل والمحتاج إليه كيف يساوي المحتاج ! أجابت الحنفاء هذا الحكم الذي ذكرتموه - وهو كون الروحانيات موجودات بالفعل غير مسلم على الإطلاق لأن من الروحانيات ما يكون وجوده بالقوة أو ما هو فيه : وجود بالقوة ويحتاج إلى ما وجوده بالفعل حتى يخرجه من القوة إلى الفعل فإن النفس لها استعداد القبول من العقل عندكم والعقل له إعداد لكل شيء وفيض على كل شيء وأحدهما بالقوة والآخر بالفعل وهذا لضرورة الترتب في الموجودات العلوية فإن من لم يثبت الترتب فيها لم تتمشى له قاعدة عقلية أصلاً وإذا ثبت الترتب فقد ثبت الكمال في جانب والنقصان في جانب فليس كل روحاني كاملاً من كل وجه ولا كل جسماني ناقصاً من كل وجه .
فمن الجسمانيات أيضاً ما وجوده كامل بالفعل وسائر النفوس أيضاً محتاجة إليه وذلك أيضاً لضرورة الترتب في الموجودات السفلية .
وإن من لم يثبت الترتب لم تستمر له قاعدة عقلية أصلاً وإذا ثبت الترتب فقد ثبت الكمال في جانب والنقصان في جانب فليس كل جسماني ناقصاً من كل وجه .
قالت : وإذا سلمتم لنا أن هذا العالم الجسماني في مقابلة ذلك العالم الروحانين وإنما يختلفان من حيث أن ما في هذا العالم من الأعيان فهو آثار ذلك العالم وما في ذلك العالم من الصور فهو مثل هذا العالم والعالمان متقابلان كالشخص والظل وإذا أثبتم في ذلك العالم موجوداً ما بالفعل كاملاً تاماً حتى تصدر عنه سائر الموجودات : وجوداً ووصولاً إلى الكمال .
فيجب أن تثبتوا في هذا العالم أيضاً موجوداً ما بالفعل كاملاً تاماً حتى تصدر عنه سائر الموجودات : تعلماً ووصولاً إلى الكمال .
قالوا : وإنما طريقنا إلى التعصب للرجال ونيابة الرسل في الصورة البشرية طريقكم في إثبات الأرباب عندكم وهي الروحانيات السماوية وذلك احتياج كل مربوب إلى رب يدبره ثم احتياج الأرباب إلى رب الأرباب .(13/181)
ومن العجب أن عند الصابئة أكثر الروحانيات قابلة منفعلة وإنما الفاعل الكامل واحد وعن هذا صار بعضهم إلى أن الملائكة إناث وقد اخبر وإذا كان الفاعل الكامل المطلق واحداً فما سواه : قابل محتاج إلى مخرج يخرج ما فيه بالقوة إلى الفعل .
فكذلك نقول في الموجودات السفلية : النفوس البشرية كلها قابلة للوصول إلى الكمال بالعلم والعمل فتحتاج إلى مخرج يخرج ما فيها بالقوة إلى الفعل والمخرج هو النبي والرسول .
وما هو مخرج الشيء من القوة إلى الفعل لا يجوز أن يكون أمراً بالقوة محتاجاً فإن لم يتحقق بالفعل وجوداً : لا يخرج غيره من القول إلى الفعل فالبيض لا يخرج البيض من القوة إلى صورة الطير بل الطير يخرج البيضة .
وهذا الجواب يماثل الجواب الأول من وجه وفيه فائدة أخرى من وجه آخر : وهي : أن عند الحنفاء : المعقول لا يكون معقولاً حتى يثبت له مثال في المحسوس وإلا : كان متخيلاً موهوماً والمحسوس لا يكون محسوساً حتى يثبت له مثال في المعقول وإلا : كان سراباً معدوماً .
وإذا ثبتت هذه القاعدة فمن أثبت عالماً روحانياً وأثبت فيه مدبراً كاملاً من جنسه : وجوده بالفعل وفعله إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل بفيض الصور عليها على قدر الاستحقاق فيلزمه ضرورة أن يثبت عالماً جسمانياً ويثبت فيه مدبراً كاملاً من جنسه : وجوده بالفعل وفعله إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل بفيض الصور عليها على قدر الاستحقاق .
ويسمى المدبر في ذلك العالم الروح الأول على مذهب الصابئة والمدبر في هذا العالم الرسول على مذهب الحنفاء .
ثم يكون بين الرسول والروح مناسبة وملاقاة عقلية فيكون الروح الأول مصدراً والرسول مظهراً .
ويكون بين الرسول وسائر الشر مناسبة وملاقاة حسية فيكون الرسول مؤدياً والبشر قابل .
قال الصابئة : الجسمانيات مركبة من مادة وصورة والمادة لها طبيعة عدمية .(13/182)
وإذا بحثنا عن أسباب : الشر والفساد والسفه والجهل : لم نجد لها سبباً سوى المادة والعدم وهما منبعا الشر .
والروحانيات غير مركبة من المادة والصورة بل هي صور مجردة والصورة لها طبيعة وجودية .
وإذا بحثنا عن أسباب : الخير والصلاح والحكمة والعلم : لم نجد لها سبباً سوى الصورة وهي منبع الخير .
فنقول : ما فيه أصل الخير أو ما هو أصل الخير كيف يماثل ما فيه أصل الشر ! أجابت الحنفاء : بأن ما ذكرتم في المادة أنها سبب الشر فغير مسلم فإن من المواد ما هو سبب الصور كلها عند قوم وذلك هو الهيولى الأولى والعنصر الأول حتى صار كثير من قدماء الفلاسفة إلى أن وجودها قبل وجود العقل .
ثم إن سلم في المركب من المادة والصورة كالمركب من الوجوب والجواز عندكم فإن الجواز له طبيعة عدمية وما من وجود سوى وجود الباري تعالى إلا وجوده جائز بذاته واجب بغيره فيجب أن يلازمه أصل الشر .
قالوا : وإن سلم لكم أيضاً تلك المقدمة فعندنا صور النفوس البشرية وخصوصاً صور النفوس النبوية كانت موجودة قبل وجود المواد وهي المبادئ الأولى حتى صار كثير من الحكماء إلى إثبات أناس سرمديين وهي الصور المجردة التي كانت موجودة قبل العقل كالظلال حول العرش : يسبحون بحمد ربهم وكانت هي أصل الخير ومبدأ الوجود ولكن لما ألبست الصور البشرية لباس المادة : تشبثت بالطبيعة وصارت المادة شبكة لها فساح عليها الواهب الأول فبعث إليها واحداً من عالمه وألبسه لباس المادة ليخلص الصور عن الشبكة لا ليكون هو المتشبث بها المنغمس فيها المتوسخ بأوضارها المتدنس بآثارها .
وإلى هذا المعنى أشار حكماء الهند رمزاً بالحمامة المطوقة والحمامات الواقعة في الشبكة .
ثم قالوا : معاشر الصابئة ! أبداً تشنعون علينا بالمادة ولوازمها وما لم نفصل القول فيها : لم ننج من تشنيعكم .(13/183)
فنقول : النفوس البشرية وخصوصاً النبوية من حيث أنها نفوس فهي مفارقة للمادة مشاركة لتلك النفوس الروحانية : إما مشاركة في النوع بحيث يكون التمييز بالأعراض والأمور العرضية وأما مشاركة في الجنس بحيث يكون الفصل بالأمور الذاتية ثم زادت على تلك النفوس باقترانها بالجسد أو بالمادة .
والجسد لم ينتقص منها بل كملت هي لوازم الجسد وكملت بها حيث استفادت من الأمور الجسدانية ما تجسدت بها في ذلك العالم : من العوم الجزئية والأعمال الخلقية .
والروحانيات فقدت هذه الأبدان لفقدان هذا الاقتران فكان الاقتران : خيراً لا شر فيه وصلاحاً لا فساد معه ونظاماً لا فسخ له .
فكيف يلزمنا ما ذكرتموه .
قالت الصابئة : الروحانيات : نورانية علوية لطيفة والجسمانيات : ظلمانية سفلية كثيفة فكيف يتساويان والاعتبار في الشرف والفضيلة بذوات الأشياء وصفاتها ومراكزها ومحالها .
فعالم الروحانيات : العل لغاية النور واللطافة وعالم الجسمانيات : السفل لغاية الكثافة والظلمة .
العالمان متقابلان والكمال للعلوي لا للسفلي .
والصفتان متقابلتان والفضيلة للنور لا للظلمة .
أجابت الحنفاء : قالوا : لسنا نوافقكم أولاً : على أن الروحانيات كلها نورانية ولا نساعدكم ثانياً : أن الشرف للعلو ولا نساهلكم أصلاً : أن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء .
وعلينا بيان هذه المقدمات الثلاث فإن فيها فوائد كثيرة : أما الأولى : فقالوا : حكمتم على الروحانيات حكم التساوي وما اعتبرتم فيها التضاد والترتب وإذا كانت الموجودات كلها روحانيها وجسمانيها على قضية التضاد والترتب فلما أغفلتم الحكمين ههنا ! وذلك أن من قال : الروحاني هو ما ليس بجسماني فقد أدخل جواهر الشياطين والأبالسة والأراكنة في جملة الروحانيات وكذلك من أثبت الجن أثبتها روحانية لا جسمانية ثم من الجن من هو مسلم ومنها من هو ظالم .(13/184)
ومن قال الروحاني هو المخلوق روحاً فمن الأرواح ما هو خير ومنها ما هو شرير والأرواح الخبيثة أضداد الأرواح الطيبة فلا بد إذن من إثبات تضاد بين الجنسين وتنافر بين الطرفين .
فلم نسلم دعواكم : أنها كلها نورانية .
بلى ! وعندنا معاشر الحنفاء الروح : هو الحاصل بأمر الباري تعالى الباقي على مقتضى أمره : فمن كان لأمره تعالى أطوع وبرسالات رسله أصدق : كانت الروحانية فيه أكثر والروح عليه أغلب ومن كان لأمره تعالى أنكر وبشرائعه أكذب : كانت الشيطنة عليه أغلب .
هذه قاعدتنا في الروحانيات فلا روحاني أبلغ في الروحانية من ذوات الأنبياء والرسل عليهم السلام .
وأما قولكم : إن الشرف للعلو : إن عنيتم به علو الجهة فلا شرف فيه فكم من عال جهة : سافل رتبة وعلماً وذاتاً وطبيعة وكم من سافل جهة : عال على الأشياء كلها رتبة وفضيلة وذاتاً وطبيعة .
وأما قولكم : إن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء وصفاتها ومحالها ومراكزها فليس بحق وهو مذهب اللعين الأول حيث نظر إلى ذاته وذات آدم عليه السلام ففضل ذاته إذ هي مخلوقة من النار وهي علوية نورانية على ذات آدم وهو مخلوق من الطين وهو سفلي ظلمائي .
بل عندنا الاعتبار في الشرف : بالأمر وقبوله : فمن كان أقبل لأمره وأطوع لحكمه وأرضى بقدره : فهو أشرف ومن كان على خلاف ذلك : فهو أبعد وأخس وأخبث .
فأمر الباري تعالى هو الذي يعطي الروح : قل : الروح من أمر ربي وبالروح يحيا الإنسان الحياة الحقيقية وبالحياة يستعد للعقل الغريزي وبالعقل يكتسب الفضائل ويجتنب الرذائل .
ومن لم يقبل أمر الباري تعالى : فلا روح له ولا حياة له ولا عقل له ولا فضيلة له ولا شرف عنده .
قالت الصابئة : الروحانيات فضلت الجسمانيات بقوتي : العلم والعمل .(13/185)
أما العلم فلا ينكر إحاطتهم بمغيبات الأمور عنا وإطلاعها على مستقبل الأحوال الجارية عليه ولأن علومها كلية وعلوم الجسمانيات جزئية وعلومهم فعلية وعلوم الجسمانيات انفعالية وعلومهم فطرية وعلوم الجسمانيات كسبية .
فمن هذه الوجوه : تحقق لها الشرف على الجسمانيات .
وأما العمل فلا ينكر أيضاً عكوفهم على العبادة ودوامهم على الطاعة : يسبحون الليل والنهار لا يفترقون لا يلحقهم كلال ولا سآمة ولا يرهقهم ملال ولا ندامة .
فتحقق لها الشرف أيضاً بهذا الطرف وكان أمر الجسمانيات بالخلاف من ذلك .
أجابت الحنفاء : عن هذا بجوابين : أحدهما : التسوية بين الطرفين وإثبات زيادة في جانب الأنبياء عليهم السلام .
والثاني بيان ثبوت الشرف في غير العلم والعمل .
أما الأول : فإنهم قالوا : علوم الأنبياء عليهم السلام كلية وجزئية وفعلية وانفعالية وفطرية وكسبية فمن حيث تلاحظ عقولهم عالم الغيب منصرفة عن عالم الشهادة تحصل لهم العلوم الكلية : فطرة ودفعة واحدة ثم إذا لاحظوا عالم الشهادة حصلت لهم العلوم الجزئية : اكتساباً بالحواس على ترتيب وتدريج فكما أن للإنسان علوماً نظرية هي المعقولات وعلوماً حاصلة بالحواس عن المحسوسات فعالم المعقولات بالنسبة إلى الأنبياء كعالم المحسوسات بالنسبة إلى سائر الناس فنظرياتنا فطرية لهم ونظرياتهم لا نصل إليها قط بل ومحسوساتنا مكتسبة لهم ولنا بكواسب الجوارح : جوارح الحواس .
فأمزجه الأنبياء عليهم السلام أمزجة نفسانية ونفوسهم نفوس عقلية وعقولهم عقول أمرية فطرية
ولو وقع حجاب في بعض الأوقات فذاك لموافقتنا ومشاركتنا كي تزكي هذه العقول وتصفي هذه الأذهان والنفوس وإلا فدرجاتهم وراء ما يقدر .
وأما الثاني فإنهم قالوا : من العجب أنهم لا يعجبون بهذه العلوم بل ويؤثرون التسليم على البصيرة والعجز على القدرة والتبرؤ من الحول والقوة على الاستقلال والفطرة على الاكتساب .(13/186)
وما أدرى ما يفعل به ولا بكم على إنما ما أوتيته على علم عندي .
ويعلمون أن الملائكة والروحانيات بأسرها وإن علمت إلى غاية قوة نظرها وإدراكها ما أحاطت بما أحاط به علم الباري تعالى بل لكل منهم : مطرح نظر ومسرح فكر ومجال العقل ومنتهى أمل ومطار وهم وخيال .
وإنهم إلى الحد الذي انتهى نظرهم إليه مستبصرون ومن ذلك الحد إلى ما وراءه ما لا يتناهى مسلمون مصدقون وإنما كمالهم في التسليم لما لا يعلمون والتصديق لما يجهلون ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ليس كمال حالهم بل سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا هو الكمال .
فمن أين لكم معاشر الصابئة أن الكمال والشرف في العلم والعمل لا في التسليم والتوكل .
وإذا كانت غاية العلوم هذه الدرجة فجعلت نهاية أقدام الملائكة والروحانيين : بداية أقدام السالين من الأنبياء والمرسلين : قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله فعالم الروحانيات بالنسبة إليهم شهادة وبالنسبة إلينا غيب وعالم البشر الجسمانيات بالنسبة إلينا شهادة وبالنسبة إليهم غيب .
والله تعالى : هو الذي يعلم السر وأخفى .
قالت الحنفاء : من علم أنه لا يعلم فقد أحاط بكل العلم ومن اعترف بالعجز عن أداء الشكر فقد أدى كل الشكر .
قالت الصابئة الروحانيات : لهم قوة تصريف الأجسام وتقليب الأجرام والقوة التي لهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب فتنحسر ولكن القوى الروحانية بالخواص الجسمانية أشبه وإنك لترى الخامة اللطيفة من النبات في بدء نموها تفتق الحجر وتشق الصخر وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من القوة السماوية ولو كانت هي قوى مزاجية : لما بلغت إلى هذا المنتهى .
فالروحانيات هي التي تتصرف في الأجسام تقليباً وتصريفاً لا يثقلهم حمل الثقيل ولا يستخفهم تحريك الخفيف : فالرياح تهب بتحريكها والسحاب يعرض ويزول بتصريفها وكذلك الزلازل تقع في الجبال بسبب من جهتها .(13/187)
وكل هذه وإن استندت إلى أسباب جزئية .
فإنها تستند في الآخرة إلى أسباب من جهتها .
ومثل هذه القوة : عديم الوجود في الجسمانيات .
أجابت الحنفاء : وقالوا : منا يقتبس : تفصيل القوى وتجنيسها .
فإن القوى تنقسم إلى : قوى معدنية وقوى نباتية وقوى حيوانية وقوى إنسانية وقوى ملكية وقوى روحانية وقوى نبوية ربانية .
والإنسان : مجمع القوى بجملتها والإنسانية النبوية : تفضلها بقوى ربانية ومعان إلهية .
فنذكر أولاً : وجه تركيب الإنسان ووجه ترتيب القوى فيه ثم نذكر : تركيب البشرية النبوية وترتيب القوى فيها ثم نخاير بين الوضعين : الروحاني منهما والجسماني وإليك الاختيار .
أما شخص الإنسان فمركب من الأركان الأربعة : التراب والماء والهواء والنار التي لها الطبائع الأربعة : اليبوسة والرطوبة والحرارة والبرودة ثم مركب فيه نفوس ثلاثة : إحداها : نفس نباتية : تنمو وتتغذى وتولد المثل والثانية : نفس حيوانية : تحس وتتحرك بالإرادة والثالثة : نفس إنسانية : بها يميز ويفكر ويعبر عما يفكر .
ووجود النفس الأولى : من الأركان وطباعها وبقاءها بها واستمدادها منها ووجود النفس الثانية : من الأفلاك وحركاتها وبقاؤها بها واستمدادها منها ووجود النفس الثالثة : من العقول البحتة والروحانيات الصرفة وبقاؤها بها واستمدادها منها .
ثم إن النباتية تطلب الغذاء طبعاً والحيوانية تطلب الغذاء حساً والإنسانية تطلب الغذاء اختياراً وعقلاً .
ولكل نفس منها محل فمحل النباتية : الكبد ومنه مبدأ النمو والنشوء وعن هذا جعل فيه عروق دقاق ينفذ فيها الغذاء إلى الأطراف .
ومحل الحيوانية : القلب ومنه مبدأ تدبير الحس والحركة وعن هذا فتح منه عروق إلى الدماغ فيصعد إلى الدماغ من حرارته ما يعدل تلك البرودة وينزل منه من آثاره ما يدبر به الحركة .(13/188)
ومحل الإنسانية تصريفاً وتدبيراً : الدماغ ومنه مبدأ الفكر والتعبير عن الفكر وعن هذا فتحت إليه أبواب الحواس مما يلي هذا العالم وفتحت إليه أبواب المشاعر مما يلي ذلك العالم .
وههنا ثلاثة أعضاء ممدات لا بد منها : المعدة التي تمد الكبد بالغذاء والرئة التي تمد القلب بترويح الهواء والعروق التي تمد الدماغ بالحرارة .
فإن : التركيب الإنساني أشرف التراكيب فهو مجمع آثار الكونين والعالمين فكل ما هو في العالم منتشر ففيه مجتمع وكل ما هو فيه من خواص الاجتماع فليس للعالم البتة لأن للاجتماع والتركيب خاصية لا توجد في حال الافتراق والانحلال .
واعتبر هذا وجه تركيب البدن وترتيب القوى الخاصة به .
وأما وجه اتصال النفس به وترتيب القوى الخاصة بها مما يلي هذا العالم ومما يلي ذلك العالم فاعلم أن النفس الإنسانية جوهر هو أصل القوى : المحركة والمدركة والحافظة للمزاج : تحرك الشخص بالإرادة لا في جهات ميله الطبيعي وتتصرف في أجزائه ثم في جملته وتحفظ مزاجه عن الانحلال وتدرك بالمشاعر المركوزة فيه : وهي الحواس الخمسة فبالقوة الباصرة تدرك الألوان والأشكال وبالقوة السامعة تدرك الأصوات والكلمات وبالقوة الشامة تدرك الروائح وبالقوة الذائقة تدرك المطعومات وبالقوة اللامسة تدرك الملموسات وله فروع من قوى منبثة في أعضاء البدن حتى إذا أحس بشيء من أعضائه أو تخيل أو توهم أو اشتهى أو غضب .
ألفى العلاقة التي بينه وبين تلك الفروع هيئة فيه حتى يفعل وله إدراك وقوة تحريك .
أما الإدراك فهو أن يكون مثال حقيقة المدرك : متمثلاً مرتسماً في ذات المدرك غير مباين له .
ثم المثال : قد يكون مثال صورة الشيء وقد يرتسم في القوة الباصرة وقد غشيته غواش غريبة عن ماهيته لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ماهيته مثل : أين وكيف ووضع وكم .(13/189)
معينة لو توهم بدلها غيرها لم يؤثر في ماهية ذلك المدرك والحس يناله من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة : لا يجردها عنه ولا يناله إلا بعلاقة وضعية بين حسه ومادته .
ثم الخيال الباطن يتخيله مع تلك العوارض التي لا يقدر على تجريده المطلق عنها لكنه يجرده عن تلك العوائق الوضعية التي تعلق بها الحس فهو يتمثل صورة مع غيبوبة حاملها وعنده مثال العوارض لا نفس العوارض ثم الفكر العقلي يجرده عن تلك العوارض فيعرض ماهيته وحقيقته على العقل فيرتسم فيه مثال حقيقته حتى كأنه عمل بالمحسوس عملاً جعله معقولاً .
وأما ما هو بريء في ذاته عن الشوائب المادية منزه عن العوارض الغريبة فهو معقول لذاته ليس يحتاج إلى عمل يعمل فيه فيعقله ما من شأنه أن يعقله فلا مثال له يتمثل في العقل ولا ماهية له فيجرد له ولا وصول إليه بالإحاطة والفطرة إلا أن البرهان يدلنا عليه ويرشدنا إليه .
وكثيراً ما يلاحظ العقل الإنساني عالم العقل الفعال فيرتسم فيه من الصور المجردة المعقولة ارتساماً بريئاً عن العوائق المادية والعوارض الغريبة فيبتدر الخيال إلى تمثله فيمثله في صورة خيالية مما يناسب عالم الحس فينحدر إلى الحس المشترك ذلك المثال فيبصره كأنه يراه معايناً مشاهداً يناجيه ويشاهده حتى كأن العقل عمل بالمعقول عملاً جعله محسوساً وذلك إنما يكون عند اشتغال الحواس كلها عن أشغالها وسكون المشاعر عن حركاتها : في النوم لجماعة .
وفي اليقظة للأبرار .
يا عجباً كل العجب من تركيب على هذا النمط ! ! ومن أين لغيره مثله ونعود إلى ترتيب القوى وتعيين محالها أما القوى المتعلقة بالبدن التي ذكرناها آلات ومشاعر للجوهر الإنساني : فالأولى منها : الحس المشترك المعروف ببنطاسيا الذي هو مجمع الحواس ومورد المحسوسات وآلتها الروح المصبوب في مبادئ عصب الحس لا سيما في مقدم الدماغ .
والثانية : الخيال والمصورة .(13/190)
وآلتها الروح المصبوب في البطن والمقدم من الدماغ لا سيما في الجانب الأخير .
والثالثة : الوهم الذي هو لكثير من الحيوان وهو ما به تدرك الشاة معنى في الذئب فتنفر منه وبه تدرك معنى في النوع فتنفر إليه وتزدوج به وآلته الدماغ كله لكن الأخص منه به هو التجويف الأوسط .
والرابعة : المفكرة وهي قوة لها أن تركب وتفصل ما يليها من الصور المأخوذة عن الحس المشترك والمعاني الوهمية المدركة بالوهم فتارة تجمع وتارة تفصل وتارة تلاحظ العقل فتعرض عليه وتارة تلاحظ الحس فتأخذ منه وسلطانها في الجزء الأول من وسط الدماغ وكأنها قوة ما للوهم وتتوسط بين الوهم والعقل .
والخامسة : القوة الحافظة وهي التي كالخزانة لهذه المدركات : الحسية والوهمية والخيالية دون العقلية الصرفة فإن المعقول البحت لا يرتسم في جسم ولا في قوة في جسم والحافظة قوة في جسم وآلتها الروح المصبوب في أول البطن المؤخر من الدماغ .
والسادسة : القوة الذاكرة وهي التي تستعرض ما في الخزانة على جانب العقل أو على الخيال والوهم وآلتها الروح المصبوب في آخر البطن المؤخر من الدماغ .
وأما المعقول الصرف المبرأ عن الشوائب المادية فلا يحل في قوة جسمانية وقوة جسدانية حتى يقال : ينقسم بانقسامها ويتحقق لها وضع ومثال ولهذا لم تكن القوة الحافظة خزانة لها بل المصدر الأول الذي أفاض عليها تلك الصورة ار خازناً لها فحيثما طالعته النفس الإنسانية بقوتها العقلية المناسبة لواهب الصور نوعاً من المناسبة فاضت منه عليها تلك الصور المستحفظة له حتى كأنه ذكرها بعدما نسيت ووجدها بعدما ضلت عنه .
وغريزة النفس الصافية تنزع إلى جانب القدس في تذكار الأمور الغائبة عن حضرة العقل نزاعاً طبيعياً فتستحضر ما غاب عنها ولهذا السر أخبر الكتاب الإلهي : " واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً " .(13/191)
حتى صار كثير من الحكماء إلى أن العلوم كلها تذكار وذلك أن النفوس كانت في البدء الأول في عالم التذكار ثم هبطت إلى عالم النسيان فاحتاجت إلى مذكرات لما قد نسيت معيدات إلى ما كانت قد ابتدأت : : وذكر فإن الذكرى ثم للنفس الإنسانية : قوى عقلية لا جسمانية وكمالات نفسانية روحانية لا جسدانية : فمن قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن وهي القوة التي تختص باسم العقل العملي وذلك أن تستنبط الواجب فيما يجب أن يفعل ولا يفعل .
ومن قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تكميل جوهرها عقلاً بالفعل وإنما يخرج من القوة إلى الفعل بمخرج غير ذاتها لا محالة فيجب أن يكون لها قوة استعدادية تسمى عقلاً هيولانياً حتى يقبل من غيرها ما به يخرجها من الاستعداد إلى الكمال .
فأول خروج لها إلى الفعل حصول قوة أخرى من واهب الصور يحصل لها عند استحضار المعقولات الأول فيتهيأ بها لاكتساب الثواني : إما بالفكر أو الحدس فيتدرج قليلاً قليلاً إلى أن يحصل لها ما قدر لها من المعقولات ولكل نفس استعداد إلى حد ما لا يتعداه ولكل عقل حد ما لا يتخطاه فيبلغ إلى كماله المقدر له ويقتصر على قوته المركوزة فيه .
ولا يتبين ههنا : وجود التضاد بين النفوس والعقول ووجوب الترتب فيها .
وإنما يعرف مقادير العقول ومراتب النفوس : الأنبياء والمرسلون الذين اطلعوا على الموجودات كلها : روحانياتها وجسمانياتها معقولاتها ومحسوساتها كلياتها وجزئياتها علوياتها وسفلياتها .
فعرفوا مقاديرها وعينوا موازينها ومعاييرها .
وكل ما ذكرناه من القوى الإنسانية فهي حاصلة لهم مركبة فيهم منصرفة كلها عن جانب الغرور إلى جانب القدس مستديمة الشروق بنور الحق فيها حتى كأن كل قوة من القوى الجسدانية والنفسانية ملك روحاني : موكل بحفظ ما وجه إليه واستتمام ما رشح له .(13/192)
بل ومجموع جسده ونفسه : مجمع آثار العالمين من الروحانيات والجسمانيات وزيادة أمرين : أحدهما : ما حصل له من فائدة التركيب والترتيب كما بينا من مثال السكر والخل .
والثاني : ما أشرق عليه من الأنوار القدسية : وحياًن وإهاماً ومناجاة وإكراماً .
فأين للروحاني هذه الدرجة الرفيعة والمقام المحمود والكمال الموجود بل ومن أين للروحانيات كلها هذا التركيب الذي خص نوع الإنسان به وما تعلقوا به من القوة البالغة على تحريك الأجسام وتصريف الأجرام : فليس يقتضي شرفاً فإن ما يثبت لشيء ويثبت لضده مثله لم يتضمن شرفاً .
ومن المعلوم أن الجن والشياطين قد ثبت لهم من القوة البالغة والقدرة الشاملة ما يعجز كثير من الموجودات عن ذلك وليس ذلك مما يوجب شرفاً وكمالاً .
وإنما الشرف في استعمال كل قوة فيما خلقت له وأمرت به وقدرت عليه .
قالت الصابئة الروحانيات لها اختيارات صادرة من الأمر .
متوجهة إلى الخير مقصورة على نظام العالم وقوام الكل لا يشوبها البتة شائبة الشر وشائبة الفساد بخلاف اختيار البشر فإنه متردد بين طرفي الخير والشر لولا رحمة الله في حق البعض وإلا : فوضع اختيارهم كان ينزع إلى جانب الشر والفساد إذا كانت الشهوة والغضب المركوزتان فيهم يجرانهم إلى جانبهما .
وأما الروحانيات فلا ينازع اختيارهم إلا التوجه إلى وجه الله تعالى وطلب رضاه وامتثال أمره فلا جرم ! : كل اختيار هذا حاله لا يتعذر عليه ما يختاره فكما أراد واختار : وجد المراد وحصل المختار .
وكل اختيار ذلك حاله تعذر عليه ما يختاره فلا يوجد المراد ولا يحصل المختار .
أجابت الحنفاء بجوابين : أحدهما نيابة عن جنس البشر والثاني نيابة عن الأنبياء عليهم السلام .
أما الأول : فنقول : اختيار الروحانيات إذا كان مقصوراً على أحد الطرفين محصوراً : كان في وضعه مجبوراً ولا شرف في الجبر .(13/193)
واختيار البشر تردد بين طرفي الخير والشر فمن جانب يرى آيات الرحمن ومن طرف يسمع وساوس الشيطان فتميل به تارة دعوة الحق إلى امتثال الأمر وتميل به طوراً داعية الشهوة إلى أتباع الهوى فإذا أقر طوعاً وطبعاً بوحدانية الله تعالى واختار من غير جبر وإكراه طاعته وصير اختياره المتردد بين الطرفين مجبوراً تحت أمره تعالى باختيار من جهته من غير إجبار : صار هذا الاختيار أفضل وأشرف من الاختيار المجبور فطرة .
كالمكره فعله : كسباً الممنوع عما لا يجب : جبراً ومن لا شهوة له فلا يميل إلى المشتهى كيف يمدح عليه وإنما المدح كل المدح لمن زين له المشتهى فنهى النفس عن الهوى .
فتبين أن وأما الثاني : فنقول إن اختيار الأنبياء عليهم السلام مع ما أنه ليس من جنس اختيار البشر من وجه فهو متوجه إلى الخير مقصور على الصلاح الذي به نظام العالم وقوام الكل صادر عن الأمر صائر إلى الأمر لا يتطرق إلى اختيارهم ميل إلى الفساد بل ودرجتهم فوق ما يبتدر إلى الأوهام فإن العالي لا يريد أمراً لأجل سافل من حيث هو سافل بل إنما يختار ما يختار لنظام كلي وأمر أعلى من الجزئي ثم يتضمن ذلك حصول نظام في الجزئي تبعاً لا مقصوداً وهذا الاختيار والإرادة على جهة سنة الله تعالى في اختياره ومشيئته للكائنات لأن مشيئته تعالى كلية متعلقة بنظام الكل غير معللة بعلة حتى لا يقال : إنما اختار هذا لكذا وإنما فعل هذا لكذا فلكل شيء علة : ولا علة لصنعه تعالى بل لا يريد إلا كما علم وذلك أيضاً ليس بتعليل لكنه بيان أن إرادته أعلى من أن تتعلق بشيء لعلة دونها وإلا لكان ذلك الشيء حاملاً له على ما يريد .
وخالق العلل والمعلولات لا يكون محمولاً على شيء فاختياره لا يكون معللاً بشيء .
واختيار الرسول المبعوث من جهته ينوب عن اختياره كما أن أمره ينوب عن أمره فيسلك سبل ربه ذللاً ثم يخرج من قضية اختياره نظام حال وقوام أمر مختلف ألوانه فيه شفاء للناس .(13/194)
فمن أين للروحانيات هذه المنزلة وكيف يصلون إلى هذه الدرجة كيف ! وكل ما يذكرونه فموهوم وكل ما يذكره النبي فمحقق : مشاهدة وعيان .
بل وكل ما يحكى عن الروحانيات : من كمال علمهم وقدرتهم ونفوذ اختيارهم واستطاعتهم فإنما أخبرنا بذلك الأنبياء والمرسلون عليهم السلام .
وإلا فأي دليل أرشدنا إلى ذلك ونحن لم نشاهدهم ولم نستدل بفعل من أفعالهم على صفاتهم وأحوالهم قالت الصابئة الروحانيون متخصصون بالهياكل العلوية مثل زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر وهذه السيارات كالأبدان والأشخاص بالنسبة إليها وكل ما يحدث من الموجودات ويعرض من الحوادث فكلها مسببات هذه الأسباب وآثار هذه العلويات فيفيض على هذه العلويات من الروحانيات تصريفات وتحريكات إلى جهات الخير والنظام ويحصل من حركاتها واتصالاتها تركيبات وتأليفات في هذا العالم ويحدث في المركبات أحوال ومناسبات .
فهم الأسباب الأول والكل مسبباتها والمسبب لا يساوي السبب والجسمانيون متشخصون بالأشخاص السفلية والمتشخص كيف يماثل غير المتشخص .
وإنما يجب على الأشخاص في أفعالهم وحركاتهم اقتفاء آثار الروحانيات في أفعالها وحركاتها حتى يراعى أحوال الهياكل وحركات أفلاكها : زماناً ومكاناً وجوهراً وهيئة ولباساً وبخوراً وتعزيماً .
وتنجيماً ودعاءً وحاجة .
خاصة بكل هيكل فيكون : تقرباً إلى الهيكل تقرباً إلى الروحاني الخاص به فيكون تقرباً إلى رب الأرباب ومسبب الأسباب حتى يقضي حاجته وسيأتي تفصيل ما أجملوه من أمر الهياكل عند ذكر أصحابها إن شاء الله تعالى .
أجابت الحنفاء بأن قالوا : الآن : نزلتم عن نيابة الروحانيات الصرفة إلى نيابة هياكلها وتركتم مذهب الصبوة الصرفة فإن الهياكل : أشخاص الروحانيين والأشخاص : هياكل الربانيين غير أنكم أثبتم لكل روحاني هيكلاً خاصاً له فعل خاص لا يشاركه فيه غيره .(13/195)
ونحن نثبت أشخاصاً رسلاً كراماً تقع أوضاعهم وأشخاصهم في مقابلة كل الكون : الروحاني منهم : في مقابلة الروحاني منها والأشخاص منهم : في مقابلة الهياكل منها وحركاتهم : في مقابلة حركات جميع الكواكب والأفلاك وشرائعهم مراعاة حركات استندت إلى تأييد إلهي ووحي سماوي : موزونة بميزان العدل مقدرة على مقادير الكتاب الأول ليقوم الناس بالقسط ليست مستخرجة بالآراء المظلمة ولا مستنبطة بالظنون الكاذبة : إن طابقتها على المعقولات : تطابقتا وإن وافقتها بالمحسوسات : توافقتا .
كيف ونحن ندعي : أن الدين الإلهي هو الموجود الأول والكائنات تقدرت عليه وأن المناهج التقديرية هي الأقدم ثم المسالك الخلقية والسنن الطبيعية توجهت إليها .
ولله تعالى سنتان في خلقه وأمره والسنة الأمرية اقدم وأسبق من السنة الخلقية وقد أطلع خواص عباده من البشر على السنتين : ولن تجد لسنة الله تحويلاً : هذا من جهة الخلق ولن تجد لسنة الله تبديلاً : هذا من فالأنبياء عليهم السلام : متوسطون في تقرير سنة الأمر والملائكة : متوسطون في تقرير سنة الخلق .
والأمر أشرف من الخلق فمتوسط الأمر أشرف من متوسط الخلق فالأنبياء عليهم السلام : أفضل من الملائكة .
وهذا عجب : حيث صارت الروحانيات الأمرية متوسطات في الخلق وصارت الأشخاص الخلقية متوسطين في الأمر .
ليعلم : إن الشرف والكمال في التركيب لا في البساطة واليد للجسمائي لا للروحاني والتوجه إلى التراب أولى من التوجه إلى السماء والسجود لآدم عليه السلام أفضل من التسبيح والتحميد والتقديس .
وليعلم : أن الكمال في إثبات الرجال لا في تعيين الهياكل والظلال وانهم هم الآخرون وجوداً السابقون فضلاً وأن آخر العمل أول الفكرة وأن الفطرة لمن له الحجة .
وأن المخلوق بيديه لا يكون كالمكون بحرفيه قال عز وجل : " فو عزتي وجلالي لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له : كن فكان " .(13/196)
قالت الصابئة الروحانيات : مبادئ الموجودات وعالمها : معاد الأرواح .
والمبادئ أشرف ذاتاً وأسبق وجوداً وأعلى رتبة ودرجة من سائر الموجودات التي حصلت بتوسطها .
وكذلك عالمها عالم المعاد والمعاد كمال فعالمها عالم الكمال .
فالمبدأ منها والمعاد إليها والمصدر عنها والمرجع إليها بخلاف الجسمانيات .
وأيضاً فإن الأرواح إنما نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان فتوسخت بأوضار الأجسام ثم تطهرت عنها : بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية حتى انفصلا عتها فصعدت إلى عالمها الأول .
والنزول هو النشأة الأولى والصعود هو النشأة الآخرة .
فعرف أنهم أصحاب الكمال لا أشخاص الرجال .
أجابت الحنفاء قالوا : من أين تسلمتم هذا التسليم : أن المبادئ هي : الروحانيات وأي برهان أقمتم وقد نقل عن كثير من قدماء الحكماء : إن المبادئ هي : الجسمانيات على اختلاف منهم في الأول منها : أنه نار أو هواء أو ماء أو أرض واختلاف آخر : أنه مركب أو بسيط واختلاف آخر : أنه إنسان أو غيره .
حتى صارت جماعة إلى إثبات أناس سرمديين .
ثم منهم من يقول : أنهم كانوا كالظلال حول العرش ومنهم من يقول : إن الآخر وجوداً من حيث الشخص في هذا العالم : هو الأول وجوداً من حيث الروح في ذلك العالم .
وعليه : خرج أن أول الموجودات نور محمد عليه السلام فإذا كان شخصه هو الآخر من جملة الأشخاص النبوية فروحه هو الأول من جملة الأرواح الربانية وإنما حضر هذا العالم ليخلص الأرواح المدنسة بالأوضار الطبيعية فيعيدها إلى مبدئها وإذا كان هو المبدأ فهو المعاد أيضاً .
فهو النعمة وهو النعيم وهو الرحمة وهو الرحيم .
قالوا : ونحن إذا أثبتنا إن الكمال في التركيب لا في البساطة والتحليل فيجب أن يكون المعاد بالأشخاص والأجساد لا بالنفوس والأرواح والمعاد كمال لا محالة .(13/197)
غير أن الفرق بين المبدأ والمعاد هو أن الأرواح في المبدأ مستورة بالأجساد وأحكام الأجساد غالبة وأحوالها ظاهرة للحس والأجساد في المعاد مغمورة بالأرواح وأحكام النفوس غالبة وأحوالها ظاهرة للعقل وإلا : فلو كانت الأجساد تبطل رأساً وتضمحل أصلاً وتعود الأرواح إلى مبدئها الأول : ما كان الاتصال بالأبدان والعمل بالمشاركة فائدة ولبطل تقدير الثواب والعقاب على فعل العباد .
ومن الدليل القاطع على ذلك : أن النفوس الإنسانية في حال اتصالها بالبدن اكتسبت أخلاقاً نفسانية صارت هيئات متمكنة فيها تمكن الملكات حتى قيل : أنها نزلت منزلة الفصول اللازمة التي تميزها عن غيرها ولولاها لبطل التمييز .
وتلك الهيئات إنما حصلت بمشاركات من القوى الجسمانية بحيث لن يتصور وجودها إلا مع تلك المشاركة وتلك القوى لن تتصور إلا في أجسام مزاجية فإذا كانت النفوس لن تتصور إلا معها وهي المعينة المخصصة وتلك لن تتصور إلا مع الأجسام فلا بد من حشر الأجسام والمعاد بالأجسام .
قالت الصابئة : طريقنا في التوسل إلى حضرة القدس ظاهر وشرعنا معقول فإن قدماءنا من الزمان الأول لما أرادوا الوسيلة عملوا أشخاصاً في مقابلة الهياكل العلوية على نسب وإضافات راعوا فيها : جوهراًُ وصورة وعلى أوقات وأحوال وهيئات أوجبوا على من يتقرب بها إلى ما يقابلها من العلويات : تختماًن ولباساً وتبخراً ودعاء وتعزيماً فتقربوا إلى الروحانيات فتقربوا إلى رب الأرباب ومسبب الأسباب .
وهو طريق متبع وشرع ممهد : لا يختلف بالأمصار والمدن ولا ينتسخ بالأدوار والأكوار .
ونحن تلقينا مبدأه من عاذيمون وهرمس العظيمين فعكفنا على ذلك دائمين .
وأنتم معاشر الحنفاء تعصبتم للرجال وقلتم بأن الوحي والرسالة ينزلوا عليهم من عند الله تعالى بواسطة أو بغير واسطة .(13/198)
فما الوحي أولاً وهل يجوز أن يكلم الله بشراً وهل يكون كلامه من جنس كلامنا وكيف ينزل ملك من السماء وهو ليس بجسماني : ابصورته أم بصورة البشر وما معنى تصوره بصورة الغير : أفيخلع صورته ويلبس لباساً آخر أم يتبدل وضعه وحقيقته .
ثم ما لبرهان أولاً على جواز انبعاث الرسل في صورة البشر وما دليل كل مدع منهم : أفنأخذ بمجرد دعواه أم لا بد من دليل خارق للعادة وإن أظهر ذلك : أفهو من خواص النفوس أم من خواص الأجسام أم من فعل الباري تعالى .
ثم ما الكتاب الذي جاء به : أفهو كلام الباري تعالى وكيف يتصور في حقه كلام أم هو كلام الروحاني .
ثم هذه الحدود والأحكام أكثرها غير معقولة فكيف يسمح عقل الإنسان بقبول أمر لا يعقله وكيف تطاوعه نفسه بتقليد شخصه مثله أبأن يريد أن يتفضل عليه " ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين " .
أجابت الحنفاء بأن المتكلمين منا يكفوننا جواب هذا الفصل بطريقتين : أحدهما الإلزام : تعرضاً لإبطال مذهبنا .
والثاني الحجة : تعرضاً لإثبات مذهبنا .
أما الإلزام فقالوا : إنكم ناقضتم مذهبكم حيث قلتم بتوسط عاذيمون وهرمس وأخذتم طريقتكم منهما .
ومن أثبت المتوسط في إنكار المتوسط فقد تناقض كلامه وتخلف مرامه .
وزادوا هذا تقريراً : بأنكم معاشر الصابئة أيضاً متوسطون يحتاج إليكم في التزام مذهبكم إذ من المعلوم أن كل من دب ودرج منكم ليس يعرف طريقتكم ولا يقف على صنعتكم : من علم وعمل .
أما العلم فالإحاطة بحركات الكواكب والأفلاك وكيفية تصرف الروحانيات فيها .
وأما العمل فصنعة الأشخاص في مقابلة الهياكل على النسب بل قوم مخصوصون أو واحد في كل زمان : يحيط بذلك علماً ويتيسر له عملاً فقد أثبتم متوسطاً عالماً من جنس البشر وقد ناقض آخر كلامكم أوله .
وزادوا هذا تقريراً آخر بإلزام الشرك عليهم : إما الشرك في أفعال الباري تعالى وإما الشرك في أوامره .(13/199)
أما الشرك في الأفعال فهو إثبات تأثيرات الهياكل والأفلاك فإن عندهم : الإبداع الخاص بالرب تعالى هو اختراع الروحانيات ثم تفويض أمور العالم العلوي إليها والفعل الخاص بالروحانيات هو تحريك الهياكل ثم تفويض أمور العالم السفلي إليها كمن يبني معملة وينصب أركاناً للعمل من : الفاعل والمادة والآلة والصورة ويفوض العمل إلى التلامذة .
فهؤلاء اعتقدوا أن الروحانيات آلهة والهياكل أرباب والأصنام في مقابلة الهياكل باتخاذ وتصنع من كسبهم وفعلهم .
فألزم أصحاب الأصنام : أنكم تكلفتم كل التكلف حتى توقعوا حجراً جماداً في مقابلة هيكل وما بلغت صنعتكم إلى إحداث : حياة فيه وسمع وبصر ونطق وكلام : " أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " أو ليست النسب أوضاعكم الفطرية وأشخاصكم العقلية : أفضل منها وأشرف أو ليست النسب والإضافات النجومية المرعية في خلقكم : أشرف وأكمل مما راعيتموها في صنعكم : " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ! .
أو لستم تحتاجون إلى المتوسط المعمول لقضاء حاجة : إما جلب نفع أو دفع ضر فهذا العامل الصانع أقدر إذ فيه من القوة العلمية والعملية ما يستعمل به الهياكل العلوية ويستخدم الأشخاص الروحانية فهلا ادعى لنفسه ما يثبت بفعله من جماد ! ولهذا الإلزام تفطن اللعين فرعون حيث ادعى الإلهية والربوبية لنفسه وكان في الأصل على مذهب الصابئة فصبا عن ذلك ودعا إلى نفسه فقال : أنا ربكم الأعلى ما علمت لكم من إله غيري إذ رأى في نفسه قوة الاستعمال والاستخدام واستظهر بوزيره هامان وكان صاحب الصنعة فقال : ياهامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى .(13/200)
وكان يريد أن يبني صرحاً مثل الرصد فيبلغ به إلى حركات الأفلاك والكواكب وكيفية تركيبها وهيئآتها وكمية أدوارها وأكوارها فلربما يطلع على سر التقدير في الصنعة ومآل الأمر في الخلقة والفطرة .
ومن أين له هذه القوة والبصيرة ! ولكن : اعتزاز بنوع فطنة وكياسة في جبلته واغترار بضرب إهمال في مهله فما تمت لهم الصنعة حتى أغرقوا فأدخلوا ناراً .
فحدث بعده السامري وقد نسج على منواله في الصنعة حتى أخذ قبضة من أثر الروحاني وأراد أن يرقى الشخص الجمادي عن درجته إلى درجة الحيواني فاخرج لهم عجلاً جسداً له خوار وما أمكنه أن يحدث فيه ما هو أخص أوصاف المتوسط من الكلام والهداية : ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً فانحسر في الطريق .
حتى كان من الأمر ما كان وقيل : لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً .
ويا عجباً من هذا السر ! ! حيث : أغرق فرعون فأدخل النار مكافئة على دعوة الإلهية لنفسه وأحرق العجل ثم نسف في اليم مكافئة على إثبات الإلهية له .
وما كان للنار والماء على الحنفاء يد للاستيلاء : قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك .
هذه مراتب الشرك في الفعل والخلق .
ويشبه أن يكون دعوى اللعينين : نمرود وفرعون : أنهما إلهان أرضيان كالآلهة السماوية الروحانية : دعوى الإلهية من حيث الأمر لا من حيث الفعل والخلق وإلا ففي زمان كل واحد منهما من هو أكبر منه سناً وأقدم في الوجود عليه .
فلما ظهر من دعواهما أن الأمر كله لهما فقد ادعيا الإلهية لنفسها .(13/201)
وهذا هو الشرك الذي ألزمه المتكلم على الصابئ فإنه لما ادعى أنه أثبت في الأشخاص ما يقضي به حاجة الخلق فقد عاد بالتقدير إلى صنعته وو قف بالتدبير على معاملته فكان الأمر بأن هذا الفعل واجب الإقدام عليه وهذا واجب الإحجام عنه أمراً في مقابلة أمر الباري تعالى والمتوسط فيه متوسط الأمر وكان شركاً إذ لم ينزل الله به سلطاناً ولا أقام عليه حجة وبرهاناً .
كيف وما يتمسك به من الأحكام مرتبة على هيئات فلكية : لم تبلغ قوة البشر قط إلى مراعاتها ولا يشك أن الفلك كله يتغير لحظة فلحظة بتغير جزء من أجزاءه تغير الوضع والهيئة بحيث لم يكن على تلك الهيئة فيما سبق ولا يرجع إلى تلك فيما يستقبل .
ومتى يقف الحاكم على تغيرات الأوضاع حتى تكون صنعته في الأشخاص والأصنام مستقيمة ! وإذا لم تستقم الصنعة فكيف تكون الحاجة مقضية ! .
ومن رفع الحاجة إلى من لا ترفع الحوائج إليه فقد أشرك كل الشرك .
وأما الطريق الثاني : فإقامة الحجة على إثبات المذهين ولمتكلمي الحنفاء فيه مسلكان أحدهما أن يسلك الطريق نزولاً من أمر الباري تعالى إلى سد حاجات الخلق والثاني : أن يسلك الطريق صعوداً من حاجات الخلق إلى إثبات أمر الباري تعالى ثم تخرج الإشكالات عليهما .
أما الأول فقال المتكلم الحنيف : قد قامت الحجة على أن الباري تعالى : خالق الخلائق ورازق العباد وأنه المالك الذي له الملك والملك .
والمالك هو أن يكون له على عباده : أمر وتصريف وذلك أن حركات العباد قد انقسمت إلى اختيارية وغير اختيارية فما كان منها باختيار من جهتهم فيجب أن يكون له فيها : تصريف وتقدير .(13/202)
ومن المعلوم : أن ليس كل أحد يعرف حكم الباري تعالى وأمره فلا بد إذن من واحد يستأثره بتعريف حكمه وأمره في عباده وذلك الواحد يجب أن يكون من جنس البشر حتى يعرفهم أحكامه وأوامره ويجب أن يكون مخصوصاً من عند الله عز وجل بآيات خلقية هي حركات تصريفية وتقديرية يجريها الله على يده عند التحدي بما يدعيه تدل تلك الآيات على صدقه نازلة منزلة التصديق بالقول .
ثن إذا ثبت صدقه وجب أتباعه في جميع ما يقول ويفعل وليس يجب الوقوف على كل ما يأمر به وينهى عنه إذ ليس كل علم تبلغ إليه قوة البشر .
ثم الوحي من عند العزيز يمد حركاته الفكرية والقولية والعملية : بالحق في الأفكار والصدق في الأقوال والخير في الأفعال .
فبطرف يماثل البشر وهو طرف الصورة وبطرف يوحى إليه وهو طرف المعنى والحقيقة : " قل سبحان ربي ! هل كنت بشراً رسولاً " فبطرف يشابه نوع الإنسان وبطرف يماثل نوع الملائكة وبمجموعهما يفضل النوعين حتى تكون بشريته فوق بشرية النوع : مزاجاً واستعداداً وملكيته فوق ملكية النوع الآخر : قبولاً وأداء فلا يضل ولا يغوي بطرف البشرية ولا يزيغ ولا يطغى بطرف الروحانية فيقرر أن أمر الباري تعالى واحد : لا كثرة فيه ولا انقسام له : " وما أمرنا إلا بواحدة " غير أنه يلبس تارة عبارة العربية وتارة عبارة العبرية والمصدر يكون واحداً والمظهر متعدداً .
والوحي : إلقاء الشيء بسرعة فيلقى الروح الأمر إليه دفعة واحدة بلا زمان : كلمح بالبصر فيتصور في نفسه الصافية صورة الملقى كما يتمثل في المرآة المجلوة صورة المقابل فيعبر عنه : غما بعبارة قد اقترنت بنفس التصور وذلك هو آيات الكتب أو بعبارة نفسه وذلك هو أخبار النبوة .
وهذا كله بطرفه الروحاني .(13/203)
وقد يتمثل الملك الروحاني له بمثال صورة البشر تمثل المعنى الواحد بالعبارات المختلفة أو تمثل الصورة الواحدة في المرايا المتعددة أو الظلال المتكثرة للشخص الواحد فيكالمه مكالمة حسية ويشاهده مشاهدة عينية .
ويكون ذلك بطرفه الجسماني .
وإن انقطع الوحي عنه لم ينقطع عنه التأييد والعصمة : حتى يقومه في أفكاره ويسدده في أقواله ويوفقه في أفعاله .
ولا تستبعدوا معاشر الصابئة تلقي الوحي على الوجه المذكور ونزول الملك على النسق المعقود وعندكم أن هرمس العظيم صعد إلى العالم الروحاني فانخرط في سلكهم .
فإذا تصور صعود البشر فلم لا يتصور بزلل الملك وإذا تحقق أنه خلع لباس البشرية فلم لا يجوز أن يلبس الملك لباس البشرية .
فالحنيفية : إثبات الكمال في هذا اللباس أعني لباس الناس .
والصبوة : إثبات الكمال في خلع كل لباس .
ثم لا يتطرق ذلك لهم حتى يثبتوا لباس الهياكل أولاً ثم لباس الأشخاص والأوثان ثانياً .
ولقد قال لهم راس الحنفاء متبرئا عن الهياكل والأشخاص : إني بريء مما تشركون .
غني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين .
وأما الثاني فهو الصعود من حاجة الناس إلى إثبات أمر الباري تعالى قال المتكلم الحنيف : لما كان نوع الإنسان محتاجاً إلى اجتماع على نظام .
وذلك الاجتماع لن يتحقق إلا بحدود وأحكام في حركاته ومعاملاته يقف كل منهم عند حده المقدر له لا يتعداه وجب أن يكون بين الناس شرع يفرضه شارع يبين فيه : أحكام الله تعالى في الحركات وحدوده في المعاملات فيرتفع به الاختلاف والفرقة ويحصل به الاجتماع والألفة .
وهذا الاحتياج لما كان لازماً لنوع الإنسان ضرورة يجب أن يكون المحتاج إليه قائماً ضرورة بحيث تكون نسبته إليه نسبة : الغني والفقير والمعطي والسائل والملك والرعية فإن الناس لو كانوا كلهم ملوكاً لم يكن ملك أصلاً كما لو كانوا كلهم رعايا لم تكن رعية أصلاً .(13/204)
ثم لا يبقى ذلك الشخص ببقاء الزمان وعمره لا يساوي عمر العالم فينوب منابه علماء أمته ويرث علمه أمناء شريعته فتبقى سنته ومنهاجه ويضيء على البرية مدى الدهر سراجه .
والعلم بالتوارث وليست النبوة بالتوارث .
والشريعة تركة الأنبياء والعلماء ورثة الأنبياء .
قال الصابئة الناس متماثلة في حقيقة الإنسانية والبشرية ويشملهم حد واحد وهو : الحيوان الناطق المائت .
والنفوس والعقول متساوية في الجوهرية فحد النفس بالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والحيوان والنبات : أنه كمال جسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة وبالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والملك : أنه جوهر غير جسم هو كمال الجسم محرك له بالاختيار عن مبدأ نطقي أي عقلي بالفعل أو بالقوة فالذي بالفعل هو خاصة النفس الملكية والذي بالقوة هو فصل النفس الإنسانية .
وأما العقل فقوة أو هيئة لهذه النفس مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد والناس في ذلك على استواء من القدم وإنما الاختلاف يرجع إلى أحد أمرين : أحدهما اضطراري وذلك من حيث المزاج المستعد لقبول النفس والثاني اختياري وذلك من حيث الاجتهاد المؤثر في رفع الحجب المادية وتصقيل النفس عن الصدأة المانعة لارتسام الصور المعقولة .
حتى لو بلغ الاجتهاد إلى غاية الكمال : تساوت الأقدام وتشابهت الأحكام فلا يتفضل بشر على بشر بالنبوة ولا يتحكم أحد على أحد بالإستتباع .(13/205)
أجابت الحنفاء بأن التماثل والتشابه في الصور البشرية والإنسانية مسلم لا مرية فيه وإنما التنازع بيننا في النفس والعقل قائم فإن عندنا : النفوس والعقول على التضاد والترتب وعلينا بيان ذلك على مساق حدودكم ومذاق أصولنا : فقولكم : إن النفس جوهر غير جسم : هو كمال الجسم محرك له بالاختيار وذلك إذا أطلق النفس على الإنسان والملك وهو كمال جسم كبيعي آلي ذي حياة بالقوة إذا أطلق على الإنسان والحيوان فقد جعلتم لفظ النفس من الأسماء المشتركة وميزتم بين النفس الحيواني والنفس الإنساني والنفس الملكي فهل زدتم فيه قسماً ثالثاً وهو : النفس النبوي حتى يتميز عن الملكي كما تميز الملكي عن الإنساني فإن عندكم : المبدأ النطقي للإنسان بالقوة والمبدأ العقلي للملك بالفعل فقد تغايرا من هذا الوجه ومن حيث إن الموت الطبيعي يطرأ على الإنسان ولا يطرأ على الملك وذلك تمييز آخر فليكن في النفس النبوي مثل هذا الترتب .
وأما الكمال الذي تعرضتم له فإنما يكون كمالاً للجسم إذا كان اختيار المحرك محموداً فأما إذا كان اختياره مذموماً من كل وجه صار الكمال نقصاناً وحينئذ يقع التضاد بين النفس الخيرة والنفس الشريرة حتى تكون إحداهما في جانب الملكية والثانية في جانب الشيطانية فيحصل التضاد المذكور كما حصل الترتب المذكور فإن الاختلاف بالقوة والفعل اختلاف بالترتب والاختلاف بالكمال والنقص والخير والشر : اختلاف بالتضاد فبطل التماثل .
ولا تظنن أن الاختلاف بين النفسين الخيرة والشريرة اختلاف بالعوارض فإن الاختلاف بين النفس الملكية والشيطانية بالنوع كما أن الاختلاف بين النفس الإنسانية والملكية بالنوع وكيف لا يكون كذلك ! والاختلاف ههنا بالقوة والفعل والاختلاف ثم بالخير والشر وهذا لسر : وهو أن الخير غريزة هي هيئة متمكنة في النفس بأصل الفطرة وكذلك الشر طبيعة غريزية .(13/206)
لست أقول : فعل الخير وفعل الشر فإن الغريزة غير الفعل المترتب عليها .
فتحقق أن ههنا نفساً محركة للبدن اختياراً نحو الخير عن مبدأ عقلي : إما بالقوة أو بالفعل وهو كمال للجسم وليس بجسم وههنا نفساً محركة للبدن اختياراً نحو الشر عن مبدأ نطقي : إما بالقوة أو بالفعل وهو نقص للجسم وليس بجسم .
ولا ينبون طبعك عن أمثال ما يورد عليك المتكلم الحنيف فإنما يغترفه من بحر وليس ينحته من صخر فلربما لا يساعدك على أن الإنسان نوع الأنواع وأن الاختلاف فيه يقع في العوارض واللوازم بل يثبت في النفوس الإنسانية اختلافاً جوهرياً فيفصل بعضها على بعض بالفصول الذاتية لا باللوازم العرضية .
فكما أن الاختلاف بالقوة والفعل في النفس الإنسانية والملكية : اختلاف جوهري أوجب اختلاف النوع والنوع وإن شملهما اسم النفس الناطقة والفصل الذاتي هو القوة والفعل .
كذلك نقول في نفس لها قوة علم خاص وقوة عمل خاص وقوة خير وقوة شر وكمال مطلق هو أصل الخير ونقص مطلق هو أصل الشر .
وأما ما ذكره المتكلم الصابي من حد العقل : أنه قوة أو هيئة للنفس مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد فغير شامل لجميع العقول عنده ولا عند الحنيف بل هو تعرض للعقل الهيولاني فقط .
فأين العقل النظري وحده : أنه قوة للنفس تقبل ماهيات الأمور الكلية من جهة ما هي كلية .
وأين العقل العملي وحده : أنه قوة للنفس هي مبدأ لتحريك القوة الشوقية إلى ما يختار من الجزئيات لأجل غاية مظنونة .
وأين العقل بالملكة وهو استكمال القوة الهيولانية حتى تصير قريبة من الفعل .
وأين العقل بالفعل وهو استكمال النفس بصورة ما أو صورة معقولة حتى متى ما شاء عقلها وأحضرها بالفعل .
وأين العقل المستفاد وهو ماهية مجردة عن المادة .
مرتسمة في النفس على سبيل الحصول من خارج .
وأين العقول المفارقة فإنها : ماهيات مجردة عن المادة .(13/207)
وأين العقل الفعال فإنه من جهة ما هو عقل فإنه جوهر صوري ذاته ماهية مجردة في ذاتها لا بتجريد غيرها عن المادة وعن علائق المادة وهي ماهية كل موجود ومن جهة ما هو فعال فإنه جوهر بالصفة المذكورة من شأنه أن يخرج العقل الهيولاني من القوة إلى الفعل بإشراقه عليه .
فقد تعرض لنوع واحد من العقول .
ولا خلاف أن هذه العقول قد اختلفت حدودها وتباينت فصولها كما سمعت .
فأخبرني أيها المتكلم الحكيم : من أي عقل تعد عقلك أولاً وهل ترضى أن يقال لك : تساوت الأقدام في العقول حتى يكون عقلك بالفعل والإفادة كعقل غيرك بالقوة والاستعداد بل واستعداد عقلك لقبول المعقولات كاستعداد عقل غبي غوي : لا يرد عليه الفكر براده ولا ينفك الخيال عن عقله كما لا ينفك الحس عن خياله وإذا كانت الأقدام متساوية فما هذا الترتب في الأقسام وإذا أثبت ترتباً في العقول فبالضرورة أن ترتقي في الصعود إلى درجة الاستقلال والإفادة وتنزل في الهبوط إلى درجة الاستعداد والاستفادة .
ثم : هل في نوعه ما هو عديم الاستعداد أصلاً حتى يشبه أن يكون عقلاً وليس عقلاً وما النوع الذي تثبته للشياطين أو هو من عداد ما ذكرنا أم خارج عن ذلك فإنك إذا ذكرت حد الملك وأنه جوهر بسيط ذو حياة ونطق عقلي غير مائت هو واسطة بين الباري تعالى والأجسام السماوية والأرضية وعددت أقسامه : أن منه ما هو عقلي ومنه ما هو نفسي .
ومنه ما هو حسي .
فيلزمك من حيث التضاد أ تذكر حد الشيطان على الضد مما ذكرته من حد الملك وتعد أقسامه أيضاً .
ويلزمك من حيث الترتب أن تذكر حد الإنسان على الضد مما ذكرته من حد الملك وتعد أقسامه وأنواعه كذلك حتى يكون من الإنسان : ما هو محسوس فقط ومنه : ما هو مع كونه محسوساً روحاني نفساني عقلي وذلك هو درجة النبوة .
فمن عقل عمل من حس ومن حس عمل من عقل ومن نفس مزاجي ومن مزاج نفسي ومن روح جسماني ومن جسم روحاني .(13/208)
دع عنك كلام لعامة ولا تظنن هذه طامة .
قالت الصابئة لقد حصرتمونا : بإبطال تساوي العقول والنفوس وإثبات الترتب والتضاد فيهما ولا شك أن من سلم الترتب فقد لزمه الإتباع فأخبرونا : ما رتبة الأنبياء بالنسبة إلى نوع الإنسان وما رتبتهم بالإضافة إلى الملك والجن وسائر الموجودات ثم ما رتبة النبي عند الباري تعالى .
فإن عندنا : الروحانيات أعلى مرتبة من جميع الموجودات وهم المقربون في الحضرة الإلهية والمكرمون لديه ونراكم تارة تقولون : إن النبي يتعلم من الروحاني ونراكم تارة تقولون : إن الروحاني يتعلم من النبي .
أجابت الحنفاء بأن الكلام في المراتب صعب ومن لم يصل إلى رتبة من المراتب كيف يمكنه أن يستوفي بيانها .
لكنا نعرف أن رتبته بالنسبة إلينا : رتبتنا بالنسبة إلى من هو دوننا في الجنس من الحيوان فكما أنا نعرف أسامي الموجودات ولا يعرفها الحيوان كذلك هم : يعرفون خواص الأشياء وحقائقها ومنافعها ومضارها ووجوه المصالح في الحركات وحدودها وأقسامها .
ونحن لا نعرفها .
وكما أن نوع الإنسان ملك الحيوان بالتسخير فالأنبياء عليهم السلام ملوك الناس بالتدبير وكما أن حركات الناس معجزات الحيوان كذلك حركات الأنبياء معجزات الناس لأن الحيوانات لا يمكنها أن تبلغ إلى الحركات الفكرية حتى تميز الحق من الباطل ولا أن تبلغ إلى الحركات القولية حتى تميز الصدق من الكذب ولا أن تبلغ إلى الحركات الفعلية حتى تميز الخير من الشر فلا التمييز العقلي لها بالوجود ولا مثل هذه الحركات لها بالفعل .
وكذلك حركات الأنبياء لان منتهى فكرهم لا غاية له وحركات أفكارهم في مجالي القدس مما تعجز عنها قوة البشر حتى يسلم لهم : لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل وكذلك حركاتهم القولية والفعلية لا تبلغ إلى غاية انتظامها وجريانها على سنن الفطرة حركة كل البشر .(13/209)
وهم في الرتبة العليا والدرجة الأولى من درجات الموجودات كلها فقد أحاطوا علماً بما أطلعهم الرب تعالى على ذلك دون غيرهم من الملائكة والروحانيين ففي الأول تكون حاله حال التعلم : علمه الشديد القوي وفي الأخير : حاله حال التعليم وذلك في حق آدم عليه السلام : أنبأهم بأسمائهم حين كان الأمر على بدء الظهور والكشف فانظر كيف تكون الحال في نهاية الظهور .
وأما إضافتهم جناب القدس فالعبودية الخاصة : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين قولوا : إن عباد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم .
أحق الأسماء لهم وأخص الأحوال بهم : عبده ورسوله لا جرم كان أخص التعريفات لجلاله تعالى بأشخاصهم : إله إبراهيم : إله إسماعيل وإسحاق : إله موسى وهرون : إله عيسى : إله محمد عليهم السلام .
فكما أن من العبودية ما هو عام الإضافة ومنها ما هو خاص الإضافة : كذلك التعريف إلى الخلق بالإلهية والربوبية والتجلي للعباد بالخصوصية : منه ما له عموم رب العالمين ومنه ما له خصوص رب موسى وهارون .
فهذه نهاية مذهبي الصابئة والحنفاء .
وفي الفصول التي جرت بين الفريقين فوائد لا تحصى .
وكان في الخاطر بعد زوايا : نريد نمليها وفي القلم خفايا : أكاد أخفيها فعدلت عنها إلى ذكر حكم هرمس العظيم لأعلى أنه من جملة فرق الصابئة حاشاه بل على أن حكمه مما تدل على تقرير مذهب الحنفاء في إثبات الكمال في الأشخاص البشرية وإيجاب القول بإتباع النواميس حكم هرمس العظيم المحمودة آثاره المرضية أقواله وأفعاله الذي يعد من الأنبياء الكبار ويقال : هو إدريس النبي عليه السلام .(13/210)
وهو الذي وضع أسامي البروج والكواكب السيارة ورتبها في بيوتها وأثبت لها : الشرف والوبال والأوج والحضيض والمناظر بالتثليث والتسديس والتربيع والمقابلة والمقارنة والرجعة والاستقامة وبين : تعديل الكواكب وتقويمها وأما الأحكام المنسوبة إلى هذه الاتصالات فغير مبرهن عليها عند الجميع .
وللهند وللعرب طريقة أخرى في الأحكام أخذوها من خواص الكواكب لا من طبائعها ورتبوها على الثوابت لا على السيارات .
ويقال : إن عاذيمون وهرمس هما : شيث وإدريس عليهما السلام .
ونقلت الفلاسفة عن عاذيمون أنه قال المبادئ الأول خمسة : الباري تعالى والعقل والنفس والمكان والخلاء وبعدها وجود المركبات .
ولم ينقل هذا عن هرمس .
ومن حكم هرمس : قوله : أول ما يجب على المرء الفاضل بطباعه المحمود بسنخه المرضي في عادته المرجو في عاقبته : تعظيم الله عز وجل وشكره على معرفته وبعد ذلك فللناموس عليه حق الطاعة له والاعتراف بمنزلته وللسلطان عليه حق المناصحة والانقياد ولنفسه عليه حق الاجتهاد والدأب في فتح باب السعادة ولخلصائه عليه حق التحلي لهم بالود والتسارع إليهم بالبذل .
فإذا أحكم هذه الأسس لم يبق عليه إلا كف الأذى عن العامة وحسن المعاشرة وسهولة الخلق .
انظروا معاشر الصابئة كيف عظم أمر الرسالة حتى قرن طاعة الرسول الذي عبر عنه بالناموس بمعرفة الله تعالى .
ولم يذكر ههنا تعظيم الروحانيات ولا تعرض لها وإن كانت هي من الواجبات .
وسئل : بماذا يحسن رأي الناس في الإنسان قال : بأن يكون لقاؤه لهم لقاءً جميلًا ومعاملته إياهم معاملة حسنة .
وقال : ومدة الإخوان أن لا تكون لرجاء منفعة أو لدفع مضرة ولكن لصلاح فيه وطباع له .
وقال : افضل ما في الإنسان من الخير العقل وأجدر الأشياء أن لا يندم عليه صاحبه العمل الصالح وأضل ما يحتاج إليه في تدبير الأمور الاجتهاد وأظلم الظلمات الجهل وأوثق الإسار الحرص .(13/211)
وقال : من أفضل البر ثلاثة : الصدق في الغضب والجود في العسرة والعفو عند المقدرة .
وقال : من لم يعرف عيب نفسه فلا قدر لنفسه عنده .
وقال : الفصل بين العاقل والجاهل : أن العاقل منطقه له والجاهل منطقه عليه .
وقال : لا ينبغي للعاقل أن يستخف بثلاثة أقوام : السلطان والعلماء والإخوان فإن من استخف بالسلطان أفسد عليه عيشه ومن استخف بالعلماء أفسد عليه دينه ومن استخف بالإخوان أفسد عليه مروءته .
وقال : الاستخفاف بالموت أحد فضائل النفس .
وقال : المرء حقيق له أن يطلب الحكمة ويثبتها في نفسه أولاً بان لا يجزع من المصائب التي تعم الأخيار ولا يأخذه الكبر فيما يبلغه من الشرف ولا يعير أحداً بما هو فيه ولا يغيره الغنى والسلطان وأن يعدل بين نيته وقوله حتى لا يتفاوت وتكون سنته ما لا عيب فيه ودينه ما لا يختلف فيه وحجته ما لا ينتقض .
وقال : أنفع الأمور للناس القناعة والرضى وأضرها الشره والسخط وإنما يكون كل السرور بالقناعة ر وكل الحزن بالشره والسخط .
ويحكى عنه فيما كتبه : أن أصل الضلال والهلكة لأهله أن يعد ما في العالم من الخير من عطية الله عز وجل ومواهبه ولا يعد ما فيه من الشر والفساد من عمل الشيطان ومكايده ومن افترى على أخيه فرية لم يخلص من تبعتها حتى يجازى بها فكيف يخلص من أعظم الفرية على الله عز وجل : أن يجعله سبباً للشرور وهو معدن الخير .
وقال : الخير والشر أصلان إلى أهلمها لا محالة فطوبى لمن جرى وصول الخير إليه وعلى يديه والويل لمن جرى وصول الشر إليه وعلى يديه .
وقال : الإخاء الدائم الذي لا يقطعه شيء اثنان : أحدهما محبة المرء نفسه في أمر معاده وتهذيبه إياها في العلم الصحيح والعمل الصالح والآخر مودته لأخيه في دين الحق فإن ذلك مصاحب أخاه في الدنيا بحسده وفي الآخرة بروحه .(13/212)
وقال : الغضب سلطان الفظاظة والحرص سلطان الفاقة وهما منشئا كل سيئة ومفسدا كل جسد ومهلكا كل روح .
وقال : كل شيء يطاق تغييره إلا الطباع وكل شيء يقدر على إصلاحه غير الخلق السوء وكل شيء يستطاع دفعه إلا القضاء .
وقال : الجهل والحمق للنفس بمنزلة الجوع والعطش للبدن لأن هذين خلاء النفس وهذين خلاء البدن .
وقال : أحمد الأشياء عند أهل السماء والأرض لسان صادق ناطق بالعدل والحكمة والحق في الجماعة .
وقال : أدحض الناس حجة من شهد على نفسه بدحوض حجته .
وقال : من كان دينه السلامة والرحمة والكف عن الأذى فدينه دين الله عز وجل وخصمه شاهد له بفلج الحجة ومن كان دينه الإهلاك والفظاظة والأذى فدينه دين الشيطان وهو بدحوض حجته شاهد على نفسه .
وقال : الملوك تحتمل الأشياء كلها إلا ثلاثة : قدح في الملك وإفشاء للسر والتعرض للحرمة .
وقال : لا تكن أيها الإنسان كالصبي : إذا جاع ضغا ولا كالعبد : إذا شبع طغى ولا كالجاهل : إذا ملك بغى .
وقال : لا تشيرون على عدو ولا صديق إلا بالنصيحة فأما الصديق فتقضي بذلك من واجبه حقه وأما العدو فإنه إذا عرف نصيحتك إياه هابك وحسدك وإن صح عقله استحى منك وراجعك .
وقال : يدل على غريزة الجود السماحة عند العسرة وعلى غريزة الورع الصدق عند الشرة وعلى غريزة الحلم العفو عند الغضب .
وقال : من سره مودة الناس له ومعونتهم إياه وحسن القول منهم فيه : حقيق بأن يكون على مثل ذلك لهم .
وقال : لا يستطيع أحد أن يحوز الخير والحكمة ولا أن يخلص نفسه من المعايب : إلا أن يكون له ثلاثة أشياء : وزير وولي وصديق فوزيره عقله ووليه عفته وصديقه عمله الصالح .
وقال : كل إنسان موكل بإصلاح قدر باع من الأرض فإنه إذا أصلح قدر ذلك الباع صلحت له أموره كلها وإذا أضاعه أضاع الجميع وقدر ذلك نفسه .
وقال : لا يمدح بكمال العقل من لا تكمل عفته ولا بكمال العلم من لا يكمل عقله .(13/213)
وقال : من افضل أعمال العلماء ثلاثة أشياء : أن يبدلوا العدو صديقاً والجاهل عالماً والفاجر براً .
وقال : الصالح من خيره خير لكل أحد ومن يعد خير كل أحد لنفسه خيراً .
وقال : ليس بحكمة ما لم يعاد الجهل ولا بنور ما لم يمحق الظلم ولا بطيب ما لم يدفع النتن ولا بصدق ما لم يدحض الكذب ولا بصالح ما لم يخالف الطالح .
الباب الثاني أصحاب الهياكل والأشخاص
وهؤلاء من فرق الصابئة .
وقد أدرجنا مقالتهم المناظرات جملة .
ونذكرها ههنا تفصيلاً .
أصحاب الهياكل أعلم أن أصحاب الروحانيات لما عرفوا أن لا بد للإنسان من متوسط ولا بد للمتوسط من أن يرى فيتوجه إليه ويتقرب به ويستفاد منه .
فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع فتعرفوا أولاً بيوتها ومنازلها وثانياً مطالعها ومغاربها وثالثاً اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة مرتبة على طبائعها ورابعاً تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها وخامساً تقدير فعملوا الخواتيم وتعلموا العزائم والدعوات وعينوا ليوم زحل مثلاً : يوم السبت وراعوا فيه ساعته الأولى وتختموا بخاتمة المعمول على صورته وهيئته وصنعته ولبسوا اللباس الخاص به وتبخروا ببخوره الخاص ودعوا بدعواته الخاصة به وسألوا حاجتهم منه : الحاجة التي تستدعي من زحل : من أفعاله وآثاره الخاصة به فكان يقضي حاجتهم ويحصل في الأكثر مرامهم .
وكذلك رفع الحاجة التي تختص بالمشتري في يومه وساعته وجميع الإضافات التي ذكرنا إليه .
وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب .
وكانوا يسمونها : أرباباً آلهة والله تعالى هو رب الأرباب وإله الآلهة .
ومنهم من جعل الشمس : إله الآلهة ورب الأرباب .(13/214)
وكانوا يتقربون إلى الهياكل تقرباً إلى الروحانيات ويتقربون إلى الروحانيات تقرباً إلى الباري تعالى لاعتقادهم بأن الهيام أبدان الروحانيات ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات وهي تتصرف في أبدانها : تدبيراً وتصريفاً وتحريكاً كما نتصرف في أبداننا .
ولاشك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه .
ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضي منهم العجب .
وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتنجيم والتعزيم والخواتيم والصور .
كلها من علومهم .
أصحاب الأشخاص وأما أصحاب الأشخاص فقالوا : إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به وشفيع يتشفع إليه والروحانيات وإن كانت هي الوسائل لكنا إذا لم نرها بالأبصار ولم نخاطبها بالألسن : لم يتحقق التقرب إليها بهياكلها .
ولكن الهياكل قد ترى في وقت ولا ترى في وقت لأن لها طلوعاً وأفولاً وظهوراً بالليل وخفاءً بالنهار فلم يصف لنا التقرب بها والتوجه إليها .
فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا نعكف عليها ونتوسل بها إلى الهياكل فنتقرب بها إلى الروحانيات ونتقرب بالروحانيات إلى الله سبحانه وتعالى فنعبدهم : ليقربونا إلى الله زلفى .
فاتخذوا أصناماً أشخاصاً على مثال الهياكل السبعة : كل شخص في مقابلة هيكل وراعوا في ذلك جوهر الهيكل اعني الجوهر الخاص به من الحديد وغيره وصوروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه وراعوا في ذلك : الزمان والوقت والساعة والدرجة والدقيقة وجميع الإضافات النجومية من اتصال محمود يؤثر في نجاح المطالب التي تستدعي منه .
فتقربوا إليه في يومه وساعته وتبخروا بالبخور الخاص به وتختموا بخاتمه ولبسوا لباسه وتضرعوا بدعائه وعزموا بعزائمه وسألوا حاجتهم منه فيقولون : إنه كان يقضي حوائجهم بعد رعاية الإضافات كلها .(13/215)
وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنهم : أنهم عبدة الكواكب والأوثان .
فأصحاب الهياكل : هم عبدة الكواكب إذ قالوا بإلهيتها كما شرحنا .
وأصحاب الأشخاص هم مناظرات إبراهيم الخليل لأصحاب الهياكل وأصحاب الأشخاص وكسره مذاهبهما وقد ناظر الخليل عليه السلام هؤلاء الفريقين .
فابتدأ بكسر مذاهب أصحاب الأشخاص وذلك قوله تعالى : " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم " وتلك الحجة : أن كسرهم قولاً بقوله : " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " ! ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام لا من غيره : كان أكثر الحجج معه وأقوى الإلزامات عليه إذ قال عليه السلام لأبيه آزر : أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وقال : يا أبت ! لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً لأنك جهدت كل الجهد واستعملت كل العلم حتى عملت أصناماً في مقابلة الأجرام السماوية فما بلفت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيها سمعاً وبصراً وأن تغني عنك وتضر وتنفع .
وأنت بفطرتك وخلقتك أشرف درجة منها لأنك خلقت : سميعاً بصيراً نافعاً ضاراً والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتخذ تكلفاً والمعمول تصنعاً فيالها من حيرة ! إذ صار المصنوع ! : يا أبت ! لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً : با أبت ! إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن .
ثم دعاه إلى الحيفية الحقة قال : يا أبت ! إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً .
قال : أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ! .
فلم تقبل حجته القوية .
فعدل عليه السلام عن القول إلى الكسر للأصنام بالفعل فجعلهم جذاذاً غلا كبيراً لهم فقالوا : من فعل هذا بآلهتنا .(13/216)
قال : بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون ثم نكثوا عن رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون .
فافحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم كما أفحمهم بالقول حيث أحال الفعل منهم .
وكل ذلك على طريق الإلزام عليهم وإلا فما كان الخليل كاذباً قط .
ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل وكما أراه الله تعالى الحجة على قومه قال : وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين : تشريفاً له على الروحانيات وهياكلها .
وترجيحاً لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة وتقريراً : أن الكمال في الرجال فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل : فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال : هذا ربي على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام : بل فعله كبيرهم هذا وإلا فما كان الخليل عليه السلام كاذباً في هذا القول ولا مشركاً في تلك الإشارة .
ثم استدل بالأفول الزرال والتغير والانتقال على أنه لا يصلح أن يكون رباً إلهاً فإن الإله القديم لا يتغير وإذا تغير احتاج إلى مغير .
هذا لو اعتقدتموه : رباً قديماً وإلهاً أزلياً ولو اعتقدتموه : واسطة وقبلة وشفيعاً ووسيلة فإن الأفول الزوال يخرجه أيضاً عن حد الكمال .
وعن هذا ما استدل عليه بالطلوع وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول فإنهم إنما انتقلوا إلى عمل الأشخاص لما عراهم من التحير بالأفول فأتاهم الخليل عليه السلام من حيث تحيرهم فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته وذلك أبلغ في الاحتجاج .
ثم لما رأى القمر بازغاً قال : هذا ربي فلما أفل قال : لأن لم يهدني ربي لأكون متن القوم الضالين فيا عجباً مما لا يعرف رباً كيف يقول : لأن لم يهدني ربي لأكون من القوم الضالين ! .(13/217)
رؤية الهداية من الرب تعالى : غاية التوحيد ونهاية المعرفة والواصل إلى الغاية والنهاية كيف يكون في مدارج البداية ! .
دع هذا كله خلف قاف وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم : من أبلغ الحجج وأوضح المناهج وعن هذا قال لما رأى الشمس بازغة قال : هذا ربي هذا أكبر لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك وهو رب الأرباب : الذي يقتبسون منه الأنوار ويقبلون منه الآثار فلما أفلت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين .
قرر مذهب الحنفاء وأبطل مذهب الصابئة وبين أن الفطرة هي الحنيفية وأن الطهارة فيها وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها وأن النجاة والخلاص متعلقة بها وأن الشرائع والأحكام مشارع ومناهج إليها وأن الأنبياء والرسل مبعوثون لتقريرها وتقديرها وأن الفاتحة والخاتمة والمبدأ والكمال منوطة بتحصيلها وتحريرها .
ذلك : الدين القيم والصراط المستقيم والمنهج الواضح والمسلك اللائح قال الله تعالى لنبيه المصطفى صلى الله عليه سلم : " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين : من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون " .
الباب الثالث الحرنانية
وهم جماعة من الصابئة مقالات الحرنانية قالوا : إن الصانع المعبود واحد وكثير : أما واحد ففي الذات والأول والأصل والأزل .
و أما كثير فلأنه يتكثر بالأشخاص في رأي العين وهي المدبرات السبعة والأشخاص الأرضية : الخيرة العالمة الفاضلة فإنه يظهر بها ويتشخص بأشخاصها ولا تبطل وحدته في ذاته .(13/218)
وقالوا : هو أبدع الفلك وجميع ما فيه من الأجرام والكواكب وجعلها مدبرات هذا العالم وهم الآباء والعناصر أمهات والمركبات مواليد .
والآباء أحياء ناطقون يؤدون الآثار إلى العناصر فتقبلها العناصر في أرحامها فيحصل من ذلك المواليد .
ثم من المواليد قد يتفق شخص مركب من صفوها دون كدرها ويحصل له مزاج كامل الاستعداد فيتشخص الإله به في العالم .
ثم أن طبيعة الكل تحدث في كل إقليم من الأقاليم المسكونة على رأس كل سنة وثلاثين ألف سنة وأربعمائة وخمس وعشرين سنة : زوجين من كل نوع من أجناس الحيوانات ذكراً أو أنثى من الإنسان وغيره فيبقى ذلك النوع تلك المدة .
ثم إذا انقضى الدور بتمامه انقطعت الأنواع : نسلها وتوالدها فيبتدأ دور آخر ويحدث قرن آخر : من الإنسان والحيوان والنبات .
وكذلك أبد الدهر .
قالوا : وهذه هي القيامة الموعودة على لسان الأنبياء عليهم السلام وإلا فلا دار سوى هذه الدار : وما يهلكنا إلا الدهر .
ولا يتصور إحياء الموتى وبعث من في القبور : أيعدكم : أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون .
وهم الذين أخبر التنزيل عنهم بهذه المقالة .
وإنما نشأ أصل التناسخ والحلول من هؤلاء القوم .
فإن التناسخ هو أن تتكرر الأكوار والأدوار إلى ما لا نهاية له ويحدث في كل دور مثلما حدث في الأول .
والثواب والعقاب في هذه الدار لا في دار أخرى لا عمل فيها .
والأعمال التي نحن فيها إنما هي أجزية على أعمال سلفت منا في الأدوار الماضية فالراحة والسرور والفرح والدعة التي نجدها : هي مرتبة على أعمال البر التي سلفت منا في الأدوار الماضية والغم والحزن والضنك والكلفة التي نجدها : هي مرتبة على أعمال الفجور التي سبقت منا .
وكذلك كان في الأول .
وكذا يكون في الآخر والانصرام من كل وجه غير متصور في الحكيم .(13/219)
وأما الحلول فهو التشخص الذي ذكرناه وربما يكون ذلك بحلول ذاته وربما يكون بحلول جزء من ذاته على قدر استعداد مزاج الشخص .
وربما قالوا : إنما تشخص بالهياكل السماوية كلها هو واحد وإنما يظهر فعله في واحد بقدر آثاره فيه وتشخصه به .
فكأن الهياكل السبعة أعضاؤه السبعة وكأن اعضاءنا السبعة هياكله السبعة : فيها يظهر فينطق بلساننا ويبصر بأعيننا ويسمع بآذاننا ويقبض ويبسط بأيدينا ويجيء ويذهب بأرجلنا ويفعل بجوارحنا .
مزاعم الحرنانية وزعموا : أن الله تعالى أجل من أن يخلق : الشرور والقبائح والأقذار والخنافس والحيات والعقارب .
بل هي كلها واقعة ضرورة عن اتصالات الكواكب : سعادة ونحوسة واجتماعات العناصر : صفوة وكدورة .
فما كان من : سعد وخير وصفو فهو المقصود من الفطرة فينسب إلى الباري تعالى .
وما كان من : نحوسة وشر وكدر فهو الواقع ضرورة فلا ينسب إليه بل هي : إما اتفاقيات وضروريات وإما مستندة إلى أصل الشرور والاتصال المذموم .
والحرانية ينسبون مقالتهم إلى عاذيمون وهرمس وأعيانا وأواذى : أربعة من الأنبياء .
ومنهم من ينتسب إلى سولون جد أفلاطون لأمه ويزعم أنه كان نبياً .
وزعموا أن أواذى حرم عليهم : البصل والكراث والباقلي .
أعمال الصابئة كلهم وهياكلهم والصابئون كلهم يصلون ثلاث صلوات ويغتسلون من الجنابة ومن مس الميت وحرموا أكل الجزور والخنزير والكلب ومن الطير كل ما له مخلب والحمام .
ونهوا : عن السكر في الشراب وعن الإختتان .
وأمروا بالتزويج بولي وشهود ولا يجوزون الطلاق إلا بحكم حاكم ولا يجمعون بين إمرأتين .
وأما الهياكل التي بناها الصابئة على أسماء الجواهر العقلية الروحانية وأشكال الكواكب فمنها : هيكل العلة الأولى ودونها : هيكل العقل وهيكل السياسة وهيكلا لصورة وهيكل النفس .
مدورات الشكل .(13/220)
وهيكل زحل : مسدس وهيكل المشتري : مثلث وهيكل المريخ : مربع مستطيل وهيكل الشمس : مربع وهيكل الزهرة : مثلث في جوف مربع وهيكل عطارد : مثلث في جوفه مربع مستطيل وهيكل القمر : مثمن .
الجزء الثاني الفلاسفة
الفلسفة باليونانية : محبة الحكمة .
والفيلسوف هو : فيلا وسوفا وفيلا هو المحب وسوفا : الحكمة أي هو : محب الحكمة .
والحكمة : قولية وفعلية : أما الحكمة القولية وهي العقلية أيضاً فهي كل ما يعقله العاقل بالحد وما يجري مجراه مثل الرسم .
وبالبرهان وما يجري مجراه مثل الاستقراء .
فيعبر عنه بهما .
وأما الحكمة الفعلية : فكل ما يفعله الحكيم لغاية كمالية .
فالأولي الأزلي لما كان هو : الغاية والكمال فلا يفعل فعلاً لغاية دون ذاته وإلا فيكون الغاية والكمال هو الحامل والأول محمول وذلك محال .
فالحكمة في فعله وقعت تبعاً لكمال ذاته وذلك هو الكمال المطلق في الحكمة وفي فعل غيره من المتوسطات وقعت مقصوداً للكمال المطلوب وكذلك في أفعالنا .
ثم إن الفلاسفة اختلفوا في الحكمة القولية العقلية اختلافاً لا يحصى كثرة والمتأخرون منهم خالفوا الأوائل في أكثر المسائل .
وكانت مسائل الأولين محصورة في الطبيعيات والإلهيات وذلك هو الكلام في الباري تعالى والعالم ثم زادوا فيها الرياضيات .
وقالوا : العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام : علم ما وعلم كيف وعلم كم .
فالعلم الذي يطلب فيه ماهيات الأشياء هو العلم الإلهي والعلم الذي يطلب فيه كيفيات الأشياء هو العلم الطبيعي والعلم الذي يطلب فيه كميات الأشياء هو العلم الرياضي سواء كانت الكميات مجردة عن المادة أو كانت مخالطة بعد .
فأحدث بعدهم أرسطوطاليس الحكيم : علم المنطق وسماه تعليمات وإنما هو جرده من كلام القدماء وإلا فلم تخل الحكمة عن قوانين المنطق قط .(13/221)
وربما عدها آلهة العلوم لا من جملة العلوم فقال : الموضوع في العلم الإلهي هو الوجود المطلق ومسائله : البحث عن أحوال الوجود من حيث هو وجود .
والموضوع في العلم الطبيعي هو الجسم ومسئله : البحث عن أحوال الجسم من حيث هو جسم .
والموضوع في العلم الرياضي هو الأبعاد والمقادير وبالجملة : الكمية من حيث إنها مجردة عن المادة ومسائله : البحث عن أحوال الكمية من حيث هي كمية .
والموضوع في العلم المنطقي هو المعاني التي في ذهن الإنسان من حيث يتأدى بها إلى غيرها من العلوم ومسائله : البحث عن أحوال تلك المعاني من حيث هي كذلك .
قالت الفلاسفة : ولما كانت السعادة هي المطلوبة لذاتها وإنما يكدح الإنسان لنيلها والوصول إليها وهي لا تنال بالحكمة فالحكمة تطلب إما ليعمل بها وإما لتعلم فقط فانقسمت الحكمة إلى قسمين : عملي وعلمي .
ثم منهم من قدم العملي على العلمي ومنهم من أخر كما سيأتي .
فالقسم العملي هو عمل الخير والقسم العلمي هو علم الحق .
قالوا : وهذان القسمان مما يوصل إليه بالعقل الكامل والرأي الراجح غير أن الاستعانة في القسم العملي منه بغيره أكثر .
والأنبياء عليهم السلام أيدوا بإمداد روحانية تقريراً للقسم العلمي ولطرف ما من القسم العملي .
فغاية الحكيم هو أن يتجلى لعقله كل الكون ويتشبه بالإله الحق تعالى وتقدس بغاية الإمكان .
وغاية النبي أن يتجلى له نظام الكون فيقدر على ذلك مصالح العامة حتى يبقى نظام العالم وتنظيم مصالح العباد وذلك لا يتأتى إلا بترغيب وترهيب وتشكيل وتخييل .
فكل ما ورد به أصحاب الشرائع والملل : مقدر على ما ذكرناه عند الفلاسفة إلا من أخذ علمه من مشكاة النبوة فإنه ربما بلغ إلى حد التعظيم لهم وحسن الاعتقاد في كمال درجتهم .
ومنهم : حكماء العرب وهم شرذمة قليلون لأن أكثر حكمهم : فلتات الطبع وخطرات الفكر وربما قالوا بالنبوات .(13/222)
ومنهم : حكماء الروم وهم منقسمون إلى القدماء الذين هم أساطين الحكمة وإلى المتأخرين منهم وهم : المشاءون وأصحاب الرواق وأصحاب أرسطوطاليس وإلى فلاسفة الإسلام الذين هم حكماء العجم وإلا كانت متلقاة من النبوات : إما من الملة القديمة وإما من سائر الملل .
غير أن الصابئة كانوا يخلطون الحكمة بالصبوة .
فنحن نذكر مذاهب الحكماء القدماء : من الروم واليونانيين على الترتيب الذي نقل في كتبهم ونعقب ذلك بذكر سائر الحكماء إن شاء الله تعالى .
فإن الأصل في الفلسفة والمبدأ في الحكمة للروم وغيرهم كالعيال لهم .
الباب الأول الحكماء السبعة الذين هم أساطين الحكمة
من الملطية وساميا وأثينية وهي بلادهم .
وأما أسماؤهم فهي : تاليس الملطي وأنكساغورس وأنكسيمانس وانبادقليس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون .
وتبعهم جماعة من الحكماء مثل : فلوطرخيس وبقراط وديمقريطيس والشعراء والنساك .
وإنما يدور كلامهم في الفلسفة على ذكر وحدانية الباري تعالى وإحاطته علماً بالكائنات كيف هي وفي الإبداع وتكوين العالم وأن المبادئ الأول : ما هي وكم هي وأن المعاد : ما هو ومتى هو .
وربما تكلموا في الباري تعالى بنوع حركة وسكون .
وقد أغفل المتأخرون من فلاسفة الإسلام ذكرهم وذكر مقالاتهم رأساً إلا نكتة شاذة نادرة ربما اعترت على أبصارهم وأفكارهم أشاروا إليها تزييفاً .
ونحن تتبعناها نقلاً وتعقبناها نقداً وألقينا زمام الاختيار إليك : في المطالعة والمناظرة بين كلام الأوائل والأواخر .
رأي تاليس وهو أول من تفلسف في ملطية .
قال : إن للعالم مبدعاً لا تدرك صفته العقول من جهة هويته وإنما يدرك من جهة آثاره وهو الذي لا يعرف اسمه فضلاً عن هويته إلا من نحو : أفاعيله وإبداعه وتكزينه الأشياء .
فلسنا ندرك له اسماً من نحو ذاته بل من نحو ذاتنا .(13/223)
ثم قال : إن القول الذي لا مراد له : هو أن البدع كان ولا شيء مبدع فأبدع الذي أبدع ولا صورة له عنده في الذات لأن قبل الإبداع إنما هو فقط وإذا كان هو فقط فليس يقال حينئذ : جهة وجهة حتى يكون هو وصورة أو حيث حتى يكون هو وذو صورة .
والوحدة الخالصة تنافي هذين الوجهين .
والإبداع هو : تأييس ما ليس بأيسي وإذا كان هو مؤيس الآيسيات والتأييس لا من شيء متقادم فمؤيس الأشياء لا يحتاج إلى أن يكون عنده صورة الأيسي بالايسية وإلا فقد لزمه إن كانت الصورة عنده أن يكون منفرداً عن الصورة التي عنده فيكون هو وصورة وقد بينا أنه قبل الإبداع إنما هو فقط .
وأيضاً : فلو كانت الصورة عنده : أكانت مطابقة للموجود الخارج أم غير مطابقة .
فإن كانت مطابقة فلتتعدد الصور بعدد الموجودات ولتكن كلياتها مطابقة للكليات وجزئياتها مطابقة للجزئيات ولتغيير بتغيرها كما تكثرت بتكثرها .
وكل ذلك محال لأنه ينافي الوحدة الخالصة .
وإن لم تطابق الموجود الخارج فليست إذاً صورة عنه بل إنما هي شيء آخر .
قال : لكنه أبدع العنصر الذي فيه صور الموجودات والمعلومات كلها فانبعث من كل صورة موجود في العالم على المثال الذي في العنصر الأول فمحل الصور ومنبع الموجودات كلها هو ذات وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسي إلا وفي ذات العنصر صورة له ومثال عنه .
قال : ومن كمال ذات الأول الحق أنه أبدع مثل هذا العنصر فما يتصوره العامة في ذاته تعالى أن فيها الصور يعني صور المعلومات فهو مبدعه ويتعالى الأول الحق بوحدانيته وهويته عن أن يوصف بما يوصف به مبدعه .
ومن العجب أنه نقل عنه أن المبدع الأول هو الماء قال : الماء قابل لكل صورة ومنه أبدع الجواهر كلها : من السماء والأرض وما بينهما وهو علة كل مبدع وعلة كل مركب من العنصر الجسماني .(13/224)
فذكر أن من جمود الماء تكونت الأرض ومن إحلاله تكون الهواء ومن صفوة الهواء تكونت النار ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكونت الكواكب فدارت حول المركز دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل فيها إليه .
قال : والماء ذكر والأرض أنثى وهما يكونان سفلا والنار ذكر والهواء أنثى وهما يكونان علواً .
وكان يقول : إن هذا العنصر الذي هو أول وهو آخر أي هو المبدأ وهو الكمال هو عنصر الجسمانيات والجرميات لا أنه عنصر الروحانيات البسيطة .
ثم إن هذا العنصر له صفو وكدر فما كان من صفوه فإنه يكون جسماً وما كان من كدره فإنه يكون جرماً .
فالجرم يدثر والجسم لا يدثر .
والجرم كثيف ظاهر والجسم لطيف باطن .
وفي النشأة الثانية يظهر الجسم ويدثر الجرم وكان يقول : إن فوق السماء عوالم مبدعة لا يقدر المنطق أن يصف تلك الأنوار ولا يقدر العقل أن يقف على إدراك ذلك الحسن والبهاء وهي مبدعة من عنصر لا يدرك غوره ولا يبصر نوره والمنطق والنفس والطبيعة تحته ودونه وهو الدهر المحصن من نحو آخره لا من نحو أوله وإليه تشتاق العقول والأنفس وهو الذي سميناه الديمومة والسرمد والبقاء في حد النشأة الثانية .
فظهر بهذه الإشارات أنه إنما أراد بقوله : الماء هو المبدع الأول أي هو مبدأ التركيبات الجسمانية لا المبدأ الأول في الموجودات العلوية لكنه لما اعتقد أن العنصر الأول هو قابل كل صورة أي منبع الصور كلها فأثبت في العالم الجسماني له مثالاً يوازيه في قبول الصور كلها ولم يجد عنصراً على هذا النهج مثل الماء فجعله المبدع الأول في المركبات وأنشأ منه الأجسام والأجرام السماوية والأرضية .(13/225)
وفي التوراة في السفر الأول منها أن مبدأ الخلق هو جوهر خلقه الله تعالى ثم نظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان فخلق منه السموات وظهر على وجه الماء زبد مثل زبد البحر فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال .
وكأن تاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من هذه المشكاة النبوية .
والذي أثبته من العنصر الأول الذي هو منبع الصور شديد الشبه باللوح المحفوظ المذكور في الكتب الإلهية إذ فيه جميع أحكام المعلومات وصور جميع الموجودات والخبر عن الكائنات .
والماء على القول الثاني شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش : وكان عرشه على الماء .
رأي انكساغورس وهو أيضاً من أهل ملطية رأي في الوحدانية مثل ما رأى تاليس وخالفه في المبدأ الأول .
قال إن مبدأ الموجودات هو جسم أول متشابه الأجزاء وهي أجزاء لطيفة لا يدركها الحس ولا ينالها العقل منها كون الكون كله العلوي منه والسفلي لأن المركبات مسبوقة بالبسائط والمختلفات أيضاً مسبوقة بالمتشابهات .
أليست المركبات كلها إنما امتزجت وتركبت من العناصر وهي بسائط متشابهة الأجزاء وأليس الحيوان والنبات وكل ما يغتذي فإنما يغتذي من أجزاء متشابهة أو غير متشابهة فتجتمع في المعدة فتصير متشابهة ثم تجري في العروق والشرايين فتستحيل أجزاء مختلفة مثل الدم واللحم والعظم .
وحكي عنه أيضاً أنه وافق سائر الحكماء في المبدأ الأول : إنه العقل الفعال .
غير أنه خالفهم في قوله إن الأول الحق تعالى ساكن غير متحرك .
وسنشرح القول في السكون والحركة له تعالى ونبين اصطلاحهم في ذلك .
وحكى فرفوريوس عنه أنه قال : إن أصل الأشياء جسم واحد موضوع الكل لا نهاية له ولم يبين ما ذلك الجسم أهو من العناصر أم خارج عن ذلك قال : ومنه تخرج جميع الأجسام والقوة الجسمانية والأنواع والأصناف .(13/226)
وهو أول من قال بالكمون والظهور حيث قدر الأشياء كلها كامنة في الجسم الأول وإنما الوجود ظهورها من ذلك الجسم نوعاً وصنفاً ومقداراً وشكلاً وتكاثفاً وتخلخلاً كما تظهر السنبلة من الحبة الواحدة والنخلة الباسقة من النواة الصغيرة والإنسان الكامل الصورة من النطفة المهينة والطير من البيض فكل ذلك ظهور عن كمون وفعل عن قوة وصورة عن استعداد مادة .
وإنما الإبداع واحد ولم يكن بشيء آخر سوى ذلك الجسم الأول .
وحكي عنه انه قال : كانت الأشياء ساكنة ثم إن العقل رتبها ترتيباً على أحسن نظام فوضعها مواضعها من عال ومن سافل ومن متوسط ثم من متحرك ومن ساكن ومن مستقيم في الحركة ومن دائر ومن أفلاك متحركة على الدوام ومن عناصر متحركة على الاستقامة .
وهذه كلها بهذا الترتيب مظهرات لما في الجسم الأول من الموجودات .
ويحكى عنه أن المرتب هو الطبيعة وربما يقول : المرتب هو الباري تعالى .
وإذا كان المبدأ الأول عنده ذلك الجسم فمقتضى مذهبه أن يكون المعاد إلى ذلك الجسم .
وإذا كانت النشأة الأولى هي الظهور فيقتضي أن تكون النشأة الثانية هي الكمون .
وذلك قريب من مذهب من يقول بالهيولى الأولى التي حدثت فيها الصور إلا أنه أثبت جسماً غير متناه بالفعل هو متشابه الأجزاء وأصحاب الهيولى لا يثبتون جسماً بالفعل .
وقد رد عليه الحكماء المتأخرون في إثباته جسماً مطلقاً لم يعين له صورة سماوية أو عنصرية وفي نفيه النهاية عنه وفي قوله بالكمون والظهور وفي بيانه سبب الترتيب وتعيينه المرتب .
وإنما عقبت مذهبهم برأي تاليس لأنهما من أهل ملطية ومقاربان في إثبات العنصر الأول والصور فيه متمثلة والجسم الأول والموجودات فيه كاملة .
وحكى أرسطوطاليس عنه : أن الجسم الذي تكون منه الأشياء غير قابل للكثرة .
قال وأومأ إلى أن الكثرة جاءت من قبل الباري تعالى وتقدس .
رأي أنكسيمانس وهو الملطيين المعروف بالحكمة المذكور بالخير عندهم .(13/227)