تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم}(1) وكالآيات المتقدمة في توبة الله تعالى عليهم، ومغفرته لهم، يحمله على ذلك ضغنه الكمين وحقده الدفين على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعليه من الله ما يستحق.
وأما قوله: «إن الصحابة اختلفوا واقتتلوا ونتج عن ذلك حروب دامية تسببت في انتكاس المسلمين».
فجوابه: أن اقتتال الصحابة إنما نشأ في عهد علي - رضي الله عنه - وقد كان علي طرفاً من أطرافه، فإذا كان لايرد في ذلك ذم على علي - رضي الله عنه - وهو إمام المسلمين والمسؤل عن سلامة الرعية فمن باب أولى أن لا يذم بذلك غيره من الصحابة.
وقد تقدم الحديث عن أسباب الاختلاف بين الصحابة في الفتنة، وبيان وجهة كل فريق، وبراءتهم من كل ما يلصق بهم في ذلك، وأن عامة ما صدر منهم إنما كانوا مجتهدين فيه، ليس لأحد أن يذمهم بشيء منه، وإنما الامساك عما شجر بينهم والترحم عليهم هو السبيل الأمثل، والمنهج الأقوم في حقهم، فرضي الله عنهم أجمعين.(2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة آيه 100.
(2) انظر تقرير ذلك ص 240 من هذا الكتاب.
طعن الرافضي على الصحابة بقوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ...} والرد عليه.
قال المؤلف ص117: «قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}. (1)(9/291)
وفي الدر المنثور لجلال الدين السيوطي قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأصابوا من لين العيش ما أصابوا، بعدما كان بهم من الجهد، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه، فعوتبوا فنزلت: {ألم يأن للذين آمنوا}. وفي رواية أخرى أن الله I استبطأ قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن فأنزل الله: {ألم يأن للذين آمنوا}.
وإذا كان هؤلاء الصحابة وهم خيرة الناس على ما يقوله أهل السنة والجماعة، لم تخشع قلوبهم لذكر الله، وما نزل من الحق طيلة سبعه عشر عاماً، حتى استبطأهم الله وعاتبهم، وحذرهم من قسوة القلوب، التي تجرهم إلى الفسوق، فلا لوم على المتأخرين من سراة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحديد آيه 16.
قريش الذين أسلموا في السنة الثامنة من الهجرة بعد فتح مكة. فهذه بعض الأمثلة التي استعرضها من كتاب الله العزيز كافية للدلالة على
أن الصحابة ليسوا كلهم عدولاً، كما يقول أهل السنة والجماعة...».
وجوابه: أن هذه الآية لا تدل بحال على ما ادعاه: من زعمه أن قلوب الصحابة لم تخشع لذكر الله طيلة سبعة عشر عاماً، بل هذا من أقبح الكذب والافتراء على الله الذي لا تحتمله الآية، ويعرف هذا بمعرفة أقوال المفسرين في سبب نزولها وتفسيرها، فهذه الآية قد اختلف المفسرون في سبب نزولها.(9/292)
فقيل: إنها نزلت في المنافقين، قال الكلبي ومقاتل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة، وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا: حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزلت: {نحن نقص عليك أحسن القصص}(1)، فأخبرهم أن القرآن أحسن قصصاً من غيره، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله، ثم عادوا فسألوا سلمان عن مثل ذلك فنزل: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً}(2)، فكفوا عن سؤاله ما شاء الله ثم عادوا فقالوا: حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزلت هذه الآية، فعلى هذا تأويل قوله: {ألم يأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة يوسف آية 3.
(2) سورة الزمر آية 23.
للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله}(1) يعني في العلانية وباللسان.
وقال آخرون: نزلت في المؤمنين، قال عبد الله بن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} إلا أربع سنين. (2)
وقيل: هي خطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد عليهم السلام لانه قال عقيب هذا: {والذين آمنوا بالله ورسله}(3)، أي ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل، أن تلين قلوبهم للقرآن، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى، إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم فقست قلوبهم. (4)
فهذه أقوال المفسرين في سبب نزول الآية، وعلى قول من قال: إنها نزلت في المنافقين أو في أهل الكتاب، فلا وجه لتنزيلها على الصحابة بحال.
وأما على القول بنزولها فيهم: فإنها لا مطعن فيها على الصحابة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحديد آية 16.
(2) انظر: تفسير البغوي 4/297، وتفسير القرطبي 17/240.
(3) سورة الحديد من الآية 19.
(4) انظر: تفسير القرطبي 17/240.(9/293)
لأن غاية ما في الآية هو حثهم على أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل عليهم من القرآن، وأن أوان ذلك قد حان، دون أن تتعرض الآية لذمهم أو تنقصهم.
قال الطبري في معنى الآية: «ألم يحن للذين صدقوا الله ورسوله أن تلين قلوبهم لذكر الله فتخضع قلوبهم له، ولما نَزَل من الحق، وهو هذا القرآن الذي نزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ».(1)
وقال ابن كثير: «يقول تعالى: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي: تلين عند الذكر والموعظة، وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه». (2)
وليس في الآية ما يدل على نفي أصل الخشوع من القلب، وهو الخشوع الواجب -كما ادعى هذا الرافضي الحاقد- بل وصف الله تعالى لهم بالإيمان في قوله: {ألم يأن للذين آمنوا} دليل على أن أصل الخشوع موجود، لكنه أراد أن ينقلهم إلى درجة أعلى منه، وذلك أن الخشوع منه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإن قيل فخشوع القلب لذكر الله وما نزل من الحق واجب، قيل: نعم، لكن الناس فيه على قسمين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبري 11/681.
(2) تفسير ابن كثير 2/310.
مقتصد، وسابق، فالسابقون يختصون بالمستحبات، والمقتصدون الأبرار هم عموم المؤمنين المستحقين للجنة». (1)
وعلى هذا فالخطاب في الآية يكون في حق من لم يحقق تلك الدرجة العالية من الخشوع، دون من بلغها من الصحابة، يؤيد هذا ما
نقله الشوكاني عن الزجاج في سبب نزول الآية حيث قال: (نزلت في طائفة من المؤمنين حثوا على الرقة والخشوع، فأما من وصفهم الله بالرقة والخشوع فطبقة فوق هؤلاء). (2)(9/294)
وقد ثبتت هذه المنزلة العالية من الخشوع وكثرة البكاء لبعض الصحابة قبل نزول هذه الآية، ومن ذلك ما ثبت عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من رواية عائشة -رضي الله عنها- في قصة جوار ابن الدّغنّة لأبي بكر في بداية البعثة وفيها: (... ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ فيتقصف(3) عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - رجلاً بكّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى 7/29.
(2) فتح القدير للشوكاني 5/172.
(3) أي يزدحمون، النهاية لابن الأثير 4/73.
المشركين). (1)
وهذه الحادثة في بداية البعثة وهي قبل نزول الآية قطعاً، فإن الآية في سورة الحديد، وسورة الحديد مدنية.
وأما زعمه أن نزول الآية في الحث على الخشوع كان بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن، فهذا إن جاء في بعض الروايات فهو معارض بما جاء في غيرها.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن).(2)
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآيه {ألم يأن للذين آمنوا..} إلا أربع سنين).(3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في: (كتاب الكفالة، باب جوار أبي بكر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم )
فتح الباري 4/475-476، ح: 2297، وأخرجه أيضاً في: (كتاب الصلاة، باب المسجد يكون في الطريق) فتح الباري 1/563،564، ح476.
(2) ذكره البغوي في تفسيره 4/297، وابن كثير في تفسيره 4/310.(9/295)
(3) أخرجه مسلم (كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا ...}) 4/2319، ح3027.
ورواية ابن مسعود أصح من غيرها فإنها في صحيح مسلم، وهي دليل على أن عتاب الله لهم بالآية كان في بداية إسلامهم، خلافاً لما زعمه الرافضي أنه بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن.
وأما طعن الرافضي في الصحابة بزعمه أنه لم تخشع قلوب السابقين منهم فكيف بمن أتى بعدهم...!
فهذه دعوى باطلة وفرية ظاهرة، يردها ما ثبت في سيرة
الصحابة -y- من أخبار تدل على تحقيقهم أعلى مقامات الخشوع، وشدة خوفهم من الله وكثرة بكائهم من خشيته مما لاينكره إلا مكابر أو جاهل.
فمن ذلك ما رواه الشيخان من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين...).(1) وفي رواية مسلم (خنين)
والحنين هو: الصوت الذي يرتفع بالبكاء من الصدر، والخنين:
من الأنف(2)، والمقصود شدة بكائهم من موعظة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري (كتاب التفسير، باب لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) فتح الباري 8/280، ح4621، وصحيح مسلم (كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم ..) 4/1832، ح2359.
(2) فتح الباري لابن حجر 8/281.
وفي رواية أخرى لمسلم: (فأكثر الناس البكاء، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ).(1)
وقد ثبت البكاء لبعض الصحابة، بل كان بعضهم معروفاً به(9/296)
مما يدل على شدة خوفهم من الله وخشيتهم له ففي الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس: (...فقلت يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق القلب إذا قرأ القرآن لايملك دمعه).
وفي روايه: (إن أبابكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء). (2)
وفي الحلية لأبي نعيم عن عبدالله بن عيسى قال: (كان في وجه عمر خطان أسودان من البكاء).(3)
وعن هشام بن الحسن قال: (كان عمر يمر بالآيه في ورده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجها مسلم من حديث أنس (كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم ..) 4/1832.
(2) أخرج الحديث الشيخان واللفظ الأول لمسلم والثاني للبخاري، صحيح البخاري (كتاب الأذان، باب أهل العلم والفضل أحق بالامامة) فتح الباري 2/164، ح679، صحيح مسلم (كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر..) 1/313.
(3) حلية الأولياء 1/51.
فتخنقه فيبكي حتى يسقط).(1)
وعن عثمان - رضي الله عنه - أنه جاء إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته عائشة -رضي الله عنها- أنهم لم يطعموا طعاماً منذ أربعة أيام، قالت عائشة -رضي الله عنها-: (فبكى عثمان ثم قال: مقتاً للدنيا، ثم أحضر لهم
طعاماً كثيراً وصرة دراهم).(2)
وعن عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أنه أتي بصحفة فيها خبز ولحم فلما وضعت بكى فقيل له: يا أبا محمد ما يبكيك؟ قال: هلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنا لها لما هو خير منها.(3)
وكان ابن عمر لا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا بكى. (4)(9/297)
وأخبارهم في ذلك تطول، وإنما ذكرت هنا أمثلة، للرد على ما افتراه هذا الرافضي في حق الصحابة، وزعمه عدم خشوعهم وخشيتهم، وبيان براءتهم من طعنه وقدحه بهذه الأمثلة الدالة على قوة إيمانهم وشدة خوفهم من الله تعالى، وحسبهم قبل ذلك وبعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حلية الأولياء 1/51.
(2) أورده ابن قدامة المقدسي في الرقة والبكاء ص188.
(3) أورده أبو نعيم في الحلية 1/100.
(4) رواه الدارمي في سننه 1/54 ح86.
تزكية الله ورسوله لهم، وما ثبت في الكتاب والسنة من فضائلهم ومناقبهم التي اختصهم الله بها على من بعدهم من الأمة فرضي الله عنهم أجمعين، وأعلى درجاتهم في جنات النعيم.
فثبت بهذا الاستعراض لما ذكره المؤلف من آيات زاعماً أنها دلت
على الطعن في الصحابة، ثم الوقوف على النصوص الأخرى وأقوال أهل العلم المفسرة لهذه الآيات، والموضحة لمقصودها، والمبينة لأسباب نزولها: بطلان ما ادعاه الرافضي في حق الصحابة، وأن هذه الآيات لا تدل بحال على ذم الصحابة أو تنقصهم، وإنما يحمل الرافضة على تأويلها على غير مراد الله منها وتحريفها عن مواضعها، ماامتلأت به قلوبهم من حقد وضغينة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مع ماعليه هؤلاء الرافضة من جهل عظيم بالشرع، ونقص كبير في العقول، وبلادة في الأفهام، مصحوب ذلك بهوى وظلم وكذب وافتراء.
ولذا ذكر شيخ الإسلام في وصفهم: «والقوم من أكذب الناس في النقليات، ومن أجهل الناس في العقليات، يصدقون من المنقول بما يعلم العلماء بالاضطرار أنه من الأباطيل، ويكذبون بالمعلوم من الاضطرار المتواتر أعظم تواتر في الأمة جيلاً بعد جيل».(1)
وفي ختام هذا المبحث المتعلق بالرد على المؤلف في ما يستدل به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 1/8.(9/298)
من آيات في الطعن على الصحابة اذكر بعض الأوجه العامة في الرد على استدلاله ببعض الآيات بعد ذكر الرد المفصل عليه عند كل آيه.
فأقول مستعيناً بالله:
الوجه الأول: أن كل ما يستدل به المؤلف وغيره من الرافضة
من آيات في الطعن على الصحابة لايخلو من ثلاثة أقسام:
إما أن تكون آيات نزلت في الكفار والمنافقين، ينزلونها على الصحابة بجهل وظلم، لاحجة لهم فيها بوجه عند أهل العلم.
وإما أن تكون آيات عامة نزلت في حث الأمة على الخير، وأمرها به، أو تحذيرها من الشر ونهيها عنه، والخطاب فيها للصحابة ولمن بعدهم من الأمة، وهي مصدرة في الغالب: بـ(يا أيها الذين آمنوا) وذلك كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}(1) وقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله ورسوله وتخونوا أماناتكم}(2) وقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}(3) وقوله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}(4)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة آيه 54.
(2) سورة الأنفال آيه 27.
(3) سورة المائدة آيه 87.
(4) سورة الأنفال آيه 24.
وقوله: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن}(1) والأمثلة على هذا كثيرة جداً في القرآن، وليس فيها أي طعن على الصحابة.(9/299)
وقد خاطب الله تعالى بمثل هذا رسوله صلى الله عليه وسلم كما في قوله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}(2) وقوله: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين}(3) وقوله: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاء من العلم إنك إذا لمن الظالمين}(4) وقوله: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم}(5) وقوله: {ولاتمنن تستكثر% ولربك فاصبر}(6) وغيرها من الآيات في معناها فكما أن هذه الآيات بما تضمنته من الأوامر والنواهي من الله لرسوله، ليس فيها أي مطعن عليه، فكذلك ما ثبت من ذلك في حق الصحابة ليس فيه أي مطعن عليهم.
وأما القسم الثالث من الآيات فآيات تضمنت نوع عتاب من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحجرات آيه 12.
(2) سورة المائدة آيه 67.
(3) سورة الزمر آيه 65.
(4) سورة البقرة آيه 145.
(5) سورة الأحقاف آيه 35.
(6) سورة المدثر آيتا 6، 7.
الله لبعض الصحابة، كما في قوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن(9/300)
تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق}(1) وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض}(2) وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة}(3) فهذه الآيات وما في معناها ليس فيها كذلك مطعن على الصحابة، وإنما عاتب الله بها أفراداً منهم، بل ربما كان العتاب لفرد واحد منهم، كما في الآية الأخيرة، فإنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه -(4) ومن الخطأ تعميم ذلك على الصحابة كلهم، كما هو صنيع الرافضة، وأيضاً فإن الله تعالى خاطبهم فيها بوصف الإيمان الدال على تزكية الله لهم وثنائه عليهم، ولهذا أُطلق على هذه الآيات وأمثالها على أنها عتاب من الله للمؤمنين،كمافي أثر ابن مسعود المتقدم: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآيه {ألم يأن للذين آمنوا..} (5) إلا أربع سنين).(6)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحديد آيه 16.
(2) سورة التوبة آيه 38.
(3) سورة الممتحنة آيه 1.
(4) انظر تفسير ابن كثير 4/344.
(5) سورة الحديد من الآيه 16.
(6) تقدم تخريجه ص 336.
وكذلك قال ابن عباس: (إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم).(1)(9/301)
والعتاب عرفه أهل اللغة بأنه: «مخاطبة الإدْلاَل وكلام المُدِلّيِن أَخِلاَّءَهم طالبين حسن مراجعتهم» (2) ولهذا عاتب الله رسوله وخليله صلى الله عليه وسلم في أكثر من آية كما في قوله تعالى: {عبس وتولى% أن جاءه الأعمى}(3) وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعدها يكرم ابن أم مكتوم ويقول له إذا رآه: (مرحباً بمن عاتبني فيه ربي) (4) وقال تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم}(5) وقال تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وانعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه}.(6)
إلى غير ذلك من الأمثلة في هذا الباب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه ص 336.
(2) لسان العرب لابن منظور 1/577.
(3) سورة عبس آيتا 1-2.
(4) ذكره البغوي في تفسيره 4/446، والقرطبي في تفسيره من رواية سفيان الثوري 19/203.
(5) سورة التحريم آيه 1.
(6) سورة الأحزاب آيه 37.
والمقصود هنا: هو التأكيد على أن كل ما ثبت في حق الصحابة من عتاب الله تعالى لهم، لا يوجب انتقاصهم به، إذا ما ثبت جنس ذلك في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بالمكانة المعروفة من ربه.
فثبت بهذا أنه لاحجة للرافضة فيما استدلوا به من آيات للطعن في الصحابة عند النظر والتدقيق، والبحث والتحقيق.(9/302)
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا جدلاً أن في تلك الآيات التي ذكر المؤلف ذماً لبعض الصحابة، فمن أين له الحكم على بعضهم أنهم هم المعنيون بها دون البعض الآخر، ممن تعتقد الرافضة عدالتهم من الصحابة، وعلى رأسهم علي - رضي الله عنه -، فإن هذا التعيين يحتاج إلى دليل، وإلا فلغيره أن يدعى ما يشاء، وينزل تلك الآيات على من شاء من الصحابة، كما لو احتج الخوارج بتلك الآيات على تكفير علي - رضي الله عنه - أو النواصب على تفسيقه، فلن يجد المؤلف ولا غيره من الرافضة حجة يدفعون بها عن علي - رضي الله عنه - إلا بقول أهل السنة واعتقاد عدالة الصحابة جميعاً.
الوجه الثالث: أن الله تعالى أثنى في كتابه على الصحابة أبلغ الثناء، وزكاهم أعظم تزكية، وأخبر أنه رضي الله عنهم ورضوا عنه، ووصفهم بالإيمان والتقوى، ووعدهم بالحسنى، كقوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم
بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري
تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم}.(1)
وقوله: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً}.(2)
وقوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً}.(3)
وقوله: {لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى}.(4)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوبة آيه 100.
(2) سورة الفتح آيه 18.(9/303)
(3) سورة الفتح آيه 29.
(4) سورة الحديد آيه 10.
فقد تضمنت هذه الآيات ثناء الله تعالى العظيم على الصحابة
ووصفه لهم بتلك الصفات الفاضلة الدالة على علو شأنهم في الدين، وسمو مكانتهم فيه، وإخباره بما أعد لهم في الآخرة من الأجر والثواب والمغفرة والرضوان، والخلود في جنات تجري من تحتها الأنهار، مما يدل دلالة واضحة على بطلان ما ادعاه الرافضي من أن بعض الآيات جاءت بذمهم وتنقصهم، وذلك أنه كتاب محكم لا يناقض بعضه بعضاً كما قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}.(1)
ولو افترض وجود بعض الآيات تدل بظاهرها على ما ادعى الرافضي، فالواجب حملها على هذه الآيات الصريحة القاطعة بعدالة الصحابة جميعاً، فكيف والنصوص كلها من الكتاب والسنة بعدالتهم متواترة، وبإيمانهم قاطعة.
الوجه الرابع: أن الله تعالى أثنى على المستغفرين لهم السائلين الله تعالى أن لا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، فقال بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}(2) فكيف يتصور بعد هذا أن يذمهم الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النساء آيه 82.
(2) سورة الحشر آيه 10.
تعالى في آيات أخرى بما يوجب تنقصهم وبغضهم، فإن هذا من أبعد ما يكون عند أصحاب العقول، أن يتضمن مثل ذلك كتاب الله المحكم المنزه عن الاختلاف والاضطراب.
الوجه الخامس: أن الله تعالى جعل أصحاب نبيه غيظاً للكفار فقال: {ليغيظ بهم الكفار}(1) فمن المحال بعد ذلك أن يجعل للكفار حجة عليهم بذمهم في كتابه، وقد قال الله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً}.(2)
وبهذا يظهر زيف دعوى الرافضي في أن القرآن قد جاء بذم الصحابة.(9/304)
فلله الحمد والمنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الفتح من الآيه 29.
(2) سورة النساء من الآيه 141.
=================
حديث الحوض
قال الرافضي ص119 تحت عنوان: (رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحابة).
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (بينما أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أرى يخلص منهم إلا مثل همل النعم).
وقال صلى الله عليه وسلم : (إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي).
فالمتمعن في هذه الآحاديث العديدة التي أخرجها علماء أهل السنة في صحاحهم ومسانيدهم، لا يتطرق إليه الشك في أن أكثر الصحابة قد بدلوا وغيروا، بل ارتدوا على أدبارهم بعده صلى الله عليه وسلم ، إلا القليل الذي عبر عنه بهمل النعم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال حمل هذه الآحاديث على القسم الثالث: وهم المنافقون لأن النص يقول: فأقول أصحابي، ولأن المنافقين لم يبدلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا
فأصبح المنافق بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً».(9/305)
والجواب: (أن هذين الحديثين اللذين ذكرهما صحيحان أخرجهما البخاري في صحيحه(1)، وأخرج مسلم الثاني منهما(2)، وللحديثين روايات أخرى أخرجهما الشيخان وغيرهما من الأئمة في كتب السنة، ولا حجة في هذه الأحاديث -بحمد الله- على مازعم هذا الرافضي من القول بردة الصحابة إلا القليل منهم، كما هو معتقد سلفه من الرافضة أخزاهم الله. وذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يقبل النزاع في عدالتهم أو التشكيك في إيمانهم بعد تعديل العليم الخبير لهم في كتابه، وتزكية رسوله صلى الله عليه وسلم لهم في سنته، وثناء الله ورسوله عليهم أجمل الثناء، ووصفهم بأحسن الصفات، مما هو معلوم ومتواتر من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على ما تقدم نقل بعض النصوص في ذلك. (3)
ولهذا اتفق شراح الحديث من أهل السنة، على أن الصحابة غير معنيين بهذه الأحاديث وأنها لا توجب قدحاً فيهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري: (كتاب الرقاق، باب في الحوض) فتح الباري 11/464- 465، ح 6584-6587.
(2) صحيح مسلم: (كتاب الفضائل، باب إثبات الحوض) 4/1793، ح229.
(3) انظر ص 215-217 ، 345-348.
قال ابن قتيبة في معرض رده على الرافضة في استدلالهم بالحديث على ردة الصحابة: «فكيف يجوز أن يرضى الله - تعالى - عن أقوام ويحمدهم، ويضرب لهم مثلاً في التوراة والإنجيل، وهو يعلم أنهم يرتدون على أعقابهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقولوا: إنه لم يعلم وهذا هو شر الكافرين».(1)
وقال الخطابي: «لم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتد قوم من جفاة العرب، ممن لانصرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحاً في الصحابة المشهورين، ويدل قوله: (أصيحابي) على قلة عددهم». (2)(9/306)
وقال الدهلوي: «إنا لا نسلم أن المراد بالأصحاب ماهو المعلوم في عرفنا، بل المراد بهم مطلق المؤمنين به صلى الله عليه وسلم المتبعين له، وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة أصحاب أبي حنيفة، ولمقلدي الشافعي أصحاب الشافعي، وهكذا وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع، وكذا يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب أصحابنا، مع أنه بينه وبينهم عدة من السنين، ومعرفتة صلى الله عليه وسلم لهم مع عدم رؤيتهم في الدنيا بسبب أمارات تلوح عليهم...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تأويل مختلف الحديث ص279.
(2) نقله عنه ابن حجر في فتح الباري 11/385.
إلى أن قال: ولو سلمنا أن المراد بهم ما هو المعلوم في العرف، فهم الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق، وقوله: أصحابي أصحابي، لظن أنهم لم يرتدوا كما يُؤْذِن به ما قيل في جوابه: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
فإن قلت: إن (رجالاً) في الحديث كما يحتمل أن يراد منه من ذكرت من مرتدي الأعراب، يحتمل أن يراد ما زعمته الشيعة أجيب: إن ما ورد في حقهم من الآيات والآحاديث وأقوال الأئمة مانع من إرادة ما زعمته الشيعة». (1)
ثم ساق الآيات والأحاديث في فضل الصحابة.
وإذا ثبت هذا فاعلم أيها القارئ: أن العلماء قد اختلفوا في أولئك المذادين عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الأحاديث- بعد اتفاقهم أن الصحابة -y- غير مرادين بذلك.
قال النووي في شرح بعض روايات الحديث عند قوله صلى الله عليه وسلم : (هل تدري ما أحدثوا بعدك): «هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال:(9/307)
أحدها: أن المراد به المنافقون والمرتدون، فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل، فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم للسيما التي عليهم، فيقال: ليس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مختصر التحفة الإثني عشرية ص272-273.
هؤلاء مما وعدت بهم، إن هؤلاء بدلوا بعدك: أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم.
والثاني: أن المراد من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد بعده فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء، لما كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم، فيقال: ارتدوا بعدك.
والثالث: أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، وعلى هذا لا يقطع لهؤلاء الذين يذادون بالنار، يجوز أن يذادوا عقوبة لهم، ثم يرحمهم الله I فيدخلهم الجنة بغير عذاب». (1)
ونقل هذه الأقوال، أو قريباً منها، القرطبي، وابن حجر -رحمهما الله تعالى-. (2)
قلت: ولا يمتنع أن يكون أولئك المذادون عن الحوض هم من مجموع تلك الأصناف المذكورة، فإن الروايات محتملة لكل هذا، ففي بعضها يقول النبي صلى الله عليه وسلم فأقول: (أصحابي) أو (أصيحابي -بالتصغير-)، وفي بعضها يقول: (سيؤخذ أناس من دوني فأقول ياربي مني ومن أمتي) وفي بعضها يقول: (ليردن عليّ أقوام أعرفهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح صحيح مسلم 3/136-137.
(2) انظر: المفهم للقرطبي 1/504، وفتح الباري لابن حجر 11/385.
ويعرفوني)(1)، وظاهر ذلك أن المذادين ليسوا طائفة واحدة.
وهذا هو الذي تقتضيه الحكمة، فإن العقوبات في الشرع تكون بحسب الذنوب، فيجتمع في العقوبة الواحدة كل من استوجبها من أصحاب ذلك الذنب.(9/308)
كما روى عن طائفة من الصحابة منهم عمر وابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير قوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم}(2): قالوا: (أشباههم يجئ أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا، وأصحاب الربا مع أصحاب الربا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر)(3)، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن سبب الذود عن الحوض هو الارتداد كما في قوله: (إنهم ارتدوا على أدبارهم)، أو الإحداث في الدين، كما في قوله: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)(4)، فمقتضى ذلك هو أن يُذاد عن الحوض كل مرتد عن الدين سواء أكان ممن ارتد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الروايات في صحيح البخاري: (كتاب الرقاق، باب الحوض) فتح الباري 11/463-465، وصحيح مسلم: (كتاب الفضائل، باب اثبات الحوض) 4/1792-1802.
(2) سورة الصافات آية 22.
(3) تفسير ابن كثير 4/4.
(4) انظر: الروايات في الصحيحين بحسب ما جاء في الحاشية رقم (1) من هذه الصفحة.
بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من الأعراب، أو من كان بعد ذلك، يشاركهم في هذا أهل الإحداث وهم المبتدعة.
وهذا هو ظاهر قول بعض أهل العلم.
قال ابن عبد البر: «كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض، كالخوارج، والروافض، وسائر أصحاب الأهواء، قال: وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون بالكبائر، قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر والله أعلم». (1)(9/309)
وقال القرطبي في التذكرة: «قال علماؤنا -رحمة الله عليهم أجمعين- فكل من ارتد عن دين الله، أو أحدث فيه ما لا يرضاه، ولم يأذن به الله، فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه، وأشدهم طرداً من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائهاء، فهؤلاء كلهم مبدلون). (2)
وإذا ما تقرر هذا ظهرت براءة الصحابة من كل ما يرميهم به الرافضة فالذود عن الحوض إنماهو بسبب الردة أو الإحداث في الدين،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نقلاً عن النووي في شرح صحيح مسلم 3/137.
(2) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/348.
والصحابة من أبعد الناس عن ذلك، بل هم أعداء المرتدين الذين قاتلوهم وحاربوهم في أصعب الظروف وأحرجها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم على ماروى الطبري في تأريخه بسنده عن عروة بن الزبير عن أبيه قال: (قد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عدوهم). (1)
ومع هذا تصدى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المرتدين وقاتلوهم قتالاً عظيماً وناجزوهم حتى أظهرهم الله عليهم فعاد للدين من أهل الردة من عاد، وقتل منهم من قتل، وعاد للإسلام عزه وقوته وهيبته على أيدي الصحابة -y- وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء.
وكذلك أهل البدع كان الصحابة -رضوان الله عليهم- أشد الناس إنكاراً عليهم، ولهذا لم تشتد البدع وتقوى إلا بعد انقضاء عصرهم، ولما ظهرت بعض بوادر البدع في عصرهم أنكروها وتبرؤا منها ومن أهلها.(9/310)
فعن ابن عمر- رضي الله عنه -أنه قال لمن أخبره عن مقالة القدرية:(إذا لقيت هؤلاءفأخبرهم أن ابن عمرمنهم بريء،وهم منه برآء ثلاث مرات). (2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3/225.
(2) أخرجه عبدالله بن أحمد في كتاب السنة 2/420، والآجري في الشريعة ص205.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (ما في الأرض قوم أبغض إلىّ من أن يجيئوني فيخاصموني من القدرية في القدر). (1)
ويقول البغوي ناقلاً إجماع الصحابة وسائر السلف على معاداة أهل البدع: «وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنن على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع ومهاجرتهم». (2)
وهذه المواقف العظيمة للصحابة من أهل الردة وأهل البدع، من أكبر الشواهد الظاهرة على صدق تدينهم، وقوة إيمانهم، وحسن بلائهم في الدين، وجهادهم أعداءه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أقام الله بهم السنة وقمع البدع، الأمر الذي يظهر به كذب الرافضة في رميهم لهم بالردة والإحداث في الدين، والذود عن حوض
النبي صلى الله عليه وسلم . بل هم أولى الناس بحوض نبيهم لحسن صحبتهم له في حياته، وقيامهم بأمر الدين بعد وفاته.
ولا يشكل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : (ليردن عليّ ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني)(3) فهؤلاء هم من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الآجري في الشريعة ص213.
(2) شرح السنة للبغوي 1/194.
(3) جزء من حديث سهل بن سعد أخرجه البخاري في صحيحه: (كتاب الرقاق، باب الحوض) فتح الباري 11/464، ح6582.(9/311)
مات النبي صلى الله عليه وسلم وهم على دينه، ثم ارتدوا بعد ذلك، كما ارتدت كثير من قبائل العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، فهؤلاء في علم النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه، لأنه مات وهم على دينه، ثم ارتدوا بعد وفاته ولذا يقال له: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، وفي بعض الروايات: (إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري) (1) فظاهر أن هذا في حق المرتدين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم . وأين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين قاموا بأمر الدين بعد نبيهم خير قيام، فقاتلوا المرتدين، وجاهدوا الكفار والمنافقين، وفتحوا بذلك الأمصار، حتى عم دين الله كثيراً من الأمصار، من أولئك المنقلبين على أدبارهم.
وهؤلاء المرتدون لا يدخلون عند أهل السنة في الصحابة، ولا يشملهم مصطلح (الصحبة) إذا ما أطلق. فالصحابي كما عرفه العلماء المحققون: «من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام». (2)
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : (فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)(3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الروايات في صحيح البخاري: (كتاب الرقاق، باب الحوض) فتح الباري 11/464-465، وصحيح مسلم: (كتاب الفضائل، باب إثبان الحوض) 4/1796.
(2) الاصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1/7.
(3) تقدم تخريج الحديث ص 350، وهَمَل النعم: ضوال الإبل، واحدها: هامل، أي الناجي منهم قليل في قلة النَّعَم الضالة، النهاية لابن الاثير 5/274.(9/312)
واحتجاج الرافضي به على تكفير الصحابة إلا القليل منهم فلا حجة له فيه، لأن الضمير في قوله (منهم) إنما يرجع على أولئك القوم الذين يدنون من الحوض ثم يذادون عنه، فلا يخلص منهم إليه إلا القليل وهذا ظاهر من سياق الحديث فإن نصه: (بينما أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلَمّ فقلت أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هَمَل النعم). (1)
فليس في الحديث للصحابة ذكر وإنما ذكر زمراً من الرجال يذادون من دون الحوض ثم لا يصل إليه منهم إلا القليل.
قال ابن حجر في شرح الحديث عند قوله: (فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هَمَل النعم) «يعني من هؤلاء الذين دنوا من الحوض وكادوا يردونه فصدوا عنه... والمعنى لا يرده منهم إلا القليل لأن الهَمَل في الإبل قليل بالنسبة لغيره». (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريج الحديث ص 350.
(2) فتح الباري 11/474-475.(9/313)
وبهذا يظهر كذب الرافضي وتلبيسه، وبراءة الصحابة من طعنه وتجريحه، على أن أحاديث الحوض في الجملة لو استقام للرافضي الاحتجاج بها على ردة بعض الصحابة -مع أن ذلك لا يستقيم بما تقدم ذكره -فأين الدليل على تعيين المرتدين المحدثين منهم الذين تعتقد الرافضة ردتهم من الصحابة، فإن هذا يحتاج إلى دليل، ولو احتج الخوارج الذين يكفرون علياً - رضي الله عنه - بهذه الآحاديث على ردة علي - رضي الله عنه - حاشاه ذلك- ما استطاع الرافضة الذب عنه، بل لو قال الخارجي الواقع يشهد بصحة ما اعتقد فإن الحروب والفتن وتفرق المسلمين وسفك دمائهم إنما كان في عهده دون من سبقه من الخلفاء، لانقطع الرافضي في الخصومة، وهذا لايعني صحة قول الخارجي ولا قوة حجته بل قوله فاسد، معلوم فساده بالاضطرار من دين المسلمين بما تواتر من الأدلة القاطعة بعدالة الصحابة وتزكية الله ورسوله لهم، وبما اشتهر من الأدلة الخاصة في فضل علي - رضي الله عنه -، لكن الرافضة بفساد عقولهم وضعف أفهامهم لما قدحوا في كل الأصول الدالة على عدالة الصحابة جميعاً، لا يستطيعون بعدها أن يقيموا حجة واحدة على عدالة علي، إلا ألزمهم الخوارج بمثل قولهم في أبي بكر، وعمر، وعثمان، وهذا أصل عظيم في الرد على الرافضة ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول:«وهكذا أمر أهل السنة مع الرافضة في أبي بكر، وعلي، فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان علي(9/314)
وعدالته وأنه من أهل الجنة، فضلاً عن إمامته إن لم يثبت ذلك لأبي بكر، وعمر، وعثمان، وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة، كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة. فإذا قالت له الخوارج الذين يكفرون علياً أو النواصب الذين يفسقونه: إنه كان ظالماً طالباً للدنيا، وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف، وقتل على ذلك ألوفاً من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه، فهذا الكلام وإن كان فاسداً ففساد كلام الرافضي في أبي بكر، وعمر، أعظم، وإن كان ما قاله في أبي بكر، وعمر، متوجهاً مقبولاً فهذا أولى بالتوجه والقبول...». (1)
وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة وزيف ما ادعاه الرافضي.
فلله الحمد والمنة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 2/58، وانظر: كلاماً لشيخ الإسلام قريباً من هذا في مجموع الفتاوى 4/468.
===============
شبهة حديث الحوض
حديث الحوض فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( يَرِدُ علي رجال أعرفهم ويعرفونني فيذادون عن الحوض – يعني حوض النبي يوم القيامة - فأقول أصحابي أصحابي فيقال : إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك ) ولهذا الحديث روايات أخرى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فأقول سحقاً سحقاً ) هؤلاء الذين يذادون عن الحوض من هم ؟ قالوا هم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز لكم أن تثنوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم في الأصل يذادون عن الحوض ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عنهم سحقا سحقاً .. فنقول مستعينين بالله تبارك وتعالى :(9/315)
أولاً أن المراد بهؤلاء الصحابة المنافقون وذلك أن المنافقين كانوا يظهرون الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله جل وعلا { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ 1 } ..
وقد يقول قائل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين فنقول نعم كان يعرف بعضهم ولم يكن يعرفهم كلهم ولذلك قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } فبين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم جميع المنافقين وكان يظن أن أولئك من أصحابه وليسوا كذلك بل هم من المنافقين .
ثم الشيء الثاني أن المراد بهم الذين إرتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنه بعد توفي النبي صلوات الله وسلامه عليه إرتد بعض العرب .. إرتدوا عن دين الله تبارك وتعالى حتى قاتلهم أبو بكر الصديق مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وسميت تلك الحروب بحروب الردة , فقالوا المراد بالذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم سحقاً سحقاً هم الذين أرتدوا بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه
على الأول أو على الثاني لا يدخل أًصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر لماذا ؟ لأننا في تعريف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ماذا نقول ؟ ..
نقول كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك .
فإذا قلنا أنهم هم المنافقون فالمنافقون لم يؤمنوا بالنبي يوماً صلوات الله وسلامه عليه , وإذا قلنا هم المرتدون فالمرتدون لم يموتوا على الإسلام .. فهؤلاء لا يدخلون في تعريف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .(9/316)
وأما إذا قصدوا أن الصحابة كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل أبو جهل في الصحابة وأبو لهب وأمية بن خلف وأبي بن خلف والوليد بن عتبة وغيرهم من المشركين يدخلون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونحن لا نقول بذلك أبداً .. ولكن نقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعد بن معاذ ومعاذ بن جبل وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وعبدالله بن عمر وعبد الله بن العباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وفاطمة وعائشة والحسن والحسين وغيرهم كثير .. هؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , فمن من هؤلاء كان منافقاً ومن من هؤلاء إرتد عن دين الله تبارك وتعالى بل كل هؤلاء آمنوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولقوه وماتوا على ذلك والعلم عند الله تبارك وتعالى .
فالقصد أن الجواب الأول أن قول النبي صلى الله عليه وسلم سحقاً سحقاً هو للمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم , أو هم الذين إرتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أصلاً من المسلمين ثم إرتدوا وتركوا دين الله جل وعلا .(9/317)
وهناك جواب ثالث وهو أن المعنى كل من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو لم يتابعه , وإن كان النبي يعلم ذلك كعبد الله بن أبي بن سلول وهو كما هو معلوم رأس المنافقين وهو الذي قال : لإن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل , وهو الذي قال ما مثلنا ومثل محمد وأصحابه إلا كما الأول سمن كلبك يأكلك . فهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه فيكون هذا هو المقصود ولذلك إن تعريف الصحابة بأنه كل من لقي النبي مؤمناً به ومات على ذلك تعريف متأخر وأما كلام العرب كل من صحب الرجل فهو من أصحابه مسلماً أو غير مسلم متبع له أو غير متبع هذا أمر آخر . ولذلك لما قال عبد الله بن أبي بن سلول كلمته الخبيثة ( ليخرجن الأعز منها الأذل ) قام عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغته هذه الكلمة قال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق , فقال صلى الله عليه وسلم : (لا يا عمر لا يقول الناس إن محمد يقتل أصحابه ) , فسماه من أصحابه صلوات الله وسلامه عليه وهو رأس المنافقين , فهو غير داخل فالذين نحن نسميهم صحابة رضي الله عنهم وأرضاهم .
كذلك قد يكون المقصود بالأصحاب أي من صحب النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الدين ولو لم يرى النبي صلى الله عليه وسلم فندخل نحن في هذا المسمى ولذلك جاءت بعض روايات الحديث ( أمتي أمتي ) بدل ( أصحابي ) فنكون من أمته صلوات الله وسلامه عليه , وقد يقول قائل كيف وقد جاء في الحديث ( أعرفهم ويعرفونني ) فنقول أنه قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعرف أمته بآثار الوضوء صلوات الله وسلامه عليه .
ولنا سؤال هنا لو جاءنا النواصب , والنواصب هم الذين يبغضون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يبغضون علياً وفاطمة والحسن والحسين وغيرهم من آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وقالوا هؤلاء الذين إرتدو وهؤلاء الذين يذادون عن الحوض هم علي والحسن والحسين كيف تردون عليهم ؟؟!(9/318)
الرد عليهم بأن نقول لهم ليسوا من هؤلاء بل هؤلاء جاءت فيهم فضائل ..
فنقول أبو بكر وعمر وعثمان وأبو عبيدة جاءت فيهم فضائل فما الذي يخرج علياً ويدخل أبا بكر وعمر !!
فالقصد إذاً أن حديث الحوض لا يشمل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
شبهة جيش أسامة
يقولون إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جهز جيش أسامه وذلك لينتقم أسامة رضي الله عنه لأبيه زيد بن حارثة لما قُتل في مؤته جهز النبي جيش أسامة ليذهب إلى مؤته وقالوا جعل من ضمن هذا الجيش أبا بكر وعمر حتى يصفو الجو لعلي رضي الله عنه ويستطيع النبي أن يعينه خليفة !! أنظروا كيف جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفاً يخاف من أبي بكر وعمر فيرسلهما في الجيش حتى يستطيع أن يبين للناس أن علياً هو الخليفة !! هكذا يكتم الدين بهذه الدرجة .. وهذا طعن في النبي صلوات الله وسلامه عليه , الله سبحانه وتعالى يقول له : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } يقول : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنذِرْ 2} { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } وهم يقولون يخاف من هؤلاء الصحابة صلوات الله وسلامه عليه وحاشاه من ذلك .
ثم يضيفون إلى هذا الأمر أموراً أخرى وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لعن الله من تخلف عن جيش أسامة ) حتى تصيب اللعنة أبا بكر وعمر .
فنقول أولاً : إن أبا بكر لم يكن أبداً في جيش أسامة , ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام : لعن الله من تخلف عن جيش أسامة , بل هذا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما كون عمر في جيش أسامه فهذا هو المشهور في السير , أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عمر في جيش أسامة .(9/319)
كيف يكون أبا بكر في جيش أسامة والنبي أمر أبا بكر ان يصلي بالناس في فترة مرض النبي صلى الله عليه وسلم ,هذا تناقض لا يمكن أن يحدث ولذلك لما أراد أسامة أن يخرج إستأذن أبو بكر أسامةَ أن يبقي عمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بل ما سير جيش أسامة إلا أبو بكر الصديق , وذلك أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أشار بعض الصحابة على أبي بكر أن يبقي جيش أسامة في المدينة خوفاً على المدينة من المرتدين ومن العرب الذين لم يسلموا بعد فأبا أبو بكر أن ينزل راية رفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يخرج جيش أسامة , وخرج جيش أسامة بأمر من أبي بكر الصديق رضي الله عنه , فكيف جعلوا أبا بكر الصديق الذي أخرج جيش أسامة جعلوه ممن تخلف وجعلوه ممن يستحق اللعن من النبي صلى الله عليه وسلم وما هذا إلا من شيء في قلوبهم على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
شبهة قضية فدك
قضية أقيمت لأجلها الدنيا , تكلموا فيها كثيراً وشنعوا فيها كثيراً على أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه وهي قضية فدك وما أدراك ما فدك . فدك أرض للنبي صلى الله عليه وسلم من أرض خيبر وذلك من المعلوم أن خيبر لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إليها وحاصرها إنقسمت إلى قسمين , إلى قسم فُتح عنوة وإلى قسم فُتح صلحاً , من الذي فُتح صلحاً في خيبر ما فيه فدك .
فدك أرض صالح النبي صلى الله عليه وسلم اليهود عليها على أنهم يزرعونها ويعطون نصف غلتها للنبي صلى الله عليه وسلم , فنصف غلة فدك تكون للنبي صلى الله عليه وسلم .(9/320)
بعد أن توفي صلوات الله وسلامه عليه جاءت فاطمة رضي الله عنها تطالب بورثها من النبي صلى الله عليه وسلم فذهبت إلى أبي بكر لأنه خليفة المسلمين الذي كانت تعتقد خلافته , فذهبت إليه و طلبت منه أن يعطيها فدك ورثها من النبي صلى الله عليه وسلم , فقال لها أبو بكر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) , وهنا لو قلنا لأبي بكر الصديق تعال يا أبا بكر عندك فاطمة تطالب بإرثها وعندك النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( لا نورث ) تطيع من ؟ ..
لا شك أنه سيقول سأطيع النبي صلى الله عليه وسلم .. طيب وفاطمة لماذا لا تطيعها فيقول أطيعها لو لم يكن عندي أمر من النبي صلى الله عليه وسلم , هذا النبي معصوم صلوات الله وسلامه عليه وفاطمة غير معصومة والنبي صلى الله عليه وسلم أمرني قال (لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) وإن أحببتم فسألوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , هذا الحديث رواه أبو عبيدة ورواه عمر ورواه العباس ورواه علي ورواه الزبير ورواه طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) ..
طيب ماذا أصنع أنا عندي حديث النبي وعندي قول فاطمة ؟ .. لا شك أي واحد منا يخاف الله سبحانه وتعالى ويقدر النبي صلى الله عليه وسلم فيقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد ..
فقال لها لا أستطيع أن أعطيك شيئاً الرسول قال : ( لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) .. فرجعت فاطمة رضي الله عنها ولم تأخذ ورثها ..
دعونا نوزع إرث النبي صلى الله عليه وسلم لو كان له إرث من الذي يرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
يرثه ثلاثة : ترثه فاطمة ويرثه أزواجه ويرثه عمه العباس .
أما فاطمة فلها نصف ما ترك لإنها فرع وارث .. أنثى ..
وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يشتركن في الثُمُن لوجود الفرع الوارث وهي فاطمة ..
والعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ الباقي تعصيباً ..(9/321)
هذا هو إرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم , إذا ليست القضية خاصة بفاطمة ولذلك أين العباس لماذا لم يأت ويطالب بإرثه من النبي صلى الله عليه وسلم , أين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتين ويطالبن بإرثهن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فلم يعطها الإرث , قد يقول قائل كيف تحرمونها من الإرث ؟ والله سبحانه وتعالى يقول : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ويقول عن زكريا عليه الصلاة والسلام أنه قال عن يحى لما طلب الولد قال: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } , وأنتم تقولون ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) هذا الحديث يقوله أبو بكر وتلك آية والآية إذا عارضت الحديث فالآية مقدمة على الحديث ..
فنقول ليس الأمر كما قلتم لماذا .. تعنتاً .. لا ليس والله تعنتاً وما يضيرنا لو أخذت فاطمة نصيبها رضي الله عنها وأرضاها إن كان لها نصيب ..(9/322)
ولكن نقول إقرأوا الآيات وتدبروها قليلاً لا نريد أكثر من ذلك , الله جل وعلا ماذا يقول عن زكريا ؟ قال { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ما الآيات التي قبلها , يقول الله تبارك وتعالى عن زكريا { كهيعص 1 ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا 2 إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا 3 قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا 4 وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا 5 يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا 6} .. سياق الآيات هل هي وراثة مال ؟ إقرأوا كتب السيرة ماذا كان حال زكريا .. فقير .. زكريا كان نجاراً كان فقيراً ما هو المال الذي عند زكريا حتى يطلب وارثاً له , ثم هل يعقل أن رجلاً صالحاً يسأل الله الولد ليرث ماله !! أين الصدقة في سبيل الله .. أين البذل ؟ يطلب ولداً ليرث ماله !! لا نقبل هذا لرجل صالح فكيف تقبلونه لنبي كريم !! أن يسأل الله الولد لأي شيء قال : حتى يرث أموالي !! هذا لا يمكن أن نقبله في نبي كريم مثل زكريا عليه الصلاة والسلام , ثم ماذا يقول : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } كم بين يعقوب وزكريا من الآباء والأجداد ؟ مئات السنين عشرات إن لم نقل مئات الآباء بين زكريا ويعقوب , موسى بين زكريا ويعقوب أيوب بين زكريا ويعقوب , داوود وسليمان بين زكريا ويعقوب , يونس بين زكريا ويعقوب , يوسف بين زكريا ويعقوب .. كل أنبياء بني إسرائيل تقريباً بين زكريا ويعقوب زكريا يمثل آخر أنبياء بني إسرائيل زكريا يحى عيسى .. إنتهت النبوة ويعقوب هو إسرائيل , كل أنبياء بني إسرائيل هم بين زكريا ويعقوب ونحن لانتكلم عن جميع الأنبياء نتكلم عن بني إسرائيل أمة كاملة ..(9/323)
كم سيكون نصيب هذا الولد { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } وكم وكم من الذين سيحجبونه عن الميراث , الأولاد الأقرب ..
هذا كلام لا يُعقل .. إذاً ماذا أراد زكريا .. أراد ميراث النبوة هذا الميراث الحقيقي ميراث النبوة .. يرث النبوة .. يرث الدعوة إلى الله تبارك وتعالى يرث العلم , ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم ) هذا الذي أراده زكريا صلوات الله وسلامه عليه , ومنه ميراث سليمان صلوات الله وسلامه عليه لما قال الله تبارك وتعالى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ورث ماذا ؟ .. ورث العلم ورث النبوة ورث الحكمة , لم يرث المال لو كان مالاً ما فائدة ذكره .. طبيعي جداً الولد يرث أباه , هذا أمر طبيعي فلماذا يذكر في القرآن ؟ إذاً الذي ذكر في القرآن أمر ذا أهمية عندما يقول الله تبارك وتعالى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أراد أن ينبه إلى شيء مهم ليس مجرد وراثة مال , ثم كم لداوود من الأبناء إرجعوا إلى سيرة داوود , داوود على المشهور كانت له ثلاثمئة زوجة وسبع مئة سُرّية – يعني أمة - ذكروا لداوود أولاد كثر ألا يرثه إلا سليمان ! صلوات الله وسلامه عليه .. هذا لا يمكن أن يكون أبداً .
ولنفرض أنه ورث طيب ما شأن أبي بكر وعمر وعثمان هل أخذوا هذا المال لهم ؟ , كانوا يعطونه لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما ذنبهم .. ما الخطيئة التي أرتكبوها .. هل أبو بكر إستدخل فدك له , هل إستدخلها عمر .. هل إستدخلها عثمان أبداً لم يستدخلوها , إذاً لماذا يُلامون ؟ !
لماذا نزرع الكراهية في قلوب الناس لأبي بكر وعمر وعثمان ؟! ماذا صنعوا بفدك ؟!(9/324)
خاصة إذا قلنا إن عمر وعثمان عاشا بعد فاطمة زمن الخلافة , فاطمة ماتت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها بعده بستة أشهر على المشهور .. ما شأن عمر وعثمان بفدك ؟! ..
دعونا نسلم بأن فدك إرث لفاطمة رضي الله عنها .. نصيبها الذي هو النصف إذا ماتت فاطمة من يرث فاطمة ؟ يرثها أولادها وزوجها من أولاد فاطمة ؟ .. اربعة : الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وزوجها علي , أبوها توفي صلى الله عليه وسلم وأمها توفيت وهي خديجة رضي الله عنها , مابقي من الورثة إلا الأولاد والزوج .. الزوج يأخذ الربع لوجود الفرع الوارث فربع الميراث لعلي , وبقية الميراث - ميراث فاطمة – لأولاد فاطمة للذكر مثل حظ الأنثيين ..
طيب علي في خلافته لم يعط فدك لفاطمة ولم يعطها لأولاد فاطمة ..
فإن كان أبو بكر ظالماً وعمر كان ظالماً وعثمان كان ظالماً لفدك فعلي كان ظالماً كذلك , فكلهم لم يعطوا فدك لأهلها .. أبو بكر لم يعطها لأهلها , عمر لم يعطها لأهلها , عثمان لم يعطها لأهلها , علي لم يعطها لأهلها , وإسألوا علمائكم في هذا الأمر هل أعطى علي فدك لأولاد فاطمة ؟ لم يعطهم فدك .
الحسن إستخلف بعد علي هل أعطى فدك لأخيه الحسين ولأخته زينب لم يعطهم , لأن أم كلثوم كانت قد توفيت ..
إذاً لماذا يُلام أبو بكر وعمر وعثمان ولا يُلام علي رضي الله عنه ؟! إما أن يُلام الجميع وإما أن لايُلام أحد ..
ننظر موقف أهل السنة وموقف الشيعة , أهل السنة لا يلومون أحداً , لماذا لا تلومون أحداً .. قالوا لأنها أصلاً ليست ميراثاً لفاطمة ولذلك لا نلوم أحداً .(9/325)
أما الشيعة فيلومون أبو بكر ويلومون عمر ويلومون عثمان ويلزمهم أن يلوموا علي ولذلك خرجت طائفة من الشيعة يُقال لها الكاملية هذه الطائفة تطعن في علي مع أنها شيعية .. قالوا أبو بكر وعمر وعثمان ظلمة أخذوا الخلافة من علي , وعلي لم يستجب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أمره بالخلافة و بايعهم وترك أمر الخلافة فعلي أيضاً مذنب ..
وهذا يلزمهم لأنهم لو فكروا بعقولهم بناءً على الأدلة الباطلة التي إستدلوا بها , إذاً فدك ليست إرثاً لفاطمة رضي الله عنها وأبو بكر خيراً صنع لأنه إتبع النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سمعه يقول : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة )
هناك قول آخر وهو أن فدك هبة وهبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة كيف وهبها النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة .. قالوا لما فتح الله تبارك وتعالى فدك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم نادى فاطمة وأعطاها إياها .. هل هذا صحيح ؟
قالوا نعم لما نزل { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } بعد فتح خيبر ناداها قال هذا حقك خذي حقك وأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها وأرضاها .. هل هذا الكلام صحيح .. هل يُقبل أصلاً هذا الكلام ..
للنبي صلى الله عليه وسلم سبعة من الولد ثلاثة ذكور وأربعة إناث .. الذكور عبد الله والقاسم وإبراهيم كلهم ماتوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهم صغار لا دخل لهم هنا إذاً , بقي للنبي صلى الله عليه وسلم أربع من البنات أصغرهن فاطمة رضي الله عنها , ثم تأتي بعد فاطمة رقية ثم أم كلثوم ثم زينب وهي الكبيرة هؤلاء هن بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .(9/326)
يقولون النبي صلى الله عليه وسلم أعطى فاطمة فدك ولم يعطي باقي البنات , بنات النبي صلى الله عليه وسلم توفيت رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية من الهجرة لما خرج إلى بدر صلى الله عليه وآله وسلم , لكن أم كلثوم وزينب توفيتا بعد ذلك , أم كلثوم توفيت في السنة التاسعة من الهجرة , وزينب توفيت في السنة الثامنة من الهجرة .. خيبر في أول السنة السابعة من الهجرة .. أنظروا كيف يتلاعب الشيطان بالناس , فيكون النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح الله عليه خيبر له ثلاث بنات أحياء فاطمة وزينب وأم كلثوم .. تصوروا كيف ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأن النبي يأتي إلى بناته الثلاث ويقول تعالي يا فاطمة هذه فدك لك وأنتما يا أم كلثوم ويا زينب مالكما شيء .. أيجوز أن يُقال هذا في النبي صلى الله عليه وسلم ؟ , إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه بشير بن سعد والد النعمان بن بشير وقال : يا رسول الله إني أريد أن أنحل إبني هذا حديقة وأريدك أن تشهد على ذلك , والنبي يعلم أن له أولاد آخرون غير هذا الولد , فقال له صلوات الله وسلامه عليه : ( أكل أولادك أعطيت ؟ ) يعني أعطيت بقية أولادك أو أعطيت هذا فقط , قال : لا , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذهب فإني لا أشهد على جور ) .
والنبي يقول : ( إتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم ) ويقول : ( لا أشهد على جور ) الله أكبر ! أنرضى أن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي لا يشهد على الجور والذي قول لنا : ( إتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم ) أرضى أن يكون هو بذاته صلى الله عليه وسلم الذي يفرق بين أولاده !! الذي لا يشهد على الجور هل يفعل الجور ؟! صلى الله عليه وآله وسلم .. لا يمكن هذا أبداً , إذاً لن يعط النبي صلى الله عليه وسلم فدك لفاطمة دون بناته .(9/327)
ثم يا عقلاء إن كان النبي أعطاها لفاطمة فجاءت تطالب بماذا إذاً في عهد أبي بكر , إذا أخذتها وأستلمتها تطالب بماذا ؟ هي ملكك تطالبيني بماذا ؟ ! تقول أعطاها النبي في السنة السابعة من الهجرة وتوفي بعد أن أعطاها بأربعة سنوات .. وتأتي في عهد أبي بكر تقول أعطني الذي أعطاني النبي قبل أربع سنين !! أيعقل هذا الكلام .. لا يُعقل هذا أبداً ولا يُقبل مثل هذا الكلام .
بقي شيء واحد يقولون لما غضبت فاطمة إذاً رضي الله عنها وأرضاها .. فاطمة إستدلت بعموم قول الله تبارك وتعالى { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } فعلى هذا الأساس جاءت تطالب بإرثها رضي الله عنها فلما قال لها أبو بكر رضي الله عنه ( لا نورث ما تركناه صدقة ) إنتهى الأمر ورجعت , عائشة رضي الله عنها التي تروي هذه القصة وتروي هذا الحديث تقول : فوجدت على أبي بكر أي غضبت أنه لم يعطيها فدك , لكن ليس في الحديث شيء أن فاطمة تكلمت على أبي بكر بشيء وإنما هذا فهم عائشة فهمت أن فاطمة وجدت وتضايقت وأنها لم تكلم أبا بكر , طبيعي جداً أنها لم تكلم أبا بكر لأنها كانت مريضة وما كان أبا بكر يخالطها أصلاَ , ليست إبنته وليست قريبة له , هي إبنة النبي وزوجة علي رضي الله عنه ما شأن أبي بكر بها ؟ ولذلك زارها قبل موتها رضي الله عنها , بل وعلى المشهور أن التي غسلتها والتي كانت تمرضها هي أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق هي التي غسلت فاطمة رضي الله عنها .. فقضية أن فاطمة وجدت على أبي بكر الله أعلم بذلك . هذا فهم عائشة تقول أنها وجدت لكن ليس الحديث نص أن فاطمة تكلمت في أبي بكر أو طعنت فيه أبداً .. سكتت رجعت إلى بيتها بعد أن قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) .
شبهة رزية يوم الخميس(9/328)
أو حديث الرزية , والرزية يعني المصيبة التي وقعت هذا الحديث يرويه بن عباس يقول : لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني الوفاة – وفي البيت رجال فيهم عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هلم أكتب كتاباً لا تضلون بعده ) , فقال عمر : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ) , وأختلف أهل البيت وأختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لا تضلوا بعده , ومنهم من يقول ما قال عمر فلما أكثروا اللغو والإختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قوموا ) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
هم يطعنون على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة عمر من خلال هذا الحديث , مدار طعنهم في ماذا ؟ :
أولا قالوا إن عمر قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر , وهذه قالها التيجاني كذباً وزوراً في كتاب فسألوا أهل الذكر ص144 وص 179 ونسبه إلى البخاري كذباً وزوراً وهو ليس في البخاري أن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر وإنما قال غلب عليه الوجع .(9/329)
ما معنى قول عمر : ( حسبنا كتاب الله ) هل معنى هذا أننا لا نريد السنة , هكذا هم يلبسون على الناس , إن معنى قول عمر ( حسبنا كتاب الله ) أي ما جاء في كتاب الله { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } يكفي كمل الدين دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتاح , إجتهد عمر في هذه .. أصاب أو أخطأ هذا موضوع آخر , لكن هل نقول إن عمر كتم الدين رضي الله عنه وأرضاه !! عندما قال ( حسبنا كتاب الله ) , هل كان الذي سيبلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمراً لازماً واجباً لابد منه وأحذروا قبل أن تقولوا نعم , لأننا إذا قلنا نعم هو أمر لازم واجب لابد منه والنبي لم يبلغه معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتم الرسالة ولم يكملها وكتم بعضها والله جل وعلا يقول { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } قبل هذه الحادثة بثلاثة اشهر في حجة الوداع قال الله هذا الكلام سبحانه وتعالى وأنزله على نبيه قرآناً يتلى .
بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله والجنة إلا وأمرتكم به , وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه ) إذاً النبي بلغ الرسالة .
بقي أمر وهو ما هو هذا الأمر الذي أراد النبي أن يبلغه ؟ , جاء في مسند أحمد بإسناد مرسل ولكنه صحيح – صحيح مرسل – إلى حُميد بن عبد الرحمن بن عوف أن علياً رضي الله عنه كان حاضراً في هذه الحادثة فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إئتوني بكتاب قال علي : يا رسول الله إني أحفظ , قل أحفظ , فقال :
( أوصيكم بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم ) إذاً بلّغ ما كان يريد صلوات الله وسلامه عليه ..(9/330)
ولنا أن نسأل هل كان علي حاضراً رضي الله عنه في هذه الحادثة .. قطعاً نعم عند الجميع عندنا وعند الشيعة هو حاضر , إذاً لما لم يكتب لما لم يذهب ويأتي بالدواة والقلم ويكتب مع من كان علي مع الذين منعوا أو مع الذين لم يمنعوا ؟! ..
هذا الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : ( قوموا عني ) أمرهم أن يقوموا عنه صلوات الله وسلامه عليه .. لماذا قال قوموا عني ؟ .. لأنه صار صياح هذا يقول قرب وهذا يقول لا تقرب والنبي صلى الله عليه وسلم في وادي وهم في وادٍ آخر , ولذلك أمرهم بالخروج صلوات الله وسلامه عليه .
نعم هناك من قال يستفهم: أهجر ؟؟ يعني أهذا الذي يقوله النبي صلى الله عليه وسلم هجراً أو لا ؟؟ ولكن نقول من يقول أن الذي قال هذا عمر ؟ لماذ لا يكون قاله علي ! ونحن أيضاً نقول علي لم يقل هذا , إذاً من الذي قال : أهجر ؟ , لعله أحد الذين كانوا حديثي إسلام وحضروا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا مثل هذه الكلمة .. ولكن لم يثبت أبداً أن أبا بكر قال هذه الكلمة أو عمر أو عثمان أو علي أو الزبير أو طلحة أو أحد من كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
النبي صلى الله عليه وسلم معلوم أنه لما أصابه الوجع قبيل موته لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة كما قال بن عباس إذ كان الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم شديداً صلى الله عليه وآله وسلم .. ولذلك بن مسعود لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت وجده يعرق عرقاً شديداً يتصبب العرق من جبينه , فقال يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً قال : ( إني أوعك كرجلين منكم ) , قال : أذلك لأن لك الأجر مرتين ؟ , قال : ( نعم ) .
فشفقة عمر على النبي صلى الله عليه وسلم هي التي دفعته أن يقول ( حسبنا كتاب الله حسبنا كتاب الله ) يعني دعوا النبي يرتاح صلى الله عليه وسلم .(9/331)
وقلنا ونعيد ونكرر قبلتم هذا أو لم تقبلوه , لكن هل هذا يُخرج عمر من الملة ؟ , هل هذا يجعل عمر عاصياً لله جل وعلا ..
طبعاً هناك دعوى عريضة لا دليل عليها وهي أن هذا الكتاب هو خلافة علي ! دعوى من يقول إن هذه الدعوى صحيحة , أنا الآن في هذا المقام سأقول أن هذا الكتاب هو خلافة أبو بكر .. من يمنعني ؟ بل أنا صاحب الدليل لأنه ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إئتوني بكتاب فإني أخشى أن يتمنى متمني ويأبى الله إلا أبا بكر ) ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر هو الذي يصلي بالناس في مرض موته صلوات الله وسلامه عليه .
من يقول أن هذا الكتاب هو خلافة علي ؟ ثم هذا الكتاب هو خلافة علي أليس النبي قد بلّغ خلافة علي – كما يدعي القوم - في الغدير وقبل الغدير في تبوك , وقبل تبوك في مكة في حديث الإنذار حديث الدار فلماذا صار الأمر إلا الآن .. الآن فقط يريد أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم , ثم تعالوا ننظر إلى ما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن ومن السنة كم نسبة المكتوب من غير المكتوب ولا شيء جل ما بلّغه النبي صلى الله عليه وسلم مسموع غير مكتوب , والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
( نحن أمة أمية لا نكتب الشهر عندنا هكذا وهكذا وهكذا ) يعد بأصابعه صلوات الله وسلامه عليه , ولذلك أنظروا كم حديث للرسول صلى الله عليه وسلم الذي كتبه الصحابة وكم حديث للنبي صلى الله عليه وسلم الذي وعاه الصحابة وحفظوه لا مقارنة فلماذا هذه بالذات تُكتب , فالقصد أننا ننظر في هذا الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم هل هو أمر واجب أو أمر مستحب .. قطعا هو أمر مستحب وليس من الأمر الواجب لأننا قلنا قبل قليل إذا قلنا إنه من الأمر الواجب فإننا نقول إن النبي قد كتم والنبي لم يكتم صلى الله عليه وسلم , هذا ليس امر واجب بل هو من المستحبات التي تركها للمصلحة صلوات الله وسلامه عليه .(9/332)
وختاماً نقول إقرأوا كتاب الله تبارك وتعالى تدبروا كلام الله جل وعلا إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز : { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي الذين أنفقوا من قبل الفتح والذين أنفقوا من بعد الفتح كلهم وعدهم الله تبارك وتعالى الحسنى , وماذا يترتب على وعد الله تبارك وتعالى بالحسنى , قال الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ 101 لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} , تدبروا قول الله تبارك وتعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } , تدبروا قول الله تبارك وتعالى { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ.. } , تدبروا قول الله تعالى { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ 8 وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 9} , اقرأوا قول الله تبارك وتعالى { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ(9/333)
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا 18} أيرضى الله عن المنافقين لا يرضى الله تبارك وتعالى أبداً عن المنافقين , إن الله لا يرضى إلا عن المؤمنين لأن الله تبارك وتعالى يعلم ما كان ويعلم ما يكون سبحانه وتعالى فالله بكل شيء عليم ولا يرضى الله عن المنافقين أبداً .
إن من أبرز صفات المنافقين في كتاب الله جل وعلا وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفي واقع الأمر أنهم أجبن الناس , يخافون على أنفسهم ويخافون الموت ولذلك تجدهم مذبذبين كما قال الله جل وعلا { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} فهل هذه الصفات هي صفات أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم , إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم هم الذين باعوا أنفسهم وأشتروا الجنة والذين بذلوا كل شيء في سبيل الله تبارك وتعالى هم الذين قاتلوا المرتدين , هم الذين فتحوا البلاد هم الذين فتحوا الهند والسند وفتحوا الشام ومصر وفتحوا العراق وفتحوا بلاد فارس هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , هم هؤلاء الذين تطعنون أنتم فيهم الله يقول { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ } والله سبحانه وتعالى يقول { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } الله تبارك وتعالى يقول { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ويقول بعدها { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وأنظروا أنتم ماذا تقولون أنتم وماذا يقول علمائكم عن أولئك الصحابة , أتصدقون الله ورسوله أو تصدقون علمائكم ؟ إنكم بين أمرين , كيف بمن جلس مع طلابه ثلاثاً وعشرين سنة يعلمهم صلوات الله وسلامه عليه وهو رسول الله أوتي جوامع الكلم .. أحرص الناس على الخير .. أتقى الناس لله .. أعلم الناس(9/334)
بالله .. أصدق الناس مؤيد من عند الله تبارك وتعالى ثم بعد ذلك لم ينجح أحد !! إلا ثلاثة .. إلا أربعة إلا خمسة .. إلا سبعة على روايات متفاوتة عندهم ... أتقبلون هذا !!؟ ..
أتقبلون أن يُقال فشل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تربية أصحابه .. إنه الكفر بعينه إنه الطعن في ذات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
إن صفات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أبداً أن تكون صفات المنافقين .. إقرأوا كتاب الله وتدبروه .. إقرأوا سورة التوبة لتعلموا ما هي صفات المنافقين وأقرأوا باقي القرآن , آل عمران والفتح وغيرها من كتاب الله حتى تعلموا صفات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , إنكم تطعنون في أقوام قد حطوا رحالهم في الجنة , إنكم تطعنون في أقوام كان علي يحبهم وكان أولاده يجلونهم , علي رضي الله عنه زوج إبنته أم كلثوم لعمر يا من تطعنون في عمر , علي رضي الله عنه سمى أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان , الحسن سمى أولاده بأسماء أبي بكر وعمر , علي بن الحسين سمى إبنته عائشة وسمى ولده عمر , سُكينة بنت الحسين من زوجها ؟ مصعب بن الزبير بن العوام .(9/335)
إن العلاقات بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأولادهم مع آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأولادهم كانت حميمة جداً والله ما كان بينهم ما يدعون من كفر أولئك وعصمة الآخرين بل كانت علاقة ود وصفاء ومحبة هكذا كانوا .. لماذا نقبل من الآخرين أن يسيروا فكرنا ولا ننظر نحن في كتب التاريخ وكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتراجم هؤلاء لنعرف الحقيقة بأنفسنا , كل منا سيحاسب في قبره لوحده سيحاسبه الله تبارك وتعالى لماذا أبغضت هؤلاء ؟ .. ما ذنبهم ؟ .. إنهم أولياء الله جل وعلا والله سبحانه وتعالى يقول ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) وإنما توعد الله بالحرب ثلاثة .. توعد آكل الربا , وتوعد الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً , وتوعد الذين يحاربون أولياءه فأحذر ..
والله ما أردنا من هذه الجلسة إلا أن نقدم النصح والله لا نريد لكم إلا الخير لا نريد لكم إلا الجنة .. ليست بأيدينا ولكن الله تبارك وتعالى بين لنا طريقها وبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم طريقها , إنه بقدر ثبوت قدمك على الصراط في هذه الدنيا يكون ثبوت قدمك على الصراط في الآخرة نسأل الله تبارك وتعالى أن يهدينا ويهديكم وأن يوفقنا ويوفقكم ودعونا نقول جميعاً .. اللهم أرنا الحق حقاً وأرزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وأرزقنا إجتنابه ثم بعد ذلك نسعى سعياً حثيثاً لمعرفة الحق وطلبه حتى نتبعه ولمعرفة الباطل حتى نجتنبه ونبتعد عنه والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحابته أجمعين والسلام عليكم ورجمة الله وبركاته .
=================
إدعائهم بأن الصحابة رضوان الله عليهم تنافسوا على الدنيا
قال الرافضي ص127 تحت عنوان: (رأي الصحابة بعضهم في بعض، وشهادتهم على أنفسهم بتغيير سنة النبي صلى الله عليه وسلم ).(9/336)
ثم أورد أثراً عن أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بحثاً قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف، قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل أن يصلي، فقلت له: غيرتم والله، فقال: أبا سعيد قدذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة). (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري: (كتاب العيدين، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر) فتح الباري 2/448، ح956.
قال بعده: «وقد بحثت كثيراً عن الدوافع التي جعلت هؤلاء الصحابة يغيرون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واكتشفت أن الأمويين وأغلبهم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان (كاتب الوحي) كما يسمونه كان يحمل الناس ويجبرهم على سب علي بن أبي طالب ولعنه من فوق منابر المساجد، كما ذكر ذلك المؤرخون، وقد أخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل علي بن أبي طالب مثل ذلك، وأمر معاوية عماله في كل الأمصار باتخاذ ذلك اللعن سنة يقولها الخطباء على المنابر...».(9/337)
قلت: استدلال المؤلف بأثر أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - على ما زعمه من تغيير الصحابة للسنة من أعجب العجب، فليس فيه ما يدل على زعمه، بل فيه دلالة على قيام الصحابة بأمر السنة وإنكارهم على من خالفها، وهذا يتمثل في إنكار الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - على مروان في تقديمه الخطبة على صلاة العيد.
ولعل المؤلف ظن أن مروان بن الحكم من الصحابة، بل هو الظاهر من كلامه، لقوله بعد القصة: «وقد بحثت كثيراً عن الدوافع التي جعلت هؤلاء الصحابة يغيرون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم »، فيكون هذا من جملة جهالاته التي سبق التنبيه على أمثلة كثيرة منها. (1) (1) انظر ص154-162 من هذا الكتاب.
والصحيح أن مروان لا تثبت له صحبة، فقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير ابن ثمان سنين، وقد كان في الطائف مع أبيه، بعد نفي النبي صلى الله عليه وسلم له. (1)
قال ابن الأثير: «لم ير النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خرج إلى الطائف طفلاً لايعقل لما نفي النبي صلى الله عليه وسلم أباه الحكم». (2)
وعده الذهبي في السير من كبار التابعين. (3)
وقال ابن حجر: «لم أر من جزم بصحبته». (3)
وعلى هذا فلا يُحَمّل الصحابة فعل مروان، فكيف وقد أنكره من حضره من الصحابة وهو أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
على أن تقديم مروان للخطبة على صلاة العيد، وإن كان خطأً إلا أن العلماء ذكروا أنه إنما فعله مجتهداً.
قال ابن حجر في شرح الحديث بعد قول مروان: (إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة): «وهذا يشعر بأن مروان فعل ذلك
--------------------
(1) انظر: الإستيعاب لابن عبدالبر المطبوع مع الإصابة 10/70، والإصابة لابن حجر 9/318.
(2) أسد الغابة 5/139.
(3) انظر: سير أعلام النبلاء 3/476.
(4) الإصابة 9/318(9/338)
باجتهاد منه». (1)
ونقل عن ابن المنير أنه قال: «حمل أبو سعيد فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك على التعيين، وحمله مروان على الأولوية، واعتذر عن ترك الأولى بما ذكره من تغير حال الناس، فرأى أن المحافظة على أصل السنة0 وهو سماع الخطبة- أولى من المحافظة على هيئة فيها ليست من شرطها». (2)
وأما قول المؤلف: إن الأمويين وأغلبهم من الصحابة، وعلى رأسهم معاوية كان يحمل الناس ويجبرهم على سب علي ولعنه من فوق منابر المساجد، فكلامه هذا يتضمن أمرين:
الأول: قوله إن الأمويين أغلبهم من الصحابة، فإن كان يعني من تولى الخلافة من بني أمية في عهد الدولة الأموية -وهو الظاهر- فمن من خلفاء بني أمية من الصحابة غير معاوية حتى يقال: -إن أغلبهم من الصحابة ؟؟- -وهذا باستثناء عثمان - رضي الله عنه - فإن خلافته كانت في عهد الخلفاء الراشدين كما هو معلوم- وأنا لا أعلم هل هذا من تلبيس المؤلف على العوام وأهل الجهل، أم أنه الجهل المفرط ؟!
الثاني: قوله إن معاوية كان يحمل الناس على سب علي ولعنه فوق منابر المساجد، وهذه دعوى تحتاج إلى دليل، وهي مفتقرة إلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فتح الباري 2/450.
(2) المصدر نفسه.
صحة النقل. والمؤلف لم يوثق كلامه هذا، وإنما اكتفى بقوله: (كما ذكر ذلك المؤرخون) ولم يحل على أي مصدر لذلك، ومعلوم وزن مثل هذه الدعوى عند المحققين والباحثين، فكيف بها وقد صدرت من رافضي حاقد.
ومعاوية - رضي الله عنه - منزه عن مثل هذه التهم، بما ثبت من فضله في الدين، فقد كان كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، وثبت في سنن الترمذي بسند صحيح من حديث عبدالرحمن بن عميره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: (اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به). (2)(9/339)
وكان محمود السيرة في الأمة، أثنى عليه بعض الصحابة وامتدحه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ثلاث أعطنيهن، قال: نعم... وفيه: (معاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم...) صحيح مسلم 4/1945.
قال ابن عساكر: «وأصح ما روى في فضل معاوية حديث أبي جمرة عن ابن عباس أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلم». نقله ابن كثير في البداية والنهاية 8/125.
(2) أخرجه الترمذي: (كتاب المناقب، باب مناقب لمعاوية - رضي الله عنه -) 5/687، وقال هذا حديث حسن غريب، وصحح الحديث الألباني قال في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/615: «رجاله كلهم ثقات رجال مسلم فكان حقه أن يصحح..».
وقال: «وبالجملة فالحديث صحيح».
خيار التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم، وسائر خصال الخير.
فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لما ولاّه الشام: (لا تذكروا معاوية إلا بخير). (1)
وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال بعد رجوعه من صفين: (أيها الناس لاتكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل). (2)
وعن ابن عمر أنه قال: (ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود(3) من معاوية فقيل ولا أبوك؟ قال: أبي عمر -رحمه الله- خير من معاوية، وكان معاوية أسود منه). (4)
وعن ابن عباس قال: (ما رأيت رجلاً كان أخلق بالملك من معاوية).(5)
وفي صحيح البخاري أنه قيل لابن عباس: (هل لك في أمير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أورده ابن كثير في البداية والنهاية 8/125.
(2) المصدر نفسه 8/134.(9/340)
(3) من السيادة وسمى السيد سيداً لأنه يسود سواد الناس،لسان العرب 3/229
(4) أخرجه الخلال في السنة 1/443، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 3/152، وابن كثير في البداية والنهاية 8/137.
(5) أورده ابن كثير في البداية والنهاية 8/137.
المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة قال: إنه فقيه). (1)
وعن عبدالله بن الزبير أنه قال: (لله در ابن هند (يعني معاوية) إنا كنا لنفرقه(2) وما الليث على براثنه بأجرأ منه، فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا، والله لوددت أنا مُتّعنا به مادام في هذا الجبل حجر وأشار إلى أبي قبيس). (3)
وعن قتادة قال: (لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي). (4)
وعن مجاهد أنه قال: (لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي). (5)
وعن الزهري قال: (عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئاً). (6)
وعن الأعمش أنه ذكر عنده عمر بن عبدالعزيز وعدله فقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري: (كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر معاوية) فتح الباري 7/103، ح3765.
(2) الفَرَق هو: الخوف والفزع، النهاية لابن الأثير 3/438.
(3) أورده ابن كثير في البداية والنهاية 8/138.
(4) أخرجه الخلال في السنة 1/438.
(5) المصدر نفسه. وأورده ابن كثير في البداية والنهاية 8/137.
(6) أخرجه الخلال في السنة 1/444، وقال المحقق: إسناده صحيح.
(فكيف لو أدركتم معاويه؟ قالوا: يا أبا محمد يعني في حلمه؟ قال: لا والله، ألا بل في عدله). (1)
وسئل المعافى معاوية أفضل أو عمر بن عبدالعزيز؟ فقال: (كان معاوية أفضل من ستمائه مثل عمر بن عبدالعزيز).
والآثار عن السلف في ذلك كثيرة، وإنما سقت هنا بعضها.(9/341)
كما أثنى على معاوية - رضي الله عنه - العلماء المحققون في السير والتاريخ، ونقاد الرجال.
يقول ابن قدامة المقدسي: «ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، وأحد خلفاء المسلمين -رضي الله تعالى عنهم-». (3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، كان ملكه ملكاً ورحمة». (4)
وقال: «فلم يكن من ملوك المسلمين خير من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمان معاوية». (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الخلال في السنة 1/437.
(2) المصدر نفسه 1/435.
(3) لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد ص33.
(4) مجموع الفتاوى 4/478.
(5) منهاج السنة 6/232.
وقال ابن كثير في ترجمة معاوية - رضي الله عنه -: «وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين... فلم يزل مستقلاً بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو». (1)
وقال ابن أبي العز الحنفي: «وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين». (2)
وقال الذهبي في ترجمته: «أمير المؤمنين ملك الإسلام». (3)
وقال: «ومعاوية من خيار الملوك، الذين غلب عدلهم على ظلمهم». (4)
وإذا ثبت هذا في حق معاوية - رضي الله عنه - فإنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته، أن يحمل الناس على لعن علي- رضي الله عنه - على المنابر وهو من هو في الفضل وهذا يعني أن أولئك السلف وأهل العلم من بعدهم الذين أثنوا عليه ذلك الثناء البالغ، قد مالؤوه على الظلم والبغي واتفقوا على الضلال وهذا مما نزهت الأمة عنه بنص(9/342)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية 8/122.
(2) شرح العقيدة الطحاوية ص722.
(3) سير أعلام النبلاء 3/120.
(4) المصدر نفسه 3/159.
حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (إن أمتي لاتجتمع على ضلالة).(1)
ومن علم سيرة معاوية - رضي الله عنه - في الملك، وما اشتهر به من الحلم والصفح،وحسن السياسة للرعية،ظهرله أن ذلك من أكبرالكذب عليه.
فقد بلغ معاوية - رضي الله عنه - في الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال قال: عبدالملك بن مروان وقد ذكر عنده معاوية: (ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه). (2)
وقال قبيصة بن جابر: (ما رأيت أحداً أعظم حلماً، ولا أكثر سؤدداً، ولا أبعد أناة، ولا ألين مخرجاً، ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية). (3)
ونقل ابن كثير: (أن رجلاً أسمع معاوية كلاماً سئياً شديداً، فقيل له لو سطوت عليه؟ فقال: إني لأستحيي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي). (4)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه ابن أبي عاصم في السنة من حديث أنس - رضي الله عنه - ص41 رقم 82- 83-84، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 5/218، وحسنه الألباني في ظلال الجنة المطبوع مع السنة ص41-42، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/319-320 رقم 1331.
(2) البداية والنهاية لابن كثير 8/138.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
وقال رجل لمعاوية: (ما رأيت أنذل منك، فقال معاوية: بلى من واجه الرجال بمثل هذا ). (1)
فهل يعقل بعد هذا أن يسع حلم معاوية - رضي الله عنه - سفهاء الناس وعامتهم المجاهرين له بالسب والشتائم، وهو أمير المؤمنين، ثم يأمر بعد ذلك بلعن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب على المنابر، ويأمر ولاته بذلك في سائر الأمصار والبلدان. الحكم في هذا لكل صاحب عقل وفهم؟؟(9/343)
وأما ما استدل به الرافضي على تلك الفرية بما عزاه إلى صحيح مسلم فليس فيه ما يدل على زعمه، وهو بهذا إنما يشير إلى حديث عامر بن سعد بن أبي وقّاص عن أبيه قال: (أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه،لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم...)(2) الحديث.
قال النووي: «قول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب. كأنه يقول: هل امتنعت تورعاً، أو خوفاً، أو غير ذلك، فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية 8/138.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي - رضي الله عنه -) 4/1871.
السب فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر، ولعل سعد قد كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم، وعجز عن الإنكار، أو أنكر عليهم، فسأله هذا السؤال. قالوا ويحتمل تأويلاً آخر أن معناه: ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده، وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا، وأنه أخطأ». (1)(9/344)
وقال القرطبي معلقاً على وصف ضرار الصُّدَائي لعلي - رضي الله عنه - وثنائه عليه بحضور معاوية، وبكاء معاوية من ذلك، وتصديقه لضرار فيما قال(2): «وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي - رضي الله عنه - ومنزلته، وعظيم حقه، ومكانته، وعند ذلك يبعد على معاوية أن يصرح بلعنه وسبّه، لما كان معاوية موصوفاً به من العقل والدين، والحلم وكرم الأخلاق وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح، وأصح ما فيها قوله لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ وهذا ليس بتصريح بالسب، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه، ولما سمع ذلك معاوية سكت وأذعن، وعرف الحق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح صحيح مسلم 15/175.
(2) تقدم تخريج هذا الخبر ونقل طرف منه ص 247-248.
لمستحقه). (1)
والذي يظهر لي في هذا والله أعلم: أن معاوية إنما قال ذلك على سبيل المداعبة لسعد، وأراد من ذلك استظهار بعض فضائل علي - رضي الله عنه - فإن معاوية - رضي الله عنه - كان رجلاً فطناً ذكياً، يحب مطارحة الرجال واستخراج ما عندهم، فأراد أن يعرف ما عند سعد في علي -رضي الله عنهما- فألقى سؤاله بهذا الأسلوب المثير. وهذا مثل قوله - رضي الله عنه - لابن عباس: (أنت على ملة علي؟ فقال له ابن عباس ولا على ملة عثمان، أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ). (2) فظاهر أن قول معاوية هنا لابن عباس جاء على سبيل المداعبة، فكذلك قوله لسعد هو من هذا الباب، وأما ما ادعى الرافضي من الأمر بالسب فحاشا معاوية - رضي الله عنه - أن يصدر منه مثل ذلك والمانع من هذا عدة أمور:(9/345)
الأول: أن معاوية نفسه ما كان يسب علياً - رضي الله عنه - كما تقدم حتى يأمر غيره بسبه، بل كان معظماً له، معترفاً له بالفضل والسبق إلى الإسلام، كما دلت على ذلك أقواله الثابتة عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المفهم للقرطبي 6/278.
(2) أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى 1/355، والصغرى ص145، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/94.
قال ابن كثير: «وقد ورد من غير وجه: أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: هل تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني...).(1) الخبر.
ونقل ابن كثير أيضاً عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة قال: (لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم).(2)
فهل يسوغ في عقل ودين أن يسب معاوية علياً بل ويحمل الناس على سبه وهو يعتقد فيه هذا !!.
الثاني: أنه لا يعرف بنقل صحيح أن معاوية - رضي الله عنه - تعرض لعلي - رضي الله عنه - بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته، فهل من المعقول أن يسبه بعد انتهاء حربه معه ووفاته، فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول، وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه.
الثالث: أن معاوية - رضي الله عنه - كان رجلاً ذكياً، مشهوراً بالعقل والدهاء، فلو أراد حمل الناس على سب علي -حاشاه ذلك- أفكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية لابن كثير 8/132.
(2) المصدر نفسه 8/133.
يطلب ذلك من مثل سعد بن أبي وقاص، وهو من هو في الفضل والورع، مع عدم دخوله في الفتنة أصلاً!! فهذا لا يفعله أقل الناس عقلاً وتدبيراً، فكيف بمعاوية.(9/346)
الرابع: أن معاوية - رضي الله عنه - انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي -رضي الله عنهما- له واجتمعت عليه الكلمة والقلوب ودانت له الأمصار بالملك، فأي نفع له في سب علي؟ بل الحكمة وحسن السياسه تقتضي عدم ذلك، لما فيه من تهدئه النفوس، وتسكين الأمور، ومثل هذا لا يخفي على معاوية - رضي الله عنه - الذي شهدت له الأمة بحسن السياسة والتدبير.
الخامس: أنه كان بين معاوية - رضي الله عنه - بعد استقلاله بالخلافة وأبناء علي من الأُلفة والتقارب، ما هو مشهور في كتب السير والتاريخ. ومن ذلك أن الحسن والحسين وفدا على معاوية فأجازهما بمائتي ألف. وقال لهما: (ما أجاز بهما أحد قبلي، فقال له الحسين: ولم تعط أحداً أفضل منا). (1)
ودخل مرة الحسن على معاوية فقال له: (مرحباً وأهلاً بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر له بثلاثمائة ألف). (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية لابن كثير 8/139.
(2) المصدر نفسه 8/140.
وهذا مما يقطع بكذب ما ادعى الرافضي في حق معاوية، من حمله الناس على سب علي، إذ كيف يحصل هذا مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة، والاحتفاء والتكريم.
وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة، وتتجلى الحقيقة.
فلله الحمد على نعمه وتوفيقه.
===============
زعم الرافضي أن الصحابة غيروا حتى في الصلاة والرد عليه
قال الرافضي ص130 تحت عنوان: (الصحابة غيروا حتى في الصلاة).
«قال أنس بن مالك ما عرفت شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مثل الصلاة، قال: أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها.
وقال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي. فقلت: ما يبكيك فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وقد ضيعت.(9/347)
وحتى لايتوهم أحد أن التابعين هم الذين غيروا ما غيروا بعد تلك الفتن والحروب، أود أن أذكّر بأن أول من غير سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة، هو خليفة المسلمين عثمان بن عفان، وكذلك أم المؤمنين عائشة. فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدراً من خلافته ثم إن عثمان صلى بعد أربعاً).
كما أخرج مسلم في صحيحه قال الزهري: قلت لعروة: ما بال عائشة تتم الصلاة في السفر؟ قال: إنها تأولت كما تأول عثمان...».
والرد عليه:
أن هذين الأثرين اللذين ذكرهما ثابتان عن أنس - رضي الله عنه - وقد أخرجهما البخاري في صحيحه(1) وليس فيهما أي مطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما زعم الرافضي، وذلك أن أنساً إنما قال ذلك إنكاراً على الحجاج بن يوسف الذي كان والياً على العراق لبني أمية، وكان يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها -كما كان على ذلك بعض أمراء بني أمية-(2) فأنكر ذلك أنس - رضي الله عنه - عندما كان مقيماً بالعراق على ما روى ثابت البناني قال: (كنا مع أنس بن مالك فأخر الحجاج الصلاة، فقام أنس يريد أن يكلمه فنهاه إخوانه شفقة عليه منه، فخرج فركب دابته فقال في مسيره ذلك: والله ما أعرف شيئاً مما كنا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ...)(3) الخ كلامه.
ثم إن أنساً بعد ذلك ذهب إلى دمشق وتكلم بالأثر الثاني الذي رواه عنه الزهري بعد قدومه إلى دمشق.
قال ابن حجر: «كان قدوم أنس دمشق في إمارة الحجاج على العراق، قدمها شاكياً من الحجاج للخليفة، وهو إذ ذاك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري (كتاب مواقيت الصلاة، باب تضييع الصلاة عن وقتها) فتح الباري 2/13.
(2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 9/94.(9/348)
(3) ذكره ابن حجر في فتح الباري 2/13.
الوليد بن عبدالملك».(1)
فتبين أن قول أنس - رضي الله عنه - هو وصف لحال ذلك الزمان الذي
أدركه في آخر حياته، وما رأى فيه من التغيير، وتأخيير الصلوات عن
وقتها، من قبل بعض الأمراء في عهد الدولة الأموية. وأنس - رضي الله عنه - كان من المعمرين ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دعا له بطول العمر، فعن أنس قال: قالت أم سليم: خويدمك ألا تدعوا له؟ فقال: (اللهم أكثر ماله وولده، وأطل حياته، واغفر له، فدعا لي بثلاث: فدفنت مائة وثلاثة، وإن ثمرتي لتطعم في السنة مرتين، وطالت حياتي حتى استحييت من الناس وأرجو المغفرة).(2)
ووفاة أنس - رضي الله عنه - كانت سنة ثلاث وتسعين(3)، وكان قدومه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فتح الباري 2/13.
(2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد في (باب من دعا بطول العمر) الأدب المفرد مع شرحه فضل الله الصمد 2/106.
وقدصحح الحديث الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/284، ح2241.
وروى الحديث من طريق أخرى البخاري في صحيحة (كتاب الدعوات، باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر...) فتح الباري 11/144، ورواه مسلم في (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضل أنس) 4/1928 وليس في رواية الصحيحين (أطل حياته).
(3) انظر البداية والنهاية لابن كثير 9/94، والإصابة لابن حجر 1/113.
إلى دمشق قبل وفاته بسنة في سنة اثنتين وتسعين.
قال ابن كثير روى عبدالرزاق بن عمر، عن إسماعيل قال: «قدم
أنس على الوليد في سنة اثنتين وتسعين».(1)
ومعلوم أنه في ذلك الوقت لم يكن بقي فيه من الصحابة إلا القليل، بل ذهب بعض العلماء إلى أن أنس بن مالك هو آخر من مات من الصحابة،ثم أبوالطفيل عامربن واثلة الليثي-رضي الله عنهما-.(2)(9/349)
وعلى هذا فأي لوم على الصحابة في تغير الناس من بعدهم، ومن كان حياً منهم فهو منكر لذلك، كما تقدم في الأثرين عن أنس - رضي الله عنه -.
على أن هذا التغيير الذي ذكره أنس لا يعم أمصار المسلمين كلها، وإنما كان في بعض الأمصار كالعراق والشام، دون بقية البلاد، يشهد لهذا ما رواه البخاري من حديث بشير بن يسار الأنصاري، أن أنس بن مالك قدم المدينة، فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال:(ماأنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف).(3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية 9/94.
(2) الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير ص160.
(3) رواه البخاري (كتاب الأذان، باب إثم من لم يتم الصفوف) فتح الباري 2/209، ح724.
وقد نبه على هذا الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عند شرحه للأثرين السابقين لأنس، حيث قال: «إطلاق أنس محمول على ما شاهده من أمراء الشام والبصرة خاصة، وإلا فسيأتي في هذا الكتاب أنه قدم المدينة فقال: (ما أنكرت شيئاً...)» (1)، ثم ساق الأثر.
وأما قول الرافضي: إن أول من غير سنة النبي صلى الله عليه وسلم هو عثمان وعائشة -رضي الله عنهما- مشيراً لإتمام عثمان - رضي الله عنه - الصلاة في منى، وأن عائشة كانت تتم الصلاة في السفر.
فجوابه: أن عثمان وعائشة -رضي الله عنهما- كانا مجتهدين، وقد اختلف العلماء في وجه اجتهادهما اختلافاً كبيراً، وذكروا وجوهاً كثيرة في ذلك. (2) لكن الذي صوبه أكثر المحققين وقطعوا به، أنهما كانا يريان جواز القصر والإتمام، فأخذا بأحد الجائزين.
قال النووي: «اختلف العلماء في تأويلهما، فالصحيح الذي عليه المحققون:أنهما رأيا القصر جائزاً والإتمام جائزاً، فأخذا بأحد الجائزين،(9/350)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فتح الباري 2/14.
(2) انظر شرح صحيح مسلم للنووي 5/195، والمفهم للقرطبي 2/327، وفتح الباري لابن حجر 2/570-571.
وهو الإتمام».(1)
وقال القرطبي: «اختلف في تأويل إتمام عائشة وعثمان في السفر على أقوال، وأولى ما قيل في ذلك أنهما تأولا: أن القصر رخصة غير واجبة، وأخذا بالأكمل، وما عدا هذا القول إما فاسد وإما بعيد».(2) ثم ذكر بقية الأقوال ورد عليها.
وهذا الذي ذكره القرطبي هنا في سبب تأولهما فيه ترجيح الإتمام على القصر على اعتبار أن القصر رخصة، وأن الإتمام عزيمة ولذا قال: أخذا بالأكمل. بخلاف توجيه النووي فالظاهر منه أنه يستوى فيه الأمران وإنما أخذا بأحد الجائزين.
وقد فرق بعض المحققين بين سبب إتمام عثمان، وإتمام عائشة -رضي الله عنهما-.
كما ذهب إلى ذلك الحافظ ابن حجر حيث قال في شرح عبارة: (إن عائشة تأولت كما تأول عثمان): «التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل، لا اتحاد تأويلهما، ويقويه أن الأسباب اختلفت في تأويل عثمان فتكاثرت، بخلاف تأويل عائشة».(3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح صحيح مسلم 5/195.
(2) المفهم للقرطبي 2/327.
(3) فتح الباري لابن حجر 2/571.(9/351)
قال بعد ذلك: «والمنقول أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصاً بمن كان شاخصاً سائراً، وأما من أقام في مكة في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم، والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبدالله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجاً صلى بنا الظهر ركعتين بمكة، ثم انصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا: لقد عبت أمر ابن عمك لأنه كان قد أتم الصلاة، قال: وكان عثمان حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعاً أربعاً، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة».(1)
فيكون هذا الذي ذكره ابن حجر قولاً آخر في سبب إتمام عثمان - رضي الله عنه -.
ولهذا ذكر ابن حجر بعده القول المتقدم عن القرطبي، وعزاه إلى ابن بطال وقال: «وهذا رجحه جماعة من آخرهم القرطبي، لكن الوجه الذي قبله أولى لتصريح الراوي بالسبب». (2)
وأما وجه اجتهاد عائشة -رضي الله عنها- فيقول ابن حجر فيه:«وأما عائشة فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحاً، وهو فيما أخرجه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فتح الباري 2/571، والحديث رواه أحمد في المسند 4/94.
(2) فتح الباري لابن حجر 2/571.
البيهقي من طريق هشام بن عروة، عن أبيه: (أنها كانت تصلي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: ابن اختى إنه لا يشق علي). إسناده صحيح وهو دال على أنها تأولت أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل).(1)
قلت: وهذا موافق لما ذكره القرطبي سابقاً في سبب إتمامها -رضي الله عنها-.(9/352)
هذا وقد ذكر بعض العلماء المحققين في: (باب الصحابة) في معرض ردهم على الرافضة أن الذي حمل عثمان - رضي الله عنه - على الإتمام في منى لما بلغه أن بعض الأعراب الذين كانوا شهدوا معه الصلاة في الأعوام الماضية ظنوا أنها ركعتان فأراد أن يعلمهم أنها أربع.
قال أبونعيم في :(كتاب الإمامة): «وإن الذي حمل عثمان - رضي الله عنه - على الإتمام أنه بلغه أن قوماً من الأعراب ممن شهدوا معه الصلاة بمنى رجعوا إلى قومهم فقالوا: الصلاة ركعتان، كذلك صليناها مع أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بمنى، فلأجل ذلك صلى أربعاً ليعلمهم ما يستنوا به للخلاف والاشتباه». (2)
وقال ابن العربي في العواصم في معرض رده على الشبه التي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر نفسه.
(2) الإمامة والرد على الرافضة ص312.
أُثيرت ضد عثمان - رضي الله عنه -: «وأما ترك القصر: فاجتهاد إذ سمع أن الناس افتتنوا بالقصر، وفعلوا ذلك في منازلهم، فرأى أن السنة ربما أدت إلى إسقاط الفريضة، فتركها مصلحة خوف الذريعة، مع أن جماعة من العلماء قالوا: إن المسافر مخير بين القصر والإتمام».(1)
قلت: ويؤيد هذا أن عثمان - رضي الله عنه - ما كان يقصر الصلاة في بداية عهده، بل بقي سبع سنين من خلافته وهو يقصر الصلاة بمنى، ثم أتم بعد ذلك، فهو دليل أنه ما فعل ذلك إلا لأمر طرأ.
روى ابن أبي شيبة عن عمران بن حصين أنه قال: (حججت مع عثمان سبع سنين من إمارته لا يصلي إلا ركعتين، ثم صلى بمنى أربعاً).(2)
وعلى كل حال فكل من عثمان وعائشة -رضي الله عنهما- كانا مجتهدين فيما ذهبا إليه أياً كان السبب الحامل لهما على ذلك.
وإذا ما تقرر هذا اندحضت دعوى الرافضي في النيل منهما، وانكشفت شبهته، وبطل افتراؤه وظلمه.(9/353)
وزيادة على هذا أذكر هنا بعض الأوجه الأخرى المؤكدة لما تقدم من براءة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وأم المؤمنين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العواصم من القواصم ص90.
(2) المصنف لابن أبي شيبة 2/207.
عائشة -رضي الله عنهما- مما رماهما به الرافضي.
الوجه الأول: أنهما مجتهدان، والمجتهد معذور، بل مأجور على كل حال لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر). (1)
وهذا أمر مقرر عند أهل السنة لا يختلفون فيه، وإنما يخالف فيه أهل البدع.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة». (2)
ويقول أيضاً: «هذا قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي، والثوري، وداود بن على وغيرهم، لايؤثمون مجتهداً مخطئاً في المسائل الأصولية ولا في الفرعية. كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره، وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الدين، أنهم لايكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحداً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري في: (كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ) فتح الباري 13/318، ح7352، ومسلم: (كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ) صحيح مسلم 3/1342، ح1716.
(2) مجموع الفتاوى 20/165.
من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية...». (1)
الوجه الثاني: أن القول بإتمام الصلاة في السفر لم ينفرد به عثمان وعائشة -رضي الله عنهما- وإنما هو قول طائفة من الصحابة.(9/354)
قال أبو نعيم: «وقد رأى جماعة من الصحابة إتمام الصلاة في السفر منهم عائشة -رضي الله عنها- وعن أبيها، وعثمان - رضي الله عنه - وسلمان - رضي الله عنه - وأربعة عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ». (2)
قلت: وسلمان - رضي الله عنه - ممن يعتقد الرافضة عدالته كما جاء في الكافي فيما نسبوه إلى محمد الباقر -وهو من ذلك بريء-: (كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة... المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي -رحمة الله وبركاته عليهم-...). (3)
فإذا كان سلمان - رضي الله عنه - معذوراً في اجتهاده بإتمام الصلاة فكذلك عثمان، وعائشة -رضي الله عنهما- معذوران في ذلك حكمهما حكمه. كما أن الطعن في عثمان وعائشة بهذا طعن في سلمان، ويتوجه عليه من الذم والقدح ما يتوجه عليهما على حد سواء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر نفسه 19/207.
(2) الإمامة 312.
(3) روضة الكافي 8/245.
الوجه الثالث: أن الصحابة -y- سواء من قال بإتمام الصلاة في السفر، أو من قال بالقصر، ما كان بعضهم يعيب على بعض، كما روى ابن أبي شيبة من طريق عبدالرحمن بن حصين عن أبي نجيح
المكي قال: (اصطحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فكان بعضهم يتم، وبعضهم يقصر، وبعضهم يصوم، وبعضهم يفطر، فلا يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء). (1)
قلت: وهذا يدل على أنهم كانوا يرون التوسعة في هذا، وإلا
لأنكر كل فريق منهم على الآخر ما يرى أنه منكر ومخالفة، فهم أقوم الناس بعد رسول الله بدينه، وأشدهم على المخالفين لهديه، فرضي الله عنهم أجمعين.(9/355)
الوجه الرابع: أنه ثبت أن عامة الصحابة الذين شهدوا الصلاة مع عثمان - رضي الله عنه - في منى تابعوه على ذلك، بل كان بعضهم إماماً خاصاً لأصحابه فصلى بهم أربعاً متابعة لعثمان - رضي الله عنه - الإمام العام للحج على ماروى الطبري في تاريخه أن عبدالرحمن بن عوف كلم عثمان في إتمامه للصلاة فاعتذر له فخرج عبدالرحمن فلقي ابن مسعود فقال: (أبا محمد غُير ما يُعلم؟ قال: لا، قال: فما أصنع؟ قال: اعمل أنت بما تعلم، فقال ابن مسعود: الخلاف شر، قد بلغني أنه صلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصنف لابن أبي شيبه 2/208.
أربعاً، فصليت بأصحابي أربعاً، فقال عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول -يعني نصلي معه أربعاً-). (1)
وفي سنن أبي داود قال الأعمش: فحدثني معاوية بن قرة عن أشياخه (أن عبد الله صلى أربعاً قال: فقيل له: عبت على عثمان، ثم صليت أربعاً قال: الخلاف شر). (2)
قال الخطابي معلقاً: «قلت لو كان المسافر لا يجوز له الإتمام، كما يجوز له القصر، لما تابعوا عثمان عليه، إذ لا يجوز على الملأ من الصحابة متابعته على الباطل، فدل ذلك على أن من رأيهم جواز الإتمام، وإن كان الاختيار عند كثير منهم القصر». (3)
الوجه الخامس: أنه ثبت عن علي - رضي الله عنه - أنه اجتهد في مسائل فأخطأ وخالف بذلك السنة متأولاً فلم يضره ذلك لمّا كان مجتهداً.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية بعض هذه المسائل فقال: «وكذلك قضى علي - رضي الله عنه - في المفوضة بأن مهرها يسقط بالموت، مع قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق بأن لها مهر نسائها. وكذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 4/268.(9/356)
(2) رواه أبو داود في سننه: (كتاب المناسك، باب الصلاة بمنى) 2/492.
(3) معالم السنن 2/181.
طلبه نكاح بنت أبي جهل، حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم فرجع عن ذلك. وقوله لما ندبه وفاطمة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة بالليل فاحتج بالقدر، لما
قال: ألا تصليان فقال علي: إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فولّى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب فخذه ويقول (وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً...) وعلي عرف رجوعه عن بعضها فقط، كرجوعه عن خطبة بنت أبي جهل.
وأما بعضها كفتياه بأن المتوفى عنها تعتد أبعد الأجلين، وأن المفوضة لامهر لها إذا مات الزوج، وقوله إن المخيرة إذا اختارت زوجها فهي واحدة، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه ولم يكن ذلك طلاقاً، فهذه لم يعرف إلا بقاؤه عليها حتى مات، وكذلك مسائل كثيرة ذكرها الشافعي في كتاب (اختلاف علي وعبدالله)...». (1)
قلت: وأعظم من هذا ما حصل في عهد علي - رضي الله عنه - من الاقتتال العظيم بين المسلمين الذي كان أحد أطرافه حتى قتل من قتل من المسلمين، فإن كان علي - رضي الله عنه - معذوراً في هذا وفي تلك المسائل التي خالف فيها، وهي كثيرة كما ذكر شيخ الإسلام، فعثمان أولى بالعذر في مسألة واحدة وافقه عليها من وافقه من الصحابة، وعذره الباقون، هذا مع ما امتاز به عهده من عصمة دماء المسلمين، حتى إنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 6/28-29.
لم أطلت الفتنة برأسها وحاصره الثوار في البيت آثر المسلمين على نفسه، ونهى من أراد نصرته من الصحابة عن القتال حتى قتل شهيداً - رضي الله عنه -، بخلاف علي - رضي الله عنه - الذي قاتل ورغّب في القتال معه، وهو في كل ذلك معذور بل مأجور - رضي الله عنه - وأرضاه. وإنما أردت دحض شبهة هذا الرافضي الحاقد بما لا يستطيع رده ولا دفعه.(9/357)
وبهذا تظهر براءة عثمان وعائشة -رضي الله عنهما- مما رماهما به الرافضي بسبب الاجتهاد في مسألة القصر.
فلله الحمد والفضل.
===============
الصحابة يشهدون على أنفسهم
طعن الرافضي على الصحابة بقول أنس (فلم نصبر) والرد عليه
قال الرافضي ص132 تحت عنوان: (الصحابة يشهدون على أنفسهم).
«روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض، قال أنس: فلم نصبر.
وعن العلاء بن المسيب عن أبيه قال: لقيت البراء بن عازب -رضي الله عنهما- فقلت طوبى لك صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وبايعته تحت الشجرة فقال: يا ابن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده.
وإذا كان هذا الصحابي من السابقين الأولين، الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، ورضي الله عنهم، وعلم ما في قلوبهم فأثابهم فتحاً قريباً، يشهد على نفسه وعلى أصحابه بأنهم أحدثوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الشهادة هي مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وتنبأ به من أن أصحابه سيحدثون بعده، ويرتدون على أدبارهم...»
قلت: إن من أغرب الغريب أن يطعن هذا الرافضي الحاقد، فيمن يعترف لهم بفضل الصحبة والسبق للإسلام، مضمناً كلامه في
الطعن عليهم، ما دلت عليه الآية الكريمة في الثناء على أولئك السابقين
الأولين وهي قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً}(1) وهو بهذا يؤكد أنه أثناء طعنه في الصحابة غير غافل عن هذه الآية وغيرها من الآيات المتضمنة ثناء الله العظيم على هؤلاء الصحابة، وإخبار الله أنه رضي عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار.(9/358)
وهذا تكذيب منه صريح لنص القرآن، ورد قبيح لأخباره، ومشاقة ومعاندة لأحكامه، وهذا والله هو الكفر الصريح الذي لا يشك فيه أحد من أهل العلم، خصوصاً إذا ما اقترن الرد لأحكام القرآن بشيء من السخرية والاستهزاء، وذلك في قول الرافضي: «وإذا كان هذا الصحابي من السابقين الأولين الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ورضي الله عنهم، وعلم ما في قلوبهم فأثابهم فتحاً قريباً يشهد على نفسه وعلى أصحابه بأنهم أحدثوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الشهادة هي مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم ...» الخ كلامه.
وأما استشهاده بقول أنس - رضي الله عنه - (فلم نصبر) على طعنه في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الفتح آيه 18.
الصحابة، وما ادعاه من إحداثهم وردتهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فليس في قول أنس ما يدل على تلك الدعوى الفاسدة لامن قريب أو بعيد.
وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عهد للأنصار عهداً أنهم سيلاقون أثرة وظلماً شديداً بعده، كما جاء في الصحيحين من حديث أنس، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (... إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض، قال أنس فلم نصبر).(1)
فقول أنس - رضي الله عنه - متعلق بما أوصاهم به من الصبر على ظلم الولاة واستئثارهم بالحقوق عليهم، وغاية ما يدل عليه أنهم لم يصبروا على ظلم الولاة، بخلاف ما ادعى الرافضي من الإحداث والردة فهذا لايتحمله السياق ولا يدل عليه.
والصبر الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار وأمر به غيرهم في
حق الولاة جاء مفسراً في أحاديث أخرى، ففي الصحيحن من
حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً(9/359)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جزء من حديث أنس في خبر قسمة الغنائم يوم حنين رواه البخاري
في (كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم...) فتح الباري 6/251، ح3147، ومسلم (كتاب الزكاة، باب إعطاء
المؤلفة قلوبهم) 2/733،734، ح1059.
مات ميتة جاهلية).(1)
وفي رواية أخرى عن ابن عباس أيضاً: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية).(2)
فتبين أن الصبر على الولاة يكون بلزوم جماعة المسلمين، وعدم الخروج على السلطان، وعلى هذا فأنس - رضي الله عنه - وسائر الأنصار من الصابرين على الولاة المتمسكين بوصية نبيهم صلى الله عليه وسلم إذ لا يعرف في تأريخ الأنصار أن أحداً منهم خرج على الحكام، لا في عهد الخلفاء الراشدين، ولا فيما أدركوا من عهد الدولة الأموية، وقد كان أنس - رضي الله عنه - من آخر الصحابة موتاً كما تقدم(3)، وقد أدرك بعض الأمراء الظلمة مثل الحجاج بن يوسف الذي كان أميراً عليه عندما كان في العراق، ومع هذا لا يعرف من سيرته أنه نازعه في سلطانه، ولا خرج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري (في كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سترون بعدي أموراً تنكرونها) فتح الباري 13/5، ح7053، ومسلم (كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين...) 3/1478، ح1849.
(2) رواه البخاري (في كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سترون بعدي أموراً تنكرونها) فتح الباري 13/5، ح7054، ومسلم (كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ...) 3/1477، ح1849.
(3) انظر ص381 من هذا الكتاب.(9/360)
عليه، مع ما هو معروف به الحجاج من الظلم والبطش بل كان في ذلك صابراً محتسباً، وكان الحجاج لربما تعرض له بشيء من السب والشتم فلا يخرجه ذلك عن صبره - رضي الله عنه - على ما نقل ابن كثير من رواية علي بن يزيد قال: (كنت في القصر مع الحجاج وهو يعرض الناس ليالي ابن الأشعث، فجاء أنس بن مالك فقال الحجاج: هي ياخبيث جوال في الفتن مرة عليّ، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع
ابن الأشعث، أما والذي نفس الحجاج بيده لأستأصلنك كما تستأصل الصمغة، ولأجردنك كما تجرد الضب.
قال يقول أنس: إياي يعني الأمير؟ قال: إياك أعني أصم الله سمعك قال: فاسترجع أنس).(1)
وهذا مما يدل على صبر أنس تحقيقاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمسكاً بالعهد الذي عهده إليه - رضي الله عنه - وأرضاه، وأما قول أنس - رضي الله عنه - (فلم نصبر) فهذا لا يشكل على من عرف سيرة الصحابة رضوان الله عليهم وما كانوا عليه من مقتهم لأنفسهم واستعظامهم ذنوبهم لشدة خوفهم من الله تعالى، وتعظيمهم له، ولذا ثبت في صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية لابن كثير 9/96.
النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات). (1)
ولعل أنس - رضي الله عنه - أراد بقوله: (لم نصبر) ما قام به من شكوى الحجاج على الخليفة لما اشتد أذاه له على ما روى ابن كثير عن أبي بكر بن عياش أن أنساً بعث إلى عبد الملك يشكو إليه الحجاج ويقول: (والله لو أن اليهود والنصارى رأوا من خدم نبيهم لأكرموه وأنا خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين). (2)
وقد تقدم نقلاً عن ابن حجر أن أنساً - رضي الله عنه - قدم دمشق شاكياً الحجاج على الخليفة، وهو إذ ذاك الوليد بن عبد الملك. (3)(9/361)
ومعلوم أن شكوى أنس للحجاج لاتنافي الصبر، ولا تقدح في أنس - رضي الله عنه - فإن الحجاج كان ظالماً مستبداً مؤذياً للأخيار ومنهم أنس، فرفع أمره للخليفة دفع لظلمه، وانتصار بالحق، وهذا جائز في الشرع، بل محمود قال تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل}(4)، وقال - تعالى -: {إلا الذين آمنوا وعموا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري في: (كتاب الرقاق، باب مايتقى من محقرات الذنوب) فتح الباري 11/329، ح6492.
(2) البداية والنهاية 9/96.
(3) انظر: ص 379 من هذا الكتاب.
(4) سورة الشوري آية 41.
الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا}(1)، وقال تعالى في وصف المؤمنين في معرض الثناء عليهم: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} . (2)
فأنس - رضي الله عنه - انتصر لنفسه بحق ثم إنه رأى بعد هذا أن الأولى هو عدم ذلك، وأن الأليق بمقامه هو العفو والصفح، وعليه يتنزل قوله: (لم نصبر) والله تعالى أعلم.
وأما قول البراء بن عازب - رضي الله عنه -: (إنك لا تدري ما أحدثنا بعده)(3) فمحول على ماتقدم من مقت الصحابة رضوان الله عليهم لأنفسهم، لكمال إيمانهم، وتعظيمهم لربهم.
قال ابن حجر في شرحه: «يشير إلى ما وقع لهم من الحروب وغيرها، فخاف غائلة ذلك، وذلك من كمال فضله». (4)
قلت: وهذا حال كل مؤمن كامل الإيمان، فهو دائماً يستصغر عمله ويستقله، ويستعظم ذنبه ويستكثره، وذلك لكمال علمه بالله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الشعراء آية 227.
(2) سورة الشورى آية 39.
(3) أخرجه البخاري في: (كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية) فتح الباري 7/449، ح4175.
(4) فتح الباري 7/450.(9/362)
وقوة تعظيمه له، بخلاف الفاسق، فإنه يستعظم عمله، ويستقل ذنبه، لضعف الإيمان في نفسه وجرأته على ربه.
روى البخاري عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه فقال به هكذا). (1)
ولهذا كثرت الآثار عن الصحابة، وخيار سلف الأمة في لوم النفس، واستشعار التقصير لكمال إيمانهم وعلمهم بالله -y- وما قول البراء وأنس بن مالك إلا من هذا الباب، ولو كان في هذا مطعن عليهما للزم ذلك الطعن على خيار الصحابة وسلف الأمة، الذين نقل عنهم من أمثال ذلك ما يصعب حصره.
وإنما اذكر هنا بعض ما جاء من ذلك عن الصحابة الذين هم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري في: (كتاب الدعوات، باب التوبة...) فتح الباري 11/102، ح6308، وهذا الحديث مختلف فيه، هل هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول ابن مسعود، لأن رواي الحديث عن عبدالله بن مسعود وهو الحارث بن سويد قال: حدثنا ابن مسعود حديثين: أحدهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن نفسه، وذكر هذا الحديث ثم ذكر (لله أفرح بتوبة العبد...) وذكر النووي أن المرفوع هو الثاني، شرح صحيح مسلم 17/61.
قال ابن حجر: «وكذا جزم ابن بطال بأن الأول هو الموقوف، والثاني هو المرفوع وهو كذلك) فتح الباري 11/105.
محل تقدير الرافضة وتعظيمهم، فمن ذلك ما ثبت عن علي - رضي الله عنه - من ندمه يوم الجمل ندماً عظيماً حتى إنه قال لابنه الحسن: (يا حسن ليت أباك مات منذ عشرين سنة، فقال له: يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا قال: يابني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا). (1)(9/363)
وفيه رواية: (أنه لما اشتد القتال يوم الجمل ورأى علي الرؤوس تندر، أخذ علي ابنه الحسن فضمه إلى صدره، ثم قال: إنا لله ياحسن؟ أي خير يرجى بعد هذا؟). (2)
وروى أبو نعيم عن سعيد بن المسيب (أن سعد بن مالك وعبدالله بن مسعود دخلا على سلمان -y- يعودانه فبكى فقالا: ما يبكيك يا أبا عبدالله؟ فقال: عهد عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يحفظه أحد منا قال: ليكن بلاغ أحدكم كزاد الراكب). (3)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال: (والله لوددت أني شجرة تعضد).(4)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 7/251، والطبري في تأريخه 4/537، ولم يذكر قول الحسن.
(2) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 7/251.
(3) حلية الأولياء 1/196.
(4) أخرجه أحمد في المسند 5/173، والحاكم في المستدرك، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ==
فإذا كانت مثل هذه الآثار لا تستلزم الطعن في هؤلاء الأخيار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم ممن تعتقد الرافضة عدالتهم وفضلهم، فكذلك الشأن فيما ثبت عن أنس والبراء -رضي الله عنهما- لايلزم منه الطعن عليهما أو تنقصهما.
وأما ما ادعاه الرافضي من أن تلك الآثار تصديق لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن أصحابه سيحدثون بعده، فقد تقدم الرد على ذلك مفصلاً بما يغني عن إعادته هنا وليراجع في موضعه. (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(9/364)
(=) المستدرك مع التلخيص 4/625، وليس في رواية الحاكم النص على أن هذه العبارة من كلام أبي ذر، وإنما جاءت مدرجه في حديث: (إني أرى مالا ترون وأسمع ما لا تسمعون...) والصحيح أنها ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هي من كلام أبي ذر - رضي الله عنه - وقد نبه على ذلك الشيخ الألباني
-حفظه الله- في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/300.
(1) انظر: ص 350 من هذا الكتاب.
طعن الرافضي على الشيخين ببعض ما أثر عنهما من أقوال في شدة خوفهما من الله والرد عليه
قال الرافضي ص133 تحت عنوان: (شهادة الشيخين على نفسيهما).
«خرج البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب قال: لما طعن عمر جعل يألم فقال له ابن عباس وكأنه يُجَزِّعُهُ: يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحابتهم فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون.
قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك من منّ الله تعالى منّ به عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك من منّ الله جل ذكره منّ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله تعالى قبل أن أراه.(9/365)
وقد سجل التاريخ له أيضاً قوله: ياليتني كنت كبش أهلي يسمنونني ما بدا لهم، حتى إذا كنت أسمن ما أكون زارهم بعض من يحبون، فجعلوا بعضي شواء وقطعوني قديداً، ثم أكلوني وأخرجوني عذرة ولم أكن بشراً. كما سجل التاريخ لأبي بكر مثل هذا قال لما نظر أبو بكر إلى طائر على شجرة: طوبي لك ياطائر تأكل الثمر وتقع على الشجر، وما من حساب ولا عقاب عليك، لوددت أني شجرة على جانب الطريق مرّ على جمل فأكلني وأخرجني في بعره ولم أكن من البشر.
إلى أن قال: فكيف يتمنى الشيخان أبو بكر، وعمر، أن لا يكونامن البشرالذي كرمه الله علىسائرمخلوقاته،وإذاكان المؤمن العادي الذي يستقيم في حياته تتنزل عليه الملائكة وتبشره بمقامه في الجنة فلا يخاف من عذاب الله ولا يخرن... فما بال عظماء الصحابة الذين هم خيرالخلق بعدرسول الله-كما تعلمنا ذلك-يتمنون أن يكونواعذرة».
والرد عليه من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الآثار المذكورة تدل على شدة خوف الشيخين من الله تعالى وتعظيمهما لربهما، وهذا من كمال فضلهما وعلو شأنهما في الدين، ولذا أثني الله في كتابه على عباده الخائفين منه المشفقين من عذابه في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى % فإن الجنة هي المأوى} (1)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النازعات آيتا 40-41(9/366)
وقال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}(1)، وقال تعالى: {الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون}(2)، وقال تعالى في وصف المؤمنين: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار}(3)، وقال في وصفهم: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب}(4)، والآيات في هذا كثيرة، وهي تدل على أن الخوف من الله من صفات المؤمنين التي أثنى الله بها عليهم، وأحبها منهم، ورتب على ذلك سعادتهم ونجاتهم في الآخرة بخوفهم منه في الدنيا. والشيخان -رضي الله عنهما- ماقالا الذي قالا إلا لتحقيقهما أعلى مقامات الخوف من الله الذي استحقابه ذلك الفضل العظيم عند الله تعالى وسبقا به غيرهما من الأمة فكانا أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم .
الوجه الثاني: أن حمل الرافضي شدة خوف الشيخين على مخالفتهما ومعصيتهما، وأنهما لولا ذلك ما حصل لهما هذا، فهذا من جهله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الرحمن آية 46.
(2) سورة الأنبياء آية 49.
(3) سورة النور آية 37.
(4) سورة الرعد آية 21.(9/367)
العظيم بالشرع فإنه من المعلوم أن الخوف والخشية من لوازم العلم، كما قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماءُ}(1)، وكل ماقوي ذلك العلم قويت الخشية في نفس العبد، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)(2)، وهذا كله يورث الإستقامة على الطاعة، وحسن العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، قال تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار}(3)، وقال تعالى : {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون}(4)، فَوَصْف الله عباده بالخوف والعبادة دليل تلازمهما واجتماعهما.
وبعكس هذا عدم الخوف فإنه مصاحب للتفريط وترك العمل، قال تعالى في وصف الكفار: {ما سلككم في سقر % قالوا لم نك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة فاطر آية 28.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 4/623، وقال صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. انظر: التلخيص مع المستدرك.
(3) سورة النور آية 37.
(4) السجدة آية 16.
من المصلين% ولم نك نطعم المسكين% وكنا نخوض مع الخائضين% وكنا نكذب بيوم الدين}(1)، إلى أن قال: {كل بل لا يخافون الآخرة}(2)، فوصفهم بعدم العمل وعدم الخوف.
وبهذا يتبين جهل الرافضي في ذمه الشيخين بالخوف، الذي هو من أخص صفات المؤمنين العاملين.
الوجه الثالث: أن الله تعالى أخبر عن مريم -عليها السلام- بنظير ما ثبت عن أبي بكر، وعمر في قوله: {قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً}. (3)
قال ابن عباس في معنى نسياً منسياً أي: (لم أُخلق ولم أك شيئاً).(9/368)
وقال قتادة أي: (شيئاً لا يُعرف ولا يُذكر).
وقال الربيع بن أنس هو: (السَّقْط). (4)
وثبت عن علي- رضي الله عنه - كما تقدم في النقل عنه أنه قال يوم الجمل لابنه الحسن: (ياحسن ليت أباك مات منذ عشرين سنة). (5)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المدثر الآيات من 42-46.
(2) سورة المدثر الآية 53.
(3) سورة مريم الآية 23.
(4) تفسير الطبري 8/325-326.
(5) تقدم تخريجه ص 409.
كما ثبت عن أبي ذر قوله: (والله لوددت أني شجرة تعضد)(1)، فهل هؤلاء مذمومون بهذا؟ فإن لم يكونوا مذمومين فلم القدح في الشيخين بمثل ما ثبت عن هؤلاء؟
الوجه الرابع: أن قول الرافضي إن المؤمن العادي تتنزل عليه الملائكة وتبشره بمقامه في الجنة، وأنه لا يخاف ولا يحزن، وهو يشير بهذا لقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا}(2)، فهذا من جهله العظيم وفهمه السقيم لمعنى الآية فإن هذه البشارة الواردة في الآية إنما تكون عند الموت، كما ذكر ذلك المفسرون ونقلوه عن أئمة التفسير: كمجاهد والسدي وزيد بن أسلم، وابنه وغيرهم(3)، والمسلم قبل ذلك لايدري هل يبشر بهذا أم لا، فهو دائماً خائف وجل، لايعلم بم يختم له، وخوف الشيخين من ربهما أمر طبيعي، بل هو اللائق بهما لكمال علمهما بالله ومعرفتهما به، والله يقول: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}(4) ولايشكل على هذا بشارة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخين بالجنة فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه ص 409.
(2) سورة فصلت آية 30.
(3) انظر: تفسير الطبري 11/108، وتفسير ابن كثير 4/99.
(4) سورة فاطر أية 28.(9/369)
الخوف من الله من أخص صفات المؤمنين الراسخة في قلوبهم، التي لا ترتفع بشيء ولايستطيعون دفعها، بل كلما ازداد العبد إيماناً وعلماً وطاعة لله ازداد خوفاً، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أخشى الأمة لله كما أخبر بذلك عن نفسه وأقسم عليه في قوله: (أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له)(1)، وهكذا حال أنبياء الله كما أخبر الله عنهم في قوله: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً}(2) فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم خشية لله من الشيخين وسائر الأمة، وكذلك أنبياء الله هم أعظم خشية لله منهما بلاشك، فأي لوم عليهما في ذلك، وإذا كان المؤلف يرى بفهمه السقيم أن الواجب على المؤمن أن لا يخاف لأنه مبشر من الله بالجنة، ويقدح في الشيخين-رضي الله عنهما- بالخوف، فإن أولى الناس بعدم الخوف لو كان ما ادعاه صحيحاً هم رسل الله الذين اصطفاهم الله برسالته، ووعدهم بأعلى الدرجات في الجنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في: (كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح...) فتح الباري 9/104، ح 5063، ومسلم: (كتاب النكاح، باب استحباب النكاح...) 2/1020، ح1401.
(2) سورة مريم آية 58.
الوجه الخامس: أنه ظاهر أن الحامل للشيخين على ما قالا هو شدة خوفهما من الله، والخوف من الله من الصفات الفاضلة الممدوح بها باتفاق العقلاء، كما أن عدم الخوف من الله من الصفات الرذيلة المذموم بها عند العقلاء، ولهذا يصف الناس من أرادوا مدحه بقولهم: (فلان يخاف الله) ويصفون من أرادوا ذمه بعكس ذلك فيقولون: (فلان لا يخاف الله) فتبين أن ذم الرافضي للشيخين بخوف الله، معارض بالشرع والعقل، بل إنه غاية في العجب عند أهل العقول والنظر.(9/370)
وبهذا يتبين لك أيها القارئ صدق كلام أهل العلم في الرافضة.
كقول الشعبي -رحمه الله-: (نظرت في هذه الأهواء وكلمت أهلها فلم أر قوماً أقل عقولاً من الخشبية)(1)، [يعني الرافضة].
وقول الشافعي -رحمه الله-: (لم أر أحداً من أصحاب الأهواء أكذب في الدعوى، ولا أشهد بالزور منهم). (2)
وقول شيخ الإسلام -رحمه الله- فيهم: «والقوم من أضل الناس على السواء، فإن الأدلة إما نقلية وإما عقلية، والقوم من أضل الناس في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه ص 125.
(2) تقدم تخريجه ص 130.
المنقول والمعقول، في المذاهب والتقرير، وهم من أشبه الناس بمن قال الله فيهم: {وقالوا لوكنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}(1)». (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الملك آية 10.
(2) منهاج السنة 1/8.
================
الرد على من زعم أن اختلاف الصحابة هو الذي حرم الأمة العصمة وأدى إلى تفرقها وتمزقها
قال المؤلف ص89-90: «والمشكل الأساسي في كل ذلك هو الصحابة، فهم الذين اختلفوا في أن يكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الكتاب، الذي يعصمهم من الضلالة إلى قيام الساعة، واختلافهم هذا هو الذي حرم الأمة الإسلامية من هذه الفضيلة، ورماها في الضلالة، حتى انقسمت وتفرقت وتنازعت وفشلت وذهبت ريحها، وهم الذين اختلفوا في الخلافة، فتوزعوا بين حزب حاكم، وحزب معارض، وسبب ذلك تخلف الأمة، وانقسامها إلى: شيعة علي، وشيعة معاوية، وهم الذين اختلفوا في تفسير كتاب الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم فكانت المذاهب والفرق والملل والنحل، ونشأت من ذلك المدارس الكلامية والفكرية المختلفة، وبرزت فلسفات متنوعة أملتها دوافع سياسية محضة، تتصل بطموحات الهيمنة على السلطة والحكم.(9/371)
فالمسلمون لم ينقسموا ولم يختلفوا في شئ لولا الصحابة، وكل خلاف نشأ وينشأ إنما يعود إلى اختلافهم في الصحابة».
قلت: قوله فهم الذين اختلفوا في أن يكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الكتاب، الذي يعصمهم من الضلالة إلى قيام الساعة، وأن هذا الاختلاف هو الذي حرم الأمة من هذه الفضيلة.
يشير بذلك إلى ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه، قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا، وكثر اللغط، قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع). (1)
وقد ذكره الرافضي بنصه في موضع آخر سيأتي قريباً مستدلاً به على طعنه في الصحابة، ولذا أؤجل الرد عليه في ذلك، وتوجيه الحديث إلى موطنه الذي ذكره فيه، وأقتصر الآن في الرد على الشبهة التي أثارها هنا، وهو زعمه أن اختلافهم هذا هو الذي حرم الأمة الإسلامية من العصمة ورماها في الضلالة والتفرق إلى قيام الساعة.
والجواب على هذا: إن قوله هذا باطل، وهو يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك تبليغ أمته ما فيه عصمتها من الضلال، ولم يبلغ شرع ربه لمجرد اختلاف أصحابه عنده حتى مات على ذلك، وأنه بهذا مخالف لأمر ربه في قوله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في: (كتاب العلم، باب كتابة العلم) فتح الباري 1/208، ح114. ومسلم: (كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شئ يوصي فيه) 3/1259.
بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}. (1)(9/372)
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم مبرأً من ذلك ومنزهاً بتزكية ربه له في قوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (2)
فوصفه بالحرص على أمته: أي على هدايتهم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي لهم، ذكره ابن كثير في تفسيره(3):
وإذا كان هذا الأمر معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام عند الخاص والعام، لايشك فيه من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، أن هذا الرسول الكريم قد بلغ كل ما أُمر به، وكان أحرص ما يكون على أمته، بما هو متواتر من جهاده وتضحيته، وأخباره الدالة على ذلك، علمنا علماً يقينياً لا يشوبه أدنى شك، أنه لو كان الأمر كما يذكر هذا الرافضي من الوصف لهذا الكتاب من أن به عصمة الأمة من الضلال في دينها، ورفع الفرقة والاختلاف فيما بينها، إلى أن تقوم الساعة، لما ساغ في دين ولا عقل أن يؤخر رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابته إلى ذلك الوقت الضيق، ولو أخره ما كان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة 67.
(2) سورة التوبة 128.
(3) انظر تفسير ابن كثير 2/404.
ليتركه لمجرد اختلاف أصحابه عنده(1) وقد ثبت من سيرته أنه لربما راجعوه أحياناً في بعض المسائل مجتهدين، فما كان يترك أمر ربه لقولهم، كمراجعة بعضهم له في فسخ الحج إلى عمرة في حق من لم يسق الهدي، وذلك في حجة الوداع، وكذلك مراجعة بعضهم له يوم الحديبية، وفي تأمير أسامة(2) - رضي الله عنه -، فهل يتصور بعد هذا أن يترك أمر ربه فيما هو أعظم من هذا لخلافهم، ولو قدر أنه تركه في ذلك الوقت لتنازعهم عنده لمصلحة رآها فما الذي يمنعه من أنه يكتبه بعد ذلك، وقد ثبت أنه عاش بعد ذلك عدة أيام فقد كانت وفاته -عليه الصلاة والسلام- يوم الإثنين على ما جاء مصرحاً به في رواية أنس في الصحيحين(3) وحادثة الكتاب يوم الخميس بالاتفاق.(9/373)
فإن أبى الرافضي إلا جدالاً، وقال: خشي أن لا يقبلوه منه، ويعارضوه فيه، كما تنازعوا عنده أول مرة، قلنا: لا يضره ذلك وإنما عليه البلاغ كما قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً}. (1) (1) سورة النساء 80.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكر هذا الوجه من الردّ الدهلوي. انظر: مختصر التحفة الاثني عشرية ص251.
(2) انظر: الأحاديث في ذلك من صحيح البخاري مع الفتح 3/606، ح1785، 8/587، ح4844، 8/152، ح4468،4469.
(3) انظر: صحيح البخاري مع الفتح 8/143، ح4448، وصحيح مسلم 1/315، ح419.
فإذا ثبت هذا باتفاق السنة والرافضة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتب ذلك الكتاب حتى مات، علمنا أنه ليس من الدين الذي أمر بتبليغه، ولا على ما يصفه هذا الرافضي من المبالغة لاستحالة ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم .
ولِمَا دل عليه القرآن من أن الله قد أكمل له ولأمته الدين، فأنزل عليه قبل ذلك في حة الوداع: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}. (2) (2) المائدة 3.
وكما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (إني تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك). (3) (3) أخرجه أحمد في المسند 4/126، ضمن حديث العرباض بن سارية في موعظة النبي صلى الله عليه وسلم وكذا ابن ماجه في سننه 1/16، وقد صحح الحديث الألباني بمجموع طرقه في ظلال الجنة. انظر: ظلال الجنة مع كتاب السنة لابن أبي عاصم ص26.
فإذا تقرر بطلان ما يدعي هذا الرافضي من أن الأمة وقعت في الضلالة، وحرمت العصمة بسبب عدم كتابة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ذلك الكتاب لاختلاف الصحابة عنده:(9/374)
فليعلم بعد هذا أن الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم من كتابة ذلك الكتاب هو أن يكتب لهم كتاباً يبين فيه فيمن تكون الخلافة من بعده كما ذكر ذلك العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك الوقت، إذ لو كان كذلك لما ترك صلى الله عليه وسلم ما أمره الله به، لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر، ورأى أن الخلاف لابد أن يقع». (1)
وقال في موضع آخر: «وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه، فقد جاء مبيناً كما في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: (ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)(2) ....
[إلى أن قال بعد ذكر روايات الحديث]: والنبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع، علم أن الكتاب لا يرفع الشك، فلم يبق فيه فائدة، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال: (ويأبى الله والمؤمنون إلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 6/316.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه: :(كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر) 4/1857، ح2387.
أبا بكر)». (1)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لن تضلوا بعدي) فيقول الدهلوي في توجيهه: «فإن قيل: لو لم يكن ما يكتب أمراً دينياً فلم قال: (لن تضلوا بعدي؟) قلنا: للضلال معان، والمراد به ههنا عدم الخطأ في تدبير الملك، وهو إخراج المشركين من جزيرة العرب، وإجازة الوفد بنحو ما كان يجيزه، وتجهيز جيش أسامة منه، لا الضلالة والغواية عن الدين». (2)(9/375)
وأما قوله: «وهم الذين اختلفوا في الخلافة فتوزعوا بين حزب حاكم وحزب معارض، وسبب ذلك تخلف الأمة وانقسامها إلى شيعة علي وشيعة معاوية...»
فالجواب على هذا: أن الخلاف بين الصحابة -y- في عهد علي - رضي الله عنه - لم يكن في الخلافة، فإن الذين اختلفوا مع علي - رضي الله عنه - هم: طلحة، والزبير، وعائشة، ومعاوية -y-، ولم يكن هؤلاء ينازعونه في الخلافة بل لم يَدَّعِ أحد لامن هؤلاء ولا من غيرهم، أنه أولى بالخلافة بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - من علي؛ لأنه أفضل من بقي، وقد كانوا يقرون له بالفضل، وإنما أصل الخلاف بين هؤلاء الصحابة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 6/23،25.
(2) مختصر التحفة الاثني عشرية ص251.
المذكورين وعلي هو في المطالبة بدم عثمان وقتل قتلته، فقد كانوا يرون تعجيل ذلك والمبادرة بالاقتصاص منهم، وقد كان علي - رضي الله عنه - لا ينازعهم في أن عثمان - رضي الله عنه - قُتل مظلوماً، وعلى وجوب الاقتصاص من قتلته، وإنما كان يرى تأجيل ذلك حتى تهدأ الأوضاع ويستتب له الأمر، لأن قتلة عثمان كثير وقد تفرقوا في الأمصار كما كانت طائفة كبيرة منهم في المدينة بين الصحابة.
ومع هذا كله فإن اختلافهم -رضي الله عنهم- لم يصل بهم إلى الطعن في الدين، واتهام بعض لبعض، وإنما كان كل فريق يرى لمخالفه مكانته في الفضل والصحبة ويرى أنه مجتهد في رأيه، وإن كان يخطئه فيه.
فههنا ثلاث مسائل مقررة عند أهل العلم والتحقيق من أهل السنة، يندفع بها ما يثيره هؤلاء المغرضون من شبه، حول الفتنة التي حصلت في زمن الصحابة -y- في خلافة علي وهي:
المسألة الأولى: أن الخلاف الذي حصل بينهم لم يكن حول الخلافة، ولم ينازع علياً - رضي الله عنه - أحد من مخالفيه فيها، ولم يَدَّعِ أحد منهم على الإطلاق أنه أولى بالخلافة من علي.(9/376)
المسألة الثانية: أن الخلاف بينهم إنما هو في تعجيل قتل قتلة عثمان أو تأخيره، مع اتفاقهم على وجوب تنفيذ ذلك.
المسألة الثالثة: أنهم مع اختلافهم لم يتهم بعضهم بعضاً في الدين، وإنما يرى كل فريق منهم أن مخالفه مجتهد متأول، يعترف له بالفضل في الإسلام، والصحبة لرسول صلى الله عليه وسلم .
وهذه مسائل عظيمة، دلت عليها الأخبار الصحيحة. وفيها توضيح لحقيقة الخلاف بين الصحابة وتبرئة لساحتهم من كل مايرميهم به الرافضة والزنادقة، وهي أصل كبير في الرد على هؤلاء ينبغي لطالب العلم أن يتعلمها بأدلتها، وإليك أيها القارئ بسط الأدلة على تقريرها:
المسألة الأولى: أن الخلاف الذي حصل بينهم لم يكن في الخلافة، ولم ينازع علياً أحد من مخالفيه فيها، ولم يدع أحد منهم أنه أولى بها من علي - رضي الله عنه -
ومن أقوى الأدلة، وأكبر الشواهد على هذا: اجتماع الصحابة -y- على مبايعته بالخلافة بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - بما فيهم طلحة والزبير -رضي الله عنهما-، وقد دلت على ذلك الروايات الصحيحة المنقولة عنهم في ذلك.
منها مارواه الطبري في تاريخه بسنده إلى محمد بن الحنفية، قال: «كنت مع أبي حين قتل عثمان - رضي الله عنه - فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: لا تفعلوا، فإني أكون وزيراً، خيرٌ من أن أكون أميراً، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خَفِيّاً ولا تكون إلا عن رضا المسلمين.(9/377)
قال سالم بن الجعد، فقال عبدالله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يُشْغَب عليه، وأبى هو إلا المسجد، فلما دخل دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس».(1)
وعن أبي بشير العابدي قال: «كنت بالمدينة حين قتل عثمان - رضي الله عنه - واجتمع المهاجرون والأنصار فيهم طلحة والزبير فأتوا علياً، فقالوا: يا أبا الحسن هلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به، فاختاروا والله، فقالوا: ما نختار غيرك....»(2) الخ الرواية، وفيها تمام البيعة لعلي- رضي الله عنه -.
والروايات في هذا كثيرة ذكر بعضها ابن جرير في تأريخه(3)
وهي دالة على مبايعة الصحابة -y- لعلي - رضي الله عنه - واتفاقهم على بيعته بما فيهم طلحة والزبير، كما جاء مصرحاً به في الرواية
السابقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 4/427.
(2) تاريخ الطبري 4/427-428.
(3) انظر: تاريخ الطبري 4/427-429، وقد قام بجمع هذه الروايات ودرسها الدكتور محمد أمحزون في كتابه القيم: (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة 20/59-75.
وأما ما جاء في بعض الروايات من أن طلحة، والزبير بايعا مكرهين فهذا لا يثبت بنقل صحيح، والروايات الصحيحة على خلافه.
فقد روى الطبري عن عوف بن أبي جميلة قال: «أما أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين، يقول: إن علياً جاء فقال لطلحة: ابسط يدك ياطلحة لأبايعك. فقال طلحة: أنت أحق، وأنت أمير المؤمنين، فابسط يدك، فبسط علي يده فبايعه». (1)
وعن عبد خير الخَيْوانيّ أنه قام إلى أبي موسى فقال: «يا أبا موسى، هل كان هذان الرجلان -يعني طلحة والزبير- ممن بايع علياً قال: نعم...». (2)(9/378)
كما نص على بطلان ما يُدَّعَى من أنهما بايعا مكرهين، الإمام المحقق ابن العربي وذكر أن هذا مما لا يليق بهما، ولا بعلي قال
-رحمه الله-: «فإن قيل بايعا مكرهين [أي طلحة والزبير]، قلنا: حاشا لله أن يكرها، لهما ولمن بايعهما، ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك، لأن واحداً أو اثنين تنعقد البيعة بهما وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعاً، ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما، ولا في بيعة الإمام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 4/434.
(2) المصدر نفسه 4/486.
وأما من قال يد شلاء وأمر لا يتم(1)، فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من بايع ولم يكن كذلك.
فإن قيل فقد قال طلحة: (بايعت واللُّجّ علي قَفَيّ) قلنا: اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في (القفا) لغة (قفى)، كما يجعل في (الهوى) (هوي)، وتلك لغة هذيل لا قريش(2)، فكانت كذبة لم تدبر.
وأما قولهم: (يد شلاء) لو صح فلا متعلق لهم فيه، فإن يداً شُلّت في وقاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتم لها كل أمر، ويتوقى بها من كل مكروه، وقد تم الأمر على وجهه، ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه». (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إشارة إلى ما جاء في بعض الروايات: أن أول من بايع علياً طلحة -رضي الله عنهما- وكان بيده اليمنى شلل، لما وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقال رجل في القوم: أول يد بايعت أمير المؤمنين شلاء لا يتم هذا الأمر. انظر: تاريخ الطبري 4/435، والبداية والنهاية لابن كثير 7/237.(9/379)
(2) وقيل هي: لغة طيّ. ذكره ابن الأثير في النهاية 4/94 وكذلك: اللُّجّ ليس من لغة قريش بل من لغة طيّ، قال ابن الأثير: «هو بالضّم: السيف بلغة طيّ» النهاية 4/234، وقيل هو السيف أيضاً بلغة هذيل وطوائف من اليمن. انظر لسان العرب 2/354.
(3) العواصم من القواصم ص148-149.
وكذلك معاوية - رضي الله عنه - فقد ثبت بالروايات الصحيحة أن خلافه مع علي - رضي الله عنه - كان في قتل قتلة عثمان - رضي الله عنه - ولم ينازعه في الخلافة بل كان يقر له بذلك.
فعن أبي مسلم الخولاني أنه جاء وأناس معه إلى معاوية وقالوا: «أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً، وأنا ابن عمه والطالب بدمه فأتوه، فقولوا له فليدفع إليّ قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا علياً فكلموه فلم يدفعهم إليه(1)».(2)
ويروى ابن كثير من طرق ابن ديزيل بسنده إلى أبي الدرداء وأبي أمامة -رضي الله عنهما- «أنهما دخلا على معاوية فقالا له: يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل؟ فو الله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً، وأقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحق بهذا الأمر منك، فقال: أقاتله على دم عثمان، وإنه آوى قتلته، فاذهبا إليه فقولا له:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سبب ذلك أن علياً - رضي الله عنه - طلب من معاوية أن يدخل في البيعة ويحاكمهم إليه فأبى معاوية -رضي الله عنهما- جميعاً. انظر: البداية والنهاية 7/265، وتحقيق مواقف الصحابة في الفتنة لمحمد أمحزون 2/147.
(2) أخرجه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 16/356ب،
وأورده الذهبي فيسير أعلام النبلاء 3/140، وقال محققوا الكتاب: رجاله ثقات.
فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من أبايعه من أهل الشام».(1)(9/380)
والروايات في هذا كثيرة مشهورة بين العلماء(2) وهي دالة على عدم منازعة معاوية لعلي -رضي الله عنهما- في الخلافة ولهذا نص المحققون من أهل العلم على هذه المسألة وقرروها.
يقول إمام الحرمين الجويني: «إن معاوية وإن قاتل علياً فإنه لا ينكر إمامته، ولا يدعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظاناً منه أنه مصيب وكان مخطئاً».(3)
ويقول ابن حجر الهيتمي: «ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن ما جرى بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- من الحروب فلم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعلي كما مر فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم، لكون معاوية ابن عمه فامتنع علي».(4)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية 7/270.
(2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 7/268-270، وقد جمع هذه الروايات الدكتور محمد أمحزون في كتابه: (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة) 2/146-150.
(3) لمعة الأدلة في عقائد أهل السنة والجماعة ص115.
(4) الصواعق المحرقة ص 216.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ومعاوية لم يدَّعِ الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل علياً، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر
بذلك لمن سأله عنه... وكل فرقة من المتشيعين(1) مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفأ لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي - رضي الله عنه - فإن فضل علي وسابقيته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة». (2)(9/381)
فثبت بهذا أنه لم ينازع علياً - رضي الله عنه - أحدٌ في الخلافة لامن الذين خالفوه ولا من غيرهم، وبهذا يبطل ما ادعا هذا الرافضي من أن الصحابة تنازعوا في الخلافة، وترتب على ذلك تفرق الأمة
وانقسامها.
المسألة الثانية: أن الخلاف بين علي ومخالفيه -y- إنما هو في تقديم الاقتصاص من قتلة عثمان أو تأخيره مع اتفاقهم على وجوب تنفيذه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي من المتشيعين لعثمان أو علي -رضي الله عنهما-، وقد كان المطالبون بدم عثمان - رضي الله عنه - قد انضموا إلى معاوية ومع هذا ما كانوا يفضلونه على علي -y- أجمعين.
(2) مجموع الفتاوى 35/72-73.
وهذه المسألة مقررة أيضاً عند أهل العلم من أهل السنة بما ثبت في ذلك من الأخبار، والآثار الدالة على أن علياً - رضي الله عنه - لا ينازع مخالفيه في وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان، وإنما كان يرى تأجيل ذلك حتى يستتب له الأمر. وذلك أن قتلة عثمان - رضي الله عنه - كانوا قد تمكنوا من المدينة، ثم قام في أمرهم من الأعراب وبعض أصحاب الأغراض الخبيثة ما أصبح به قتلهم في أول عهد علي - رضي الله عنه - متعذراً.
يشهد لهذا ما ذكره الطبري حيث يقول: «واجتمع إلى علي بعدما دخل طلحة والزبير في عدة من الصحابة، فقالوا: يا علي إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلّوا بأنفسهم، فقال لهم: يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم! هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلا رأياً ترونه إن شاء الله». (1) (1) تاريخ الطبري 4/437(9/382)
ويقول ابن كثير: «ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة -y- وطلبوا منه إقامة الحدود، والأخذ بدم عثمان، فاعتذر إليهم: بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا». (1) (1) البداية والنهاية لابن كثير 7/239.
فكان هذا هو عذر علي - رضي الله عنه - في بداية الأمر، أما بعد ذلك فإن الأمور أصبحت أكثر تعقيداً، وأشدّ اشتباهاً، خصوصاً بعدما اقتتل الصحابة -y- في معركة الجمل بغير اختيار منهم، وإنما بسبب المكيدة التي دبرها قتلة عثمان للوقيعة بينهم، كما تقدم بيان ذلك، فلم يكن أمر الاقتصاص مقدوراً عليه بعد هذه الأحداث لا لعلي، ولا لغيره من مخالفيه، وذلك لتفرق الأمة وانشغالها بما هو أولى منه من تسكين الفتنة ورأب الصدع.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «لم يكن علي مع تفرق الناس عليه متمكناً من قتل قتلة عثمان، إلا بفتنة تزيد الأمر شرّاً وبلاءً. ودفع أفسد الفاسدين بالتزام أدناهما أولى من العكس، لأنهم كانوا عسكراً، وكان لهم قبائل تغضب لهم، والمباشر منهم للقتل -وإن كان قليلاً- فكان ردؤهم أهل الشوكة، ولولا ذلك لم يتمكنوا، ولما سار طلحة والزبير إلى البصرة ليقتلوا قتلة عثمان، قام بسبب ذلك حرب قتل فيها خلق.
ومما يبين ذلك أن معاوية قد أجمع الناس عليه بعد موت علي، وصار أميراً على جميع المسلمين، ومع هذا فلم يقتل قتلة عثمان الذين كانوا قد بقوا». (1) (1) منهاج السنة 4/407-408(9/383)
وعلى كل حال فأياً كان عذر علي - رضي الله عنه - فالمقصود هنا أنه لا يخالف بقية الصحابة المطالبين بدم عثمان - رضي الله عنه - في وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان - رضي الله عنه - على ما تقدم تصريحه بذلك في إجابته لطلحة والزبير لما طالباه بقتل قتلة عثمان حيث قال (يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم)، ثم أقسم بعد ذلك وهو الصادق البار: أنه لا يرى إلا ما يرون في هذا الأمر، وهذا مما يدل على إجماع الصحابة -y- على هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: أن الصحابة -y- الذين اختلفوا في الفتنة لم يتهم بعضهم بعضاً في الدين، وإنما كان يرى كل فريق منهم أن مخالفه وإن كان مخطئاً، فهو مجتهد متأول، يعترف له بالفضل في الإسلام وحسن الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذه مسألة مقررة عند أهل العلم أيضاً بما ثبت من ثناء الصحابة بعضهم على بعض -y- أجمعين، فمن ذلك ما جاء عن علي - رضي الله عنه - بعد معركة الجمل أنه كان يتفقد القتلى فرأى طلحة بن عبيد الله مقتولاً فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: (رحمة الله عليك أبا محمد يعزّ عليّ أن أراك مجدولاً(1) تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عُجَري وبُجَري(2)). (3)
ولما جاءه (ابن جرموز) قاتل الزبير ومعه سيفه لعله يجد عنده حظوة فاستأذن عليه فقال علي - رضي الله عنه -: (لا تأذنوا له وبشروه بالنار)، وفي رواية أن علياً قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار).
وقال لما رأى سيف الزبير: (طال ما فرج الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ). (4)
وبعد انتهاء معركة الجمل ذهب علي إلى عائشة -رضي الله عنهما- فقال: (كيف أنت يا أُمّه ؟ قالت: بخير، قال: يغفر الله لكِ، قالت: ولك). (5)(9/384)
وذكر الطبري أن علياً - رضي الله عنه - بلغه أن رجلين شتما عائشة -رضي الله عنها- فبعث القعقاع بن عمرو فأتى بهما، فقال: اضرب أعناقهما، ثم قال: لأنهكنهما عقوبة، فضربهما مائة مائة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي: مرمياً ملقيً على الأرض قتيلاً: النهاية لابن الاثير 1/248.
(2) أي: همومي وأحزاني، النهاية لابن الأثير 3/185.
(3) البداية والنهاية لابن كثير 7/258.
(4) ذكر هذه الروايات ابن كثير في البداية والنهاية 7/260.
(5) أورده الطبري في تأريخه 4/534.
وأخرجهما من ثيابهما. (1)
وروى الطبري من طريق محمد بن عبدالله بن سواد وطلحة بن الأعلم في تجهيز علي لعائشة -رضي الله عنهما- لما أرادت أن ترتحل من البصرة قالا: «جهز على عائشة بكل شيء ينبغي لها من مركب، أوزاد أو متاع، وأخرج معها كل من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وقال: تجهز يا محمد فبلَّغها.
فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه، جاءها حتى وقف لها، وحضر الناس، فخرجت على الناس وودعوها، وقالت: يابَنيّ تعتب بعضنا على بعض استبطاءً واستزادة فلا يعتدّن أحد منكم على أحد بشيء بلغه من ذلك، إنه والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه عندي على معتبتي من الأخيار. وقال علي: يا أيها الناس، صدقت والله وبرت ما كان بيني وبينها إلا ذلك وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة». (2)
ومما ثبت من ذلك عن عمار - رضي الله عنه - وكان في جيش علي يوم الجمل ما رواه الطبري من رواية مالك بن دينار قال:«حمل عمار على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: تاريخ الطبري 4/540.
(2) تاريخ الطبري 4/544.(9/385)
الزبير يوم الجمل فجعل يحوزه(1) بالرمح فقال: أتريد أن تقتلني؟ قال: لا انصرف».(2)
وروى الطبري أيضاً عن عامر بن حفص قال: «أقبل عمار حتى حاز الزبير يوم الجمل بالرمح فقال: أتقتلني يا أبا اليقظان! قال: لا يا أبا عبدالله». (3)
وهذا كله فيما دار بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في معركة الجمل، أما في موقعة صفين التي دارت بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما-.
فقد ثبت عن علي - رضي الله عنه - على ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن إسحاق بن راهويه بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه قال: (سمع علي يوم الجمل أو يوم صفين رجلاً يغلو في القول فقال: لا تقولوا إلا خيراً إنما هم قوم زعموا إنا بغينا عليهم، وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم). (4)
وعن محمد بن نصر بسنده عن مكحول: (أن أصحاب علي سألوه عمن قُتِل من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحيز والحوز هو السوق اللين، ومنه حاز الأبل يحوزها سارها في رفق. انظر: لسان العرب 5/343.
(2) تاريخ الطبري 4/512
(3) تاريخ الطبري 4/512.
(4) منهاج السنة 5/244-245.
أصحاب معاوية ماهم؟ قال: هم مؤمنون). (1)
وعن عبد الواحد بن أبي عون قال: (مر علي -وهو متوكئ على الأشتر- على قتلى صفين، فإذا حابس اليماني مقتول: فقال الأشتر: إنا لله وإنا إليه راجعون هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه علامة معاوية، أما والله لقد عهدته مؤمناً، قال علي: والآن هو مؤمن). (2)
وأما معاوية - رضي الله عنه - فقد تقدم ثناؤه على علي - رضي الله عنه - واعترافه بفضله كما جاء في حواره مع أبي مسلم الخولاني لما قال له أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: (لا والله إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني...).(3) الخ كلامه.(9/386)
وقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء أن ضرارة بن ضمرة الصُّدَائي دخل على معاوية فقال له: صف لي علياً، فقال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين، قال: لا أعفيك، قال: (أما إذ لابد فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فضلاً، ويحكم عدلاً...). وذكر كلاماً طويلاً في وصف علمه وشجاعته وزهده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 5/245.
(2) المصدر نفسه 5/245.
(3) انظر ص238 من هذا الكتاب.
إلى أن قال: (فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: كذا كان أبو الحسن رحمه الله). (1) (1) حلية الأولياء 1/84-85.
فهذه بعض الآثار المنقولة عن الصحابة -y- ممن وقع بينهم الخلاف، في ثناء بعضهم على بعض وتعظيم بعضهم لبعض وتحابهم في الله، رغم ما حصل بينهم من اختلاف وحروب نشأت عن اجتهاد كل منهم فيما يرى أنه فيه مصلحة الأمة، وإقامة دين الله وشرعه، ومع هذا فقد كان كل منهم ينصف صاحبه، ولا يحمله خلافه له في الاجتهاد على الطعن عليه في الدين، والاعتداء والظلم، بل كان يشهد كل منهم لأخيه بما هو عليه من الفضل والسبق إلى الإسلام. وهذا لعمر الله هو الفضل، فإن الإنصاف عند الخصومة عزيز، وهو في الناس قليل، إلا لمن علت درجاتهم في الإيمان، وزكى الله نفوسهم وطهرها من الشهوات، أمثال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اصطفاهم الله بعلمه لصحبة نبيه، فنسأل الله أن يرزقنا محبتهم جميعاً، وحسن الأدب معهم، وأن يجعلنا ممن قال فيهم: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}. (1)
وأما قول المؤلف في حق الصحابة: «وهم الذين اختلفوا في(9/387)
تفسير كتاب الله، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت المذاهب والفرق، والملل والنحل، ونشأت من ذلك المدارس الكلامية والفكرية المختلفة وبرزت فلسفات متنوعة....
إلى أن قال: فالمسلمون لم ينقسموا، ولم يختلفوا في شيء لولا الصحابة، وكل خلاف نشأ وينشأ إنما يعود إلى اختلافهم في الصحابة».
فجوابه: أن هذا من أكبر التلبيس والتمويه، والطعن على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما هم منه برآء، فما ينقل عن الصحابة من اختلاف في التفسير، وفي فهم بعض الأحاديث، لم يترتب عليه ما ذكر من نشأة الفرق والمدارس الكلامية والفلسفات المتنوعة.
وذلك أن الاختلاف ينقسم إلى قسمين: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد(2)، وغالب ما ينقل عن الصحابة في تفسير بعض الآيات، من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحشر 10.
(2) انظر: مجموع الفتاوى 6/58.
قال: «الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب مايصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد». (1)
ثم ذكر -رحمه الله- أن اختلاف التنوع يرجع إلى أمرين:
الأول: أن يعبر كل واحد من السلف بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على المعنى في المسمى غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى مثال ذلك تفسيرهم للصراط المستقيم فيقول بعضهم: بأنه هو القرآن أو اتباع القرآن، ويقول آخر: هو الإسلام، أو دين الإسلام، ويقول آخر: هو السنة والجماعة، ويقول آخر: طريق العبودية، أو طريق الخوف والرجاء والحب، أو امتثال المأمور واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنة أو العمل بطاعة الله أو نحو هذه الأسماء والعبارات.(9/388)
الثاني: أن يذكر كل واحد من السلف الاسم العام ببعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ (الخبز) فأُري رغيفاً وقيل له: هذا فالإشارة إلى نوع هذا، لا إلى هذا الرغيف وحده. (2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقدمة في أصول التفسير ص10.
(2) انظر: مقدمة في أصول التفسير لشيخ الاسلام ابن تيمية ص10-12، ومجموع الفتاوى 13/381-382.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب». (1)
ومن هنا يظهر أن هذا النوع من الاختلاف -وهو الغالب على ما ينقل عن الصحابة من اختلاف في التفسير- لا أثر له في الاختلاف في استنباط الأحكام من الآيات، وتنازع الأمة من بعدهم في ذلك، فضلاً أن يكون سبباً لنشأة الفرق والنحل، والمدارس الفلسفية والكلامية كما يدعي الرافضي.
أما اختلاف الصحابة الراجع إلى القسم الثاني وهو اختلاف التضاد فما يثبت عنهم من ذلك سواء في التفسير، أو في الأحكام، فقليل وهو ليس في الأصول العامة المشهورة في الدين، وإنما في بعض المسائل الدقيقة التي هي محل اجتهاد ونظر.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد أن ذكر أن عامة ماينقل عن الصحابة والسلف من الخلاف في التفسير من باب اختلاف التنوع: «ومع هذا فلابد من اختلاف مخفف بينهم، كما يوجد مثل ذلك في الأحكام، ونحن نعلم أن عامة ما يضطر إليه عموم الناس من اختلاف،معلوم بل متواترعند العامة أو الخاصة، كما في عدد الصلوات ومقادير ركوعها ومواقيتها، وفرائض الزكاة ونصبها، وتعيين شهر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى 13/381.(9/389)
رمضان، والطواف، والوقوف، ورمي الجمار، والمواقيت وغير ذلك.
ثم اختلاف الصحابة في الجد والإخوة، وفي المشركة ونحو ذلك لايوجب ريباً في جمهور مسائل الفرائض...». (1)
وهذا النوع من الاختلاف بين الصحابة -y- لم يكن سبباً في تفرقة الأمة، ونشأة البدع كما زعم هذا الرافضي المفتري، ذلك أنه لم يكن في الأصول العامة لهذا الدين، التي حصل الخلاف فيها بين أهل السنة وأهل البدع، وإنما كان في مسائل جزئية ودقيقة، الاجتهاد فيها سائغ والخطأ فيها مغفور، لأنه ناشئ عن اجتهاد من غير تعمد للمخالفة، وقد ثبت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أن أفراداً منهم أخطأوا في بعض المسائل مجتهدين، كما في قصة عدي بن حاتم - رضي الله عنه - لما اتخذ عقالين أحدهما أسود، والآخر أبيض، فجعل ينظر إليهما ظناً(2) منه أن هذا هوالمقصود من قوله تعالى:{حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} (3)، واختلف الصحابة إلى فريقين في فهم قصد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقدمة التفسير ص17.
(2) انظر الحديث في صحيح البخاري: (كتاب الصوم، باب قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا} الآية)، فتح الباري 4/133، ح1916، وصحيح مسلم: (كتاب الصوم، باب أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر) 2/766.
(3) سورة البقرة آية 187.
النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)(1)، فصلى فريق منهم في الطريق، وفريق آخر لم يصل إلا في بني قريظة. كما حصل لبعضهم -y- بعض المخالفات متأولين، كما في قصة حاطب ابن أبي بلتعة- رضي الله عنه -(2)، وقصة خالد - رضي الله عنه - مع بني جذيمة(3) في حوادث كثيرة يطول ذكرها، ومع هذا لم يؤثمهم النبي صلى الله عليه وسلم أغير الأمة على دين الله، لأن أخطاءهم نشأت عن اجتهاد أو تأويل، قد رفع الحرج فيه عن الأمة.(9/390)
ولهذا لم يكن اختلاف الصحابة -y- في مسائل الاجتهاد سبباً في تفرقهم، وتنازعهم، وتحزبهم.
قال الامام قوام السنة: «إنا وجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم اختلفوا في أحكام الدين، فلم يفترقوا، ولم يصيروا شيعاً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحديث أخرجه البخاري من حديث ابن عمر: (كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب) فتح الباري 7/408، ح4119.
(2) انظر: الحديث في هذا في صحيح البخاري: (كتاب استتابة المرتدين، باب ما جاء في المتأولين) فتح الباري 12/304، ح 939، صحيح مسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر...) 4/1941، ح2494.
(3) انظر: الحديث في هذا في صحيح البخاري: (كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد إلى بني جذيمة)، فتح الباري 8/56، ح4339.
لأنهم لم يفارقوا الدين، ونظروا فيما أذن لهم». (1)
فإذا كان التنازع منتفياً في حقهم، بل الثابت عنهم هو التآلف والاتفاق، والمحبة والتواد، كما وصفهم ربهم بقوله: {أشداء على الكفار رحماء بينهم}. (2)
فكيف لهذا الرافضي أن يدعي: أن اختلافهم في الاجهتاد سبب في تنازع الأمة وتفرقها.
بل إن الأمة استفادت بسبب اختلاف الصحابة في الاجتهاد، مع عدم التفرق والتمزق، من الدروس والعبر، ما كان سبباً في اجتماع الأمة لا تفرقها، ووحدتها لا تمزقها، لكن إنما حصل هذا لأهل المتابعة لطريقهم الذين اهتدوا بهديهم، واقتفوا أثرهم في ذلك، فلم يتفرقوا لاختلاف الآراء في الاجتهاد. ألا وهم أهل السنة، الذين هم أهل الاجتماع والائتلاف، وفارقهم وخالفهم في هذا سائر أهل البدع، الذين هم أهل التفرق والاختلاف.(9/391)
ولذا لما رأى خيار السلف من بعدالصحابة هذه الثمار الطيبة المباركة لاجتهادات الصحابة، وأثرها في الأمة، وما حصل بسببها من الرحمة للأمة والتوسعة في الاجتهاد والترجيح بين أقوالهم، ما كرهوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحجة في بيان المحجة 2/227-228.
(2) سورة الفتح من الآية 29.
اختلاف الصحابة بل أظهروا الفرح والرضا به.
قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: (ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا). (1)
وفي رواية أخرى عنه: (ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم). (2)
وقال القاسم بن محمد -رحمه الله-: (لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم، إلا رأى أنه في سعة ورأى خيراً منه قد عمله). (3)
وقال أيضاً: (لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولاً واحداً، كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ بقوله رجل منهم كان في سعة). (4)
قال الشاطبي-رحمه الله-:«وبمثل ذلك قال جماعةمن العلماء». (5)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نقله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 3/80، والشاطبي في الموافقات 4/125.
(2) ذكره الشاطبي في الموفقات 4/125.
(3) المصدر نفسه 4/125.
(4) المصدر نفسه 4/125.
(5) المصدر نفسه 4/125.(9/392)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ولهذا كان بعض العلماء يقول إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وكان عمر بن عبدالعزيز يقول: مايسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان الأمر في سعة». (1)
فأقوال هؤلاء الأئمة تدل دلالة ظاهرة على أن اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- في الاجتهاد، لم يفض إلى مفسدة في الدين، ولم يكن سبباً في تفرق المسلمين، ونشأة الفرق المبتدعة في الإسلام، على ما ادعى هذا الرافضي، إذ لو أدى اختلافهم إلى هذا أو أقل منه بكثير، فكيف يفرح بخلافهم ولا يحزن له هؤلاء الأئمة الكبار، وهم أهل الغيرة على الدين والنصح للمسلمين.
وإذا ثبت هذا فاعلم أيها القارئ أن هذه الفرق المبتدعة على كثرتها واختلاف مشاربها لا ترجع بحمد الله في أصل نشأتها لأحد من الصحابة، ولا تستند في بدعها لقول واحد منهم وإن كان بعض هذه الفرق تدعى الانتساب لبعضهم، كانتساب الرافضة لعلي - رضي الله عنه - وأبنائه إلا أن هذا غير صحيح فعلي وأبناؤه -y- بريئون منهم ومن عقيدتهم كما تقدم نقل أقوالهم في ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى 30/80.
وفي الحقيقة إن عامة هذه الفرق المبتدعة، إنما أحدثها أول من أحدثها، إما كفار أصليون أو منافقون ظاهروا النفاق في الأمة.(9/393)
فالخوارج يرجعون في أصل عقيدتهم ونسبهم إلى ذي الخويصرة الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في قسم الغنائم يوم حنين فقال: (يارسول الله اعدل، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلك ومن يعدل إن لم أعدل؟ قد خبت وخسرت، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يارسول الله أئذن لي فيه أضرب عنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه من صيامهم، يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من
الرّمية..). (1)
والرافضة ترجع في أصل نشأتها إلى عبد الله بن سبأ اليهودي الحميري الذي هو أول من ابتدع الرفض.
يقول شيخ الإسلام: «إن الذي ابتدع الرفض كان يهودياً، أظهر الإسلام نفاقاً، ودس إلى الجهال دسائس، يقدح بها في أصل الإيمان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري في: (كتاب استتابة المرتدين، باب ترك قتل الخوارج للتألف) فتح البارى 12/390. ومسلم: (كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفتهم) 2/744.
ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة». (1)
وهذا أمر مقرر مشهور عند علماء الإسلام، متواتر عنهم في كتبهم.
وقد اعترف بهذا كبار مؤرخي الرافضة ومحققيهم.
يقول الكشي عن عبد الله بن سبأ: «وكان أول من أشهر القول بفرض إمامة علي، وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه، وأكفرهم فمن هناك قال من خالف الشيعة، أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية». (2)
وقد نقل هذا النص كبار علمائهم المشهورين: كالأشعري القمي(3)، والنوبختي(4)، والمامقاني. (5)(9/394)
وأما القدرية: فأول من أظهر مقالتهم وتكلم في القدر: رجل نصراني يسمى: (سوسن) روى الآجري واللالكائي عن الأوزاعي قال: «أول من نطق في القدر: رجل من أهل العراق يقال له: سوسن كان نصرانياً فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى 4/428.
(2) رجال الكشي ص71.
(3) المقالات والفرق ص21-22.
(4) فرق الشيعة ص22.
(5) تنقيح المقال 2/184.
الجهني وأخذ غيلان عن معبد». (1)
وأما الجهمية: فمنسوبة للجهم بن صفوان، أول من أشهر القول بتعطيل الصفات، والجهم أخذ مقالته عن الجعد بن درهم، وأخذها الجعد عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر، الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير -رحمهما الله-. (2)
وأما الفلاسفة: فأخذوا الفلسفة عن فلاسفة اليونان، بل عن شرهم وهو أرسطو.
قال ابن القيم: «الفلاسفة لا تختص بأمة من الأمم، بل هم موجودون في سائر الأمم، وإن كان المعروف عند الناس، الذي اعتنوا بحكاية مقالاتهم: هم فلاسفة اليونان». (3)
ويقول في التعريف بمصطلح الفلسفة: «وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه، وأخص من ذلك أنه في عرف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشريعة للآجري ص243، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/750.
(2) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 5/20، والبداية والنهاية لابن كثير 9/364.
(3) إغاثة اللهفان 2/260.(9/395)
المتأخرين اسم لأتباع أرسطو، وهم المشاؤن خاصة، وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها، وهي التي يعرفها بل لا يعرف سواها، المتأخرون من المتكلمين، وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة، ومقالتهم واحدة من مقالات القوم حتى قيل: إنه ليس فيهم من يقول بقدم الأفلاك غير أرسطو وشيعته». (1)
وأما الباطنية: فبذرة يهودية بذرها عبدالله بن ميمون القداح اليهودي.
يقول محمد بن مالك بن أبي الفضائل عن الباطنية: «وأصل هذه الدعوة الملعونة، التي استهوى بها الشيطان أهل الكفر والشقوة، ظهور عبد الله بن ميمون القداح في الكوفة، وما كان له من الأخبار المعروفة... وكان ظهوره في سنة ست وسبعين ومائتين من التاريخ للهجرة النبوية، فنصب للمسلمين الحبائل، وبغي لهم في الغوائل، ولبس الحق بالباطل: {ومكر أولئك هو يبور}(2) وجعل لكل آية من كتاب الله تفسيراً، ولكل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويلاً... وكان هذا الملعون يعتقد اليهودية، ويظهر الإسلام، وهو من اليهود من ولد الشلعلع من مدينة بالشام يقال لها سلمية». (3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر نفسه 2/524.
(2) فاطر 10.
(3) كشف أسرار الباطنية لمحمد بن مالك بن أبي الفضائل ص31-33
فهذه أصول الفرق المبتدعة في الإسلام، وأول من دعا لها وبثها في الأمة من أولئك الكفرة، والزنادقة الحاقدين على هذا الدين.
فانظر أيها المسلم كيف أن هذا الرافضي الخبيث يبرئ هؤلاء الكفرة والملحدين مما أحدثوه من البدع العظيمة، وما نتج عنها من شر عظيم، وتفريق لوحدة المسلمين، ويلصق هذه التهم بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم زاعماً أن هذه الفرق، إنما نشأت بسبب اختلافهم، وأنها ترجع إليهم. فعليه من الله ما يستحق.
=================(9/396)
دعوى الرافضي أن الصحابة كانوا يجتهدون مقابل النصوص وأن أول من فتح هذا الباب عمر والرد عليه في ذلك
قال الرافضي ص197 تحت عنوان مصيبتنا في الاجتهاد مقابل النص: «استنتجت من خلال البحث، أن مصيبة الأمة الإسلامية انجرت عليها من الاجتهاد الذي دأب عليه الصحابة مقابل النصوص الصريحة، فاخترقت بذلك حدود الله، ومحقت السنة النبوية، وأصبح العلماء والأئمة بعد الصحابة يقيسون على اجتهادات الصحابة، ويرفضون بعض الأحيان النص النبوي، إذا تعارض مع ما فعله الصحابة...
ومن أول الصحابة الذين فتحوا هذا الباب على مصراعيه هو: الخليفة الثاني، الذي استعمل رأيه مقابل النصوص القرآنية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعطل سهم المؤلفة قلوبهم، الذين فرض الله لهم سهماً من الزكاة، وقال: لا حاجة لنا فيكم».
قلت: لا يخفى ما في كلام هذا الرجل من الكذب والتلبيس، وقلب الحقائق، وعظيم الجرأة على إنكار ما هو معلوم بالضرورة من الدين والتأريخ والواقع، وذلك في رميه للصحابة برفض النصوص، وترك السنة، ومعارضتها بأقوالهم وآرائهم. مع أن المعلوم من حال الصحابة المقطوع به في المسلمين، أنه ما عرفت الأمة مثلهم في شدة الحرص على النصوص، وحسن المتابعة لها، وقوة العزيمة في الأخذ بها، والقيام بها أيّما قيام، وتطبيقها في كافة الظروف والأحوال، حتى أصبحو بذلك مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال، على مر السنين والقرون، في القوامة بأمر الدين. حتى إن عوام المسلمين إذا ما رأوا من رجل صدق التدين، وحسن الاستقامة، قالوا في وصفه على سبيل التمدح: (كأنه تربّى على الصحابة، أو كأنه يعيش بين الصحابة) وما ذلك إلا لما اشتهر في الأمة واستفاض من عدالة هؤلاء الصحابة، ورسوخ قدمهم في الدين، وقوة تمسكهم به.(9/397)
ومرجع هذا كله إلى ما تضافرت عليه نصوص الشرع، مما يطرق أسماع المسلمين في كل وقت وحين، من وصف الله ورسوله للصحابة بأحسن الصفات، والثناء عليهم بأجمل الثناء، والشهادة لهم بالإيمان والتقوى، وأن الله قد رضي عنهم ورضوا عنه، وأعدلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وأن رسوله قد مات وهو راض عنهم، مبشرهم بالخير من ربهم.
ولذا فإن طعن هذا الرافضي في الصحابة بما يقدح في دينهم، وعدم تمسكهم بالشرع، لا أرى أنه يحتاج إلى تكلف رد، لرسوخ الاعتقاد في الأمة بعدالتهم، واستفاضة النصوص بعلو شأنهم في الدين ومكانتهم.
وإنما أشير هنا على وجه الخصوص، إلى كذب ما ادعاه الرافضي من توسع عمر - رضي الله عنه - في الاجتهاد والعمل برأيه مقابل النصوص، لخشية التلبيس في هذا الأمر على من لا علم عنده من العامة وأهل الجهل.
وبيان كذبه وفساد ما ادعاه في ذلك يكون من عدة وجوه.
الوجه الأول: أن هذه دعوى مجردة عن الحجة والدليل، لا قيمة لها عند أهل النظر والتحقيق، إذ المؤلف لم يقدم عليها دليلاً واحداً، يدل على ثبوت ما ادعاه.
الوجه الثاني: أن الطعن في عمر بهذا قدح في النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوصى الأمة باتباع سنته، وسنة الخلفاء الراشدين، وقد كان عمر منهم، وذلك في قوله كما في حديث العرباض بن سارية (... عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ). (1)
وكذلك أمره بالاقتداء بأبي بكر وعمر كما في حديث حذيفة
- رضي الله عنه - أنه قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر). (2)
فاذا كان عمر على ما يدعي الرافضي من العمل بالرأي،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه ص560.
(2) تقدم تخريجه ص 560.(9/398)
واطراح السنة، وأنه أول من غير وبدل، لزم من هذا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم غاشاً لأمته غير ناصح لها بأمره باتباع سنة عمر والاقتداء به،
ولا يمكن للخصم أن يدعي أن ذلك التغيير من عمر حصل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن معلوماً له عند النطق بتلك الأحاديث وذلك لسببين.
الأول: أن الرافضي ذكر في كلامه أن معارضة عمر للسنة كانت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وزعم أنه عارض النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة.
الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يشرع من عند نفسه، وإنما هو مبلغ عن ربه {وما ينطق عن الهوى % إن هو إلا وحي يوحى}(1)، فلو كان حال عمر خفي على النبي صلى الله عليه وسلم ، أفكان يخفى على رب العالمين!! فلما جاء الأمر بالاقتداء بعمر ممن لا ينطق عن الهوى، علمنا أن عمر كان على الحق والهدى، على رغم أنف هذا الرافضي الحاقد.
الوجه الثالث: أن عمر - رضي الله عنه - شهد له الصحابة الذين لا يخافون في الله لومة لائم، أنه كان يعمل فيهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أبو بكر في خلافته، فقد روى ابن أبي شيبة في خبر مقتل عمر وفيه أن الصحابة اجتمعوا إلى عمر بعد طعنه فقالوا له:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النجم 3-4.
(جزاك الله خيراً قد كنت تعمل فينا بكتاب الله، وتتبع سنة صاحبيك لا تعدل عنها إلى غيرها، جزاك الله أحسن الجزاء...). (1)(9/399)
ولهذا كان علي بن أبي طالب يغبطه على ما كان عليه من الخير وتمنى لو لقي الله بمثل عمله كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (وضع عمر على سريره فتكنّفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع وأنا فيهم، فلم يَرُعْني إلا رجل آخذ منكبي، فإذا علي بن أبي طالب، فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إليّ أن ألقي الله بمثل عمله منك، وأيم الله إنْ كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أني كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر). (2)
وقد كان ابن عباس -رضي الله عنهما- إن لم يجد للمسألة حكماً في الكتاب أو السنة أفتى بقول أبي بكر وعمر، على ما روى الدارمي بسنده عن عبد الله بن أبي زيد قال: (كان ابن عباس إذا سئل عن الأمر فكان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصنف لابن أبي شيبة 7/440.
(2) أخرجه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب)، فتح الباري 7/41، ح3685، ومسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر) 4/1859، ح2389.
القرآن وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال فيه برأيه). (1)(9/400)
ففي هذه النقول عن الصحابة المتضمنة حسن الثناء على عمر، ورسوخ قدمه في الدين، وعظم شأنه في العلم والعمل بالسنة، أكبر دليل على دحض دعوى الرافضي الجائرة، كما أن في موقف علي من عمر على وجه الخصوص إلزاماً لهذا الرافضي بقول من يعتقد إمامته ويدعي عصمته. فإذا كان عمر على ما يعتقد فيه هذا الرافضي من القول بالرأي، وترك السنة، فلِمَ يتمنى علي - رضي الله عنه - أن يلقى الله بمثل عمله ولِمَ يفتى ابن عباس وهو الإمام الجليل من أئمة أهل البيت بقوله أم أن علياً وابن عباس كانا ضالين في هذا !!
الوجه الرابع: أن الثابت من سيرة عمر - رضي الله عنه - وأقواله المأثورة عنه، يدل على بطلان دعوى الرافضي، فقد كان - رضي الله عنه - من أشد الناس تمسكاً بالنصوص، والوقوف عندها، وأقواله في ذلك مشهورة:
فمن ذلك ما أخرجه الدارمي والآجري وغيرهما بسند صحيح عنه أنه قال: (سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فجادلوهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن الدارمي 1/71.
بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله). (1)
وقد أورد الإمام ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين فصلاً خاصاً في المنقول عن عمر - رضي الله عنه - في التحذير من الرأي.
ومما جاء فيه عن عمر أنه قال: (أصبح أهل الرأي أعداء السنن، أعيتهم أن يعوها، وتفلتت منهم أن يرووها، فاستبقوها بالرأي).
وعنه أنه قال: (اتقوا الرأي في دينكم).
وقال أيضاً: (السنة ما سنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة). (2)
قال ابن القيم: «وأسانيد هذه الآثار عن عمر، في غاية الصحة». (3)
فكيف يظن بمن هذا قوله، أن يعارض النصوص برأيه واجتهاده، فإن هذا من أبعد المحال عند التأمل والاعتبار.(9/401)
الوجه الخامس: إن قول الرافضي: إن عمر عطل سهم المؤلفة قلوبهم جهل بالشرع ومقاصده، وتطاول على عمر - رضي الله عنه - بما لا علم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الدارمي 1/62، والآجرى في الشريعة ص52، وابن بطة في الإبانة الكبرى 1/250، وذكر المحقق أن إسناده صحيح، وأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/123.
(2) أعلام الموقعين 1/54-55.
(3) المصدر نفسه 1/55.
لهذا الرافضي به، وذلك أن سهم المؤلفة قلوبهم فرض في الشرع تألفاً لبعض الناس من سادات الناس وكبرائهم على الإسلام وللحاجة إليهم، فلما قوي الإسلام وكثر أتباعه اجتمع رأي الصحابة -y- على عدم إعطاء المؤلفة قلوبهم شيئاً، لعدم الحاجة إليهم، ولزوال السبب الذي كانوا يعطون من أجله.
قال القرطبي: «قال بعض علماء الحنفية: لما أعز الله الإسلام وأهله، وقطع دابر الكافرين -لعنهم الله-، اجتمعت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في خلافة أبي بكر –رضي الله عنه - على سقوط سهمهم». (1)
وقال ابن قدامة «لم ينقل عن عمر، ولا عثمان، ولا علي، أنهم أعطوهم شيئاً». (2)
وهذا يدل على اتفاق الصحابة على عدم إعطاء المؤلفة قلوبهم في ذلك العهد، وأن هذا هو الذي عليه الخلفاء الثلاثة عمر، وعثمان، وعلي -y- لكن القطع بسقوط سهم المؤلفة قلوبهم ونسبته للصحابة -كما نص على ذلك بعض علماء الحنفية ونقلوا إجماعهم عليه- محل نظر. فالمشهور عن الصحابة هو عدم إعطاء أهل التأليف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي 8/168.
(2) المغني 9/316.(9/402)
شيئاً، كما نقل ذلك عنهم ابن قدامة، وهذا لا يلزم منه أنهم كانوا يرون سقوط سهم المؤلفة قلوبهم بالكلية، بل يحتمل أنهم رأوا منع أولئك المعاصرين لهم، لعز الإسلام، وعدم الحاجة إليهم من غير قطع بسقوط سهمهم في كل عصر عند الحاجة إليهم.
يشهد لهذا أن العلماء من بعد الصحابة اختلفوا في سقوط سهم المؤلفة قلوبهم على قولين: فمنهم من يرى سقوط سهمهم، ومنهم من يرى أن سهمهم باق، وأن عطاءهم بحسب الحاجة إليهم، فإن احتيج إليهم أُعطوا، وإلا لم يعطوا، وهذا بناءً على ما فهموه من فعل الصحابة، الذي كان محتملاً لكل واحد من هذين القولين.
يقول القرطبي ناقلاً الخلاف بين العلماء في المسألة: «واختلف العلماء في بقائهم (أي: المؤلفة قلوبهم) قال عمر، والحسن، والشعبي وغيرهم: انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره، وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي...
وقال جماعة من العلماء: هم باقون لأن الإمام ربما احتاج أن يستأنف على الإسلام، وإنما قطعهم عمر لما رأي من إعزاز الدين.
قال يونس: سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخاً في ذلك.
قال أبو جعفر النحاس: فعلى هذا الحكم فيهم ثابت، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه، ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة، أو يرجى أن يحسن إسلامه بعد، دُفِعَ إليه.
قال القاضي عبد الوهاب: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أُعطوا من الصدقة.
وقال القاضي ابن العربي: الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم فإنّ في الصحيح (بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ)(1)». (2)
ومن خلال هذا العرض لأقوال الصحابة والعلماء في المسألة يتبين لنا أمران:(9/403)
الأول: أن القول بمنع المؤلفة قلوبهم عطاياهم لما قوي الإسلام لم يكن قول عمر وحده، وإنما هو قول عامة الصحابة، وهو الذي درج عليه عمل الخليفتين الراشدين من بعد عمر: عثمان وعلي، كما نقل ذلك العلماء عنهم، فلِمَ التشنيع على عمر في قول شاركه فيه عامة الصحابة، وكان على العمل به الخليفتان الراشدان من بعده (عثمان وعلي) -رضي الله عنهما-!! وإذا كانت الرافضة تعتقد في علي - رضي الله عنه - أنه الإمام المعصوم من الخطأ، المنزه عن السهو، والغفلة، والزلل،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم: (كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً...) 1/130، ح145.
(2) تفسير القرطبي 8/168.
فما بال هذا الرافضي يطعن في عمر في أمر قد حكم به الإمام المعصوم عنده، طيلة مدة خلافته، وسنه للأمة من بعده؟!
الثاني: أن منع المؤلفة قلوبهم من عطاياهم، في حال عز الإسلام وعدم الحاجة إليهم لا يقتضي سقوط سهمهم بالكلية عند المانع لهم في تلك الحال، وبالتالي فنسبة القول بسقوط سهم المؤلفة قلوبهم بالكلية لعمر ولغيره من الصحابة بمنعهم أهل التأليف عطاياهم في ذلك العهد، تبقى محل نظر، حتى يرد النص الصحيح منهم بالتصريح بالحكم المذكور. وهذا مما تندفع به مطاعن الرافضي على عمر، في دعواه أنه عطل سهم المؤلفة قلوبهم، مع ثبوته في كتابه الله تعالى.
الوجه السادس: أن ما يثبت عن عمر - رضي الله عنه - من القول بالرأي، ثبت عن علي مثله، أو أكثر منه في مسائل هي أعظم من المسائل التي تكلم فيها عمر، فالقدح في عمر بهذا، قدح في علي من باب أولى.(9/404)
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله- في رده على الرافضي في طعنه على عمر بالقول بالرأي: «والجواب أن القول بالرأي، لم يختص به عمر - رضي الله عنه - بل علي كان من أقولهم بالرأي، وكذلك أبوبكر، وعثمان، وزيد، وابن مسعود، وغيرهم من الصحابة -y- كانوا يقولون بالرأي، وكان رأي علي في دماء أهل القبلة ونحوه من الأمور العظائم.
كما في سنن أبي داود وغيره عن الحسن عن قيس بن عباد قال:
قلت لعلي: (أخبرنا عن مسيرك هذا أعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأي رأيته؟ قال: ما عهد النبي صلى الله عليه وسلم إليّ شيئاً ولكنه رأي رأيته)(1)
وهذا أمر ثابت، ولهذا لم يرو علي - رضي الله عنه - في قتال الجمل وصفين شيئاً، كما رواه في قتال الخوارج، بل روى الأحاديث الصحيحة هو وغيره من الصحابة في قتال الخوارج المارقين، وأما قتال الجمل وصفين فلم يرو أحد منهم فيه نصاً، إلا القاعدون فإنهم رووا الأحاديث في ترك القتال في الفتنة.
ومعلوم أن الرأي إن لم يكن مذموماً، فلا لوم على من قال به، وإن كان مذموماً فلا رأي أعظم ذماً من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من المسلمين، ولم يحصل بقتلهم مصحلة للمسلمين، لا في دينهم، ولا في دنياهم، بل نقص الخير عما كان، وزاد الشر على ما كان.
فإذا كان مثل هذا الرأي لا يعاب به، فرأي عمر وغيره في مسائل الفرائض والطلاق أولى أن لا يعاب، مع أن علياً شركهم في هذا الرأي وامتاز برأيه في الدماء...
وقد جمع الشافعي ومحمد بن نصر المروزي المسائل التي تركت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابو داود في: (كتاب السنة، باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة) 5/50.(9/405)
من قول علي وابن مسعود فبلغت شيئاً كثيراً، وكثير منها قد جاءت السنة بخلافه كالمتوفى عنها الحامل، فإن مذهب علي - رضي الله عنه - أنها تعتد أبعد الأجلين، وبذلك أفتى أبو السنابل بن بعكك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاءته سبيعة الأسلمية وذكرت ذلك له قال: (كذب أبوالسنابل بل حللت فانكحي من شئت)(1) وكا زوجها قد توفي عنها بمكة في حجة الوادع.
فإن كان القول بالرأي ذنباً فذنب غير عمر -كعلي وغيره- أعظم، فإن ذنب من استحل دماء المسلمين برأي، هو ذنب أعظم من ذنب من حكم في قضية جزئية برأيه، وإن كان منه ما هو صواب، ومنه ما هو خطأ فعمر - رضي الله عنه - أسعد بالصواب من غيره، فإن الصواب في رأيه أكثر منه في رأي غيره، والخطأ في رأي غيره أكثر منه في رأيه، وإن كان الرأي كله صواباً فالصواب الذي مصلحته أعظم، هو خير وأفضل من الصواب الذي مصلحته دون ذلك، وآراء عمر - رضي الله عنه - كانت مصالحها أعظم للمسلمين.
فعلى كل تقدير: عمر فوق القائلين بالرأي من الصحابة فيما يحمد، وهو أخف منهم فيما يذم، ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري بغير هذا اللفظ في: (كتاب المغازي، باب 10)، فتح الباري 7/310، ح3991، ومسلم: (كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل) 2/1122، ح1484.
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدَّثُون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر)(1)».(2)
فثبت بهذه الأوجه بطلان دعوى الرافضي، وبراءة الفاروق - رضي الله عنه -مما رماه به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه ص 562.
(2) منهاج السنة 6/111-114.
=================(9/406)
دعوى الرافضي أن الصحابة ردوا نص:(الغدير) وأبعدوا علياً عن الخلافة والرد عليه في ذلك
قال الرافضي ص198 «من فكرة الاجتهاد واستعمال الرأي مقابل النصوص نشأت و تكونت مجموعة من الصحابة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، وقد رأيناهم يوم الرزية كيف ساندوا وعضدوا رأي عمر مقابل النص الصريح.
ومن ذلك أيضاً نستنتج أن هؤلاء لم يقبلوا يوماً نصوص الغدير، التي نصب بها النبي صلى الله عليه وسلم علياً خليفة له على المسلمين...
ولما ولي الإمام علي أمور المسلمين وجد صعوبة كبيرة، في إرجاع الناس إلى السنة النبوية الشريفة وحظيرة القرآن، وحاول جهده أن يزيل البدع التي أُدخلت في الدين، ولكن بعضهم صاح واسنة عمراه...».
قلت: تقدم الرد عليه مفصلاً في مسألتي: (كتابة الكتاب) و(دعوى النص على خلافة علي يوم الغدير) بما اظهر الله به زيغه وضلاله.(1) وإنما أشير هنا لتناقضه في مسألة النص على الخلافة فهاهنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر ص 276 ومابعدها و ص 463 ومابعدها.
أن عمر لم يقبل النص على الوصية -المزعومة لعلي- يوم الغدير، ورفض ذلك النص ورده، بينما نجده في موضع آخر من هذا الكتاب يقول ما نصه: «والباحث في هذا الموضوع إذا تجرد للحقيقة، فإنه سيجد النص على علي بن أبي طالب واضحاً جلياً كقوله صلى الله عليه وسلم : (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) قال ذلك بعدما انصرف من حجة الوداع، فعقد لعلي موكب للتهنئة، حتى إن أبا بكر نفسه وعمر، كانا من جماعة المهنئين للإمام يقولون: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة». (1)
قلت: ما أقصر حبال الكذب!! وقديماً قالوا: (ومن آفة الكذاب نسيان كذبه).
وقال أبو حاتم: (إن من آفة الكذب أن يكون صاحبه نسياً، فإذا كان كذلك كان كالمنادي على نفسه بالخزي في كل لحظة وطرفة).(9/407)
وقال نصر بن علي الجهضمي: (إن الله أعاننا على الكذابين بالنسيان). (2)
وهذا الرافضي لما اتخذ الكذب مطية له في تقرير معتقده الفاسد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ثم اهتديت ص161.
(2) أورد هذه الأقوال ابن حبان في روضة العقلاء ص52-53.
وقع في هذا، وأظهر الله أمره، وكشف ستره، فبينما هو يقرر في
سياق حديثه عن النص على الوصية المزعومة لعلي: إن الصحابة عقدوا لعلي يوم الغدير موكباً مشهوداً للتهنئة بالوصية، وكان في مقدمة المهنئين المبارِكِين: أبو بكر وعمر، اللذان كانا يرددان عبارة (بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة) نجده بعد هذا بصفحات ينسى هذا كله، فيقرر أن هؤلاء الصحابة لم يقبلوا يوم الغدير، ولا في يوم من الأيام النص على علي بالخلافة، بل وقفوا من ذلك موقف المعارض المعاند، وفي مقدمة هؤلاء عمر بن الخطاب، فلعنة الله على الكذابين الظالمين.
وأما قوله: إن علياً وجد صعوبة كبيرة في إرجاع الناس إلى السنة... الخ كلامه.
فكلام باطل من أصله: فإن البدع لم تظهر في عهد الشيخين، بل كان الناس طيلة عهدهما على السنة، لم يعرفوا البدع، ولم تعرف البدع إليهم طريقاً، وكان أمر الدين فيهم ظاهراً وقوياً، والسنة عزيزة مشهورة. وكذلك عهد عثمان - رضي الله عنه - فإنه وإن بدأت بوادر البدع تظهر في آخره، إلا أنه لم يعرف في الناس بدعة ظاهرة، بل كانت السنة هي السائدة، والخير هو المنتشر، وأهل الإسلام في عز واجتماع، وأهل الشر في ذل وصغار، وأما عهد علي - رضي الله عنه - فقد كثرت فيه الفتن، وظهرت فيه البدع، حيث خرج الخوارج، وفشى التشيع، وافترقت الأمة، وسفكت فيه الدماء المسلمة المؤمنة، فضعف بذلك أهل الخير، وقوي أهل الشر وتسلطوا على الناس، حتى إن علياً(9/408)
- رضي الله عنه - كان يقول في قتلة عثمان: (القوم يملكوننا ولا نملكهم)(1) وهذا أمر يعلمه كل من له أدنى اطلاع على التأريخ ولا ينكره أحد من المسلمين، لا من أهل السنة، ولا من أهل البدع، لكن مع التجرد والإنصاف.
وأما عند غلبة الهوى، وتمكن الجهل، فتختلف المقاييس، وتنعكس المفاهيم، وتتغير الحقائق، كما هو حال هذا الرجل، فإنه يتخبط في الأمر تخبطاً عجيباً، فنراه أحياناً يقرر أن علياً - رضي الله عنه - عندما تولى أمر الأمة قد طبق السنة، ونبذ البدع، يقول في كتابه الشيعة هم أهل السنة: «أضف إلى ذلك أن الإمام علياً عندما تولى الخلافة بادر بإرجاع الناس إلى السنة النبوية، وأول شيء فعله هو توزيع بيت المال». (2)
ويقول مؤكداً هذا في موضع آخر من الكتاب نفسه: «ومع ذلك فإن أمير المؤمنين علياً لم يجبر الناس على البيعة بالقوة والإكراه، كما فعل الخلفاء من قبله، ولكن تقيد -سلام الله عليه- بأحكام القرآن والسنة، ولم يغير ولم يبدل أبداً....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقد تخريجه ص 241.
(2) الشيعة هم أهل السنة ص189.
إلى قوله: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، يامن أحييت القرآن والسنة، بعدما أماتها غيرك». (1)
فهذا ما قرره المؤلف هنا لكنه في موضع آخر ينقض كلامه هذا رأساً على عقب.
فيقول في الكتاب نفسه: «وإذا كان علي بن أبي طالب - تعالى - هو المعارض الوحيد، الذي حاول بكل جهوده في أيام خلافته إرجاع الناس للسنة النبوية: بأقواله، وأفعاله، وقضائه، ولكن بدون جدوى لأنهم شغلوه بالحروب الطاحنة». (2)(9/409)
ويقول أيضاً في معرض حديثه عن علي - رضي الله عنه - في كتابه: (لأكون مع الصادقين): «وقضى خلافته في حروب دامية، فُرِضت عليه فرضاً من الناكثين، والفاسقين، والمارقين، ولم يخرج منها إلا باستشهاده سلام الله عليه وهو يتحسر على أمة محمد». (3)
ونحن لا نعلم أي القولين نصدّق؟! القول بأن علياً - رضي الله عنه - أعاد الناس للسنة، وأنفذ أحكام القرآن في رعيته، فنهنئه بذلك كما فعل المؤلف في أحد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشيعة هم أهل السنة ص198.
(2) المرجع نفسه ص260.
(3) لأكون مع الصدقين ص81.
بحسب قوله الآخر: لم يستطع أن يعيد
قوليه، أم أنه الناس للسنة، بسبب الحروب الطاحنة، التي لم يخرج منها إلا باستشهاده فنتحسر عليه، كما تحسر هو على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟!
وهذا السؤال في هذا مطروح على (السماوي) لعله أن يمدّ الأمة بإجابة عاجلة وسريعة تحدد موقفها من هذه المسألة الحساسة، وتخرجها من هذا الاضطراب الذي أوقعها فيه، ولا بأس أن يستعين في هذا بمن شاء من تلاميذ أهل السنة في المراحل الأولى من التعليم ليطلعوه على مادرسوه من سيرة الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، فيحل هذا الإشكال، ويستفيد منهم في هذا المجال، كما استفاد من قبل من صبيان الحوزة العلمية في (النجف الأشرف) كما صرح بذلك في بداية كتابه. (1)
وبهذا ختام الرد على الرافضي في كتابه الأول: (ثم اهتديت) أسأل الله الكريم أن يجعله خالصاً لوجهه، وقربة إلى مرضاته، وأن يغفر لي ما حصل فيه من خطأ أو زلل، وأن ينفع به المسلمين، ويدحض به شبه المحرفين المبدلين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: كتاب ثم اهتديت ص53-54.
=================(9/410)
إبطال قصة التحكيم الشهيرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص رضي الله عنهما
سليمان بن صالح الخراشي
قصة تحكيم أبي موسى وعمرو بن العاص في الخلاف الذي كان بين علي ومعاوية – رضي الله عن الجميع – مشهورة ذائعة في كتب الإخباريين وأهل الأدب ، وفيها ما فيها من لمز الصحابة رضي الله عنهم بما ليس من أخلاقهم . وقد فند هذه القصة الباطلة : ابن العربي في العواصم ، والدكتور يحيى اليحيى في " مرويات أبي مخنف " . وقد وجدتُ الشيخ محمد العربي التباني قد أجاد في إبطالها في رده على الخضري المؤرخ ؛ فأحببتُ نشر رده باختصار ليطلع عليه القراء ، وينتشر بينهم ؛ لاسيما وهو في كتاب شبه مفقود .
قال الشيخ التباني :
لا صحة لما اشتهر في التاريخ من خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى في قضية التحكيم
( قال – أي الخضري - في ص 72 : ( فتقدم أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع عليه رأيي ورأي عمرو وهو أن نخلع علياً ومعاوية وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر ؛ فيولوا منهم من أحبوا عليهم وأني قد خلعت علياً ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رآيتموه لهذا الأمر أهلاً ثم تنحى وأقبل عمرو فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن هذا قال ما قد سمعتم وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه ، فتنابزا، ويروي المسعودي أنهما لم يحصل منهما خطبة وإنما كتبا صحيفة فيها خلع علي ومعاوية وأن المسلمين يولون عليهم من أحبوا ، وهذا القول أقرب في نظرنا إلى المعقول وإن لهج كثير من المؤرخين بذكر الأول اهـ ) .(9/411)
أقول: هذه الأسطورة الموضوعة في خديعة عمرو لأبي موسى في التحكيم شبيهة بالأسطورة الموضوعة على علي وابن عباس والمغيرة بن شعبة في إشارة هذا على أمير المؤمنين بإبقاء عمال عثمان ، فإن المقصود من وضعها الطعن في حيدرة ببعده عن الدهاء والسياسة وتبريز المغيرة وابن عباس فيهما عليه ، وقد تقدم إبطالها ، والمقصود من هذه إظهار بلاهة حكمه وتبريز حكم معاوية عليه فيهما.
فهذه الأسطورة باطلة بثمانية أوجه.
الأول: رواها أبو مخنف المتفق أئمة الرواية على أنه أخباري هالك ليس بثقة.
الثاني: الطعن في أبي موسى بأنه مغفل طعن في النبي صلى الله عليه وسلم الذي ولاه على تهائم اليمن زبيد وعدن وغيرهما وهو مغفل.
الثالث: الطعنُ فيه بما ذكر طعنٌ في الفاروق الذي ولاه أميراً على البصرة وقائداً على جيشها فافتتح الأهواز وأصبهان، وكتب في وصيته لا يقر لي عامل أكثر من سنة وأقروا الأشعري أربع سنين وهو مغفل ، فأقره عثمان عليها قليلاً ثم عزله عنها فانتقل إلى الكوفة وسكنها وتفقه به أهلها كما تفقه بها أهل البصرة وقرأوا عليه. ثم ولاه عثمان على الكوفة بطلب أهلها ذلك لما طردوا عاملهم سعيد بن العاص . قال الشعبي : انتهى العلم إلى ستة فذكره فيهم، وقال ابن المديني: قضاة الأمة أربعة عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت، وقال الحسن البصري فيه : ما أتاها –يعني البصرة- راكب خير لأهلها منه، فهؤلاء الوضاعون الكائدون للإسلام ورجاله مغفلون لا يحسنون وضع الأباطيل ؛ لأنهم يأتون فيها بما يظهر بطلانها في بادئ الفهم الصحيح لكل مسلم.(9/412)
الرابع: ذكر ابن جرير في فاتحة هذه الأسطورة أن عمراً قال لأبي موسى ألست تعلم أن معاوية وآله أولياء عثمان ؟ قال : بلى، قال : فإن الله عز وجل قال ( ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً ) وكلاماً كثيراً بعده في استحقاق معاوية للخلافة ، فأجابه أبو موسى عن جله جواباً شافياً ولم يجبه عن احتجاجه بالآية، وكأنه سلمه، والاحتجاج بها على خلافة معاوية فاسد من أوجه كثيرة لا حاجة لذكرها كلها ؛ منها أنه تعالى قال ( فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً ) فأي إسراف ونصر حصلا له في جيش أمير المؤمنين وقد قتل من جيشه الطالب بدم عثمان البريء منه خمسة وأربعون ألفاً على أقل تقدير، ومن جيش حيدرة خمسة وعشرون ألفاً ؟ وأي إسراف ونصر حصلا له وقد أشرف على الهزيمة الكبرى ولولا المصاحف لهلك جل جيشه ؟ وجهل فادح ممن يحتج بها على ذلك ،فمحال صدوره من عمرو وهو من علماء الصحابة ومحال تسليمه ولو صدر منه من أبي موسى الأعلم منه.
الخامس: ما نقصت هذه الخديعة لو صحت مما كان لأمير المؤمنين عند أتباعه شيئاً وما أفادت معاوية شيئاً جديداً زائداً عما كان له حتى يصح أن يقال فيها إن فلاناً داهية كاد أمة من المسلمين بكيد مقدمها ومحكمها ، وغاية أمرها أنها أشبه بعبث الأطفال لا تتجاوز العابث والمعبوث به ، وبرَّأ الله تعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا العبث.(9/413)
السادس: لو صحت هذه الأسطورة لم يلزم منها غفلة أبي موسى ودهاء عمرو ، بل تدل على مدح أبي موسى بالصدق والوفاء بالوعد والعهد وهي من صفات الأخيار من بني آدم فضلاً عن المؤمنين فضلاً عن الصحابة ، ووصم عمرو بالخيانة والكذب والغدر وهي من صفات الأشرار من بني آدم ، وكان العرب في جاهليتهم ينفرون منها أشد النفور ولا قيمة لمن اتصف بواحدة منها عندهم ، وقد ذم ورهب دين الإسلام مرتكبيها، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه وينادى على رؤوس الخلائق هذه غدرة فلان فلان".
السابع: لا يخلو قول عمرو فيما زعموا عليه ( وأثبت صاحبي معاوية ) من أمرين: الأول ثبته في الخلافة كما كان أولاً ، وهذا هو المتبادر من لفظ التثبيت ، وهو باطل قطعاً ؛فإنه لم يقل أحد ينتسب إلى الإسلام إن معاوية كان خليفة قبل التحكيم حتى يثبته حَكمه فيها بعده ، ولم يدعها هو لا قبله ولا بعده ، ولم ينازع حيدرة فيها.
الثاني ثبته على إمارة الشام كما كان قبل ، وهذا هو المتعين دراية وإن لم يصح رواية ، وهو تحصيل الحاصل ، وأي دهاء امتاز به على أبي موسى في تحصيل الحاصل ؟ وأي تغفيل يوصم به أبو موسى مع هذا العبث؟ فهل زاد به معاوية شيئاً جديداً لم يكن له من قبل ؟ وهل نقص به علي عما كان له قبل؟(9/414)
الثامن: قال القاضي أبو بكر بن العربي في القواصم والعواصم: قد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه مالا يرضاه الله ، وإذا لحظتموه بعين المروءة دون الديانة رأيتم أنها سخافة حمل على تسطيرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل متين، ثم قال : وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أن أبا موسى كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول ، وأن ابن العاص كان ذا دهاء وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيداً لما أرادت من الفساد ، اتبع في ذلك بعضُ الجهال بعضاً وصنفوا فيه حكايات ، وغيره من الصحابة كان أحذق منه وأدهى ، وإنما بنوا ذلك على أن عمراً لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر، ثم ذكر الأسطورة باختصار ثم قال : هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط ، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك ؛ فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع .. ثم ذكر أن الذي رواه الأئمة الثقات الأثبات كخليفة بن خياط والدارقطني أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر عزل عمرو معاوية اهـ ملخصاً ) .
( تحذير العبقري من محاضرات الخضري ، 2 / 86-91 ) .
==============
اعتقاد أهل السنة في الصحابة رضي الله عنهم
إن الحمد لله. نحمده، ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد،
فإن اعتقاد أهل السنة في الصحابة يمثل الركيزة الرئيسة لدراسة تاريخهم رضي الله عنهم. ولابد أن يحصل الانحراف والتشويه لتاريخهم إذا دُرس بمعزل عن العقيدة.(9/415)
ولأهمية هذا الموضوع نجد عامة كتب الاعتقاد عند أهل السنة تبينه بشكل جلي. ولا يمكن أن نجد كتاباً من كتب أهل السنة التي تبحث جوانب العقيدة المختلفة إلا ونجد هذا المبحث؛ ككتاب ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للألكائي، و ((السنة)) لابن أبي عاصم، و ((السنة)) لعبد الله أحمد بن حنبل، و ((الإبانة)) لابن بطة، و ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) للصابوني. . وغيرها. بل كل إمام من أئمة السنة حينما يذكر عقيدته ولو في ورقة واحدة أو أقل، لا بد وأن يشير إلى موضوع الصحابة؛ إما من جهة فضلهم، أو فضل الخلفاء الرشدين، أو من جهة عدالتهم، والنهي عن سبهم والطعن فيهم، أو الإشارة إلى الكف والإمساك عما شجر بينهم. . الخ (راجع على سبيل المثال: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للألكائي (ت 418 هـ) (10/151-186) حيث ذكر المؤلف عقيدة عشرة من كبار أئمة أهل السنة، أشاروا إلى ما ذكرت، وقد حققه د. أحمد سعد حمدان الغامدي).
من أجل ذلك أردت في بحثي هذا أن أبرز أهمية هذا الاعتقاد بجوانبه المختلفة، ومدى الخطورة المترتبة على تركه حين بحث تاريخ الصحابة.
فالبحث إذن يركز على الناحية العقائدية، وقد يبحث بعض الجوانب الأخرى إجمالاً؛ لاقتضاء ضرورة البحث ذلك، مثل الإشارة إلى أحكام سب الصحابة، والإشارة إلى ضرورة تحقيق الروايات حول تاريخ الصحابة.
فهذا المبحث يمكن أن أعتبره مدخلاً ضرورياً للنظر في أحول الصحابة، يحتاجه المؤرخ والباحث في مجال الفرق وأقوالهم. وكذلك لمن يريد دراسة سيرة أحد من الصحابة. . وغير ذلك.
وقد إلى عدة مباحث كما يلي:
أولاً: أدلة عدالتهم من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة، فاخترت مايدل على ذلك دلالة ظاهرة من الآيات والأحاديث الصحيحة، مع تعليقات بعض الآئمة.
ثانياً: منزلة الصحبة لا يعدلها شئ، بحثت فيه فضلهم على من بعدهم.(9/416)
ثالثاً: أنواع سبهم وحكم كل نوع، وضحت فيه الفرق بين السب الذي يطعن في عدالتهم، وما دون ذلك. وكذلك من سب ما تواترت النصوص بفضله، ومادون ذلك. ومن سبهم جملة، أو سب بعضهم. وأشرت في آخر هذا المبحث إلى حكم من سب أم المؤمنين عائشة، بما برأها الله منه. ومن ثم أحكام بقية أمهات المؤمنين.
رابعاً: وأتبعت ذلك ببحث للآثار المترتبة على السب ولوازم السب.
خامساً: الموقف فيما شجر بينهم؛ وضحت فيه بعض الأسس والجوانب التي ينبغي أن ينظر إليها الباحث حين بحثه لما شجر بينهم؛ لكيلا يقع في سبهم.
وبعد، أخي القارئ. . لا أزعم أني سآتي بجديد، وإنما جمعت أقوالاً مختارة للأئمة، ورتبتها ترتيباً معيناً، لهدف محدد، وهو إبراز أهمية اعتقاد أهل السنة في هذا الجانب، والتحذير من كل ما ينافي ذلك بأي نوع من أنواع التنقيص، فهو جهد يُضَم إلى كل الجهود التي سطرها المنتسبون إلى مذهب السلف في هذا المجال، سواء في مجال العقيدة، أو الفرق، أو التاريخ، أو الحديث، أو غيره.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حب صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن يحشرنا في زمرتهم.
ونسأل الله التوفيق والسداد. وصلى الله وسلم وبارك على رسوله محمد وآله وصحبه.
محمد بن عبد الله
مطبعة السفير / الرياض
الفهرس
أدلة عدالة الصحابة :
أولا : من الكتاب العزيز
ثانيا : من السنة المطهرة
خلاصة ماسبق
منزلة الصحابة لا يعادلها شيء :
سب الصحابة وحكمه :
أولا : من سب الصحابة بالكفر والردة أو الفسق ، جميعهم أو بعضهم
ثانيا : من سب بعضهم سبا يطعن في دينهم
ثالثا : أما من سب صحابي لم يتواتر النقل بفضله
رابعا : أما سب بعضهم سبا لا يطعن في دينهم وعدالتهم
وقفة مع المنهج الموضوعي
خامسا : حكم سب ام المؤمنين عائشة
سادسا : حكم سب بقية أمهات المؤمنين
لوازم السب :
الإمساك عما شجر بينهم :
أسس البحث في تاريخ الصحابة :(9/417)
أدلة عدالة الصحابة من الكتاب العزيز
عدالة الصحابة عند أهل السنة من مسائل العقيدة القطعية، أو مما هو معلوم من الدين بالضرورة، ويستدلون لذلك بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
الآية الأولى: يقول الله عز وجل: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً} (سورة الفتح: 18).
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كنا ألفا وأربعمائة (صحيح البخاري: كتاب المغازي -باب عزوة الحديبية- حديث [4154] فتح الباري: 7/507. طبعة الريان).
فهذه الآية ظاهرة الدلالة على تزكية الله لهم، تزكية لا يخبر بها، ولا يقدر عليها إلا الله. وهي تزكية بواطنهم وما في قلوبهم، ومن هنا رضي عنهم. ((ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر؛ لأن العبرة بالوفاة على الإسلام. فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام)) (الصواعق المحرقة: ص 316 ط). ومما يؤكد هذا ما ثبت في صحيح مسلم من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ((لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد؛ الذين بايعوا تحتها)) (صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أصحاب الشجرة. . حديث [2496]. صحيح مسلم 4/1943.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((والرضا من الله صفة قديمة، فلا يرضى إلا عن عبد علم أن يوافيه على موجبات الرضا -ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً- فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة، وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح؛ فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له. فلو علم أنه يتعقب ذلك بما سخط الرب لم يكن من أهل ذلك)) (الصارم المسلول: 572، 573. طبعة دار الكتب العلمية. تعليق: محمد محيي الدين عبد الحميد).(9/418)
وقال ابن حزم: ((فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم، ورضي عنهم، وأنزلا السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم أو الشك فيهم البتة)) (الفصل في الملل والنحل: 4/148).
الآية الثانية: قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ترااهم رُكعاً سُجدا يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مَثَلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سُوقه يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} (سورة الفتح: 29).
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: ((بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة -رضي الله عنهم- الذين فتحوا الشام، يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا. وصدقوا في ذلك؛ فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظهما وأفضلها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى هنا: {ذلك مثلهم في التوراة}. ثم قال: {ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه} أي فراخه. {فآزره} أي: شده {فاستغلظ} أي: شب وطال. {فاستوى على سوقه يعجب الزراع} أي فكذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آزروه وأيدوه ونصروه، فهو معهم كالشطء مع الزراع ليغيظ بهم الكفار)) (الاستيعاب لابن عبد البر 1/6 ط. دار الكتاب العربي بحاشية الإصابة، عن ابن القاسم. وتفسير ابن كثير: 4/204 ط. دار المعرفة -بيروت، دون إسناد).
وقال ابن الجوزي: ((وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور)) (زاد المسير: 4/204).(9/419)
الآية الثالثة: قوله تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم} إلى قوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} (سورة الحشر: 8 - 10).
يبين الله عز وجل في هذه الآيات أحوال وصفات المستحقين للفئ، وهم ثلاثة أقسام: القسم الأول: {للفقراء المهاجرين}. والقسم الثاني: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم}. والقسم الثالث: {والذين جاءوا من بعدهم}.
وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة، أن الذي يسب الصحابة ليس له من مال الفئ نصيب؛ لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء -القسم الثالث- في قولهم: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} الآية (تفسير ابن كثير: 4/339).
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((الناس على ثلاث منازل، فمضت منزلتان، وبقيت واحدة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. قال: ثم قرأ: {للفقراء المهاجرين} إلى قوله: {رضوانا} فهؤلاء المهاجرون. وهذه منزلة قد مضت {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم} إلى قوله: {ولو كان بهم خصاصة}. قال: هؤلاء الأنصار. وهذه منزلة قد مضت. ثم قرأ: {والذين جاءوا من بعدهم} إلى قوله: {ربنا إنك رءوف رحيم} قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. يقول: أن تستغفروا لهم)) (الصارم المسلول: 574، والأثر رواه الحاكم 2/3484 وصححه ووافقه الذهبي).
وقالت عائشة رضي الله عنها: ((أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فسبوهم)) (رواه مسلم في كتاب التفسير-حديث [3022] صحيح مسلم 4/2317).(9/420)
قاال أبو نعيم: ((فمن أسوأ حالاً ممن خالف الله ورسوله وآب بالعصيان لهما والمخالفة عليهما. ألا ترى أن الله تعالى أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن يعفو عن أصحابه ويستغفر لهم ويخفض لهم الجناح، قال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} (سورة آل عمران: 159). وقال: {واخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين} (سورة الشعراء: 215).
فمن سبهم وأبغضهم وحمل ما كان من تأويلهم وحروبهم على غير الجميل الحسن، فهو العادل عن أمر الله تعالى وتأديبه ووصيته فيهم. لا يبسط لسانه فيهم إلا من سوء طويته في النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته والإسلام والمسلمين)) (الإمامة: ص 375-376. لأبي نعيم تحقيق د. علي فقهي، مكتبة العلوم والحكم بالمدينة ط1 عام 1307 هـ).
وعن مجاهد، عن ابن عباس، قال: ((لا تسبوا أصحاب محمد، فإن الله قد أمر بالاستغفار لهم، وقد علم أنهم سيقتتلون)) (الصارم المسلوم: 574. وانظر منهاج السنة 2/14 والأثر رواه أحمد في الفضائل رقم (187، 1741) وصحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية، ونسب الحديث لابن بطة منهاج السنة 2/22).
الآية الرابعة: قوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} (سورة التوبة: 100).
والدلالة في هذه الآية ظاهرة. قال ابن تيمية: (فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان. ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان) (الصارم المسلول: 572). ومن اتباعهم بإحسان الترضي عنهم والاستغفار لهم.
الآية الخامسة: قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتوا وكلا وعد الله الحسنى} (سورة الحديد: 11).(9/421)
والحسنى: الجنة. قال ذلك مجاهد وقتادة (تفسير ابن جرير: 27/128. دار المعرفة 0بيروت ط الراعبة 1400 هـ).
واستدل ابن حزم من هذه الآية بالقطع بأن الصحابة جميعاً من أهل الجنة لقوله عز وجل: {وكلا وعد الله الحسنى} (الفصل: 4/148، 149. ط).
الآية السادسة: قوله تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم} (سورة التوبة: 117).
وقد حضر غزوة تبوك جميع من كان موجوداً من الصحابة، إلا من عذر الله من النساء والعجزة. أما الثلاثة الذين خُلفوا فقد نزلت توبتهم بعد ذلك.
أدلة عدالة الصحابة من السنة المطهرة
الحديث الأول: عن أبي سعيد، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شئ، فسبه خالد. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تسبوا أحداً من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل اُحُد ذهباً ما أدرك مُد أحدِهم ولا نصِيفَه)) (رواه البخاري: كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- باب قول النبي لو كنت متخذاً خليلاً- حديث/ 3673. ومسلم: كتاب فضائل الصحابة -باب تحريم سب الصحابة- حديث/ 2541. صحيح مسلم 4/1967م. والنصيف هو النصف. والسياق لمسلم ط. عبد الباق).
قال ابن تيمية في الصارم المسلول: وكذلك قال الإمام أحمد وغيره: كل من صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة أو شهراً أو يوماً أو رآه مؤمناً به، فهو من أصحابه، له من الصحبة بقدر ذلك.(9/422)
فإن قيل: فلِمَ نَهى خالداً عن أن يسب أصحابه إذا كان من أصحابه أيضاً؟ وقال: ((لو أن أحدكم انفق مثل اُحُد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه))؟ قلنا: لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه من السابقين الأولين، الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه، وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا، وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى. فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه، ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل. فنهى أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله. ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه، كنسبة خالد إلى السابقين، وأبعد (الصارم المسلول: ص576).
الحديث الثاني: قال -صلى الله عليه وسلم- لعمر: ((وما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) (صحيح البخاري فتح الباري: حديث 3983. وصحيح مسلم: حديث 2494. عبد الباقي).
قيل: ((الأمر في قوله: ((اعملوا)) للتكريم. وأن المراد أن كل عمل البدري لا يؤاخذ به لهذا الوعد الصادق)). وقيل: ((المعنى إن أعمالهم السيئة تقع مغفورة، فكأنها لم تقع)) (معرفة الخصال المكفرة لابن حجر العسقلاني: ص 31 تحقسق جاسم الدوسري -الأولى 1404 هـ).
وقال النووي: ((قال العلماء: معناه الغفران لهم في الآخرة، وإلا فإن توجب على أحد منهم حد أو غيره أقيم عليه في الدنيا. ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد. وأقامه عمر على بعضهم -قدامة بن مظعون قال: وضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مسطحاً الحد، وكان بدرياً)) (صحيح مسلم بشرح النووي: 16/56، 57).(9/423)
وقال ابن القيم: ((والله أعلم، إن هذا الخطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها، بل يوفقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم؛ لأنه قد تحقق ذلك فيهم، وأنهم مغفور لهم. ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم، كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقاً بالمغفرة. فلو كانت حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد وهذا محال)) (الفوائد لابن القيم: ص 19، المكتبة القيمة، الأولى 1404 هـ).
الحديث الثالث: عن عمران بن الحصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذيم يلونهم)). قال عمران: ((فلا أدري؛ أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً)) (البخاري: حديث [3650]. ومسلم: حديث [2535]. وهذا سياق البخاري مختصراً).
الحديث الرابع: عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((النجوم أمَنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يُوعَدُون،وأصحابي أمَنَةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يُوعَدُون)) (صحيح مسلم: حديث [2531]. والأمنة هي الأمان).(9/424)
الحديث الخامس: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أكرموا أصحابي؛ فإنهم خياركم)) (رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم بسند صحيح. انظر مشكاة المصابيح: 3/1695. ومسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر: 1/112). وفي رواية أخرى: ((احفظوني في أصحابي)) (رواه ابن ماجة: 2/64. وأحمد: 1/81. والحاكم: 1/114. وقال: صحيح ووافقه الذهبي وقال البوصيري: إسناد رجاله ثقات -زوائد ابن ماجة 3/53 وانظر بقية كلامه).
الحديث السادس: عن واثلة يرفعه: ((لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأي من رآني وصاحبني)) (رواه ابن أبي شيبة 12/178، وابن أبي عاصم: 2/630. في السنة ومن طريق المصنف، ورواه الطبراني في الكبير 22/85. وعنه أبو النعيم في معرفة الصحابة 1/133، وقد حسنه الحافظ في الفتح 7/5، وقال الهيثم في الجمع 10/20: رواه الطبراني من طرق رجال أحدها رجال الصحيح).
الحديث السابع: عن انس رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الانصار )) ( البخاري 7 / 113 ، ومسلم 1 / 85 ) .
وقال في الأنصار كذلك : (( لا يحبهم غلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق )) ( البخاري 7 / 113 ومسلم 1 / 85 من حديث البراء رضي الله عنه ) .
وهناك أحاديث أخرى ظاهرة الدلالة على فضلهم بالجملة . اما فضائلهم على التفصيل فكثيرة جدا . وقد جمع الإمام أحمد رحمه الله في كتابه (( فضائل الصحابة )) مجلدين ، قريبا من ألفي حديث وأثر . وهو أجمع كتاب في بابه . ( وقد حققه د . وصي الله بن محمد ، ونشرته جامعة أم القرى عام 1403 هـ ) .
خلاصة ما سبق
نستنتج من العرض السابق للآيات والأحاديث في مناقب الصحابة ما يلي:(9/425)
أولاً: إن الله عز وجل زكى ظاهرهم وباطنهم؛ فمن تزكية ظواهرهم وصفهم بأعظم الأخلاق الحميدة، ومنها: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} (الفتح/29). {وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} (الحشر/9). {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (الحشر/10).
أما بواطنهم، فأمر اختص به الله عز وجل، وهو وحده العليم بذات الصدور. فقد أخبرنا عز وجل بصدق بواطنهم وصلاح نياتهم؛ فقال على سبيل المثال: {فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم} (الفتح/18). {يحبون من هاجر إليهم} (التوبة/177). {يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} (الفتح/9). {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} (التوبة/117). فقد تاب عليهم سبحانه وتعالى؛ لما علم صدق نياتهم وصدق توبتهم. والتوبة عمل قلبي مخص كما هو معلوم. . وهكذا.
ثانياً: بسبب توفيق الله عز وجل لهم لأعظم خلال الخير ظاهراً وباطناً أخبرنا أنه رضي عنهم وتاب عليهم، ووعدهم الحسنى.
ثالثاً: وبسبب كل ما سبق أمرنا بالاستغفار لهم، وأمر النبيُ -صلى الله عليه وسلم- بإكرامهم، وحفظ حقوقهم، ومحبتهم. ونُهينا عن سبهم وبغضهم. بل جعل حبهم من علامات الإيمان، وبغضهم من علامات النفاق.
رابعاً: ومن الطبيعي بعد ذلك كله أن يكونوا خير القرون، وأماناً لهذه الأمة. ومن ثم يكون اقتداء الأمة بهم واجباً، بل هو الطريق الوحيد إلى الجنة: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) (رواه أحمد 4/126، 127 وأصحاب السنن والدارمي. والحديث صححه جماعة من المحدثين -انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب الحديث (38) ص 387، دار الفرقان ط. الأولى 1411هـ وانظر الإرواء (2544) 107/8 للتوسع).
منزلة الصحابة لا يعادلها شيء
تعظيم الصحابة ومعرفة قدرهم أمر مقرر عند كبارهم ، ولو كان اجتماع الرجل به - صلى الله عليه وسلم - قليلا ، وضي الله عنهم .(9/426)
قال الحافظ بن حجر ذاكرا ما يدل على ذلك : (( فمن ذلك ما قرأت في كتاب " أخبار الخوارج " تأليف محمد بن قدامة المروزي - ثم ذكر سنده - إلى أن قال : عن نبيج العنزي عن ابي سعيد الخدري ، قال : كنا عنده وهو متكئ ، فذكرنا عليا ومعاوية ، فتناول رجل معاوية ، فاستوى أبو سعيد الخدري جالسا ، فذكر قصته حينما كان في رفقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ابو بكر ورجل من الاعراب - إلى ان قال أبو سعيد - : ثم رأيت ذلك البدوي اتي به عمر بن الخطاب وقد هجا الانصار . فقال لهم عمر : لولا ان له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما ادري ما نال فيها لكفيتكموه ( رواه أحمد 3 / 51 دون كلام عمر ، ورواه بلفظه علي بن الجعد 2 / 956 ، قال الهيثمي 4 / 92 : رجاله ثقات ، وعزاه ابن حجر ليعقوب بن شيبة كما في إسناده عنه ، وعزاه شيخ الإسلام لابي ذر الهروي الصارم المسلول 590 ) قال الحافظ : ورجاله ثقات .
فقد توقف عمر رضي الله عنه عن معاتبته ، فضلا عن معاقبته، لكونه علم أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك ابين شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أن شأن الصحبة لا يعدلها شيء.
حدثنا وكيع ، قال : سمعت سفيان يقول في قوله تعالى : { قل الحمد لله وسلم على عباده الذين اصطفى } قال : هم اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . ( الآية في النحل 59 ، والاثر عند الطبري 20 / 3 ط دار المعرفة ، وانظر ابن كثير 3 / 369 ط المعرفة ) . )) .انتهى من الإصابة . ( 1 / 20 - 22 )
فهذا الاصطفاء والاختيار أمر لا يتصور ولا يدرك ولا يقاس بعقل ، ومن ثم لا مجال لمفاضلتهم مع غيرهم مهما بلغت اعمالهم .(9/427)
قال ابن عمر : (( لا تسبوا اصحاب محمد ، فلمقام احدهم ساعة خير من عمل أحدكم أربعين سنة )) . ( رواه أحمد في فضائل الصحابة 1 / 57 ، ابن ماجة 1 / 31 ، وابن أبي عاصم 2 / 484 ، والخبر صححه البويصيري في زوائد ابن ماجة 1 / 24 ، والمطالب العلية 4 / 146 ، وحسنه الالباني في صحيح ابن ماجة 1 / 32 ) .
وفي رواية وكيع : (( خير من عبادة احدكم عمره )) .
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل ، لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما من اتفق له الذب عنه ، والسبق إليه بالهجرة ، أو النصرة ، أو ضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده ، فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده ، لأنه ما من خصلة إلا وللذي سبق بها مثل اجر من عمل بها من بعده ، فظهر فضلهم .( فتح الباري 7 / 7 ) .
قال النووي : (( وفضيلة الصحبة - ولو لحظة - لا يوازيها عمل ، ولا تنال درجتها بشيء ، والفضائل لا تؤخذ بالقياس ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء )) . ( شرح أصول اعتقاد أهل السنة للاكائي 1 / 160 ) .
ايضا التزكية الداخلية لهم من الله عز وجل ، العليم بذات الصدور ، مثل قوله تعالى : { فعلم ما في قلوبهم } ، وقبول توبتهم { لقد تاب الله عن النبي والمهاجرين والأنصار} ، ورضاه عنهم { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } . . . ألخ ، كل ذلك اختصوا به ، فانى لمن بعدهم مثل هذه التزكيات ؟(9/428)
لكن قد يقول قائل : لقد وردت بعض الروايات الدالة على خلاف ما ذكرت ( من أشهر من قال ذلك الإمام ابن عبد البر ، والاستدلال المذكور هو من أقوى استدلالاته ، والجمهور على خلافه كما ذكرنا ) ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابي ثعلبة : (( تاتي ايام للعامل فيهن أجر خمسين )) . قيل منهم أو منا يا رسول الله؟. قال : (( بل منكم )) . ( رواه أبو داوود 4341 ، والترمذي 2 / 177 ، وابن ماجة 4014 ، وابن حبان 1850 ، قال الترمذي : حديث حسن غريب ، صححه الالباني بشواهده -الصحيحة 494 ) .
وكذلك ما روى ابو جمعة رضي الله عنه ، قال : قال أبو عبيدة : يا رسول الله أحد خير منا ؟ اسلمنا معك وجاهدنا معك ؟ . قال : (( قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني )) . ( رواه أحمد والدارمي 4 / 106 ، والطبراني 4 / 22-23 ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي 4 / 85 ، قال ابن حجر : إسناده حسن - الفتح 7 / 6 . انظر الفتح الرباني 1 / 103 -104 ).
وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث والأحاديث السابقة من عدة وجوه ، أهمها :
الوجه الأول : حديث (( للعامل فيهن أجر خمسين )) لا يدل على الأفضلية ، لأن مجرد زيادة الأجر على بعض الاعمال لا يستلزم ثبوت الأفضلية مطلقا .
الوجه الثاني : أن المفضول قد توجد فيه مزايا وفضائل ليست عند الفاضل ، ولكن من حيث مجموع الخصال لا يساوي الفاضل .
الوجه الثالث : يقال كذلك : إن الأفضلية بينهما إنما هي باعتبار ما يمكن أن يجتمعا فيه ، وهو عموم الطاعات المشتركة بين سائر المؤمنين، فلا يبعد حينئذ تفضيل بعض من يأتي على بعض الصحابة في ذلك ، اما ما اختص به الصحابة رضوان الله عليهم وفازوا به ، من مشاهدة طلعته صلى الله عليه وسلم ورؤية ذاته المشرفة المكرمة ، فامر من وراء العقل ، غذ لا يسع احد أن ياتي من الأعمال وإن جلت بما يقارب ذلك فضلا عن أن يمائله . ( الصواعق المحرقة للهيثمي ) .(9/429)
الوجه الرابع : إن الرواة لم يتفقوا على لفظ حديث ابي جمعة ، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية كما تقدم ، ورواه بعضهم بلفظ (( قلنا يا رسول الله هل من قوم اعظم منا أجرا ؟ )) اخرجه الطبراني .
قال الحافظ في الفتح : (( وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة )) ، وهي توافق حديث ابي ثعلبة ، وقد تقدم الجواب عنه والله أعلم .
وأخيرا : ينبغي التنبيه في ىخر هذه الفقرة إلى أن الخلاف بين الجمهور وغيرهم في ذلك لا يشمل كبار الصحابة من الخلفاء ، وبقية العشرة ، ومن ورد فيهم فضل مخصوص ، كاهل العقبة وبدر وتبوك . . ألخ .
وإنما يحصل النزاع فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة . ولذلك استثنى الإمام ابن عبد البر أهل بدر والحديبية .( فتح الباري 7 / 7 ).
سب الصحابة وحكمه
ينقسم سب الصحابة ألى انواع ، ولكل نوع من السب حكم خاص به .
والسبب : هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف ، وهو ما يفهم من السب بعقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم ، كاللعن والتقبيح ونحوهما . ( الصارم المسلول 561) .
وسب الصحابة رضوان الله عليهم دركات بعضها شر من بعض ، فمن سب بالكفر أو الفسق ، ومن سب بامور دنيوية كالبخل ، وضعف الرأي .
وهذا السب أما أن يكون لجميعهم أو أكثرهم ، أو يكون لبعضهم أو لفرد منهم ، وهذا الفرد إما ان يكون ممن تواترت النصوص بفضله أو دون ذلك .
وإليك تفاصيل وبيان أحكام كل قسم :
من سب الصحابة بالكفر والردة أو الفسق ، جميعهم أو بعضهم
فلا شك في كفر من قال بذلك لأمور من أهمها :
إن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق ، وبذلك يقع الشك في القرآن والأحاديث ، لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول .
إن في هذا تكذيبا لما نص عليه القرآن من الرضا عنهم والثناء عليهم ( فالعلم الحاصل من نصوص القرآن والأحاديث الدالة على فضلهم قطعي ) . ( الرد على الرافضة ص19 ) . ومن أنكر ما هو قطعي فقد كفر .(9/430)
إن في ذلك إيذاء له صلى الله عليه وسلم ، لأنهم أصحابه وخاصته ، فسب المرء خاصته والطعن فيهم ، يؤذيه ولا شك . وأذى الرسول صلى الله عليه وسلم كفر كما هو مقرر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبينا حكم هذا القسم : (( وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا ، أو أنهم فسقوا عامتهم ، فهذا لا ريب أيضا في كفره ، لأنه مكذب لما نص القرآن في غير موضع ، من الرضا عنهم والثناء عليهم ، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين . . - إلى ان قال - وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام )) . ( الصارم المسلول 586- 587 ) .
وقال الهيثمي رحمه الله : (( ثم الكلام - أي الخلاف - إنما هو في سب بعضهم ، أما سب جميعهم فلا شك في أنه كفر )) . ( الصواعق المحرقة 379 ) .
ومع وضوح الأدلة الكلية السابقة ، ذكر بعضالعلماء أدلة اخرى تفصيلية ، منها :
أولا : ما مر معنا من تفسير العلماء للآية الأخيرة من سورة الفتح ، من قوله { محمد رسول الله والذين معه } إلى قوله { ليغيظ بهم الكفار } استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية كفر من يبغضون الصحابة ، لان الصحابة يغيظونهم ، ومن غاظه الصحابة فهو كافر ، ووافقه الشافعي وغيره . ( الصواعق المحرقة ص317 ، وتفسير ابن كثير 4 / 204 ) .
ثانيا : ما سبق ذكره من حديث أنس عند الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الانصار )) ، وفي رواية : (( لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق )) .
ولمسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : )) لا يبغض الأنصار رجل آمن بالله واليوم الآخر )) ، فمن سبهم فقد زاد على بغضهم ، فيجب أن يكون منافقا لا يؤمن بالله ولا اليوم الآخر . ( الصارم المسلولص581 ) .(9/431)
ثالثا : ما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، انه ضرب بالدرة من فضله على أبي بكر ، ثم قال عمر : (( أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا )) ، ثم قال عمر : (( من قال غير هذا أقمنا عليه ما نقيم على المفتري )) . ( فضائل الصحابة للإمام أحمد 1 / 300 ، وصححه ابن تيمية في الصارم ص585 ).
وكذلك قال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب : (( لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري )) . ( فضائل الصحابة 1 / 83 ، والسنة لابن ابي عاصم 2 / 575 عن طريق الحكم بن جحل وسنده ضعيف لضعف أبي عبيدة بن الحكم ، انظر فضائل الصحابة 1 / 83 ، لكن له شواهد أحدهما من طريق علقمة عن علي عند ابن ابي عاصم في السنة 2 / 48 ، حسن الالباني إسناده ، والأخر عن سويد بن غفلة عن علي عند الالكائي 7 / 1295 ) .
فإذا كان الخليفتان الراشدان عمر وعلي رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري من يفضل عليا على أبي بكر وعمر ، أو يفضل عمرا على أبي بكر ، مع ان مجرد التفضيل ليس فيه سب ولا عيب ، علم عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير . ( الصارم المسلول ص 586 ) .
من سب بعضهم سبا يطعن في دينهم
كأن يتهمهم بالكفر أو الفسق ، وكان ممن تواترت النصوص بفضله . ( بعض العلماء يقيد ذلك بالخلفاء ، والبعض يقتصر على الشيخين ، ومن العلماء من يفرق باعتبار تواتر النصوص بفضله او عدم تواترها ، ولعله الأقرب والله اعلم ، وكذلك بعض من يكفر ساب الخلفاء يقصر ذلك على رميهم بالكفر ، والآخرون يعممون بكل سب فيه طعن في الدين ) :
فذلك كفر على الصحيح ، لأن في هذا تكذيبا لامر متواتر .
روى ابو محمد بن ابي زيد عن سحنون ، قال : (( من قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، أنهم كانوا على ضلال وكفر ، قتل ، ومن شتم غيرهم من الصحابة بمثل ذلك نكل النكال الشديد )) . ( الشفا للقاضي عياض 2/ 1109 ) .(9/432)
وقال هشام بن عمار : (( سمعت مالكا يقول : من سب ابا بكر وعمر ، قتل ، ومن سب عائشة رضي الله عنها ، قتل ، لأن الله تعالى يقول فيها : { يعظكم الله أن تعودوا لمثله ابدا إن كنتم مؤمنين } فمن رماها فقد خالف القرآن ، ومن خالف القرآن قتل )) . ( الصواعق المحرقة ص384 ) .
أما قول مالك رحمه الله في الرواية الأخرى : (( ومن سب أبا بكر ، جلد ، ومن سب عائشة ، قتل . قيل له : لم ؟ . قال : من رماها فقد خالف القرآن )) .
فالظاهر - والله اعلم - أن مقصود مالك رحمه الله هنا في سب أبي بكر رضي الله عنه فيما هو دون الكفر ، ويوضحه بقية كلامه عن عائشة رضي اللع عنها ، حيث قال : (( من رماها فقد خالف القرآن )) فهذا سب مخصوص يكفر صاحبه - ولا يشمل كل سب - وذلك لأنه ورد عن مالك القول بالقتل فيمن كفر من هو دون أبي بكر . ( الشفا 2 / 1109 ) .
قال الهيثمي مشيرا إلى ما يقارب ذلك عند كلامه عن حكم سب أبي بكر : (( فيتلخص ان سب أبي بكر كفر عند الحنفية ، وعلى أحد الوجهين عند الشافعية ، ومشهور مذهب مالك أنه يجب به الجلد ، فليس بكفر . نعم قد يخرج عنه ما مر عنه في الخوارج أنه كفر ، فتكون المسألة عنده على حالين : إن اقتصر على السب من غير تكفير لم يكفره وإلا كفره )) .( الصواعق 386 ) .
وقال أيضا : (( وأما تكفير أبي بكر ونظرائه ممن شهد لهم النبي صلىالله عليه وسلم بالجنة ، فلم يتكلم فيها أصحاب الشافعي ، والذي أراه الكفر فيها قطعا )) . ( الصواعق 385 ) .
وقال الخرشي : (( من رمى عائشة بما برأها الله منه . . . أو أنكر صحبة أبي بكر ، أو إسلام العشرة ، أو إسلام جميع الصحابة ، أو كفر الأربعة ، أو واحدا منهم ، كفر )) . (الخرشي على مختصر خليل 8 / 74 ) .(9/433)
وقال البغدادي : (( وقالوا بتكفير كل من أكفر واحدا من العشرة الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ، وقالوا بموالاة جميع أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكفروا من أكفرهن ، أو أكفر بعضهن )) . ( الفرق بين الفرق ص 360 ) .
والمسألة فيها خلاف مشهور ، ولعل الراجح ما تقدم ، وأما القائلون بعدم تكفير من هذه حاله ، فقد اجمعوا على أنه فاسق ، لارتكابه كبيرة من كبائر الذنوب ، يستحق عليه التعزير والتأديب ، على حسب منزلة الصحابي ، ونوعية السب .
وإليك بيان ذلك :
قال الهيثمي : (( أجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة على أنهم فساق )) . ( الصواعق المحرقة ص383 ) .
وقال ابن تيمية : (( قال ابراهيم النخعي : كان يقال : شتم أبي بكر وعمر من الكبائر ، وكذلك قال أبو اسحاق السبيعي : شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي قال الله تعالى فيها : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } . وإذا كان شتمهم بهذه المثابة ، فأقل مافيه التعزير ، لأنه مشروع في كل معصية ليس فيها حد أو كفارة . وهذا مما لا نعلم فيه خلافا بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين بأحسان ، وسائر أهل السنة والجماعة ، فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم والاستغفار لهم والترحم عليهم . . . وعقوبة من اساء فيهم القول )) . ( اللالكائي 8 / 1262 -1266 ) .
وقال القاضي عياض : ((وسب أحدهم من المعاصي الكبائر ، ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه يعزر ولا يقتل )) . ( مسلم بشرح النووي 16 / 93 ) .
وقال عبد الملك بن حبيب : (( من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراء منه أدب أدبا شديدا ، وإن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر ، فالعقوبة عليه اشد ، ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت )) . ( الشفا 2 / 1108 ) .(9/434)
فلا يقتصر في السب أبي بكر رضي الله عنه على الجلد الذي يقتصر عليه في غيره ، لأن ذلك الجلد لمجرد حق الصحبة ، فإذا انضاف إلى الصحبة غيرها مما يقضي الاخترام ، لنصرة الدين وجماعة المسلمين وما حصل على يده من الفتوح وخلافة النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ، كان كل واحدة من هذه الأمور تقتضي مزيد حق موجب لزيادة العقوبة عند الاجتراء عليه . ( الصواعق المحرقة 387 ) .
وعقوبة التعزير المشار إليها لا خيار للإمام فيها ، بل يجب عليه فعل ذلك .
قال الإمام أحمد رحمه الله : (( لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساوئهم ، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا بنقص ، فمن فعل ذلك وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ، ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ويستتيبه ، فإن تاب قبل منه ، وإن ثبت عاد عليه بالعقوبة ، وخلده الحبس ختى يموت أو يرجع )) . ( طبقات الحنابلة 1 /24 ، والصارم المسلول 568 ) .
فانظر أخي المسلم إلى قول إمام اهل السنة فيمن يعيب أو يطعن بواحد منهم ، ووجوب عقوبته وتأديبه .
ولما كان سبهم المذكور من كبائر الذنوب عند بعض العلماء فحكم فاعله حكم أهل الكبائر من جهة كفر مستحلها .
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، مبينا حكم استحلال سب الصحابة : (( ومن خص بعضهم بالسب ، فإن كان ممن تواتر النقل في فضله وكماله كالخلفاء ، فإن اعتقد حقية سبه أو اباحته فقد كفر ، لتكذيبه ما ثبت قطعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومكذبه كافر ، وإن سبه من غير اعتقاد حقية سبه أو إباحته فقد تفسق، لأن سباب المسلم فسوق ، وقد حكم البعض فيمن سب الشيخين بالكفر مطلقا ، والله أعلم )) . ( الرد على الرافضة ص19 ) .(9/435)
وقال القاضي أبو يعلي - تعليقا على قول الإمام أحمد رحمه الله حين سئل عن شتم الصحابة، فقال : "ما أراه على الإسلام " ، قال أبو يعلي : (( فيحتمل أن يحمل قوله : ما أراه على الإسلام ،إذا استحل سبهم ، فإنه يكفر بلا خلاف ، ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك مع اعتقاده تحريمه ، كمن يأتي بالمعاصي . . . )) ثم ذكر بقية الاحتمالات . ( الصارم المسلول ص 571 وما قبلها ).
يتلخص مما سبق فيمن سب بعضهم سبا يطعن في دينه وعدالته ، وكان ممن تواترت النصوص بفضله ، انه يكفر - على الراجح - لتكذيبه امرا متواترا .
أما من لم يكفره من العلماء ، فاجمعوا على أنه من أهل الكبائر ، ويستحق التعزير والتأديب ، ولا يجوز للإمام أن يعفو عنه ، ويزاد في العقوبة على حسب منزلة الصحابي . ولا يكفر عندهم إلا إذا استحل السب .
أما من زاد على الاستحلال ، كأن يتعبد الله عز وجل بالسب والشتم ، فكفر مثل هذا مما لا خلاف فيه ، ونصوص العلماء السابقة واضحة في مثل ذلك .
وباتضاح هذا النوع بإذن الله ، يتضح ما بعده بكل يسر وسهولة ، ولذلك اطلنا القول فيه .
أما من سب صحابي لم يتواتر النقل بفضله
فقد بينا فيما سبق رجحان تكفير من سب صحابيا تواترت النصوص بفضله من جهة دينه ، أما من لم تتوانر النصوص بفضله ، فقول جمهور العلماء بعدم كفر من سبه ، وذلك لعدم إنكاره معلوما من الدين بالضرورة ، إلا أن يسبه من حيث الصحبة .
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب : (( وإن كان ممن لم يتواتر النقل بفضله وكماله ، فالظاهر أن سابه فاسق ، إلا أن يسبه من حيث صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يكفر )) . ( الرد على الرافضة ص19 ) .
أما سب بعضهم سبا لا يطعن في دينهم وعدالتهم
فلا شك أن فاعل ذلك يستحق التعزير والتأديب ، ولكن من مطالعتي لأقوال العلماء في المراجع المذكورة ، لم أر أحدا منهم يكفر فاعل ذلك ، ولا فرق عندهم بين كبار الصحابة وصغارهم .(9/436)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( واما إن سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم ، مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك ، فهو الذي يستحق التأديب والتعزير ، ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك ، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من العلماء )) . ( الصارم المسلول ص 586 ) .
وذكر أبو يعلي من الأمثلة على ذلك اتهامهم بقلة المعرفة بالسياسة . ( الصارم المسلول ص 571 ) .
ومما يشبه ذلك اتهامهم بضعف الرأي ، وضعف الشخصية ، والغفلة ، وحب الدنيا ، ونحو ذلك .
وهذا النوع من الطعن تطفح به كتب التاريخ ، وكذلك الدراسات المعاصرة لبعض المنسوبين لأهل السنة ، باسم الموضوعية والمنهج العلمي .
وللمستشرقين أثر في غالب الدرسات التي من هذا النوع .
وقفة مع المنهج الموضوعي
ولعل من المناسب هنا أن نقف وقفة قصيرة جدا ، نبين فيها فساد هذا المنهج، وخطورة تطبيقه على تاريخ الصحابة .
والمنهج الموضوعي ، عند الغربيين يعني ان يبحث الموضوع بحثا عقليا مجردا ، بعيدا عن التصورات الدينية . ( راجع منهج كتابة التاريخ للعلياني ص 138 ) .
فنقول ردا على ذلك :
أولا : المسلم لا يمكن ان يتجرد من عقيدته بأي حال من الأحوال ، إلا أن يكون كافرا بها . ( راجع في تفصيل ذلك ، وفي الرد على دعوى الموضوعية ، بحث مخطوط للدكتور رشاد خليل 34 -37 ) .
ثانيا : كذلك بالنسبة للتاريخ الإسلامي ، إذا ثبتت الحوادث في ميزان نقد الرواية ، فبأي منهج نفهمها ونفسرها ؟ إذا لم نفسرها بالمنهج الإسلامي ، فلا بد أن نختار منهجا أخر . فنقع في الانحراف من حيث لا نعلم .
وبناء على ذلك ، يجب أن نحذر من تطبيق هذا المنهج على تاريخ الصحابة.(9/437)
ويجب ان نعلم ايضا أن ما يسمى بالنقد العلمي أو الموضوعية لتاريخ الصحابة ، هو السب الوارد في كتب اهل البدع ، وفي كتب الاخبار ، وتسميته بالمنهج العلمي لا يخرجه من حقيقته التي عرف بها عند أهل السنة ، وأيضا تسميته بذلك لا تعلي من قيمته ، كما لا يعلي من قيمته أن يردده كتاب مشهورون ، وفيهم اولو فضل وصلاح
وإنما كل ما فعله المحدثون أنهم أحيوا هذا السب الذي أماته أهل السنة عندما كانت الدولة دولتهم . ( هذه الفقرة مأخوذة من البحث القيم للدكتور رشاد خليل ) .
والذي أوصي به نفسي وإخواني الباحثين في تاريخ الصحابة إلا يتخلوا عن عقيدتهم ، ومنها الاعتقاد بعدالة الصحابة وتحريم سبهم عند البحث في تاريخهم ، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلهم ، وليعلموا أن لأهل السنة منهجا واضحا في النظر إلى تلكم الأخبار ، كما سيأتي في آخر البحث .
حكم سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
أما من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه ، فقد أجمع العلماء انه يكفر .
قال القاضي أبو يعلي : (( من قذف عائشة رضي الله عنها بما براها الله منه كفر بلا خلاف )) .
وقد حكي الإجماع على هذا غير واحد من الأئمة لهذا الحكم .
فروي عن مالك : (( من سب أبا بكر جلد ، ومن سب عائشة قتل . قيل له : لم ؟ قال : من رماها فقد خالف القرآن )) . ( الصارم المسلول ص 566 ) .
وقال ابن شعبان في روايته ، عن مالك : (( لأن الله تعالى يقول : { يعظكم الله ان تعودوا لمثله ابدا إن كنتم مؤمنين } فمن عاد فقد كفر )) . ( الشفا 2 / 1109 ) .
والأدلة على كفر من رمى أم المؤمنين صريحة وظاهرة الدلالة ، منها :
أولا : ما استدل به الإمام مالك ، ان في هذا تكذيبا للقرآن الذي شهد ببراءتها ، وتكذيب ما جاء به القرآن كفر .(9/438)
قال الإمام ابن كثير : (( وقد اجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه يكفر ، لأنه معاند للقرآن )) . ( راجع تفسير ابن كثير 3 / 276 ، عند تفسير قوله تعالى { إن الذين يرمون المحصنات . . . } ) .
وقال ابن حزم - تعليقا على قول الإمام مالك السابق - : (( قول مالك هاهنا صحيح ، وهي ردة تامة ، وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها )) . ( المحلي 11 / 15 ) .
ثانيا : إن فيه إيذاء وتنقيصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، من عدة وجوه ، دل عليها القرآن الكريم ، فمن ذلك :
إن ابن عباس رضي الله عنهما فرق بين قوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا باربعة شهداء } وبين قوله { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } ، فقال عند تفسير الآية الثانية : (( هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهي مبهمة ليس توبة ، ومن قذف أامرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة . . . إلى آخر كلامه . . . قال : فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر )) . ( انظر ابن جرير 18 / 83 ، وعنه ابن كثير 3 / 277 ) .
فقد بين ابن عباس ، ان هذه الآية إنما نزلت فيمن قذف عائشة وامهات المؤمنين رضي الله عنهن ، لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه ، فغن قذف المرأة أذى لزوجها ، كما هو أذى لابنها ، لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه ، وإن زنى امرأته يؤذيه اذى عظيما . . ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله اعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف . ( الصارم المسلول ص 45 ، والقرطبي 12 / 139 ) .
وكذلك فإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بالإجماع .(9/439)
قال القرطبي عند قوله تعالى { يعظكم الله ان تعودوا لمثله ابدا } : (( يعني في عائشة ، لأن مثله لا يكون إلا نظير القول في المقول بعينه ، او فيمن كان في مرتبته من ازواج النبي صلى الله عليه وسلم ، لما في ذلك من إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله ، وذلك كفر من فاعله )) . ( القرطبي 12 / 136 ، عن ابن عربي في أحكام القرآن 3 / 1355 - 1356 ) .
ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي صلى الله عليه وسلم ، ما أخرجه الشيخان في صحييهما في حديث الإفك عن عائشة ، قالت : (( فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي سلول )) ، قالت : (( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر - : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في اهل بيتي . . )) كما جاء في الصحيحين .
فقوله : (( من يعذرني )) أي من ينصفني ويقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من اذاه في أهل بيتي ، والله أعلم .
فثبت انه صلى الله عليه وسلم قد تاذى بذلك تأذيا استعذر منه .
وقال المؤمنون الذين لم تاخذهم حمية : (( مرنا نضرب اعناقهم ، فإنا نعذرك إذا أمرتنا بضرب أعناقهم )) ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على سعد استئماره في ضرب أعناقهم . ( الصارم المسلول ص 47 ) .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب : (( ومن يقذف الطيبة الطاهرة أم المؤمنين زوجة رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، لما صح ذلك عنه ، فهو من ضرب عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين .
ولسان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا معشر المسلمين من يعذرني فيمن أذاني في أهلي . { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا مبينا } . . فأين أنصار دينه ليقولوا له : نحن نعذرك يا رسول الله )) . (الرد عل الرافضة 25-26 ) .(9/440)
كما أن الطعن بها رضي الله عنها فيه تنقيص برسول الله صلى الله عليه وسلم من جانب آخر ، حيث قال عز وجل : { الخبيثات للخبيثين .. } .
قال ابن كثير : (( أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة ، لأنه أطيب من كل طيب من البشر ، ولو كانت خبيثة لما صلحت له شرعا ولا قدرا ، ولهذا قال تعالى { أولئك مبرءون مما يقولون } أي عما يقوله أهل الإفك والعدوان )) . ( ابن كثير 3 / 278 ) .
حكم سب بقية أمهات المؤمنين
اختلف العلماء في قذف بقية امهات المؤمنين ، والراجح الذي عليه الأكثرون : كفر فاعل ذلك ، لأن المقذوفة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى إنما غضب لها ، لأنها زوجته صلى الله عليه وسلم ، فهي وغيرها منهن سواء . ( البداية والنهاية 8 / 95 ) .
وكذلك فيه تنقيصا وأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقذف حليلته . ( الشفا 2 / 1113 ، وراجع ايضا الصواعق المحرقة ص 387 ) .
وقد بينا ذلك عند كلامنا عن حكم قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها .
أما أن سب أمهات المؤمنين سبا غير ذلك فحكمهن حكم سائر الصحابة على التفصيل السابق .
لوازم السب
تيقظ السلف الصالح رضوان الله عليهم لخطورة الطعن في الصحابة وسبهم ، وحذروا من الطاعنين ومقاصدهم ، وذلك لعلمهم بما يؤدي إليه ذلك السب من لوازم باطلة تناقض اصول الدين ، فقال بعضهم كلمات قليلة ، لكنها جامعة ، أذكرها في مقدمة هذا المبحث ، ثم أوضح - بعض الشيء - ما يترتب على السب غالبا .
وسأركز في الرد على السب من القسم الأول والثاني ، من نسبة الكفر أو الفسق لمجموع الصحابة أو اكثرهم ، أو الطعن في عدالة من تواترت النصوص بفضله كالخلفاء رضي الله عنهم .(9/441)
قال الإمام مالك رحمه الله عن هؤلاء الذين يسبون الصحابة : (( إنما هؤلاء اقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يمكنهم ذلك ، فقدحوا في اصحابه ، حتى يقال رجل سوء ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحون )) . ( رسالة في سب الصحابة ، عن الصارم المسلول ص580 ).
وقال الإمام أحمد رحمه الله : (( إذا رأيت رجلا يذكر أحدا من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام )) . ( البداية والنهاية 8 / 142 ، وأنظر المسائل والرسائل المروية عن أحمد في العقيدة الأحمدية للأحمدي 2 / 363 ، 364 ) .
وقال أبو زرعة الرازي رحمه الله : (( فإذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلم انه زنديق ، وذلك ان الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق ، والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم اولى وهم زنادقة )) . ( الكفاية للخطيب البغدادي 97 ) .
وقال الإمام أبو نعيم رحمه الله : (( فلا يتتبع هفوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزللهم ويحفظ عليهم ما يكون منهم حال الغضب والموجدة إلا مفتون القلب في دينه )) . ( الإمامة لأبي نعيم 344 ) .
ويقول أيضا : (( لا يبسط لسانه فيهم إلا من سوء طويته في النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والإسلام والمسلمين )) . ( الإمامة لأبي نعيم 376 ) .
وتحذيرالعلماء هنا عام يشمل جميع الصحابة ، وتأمل قول إمام أهل السنة : (( يذكر أحدا من الصحابة بسوء )) ، وقول أبي زرعة : (( ينتقص أحدا )) ، فحذروا ممن ينتقص مجرد انتقاص أو ذكر بسوء ، وذلك دون الشتم أو التكفير ، ثم في واحد منهم وليس جميعهم ، فماذا يقال فيمن سب أغلبهم ؟!
وإليك اخي إيضاح لبعض لوازم السب :(9/442)
أولا : يترتب على القول بكفر وإرتداد معظم الصحابة أو فسقهم إلا نفرا يسيرا ، الشك في القرآن الكريم والأحاديث النبوية ، وذلك لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول ، إذ كيف نثق بكتاب نقله إلينا الفسقة والمرتدون - والعياذ بالله - ولذلك صرح بعض أهل الضلال والبدع ممن يسب الصحابة بتحريف الصحابة للقرآن ، والبعض أخفى ذلك .
وكذلك الامر بالنسبة للاحاديث النبوية ، فاذا اتهم الصحابة رضوان الله عليهم في عدالتهم ، صارت الأسانيد مرسلة مقطوعة لا حجة فيها ، ومع ذلك يزعم بعض هؤلاء الإيمان بالقرآن .
فنقول لهم : يلزم من الإيمان بالقرآن الإيمان بما فيه ، وقد علمت أن الذي فيه أنهم خير الأمم ، وأن الله لا يخزيهم ، وأنه رضي عنهم . . . ألخ ، فمن لم يصدق ذلك فيهم ، فهو مكذب لما في القرآن ، ناقض لدعواه .
ثانيا : هذا القول يقتضي أن هذه الأمة - والعياذ بالله - شر أمة أخرجت للناس ، وسابقي هذه الأمة شرارها ، وخيرها القرن الأول كان عامتهم كفارا أو فساقا وإنهم شر القرون . ( الصارم 587 ) كبرت كلمة تخرج من أفواههم .
ثالثا : يلزم من هذا القول ، أحد أمرين : إما نسبة الجهل إلى الله تعالى عما يصفون ، أو العبث في هذه النصوص التي أثنى فيها على الصحابة .
فإن كان الله عز وجل - تعالى عن قولهم - غير عالم بأنهم سيكفرون ، ومع ذلك اثنى عليهم ووعدهم الحسنى فهو جهل ، والجهل عليه تعالى محال .
وإن كان الله عز وجل عالما بأنهم سيكفرون ، فيكون وعده لهم بالحسنى ورضاه عنهم عبث ، والعبث في حقه تعالى محال . ( انظر إتحاف ذوي النجابة لمحمد بن العربي التباني ص75 ) .(9/443)
ويتبع ذلك الطعن في حكمته عز وجل ، حيث اختارهم واصطفاهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فجاهدوا معه وآزروه ونصره واتخذهم أصهارا له ، حيث زوج ابنتيه ذا النورين عثمان رضي الله عنه ، وتزوج ابنتي الصديق وعمر رضي الله عنهما ، فكيف يختار لنبيه انصارا واصهارا مع علمه بأنهم سيكفرون ؟!.
رابعا : لقد بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم جهودا خارقة في تربية الصحابة على مدى ثلاثة وعشرين عاما ، حتى تكون بفضل الله عز وجل المجتمع المثالي في خلقه وتضحياته وزهده وورعه ، فكان صلى الله عليه وسلم اعظم مرب في التاريخ .
لكن على العكس من ذلك ، فإن جماعة تدعي الإنتماء إلى الإسلام ونبي الإسلام ، تقدم لهذا المجتمع صورة معاكسة ، تهدم المجهودات التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم في مجال التربية والتوجيه ، وتثبت له إخفاقا لم يواجهه أي مصلح أو مرب خبير مخلص لم يكن مأمورا من الله ، كما كان الشأن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( صرح بعض من تولى كبر تلكم المزاعم والتهم والضلالات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينجح ، وأن الذي ينجح في ذلك المهدي الغائب - مهديهم - ) .
إن الإمامية ترى أن المجهودات التي بذلها محمد صلى الله عليه وسلم لم تنتج إلا ثلاثة او أربعة - وفقا لبعض الروايات - ظلوا متمسكين بالإسلام إلى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، أما غيرهم فقد قطعوا صلتهم بالإسلام - والعياذ بالله - فور وفاته صلى الله عليه وسلم ، وأثبتوا أن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته اخفقت ولم يعد لها أي تأثير .(9/444)
وهذا الزعم يؤدي إلى اليأس من إصلاح البشرية ، وعدم الثقة في المنهج الإسلامي وقدرته على التربية وتهذيب الأخلاق ، وإلى الشك في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن الدين الذي لم يستطع أن يقدم للعالم عددا وجيها من نماذج عملية ناجحة بناءة ، ومجتمعا مثاليا في أيام الداعي وحامل رسالته الأول ، فكيف يستطيع أتباعه ذلك بعد مضي وقت طويل على عهد النبوة ؟!
وإذا كان المؤمنون بهذه الدعوة لم يستطيعوا البقاء على الجادة القويمة ، ولم يعودوا أوفياء لنبيهم صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، فلم يبق على الصراط المستقيم الذي ترك عليه النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه إلا أربعة فقط ، فكيف نسلم أن هذا الدين يصلح لتزكية النفوس وبناء الأخلاق ؟ وانه يستطيع أن ينقذ الإنسان من الهمجية والشقاء ، ويرفعه إلى قمة الإنسانية ؟ .
بل ربما يقال : لو ان النبي صلى الله عليه وسلم كان صادقا في نبوته ، لكانت تعاليمه ذات تأثير ، ووجد هناك من آمن به من صميم القلب ، ووجد من بين العدد الهائل ممن امنوا به بضع المئات ثبتوا على الإيمان ، فإن كان أصحابه سوى بضعة رجال منهم منافقين ومرتدين - فيما زعموا - فمن دام بالإسلام ؟! ومن أنتفع بالرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف يكون رحمة للعالمين ؟ . ( صورتان متضادتان للشيخ أبي الحسن الندوي ص 13 -45 -58-99 ) .
الإمساك عما شجر بينهم
قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا ذكر اصحابي فامسكوا ، وإذا ذكر النجوك فامسكوا ، وإذا ذكر القدر فامسكوا )) . ( أخرجه الطبراني في الكبير 2 / 78 / 2 ، وابو نعيم في الحلية 4 / 108 ، وفي الإمام من حديث ابن مسعود ، وقواه الالباني بطرقه وشواهده - السلسلة الصحيحة1 / 34 ) .
ولذلك فمن منهج أهل السنة والجماعة الإمساك عن ذكر هفوات الصحابة وتتبع زلاتهم وعدم الخوض فيما شجر بينهم .(9/445)
قال ابو نعيم رحمه الله : (( فالإمساك عن ذكر اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر زللهم ، ونشر محاسنهم ومناقبهم ، وصرف أمورهم إلى اجمل الوجوه ، من أمارات المؤمنين المتبعين لهم بإحسان ، الذين مدحهم الله عز وجل بقوله : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان )) .
ويقول ايضا في تعليقه على الحديث المشار إليه : (( لم يأمرهم بالإمساك عن ذكر محاسنهم وفضائلهم ، وإنما امروا بالإمساك عن ذكر أفعالهم وما يفرط منهم في ثورة الغضب وعارض الوجدة )) . ( الإمامة 347 ) .
اذا فالإمساك المشار إليه في الحديث الشريف إمساك مخصوص يقصد منه عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات ونشر ذلك بين العامة ، أو التعرض لهم بالتنقص لفئة والانتصار لاخرى . ( منهج كتابة التاريخ الإسلامي لمحمد بن صامل 227 ) .
ونحن لم نؤمر بما سبق / وإنما أمرنا بالاستغفار لهم ومحبتهم ونشر محاسنهم وفضائلهم ، وإذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل فلابد من الذب عنهم ، وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل . ( منهاج السنة 6 / 254 ) .
وهذا مما نحتاجه في زماننا ، حيث ابتليت الأمة المسلمة في جامعاتها ومدارسها بمناهج - يزعم أصحابها الموضوعية والعلمية - تخوض فيما شجر بين الصحابة بالباطل دون التأدب بالأداب التي علمنا إياها ربنا عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وكذلك وللأسف وصلت هذه العدوى إلى بعض الإسلاميين ، حتى إن بعضهم يجمع الغث والسمين من الروايات حول الفتنة التي وقعت بين الصحابة ، ثم يبني أحكامه دون الاسترشاد بأقوال الأئمة الأعلام وتحقيقاتهم .
من أجل ذلك أردت أن أشير إلى بعض الأسس والتوجيهات التي ينبغي أن يعرفها الباحث إذا اقتضت الحاجة أن يبحث فيما شجر بينهم رضي الله عنهم .
أسس البحث في تاريخ الصحابة(9/446)
أولا : إن الكلام عما شجر بين الصحابة ليس هو الأصل ، بل الاصل الاعتقادي عند أهل السنة والجماعة هو الكف والإمساك عما شجر بين الصحابة ، وذها مبسوط في عامة كتب أهل السنة في العقيدة ، كالسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل ، والسنة لابن ابي عاصم ، وعقيدة أصحاب الحديث للصابوني ، والإبانة لابن بطة ، والطحاوية ، وغيرها .
ويتأكد هذا الإمساك عند من يخشى عليه الالتباس والتشويش والفتنة ، وذلك بتعارض ذلك بما في ذهنه عن الصحابة وفضلهم ومنزلتهم وعدالتهم وعدم إدراك مثله ، لصغر سنه أو لحداثة عهده بالدين . . . لحقيقة ما حصل بين الصحابة ، واختلاف اجتهادهم في ذلك ، فيقع في الفتنة بانتقاصه للصحابة من حيث لا يعلم .
وهذا مبني على قاعدة تربوية تعليمية مقررة عند السلف ، وهي إلا يعرض على الناس من مسائل العلم إلا ما تبلغه عقولهم .
قال الإمام البخاري رحمه الله : (( باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا )) . وقال علي رضي الله عنه : (( حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله )) .
وقال الحافظ في الفتح تعليقا على ذلك : (( وفيه دليل على ان المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة . ومثله قول ابن مسعود : ( ما أنت محدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) . ( رواه مسلم ) .
وممن كره التحدث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ، ومالك في أحاديث الصفات ، وأبو يوسف في الغرئب . .
)) ، إلى أن قال : (( وضابط ذلك ان يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة ، وظاهره في الأصل غير مراده ، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب ، والله أعلم . ( صحيح البخاري 1 / 41 ، الفتح 1 / 199 -200 ، وراجع ايضا كلاما جيدا للسلمي في كتابةالتاريخ 228 ) .(9/447)
ثانيا : إذا دعت الحاجة إلى ذكر ما شجر بينهم ، فلابد من التحقيق والتثبت في الروايات المذكورة حول الفتن بين الصحابة ، قال عز وجل : { يا ايها الذين امنوا إن جاءكم فاسق بنبئأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } . وهذه الآية تأمر المؤمنين بالتثبت في الأخبار المنقولة إليهم عن طريق الفساق ، لكيلا يحكموا بموجبها على الناس فيندموا .
فوجوب التثبت والتحقيق فيما نقل عن الصحابة ، وهم سادة المؤمنين أولى وأحرى ، خصوصا ونحن نعلم أن هذه الروايات دخلها الكذب والتحريف ، أما من جهة اصل الرواية أو تحريف بالزيادة والنقص يخرج الرواية مخرج الذم والطعن .
وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب ، يرويها الكذابون المعروفون بالكذب ، مثل ابي مخنف لوط بن يحيى ، ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، وأمثالهما . ( منهاج السنة 5 / 72 ، وانظر دراسة نقدية " مرويات ابي مخنف في تاريخ الطبري / عصر الراشدين ، ليحيى اليحيى ) .
من أجل ذلك لا يجوز ان يدفع النقل المتواتر في محاسن الصحابة وفضائلهم بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف ، وبعضها يقدح فيما علم ، فإن اليقين لا يزول بالشك ، ونحن تيقنا ما ثبت في فضائلهم ، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها ، فكيف إذا علم بطلانها . ( منهاج السنة 6 / 305 ) .
ثالثا : إذا صحت الرواية في ميزان الجرح والتعديل ، وكان ظاهرها القدح ، فليلتمس لها أحسن المخارج والمحاذير .
قال ابن أبي زيد : (( والإمساك عما شجر بينهم ، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ، ويظن بهم أحسن المذاهب )) . ( مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني ، وانظر تنويرا لمقالة حل إلفاظ الرسالة للتتائي ) .(9/448)
وقال ابن دقيق العيد : (( وما نقل عنهم فيما شجر بينهم واختلفوا فيه ، فمنه ما هو باطل وكذب ، فلا يلتفت إليه ، وما كان صحيحا أولناه تأويلا حسنا ، لأن الثناء عليهم من الله سابق ، وما ذكر من الكلام اللاحق محتمل للتأويل ، والمشكوك والموهوم لا يبطل الملحق المعلوم )) . ( أصحاب رسول الله ومذاهب الناس فيهم لعبد العزيز العجلان ص360 ) .
هذا بالنسبة لعموم ما روي في قدحهم .
رابعا : أما ما روي على الخصوص فيما شجر بينهم ، وثبت في ميزان النقد العلمي ، فهم فيه مجتهدون ، وذلك ان القضايا كانت مشتبهة ، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة اقسام :
القسم الأول : ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف ، وأن مخالفه باغ ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه ، فيما اعتقدوه ، ففعلوا ذلك ، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده .
القسم الثاني : عكس هؤلاء ، ظهر لهم بالاجتهاد إن الحق مع الطرف الآخر ، فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه .
القسم الثالث : اشتبهت عليهم القضية ، وتحيروا فيها ، ولم يظهر لهم ترجيح احد الطرفين ، فاعتزلوا الفريقين ، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم ، لإنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك . ( مسلم بشرح النووي 15 / 149 ، 18 / 11 ، وراجع الإصابة 2 / 501 ، فتح الباري 13 / 34 ) .(9/449)
أيضا من المهم أن نعلم أن القتال الذي حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن على الإمامة ، فإن أهل الجمل وصفين لم يقاتلوا على نصب إمام غير علي ، ولا كان معاوية يقول إنه الإمام دون علي ، ولا قال ذلك طلحة والزبير ، وإنما كان القتال فتنة عند كثير من العلماء ، بسبب اجتهادهم في كيفية القصاص من قاتلي عثمان رضي الله عنه ، وهو من باب قتال أهل البغي والعدل ، وهو قتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام ، لا على قاعدة دينية ، أي ليس بسبب خلاف في أصول الدين . ( منهاج السنة 6 / 327 ) .
ويقول عمر بن شبه : (( إن أحدا لم ينقل ان عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة ، ولا دعوا أحدا ليولوه الخلافة ، وإنما أنكروا على علي منعه من قتال قتلة عثمان وترك الاقتصاص منهم )) . ( أخبار البصرة لعمر بن شبه نقلا عن فتح الباري 13 / 56 ) .
ويؤيد هذا ما ذكره الذهبي : (( أن ابا مسلم الخولاني وأناسا معه ، جاءوا إلى معاوية، وقالوا : أنت تنازع عليا أم أنت مثله ؟ . فقال : لا والله ، إني لأعلم أنه أفضل مني ، وأحق بالأمر مني ، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما ، وأنا ابن عمته ، والطالب بدمه ، فائتوه فقولوا له ، فليدفع إلي قتلة عثمان ، وأسلم له . فأتوا عليا ، فكلموه ، فلم يدفعهم إليه )) . ( سير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 140 ، بسند رجاله ثقات كما قال الأرناؤوط ) .
وفي رواية عند ابن كثير : (( فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية )) . ( البداية والنهاية 8 / 132 ، وانظر كلاما لإمام الحرمين وتعليقا للتباني عليه - إتحاف ذوي النجابة ص 152 ) .
وأيضا فجمهور الصحابة وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة .(9/450)
قال عبد الله بن الإمام أحمد : (( حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل بن علية ،حدثنا ايوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، قال : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف ، فما حضرها منهم مائة ، بل لم يبلغوا ثلاثين )) .
قال ابن تيمية : (( وهذا الإسناد من اصح إسناد على وجه الأرض ، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقته ، ومراسيله من أصح المراسيل )) . ( منهاج السنة 6 / 236 ) .
فأين الباحثون المنصفون ليدرسوا مثل هذه النصوص الصحيحة ، لتكون لمنطلقا لهم ، لا أن يلطخوا أذهانهم بتشويشات الأخبارين ، ثم يؤولوا النصوص الصحيحة حسب ما عندهم من البضاعة المزجاة .
خامسا : ما ينبغي أن يعلمه المسلم حول الفتن التي وقعت بين الصحابة - مع اجتهادهم فيها وتأولهم - حزنهم الشديد وندمهم لما جرى ، بل لم يخطر ببالهم أن الأمر سيصل إلى ما وصل إليه ، وتأثر بعضهم التأثر البالغ حين يبلغه مقتل أخيه ، بل إن البعض لم يتصور أن الأمر سيصل إلى القتال ، وإليك بعض من هذه النصوص :
هذه عائشة أم المؤمنين ، تقول فيما يروي الزهري عنها : (( إنما أريد أن يحجر بين الناس مكاني ، ولم أحسب أن يكون بين الناس قتال ، ولو علمت ذلك لم اقف ذلك الموقف أبدا )) . ( مغازي الزهري ) .
وكانت إذا قرأت { وقرن في بيوتكن } تبكي حتى يبتل خمارها . ( سير أعلام النبلاء 2 / 177 ) .
وهذا امير المؤمنين علي بن أبي طالب ، يقول عنه الشعبي : (( لما قتل طلحة ورآه علي مقتولا ، جعل يمسح التراب عن وجهه ، ويقول : عزيز علي أبا محمد أن أراك مجدلا تحت نجوم السماء . . ثم قال : إلى الله أشكو عجزي وبجري . - أي همومي وأحزاني -وبكى عليه هو واصحابه ، وقال : ياليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة )) . ( أسد الغابة لابن الأثير 3 / 88 - 89 ) .(9/451)
وكان يقول ليالي صفين : (( لله در مقام عبد الله بن عمر وسعد بن مالك - وهما ممن اعتزل الفتنة - إن كان برا إن أجره لعظيم ، وإن كان إثما إن خطره ليسير )) . ( منهاج السنة 6 / 209 ) .
فهذا قول أمير المؤمنين ، رغم قول أهل السنة أن عليا ومن معه أقرب إلى الحق . ( فتح الباري 12 / 67 ) .
وهذا الزبير بن العوام رضي الله عنه - وهو ممن شارك في القتال بجانب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها - يقول : (( إن هذه لهي الفتنة التي كنا نحدث عنها )) ، فقال مولاه : أتسميها فتنة وتقاتل فيها ؟! قال : (( ويحك ، إنا نبصر ولا نبصر ، ماكان أمر قط إلا علمت موضع قدمي فيه ، غير هذا الأمر ، فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر )) . ( فتح الباري 12 / 67 ) .
وهذا معاوية رضي الله عنه ، لما جاءه نعي علي بن أبي طالب ، جلس وهو يقول : (( إنا لله وإنا إليه راجعون ، وجعل يبكي . فقالت امرأته : أنت بالأمس تقاتله ، واليوم تبكيه ؟! . فقال : ويحك ، إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه وفضله وسوابقه وخيره )) . وفي رواية (( ويحك ، أنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم )) . ( البداية والنهاية 8 / 15 - 133 ) .
وبعد هذه المنقولات كلها ، كيف يلامون بأمور كانت متشابهة عليهم ، فاجتهدوا ، فاصاب بعضهم وأخطأ الأخرون ، وجميعهم بين أجر وأجرين ، ثم بعد ذلك ندموا على ما حصل وجرى .
وما حصل بينهم من جنس المصائب التي يكفر الله عز وجل بها ذنوبهم ، ويرفع بها درجاتهم ومنازلهم ، قال صلى الله عليه وسلم : (( لا يزال البلاء بالعبد ، حتى يسير في الأرض وليس عليه خطيئة )) . ( رواه الترمذي 2398 وقال حسن صحيح ، وحسنه ابن حبان والحاكم وسكت عنه الذهبي 1 / 41 ، وحسنه الالباني - المشكاة 1 / 492 من حديث سعد ، وصححه في الصحيحة 144 ، وانظر شواهده 143 145 ، وراجع الفتح 10 / 111 - 112 ) .(9/452)
وعلى أقل الاحوال ، لو كان ما حصل من بعضهم في ذلك ذنبا محققا ، فإن الله عز وجل يكفره بأسباب كثيرة ، من أعظمها الحسنات الماضية من سوابقهم ومناقبهم وجهادهم ، والمصائب المكفرة ، والاستغفار ، والتوبة التي يبدل بها الله عز وجل السيئات حسنات ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . ( للتوسع راجع منهاج السنة6 / 205 فقد ذكر عشر أسباب مكفرة ) .
سادسا : نقول اخيرا ان اهل السنة والجماعة لا يعتقدون أن الصحابي معصوم من كبائر الاثم وصغائره ، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر ، ثم إذا كان صدر من أحدهم ذنب فيكون إما قد تاب منه ، أو أتى بحسنات تمحوه ، أو غفر له بسابقته ، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم أحق الناس بشفاعته ، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه ، فإذا كان هذا في الدنوب المحققة ، فكيف بالأمور التي هم مجتهدون فيها : إن أصابوا فلهم اجران ، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد ، والخطأ مغفور .
ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نادر ، مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من إيمان وجهاد وهجرة ونصرة وعلم نافع وعمل صالح . ( أنظر شرح العقيدة الواسطية لخليل هراس 164 -167 ) .
يقول الذهبي رحمه الله : (( فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع بينهم ، وجهاد محاء ، وعبادة ممحصة ، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة )) . ( سير أعلام النبلاء 10 / 93 ، في ترجمة الشافعي ).
إذن ، فأعتقادنا بعدالة الصحابة لا يستلزم العصمة ، فالعدالة استقامة السيرة والدين ، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا ، حتى تحصل ثقة النفس بصدقه . . . ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي .(9/453)
ومع ذلك يجب الكف عن ذكر معايبهم ومساوئهم مطلقا - كما مر سابقا - ، وإن دعت الضرورة إلى ذكر زلة أو خطأ صحابي ، فلا بد أن يقترن بذلك منزلة هذا الصحابي من توبته أو جهاده وسابقته - فمثلا من الظلم أن نذكر زلة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه دون ذكر توبته التي لو تابها صاحب مكس لقبل منه . . . وهكذا . ( الإمامة لأبي نعيم 340، ومنهاج السنة 6 / 207 ) .
فالمرء لا يعاب بزلة يسيرة حصلت منه في من فترات حياته وتاب منها ، فالعبرة بكمال النهاية ، لا ينقص البداية ، سيما وإن كانت له حسنات ومناقب ولو لم يزكه أحد ، فكيف إذا زكاه خالقه العليم بذات الصدور .
{ ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم }
اللهم اجعلنا ممن يحب صحابة رسولك صلى الله عليه وسلم ، ويدافع عنهم ، ويتبع منهجهم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
================
الصحابة تحت مجهر القرآن والسنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الصحابة تحت مجهر القرآن والسنة ( رد على الفرس المجوس = الشيعة الرافضة = شيعة الشيطان = شيعة اليهود والنصارى = شيعة كل من حارب الإسلام والمسلمين )
نقلا عن كتاب الثوابت الأساسية في الإسلام للشيخ الفاضل عبد الرحمن عبد الخالق -جزاه الله عنا وعن الإسلام خيرا - .
الأصل الثالث: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
اختار الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه الخاتم والإيمان به خير أصحاب الأنبياء ديناً وجهاداً، وعلماً وتقوى فكانوا أنصاره والمجاهدين في سبيل الله، قدموا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأذلَّ الله بهم دول الكفر كلها في سنوات قليلة ومكن لهم في الأرض، ونشر بهم الإسلام في عامة المعمورة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وتحولت شعوب كثيرة إلى الإسلام في زمن قياسي، ولم يحدث هذا لنبي صلى الله عليه وسلم قبل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.(9/454)
قال تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو انفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم أنه عزيز حكيم} (الأنفال:62-63)
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على إيمانهم وجهادهم وإحسانهم في آيات كثيرة من كتابه منها قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (البقرة:285).. فشهد لهم بالإيمان مع الرسول صلى الله عليه وسلم..
وقال: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} (الفتح:29)...
وهذه الآية من أعظم المدح لهم والشهادة لهم بالإيمان وإخلاص الدين لله، وأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم وأنهم أهل طاعة وصلاة، وأنهم ممدوحون بذلك في التوراة والإنجيل، وأن أوائلهم هم بذرة الدين، ونبتة الإسلام التي كبرت وتفرعت حتى أصبحت شجرة الإسلام قوية باسقةً تستعصي على الرياح {يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} (الفتح:29)..
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً} (الفتح :18-19)
وهذه الآية نزلت في غزوة الحديبية، وكان الصحابة فيها ألفاً وأربعمائة رجل.
وقال تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم} (التوبة:117)(9/455)
وهذه الآية نزلت في غزوة تبوك وكانوا ثلاثين ألفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونزل على الرسول وهو في حجة الوداع في أعظم حشد تجمع له وكانوا أكثر من مائة ألف قول الله تبارك وتعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة:3)...
فهؤلاء الأصحاب الأطهار الأبرار سادة هذه الأمة وعنوان مجدها، وسر خلودها، ونموذجها الفريد في الإيمان والجهاد والعمل الصالح، وهم أسوة الأمة وقدوتها، ومنبعها الذي لا ينضب من المُثُل والعطاء والخير...
ولكل منهم من المناقب والفضل والسابقة ما هو محل القدوة والأسوة، ففيهم الذي انفق ماله كله في سبيل الله، وفيهم الذي قتل أباه في الله، وفيهم الذي آثر ضيفه على نفسه، وأهله، وعياله، حتى عجب الرب من صنيعه من فوق سبع سمواته، وفيهم الأبطال الصناديد فرسان الحروب، وفيهم رهبان الليل، فرسان النهار، وكلهم قد تحمل في سبيل الله ما لم تتحمله الجبال، وكلهم كان يفتدي الرسول بأبويه ونفسه وماله، وقد عظموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبوه كما لم يُعظَّم عظيم قط أو يحب، ولم ينصر أتباع رسول رسولهم كما نصر أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم محمداً صلى الله عليه وسلم.. ومناقبهم وفضائلهم أكثر من أن تحصر.
وقد أحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر الصديق أحب أصحابه إليه، وقال فيه: لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلاً (رواه مسلم)..
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لهم، ويواسيهم ويزور مريضهم، ويتبع جنائزهم، ويسعى في حاجاتهم ويصلح بين المتخاصمين منهم، ويحوطهم كما يحوط الأب أبناءه وأعظم. كيف وهو في الكتاب أولى بكل مؤمن من نفسه وهو أب لهم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} (الأحزاب:6) وهو أب لهم -قراءة-..(9/456)
وكان منهم بطانته وخاصته الذين يطلعهم على أسراره، ويشاورهم في أموره، فلا يخرج إلا وهو معهم، ولا يدخل إلا وهم معه، ولم يفارقوه في موقف شدة قط.. وأول هؤلاء هو الصديق الصادق، وأخو النبي في الدين وقريبه في النسب، تزوج رسول الله ابنته فكانت أفضل زوجاته، وأحب الناس جميعاً إليه كما قال صلى الله عليه وسلم عندما سئل: من أحبُّ الناس إليك؟ قال: عائشة.. قال من الرجال؟ قال: أبوها (متفق عليه)
ولم يمت رسول الله إلا ورأسه مسند إلى صدرها رضي الله عنها وأرضاها...
وفي هذه الزوجة وسائر زوجاته الطاهرات المطهرات نزل قول الله تعالى: {وَقَرْنَ في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً، واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً}.. (الأحزاب:33-34)
ولما بشرهم الله سبحانه وتعالى برضوانه، وتوبته عليهم، وشهد لهم بالإيمان والإحسان كان هذا بشرى لهم بالجنة كذلك. قال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} (التوبة:100)
وبشر الرسول صلى الله عليه وسلم رجالاً منهم بأعيانهم بالجنة فقال: عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة (رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع (4010))
وقال صلى الله عليه وسلم: لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة ( رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (7680))(9/457)
ولا شك أن من أخبر الله سبحانه وتعالى أنه رضى عنهم فهم من أهل الجنة، ولا يمكن أن يكون من أعلن رضاه عنهم أنهم يرتدون ويكفرون...
* موقف المؤمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
ومن أجل هذا الفضل والإيمان والإحسان الذي كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الله على كل مسلم يأتي بعدهم أن يعترف بفضلهم وأن يدعو الله لهم بالمغفرة: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر:10)
وأن يحبهم ويواليهم: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} (المائدة:55-56)..
وأن يعترف أنه لم يصبح مسلماً إلا بفضل جهادهم وفتوحهم (ولا يشكر الله من لا يشكر الناس)
وأن يأتسي بهم في جهادهم وصبرهم كما أرشدنا الله إلى ذلك حيث قال سبحانه في بيان صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصبرهم في غزوة الخندق: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً* ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً* من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه، منهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} (لأحزاب:21-23)(9/458)
وفي هذه الآيات رفع الله من شأن نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصادقين، وأبان الصورة العظيمة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة العصيبة من الصبر والإيمان والتوكل، فقد ربط صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه من الجوع وكان ينقل التراب من الخندق، ويحفر مع أصحابه وكان واثقاً من نصر الله ثابت القلب بالرغم من تألب الأحزاب واجتماعهم جميعاً -قريش وغطفان وقريظة-... وثبت مع رسول الله أهل الإيمان واليقين الذين وصفهم الله بقوله {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} (الأحزاب:23) وقد عاهدوه على نصر رسوله والموت في سبيله.
وما ذكر الله لنا هذا إلا ليكون هؤلاء الأصحاب الأطهار الأقوياء في الدين قدوة لنا وأسوة، وأن نحبهم ونجلهم، ونثني على جهادهم وصبرهم.
* الصحابة أسوة في العلم كما هم أسوة في الجهاد:
ولا شك أنهم كانوا في العلم واليقين والفهم الصحيح للدين كما كانوا في الجهاد والبذل.. فكما أثنى الله سبحانه على جهادهم وصبرهم، أثنى على إيمانهم وإحسانهم وعبادتهم، ولا غرو فقد كانوا هم الفوج الأول الذي تلقى التعليم والتربية من فم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت القدوة المثلى، والمثل الكامل ماثلاً أمامهم ليس بينهم واسطة. فهذا رسول الله الإنسان الكامل، والقدوة المثلى أمامهم، يتلو عليهم الكتاب ويبينه لهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويربيهم بالأسوة والموعظة الحسنة، ولفت النظر، والهجر والزجر أحياناً، ولا يقر أحداً منهم على باطل، ويختار فريقاً منهم فيوجب عليهم ما ليس واجباً على العامة ليحوزوا قَصَبَ السَّبْق، ويكونوا مثلاً لمن وراءهم كما أخذ على بعضهم ألا يسأل الناس شيئاً فكان إذا وقع السوط منه وهو على بعيره لا يسأل أحداً أن يناوله إياه.. وكل ذلك ليخرج منهم جبلاً يكون مثلاً لكل الأجيال في العلم والعمل والجهاد والصبر.(9/459)
وبث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما يحتاجونه من علم كما قال أبو ذر: (ما مات رسول الله وفي الأرض من طائر يطير بجناحيه إلا عندنا علم منه)..
ولم يكتم عنهم شيئاً من الدين، فكانوا بهذا كله كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أبر الناس قلوباً وأعمقهم علماً وأقلهم تكلفاً".
ومن أجل ذلك كله كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الجيل المثالي الذي يجب أن تحتذيه كل أجيال الأمة في الإيمان،والجهاد، والعمل، والعلم، وأن يقدم تفسيرهم للكتاب والسنة على كل تفسير، وأن كل ما جاء مخالفاً لما قالوه فليس من الهدى والدين، فما لم يعرفه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين فلا شك أنه ليس ديناً..
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وأن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (2549))
ولا شك أن أفضلهم بإطلاق هو أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وفضلهم كترتيبهم في الخلافة.
إن كان نصبا حب صحب محمد ******** فليشهد الثقلان أني ناصبي - ابن تيمية
===============
منهج دراسة عصر الصحابة رضوان الله عليهم
لما كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم نقلة هذا الدين فقد توجهت إليهم سهام الزنادقة في كل عصر للنيل منهم.(9/460)
وفي ذلك يقول أبو زرعةالرازي – رحمه الله : ( إذا رأيت الرجل يتنقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق ، والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن ، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى ، وهم زنادقة).
كما تحدث الطحاوي – رحمه الله - عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).
والنيل من الصحابة - رضوان الله عليهم – ليس مقصوداً لذاته فقط ، بل إن الهدف الأهم لدى الزنادقة هو النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن طريق الطعن في أصحابه – رضوان الله عليهم – وفي ذلك يقول مالك - رحمه الله: ( إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال : رجل سوء ، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين).
هذا وتعد كتب التاريخ والأدب أوسع باب دخل منه أعداء الإسلام للنيل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ساعدهم في تنفيذ مآربهم ذلك الكم الهائل من الروايات الضعيفة والمكذوبة المنتشرة في المصادر التاريخية والأدبية عن عصر الصحابة - رضوان الله عليهم.
من أجل ذلك كله وجدت أن أفضل منهج لدراسة عصر الصحابة – رضوان الله عليهم – هو المنهج النقدي لدى المحدثين – رحمهم الله – لكونه يجمع بين الضوابط الشرعية والمنهجية العلمية ، هذا مع الاستفادة في الوقت نفسه من منهج النقد التاريخي.
وعلى أية حال ، ومن دون الدخول في تفاصيل علمية جافة ، فإنه يمكن تلخيص الخطوط العريضة لهذا المنهج بالنقاط التالية:(9/461)
أولاً : وهي نقطة مهمة ينبغي للمسلم أن يتنبه لها في كل عمل من أعماله ، ألا وهي : إخلاص النية لله سبحانه وتعالى ، إذ ببركة الإخلاص يفتح الله سبحانه وتعالى على العبد كثيراً من الأمور التي تستغلق عليه.
ثانياً : معرفة أن المصادر التاريخية أشبه ما تكون بالمواد الخام التي تحتاج إلى التكرير والتصفية قبل الاستفادة منها ، وذلك أن مؤلفيها لم يشترطوا الصحة فيما يدونونه من أخبار ، بل ساروا في عملية التدوين على منهج الجمع ، فجمعوا في كتبهم الغث والسمين من الأخبار ، وهذه النقطة مع الأسف تجاهلها كثير من الباحثين المعاصرين ، وراحوا يتعاملون مع المصادر التاريخية وما فيها من نصوص على أنها من المسلمات ، وهذا بلا شك انعكس بدوره على النتائج التي توصلوا إليها في أبحاثهم.
فالإمام الطبري – رحمه الله – على سبيل المثال قد سار في تاريخه على منهج الجمع فقيد في تاريخه الغث والسمين من الأخبار، دون اشتراط الصحة في ذلك ، بل إنه – رحمه الله - قد أشار إلى هذه المسألة في مقدمته حيث قال : ( فما يكن في كتابي من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارؤه ، أو يستشنعه سامعه ، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ، ولا معنى في الحقيقة ، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا ، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا ، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا).
إن الاعتماد على مجرد النقل من المصادر دون نقد ، أو تمحيص أمر لا تحمد عقباه، لذا فقد حذر منه العلماء ، وفي ذلك يقول ابن خلدون – رحمه الله : ( وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل ، من المغالط في الحكايات والوقائع ، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً).(9/462)
والنقل من المصادر التاريخية دون نقد أو تمحيص آفة كثير من البحوث ، وسببه عدم مراعاة المنهج العلمي في التعامل مع النصوص التاريخية ، وفي ذلك يقول ابن خلدون – رحمه الله : ( أما بعد ، فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال... وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال ، وتتنافس فيه الملوك والأقيال ... إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول ، والسوابق من القرون الأول ، تنمو فيها الأقوال ، وتضرب فيها الأمثال ، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال ، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال ، واتسع للدول فيها النطاق والمجال ، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال ، وحان منهم الزوال ، وفي باطنه نظر وتحقيق ، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق ، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق ، وجدير بأن يعد في علومها وخليق).
ثالثاً : دراسة ميول مؤلفي المصادر ومعرفة توجهاتهم العقدية ، لما لذلك من تأثير في مصداقية ما ينقلونه من أخبار.
رابعاً : فيما يتعلق بالروايات المسندة فإنه من الأهمية بمكان دراسة رجال إسناد كل رواية ومعرفة أحوالهم جرحاً وتعديلاً ، وذلك إن ميول الرواة ، سواء منها : القبلية ، أو السياسية ، أو العقدية ، تؤثر بلا شك على مصداقية ما ينقلونه من أخبار ؛ وفي ذلك يقول محمد بن سيرين – رحمه الله - : (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم).
كما تحدث عبد الله بن المبارك - رحمه الله - عن أهمية الإسناد فقال : (الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء).
وهنا يجدر التنبيه على أن المحدثين قد وضعوا معايير علمية دقيقة في تجريح أو تعديل الرواة ، مراعين في ذلك طبيعة الخبر المروي ، وميول راوي الخبر.
خامساً : فيما يتعلق بمتن الراوية ، مسندة كانت أم غير مسندة ، فينبغي مراعاة الأمور التالية :
1- خلو النص من المخالفات العقدية والشرعية.(9/463)
2- خلو النص من الأمور القادحة بعدالة الصحابة – رضوان الله عليهم – وذلك لثبوت عدالتهم في الكتاب والسنة. وعن عدالة الصحابة – رضي الله عنهم – يقول الخطيب البغدادي – رحمه الله : (على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء ، لأوجبت الحال التي كانوا عليها ، من الهجرة والجهاد والنصرة ، وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء والأولاد ، والمناصحة في الدين ، وقوة الإيمان واليقين ، القطع على عدالتهم ، والاعتقاد بنزاهتهم ، وأنهم أفضل من جميع المعدلين ، والمزكين ، الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين ، هذا مذهب كافة العلماء ، ومن يعتد بقوله من الفقهاء).
كما تحدث الذهبي – رحمه الله - عن عدالتهم فقال : ( فأما الصحابة – رضي الله عنه – فبساطهم مطوي ، وإن جرى ما جرى ، إذ على عدالتهم ، وقبول ما نقوله العمل ، وبه ندين الله تعالى).
3- إن مجتمع الصحابة – رضوان الله عليهم – وهو خير القرون كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهو المجتمع الذي تخرج من مدرسة النبوة ، لذا فإن أحوال ذلك المجتمع ما هي إلا انعكاس لأخلاقيات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين كانوا أول المخاطبين بقوله تعالى : (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
أما من ينظر إلى ذلك المجتمع من خلال كتب الأدب فقد ظلم نفسه ، وظلم معها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وحتى يعلم القراء الكرام بحجم جناية بعض كتب الأدب على مجتمع الصحابة - رضوان الله عليهم – فإني أحيلهم إلى الرسالة العلمية الجادة التي ألفها د.عبدالله الخلف ، والموسومة بـ ( مجتمع الحجاز في العصر الأموي بين الآثار الأدبية والمصادر التاريخية). وهي رسالة دكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .(9/464)
سادساً : الاستعانة بالأدلة العقلية لرفع الظلم عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
سابعاً : اعتماد كتب السنة مصدراً أساسياً لدراسة عصر الصحابة – رضوان الله عليهم – وذلك لاحتوائها على عشرات النصوص التاريخية التي يندر وجودها في كتب التاريخ ، وهذه الخطوة بالرغم من توسيعها لقاعدة المصادر ، فقد غفل عنها كثير من الباحثين المعاصرين ، وهذا بدوره قد انعكس سلباً على مستوى أبحاثهم.
وللدلالة على أن كتب السنة تعد منجماً غنياً بالنصوص التاريخية ، فإني أحيل القراء الكرام إلى رسالتين علميتين تؤكدان هذا المعنى.
الرسالة الأولى : للدكتور / يحيى اليحيى ، وعنوانها : (الروايات التاريخية عن الخلافة الراشدة والدولة الأموية في فتح الباري ، جمعاً وتوثيقاً) وهي رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلامية.
الرسالة الثانية : للدكتور / سعد الموسى ، وعنوانها : (النصوص التاريخية في مسند الإمام أحمد ، عن عصر الخلافة الراشدة) وهي رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى.
ومن أجل التوسع في معرفة تفاصيل هذا المنهج فيمكنكم الرجوع إلى الأبحاث والكتب التالية :
1- د. أكرم ضياء العمري : منهج النقد عن المحدثين مقارناً بالمثيولوجيا الغربية.
2- د. أكرم ضياء العمري : دراسات تاريخية.
3- د. محمد مصطفى الأعظمي : منهج النقد عند المحدثين.
4- د. مسفر الدميني : مقاييس نقد متون السنة.
5- د. محمد السلمي : منهج كتابة التاريخ الإسلامي.
6- د. محمد السلمي : منهج نقد الروايات التاريخية.
7- د. أسد رستم : مصطلح التاريخ.
وإتماماً للفائدة فإنني أحيل القراء الكرام إلى مجموعة من الرسائل العلمية التي طبقت هذا المنهج كلياً ، أو جزئياً ، في الجامعات السعودية ، وفيما يلي قائمة بأسماء بعض تلك الرسائل :
1- د.يحيى اليحيى : مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري عن عصر الخلافة الراشدة ، دراسة نقدية. وهي رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية.(9/465)
2- د. عبدالعزيز المقبل : خلافة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – من خلال كتب السنة والتاريخ ، دراسة نقدية للروايات. وهي رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية.
3- د.عبدالسلام آل عيسى : المرويات الواردة في شخصية عمر – رضي الله عنه – وسياسته الإدارية ، دارسة نقدية للروايات ، وهي رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلامية.
4- د. محمد الغبان : فتنة مقتل عثمان بن عفان – رضي الله عنه – وهي رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية.
5- د. محمد العواجي : خلافة عثمان – رضي الله عنه – (باستثناء الفتنة) من خلال كتب السنة والتاريخ ، دراسة نقدية. وهي رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية.
6- د.عبدالحميد فقيهي : خلافة علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – دراسة نقدية للروايات. وهي رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية.
7- د.محمد الشيباني : مواقف المعارضة من خلافة يزيد بن معاوية ، دراسة نقدية للروايات. وهي رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية.
8- د. عبد العزيز ولي : أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري . وهي رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلامية.
9- د.خالد يماني : مرويات عمر بن شبه في تاريخ الطبري عن عصر الخلافة الراشدة ، دراسة نقدية. وهي رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى.
10- د.عبدالله حيدر : مرويات ابن إسحاق في تاريخ الطبري عن عصر الخلافة الراشدة ، دراسة نقدية ، وهي رسالة ماجستير من جامعة أم القرى.
11- د. خالد الغيث : استشهاد عثمان – رضي الله عنه – ووقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري، دراسة نقدية. وهي رسالة ما جستير من جامعة أم القرى.
12- د. خالد الغيث : مرويات خلافة معاوية – رضي الله عنه – في تاريخ الطبري ، دراسة نقدية مقارنة . وهي رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى.
خالد بن محمد الغيب
==============
مفهوم عدالة الصحابة
بسم الله الرحمن الرحيم(9/466)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
إن موضوع عدالة الصحابة من المواضيع المهمة التي يجب على كل مسلم أن يعرفه حق المعرفة ، و قد ترددت كثيراُ في الكتابة أو الحديث عن هذا الموضوع لحساسيته و عظم شأنه ، لكن الذي دفعني للكتابة هو ما سمعته و قرأته من أقوال الجهال أصحاب الهوى ممن ينتسبون للعلم و هو منهم براء ، أسمعهم يتشدقون بأقوال و كلمات ما أنزل الله بها من سلطان في حق الصحابة و ما شجر بينهم ، متذرعين بشبهات يتشبثون بها ، وروايات ضعيفة ساقطة موضوعة مكذوبة واهية أوهى من خيوط العنكبوت ، يتلقفونها و يلتقطونها من كتب الأدب و التاريخ و قصص السمر و الكتب المنحولة و الضعيفة ككتاب الأغاني و البيان و التبيين و الإمامة و السياسة و نهج البلاغة و غيرها من الكتب فيطيرون بها في الآفاق كشيطان العقبة .
مثل تكفير بعض الصحابة أو الطعن في خلافة عثمان أو علي أو سبٍ للصحابة أمثال : معاوية و عائشة و طلحة و الزبير و أبو موسى الأشعري و عمرو بن العاص و غيرهم رضي الله عنهم أجمعين .
يقول الإمام مالك في الذين يقدحون في الصحابة : إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك ، فقدحوا في أصحابه حتى يقال رجل سوء و لو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين . الصارم المسلول (ص 553) .
و هذا القول من الإمام مالك منطلق من نظرته البعيدة إلى أبعاد الخبر فليس الأمر قدحاً في الصحابة فقط ، بل إن هذا يجر إلى ما هو أخطر منه .
و بهذا المنظار انطلق ابن تيمية رحمه الله بقوله : الطعن فيهم - أي في الصحابة - طعن في الدين . منهاج السنة (1/18) . و الأمثلة في هذا كثيرة .(9/467)
و إن الباحث المسلم كثيراً ما يحس بالمرارة ، أو يصاب بخيبة الأمل ، و هو يتابع تفاصيل العصر الراشدي ، و هو العصر الذهبي في تاريخ الإسلام ، في حشود الروايات التي تقدمها مصادرنا القديمة ، و على رأسها تاريخ الرسل و الملوك للإمام الطبري ، فيجد البون شاسعاً بين ما يعهده من عدالة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من سلامة في الاعتقاد و استقامة في السلوك ، و ما كانوا عليه من خلق كريم ، و بين ما تصوره الروايات التي نقلها الرواة و الإخباريين على أنه الواقع التاريخي
و في العصر الحديث تلقف المستشرقون و من شايعهم و تأثر بآرائهم من المنتسبين إلى الإسلام ، هذه الأباطيل بل كانت مغنماً تسابقوا إلى اقتسامه ما دامت تخدم أغراضهم للطعن في الإسلام و النيل من أعراض الصحابة الكرام .
ولابد أن تعتقد و أنت تقرأ تاريخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرين اثنين :-
أ- أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير البشر بعد الأنبياء ، و ذلك لأن الله تبارك و تعالى مدحهم و النبي صلى الله عليه وسلم مدحهم في أكثر من حديث أنهم أفضل الأمة أو الأمم بعد أنبياء الله صلوات الله و سلامه عليهم .
ب- لابد أن تعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معصومين ، لكن المصيبة أن البعض يعتقد العصمة فيهم ؛ نعم نحن نعتقد العصمة في إجماعهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة – لحديث : ( إن الله تعالى قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة ) انظر : كتاب السنة لابن أبي عاصم بتخريج الألباني رحمه الله (1/41) - ، فهم معصومون من أن يجتمعوا على ضلالة ، و لكن كأفراد هم غير معصومين ، فالعصمة لأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم .
و بعد هذه المقدمة السريعة ندخل إلى صلب الموضوع ، إلا و هو عدالة الصحابة ، و نبدأ أولاً ، بتعريف الصحابي ، فأقول و بالله التوفيق :
تعريف الصحابي ..(9/468)
الصاحب في اللغة : اسم فاعل من صحب يصحب فهو صاحب ، و يقال في الجمع : أصحاب و أصاحيب و صحب و صحبة و صُحبان - بالضم - و صَحابة – بالفتح - و صِحابة - بالكسر - . لسان العرب ( 7/286) .
و عرفاً : هو من طالت صحبته و كثرت ملازمته على سبيل الإتباع . جامع الأصول لابن الأثير (1/74 ) .
و اصطلاحاً كما عند جمهور المحدثين : هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ، مؤمناً به ، بعد بعثته ، حال حياته ، و مات على الإيمان . أنظر : فتح المغيث (4/74) و ما بعدها ، و الباعث الحثيث (ص 169و172) هامش رقم (1) و دفاع عن السنة (ص108) و الإصابة (1/6) و غيرها من الكتب ، و من مجموع ما ذكره هؤلاء العلماء و غيرهم صغت هذا التعريف .
شرح التعريف :
قولنا من لقي النبي صلى الله عليه وسلم : هو جنس في التعريف ، و يدخل فيه :-
من طالت مجالسته ، مثل :- أبو بكر و عمر و عثمان و علي ، و غيرهم ممن لازم النبي صلى الله عليه وسلم ، رضي الله عنهم أجمعين .
أو قصرت ، مثل :- الوافدين عليه صلى الله عليه وسلم ، كضمام بن ثعلبة - أنظر : الاستيعاب (2/751) و أسد الغابة (3/57) - ، و مالك بن الحويرث - أنظر : الإصابة (5/719-720)-، و عثمان ابن أبي العاص - أنظر : أسد الغابة (3/579) و الإصابة (4/451-452) - ، و وائل بن حجر - أنظر : الاستيعاب (4/1562-1563) و أسد الغابة (5/435) - ، و غيرهم ممن لم يمكث مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً .
أو رآه و لم يجالسه ، مثل :- بعض الأعراب الذين شهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، فإنهم رأوه و لم يجالسوه ، كأبي الطفيل عامر بن واثلة - أنظر : الإصابة (3/605) و الاستيعاب (4/1696) ، و أسد الغابة (3/145) - ، و أبي جحيفة وهب بن عبد الله - أنظر : الإصابة (6/626) - .(9/469)
و يدخل فيه : من روى عنه حديثاً ، مثل :- مهران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنظر : الإصابة (6/232) و أسد الغابة (5/281) - ، و حسان بن ثابت - أنظر : الإصابة (2/62-64) و أسد الغابة (2/5-7 ) - ، و سهل بن حنيف - أنظر : الإصابة (3/198) و أسد الغابة (2/470) - .
و من روى حديثين ، مثل :- عبد الله بن حنظلة الغسيل - أنظر : الإصابة (4/65-67) و أسد الغابة ( 3/218) - ، و حمزة بن عبد المطلب - أنظر : الإصابة (2/121-123) و الاستيعاب (1/369-375) - ، و شرحبيل بن حسنة - أنظر : الإصابة (3/328-329) - .
أو أكثر ، مثل :- أبي هريرة ، و ابن عمر ، و ابن عباس ، و غيرهم من مكثري الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أو لم يرو شيئاً أصلاً ، مثل :- كعبد الرحمن بن الحنبل - أنظر : أسد الغابة (3/439) و الاستيعاب (2/828) - ، و ثمامة بن عدي - أنظر : الإصابة (1/410) و الاستيعاب (1/213) - ، و زياد بن حنظلة التميمي - أنظر : الاستيعاب (2/531) - .و يدخل فيه من غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة ، مثل :- كخبيب بن عدي - أنظر : الإصابة (2/262-264) و أسد الغابة (2/120-122) - ، و أنس بن النضر- أنظر : الإصابة (1/132-133) و أسد الغابة (1/155-156) - .
أو غزوتين ، مثل :- مليل بن وبرة الأنصاري - أنظر : الإصابة (6/382) و الاستيعاب (4/1484) - ، و عبد الله بن عمرو بن حرام - أنظر : الإصابة (4/189-190) - ، و عتبة بن فرقد السلمي - أنظر : الإصابة (4/439-440) و أسد الغابة (3/567) - .
أو أكثر ، مثل :- البراء بن عازب - أنظر : الإصابة (1/278-279) و أسد الغابة (1/205-206) - ، و سعد بن مالك - أبو سعيد الخدري - و غيرهما من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم .
أو لم يغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً ، مثل :- حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه .
و يدخل فيه الذكور و الإناث . أما البالغون منهم ، فباتفاق أهل الحديث .(9/470)
أما غير البالغين ، فيدخل فيهم المميزين ، مثل :- سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم : سيدنا الحسن ، و أخوه الحسين ، و عبد الله بن الزبير ، و غيرهم .
و غير المميزين ، مثل :- محمد بن أبي بكر الصديق - أنظر : الإصابة (6/245-246) و أسد الغابة (5/102-103) - ، و محمد بن ثابت - أنظر : أسد الغابة (5/83) - ، فقد حنكه النبي صلى الله عليه وسلم بريقه و سماه محمداً ، و غيرهم ممن حنكه النبي صلى الله عليه وسلم ، و دعا له و لم يكن مميزاً .
كما يدخل فيهم أيضاً ، الجن و الملائكة .
أما الجن : فإنهم يدخلون في مفهوم الصحابة على القول الصحيح ، و هو الذي رجحه الحافظ بن حجر . انظر : الفتح (7/ 7 ) . و ذلك مثل :- زوبعة ، و سمهج أو سمحج ، و عمرو بن جابر ، و مالك بن مهلهل ، و شاصر ، و ماصر ، و منشي ، و حس ، و مس ، غيرهم . أنظر : روض الأنف (2/304) و إرشاد الساري (5/306) .
و أما الملائكة : فاختلف في دخولهم في مفهوم الصحبة ، فقد ذهب جماعة منهم إلى أنه كان مبعوثاً لهم ، و مرسلاً إليهم ، و قد لقيه بعضهم و هم مؤمنون به ، فثبتت لهم الصحبة ، و ممن جرى على هذا القول : الإمام السيوطي في كتابه الحبائك في معرفة أخبار الملائك (ص211) . و رجحه القاضي شرف الدين البارزي و تقي الدين السبكي و الإمام الحافظ ابن كثير ، و أثبت بعض الأصوليين فيه الإجماع كما في المواهب اللدنية (7/28) .
و يخرج من الصحبة بقولنا من لقي :- من آمن به و لم يره كأصحمة النجاشي و زيد بن وهب و أبي مسلم الخولاني و غيرهم . أنظر : محاضرات في علوم الحديث (ص37-40) .
و إنما آثرنا التعبير بقولنا من لقي النبي صلى الله عليه وسلم على قولنا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، ليدخل في الصحابة مثل عبد الله بن أم مكتوم ، فهو ممن ثبت لقاؤه بالنبي صلى الله عليه وسلم و إن لم يره ، لأنه كان ضريراً .(9/471)
و قولنا يقظة : فصل خرج به من لقي النبي صلى الله عليه وسلم في منامه ، فإنه ليس بصحابي ، كما جزم به البلقيني في محاسن الاصطلاح (ص423) ، و الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/ 7 ) ، و السخاوي في فتح المغيث (4/81) .
و قولنا مؤمناً به : فصل يخرج به من لقيه كافراً به ، فإنه لا يعد من الصحابة سواء أكان من المشركين أم من المجوس أم من أهل الكتاب - اليهود و النصارى - و سواء بقي على كفره مثل أبي جهل و أبي لهب و غيرهما من الكفرة والمشركين ، أم آمن بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كرسول قيصر . أنظر : فتح المغيث (4/ 82 ) .
كما يدخل بهذا الفصل من لقيه مؤمناً به ثم ارتد ، وعاد إلى إيمانه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم و لقيه مرة أخرى . و هذا يدخل في مفهوم الصحبة باللقاء الثاني بلا خلاف بين العلماء ، و ذلك مثل : عبد الله بن سعد بن أبي السرح أنظر : الإصابة (4/109-111 ) .
و يدخل فيه أيضاً : من لقيه مؤمناً به ثم ارتد ، و عاد إلى إيمانه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، و لم يلقه مرة أخرى ، أو عاد بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، كما قال ذلك ابن حجر في نزهة النظر (ص109 ) ، مثل :- قرّة بن هبيرة - أنظر : الإصابة (5/437-440) - ، والأشعث بن قيس - أنظر : الإصابة (1/87 –90 ) - ، و عطارد بن حاجب التميمي - أنظر : الإصابة (4/507-509)
كما يدخل فيه أيضاً : من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد واستمر على ردته حتى الموت ، مثل : عبيد الله بن جحش ، الذي هاجر إلى الحبشة و هناك تنصر و مات على نصرانيته ، و ربيعة بن أمية الجمحي ، فإنه ارتد في خلافة عمر حيث فرّ إلى بلاد الروم ، فلحق بهم و تنصر ، و ابن خطل الذي ارتد و قتل على ردته يوم فتح مكة . أنظر : الإصابة (1/7 ) ، و محاضرات في علوم الحديث (ص39 ) ، غير أن هذا سيخرج فيما بعد من مفهوم الصحابة بالقيد الأخير .(9/472)
و قولنا بعد بعثته : فصل آخر خرج به من لقيه مؤمناً به قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ، مثل : زيد بن عمرو بن نفيل ، و جرجيس بن عبد القيس المعروف ببحيرا الراهب ، فقد عرفه و هو ذاهب إلى الشام و آمن به قبل بعثته . أنظر : الزرقاني على المواهب (7/27) و محاضرات في علوم الحديث (ص39 ) ؛ فإن هؤلاء لا يدخلون في مفهوم الصحابة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يكن مبعوثاً حين أمنوا به و صدقوه .
و على هذا : فما مثّل به البعض هنا بورقة بن نوفل غير صحيح ، لأنه قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، و آمن به بعد أن بعث صلى الله عليه وسلم ، و جاءه الوحي ، و لهذا فقد جزم ابن الصلاح بثبوت صحبته . أنظر : الزرقاني على المواهب (7/27) .
و قولنا حال حياته : فصل آخر خرج به من لقيه يقظة مؤمناً به بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، أنظر : فتح الباري (7/7 ) و الإصابة (1/7-8 ) و فتح المغيث (4/80 ) ، مثل : أبي ذؤيب الهذلي الشاعر - أنظر : الإصابة (2/364 ) - ، فقد رآه و هو مسجى ، قبل أن يدفن صلى الله عليه وسلم .
و قولنا : و مات على الإيمان : هو فصل آخر خرج به من لقيه مؤمناً به ، ثم ارتد و استمر على ردته ، حتى الموت ، و قد تقدمت أمثلته . هذا بالنسبة لتعريف الصحابي عند جمهور المحدثين ، وفي الحلقة القادمة يسكون الحديث عن تعريف الصحابي عند جمهور الفقهاء والأصوليين ، و ترجيح التعريف الصحيح في ذلك .
ذهب جمهور الفقهاء والأصوليين في تعريف الصحابي إلى أنه :-
من لقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظة مؤمناً به ، بعد بعثته ، حال حياته ، و طالت صحبته و كثر لقائه به ، على سبيل التبع له ، والأخذ عنه ، وإن لم يرو عنه شيئاً ، و مات على الإيمان .
شرح التعريف :
قولهم : من لقي النبي .. الخ : تقدم شرح ذلك و بيان ما فيه ، في تعريف الصحابي عند جمهور المحدثين .(9/473)
و قولهم : طالت صحبته :- أي أن يكون الصحابي قد جالس النبي صلى الله عليه وسلم و لقيه كثيراً .
و قد اختلف العلماء في المدة التي يقال فيها طالت صحبته ، فمنهم من حددها بسنة فأكثر ، وعليه ابن المسيب ، كما نقله عنه الشوكاني في إرشاد الفحول ( ص 70) ، وابن الهمام في التحرير (3/66) و الآلوسي في أجوبته العراقية (ص 9) وغيرهم .
و منهم من حددها بستة أشهر فأكثر ، كما نقله عن بعض العلماء صاحب التيسير (3/66) و الشوكاني في إرشاد الفحول (ص 70) والآلوسي في الأجوبة العراقية ( ص 9) و غيرهم .
و قد رد على هذين القولين بما ذكره الشوكاني في إرشاد الفحول (ص70) حيث قال : ولا وجه لهذين القولين ، لاستلزامهما خروج جماعة من الصحابة الذين رووا عنه ولم يبقوا لديه إلا دون ذلك ، و أيضاً لا يدل عليهما دليل من لغة ولا شرع .
ومنهم من رأى أنها لا تحدد بمقدار ، وإنما هي تطول بحيث يطلق عليها اسم الصحبة عرفاً .
و هذا هو القول الراجح والأصح عندهم ، وإليه ذهب الجمهور منهم .
و قولهم : على سبيل التبع له والأخذ عنه :- هذا قيد إنما جيء به في الحقيقة لبيان الواقع ، لأن من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم عرفاً لا يكون إلا على سبيل المتابعة له والأخذ عنه ، ولا يصح أن يكون قيداً له مفهوم ، إذ لا نعلم أن هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن متابعاً له ، آخذاً عنه .
و قولهم : وإن لم يرو عنه شيئاً :- اختلف جمهور أهل الفقه والأصول في ذلك ، فمنهم من يشترط لثبوت الصحبة ثبوت الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، مثل : الشوكاني في إرشاد الفحول (ص70) والسيوطي في تدريب الراوي (2/112) وغيرهم .(9/474)
ومنهم من ذهب إلى أنه لا يشترط لثبوت الصحبة ثبوت الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، مثل : القاضي أبي يعلى الفراء في العدة (ص3/989) والآمدي في الإحكام (1/275) و السبكي في جمع الجوامع (2/179) و غيرهم .
والقول الراجح هو القول الثاني ؛ لأن القول باشتراط الرواية لتحقق مفهوم الصحبة يؤدي إلى خروج كثير من الصحابة الذين لم تحفظ لهم رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع اتفاق العلماء الذين ترجموا للصحابة على عدهم فيهم . و قد تقدمت الأمثلة على ذلك في تعريف الصحابي عند جمهور المحدثين .
ومن خلال ما ذكرت نستطيع أن نقول الآن بأن التعريف الراجح للصحابي هو ما ذهب إليه جمهور المحدثين ، و ذلك لسلامة أدلتهم و خلوها من الانتقاد . والله أعلم .
طريق إثبات الصحبة للرسول صلى الله عليه وسلم ..
نقول وبالله التوفيق : هناك طريقتين لإثبات الصحبة :-
الطريقة الأولى : إثبات الصحبة بالنص – أي بالخبر – و تحته أنواع :-
1- القرآن الكريم : و ذلك مثل قوله تعالى{ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} التوبة/40
. فهذا النص يثبت صحبة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حيث استقر الإجماع بأن المعني بالصاحب في هذه الآية هو أبو بكر رضي الله عنه . تفسير الرازي (16/65) .
2 - الخبر المتواتر : و ذلك كما في صحبة العشرة المبشرين بالجنة ، فقد تواترت الأخبار بثبوت صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم . راجع الحديث في سنن الترمذي (3/311-312) .
3 - الخبر المشهور ، كما في صحبة عكاشة بن محصن و أبي هريرة وابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري وغيرهم الكثير ممن لا يرتاب مسلم في إثبات الصحبة لهم . راجع دراسات تاريخية في رجال الحديث (ص 39) .
4 - الخبر الآحاد : و يدخل تحته أربع طرق :-(9/475)
أ - رواية أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الرؤية أو السماع ، مع معاصرته للنبي صلى الله عليه وسلم ، كأن يقول أحد التابعين : أخبرني فلان أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ، أو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كذا ، كقول الزهري فيما رواه البخاري في فتح مكة من صحيحه . راجع صحيح البخاري كتاب المغازي (3/64) . و من الذين قالوا بهذه الطريقة ابن كثير في الباعث الحثيث (ص190) والسخاوي في فتح المغيث (3/97) .
ب - إخبار الصحابي عن نفسه أنه صحابي ، و قد افترق العلماء في هذا الطريق إلى أربع مذاهب :
المذهب الأول : أنه يقبل قوله مطلقاً من غير شرط ، وجرى على ذلك ابن عبد البر كما نقله السخاوي في فتح المغيث (3/99) .
المذهب الثاني : أنه يقبل قوله بشرطين :-
الأول : أن يكون ذلك بعد ثبوت عدالته .
الثاني : أن يكون بعد ثبوت معاصرته للنبي صلى الله عليه وسلم .
و ممن جرى على ذلك و جزم به : جمهور علماء الأصول والحديث . راجع : شرح الكوكب المنير لابن النجار (2/479) ، و المختصر في أصول الفقه لابن اللحام (ص89) و جمع الجوامع للسبكي (2/167) و شرح الألفية للعراقي (3/11) وابن حجر في الإصابة (1/8) والسخاوي في فتح المغيث (3/97) و غيرهم الكثير .
و العلة في صحة قبول إخباره عن نفسه أنه صحابي ، أنه لو أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قبلنا روايته ، فلأن نقبل خبره عن نفسه أنه صحابي من باب أولى . راجع شرح الكوكب المنير لابن النجار (2/479) .(9/476)
والمعاصرة التي اشترطوها في إثبات الصحبة هي : المعاصرة الممكنة شرعاً ، وإنما تكون المعاصرة للنبي صلى الله عليه وسلم ممكنة شرعاً إذا ادعى الصحبة في حدود مائة وعشر سنين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/8 ) ، و ذلك لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آخر حياته لأصحابه : أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد – يقصد من أصحابه - . البخاري (1/33-34) و مسلم برقم (1965) .
ومن هنا يتبين أن من ادعى الصحبة وكانت المعاصرة غير ممكنة ، فإنه لا يقبل قوله ويعتبر في ذلك من الكذابين ، راجع الأمثلة على من ادعى أنه صحابي و ظهر كذبه : الإصابة (1/9) و محاضرات في علوم الحديث (1/138-139) و دراسات تاريخية (ص46) .
المذهب الثالث : عدم قبول إنه صحابي ، و جرى على هذا القول ابن القطان كما نقل عنه ذلك الشوكاني في إرشاد الفحول (ص71) ، و به قال أبو عبد الله الصيرمي من الحنفية ، كما ذكره ابن النجار في شرح الكوكب المنير (2/479) . و أيضاً ممن يرى ذلك الإمام البلقيني في محاسن الاصطلاح (ص427) ، و غيرهم .
و عللوا ذلك : أنه متهم بأنه يدعي رتبة عالية يثبتها لنفسه ، و هي منصب الصحابة ، والإنسان مجبول على طلبها قصداً للشرف . راجع : البلبل (ص 62) و شرح مختصر الروضة (2/13) وتيسير التحرير ( 3/67) و غيرهم الكثير .
المذهب الرابع : قالوا بالتفصيل في ذلك ، فمن ادعى الصحبة القصيرة قبل منه ، لأنها مما يتعذر إثباتها بالنقل ، إذ ربما لا يحضره حاله اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم ، أو رؤيته له أحد ، و من ادعى الصحبة الطويلة و كثرة التردد في السفر والحضر ، فلا يقبل منه ذلك ؛ لأن مثل ذلك يشاهد و ينقل و يشتهر ، فلا تثبت صحبته بقوله ، كما قال بذلك السخاوي في فتح المغيث (3/98-99) .(9/477)
جـ - قول أحد الصحابة بصحبة آخر :
و هو إما أن يكون بالتصريح ، كأن يقول الصحابي : إن فلاناً صحابي ، أو من الأصحاب ، أو ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم .
وإما أن يكون بطريق اللزوم ، كأن يقول : كنت أنا وفلان عند النبي ، أو سمع معي هذا الحديث فلان من النبي ، أو دخلت أنا وفلان على النبي صلى الله عليه وسلم .
غير أن هذا الطريق الأخير إنما يثبت فيه الصحبة إذا عرف إسلام المذكور في تلك الحالة ، كما قال السخاوي في فتح المغيث (3/96) . و مثلوا ذلك بصحبة حمحمة بن أبي حمحمة الدوسي الذي مات بأصبهان ، فشهد له أبو موسى الأشعري . راجع : ذكر أخبار أصبهان لأبي نعيم (1/71) و الإصابة (1/355) وأسد الغابة (2/58-59) .
و يعلل لقبول قول الصحابي في آخر أنه صحابي : بأن الصحابي عدل فإن صح لناأن نقبل قوله حين يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلأن نقبل قوله حين يخبر أن فلاناً صحابي من باب أولى .
د - إخبار أحد التابعين الموثقين عند أهل الحديث بأن فلاناً صحابي :
اختلف العلماء من المحدثين والأصوليين في ذلك ، فذهب جماعة منهم إلى قبول قوله ، و منهم الإمام السخاوي في فتح المغيث (3/96) والحافظ ابن حجر في الإصابة (1/8) ، و غيرهم .
و ذهب جماعة آخرون إلى أنه لا يقبل قوله ، و لا يثبت به صحبة من أخبر عنه ، و ممن ذهب إلى ذلك بعض شراح اللمع على ما ذكره الإمام السخاوي في فتح المغيث (3/99) .
و كانت حجتهم في هذا النفي أن التزكية إذا صدرت من مزك واحد غير مقبولة ، بل لابد فيها من اثنين ، لأن التزكية تلحق بالشهادة ، فكما أن الشهادة لا تصح ولا تتحقق إلا بمتعدد اثنين فأكثر ، فكذلك التزكية لا تقبل إلا من اثنين فأكثر ، ولأن اشترط التعدد في المزكي أولى وأحوط من الإفراد ، إذ فيه زيادة ثقة . راجع تيسير التحرير (3/58) .(9/478)
والقول الراجح إن شاء الله : هو في ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من قبول تزكية التابعي الواحد : أن فلاناً صحابي . و قد أجابوا عما ذكره النافون بما يلي :-
1 - إن التزكية تتنزل منزلة الحكم ، فلا يشترط فيها العدد ، بخلاف الشهادة فإنها تكون عند الحكم فلا بد فيها من العدد ، فلا يصح إلحاق التزكية بالشهادة . نزهة النظر (ص134) .
2 - إن التزكية إن كانت صادرة عن اجتهاد المزكي فهي بمنزلة الحكم ، و حينئذ لا يشترط التعدد في المزكي ، لأنه بمنزلة الحكم .
3 - أن المزكي يكتفى فيه بواحد ، لأنه بمثابة الخبر ، و كما يصح قبول خبر الواحد ، فكذلك يقبل قول المزكي ، لأنه بمنزلته . شرح الألفية للعراقي (1/295) .
4 - أن اعتبار الواحد في الجرح والتعديل أصل متفق عليه ، واعتبار ضم قول غيره إليه يستدعي دليلاً والأصل عدمه . الإحكام للآمدي (1/271) .
5 - ينبغي القول بعدم اشتراط التعدد في المزكي ، لأن اشتراط التعدد قد يؤدي إلى تضييع بعض الأحكام ، فكان عدم التعدد أولى وأحوط . تيسير التحرير (3/58) .
الطريق الثاني : إثبات الصحبة بعلامة من العلامات :
العلامة الأولى : أن يكون من يدّعي الصحبة قد تولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عزوة من غزواته ، و ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمّر على عزوة من غزواته إلا من كان من أصحابه . انظر : محاضرات في علوم الحديث (1/140) و المختصر في علم رجال الأثر (ص 27) .
العلامة الثانية : أن يكون المدعي صحبته ممن أمّره أحد الخلفاء الراشدين على إحدى المغازي في حروب الردة والفتوح . الإصابة (1/9) .(9/479)
العلامة الثالثة : أن يكون المدعي صحبته قد ثبت أن له ابناً حنكه النبي صلى الله عليه وسلم ، أو مسح على رأسه ، أو دعا له ، فإنه كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له ، كما أخرجه الحاكم عن عبدالرحمن بن عوف على ما ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/9) . وانظر صحيح مسلم (1/237) .
العلامة الرابعة : أن يكون من يدعي صحبته ممن كان بمكة أو الطائف سنة عشر من الهجرة ، إذ من المعلوم عند المحدثين أن كل من كان بمكة أو الطائف سنة عشر قد أسلم و حج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، فيكون من الصحابة . الإصابة (1/9) و محاضرات في علوم الحديث (1/139) ، و في هذه العلامة نظر ؛ لأنه وإن سلّم بإسلامهم جميعاً ، فإنه لا يسلّم بأن جميعهم حجوا معه صلى الله عليه وسلم .
العلامة الخامسة : أن يكون من يدعي صحبته من الأوس أو الخزرج الذين كانوا بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد ثبت أنهم دخلوا في الإسلام جميعاً ، و لم يثبت عن أحد منهم أنه ارتد عن الإسلام . الإصابة (1/8) و محاضرات في علوم الحديث (1/139) .
و لنا لقاء آخر نتحدث فيه عن أقسام الصحابة و طبقاتهم ، والحمد لله رب العالمين .
و تقبلوا تحيات أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
اقرأوا التاريخ إذ فيه العبر *** ضل قوم ليس يدرون الخبر
==============
الرد على شبهة سبّ الصحابة
قال الله تعالى ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم)(9/480)
فهنا يشهد الله وكفي به شاهدا شهد برضوانه عليهم وكانوا قرابة 1400 صحابي. والسؤال هو هل الله عز وجل يشهد برضوانه على من سيكفر في المستقبل بعد وفاة نبيه صلى الله عليه وسلم؟! نحن نقول بالطبع لا و الروافض يقولون بأن رضاه ليس دليلا على رضاه عنهم كلهم وإنما المؤمنون الذين بايعوا منهم وليس كل من بايع والدليل حديث ( لا ترجعوا بعدي كفارا..) وكذلك الملائكة تذودهم عن الحوض فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابي أصحابي فتقول الملائكة لا تدري ما أحدثوا بعدك) وهذا دليل على أنهم ألصق الناس به. فهنا نحن نقول الرد من وجوه:
الوجه الأول: أنكم لم تقولوا لنا من المقصود بأصحابي أصحابي؟ نريد أسماءً في حديث صحيح صريح من عندنا لأن هذا الحديث الذي ذكرتموه من عندنا فلا يحق لكم أن تفسروه إلا بما عندنا أو بكلام علمائنا المعتبرون.
الوجه الثاني: إن قلتم لنا أصحابه الذي كفروا بعده بدليل تعميم هذا الحديث هم كأبي بكر و عمر و عثمان و الزبير و طلحة و و و فأقول لك وأين علي بن أبي طالب والسبطين وأبي ذر وسلمان و المقداد؟! لماذا لم يشملهم تعميم هذا الحديث؟! فإن قلتم لنا و لكن هم عندكم أبرار بأحاديث ثبتت عندكم من كتب السنة فنقول لك و كذلك ثبت عندنا أن أبو بكر و عمر و عثمان أعلى قدرا و برا من أبي الحسن و غيره رضى الله عنهم أجمعين.
الوجه الثالث وهو الذي سيعيدنا لموضوع الآية: أنتم تستشهدون بحديث (لا ترجعوا بعدي كفارا) والذي يرجع للكفر لا بد أنه كان مسلما في السابق بدليل أنكم تعترفون من كتبكم أنه لم يبقى بعد وفاه الرسول صلى الله عليه وسلم مسلما إلا القليل كسلمان و أبي ذر و المقداد والعجيب أنكم لم تذكروا اسم عمار بن ياسر في أحاديث مع من ثبت على الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تذكروا السبطين وفاطمة فهل أنتم تخرجونهم ممن بقى على إسلامه!؟ وهذا ليس موضوعنا.(9/481)
والشاهد أنكم لا تقولون أن آية الرضوان نزلت ((فقط)) لإثبات رضوان الله عن المقداد وأبي ذر وسلمان وعلي. ولكن الشيعة تقول أن الآية تشمل أيضا الذين آمنوا بدون المنافقين ولكن مع الأسف الشديد كفر الجميع من الذين نزلت الآية فيهم حتى من كان مؤمنا بخلاف المقداد وأبي ذر وسلمان وعلي الذين ثبتوا ودليلهم الحديث (لا ترجعوا بعدي كفارا)
وهذا عدوان على الله وتجرأ على الخالق وعظمته وكماله من كل نقص لأن الله أخبر أنه رضي عنهم وشهد بذلك وجعله قرآناً يتلى إلى يومنا هذا تشهد الآيات برضوانه عنهم وأنتم تقولون كفروا فنقول لكم وهل يشهد الله برضاه عن أناس رغم أنه يعلم أنهم سيكفرون في المستقبل ويكونون أعدى أعدائه بعد وفاة نبيه؟! وهل يشهد الله برضاه في الحاضر عن ألد أعدائه في المستقبل؟!
والله إلى الآن وأنا أسأل الشيعة ولا مجيب بجواب نعم أم لا. أقول لأحدهم لو كنت رئيسا لدولة وأعطاك الله قدرة علم المستقبل ثم أنت علمت أن وزرائك سيخونونك وسيكونون أعدى أعدائك بعد عشرة سنوات هل ستقف على الملأ وتجمع الناس وتكتب مرسوما يقرئه الجميع وتسمعهم أنت بصوتك قائلا إني أشهدكم أني راض عن وزيراي وسأرفع من قدرهما عندي وسأكافئهما بأموال وقصور؟! هل ستفعل هذا!؟ والله لا يقول نعم إلا سفيه ذو غباء مخل بالعقل لأنه سيعينهم على تسلطهم عليه ويبني لهم قوة ستهلكه.
ولذلك كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل لكي لا يأتي الرجل الذي سيقضي على ملكه منهم ولكن حفظ الله موسى وجعله ينشأ في بيت عدوه قال تعالى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِين) وقال تعالى على لسان فرعون لموسى (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِن عُمُرِكَ سِنِينَ)(9/482)
بربكم يا شيعة هل لو كان فرعون يعلم أن هذا المولود الذي التقطه سيكون له عدوا وحزنا وسببا لزوال ملكه وهلاكه هل سيربيه ويسمنه ويغذيه حتى يشتد عوده ليرى سبب هلاكه يكبر أمام عينه يوما بعد يوم!؟ هو كان يقتل أبناء بني إسرائيل رجاء أن يكون موسى عليه السلام من القتلى ليستريح منه. لو كان فرعون يعلم بأمر موسى وهو طفل لأغرقه في اليم ولما تركهم يلتقطونه ولربما قطعه إربا إربا ليتأكد من أمر هلاكه.
فكيف يشهد الله برضاه عن أعداء المستقبل له ولرسوله صلى الله عليه وسلم و لوصيه كما تزعمون؟! أما فرعون فلا يعلم أمر مستقبل موسى عليه السلام لأنه بشر ولكن الله هو رب البشر الذي يعلم السر وأخفي ويعلم كل تفاصيل المستقبل فكيف تجيزون أنه يفعل شيئا تنزهون أنفسكم عنه؟! أما تستحون!؟
ثم إن الله عز وجل يستحيل أن يشهد برضاه عن من يسكون في المستقبل من الكفرة أصحاب النار لأن شهادة الله برضاه عنهم هي نفسها شهادته لهم بالجنة وهي شهادة وإعجاز بأنه يستحيل أن يكفر منهم أحد بعد تلك الشهادة ويستحيل أن يموتوا إلا على ملة الإسلام وكما قيل وبضدها تتميز الأشياء
نرى أن الله عز وجل أخبر بأن عم الرسول صلى الله عليه وسلم أبي لهب سيدخل النار هو وزوجته والملاحظ أنه وزوجته لم يموتا إلا على الكفر وهذا إعجاز من الله لأن الله أخبر أن لهم النار وهذه شهادة سخطه عليهما وشهادته لا تتبدل ولم يحصل أن طمع الرسول في إسلامهما بل يأس بعد هذه السورة من إسلامهم رغم أن غيره من الكفار أسلم كعمر أبن الخطاب رضي الله عنه الذي قال عنه المسلمون في يأسهم من إسلامه لو أسلم حما عمر لما أسلم عمر ولكن حصل وأسلم لأن الله هو الذي يرى القلوب وأحوالها والناس لا ترى إلا الظاهر.(9/483)
وكذلك تعب نوح عليه السلام من دعوة قومه ولبث فيهم 950 سنة ويالها من مدة ولكنه بقي يدعوهم إلى أن أنزل الله عليه وحيا فيع إعجاز (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) إخبار فيه إعجاز بأنه يستحيل أن يؤمنوا بعد هذا الوحي لأنه لو آمن واحد منهم بعد ذلك الوحي لكان الله يقول خلاف ما أخبر في المستقبل وهذا لا يحصل البتة فالله خالق المستقبل وهو أعلم أنه لن يكون إلا ما أخبر به تماما. والسؤال هنا هل استمر نوح عليه السلام يدعو قومه بعد أن أوحى الله إليه أنهم لن يؤمنوا به؟ الجواب لا بل تركهم وبدأ يصنع السفينة والدليل قوله تعالى (وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُون * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) سبحان الله ماذا جرى لنوح عليه السلام!؟ لماذا تغير عن ما عهده قومه منه؟! كان يدعوا قومه ليلا ونهارا ويسر لهم في الدعوة ويجهر وفعل كل ما استطاعه معهم حرصا على إسلامهم ولكن بعد خبر الوحي المعجز علم أنهم لن يسلموا فتركهم وأصبح يسخر من سخرهم الذي سيأتي عليهم بالماء من كل مكان وبعدها نار تلظى وتم أمر وحي الله المعجز تماما كما أخبر لأنهم ماتوا على الكفر ولم يسلموا قال تعالى (أغرقوا فأدخلوا نارا) فالله شهد بسخطه عليهم في كونهم لن يؤمنوا به وختم الله لهم بخاتمة سوء نعوذ بالله منها.
فإن قال قائل أنت أخطأت لأن نوح عليه السلام لم يتوقف عن الدعوة والدليل قوله تعالى (وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ و َنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَ لَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ )(9/484)
فأقول هو هنا لا يدعو أبنه للإسلام وإنما ظنه مسلما فأمره أن يركب معهم لينجو من الغرق و الدليل على ظن نوح عليه السلام أن ابنه كان مسلما غير كافر قوله (وَ نَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِين) فماذا كان جواب الله له؟ أخبره الله بما في قلب ابنه من الكفر الذي لم يعلمه نوح عليه السلام ولكن الله يعلم ما تخفي الصدور فقال (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِين) فقال نوح عليه السلام (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِين) فهنا استغفر نوح عن هذا السؤال لأنه كان يدعو لكافر وهو لا يعلم فلو علم نوح أن ابنه كافر لما دعاه لسفينة النجاة أصلا.
وهنا نقول لماذا لم يخبر الله نبيه عن أعدائه الملتصقين به كما يزعم الروافض كالصديق والفاروق وذو النورين وغيرهم على وجه التعيين كما عين الله ابن نوح لنوح عليه السلام وعين الله أبو لهب وعين الله زوجته وعين الله رأس المنافقين في حياته حتى بعد دفنه وقال تعالى ناهيا رسوله (و لا تصلي على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون)(9/485)
لماذا لم يشهد الله برضوانه على رأس المنافقين كما فعل للـ 1400 صحابي؟! الجواب لأنه لم يرضى عن فعله ولم يوفقه ليكون مع الـ 1400 صحابي من الذين بايعوا تحت الشجرة. لماذا لم يبشره الله بالجنة ويرضى عنه!؟ أقول لم يبشره الله بالجنة ولم يرضى عنه لأنه يعلم أنه في المستقبل لن يموت إلا على الكفر والعداء لله ورسوله ويقلب للنار والعار ولكن الله عز وجل بشر الـ 1400 لعلمه أنهم لن يموتوا إلا على ملة الإسلام التي لا يرضى الله إلا عن من كان عليها.
وكذلك أخبر الله إبليس بسخطه عليه قائلا (و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين) فهل يجوز لمجنون أن يقول لنا لماذا لا ندعو إبليس لعله يسلم!؟ نقول له الله أخبرنا أنه لن يسلم وعليه لعنه الله ليوم الدين وسيكون من أصحاب النار كما أخبر الله (وَ قَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم) وأنت تقول لنا ندعوه لعله يسلم؟!
الذي يزعم أن الله سيرضى عن إبليس وسيرحمه وأن إبليس سيسلم ويتوب إلى الله وسيدخله الله الجنة فهو كافر بما أخبر الله متهما لله في علمه للمستقبل وقوله على أن الأمر سيحصل خلاف ما أخبر عنه في المستقبل.
ويقول الروافض أنه حصل أن بايع المنافقون في بيعات أخرى متفرقة وهنا مثل هناك فنقول لكم يا مفترون وهل شهد الله هناك برضوانه عنهم حتى تقارنون تلك البيعات بهذه التي أخبر الله رسوله عن علم قلوبهم؟! لا وجه للمقارنة.(9/486)
ويقول الروافض أن الله لم يرضى عن كل من بايع وإنما المؤمنون منهم فقط لوجود المنافقون بينهم كأبي بكر وعمر. وهذا ما قاله مفسرهم القمي المشهدي في كنز الدقائق في تفسير هذه الآية وصرح بنفاق الشيخين.
فنقول لهم وهل عثمان منافق معهم أيضا؟ أنتم تقولون نعم عثمان كان منافق والسؤال هو أنكم تعترفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في تفاسيركم لهذه الآية كالجوهر الثمين وغيره كثير في تفسير هذه الآية تعترفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدعو للبيعة إلا بعد أن ظن أن قريش قتلت عثمان فهنا نقول لو علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن عثمان ما قتل هل سيدعو للقتال؟! والجواب عندكم يا شيعة من كتب تفاسيركم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما دعى للبيعة إلا لإشاعة قتل عثمان وهذا كان هو السبب الرئيس لتلك الدعوة للبيعة فنحن نقول بالله عليكم يا شيعة هل الرسول صلى الله عليه وسلم يغضب ويدعو للقتال والبيعة انتقاما على قتل منافق كما تزعمون في عثمان؟! ولماذا أصلا يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم منافقا يفاوض عنه في مكة؟! أليس عثمان لكونه منافقا كما تزعمون قد يخبر قريش بكل ما يجب أن لا تعلمه قريش من أمر المسلمين! أنتم تعلمون أن هذا المنصب لا يعطي إلا لأمين على دين الله فإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم استأمنه فكيف تتهمونه بالنفاق! فإن قلتم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم نفاقه نقول لكم وهل أنتم علمتم نفاقه ونفاق الشيخين رغم أنكم لم تعاشروهم وخفي ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخالطهم ليل نهار! الله أعلمه بالوحي نفاق رأس المنافقين أبي بن سلول فهل الله عز وجل أخبر رسوله بأبي بن سلول ونفاقه وترك إخبار رسوله بالذين هم أخطر على الإسلام منه؟! الدليل على أنكم تزعمون أنهم أخطر من أبن سلول أنكم تنسبون لهم خرابا للدين لم يفعل أبن سلول عشر معشاره في هدم الدين. ثم لماذا يبايع على بن أبي طالب على هذه البيعة(9/487)
وسببها انتقاما لمنافق!؟
هل لو قتل فرعون هامان لدعى موسى عليه السلام البيعة انتقاما لهامان؟ المنافق هو كافر أيضا وأخطر منه فإن قلتم لنا مكررين نفس الاسطوانة هو منافق والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم نفاقه نقول لكم ولكن لماذا لم يخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن عثمان منافق كافر كما أخبر الله نوحا عليه السلام بأن ابنه كافر (قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)؟! فإن قلتم لنا إن الله مدح المبايعين الخلص على الصدق للتضحية وليس نصرة دم عثمان قلنا لكم أن الله تعالى قد جعل لكل شيء سببا كما في قوله (فأتْبَعَ سببا) و سبب هذه البيعة إشاعة قتل عثمان فلماذا يجعل الله مدحا ورضوانا للمبايعين سببه دم منافق؟ والدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سيقاتل قريش ولكن عندما علم أنهم لم يقتلوا عثمان توقف عن عزمه وصالحهم باعترافكم أنتم ولو كان الأمر لغير سبب عثمان لقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لو لم يقتلوا عثمان.
فإن كان الله عز وجل رضي عن الذين بايعوا رسوله لسبب دم عثمان رضي الله عنه فالله عز وجل من باب أولي أن يرضي عن عثمان الذي ما تحرك الرسول لدعوتهم للبيعة إلا لسببه.
أقول لإخواني السنة وهذه نقطة مهمة نفيسة يا حبذا لو تأملها المتأملون فإني والله استنبطتها استنباطا ولم أقرأها من كتاب فيما أعلمه فإن وجدتم في كلام علمائنا الجبال الذين يردون على الرافضة ما يخالف قولي فنبهوني للأمانة والمستشار أمين.
وقال لي رافضي ألا تؤمن بقوله تعالى (و لقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لأن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين) وأنا فهمت أنه يستدل بهذه الآية على أن المبشر بالرضوان قد يلحقه الخسران في المستقبل بنص هذه الآية فأقول:(9/488)
إن هذا دليل منكوس كخيط العنكبوت بل أهون منه لأنه لم يكن رسولا من الرسل قد انتكس وأشرك بالله لأن الله لا يختار إلا الأفضل من البشر رسلا له كما قال تعالى (و الله أعلم حيث يجعل رسالته) فالله يعلم المستقبل في أنهم لن يخذلوا رسالته ويعاونا الشيطان لأن الله يعصمهم فإن كنتم أنتم أيها الشيعة تعترفون بعصمة الأنبياء والرسل فهل أنتم تشكون أن الله سيعصمهم من الشرك!؟ بالطبع إن الله عز وجل يعصمهم من الشرك لأن الشرط أعظم من الإصرار على شرب الخمر مثلا فإن كان الله عز وجل قد عصم رسله من شرب الخمر والزنا فعصمته لهم من الشرك من باب أولى لأن الشرك أخطر من الزنا وشرب الخمر. ثم إنه لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجوز عليه الشرك فنحن نلزمكم أن تلزموا على رضي الله عنه بجواز الشرك عليه لأنه ما أسلم إلا على يديه فإن عبتم وأجزتم الشرك على المصدر البشري الأول للرسالة بعد انقطاع الرسل فتطرق العيب لمن هم دونه من باب أولى.(9/489)
فإن قلتم فما المقصود من الآية إذا!؟ فنقول لكم إن الخطاب الرباني إن وجه للرسول صلى الله عليه وسلم فهو خطاب لأمته فإن الله عز وجل يخاطب أعلى منزلة بشرية وهم الرسل بهذا الكلام فيتبادر لقلوبنا فورا أنه إن كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب هكذا فما يكون حالي لو أشركت؟ فيكون لسامع تلك الآية أشد زجرا ونهرا وتحذيرا عن الوقوع في الشرك لأنه الرسول الذي هو رسول يخاطب بهذا فما بالنا نحن! وهذا اسلوب قرآني عظيم يستعمله الله عز وجل في موعظة الأمة التابعة لرسولها ومثاله آيات أخرى كقوله تعالى (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ...) إلى آخر الآيات فنقول هل هنا حرم الله الخضوع بالقول على أمهات المؤمنين وأحله على بقية النساء! بالطبع لا فإن كان الله عز وجل يعض من هم أشرف النساء في العفة والطهارة فموقع الوعظ يجب أن يكون على الذين هم دونهن من باب أولى وقعه أشد فتقول إحدى نساء المسلمين الله عز وجل يعض الطاهرات فما بالنا نحن. فتزيدها تلك الآيات بعدا عن المحظور والدليل أيضا على أن الخطاب الذي للرسول يوجه للأمة أيضاً قوله تعالى (و لا تصلي على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون) فهنا نحن لا يجوز لنا أن نصلى على المنافقين والكفار ولا يجوز أن نصلى ونقول إنما النهي كان للرسول صلى الله عليه وسلم وليس لأمته وأنتم تعترفون بهذا يا شيعة.
ثم نحن نقول هذا الأسلوب استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم في وعضه للناس (لو فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) فهل يعني هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يلمح أن ابنته ستسرق في المستقبل وهو يهددها؟! لا والله بل زجرا للسامعين فكلهم سيرتدع ويقول هو سيقطع يد ابنته لو سرقت رغم أنها ابنته فكيف بنا نحن ولا قرابة بيننا وبينه! فنحن نقول الله عز وجل يقول هذا لرسله فكيف بنا نحن!(9/490)
وهذا الكلام أشبه بقوله تعالى (و لو تقول علينا بعض الأقاويل لقطعنا منه بالوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين) فهل معني هذا الكلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تقول على الله! بالطبع لا لأن الله لم يقطع من الوتين فهذه الآية والتي قبلها لا تنافي حصول ما أخبر الله عن صيرورته لنبيه من بلوغه أعلى المراتب في الجنة وكذلك آية الرضوان تشهد بأنهم سيصيرون للجنة جمعنا الله بهم بحبنا لهم.
فحديث الذود عن الحوض لا يكون للـ 1400 من الذين بايعوا وإنما غيرهم من الذين كفروا و ارتدوا فالصحابي تعريفه كل من اجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم وآمن به ومات على ذلك. والملاحظ أن الذين كفروا هم الذين حاربهم الصديق رضي الله عنه فهم كانوا مسلمين وفدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم و اجتمعوا به وبايعوه وآمنوا به ولكن انقلبوا ولم يموتوا على ما بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وماتوا كفارا لأنهم منعوا الزكاة ولذلك استحل أبو بكر دمائهم لأنهم خالفوا شروط شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله لأن الزكاة من حقها. فالدين ليس فيه تؤمن ببعض وتكفر ببعض ولذلك منهم من قال بل المفروض أن الزكاة لا تدفع إلا للرسول صلى الله عليه وسلم أما بعد مماته فلا زكاة.
فهل الله عز وجل أنزل آيات الزكاة والرسول شرحها تفصيلا بالسنة هل هذا فقط لوقت حياته! بالطبع لا لأن الله عز وجل شرع دينا ليس بعده شرع آتي وهو لكل الأجيال القادمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فالله لم يشرع الصلاة فقط بزمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
والعجيب أن الروافض نسوا وتناسوا كلا المرتدين عن الإسلام من العرب من الذين حاربهم الصديق ولم يصرحوا إلا بالصحابة الباقون على الإسلام و اتهموهم بالكفر والأعجب منه أنهم أخرجوا علي و المقداد وسلمان وأبو ذر من هذا التعميم بدون دليل من الحديث الذي هو من عندنا بما استشهدوه علينا!(9/491)
وفي نهاية المطاف أقول في هذه الآية يخبر الله عز وجل ويشهد برضوانه عنهم ثم يتنطع الروافض ويقولون بل سيكفرون ويكونون أعداءا لله في المستقبل. وينسب الروافض لله ما ينزهون أنفسهم عنه فنعوذ بالله من قولهم ونبرأ لله منهم.
=============
شبهات حول أبي بكر رضي الله عنه
مبحث مطاعن التيجاني في الخليفة الأول أبو بكر الصديق والرد عليه في ذلك:
نال هذا الصحابي الجليل وحده من هذا التيجاني الرافضي الكثير من المطاعن التي أوردها في كتابه المذكور وسأبدأ بذكر مطاعنه وسأرد عليها الواحدة تلو الأخرى مفنِّداً لها وذاباً عن هذا الصحابي الجليل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم أبرأ إلى كل خليلٍ من خلّه، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبن أبي قحافة أبو بكر الصديق ، وإن صاحبكم لخليل الله ، والذي شهد له القرآن الكريم { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني إثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيَّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيزٌ حكيم } التوبة 40
فأقول وبالله التوفيق:
1 ذكر هذا التيجاني كما أسلفت في مبحث سرية أسامة أن أبا بكر كان في السَّرِية وإنه اعترض على إمارته وبيَّنت كذب هذا المفتري على الخليفة الأول وأنه لم يكن في سريَّة أسامة ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد انتدبه للصلاة بالمسلمين قبل وفاته، ثم عندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان أحرص الناس على تجهيز أسامة، وجمهور الصحابة أشاروا عليه بأنْ لا يجهزه خوفاً عليه من العدو، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا أَحلّ راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم . وكان إنفاذه من أعظم المصالح التي
فعلها أبو بكر رضي الله عنه في أول خلافته ولكن التيجاني المهتدي لم يذكر من ذلك شيئاً مع اعتراف جميع المؤرخين بهذه الحقيقة ليدلّل على إنصافه.(9/492)
2 وللتدليل على إنصاف التيجاني المزعوم أنه لم يذكر ثبات أبو بكر في غزوة الحديبية وأنه كان أعظم إيماناً وموافقة وطاعة لله ورسوله من عمر وعلي وغيرهما في موقفه في يوم الحديبية.
أولاً الرد على التيجاني بادعائه أن أبا بكر يشهد على نفسه:
يقول التيجاني في هذا المبحث كما سجل التاريخ لأبي بكر مثل هذا، قال لما نظر أبو بكر إلى طائر على شجرة: طوبى لك يا طائر تأكل الثمر وتقع على الشجر وما من حساب ولاعقاب عليك، لوددت أنّي شجرة على جانب الطريق مرّ عليّ جمل فأكلني وأخرجني في بعره ولم أكن من البشر. وقال مرة أخرى: ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت تبنة في لبنة ... تلك بعض النصوص أوردها على نحو المثال لا الحصر ، أقول:
1 بالنسبة للرواية الأولى فقد عزاها لتاريخ الطبري والرياض النضرة وكنز العمال ومنهاج السنة لابن تيمية ولكنني لم أجدها في منهاج السنة ولا في الرياض النضرة ولا في تاريخ الطبري الذي عزا التيجاني اليها اللهم إلا في كنز العمّال وهذا دليل على مصداقية هذا المهتدي المزعومة، وأما بالنسبة للرواية الثانية فقد عزاها للمصادر السابقة أيضاً فلم أجدها في كنز العمّال ولا في تاريخ الطبري ولا في الرياض النضرة اللهم إلا في منهاج السنّة فمرحاً بالإغلال.(9/493)
2 يريد هذا التيجاني أن يوهم القارئ بعزوه كلام أبي بكر إلى المصادر السابقة على أنها من أقوالهم وكأنهم موافقون لما ذهب إليه التيجاني ولكن بعداً، فكتاب منهاج السنة لابن تيمية اسمه بتمامه منهاج السنة النبوية في نقد كلام الشيعة القدرية ويرد فيها على كتاب منهاج الكرامة في إثبات الإمامة لابن المطهر الحلّي وهو رافضي ممن هدى إليهم التيجاني والرواية المنقولة عن أبي بكر هي من ادعاء هذا الرافضي الإثنا عشري وأما كتاب الرياض النضرة الذي طالما يعزو إليه هذا التيجاني فعنوانه كاملاً الرياض النضرة في مناقب العشرة أي العشرة المبشرين بالجنة وهم أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة والمؤلف يشير هنا إلى الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بشر هؤلاء العشرة وهم على جبل أحد بالجنة والرافضة ينكرون هذا الحديث فكيف يستدلون بالكتاب؟ هذا أولاً، وثانياً: لم أجد الفقرتين المذكورتين عن أبي بكر في الكتاب بالإضافة إلى أن صاحب الكتاب يثبت أن أبا بكرٍ هو الأحق بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وذكر بيعة عليٍّ لأبي بكر وردّ فيه على تخرصات الرافضة بل وأفرد في ذكر مناقب أبي بكر واستغرق منه أكثر من ربع الكتاب ثم يأتي بعد ذلك هذا الشانئ ليستشهد بهذا الكتاب على ما يظنه من مثالب أبي بكر موهماً أنه ينقد أبابكر ولكن قد حصحص الحق ولولج الباطل.(9/494)
3 لو فرضنا جدلاً ثبوت هذا عن أبي بكرٍ فإنه يدل على قوة إيمانه وخوفه من الله سبحانه وتعالى وهذا لا يقدح في إيمانه قط فقد جاء في الصحيحين خبر الرجل الذي أمر أهله بتحريقه وتذرية نصفه في البحر ونصفه في البر مع أنه لم يعمل خيراً قط، وقال: والله لئن قدر اللهُ عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم سأله الله: ما حملك على ما صنعت. قال: من خشيتك يارب فغفر له، فإذا كان مع شكِّه في قدرة الله على بعثه، إذا فعل ذلك غُفر له بخوفه من الله، عُلم أن الخوف من الله من أعظم أسباب المغفرة للأمور الحقيقة إذا قدِّر أنها ذنوب وقد ورد مثل ذلك عن عدة صحابة منهم عبد الله بن مسعود فقد روى الإمام أحمد بن حنبل عن مسروق قال: قال رجل عند عبد الله بن مسعود: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقربين أحب إلى، فقال عبد الله بن مسعود: لكن ههنا رجل ودَّ أنه إذا مات لم يبعث يعني نفسه وروى الترمذي في سننه وابن ماجة عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملكٌ واضعٌ جبهته لله ساجداً. والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصُّعداء تجأرون إلى الله. لوددت أني كنت شجرة تعضد قال أبو عيسى أي الترمذي ، ويروى من غير هذا الوجه أن أباذر قال: لوددت أني كنت شجرة تعضد فعلى ذلك نقول لهذا التيجاني المهتدي أنه ثبت بالرواية الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوددت أني كنت شجرة تعضد فهل يعتبر هذا القول شهادة على نفسه؟! وهل سينطبق عليه ما وصفت به الخليفة أبا بكر؟! ولو فرضنا أن هذا القول صادر عن أبي ذر فهو من الصحابة الذين تترضون عنهم فهل هو أيضاً يشهد على نفسه وإلا فما الفرق بين هذا القول(9/495)
وقول أبي بكر يا أولي الألباب؟! بل روى البخاري عن ابن مسعود أنه قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ عليّ، قلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: نعم فقرأت سورة النساء حتى أتيت على هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان فأقول أليس هذا يدل على أن من يخاف الله سبحانه في الدنيا دليلٌ على قوة صدق إيمانه بالله؟
4 أما بالنسبة لتاريخ الطبري فلم أجد لهاتين الروايتين أثراً يذكر به ومن أراد التثبت ممن يريد الحق فليرجع لتاريخ الطبري من حوادث السنة الحادية عشرة إلى أواخر السنة الثالثة عشرة، وبالنسبة لكتاب كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال لعلاء الدين الهندي فلا تعتبر رواياته حجة لأنه لم يراعِ وضع الروايات الصحيحة فقط بل جعله جامعاً لجميع الأقوال والأفعال النبوية والأثرية والعجيب أنه أفرد قسماً خاصاً للأحاديث التي ذكرت في نقد الرافضة وهم الشيعة الاثني عشرية مع العلم أنه لم يوجد فيها حديث صحيح عند علماء الحديث من أهل السنة الذي يدعي التيجاني أنهم يضعفون الأحاديث في أهل البيت ويختلقون الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة زعم فلو كان كلامه حقاً لصحح علماء الجرح والتعديل من أهل السنة الأحاديث التي تطعن في الرافضة ولكنهم لم يفعلوا لأن تصحيح الأحاديث يخضع لضوابط ثابتة ومتفق عليها عند علماء الحديث من حيث المتن والسند وليست حسب الأهواء والكذب الرخيص الذي هو من سمات أهل الرفض، إضافةً إلى أنه أفرد باباً خاصاً في ذكر الصحابة وفضلهم في ثلاثة فصول وابتدأ بالخلفاء الأربعة وأولهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي إشارة إلى الأفضلية والسبق في الإسلام والخلافة.(9/496)
ثم يسترسل هذا التيجاني فيقول وهذا كتاب الله يبشر عباده المؤمنين بقوله { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم } ويقول أيضاً { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلاً من غفور رحيم } صدق الله العلي العظيم. فكيف يتمنى الشيخان أبو بكر وعمر أن لا يكونا من البشر الذي كرّمه الله على سائر مخلوقاته.
1 هذه الآيات لا تنافي خوف العبد من ربه وقد ذكرنا بالفقرة السابقة ثبوت خوف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الله.(9/497)
2 وبالنسبة لقوله تعالى في سورة يونس { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ....} قال ابن كثير في تفسير هذه الآية يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما فسرهم ربهم، فكل من كان تقياً كان لله ولياً ف ولا هم يحزنون أي فيما بستقبلونه من أهوال الآخرة ولا هم يحزنون على ما وراءهم في الدنيا فالخوف في هذه الآية هو في الآخرة والصحابة جميعاً كانوا يخافون الله في الدنيا وليس في الآخرة وقوله تعالى ولا هم يحزنون أي على ما وراءهم في الدنيا، ولا شك أن خوف أبي بكر والصحابة لا يدل على أنهم يحزنون على شيء من الدنيا. أما قوله تعالى { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة....} قال ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية يقول تعالى ذكره إن الذين قالوا ربنا الله وحده لا شريك له، وبرئوا من الآلهة والأنداد ثم استقاموا على توحيد الله، ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به، وانتهوا إلى طاعته فيما أمرونهى ثم أورد الإمام الطبري في تفسير الاستقامة عدة أحاديث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟ منها عن سعيد بن عمران قال: قد قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئا1. ومن هنا نعلم أن هذه الآية المستدل بها لا تنطبق على الخليفة الأول أبي بكر، فلا يقول من عنده مسكة من عقل أن أبا بكر الذي قاتل المشركين والمرتدين وجاهدهم أعظم جهاد وحفظ لله به بيضة المسلمين يكون مشركاً فسبحانك اللهم هذا جهلٌ عظيم.(9/498)
ثم يهذي المهتدي فيقول وإذا كان المؤمن العادي الذي يستقيم في حياته تتنزل عليه الملائكة وتبشره بمقامه في الجنة فلا يخاف من عذاب الله ولا يحزن على ما خلف وراءه في الدنيا وله البشرى في الحياة الدنيا قبل أن يصل إلى الآخرة، فما بال عظماء الصحابة الذين هم خير الخلق بعد رسول الله كما تعلمنا ذلك يتمنون أن يكونوا عذرة وبعرة وشعرة وتبنة، ولو أن الملائكة بشرتهم بالجنة ما كانوا ليتمنوا أنّ لهم مثل طلاع الأرض ذهباً ليفتدوا به من عذاب الله قبل لقاه. قال تعالى { ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } وقال أيضاً { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون } وإنني أتمنى من كل قلبي أن لاتشمل هذه الآيات، صحابةً كباراً أمثال أبي بكر الصديق وعمر الفاروق 1.(9/499)
أقول: للجهول الفخور بجهله لماذا تظهر للقارئ عظيم جهلك؟! فإن الآيتين اللتين سقتهما هما إخبار الله عن عذاب يوم القيامة حيث لا ينفع الندم ولا التوبة، وليس في الدنيا، ومعلوم لكل عاقل الفرق بين خوف العبد ربه في الدنيا وخوفه منه في الآخرة فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن شداد بن أوس، وابن المبارك في الزهد عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله عزوجل: وعزتي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع فيه عبادي 20، وروى مثل هذا الحديث إمام الاثني عشرية الصدوق ابن بابويه القمي في كتابه الحجة الخصال عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا آمنته يوم القيامة 21 وهذا لمن له أدنى فهم لهذه الحقيقة فمن خاف الله في الدنيا أمنه يوم القيامة ولأن خوف العبد ربه في الدنيا مثاب عليه فمن جعل خوف المؤمن من ربه في الدنيا كخوف الكافر في الآخرة فهو كمن جعل الظلمات كالنور، والظل كالحرور، والأحياء كالأموات 22. وإني أتمنى من كل قلبي أن لا يشمل الجهل دكتوراً كبيراً مثل محمد التيجاني السماوي!!؟
ثالثاً: موقفه من أبي بكر في مبحث محاورة مع عالم والرد عليه في ذلك:(9/500)
يبدأ التيجاني محاورته مع من يدعي أنه عالم من علماء أهل السنة في محاورة طويلة ولكني سآخذ المهم من هذه المحاورة المزعومة وهي محاولة التيجاني الطعن في أبي بكر وعمر، ففي معرض محاورته مع ذاك العالم يحاول التشكيك بأبي بكر محتجاً بما رواه الإمام مالك في موطئه فيقول ... فما كان مني إلا أن أسرعت إلى البيت وأتيتهم بكتاب الموطأ للإمام مالك وصحيح البخاري وقلت يا سيدي: إنّ الذي بعثني على هذا الشك هو رسول الله نفسه وفتحت كتاب الموطأ وفيه روي مالك أنّ رسول الله ص قال لشهداء أحد: هؤلاء أشهد عليهم، فقال أبو بكر الصديق، ألسنا يا رسول الله إخوانهم أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا، فقال رسول الله ص: بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي! فبكى أبو بكر ثم بكى ثم قال إننا لكائنون بعدك .... وبعد ما قرأ الشيخ العالم والحاضرون معه الأحاديث تغيّرت وجوههم وبدأوا ينظرون بعضهم إلى بعض ينتظرون ردّ العالم الذي صدم فما كان منه إلا أن رفع حاجبيه علامة التعجب وقال وقل رب زدني علما ..!! أقول:
1 هذا الحديث مرسل ومنقطع عند جميع رواة الموطّأ، ومعلوم أن الحديث المرسل مردود عند جمهور المحدثين والفقهاء للجهل بحال الراوي فيفقد شروط الصحة، وحجة عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في الراجح من مذهبه.(10/1)
2 أما بالنسبة لشرح الحديث فهو خلاف ما اخترعه هذا التيجاني حسب فهمه المقلوب فإن قول الرسول صلى الله عليه وسلم : هؤلاء أشهد عليهم أي بالإيمان والبذل في سبيل الله فلما قال ذلك سأله أبو أبو بكر الصديق: ألسنا يا رسول الله إخوانهم أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بلى! أي أنتم مسلمون مثلهم ومجاهدين في سبيل الله ولكن لا أدري ما تحدثون أي لا أعلم ما سوف تفعلون بعد وفاتي وأبو بكر لم يسأله عن نفسه ولكنه سأله بصيغة الجمع، فأجاب بنفس الصيغة أنه لا يعلم ما سيكون بعده ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب أي ما سيحدث في المستقبل وبعد مماته إلا بما أخبره به الله سبحانه وتعالى يقول الله سبحانه وتعالى { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء أن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } الأعراف 1 فبكى أبو بكر لأنه علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيفارقهم وذلك واضح في قول أبي بكر أئنا لكائنون بعدك أي سنعيش بعدك يا رسول الله وبالطبع لم يبك لأنه يعلم أنه سيحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم !!
3 لو كان تفسير الآيات وفهم النصوص النبوية يعتمد على الأهواء والكذب الرخيص لكانت حجج المستشرقين أقوى من حجج التيجاني ولأصبح الطعن بالكتاب والسنة حجة لكل أبله مثله والعجيب أنه يقول في كتابه فكتاب الله صامت، وحمّال أوجه، وفيه المحكم والمتشابه ولا بد لفهه من الرجوع إلى الرّاسخين في العلم حسب التعبير القرآني وإلى أهل البيت حسب التفسير النبوي .
فهل تفسيرك للحديث رجعت فيه إلى أهل البيت؟ وعلى أضعف الإيمان هل رجعت إلى الراسخين في العلم حتى تفهم معنى الحديث؟ وإذا قلت أن الحديث مرو عن طريق أهل السنة فإما أن ترفض الحديث أو ترجع فيه لشرح علماء أهل السنة مرغماً وإليك شروحهم:(10/2)
4 هذا وقد شرح الموطأ لمالك مجموعة من أهل العلم لا بد لنا أن نأتي بأقوالهم وشروحهم لهذا الحديث:
أ يقول الزرقاني ...هؤلاء أشهد عليهم بما فعلوه من بذل أجسامهم وأرواحهم وترك من له الأولاد أولاده فقال أبو بكر الصديق ألسنا يا رسول الله بإخوانهم أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا فلم خص هؤلاء بشهادتك عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى أنتم إخوانهم ألخ ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي فلذا خصصتهم بالشهادة المستفادة من حصر المبتدأ في الخبر بقوله هو لا أشهد عليهم فبكى أبو بكر ثم بكى كرّره لمزيد أسفه على فراق المصطفى ثم قال أئنا لكائنون أي موجودون بعدك استفهام تأسف لا حقيقي لاستحالته من أبي بكر بعد أن أخبره النبي صلى الله عليه وسلم .(10/3)
ب يقول ابن عبد البر ... ومعنى قوله: أشهد عليهم أي أشهد لهم بالإيمان الصحيح والسلامة من الذنوب الموبقات، ومن التبديل والتغيير، والمنافسة في الدنيا، ونحو ذلك والله أعلم. وفيه من الفقه دليل على أن شهداء أحد ومن مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله أفضل من الذين تخلفهم بعده والله أعلم. وهذا عندي في الجملة المحتملة للتخصيص، لأن من أصحابه من أصاب من الدنيا بعده وأصابت منه، وأما الخصوص والتعيين، فلا سبيل إليه إلا بتوقيف يجب التسليم له. وأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تخلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده، فأفضلهم: أبو بكر وعمر، على هذا جماعة علماء المسلمين إلا من شذ، وقد قالت طائفة كثيرة من أهل العلم: إن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر لم يستثنوا من مات قبله ممن مات بعده ثم قال ... وأما قوله أنا أشهد لهؤلاء وأنا شهيد لهؤلاء ونحو هذا فقد روى هذا اللفظ ومعناه من وجوه ثم ساق عدة روايات ومنها هذه الرواية ...وأخبرنا خلف بن القاسم، قال حدثنا ابن أبي العقب، حدثنا أبو زرعة، حدثنا الحكم بن نافع أبواليمان، حدثنا شعيب عن الزهري، أخبرني أيوب بن بشير الأنصاري عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج تلك الخرجة استوى على المنبر فتشهد، فلما قضى تشهده كان أول كلام تكلم به: أن استغفر للشهداء الذين قتلوا يوم أحد، ثم قال: إن عبداً من عباد الله خيّر بين الدنيا وبين ما عند ربه فاختار ما عند ربه ففطن بها أبو بكر الصديق أوّل الناس وعرف إنما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، فبكى أبو بكر فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على رسلك سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر، فإني لا اعلم امرءاً أفضل عندي يداً في الصحبة من أبي بكر .(10/4)
ثم يتقيأ هذا التيجاني ويقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد شك في أبي بكر؟ فيا للعجب!
ج يقول الإمام الباجي ... وقول أبي بكر رضي الله عنه ألسنا يا رسول الله باخوانهم أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا على وجه الإشفاق لما رأى من تخصيصهم بحكم كان يرجوا أن يكون حظه منه وافراً وأن يكون حظ جميع من شركه فيه من الصحابة ثابتاً فقال أن عملنا كعملهم في الإيمان الذي هو الأصل والجهاد الذي هو آخر عملهم فهل تكون شهيداً لنا كما أنت شهيدا لهم فقال صلى الله عليه وسلم بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي، قال قوم إن الخطاب وإن كان متوجهاً إلى أبي بكر فإن المراد به غيره ممن لم يعلم صلى الله عليه وسلم بما آل حاله وعمله وما يموت عليه وأما أبو بكر رضي الله عنه فقد أعلم أنه من أهل الجنة، والنبى صلى الله عليه وسلم شهيد له بذلك لظاهر عمله الصالح ولما قد أوحي إليه وأُعْلِمَ من رضوان الله تعالى عنه ولكنه لما سأل أبو بكر واعترض بلفظ عام ولم يخص نفسه بالسؤال عن حاله كان الجواب عاماً، وقد بيّن تخصيصه بأنه ليس ممن يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما يحبط عمله بما تقدم وتأخر عن هذا الحال من تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم له واخباره بما له عند الله من الخير وجزيل الثواب وكريم المآب. قال القاضي أبي الوليد رضي الله عنه ويحتمل عندي وجهاً آخر، وهو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال: هؤلاء أشهد عليهم بما شاهدت من عملهم في الجهاد الذي أدى إلى قتلهم في سبيل الله ولذلك لم يقل أنه شهيد لمن حضر هذا اليوم وقاتل وسلم من القتل كعليّ وطلحة وأبي طلحة وغيرهم ممن أبلى ذلك اليوم، ومن هو أفضل من كثير ممن قتل ذلك اليوم، لكنه خصّ هذا الحكم بمن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم جهاده إلى أن قتل، ويكون على معنى هذا قوله لأبي بكر رضي الله عنه: بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي، لم يرد به الحدث المضاد للشريعة وإنما أراد به جميع(10/5)
الأعمال الموافقة للشريعة والمخالفة لها، فيكون معنى ذلك أن ما تعملونه بعدي لاأشاهده، فلا أشهد لكم به وأن علمت أن منكم من يموت على ما يرضي الله من الأعمال الصالحة، إلاّ أنها لم تعين لي فيقال لي أنه يجاهد في الموطن كذا وأن الواحد منكم يقتل زيداً أو يقتله عمرٌ، وكما شاهدت من حال هؤلاء، فلذلك لا أكون شهيداً لكم بنفس الأعمال وتفصيلها، كما أشهد على تفصيل عمل هؤلاء وأن شهدت لبعضكم بجملة العمل بالوحي واعلام الله، فعلى هذا يكون قوله: ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي متوجّهاً إلى جميع الصحابة من أبي بكر وغيره. فصل وقوله: فبكى أبو بكر ثم بكى ثم قال أئنا لكائنون بعدك، يريد أنه أطال البكاء وكرره وأظهر معنى بكائه بقوله: أئنا لكائنون بعدك كأنه للإشفاق من البقاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم والإنفراد دونه وفقد بركته ونعمة الله على أمته به،وهذا يدل على أنه قد فهم أبو بكر رضي الله عنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم : بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي أنه لا يخاف أو يجوز أن يكون من أبي بكر حدث يضاد الشريعة ويخالف به من أجله عن سبيل النبي صلى الله عليه وسلم لأن بكاءه لذلك كان أولى له وكان حكمه على ذلك بأن يقول ائنا لمحدثون بعدك حدثاً يصد عن سبيلك ونخالف به طريقتك ولما لم يقل ذلك ولا بكى من أجله وإنما بكى من أجل فراقه النبي صلى الله عليه وسلم وبقائه بعده علمنا أنه فهم منه ما قدمنا ذكره والله أعلم فهذا هو قول أهل العلم في هذا الحديث والذي يظهر جلياً مدى جهل هذا التيجاني بفقه الحديث وتحامله على الصحابة العظام.
أما قوله فقلت: إذا كان رسول الله ص هو أول من شك في أبي بكر ولم يشهد عليه لأنه لا يدري ماذا سوف يحدث بعده فأقول:(10/6)
1 قد ظهر واضحاً لكل عاقل من خلال الشروح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد أبا بكر الصديق بقوله: لا أدري ما تحدثون بعدي. ولكن كلامه عام على جميع الصحابة بخلاف هؤلاء الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم .
2 من المسلم به أنّ اليقين لا ينتفي بالشك، ومن المعلوم يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لأبي بكر بالجنة في الكثير من الروايات، منها ما رواه الترمذي والطبراني في الكبير عن عائشة قالت: أن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنت عتيق الله من النار وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري في جزء منه فجاء أبو بكر فدفع الباب، فقلت من هذا؟ فقال: أبو بكر . فقلت على رسلك، ثم ذهبت فقلت: يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن، فقال: ائذن له وبشِّرْهُ بالجنة. فأقبلتُ حتى قلتُ لأبي بكر: ادخُل ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبشِّرك بالجنةِ وأخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر في الجنة و....الخ وأخرج الترمذي أيضاً عن علي بن أبي طالب قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع أبو بكر، وعمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هَذَان سيِّدا كهول أهل الجنة، من الأولين والآخرينَ، إلاالنَّبينَ والمُرْسلينَ، يا عليُّ: لاتُخْبِرهُما ، وقد أثبت الله لهذا الصحابي الجليل الصحبة لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا...} التوبة 40 ففي الآية فضل أبي بكر الصديق لأنه انفرد بهذه المنقبة حيث صاحب رسول صلى الله عليه وسلم.في تلك السفرة ووقاه بنفسه ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره: إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبابكر. وقال: من أنكر صحبة أبي بكر فهو كافر، لأنه كذَّب القرآن. ثم يدع بعد ذلك التيجاني أن النبي(10/7)
صلى الله عليه وسلم قد شك في أبي بكر! ولكن من خلال هذه الأدلة من الكتاب والسنة يعلم طالب الحق يقيناً لا شكاً أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي شهد لأبي بكر بالجنة لا يشك به قطعاً وإلا لكان هذا تناقضاً منه وحاشاه ذلك فيكون قوله : لا أدري ما تحدثون بعدي. على سبيل اليقين والرؤية كما عاين ورأى شهداء أحد. ثم يقول ... فمن حقي أن أشك وأن لا أفضّل أحداً حتى أتبيّن وأعرف الحقيقة، ومن المعلوم أن هذين الحديثين يناقضان كل الأحاديث الواردة في فضل أبي بكر وعمر ويبطلانها، لأنهما أقرب للواقع المعقول من أحاديث الفضائل المزعومة: قال الحاضرون وكيف ذلك؟ قلت: أن رسول الله ص لم يشهد على أبي بكر وقال لو إنني لا أدري ماذا تحدثون بعدي! فهذا معقول جداً وقد قرّر ذلك القرآن الكريم والتاريخ يشهد أنهم بدّلوا بعده ولذلك بكى أبو بكر وقد بدّل وأغضب فاطمة الزهراء بنت الرسول كماسبق وقد بدل حتى ندم قبل وفاته وتمنّى ألا يكون بشراً. أما الحديث الذي يقول لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر فهو باطل وغير معقول: ولا يمكن أن يكون رجلاً قضى أربعين سنة من عمره يشرك بالله ويعبد الأصنام أرجح إيماناً من أمة محمد بأسرها، وفيها أولياء الله الصالحين والشهداء والأئمة الذين قضوا أعمارهم كلها جهاداً في سبيل الله، ثم أين أبو بكر من هذا الحديث؟ لو كان صحيحاً لما كان في آخر حياته يتمنى ألا يكون بشراً. ولو كان إيمانه يفوق إيمان الأمة ما كانت سيدة النساء، فاطمة بنت الرسول ص، تغضب عليه وتدعو الله عليه في كل صلاة تصلِّيها .(10/8)
1 قوله أن هذين الحديثين يناقضان كل الأحاديث الواردة في فضل أبي بكر وعمر ويبطلانها من أشد أقواله عجباً! فلست أدري على أي مبدأ استند في إبطال أحاديث صحيحة؟ فالحديث الذي يستند عليه التيجاني هو حديث مرسل كما بينت سابقاً في حين أنه يرى ضعف الحديث المرسل ففي مكان آخر من كتابه يحتج على أهل السنة بحديث يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي تراه يضعّف حديث كتاب الله وسنتي بحجة أنه حديث مرسل!؟ فيقول بالهامش أخرج مسلم في صحيحه والنسائي والترمذي وابن ماجه وأبي داود في سننهم الحديث المذكور بلفظ كتاب الله وعترتي مسنداً إلى رسول الله ص. أما لفظ سنتي فلم يرد في أي من الصحاح الست، وأخرج الحديث بهذا اللفظ مالك بن أنس في موطّئه ونقله مرسل غير مسند !!!، وأخذ عنه بعد ذلك البعض كالطبري وابن هشام ونقلوه مرسلاً كما ورد عن مالك فكيف يحتج هنا بالحديث المرسل على بطلان الأحاديث الصحيحة المسندة؟! السبب بسيط أنه يريد أن يظهر حقيقة إنصافه المزعوم وتلاعبه المأثوم بالقراء الكرام فمرحا بالهداية!
2 يبدو أن التيجاني عنده من الشجاعة العلمية في إثبات الأحاديث التي يهواها فتتحول إلى أحاديث مسندة في نظره، أما الأحاديث التي تثبت فضائل الصحابة فليس عنده هذه الشجاعة العلمية في نقدها سنداً ومتناً فتتحول بدون مقدمات إلى أحاديث باطلة ولو كانت من أصح الأسانيد! وأقول إذا كانت كل الأحاديث التي تذكر فضائل أبي بكر باطلة فأظن أن شهادة الله سبحانه بفضل أبي بكر وتقواه وبصحبته النبي صلى الله عليه وسلم ليست باطلاً!؟ فشهادة الله هذه لأبي بكر تقتضي أن أحاديث فضائل أبي بكر صحيحة وهذه قضية منطقية ومعقولة جداً، لأن من شهد الله له بالتقوى والطهارة لا بد أن يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.(10/9)
3 أما قوله أن الرسول صلى الله عليه وسلملم يشهد على أبي بكر وقال له إنني لا أدري ماذا تحدثون بعدي.
قلت: بل الرسول صلى الله عليه وسلم شهد لأبي بكر في هذا الحديث عندما قال له أبو بكر ألسنا يا رسول الله إخوانهم أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا؟! فقال له: بلى! فهذه شهادة منه صلى الله عليه وسلم بذلك ولكنه استدرك بأنه لا يعلم ما سيكون منهم على سبيل الرؤية والتعيين بالإضافة إلى أن سياق الجملة لا يستساغ بلاغياً فكيف يقول التيجاني أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشهد على أبي بكر ويقول له أنني لا أدري ما تحدثون بعدي، فكيف يخاطب أبا بكر بصيغة الجمع وهو مفرد، بل لأن أبا بكر خاطبه بصيغة الجمع واعترض بلفظ عام ولم يخص نفسه بالسؤال عن حاله، كان الجواب عاماًوعلى أقل تقدير أن يكون هو من ضمن المخاطبين، وبما أننا علمنا أن علياً بن أبي طالب كان من المقاتلين في أحد ولم يستشهد فيها فعلى ذلك لا بد أن يشمله الخطاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ما سيحدث له بعده مثله كمثل بقية المخاطبين فكل ما بناه التيجاني الوبيّ على هذا الحديث من الطعن على أبي بكر وعمر يدخل فيه علي!! فهذا معقول جداً؟! أما قوله وقد قرر ذلك القرآن الكريم والتاريخ يشهد أنهم بدّلوابعده...!!! فهذا من أقبح الكذب إذ كيف يقرر القرآن أن الصحابة بدلوا ؟! فأين هذه الآيات التي تدل على هذا التخرص فلو كانت عنده بينة لأتى بها اللهم إن كان يقصد مصحف فاطمة؟! وأما إذا ادعى أنه بيّن هذه الكذبة في فصل رأي القرآن في الصحابة فقد دحضت افتراءاته بحول الله تعالى وفضله منه بما يقنع كل من يريد الحق ويرتضيه وأما بالنسبة لما قرره القرآن حقاً فيتضح في قوله تعالى { لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، أعدّ الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم } التوبة فأسأل هذا(10/10)
التيجاني المهتدي هل هؤلاء المذكورون في الآية هم علي وابناه الحسن والحسين اللذان لم يكونا قد بلغا الحلم؟ بالإضافة إلى الثلاثة أو السبعة الذين يبقي الرافضة على صحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم عدا جميع الصحابة وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير؟! وهل الرسول صلى الله عليه وسلم جاهد المشركين في بدر والذين وصل تعدادهم إلى ألف مقاتل، وفي أحد وكانوا ثلاثة آلاف مقاتل، وغيرها من الغزوات بهؤلاء النفر الذين لم يتجاوزوا العشرة يا تيجاني؟!؟ وقوله تعالى { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم } التوبة 0 ، فنسأل التيجاني من هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؟!.. هل هم علي والسبعة المرضيون عندكم؟!! سبحان الله فوالله لست أدري كيف يُهدى البعض إلى عقيدة تخالف النقول وتهين العقول؟!، فأسأل الله الكبير المتعال أن يقينا شرور هؤلاء المرجفين وشرور ما يرددون من أباطيلهم وجميع المسلمين اللهم آمين.(10/11)
4 يقول الله سبحانه { للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون، والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فؤلئك هم المفلحون } الحشر وإنني لن أسأل التيجاني فيمن تعنيهم هذه الآية وسأوفر عليه الجواب وسأدع الإمام الرابع عند الاثني عشرية وهو عليّ بن حسين يجيب عن ذلك فقد روى علامتهم عليّ بن أبي الفتح الأربلي في كتابه كشف الغمّة في معرفة الأئمة عن علي بن الحسن أنه قدم عليه نفر من أهل العراق فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما فرغوا من كلامهم، قال لهم: ألا تخبروني أنتم { المهاجرون الأولون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون }؟ قالوا: لا، قال: فأنتم { الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }؟ قالوا: لا، قال: أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم { والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا } أخرجوا عني فعل الله بكم ! فهذا هو قول الإمام الرابع فيمن نزلت فيهم هذه الآيات، وهو يرد على من أغلقت عقولهم وعمّيت أبصارهم، فأخذوا يطعنون بأبي بكر وعمر وعثمان فأخرسهم بهذه الآيات البينات، فأقول للتيجاني هل ما زلت تصدق أنك قد اهتديت؟؟!(10/12)
5 وأما قوله أما الحديث الذي يقول لو وزن إيمان أمتي بأيمان أبي بكر فهو باطل وغير معقول ولا يمكن أن يكون رجلاً قضى أربعين سنة من عمره يشرِك بالله ويعبد الأصنام أرجح إيماناً من أمة محمد بأسرها..ألخ، وللإجابة على ذلك أقول:
أ يلاحظ القارئ أن التيجاني أبطل حديثاً لا لشئ سوى أن عقله الواعي لا يقبله، فمعنى ذلك أن علم الجرح والتعديل علم لا قيمة له لأن العقل هو الحاكم الذي يحكم على الحديث بالقبول أو الرد، وهذا يعني أيضاً أنه لو اختلق البعض أحاديث مدعياً أنها من فم الرسول صلى الله عليه وسلم واستساغتها عقول بعضهم لأصبحت أحاديث صحيحة؟! وهذا القول سيفتح الباب على مصراعيه للمستشرقين وأفراخهم للطعن بالسنة بحجة أن عقولهم الصدئة لا تستسيغ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بفضل العلم الجديد الذي استحدثه المجتهد التيجاني في قبول الأحاديث أو ردها؟! فابحث أخي القارئ بعد ذلك عن دينك؟؟!(10/13)
ب أما الحديث لو وزن ... فهو حديث موقوف على عمر فقد رواه أسحاق بن راهويه والبيهقي في الشعب بسند صحيح عنه ورواية عن عمر هذيل بن شرحبيل، وهو عند ابن المبارك في الرهد، ومعاذ بن المثنى في زيادات مسند مسدد، وكذا أخرجه ابن عدي في ترجمة عيسى بن عبد الله من كامله، وفي مسند الفردوس، معاًمن حديث ابن عمر مرفوعاً، بلفظ: لو وضع أيمان أبي بكر على إيمان هذه الأمة لرجح بها ، وفي سنده عيسى بن عبدالله بن سليمان، وهو ضعيف، لكنه لم ينفرد به، فقد أخرجه بن عدي أيضاً من طريق غيره بلفظ: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجحهم . وله شاهد في السنن أيضاً، عن أبي بكرة مرفوعاً: أن رجلاً قال: يا رسول الله، رأيت كأن ميزاناً أنزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت، ثم وزن أبو بكر بمن بقي فرجح، الحديث 1، وعلى ذلك إن كانت هذه الرواية في رفعها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ضعف ولكن حديث أبي داود يشهد لها بالصحة وعلى العموم فأبو بكر الصديق من أكثر الناس إيماناًوتقوى وصلاحاً!
ت أما قوله ولا يمكن أن يكون رجل قضى أربعين سنة من عمره يشرك بالله ويعبد الأصنام أرجح إيماناً من أمة محمد بأسرها، وفيها أولياء الله الصالحين والشهداء والأئمة الذين قضوا أعمارهم كلّها جهاداً في سبيل الله . وجواب ذلك من وجوه:(10/14)
1 كيف علم التيجاني أن أبا بكر قضى أربعين سنة يشرك بالله ويعبد الأصنام، فهل جاء ببينة على دعواه هذه بدل أن يتقيأ هذا الكذب الذي استمرأه؟ فإن احتج أنه لم يكن أحد مؤمناً قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يعبدون الأصنام ولا شك أن أبا بكركان واحداً منهم. قلت: وكذلك الصبيان كانوا يعبدون الأصنام كعليّ لأن الصبي المولود بين أبوين كافرين يجري عليه حكم الكفر باتفاق المسلمين وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهوَّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه، كما تُنْتَج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تُحسون فيها من جَدْعاء 1، وإن ادّعى التيجاني أن كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ، قلت ولا إيمان الصبي مثل إيمان البالغ، فإسلام أبي بكر مخرجاً له من الكفر باتفاق المسلمين، وأما إسلام علي فهل يكون مخرجاً له من الكفر علي قولين مشهورين ومذهب الشافعي أن إسلام الصبي غير مخرج له من الكفر20 بالإضافة إلى أن أبابكر لم يتلعثم عند إسلامه فعن محمد بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما عرضّت الإسلام على أحد، إلا كانت له عنده كبوة وتردد، غير أبي بكر، فإنه لم يتلعثم 21 والغريب في الأمر أن الشيعة الاثني عشرية يروون أن علياً تردّد في قبول الإسلام وطلب الإمهال من الرسول صلى الله عليه وسلم وقال ... إن هذا مخالف دين أبي، وأنا أنظر فيه 22!؟(10/15)
2 أما بالنسبة لعبادة أبي بكر للأصنام فإنه لم يثبت أنه سجد لصنم قط قال أبو بكر رضي الله عنه في مجمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما سجدت لصنم قط، وذلك أني لما ناهزت الحكم أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مُخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشمّ العوالي، وخلاّني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني فلم يجبني، فقلت: إني عار فاكسني فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخرّ لوجهه 23 فكيف يدعي إذاً هذا التيجاني الأنوك على أبي بكر أنه قضى أربعين سنة يشرك بالله ويعبد الأصنام!؟... وبالنسبة لعلي وأنه سجد لصنم أم لا فليس عندنا نقل يثبت ذلك فلا نجزم بعدم سجوده للأصنام ولأنّ أهل قريش كانوا يسجدون للأصنام الرجال والنساء والصبيان!
3 ولو فرضنا أن أبا بكر مكث أربعين سنة يشرك بالله ويعبد الأصنام فما من شك أن المشرك إذا تحول للإسلام فإن الله يغفر له ما قد سلف كما يقول الله سبحانه { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } الأنفال 3 وفي الحديث الطويل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عمرو بن العاص عندما جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يريد الإسلام ولكنه إشترط أن يغفر الله له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟...24. فاعتناق الإنسان للإسلام يَجُبُّ ما اقترفه وأصابه ويمحوه.(10/16)
4 وهذه الحقيقة يؤكدها أيضاً الرافضة الإمامية فقد روى إمامهم الكليني في كتابه أصول الكافي تحت باب أنه لا يؤاخذ المسلم بما عمل في الجاهلية فعن أبي جعفر عليه السلام قال إنّ ناساً أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أسلموا فقالوا: يا رسول الله أيؤخذ الرجل منا بما كان عمل في الجاهلية بعد إسلامه؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حسن إسلامه وصحَّ يقين إيمانه لم يؤاخذه الله تبارك وتعالى بما عمل في الجاهلية، ومن سَخُفَ إسلامه ولم يصحّ يقين إيمانه أخذه الله تبارك وتعالى بالأوّل والآخر 25 وحتى التيجاني نفسه يعترف بهذه الحقيقة فيقول وليست لي أي عداوة لأبي بكر ! ولا لعمر ولا لعثمان ولا لعلي ولا حتى لوحشي قاتل سيدنا حمزة ما دام أنه أسلم والإسلام يجب ما قبله وقد عفى عنه رسول الله ص 26!؟ فكيف يؤاخذ أبو بكر على جاهليته، والإسلام بجب ما قبله؟ الجواب واضح وهو أنه ليست له أي عداوة لأبي بكر؟؟!
5 أنه ليس كل من ولد على الإسلام بأفضل ممن أسلم بنفسه كأبي بكر وعمر، بل قد ثبت بالنصوص المستفيضة أن خير القرون القرن الأول وعامتهم أسلموا بأنفسهم بعد الكفر، وهم أفضل من القرن الثاني الذين ولدوا على الإسلام27.(10/17)
ج أما إدعاؤه أن أبا بكر لا يمكن أن يكون أرجح إيماناً من أمة محمد وفيها أولياء الله الصالحين والشهداء والأئمة الذين قضوا أعمارهم كلها جهاداً في سبيل الله. قلت: لا يشك أي منصف أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من كبار أولياء الله الصالحين والأئمة المهتدين الذين قضوا أعمارهم كلها جهاداً في سبيله فهو من أحب وأقرب الناس إلى سيد الأولياء والصالحين محمد صلى الله عليه وسلم لدرجة أنه كان يغضب لمن يؤذي أبا بكر فقد أخرج البخاري فيى صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ أقبل أبو بكر آخذ بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه، قفال النبي صلى الله عليه وسلم : أما صاحبكم فقد غامر، فسلّم وقال: يا رسول الله، إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيءٌ، فأسرعت إليه ثم ندمتُ، فسألته أن يغفر لي فأبى علىَّ، فأقبلت إليك. فقال: يغفر الله لك ياأبابكر ثلاثاً . ثمّ إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا. فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّرُ، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم مرتين . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقَ، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين فما أوذي بعدها 2 وعن أبي عثمان قال حدّثني عمرو بن العاص رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة. فقلت من الرجال؟ قال: أبوها، قلت ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب، فعدّرجالاً 2. وهذا رأي عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أيضاً، فعن محمد بن الحنفية وهو ابن عليّ قال قلت لأبي: أي الناس خيرٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أبو بكر. قلت ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم(10/18)
أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين 30 وكان أبو بكر أكثر الصحابة عملاً للصالحات فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة 31 إضافة إلى شهوده جميع الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم ومباشرته الأهوال التي كان يباشرها النبي صلى الله عليه وسلم من أول الإسلام إلى آخره، ولم يجبن ولم يحرج ولم يفشل، وكان يقدم على المخاوف، يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، يجاهد المشركين تارة بيده وتارة بلسانه وتارة بماله، وهو في ذلك كله مقْدِم 32 وعن علي رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ ولأبي بكر: مع أحدكما جبريل، ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيلُ ملكٌ عظيم يشهد القتال أو يكون في القتال 33 فبعد هذه الأدلة الواضحة يتّضح لكل طالب للحق أن أبا بكر كان من كبار أئمة الدين و أوليائه الصالحين، المجاهدين في سبيل الله، ولعل التيجاني لا يقتنع بهذه الحقائق الواضحة فاضطر لإيراد رأي أحد كبار الأئمة الاثني عشرية لتصبح الحقائق دامغة وحجةً على المكابرين والمعاندين وسلسبيلاً للمطمئنين المهتدين، فقد أورد أبي الحسن الأربلي الاثني عشري في كتابه كشف الغمة عن عروة بن عبد الله قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام عن حلية السيوف، فقال: لا بأس به، قد حلّى أبو بكر الصديق رضي الله عنه سيفه، قلت: فتقول: الصديق؟ قال: فوثب وثبة واستقبل القبلة وقال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق فمن لم يقل له الصديق فلا صدّق الله له قولاً في الدنيا ولا في الآخرة 24 فهل يرتدع التيجاني ويكفينا إيراداً للأدلة(10/19)
المكذوبة على هدايته؟؟!، وأما بقية كلامه في هذا المبحث فقد رددنا عليه بحول الله وقوته فيما سبق والحمد لله أولاً وأخيراً.
رابعاً موقفه من أبي بكر في مبحث أسباب الإستبصار والرد عليه في ذلك : أ النص على الخلافة:
يتحدث التيجاني عن الأسباب التي دعته للإستبصار إلى الطريق الحق فيقول أما الأسباب التي دعتني للاستبصار فكثيرة جداً ولا يمكن لي في هذه العجالة إلاّ ذكر بعض الأمثلة منها:
1 النص على الخلافة: لقد آليت على نفسي عند الدخول في هذا البحث أن لا أعتمد إلاّ ما هو موثوق عند الفريقين وأن أطرح ما انفردت به فرقة دون أخرى، وعلى ذلك أبحث في فكرة التفضيل بين أبي بكر وعلي بن أبي طالب وأنّ الخلافة إنّما كانت بالنص على علي كما يدّعي الشيعة أو بالإنتخاب والشورى كما يدّعي أهل السنة والجماعة.
والباحث في هذا الموضوع إذا تجرّد للحقيقة فإنّه سيجد النص على علي بن أبي طالب واضحاً جلياً كقوله ص: من كنت مولاه فهذا علي مولاه قال ذلك بعدما انصرف من حجة الوداع فعُقد لعلي موكب للتهنئة حتى أنّ أبا بكر نفسه وعمر كانا من جماعة المهنئين للإمام يقولان :بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة . وهذا النص مجمع عليه من الشيعة والسنّة، ولم أخرّج أنا في البحث هذا إلا مصادر السنّة والجماعة ومع ذلك لم أذكر المصادر كلها فهي أكثر بكثير مما ذكرت، وللإطلاع على المزيد من التفصيل ادعو القارئ إلى مطالعة كتاب الغدير للعلاّمة الأميني وقد طبع منه ثلاثة عشر مجلداً يحصي فيها المنصف رواة هذا الحديث من طريق أهل السنة والجماعة .
فأقول لهذا الدعي:(10/20)
1 بالنسبة لقوله أن أهل السنة يقولون بأن الخلافة بالانتخاب والشورى فهذا قول ليس صحيحاً، لأن أهل السنة اختلفوا في خلافة أبي بكر، فقالت جماعة ان خلافة أبي بكر ثبتت بالنص الجلي أو الخفي، في حين قالت جماعة أخرى من أهل السنة أن الخلافة كانت بموافقة أهل الحل والعقد، وقد استدل الطرف الأول على وجود النص بالخلافة على أدلة قوية، وعلى العموم يجب أن يُعلم أن ما يقوله هذا التيجاني من أنّ أهل السنة يجعلون الخلافة بالشورى ليس قول الجميع، فإن كان حقاً فهو قول بعضهم، وإن كان الحق هو بالنص الجلي أو الخفي فهو قول البعض الآخر فعلى التقديرين لم يخرج الحق عن أهل السنة.
2 أما قوله أن الشيعة الرافضة يدعون بأن الخلافة كانت بالنص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه مستندين على عدة أحاديث فهذا ادعاء فاسد لأنهم يستندون على أدلة واهية ويستدلون على ألفاظ لا تدل أبداً إلى ما ذهبوا إليه وسيأتي تفصيل ذلك قريباً، ومن جانب آخر لو فرضنا أن القول بالنص على الخلافة هو الحق لم يكن لهذا الأمر دليل على ما يدعيه الشيعة الاثني عشرية، فإن الراوندية القائلين بإمامة العباس بن عبد المطلب يدعون النص الثابت عليه كما يدعي الرافضة بأن النص الثابت هو في علي، يقول القاضي أبو يعلى: واختلف الراوندية فذهب جماعة منهم إلى أن النبي نصَّ على العباس بعينه واسمه، واعلن ذلك وكشفه وصرَّح به، وأن الأمة جحدت هذا النص وارتدَّت وخالفت أمر النبي صلى الله عليه وسلم عناداً. ومنهم من قال: إن النص على العباس وولده من بعده إلى أن تقوم الساعة وهذا الادعاء مثل إدعاء الرافضة ويناظره، وكلا القولين لا دليل على أي منهما ولم يقل بهما أحد من أهل العلم قاطبة بخلاف النص على أبي بكر الذي يعضِّده أقوال أهل العلم.(10/21)
3 أما قوله أن الباحث عن الموضوع إذا تجرّد للحقيقة فإنه سيجد النص على عليّ بن أبي طالب واضح جليّ كقوله صلى الله عليه وسلم من كنت مولاة فهذا عليّ مولاه . وللرد على ادعائه أقول:
أ إختلف أهل الحديث في تصحيح وتضعيف هذا الحديث فمنهم من ضعفه ومنهم من حسّنه والذي أراه حقاً أن الحديث صحيح وثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أستطيع أن أضعف هذا الحديث بالهوى كما يضعف هذا التيجاني الأحاديث التي لا يرغب فيها أو يراها تخالف خزعبلات وإلا فالمسألة بسيطة لأهل الأهواء، وهذا لمن أنصف وعلم أن أهل السنة يقفون عند النصوص الحديثية ويثبتونها إن كانت صحيحة الإسناد والمتن.
ب وادعاء التيجاني بأن الحديث نص واضح وجلي على عليّ فأقول يبدو أن الكلام لا يحتاج إلى كثير عناء، فمن السهل على أي إنسان فضلاً عن التيجاني! أن يقول ما يريد، فالكلام لا يشترى بالمال أو يباع، فليس الكلام بحد ذاته يعتبر دليلاً لمن فهم، فهذا التيجاني يدّعي أن هذا الحديث واضح وجلي ولم يتعنَّ ويظهر هذا الوضوح والجلاء، ولا برهان على كلامه وقد وصدق الشاعر:
والدعاوى مالم تقيموا عليها بينات فأصحابها أدعياء(10/22)
ولكن ومع الأسف البرهان على عدم وجود هذا الوضوح والجلاء هو في نفس النص لأن النص كان بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع باعتراف التيجاني نفسه عند غدير خُم، ومعلوم أنه بعد حجة الوداع لم يرجع المسلمون كلهم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بل رجع أهل مكة إلى مكّتهم وأهل الطائف إلى الطائف وأهل اليمن إلى يمنهم فلم يرجع معه إلا أهل المدينة فلو كان ما ذكره في غدير خُم بلاغاً للناس كافّة لذكره في حجة الوداع التي اجتمع فيها المسلمون كافة، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة الإمامة بشيءٍ ولا ذكر علياً أصلاً، ومن هنا نعلم أن إمامة عليّ لم تكن وحياً منزلاً ولا منصوصاً عليها في دين الله عزوجل، ولا مما أُمر ببلاغها، فهذا الحديث ليس حُجّة على خلافته فضلاً عن وضوحه وجلائه!(10/23)
ج وبالنسبة لكلمة مولاه فلم يَرد بها الخلافة قطعاً ولا اللفظ يدل على ذلك لتعدّد معاني المولى ففي مختار الصحاح يقول الرازي المولى المُعتِقِ والمُعْتَقُ وابن العَمِّ والناصر والجار والحليف..... والموالاة ضد المعاداة وقال الوِلاية بالكسر السلطان و الوَِلايةُ بالفتح والكسر النصرة ، وقال فيروز أبادي الوَلْيُ: القرب والدنو، ... والوَلِيُّ: الاسم منه، والمحب والصديق، والنصير، وولي الشئ، وعليه وِلايَةً وَوَلايَةً أو هي المصدر وبالكسر: الخطة والإمارة والسلطان... والمَوْلَى: المالك، والعبد، والمُعْتِقُ، والمُعتَقُ، والصاحب، والابن، والعم، والنزيل، والشريك، وابن الأخت، والوَلِيُّ، والرب، والناصر، والمُنْعِمُ، والمُنْعَمُ عليه، والمحب والتابع، والصهر ، ومن هنا نعلم أن المولى جاءت بمعنى النصرة وغيرها من التعريفات السابقة فجعلها في معنى السلطان يحتاج إلى دليل واضح لإثبات ذلك، هذا بالاضافة لتعذر حمل المولى على الوالي يقول شيخ الإسلام وليس في الكلام ما يدل دلالة بيّنة على أن المراد به الخلافة. وذلك أن المولى كالولي، والله تعالى قال { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } وقال { وإن تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاهُ وجبريلُ وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرٌ } فبيّن أن الرسول وليّ المؤمنين، وأنهم مواليه أيضاً، كما بيّن أن الله ولي المؤمنين، وأنهم أولياؤهم، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فالموالاة ضد المعاداة، وهي تثبت من الطرفين، وإن كان أحد المتواليين أعظم قدرا، وولايته إحسان وتفضل، وولاية الآخر طاعة وعبادة، كما أن الله يحب المؤمنين، والمؤمنون يحبونه، فإن الموالاة ضد المعاداة والمحاربة والمخادعة، والكفّار لا يحبون الله ورسوله، ويحادّون الله ورسوله ويعادونه. وقد قال تعالى { لا تتخذوا عدوِّي وعدوَّكم أولياء } وهو يجازيهم على ذلك، كما قال تعالى { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب(10/24)
من الله ورسوله } وهو وليّ المؤمنين وهو مولاهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، وإذا كان كذلك فمعنى كون الله وليّ المؤمنين ومولاهم، وكون الرسول وليهم ومولاهم، وكون عليّ مولاهم، هي الموالاة التي هي ضد المعاداة، والمؤمنون يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة للمعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن، فعليّ رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولنه، وفي هذا الحديث إثبات موالاة عليّ في الباطن، والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطناً وظاهراً، وذلك يرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب، لكن ليس فيه أنه ليس للمؤمنين مولى غيره، فكيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم له موالي، وهم صالحو المؤمنين، فعليّ أيضاً له مولى بطريق الأوْلى والأحرى، وهم المؤمنون الذين يتولّنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أسلم وغفار ومُزينة وجهينة وقرشاً والأنصار ليس لهم مولى دون الله ورسوله، وجعلهم موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما جعل صالح المؤمنين مواليه والله ورسوله مولاهم، وفي الجملة فرق بين الوليّ والمولى ونحو ذلك وبين الوالي. فباب الولاية التي هي ضدّ العداوة شيء، وباب الولاية التي هي الإمارة شيء، والحديث إنما هو في الأولى دون الثانية، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: من كنت واليه فعليّ واليه. وإنما اللفظ من كنت مولاه فعليّ مولاه وأما كون المولى بمعنى الوالي، فهذا باطل، فإن الولاية تثبت من الطرفين، فإن المؤمنين أولياء الله وهو مولاهم، وأما كونه أوْلى بهم من أنفسهم، فلا يثبت إلا من طرفه صلى الله عليه وسلم ، وكونه أوْلى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوّته،ولو قُدّر أنه نصَّ على خليفة من بعده، لم يكن لم ذلك موجباً أن يكون أوْلى بكل مؤمن من نفسه، كما أنه لايكون أُزواجه أُمهاتهم، لو أريد هذا المعنى لقال: من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به نفسه وهذا لم يقله أحد، ولم ينقله أحد ومعناه باطل قطعاً(10/25)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بكل مؤمن من نفسه أمر ثابت في حياته ومماته، وخلافة عليّ لو قدر وجودها لم تكن إلا بعد موته، لم تكن في حياته، فلا يجوز أن يكون عليّ خليفة في زمنه، فلا يكون حينئذ أولى بكل مؤمن من نفسه، بل ولا يكون مولى أحد من المؤمنين إذا أريد به الخلافة، وهذا مما يدل على أنه لم يُرِد الخلافة، فإن كونه وليّ كل مؤمن وصف ثابت له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتأخّر حكمه إلى الموت، وأما الخلافة فلا يصير خليف إلا بعد الموت، فعلم أن هذا ليس هذا، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة، وإذا استخلف أحداً على بعض الأمور في حياته أو قُدّر أنه استخلف أحداً على بعض الأمور في حياته أو قُدّر أنه استخلف أحداً بعد موته وصار له خليفة بنص أو إجماع، فهو أولى بتلك الخلافة وبكل المؤمنين من أنفسهم، فلا يكون قط غيره أولى بكل مؤمن من نفسه، لا سيما في حياته. وأما كون عليّ مولى كل مؤمن فهو وصف ثابت لعليّ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، وبعد ممات عليّ، فعليّ اليوم مولى كل مؤمن، وليس اليوم متولّياً على الناس، وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياءً وأمواتاً .
4 وأما حجة الشيعي سبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص وهو إحدى المصادر التي عزى إليها الحديث قوله من أن علماء العربية قالوا أن لفظة الولى ترد على وجوه وذكر عشر معانٍ وهذا اعتراف منه بتعدد معنى المولى ثم رجّح المعنى العشر وهو بمعنى الأولى أي أولى المؤمنين بالإمامة، بحجّة أنّ المعاني الأخرى منتفية عن عليّ! وجعله نصاً صريحاً في إثبات إمامة عليّ فهذا الإدعاء حجة عليه لا له، لأنه لم يُظهر دليلاً بيناً واحداً على أن المولى بمعنى الأولى، فتحديدها بالأولى تحتاج لدلالة واضحة ونص ثابت ولا يوجد ما يدل على ذلك فبطل احتجاجه.(10/26)
وبعد هذا البيان يظهر بكل وضوح أن هذا الحديث الذي يستند عليه التيجاني يدحض ادعاءه أنه دليل على إمامة عليّ، فالأدلة على الخلافة لا تكون بأدلة ممجوجة وحجج مدحوضة، بل بأدلة واضحة الدلالة والبيان بحث تنتفي معها الشبهات والله المستعان وعليه التكلان.
5 وقال التيجاني والباحث في هذا الموضوع إذا تجرّد للحقيقة فإنه سيجد النص على عليّ بن أبي طالب واضح وجلي كقوله ص من كنت مولاه فهذا علي مولاه قال ذلك بعدما انصرف من حجة الوداع فعقد لعليّ موكب للتهنئة حتى أن أبا بكر نفسه وعمر كانا من جماعة المهنّئين للإمام يقولان: بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة . أقول:(10/27)
سبحان الله ما أكذب هؤلاء القوم وما أجرأهم على الكذب فهذا التيجاني يدّعي أن علياً قد عقد له موكب للتهنئة وكان في مقدمة المدعوّيين لهذا الحقل البهيج أبو بكر عمر ثم يعزو هذه الرواية المكذوبة إلى عدة مصادر، فلو رجعنا إلى مسند أحمد في الجزء السادس مسند البراء بن مالك حديث رقم 06 لوجدناه يذكر الحديث وفيه فلقيه عمر بعد ذلك فقال له: هنيئاً يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة ولم يذكر أبا بكر أبداً، وتجده أيضاً في كتاب تذكرة الخواص ص 36 وليس فيه ذكر لموكب التهنئة ولا لعمر فضلاً عن أبي بكر، وأورده السيوطي في الحاوي للفتاوي وفيه تهنئة عمر لعلي ولكن لا ذكر لأبي بكر أيضاً! وفي كتاب كنز العمال تجد الحديث في باب فضائل عليّ بن أبي طالب برقم 36340 والأرقام 36341 ، 36342 ، 36343 ، 36344 وفي جزء برقم 3204 ، 3205 ، 320، 32 ولا يوجد فيها ذكر لعمر ولا لأبي بكر فضلاً عن موكب التهنئة!! وذكر ابن كثير الحديث في كتابه البداية والنهاية بروايات مختلفة وكثيرة وليس فيها ذكر لموكب التهنئة ولا لأبي بكر؟! وسأضرب صفحاً عن بقية المراجع المذكورة لأن الذي ذكرته يغني ويكفي ولأن الحديث روي بروايات متقاربة وليس فيها ذكر لموكب التهنئة ولا لأبي بكر الصديق، وأظن أنه قد ظهر الكذب والافتراء على القرّاء بمحاولة تهويل الأمر وتحسينه، وزيادة إضافات له حسب متطلبات الكذب الرافضي، إضافة لمحاولة إقحام إسم أبي بكر في الحديث لا لشيء إلا للتدليس على القارئ المسكين الذي لا يستطيع البحث في هذه المراجع الكثيرة فيظن أن أبا بكر يعلم أحقية علي بن أبي طالب بالخلافة ولكنه اغتصب حقّه، ولكن أظن أنه قد ظهر الحق من الباطل، وظهر الكذّاب الأفاك من الصادق الأمين، والمنصف ممن يدعي الإنصاف. وبالنسبة للرواية التي فيها هذه الزيادة وهي أن عمر قال لعليّ بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة فهذا(10/28)
الشطر من الحديث لا يصح لتفرّد عليّ بن زيد بن جدعان فهو ضعيف عند أهل الحديث فإذا علمت ذلك فاعرف أن الحق مع الصديق وصاحبه، فلا حجة لهؤلاء الرافضة في هذا الحديث والحمد لله رب العالمين.
ثم يقول التيجاني أما الإجماع المدعى على انتخاب أبي بكر يوم السقيفة ثم مبايعته بعد ذلك في المسجد، فإنه دعوى بدون دليل، إذ كيف يكون الإجماع وقد تخلف عن البيعة عليّ والعباس وسائر بني هاشم كما تخلّف أسامة بن زيد والزبير وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وحذيقة بن اليمان وخزيمة بن ثابت وأبو بريدة الأسلمي والبراء بن عازب وأُبي بن كعب وسهل بن حنيف وسعد بن عبادة وقيس بن سعد وأبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وخالد بن سعيد وغير هؤلاء كثيرون. فأين الإجماع المزعوم ياعباد الله؟ على أنه لو كان علي بن أبي طالب وحده تخلّف عن البيعة لكان ذلك كافياً للطعن في ذلك الإجماع إذ أنه المرشح الوحيد للخلافة من قبل الرسول على فرض عدم وجود النص المباشر عليه ثم يعزو تخلُّف من ذكرهم عن بيعة أبي بكر إلى المصادر التالية الطبري، تاريخ ابن الأثير، تاريخ الخلفاء، تاريخ الخميس، الاستيعاب، وكل من ذكر بيعة أبي بكر !؟ ولم يشر إلى الجزء أو الصفحة في أي من المصادر السابقة!؟؟
فأقول:(10/29)
1 والله الذي رفع السماوات ووضع الأرض لو كان الكذب يتكلم لتبرّأ من هذا الكذّاب قبّحه الله وجزاه بما يستحق على كذبه ودجله، فلو راجعنا هذه المصادر لم نجد في أي منها ما ادّعاه من عدم مبايعة المذكورين للخليفة أبي بكر الصديق، فبالنسبة للمصدر الأول وهو تاريخ الطبري المجلد الثاني عنوان حديث السقيفة يسوق الطبري عدة روايات بعضها صحيح والبعض الآخر ضعيف، فذكر حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري وهو حديث طويل وفيه ... أن عمر بن الخطاب قام على المنبر يخطب الناس ليرد على من يقول: لو مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلاناً فذكر في جملة الحديث قصة السقيفة قوله وأنه كان من خبرنا حين توفّى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن علياً والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة، وتخلفت عنا الأنصار بأسرها، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم، فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدراً، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار.قالا: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم. فقلنا والله لنأتينهم، قال: فأتيناهم وهم مجتمعون في سقفة بني ساعدة. قال: وإذا بين أظهرهم رجل مُزَّمِّل، قال: قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، فقلت ما شأنه؟ قالوا: وجع، فقام رجل منهم فحمد الله، وقال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر قريش رهطُ نبينا، وقد دفّت إلينا من قومكم دافة، قال: فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر. وقد كنت زوّرت في نفسي مقالةً أقدمها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أداري منه بعض الحدّ، وكان هو أوقر مني وأحلم، فلما أردت أن أتكلم، قال: على رسلك فكرهت أن أعصيه، فقام فحمد الله وأثنى عليه، فما ترك شيئاً كنت زوّرت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت، إلا قد جاء به أو بأحسن منه. وقال: أما بعد يامعشر الأنصار، فإنكم لا تذكُرون(10/30)
منكم فضلاً إلا وأنتم له أهلٌ، وإنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش، وهم أوسط العرب داراً ونسباً، ولكن رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم. فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح. وإني والله ما كرهت من كلامه شيئاً غير هذه الكلمة، إن كنت لأقدَّم فتضرب عنقي فيما لا يقرّبني إلى إثم أحبُّ إليَّ من أن أؤمَّر على قوم فيهم أبو بكر. فلما قضى أبو بكر كلامه، قام منهم رجلٌ فقال: أنا جُذيلُها المُحك، وعُذيقُها المُرجَّب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، قال: فارتفعت الأصواتن وكثر اللغط، فلما أشفقت الاختلاف، قلت لأبي بكر: ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، وبايعه الأنصار... ثم ساق الطبري الأثر عن الوليد بن جميع الزهري قال: قال عمرو بن حريث لسعيد بن زيد أشهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، قال: فمتى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة . قال: فخالف عليه أحدٌ؟ قال: لا إلا مرتدٌّ أو من قد كاد أن يرتدّ، لولا أن الله عز وجلّ ينقذهم من الأنصار، قال: فهل قعد أحد من المهاجرين؟ قال: لا، تتابع المهاجرون على بيعته، من غير أن يدعوهم 1 ثم ساق رواية حبيب بن أبي ثابت قال: كان عليّ في بيته إذا أتي فقيل له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء، عجلاً، كراهية أن بيطئ عنها، حتى بايعه، ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه فأتاه فتجلله، ولزم مجلسه 1 ثم ساق الطبري بعد ذلك الحديث الذي أخرجه البخاري20 والذي ذكرته في مبحث ميراث فاطمة من مبايعة عليّ لأبي بكر بعد وفاة فاطمة21. وأخيراً ساق رواية أنس بن مالك22 في بيعة أبي بكر بيعة عامة بعد بيعة السقيفة ولم يذكر بعدها أي شيء آخر، وأما كتاب تاريخ ابن الأثير 23 فلا يوجد فيه ذكر لما ادعاه هذا الكذّاب بشأن تخلف المذكورين عن بيعة أبي بكر ففي باب(10/31)
حديث السقيفة وخلافة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ! ذكر حديث السقيفة ورواية مبايعة عليّ بن أبي طالب لأبي بكر في أول الأمر عند سماعه بالبيعة ثم قال ابن الأثير والصحيح أن أمير المؤمنين ما بايع إلا بعد ستة أشهر ثم حديث ابن عباس في خلافة عمر بن الخطاب وصعوده المنبر وذكره البيعة الذي سبق ذكره، ثم ذكر رواية أبو عمرة الأنصاري في اجتماع السقيفة الطويلة وخلاصتها اجتماع الناس على بيعة أبي بكر، وأثبت مبايعة عليّ وبني هاشم لأبي بكر بعد وفاة فاطمة، وقد بيّنت ضعف هذه الرواية ومخالفتها للرواية الصحيحة والواقع، فهذا هو ما ذكره ابن الأثير في تاريخه ولم يذكر أبداً ما ادعاه هذا المنصف! وأما بالنسبة لكتاب تاريخ الخلفاء المنسوب لابن قتيبة فحريّ أن لا نبحث فيه للشك في نسبته على أقل تقدير هذا أولاًوالكتب المعتمدة قد نقلنا قولهم ثانياً، وثالثاً لم يحدد التيجاني الصفحة لنرجع إليها، وأما تاريخ الخميس فلم أجده مع الأسف الشديد ولست أدري لعله من كتب الرافضة؟ وأما كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر فقد ساق فيه المؤلف من الأدلة على خلافته أكثر من أي مطبوع آخر24، فقد أورد رواية النّزّال بن سبرة عن عليّ قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر. وروى محمد ابن الحنيفية وعبد خير و ابو جحيفة عن عليّ مثله ، وكان عليّ رضي الله عنه يقول: سبق رسول لله صلى الله عليه وسلم ، وثنّى أبو بكر، وثلّث عمر، ثم حفتّنا فتنة يعفو الله فيها عمّن يشاء، وقال عبد خير: سمعتُ علياً يقول: رحم الله أبا بكر، كان أول من جمع بين اللوحين ، وروينا عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب من وجوه أنه قال: ولينا أبو بكر فخيرُ خليفة، أرحمه بنا وأحناه علينا. وقال مسروق: حبُّ أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة ، وساق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في طلبه أن يؤم الناس وذكر حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدوا(10/32)
بالذين من بعدي أبي بكر وعمر،واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد ثم قال ابن عبد البر ... وبويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه رسول اللهصلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، ثم بويع البيعة العامة يوم الثلاثاء من بعد ذلك اليوم، وتخلّف عن بيعته سعد ابن عبادة، وطائفة من الخزرج، وفرقة من قريش، ثم بايعوه بعد غير سعد. وقيل: إنه لم يتخلّف عن بيعته يومئذ أحدٌ من قريش، وقيل: إنه تخلّف عنه من قريش: علي، والزبير، وطلحة، وخالد بن سعيد بن العاص، ثم بايعوه بعد. وقد قيل: إن علياً لم يبايعه إلا بعد موت فاطمة، ثم لم يزل سامعاً مطيعاً له يُثني عليه ويفضّله ، وساق عن عبد الله بن مسعود كان رجوع الأنصار يوم سقيفة بني ساعدة بكلام قاله عمر بن الخطاب: أنشدتكم بالله، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأيكم تطيب نفسه أن يُزيله عن مقام أقامه فيه رسول اللهصلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: كلنا لا تطيب نفسه، ونستغفر الله وروى الحسن البصري عن قيس بن عبادة قال قال لي عليّ بن أبي طالب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض ليالي وأياماً ينادي بالصلاة فيقول: مروا أبا بكر يُصلي بالناس، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرت فإذا الصلاة عَلَم الإسلام، وقوام الدين، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، فبايعنا أبا بكر 25 فهذا الذي ذكره ابن عبد البر في كتابه فأقول لمن يبحث عن الحق الواضح من الكذب الفاضح، ماذا بعد الحق إلا الضلال، فهذه يا طالب الحق المراجع التي ساقها هذا التيجاني ليثبت تخلّف هؤلاء الصحابة عن بيعة أبي بكر والتي تجمع على بيعة المسلمين له بيعة السقيفة والبيعة العامة من جميع الناس، ولا يكتفي التيجاني بذلك فيقول بالهامش بعدما يذكر المراجع ... وكل من ذكر بيعة أبي بكر!؟ بل أقول لا يوجد كتاب يتعرض للبيعة إلا(10/33)
ويثبت صحة بيعته وبيعة الصحابة بالإضافة لعلي وبني هاشم بل وكتب الرافضة الاثني عشرية تثبت ذلك أيضاً.
2 ولو فرضنا جدلاً أن هؤلاء الصحابة المذكورون لم يبايعوا أبا بكر على الخلافة، فهذا أيضاً لا يقدح في البيعة لأنها لا تحتاج إلى إجماع كل الناس، ولكن يكفي موافقة أهل الشوكة والجمهور الذي يقام بهم أمر الخلافة، وهذا ما اتفق عليه أهل العلم، يقول النووي أما البيعة فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحّتها مبايعة كل الناس،ولا كل أهل الحل والعقد، وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء والرؤساء ووجوه الناس 26، وقال المازري العذر لعلي في تخلّفه مع ما اعتذر هو به أنه يكفي في بيعة الإمام أن يقع من أهل الحل والعقد ولا يجب الاستيعاب، ولا يلزم من كل احد أن يحضر عنده ويضع يده في يده، بل يكفي التزام طاعته والانقياد له بأن لا يخالفه ولا يشقّ العصا عليه، وهذا كان حال عليّ لم يقع منه إلا التأخر عن الحضور عند أبي بكر، وقد ذكرت سبب ذلك 27. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه لا يشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور الذين يقام بهم الأمر، بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة 2، بل وهذا علي نفسه يقول بما ذكره عنه الشريف الرضى في كتابه الحجة للإمامية نهج البلاغة لعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى يحضرها عامَّة الناس فما إلى ذلك سبيل !!، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، وليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار 2! فانظر أيها القارئ للحق الواضح وإلى كذب التيجاني الناضح!... والسبب في اتفاق العلماء على ذلك لأنه لو اعتبر تخلّف الواحد أو الاثنين أو الفئة القليلة من الناس قدح في الإجماع فلن نستطيع أن نثبت إجماعاً أبداً لأنه قد يتخلّف الإنسان لهوى في نفسه أو لسبب غير مسوّغ، أو لأي أمر آخر، فإذا كان الأمر كذلك فكيف سنجمع على إمام بعينه؟! ويجب أن يقال أيضاً أن إجماع الأمة على خلافة أبي بكر كا(10/34)
أعظم من إجتماعهم على مبايعة عليّ، فإن ثلث الأمة أو أقل أو أكثر لم يبايعوا علياً بل قاتلوه، والثلث الآخر لم يقاتلوا معه، وفيهم من لم يبايعه أيضاً، والذين لم يبايعوه منهم من قاتلهم، ومنهم من لم يقاتلهم، فإن جاز القدح في الإمامة بتخلف بعض الأمة عن البيعة، كان القدح في إمامة عليّ أولى بكثير. وإن قيل: جمهور الأمة لم تقاتله أو قيل بايعه أهل الشوكة والجمهور ونحو ذلك كان هذا في حق أبي بكر أوْلى وأحرى 30 وإن ادعى هذا التيجاني بأنّ النص على عليّ بالخلافة ظاهر، فأقول له أدلتك قد أثبتُّ أنها ليست حجة بالإضافة إلى أن الأد لّة على خلافة أبي بكر أصح وأقوى وأعظم من أن تنكر31، وعلى ذلك يظهر لدينا تهافت قول التيجاني على أنه لو كان عليّ وحده تخلّف عن البيعة لكان ذلك كافياً للطعن في ذلك الإجماع فرحم الله الإجماع وأهله!؟
ثم يتابع فيقول وإنما كانت بيعة أبي بكر من غير مشورة بل وقعت على حين غفلة من الناس وخصوصا أولي الحل والعقد منهم كما يسميهم علماء المسلمين إذ كانوا مشغولين بتجهيز الرسول ودفنه، وقد فوجئ سكان المدينة المنكوبة بموت نبيهم وحُمل الناس على البيعة بعد ذلك قهراً. كما يشعرنا بذلك تهديدهم بحرق بيت فاطمة إن لم يخرج المتخلّفون عن البيعة فكيف يجوز لنا بعد هذا أن نقول بأن البيعة كانت بالمشورة وبالإجماع 32؟ فأقول وبالله التوفيق:
1 إذا كانت بيعة أبي بكر وقعت من غير مشورة وعلى حين غفلة من المسلمين فكيف يوفّق التيجاني بين قوله هذا وقوله قبلاً أن بعضاً من الصحابة قد تخلّفوا عن البيعة؟! فهل كان المسلمون هم الفئة القليلة؟! ثم يقول أن البيعة وقعت من غير مشورة من المسلمين، فكيف حدث ذلك وقد أثبتنا من مصادر التيجاني أنها وقعت عن مشورة من المسلمين، وبويع أبو بكر في السقيفة وفي البيعة العامة من الناس؟!
2 يقول وقد فوجئ سكان المدينة المنكوبة بموت نبيهم وحملوا الناس على البيعة بعد ذلك قهراً ؟!؟(10/35)
سبحان الله... من حمل سكان المدينة على البيعة قهراً؟ أبو بكر وعمر!؟ فكيف قهروهم؟ فهل قاتلت معهما الملائكة؟ أم ساندتهم قطاعات الحرس الجمهوري أم سرايا الدفاع؟ ... أم حرس الثورة؟؟! يا الله عليّ بن أبي طالب المنصوص عليه بالخلافة بالنص الواضح الجلي، وأهل الحل والعقد والوجهاء، وسكان المدينة لم يستطيعوا إيقاف بيعة أبي بكر بمساندة القلّة القليلة التي معه، ومع ذلك استطاع أن يصبح الخليفة رغم معارضة الأمة له؟ فوالله لو كان الجهل قطاً لأطلقت عليه كلباً!! فما هذا الوَضَر الذي يخرجه قلم هذا العبقري، والذي لا يستند على دليل معقول فضلاً عن المنقول، فمبايعة الأمة للخليفة أبي بكر أكبر من أن تنكر.
فهل يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل؟
فهاهم الشيعة الاثني عشرية يؤكدون هذه الحقيقة ولا يستطيعون إنكارها، فهذا إمام الشيعة الاثني عشرية الحسن بن موسى النوبختي يؤكد ذلك في كتابه فرق الشيعة فيقول ... فصار مع أبي بكر السواد الأعظم والجمهور الأكثر فلبثوا معه ومع عمر مجتمعين عليهما راضين بهما 33 وهذا إبراهيم الثقفي أحد كبار الشيعة الاثني عشرية يورد قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في جزء من رسالة له لأصحابه ... فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر وإجفالهم إليه ليبايعوه..34 ثم يشرح محقق الكتاب انثيال الناس أي انصبابهم من كل وجه كما ينثال التراب، على أبي بكر! ويقول قال المجلسي: الإجفال: الإسراع 35! وأما ابن مطهر الحلي فلم يستطع هو الآخر أن ينكر هذه الحقيقة فلجأ إلى الهذيان فقال وبايعه أكثر الناس طالباً للدنيا 36!! ثم يأتي المهتدي بعد كل ذلك ليكتشف ما غاب عن السنة والشيعة الرافضة ، وهو أن أبا بكر وعمر حملوا الناس على البيعة قهراً!؟ ليضيف الدلائل تلو الدلائل على هدايته، فأرجوه أن يتوقف عن ذلك فإنني أخشى أن أُروَّعْ بانثيال الناس وإجفالهم إليه ليبايعوه على الهداية!!!؟(10/36)
3 أما قوله عن حرق بيت فاطمة فقد أجبت عنه فيما سبق37.
4 ثم يقول وقد شهد عمر بن الخطاب نفسه بأن تلك البيعة كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها، وقال فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، أو قال فمن دعا إلى مثلها فلا بيعة له ولا لمن بايعه 3، فأقول:
لم ترد الرواية عن عمر بهذا السياق لا في البخاري ولا في غيره، بل وردت في حديث طويل رواه ابن عباس من أن عمر قام خطيباً في المدينة ليرد شبهة أثارها فلان من الناس وكان مما قال ... ثم لإنه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول والله لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن وقى شَرَّها، وليس فيكم من تُقطعُ الأعناقُ إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعهُ تغَّرةً أن يُقتلا 3 ومعنى قول عمر أنها كانت فلته أي فجأة دون استعداد لها، وهكذا وقعت بيعة أبي بكر فجأة من دون أن يستعدوا أو يتهيأوا لها فوقى الله شرها، أي فتنتها، وعلل لذلك بقوله مباشرة وليس فيكم من تُقطعُ الأعناق إليه مثل أبي بكر أي ليس فيكم من يصل إلى منزلة أبي بكر وفضله، فالأدلة عليه واضحة، واجتماع الناس إليه لا يحوزها أحد، يقول الخطابي يريد أن السابق منكم الذي لايلحق في الفضل لا يصل إلى منزلة أبي بكر، فلا يطمع أحد أن يقع له مثل ما وقع لأبي بكر من المبايعة له أولاً في الملأ اليسير ثم اجتماع الناس عليه وعدم اختلافهم عليه لما تحققوا من استحقاقه، فلم يحتاجوا في أمره إلى نظر ولا إلى مشاورة أخرى، وليس غيره في ذلك مثله 40 وبالطبع كان سبب قول عمر هذا لأنه علم أنّ أحدهم قد قال لو مات عمر لبايعت فلاناً أي يريد أن يفعل كما حدث لأبي بكر، ويتعذّر بل يستحيل أن يجتمع الناس على رجل كاجتماعهم على أبي بكر فمن أراد أن ينفرد بالبيعة دون ملأ من المسلمين فسيعرّض نفسه للقتل، وهذا هو معنى قول عمر تغرةً أن(10/37)
يقتلا ، أي من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرّضهما للقتل 41 وهنا يظهر معنى ما أراده عمر في هذا القضية، والتيجاني نقل نقلاً مبتوراً عن عمر وذلك لعدم نقله سبب قوله ذاك، فإذا عرف السبب بطلت الحجّة التي يستند عليها هذا التيجاني، بل وانقلبت عليه لأن عمر عندما ذكر ذلك أراد إظهار الفضيلة والسبق لأبي بكر، وهي اجتماع الناس عليه وانثيالهم إليه، وهذا ما حدث والتاريخ يشهد على ذلك، فمن ظنّ أنّ قول عمر منقصة لأبي بكر فليعلم أن هذا بسبب نقصان فهمه ليس إلا!!
ثم يقول كذباً أن علياً قال في حق الخلافة أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وأنه ليعلم أن محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير 42 قلت:
1 نحن نجلّ علياً من أن يقول هذا الكلام في حق أبي بكر أو يدعي لنفسه الخلافة، لأنّ أبا بكر لا يتقمص ما ليس من حقه، ولو كان علي محلّه من الخلافة محل القطب من الرحى لما بايعه باتفاق السنة والشيعة.
2 لو فرضنا جدلاً أن علياً قال ذلك فليس فيه أي قدحٍ في أبي بكر، بل القدح في عليّ أظهر منه في أبي بكر، لأننا قد بينا أن الاجماع قد انعقد لأبي بكر دون إكراه لأحد، فالأنصار والمهاجرون وبمن فيهم بنوهاشم بايعوا دون إكراه ولا قهر، فلم يكن هذا تقمصاً من أبي بكر، وأما الإدعاء بأن علياً قال أنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، فأقول حاشى لأبي بكر أن يتقدم أحداً ثبت بالنص أنه الخليفة، فلو كانت الخلافة من حق عليٍّ لبايعه الناس دون أبي بكر، فإذا علم ذلك علمنا أن الذي محلّه من الخلافة محلّ القطب من الرحى هو أبو بكر وقد كان، واما الأدلة التي يقال أنها تثبت الخلافة لعليّ فهي أوهى من بيت العنكبوت فلا تقف في وجه الأدلة على أحقيّة أبي بكر.(10/38)
3 ثبت بالدليل الواضح مبايعة عليّ بن أبي طالب لأبي بكر بالخلافة سواءٌ في بداية المبايعة أم بعدها بستة أشهر، فكيف يقال أن علياً قال ما قاله فيما يسمّى بالخطبة الشقشقية، فإن قلنا أنه بايع والكلام مكذوب عليه كان كلامناحقاً، ولو قالوا أي الرافضة بل بايع تقيّةً، قلنا حاشا علي أن يكون الحق معه بالنص الواضح والجلي ثم يتنازل عنه لأي أحد وأن يتظاهر بالموافقة على بيعة أبي بكر فهذا عين النفاق والجبن ونحن نعيذ علياً بالله من ذلك.
4 كتاب نهج البلاغة ليس حجة على أهل السنة، فيعارضه ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة43 الذي يثبت مبايعة عليّ لأبي بكر مع اعترافه بالفضل والأحقية.
5 هل قرأ هذا التيجاني المهتدي المنصف كتاب نهج البلاغة كلّه أم اختار فقرات معيّنة لنقلها في كتابه مثبتاً بها ادعاءه؟ ولو راجعنا رسائل علي لوجدنا بها ما يضاد ما نقله التيجاني44 ففي إحدى رسائله إلى معاوية التي يحتج بها على أحقيته بالخلافة والبيعة بقوله إنَّهُ بايَعَني القومُ الذين بايعوا أبا بَكر، وعمر، وعثمان، على ما بايعوهُم عليه، فلم يكُن لشاهد أن يَختار، ولا للغائب أن يَرُدَّ، وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإنِ اجتمعوا على رجُلٍ، وسَمُّوْهُ إماماً، كانَ ذلك لله رِضي، فإن خرج من أمرِهِم خارجٌ بِطَعْنٍ، أو بِدعةٍ، رَدُّوه إلى ما خَرَجَ منه، فإنْ أبَى قاتلوهُ على اتِّباعهِ غير سبيل المؤمنين، وولَّاه الله ما تولَّى 45.(10/39)
سبحان ربي... كيف يتوافق قول علي لقد تقمَّصها ابن أبي قحافة مع قوله هنا لقد بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان فكيف يكون أبو بكر متقمِّصاً وبنفس الوقت يحتج بها عليّ على صحة خلافته، وكيف يتفق قوله إنه لا يعلم محلي منها محل القطب من الرحى مع قوله فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد !! إضافةً لقوله إنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل، وسموه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن، أو بدعة، ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين !!! فأقول لأولي النهى والعقول أيوجد تناقض أهزل من هذا؟! أليس ذلك أعظم دليل على أن كتاب نهج البلاغة ليس كله لعليّ بن أبي طالب، بل أكثره منسوب له، فعلي ينصح بعدم التناقض، فكيف يقع بهذه التناقضات الفاضحات؟ ومن هنا نعلم أن واضع هذه الترَّهات التي ينسبها كذباً وزوراً لعليّ هو جامع النهج إمام الرافضة الشريف الرِّضى، ومن رسالة عليّ لمعاوية السابقة نكتشف أن أبا بكر لم تكن مبايعته قهراً وإنما بمبايعة المهاجرين والأنصار بالشورى، فإذا عرفت ذلك أخي القارئ فاتبع الحق تسلم!
ثم يقول أن سعد بن عبادة هاجم أبا بكر وعمر وحاول منعهما من الخلافة وأنه لولا مرضه لقاومهم وقاتلهم إلى آخر هذا الهراء46 فأجيب:
1 أن هذه الرواية لو كانت صحيحة لكانت قدحاً في سعد وليست مكرمة له، ولكنَّ هذا الفعل والقول في الرواية أجلّ من أن يصدر عن صحابي كأمثال سعد بن عبادة سيد الأنصار.
2 مجرد النقل من كتاب تاريخ الخلفاء المنسوب لابن قتيبة لا يعده صحيحاً.(10/40)
3 أنا لن أرد على كذب الرواية بالأدلة والحجج السنِّية، بل سأرد بما تحتجُّونَ به أنتم وهو احتجاجُ عليّ السابق على معاوية في كتابكم المهم نهج البلاغة، فقد قال عليّ أن أبابكر بايعه المهاجرون والأنصار، والشورى لهم، وقال أيضاً فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، وعلى فرض صدور ما ادعاه التيجاني على سعد، فأيُّ مدحٍ أو حجة على مهاجمة سعد لأبي بكر وعمر؟ وقد بايعه المهاجرون والأنصار! فهل عمل سعد هذا يبطل شورى المهاجرين والأنصار؟! وهل إذا خرج عليهم بطعنٍ، يريد قتالهم يكون فعله حقاً؟! أم يجب أن يرد عن ذلك ويقاتل على اتباعه غير سبيل المؤمنين؟!! فأقول للتيجاني: إن عارضت ذلك فيلزمك رد أهم كتاب تحتجون به على أعدائكم، وهذا خيرٌ لنا نحن أهل السنة، لأنكم تثبتون أن كتبكم هذه ما هي إلا أكاذيب على عليّ وأهل بيته، وإن قلت أن قول عليّ صحيح فيلزمك هذا أمرين، أما تعترف أن قول وعمل سعد مخالف للحق ولشورى المؤمنين وتكون قد رددت على قولك في حق أبي بكر رضي الله عنه، وإما تقرّ بأن ما روي عن سعد كذب عليه، والرواية هذه عنه باطلة، فيكون هذا الاعتراف خير دليل على أن كتاب تاريخ الخلفاء ما روي فيه باطل ولا يقوم على حجة سواءٌ من حيث السند أو المتن، ويلزمك ذلك أيضاً أن ترد الروايات المنسوبة كذباً على لسان فاطمة رضي الله عنها في حق أبو بكر وعمر، وأظن أن هذا إقرار عفوي وغير مقصود ! من التيجاني المهتدي بأن كتاب تاريخ الخلفاء أو الإمامة والسياسة منسوب لابن قتيبة، وبعد ذلك أقول للتيجاني فأي القولين تنصف يا منصف؟! وهنا يحق لي وبعد ما فنّدت حجج هذا التيجاني في حق أبي بكر أن أقول:
إذا عرفنا أن قول عمر بن الخطاب في أن بيعة أبي بكر كانت فلتة هو مدح لا ذماً.
وإذا عرفنا أن علياً اعترف بأن أبا بكر قد بايعه المهاجرون والأنصار بالشورى الملزمة فكانت من الله رضى.(10/41)
وإذا كانت بيعة أبي بكر حقاً بالإجماع والشورى عرفنا أن القول المنسوب لسعد بن عبادة في حق أبي بكر باطل.
وإذا عرفنا أن هذه البيعة كانت بمبايعة جميع الصحابة بما فيهم عليّ وبنو هاشم وذلك باتفاق أهل التاريخ كالطبري وابن الأثير والاستيعاب وكل من ذكر بيعة أبي بكر بما فيها كتاب نهج البلاغة ! نعلم أن الحجة ظاهرة وبيّنة على صحة خلافة أبي بكر، وأستطيع الآن الإجابة على سؤال التيجاني.... فما هي الحجة على صحة خلافة أبي بكر؟ فأقول الحجة ظهرت عند أهل السنة والجماعة وبانت بالأدلة الواضحة عند أهل الفتنة والشناعة؟!
خامساً ادعاؤه أن علياً أولى من أبي بكر بالاتباع والرد عليه في ذلك:
يقول التيجاني تحت عنوان علي أولى بالاتباع ومن الأسباب التي دعتني للاستبصار وترك سنة الآباء والأجداد، الموازنة العقلية والنقلية بين عليّ بن أبي طالب وأبي بكر. وكما ذكرت في الأبواب السابقة من هذا البحث إني أعتمد على الإجماع الذي يوافق عليه أهل السنة والشيعة. وقد فتشّت في كتب الفريقين فلم أجد إجماعاً إلاّ على عليّ بن أبي طالب فقد أجمع على إمامته الشيعة والسنة في ما ورد من نصوص ثبتتها مصادر الطرفين، بينما لا يقول بإمامة أبي بكر إلا فريق من المسلمين وقد كنّا ذكرنا ما قاله عمر عن بيعة أبي بكر أقول:(10/42)
1 يبدو أن الجهل تجاوز بالتيجاني درجات! فإذا كان أهل السنة والجماعة قد أجمعوا مع الشيعة على إمامة عليّ فيما ورد من نصوص على زعمه، فلماذا سوّد كل هذه الصفحات لإثبات إمامة عليّ؟ وما هو الخلاف بين الطرفين إذا كانوا متفقين على إمامة عليّ؟! وكيف يحصل الإجماع على عليّ والتاريخ يشهد أن الإجماع قد ثبت على إمامة أبي بكر بل لا يوجد أصلاً إجماع على إمامة عليّ لا من مصادر السنة ولا من مصادر الشيعة الرافضة ، مع ما يكتنف دين الرافضة من تناقض وكذب وخرافات، ثم أقول لهذا المهتدي إذا كان عندك مصدر واحد من مصادر أهل السنة يجمع على إمامة عليّ بن أبي طالب، فأرجو أن تفحمنا وتدلنا عليه، وإن لم تستطع ذلك فاعلم أنك من أصحاب الكذب الرخيص.
2 ثم يقول بينما لا يقول بإمامة أبي بكر إلا فريق من المسلمين قلت: ومع ذلك أصبح الخليفة الأول ودانت له جموع المسلمين راضين به، منقادين له؟! وأما بالنسبة لقول عمر عن البيعة فقد بينّاه سابقاً.
ثم يقول بما أنّ الكثير من الفضائل والمناقب التي يذكرها الشيعة في علي بن أبي طالب لها سند ووجود حقيقي وثابت في كتب أهل السنة المعتمدة عندهم، ومن عدة طرق لا يتطّرق إليها الشك أقول:
1 سنرى بإذن الله وسيرى القارئ الروايات التي يحتج بها الرافضة ويتطلع على أسانيدها وعلى مدى صحتها ليعلم القول الثابت من التقول الزائف.
2 أما أنها مروية من عدة طرق لا يتطرق إليها الشك فهذا عجب من القول لأنه يعني أنها متواترة فهل كل الأحاديث التي رُوِيَت في علي وصلت إلى درجة التواتر؟ سنرى ذلك! أقول ذلك مع أنني لو حلفت بين الركن والمقام أن هذا التيجاني يهرف بما لا يعرف ويجهل أبسط أصول علم الحديث لن أحنث؟!(10/43)
ثم يتابع فيقول فقد يروي الحديث في فضائل الإمام علي جمع غفير من الصحابة، حتى قال أحمد بن حنبل : ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله ص من الفضائل كما جاء لعلي بن أبي طالب. وقال القاضي إسماعيل والنسائي وأبو علي النيسابوري : لم يرد في حقّ أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما جاء في علي ، قلت:
1 ليس المقصود كثرة الروايات في فضائل علي، بل كثرة الرواة وبتالي كثرة المسانيد، بمعنى أن الرواة أكثروا الرواية في مناقب علي الصحيح منها والمكذوب وأصبح للرواية الواحدة أسانيد كثيرة، كرواية من كنت مولاه فعلي مولاه فلها طرق كثيرة جداً مع أنها رواية واحدة، وسبب ذلك يرجع إلى تأخر وفاة علي وما جرى في وقته من الأحداث والفتن العظيمة، وكثرة الطعون التي تعرض لها لذلك يقول ابن حجر قال أحمد وإسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في علي وكأن السبب في ذلك أنه تأخر، ووقع الاختلاف في زمانه وخروج من خرج عليه، فكان ذلك سبباً لانتشار مناقبه من كثرة من كان بينها من الصحابة رداً على من خالفه .(10/44)
2 إضافة إلى ما سبق فليس كل ما روي في فضائل علي فهو صحيح، يقول الذهبي في تلخيص الموضوعات: لم يرو لأحد من الصحابة في الفضائل أكثر مما روي لعلي رضي الله عنه، وهي على ثلاثة أقسام: صحاح وحسان، وقسم ضعاف، وفيها كثرة، وقسم موضوعات وهي كثيرة إلى الغاية ولعل بعضها ضلال وزندقة أه، فليس كل ما روي في فضائل علي صحيح، بل قد وضع الكذّابون في فضائله الشيء الكثير، وهذا ما يؤكده الإمامية فيقول ابن أبي الحديد الشيعي إن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة !، فانهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلقة في صاحبهم حملهم على وضعها عداوة خصومهم ، ويقر بذلك الكشي حين يورد في كتابه رجال الكشي عن أبي مسكان عمن حدثه من أصحابنا عن أبي عبد الله ع قال: سمعته يقول لعن الله المغيرة بن سعيد إنه كان يكذب على أبي فأذاقه الله حر الحديد ، وأورد عن يونس قال وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر ع ووجدت أصحاب أبي عبد الله متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا ع فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله ع وقال لي: إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله ع لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله ع ، فهل يشك شاك بعد ذلك بأن الكثير من فضائل علي كذب من جهة من يزعمون أنهم من شيعته! ومن كتبكم نحاججكم.(10/45)
3 يحاول التيجاني إيهام القارئ أن الإمام أحمد يرى أفضلية علي على أبي بكر وعمر، ولكن الحقيقة أن الإمام أحمد يرى أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها هو أبو بكر وعمر يقول الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول: أما التفضيل فأقول: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وقال سألت أبي رحمه الله عن التفضيل بين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم، فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي الرابع من الخلفاء، قلت لأبي: إن قوماً يقولون إنه ليس بخليفة قال: هذا قول سوء ردئ وفي مسائل ابن هانئ قال سمعت أبا عبد الله يقول في التفضيل: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ولو أن رجلاً قال علي لم أعنفه ، ثم سأله ابنه عن الخلافة سألت أبي عن الأئمة فقال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي في الخلفاء فهذا هو قول أحمد في التفضيل والخلافة.
ثم يقول أما بالنسبة لأبي بكر فقد فتّشت أيضاً في كتب الفريقين فلم أجد له في كتب أهل السنة والجماعة القائلين بتفضيله ما يوازي أو يعادل فضائل الإمام عليّ ، أقول:(10/46)
أما تفتيش التيجاني فلا يعتمد عليه لأنني واثق وثوق الشمس أنه غير منصف مهما ادّعى الإنصاف، إضافةً إلى أنه لا يفرّق بين الحديث المتواتر والحديث الموضوع!! ثم إنني لست أدري لماذا يناقض الدكتور التيجاني نفسه مرّات ومرّات، فهو قد ذكر قبل قليل قوله فقد أجمع على إمامته أي عليّ الشيعة والسنة في ما ورد من نصوص أثبتتها مصادرالطرفين إنظر؟ بينما لا يقول بإمامة أبي بكر إلا فريق من المسلمين هل نظرت أخي القارئ؟! ثم انظره هنا ماذا يقول أما بالنسبة لأبي بكر فقد فتشت أيضاً في كتب الفرقين فلم أجد له في كتب أهل السنة والجماعة القائلين بتفضيله !؟ وتفضيل أهل السنة له يعني إمامته ما يوازي أو يعادل فضائل عليّ فأقول للتيجاني أي الفريقين تختار؟ أهل السنة الذين أجمعوا على خلافة عليّ؟! أم أهل السنة القائلين بتفضيل أبي بكر؟؟ لذلك أود أن أقدم لك نصيحة غالية، أرجوا منك أن تأخذها مأخذ الإعتبار وهي عندما تقوم بطبع هذا الكتاب مرة أخرى الرجاء أن تصحح تخصصك فتكتب على الغلاف ثم اهتديت... تأليف الدكتور محمد التيجاني السماوي... دكتوراة في علم المتناقضات؟!
ثم يقول ورغم أن أبا بكر كان هو الخليفة الأول وله من النفوذ ما قد عرفنا ورغم أنَّ الدولة الأموية كانت تجعل عطاءً خاصاً ورشوة لكل من يروي في حق أبي بكر وعمر وعثمان ورغم أنَّها اختلقت لأبي بكر من الفضائل والمناقب الكثير مما سُوّدت بها صفحات الكتب، مع ذلك فلم يبلغ معشار عشر حقائق الإمام عليّ وفضائله . أقول:(10/47)
ألا لعنة الله على الكاذبين، فكيف عرف هذا الشانئ الكذاب أن الدولة الأموية كانت تجعل عطاءً خاصاً ورشوة لمن يروي في حق أبي بكر وعمر وعثمان، ولماذا لم تُحَلْ أكاذيبه هذه المرة إلى الطبري والكامل وغيرها من كتب التاريخ حتى يثبت صحة ما يقول أم يريد أن يدلل على حقده وتجنيه على العظماء باختلاق الأكاذيب التي لا تنطلي على الأطفال فضلاً على الكبار، ثم ألا يعلم، أن الذي روى الأحاديث في فضائل عليّ بزعمه هم الصحابة أيضاً؟ فقوله هذا طعن مبطن للصحابة الكبار من رواة الأحاديث في أنهم يروون الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم فهل القرآن الذي جاءنا عن طريق الصحابة هو مكذوب أيضاً؟ والقرآن الذي جاءنا عن طريق أولاد ابن سبأ اليهودي هو المحفوظ؟ فقاتل الله الرافضة ومن شايعهم في طعنهم على خير القرون ممن صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم فأي طعن في نبيّنا أكثر من ذلك؟ فأصحابه ظالمون مغتصبون منافقون جبناء وهنا كذابون مرتشون يختلقون الكذب على من صحبوه من أجل بعض العطاءات والرشاوي!! ورحم الله الإمام مالك حين قال هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان له أصحاب صالحون .
فلِينظرمن يريد الحق إلى ما يدعيه هؤلاء الرافضة ليستنتج من ذلك حقيقتهم وأنهم لا يعدون إلا أن يكونوا من أولاد عبد الله بن سبأ اليهودي الذين لا يريدون إلا تدمير الإسلام وأهله فيدعون بالكذب والزور حب آل البيت الكرام وهم منهم براء كبراءة الذئب من دم يوسف.
ثم يضيف هذا المهترئ فيقول أضف إلى ذلك أنّك إذا حلّلت الأحاديث المروية في فضائل أبي بكر وجدتها لا تتماشى مع ما سجّله له التاريخ من أعمال تناقض ما قيل فيه ولا يقبلها عقل ولا شرع !!(10/48)
انظر أخي القارئ إلى من لا عقل له ولا فقه يريد أن يخالف الأصول المعلومة... يريد أن يحلل الأحاديث المروية في فضائل أبي بكر لا أن يبحث في سندها أو متنها بل يريد أن يحللها بماذا؟ بعقله أو قُل بتجرده وإنصافه، فيحلل أحاديث فضائل أبي بكر، وهو يقول الأحاديث. وليس حديثاً واحداً وأل تفيد الاستغراق أي كل أحاديث فضائل أبي بكر، فأتساءل يا ترى هل يريد أن يغرسها في التربة القابلة للزراعة ليرى هل ستنمو أم لا ليعلم مدى صحتها أو لعله سيقوم بنقعها في محلول الكذب ويضع عليها ثاني أكسيد الدجل؟! لينظر ماذا يكتشف.
ثم يقول وقد تقدم شرح ذلك في حديث لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أمتي لرجح إيمان أبي بكر ولو كان يعلم رسول الله أن أبا بكر على هذه الدرجة من الإيمان ما كان ليؤّمر عليه أسامة بن زيد ولا ليمتنع من الشهادة له كما شهد على شهداء أحد وقال له إني لا أدري ماذا تحدث من بعدي حتى بكى أبو بكر 1.
أقول: لقد أجبت عن هذه الحجج في غير ما موضع من هذا الكتاب فلتراجع. مع الإشارة إلى أنه لم يشرح الأحاديث كما يزعم هنا بل يحلل! ويحرم؟، إضافة لتحريفه المتكرر للحديث فهنا يقول وقال له إني لا أدري ما تحدث بعدي مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لا أدري ما تحدثون بعدي بصيغة الجمع، ولكن أقول الطبع يغلب التطبع!
ثم يقول ولا أن يُرسل خلفه علي بن أبي طالب ليأخذ منه سورة براءة فيمنعه من تبليغها 1.(10/49)
أقول: هذا من الكذب الرخيص لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع أبا بكر من تبليغها كما يزعم هذا التيجاني ولم يذكر في أي حديث مثل ذلك، ومعلوم بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمّر أبا بكر على الحج عام تسع فقد أخرج الطبري وإسحق في مسنده النسائي والدارمي كلاهما عنه وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق ابن جريج حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه حتى إذا كدنا بالعرج ثوّب الصبح، فسمع رغوة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا علي عليها، فقال له: أمير أو رسول؟ فقال: بل أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس، فقدمنا مكة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قدم أبو بكر فخطب الناس بمناسكهم، حتى إذا فرغ قام عليّ فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم كان يوم النحر كذلك، ثم يوم النفر كذلك 20.
فكان أبو بكر ينادي: أن لا يحج بعد العام المشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ويأمر أصحابه بذلك ويعضده ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة قال بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحَجَّة في المؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنىَ أن لا يحُجَّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميدٌ: ثمَّ أردفَ النبي صلى الله عليه وسلم بعليّ بنأبي طالب فأمرهُ أن يؤذن ببراءة . قال أبو هريرة فأذن معنا عليٌّ في أهل منىَ يوم النَّحر ببراءة، وأن لا يحجَّ بعد العام مشركٌ ولا يطوف بالبيت عريان21 أقول:
وأما إرداف عليّ فلأنه لا يبلّغ هذا الأمر إلا النبي أو أحد من أهل بيته، لما أخرجه الطبراني عن أبي رافع في جزء منه فأتاه فقال إنه لن يؤديها عنك إلا أنت أو رجل منك 22، فإرسال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي كان لهذا السبب وليس لمنع أبي بكر وهو الذي استخلفه على الحج وكان علي من جملة أصحابه.(10/50)
أما قوله ولا أن يقول يوم إعطاء الراية في خيبر: لأعطين رايتي غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله كرّاراً ليس فرّاراً امتحن الله قلبه بالإيمان، فأعطاهاإلى عليّ ولم يعطها إليه 23 ثم يعزو الرواية إلى صحيح مسلم.
أقول: لم أجد هذا الحديث بهذا اللفظ في مسلم، وإنما الذي ورد في صحيح مسلم هو ما رواه أبو هريرة ! أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر لأعطيّن هذه الراية رجلاً يُحبُ الله ورسوله. يفتح الله على يده. قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ، قال: فتساورت لها رجاء أن أُدعى لها، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب فأعطاه إياها.وقال: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك. قال: فسار عليٌّ ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله، على ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمد رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم، إلا بحقّها، وحسابهم على الله 24 ففي هذا الحديث الإخبار عن فضائل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وليس في الحديث تنقيص لأبي بكر البتّه، ولم تكن الراية مع أبي بكر حتى يعطيها لعلي ولا يعطيها لأبي بكر، وليس من المعقول أنْ يُخصّ أبا بكر وحده بالفضل دون جميع الصحابة ويحوز كل الإمتيازات وبقية الصحابة لا فضل لهم، حتى لو أعطيت فضيلة لأحد غيره أصبحت هذه مذمّة له!؟ وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله لاشك أن هذا من فضائل عليّ، ولكن لا يقول عاقل أن هذا مختص بعلي وحده أي لأنه يحب الله ورسوله وحده ولا يشاركه أحد من الصحابة في ذلك، بل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لعبد الله بن حمار وقد جاء ليحد على شربه للخمر أكثر من مرة، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنوه، فولله ما علمت إلا أنه يُحب الله(10/51)
ورسوله 25 فهل يقول عاقل أنها تختص به؟ ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كُثر، فليس من المقبول أن توكل جميع الأمور والمدائح والفضائل والأسبقية لصحابي واحد، بل كل صحابي من المقربين، له منزلة عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أنّ من شهد الله ورسوله له بالصحبة أنه يحب الله ورسوله، فبطل الاحتجاج بهذا الحديث على أفضلية عليّ على أبي بكر، ولا أنسى أن أذكّر التيجاني أنّ راوي الحديث هو الصحابي الجليل أبو هريرة الذي تتهمه بأنه يختلق ويدسّ الأحاديث في فضائل أبي بكر ومن المتحاملين على الإمام عليّ، فكيف توفّق بين إيراده لهذا الحديث العظيم في فضل عليّ وادعائك المشحون بالكذب والتحامل على خير الخلق؟!
أما قوله ولو علم الله أنّ أبا بكر على هذه الدرجة من الإيمان وأنّ إيمانه يفوق أمة محمد بأسرها فلم يكن الله ليهدده بإحباط عمله عندما رفع صوته فوق صوت النبي 26، قلت:(10/52)
هذه الآية نزلت لتأديب المسلمين عامة وللصحابة بالأخص، في كيفية معاملتهم مع نبي المرحمة صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتبجيله، والآية عامة اللفظ إلا أن يأتي ما يخصصها، فكيف يقول هذا التيجاني أن الله سبحانه يهدده هكذا بإحباط عمله، وقد ذُكِرَ أنّ سبب نزول الآية أكثر من سبب منها أن أبا بكر وعمر تماريا فنزلت هذه الآيات وابتدأت ب{ يا أيها الذين آمنوا...} ومن هنا نعلم أن نزول هذه الآية هي لتربية الصحابة وتعليمهم وتنبيههم لهذا الأمر بالقرآن، ليكونوا خير الناس بصحبة نبيهم صلى الله عليه وسلم وليست تختص بأبي بكر وحده، فقد روى مسلم أنها نزلت في ثابت بن قيس فعن أنس بن مالك أنه قال لما نزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، إلى آخر الآية. جلس ثابت بن قيس وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ أَشتكى؟ قال سعد: إنه لجاري، وما علمت له بشكوى، قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ثابت: أُنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من أهل الجنة 27 فكيف بأبي بكر الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة مرات ومرات، والذي كان من أول المستجيبين والمتأدبين مع هذا الأمر الإلهي، فقد أخرج الحاكم في المستدرك موصولاً وابن مردويه من طريق بن شهاب عن أبي بكر قال لما نزلت لا ترفعوا أصواتكم.. الآية، قال أبي بكر: قلت يا رسول الله آليت أن لا أكلمك إلا كأخي السرار 2 وخلاصة القول أن أبا بكر الصديق ليس معصوماً بل يخطئ ويصيب، وينبّه على خطئه، فالقرآن يؤدبه، والنبي صلى الله عليه وسلم يربّيه، وهذا مدح له وليس قدح به هذا لمن يفهم.(10/53)
ثم يكرر ما سبق الجواب عليه ثم يقول .. وأنه لم يكن أحرق الفجاءة السلمي 2، أقول: عجباً والله من هؤلاء الزعانف الذين يحتجون بما هو حجة عليهم لا لهم فالإحراق بالنار عن عليّ أشهر وأظهر منه عن أبي بكر، وأنه قد ثبت في الصحيح أن علياً أُتي بقوم زنادقة من غلاة الشيعة، فحرّقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرّقهم بالنار، لنهْي النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعذّب بعذاب الله، ولضربت أعناقهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه فبلغ ذلك علياً، فقال: ويح أبن أم الفضل ما أسقطه على الهنات. فعليّ حرّق جماعة بالنار، فإن كان ما فعله أبو بكر منكراً، ففعل عليّ أنكر منه، وإن كان فعل عليّ مما لا يُنْكر مثله على الأئمة، فأبو بكر أولى أن لا ينكر عليه 30.
أما قوله وأنه يوم السقيفة كان قذف الأمر في عنق أحد الرجلين عمر أو أبي عبيدة 31. قلت:(10/54)
هذه الحجة المردودة أجاب عليها الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري بما يغني عن الرد فقال وقد استشكل قول أبي بكر هذا مع معرفته بأنه الأحق بالخلافة بقرينة تقديمه للصلاة وغير ذلك، والجواب أنه استحيى أن يزكي نفسه فيقول مثلا رضيت لكم نفسي، وانضم إلى ذلك أنه علم أنّ كلا منهما لا يقبل ذلك، وقد أفصَح عمر بذلك في القصة، وأبو عبيدة بطريق الأولى لأنه دون عمر في الفضل باتفاق أهل السنة، ويكفي أبا بكر كونه جعل الاختيار في ذلك لنفسه فلم ينكر ذلك عليه أحد، ففيه إيماء إلى أنه الأحق، فظهر أنه ليس في كلامه تصريح بتخلية من الأمر32، وقال في موضع آخر وتمسّك بعض الشيعة بقول أبي بكر قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين بأنه لم يكن يعتقد وجوب إمامته ولا استحقاقه للخلافة، والجواب من أوجه: أحدهما ان ذلك كان تواضعاً منه، والثاني لتجويزه إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وإن كان من الحق له فله أن يتبرع لغيره، الثالث أنه علم أن كلا منهما لا يرضى أن يتقدمه فأراد بذلك الإشارة إلى أنه لو قدر أنه لا يدخل في ذلك لكان الأمر منحصراً فيهما، ومن ثم لمّا حضره الموت استخلف عمر لكون أبي عبيدة كان إذ ذاك غائباً في جهاد أهل الشام متشاغلا بفتحها، وقد دلّ قول عمر لأن أُقدم فتُضرب عنقي ألخ على صحة الإحتمال المذكور 33.(10/55)
ثم يقول فالذي هو على هذه الدرجة من الإيمان ويرجح إيمانه على إيمان كل الأمة لا يندم في آخر لحظات حياته على ما فعله مع فاطمة وعلى حرقه الفجاءة السلمي وعلى توليه الخلافة، كما لا يتمنى أن لا يكون من البشر ويكون شعرة أو بعرة، أفيعادل إيمان مثل هذا الشخص إيمان الأمة الإسلامية بل يرجح عليها 34. أعتقد أنني قد أجبت على كل ذلك، ولكن الغريب هنا ملاحظة كثرة تكرار التيجاني لكلامه بما يوحي أن المؤلف نفسه لا يصدق ما يكتب، أو لعله يظن أن القراء قليلو الفهم فيجب تكرار الكلام عليهم حتى يعوهُ، متخذاً المثل القائل تكرار الكلام يعلم الشطار !!
ثم يهذي فيقول وإذا أخذنا حديث لو كنت متخذاً خليلاً لأتخذت أبا بكر خليلاً فهو كسابقه، فأين كان أبو بكر يوم المؤاخاة الصغرى في مكة قبل الهجرة ويوم المؤاخاة الكبرى في المدينة بعد الهجرة وفي كلتيهما اتخذ رسول الله ص علياً أخاً له وقال له أنت أخي في الدنيا والآخرة ولم يلتفت إلى أبي بكر فحرمه من مؤاخاة الآخرة كما حرمه من الخُلّة، وأنا لا أريد الإطالة في الموضوع وأكتفي بهذين المثلين اللذين أوردتهما من كتب أهل السنة والجماعة،أما عند الشيعة فلا يعترفون بتلك الأحاديث مطلقاً ولديهم الأدلة الواضحة على أنها وضعت في زمن متأخر على زمن أبي بكر 35.
1 لو فرضنا جدلاً صحة ما يقوله هذا السماوي من عدم وجود أبي بكر يوم المؤاخاة الصغرى والكبرى واتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم علياً أخاً له، فهل هذا يوجب القدح لحديث النبي صلى الله عليه وسلم،، وهل يجب أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفضائل كلها لواحد من الصحابة مثل أبي بكر دون الباقين حتى إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفضيلة لغيره مثل عليّ، أصبحت أحاديث أبي بكر ضعيفة؟!(10/56)
2 يُعرف الحديث الصحيح من المكذوب من ناحيتي السند والمتن، وبالنسبة لحديث اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر خليلاً، فهو من ناحية المتن لا قدح فيه لأن أبا بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم من يوم مبعثه حتى وفاته وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجلس مع صحابيّ مثل أبي بكر36، فهو يستحق أن يكون بهذه المنزلة العظيمة، وأما من ناحية السند فلا شك في صحة الحديث، فقد رواه جمع من الصحابة في الصحاح والمسانيد بالإسناد المتصل الثقة الخالي من العلل والجروح.
3 أما حديث المؤاخاة الصغرى والكبرى فهو من الأكاذيب، فالحديث الذي استند عليه هذا التيجاني وهو حديث أنت أخي في الدنيا والآخرة حديث موضوع، أخرجه الترمذي وابن عدي والحاكم كلهم من طريق حكيم بن جبير عن جميع بن عمير، وحكيم بن جبير هذا ضعيف، وجميع بن عمير كذاب قال عنه ابن حبّان: رافضيٌ يضع الحديث ! وقال ابن نمير: كان منأكذب الناس37 وقال ابن تيمية: أن أحاديث المؤاخاة لعلي كلها موضوعة3 فكيف يضعّف التيجاني حديث أبي بكر الصحيح محتجاً على ذلك بحديث موضوع؟!
ثم يقول أما عند الشيعة فلا يعترفون بتلك الأحاديث مطلقاً ولديهم الأدلة الواضحة على أنها وضعت في زمن متأخر على زمن أبي بكر 3.
وهذا الكلام لا غبار عليه، إذ كيف للكاذب أن يصدق الصادق، وكما قيل البعرة تدل على البعير !؟ وأما الادعاء على أنها وضعت في زمن متأخر على زمن أبي بكر بالأدلة الواضحة لدى الرافضة، فأرجوه رجاءً حاراً أن يأتينا بالأدلة الواضحة ليفحمنا ويخرسنا وصحيح ما قيل رمتني بدائها وانسلّت ؟!
ثم يدعي على أبي بكر بالجهل فيقول وفي هذا الصدد سجّل لنا التاريخ أن الإمام عليّ هو أعلم الصحابة على الإطلاق وكانوا يرجعون إليه في أمهات المسائل ولم نعلم أنه ع رجع إلى واحد منهم قط فهذا أبو بكر يقول: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن 40.(10/57)
قلت: هذا من الكذب الظاهر فأين النقل الصحيح على ذلك؟ فأهل السنة والجماعة اتفقوا أن أعلم الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد منهم، ولم يُنقل أبداً ان أبابكر قد أخذ العلم عن عليّ بل الثابت أن علياً قد أخذ العلم عن أبي بكر كما في السنن عن أسماء بن الحكم الفزاري قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً، نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه، استحلفته فإذا حلف لي صدّقته، قال: وحدّثني أبو بكر وصدق أبو بكر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلّي ركعتين ثم يستغفر الله غفر الله له ثم قرأ هذه الآية { والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله } إلى آخر الآية 41 وأيضا الأخذ برأيه في مقاتلته مانعي الزكاة وقتاله معه، وأخرج مسلم في صحيحه وأحمد في المسند في الحديث الطويل وفي جزء منه قوله صلى الله عليه وسلم ... فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا 42 وثبت عن ابن عباس أنه كان يفتي بكتاب الله، فإن لم يجد فبما في سنة رسول الله، فإن لم يجد أفتى بقول أبي بكر وعمر، ولم يكن يفعل ذلك بعثمان ولا بعلي، وابن عباس هو حبر الأمة وأعلم الصحابة في زمانه، وهو يفتي بقول أبي بكر وعمر مقدماً لهما على قول غيرهما، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل 43 وهذا يدلل على عميق فقه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل ولم يثبت أنه قد خالف النصوص ولكن عمر وعليّ ثبت أنهما قد خالفا النصوص في أمور وذلك لأن النصوص لم تبلغهما، ويعلم هذه الحقيقة من له بمسائل العلم وأقوال العلماء أدنى معرفة، وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال في جزء من الحديث ...كان أبو بكر أعلمنا أي بالنبي(10/58)
صلى الله عليه وسلم 44 وقال ابن حزم في كتابه القيم الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحَل كلاماً نفيساً في هذه القضية أَضّطر لنقله على طوله لأهميته قال أبو محمد: واحتج أي الرافضة أيضاً بأن علياً كان أكثرهم علماً، قال أبو محمد: كذب هذا القائل، وإنما يعرف علم الصحابي لأحد وجهين لا ثالث لهما، أحدهما: كثرة روايته وفتاويه، والثاني: كثرة استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له، فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له، وهذه أكبر الشهادات على العلم وسعته، فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ولىّ أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته، وجميع أكابر الصحابة حضور، كعليّ وعمر وابن مسعود وأُبي، وغيرهم فآثره بذلك على جميعهم، وهذا خلاف استخلافه عليه السلام إذا غزا لأن المستخلف في الغزوة لم يستخلف إلا على النساء، وذو الأعذار فقط، فوجب ضرورة أن نعلم أنّ أبا بكر أعلم الناس بالصلاة، وشرايعها، وأعلم المذكورين بها وهي عمود الدين، ووجدناه صلى الله عليه وسلم قد استعمله على الصدقات فوجب ضرورة أن عنده من علم الصدقات كالذي عند غيره من علماء الصحابة، لا أقل وربما كان أكثر، أو لا أكثر إذ قد استعمل عليه السلام أيضاً عليها غيره وهو عليه السلام لا يستعمل إلا عالماً بما استعمله عليه، وبرهان ما قلنا من تمام علم أبي بكر رضي الله عنه بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها، والذي يلزم العمل به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبي بكر الذي من طريق عمر، وأما من طريق عليّ فمضطرب وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة، وهو أن في خمس وعشرين من إبل خمس شياه، فوجدنا عليه السلام قد استعمل أبا بكر على الحج، فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة في الحج، وهذه دعائم الإسلام، ثم وجدناه عليه السلام قد استعمله على البعوث فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على(10/59)
البعوث في الجهاد، إذ لا يستعمل عليه السلام على العمل إلا عالماً له، فعند أبي بكر من الجهاد من العلم به كالذي عند عليّ، وسائر أمراء البعوث، لا أكثر ولا أقل، فإذ قد صح التقدم لأبي بكر على عليّ وغيره في علم الصلاة، والزكاة، والحج، وساواه في علم الجهاد، فهذه عمدة العلم، ثم وجدناه عليه السلام قد ألزم نفسه في جلوسه، ومسامرته، وظعنه، وإقامته أبابكر فشاهد أحكامه عليه السلام، وفتاويه أكثر من مشاهدة عليّ لها، فصح ضرورة أنه أعلم بها فهل بقيت من العلم بقية إلا أبو بكر هو المتقدم فيها الذي لا يلحق؟ أو المشارك الذي لا يسبق؟ فبطلت دعواهم في العلم، والحمدلله رب العالمين.(10/60)
ثم يقول فإنا غير متّهمين على حط أحد من الصحابة رضي الله عنهم عن مرتبته ولا على رفعه فوق مرتبته، لأننا لو انحرفنا عن عليّ رضي الله عنه ونعوذ بالله من ذلك لذهبنا فيه مذهب الخوارج، وقد نزهنا الله عز وجل عن الضلال في التعصب ولو غلونا فيه لذهبنا فيه مذهب الشيعة، وقد أعاذنا الله من هذا الإفك في التعصب فصار غيرنا من المنحرفين عنه أو غالين فيه هم المتّهمون فيه إما له وإما عليه، وبعد هذا كله فليس يقدر من ينتمي إلى الإسلام أن يعاند في الاستدلال على كثرة العلم باستعمال النبي صلى الله عليه وسلم بمن استعمله منهم على ما استعمله وعليه من أمور الدين، فإن قالوا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل علياً على الأخماس وعلى القضاء باليمن؟ قلنا لهم: نعم ولكن مشاهدة أبي بكر لأقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى في العلم وأثبت مما عند عليّ وهو باليمن، وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على بعوث فيها أخماس، فقد ساوى علمه علم عليّ في حكمها بلا شك، إذ لا يستعمل عليه السلام إلا عالماً بما يستعمله عليه، وقد صح أن أبا بكر وعمر كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه السلام يعلم ذلك، ومحال أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم ممن دونهما وقد استعمل عليه السلام أيضاً على القضاء باليمن مع عليّ معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري، فلعليّ في هذا شركاء كثير، منهم أبو بكر ، وعمر، ثم قد انفرد أبو بكر بالجمهور الأغلب من العلم على ما ذكرنا. وقال هذا القائل أي الرافضي : إن علياً كان أقرأ الصحابة، قال أبو محمد: هذه القحة المجردة والبهتان لوجوه أولها إنه رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام قال: يؤم القوم أقرؤهم، فإن استووا فأفقههم، فإن استووا فأقدمهم هجرة، ثم وجدناه عليه السلام قد قدم أبا بكر على الصلاة مدة الأيام التي مرض فيها وعليّ بالحضرة يراه النبي صلى الله عليه(10/61)
وسلم غدوة وعشية فما رأى لها عليه السلام أحداً أحق من أبي بكر بها، فصح أنه كان أقرؤهم وافقههم واقدمهم هجرة، وقد يكون من لم يجمع حفظ القرآن كله على ظهر قلب أقرأ ممن جمعه كله عن ظهر قلب فيكون ألفظ به وأحسنهم ترتيلا، هذا على ان أبا بكر وعمر وعليا لم يستكمل أحد منهم حفظ سواد القرآن كله ظاهرا إلا أنه قد وجب يقيناً بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر على الصلاة وعليُّ حاضر أن أبا بكر أقرأ من عليّ، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقدم إلى الإمامة الأقل علما بالقراءة على الأقرأ أو الأقل فقهاً على الأفقه فبطل أيضاً شغبهم في هذا الباب، والحمد لله رب العالمين 45 ومما سبق يتضح لكل ذي لب تقدم أبي بكر على عليّ في العلم والفقه.
ثم يقول بينما يقول أبو بكر عندما سئل عن معنى الأب في قوله تعالى { وفاكهة وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم } قال أبو بكر: أي سماء تظلني وأي أرض تقلّني أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم 46 أقول:
1 هذه الرواية التي ذكرها ابن كثير رواها إبراهيم التيمي عن أبي بكر وهي ضعيفة، لأن السند منقطع بين إبراهيم وأبو بكر.(10/62)
2 ولا يفهم من الحديث إن صح أن أبا بكر لا يعرف معنى الأب لأن معناها واضح جداً على أنها من نبات الأرض كما يقول الله { فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً..} ولكنه لم يحدد ما هية الأب أي أن يعرف شكله وجنسه وعينه وهذا ما أراده في قوله ذاك، وكما روى أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر { وفاكهة وأبا } هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر47! لذلك جاء معنى الأب عند المفسرين على أنه من نبات الأرض فقال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك: الأب الكلأ، وعن مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد: الأب للبهائم كالفاكهة لنبي آدم، وعن عطاء: كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أب، وقال الضحاك: كل شيء أنبتته الأرض سوى الفاكهة فهو الأب 4 فالمعنى كما هو واضح ما أنبت على الأرض، ولكن الصحابة لم يحددوه بالكيف والجنس، وهذا لا يدل على عدم العلم ولو وضحه النبي صلى الله عليه وسلم بنوع معين لعرفه الصحابة فيحمل على كل ما أنبت على الأرض.
فدك مرة أخرى
ثم يعود إلى خلاف فاطمة مرة أخرى فيقول وإذا كانت أول حادثة وقعت بعد وفاة رسول الله مباشرة وسجّلها أهل السنة والجماعة والمؤرخون: هي مخاصمة فاطمة الزهراء لأبي بكر الذي احتجّ بحديث نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ، هذا الحديث الذي كذّبته فاطمة الزهراء وابطلته بكتاب الله، واحتجّت على أبي بكر بأن أباها رسول الله ص لا يمكنه أن يناقض كتاب الله الذي أنزل عليه إذ كيف يقول الله سبحانه { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثلحظّ الأنثيين } وهي عامة تشمل الأنبياء وغير الأنبياء، واحتجّت عليه بقوله تعالى { وورث سليمان داوود } وكلاهما نبي، وقوله عز من قائل { فهب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ رضيّاً } 4 أقول:(10/63)
1 الغريب في هذا التيجاني أنه يعيد ويكرر هذه القضية حتى كأنه لم يصدق ما يكتب فهو يقوم بعصر رأسه وما يخرج له يسوّده على صفحات كتابه، وهذا الأسلوب يدلل بوضوح على أن قضية فاطمة لا تحتمل ما يحمّله لها هذا التيجاني، ولكنه يأبى إلا أن يجعل من الحجر جبالاً وهذا ديدن الرافضة، وبالنسبة لقوله أن فاطمة كذّبت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطلته بكتاب الله واحتجت على أبي بكر بأن أباها لا يناقض القرآن..الخ فهذا من الكذب الذي لا يخفى على من له مسكة من عقل، فأين المصدر الصحيح الذي يثبت أن فاطمة قالت ذلك أم أن الكذب تمادى بصاحبه حتى جعله يسوق الأعاجيب.
2 ذكر هذا التيجاني قبل صفحات واحتج على أبي بكر بأن فاطمة معصومة لذلك لا يمكن أن تكذب أبداً فالمنطق يقول أن أبا بكر هو الظالم ولهذا السبب غضبت فاطمة ودعت عليه إلى آخر هذيانه، ثم يقول في موضع آخر أن أبا بكر تعمد إيذاء فاطمة وتكذيبها لئلا تحتج عليه بنصوص الغدير وغيرها على خلافة زوجها عليّ، ولكنه هنا يقول أن أبا بكر احتج بحديث نحن معشر الأنبياء لا نورث وأن فاطمة كذبته بكتب الله سبحانه؟! فبالله كيف يستقيم ذلك كله؟ وهل القصة واحدة أم عدة روايات أو قل عدة أكاذيب؟! فرحم الله أبا بكر وطهّر عرضه من هؤلاء المجرمين، فمرة يدّعي أن أبا بكر هو المخطئ لأن فاطمة معصومة، ومرة يبكي على سخط فاطمة! ومرة أن أبا بكر تعمّد إيذاءها وتكذيبها، وهنا يحتج على فاطمة بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، كل ذلك في آن واحد، فماذا يقول القارئ المنصف هنا إلا أن يذعن للحق الذي لا ثانية له، وهو الذي أثبتناه، ولو كانت فاطمة أخي القارئ معصومة لم تحْتَجْ لتكذيب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة أنها لا تكذب وأبو بكر مخطيء ضرورة، ولكن الحقيقة أن فاطمة ليست معصومة والكلام السابق كفيل بإبطال هذا الادعاء، وأما احتجاج فاطمة على أبي بكر بالقرآن فلا شك في بطلانه وإليك المزيد.(10/64)
3 أما بالنسبة لقوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظِّ الأنثيين } فيجاب عليه أنه ليس في عموم لفظ الآية ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم يورث فإن الله تعالى قال { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين، فإن كُنَّ نساءً فوق اثنتين فلهنَّ ثُلُثا ماترك وإن كانت واحدةً فلها النّصفُ لكل واحدٍ منهما السُدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن لهُ ولدٌ وورثه أبواه فلأُمِّه الثُلُث فإن كان له إخوةٌ فلأمِّه السُدس } وفي الآية الاخرى { ولكم نِصفُ ما ترك أزواجُكُم إن لم يكُنْ لهُنَّ ولد فإنْ كان لهُنَّ ولد فلكم الرُّبُع مما تركْنَ إلى قوله من بعد وصيَّةٍ يُوصي بها أو دين غير مُضارّ } وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بها، و كاف الخطاب يتناول من قصده المخاطب، فإن لم يعلم أن المعيّن مقصود بالخطاب لم يشمله اللفظ، حتى ذهبت طائفة من الناس إلى أن الضمائر مطلقاً لا تقبل التخصيص فكيف بضمير المخاطب؟ فإنه لا يتناول إلا من قُصد بالخطاب دون من لم يُقصد، ولو قدّر أنه عام يقبل التخصيص، فإنه عام للمقصودين بالخطاب، وليس فيها ما يقتضي كون النبي صلى الله عليه وسلم من المخاطبين بهذا 0 ولأنّ كاف الجماعة تأتي بالقرآن وتشمل بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتأتي دونه كقوله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } محمد 33 وقوله تعالى { إن كنتم تحبُّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله ويغْفر لكُم ذُنُوبكم } آل عمران 31 فإن كاف الخطاب لم تشمل الرسول صلى الله عليه وسلم بل تناولت المخاطبين بالسياق وهذه كقوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم } فهي مثل الآيات السابقة، وكذلك كقوله تعالى { إنْ خفتُم إلا تُقسِطوا في اليتامَى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مَثْنى وثُلاث ورُباع فإن خِفتم ألا تعْدلوا فواحِدةً أو ما ملكت(10/65)
أيمانُكم ذلك أدنى ألا تعُولوا، وآتُوا النساء صدُقاتِهنَّ نِحلَة فإن طِبنَ لكم عن شيء منهُ نفساً فكُلوه هنيئاً مريئاً } النساء 3 4 فإن هذه الآية تشمل المخاطبين أيضاً دون النبي صلى الله عليه وسلم الذي يحل له أن يتزوج أكثر من أربعة وبدون مهر، كما ثبت بالنصوص الصحيحة والتي لا تخفى على أحد1.
4 أما بالنسبة لاستدلال التيجاني بقوله تعالى { وورث سليمان داود } وقوله كلاهما نبي فأقول:
أ مجرّد ذكر كلمة الإرث لا يدل على أن المقصود به المال لأن هذه الكلمة تأتي بمعاني كثيرة كقوله تعالى { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } فاطر 23 وكقوله تعالى { وأورثَكم أرضَهُم وديارهُم وأموالَهم وأرضاً لم تطؤوها } الأحزاب 27 وكقوله تعالى { ولقد كتبْنا في الزبُورِ من بعد الذكْر أنّ الأرضَ يرثُها عبادِيَ الصالحون } الأنبياء 5 فليست الوراثة تعني إرث المال وفقط بل تشتمل على معاني أخرى.
ب وقوله تعالى { وورث سليمان داود } فإن الإرث المقصود في هذه الآية هو إرث العلم والنبوّة لا إرث المال لأن داود كان له من الأولاد الكثير غير سليمان فلا يخصّه بالمال وأيضاً ليس في كونه ورث ماله صفة مدح، لا لداود ولا لسليمان فإن اليهودي والنصراني يرث أباه ماله، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان، وما خصّه الله به من النعمة 2 وأيضاً فإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس، كالأكل والشرب، ودفن الميت، ومثل هذا لا يُقصُّ عن الأنبياء إذ لا فائدة فيه، وإنما يُقص ما فيه عبرة وفائدة تستفاد، وإلا قول القائل مات فلان وورث أبنه ماله مثل قوله ودفنوه ومثل قوله أكلوا وشربوا وناموا ونحو ذلك مما لا يحسن أن يجعل من قصص القرآن 3.(10/66)
ت أما وقوله تعالى { فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب } ومن المسلّم به أن هذا هو كلام زكريا وهو لا يرث من آل يعقوب مالاً بل يرثهم أولادهم وورثتهم، فلا يدل الارث هنا على أنه إرث المال بالتأكيد، هذا بالإضافة إلى أنّ زكريا كان نجّاراً وليس ذو مالٍ وفير حتى يوّرثه ليحي، إضافةً إلى أننا لو راجعنا بداية هذه الآية والتي أخفاها هذا التيجاني وهي قوله تعالى { وإني خفت المَوالي من ورائي } مريم 5 لتبيّن لنا أنه لم يخف أن يأخذوا ماله من بعده إذا مات، فإن هذا ليس بمخوف 4 ومن هنا تبين لنا انه أراد بالوراثة وراثة العلم والنبوة.
ج وقد اعترف بهذا المعنى مفسرو الشيعة الاثني عشرية فصاحب التفسير المبين محمد جواد مغنية من كبار علمائهم المعاصرين يقول عند تفسير قوله تعالى { وورث سليمان داود } قال في الملك والنبوة 5! ويقول عند تفسير قوله تعالى { وإني خفت الموالي من ورائي } الموالي: العمومة وبنو العم، ومن ورائي، خاف زكريا إذا ورثوه أن يسيئوا إلى الناس، ويفسدوا عليهم دينهم ودنياهم.... { فهب لي من لدنك وليا } وارثاً، { يرثني ويرث من آل يعقوب} قال: العلم والنبوة 6!؟ بالإضافة لتأكيد إمامهم الكافي لهذه القضية عندما ساق الحديث الصحيح باعتراف إمامهم المتأخر الخميني والذي يثبت أنّ الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم7؟! فهل يوجد حق بهذا الوضوح والبيان يا أيها التيجاني المهتدي؟!
=================
شبهات وردود حول الصديق رضي الله عنه
سادساً إدعاء التيجاني أن أبا بكر خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم في قتاله لما نعى الزكاة والرد عليه في ذلك:(10/67)
يقول التيجاني والحادثة الثانية التي وقعت لأبي بكر في أول أيام خلافته وسجّلها المؤرخون من أهل السنة والجماعة اختلف فيها مع أقرب الناس إليه وهو عمر بن الخطاب تلك الحادثة التي تتلخّص في قراره بمحاربة مانعي الزكاة وقتلهم ! فكان عمر يعارضه ويقول له لا تقاتلهم لأني سمعت رسول الله ص يقول: امرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه وحسابه على الله . وهذا نص أخرجه مسلم في صحيحه جاء فيه: أن رسول الله ص أعطى الراية إلى علي يوم خيبر فقال علي: يا رسول الله على ماذا أقاتلهم؟ فقال ص قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها وحسابهم على الله ولكن أبا بكر لم يقتنع بهذا الحديث وقال: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حقّ المال، أو قال: والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه واقتنع عمر بن الخطاب بعد ذلك وقال: ما إن رأيت أبا بكر مصمّماً على ذلك حتى شرح الله صدري، ولست أدري كيف يشرح الله صدور قوم بمخالفتهم سنّة نبيّهم! .(10/68)
1 إن قرار أبا بكر في قتال مانعي الزكاة هو الحق الموافق للكتاب والسنة، وما اتفقت عليه الأمة وفي هذا يقول الله سبحان { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } التوبة 5 وقوله تعالى { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصّل الآيات لقوم يعلموم } التوبة فبيّن الله سبحانه في هاتين الآيتين أن شروط التوبة والدخول في الإسلام يلزم منها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وعدم التفريق بينهما لذلك قال عبد الله بن مسعود أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له، وعن بن عباس { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة }، قال: حرّمت هذه الآية دماء أهل القبلة ، ويقتضي ذلك أنهم إذا أخلّوا بأداء الصلاة أو إيتاء الزكاة فإنه يباح قتالهم حتى يعودوا إلى أدائها كاملة، وهذا ما فعله الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع مانعي الزكاة لذلك قال ابن كثير معلقاً على هذه الآية ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق الله عز وجل وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين، ولهذا كثيراً ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة ، وقال عبد الرحمن بن زيد افترضت الصلاة والزكاة جميعاً لم يفرّق بينهما، وقرأ { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين }، وأبا أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: رحم الله أبا بكر، ما كان أفقهه .(10/69)
2 أما السنة فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّ الإسلام، وحسابهم على الله ، فهذا الحديث الصحيح يظهر بوضوح أن عصمة الدم والمال لا تتحقق إلا بتحقيق الإيمان، والإيمان الحقيقي لا يتحقق إلا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وإذا منع الناس الزكاة وجب هنا القتال من أجل أخذها من المطالب بها إلى مستحقيها، وهذا فعله أبو بكر الصديق.(10/70)
3 يبدوا أن التيجاني لا يعلم من المذهب الاثني عشري الذي هُدي إليه إلا اسمه، فالرافضة الاثني عشرية يثبتون في كتبهم أنّ الزكاة مثل الصلاة تماماً ومن المُسّلم به أنّ تارك الصلاة يقتل بلا خلاف فجعل الزكاة مثل الصلاة يبين أن حكمهما واحد وهذا ما اعترف به الرافضة فقد أورد إمامهم والذين يصفونه بالمحقق المحدث المتبحر محمد الحر العاملي في كتابه وسائل الشيعة عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: فرض الله الزكاة مع الصلاة ، وعن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى قرن الزكاة بالصلاة فقال: { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة لم يقم الصلاة ، فهل يريد التيجاني أكثر من ذلك؟! لا بأس! وهذا إمام القوم والذين يصفونه برئيس المحدثين يروي في كتابه من لا يحضره الفقيه وهو أحد الكتب الأربعة التي تمثل مرجع الإمامية في الفروع والأصول عن أبي عبد الله عليه السلام: من منع قيراطاً من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم وهو قول الله عز وجل: { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت } . وفي رواية أخرى لاتقبل له صلاة وعن أبي جعفر عليه السلام قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله في المسجد إذ قال: قم يا فلان قم يا فلان قم يا فلان حتى أخرج خمسة نفر فقال: اخرجوا من مسجدنا لا تصلّوا فيه وأنتم لا تزكون ، وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء يهوديّاً أو نصرانيّاً ولا يكتفي بذلك بل يبيح قتله صراحة فيورد عن أبّان بن تغلب عنه عليه السلام أنه قال دمان في الإسلام حلال من الله تبارك وتعالى لا يقضي فيهما أحد حتى يبعث الله عز وجل قائمنا أهل البيت فإذا بعث الله عز وجل قائمنا أهل البيت حكم فيهما بحكم الله عز وجل، الزاني المحصن يرجمه، ومانع الزكاة يضرب عنقه !، فكيف إذن يعترض هذا التيجاني على أبي بكر(10/71)
قتاله لمانعي الزكاة حتى يعطوها وليس قتلهم بالطبع ولا يكون في نفسه غضاضة من أن تُضرب عنق مانع الزكاة على يد القائم الخيالي؟!! هكذا، فكبّر أربعاً على هدايتك أيها التيجاني!!
4 أما بالنسبة لاعتراض عمر بن الخطاب في البداية على أبي بكر فلأن الأمر قد استشكل عليه فقال كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ودمه ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله فاستدل على العموم وبظاهر الكلام ولم ينظر في آخره وهو بحقه فردّ عليه أبا بكر بأنّه سيقاتل من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال فجعل الزكاة كالصلاة، ومعلوم أن قتال تارك الصلاة مما أجمع عليه الصحابة، والصلاة وحدها كافية لرد ما توّهمه عمر من الحديث الذي احتجّ به، والذي يعضّد ويقوّي قول أبو بكر هذا، هو الحديث الذي رواه ابن عمر والذي جاء في آخره إلا بحق الإسلام واستيفاء الحق المتضمن لعصمة الدم والمال هي الأمور المذكورة بالحديث، ولمّا تبين ذلك لعمر وظهر له صواب قول أبي بكر تابعه على قتال القوم فقال فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق ، بما ظهر له من الأدلة والحجج المقامة على أنّ ما ذهب إليه أبو بكر هو الحق.
5 وبالنسبة لحديث علي يوم خيبر فيرد عليه بنفس الرد على حديث عمر ويرده أيضاً بأن تارك الصلاة مما أجمع الصحابة على قتاله فالحديث عام وتخصة الأحاديث الأخرى، على أن قوله صلى الله عليه وسلم لعلي إلا بحقها فمن حقها كما بيّنت إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.(10/72)
6 لعلّ أحداً يتساءل كيف لم يعرف عمر بن الخطاب بحديث ابن عمر؟ نقول إن في اعتراض عمر ليدلل أنه لم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما رواه ابن عمر وغيره من الرواة، ولعل ابن عمر وأبا هريرة سمعا هذه الزيادات في مجلس آخر ولو أن عمر سمع بهذا الحديث لما خالف أبا بكر الصديق واحتج بالحديث الآخر لذلك يقول ابن حجر وفي القصة دليل على أن السنة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة ويتطلع عليها آحادهم، ولهذا لا يلتفت إلى الآراء ولو قويت مع وجود سنة تخالفها، ولا يقال كيف خفى ذا على فلان؟ ، فإذا عرفنا ما سبق نعلم أن قول هذا التيجاني أن أبا بكر لم يقتنع بهذا الحديث من مجازفاته التافهه وجهله البارد! ونعلم أيضاً أنّ قوله ولست أدري كيف يشرح الله صدور قومٍ بمخالفتهم سنة نبيهم يظهر كيف أثّرت شهادة الدكتوراة بعلم الفلسفة على كتاباته، وحملته على الطعن بخير القرون وحملة القرآن اعتماداً على استنباطاته الكسيحة!!
ثم يهذي فيقول وهذا التأويل، منهم لتبرير قتال المسلمين الذين حرّم الله قتلهم إذ قال في كتابه العزيز { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤْمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبيّنوا إن الله كان بما تعملون خبيرا . قلت:(10/73)
يأبى هذا التيجاني إلا أن يضيف الأدلة تلو الأدلة على إثبات جهله، فهو لا يرجع لسبب نزول الآية أو إلى أقوال المفسرين، بل يريد أن يثبت الجهل الذي تلفّع به فأصبح كالسفّود الذي لا ينفك عن صاحبه! وأمّا بالنسبة لهذه الآية فقد أخرج البخاري في صحيحه سبب نزولها فعن ابن عباس رضي الله عنهما { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً } قال ابن عباس: كان رجل في غنيمة له، فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك إلى قوله { تبتغون عرض الحياة الدنيا } تلك الغنيمة ، فبالله ما دخل قضية أبي بكر وعمر بهذه الآية فهما لم يختلفا على تكفير مانعي الزكاة وإنما اختلفا على جواز قتالهم، والقتال غير القتل، ومانعو الزكاة بغاة وجب أخذ الزكاة منهم بالقوة، وأبو بكر أجاز قتالهم لا قتلهم ولم يقل هؤلاء كفارٌ كأمثال مسيلمة الكذاب والأسود العنسي الذين قاتلهم الصديق أيضاً واعتبرهم كفّاراً وسبى ذراريهم وساعده في ذلك أكثر الصحابة واستولد علي بن أبي طالب جارية من سبي بني حنيفة، فولدت له محمد الذي يدعى ابن الحنيفية، فأبو بكر أجاز قتال مانعي الزكاة لا لأنهم كفار بل لأنهم أخلّوا بحق من حقوق الإسلام، ولم نعلم أن أبا بكر قاتل من جاءه مسلماً مستسلماً ذاعناً للحق، ولم يقاتل أبو بكر مانعي الزكاة لعرض الدنيا بل قاتلهم للحفاظ على شمولية هذا الدين، فكيف يستشهد هذا التيجاني بهذه الآية على قضية أبي بكر مع مانعي الزكاة؟! فما عساني إلا أن أدعو فأقول اللهم احفظ دينك من الرويبضة!!(10/74)
ثم يتقدم خطوات في هذيانه فيقول على أن هؤلاء الذين منعوا إعطاء أبي بكر زكاتهم لم ينكروا وجوبها ولكنهم تأخروا ليتبينوا الأمر ويقول الشيعة إن هؤلاء فوجئوا بخلافة أبي بكر وفيهم من حضر مع رسول الله حجة الوداع وسمع منه النص على عليّ بن أبي طالب فتريّثوا حتى يفهموا الحقيقة، ولكن أبا بكر أراد إسكاتهم عن تلك الحقيقة وبما أنني لا أستدل ولا أحتج بما يقوله الشيعة !! سأترك هذه القضية لمن يهمّه الأمر ليبحث فيها .
فأقول له متسائلاً ألا يهمك هذا الأمر؟ فلماذا لم تبحث فيه؟! أليس لأنه أدنى من أن يلتفت إليه! ولماذا ذكرته في كتابك مستدلاً به؟ ومن أين جئت بهذا الادعاء الذي يقول بأن مانعي الزكاة تأخروا في دفعها ليتبينوا الأمر ولأنهم فوجئوا هكذا بخلافة أبي بكر إلى آخر هذا المين، وأنا واثق من أنك جئت بهذه الرواية من كتاب إكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس !!!(10/75)
ثم يقول على أنّني لا يفوتني أن أسجّل هنا أن صاحب الرسالة ص وقعت له في حياته قصة ثعلبة الذي طلب منه أن يدعوا له بالغنى وألحّ في ذلك وعاهد الله أنّه يتصدق ودعا له رسول الله وأغناه الله من فضله وضاقت عليه المدينة وأرجاؤها من كثرة إبله وغنمه حتى ابتعد ولم يعد يحضر صلاة الجمعة، ولمّا أرسل إليه رسول الله ص العاملين على الزكاة رفض أن يعطيهم شيئاً منها قائلاً إنّما هذه جزية أو أخت الجزية، ولم يقاتله رسول الله ولا أمر بقتاله وأنزل فيه قوله {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصّدّقن ولنكوننّ من الصالحين، فلمّا آتاهم الله من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } وجاء ثعلبة بعد نزول الآية وهو يبكي وطلب من رسول الله قبول زكاته وامتنع الرسول حسب ما تقول الرواية، فإذا كان أبو بكر وعمر يتّبعان سنة الرسول فلماذا هذه المخالفة وإباحة دماء المسلمين الأبرياء لمجرّد منع الزكاة على أنّ المعتذرين لأبي بكر والذين يريدون تصحيح خطئه بتأويله بأنّ الزكاة هي حق المال، لا يبقى لهم ولا له عذر بعد قصة ثعلبة الذي أنكر الزكاة واعتبرها جزية، ومن يدري لعلّ أبا بكر أقنع صاحبه عمر بوجوب قتل من منعوه الزكاة أن تسري دعوتهم في البلاد الإسلاميةلإحياء نصوص الغدير التي نصّبت عليّاً للخلافة، ولذلك شرح الله صدر عمر بن الخطاب لقتالهم وهو الذي هدّد بقتل المتخلّفين في بيت فاطمة وحرقهم بالنار من أجل أخذ البيعة لصاحبه .(10/76)
قلت: هذه الرواية التي احتج بها التيجاني ناقصة، فقد أخفى منها الجزء المتبقّي وهو أن ثعلبة قد أتى أبا بكر رضي الله عنه حين استخلف، فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي من الأنصار فاقبل صدقتي، فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول الله منك، أنا أقبلها؟ فقُبِض أبو بكر رضي الله عنه ولم يقبلها، فلما ولي عمر أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين، اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر، أنا أقبلها؟ فقُبِض ولم يقبلها، ثم ولي عثمان رضي الله عنه فأتاه فسأله أن يقبل صدقته فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر أنا أقبلها؟ وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه 1 ولست أدري لماذا أخفى هذه الرواية، فلعلّه اعتقد أن فيه مدحاً للخلفاء الثلاثة، ولكني أبشرّه بأن هذه الرواية ساقطة سنداً ومتناً ولا تقوم مقام الاستدلال، فمن ناحية السند فمدار الرواية على عليّ بن يزيد الألهاني وعمرو بن عبيد أبو عثمان البصري وهما مجروحان، فعلي بن يزيد قال عنه ابن حجر ضعيف 1 وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال أبو زُرعة: ليس بقوي، وقال الدارقطني: متروك 20 وقال يحي بن معين: علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة هي ضعاف كلها، وقال يعقوب: واهي الحديث كثير المنكرات، وقال الحاكم: ذاهب الحديث 21 وأما عمرو بن عبيد قال عنه ابن معين: لا يكتب حديثه، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال أيوب ويونس: يكذب 22 وعن أحمد بن حنبل: ليس بأهل أن يحدث عنه، وعن يحي بن معين: ليس بشيء، وقال عمرو بن علي: متروك الحديث صاحب بدعة، وقال حاتم: متروك الحديث23 فهذه هي منزلة الحديث من ناحية السند وهي أوضح من أن أعلّق عليها بالإضافة لتضعيف العلماء لهذه الرواية فقد ضعّفها ابن حزم والبيهقي وابن الأثير والقرطبي والذهبي والهيثمي وابن حجر والسيوطي وغيرهم.(10/77)
وأما من ناحية المتن فهي باطلة أيضاً وذلك للأسباب التالية:
أ مخالفة القصة للقرآن الكريم فمن أصول الشريعة التي قررها الله في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التائب لو بلغت ذنوبه عنان السماء ثم تاب، تاب الله عليه، قال جل شأنه { إنما التوبةُ على الله للذين يعملون السُّوء بجَهالةٍ ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوبُ الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تُبتُ الآن ولا الذين َيموتون وهم كفّار أولئك اعتدنا لهم عذاباً أليماً } النساء 1 ودليل ذلك أيضاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر 24 وهو بيان لقوله تعالى { وليست التوبة ...إذا حضر أحدهم الموت قال إني تُبت الآن } فالآية استثنت هذه الحالة فقط وأنها لا تقبل التوبة، وهذا دليل خطاب يدل على ان غير هذه الحالة تقبل فيها التوبة وهو ما قبل الموت، والقصة تؤكد أن ثعلبة تاب توبة نصوحاً فجاء يعرض صدقته على الرسول صلى الله عليه وسلم وأكد توبته مراراً فجاء أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لكنهم رفضوا قبول توبته، وأخبروه أن الله لم يقبل توبته وهذا خلاف ما تقدّم من النصوص القاطعة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا خلفها، والتي تقرر { وهو الذي يقبلُ التّوبةَ عن عباده ويعفو عن السيئات } الشورى 25 ، فإن قيل: أن ثعلبة منافق. قلت: حتى المنافقين فقد فتح الله لهم باب التوبة على مصراعيه قال الشاكر العليم { إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولنْ تجِد لهم نَصيراً إلا الذين تابوا وأَصلحوا واعتَصموا بالله وأخْلصوا دينهم لله فأُولئك مع المؤمنين وسوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أجراً عظيماً، ما يفعلُ الله بِعذابكُم إن شكَرْتم وآمنْتُم وكان الله شاكراً عليماً } النساء 5 7 ، وقال الغفور الرحيم مخبراً عن المنافقين { ... فإنْ يَتوبوا يك(10/78)
خيراً لهم } التوبة 74 ، والقصة تنمّي في قلوب العصاة الذين جهلوا فاقترفوا بعض الذنوب واجترحوا السيئات صفة القنوط واليأس من رحمة الله، تلك الصفة التي لا يحبها الله ورسوله الذي بشّر الناس أنهم لو أتوا إليه بقُراب الأرض خطايا، واستغفروا الله لغفر لهم ولو لم يستغفروا لاستبدلهم الله بأناس يخطئون فيستغفرون فيغفر لهم، قال صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أُبالي، يا ابن آدم إنك لو اتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة 25 وقال صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم 2627.
ب أمر آخر يدحض هذه القصة ويردها، ويزيد في وجوب استبعادها، والذود عن عرض صاحبها ودينه، هو أن ثعلبة بن حاطب رضي الله عنه لا تُعلم له سنة وفاة على الحقيقة، وقد اختلف في سنة وفاته على أقوال عديدة. فأصحاب هذه القصة جعلوه متوفًى في خلافة عثمان رضي الله عنه، وهذا القول مردود من حيث السند لأنه والقصة أتى بإسناد واحد واه! وقيل إنه استشهد في أحد، وقيل إنه استشهد في غزوة خيبر، والقول الثاني ذكره ابن عبد البر وابن حجر. وسواء كان استشهاده في أحد أو خيبر، فالرجل توفي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعضهم وهو معارض للقصة القائلة بأنه هلك في خلافة عثمان، وما دام الاحتمال وارداً مع القصة، وهو ضعيف الإسناد لا يعتمد عليه، فإنه يتعين علينا المصير إلى الاحتمال الثاني أو الثالث، إذ لم يذكر غيرهما وهما ينسفان القصة نسفاً، ويقتلعان جذورها. أو التوقف في هذا الصدد إذ لم يتبين لنا ورود خبر صحيح بأحد هذين القولين، أو بهما.(10/79)
ت إن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لا يستطيعون أن يمنعوا أحداً من عبادة يريد أداءها، وإلا كانوا صادين عن سبيل الله وحاشاهم بل إننا لنعجب من هذا، وأبو بكر رضي الله عنه قد حارب مانعي الزكاة، واعتبرهم مرتدين* عن دين الله تعالى وقال والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ، فكيف ينسجم قتاله لمانعي الزكاة، مع منعه لمريد اخراج الزكاة من ذلك؟ ثم ألم يكن بإمكان ثعلبة أن يخرج زكاة ماله على فقراء المنطقة التي كان يعيش فيها؟ ولعل هذا هو السر في عدم ذكر التيجاني لبقية القصة لأنها تصطدم مع ادّعاءاته.
ث إنّ المعروف من أحكام الإسلام أنه يعامل الناس على ظواهر أحوالهم وتلك هي كانت معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمنافقين، مع معرفته بنفاقهم، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلّى على عبد الله بن أُبي بن سلول، وأعطاه ثوبه لُيكفّن فيه، عملاً بما كان يظهر من إسلامه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه في الدرك الأسفل من النار، فأين فعلة ثعلبة من هذا كله؟!(10/80)
ج إن هذه القصة تخالف أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأسلوب الصحابة في معاملة مانعي الزكاة إذ إن الزكاة حق المال كما سبق هي حق للفقراء والمساكين وغيرهم، فالإمام مطالب بتحصيلها إذا امتنع الأغنياء من الدفع، وقد سبق معنا كيف حارب الصحابة مانعي الزكاة، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال من أعطى زكاة ماله مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها، فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمد منها شيء ، فضعاف النفوس والبخلاء الجشعون من أصحاب الأموال، ليس من الصواب معهم أن يعاملوا بما يوافق أهواءهم ورغباتهم، بل الحق معاكستهم فيما يرغبون مما هو محرّم، لأنه أصلح لأحوالهم وأعون لهم على نفوسهم وأجدى عائدة على المجتمع المسلم الذي ابتلي بأمثالهم! 2 فهذه الرواية باطلة سنداً ومتناً وكل ما جَعْجَعَه التيجاني مستنداً به على هذه الرواية ذهب أدراج الرياح.
سابعاً موقف التيجاني من أبي بكر في قضية خالد بن الوليد والرد عليه في ذلك:
موقف التيجاني من خالد بن الوليد والرد عليه في ذلك:(10/81)
يقول التيجاني أما الحادثة الثالثة التي وقعت لأبي بكر في أول خلافته واختلف فيها عمر بن الخطاب وقد تأوّل فيها النصوص القرآنية والنبوية: تلك هي قصّة خالد بن الوليد الذي قتل مالك بن نويرة صبراً ونزا على زوجته فدخل بها في نفس الليلة. وكان عمر يقول لخالد: يا عدوّ الله قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنّك بالأحجار، ولكن أبا بكر دافع عنه وقال هبه يا عمر، تأوّل فأخطأ فأرفع لسانك عن خالد ، وهذه فضيحةٌ أخرى سجّلها التاريخ لصحابي من الأكابر!! إذا ذكرناه، ذكرناه بكل احترام وقداسة، بل ولقبناه ب سيف الله المسلول !! ماذا عساني أن أقول في صحابي يفعل مثل تلك الأفعال يقتل مالك بن نويرة الصحابي الجليل !!! سيد بني تميم وسيد يربوع وهو مضرب الأمثال في الفتوة والكرم والشجاعة. وقد حدّث المؤرخون أن خالداً غدر بمالك وأصحابه وبعد أن وضعوا السّلاح وصلّوا جماعة أوثقوهم بالحبال وفيهم ليلى بنت المنهال زوجة مالك وكانت من أشهر نساء العرب بالجمال ويقال أنه لم ير أجمل منها وفتن خالد بجمالها، وقال له مالك: يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا، وتدخّل عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري وألحّا على خالد أن يبعثهم إلى أبي بكر فرفض خالد وقال: لا أقالني الله إن لم أقتله فالتفت مالك إلى زوجته ليلى وقال لخالد: هذه التي قتلتني، فأمر خالد بضرب عنقه وقبض على ليلى زوجته ودخل فيها في تلك الليلة أقول وبالله التوفيق:(10/82)
1 لا بد أن يلاحظ القارئ قبل البدء في سرد الردود على هذا الشانئ الكذاب كيف يدّعي الإنصاف والعدل وهما في براءة منه، وسيرى مدى تحامله وحنقه على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدى تحامله على الصحابي الجليل خالد بن الوليد هازم فلول الفرس وكاسر أنوفهم، حيث لا يذكر إلا الرواية المكذوبة والتي لا يلتفت إليها ويحتج بها إلاّ إخوانه من الرافضة، ويتجاهل الروايات التي أوردتها كل كتب التاريخالمعروفة وهي التي طالما يحتج بها علينا عندما يعتقد أنها تخدم مبتغاه ويتجاهلها حينما لا يجد فيها بغيته للنيل من أهل السنة ولكن خاب ظنه.
2 الروايتان اللتان ذكرهما المؤرخون واللتان أخفاهما هذا التيجاني وتتحدثان عن خبر مقتل مالك بن نويرة هما:
الرواية الأولى ... ولما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأنْ يأتوا بكل من لم يجب وإن امتنع أنْ يقتلوه. وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذّنوا إذا نزلوا منزلاً فإن أذّن القوم فكفوا عنهم وإن لم يؤذنوا فاقتلوا وانهبوا وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم عن الزكاة، فإن أقروا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم قال فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع فاختلفت السرية فيهم. وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلّوا فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء فأمر خالد منادياً فنادى دافئوا أسراكم وهي في لغة كنانة القتل فظن القوم أنه أراد القتل ولم يرد إلا الدفْء فقتلوهم فقتل ضرار بن الأزور مالكاً، وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم. فقال: إذا أراد الله أمراً أصابه(10/83)
وأما الرواية الثانية أن خالداً استدعى مالك بن نويرة فأنّبه على ما صدر منه من متابعة سجاح، وعلى منعه الزكاة وقال: ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟ فقال مالك: إن صاحبكم يزعم ذلك، فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟ يا ضرار اضرب عنقه، فضربت عنقه .
3 أما الرواية التي اعتمدها التيجاني والتي تدّعي أن خالداً أراد قتل مالك بن نويرة بسبب زوجته فلم يعيروها اهتمامهم لنكارتها وشذوذها، والتي عزاها التيجاني بالهامش على المراجع التالية تاريخ أبي الفداء، وتاريخ اليعقوبي وتاريخ ابن السحنة ووفيات الأعيان ، فبمجرّد مراجعة بعض هذه المراجع يتضح لكل باحث عن الحق إسلال هذا التيجاني في النقل، فلو راجعنا كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان في خبر مقتل مالك لوجدناه يورد القصة بخلاف ما أوردها التيجاني ، فإبن خلكان أورد القصة على النحو التالي ... ولما خرج خالد بن الوليد رضي الله عنه لقتالهم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه نزل على مالك وهو مقدم قومه بني يربوع وقد أخذ زكاتهم وتصرّف فيها، فكلمه خالد في معناها، فقال مالك: أني آتي بالصلاة دون الزكاة، فقال له خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معاً لا تقبل واحدة دون أخرى، فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك، قال خالد: وما تراه لك صاحباً؟ والله لقد هممت أن أضرب عنقك، ثم تجاولا في الكلام طويلاً فقال له خالد: إني قاتلك، قال، أو بذلك أمرك صاحبك؟ قال: وهذه بعد تلك؟ والله لأقتلنك.وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه حاضرين فكلما خالداً في أمره، فكره كلامهما، فقال مالك: يا خالد، ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا، فقد بعثت إليه غيرنا ممن جُرْمه أكبر من جرمنا، فقال خالد: لا أقالني الله إن أقلتك، وتقدّم إلى ضرار بن الأزور الأسدي بضرب عنقه، فالتفت مالك إلى زوجته أم متمم وقال لخالد: هذه التي قتلتني، وكانت في غاية الجمال فقال له خالد: بل(10/84)
الله قتلك برجوعك عن الإسلام، فقال مالك أنا على الإسلام، فقال خالد: يا ضرار اضرب عنقه، فضرب عنقه ، فقارن أخي القارئ هذه الرواية بما أورده هذا التيجاني لتعرف مدى التدليس الذي يتمتع به هذا التيجاني المهتدي، وهو يقول بأمر زواج خالد بليلى زوجة مالك وقبض على ليلى زوجته ودخل بها في تلك الليلة ويعزوها لكتاب وفيات الأعيان، ولكن عندما نرجع للكتاب نجده يقول وقبض خالد امرأته، فقيل إنه اشتراها من الفيئ وتزوج بها، وقيل إنها اعتدت بثلاث حيض ثم خطبها إلى نفسه فأجابته !؟ فهل يوجد كذب واغلال أشد من ذلك والكتاب يملأ الأسواق ولينظره من يريد الحق ليعرف كيف أصبح الكذب من السهولة بمكان بحيث تُؤلّف كتبٌ بالكامل مملوءة بالكذب والدجل ولا يستحي مؤلفوها من أن يعنونوها بالهداية والتقوى ومع الصادقين؟ ثم يكمل ابن خلكان القصة ويقول في نهايتها هكذا سرد هذه الواقعة وثيمة المذكور والواقدي في كتابيهما والعهدة عليهما ! أي لم أسردها مستوثقاً بها بل نقلتها كما جاءت في كتابيهما فأي طعن في الرواية يرجع عليهما. وبالنسبة لتاريخ اليعقوبي فإنه أورد القصة بأسلوب مهين فقال وكتب إلى خالد بن الوليد أن ينكفئ إلى مالك بن نويرة اليربوعي، فسار إليهم وقيل إنه كان ندأهم، فأتاه مالك بن نويرة يناظره، واتبعته امرأته، فلّما رآها أعجبته فقال: والله لا نلت ما في مثابتك حتى أقتلك فنظر مالكاً فضرب عنقه، وتزوج امرأته ! فإذا أضفنا لذلك الكذب والتخرُّس الذي يتمتع به الرافضة، مع نكارة وتلفيق هذه الرواية وآثار التحريف فيها مع معارضتها للروايات الأخرى ومصادمتها لتاريخ هذا البطل المسلم لأصبح الحق واضحاً، وحتى ينقضي عجب القارئ لهذا الكلام المكذوب والمخالف أيضاً لكذب التيجاني، فلا بد أن أُظهر من هو اليعقوبي؟ فاليعقوبي أخو التيجاني من حيث المنبع والاتجاه، فهو رافضي إثنا عشريٌّ ففي كتابه هذا يعرض تاريخ الدولة الإسلامية من وجهة نظر الشيعة(10/85)
الإمامية فهو لا يعترف بالخلافة إلا لعلي بن أبي طالب وأبنائه حسب تسلسل الأئمة عند الشيعة ويسمي علي بالوصي. وعندما أرّخ لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يُضِفْ عليهم لقب الخلافة وإنما قال تولى الأمر فلان.. ثم لم يترك واحداً منهم دون أن يطعن فيه، وكذلك كبار الصحابة فقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها أخباراً سيِّئة وكذلك عن خالد بن الوليد ! وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان. وعرض خبر السقيفة عرضاً مشيناً، ادعى فيه أنه قد حصلت مؤامرة على سلب الخلافة من علي بن أبي طالب الذي هو الوصيُّ في نظره، وبلغ به الغلو إلى أن ذكر أن قول الله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } قد نزلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه يوم النفر، وطريقته في سياق الاتهامات هي طريقة قومه من أهل التشيع والرفض وهي إما اختلاق الخبر بالكلية أو التزيد في الخبر والإضافة عليه أو عرضه في غير سياقه ومحله حتى يتحرّف معناه، ومن هنا نعلم أن خالداً قتل مالك بن نويرة معتقداً أنه مرتدٌ ولا يؤمن بوجوب الزكاة كما في الرواية التي ذكرتها كتب التاريخ، إضافة لبعض المصادر السابقة الذكر التي عزا إليها التيجاني إذا تجاهلنا آثار الوضع عليها وتحريفها إلى جعل خالد يريد قتل مالك من أجل زوجته وتصبح اتهامات التيجاني لخالد وما بناه عليها لا وزن لها.(10/86)
4 أما ادعاؤه أن عمر قال لخالد: يا عدوَّ الله قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنَّك بالأحجار. ويعزوها إلى تاريخ الطبري وأبي الفداء واليعقوبي والإصابة ، فهذا من المين الواضح، فبمجرد مراجعة تاريخ اليعقوبي والإصابة فلا تجد لهذه الجملة أثراً؟! وأما تاريخ الطبري فقد أوردها ضمن رواية ضعيفة لا يحتج بها مدارها على ابن حميد ومحمد بن اسحاق، فمحمد بن اسحاق مختلف في صحتهوابن حميد هو محمد بن حميد بن حيان الرازي ضعيف، قال عنه يعقوب السدوسي: كثير المناكير، وقال البخاري: حديثه فيه نظر، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الجوزجاني: رديء المذهب غير ثقة ، وضعّفه ابن حجر في التقريب، فهذه الرواية ضعيفة الإسناد لا يحتج بها، وحتى من ناحية المتن فباطلة أيضاً لأنها تقول إن أبا بكر استقدم خالداً. فلما قدم المدينة دخل المسجد في هيئة القائد الظافر. فقام إليه عمر ونزع أسهمه وحطّمها وقال له تلك الكلمة المتوعّدة بقاصمة الظهر قتلت رجلاً مسلماً ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بالأحجار وبطل الإسلام خالد لا يكلمه. يظن أن رأي أبي بكر مثله فأقول إذا كان عمر بن الخطاب يعرف رأي أبي بكر في هذه القضية كما هو مذكور في الرواية قبل أن يقدم خالد عليهما، لأنهما تجاولا في القضية، واشتد عمر على خالد، فنهْنَههُ أبو بكر وقال له: ارفع لسانك عن خالد، وقرظ خالداً وزكاه بما زكاه به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن خالداً سيف سلّه الله على الكافرين فلا أشيمه فكيف ساغ لعمر بن الخطاب بعد هذا أن يصنع بخالد هذا الصنيع مخالفاً رأي الخليفة؟ قد يقول قائل: إن عمر بن الخطاب ذلك الرجل الشديد في الدين، الذي يقف مع رأيه غير متخاذل لرأي أحد، قلنا: وأين ذهبت تلك الشدة بعد أن قابل خالد أبا بكر وأفضى إليه بحقيقة الأمر كما وقع وكما قدره هو ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج على عمر يتوعده بهذه الكلمة(10/87)
الساخرة: هلم إليّ يا ابن أم شملة؟ أكانت في تلك الصورة الهزيلة التي تختم بها الرواية فصولها. فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه، فلم يكلمه ودخل بيته وهذه المعرفة عند عمر قبل أن يلقى خالداً وينزع أسهمه ويحطّمها، ولكن الرواة ينسون أو يغفلون؟ أم إن عمر غير رأيه وعرف أن خالداً بريء مما قذف به ؟! ولو فرضنا جدلاً أن عمر قد أشار بقتله فيقال: غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد، كان رأي أبي بكر فيها أن لا يَقْتُل خالداً، وكان رأي عمر فيها قتله، وليس عمر بأعلم من أبي بكر: لا عند السنة ولا عند الشيعة، ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر، ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح، فكيف يجوز أن يَجْعَل مثل هذا عيباً لأبي بكر إلا من هو من أقل الناس علماً وديناً؟ .
5 أما قوله وهذه فضيحة أخرى سجلها التاريخ لصحابي من الأكابر، إذا ذكرناه، ذكرناه بكل احترام وقداسة بل ولقبناه ب سيف الله المسلول(10/88)
عجباً؟ من يسمع كلام هذا المنصف يظن أنه يتكلم عن رأس المنافقين ويدل أيضاً على عظيم فرحه لأنه أوجد خطأً بزعمه على صحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بل ويعتب علينا لأننا نذكره باحترام وقداسة!! وكأن لسان حاله يقول لا احترام ولا تقدير لصحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، أما لقب سيف الله المسلول فالذي لقبه بذلك هو إمام الخلق محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للنَّاس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال أخذ الراية زيدٌ فأُصيبَ، ثمَّ أخذها جعفرٌ فأُصيب، ثمَّ أخذ بن رواحة فأُصيبَ . وعيناه تذرفانِ: حتى أخذها سيفٌ من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم ، وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً فجعل يمرون، فيقول رسول الله: يا أبا هريرة من هذا؟ فأقول: فلان، فيقول: نعم عبد الله فلان، ويمر فيقول: من هذا يا أبا هريرة فأقول: فلان، فيقول بئس عبد الله، حتى مر خالد بن الوليد، فقلت هذا خالد بن الوليد يا رسول الله. قال: نِعْمَ عبد الله خالد، سيف من سيوف الله ، فماذا يصنع التيجاني بهذه الأحاديث لا شك أنه سيحللها كما هي عادته لأنها تخالف المنطق والمعقول وسيقول بكل سرور حديث باطل قطعاً!!(10/89)
6 أما قوله بأن مالك بن نويرة صحابي جليل فهذا الذي لا يقره الواقع والتاريخ فالمؤرخون أثبتوا أن مالك كان قد ارتدَّ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يؤدي الزكاة وفرق الصدقات بين قومه، وعندما جيء به لخالد وجادله بأمر الزكاة قال له: قد كان صاحبكم يزعم ذلك!؟ ومعنى قوله ذلك أنه لم يقر بالزكاة هذا أولاً وثانياً ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله صاحبكم وهذا هو قول المشركين الذين لم يقروا بنوة محمد صلى الله عليه وسلم وعدم الإقرار وحده بالزكاة كافياً لقتله وهذه الرواية ذكرها جميع المؤرخين بما في ذلك الأصفهاني في الأغاني وابن خلكان بخلاف اليعقوبي الرافضي المعروف بالكذب فكيف يقال بعد ذلك أن مالكاً صحابيٌّ جليل؟ ... بل قد ذكر المؤرخون دليلاً آخر على موت مالك مرتداً فقالوا التقى عمر بن الخطاب متمم بن نويرة أخو مالك، واستنشد عمر متمماً بعض ما رثى به أخاه، وأنشده متمم قصيدته التي فيها:
وكنا كندمانَيْ جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا * فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً
فلما سمع عمر ذلك قال: هذا والله التأبين ولوددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت أخاك. قال متمم: لو أن أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيته، فسر عمر رضي الله عنه لمقالة متمم وقال: ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني به متمم ، وجاء في سياق آخر قول متمم صريحاً فقال يا أمير المؤمنين إن أخاك مات مؤمناً ومات أخي مرتدا فقال عمر رضي الله عنه ما عزاني أحد عن أخي بأحسن مما عزيتني به عنه 1، فهل يوجد أوضح من ذلك دليلاً على ردة مالك؟!(10/90)
7 أما عن زواجه بامرأة مالك وادعاء التيجاني أنه دخل بها في نفس الليلة فهذا خلاف الحق فقد ذكر ابن كثير أن خالداً اصطفى امرأة مالك ولما حلت بَنَا بها1 وذكر الطبري زواج خالد بقوله ... وتزوج خالد أم تميم ابنة المنهال، وتركها لينقضي طُهرها 20، وفي الكامل وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك 21، ولم يقل كما يدعي التيجاني أنه دخل بها في نفس الليلة بل تزوجها لما حلت وإلا لذكر ابن الأثير ذلك، ويقول ابن خلكان الذي استشهد به التيجاني وقبض خالد امرأته، فقيل أنه اشتراها من الفيء وتزوج بها، وقيل أنها اعتدت بثلاث حيض ثم خطبها إلى نفسه فأجابته 22!؟، فأتساءل والقراء من أين عرفت أن خالداً دخل بامرأة مالك في نفس الليلة؟! فهل من جواب يا أيها التيجاني المهتدي؟! فإذا كان خالد قد تزوج امرأة مالك بعدما استبرأت من حيضتها فهل هذا مما يذم عليه؟!
ثم يكابر فيقول ماذا عساني أن أقول في هؤلاء الصحابة الذين يستبيحون حرمات الله ويقتلون النفوس المسلمة من أجل هوى النفس ويستبيحون الفروج التي حرّمها الله، ففي الإسلام لا تنكح المرأة المتوفي زوجها إلا بعد العدّة التي حددها الله في كتابه العزيز، ولكنّ خالداً اتخذ إلهه هواه فتردّى 23 أقول:
1 ألا لعنة الله على المنافقين المكابرين الفاسدة سرائرهم الذين يطعنون بخير الناس، ولا حجة لديهم إلا الباطل والتحامل الذي لا يدل إلا على الحقد الدفين على هذا الدين العظيم، وذلك بالطعن بصحابة النبي صلى الله عليه وسلم الحاملين للكتاب والحافظين للسنة والذّابين عن هذا الدين، والقادة المجاهدين في سبيل رب العالمين، حتى يسهل تدمير هذا الدين بالكلية من نفوس المسلمين ولكن بطل السحر يا تيجاني.(10/91)
2 لا شك أن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لا يستبيحون حرمات الله ويقتلون النفوس المسلمة من أجل هوى النفس فهذا ادعاءٌ يعوزه الدليل والبرهان وقد أوضحت قبل قليل عذر خالد بما يغني عن الاعادة وأما أنهم يستبيحون الفروج التي حرمها الله فهذا لا يقوله إلا من تعفن قلبه وأغلق فؤاده فقد أظهرت من مصادر التيجاني نفسها أن خالداً دخل بامرأة مالك بالحلال وبرضاها أيضاً ولكن التيجاني اتخذ تشيعه هواه فتردى!
ويتتابع التيجاني في عمايته فيقول وأي قيمة للعدة عنده بعد أن قتل زوجها صبراً وظلماً وقتل قومه أيضاً وهم مسلمون بشهادة عبد الله بن عمر وأبي قتادة الذي غضب غضباً شديداً مما فعله خالد وانصرف راجعاً إلى المدينة وأقسم أن لا يكون أبداً في لواءٍ عليه خالد بن الوليد ثم يعزوها إلى تاريخ الطبري، وتاريخ اليعقوبي وتاريخ أبي الفداء والإصابة 24 فأقول:
1 هذه الرواية التي يعزوها التيجاني للطبري هي نفس الرواية التي تدعي أن عمر هدد خالداً برجمه بالأحجار، وقد ذكرت أنها رواية ضعيفة25.
2 لم أجد لهذه الرواية أثراً في الإصابة ولكن يبدو أن تكثير المراجع أمر ذا أهمية لكي تثبت الكذبة.(10/92)
3 أما رأي أبو قتادة فهذا مارآه وهو خلاف ما تأوله خالد في شأن مالك ولا يضير خالد أن لا يسير أبو قتادة معه في غزواته لأنه أعتقد أنه فعل الصواب، وإذا كان فعل أبو قتادة صحيحاً فلماذالم يفعل ذلك ابن عمر الذي اكتفى بإبداء رأيه ثم سار مع الجيش؟! فهذا لا يدل إلا على فقهه رضي الله عنه وعلمه أن خالداً ومن وافقوه على قتل مالك لا يصدرون عن هوى وأنهم إن أخطأوا فقد تأولوا26، وأنا أريد أن أسأل المنصف التيجاني لماذا أيّد موقف أبو قتادة ضد خالد؟ وحكم على فعله بالبطلان؟! مع أن كلاهما قد تأول الأمر بحسب ما ظنّه، ولماذا مثلاً لم يقف في صف ضرار بن الأزور الذي قتل مالكاً، معتقداً ردّته موافقاً لخالد فهل يريد أخبارنا أن ضرار قتل مالكاً لهوى في نفسه، وأنه وقف مع أبي قتادة منافحاً عن الحق؟! فأقول للتيجاني كفاك ثم كفاك إحراجاً للصحابة بإنصافك!!
ثم يستشهد بكلامٍ ممجوج لحسين هيكل في كتابه الصديق أبو بكر الذي يغرقه بالروايات ولا يفرّق بين صحيحها وسقيمها، ثم يهذي بقوله وهل لنا أن نسأل الأستاذ هيكل وأمثاله من علمائنا الذين يراوغون حفاظاً على كرامة الصحابة ، هل لنا أن نسألهم، لماذا لم يقم أبو بكر الحد على خالد؟ وإذا كان عمر كما يقول هيكل مثال العدل الصارم فلماذا اكتفى بعزله عن قيادة الجيش ولم يقم عليه الحد الشرعي حتى لا يكون ذلك أسوأ مثل يضرب للمسلمين في احترام كتاب الله كما ذكر؟ وهل احترموا كتاب الله وأقاموا حدود الله؟ كلا إنها السياسة وما أدراك ما السياسة! تصنع الأعاجيب وتقلّب الحقائق وتضرب بالنصوص القرآنية عرض الجدار 27، فأقول:(10/93)
لقد بينت فيما سبق أن خالد قتل مالك لأنه رآه مرتداً وقد ذكرت الأسباب التي دعت خالد لاعتقاد ذلك وهي أسباب في نظري تظهر بوضوح ردة مالك، وعلى العموم غاية ما يقال في هذه الحادثة أن خالداً إن أخطأ في قتل مالك فيكون متأولاً وهذا لا يجيز قتل خالد وهذه القضية مثلها رواية أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا أسامة: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ فأنكر عليه قتله، ولم يوجب عليه قَوَداً ولا دية ولا كفَّارة. وقد روى محمد بن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة أن هذه الآية: قوله تعالى { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً } النساء 4 نزلت في شأن مرداس، رجل من غطفان، بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى قومه ، عليهم غالب الليثي، ففرّ أصحابة ولم يفرّ، قال: إني مؤن، فصبّحته الخيل فسلّم عليهم، فقتلوه وأخذوا غنمه، فأنزل الله هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد أمواله إلى أهله وبِديته إليهم، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك. وكذلك خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة متأولاً ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد . ومع هذا لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان متأولاً. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله مع قتله غير واحد من المسلمين من بني جذيمة للتأويل، فلأن لا يقتله أبو بكر لقتله مالك ابن نويرة بطريق الأوْلى والأحرى 2.(10/94)
والغريب أن هذا التيجاني يورد خبر خالد مع بني جذيمة ويحتج به على أبي بكر وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله، فكيف لم يجعل ذلك حجة لأبي بكر في أن لا يقتله؟! لكن من كان متّبعا لهواه أعماه عن اتّباع الهدى 2. وبعد ذلك هل لي أن أسأل الدكتور التيجاني المنصف لماذا لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم الحد على خالد بل ولم يعزله من قيادة الجيش بل أبقى عليه حتى وفاته؟ وهل هذا الأمر يعتبر أسوأ مثل يُضرب للمسلمين في احترام كتاب الله؟! وهل النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بالنصوص القرآنية عرض الحائط؟! كلا ولكنها الخساسة التي يتمتع بها التيجاني وما أدراك ما الخساسة!!
ثم ينهمك في غوايته فيقول وهل لنا أن نسأل بعض علمائنا الذين يروون في كتبهم أن رسول الله ص غضب غضباً شديداً عندما جاء، أسامة ليشفع في امرأة شريفة سرقت. فقال ص: ويحك أتشفع في حدّ من حدود الله والله لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ . فكيف يسكتون عن قتل المسلمين الأبرياء والدخول بنساءهم في نفس الليلة وهنّ منكوبات بموت أزواجهنّ ويا ليتهم يسكتون! ولكنهم يحاولون تبرير فعل خالد بإختلاق الأكاذيب وبخلق الفضائل والمحاسن حتى لقبوه بسيف الله المسلول، ولقد أدهشني بعض أصدقائي وكان مشهوراً بالمزح وقلب المعاني، فكنتأذكر مزايا خالد بن الوليد في أيام جهالتي وقلت له أنه سيف الله المسلول، فأجابني: إنه سيف الشيطان المشلول، واستغربت يومها، ولكن بعد البحث فتح الله بصيرتي وعرّفني قيمة هؤلاء الذين استولوا على الخلافة وبدّلوا أحكام الله وعطّلوها وتعدّوا حدود الله واخترقوها 30. للرد على ذلك أقول:(10/95)
1 روى البخاري الحديث بهذا اللفظ عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمّتْهُم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنْ يجترئ عليه إلا أسامة، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أتشفع في حدٍّ من حدود الله . ثم قام فخطب، قال: يا أيها الناس، إنما ضلَّ من كان قبلكم، أنَّهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدَّ، وآيْمُ الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطَعَ محمدٌ يدَهَا 31.
وهذا الحديث من أظهر الحجج على التيجاني نفسه لأنه يظهر بوضوح أن أسامة أراد أن يستشفع لأمرأة ثبت أنها سارقة بلا تأويل ولا شبهة والحدود كما هو معلوم تدر بالشبهات فلو كان هناك شبهة لما دفع أسامة ليستشفع للمخزومية وهذا واضح في قول النبي صلى الله عليه وسلم : أتشفع في حدٍ من حدود الله! بخلاف فعل خالد الذي رأى أن مالك قد ارتد بعد مناقشته له، فقتله فأقل ما يقال أنه تأول فأخطأ فكيف إذا ثبت بالبراهين والبيِّنات ردة مالك، فلماذا إذن يساوي التيجاني بين القضيتين؟!(10/96)
2 انظر أخي القارئ إلى هذا التيجاني المهتدي الذي يتهم أهل السنة بأنهم يختلقون الأكاذيب والفضائل للقائد المجاهد خالد بن الوليد ويلقبونه بسيف الله المسلول وقد ثبت أن الذي قال ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وكيف لا يكون كذلك وهو الذي قاد المسلمين من نصر إلى نصر، وأبلى في الجهاد أعظم البلاء حتى أنه اندق في يده يوم مؤته تسعة أسياف فما صبرت معه إلا صحيفة يمانية32 وثبت عنه أنه قال لقد منعني كثيراً من قراءة القرآن الجهاد في سبيل الله 33، وعندما إقتربت منيته قال كلاماً نقشه التاريخ على صفحاته لأجيال الأمة ما ليلة يهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب أو أبشّر فيها بغلام أحب إليّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أُصبِّح بها العدو، فعليكم بالجهاد 34، وذكر ابن عبد البر بالاستيعاب أنه قال لما حضرت خالد بن الوليد الوفاة قال: لقد شهدتُ مائة زحف أو زُهاءَها، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربةٌ أو طعنة أو رَمْية، ثم هأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر، فلا نامت أعين الجبناء 35، وحتى علماء الرافضة يعترفون ببطولة وشجاعة هذا القائد الأشم ولا يستطيعون إنكارها فيقول علامتهم عباس القمي في كتابه الكنى والألقاب هو الفتاك البطل الذي له الوقائع العظيمة، وكان يقول على ما حكي عنه لقد شاهدت كذا وكذا وقعة ولم يكن في جسدي موضع شبر إلا وفيه أثر طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي لا نامت عين الجبان 36
وأنظر التيجاني وهو يقول في أيام جهالته ! لأحد أصحابه عن خالد أنه سيف الله المسلول كما لقبه به النبي صلى الله عليه وسلم ثم جواب صاحبه السخيم: إنه سيف الشيطان المشلول !! ورد التيجاني بقوله أنه بعد البحث فتح الله بصيرته!!؟ لتعلم أخي القارئ إلى أي سبيل هُدِي إليه التيجاني فتدعو الله بالسلامة!(10/97)
ثم يطيش بسكرته فيقول فقد سجّل المؤرخون بأنه بعثه بعد تلك الواقعة المشينة إلى اليمامة التي خرج منها منتصراً وتزوّج في أعقابها بنتاً كما فعل مع ليلى ولمّا تجف دماء المسلمين بعد ولا دماء أتباع مسيلمة !!، وقد عنّفه أبو بكر على فعلته هذه بأشد مما عنّفه على فعلته مع ليلى، ولا شك أن هذه البنت هي الأخرى ذات بعل فقتله خالد ونزا عليها كما فعل بليلى زوجة مالك. وإلا لما استحقّ أن يعنّفه أبو بكر بأشد مما عنّفه على فعلته الأولى، على أن المؤرخون يذكرون نصّ الرسالة التي بعث بها أبو بكر إلى خالد بن الوليد وفيها يقول لعمري يا ابن أم خالد إنك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجف بعد ، ولما قرأ خالد هذا الكتاب قال: هذا عمل الأعسر يقصد بذلك عمر بن الخطاب37، فأقول:
1 هذا الأثر ضعيف ففي سنده ابن حميد وهو ضعيف3، ذكره العقيلي في الضعفاء3 وكذا محمد بن اسحاق فهو في أفضل أحواله مختلف فيه40، فهذا الأثر ضعيف ولا يحتج به.(10/98)
2 ولو فرضنا أنه صحيح فليس فيه ما يعيب خالد، فإنه تقدم لمجاعة بن مرارة طالباً الزواج من ابنته فزوّجها له، فلا أظن أن هذا الزواج مما يعيب خالد ولا أنّ زواجه بأكثر من امرأة يوجب مذمّة أو حرمة، أما بالنسبة لاعتراض أبو بكر عليه فقد رد خالد مدافعاً عن نفسه معتذراً عن فعله بقوله أما بعد فلعمري ما تزوجت النساء حتى تم لي السرور، وقرت بي الدار، وما تزوجت إلا إلى امرىء لو عملت إليه من المدينة خاطباً لم أبل، دع إني استثرت خطبتي إليه من تحت قدمي، فإن كنت قد كرهت لي ذلك لدين أو دنيا أعتبتك، وأما حسن عزائي عن قتلى المسلمين فوالله لوكان الحزن يبقي حياً أو يرد ميتاً، لأبقى الحزن الحي ورد الميت ولقد اقتحمت حتى أيست من الحياة وأيقنت الموت، وأما خدعة مجاعة إياي عن رأي فإني لم أخطيء رأي يومي، ولم يكن لي علم بالغيب، وقد صنع الله للمسلمين خيراً، أورثهم الأرض وجعل العاقبة للمتقين 41 وكتاب خالد هذا أوضح من التعليق عليه.
3 يبدو أن أن التيجاني لا يستطيع أن يتخلًص من أخص صفاته وأحبها إليه ألا وهي الكذب! فهو يموه الحق بقوله ولا شك أن هذه البنت هي الأخرى ذات بعل فقتله خالد ونزا عليها، كما فعل بليلى زوجة مالك !! ولا أعتقد أن التيجاني الذي ذكر هذه القصة وعزا إلى مصادرها في هامش كتابه لا يعلم أنها تذكر أن خالداً تقدم بالزواج من هذه المرأة إلى أبيها مجاعة وأنه وافق على زواجه منها42، فسبحان الله... هذا التيجاني يدعي أنه هدى إلى الصراط المستقيم فكيف سيكون حاله إذا علم أنه قد ضل عن الحق المبين؟! فنسأل الله العافية.
وبعد هذا البيان أعتقد أنني قد بينّت الحق لمريده فالحمد لله رب العالمين.
==================
زعم الرافضة أن الشيخين وعثمان رضي الله عنهم قد خالفوا سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم(10/99)
دعوى الرافضي أن أبا بكر وعمر وعثمان خالفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وطعنه في أبي بكر بحرب المرتدين والرد عليه
قال الرافضي ص181 «إن من سنة أبي بكر وعمر وعثمان ما يناقض سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويبطلها كما لا يخفى.
وإذا كانت أول حادثة وقعت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة وسجلها أهل السنة والجماعة والمؤرخون هي مخاصمة فاطمة الزهراء لأبي بكر الذي احتج بحديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، هذا الحديث الذي كذبته فاطمة وأبطلته بكتاب الله...
والحادثة الثانية: التي وقعت لأبي بكر في أيام خلافته، وسجلها المؤرخون من أهل السنة والجماعة اختلف فيها مع أقرب الناس إليه وهو عمر بن الخطاب، تلك الحادثة التي تتلخص في قراره بمحاربة مانعي الزكاة... على أن هؤلاء الذين منعوا إعطاء أبي بكر زكاتهم لم ينكروا وجوبها، ولكنهم تأخروا ليتبينوا الأمر، ويقول الشيعة: إن هؤلاء فوجئوا بخلافة أبي بكر، وفيهم من حضر مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حجة الوداع، وسمع منه النص على علي بن أبي طالب فتريثوا حتى يفهموا الحقيقة».
قلت: قوله: إن أبا بكر، وعمر، وعثمان، خالفوا سنة
النبي صلى الله عليه وسلم دعوى باطلة لايعبأبها، ولا وزن لها في ميزان الحق مالم يؤيدها بالحجة والبرهان، قال تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}. (1)(10/100)
وقد علمت الأمة بالنقل المتواتر، الذي لا يمكن أن يندفع أو يتطرق إليه شك: أنه ليس أحد من الخلق أقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقوم بدينه، وأعلم به وأكثر مناصرة له، وأعظم مجاهدة وبلاءً فيه، من أبي بكر، وعمر، ثم من بعدهما عثمان، وعلي -y-، فإن هؤلاء هم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأصهاره الذين أخبر أنهم على الهدى، وأوصى بالتمسك بسنتهم، وخص أبابكر، وعمر منهم بالاقتداء بهما(2)، فلا يطعن فيهم بعد هذا إلا ناقص في العقل لا يدري ما يقول، أو ضال مضلّ حائد عن السبيل، ولهذا لا يعرف في الأمة أحد تنقص الشيخين، أو تعرض لهما بقدح لا من أهل السنة، ولا من أهل البدعة المنتسبين لهذه الملة، غير هؤلاء الرافضة المخذولين. وما طعن هذا الرافضي هنا في الخلفاء الثلاثة واتهامهم بمخالفة السنة إلا امتداد اً لمطاعن سلفه من الرافضة الذين هم أسخف الناس عقولاً، وأضعفهم حجة ودليلاً. وطعنه هذا من حيث الجملة هو أضعف من أن يتكلف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية 111.
(2) تقدم ذكر الحديث وتخريجه ص 560.
في رده ونقضه لمخالفته لما هو معلوم للأمة بالضرورة من قيام هؤلاء الخلفاء بأمر الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن بلائهم فيه، وانما أقتصر هنا على ما ذكره من أمثلة لما ادعاه من مخالفة هؤلاء الخلفاء للسنة، مع بيان بطلان ما ادعاه وكذبه في ذلك.
أما الحادثة الأولى: وهي قوله مخاصمة فاطمة لأبي بكر في الميراث فقد تقدم الرد عليه فيها، وبيان كذبه وتلبيسه بما لامزيد
عليه هنا.(1) (1) انظر ص 420-436 من هذا الكتاب.
وأما ما ذكر في الحادثة الثانية: وهي طعنه في أبي بكر بقتال المرتدين، الذين منعوا الزكاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وارتدوا عن الإسلام.(10/101)
فهذا مما أظهر الله به أمره، وكشف ستره، وما هو عليه من زندقة وإلحاد. فتأمل أيها القارئ طعن هذا المنافق في أبي بكر وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودفاعه عن المرتدين الذين ارتدوا عن الدين بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم ، واعتذاره لهم وتخطئة الصحابة في قتالهم، لتعلم موقعه من الدين.
على أن المؤلف بطعنه هذا ما هو إلا مقلد لإخوانه من الرافضة الذين سبقوه لهذا فرد العلماء عليهم في ذلك، حتى ظهر للناس زيف دعواهم وشدة افترائهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في رده على ابن المطهر بعد نقله كلامه في المسألة: «والجواب بعد أن يقال: الحمد لله الذي أظهر من أمر هؤلاء إخوان المرتدين، ما تحقق به عند الخاص والعام أنهم إخوان المرتدين حقاً، وكشف أسرارهم، وهتك أستارهم بألسنتهم، فإن الله لا يزال يطلع على خائنة منهم تبين عدوانهم لله ورسوله، ولخيار عباد الله وأوليائه المتقين، {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً}(1)، فنقول من كان له علم بالسيرة، وسمع مثل هذا الكلام جزم بأحد أمرين:
إما بأن قائله من أجهل الناس بأخبار الصحابة، وإما أنه من أجرأ الناس على الكذب، فظني أن هذا المصنف وأمثاله من شيوخ الرافضة ينقلون ما في كتب سلفهم، من غير اعتبار منهم لذلك، ولا نظر في أخبار الإسلام، وفي الكتب المصنفة في ذلك حتى يعرف أحوال الإسلام، فيبقى هذا وأمثاله في ظلمة الجهل بالمنقول والمعقول...
إلى أن قال: ومن أعظم فضائل أبي بكر عند الأمة -أولهم وآخرهم- أنه قاتل المرتدين، وأعظم الناس ردة كان بنو حنيفة، ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة، بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسيلمة الكذاب، وكانوا فيما يقال نحو مائة ألف، والحنفية أم محمد بن الحنفية سَرّية علي كانت من بني حنيفة، وبهذا احتج من جوز سبي المرتدات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(10/102)
(1) سورة المائدة، آية (41).
إذا كان المرتدون محاربين، فإذا كانوا مسلمين معصومين فكيف استجاز علي أن يسبي نساءهم ويطأمن ذلك السبي.
وأما الذين قاتلهم على منع الزكاة فأولئك ناس آخرون، ولم
يكونوا يؤدونها، وقالوا: لا نؤديها إليك، بل امتنعوا من أدائها بالكلية، فقاتلهم على هذا، لم يقاتلهم ليؤدّوها إليه، وأتباع الصديق كأحمد بن حنبل وأبي حنيفة، وغيرهما يقولون: إذا قالوا: نحن نؤديها ولا ندفعها إلى الإمام، لم يجز قتالهم لعلمهم بأن الصديق إنما قاتل من امتنع عن أدائها جملة، لامن قال: أنا أؤدّيها بنفسي. ولو عدّ هذا المفتري الرافضي من المتخلفين عن بيعة أبي بكر المجوس، واليهود، والنصارى، لكان ذلك من جنس عده لبني حنيفة، بل كفر بني حنيفة من بعض الوجوه كان أعظم من كفر اليهود، والنصارى، والمجوس، فإن أولئك كفار ملِّيُّون وهؤلاء مرتدون، وأولئك يقرون بالجزية، وهؤلاء لا يقرون بالجزية، وأولئك لهم كتاب أو شبه كتاب، وهؤلاء اتبعوا مفترياً كذاباً، لكن كان مؤذنه يقول: أشهد أن محمداً ومسيلمة رسولا الله، وكانوا يجعلون محمداً ومسيلمة سواء». (1)
فتبين بهذا أن الذين قاتلهم أبو بكر كانوا قسمين:
قسم منهم: قد ارتدوا بالكلية واتبعوا مسيلمة الكذاب، وهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 8/318-319-324.
بنو حنيفة، وهؤلاء لا يشك مسلم في كفرهم ووجوب قتالهم.
وقسم آخر: امتنعوا من تأدية الزكاة مطلقاً فلم يؤدوها بأنفسهم ولا دفعوها إلى الخليفة، فكان قتالهم واجباً مأموراً به من الله ورسوله(10/103)
قال تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}(1) فعلق تخلية السبيل على الإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله). (2)
فجعل شهادة ألاّ إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، شرطاً لعصمة الدماء والأموال. وأولئك الممتنعون عن تأدية الزكاة لم يتحقق فيهم الشرط، فقاتلهم أبو بكر - رضي الله عنه - وكان معه وعلى رأيه سائر الصحابة الذين باشروا قتالهم بأنفسهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة آية 5.
(2) أخرجه البخاري في: (كتاب الإيمان، باب {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}، فتح الباري 1/75، ح25، ومسلم: (كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله)، 1/53، ح22.
وأما دعوى الرافضي: أن عمر خالف في ذلك أبا بكر فكذب صريح على عمر - رضي الله عنه - أما قوم مسيلمة فلم يخالف في قتالهم أحد من
الصحابة، لا عمر ولا غيره، ولم يشكوا في كفرهم وردتهم، وأما مانعوا الزكاة: فقد رأى عمر في بداية الأمر عدم قتالهم، لكنه ما لبث أن رجع عن رأيه إلى قول أبي بكر بعد أن تبين له الحق في ذلك.
ورجوع عمر عن رأيه وموافقة أبي بكر، أمر مشهور في كتب
السنة والتاريخ لا يخفى على أحد من أهل العلم، ولم ينكره أحد منهم، وهو ثابت في الصحيحين:(10/104)
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (أن عمر قال لأبي بكر -رضي الله عنهما- كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولون لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله؟ قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة، حق المال، والله لو منعوني عناقاً، كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري: (كتاب استتابة المرتدين، باب قتل من أبى قبول الفرائض...) فتح الباري 12/275، ومسلم: (كتاب الإيمان، باب الأمربقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)، 1/51، ح20.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وأما قول الرافضي إن عمر أنكر قتال أهل الردة، فمن أعظم الكذب والافتراء على عمر
بل الصحابة كانوا متفقين على قتال مسيلمة وأصحابه، ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام وامتنعوا عن أداء الزكاة، فهؤلاء حصل لعمر أولاً شبهة في قتالهم، حتى ناظره الصديق وبين له وجوب قتالهم فرجع إليه والقصة في ذلك مشهورة». (1)
وبهذا يظهر بطلان دعوى الرافضي، وشدة ضلاله في ذمه لأبي بكر على قتال المرتدين الذي يُعد من أعظم مناقبه، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا مما يؤكد فرط جهل المؤلف بالتاريخ وإغراقه في الزيغ والضلال.
فنسأل الله العافية والسلامة من حاله.
___________________
(1) منهاج السنة 8/327.
==============
طعن المؤلف في خالد بن الوليد بقتله مالك بن نويرة وطعنه في أبي بكر لعدم الاقتصاص من خالد والرد عليه في ذلك(10/105)
قال المؤلف ص183 «وأما الحالة الثالثة التي وقعت لأبي بكر في أول خلافته، وخالفه فيها عمر بن الخطاب، وقد تأول فيها النصوص القرآنية والنبوية، فهي قصة خالد بن الوليد، الذي قتل مالك ابن نويرة صبراً، ونزا على زوجته فدخل بها في نفس الليلة.
وكان عمر يقول لخالد: يا عدو الله قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنك بالحجار.
ولكن أبا بكر دافع عنه وقال: (هبه ياعمر، تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد) وهذا فضيحة أخرى سجلها التاريخ لصحابي من الأكابر!! إذا ذكرناه ذكرناه بكل احترام وقداسة، بل ولقبناه: (سيف الله المسلول).
وخالد بن الوليد له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قصة مشهورة، إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلىبني جذيمة ليدعوهم إلى الإسلام، ولم يأمره بقتالهم، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل، ويأسربهم، ودفع الأسرى إلى أصحابه وأمرهم بقتلهم، وامتنع البعض من قتلهم، لما تبين لهم أنهم أسلموا، ولما رجعوا وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم : قال:
اللهم إني أبرأ اليك مما صنع خالد بن الوليد قالها مرتين...
إلى أن قال: فهل لنا أن نسأل أين هي عدالة الصحابة المزعومة التي يدعونها؟ وإذا كان خالد بن الوليد وهو من عظمائنا، حتى لقبناه (بسيف الله) أفكان ربنا يسل سيفه ويسلطه على المسلمين والأبرياء وعلى المحارم فيهتكها...
فهذه من الأسباب القوية التي جعلتني أنفر من أمثال هؤلاء الصحابة، ومن تابعيهم الذين يتأولون النصوص، ويختلقون الروايات الخيالية، لتبرير أعمال أبي بكر وعمر وخالد بن الوليد، ومعاوية، وعمرو بن العاص وإخوانهم، اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إني أبرأ إليك من أفعال هؤلاء وأقوالهم التي خالفت أحكامك، واستباحت حرماتك، وتعدت حدودك، واغفر لي ما سبق من موالاتهم إذ كنت من الجاهلين».(10/106)
قلت: ونحن نسأل الله أن يوليك ماتوليت، وأن يجزيك بما قلت، وأن ينتقم لأوليائه منك، وأن يري المسلمين فيك، وفي أمثالك آية تكون عبرة للمعتبرين، في الدنيا، وأن يلحقك يوم القيامة بإخوانك المنافقين الطاعنين في أولياء الله، المؤذين لهم بغير ما اكتسبوا إنه
سميع مجيب.
وأما طعنه في خالد بن الوليد، بقتله مالك بن نويرة ودخوله بزوجته مع أنه كان مسلماً.
فجوابه: أن مالك بن نويرة قد اختلف في أمره فقيل: إنه كان ممن منع الزكاة، وقيل: إنه صانع سجاح حين قدمت أرض الجزيرة، وقيل: إنه لما أُسر وأُتي به لخالد - رضي الله عنه - فأنبه على ماصدر منه من متابعة سجاح، وعلى منعه الزكاة، وقال: ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟ فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك، فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟ فأمر بضرب عنقه، فضربت عنقه، وإن ثبت عنه هذا فهذا يدل على ردته. وقيل: إن خالداً لما أسره ومن كان معه -وكان ذلك في ليلة شديدة البرد- فنادى مناديه، أن ادفئوا أسراكم فظن القوم أنه أراد القتل فقتلوهم، وقتل ضرار بن الأزور مالك بن نويرة، فلما سمع الداعية خرج وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمراً أصابه. (1)
وعلى كل حال فقتل خالد لمالك بن نويرة: إما أن يكون لواحد من هذه الأسباب المذكورة، وإما أن يكون لسبب آخر لم نعلمه، وإما أن خالداً لم يرد قتله أصلاً، وإنما قتل خطأً، فإن كل ذلك محتمل. وحينئذ فخالد معذور على كل حال، سواء أكان قتله بحق لسبب يوجب قتله، أو بخطأ ناشئ عن تأويل يعذر به، أو بغير قصد لالوم عليه فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: تاريخ الطبري 3/278، وما بعدها. والبداية والنهاية لابن كثير 6/326.(10/107)
وأما غضب عمر على خالد وقوله له ما قال، فهذا إن ثبت فلكونه يرى أن خالداً كان مخطئاً في قتل مالك، ومع هذا فما كان يتهمه في دينه، بل كان يقول: إن في سيفه رهقاً.
وقد تقدم أن أمر مالك بن نويرة كان مشتبهاً، ولهذا اختلف الصحابة في قتلة، فمنهم من كان على رأي خالد، ومنهم من كان على رأي عمر في تخطئه خالد بقتله، وقد كان الصديق يرى أن خالداً في ذلك كان مجتهداً معذوراً ولذا قال لعمر: (هبه ياعمر تأول فأخطأ). (1)
والمقصود أن كل واحد من الصحابة كان مجتهداً في إحقاق الحق، وأمرهم دائر بين الأجر والأجرين، فمجتهد مصيب له أجران، ومجتهد مخطئ له أجر واحد وخطؤه مغفور، ولا ينتقصهم في شيء من هذا إلا جاهل بأصول الشرع، أو زائغ عن الحق، كهذا الرافضي الذي امتلأ قلبه حقداً وضغينة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسخر نفسه للطعن فيهم، والنيل منهم، مع ماهم عليه من المقامات الشريفة العالية في الدين، والسبق إلى سائر خصال البر والتقوى، وتعديل الله لهم في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، وما جعل الله لهم في قلوب المؤمنين من الحب والولاء، وما نشر لهم بينهم من الذكر الحسن وجميل الثناء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أورده الطبري في تاريخه 3/378.
وأما طعنه في خالد بقتله بني جذيمة وبراءة الرسول صلى الله عليه وسلم من فعله.(10/108)
فجوابه: أن خالداً قتلهم متأولاً وذلك أنه لما دعاهم إلى الإسلام قالوا: صبأنا صبأنا، ومعنى: صبأنا: أي انتقلنا من دين إلى دين، وقد كانت قريش تطلق على من أسلم أنه صابئ على سبيل الذم(1)، فلم يقبل خالد منهم ذلك حيث لم يصرحوا بالإسلام، في حين أن بعض من كان معه من الصحابة كابن عمر وغيره أنكروا عليه، لأنهم عرفوا أنهم أرادوا الإسلام، ولذا قال ابن عمر راوي الحديث (فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا)(2) وقد كان خالد متأولاً في قلتهم، غير مذموم بفعله، وإن كان مخطئاً فيه.
قال الخطابي: «يحتمل أن يكون خالد نقم عليهم العدول عن لفظ الإسلام، لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع على سبيل الأنفة، ولم ينقادوا إلى الدين فقتلهم متأولاً». (3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض حديثه عن هذه الحادثة: «فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فلم يقبل ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: فتح الباري 8/57.
(2) أخرجه البخاري في: (كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى جذيمة)، فتح الباري 8/56-57، ح4339.
(3) فتح الباري لابن حجر 8/57.
منهم، وقال: إن هذا ليس بإسلام، فقتلهم، فأنكر ذلك عليه من معه من أعيان الصحابة: كسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، وغيرهما، ولما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) لأنه خاف أن يطالبه الله بما جرى عليهم من العدوان...(10/109)
ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعزل خالداً عن الإمارة، بل مازال يؤمرُه ويقدمه، لأن الأمير إذا جرى منه خطأ أو ذنب أمر بالرجوع عن ذلك، وأُقرّ على ولايته، ولم يكن خالد معانداً للنبي صلى الله عليه وسلم ، بل كان مطيعاً له، ولكن لم يكن في الفقه والدين بمنزلة غيره، فخفي عليه حكم هذه القضية». (1)
وقال ابن حجر في شرح الحديث: «وأما خالد فحمل هذه اللفظة على ظاهرها، لأن قولهم صبأنا أي: خرجنا من دين إلى دين، ولم يكتف خالد بذلك حتى يصرحوا بالإسلام». (2)
فهذه أقوال أهل العلم، تدل على أن خالداً إنما قتل بني جذيمة لظنه أنهم ما أرادوا الإسلام بقولهم (صبأنا) ولم يكن بفعله هذا عاصياً
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما كان مجتهداً متأولاً، لأن اللفظ مشتبه والاحتمال الذي ذهب إليه وارد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 4/486.
(2) فتح الباري 8/57.
وأما براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من فعله فلخشية المؤاخذة به من الله، وهذا لا يوجب الطعن في خالد، فالبراءة من الفعل الخاطئ شيء، وتأثيم صاحبه وذمه شئ آخر، وذلك أن العبد لا يؤاخذ بشيء من الأخطاء سواء في باب الاعتقاد، أو في باب الفروع إلا بعد أن تقام عليه الحجة وتنتفي عنه الموانع التي يعذر بها عند الخطأ، على ماهو مقرر في أصول الاعتقاد عند أهل السنة.
أما قول الرافضي: فهل لنا أن نتساءل أين هي عدالة الصحابة المزعومة التي يدعونها... الخ كلامه.(10/110)
فيقال له: إن عدالة الصحابة ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، ولا يتَوَصل أحد إلى القدح فيها إلا بعد إنكار النصوص القاطعة بعدالتهم من الكتاب والسنة، المتضمنة أحسن الثناء عليهم وأبلغه من الله ورسوله، ولذا كان القدح في الصحابة علامة الزنادقة والملاحدة، وقد تقدم فيما مضى من البحث عرض النصوص وأقوال أهل العلم في القطع بعدالة الصحابة، مما يغني عن إعادتها، وإنما أكتفي هنا بما ذكره الإمامان الجليلان أبو زرعة وأحمد -رحمهما الله تعالى- في حكم من طعن في الصحابة وقدح فيهم.
قال أبو زرعة: (إذا رأيت الرجل يتنقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة). (1)
وقال الإمام أحمد: (إذا رأيت الرجل يذكر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء، فاتهمه على الإسلام). (2)
وهذا الرافضي لم يقتصر على الطعن فقط، بل تعدى إلى ماهو أعظم منه وذلك باتهامه الصحابة بالردة كلهم، إلا القليل منهم.
يقول: «فالمتمعن في هذه الأحاديث العديدة التي أخرجها علماء أهل السنة في صحاحهم ومسانيدهم، لا يتطرق إليه الشك في أن أكثر الصحابة قد بدلوا، وغيروا، بل ارتدوا على أدبارهم بعده صلى الله عليه وسلم إلا القليل، الذي عبر عنه بهَمَل النعم». (3)
ويقول: «وقرأت الكثير حتى اقتنعت بأن الشيعة الإمامية على حق، فتشيعت وركبت على بركة الله سفينة أهل البيت، وتمسكت بحبل ولائهم، لأني وجدت بحمد الله البديل عن بعض الصحابة الذين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه الخطيب في الكفاية ص49.(10/111)
(2) ذكره ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ص209، وشيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول ص568.
(3) ثم اهتديت ص119-120.
ثبت عندي، أنهم ارتدوا على أعقابهم، ولم ينج منهم إلا القليل». (1)
فهل يبقى مجال للشك بعد هذا في كفر هذا الرجل وزندقته، وبراءته من الإسلام، وأنه ما أراد بكتبه هذه التي تقوم على الزندقة والإلحاد، إلا هدم أصول هذا الدين، وتقويض دعائمه بالطعن في رواته وحملته للأمة. مظهراً الرفض ومبطناً الكفر المحض، كما هو طريق كل زنديق وملحد في الكيد للإسلام وأهله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ثم اهتديت ص156.
***********
الفهرس العام
مقدمة هامة ... 2
الباب الأول- في فضائل الصحابة وعدالتهم ... 6
وفي الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 9409) ... 6
صُحْبَة ... 6
«ما تثبت به الصّحبة» ... 7
5 - الصّحبة تثبت بطرق : منها : ... 8
«عدالة من ثبتت صحبته» ... 9
«إنكار صحبة من ثبتت صحبته بنصّ القرآن» ... 10
عدالة الصحابة ... 11
حملة رسالة الإسلام الأولون ... 14
محب الدين الخطيب ... 14
جيل قرآني فريد ... 33
نظرة إلى الجيل الفريد ... 40
عقيدة أهل السنة و الجماعة في الصحابة ... 59
الباب الثاني – عرض الشبهات والرد عليها ... 77
تقسيم الصحابة بين أهل السنة والجماعة والرافضة الاثني عشرية ... 78
ثانيا: التقسيم الحقيقي للصحابة في اعتقاد الرافضة الاثني عشرية: ... 80
أولاـ الرد على التيجاني في موقفه من الصحابة في صلح الحديبية: ... 90
ثانياً: الرد على التيجاني في موقفه من الصحابة في رزيَّة يوم الخميس: ... 99
تقسيم الصحابة إلى ثلاثة أقسام والزعم أن منهم من نزل القرآن بتوبيخهم والتحذير منهم ... 130
الرد على من زعم أن الصحابة لم يمتثلوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية ... 132(10/112)
الرد على من زعم أن الصحابة لم يمتثلوا أمر النبي بكتابة الكتاب الذي أمر به في مرض موته ... 142
الرد على من زعم أن الصحابة تركوا إنفاذ جيش أسامة ... 169
الرد على التيجاني بادعائه أن القرآن يذم الصحابة ... 183
طعن الرافضي على الصحابة بقوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار}، والرد عليه. ... 236
طعن الرافضي على الصحابة بقوله تعالى: {وما محمد إلارسولٌ قد خلت من قبله الرسل} والرد عليه. ... 239
طعن الرافضي على الصحابة بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض...} والرد عليه. ... 243
حديث الحوض ... 262
شبهة حديث الحوض ... 272
شبهة جيش أسامة ... 275
شبهة قضية فدك ... 276
شبهة رزية يوم الخميس ... 284
إدعائهم بأن الصحابة رضوان الله عليهم تنافسوا على الدنيا ... 290
زعم الرافضي أن الصحابة غيروا حتى في الصلاة والرد عليه ... 302
الصحابة يشهدون على أنفسهم ... 314
طعن الرافضي على الشيخين ببعض ما أثر عنهما من أقوال في شدة خوفهما من الله والرد عليه ... 322
الرد على من زعم أن اختلاف الصحابة هو الذي حرم الأمة العصمة وأدى إلى تفرقها وتمزقها ... 328
دعوى الرافضي أن الصحابة كانوا يجتهدون مقابل النصوص وأن أول من فتح هذا الباب عمر والرد عليه في ذلك ... 355
دعوى الرافضي أن الصحابة ردوا نص:(الغدير) وأبعدوا علياً عن الخلافة والرد عليه في ذلك ... 366
إبطال قصة التحكيم الشهيرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص رضي الله عنهما ... 370
اعتقاد أهل السنة في الصحابة رضي الله عنهم ... 374
أدلة عدالة الصحابة من الكتاب العزيز ... 377
أدلة عدالة الصحابة من السنة المطهرة ... 381
منزلة الصحابة لا يعادلها شيء ... 385
سب الصحابة وحكمه ... 389
وقفة مع المنهج الموضوعي ... 396
حكم سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ... 398(10/113)
حكم سب بقية أمهات المؤمنين ... 400
لوازم السب ... 401
الإمساك عما شجر بينهم ... 405
أسس البحث في تاريخ الصحابة ... 406
الصحابة تحت مجهر القرآن والسنة ... 414
منهج دراسة عصر الصحابة رضوان الله عليهم ... 420
مفهوم عدالة الصحابة ... 426
الرد على شبهة سبّ الصحابة ... 440
شبهات حول أبي بكر رضي الله عنه ... 450
مبحث مطاعن التيجاني في الخليفة الأول أبو بكر الصديق والرد عليه في ذلك: ... 450
أولاً الرد على التيجاني بادعائه أن أبا بكر يشهد على نفسه: ... 451
ثالثاً: موقفه من أبي بكر في مبحث محاورة مع عالم والرد عليه في ذلك: ... 456
رابعاً موقفه من أبي بكر في مبحث أسباب الإستبصار والرد عليه في ذلك : أ النص على الخلافة: ... 470
2 يقول وقد فوجئ سكان المدينة المنكوبة بموت نبيهم وحملوا الناس على البيعة بعد ذلك قهراً ؟!؟ ... 483
3 أما قوله عن حرق بيت فاطمة فقد أجبت عنه فيما سبق37. ... 484
خامساً ادعاؤه أن علياً أولى من أبي بكر بالاتباع والرد عليه في ذلك: ... 488
فدك مرة أخرى ... 504
شبهات وردود حول الصديق رضي الله عنه ... 507
سادساً إدعاء التيجاني أن أبا بكر خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم في قتاله لما نعى الزكاة والرد عليه في ذلك: ... 508
سابعاً موقف التيجاني من أبي بكر في قضية خالد بن الوليد والرد عليه في ذلك: ... 517
زعم الرافضة أن الشيخين وعثمان رضي الله عنهم قد خالفوا سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... 530
طعن المؤلف في خالد بن الوليد بقتله مالك بن نويرة وطعنه في أبي بكر لعدم الاقتصاص من خالد والرد عليه في ذلك ... 536(10/114)
شبهات حول الصحابة والرّدّ عليها
ذو النّورين
عثمان بن عفان
رضي الله عنه
لشيخ الإسلام ابن تيمية
ولد سنة 661 وتوفي سنة 728هـ
رحمه الله تعالى
جمع وتعليق
محمد مال الله
الطبعة الأولى
1410هـ - 1989م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد :
أخي القارئ أقدم الجزء الرابع من هذه السلسلة، راجياً من الله تعالى أن ينفعك بها، وأن لا تبخل بالدعاء لمن قام بتأليفها وأيضاً لجامعها.
أبو عبد الرحمن
محمد مال الله
شذرات من مناقب عثمان رضي الله عنه
1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كنّا نخير بين الناس في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم فنخيّر أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم(1).
2 - عن سعيد بن المسيب قال: أخبرني أبو موسى الأشعري أنه توضأ في بيته ثم خرج، فقلت: لألزمنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم ولأكونن معه يومي هذا.
قال: فجاء المسجد فسأل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: خرج ووجّه هاهنا، فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس، فجلست عند الباب – وبابها من جريد – حتى قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجته فتوضأ، فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس قفّها، وكشف عن ساقيه ودلاّهما في البئر، فسلمتُ عليه ثم انصرفت فجلست عند الباب، فقلت: لأكونَنّ بوّاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليوم. فجاء أبو بكر فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر. فقلت: على رسلك، ثم ذهبت فقلت: يا رسول الله! هذا أبو بكر يستأذن. فقال: ائذن له وبشره بالجنة.
فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبشرك بالجنة.
__________
(1) رواه البخاري (فتح الباري 7/16).(11/1)
فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه في القفّ ودلّى رجليه في البئر كما صَنَعَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكشف عن ساقيه.
ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إنْ يُرِدِ الله بفلانٍ خيراً – يريد أخاه – يأتِ به، فإذا إنسانٌ يحرّك الباب فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب. فقلت: على رسلك، ثم جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلمت عليه فقلت: عمر بن الخطاب يستأذن. فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فجئت فقلت: ادخل، وبشرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة.
فدخل فجلس مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القفّ عن يساره ودلّ رجليه في البئر.
ثم رجعت فجلست فقلت: إنْ يُرِدِ الله بفلانٍ خيراً يأتِ به، فجاء إنسان يحرّك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت على رسلك. فجئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه. فجئت فقلت له: ادخل، وبشرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة على بلوى تصيبك.
فدخل فوجد القفّ قد ملئ، فجلس وُجَاهَهُ من الشق الآخر.
قال شريك بن عبد الله: قال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم(1).
3 - عن أبي عثمان النَّهْدي، عن أبي موسى رضي الله عنه قال:
كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: افتح وبشّره بالجنة، ففتحت له، فإذا هو أبو بكر، فبشرته بما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحمد الله.
ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: افتح وبشره بالجنة، ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم، فحمد الله.
__________
(1) رواه البخاري (الفتح 7/26)، مسلم (شرح النووي 15/171-172).(11/2)
ثم استفتح رجل، فقال لي: افتح وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحمد الله ثم قال: الله المستعان(1).
4 - عن ابن شهاب أخبرني عروة أن عبيد الله بن عدي بن الخيار أخبره أنَّ المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، قالا: ما يمنعك أن تكلم عثمان لأخيه الوليد فقد أكثر الناس فيه؟
فقصدت لعثمان حتى خرج إلى الصلاة، قلت: إنَّ لي إليك حاجة، وهي نصيحة لك.
قال: يا أيها المرء منك – قال معمر: أراه قال: أعوذ بالله منك -.
فانصرفتُ فرجعت إليهما، إذ جاء رسول عثمان، فأتيته، فقال: ما نصيحتك؟
فقلت: إنَّ الله سبحانه بعث محمداً صلّى الله عليه وسلّم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكنت ممن استجاب لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، فهاجرت الهجرتين، وصحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورأيت هَدْيَهُ. وقد أكثر الناس في شأن الوليد.
قال: أدركت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟
قلت: لا، ولكن خلص إليّ من علمه ما يخلص إلى العذراء في سترها.
قال: أما بعد، فإن الله بعث محمداً صلّى الله عليه وسلّم بالحق، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله، وآمنت بما بعث به وهاجرت الهجرتين – كما قلت – وصحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبايعته، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله. ثم أبو بكر مثله. ثم عمر مثله. ثم استخلفت، أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟
قلت: بلى.
قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ أما ما ذكرت من شأن الوليد فسنأخذ فيه بالحق إن شاء الله. ثم دعا عليّاً فأمره أن يجلده، فجلده ثمانين(2).
__________
(1) رواه البخاري (الفتح 7/43، 53، 10/597)، مسلم (بشرح النووي 15/170).
(2) رواه البخاري (الفتح 7/53، 187، 263).(11/3)
5 - عن قتادة أن أنساً رضي الله عنه حدثهم، قال: صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم أُحُداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف، فقال: اسكن أُحُد – أظنه ضربه برجله – فليس عليك إلا نبي وصدّيق وشهيدان(1).
6 - عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كُنّا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نفاضل بينهم(2).
7 - حدثنا عثمان هو ابن موهب قال:
جاء رجل من أهل مصر وحجّ البيت، فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش. قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر.
قال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟
قال: نعم.
فقال: هل تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟
قال: نعم.
قال الرجل: هل تعلم أنه تغيّب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟
قال: نعم.
قال: الله أكبر.
قال ابن عمر: تعال أبيّن لك:
أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له.
وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مريضة، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه.
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده اليمنى: هذه يد عثمان. فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان.
فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك(3).
8 - عن محمد بن أبي حرملة، عن عطاء وسليمان ابني يسار، وأبى سلمة بن عبد الرحمن، أنَّ عائشة قالت:
__________
(1) رواه البخاري (الفتح 7/53).
(2) رواه البخاري (الفتح 7/54).
(3) رواه البخاري (الفتح 7/54)، الترمذي (صحيح الترمذي للألباني) 3/210-211، مسند الإمام أحمد ج8 رقم 5772 و6011 .(11/4)
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر فأذِنَ له وهو كذلك، فتحدث ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسوّى ثيابه – قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد – فدخل فتحدث. فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسوّيت ثيابك؟
فقال: ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة؟(1).
9 - عن يحيى بن سعيد بن العاص، أنَّ سعيد بن العاص أخبره أن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم وعثمان حدّثاه أن أبا بكر استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى إليه حاجته ثم انصرف.
ثم استأذن عمر فأذن له، وهو على تلك الحال، فقضى إليه ثم انصرف.
قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك، فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت.
فقالت عائشة: يا رسول الله ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما – كما فزعت لعثمان؟
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنَّ عثمان حييٌّ وإني خشيت إنْ أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إليَّ في حاجته(2).
10 - عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان على حراء هو وأبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحركت الصخرة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اهدأ فما عليك إلا نبيٌّ، أو صديق أو شهيد(3).
11 - عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: لما حصر عثمان، أشرف عليهم فوق داره ثم قال:
أذكركم بالله هل تعلمون أن حراء حين انتفض قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”اثبت حراء فليس عليك إلا نبيٌّ، أو صدّيق، أو شهيد“؟
قالوا: نعم.
__________
(1) رواه مسلم (بشرح النووي 15/168).
(2) رواه مسلم (بشرح النووي 15/169).
(3) رواه الترمذي ج3 ص208 .(11/5)
قال: أذكركم بالله هل تعلمون أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في جيش العسرة: ”من ينفق نفقة متقبلة“؟ والناس مجهدون معسرون، فجهزت ذلك الجيش؟
قالوا: نعم.
ثم قال: أذكركم الله هل تعلمون أن رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن، فابتعتها، فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل؟
قالوا: اللهم نعم.
وأشياء عدها(1).
12 - عن عبد الرحمن بن سَمُرة قال: جاء عثمان إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بألف دينار – قال الحسن بن رافع: وفي موضع آخر من كتابي: في كمّه – حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره. قال عبد الرحمن: فرأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقلبها في حجره ويقول:
”ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم“ مرتين(2).
13 - عن ثمامة بن حزن القشيري، قال: شهدتُ الدار، حين أشرف عليه عثمان، فقال: ائتوني بصاحبيكم اللذين ألباكم عليّ؟
قال: فجيء بهما كأنهما جملان، أو كأنهما حماران، قال: فأشرف عليهم عثمان، فقال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين، بخير له منها في الجنة“.
فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها، حتى أشرب من ماء البحر!
قالوا: اللهم نعم.
فقال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
”من يشتري بُقْعَةَ آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنّة“؟
فاشتريتها من صلب مالي، وأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين.
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم بالله وبالإسلام، هل تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر، وعمر، وأنا، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض، قال: فركضه برجله فقال:
__________
(1) رواه الترمذي 3/208 .
(2) رواه الترمذي 3/208-209 .(11/6)
”اسكن ثبير فإنما عليك نبي، وصدّيق، وشهيدان“.
قالوا: اللهم نعم.
قال: الله أبكر، شهدوا لي ورب الكعبة: أني شهيد ثلاثاً(1).
14 - عن أبي الأشعث الصنعاني: أن خطباء قامت بالشام وفيهم رجال من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقام آخرهم رجل يقال له: مرة ابن كعب، فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قمت، وذكر الفتن فقر بها، فمر رجل مقنّع في ثوب فقال: هذا يومئذ على الهُدى، فقمتُ إليه فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: نعم(2).
15 - عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
"يا عثمان إنه لعلّ الله يقمصك قميصا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم"(3).
16 - عن ابن عمر قال: كنا نقول ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم حي:
أبو بكر، وعمر، وعثمان(4).
17 - عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنة فقال:
"يقتل هذا فيها مظلوماً" لعثمان بن عفان رضي الله عنه(5).
18 - عن قيس، حدثني أبو سهلة قال: قال لي عثمان يوم الدار: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عهد إليَّ عهداً فأنا صابر عليه(6).
19 - عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمر بن جابان – رجل من بني تميم – وذاك أني قلت له: أرأيت اعتزال الأحنف بن قيس ما كان؟ قال: سمعت الأحنف يقول:
أتيت المدينة، وأنا حاج، فبينما نحن في منازلنا، نضع رحالنا، إذ أتى آتٍ فقال: قد اجتمعَ الناس في المسجد، فاطَّلعت فإذا يعني الناس مجتمعون، وإذا بين أظهرهم نفر قعود، فإذا هو علي بن أبي طالب، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص – رحمة الله عليهم – فلما قمت عليهم، قيل: هذا عثمان بن عفان قد جاء، قال: فجاء وعليه ملية صفراء.
__________
(1) رواه الترمذي 2/209، والنسائي (صحيح النسائي للألباني) 2/766-767 .
(2) رواه الترمذي 3/210 .
(3) رواه الترمذي 3/210 .
(4) رواه الترمذي 3/210 .
(5) رواه الترمذي 3/210 .
(6) رواه الترمذي 3/212 .(11/7)
فقلت لصاحبي: كما أنت، حتى أنظر ما جاء به.
فقال عثمان: أهاهنا علي؟ أهاهنا الزبير؟ أهاهنا طلحة؟ أهاهنا سعد؟
قالوا: نعم.
قال: فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
”من يبتاع مربد بني فلان، غفر الله له“.
فابتعته، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: إني ابتعت مربد بني فلان، قال:
"فاجعله في مسجدنا، وأجره لك".
قالوا: نعم.
قال: فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو هل تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
”من يبتاع بئر رومة غفر الله له“.
فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: قد ابتعت بئر رومة قال:
"فاجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك".
قالوا: نعم.
قال: فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو هل تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
”من يجهز جيش العسرة غفر الله له“.
فجهزتهم حتى ما يفقدون عقالاً، ولا خطاماً.
قالوا: نعم.
قال: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد(1).
20 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عثمان أشرف عليهم حين حصروه، فقال: أنشد بالله رجلاً سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول يوم الجبل حين اهتز، فركله برجله وقال:
”اسكن فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيدان“ وأنا معه.
فانتشد له رجال ثم قال: أنشد بالله رجلاً شهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بيعة الرضوان يقول:
”هذه يد الله وهذه يد عثمان“.
فانتشد له رجال ثم قال: أنشد بالله رجلاً سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم جيش العسرة يقول:
”من ينفق نفقة متقبلة“.
فجهزت نصف الجيش من مالي، فانتشد له رجال ثم قال: أنشد بالله رجلاً سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
”من يزيد في هذا المسجد ببيت له في الجنة“.
__________
(1) رواه النسائي 2/764-765 .(11/8)
فاشتريته من مالي، فانتشد له رجال، ثم قال: أنشد بالله رجلاً شهد رومة تباع، فاشتريتها من مالي، فأبحتها لابن السبيل، فانتشد له رجال(1).
21 - عن كعب بن عجرة، قال: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنة فقربها. فمر رجل مقنع رأسه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
”هذا، يومئذ على الهُدى“.
فوثبت فأخذت بضبعي عثمان، ثم استقبلت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: هذا؟ قال: هذا(2).
22 - عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
”يا عثمان إن ولاّك الله هذا الأمر يوماً، فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمّصك الله فلا تخلعه“.
يقول ذلك ثلاث مرات.
قال النعمان: فقلت لعائشة: ما منعك أن تعلمي الناس بهذا؟
قالت: أنسيته(3).
23 - عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه:
”وددت أن عندي بعض أصحابي“ قلنا: يا رسول الله ألا ندعو لك أبا بكر؟ فسكت. قلنا: ألا ندعو لك عمر؟ فسكت. قلنا: ألا ندعو لك عثمان؟ قال: ”نعم“ فجاء، فخلا به، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يكلمه، ووجه عثمان يتغير.
قال قيس: فحدثني أبو سهلة، مولى عثمان: أن عثمان بن عفان قال يوم الدار: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إليّ عهداً، فأنا صائر إليه.
وقال عليّ في حديثه: وأنا صابر عليه.
قال قيس: فكانوا يرونه ذلك اليوم(4).
__________
(1) رواه النسائي 2/767 .
(2) رواه ابن ماجه (صحيح ابن ماجه للألباني) 1/24 .
(3) رواه ابن ماجه 1/25 .
(4) رواه ابن ماجه 1/25 .(11/9)
24 - عن ابن عمر قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات غداة بعد طلوع الشمس، فقال رأيت قبيل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين، فأما المقاليد فهذه المفاتيح، وأما الموازين، فهذه التي تزنون بها، فوضعت في كفة، ووضعت أمتي في كفة، فوزنت بهم، فرجحت، ثم جيء بأبي بكر، فوزن بهم، ثم جيء بعمر، فوزن، ثم جيء بعثمان فوزن بهم، ثم رفعت(1).
من أقوال الصحابة في عثمان رضي الله عنهم
1 - من أقوال علي في عثمان – رضي الله عنه – وقتلته
1 - عن أبي جعفر الأنصاري، قال: لما دخل على عثمان يوم الدّار: خرجت فملأت فروجي(2) مجتازاً في المسجد، فإذا رجل قاعد في ظلّة النساء عليه عمامة سوداء، وحوله نحو من عشرة، فإذا هو عليّ. فقال: ما فعل الرجل؟ قلت: قتل: قال: تباً لهم تباً لهم آخر الدهر(3).
2 - عن قيس بن عباد، قال: سمعت علياً يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي، وجاؤوني للبيعة فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة(4). وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل الأرض لم يدفن بعد. فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس يسألونني البيعة. فقلت: اللهم إني لمشفق مما أقدم عليه. ثم جاء عزمة فبايعت، فلما قالوا: أمير المؤمنين فكأن صدع قلبي وانسكبت بعبرة(5).
__________
(1) رواه أحمد في مسنده ج7 رقم 4569 .
(2) جمع فرج وهو ما بين الرجلين.
(3) عثمان بن عفان لابن عسكر ص460، مختصر تاريخ دمشق 16/250-251، البداية والنهاية 7-193، أنساب الأشراف للبلاذري ق4 ج1 ص594 .
(4) انظر: فتح الباري ج7 ص55، مسلم بشرح النووي ج15 ص169 .
(5) عثمان بن عفان لابن عساكر ص462، مختصر تاريخ دمشق 16/252، البداية والنهاية 8/193 .(11/10)
3 - عن ابن عباس قال: أشهد على عليّ أنه قال في عثمان: ما قتلت، ولا أمرت، ولقد كنت له كارهاً(1).
4 - عن ابن عباس قال: سمعت عليّاً يقول حين قتل عثمان: والله ما قتلت ولا أمرت، ولكن غلبت. يقول ذلك ثلاث مرات(2).
5 - عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب، قال: إن شاء الناس قمت لهم خلف مقام إبراهيم، فحلفتُ لهم بالله ما قتلت عثمان، ولا أمرت بقتله، ولقد نهيتهم فعصوني(3).
6 - عن علي بن ربيعة الوالبي، قال: قال علي: وددت أن بني أمية رضوا منّي بقسامة(4) خمسين رجلاً، ما أمرت، ولا قتلت(5).
7 - عن خليد بن شريك، قال: سمعتُ علي بن أبي طالب، وهو على منبر الكوفة، يقول: أي بني أمية، من شاء نفلت(6) له يميني بين المقام والركن ما قتلت عثمان ولا شركت في دمه(7).
__________
(1) عثمان لابن عساكر ص462، مختصر تاريخ دمشق 16/252 .
(2) عثمان لابن عساكر ص462، أنساب الأشراف للبلاذري ق4 ج1 ص595 .
(3) عثمان لابن عساكر ص463، البداية والنهاية 7/193 .
(4) القسامة: في عرف الشرع: حلف معين عند التهمة بالقتل على الإثبات أو النفي (القاموس الفقهي ص303 للشيخ سعدي أبو جيب) وللوقوف على معنى القسامة انظر "فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه موازناً بفقه أشهر المجتهدين" للدكتور رويعي الرحيلي ص365-434 .
(5) عثمان لابن عساكر ص463، مختصر تاريخ دمشق 16/252 .
(6) قال الخطابي في "غريب الحديث" 2/150: قوله نفلناهم: أي حلفنا لهم خمسين منا على البراءة من دمه، والنفل أصله النفي. يقال: نفلت الرجل عن نسبه نفلاً ونفالة، وانتفل الرجل من نسبه إذا تبرأ منه.
(7) عثمان لابن عساكر ص464، مختصر تاريخ دمشق 16/253 .(11/11)
8 - عن أبي صالح، قال: رأيت علي بن أبي طالب قاعداً في زرارة(1) تحت السدرة، وانحدرت سفينة، فقرأ: { وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ }، والذي أجراها مجراها ما قتلت عثمان، ولا شايعت في قتله، ولا مالأت، ولقد غمني(2).
9 - عن سالم بن أبي الجعد، قال: كنا مع ابن الحنفية في الشّعب فسمع رجلاً ينتقص عثمان، وعنده ابن عباس، فقال: يا ابن عباس، هل سمعت، أو سمعت، أمير المؤمنين عشية سمع الضجة من قبل المربد فبعث، فقال: نعم عشية بعث – فلان بن فلان، فقال: اذهب فانظر ما هذا الصوت، فجاء، فقال: هذه عائشة تلعن قتلة عثمان والناس يؤمنون. فقال عليّ: وأنا ألعن قَتَلة عثمان في السهل والجبل، اللهم العن قَتَلة عثمان، اللهم العن قتلة عثمان في السهل والجبل. ثم أقبل ابن الحنفية عليه وعلينا فقال: أما فيَّ وفي ابن عباس شاهدا عدلٍ؟ قال: قلنا: بلى، قال: قد كان هذا(3).
10 - عن أبي جعفر قال: سمع علي بن أبي طالب صوتاً يوم الجمل تلقاء أم المؤمنين، فقال: انظروا ما يقولون. قال: يهتفون بقتلة عثمان. فقال: اللهم جلل قتلة عثمان خزياً(4).
11 - عن عمير بن زوذي قال: قال علي بن أبي طالب: لئن لم يدخل الجنة إلا من قتل عثمان لا أدخلها، وإن لم يدخل النار إلا من قتله لا أدخلها. فأكثر الناس في ذلك.
فقال: إنكم قد أكثرتم فيّ وفي عثمان، والله قتله وأنا معه.
قال عبّاد: يعني قتله الله ويقتلني معه(5).
__________
(1) محلة بالكوفة.
(2) عثمان لابن عساكر ص464، مختصر تاريخ دمشق 16/253 .
(3) عثمان لابن عساكر ص467، مختصر تاريخ دمشق 16/254 .
(4) عثمان لابن عساكر ص468 .
(5) عثمان لابن عساكر ص468، مختصر تاريخ دمشق 16/254 .(11/12)
12 - عن أم عمر بنت حسان، قالت سمعتُ أبي يقول: دخلت مسجد الأكبر، مسجد الكوفة، وعلي بن أبي طالب على المنبر، وهو يخطب، وهو ينادي بأعلى صوته: يا أيها الناس، يا أيها الناس إنكم تكثرون فيَّ وفي ابن عفان، وإن مثلي ومثله كما قال الله عز وجل: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ }(1).
13 - عن قرة العين بنت جون الضبّي قالت: كنت عند عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فجاء قنبر فسلّم، فقال: لا سلم الله عليك. فقلت: سبحان الله تقول هذا لمولى عمك؟ قال: إن هذا يأتي إلى أهل العراق فيقول: قال ابن عفان. وأنا سمعت عليّاً يقول: قاتل الله هؤلاء المفضلي على ابن عفان، والمفضلي ابن عفان عليّ ما أقل علمهم بالله، والله إني لأرجو أن أكون أنا وابن عفان من الذين قال الله تعالى: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}(2).
14 - عن محمد بن حاطب، عن علي، قال: عثمان منهم، من الذين قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ }(3).
15 - عن محمد بن حاطب، قال: كنت مع عليّ بالبصرة، فلما هدأت الحرب، قلت: يا أمير المؤمنين، ما أرد على قومي إذا سألوني عن قتل هذا الرجل؟ قال: أنا وعثمان مثلما وصف الله في كتابه { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ }. إذا قدمت فأبلغهم أن عثمان من الذي آمنوا ثم اتقوا، ثم آمنوا ثم اتقوا، ثم آمنوا ثم اتقوا، وعلى ربهم يتوكلون(4).
__________
(1) عثمان لابن عساكر ص469، مختصر تاريخ دمشق 16/254 .
(2) عثمان لابن عساكر ص469-470، مختصر تاريخ دمشق 16/255، البداية والنهاية 7/193 .
(3) عثمان لابن عساكر ص471، تاريخ الإسلام للذهبي 3/285 .
(4) عثمان لابن عساكر ص474، مختصر تاريخ دمشق 16/256 .(11/13)
16 - عن رافع بن خديج، قال: قال عليّ: دخلت على بناتي وهن يبكين، فقلت: ما يبكيكين؟ فقلن: لانقطاعنا من أرضنا، ولموت – أو لقتل – ابن عفان. فقال: إني لأرجو أن أكون أنا وابن عفان ممن قال الله: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ }(1).
17 - عن يوسف بن سعد مولى عثمان بن مظعون قال: قال لي ابن حاطب: لو شهدت اليوم شهدت عجباً، قال: قلت: ما هو؟ قال: فإن علياً وعماراً ومالكاً وصعصعة اجتمعوا في دار نافع فذكروا عثمان، فقال علي يا أبا اليقظان(2) لقد سبق في عثمان من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سوابق لا يعذبه الله بعدها أبداً(3).
18 - عن مطرف بن عبد الله قال: لقيني عليّ فقال: أحب عثمان شغلك؟ قال: فسكت لما معه من الناس، فلما رأيت منه خلوة أقبل نحوي، فقلت: أنا أحق بالسرعة إليك، قال: فحركت، فقال: إن تفعل فإنه كان أتقانا للرب وأوصانا للرحم(4).
19 - عن عمير بن زوذي قال: خطب عليّ عليه السلام، فقطعوا خطبته، فنزل فدخل، فقال:
إنما مثلي ومثل عثمان مثل ثلاثة أثوار كنّ في غيضة، أبيض، وأحمر، وأسود، معهم فيها أسد، كان كلما أراد واحد منهم اجتمعن عليه، فلم يطقهم، فقال للأسود والأحمر: إن هذا الأبيض يفضحنا في غيضتنا، يرى بياضه خليا عنه كيما آكله، ثم أكون أنا وأنتما، فلوني على لونكما، وألوانكما على لوني. قال: فخليا عنه، فلم يلبث أن أكله.
__________
(1) عثمان لابن عساكر ص474، مختصر تاريخ دمشق 16/256، البداية والنهاية 7/193 .
(2) كنية عمار رضي الله عنه.
(3) عثمان لابن عساكر ص477 .
(4) عثمان لابن عساكر ص480 .(11/14)
قال: ثم كان كلما أراد واحداً منهما اجتمعا عليه، فلم يطقهما، فقال للأحمر: إن هذا الأسود يفضحنا في غيضتنا، يرى سواده، فخل عني كيما آكله، ثم أكون أنا وأنت، فلوني على لونك ولونك على لوني. قال: فتركه، فلم يبلث أن أكله. قال: فلبث، ثم قال يا أحمر، إني آكلك، قال: تأكلني؟ قال: نعم. قال: فخل عني أصوات ثلاثة أصوات. قال: ثم قال: ألا إني إنما أكلت يوم أكل الأبيض، ألا إنما أكلت يوم أكل الأبيض، ألا إنما أكلت يوم أكل الأبيض.
قال: ثم قال علي: وأنا إنما وهنت يوم قتل عثمان. قال ذلك ثلاثاً: ألا وإنّي وهنت يوم قتل عثمان، ألا وإني وهنت يوم قتل عثمان(1).
20 - عن أبي إسحاق قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب: إن عثمان في النار، قال: ومن أين علمت؟ قال: لأنه أحدث أحداثاً، فقال له علي: أتُراك لو كانت لك بنت أكنت تزوجها حتى تستشير؟ قال: لا: أفرأي هو خير من رأي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لابنتيه؟ وأخبرني عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أكان إذا أراد أمراً يستخير الله أو لا يستخيره؟ قال: لا، بل كان يستخيره. قال: أفكان الله عز وجل يخير له أم لا؟ قال: بل كان يخير له. قال: فأخبرني عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخار الله له في تزويجه أم لم يخر له؟ قال: ثم قال له: لقد تجرّدت لك لأضرب عنقك، فأبى الله ذلك، أما والله لو قلت غير ذلك ضربت عنقك(2).
__________
(1) عثمان لابن عساكر 482، مختصر تاريخ دمشق 16/257-258، البداية والنهاية 7/194 .
(2) مختصر تاريخ دمشق ج16 ص122 .(11/15)
21 - عن سُويد بن غفلة قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: أيها الناس! الله الله، إياكم والغلوّ في عثمان وقولكم: حرّاق المصاحف، فوالله ما أحرقها إلا عن ملأ منا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، جمعنا فقال: ما تقولون في هذه القراءة التي قد اختلف فيها الناس، يلقي الرجلُ الرجلَ فيقول: قراءتي خير من قراءتك، وقراءتي أفضل من قراءتك، وهذه شبيه بالكفر، فقلنا: ما الرأي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أرى أن أجمع الناس على مصحف واحد، فإنكم إن اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشدّ اختلافاً. فقلنا: نعم ما رأيت، فأرسل إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص، فقال: يكتب أحدكما، ويُملي الآخر، فإذا اختلفتما في شيء فارفعاه إليّ، فكتب أحدكما وأملَّ الآخر، فما اختلفا في شيء من كتاب الله إلا في سورة البقرة، فقال أحدهما: التابوه بالهاء، وقال الآخر: التابوت بالتاء، فرفعاه إلى عثمان – رضي الله عنه -، فقال: التابوت.
قال: قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: والله لو وَليتُ مثل الذي وَلي لصنعتُ مثل الذي صنع.
قال: فقال القوم لسويد: الله الذي لا إله إلا هو لسمعتُ هذا من علي؟ قال: الله الذي لا إله إلا هو لسمعتُ هذا من علي – رضي الله عنه -(1).
2 - من أقوال أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في عثمان وقتلته
1 - عن ابن سيرين قال: قالت عائشة: مصصتموه مصَّ الإناء ثم قتلتموه(2).
2 - عن أبي خالد الوالبي، قال: قالت عائشة: استتابوه حتى تركوه كالثوب الرّحيض ثم قتلوه(3).
3 - عن مسروق قال: قالت عائشة حين قتل عثمان: تركتموه كالثوب النقيّ من الدنس ثم قتلتموه.
__________
(1) "التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان" لابن أبي بكر المالقي الأندلسي ص63، تحقيق الدكتور محمود يوسف زايد، ط. دار الثقافة بالدوحة. قطر، الطبعة الأولى 1405ه.
(2) عثمان لابن عساكر 495 ، البداية والنهاية 7/195 .
(3) عثمان لابن عساكر 495 .(11/16)
فقلت: هذا عملك، كتبتِ إلى الناس تأمرينهم بالخروج إليه.
قالت: والذي آمن به المؤمنون، وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.
قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب عنها وهي لا تعلم(1).
4 - عن جبير بن نفير، عن عائشة قالت:
كان الناس يختلفون إليّ في عتب عثمان، ولا أرى إلا أنها معاتبة، وأما الدم، فأعوذ بالله من دمه، فوالله لوددت أني عشت في الدنيا برصاء سالخ وإني لم أذكر عثمان بكلمة قط. وأيم الله لأصبع عثمان التي يشير بها إلى الأرض بها خير من طلاع الأرض مثل فلان(2).
5 - عن طلق بن خشّاف، قال: قتل عثمان فتفرقنا في أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم نسألهم عن قتله، فسمعت عائشة قالت: قتل مظلوماً، لعن الله قتلته(3).
3 - ابن عباس رضي الله عنه
1 - عن زهدم الجرمي قال:
خطب ابن عباس فقال: لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء(4).
2 - عن زياد بن أبي مليح عن أبيه عن ابن عباس قال:
لو أجمع الناس على قتل عثمان لرموا بالحجارة كما رمي قوم لوط(5).
3 - عن ابن عمر قال: لقيت ابن عباس، وكان خليفة عثمان عام قُتل على الموسم فأخبرته بقتله، فعظّم أمره، وقال: والله إنه لمن الذين يأمرون بالقسط. فتمنيت أن أكون قُتلت يومئذٍ(6).
__________
(1) عثمان لابن عساكر 496، مختصر تاريخ دمشق 16/261، البداية والنهاية 7/195، أنساب الأشراف للبلاذري ق4 ج1 ص597 .
(2) عثمان لابن عساكر 496، مختصر تاريخ دمشق 16/261-262 .
(3) عثمان لابن عساكر 497، مختصر تاريخ دمشق 16/262، البداية والنهاية 7/195 .
(4) عثمان لابن عساكر 459، البداية والنهاية ج7 ص193 .
(5) عثمان لابن عساكر 459، مختصر تاريخ دمشق ج16 ص250 .
(6) مختصر تاريخ دمشق ج16 ص161 .(11/17)
4 - عن زهدم الجرمي قال: كنت في سمر ابن عباس، فقال: لأحدِّثكم حديثاً ليس بسرٍّ ولا علانية: إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان – يعني عثمان – قلت لعلي: اعتزل هذا الأمر، فوالله لو كنت في مُجر لأتاك الناس حتى يبايعوك. فعصاني، وايمُ الله ليتأمرنّ عليه معاوية، وذلك بأن الله يقول: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا }(1).
5 - عن ابن عباس قال: لما قتل عثمان بن عفان رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في منامي، فمرّ بي فسلّم عليّ، فقلت: حبيبي رسول الله ألا تقفُ حتى أشتف منك بالنظر؟ قال: إني مستعجل، إن أبي إبراهيم وأخي موسى منتظرون لي زفاف عثمان الليلة(2).
4 - حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
1 - عن زيد بن وهب عن حذيفة أنه قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن الدجال(3).
2 - عن زيد بن وهب عن حذيفة قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال، والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه، آمن به في قبره(4).
3 - عن محمد بن سيرين أن حذيفة بن اليمان قال: اللهم إن كان قتل عثمان بن عفان خيراً. فليس لي فيه نصيب، وإن كان قتله شراً فأنا منه بريء، والله لئن كان قتله خيراً ليحلبنه لبناً، وإن كان قتله شراً ليمتص به دماً(5).
__________
(1) مختصر تاريخ دمشق ج16 ص260، تاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص286 .
(2) مختصر تاريخ دمشق ج16 ص273 .
(3) البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص192، عثمان لابن عساكر ص458 بلفظ آخر: أول الفتن الدار وآخرها الدجال.
(4) البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص192، عثمان لابن عساكر 459 وفي آخره: "آمن به في فترة"، مختصر تاريخ دمشق ج16 ص250 .
(5) البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص192، عثمان لابن عساكر 487، أنساب الأشراف للبلاذري ق4 ج1 ص584 .(11/18)
4 - عن أبي عبد الله الحرّاني أن حذيفة بن اليمان في مرضه الذي هلك فيه كان عنده رجل من إخوانه وهو يناجي امرأته، ففتح عينيه، فسألهما فقالا خيراً، قال: شيئاً تسرانه دوني ما هو بخير، قال: قتل الرجل – يعني عثمان – قال: فاسترجع ثم قال: اللهم إني كنت من هذا الأمر بمعزل، فإن كان خيراً فهو لمن حضره، وأنا منه بريء، وإن كان شراً فهو لمن حضره وأنا منه بريء، اليوم تغيرت القلوب يا عثمان، الحمد لله الذي سبق بي الفتن، قادتها وعلوجها الخطى، ومن تردّى بغيره فشبع شحماً وقبل عمله(1).
5 - عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
1 - عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر محاسن عمله. قال: لعل ذاك يسؤك؟ قال: نعم. قال: فأرغم الله عز وجل بأنفك. قال: ثم سأله عن علي فذكر محاسن عمله، ثم قال: هو ذاك، بيته أوسط بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم. ثم قال: لعل ذاك يسؤك؟ قال: أجل. قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فاجهد عليّ جهدك(2).
2 - عن العلاء بن عرار قال: أتيت ابن عمر، فقلت: إني أريد أن أسألك عن رجلين من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم اختلف الناس علينا فيهم. قال: من هما؟ قلت: علي وعثمان. فقال: أما عليّ فهذه داره والله. وأما عثمان فأذنب ذنباً فيما بينه وبين الله، ذنباً عظيماً، فعفا الله عنه، وأذنب فيما بينكم وبينه ذنباً صغيراً فعمدتم إليه فقتلتموه(3).
3 - عن أبي حازم قال: كنت عند عبد الله بن عمر بن الخطاب، فذكر عثمان، فذكر فضله ومناقبه وقرابته حتى تركه أنقى من الزجاجة، ثم ذكر علي بن أبي طالب، فذكر فضله وسابقته وقرابته حتى تركه أنقى من الزجاجة، ثم قال: من أراد أن يذكر هذين فليذكرهما هكذا، أو فليدع(4).
__________
(1) البداية والنهاية ج7 ص192 .
(2) عثمان لابن عساكر 506-507 .
(3) المصدر السابق 507 .
(4) المصدر السابق 507 .(11/19)
4 - عن عبد الله بن بابيه قال: كنت مع ابن عمر فجاءه رجل سأله عن عليّ وعثمان دفعه حتى تباعد الرجل، فقال: ما حملك على هذا؟ سألتني عن رجلين كلاهما كنت أجلّه وأعظّمه، أفتراني أمدح أحدهما وأذمّ الآخر(1).
6 - سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، سمعت أباها يقول:
ألا لعن الله من لعن عليّاً، ألا لعن الله من لعن عثمان، إنهما الفئتان التي قال الله: { حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ }(2).
7 - أنس بن مالك رضي الله عنه
1 - عن حميد الطويل قال: سمعت أنس بن مالك يقول: يقولون: لا يجتمع حب علي وعثمان في قلب مؤمن. وكذبوا، والله الذي لا إله إلا هو لقد اجتمع حبهما في قلوبنا(3).
2 - عن حميد الطويل قال: ذكر عند أنس بن مالك أنه لا يجتمع حب عليّ وعثمان في قلب عبد أبداً. فقال أنس: كذبوا والله، إنا نحب عليّاً ونحب عثمان(4).
3 - عن حميد الطويل قال: قلت لأنس بن مالك: يدّعي ناس أن حبّ عليّ وعثمان لا يجتمعان في قلب واحد. فقال: كذبوا والله، لقد جمع الله حبّهم في قلوبنا(5).
8 - سعيد بن زيد رضي الله عنه
عن قيس بن أبي حازم عن سعيد بن زيد قال:
لقد رأيتني وإنّ عمر مُوثقي وأخته على الإسلام، ولو ارفض أحد فيما صنعتم بابن عفان كان حقيقاً(6).
9 - أبو موسى الأشعري رضي الله عنه
عن قتادة عن أبي موسى الأشعري قال:
لو كان قتل هدى لاحتلبت به الأمة لبناً، ولكنه كان ضلالاً فاحتلبت به الأمة دماً(7).
10 - ثُمامة بن عدي رضي الله عنه
عن أبي قلابة قال:
__________
(1) المصدر السابق 507 .
(2) عثمان لابن عساكر 485، مختصر تاريخ دمشق ج16 ص259 .
(3) عثمان لابن عساكر ص508 .
(4) المصدر السابق 508 .
(5) المصدر السابق 509 .
(6) عثمان لابن عساكر ص485، البداية والنهاية 7/194 .
(7) عثمان لابن عساكر 489، البداية والنهاية 7/193، مختصر تاريخ دمشق ج16 ص260 .(11/20)
لما بلغ ثُمامة بن عدي قتلُ عثمان، وكان أميراً على صنعاء، وكانت له صحبة، بكى فطال بكاؤه، ثم قال:
هذا حين انتزعت خلافة النبوة من أمة محمد، فصار ملكاً وجبرية، من غلب على شيء أكله(1).
11 - أبو بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه
عن أبي الأسود قال: سمعت أبا بكرة يقول:
لأن أخرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليّ من أن أشرك في دم عثمان(2).
12 - سَمُرة بن جندب رضي الله عنه
1 - عن الحسن عن سَمُرة قال:
إن الإسلام كان في حصن حصين، وإنهم ثلموا في الإسلام ثلمة بقتلهم عثمان، وإنّهم شرطوا شرطة، وإنهم لن يسدوا ثُلمتهم – أو لا يسدونها – إلى يوم القيامة، وإن أهل المدينة كانت فيهم الخلافة، فأخرجوها ولم تعد فيهم(3).
" شبهات الشيعة الرافضة حول عثمان رضي الله عنه "
__________
(1) عثمان لابن عساكر 491، تاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص286، أنساب الأشراف للبلاذري ق4 ج1 ص596 .
(2) عثمان لابن عساكر 492، البداية والنهاية 7/194 .
(3) عثمان لابن عساكر ص493 .(11/21)
قال الرافضي: "وأما عثمان؛ فإنه وَلَّى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية، حتى ظهر من بعضهم الفسوق، ومن بعضهم الخيانة، وقسَّم الولايات بين أقاربه، وعُوتب على ذلك مراراً فلم يرجع، واستعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر، وصلَّى بالناس وهو سكران. واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة، وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها. وولَّى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلَّم منه أهلها، وكاتبه أن يستمر على ولايته سرّاً، خلاف ما كتب إليه جهراً، وأمر بقتل محمد بن أبي بكر. وولَّى معاوية الشام، فأحدث من الفتن ما أحدث. وولَّى عبد الله بن عامر(1) البصرة ففعل من المناكير ما فعل. وولَّى مروان أمره، وألقى إليه مقاليد أموره، ودفع إليه خاتمه، فحدث من ذلك قتل عثمان، وحدث من الفتنة بين الأمة ما حدث. وكان يُؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال، حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش – زوَّجهم بناته – أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروا ألف ألف دينار. وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفّره، ولما حَكَم ضربه حتى مات. وضرب عمّاراً حتى صار به فتق. وقد قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: عمَّار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة. وكان عمَّار يطعن عليه. وطرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة، ومعه ابنه مروان، فلم يزل هو – وابنه – طريداً في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر. فلما وَلِيَ عثمان آواه وردّه إلى المدينة، وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره، مع أن الله تعالى قال: { لا تَجِدُ قَوْمًا
__________
(1) هو عبد الله بن عامر بن كُريز بن ربيعة الأموي، أبو عبد الرحمن رضي الله عنه ولي البصرة في أيام عثمان (29ه) ولد بمكة سنة 4ه وتوفي بها سنة 59، وهو ابن خالة عثمان بن عفان. انظر: الكامل لابن الأثير 3/206، الإصابة 2/320-321، الأعلام 4/228 .(11/22)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ } [المجادلة: 22]. ونفى أبا ذر إلى الرَّبذة، وضربه ضرباً وجيعاً، مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في حقه: ما أقلّت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر. وقال: إن الله أوحى إليَّ أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم. فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: سيدهم عليّ وسلمان والمقداد وأبو ذر. وضيّع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه، وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه، فلحق بمعاوية. وأراد أن يعطّل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حدّه أمير المؤمنين، وقال: لا يبطل حد الله وأنا حاضر. وزاد الأذان الثاني يوم الجمعة، وهو بدعة، وصار سنة إلى الآن. وخالفه المسلمون كلهم حتى قُتل، وعابوا أفعاله، وقالوا له: غبتَ عن بدر، وهربت يوم أحد، ولم تشهد بيعة الرضوان. والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى".
والجواب: أن يُقال: نُوَّاب عليّ خانوه وعصوه أكثر مما خان عمّال عثمان له وعصوه. وقد صنَّف الناس كتباً فيمن ولاّه عليٌّ فأخذ المال وخانه، وفيمن تركه وذهب إلى معاوية. وقد ولَّى عليٌّ رضي الله عنه زياد بن أبي سفيان أبا عبيد الله بن زياد قاتل الحسين، وولَّى الأشتر النخعي وولَّى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء.
ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان خيراً من هؤلاء كلهم.(11/23)
ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يدَّعن أن عليّاً كان أبلغ فيه من عثمان، فيقولون: إن عثمان ولَّى أقاربه من بني أمية. ومعلوم أن عليّاً ولَّى أقاربه من قِبَلِ أبيه وأمه، كعبد الله وعبيد الله ابني العباس. فولَّى عبيد الله بن عباس على اليمن، وولَّى على مكة والطائف قثم بن العباس وأما المدينة فقيل إنه ولَّى عليها سهل بن حُنَيْف. وقيل: ثمامة بن العباس. وأما البصرة فولَّى عليها عبد الله بن عباس(1). وولَّى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي ربَّاه في حجره.
ثم إن الإمامية تدَّعي أن عليّاً نص على أولاده في الخلافة، أو على ولده، وولده على ولده الآخر، وهَلُمَّ جرّاً.
ومن المعلوم أنه إن كان تولية الأقربين منكراً، فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال، وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم. ولهذا كان الوكيل والولي الذي لا يشتري لنفسه لا يشتري لابنه أيضاً في أحد قولي العلماء، والذي دفع إليه المال ليعطيه لمن يشاء لا يأخذه لنفسه ولا يعطيه لولده في أحد قوليهم.
وكذلك تنازعوا في الخلافة: هل للخليفة أن يُوصي بها لولده؟ على قولين. والشهادة لابنه مردودة عن أكثر العلماء. ولا ترد الشهادة لبني عمه. وهكذا غير ذلك من الأحكام.
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: انظر عقيدة الرافضة في ابن عباس رضي الله عنهما ص90-97 من كتابنا "الشيعة والمتعة" حيث اتهم باللصوصية والزيغ والضلال.(11/24)
وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”أنت ومالك لأبيك“(1) وقال: ”ليس لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهبه لولده“(2).
فإن قالوا: إن عليّاً رضي الله عنه فعل ذلك بالنص.
قيل أولاً: نحن نعتقد أن عليّاً خليفة راشد، وكذلك عثمان. لكن قبل أن نعلم حجة كل منهما فيما فعل، فلا ريب من تطرق الظنون والتهم إلى ما فعله عليّ أعظم من تطرّق التهم والظنون إلى ما فعله عثمان.
وإذا قال القائل: لعليّ حجة فيما فعله.
__________
(1) الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في: سنن ابن ماجه 2/769 (كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده). وجاء في التعليق: "في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات على شرط البخاري". وأورد الهيثمي الحديث في كتاب البيوع في باب مال الولد 4/154-155 من عدة طرق وبألفاظ متقاربة وتكلم عليه. وقال السيوطي في "الجامع الصغير" عن الحديث إن ابن ماجه رواه عن جابر، وإن الطبراني رواه عن سمرة وابن مسعود. وصحح الألباني الحديث في "صحيح الجامع الصغير" 2/25 وتكلم كلاماً مفصلاً على طرقه وألفاظه في "إرواء الغليل" 3/323-330 (رقم 838).
(2) الحديث عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم في: سنن أبي داود 3/394-395 (كتاب البيوع والإجارات، باب الرجوع في الهبة) ونصه: "لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي لولده، ومثل الذي يُعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه". والحديث بألفاظ مقاربة في :سنن الترمذي 3/299 (كتاب الولاء والهبة، باب ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، سنن النسائي 6/222-223 (كتاب الهبة، باب جوع الوالد فيما يعطي ولده)، المسند (ط. المعارف) الأرقام: 2119، 4810، 5493 وصحح أحمد شاكر رحمه الله الحديث.(11/25)
قيل له: وحجة عثمان فيما فعله أعظم. وإذا ادُّعِيَ لعليّ العصمة ونحوها مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين، كان ما يُدَّعى لعثمان من الاجتهاد الذي يقطع ألسنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول.
فإن الرافضي يجيء إلى أشخاص ظهر بصريح المعقول وصحيح المنقول أن بعضهم أكمل سيرة من بعض، فيجعل الفاضل مذموماً مستحقاً للقدح، ويجعل المفضول معصوماً مستحقاً للمدح، كما فعلت النصارى: يجيئون إلى الأنبياء صلوات الله عليهم، وقد فضّل الله بعضهم على بعض، فيجعلون المفضول إلهاً والفاضل منقوصاً دون الحواريين الذين صحبوا المسيح، فيكون ذلك قلباً للحقائق. وأعجب من ذلك أنهم يجعلون الحواريين الذين ليسوا أنبياء معصومين من الخطأ، ويقدحون في بعض الأنبياء كسليمان وغيره.
ومعلوم أن إبراهيم ومحمداً أفضل من نفس المسيح صلوات الله وسلامه عليهم بالدلائل الكثيرة، بل وكذلك موسى. فكيف يُجعل الذين صحبوا المسيح أفضل من إبراهيم ومحمد؟
وهذا من الجهل والغلو الذي نهاهم الله عنه. قال تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [النساء: 171].
وكذلك الرافضة موصوفون بالغلو عند الأمة، فإن فيهم من ادّعى الإلهية في عليّ(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: هم السبئية الذين ادَّعوا الألوهية في عليّ رضي الله عنه وأحرقهم بالنار.
وذكر الكشي في رجاله ص101: عن مسمع بن عبد الله أبي سيار عن رجل عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن علياً عليه السلام لما فرغ من قتال أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزَّطّ فسلّموا عليه وكلموه بلسانهم وقال لهم: إني لست كما قلتم، أنا عبد الله مخلوق. قال: فأبوا عليه وقالوا له: أنت أنت هو. فقال لهم: لئن لم ترجعوا عمّا قلتم فيّ وتتوبوا إلى الله لأقتلنكم. قال: فأبوا أن يرجعوا أو يتوبوا. فأمر أن يحفر لهم آبار، فحُفرت ثم خرق بعضها إلى بعض ثم فرقهم فيها ثم طمّ رؤوسها ثم ألهب النار في بئر ليس فيها أحد فدخل الدخان عليهم فماتوا.(11/26)
. وهؤلاء شرٌّ من النصارى، وفيهم من ادّعى النبوة فيه. ومن أثبت نبيّاً بعد محمد فهو شبيه بأتباع مسيلمة الكذَّاب وأمثاله من المتنبئين، إلا أن عليّاً رضي الله عنه بريء من هذه الدعوة، بخلاف من ادّعى النبوة لنفسه كمسيلمة وأمثاله.
وهؤلاء الإمامية يدَّعون ثبوت إمامته بالنص، وأنه كان معصوماً هو وكثير من ذريته، وأن القوم ظلموه وغصبوه.
ودعوى العصمة تضاهي المشاركة في النبوة. فإن المعصوم يجب اتّباعه في كل ما يقول، لا يجوز أن يُخالَف في شيء. وهذه خاصة الأنبياء، ولهذا أمرنا أن نؤمن بما أنزل إليهم فقال تعالى: { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة: 136]، فأمرنا أن نقول: آمنا بما أوتي النبيون.
وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
وقال تعالى: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [البقرة: 177].
فالإيمان بما جاء به النبيون مما أمرنا أن نقوله ونؤمن به. وهذا مما اتفق عليه المسلمون: أنه يجب الإيمان بكل نبي، ومن كفر بنبي واحد فهو كافر، ومن سبَّه وجب قتله باتفاق العلماء.
وليس كذلك من سوى الأنبياء، سواء سمُّوا أولياء أو أئمة أو حكماء، أو علماء أو غير ذلك. فمن جعل بعد الرسول معصوماً يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة، وإن لم يعطه لفظها.(11/27)
ويقال لهذا: ما الفرق بين هذا وبين أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا مأمورين باتّباع شريعة التوراة؟
وكثير من الغلاة في المشايخ يعتقد أحدهم في شيخه نحو ذلك. ويقولون: الشيخ محفوظ، ويأمرون باتّباع الشيخ في كل ما يفعل، لا يُخالف في شيء أصلاً. وهذا من جنس غلو الرافضة والنصارى والإسماعيلية: تدَّعي في أئمتها أنهم كانوا معصومين.
وأصحاب ابن تُومرت(1)
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي البربري، الملقب بالمهدي، أو بمهدي الموحّدين. مؤسس دولة الموحدين التي قامت على أنقاض دولة المرابطين. اختلف في سنة مولده. ولكنه توفي سنة 524ه وعمره يتراوح بين 51 عاماً، 55 عاماً. من كتبه كتاب "أعز ما يُطلب". وقد نشره جولدتسيهر (الجزائر، 1903) وكتاب "كنز العلوم" وهو مخطوط. و"المرشدة" وهي رسالة صغيرة طبعت ضمن بعض الكتب عدة مرات. وقد نشره الأستاذ عبد الله كنون حديثاً ضمن كتاب "نصوص فلسفية مهداة إلى الدكتور إبراهيم مدكور" ص114-115، القاهرة 1976 انظر عن حياة ابن تومرت ومذهبه: بحث الأستاذ عبد الله كنون المشار إليه، ص99-115، كتاب "تاريخ فلسفة الإسلام في القارة الإفريقية" للدكتور يحيى هويدي 1/223-243. وانظر أيضاً: وفيات الأعيان 4/137-146، الكامل لابن الأثير 10/201-205، الأعلام 7/104-105.
قال أبو عبد الرحمن: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في "مجموع الفتاوى" ج35 ص142-143: ولهذا اختار كل مبطل أن يأتي بمخاريق لقصد إصلاح العامة، كما فعل "ابن التومرت" الملقب بالمهدي، ومذهبه في الصفات مذهب الفلاسفة لأنه كان مثلها في الجملة، ولم يكن منافقاً مكذباً للرسل معطلاً للشرائع، ولا يجعل للشريعة العملية باطناً يخالف ظاهرها، بل كان فيه نوع من رأي الجهمية الموافق لرأي الفلاسفة، ونوع من رأي الخوارج الذين يرون السيف ويكفِّرون بالذنب.(11/28)
الذي ادّعى أنه المهدي يقولون: إنه معصوم، ويقولون في خطبة الجمعة: الإمام المعصوم والمهدي المعلوم، ويُقال: إنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصوماً.
ومعلوم أن كل هذه الأقوال مخالفة لدين الإسلام: للكتاب والسُّنّة وإجماع سَلَف الأمة وأئمتها. فإن الله تعالى يقول: { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } الآية [النساء: 59]، فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول، فمن أثبت شخصاً معصوماً غير الرسول، أوجب ردّ ما تنازعوا فيه إليه، لأنه لا يقول عنده إلا الحق كالرسول. وهذا خلاف القرآن.
وأيضاً فإن المعصوم تجب طاعته مطلقاً بلا قيد، ومخالفه يستحق الوعيد. والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة. قال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [النساء: 69]. وقال: { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } [الجن: 23] فدلّ القرآن في غير موضع على أن مَن أطاع الرسول كان من أهل السعادة، ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر.
ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد، وإن قُدِّر أنه أطاع مَن ظنّ أنه معصوم، فالرسول صلّى الله عليه وسلّم هو الذي فرّق الله به بين أهل الجنة وأهل النار، وبين الأبرار والفجّار، وبين الحق والباطل، وبين الغيّ والرّشاد، والهدى والضلال، وجعله القسيم الذي قسم الله به عباده إلى شقيّ وسعيد، فمن اتّبعه فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقي. وليست هذه المرتبة لغيره.(11/29)
ولهذا اتفق أهل العلم – أهل الكتاب والسُّنَّة – على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويُترك، إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحى، وهو الذي يُسأل الناس عنه يوم القيامة كما قال تعالى: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [الأعراف: 6].
وهو الذي يُمتحن به الناس في قبورهم، فيُقال لأحدهم: مَن ربك؟ وما دينك؟ ومَن نبيك؟ ويُقال: ما تقول في هذا الرجل الذي بُعثَ فيكم؟ فيثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول: هو عبد الله ورسوله، جاءنا بالبيّنات والهُدى فآمنّا به واتّبعناه. ولو ذكر بدل الرسول من ذكره من الصحابة والأئمة والتابعين والعلماء لم ينفعه ذلك، ولا يُمتحن في قبره بشخص غير الرسول.
والمقصود هنا أن ما يُعتذر به عن عليّ فيما أنكر عليه يُعتذر بأقوى منه عن عثمان، فإن عليّاً قاتل على الولاية، وقُتِلَ بسبب ذلك خلقٌ كثير عظيم، ولم يحصل في ولايته لا قتال للكفار، ولا فتح لبلادهم، ولا كان المسلمون في زيادة خير، وقد ولَّى من أقاربه من ولاّه، فولاية الأقارب مشتركة، ونوَّاب عثمان كانوا أطوع من نوَّاب عليّ وأبعد عن الشر.
وأما الأموال التي تأوَّل فيها عثمان، فكما تأوَّل عليّ في الدماء. وأمر الدماء أخطر وأعظم.
ويقال ثانياً: هذا النصّ الذي تدّعونه أنتم فيه مختلفون اختلافاً يُوجب العلم الضروري بأنه ليس عندكم ما يُعتمد عليه فيه، بل كل قوم منكم يفترون ما شاءوا.
وأيضاً فجماهير المسلمين يقولون: إنّا نعلم علماً يقيناً، بل ضرورياً، كذب هذا النصّ، بطرق كثيرة مبسوطة في مواضعها.(11/30)
ويقال ثالثاً: إذا كان كذلك ظهرت حجة عثمان؛ فإن عثمان يقول: إن بني أمية كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستعملهم في حياته، واستعملهم بعده من لا يُتهم بقرابة: فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه. ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمّال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر من بني عبد شمس، لأنهم كانوا كثيرين، وكان فيهم شرف وسؤدد، فاستعمل النبي صلّى الله عليه وسلّم في عزّة الإسلام على أفضل الأرض: "مكة" عتّاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية، واستعمل أيضاً خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذحج وعلى صنعاء اليمن، فلم يزل عليها حتى مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عُرَيْنة، واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا، ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي حتى تُوفي النبي صلّى الله عليه وسلّم، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط حتى أنزل الله فيه: { إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ }... الآية [الحجرات: 6].
فيقول عثمان: أنا لم استعمل إلا من استعمله النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، فقد ولَّى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام، وأقرَّه عمر، ثم ولَّى عمر بعده أخاه معاوية.
وهذا النقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه، بل متواتر عند أهل العلم، ومنه متواتر عند علماء الحديث، ومنه ما يعرفه العلماء منهم، ولا ينكره أحد منهم.(11/31)
فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنصّ الثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أظهر عند كل عاقل من دعوى كَون الخلافة في واحدٍ معيّن من بني هاشم بالنصّ، لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل، وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل.
وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه على اليمن. وولَّى أيضاً على اليمن معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري، وولَّى جعفر بن أبي طالب على قتال مؤتة، وولَّى قبل جعفر زيد بن حارثة مولاه، وقيل: عبد الله بن رواحة. فهذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقدِّم في الولاية زيد بن حارثة مولاه، وهو من كَلب، على جعفر بن أبي طالب. وقد رُوى أن العباس سأله ولايةً فلم يولّه إياها.
وليس في بني هاشم بعد عليّ أفضل من حمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث بن المطلب الذي قُتِلَ يوم بدر، فحمزة لم يتولّ شيئاً، فإنه قُتل يوم أحد شهيداً رضي الله عنه.
وما ينقله بعض الترك، بل وشيوخهم، من سيرة حمزة ويتداولونها بينهم، ويذكرون له حروباً وحصارات وغير ذلك، فكله كذب، من جنس ما يذكره الذاكرون من الغزوات المكذوبة على علي بن أبي طالب، بل وعلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. من جنس ما يذكره أبو الحسن البكري صاحب "تنقُّلات الأنوار" فيما وضعه من السيرة(1)، فإنه من جنس ما يفتريه الكذّابون من سيرة داهمة والبطّالين والعيّارين ونحو ذلك.
__________
(1) تكلم ابن تيمية على البكري في غير موضع، فذكره في "تلخيص كتاب الاستغاثة في الرد على البكري" ص7، ط. السلفية، 1346م، وذكره في "فتاوى الرياض" 18/351. وهو أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن محمد البكري المتوفي حوالي سنة 250ه. قال عنه الذهبي في "ميزان الاعتدال" 1/112: "ذاك الكذاب الدجال واضع القصص التي لم تكن قط... ويقرأ له في سوق الكتبيين كتاب "ضياء الأنوار".. انظر ترجمته أيضاً في: لسان الميزان 1/202، الأعلام 1/148-149 .(11/32)
فإن مغازي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معروفة مضبوطة عند أهل العمل، وكانت بضعاً وعشرين غزوة، لكن لم يكن القتال منها إلا في تسع مغازٍ: بدر، وأحد، والخندق، وبني المصطلق، والغابة، وفتح خيبر، وفتح مكة، وحُنين، والطائف، وهي آخر غزوات القتال. لكن لما حاصر الطائف، وكان بعدها غزوة تبوك، وهي آخر المغازي وأكثرها عدداً وأشقها على الناس، وفيها أنزل الله سورة براءة، لكن لم يكن فيها قتال.
وما يذكره جهّال الحجاج من حصار تبوك كذب لا أصل له، فلم يكن بتبوك حصن ولا مقاتلة. وقد أقام بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشرين ليلة، ثم رجع إلى المدينة النبوية.
وإذا كان جعفر أفضل بني هاشم بعد عليّ في حياته، ثم مع هذا أمَّر النبي صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة – وهو من كلب – عليه، عُلم أن التقديم بفضيلة الإيمان والتقوى، وبحسب أمور أخر، بحسب المصلحة لا بالنسب. ولهذا قدَّم النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر وعمر على أقاربه، لأنه رسول الله يأمر بأمر الله، ليس من الملوك الذين يقدِّمون بأهوائهم لأقاربهم ومواليهم وأصدقائهم. وكذلك كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حتى قال عمر: "من أمَّر رجلاً لقرابة أو صداقة بينهما، وهو يجد في المسلمين خيراً منه، فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين".
والقاعدة الكلية في هذا أن لا نعتقد أن أحداً معصوم بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ، والذنوب التي تقع منهم قد يتوبون منها، وقد تُكَفَّر عنهم بحسناتهم الكثيرة، وقد يُبتلون أيضاً بمصائب يكفّر الله عنهم بها، وقد يكفّر عنهم بغير ذلك.
فكل ما يُنقل عن عثمان غايته أن يكون ذنباً أو خطاً. وعثمان رضي الله عنه قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة، منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعاته.(11/33)
وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم شهد له، بل بشّره بالجنة على بلوى تصيبه(1).
ومنها أنه تاب من عامة ما أنكروه عليه، وأنه ابتُلِيَ ببلاء عظيم، فكفَّر الله به خطاياه، وصبر حتى قُتل شهيداً مظلوماً. وهذا من أعظم ما يكفِّر الله به الخطايا.
وكذلك عليّ رضي الله عنه: ما تنكره الخوارج وغيرهم عليه غايته أن يكون ذنباً أو خطأً، وكان قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة. منها سابقته وإيمانه وجهاده، وغير ذلك من طاعته، وشهادة النبي صلّى الله عليه وسلّم له بالجنة. ومنها أنه تاب من أمور كثيرة أنكرت عليه وندم عليها، ومنها أنه قُتِلَ مظلوماً شهيداً.
فهذه القاعدة تغنينا أن نجعل كل ما فعل واحد منهم هو الواجب أو المستحب من غير حاجة بنا إلى ذلك. والناس المنحرفون في هذا الباب صنفان: القادحون الذين يقدحون في الشخص بما يغفره الله له. والمادحون الذين يجعلون الأمور المغفورة من باب السعي المشكور. فهذا يغلو في الشخص الواحد حتى يجعل سيئاته حسنات. وذلك يجفو فيه حتى يجعل السيئة الواحدة منه محبطة للحسنات.
__________
(1) الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في: البخاري 5/8-9، 12-13، 13-14. (كتاب فضائل أصحاب النبي..، باب حدثنا الحميدي، باب مناقب عمر بن الخطاب، باب مناقب عثمان بن عفان) وأول الحديث.. أخبرني أبو موسى الأشعري أنه توضأ في بيته... ولفظ النبي صلّى الله عليه وسلّم: "ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه..." الحديث. وهو في: مسلم 4/1867-1869 (كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عثمان)؛ سنن الترمذي 5/294-295، (كتاب المناقب، مناقب عثمان بن عفان، باب رقم 81 حديث رقم 3794)، المسند (ط. الحلبي) 4/393، 406، 407 .(11/34)
وقد أجمع المسلمون كلهم – حتى الخوارج – على أن الذنوب تُمحى بالتوبة، وأن منها ما يُمحى بالحسنات. وما يمكن أحدٌ أن يقول: إن عثمان أو عليّاً أو غيرهما لم يتوبوا من ذنوبهم. فهذه حجة على الخوارج الذين يكفِّرون عثمان وعليّاً، وعلى الشيعة الذين يقدحون في عثمان وغيره، وعلى الناصبة الذين يخصُّون عليّاً بالقدح.
ولا ريب أن عثمان رضي الله عنه تقابلت فيه طائفتان: شيعته من بني أمية وغيرهم، ومبغضوه من الخوارج والزيدية والإمامية وغيرهم.
لكن شيعته أقل غلواً فيه من شيعة عليّ، فما بلغنا أن أحداً منهم اعتقد فيه بخصوصه إلاهيّةً ولا نبوة، ولا بلغنا أن أحداً اعتقد ذلك في أبي بكر وعمر.
لكن قد يكون بعض من يغلو في جنس المشايخ، ويعتقد فيهم الحلول أو الاتحاد أو العصمة، يقول ذلك في هؤلاء، لكن لا يخصهم بذلك.
ولكن شيعة عثمان، الذين كان فيهم انحراف عن عليّ، كان كثير منهم يعتقد أن الله إذا استخلف خليفة يقبل منه الحسنات ويتجاوز له عن السيئات، وأنه يجب طاعته في كل ما يأمر به. وهو مذهب كثيرٍ من شيوخ الشيعة العثمانية وعلمائها.(11/35)
ولهذا لما حجَّ سليمان بن عبد الملك، وتكلم مع أبي حازم في ذلك، قال له أبو حازم: يا أمير المؤمنين؛ إن الله تعالى يقول: { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [سورة ص: 26]. وموعظة أبي حازم لسليمان معروفة(1).
ولَمّا تولَّى عمر بن عبد العزيز أظهر من السُّنَّة والعدل ما كان قد خفي، ثم مات، فطلب يزيد بن عبد الملك أن يسير سيرته، فجاء إليه عشرون شيخاً من شيوخ الشيعة العثمانية، فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أن الله إذا استخلف خليفة تقبَّل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات، حتى أمسك عن مثل طريقة عمر بن عبد العزيز.
ولهذا كانت فيهم طاعة مطلقة لمتولّي أمرهم، فإنهم كانوا يرون أن الله أوجب عليهم طاعة ولي أمرهم مطلقاً، وأن الله لا يؤاخذه على سيئاته، ولم يبلغنا أن أحداً منهم كان يعتقد فيهم أنهم معصومون، بل يقولون: إنهم لا يؤاخَذون على ذنب، كأنهم يرون أن سيئات الولاة مكفَّرة بحسناتهم، كما تكفّر الصغائر باجتناب الكبائر.
فهؤلاء إذا كانوا لا يرون خلفاء بني أمية، معاوية فمن بعده، مؤاخذين بذنب، فكيف يقولون في عثمان – مع سابقته وفضله وحسن سيرته وعدله، وأنه من الخلفاء الراشدين؟
__________
(1) أبو حازم هو سلمة بن دينار المخزومي، أبو حازم الأعرج، عالم المدينة وقاضيها كان عابداً زاهداً، توفي سنة 140ه. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 4/143-144، تذكرة الحفاظ 1/133-134، الأعلام 3/171-172. وانظر موعظته لسليمان بن عبد الملك في: حلية الأولياء 3/234-237، صفة الصفوة 2/89-90 .(11/36)
وأما الخوارج، فأولئك يكفِّرون عثمان وعليّاً جميعاً. ولم يكن لهم اختصاص بذم عثمان. وأما شيعة عليّ فكثير منهم – أو أكثرهم يذم عثمان، حتى الزيدية الذين يترحّمون على أبي بكر وعمر، فيهم من يسبّ عثمان ويذمّه، وخيارهم الذي يسكت عنه فلا يترحّم عليه ولا يلعنه.
وقد كان من شيعة عثمان من يسبّ عليّاً، ويجهر بذلك على المنابر وغيرها، لأجل القتال الذي كان بينهم وبينه. وكان أهل السنة من جميع الطوائف تُنكر ذلك عليهم، وكان فيهم من يؤخّر الصلاة عن وقتها، فكان المتمسك بالسُّنّة يُظهر محبة عليّ وموالاته، ويحافظ على الصلاة في مواقيتها. حتى رُئِيَ عمرو بن مرَّة الجملي، وهو من خيار أهل الكوفة: شيخ الثوري وغيره، بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بحب عليّ بن أبي طالب، ومحافظتي على الصلاة في مواقيتها.
وغلت شيعة عليّ في الجانب الآخر، حتى صاروا يصلّون العصر مع الظهر دائماً قبل وقتها الخاص، ويصلّون العشاء مع المغرب دائماً قبل وقتها الخاص، فيجمعون بين الصلاتين دائماً في وقت الأولى. وهذا خلاف المتواتر من سُنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن الجمع إنما كان يفعله لسبب، لا سيما الجمع في وقت الأولى، فإن الذي تواتر عند الأئمة أنه فعله بعرفة. وأما ما فعله بغيرها ففيه نزاع. ولا خلاف أنه لم يكن يفعله دائماً لا في الحَضر ولا في السفر، بل في حجة الوداع لم يجمع إلا بعرفة ومزدلفة. ولكن رُوِيَ عنه الجمع في غزوة تبوك. ورُوِيَ أيضاً أنه جمع بالمدينة، لكن نادراً لسبب. والغالب عليه ترك الجَمْع. فكيف يُجمع بين الصلاتين دائماً؟
وأولئك إذا كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر، فهو خير من تقديم العصر إلى وقت الظهر. فإن جمع التأخير خير من جمع التقديم. فإن الصلاة يفعلها النائم والناسي قضاءً بعد الوقت. وأما الظهر قبل الزوال فلا تُصلّى بحال.(11/37)
وهكذا تجد في غالب الأمور بدع هؤلاء أشنع من بدع أولئك. ولم يكن أحد منهم يتعرَّض لأبي بكر وعمر إلا بالمحبة والثناء والتعظيم، ولا بلغنا أن أحداً منهم كفَّر عليّاً، كما كفّرته الخوار الذي خرجوا عليه من أصحابه. وإنما غاية من يعتدي منهم على عليٍّ رضي الله عنه أن يقول: كان ظالماً، ويقولون: لم يكن من الخلفاء، ويروون عنه أشياء من المعاونة على قتل عثمان، والإشارة بقتله في الباطن، والرضا بقتله.
وكل ذلك كذب على عليٍّ رضي الله عنه. وقد حَلَفَ رضي الله عنه – وهو الصادق بلا يمين – أنه لم يقتل عثمان، ولا مالأ على قتله، بل ولا رضي بقتله، وكان يلعن قتلة عثمان(1).
وأهل السنة يعلمون ذلك منه بدون قوله. فهو أتقى لله من أن يُعين على قتل عثمان، أو يرضى بذلك.
فما قالته شيعة عليّ في عثمان أعظم مما قالته شيعة عثمان في عليّ؛ فإن كثيراً منهم يكفّر عثمان. وشيعة عثمان لم تكفِّر عليّاً. ومن لم يكفِّره يسبُّه ويبغضه أعظم مما كانت شيعة عثمان تبغض عليّاً.
وأهل السُّنّة يتولون عثمان وعليّاً جميعاً. ويتبرؤون من التشيع والتفرّق في الدين، الذي يوجب موالاة أحدهما ومعاداة الآخر. وقد استقرّ أمر أهل السنة على أن هؤلاء مشهود لهم بالجنة، ولطلحة والزبير، وغيرهما ممن شهد له الرسول بالجنة، كما قد بُسط في موضعه. وكان طائفة من السّلف يقولون: لا نشهد بالجنة إلا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة. وهذا قول محمد بن الحنفية والأوزاعي وطائفة أخرى من أهل الحديث، كعليّ بن المديني وغيره، يقولون: هم في الجنة، ولا يقولون: نشهد لهم بالجنة.
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: انظر "عثمان بن عفان" لابن عساكر ص460-483. حيث ذكر ابن عساكر رحمه الله تعالى أقوال علي رضي الله عنه في قتلة عثمان رضي الله عنه. وانظر مقدمة هذا الجزء.(11/38)
والصواب أنّا نشهد لهم بالجنة كما استقر على ذلك مذهب أهل السُّنَّة. وقد ناظر أحمد بن حنبل لعليّ بن المديني في هذه المسألة.
وهذا معلوم عندنا بخبر الصادق. وهذه المسألة لبسطها موضع آخر. والكلام هنا فيما يُذكر عنهم من أمور يُراد بها الطعن عليهم.
فطائفة تغلو فيهم فتريد أن تجعلهم معصومين أو كالمعصومين. وطائفة تريد أن تسبهم وتذمهم بأمور، إن كانت صدقاً فهم مغفور لهم، أو هم غير مؤاخذين بها، فإنه ما ثمَّ إلا ذنب أو خطأ في الاجتهاد. والخطأ قد رفع الله المؤاخذة به عن هذه الأمة. والذنب لمغفرته عدة أسباب كانت موجودة فيهم. وهما أصلان: عام وخاص. أما العام فإن الشخص الواحد يجتمع فيه أسباب الثواب والعقاب عند عامة المسلمين، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين.
والنزاع في ذلك مع الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: ما ثمَّ إلا مُثَاب في الآخرة أو معاقَب، ومن دخل النار لم يخرج منها: لا بشفاعة ولا غيرها، ويقولون: إن الكبيرة تُحبط جميع الحسنات، ولا يبقى مع صاحبها من الإيمان شيء.
وقد ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إخراج قومٍ من النار بعدما امتُحشوا. وثبت أيضاً شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأهل الكبائر من أمته. والآثار بذلك متواترة عند أهل العلم بالحديث، أعظم من تواتر الآثار بنصاب السرقة، ورجم الزاني المحصن، ونصب الزكاة، ووجوب الشفعة، وميراث الجدة، وأمثال ذلك.(11/39)
لكن هذا الأصل لا يُحتاج إليه في مثل عثمان وأمثاله ممن شُهد له بالجنة، وأن الله رضي الله عنه، وأنه لا يعاقبه في الآخرة، بل نشهد أن العشرة في الجنة، وأن أهل بيعة الرضوان في الجنة، وأن أهل بدر في الجنة، كما ثبت الخبر بذلك عن الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. وقد دخل في الفتنة خلق من هؤلاء المشهود لهم بالجنة، والذي قتل عمَّار بن ياسر هو أبو الغادية(1) وقد قيل: إنه من أهل بيعة الرضوان، ذكر ذلك ابن حزم.
فنحن نشهد لعمَّار بالجنة، ولقاتله إن كان من أهل بيعة الرضوان بالجنة. وأما عثمان وعليّ وطلحة والزبير فهم أجلّ قدراً من غيرهم، ولو كان منهم ما كان، فنحن لا نشهد أن الواحد من هؤلاء لا يذنب، بل الذي نشهد به أن الواحد من هؤلاء إذا أذنب، فإن الله لا يعذّبه في الآخرة، ولا يُدخله النار، بل يُدخله الجنة بلا ريب، وعقوبة الآخرة، تزول عنه: إما بتوبته منه، وإما بحسناته الكثيرة، وإما بمصائبه المكفِّرة، وإما بغير ذلك، كما قد بسطناه في موضعه.
فإن الذنوب مطلقاً من جميع المؤمنين هي سبب العذاب، لكن العقوبة بها في الآخرة في جهنم تندفع بنحو عشرة أسباب.
__________
(1) هو أبو الغادية الجهني. قال ابن الأثير في "أسد الغابة" 6/237: "اختلف في اسمه فقيل: يسار بن أزيهر، وقيل: اسمه مسلم" وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب" هامش 4/150: "فقيل: يسار بن سبع، وقيل: يسار بن أزهر، وقيل: اسمه مسلم" وقال ابن حجر في "الإصابة" 4/150: "سكن الشام... أبو الغادية الجهني قاتل عمار له صحبة، وفرق بينه وبين أبي الغادية المزني. انظر الإصابة 3/627، 4/150-151، الاستيعاب 3/629، 4/150-151، أسد الغابة 5/513، 6/237. وقال الذهبي في "العبر" 1/42 إنه شهد صفين مع معاوية أبو غادية الجهني سنة 37ه، وذكره ابن حزم في "جوامع السيرة" مرتين، ص308، 322 ضمن الصحابة رواة الحديث.(11/40)
السبب الأول: التوبة؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. والتوبة مقبولة من جميع الذنوب: الكفر، والفسوق، والعصيان. قال الله تعالى: { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38] وقال تعالى: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [التوبة: 11].
وقال تعالى: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة: 73-74].
وقال: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } [البروج: 10]. قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، فتنوا أولياءه وعذّبوهم بالنار، ثم هو يدعوهم إلى التوبة.
والتوبة عامة لكل عبد مؤمن، كما قال تعالى: { وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [الأحزاب: 72-73].
وقد أخبر الله في كتابه عن توبة أنبيائه ودعائهم بالتوبة، كقوله: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة: 37].(11/41)
وقول إبراهيم وإسماعيل: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة: 127-128].
وقال موسى: { أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ، وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [الأعراف: 155، 156].
وقوله: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [القصص: 16].
وقوله: { تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 143].
كذلك ما ذكره في قصة داود وسليمان وغيرهما.
وأما المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذلك فكثير مشهور. وأصحابه كانوا أفضل قرون الأمة، فهم أعرف القرون بالله، وأشدهم له خشية، وكانوا أقوم الناس بالتوبة في حياته وبعد مماته.(11/42)
فمن ذكر ما عيب عليهم ولم يذكر توبتهم، التي بها رفع الله درجتهم، كان ظالماً لهم، كما جرى من بعضهم يوم الحديبية، وقد تابوا منه، مع أنه كان قصدهم الخير. وكذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة تاب منها، بل زانيهم كان يتوب توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، كما تاب ماعز بن مالك وأتى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى طهَّره بإقامة الحد عليه(1). وكذلك الغامدية بعده. وكذلك كانوا زمن عمر وغيره إذا شرب أحدهم الخمر أتى إلى أميره، فقال: طهِّرني وأقم عليَّ الحد. فهذا فعل من يأتي الكبير منهم حين يعلمها حراماً، فكيف إذ أتى أحدهم الصغيرة أو ذنباً تأوَّل فيه ثم تبين له خطؤه؟
وعثمان بن عفّان رضي الله عنه تاب توبة ظاهرة من الأمور التي صاروا ينكرونها، ويظهر له أنها منكر. وهذا مأثور مشهور عنه رضي الله عنه وأرضاه.
وكذلك عائشة رضي الله عنها ندمت على مسيرها إلى البصرة، وكانت إذا ذكرته تبكي حتى تبل خمارها.
وكذلك طلحة ندم على ما ظن من تفريطه في نصر عثمان وعلى غير ذلك. والزبير ندم على مسيره يوم الجمل.
وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ندم على أمور فعلها من القتال وغيره، وكان يقول:
لقد عجزتُ عجزة لا أعتذر
سوف أكيس بعدها وأستمر
وأجمع الرأي الشتيت المنتشر
وكان يقول ليالي صفِّين: "لله درّ مقام قامه عبد الله بن عمر وسعد بن مالك؛ إن كان برّاً إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً إن خطره ليسير" وكان يقول: "يا حسن يا حسن! ما ظنَّ أبوك أن الأمر يبلغ إلى هذا، ودّ أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة".
__________
(1) حديث إقامة الحد على ماعز بن مالك جاء من وجوه كثيرة وهو في البخاري ومسلم، ولكن النص على أنه تاب وأن الله قبل توبته جاء في حديث عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه في: مسلم 3/1321-1323 (كتاب الحدود، باب مَن اعترف على نفسه بالزنا) وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال عنه: "لقد تاب توبةً لو قُسمت بين أمّة لوسعتهم".(11/43)
ولما رجع من صفّين تغيّر كلامه، وكان يقول: "لا تكرهوا إمارة معاوية، فلو قد فقدتموه لرأيتم الرؤوس تتطاير عن كواهلها". وقد روي هذا عن عليّ رضي الله عنه من وجهين أو ثلاثة. وتواترت الآثار بكراهته الأحوال في آخر الأمر، ورؤيته اختلاف الناس وتفرّقهم، وكثرة الشر الذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل.
وبالجملة ليس علينا أن نعرف كل واحد تاب، ولكن نحن نعلم أن التوبة مشروعة لكل عبدٍ: للأنبياء ولمن دونهم، وأن الله سبحانه يرفع عبده بالتوبة، وإذا ابتلاه بما يتوب منه، فالمقصود كمال النهاية لا نقص البداية، فإنه تعالى يحب التوّابين ويحبّ المتطهرين، وهو يُبدِّل بالتوبة السيئات حسنات.
والذنب مع التوبة يوجب لصاحبه من العبودية والخشوع والتواضع والدعاء وغير ذلك، ما لم يكن يحصل قبل ذلك. ولهذا قال طائفة من السّلف: إن العبد ليفعل الذنب فيدخل به الجنة، ويفعل الحسنة فيدخل بها النار. يفعل الذنب فلا يزال نصب عينيه، إذا ذكره تاب إلى الله ودعاه وخشع له فيدخل به الجنة، ويفعل الحسنة فيُعجب بها فيدخل النار.
وفي الأثر: "لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أعظم من الذنب، وهو العُجب". وفي أثر آخر "لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه".
وفي أثر آخر: "يقول الله تعالى: أهل ذكي أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنّطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، فإن الله يحب التّوابين ويحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهّرهم من المعايب". والتائب حبيب الله سواء أكان شاباً أو شيخاً.(11/44)
السبب الثاني: الاستغفار؛ فإن الاستغفار هو طلب المغفرة، وهو من جنس الدعاء والسؤال، وهو مقرون بالتوبة في الغالب ومأمور به، لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو، وقد يدعو ولا يتوب. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه عزَّ وجلَّ أنه قال: ”أذنب عبدٌ ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال الله تبارك وتعالى: أذنبَ عبدي ذنباً فعلم أن له ربّاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي ربِّ، اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له ربّاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ؛ اغفر لي ذنبي. فقال تعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له ربّاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. قد غفرتُ لعبدي“ وفي رواية لمسلم: ”فليفعل ما شاء“(1).
والتوبة تمحو جميع السيئات، وليس شيء يغفر جميع الذنوب إلا التوبة، فإن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. وأما التوبة فإنه تعالى قال: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر: 53] وهذه لمن تاب. ولهذا قال: { لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ } بل توبوا إليه، وقال بعدها: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [الزمر: 54]. وأما الاستغفار بدون التوبة، فهذا لا يستلزم المغفرة، ولكن هو سبب من الأسباب.
__________
(1) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 9/145 (كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } (الفتح: 15]، مسلم 4/2112-2113 (كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب)، المسند (ط. المعارف) 15/92-93 (وانظر تعليق المحقق).(11/45)
السبب الثالث: الأعمال الصالحة؛ فإن الله تعالى يقول: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [هود: 114]. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل يوصيه: ”يا معاذ؛ اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بِخُلق حسن“(1).
وفي الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفَّارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر“ (أخرجاه في الصحيحين)(2).
__________
(1) جاء الحديث بهذا اللفظ (بدون عبارة: يا معاذ) عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه في: سنن الترمذي 3/239 (كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس) وقال الترمذي: "وفي الباب عن أبي هريرة. هذا حديث حسن صحيح" ثم ذكر الترمذي حديثاً بعده (ص240) وأول سنده: حدثنا محمود بن غيلان... عن معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نحوه. قال محمود: "والصحيح حديث أبي ذر". وجاء حديث أبي ذر في: سنن الدارمي 2/323 (كتاب الرقاق، باب في حسن الخلق)؛ المسند (ط. الحلبي) 5/153. وفي آخره: "وقال وكيع: وقال سفيان مرة عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر وهو السماع الأول". وجاء الحديث مرة أخرى 5/158. وجاء الحديث عن أبي ذر فقط 5/177. وجاء الحديث وأوله "يا معاذ" عن معاذ في المسند (ط. الحلبي) 5/228، 236 وحسّن الألباني الحديث عن أبي ذر ومعاذ وأنس في "صحيح الجامع الصغير" 1/86 .
(2) الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن أبي هريرة رضي الله عنه في: مسلم 1/209 (كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس..)، سنن الترمذي 1/138 (كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس) وقال الترمذي: "وفي الباب عن جابر وأنس وحنظلة الأسيدي، حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح".(11/46)
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه“(1).
وقال: ”من حَجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه“(2).
__________
(1) الحديث بهذا اللفظ فقط أو مع زيادة: "ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه" عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 1/12 (كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتساباً من الإيمان)، 3/26 (كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيماناً واحتساباً ونية)، 3/45-46 (كتاب فضل ليلة القدر، باب فضل ليلة القدر)، مسلم 1/523-524 (كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان..)، سنن أبي داود 2/66-67 (كتاب تفريع أبواب شهر رمضان، باب في قيام شهر رمضان).
(2) الحديث – مع اختلاف في اللفظ. عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 2/133 (كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور)؛ مسلم 2/983 (كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة يوم عرفة). والحديث في سنن الترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي والمسند.(11/47)
وقال: ”أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهراً غمراً يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل كان يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا. قال: كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطابا كما يمحو الماء الدرن“ وهذا كله في الصحيح(1).
__________
(1) الحديث بدون كلمة "غمرا" عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 1/108 (كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلوات الخمس كفّارة)، مسلم 1/462-463 (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة..) وأما كلمة "غمرا" فجاءت في حديث آخر بمعناه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في: مسلم 1/463 ونصه: "مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غَمْرٍ على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات" قال: قال الحسن: وما يبقى ذلك من الدرن؟ وروى الإمام أحمد هذا الحديث في مسنده (ط. المعارف) 18/143 (رقم 9501) عن جابر رضي الله عنه ثم في الحديث الذي بعده 18/144 (رقم 9502) عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مثله. والحديث عن جابر في: المسند (ط. الحلبي) 3/317. وجاء حديث ثالث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في: المسند (ط. المعارف) 3/67-68 أوله: عن عامر بن سعد بن أبي وقاص: سمعت سعداً أو ناساً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: كان رجلان أخوان... وفيه: فقال (النبي صلّى الله عليه وسلّم): ألم يكن يصلي؟... وفيه: إنما مثل الصلاة كمثل نهر جار بباب رجل غَمْرٍ عذب، يقتحم فيه.. الحديث. وفي الشرح: الغمر – بفتح الغين وسكون الميم: الكثير، أي يغمر من دخله ويغطيه.(11/48)
وقال: ”الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار“ رواه الترمذي وصححه(1).
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10-12].
__________
(1) الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه في: سنن الترمذي 4/124-125 (كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة) وأوله: "كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر.. فقلت: يا رسول الله؛ أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال: "لقد سألتني عن شيء عظيم، وإنه ليسير على من يسّره الله عليه.... الحديث وفيه: "والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ المار النار.." وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وجاء حديث معاذ أيضاً في: سنن ابن ماجه 2/1314-1315 (كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة). وجاءت هذه العبارات أيضاً في حديث آخر عن كعب بن عجرة رضي الله عنه في: سنن الترمذي 2/61-62 (كتاب الجمعة: السفر، باب في فضل الصلاة) وأوله: "أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي.. الحديث وفيه: "والصوم جنة والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار" وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب..." كما جاءت هذه العبارات في حديث ثالث عن أنس بن مالك رضي الله عنه في: سنن ابن ماجه 2/1408 (كتاب الزهد، باب الحسد) وأوله: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار". وحديث معاذ بن جبل في المسند (ط. الحلبي) 5/231، 237، 248، وحديث كعب بن عجرة في المسند (ط. الحلبي) 3/321، 399 .(11/49)
وفي الصحيح: ”يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدَّيْنَ“(1). وما روى: أن ”شهيد البحر يُغفر له الدَّيْن“. فإسناده ضعيف(2). والدَّيْن حق لآدمي فلابد من استيفائه.
وفي الصحيح: ”صوم يوم عرفة كفَّارة سنتين، وصوم يوم عاشوراء كفَّارة سنة“(3). ومثل هذه النصوص كثير، وشرح هذه الأحاديث يحتاج إلى بسط كثير.
__________
(1) الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما – مع اختلاف في اللفظ – في: مسلم 3/1502 (كتاب الإمارة، باب من قُتل في سبيل الله..)؛ المسند (ط. المعارف) 12/13 .
(2) هذه العبارة جزء من حديث عن أبي أمامة رضي الله عنه في: سنن ابن ماجه 2/928 (كتاب الجهاد، باب فضل غزو البحر) وأوله.. سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "وشهيد البحر مثل شهيدي البر.. الحديث وفيه: "ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدَّيْن، ولشهيد البحر: الذنوب والدَّيْن". وقال الألباني في: "ضعيف الجامع الصغير" 2/151: "موضوع" وتكلم عليه في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" 2/222-223 .
(3) الحديث في "إرواء الغليل" 4/111-112 بلفظ "صوم يوم عرفة يكفّر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفّر سنة ماضية". وقال الألباني: رواه الجماعة إلا البخاري ولم يخرجه النسائي في سننه الصغرى والظاهر أنه في سننه الكبرى. وهذا الحديث عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه في: مسلم 2/818-819 (كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر..) وأوله: رجل أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: كيف تصوم؟ الحديث... وفيه: ... صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله" وانظر كلام الألباني عليه في "إرواء الغليل" 4/108-110 (رقم 952) وما ذكره من وجود الحديث في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه والمسند وسنن البيهقي بروايات مختلفة.(11/50)
فإن الإنسان قد يقول: إذا كُفِّر عني الصلوات الخمس، فأيّ شيء تكفر عني الجمعة أو رمضان، وكذلك صوم يوم عرفة وعاشوراء؟ وبعض الناس يجيب عن هذا بأنه يكتب لهم درجات إذا لم تجد ما تكفّره من السيئات.
فيقال: أولاً: العمل الذي يمحو الله به الخطايا ويكفّر به السيئات هو العمل المقبول.
والله تعالى إنما يتقبَّلُ من المتقين.
والناس لهم في هذه الآية وهي قوله تعالى: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة: 27] ثلاثة أقوال: طرفان ووسط. فالخوارج والمعتزلة يقولون: لا يتقبل الله إلا ممن اتقى الكبائر. وعندهم صاحب الكبيرة لا يُقبل منه حسنة بحال. والمرجئة يقولون: من اتّقى الشرك. والسلف والأئمة يقولون: لا يتقبل إلا مما اتّقاه في ذلك العمل ففعله كما أمر به خالصاً لوجه الله تعالى.
قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [هود: 7] قال: أخلصه وأصوبه. قيل: يا أبا عليّ ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
فصاحب الكبائر إذا اتّقى الله في عمل من الأعمال تقبّل الله منه، ومن هو أفضل منه إذا لم يتق الله في عمل لم يتقبله منه، وإن تقبل منه عملاً آخر.(11/51)
وإذا كان الله إنما يتقبل ممن يعمل العمل على الوجه الأمور به، ففي السنن عن عمَّار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”إن العبد لينصرف عن صلاته ولم يُكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، حتى قال: إلا عشرها“(1).
وقال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها.
وفي الحدث: ”رب صائم حظه من صيامه العطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر“(2). وكذلك الحج والجهاد وغيرهما.
__________
(1) الحديث عن عمار بن ياسر رضي الله عنه في: سنن أبي داود 1/294 (كتاب الصلاة، باب ما جاء في نقصان الصلاة) ولفظه: "إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، ربعها، ثلثها، نصفها". وحسن الألباني الحديث في "صحيح الجامع الصغير" 2/65 .
(2) الحديث – مع اختلاف في اللفظ – عن أبي هريرة رضي الله عنه في: سنن ابن ماجه 1/539 (كتاب الصيام، باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم)، وجاء الحديث فيه بلفظ "رب صائم ليس له من صيامه ... إلخ. وهو في سنن الدارمي 2/301 (كتاب الرقاق، باب في المحافظة على الصوم) ولفظه: "كم من صائم ... وجاء الحديث في المسند (ط. المعارف) 17/35 وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: إسناده صحيح 18/204 وصححه أيضاً، وصحح الألباني الحديث بروايتين له في "صحيح الجامع الصغير" 3/174 .(11/52)
وفي حديث معاذ موقوفاً ومرفوعاً، وهو في السنن: ”الغزو غزوان: فغزو يُبتغى به وجه الله، ويُطاع فيه الأمير، وتُنفق فيه كرائم الأموال، ويُياسر فيه الشريك، ويجتنب فيه الفساد، ويُتقى فيه الغلول، فذلك الذي لا يعدله شيء. وغزو لا يُبتغى به وجه الله، ولا يُطاع فيه الأمير، ولا تُنفق فيه كرائم الأموال، ولا يُياسر فيه الشريك، ولا يُجتنب فيه الفساد، ولا يُتّقى فيه الغلول، فذاك حسب صاحب أن يرجع كفانا"(1).
وقيل لبعض السلف: الحاجّ كثير. فقال: الداج كثير، والحاج قليل. ومثل هذا كثير.
فالمحو والتكفير يقع بما يُتقبّل من الأعمال. وأكثر الناس يقصِّرون في الحسنات، حتى في نفس صلاتهم. فالسعيد منهم من يُكتب له نصفها، وهم يفعلون السيئات كثيراً. فلهذا يُكفَّر بما يُقبل من الصلوات الخمس شيء، وبما يُقبل من الجمعة شيء، وبما يُقبل من صيام رمضان شيء آخر. وكذلك سائر الأعمال، وليس كل حسنة تمحو كل سيئة، بل المحو يكون للصغائر تارة، ويكون للكبائر تارة، باعتبار الموازنة.
__________
(1) الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن معاذ به جبل رضي الله عنه في: سن أبي داود 3/20 (كتاب الجهاد، باب فيمن يغزو ويلتمس الدنيا)؛ سنن النسائي 6/41 (كتاب الجهاد، باب فضل الصدقة في سبيل الله عز وجل)، 7/139 (كتاب البيعة، باب التشديد في عصيان الأمير)؛ سنن الدارمي 2/208 (كتاب الجهاد، باب الغزو غزوان)؛ المسند (ط. الحلبي) 5/234 .(11/53)
والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله له به كبائر. كما في الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”يُصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فيُنشر عليه تسعة وتسعون سجلاً، كل سِجِلٍّ منها مدّ البصر. فيقال: هل تنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: لا ظلم عليك. فتخرج له بطاقة قدر الكف، فيها شهادة أن لا إله إلا الله، فيقول: أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فتوضع هذه البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فثقلت البطاقة وطاشت السجلات“(1).
فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق، كما قالها هذا الشخص. وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله ولم يترجّح قولهم على سيئاتهم، كما ترجّح قول صاحب البطاقة.
__________
(1) الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في: سنن الترمذي 4/123-124 (كتاب الإيمان، باب فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله) وأوله فيه: "إن الله سيُخلّص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة.. الحديث. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وهو في: سنن ابن ماجه 2/1437 (كتاب الزهد، باب ما يُرجى من رحمة الله يوم القيامة)؛ المسند (ط. المعارف) 11/197-200. وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "إسناده صحيح". وقال إن الحاكم رواه في المستدرك 1/529... وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. ونقله المنذري في "الترغيب والترهيب".. وقال: "رواه الترمذي.. وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي..".. السجل: بكسر السين وتشديد اللام: هو الكتاب الكبير، قال ابن الأثير. البطاقة: بكسر الباء الموحّدة وتخفيف الطاء المهملة...: الرقعة، وأهل مصر يقولون للبطاقة: رقعة.(11/54)
وكذلك في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه فيها العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها فشرب. ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له“(1).
وفي لفظ في الصحيحين: ”إن امرأة بغيّاً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر قد أُدلع لسانه من العطش، فنزعت له موقها، فسقته به، فغُفر لها“(2). وفي لفظ في الصحيحين أنها كانت بغيّاً من بغايا بني إسرائيل(3).
__________
(1) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 3/111-112 (كتاب الشرب والمساقاة، باب فضل سقي الماء)، 3/132-133 (كتاب المظالم، باب الآبار على الطرق إذا لم يُتأذّ بها)؛ مسلم 4/1761 (كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها)؛ سنن أبي داود 3/33 (كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم)؛ الموطأ 2/929-930 (كتاب صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، باب جامع ما جاء في الطعام والشراب)؛ والحديث في المسند.
(2) الحديث – مع اختلاف في اللفظ – عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 4/173 (كتاب الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان...) ونصه فيه: بينما كلب يطيف بِرَكيَّة كاد يقتله العطش إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فُغفر لها به" والموق: الخف. والحديث في مسلم 4/1761 (كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها) وأوله فيه: "إن امرأة بغياً.. إلخ" المسند (ط. الحلبي) 2/507 .
(3) في البخاري 4/173؛ مسلم 4/1761. وأدلع لسانه: أدلع ودلع لغتان: أي أخرجه من شدة العطش. الموق: الخف.(11/55)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ”بينما رجل يمشي في طريق وجد غصن شوكٍ على الطريق فأخَّره فشكر الله له، فغفر له“(1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”دخلت امرأة النار في هرّة، ربطتها: لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت“(2).
فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كلّ بغيّ سقت كلباً يغفر لها. وكذلك هذا الذي نحّى غصن الشوك عن الطريق، فعله إذ ذاك بإيمان خالص، وإخلاص قائم بقلبه، فغفر له بذلك. فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، وليس كل من نحّى غصن شوك عن الطريق يغفر له.
قال الله تعالى: { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } [الحج: 37]. فالناس يشتركون في الهدايا والضحايا، والله لا يناله الدم المهراق ولا اللهم المأكول، والتصدّق به، لكنه يناله تقوى القلوب.
__________
(1) هذا هو الجزء الأول من حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 1/128 (كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل إزالة الأذى عن الطريق)؛ سنن أبي داود 4/490 (كتاب الأدب، باب في إماطة الأذى عن الطريق)؛ سنن الترمذي 3/230 (كتاب البر والصلة، باب ما جاء في إماطة الأذى عن الطريق). والحديث في الموطأ والمسند.
(2) الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما في: البخاري 4/130 (كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم) وهو في موضعين آخرين في البخاري؛ مسلم 4/2022-2023 (كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها..) والحديث في موضعين آخرين في مسلم. والحديث في سنن النسائي وابن ماجه والدارمي وفي مواضع كثيرة من المسند.(11/56)
وفي الأثر: أن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب.
فإذا عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها ويصغر قدرها بما في القلوب، وما في القلوب يتفاضل، لا يعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله – عرف الإنسان أن ما قاله الرسول صلّى الله عليه وسلّم كله حق، لم يضرب بعضه ببعض.
وقد قال تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [المؤمنون: 60].
وفي الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله: أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب؟ قال: لا يا ابنة الصديق، بل هو الرجل بصوم ويصلي ويصدّق ويخال أن لا يتقبل منه(1)
__________
(1) لم أعرف مكن الحديث في سنن الترمذي.. ووجدت الحديث بألفاظ مقاربة عن عائشة رضي الله عنها في سنن ابن ماجه 2/1404 (كتاب الزهد، باب التوقي على العمل)، المسند (ط. الحلبي) 6/159، 205 .
قال أبو عبد الرحمن: صدق المحقق رحمه الله تعالى وغفر له، فإن هذا الحديث ليس في سنن الترمذي، ولكن ورد بألفاظ مقاربة: (صحيح الترمذي بشرح الإمام ابن العربي المالكي ج12 ص39-40، أبواب التفسير، ومن سورة المؤمنون): حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان حدثنا مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني أن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق ولكنهم يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات.
قال: وقد روى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن سعيد عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نحو هذا. اهـ وقد صحح الحديث العلامة الألباني في: صحيح سنن الترمذي ج3 ص79-80، صحيح ابن ماجه ج2 ص409، سلسلة الأحاديث الصحيحة ج1 ص255 وقال: أخرجه الترمذي (12/201) وابن جرير (18/26) والحاكم (2/393-394) والبغوي في تفسيره (6/25) وأحمد (6/19 و205)، وتكلم العلامة الألباني على الحديث وأسانيده، فمن شاء الاستزادة فليراجع كلام العلامة الألباني ص256-257.(11/57)
.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه“(1).
وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام وقلة أهله، وكثرة الصوارف عنه، وضعف الدواعي إليه لا يمكن أحداً أن يحصل له مثله ممن بعدهم. وهذا يعرف بعضه من ذاق الأمور، وعرف المحن والابتلاء الذي حصل للناس، وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة.
وهذا مما يُعرف به أن أبا بكر رضي الله عنه لن يكون أحد مثله، فإن اليقين والإيمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحد. قال أبو بكر بن عيَّاس: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه.
وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم، مؤمنين به مجاهدين معه، إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم.
__________
(1) الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في: البخاري 5/8 (كتاب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لو كنت متخذاً خليلاً).
مسلم 4/1967-1968 (كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة).
سنن أبي داود 4/297-298 (كتاب السنة، باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم).
سنن الترمذي 5/357-358 (كتاب المناقب، باب في من سب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم).
المسند (ط. الحلبي) 3/11، 54، 63-64 .
سنن ابن ماجه 1/57 (المقدمة، باب فضل أهل بدر).
وفي اللسان: "المد ضرب من المكاييل وهو ربع صاع، وهو قدر مد النبي صلّى الله عليه وسلّم والصاع خمسة أرطال. وقال النووي (شرح مسلم 16/93): وقال أهل اللغة: النصيف النصف... ومعناه: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهب ما بلغ ثوابه في ذلك ثواب نفقة أحد أصحابي مداً ولا نصف مدّ".(11/58)
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رفع رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: "النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون"(1)
__________
(1) جاء هذا الحديث في المسند (ط. الحلبي) 4/398-399 عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري، ولكنه في مسلم عن أبي بردة عن أبيه (وهو ابن لأبي موسى الأشعري اسمه الحارث، وقيل: عامر، وقيل: اسمه كنيته. انظر: تهذيب التهذيب 12/18-19؛ تذكرة الحفاظ 1/95). ونص الحديث في: مسلم 4/1961 (كتاب فضائل الصحابة، باب بيان أن بقاء النبي صلّى الله عليه وسلّم أمان لأصحابه...)؛ قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلّي معه العشاء. قال: فجلسنا، فخرج علينا، فقال: "ما زلتم هاهنا؟" قلنا: يا رسول الله صلينا معك المغرب، ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء. قال: "أحسنتم أو أصبتم" قال: فرفع رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال: النجوم أمنة للسماء.. الحديث. وقال النووي ف شرحه على مسلم 16/83: "قال العلماء: الأمنة: بفتح الهمزة والميم، والأمن والأمان بمعنى. ومعنى الحديث أن النجوم مادامت باقية فالسماء باقية، فإذا انكدرت النجوم وتناثرت في القيامة وهنت السماء فانفطرت وانشقت وذهبت. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون" أي من الفتن والحروب وارتداد من ارتد من الأعراب واختلاف القلوب نحو ذلك مما أنذر به صريحاً، وقد وقع كل ذلك. قوله صلّى الله عليه وسلّم: "وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون": معناه ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه وطلوع قرن الشيطان وظهور الروم وغيرهم عليهم، وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك، وهذه كلها من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم".(11/59)
.
وفي الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”ليأتين على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس، فيُقال: هل فيكم من صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فيقال: نعم، فيُفتح لهم“ وفي لفظ: ”هل فيكم من رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فيقولون: نعم. فيُفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس، فيُقال: هل فيكم من صحب من صحب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم“(1). هذا لفظ بعض الطرق، والثلاثة الطبقات متفق عليها في جميع الطرق، وأما الطبقة الرابعة فهي مذكورة في بعضها.
وقد ثبت ثناء النبي صلّى الله عليه وسلّم على القرون الثلاثة في عدة أحاديث صحيحة، من حديث ابن مسعود، وعمران بن حصين يقول فيها: ”خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم“ ويشك بعضه الرواة هل ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة(2)
__________
(1) الحديث – مع اختلاف في الألفاظ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في: البخاري 4/37 (كتاب الجهاد، باب من استعان بالضعفاء والصالحين)، 4/197 (كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام)، 5/2 (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، الباب الأول)؛ مسلم 4/1962 (كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم..)؛ المسند (ط. الحلبي) 3/7 .
(2) قال أبو عبد الرحمن: ذكر ابن تيمية في منهاج السنة ج2 ص35: وتواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
وعلق المحقق رحمه الله تعالى على هذه الرواية فقال:
يذكر ابن تيمية هذا الحديث بهذا اللفظ الذي بدأ بعبارة: وخير القرون قرني.. أو "خير القرون القرن.. إلخ في كثير من كتبه. وقد بحثت عن هذه الرواية بهذه الألفاظ طويلاً فلم أجدها.
وقد جاء الحدث عن عدد كبير من الصحابة منهم:
أبو هريرة وعبد الله بن مسعود وعمران بن حصين وعائشة والنعمان بن بشير وبريدة الأسلمي رضي الله عنهم. وجاء بألفاظ مختلفة منها: خيركم قرني، خير الناس قرني، خير أمتي القرن.. خير هذه الأمة القرن الذي أنا فيهم. بعثت في خير قرون آدم، أي الناس خير؟ قال أنا والذين معي.
انظر: البخاري: 3/171 (كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد)، 5/2-3، 3/7 (كتاب فضائل أصحاب النبي، باب فضائل أصحاب النبي ومن صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم أو رآه)، 8/91 (كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا) 8/134 (كتاب الأيمان والنذور، باب إذا قال أشهد بالله)، 8م141-142 (كتاب الأيمان والنذور، باب إثم من لا يفي).
مسلم 4/1962 (كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم..).
سنن النسائي (بشرح السيوطي) 7/17 (كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر).
سنن الترمذي (بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان) 3/339-340 (كتاب الفتن، باب ما جاء في القرن الثالث)، 3/376 (كتاب الشهادات)، 5/357 (كتاب المناقب، باب ما جاء في فضل من رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم).
سنن أبي داود 4/297 (كتاب السنة، باب في فضل أصحاب رسول الله..).
سنن ابن ماجه 2/791 (كتاب الأحكام، باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد).
ترتيب مسند أبي داود الطيالسي، تحقيق الشيخ محمد عبد الرحمن البنا (ط. المنيرية بالأزهر، 1353/1934) 2/198-199 (كتاب الفضائل، باب ما جاء في فضل القرون الأولى).
المسند (ط. المعارف) 5/209، 6/29، 86، 116، 12/90، 15/106، المسند (ط. الحلبي) 2/340، 373، 410، 416، 417، 479، 4/267 276، 277، 278، 426، 427، 436، 440، 5/350، 357، 6/156 .(11/60)
.
والمقصود أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة، بل لحقائقها التي في القلوب. والناس يتفاضلون في ذلك تفاضلاً عظيماً. وهذا مما يحتج به من رجّح كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم، فإن العلماء، متفقون على أن جملة الصحابة أفضل من جملة التابعين، لكن هل يفضّل كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم، ويفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز؟
ذكر القاضي عياض وغيره في ذلك قولين، وأن الأكثرين يفضِّلون كل واحد من الصحابة، وهذا مأثور عن ابن المبارك، وأحمد بن حنبل وغيرهما.
ومن حجة هؤلاء أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر، وعدل عمر بن عبد العزيز أظهر من عدل معاوية، وهو أزهد من معاوية، لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه“.
قالوا: فنحن قد نعلم أن أعمال بعض من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم، لكن من أين نعلم أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما ي قلب ذلك، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخبر أن جبل ذهب من الذين أسلموا بعد الحديبية لا يساوي نصف مُدّ من السابقين. وملوم فضل النفع المتعدّي بعمر بن عبد العزيز: أعطى الناس حقوقهم وعدل فيهم، فلو قُدِّر أن الذي أعطاهم ملكه، وقد تصدَّق به عليهم، لم يعدل ذلك مما أنفقه السابقون إلا شيئاً يسيراً. وأين مثل جبل أحد ذهباً حتى ينفقه الإنسان، وهو لا يصير مثل نصف مدّ؟(11/61)
ولهذا يقول من يقول من السلف: غبار دخل في أنف معاوية مع روسل الله صلّى الله عليه وسلّم أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز(1).
وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وتحقيق ليس هذا موضعه، إذ المقصود هنا أن الله سبحانه مما يمحو به السيئات الحسنات، وأن الحسنات تتفاضل بسبب ما في قلب صاحبها من الإيمان والتقوى. وحينئذ فيُعرف أن من هو دون الصحابة قد تكون له حسنات تمحو مثل ما يُذم من أحدهم فكيف الصحابة؟؟.
السبب الرابع: الدعاء للمؤمنين، فإن صلاة المسلمين على الميّت ودعاءهم له من أسباب المغفرة. وكذلك دعاؤهم واستغفارهم في غير صلاة الجنازة. والصحابة مازال المسلمون يدعون لهم.
السبب الخامس: دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم واستغفاره في حياته وبعد مماته، كشفاعته يوم القيامة، فإنهم أخصّ الناس بدعائه وشفاعته في محياه ومماته.
السبب السادس: ما يُفعل بعد الموت من عمل صالح يُهدى له، مثل من يتصدَّق عنه، ويحج عنه ويصوم عنه. فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ذلك يصل إلى الميت وينفعه، وهذا غير دعاء ولده، فإن ذلك من عمله.
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: سئل المعافي بن عمران: أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فغضب وقال للسائل: أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجل من التابعين؟ معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله (تاريخ بغداد ج1 ص209، البداية والنهاية لابن كثير ج8 ص139) وكان عمر بن عبد العزيزر حمه الله تعالى يضرب بالسوط الذي يتناول من معاوية رضي الله عنه وذلك لأن ابن عبد العزيز رحمة الله عليه يعرف مكانة معاوية رضي الله عنه، عن إبراهيم بن ميسرة قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناً شتم معاوية، فإنه ضربه أسواطاً. (البداية والنهاية لابن كثير ج8 ص139).
وسوف يرد بإذن الله تعالى بعد صفات كلام بعض الأئمة في شأن معاوية رضي الله عنه، وأيضاً في الجزء الخاص بمعاوية رضي الله عنه ضمن هذه السلسلة.(11/62)
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له“ رواه مسلم(1). فولده من كسبه، ودعاؤه محسوب من عمله، بخلاف دعاء غير الولد: فإنه ليس محسوباً من عمله، والله ينفعه به.
__________
(1) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: مسلم 3/1255 (كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته)؛ سنن أبي داود 3/159 (كتاب الوصايا. باب ما جاء في الصدقة عن الميت) سنن الترمذي 2/418 (كتاب الأحكام، باب ما جاء في الوقف) وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح"؛ سنن النسائي 16/210 (كتاب الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت)، سنن ابن ماجه 1/88 (المقدمة، باب ثواب معلم الناس الخير)؛ المسند (ط. المعارف) 17/28-29 .(11/63)
السبب السابع: المصائب الدنيوية التي يكفِّر الله بها الخطايا. كما في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نصب، ولا غم ولا هم، ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكّها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه“(1).
__________
(1) جمع ابن تيمية هنا بين حديثين، الأول عن عائشة رضي الله عنها ونصه: "ما من مصيبة يُصاب بها المسلم إلا كُفِّر بها عنه حتى الشوكة يشاكها". والحديث – مع اختلاف في الألفاظ – في: مسلم 4/1992 (كتاب البر والصلة والآداب ثواب المؤمن فيما يصيبه...) وجاءت أحاديث أخرى عنها وعن غيرها من الصحابة في الباب نفسه مقاربة في المعنى واللفظ. والحديث أيضاً في سنن الترمذي 2/220 (كتاب الجنائز، باب ما جاء في ثواب المرض) وقال الترمذي: "حديث عائشة حديث حسن صحيح". والحديث الثاني في نفس المكان في: سنن الترمذي ونصه: "ما من شيء يصيب المؤمن من نَصَب ولا حزن ولا وَصَب حتى الهم يَهُمُّه إلا يكفّر الله به عن سيئاته" وهذا الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن في هذا الباب... وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم". وجاء الحديث عنهما في: مسلم 4/1992-1993 .
كما جاء عن أبي سعيد الخدري في: المسند (ط. الحلبي) ¾، 24، 38، 61 .(11/64)
وفي الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيِّئها الرياح، تقومها تارة وتميلها أخرى. ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة، لا تزال ثابتة على أصلها، حتى يكون انجعافها مرة واحدة“(1).
وهذا المعنى متواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في أحاديث كثيرة. والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يُبتلون بالمصائب الخاصة، وابتلوا بمصائب مشتركة، كالمصائب التي حصلت في الفتن، ولو لم يكن إلا أن كثيراً منهم قُتلوا، والأحياء أصيبوا بأهليهم وأقاربهم، وهذا أصيب في ماله، وهذا أصيب بجراحته، وهذا أصيب بذهاب ولايته وعزّه، إلى غير ذلك، فهذه كلها مما يكفِّر الله بها ذنوب المؤمنين من غير الصحابة، فكيف الصحابة؟ وهذا مما لابد منه.
__________
(1) انجعافها: أي انقلاعها. والحديث عن أبي هريرة وكعب بن مالك رضي الله عنهما بألفاظ مختلفة في: البخاري 9/137-138 (كتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة)؛ مسلم 4/2163-2164 في خمسة مواضع في (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب مثل المؤمن كالزرع ومثل الكافر كشجر الأرز)؛ سنن الدارمي 2/310 (كتاب الرقائق، باب مثل المؤمن مثل الزرع)؛ المسند (ط. المعارف) 12/178، 14/221. والحديث بمعناه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في المسند (ط. الحلبي 3/349 وعن كعب بن مالك في المسند (ط. الحلبي) 6/286 .(11/65)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. سألته أن لا يُهلك أمتي بسنة عامة، فأعطانيها وسألته أن لا يُسلّط عليهم عدواً من غيرهم فيجتاحهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها“(1)
__________
(1) الحديث بألفاظ مقاربة عن معاذ بن جبل رضي الله عنه في: المسند (ط. الحلبي) 5/247 ونصه: "عن معاذ قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة فأحسن فيها القيام والخشوع والركوع والسجود وقال: "إنها صلاة رغب ورهب، سألت الله فيها ثلاثاً فأعطاني اثنتين وزوى عني واحدة. سألته أن لا يبعث على أمتي عدواً من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيه، وسألته أن لا يبعث عليهم سنة تقتلهم جوعاً فأعطانيه، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فردّها عليّ". وذكر السيوطي الحديث في "الجامع الصغير" بألفاظ مقاربة وفيه: "سألته أن لا يستحكم بعذاب أصابه من كان قبلكم فأعطانيها، وسألته أن لا يسلّط على بيضتكم عدواً فيجتاحها فأعطانيها، وسألته أن لا يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها". قال السيوطي (ع = مسند أبي يعلى، طب = الطبراني في الكبير، والضياء) عن خالد الخزاعي، (حم، ت، ن، حب، والضياء) عن خباب) وصحح الألباني (صحيح الجامع الصغير 2/309-310) الحديث. وروى مسلم في صحيحه حديثاً عن ثوبان وآخر عن سعد بن أبي وقاص معناهما مقارب. انظر: مسلم 4/2215-2216 (كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض). وجاء حديث ثوبان في: سنن أبي داود 4/138-139 (كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها)؛ سنن الترمذي 3/319-320 (كتاب الفتن، باب سؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثاً في أمته) وروى الترمذي أيضاً حديثاً عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: "هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن سعد وابن عمر. وجاء حديث سعد رضي الله عنه في: المسند (ط. المعارف) 3/60-61، 86. والسنة العامة: القحط الذي يعمّ بلاد الإسلام.(11/66)
.
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه لما نزل قوله تعالى: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ } [الأنعام: 65] قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”أعوذ بوجهك“ { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”أعوذ بوجهك“ { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } قال: ”هذا أهون وأيسر“(1).
فهذا الأمر لابد منه للأمة عموماً. والصحابة رضي الله عنهم كانوا أقل فتناً من سائر من بعدهم، فإنه كلما تأخّر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف.
ولهذا لم تحدث في خلافة عثمان بدعة ظاهر، فلما قُتل وتفرّق الناس حدثت بدعتان متقابلتان: بدعة الخوارج المكفّرين لعليّ، وبدعة الرافضة المدّعين لإمامته وعصمته، أو نبوته أو إلاهيته.
ثم لما كان في آخر عصر الصحابة، في إمارة ابن الزبير وعبد الملك، حدثت بدعة المرجئة والقدرية. ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطِّلة والمشبِّهة الممثِّلة. ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك.
وكذلك فتن السيف، فإن الناس كانوا في ولاية معاوية رضي الله عنه متفقين يغزون العدو، فلما مات معاوية قُتل الحسين، وحوصر ابن الزبير بمكة، ثم جرت فتنة الحرَّة بالمدينة.
ثم لما مات يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضحّاك بمرج راهط.
ثم وثب المختار على ابن زياد فقتله وجرت فتنة.
__________
(1) الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مع اختلاف في اللفظ في: البخاري 6/56 (كتاب التفسير، سورة الأنعام، قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ..}، 9/101 (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً}، سنن الترمذي 4/327 (كتاب التفسير، باب ومن سورة الأنعام)، المسند (ط. الحلبي) 3/309، تفسير الطبري (ط. المعارف) 11/422، 423، 425 (وانظر التعليقات).(11/67)
ثم جاء مصعب بن الزبير فقتل المختار وجرت فتنة.
ثم ذهب عبد الملك إلى مصعب فقتله وجرت فتنة.
وأرسل الحجّاج إلى ابن الزبير فحاصره مدة ثم قتله وجرت فتنة.
ثم لما تولى الحجّاج العراق خرج عليه ابن الأشعث مع خلق عظيم من العراق وكانت فتنة كبيرة، فهذا كله بعد موت معاوية.
ثم جرت فتنة ابن المهلَّب بخراسان، وقُتل زيد بن عليّ بالكوفة، وقتل خلق آخرون.
ثم قام أبو مسلم وغيره بخراسان وجرت حروب وفتن يطول وصفها، ثم هَلُمَّ جرّاً.
فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خير من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمن معاوية، إذا نُسبت أيامه إلى أيام من بعده. وأما إذا نُسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل.
وقد روى أبو بكر الأثرم، ورواه ابن بطَّة من طريقه، حدَّثنا محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا محمد بن مروان، عن يونس، عن قتادة قال: لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثرهم: هذا المهدي.
وكذلك رواه ابن بطّة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال: لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي(1).
ورواه الأثرم: حدثنا محمد بن حواش حدثنا أبو هريرة المكتب قال: كنا عند الأعمش، فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله، فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا في حلمه؟ قال: لا والله بل في عدله.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبي، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق قال: لما قدم معاوية فرض للناس على أعطية آبائهم حتى انتهى إليَّ، فأعطاني ثلاث مئة درهم.
__________
(1) ذكر الهيثمي هذا الخبر في "مجمع الزوائد" 9/357 ونسبه إلى الأعمش ونصه: "وعن الأعمش قال: لو رأيتم معاوية لقلتم: هذا المهدي. رواه الطبراني مرسلاً وفيه يحيى الحماني وهو ضعيف".
قال أبو عبد الرحمن: وذكره ابن كثير في البداية والنهاية ج8 ص135 بلفظ: لو رأيتم...(11/68)
وقال عبد الله، أخبرنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا الثقفي، عن أبي إسحاق، يعني السّبيعي، أنه ذكر معاوية فقال: لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم: كان المهدي.
وروى الأثرم، حدثنا محمد بن العلاء، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق قال: ما رأيت بعده مثله، يعني معاوية.
وقال البغوي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا ضمام بن إسماعيل، عن أبي قيس قال: كان معاوية قد جعل في كل قبيل رجلاً، وكان رجل منّا يكنّى أبا يحيى، يصبح كل يوم فيدور على المجالس: هل وُلد فيكم الليلة ولد؟ هل حدث الليلة حدث؟ هل نزل اليوم بكم نازل؟ قال: فيقولون: نعم، نزل رجل من أهل اليمن بعياله، يسمُّونه وعياله، فإذا فرغ من القبيل كله أتى الديوان، فأوقع أسماءهم في الديوان.
وروى محمد بن عوف الطائي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا ابن أبي مريم، عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: إن في بيت مالكم فضلاً بعد أعطياتكم، وإني قاسمه بينكم، فإن كان بيأتينا فضل عاماً قابلا قسمناه عليكم، وإلا فلا عتبة عليّ، فإنه ليس بمالي، وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم.
وفضائل معاوية في حسن السيرة والعدل والإحسان كثيرة. وفي الصحيح أن رجلاً قال لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ إنه أوتر بركعة؟ قال: أصاب إنه فقيه(1).
__________
(1) هذا الأثر عن ابن عباس في: البخاري 5/28-29 (كتاب فضائل أصحاب النبي..، باب ذكر معاوية رضي الله عنه) ونصه: "هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟. قال: إنه فقيه".(11/69)
وروى البغوي في معجمه بإسناده، ورواه ابن بطّة من وجه آخر كلاهما عن سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، عن قيس بن الحارث، عن الصنابحي، عن أبي الدرداء قال: ما رأيت أحداً أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إمامكم هذا. يعني معاوية(1).
فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه، والشاهد بالفقه ابن عباس، وبحسن الصلاة أبو الدرداء، وهما هما. والآثار الموافقة لهذا كثيرة(2).
هذا ومعاوية ليس من السابقين الأوّلين، بل قد قيل: إنه من مسلمة الفتح. وقيل: أسلم قبل ذلك. وكان يعترف بأنه ليس من فضلاء الصحابة. وهذه سيرته مع عموم ولايته، فإنه كان في ولايته من خراسان إلى بلاد إفريقية بالمغرب، ومن قبرص إلى اليمن.
ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريباً من عثمان وعليّ، فضلاً عن أبي بكر وعمر. فكيف يُشبَّه غير الصحابة بهم؟ وهل توجد سيرة أحد من الملوك مثل سيرة معاوية رضي الله عنه؟
__________
(1) الأثر في "مجمع الزوائد" للهيثمي 9/357 وقال: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير قيس بن الحارث المذحجي، وهو ثقة".
(2) ومن ذلك ما رواه الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/357 عن عبد الله بن عمرو وأن معاوية كان يكتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. رواه الطبراني بإسناد حسن. ومن ذلك ما رواه الهيثمي 9/356-357 وجاء أيضاً في "فضائل الصحابة" 2/913-915 عن العرباض بن سارية وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب". وجاء الحديث من عدة طرق ضعيفة أو مرسلة ولكن يقوي بعضها بعضاً. وانظر ما ذكره ابن العربي في "العواصم من القواصم" وتعليق الأستاذ محب الدين الخطيب على كلامه، ص202-211، ط. السلفية، القاهرة، 1371 .(11/70)
والمقصود أن الفتن التي بين الأمة، والذنوب التي لها بعد الصحابة، أكثر وأعظم. ومع هذا فمكفِّرات الذنوب موجودة لهم. وأما الصحابة فجمهورهم وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة.
قال عبد الله بن الإمام أحمد، حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل، يعني ابن عليّة، حدثنا أيوب يعني السختياني، عن محمد بن سيرين قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين. وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض. ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقه، ومراسيله من أصح المراسيل.
وقال عبد الله، حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل حدثنا منصور بن عبد الرحمن قال: قال الشعبي: لم يشهد الجمل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير عليّ وعمّار وطلحة والزبير، فإن جاءوا بخامس فأنا كذّاب.
وقال عبد الله بن أحمد، حدثنا أبي، حدثنا أميّة بن خالد قال: قيل لشعبة: إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: شهد صفّين من أهل بدر سبعون رجلاً. فقال: كذب والله، لقد ذاكرت الحكم بذلك، وذاكرناه في بيته، فما وجدناه شهد صفّين من أهل بدر غير خُزَيمة بن ثابت.
قلت: هذا النفي يدل على قلة من حضرها، وقد قيل: إنه حضرها سهل بن حنيف وأبو أيوب. وكلام ابن سيرين مقارب فما يكاد يذكر مائةً واحدٌ.
وقد روى ابن بطّة عن بكير بن الأشج قال: أما إن رجالاً من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم.
السبب الثامن: ما يُبتلى به المؤمن في قبره من الضغطة وفتنة المَلَكين.
السبب التاسع: ما يحصل له في الآخرة من كرب أهوال يوم القيامة.(11/71)
السبب العاشر: ما ثبت في الصحيحين أن المؤمنين إذا عبروا الصراط، وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتصّ لبعضهم من بعض فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذن لهم في دخول الجنة(1).
فهذه الأسباب لا تفوت كلها من المؤمنين إلا القليل، فكيف بالصحابة رضوان الله عليهم، الذين هم خير قرون الأمة؟ وهذا في الذنوب المحقَّقة، فكيف بما يُكذب عليهم؟ فكيف بما يُجعل من سيئاتهم وهو من حسناتهم؟
__________
(1) الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في: البخاري 3/28 (كتاب المظالم والغصب، باب قصاص المظالم) ونصه: "إذا خلص المؤمنون من النار حُبِسوا بقنطرة بني الجنة والنار فيتقاصّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا أذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد صلّى الله عليه وسلّم بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدلُّ بمنزله في الدنيا".
وجاء الحديث مرة أخرى في البخاري 8/111 (كتاب الرقاق، باب القصاص يوم القيامة). وهو في المسند (ط. الحلبي) 3/13، 57، 63، 74 .(11/72)
وهذا كما ثبت في الصحيح أن رجلاً أراد أن يطعن في عثمان عند ابن عمر، فقال: إنه قد فرّ يوم أحد، ولم يشهد بدراً، ولم يشهد بَيْعة الرضوان. فقال ابن عمر: أمَّا يوم أحد فقد عفا الله عنه. وفي لفظ: فرّ يوم أحد فعفا الله عنه، وأذنب عندكم ذنباً، فلم تعفوا عنه. وأما يوم بدر فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم استخلفه على ابنته، وضرب له بسهمه. وأما بيعة الرضوان فإنما كانت بسبب عثمان، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثه إلى مكة وبايع عنه بيده، ويد النبي صلّى الله عليه وسلّم خير من يد عثمان(1).
فقد أجاب ابن عمر بأن ما يجعلونه عيباً ما كان منه عيباً، فقد عفا الله عنه، والباقي ليس بعيب، بل هو من الحسنات. وهكذا عامة ما يُعاب به على سائر الصحابة هو إما حسنة وإما معفو عنه.
حول تولية عثمان بعض الولاة
وحينئذ فقول الرافضي: إن عثمان ولَّى من لا يصلح للولاية. إما أن يكون هذا باطلاً، ولم يولّ إلا من يصلح. وإما أن يكون ولَّى من لا يصلح في نفس الأمر، لكنه كان مجتهداً في ذلك، فظن أنه كان يصلح وأخطأ ظنه، وهذا لا يقدح فيه.
__________
(1) الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما في: البخاري 5/15 (كتاب فضائل أصحاب النبي...، باب مناقب عثمان..)، 5/98-99 (كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ...}؛ سنن الترمذي 5/293-294 (كتاب المناقب، مناقب عثمان بن عفان)؛ المسند (ط. المعارف) 8/130-131، 251-252 .(11/73)
وهذا الوليد بن عقبة الذي أنكر عليه ولايته قد اشتهر في التفسير والحديث والسِّيَرِ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولاّه على صدقات ناسٍ من العرب فلما قرب منهم خرجوا إليه، فظن أنهم يحاربونه فأرسل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يذكر محاربتهم له، فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرسل إليهم جيشاً، فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6].
فإذا كان حال هذا خَفِيَ على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكيف لا يخفى على عثمان؟!
وإذا قيل: إن عثمان ولاّه بعد ذلك؟
فيقال: باب التوبة مفتوح. وقد كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد عن الإسلام، ثم جاء تائباً، وقَبِل النبي صلّى الله عليه وسلّم إسلامه وتوبته بعد أن كان أهدر دمه.
وعليّ رضي الله عنه تبيّن له من عمَّاله ما لم يكن يظنه فيهم. فهذا لا يقدح في عثمان ولا في غيره. وغاية ما يُقال: إن عثمان ولَّى من يعلم أن غيره أصلح منه، وهذا من موارد الاجتهاد.
أو يقال: إن محبته لأقاربه ميَّلته إليهم، حتى صار يظنهم أحق من غيرهم، أو أن ما فعله كان ذنباً، وقد تقدّم أن ذنبه لا يُعاقب عليه في الآخرة.
كان عثمان يؤدب الولاة إذا ظهر منهم ما يوجب ذلك
وقوله: حتى ظهر من بعضهم الفسق، ومن بعضهم الخيانة.
فيقال: ظهور ذلك بعد الولاية لا يدل على كونه كان ثابتاً حين الولاية، ولا على أن المولَّي علم ذلك. وعثمان رضي الله عنه لما علم أن الوليد بن عقبة شرب الخمر طلبه وأقام عليه الحد. وكان يعزل من يراه مستحقاً للعزل، ويقيم الحدّ على من يراه مستحقاً لإقامة الحد عليه.
ذهب الفقهاء إلى أنَّ سهم ذوي القربى لقرابة الإمام
وأما قوله: وقسَّم المال بين أقاربه.(11/74)
فهذا غايته أن يكون ذنباً لا يُعاقب عليه في الآخرة، فكيف إذا كان من موارد الاجتهاد؟ فإن الناس تنازعوا فيما كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم في حياته: هل يستحقه وليّ الأمر بعده، على قولين. وكذلك تنازعوا في وليّ اليتيم: هل له أن يأخذ من مال اليتيم إذا كان غنياً أجرته مع غناه، والترك أفضل، أو الترك واجب؟ على قولين. ومن جوَّز الأخذ من مال اليتيم مع الغني، جوَّزه للعامل على بيت مال المسلمين، وجوَّزه للقاضي وغيره من الولاة. ومن قال لا يجوز ذلك من مال اليتيم، فمنهم من يجوّزه من مال بيت المال، كما يجوّز للعامل على الزكاة الأخذ مع الغنى، فإن العامل على الزكاة يجوز له أخذ جعالته مع غناه.
ووليّ اليتيم قد قال تعالى فيه: { وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء: 6].
وأيضاً فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام، كما قال الحسن وأبو ثور، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعطي أقاربه بحكم الولاية، وسقط حق ذوي قرباه بموته. كما يقول ذلك كثير من العلماء كأبي حنيفة وغيره، ثم لما سقط حقه بموته، فحقه الساقط قيل: إنه يُصرف في الكراع والسلاح والمصالح، كما كان يفعل أبو بكر وعمر. وقيل: هو لمن وَلِيَ الأمر بعده. وقيل: إن هذا مما تأوَّله عثمان. ونُقل عن عثمان رضي الله عنه نفسه أنه ذكر هذا، وأنه يأخذ بعمله، وأن ذلك جائز. وإن كان ما فعله أبو بكر وعمر أفضل، فكان له الأخذ بهذا وهذا، وكان يعطي أقرباءه مما يختص به، فكان يعطيهم لكونهم ذوي قربى الإمام، على قول من يقول ذلك.
وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه: إما بولاية، وإما بمالٍ. وعليّ ولّى أقاربه أيضاً.(11/75)
وأما قوله استعمال الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخم، وصلى بالناس وهو سكران(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: كان الوليد رحمه الله تعالى من القادة المجاهدين في سبيل الله تعالى، وكن من خير الولاة على الكوفة وكان ضحية وشاية قام بها بعض الناقمين عليه لأه أقام حدود الله تعالى في بعض أبنائهم.
وللعلامة محب الدين الخطيب رحمه الله تعالى تحليل قيّم لشخصية الوليد بن عقبة وما رُم] به من اقتراف شرب الخمر، وأنقل كلامه بتمامه لما اشتمل عليه من تحقيق دقيق لهذه الحادثة.
قال العلامة محب الدين الخطيب رحمه الله تعالى في تعليقه على "العواصم من القواصم" ص94 وما بعدها:... أما الوليد بن عقبة المجاهد الفاتح العادل المظلوم (الذي كان منه لأمته كل ما استطاعه من عمل طيب، ثم رأى بعينه كيف يبغي المبطلون على الصالحين وينفذ باطلهم فيهم، فاعتزل الناس بعد مقتل عثمان في ضيعة له منطقعة عن صخب المجتمع، وهي تبعد خمسة عشر ميلاً عن بلدة الرقة من أرض الجزيرة التي كان يجاهد فيها ويدعو نصاراها إلى الإسلام في خلافة عمر) فقد آن لدسائس الكذابين فيه أن ينكشف عنها عوارها. ولا يضير هذا الرجل أن يتأخر انكشاف الحق فيه ثلاثة عشر قرناً، فإن الحق قديم ولا يؤثر في قدمه احتجابه. أراد الوليد بن عقبة – منذ ولى الكوفة لأمير المؤمنين عثمان – أن يكون الحاكم المثالي في العدل والنبل والسيرة الطيبة مع الناس، كما كان المحارب المثالي في جهاده وقيامه للإسلام بما يليق بالذائدين عن دعوته، الحاملين لرايته، الناشرين لرسالته. وقد لبث في إمارته على الكوفة خمس سنوات وداره – إلى اليوم الذي زايل فيه الكوفة – ليس لها باب يحول بينه وبين الناس ممن يعرف أو لا يعرف، فكان يغشاها كل من شاء، متى شاء، من ليل أو نهار، ولم يكن بالوليد حاجة لأن يستر عن الناس:
فالستر دون الفاحشات ولا يلقاك دون الخير من ستر
وكان ينبغي أن كون الناس كلهم محبين لأميرهم الطيب لأنه أقام لغربائهم دور الضيافة، وأدخل على الناس خيراً حتى جعل يقسم المال للولائد والعبيد، ورد على كل مملوك من فضول الأموال في كل شهر ما يتسعون به من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم. وبالفعل كانت جماهير الشعب متعلقة بحب هذا الأمير المثالي طول حكمه. إلا أن فريقاً من الأشرار وأهل الفساد أصاب بنيهم سوط الشريعة بالعقاب على يد الوليد، فوقفوا حياتهم على ترصد الأذى له. ومن هؤلاء رجال يسمى أحدهم أبا زينب بن عوف الأزدي، وآخر يسمى أبا مورع، وثالث اسمه جندب أبو زهير، قبضت السلطات على أبنائهم في ليلة نقبوا بها على ابن الحيسمان داره وقتلوه، وكان نازلاً بجواره رجل من أصحاب رسول الله ومن أهل السابقة في الإسلام وهو أبو شريح الخزاعي حامل راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جيش خزاعة يوم فتح مكة فجاء هو وابنه من المدينة إلى الكوفة ليسيرا مع أحد جيوش الوليد بن عقبة التي كان يواصل توجيهها نحو المشرق للفتوح ونشر دعوة الإسلام، فشهد هذا الصحابي وابنه في تلك الليلة سطو هؤلاء الأشرار على منزل ابن الحيسمان وأدى شهادته هو وابنه على هؤلاء القتلة السفاحين. فأنفذ الوليد فيهم حكم الشريعة على باب القصر في الرحبة، فكتب آباؤهم العهد على أنفسهم للشيطان بأن يكيدوا لهذا الأمير الرحيم. وبثوا عليه العيون والجواسيس ليترقبوا حركاته، وكان بيته مفتوحاً دائماً. وبينما كان عنده ذات يوم ضيف له من شعراء الشمال كان نصرانياً في أخواله من تغلب بأرض الجزيرة وأسلم على يد الوليد، فظن جاسيس الموتورين أن هذا الشاعر الذي كان نصرانياً لابد أن يكون مِمَّن يشرب الخمر ولعل الوليد أن يكرمه بذلك فنادوا أبا زينب وأبا المورع وأصحابهما، فاقتحموا الدار على الوليد من ناحية المسجد، ولم يكن لداره باب، فلما فوجئ بهم نحى شيئاً أدخله تحت السرير. فأدخل بعضهم يده فأخرجه بلا إذن من صاحب الدار، فلما أخرج ذلك الشيء من تحت السرير إذا هو طبق عليه تفاريق عنب، وإنما نحاه الوليد استحياء أن يروا طبقه ليس عليه إلا تفاريق عنب، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون من الخجل، وسمع الناس بالحكاية فأقبلوا يسبونهم ويلعنونهم. وقد ستر الوليد عليهم ذلك وطواه عن عثمان وسكت عن ذلك وصبر. ثم تكررت مكايد جندب وأبي زينب وأبي المورع، وكانوا يغتنمون كل حادث فيسيئون تأويله ويفترون الكذب. وذهب بعض الذين كانوا عمالاً في الحكومة ونحاهم الوليد عن أعمالهم لسوء سيرتهم فقصدوا المدينة وجعلوا يشكون الوليد لأمير المؤمنين عثمان ويطلبون منه عزله عن الكوفة. وفيما كان هؤلاء في المدينة دخل أبو زينب وأبو المورع دار الإمارة بالكوفة مع من يدخلها من غمار الناس وبقيا فيها إلى أن تنحى الوليد ليستريح، فخرج بقية القوم، وثبت أبو زينب وأبو المورع إلى أن تمكنا من سرقة خاتم الوليد من داره وخرجا. فلما استيقظ الوليد لم يجد خاتمه، فسأل عنه ززجتيه – وكانت في مخدع تريان منه زوار الوليد من وراء ستر – فقالتا أن آخر من بقي في الدار رجلان، وذكرتا صفتهما وحليتهما للوليد. فعرف أنهما أبو زينب وأبو المورع، وأدرك أنهما لم يسرقا الخاتم إلا لمكيدة بيّتاها، فأرسل في طلبهما فلم يوجدا في الكوفة، وكان قد سافرا تواً إلى المدينة. وتقدما شاهدين على الوليد بشرب الخمر (وأكبر ظني أنهما استلهما شهادتهما المزورة من تفاصيل الحادث الذي سبق وقوعه لقدامة بن مظعون في خلافة عمر) فقال لهما عثمان: كيف رأيتما؟ قالا: كنا من غاشية، فدخلنا عليه وهو يقيء الخمر. فقال عثمان: ما يقئ الخمر إلا شاربها. فجيء بالوليد من الكوفة فحلف لعثمان وأخبره خبرهم، فقال عثمان: نقيم الحدود. ويبوء شاهد الزور بالنار.
هذه قصة اتهام الوليد بالخمر كما في حوادث سنة 30 من تاريخ الطبري وليس فيها – على تعدد مصادرها القديمة – شيء غير ذلك. وعناصر الخبر عند الطبري أن الشهود على الوليد اثنان من الموتورين الذين تعددت شواهد غلهم عليه، ولم يرد في الشهادة ذكر الصلاة من أصلها فضلاً من أن تكون اثنتين أو أربعاً. وزيادة ذكر الصلاة هي الأخرى أمرها عجيب، فقد نقل خبرها عن الحضين بن المنذر (أحد أتباع عليّ) أنه كان مع عليّ عند عثمان ساعة أقيم الحد على الوليد، وتناقل الناس عنه هذا الخبر فسجله مسلم في صحيحه (كتاب الحدود ب8 ح5 ص126) بلفظ شهدت عثمان بن عفان وأتى بالوليد قد صلى الصبح (ركعتين) ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ". فالشاهدان لم يشهدا بأن الوليد صلى الصبح ركعتين وقال أزيدكم، بل شهد أحدهما بأنه شرب الخمر وشهد الآخر بأنه تقيأ، أما صلاة الصبح ركعتين وكلمة أزيدكم فهي من كلام حضين، ولم يكن حضين من الشهود، ولا كان في الكوفة وقت الحادث المزعوم، ثم أنه لم يسند هذا العنصر من عناصر الاتهام إلى إنسان معروف. ومن العجيب أن نفس الخبر الذي في صحيح مسلم وارد في ثلاثة مواضع من مسند أحمد مروياً عن حضين، والذي سمعه من حضين في صحيح مسلم هو الذي سمعه منه في مسند أحمد بمواضعه الثلاثة، فالموضعان الأول والثاني (ج1 ص82 و140 الطبعة الأولى – ج2 رقم 624 و1184 الطبعة الثانية) ليس فيهما ذكر للصلاة عن لسان حضين فضلاً عن غيره، فلعل أحد الرواة من بعده أدرك أن الكلام عن الصلاة ليس من كلام الشهود فاقتصر على ذكر الحد. وأما في الموضع الثالث من مسند أحمد (ج1 ص144-145 الطبعة الأولى – ج2 رقم 1229) فقد جاء فيه على لسان حضين "أن الوليد صلى بالناس الصبح أربعاً" وهو يعارض ما جاء على لسان حضين نفسه في صحيح مسلم، ففي إحدى الروايتين تحريف الله أعلم بسببه. وفي الحالتين لا يخرج ذكر الصلاة عن أنه من كلام حضين، وحضين ليس بشاهد، ولم يرو عن شاهد، فلا عبرة بهذا الجزء من كلامه. وبعد أن علمت بأمر الموتورين فيما نقله الطبري عن شيوخه، أزيدك علماً بأمر حمران، وهو عبد من عبيد عثمان كان قد عصى الله قبل شهادته على الوليد فتزوج في مدينة الرسول امرأة مطلقة ودخل بها وهي في عدتها من زوجها الأول، فغضب عليه عثمان، لهذا ولأمور أخرى قبله فطرده من رحابه وأخرجه من المدينة، فجاء الكوفة يعيث فيها فساداً، ودخل على العابد الصالح عامر بن عبد القيس فافترى عليه الكذب عند رجال الدولة وكان سبب تسييره إلى الشام.
وأنا أترك أمر هذا الشاهد والشاهدين الآخرين قبله إلى ضمير القارئ يحكم به عليهم بما يشاء، وفي اجتهادي أن مثل هؤلاء الشهود لا يقام بهم حد الله على ظنين من السوقة والرعاع، فكيف بصحابي مجاهد وضع الخليفة في يده أمانة قطر وقيادة جيوش فكان عند الظن به من حسن السيرة في الناس وحسن الرعاية لأمانات الله، وكان موضع الثقة عند ثلاثة من أكمل خلفاء الإسلام: أبي بكر وعمر وعثمان. وأن قرابة الوليد من عثمان التي يزعم الكذبة أنها سبب المحاباة منه لهم إنما كانت بسبب التسامح من عثمان في عزلهم والقسوة عليهم لئلا يقول السفهاء أن له هوى في ذوي قرابته. وقد رأينا الذين يتسلون بأعراض الناس يتفكهون بأبيات ستة منسوبة إلى ماجن خسيس النفس وردت في ص85 من ديوانه، ولا تحملهم سليقة النقد على الشهور بما في هذه الأبيات من التضارب والتعارض، فأين مدحه فيها للوليد بقوله:
ورأوا شمائل ماجد أنف
يعطي على الميسور والعسر
فنزعت مكذوباً عليك ولم
تردد إلى عوز ولا فقر
من بقية الأبيات التي فيها:
نادى وقد تمت صلاتهم
أأزيدكم ثملاً وما يدري
فالذي يقول البيت الأخير لا يقل أن يقول معه البيتين الأولين فيكون مادحاً وذاماً في قطعة واحدة لا تزيد على ستة أبيات. وقد كانت لي مقالة مطولة عن "التخليط في الشعر" ضربت فيها الأمثلة على دس أبيات غريبة في قصائد من وزنها ورويها لغير ناظمها.
وعلى كل حال فالشهود الذين شهدوا بين يدي عثمان لم يدّعوا حكاية الصلاة، مع أنهم لم يكونوا ممن يخاف الله واليوم الآخر. والآن أقلها لوجه الله صريحة مدوية: إن الوليد لو كان من رجال التاريخ الأوربي كالقديس لويس الذي أسرناه في دار ابن لقمان بالمنصورة لعدّوه قديساً. لأن لويس التاسع لم يحسن إلى فرنسا كإحسان الوليد بن عقبة إلى أمته، ولم يفتح للنصرانية كفتح الوليد للإسلام، والعجب لأمة تسيء إلى أبطالها، وتشوه جمال تاريخها، وتهدم أمجادها كما يفعل الأشرار منها، ثم ينتشر كيد هؤلاء الأشرار حتى يظن الأخيار أنه هو الحق. اهـ.
قال أبو عبد الرحمن: ذكر المالقي في "التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان" ص57 أن البيت الأخير قاله أبو مورِّع ونحله الحطيئة ليعاب به، وذكر خمسة أبيات هي:
شهد الحطيئة حين يلقي ربه
إن الوليد أحق بالغدر
نادى وقد نفدت صلاتهم
أأزيدكم ثملاً وما يدري
ليزيدهم خيراً لو قبلوا
منه لزادهم على العشر
فأبوا، أبا وهب ولو قبلوا
لقرنت بين الشفع والوت
خلعوا عنانك إذ جريت ولو
تركوا عنانك لم تزل تجري
وقد أفاض في دحض هذه الفرية بأسلوب لا يقل روعة عما ذكره العلامة الخطيب رحمه الله تعالى فضيلة العلامة الشيخ محمد الصادق العرجون رحمه الله تعالى رحمة واسعة وجزاه الله خير الجزاء عن رجال هذه الأمة الذين دافع عنهم وأوضح الحقيقة التاريخية بعد أن كانت فقط مبثوثة في ثنايا المتون التاريخية فقد ذكر العلامة العرجون رحمه الله تعالى في كتابه "الخليفة المفترى عليه عثمان بن عفان" 104-109 ملابسات هذه الفرية ونقد بعض الروايات الواهية والأقوال المكذوبة في قضية اتهام الوليد بن عقبة بشرب الخمر.
وللحقيقة لم تقع عيناي على مؤلفات في تحليل الروايات التاريخية لا سيما في بيان مواقف رجالات الإسلام الذين يشار إليهم بالبنان مثل مؤلفات هذا العالم الجليل لا سيما كتابيه "خالد بن الوليد" و"عثمان بن عفان" ودع عنك ما كتبه المغرضون والسبئيون الذي يحاولون تشوية أمجاد وتاريخ سلف هذه الأمة.(11/76)
.
فيقال: لا جرم طلبه وأقام عليه الحد بمشهد من عليّ بن أبي طالب، وقال لعليّ: قم فاضربه. فأمر عليّ الحسن بضربه، فامتنع. وقال لعبد الله بن جعفر: قم فاضربه، فضربه أربعين. ثم قال: أمسك، ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سُنَّةٌ، وهذا أحب إليّ" رواه مسلم وغيره(1).
فإذا أقام الحدّ برأي عليّ وأمره، فقد فعل الواجب.
الوالي قد يذنب والخليفة لا يعلم
وكذلك قوله: أنه استعمل سعيد بن العاص(2)
__________
(1) مسلم 3/1331-1332 (كتاب الحدود، باب حد الخمر)، وجاء هذا الأثر بمعناه في: سنن أبي داود 4/228 (كتاب الحدود، باب الحد في الخمر)، سنن ابن ماجه 2/1858 (كتاب الحدود، باب حد السكران).
(2) قال أبو عبد الرحمن: أن من يقرأ سيرة هذا المجاهد يتعجب من كرم أخلاقه وجوده وجهاده في سبيل الله تعالى، ورغم هذه المكارم إلا أننا نجد أحفاد ابن سبأ يحاولون إظهار شخصيته بمظهر المتهالك على حطام الدنيا وأنَّ أفعاله مشينة لا يمكن أن يتصف بها رجل يدين بالإسلام، ولا نعرف أي إسلام هذا الذي يزن الرجال الأفذاذ بميزان الخسة والنذالة، إلا أن يكون إسلام المجوس الذي يتسترون به، ولا عجب في ذلك فإن صفوة الخلق بعد الأنبياء عليهم السلام نالتهم سهام المجوس، أفيكون ابن العاص بعيداً عن تلك السهام؟
وأضع بين يدي القراء الكرام ترجمة لهذا القائد المسلم وذلك من المراجع الإسلامية، وبعد ذلك أدع له الحكم عليه، وصراحة أننا لا نستطيع وضع الرجال الأفذاذ في المكانة التي يستحقونها إذا كانت مراجعنا في ذلك مؤلفات المسعودي واليعقوبي وابن أبي الحديد وغيرهم من المؤرخين الذين اكتووا بالأحقاد أو على أقل تقدير تأثرهم بعقائد المجوس الرافضة في تقييم الرجال من سلف هذه الأمة.
قال عنه الذهبي (سير أعلام النبلاء ج3 ص445): وكان أميراً، شريفاً، جواداً، ممدّحاً، حليماً، وقوراً، ذا حزم، وعقل، يصلح للخلافة. وَلِيَ إمرة المدينة غير مرة لمعاوية، وقد وَلِيَ إمرة الكوفة لعثمان بن عفان، وقد اعتزل الفتنة، فأحسن، ولم يقاتل مع معاوية. اهـ.
وكان رحمه الله تعالى ممن أقيمت عربية القرآن الكريم على لسانه لأنه أشبههم لهجة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم (انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي ج3 ص448-449، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ج9 ص310، والوافي بالوفيات للصفدي ج15 ص228) وكان كريماً إلى حد كبير حتى أنه لقب بأكرم العرب والذي لقبه به هو سيد البشر صلّى الله عليه وسلّم، فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببرد فقالت: إني نويت أن أعطي هذا الثوب أكرم العرب، فقال: أعطيه هذا الغلام – يعني سعيد بن العاص – وهو واقف. فلذلك سميت الثياب السعدية (انظر: الوافي بالوفيات 15/228، البداية والنهاية لابن كثير ج8 ص84).
وحكايات كرمه وجوده أكثر من أن تحصى، حتى أنني عندما اطلعت على ترجمته في ثنايا المراجع التي ترجمت له كدت لا أصدق أن يكون بهذه الصورة من الكرم والجود، ولكن بشارة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ووصفه بأكرم العرب. ويقول ابن كثير في البداية 8/84: وقد كان حسن السيرة، جيد السيريرة، وكان كثيراً ما يجمع أصحابه في كل جمعة فيطعمهم ويكسوهم الحلل، ويرسل إلى بيوتهم بالهدايا والتحف والبر الكثير، وكان يصر الصرر فيضعها بين يدي المصلين من ذوي الحاجات في المسجد.
ولأن المجال لا يتسع لأكثر مما ذكر، فمن أراد الوقوف على حقيقة هذا الأمير رحمه الله تعالى فليرجع إلى المراجع التالية لتتضح له الصورة بكاملها من النبع الصافي لا من المستنقعات الآسنة التي يقبع فيها أحفاد ابن سبأ:
سير أعلام النبلاء للذهبي ج3 ص444-449 .
التاريخ الكبير للإمام البخاري ق1 ج2 ص502 ترجمة رم 1672 .
طبقات ابن سعد 5/30-35 .
البداية والنهاية لابن كثير ج8 ص83-87 .
أنساب الأشراف للبلاذري، القسم الرابع، الجزء الأول ص433-441 .
مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ج9 ص305-318 .
الوافي بالوفيات للصفدي ج15 ص227-230 .
الخليفة المفترى عليه "عثمان بن عفان" للشيخ محمد الصادق العرجون 109-112 ففي هذه الصفحات تحليل وتدقيق لولاية سعيد بن العاص على الكوفة.
وغير ذلك من المراجع الإسلامية، وللدكتور محمد الصباغ حفظه الله تعالى بحثاً قيماً حول هذا القائد المجاهد رحمه الله تعالى.(11/77)
على الكوفة، وظهر منه ما أدّى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها.
فيقال: مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب ذاك، فإن القوم كانوا يقومون على كلّ والٍ(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: إن عزل عثمان رضي الله عنه لسعيد بن العاص لم يكن من ذنب أتى به سعيد، ولكن لما قامت الفتنة في الكوفة بقيادة بعض الموتورين أمثال الأشتر وغيره من دعاة الفتنة واستنفار العامة، وإصرار الغوغاء على عزل سعيد بن العاص، وذلك لما ذهب ابن العاص إلى عثمان رضي الله عنه يطلعه على حقيقة الوضع في الكوفة وما اكتنفه من فوضى وعدم انضباط، فاستغل دعاة الفتنة فرصة غياب سعيد بن العاص عن الكوفة وبثّوا الأكاذيب والأراجيف، والذي تولاها مالك بن الأشتر بعد الإعداد والتخطيط بمشاركة النفر الذين كانوا في صف عبد الله بن سبأ.
وصل الأشتر للكوفة ووقف على المسجد وقال – وهو كاذب مفتر فيما قال -:
أيها الناس، قد جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان، وتركت سعيداً يريده على نقصان نسائكم إلى مائة درهم، ورد أهل البلاء منكم إلى ألفين، ويقول: ما بال أشراف النساء وهذه العلاوة بين هذين العدلين، ويزعم أن فيئكم بستان لقريش، فقد سايرته مرحلة، فما زال يرتجز بذلك حتى فراقته، يقول:
ويل لأشرف النساء مني صمحمح كأني من جنّ
فاستخف الناس فأصغوا إليه، وقام عقلاء الكوفة ينهونهم عن الخروج ونبذ الجماعة، ولكن أنّى للعقول التي اعتراها الطمع والثأر لمصالحهم الشخصية أن يستمعوا إلى نداء العقل.
وخرجوا إلى خارج الكوفة ونزلوا مكاناً يقال له الجرعة وهو بالقرب من الكوفة وقابلوا هناك سعيداً بن العاص وقالوا له: لا حاجة لنا بك، فقال سعيد: أما اختلفتم إلا بي؟ إنما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلاً، أو تضعوا له رجلاً، وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل؟ وانصرف عنهم.
وكتب الموتورون إلى عثمان رضي الله عنه بأن يولي عليهم أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فاستجاب لهم.
وللتفصيل انظر: التمهيد والبيان للمالقي 72-76، تاريخ الطبري ج4 ص330-332 .
ويقول الدكتور محمد السيد الوكيل في كتابه "جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين" ص410-411 عن الأشتر وذلك لتتضح الصورة للقارئ الكريم حقيقة هذا الثائر المتردد الذي يهوى الفتن ولو بالكذب والبهتان ليستهوي قلوب العامة والغوغاء:
فقد كان يرى نفسه كفؤاً لإدارة أعمال المسلمين وكان يعتقد أنه أحق بالولاية من غيره ممن ولاهم أمير المؤمنين عثمان – رضي الله عنه – ولما لم يول ثار وحرض وارتكب الجرائم العظام حتى قتل عثمان، وكان من أوائل المبايعين لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ومن أكبر أعوانه أملاً أن ينال منه ما لم ينل في عهد عثمان ولكنه لم ينل مأربه حتى في عهد عليّ، لأنه ليس الرجل الذي يتحمل عن المسلمين. وليس أدل على تطلعه إلى الولاية وغضبه لنفسه إذ لم يول من قوله وقد ولي عليّ ابن عمه عبد الله بن عباس البصرة، ولم يكد الخبر يطير إلى آذان الأشتر حتى غضب وقال: علام قتلنا الشيخ، إذ اليمن لعبيد الله والحجاز لقثم والبصرة لعبد الله والكوفة لعليّ.
وهكذا يعرّض الأشتر بولاة الخليفة الجديد الذي أسرع في بيعته، وتفانى في خدمته أملاً أن يصيبه شيء من الأمر الذي كان يعمل جاهداً للوصول إليه، فلما وجد أمير المؤمنين عليّاً عدل عنه وولاها الأكفاء من أبناء عمه تماماً كما فعل عثمان ثار وغضب، وركب دابته وفارق الخليفة ولولا أن أدركه الإمام، وأغذّ السير حتى لحق به، ما كان يدري إلا الله ماذا كان سيعمل هذا الثائر المتمرد. إن غضبة هذا وأمثاله لم تكن في ساعة من الساعات خالصة لوجه الحق، ولم يرد بها قط تقويم الخليفة وإعادته إلى الجادة التي سلكها صاحباه من قبل، ولكنها كانت لهوى النفس، ونفثة من الشيطان.(11/78)
. وقد قاموا على سعد بن أبي وقاص، وهو الذي فتح البلاد، وكسر جنود كسرى، وهو أحد أهل الشورى، ولم يتول عليهم نائب مثله. وقد شكوا غيره مثل عمَّار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، والمغيرة بن شعبة، وغيرهم. ودعا عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اللهم إنهم قد لبَّسوا عليَّ فلبِّس عليهم.
وإذا قُدَّر أنه أذنب ذنباً، فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضياً بذنبه، ونواب عليّ قد أذنبوا ذنوباً كثيرة. بل كان غير واحدٍ من نواب النبي صلّى الله عليه وسلّم يذنبون ذنوباً كثيرة. وإنما يكون الإمام مذنباً إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد، أو استيفاء حق، أو اعتداء ونحو ذلك.
وإذا قُدِّر أن هناك ذنباً، فقد عُلم الكلام فيه.
دور ابن سبأ في الفتنة
وأما قوله: وولَّى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلَّم منه أهلها، وكاتبه أن يستمر على ولايته سرّاً، خلاف ما كتب إليه جهراً(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: ولاية عبد الله بن سعد على مصر إنما كانت رغبة من دعاة الفتنة أتباع عبد الله بن سبأ، وذلك أن في ولاية عمرو بن العاص رضي الله عنه لم يستطيعوا أن يبثوا معتقداتهم وأكاذيبهم ووقف منهم موقفاً حازماً، لذا اجتمعوا على الكتابة إلى عثمان رضي الله عنه بأن يولّي عليهم عبد الله بن سعد. ويذكر لنا المالقي في "التمهيد والبيان" ص88-89 تفاصيل ذلك فيقول:
لما خرج ابن السوداء (ابن سبأ) إلى مصر اعتمر فيهم فأقام، فنزل على كنانة بن بشر مرة وعلى سودان بن حمران مرة وانقطع. فشجعه الغافقي، فتكلم. وأطاف به خالد بن ملجم وعبد الله بن زريرة وأشباه لهم، فصرف لهم القول فلم يجدهم يجيبون إلى شيء مما يجيبون إلى الوصية، فقال لهم: عمرو ناب العرب وحجرهم، ولسنا من رجاله، فأروه أنكم تزرعون، ولا تزرعون العام شيئاً حتى تنكسر مصر، فيشكونه فيعزل عنكم، ونسأل من هو أضعف منه، ونخلوا بما نريد، ونظهر الأمر بالمعروف. فكان أسرعهم إلى ذلك وأعملهم فيه محمد بن أبي حذيفة، وهو ابن خال معاوية وكان يتيماً في حجر عثمان رضي الله عنه. فلما ولي استأذنه في الهجرة إلى بعض الأمصار فخرج إلى مصر. وكان الذي دعاه إلى ذلك أنه سأل العمل فقال: لست هناك. فعملوا ما أمرهم به ابن السوداء. ثم أنهم خرجوا ومن شاء الله منهم، فشكوا عمرو بن العاص، واستعفوا منه، فكلما نهنه عثمان عن عمرو قوماً وسكنهم وأرضاهم وقال: إنما هو أمين، انبعث آخرون بشيء آخر، وكلهم يطلب عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فقال لهم عثمان رضي الله عنه: أما عمرو فسننزعه عنكم لما زعمتم أنه أفسد، وأما الحرب فسنقره عليها ونولي من سألتم. فولى عبد الله بن سعد خراج مصر وترك عمراً على صلاتهم، فمشى في ذلك سودان بن حمران، وكنانة بن بشر وخارجة وأشباههم فيما بين عمرو وعبد الله بن سعد وأغروا بينهما، حتى احتمل كل واحد منهما على صاحبه، وتكاتبا على قدر ما أبلغوا كل واحد منهما، فكتب عبد الله بن سعد: أنّ خراجي لا يستقيم مادام عمرو على الصلاة، وخرجوا فصدقوه واستعفوا من عمرو، وسألوا عبد الله. فكتب عثمان رضي الله عنه إلى عمرو: أنه لا خير لك في صحبة من يكرهوك، فأقبل. وجمع مصر لعبد الله صلاتها وخراجها. فقدم عمرو، فقال له عثمان رضي الله عنه: أبا عبد الله، ما شأنك؟ أستحيل رأيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين دعني، فوالله ما أدري من أين أتيت، وما أتهم عبد الله بن سعد، وإن كنت لأهل عملي كالوالدة، وما قدر العارف الشاكر على معونتي. اهـ.
وأما قصة الكتاب فالروايات مضطربة لا أساس لها، وأنها من اختراع المتمردين وقد كشفها عليّ رضي الله عنه ومحمد بن مسلمة رضي الله عنه، وللوقوف على حقيقة هذا الزعم الباطل انظر: الخليفة المفترى عليه للعلامة محمد الصادق عرجون رحمة الله عليه ص117-126، حركات ومؤامرات مناهضة في تاريخ الإسلام للأستاذ الدكتور أحمد الحفناوي ص177-182 .(11/79)
.
والجواب: أن هذا كذب على عثمان. وقد حلف عثمان أنه لم يكتب شيئاً من ذلك، وهو الصادق البار بلا يمين، وغاية ما قيل: إن مروان كتب بغير علمه، وأنهم طلبوا أن يُسلم إليهم مروان ليقتلوه، فامتنع. فإن كان قَتْلُ مروان لا يجوز، فقد فعل الواجب، وإن كان يجوز ولا يجب، فقد فعل الجائز، وإن كان قتله واجباً، فذاك من موارد الاجتهاد؛ فإنه لم يثبت لمروان ذنب يوجب قتله شرعاً، فإن مجرد التزويد لا يوجب القتل. وبتقدير أن يكون تَرَكَ الواجب فقد قدَّمنا الجواب العام.
عثمان رضي الله عنه لا يأمر بقتل معصوم الدم
وأما قوله: أمر بقتل محمد بن أبي بكر
فهذا من الكذب المعلوم على عثمان. وكل ذي علمٍ بحال عثمان وإنصاف له، يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله، ولا عرف منه قط أنه قتل أحداً من هذا الضرب، وقد سعوا في قتله، ودخل عليه محمد فيمن دخل، وهو لا يأمر بقتالهم دفعاً عن نفسه، فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم؟
وإن ثبت أن عثمان أمر بقتل محمد بن أبي بكر، لم يُطعن على عثمان. بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان، لأن عثمان إمام هُدى، وخليفة راشد، يجب عليه سياسة رعيته، وقتل من لا يُدفع شرّه إلا بالقتل. وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض، ليس لهم قتل أحدٍ، ولا إقامة حد. وغايتهم أن يكونوا ظُلموا في بعض الأمور، وليس لكل مظلوم أن يقتل بيده كل من ظلمه، بل ولا يقيم الحد.
وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر، ولا هو أشهر بالعلم والدين منه. بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان وله قول مع أهل الفتيا، واختلف في صحبته.(11/80)
ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة عند الناس، ولم يدرك من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا أشهراً قليلة: من ذي القعدة إلى أول شهر ربيع الأول، فإنه ولد بالشجرة لخمسٍ بقين من ذي القعدة عام حجة الوداع. ومروان من أقران ابن الزبير، فهو قد أدرك حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويمكن أنه رآه عام فتح مكة، أو عام حجة الوداع.
والذي قالوا: لم ير النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: إن أباه كان بالطائف، فمات النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبوه بالطائف، وهو مع أبيه، ومن الناس من يقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم نفى أباه إلى الطائف، وكثير من أهل العلم ينكر ذلك، ويقول إنه ذهب باختياره، وإن نفيه ليس له إسناد.
وهذا إنما يكون بعد فتح مكة، فقد كان أبوه بمكة مع سائر الطلقاء، وكان هو قد قارب سن التمييز.
وأيضاً فقد يكون أبوه حج مع الناس، فرآه في حجة الوداع، ولعله قدم إلى المدينة. فلا يمكن الجزم بنفي رؤيته للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأما أقرانه، كالمسور بن مخرمه، وعبد الله بن الزبير، فهؤلاء كانوا بالمدينة. وقد ثبت أنهم سمعوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم.
عمر بن الخطاب هو الذي ولَّى معاوية الشام
وأما قوله: "ولّى معاوية الشام، فأحدث من الفتن ما أحدثه".
فالجواب: أن معاوية إنما ولاّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان ولاّه عمر مكان أخيه. واستمر في ولاية عثمان، وزاده عثمان في الولاية. وكان سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة، وكان رعيته يحبونه.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضوكم، وتلعنونهم ويلعنونكم“(1)
__________
(1) الحديث عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه في:
مسلم 3/1481 (كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم)، سنن الدارمي 2/324 (كتاب الرقاق، باب في الطاعة ولزوم الجماعة)، المسند (ط. الحلبي) 6/24 .
وجاء جزء من حديث آخر بمعنى آخر معنى هذا الحديث عن عمر رضي الله عنه في: سنن الترمذي 3/360 (كتاب الفتن، باب حدثنا موسى بن عبد الرحمن الكندي) وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد ومحمد يُضعف من قبل حفظه.(11/81)
.
وإنما ظهر الأحداث من معاوية في الفتنة لما قُتل عثمان، ولما قُتل عثمان كانت الفتنة شاملة لأكثر الناس، لم يختص بها معاوية، بل كان معاوية أطلب للسلامة من كثير منهم، وأبعد عن الشر من كثير منهم.
ومعاوية كان خيراً من الأشتر النخعي، ومن محمد بن أبي بكر، ومن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، ومن أبي الأعور السلمي، ومن هاشم بن هاشم بن هاشم المرقال، ومن الأشعث بن قيس الكندي، ومن بُسْر بن أبي أرطاة، وغير هؤلاء من الذين كانوا معه ومع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما.
عبد الله بن عامر أحد قواد الإسلام
وأما قوله: "وولّى عبد الله بن عامر البصرة، ففعل من المناكير ما فعل"(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: عبد الله بن عامر أبو عبد الرحمن من القادة الذين فتحوا إقليم خراسان وأطراف فارس وكثير من المناطق الرازحة تحت سيطرة ملك الفرس يزدجرد، ولذا فإن عداوة الفرس المجوس ومن يدين بدينهم يبغضونه أشد البغض، وينتحلون من الأكاذيب والأساطير ما يحاولون به تشويه سيرته التي قضاها فاتحاً وعادلاً في رعيته. إضافة إلى قضائه ومحاربته للموتورين من أتباع عبد الله بن سبأ، لا سيما وأنه هو الذي طرد ابن سبأ من البصرة وأيضاً قاطع الطريق حكيم بن جبلة فيذكر لنا الطبري في تاريخه ج4 ص326-327 :
لما مضى من إمارة ابن عامر ثلاث سنين، بلغه أن في عبد القيس رجلاً نازلاً على حكيم بن جبلة، وكان حكيم بن جبلة رجلاً لصاً إذا قفل الجيش خنس عنهم، فسعى في أرض فارس، فيغير على أهل الذمة، ويتنكر لهم، ويفسد في الأرض، ويصيب ما شاء ثم يرجع. فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان. فكتب إلى عبد الله بن عامر: أن احبسه، ومن كان مثله فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً، فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها. فلما قدم ابن السوداء نزل عليه واجتمع إليه نفر فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرح، فقبلوا منه، واستعظموه، وأرسل إليه ابن عامر، فسأله: من أنت؟ فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب، رغب في الإسلام، ورغب في جوارك، فقال: ما يبلغني ذلك، اخرج عني. فخرج حتى أتى الكوفة فأخرج منها فاستقر بمصر، وجعل يكاتبهم ويكاتبونه، ويختلف الرجال بينهم.
وقد أثنى على ابن عامر كثير من علماء هذه الأمة ومؤرخيها فيقول الذهبي في سير أعلام النبلاء ج3 ص21 :
وكان من كبار ملوك العرب، وشجعانهم وأجوادهم، وكان فيه رفق وحلم.
ويقول ابن كثير في البداية والنهاية ج8 ص88 :
ولد في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفل في فيه، فجعل يبتلع ريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: "إنه لمسقاه"، فكان لا يعالج أرضاً إلا ظهر له الماء، وكان كريماً ممدحاً ميمون النقيبة.... وهو أول من اتخذ الحياض بعرفة وأجرى عليها الماء المعين والعين.
ويقول العلامة محب الدين الخطيب رحمه الله تعالى في تعليقه على "العواصم" ص84 :
فلم يزل ملك أولاده (يقصد أول ملوك الفرس والمسمى جيومرت) منتظماً على سياق إلى أن كان القضاء الأخير عليه بسلطان الإسلام في خلافة أمير المؤمنين بجهاد هذا العبشمي الآباء الهاشمي الخئولة عبد الله بن عامر بن كريز، وهي حرقة في قلوب أهل النزعة المجوسية على الإسلام، وعلى عثمان، وابن كريز، فهم يحقدون على هؤلاء ويحاربونهم إلى اليوم بسلاح الكذب، والبغض والدسائس وسيستمر ذلك إلى يوم القيامة.... ونحن لا ندعي العصمة لأحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونتوقع الخطأ من كل إنسان، صحابياً كان أو من التابعين أو الذين يتبعونهم بإحسان. ولكن الذين ملأوا الدنيا بالحسنات كأنها الجبال فإن الذي يعمى عنها، ويدس أنفه في مرمى القاذورات ليستخرج منها ما يذم العظماء به، وإن لم يجد يختلق ويكذب، فإن من كرامة المسلم على نفسه أن يترفع عن الإصغاء لأمثال هؤلاء والانخداع لهم. ودع عنك فتوح عبد الله بن عامر بن كريز التي وصلت إلى أقصى المشارق، وتقويضه آخر أمل للإمبراطورية المجوسية، فإن حسناته الإنسانية أيضاً جديرة بالتسجيل.(11/82)
.
فالجواب: أن عبد الله بن عامر له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس ما لا ينكر، وإذا فعل منكراً فذنبه عليه. فمن قال: إن عثمان رضي بالمنكر الذي فعله؟
مسألة تولية مروان بن الحكم
وأما قوله: "وولّى مروا أمره، وألقى إليه مقاليد أموره، ودفع إليه خاتمه، وحدث من ذلك قتل عثمان(1)، وحدث من الفتنة بين الأمة ما حدث".
فالجواب: أن قتل عثمان والفتنة لم يكن سببها مروان وحده، بل اجتمعت أمور متعددة، من جملتها أمور تنكر من مروان. وعثمان رضي الله عنه كان قد كبر، وكانوا يفعلون أشياء لا يُعلمونه بها، فلم يكن آمراً لهم بالأمور التي أنكرتموها عليه، بل كان يأمر بإبعادهم وعزلهم، فتارة يفعل ذلك، وتارة لا يفعل ذلك، وقد تقدم الجواب العام.
ولما قدم المفسدون الذين أرادوا قتل عثمان، وشكوا أموراً، أزالها كلها عثمان(2)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: أن استشهاد الخليفة رضي الله عنه لم يكن من جراء ذلك، بل من قبل حفنة من المتورين والحاقدين والذين أصابهم سوط الشريعة بخروجهم عن جادة الصواب، وقد تقدم بيان ذلك.
(2) قال أبو عبد الرحمن: وذلك حينما أراد الموتورون إثارة الفتنة بطرح بعض الأحداث التي أحدثها – على حد زعمهم – عثمان رضي الله عنه. وقدموا إلى المدينة بتخطيط مسبق مع بعضهم البعض، فاجتمع رؤسائهم وقرروا مواجهة الخليفة رضي الله عنه ببعض التهم، ليمكن بعد ذلك إشاعة تلك المقولات وإيهام الناس بأن الخليفة قد أقرهم على ما طرحوه من المؤاخذات وأنه قد وعد بالرجوع عنها. وهدفهم من ذلك التأكد على ما زرعوه في قلوب الناس ثم يرجعون إليهم فيزعمون لهم أنهم قرروه بها، فلم يتب منها ولم يظهر الندم على ما وقع منه والتوبة، وبعد ذلك يخرجون كأنهم يريدون الحج ويعرضون على عثمان رضي الله عنه الخلع فإن لم يستجب قاتلوه.
ولما علم عثمان رضي الله عنه حقيقة أولئك القوم أرسل إليهم ونادى: الصلاة جامعة، وهم عنده في أصل المنبر، فأقبل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحاطوا بهم، فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم خبر القوم، وقام الرجلان، فقالوا جميعاً: اقتلهم، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "من دعا إلى نفسه أو إلى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله فاقتلوه". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا أحل لكم إلا ما قتلتموه وأنا شريككم. فقال عثمان: بل نعفو ونقبل ونبصرهم بجهدنا، ولا أحد أحداً حتى يركب حداً، أو يبدي كفراً. أن هؤلاء ذكروا أموراً قد علموا منها مثل الذي علمتم، إلا أنهم زعموا أنهم يذاكرونيها ليوجبوها عليّ عند من لا يعلم.
وقالوا: أتم الصلاة في السفر، وكانت لا تتم، ألا وإني قدمت بلداً فيه أهلي، فأتممت لهذين الأمرين. أو كذلك؟ قالوا: اللهم نعم.
وقالوا: وحميت حمى، وإني والله ما حميت، حمى قبلي، والله ما حموا شيئاً لأحد ما حموا إلا غلب عليه أهل المدينة، ثم لم يمنعوا من رعاية أحدا، واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا ولا نحوا منها أحداً إلا من ساق درهما، ومالي من بعير غير راحلتين، وما لي ثاغية ولا راغية، وإني قد وليت إني أكثر العرب بعيراً وشاءً، فمالي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجي، أكذلك؟ قالوا: اللهم نعم.
وقالوا: إني رددت الحكم وقد سَيَّرهُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والحكم مكي، سيره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى الطائف، ثم ردّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيره، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّه، أكذلك؟ قالوا: اللهم نعم.
وقالوا: استعملت الأحداث. ولم أستعمل إلا مجتمعاً محتملاً مرضياً، وهؤلاء أهل عملهم، فسلوهم عنه، وهؤلاء أهل بلده، ولقد ولّى من قبلي أحدث منهم، وقيل في ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشد مما قيل لي في استعماله أسامة، أكذلك؟ قالوا: اللهم نعم، يعيبون الناس ما لا يفسرون.
وقالوا: إني أعطيت ابن أبي سرح ما أفاء الله عليه، وإني إنما نفلته خمس ما أفاء الله عليه من الخمس، فكان مائة ألف وقد أنفذ مثل ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فزعم الجند أنهم يكرهون ذلك، فرددته عليهم وليس ذاك لهم، أكذلك؟ قالوا: نعم.
وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي فإنه لم يمل معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم فإني ما أعطيتهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي، ولا لأحد من الناس، ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفني عمري وودعت الذي لي في أهلي، قال الملحدون ما قالوا، وإني والله ما حملت على مصر من الأمصار فضلاً فيجوز ذلك لمن قاله، ولقد رددته عليهم، وما قدم عليّ إلا الأخماس، ولا يحل لي منها شيء، فولى المسلمون وضعها في أهلها دوني، ولا يتلفت من مال الله بفلس فما فوق، وما أتبلغ منه ما آكل إلا مالي.
وقالوا: أعطيت الأرض رجالاً، وأن هذه الأرضين شاركهم فيها المهاجرون والأنصار أيام افتتحت، فمن أقام بمكان من هذه الفتوح فهو أسوة أهله، ومن رجع إلى أهله لم يذهب ذلك ما حوى الله له، فنظرت في الذي يصيبهم مما أفاء الله عليهم فبعته لهم بأمرهم، انظر: تاريخ الطبري 4/346-348، التمهيد والبيه للمالقي 104-106 .(11/83)
، حتى أنه أجابهم إلى عزل من يريدون عزله، وإلى أن مفاتيح بيت المال تعطى لمن يرتضونه، وأنه لا يعطي أحداً من المال إلا بمشورة الصحابة ورضاهم، ولم يبق لهم طلب.
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "مصصتموه كما يمص الثوب، ثم عمدتم إليه فقتلتموه"(1).
وقد قيل: أنه زور عليه كتاب بقتلهم، وأنهم أخذوه في الطريق، فأنكر عثمان الكتاب وهو الصادق. وأنهم اتهموا به مروان، وطلبوا تسليمه إليهم، فلم يسلمه(2).
وهذا بتقدير أن يكون صحيحاً، لا يبيح شيئاً مما فعلوه بعثمان، وغايته أن يكون مروان قد أذنب في إرادته قتلهم، ولكن لم يتم غرضه، ومن سعى في قتل إنسان ولم يقتله، لم يجب قتله. فما كان يجب قتل مروان بمثل هذا. نعم ينبغي الاحتراز ممن يفعل مثل هذا، وتأخيره وتأديبه. ونحو ذلك. أما الدم فأمر عظيم.
إحسان عثمان شمل الجميع
وأما قوله: "وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال، حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش، زوَّجهم بناته، أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار".
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: انظر مقدمة هذا الجزء حيث أوردنا أقوال عائشة رضي الله عنها في عثمان رضي الله عنه وفي قتلته.
(2) قال أبو عبد الرحمن: لا يشك من لديه عقل في تزوير الكتاب، وأنه من نسج المتمردين ليتخذه ذريعة في إثارة الفتنة.
ولقد تكلم حول هذا الموضوع بعض النقاد مثل:
العلامة محمد الصادق العرجون في كتاب "الخليفة المفترى عليه" 117-126 .
ومسألة تزوير الكتب فهي أقدم من هذا الحادث وقد زور معن بن زائدة كتاباً ادّعى أنه من قبل عمر رضي الله عنه وأصاب بذلك الكتاب المزوّر مالاً من خراج الكوفة.
ومن أشهر المزوّرين محمد بن أبي حذيفة – ربيب عثمان رضي الله عنه وأحد الموتورين الحاقدين – الذي زوّر الكتب على لسان أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعاً وخاصة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.(11/84)
فالجواب: أولاً أن يقال: أين النقل الثابت بهذا؟ نعم كان يعطي أقاربه عطاءً، ويعطي غير أقاربه أيضاً، وكان محسناً إلى جميع المسلمين. وأما هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت.
ثم يقال: ثانياً: هذا من الكذب البيّن، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحداً ما يقارب هذا المبلغ. ومن المعلوم أن معاوية كان يعطي من يتألّفه أكثر من عثمان. ومع هذا فغاية ما أعطى الحسن بن عليّ مائة ألفه أو ثلاثمائة ألف درهم. وذكروا أنه لم يعط أحداً قدر هذا قط.
نعم كان عثمان يعطي بعض أقاربه ما يعطيهم من العطاء الذي أنكر عليه، وقد تقدم تأويله في ذلك، والجواب العام يأتي على ذلك، فإنه كان له تأويلان في إعطائهم، كلاهما مذهب طائفة من الفقهاء: أحدهما: أنه ما أطعم الله لنبيٍّ طعمة إلا كانت طعمة لمن يتولّى الأمر بعده، وهذا مذهب طائفة من الفقهاء، ورووا في ذلك حديثاً معروفاً مرفوعاً(1)، وليس هذا موضع بسط الكلام في جزئيات المسائل.
__________
(1) الحديث في سنن أبي داود 3/198 (كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في صفايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأموال) ونصه: عن أبي الطفيل قال: جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي الله عنه تطلب ميراثها من النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "إن الله عز وجل إذا أطعم نبيّاً طعمة فهي للذي يقوم بعده".
والحديث – مع اختلاف يسير في اللفظ – في المسند (ط. المعارف) 1/160 وصحح أحمد شاكر رحمه الله الحديث.(11/85)
وقالوا إن ذوي القربى في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم ذوو قرباه، وبعد موته هم ذوو قربى من يتولّى الأمر بعده. وقالوا: إن أبا بكر وعمر لم يكن لهما أقارب كما كان لعثمان، فإن بني عبد شمس من أكبر قبائل قريش، ولم يكن من يوازيهم إلا بنو مخزوم. والإنسان مأمور بصلة رحمه من ماله، فإذا اعتقدوا أن ولي الأمر يصله من مال بيت المال مما جعله الله لذوي القربى، استحقوا بمثل هذا أن يوصلوا من بيت المال ما يستحقونه، لكونهم أولي قربى الإمام. وذلك أن نصر ولي الأمر والذب عنه متعين، أقاربه ينصرونه ويذبون عنه ما لا يفعله غيرهم(1).
وبالجملة، فلابد لكل ذوي أمر من أقوام يأتمنهم على نفسه، ويدفعون عنه من يريد ضرره. فإن لم يكن الناس مع إمامهم كما كانوا مع أبي بكر وعمر، احتاج الأمر إلى بطانة يطمئن إليهم، وهم لابد لهم من كفاية. فهذا أحد التأويلين.
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: أن بذل عثمان رضي الله عنه إنما كان من ماله الخاص، وقد بيّن رضي الله عنه ذلك في خطبته التي ذكرناها قبل صفحات.
ويقول العلامة العرجون في "الخليفة المفترى عليه" ص99: حب عثمان لأقاربه، وإحسانه إليهم، وعطفه عليهم، ورفع شأن ذوي النبوغ منهم والاستعانة بأهل القوة والمقدرة على العمل فيهم ليس غريباً عن أوضاع الحياة وطبيعتها، بل الغريب من مألوف الحياة ومعهودها ألا يحبهم ولا يكرمهم، ولا يرفع من شأنهم، وقد أذلهم في أول الدعوة الإسلامية تقاعسهم عن السيف إلى الإسلام، واعتزازهم بمعزات الجاهلية لياً بأبصارهم عن بلج الحق، وسبقهم غيرهم ممن كان لا يلحق بهم في أولياتهم الجاهلية إلى عزة الإسلام، فانزوى بعضهم، ولج في العناد آخرون حتى احتوشهم الإيمان بجحافله، فدخلوا إلى ساحة الإسلام طائعين وكارهين، وقد وجدوا في نبيلهم عثمان بن عفان ركناً شديداً يأوون إليه بعد الإيمان بالله ورسوله، وقد أعطاه الإسلام قيادة وولاه المسلمون أمرهم عن رضا ومشورة منهم.(11/86)
والتأويل الثاني: أنه كان يعمل في المال. وقد قال الله تعالى: { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } [التوبة: 60]. والعامل على الصدقة الغني له أن يأخذ بعمالته باتفاق المسلمين.
والعامل في مال اليتيم قد قال الله تعالى فيه: { وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء: 6]. وهل الأمر للغني بالاستعفاف أمر إيجاب أو أمر استحباب؟ على قولين.
ووليّ بيت المال وناظر الوقف هل هو كعامل الصدقة أو كوليّ اليتيم؟ على قولين. وإذا جعل ولي الأمر كعامل الصدقة استحق مع الغني. وإذا جعل كولي اليتيم ففيه القولان. فهذه ثلاثة أقوال، وعثمان على قولين: كان له الأخذ مع الغني. وهذا مذهب الفقهاء، ليست كأغراض الملوك التي لم يوافق عليها أحد من أهل العلم.
ومعلوم أن هذه التأويلات إن كانت مطابقة فلا كلام، وإن كانت مرجوحة فالتأويلات في الدماء التي جرت من عليّ ليست بأوجه منها. والاحتجاج لهذه الأقوال أقوى من الاحتجاج لقول من رأى القتال.
عبد الله بن مسعود وجمع القرآن
وأما قوله: "وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفّره".
فالجواب: أن هذا من الكذب البيّن على ابن مسعود، فإن علماء أهل النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفّر عثمان، بل لما وَلِيَ عثمان وذهب ابن مسعود إلى الكوفة قال: "ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل".
وكان عثمان في السنين الأوَل من ولايته لا ينقمون منه شيئاً ولما كانت السنين الآخرة نقموا منه أشياء بعضها هم معذورون فيه، وكثير منها كان عثمان هو المعذور فيه.(11/87)
من جملة ذلك أمر ابن مسعود؛ فإن ابن مسعود بقي في نفسه من أمر المصحف، لما فوَّض كتابته إلى زيد دونه، وأمر الصحابة أن يغسلوا مصاحفهم. وجمهور الصحابة كانوا على ابن مسعود مع عثمان، وكان زيد بن ثابت قد انتدبه قبل ذلك أبو بكر وعمر لجمع المصحف في الصحف، فندب عثمان من ندبه أبو بكر وعمر، وكان زيد بن ثابت قد حفظ العرضة الأخيرة، فكان اختبار تلك أحب إلى الصحابة، فإن جبريل عارض النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن في العام الذي قُبض فيه مرتين(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: أن مسألة جمع القرآن من قبل عثمان رضي الله عنه من المآثر والمناقب التي يجب أن تكتب بمداد من الذهب في سجل تاريخ هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه، لا أن تنقلب هذه المأثرة والمنقبة إلى مثلبة يتفوه بها ويسطرها الحاقدون في ثنايا بحثهم عن حياة عثمان رضي الله عنه ويروجون لها ويجعلونها من المطاعن.
وأما الباعث على إقدام عثمان رضي الله عنه على جمع القرآن، فيروي البخاري في صحيحه (الفتح 9/11): أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالمصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرّهط من القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق (عثمان بن عفان رضي الله عنه ص234 وما بعدها) رواية أخرى: عن محمد وطلحة قالا: وصرف حذيفة من غزو الرّي إلى غزو الباب مدداً لعبد الرحمن بن ربيعة، وخرج معه سعيد بن العاص فبلغ معه أذربيجان – وكذلك كانوا يصنعون، يجعلون للناس ردءاً (العون والناصر) – فأقام حتى قفل حذيفة ثم رجعا. فقال له حذيفة: إني سمعت في سفرتي هذه أما لئن ترك الناس ليضلن القرآن ثم لا يقومون عليه أبداً. قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أمداد أهل الشام حين قدموا علينا، فرأيت أناساً من أهل حمص يزعمون لأناس من أهل الكوفة أنهم أصوب قراءة منهم، وأن المقداد أخذها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقول الكوفيون مثل ذلك. ورأيت من أهل دمشق قوماً يقولون لهؤلاء: نحن أصوب منكم قراءة، وقرآنا، ويقول هؤلاء لهم مثل ذلك. فلما رجع الكوفة دخل المسجد فتقوّض إليه الناس فحذرهم ما سمع في غزاته تلك، وحذّرهم ما يخاف، فساعده على ذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن أخذ عنهم وعامة التابعين.
وقال له أقوام ممن قرأ على عبد الله: وما تنكر؟ ألسنا نقرأ على قراءة ابن أم عبد، وأهل البصرة يقرؤون على قراءة أبي موسى ويسمونها لباب الفؤاد، وأهل حمص يقرؤون على قراءة المقداد وسالم؟ فغضب حذيفة من ذلك وأصحابه وأولئك التابعون وقالوا: إنما أنتم أعراب، وإنما بعث عبد الله إليكم ولم يبعث إلى من هو أعلم منه، فاسكتوا فإنكم على خطأ. وقال حذيفة: والله لئن عشت حتى أتي أمير المؤمنين لأشكون إليه ذلك، ولأمرنه، ولأشيرن عليه أن يحول بينهم وبني ذلك حتى ترجعوا إلى جماعة المسلمين، والذي عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة. وقال الناس مثل ذلك. فقال عبد الله: والله إذاً ليصلينّ الله وجهك نار جهنم. فقال سعيد بن العاص: أعلى الله تألّى (أي تحلف وتحكم) والصواب مع صاحبك؟ فغضب سعيد فقام، وغضب ابن مسعود فقام، وغضب القوم فتفرقوا، وغضب حذيفة فرحل إلى عثمان حتى قدم عليه فأخبره بالذي حدث في نفسه من تكذيب بعضهم بعضاً بما يقرأ، ويقول أنا النذير العريان (مثل يضرب في التحذير من خطر محدق بدلائل واضحة مكشوفة) فأدركوا. فجمع عثمان الصحابة وأقام حذيفة فيهم بالذي رأى وسمع، وبالذي عليه حال الناس، فأعظموا ذلك ورأوا جميعاً مثل الذي رأى، وأبوا أن يتركوا ويمضي هذا القرن لا يعرب القرآن. فسأل عثمان: ما لباب الفؤاد؟ فقيل: مصحف كتبه أبو موسى – وكان قرأ على رجال كثير ممن لم يكن جمع على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسأل عن مصحف ابن مسعود، فقيل له: قرأ على مجمع بن جارية. وخباب بن الأرت جمع القرآن بالكوفة فكتب مصحفاً. وسأل عن المقداد، فقيل له: جمع القرآن بالشام، فلم يكونوا قرؤوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، إنما جمعوا القرآن في أمصارهم. فاكتتبت المصاحف وهو بالمدينة – وفيها الذين قرؤوا القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلّم – وبثّها في الأمصار، وأمر الناس أن يعمدوا إليها، وأن يدعوا ما تعلم في الأمصار، فكل الناس عرف فضل ذلك، أجمعوا عليه وتركوا ما سواه، إلا ما كان من أهل الكوفة فإن قرّاء قراءة عبد الله نزوا في ذلك حتى كادوا يتفضلون على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعابوا الناس، فقام فيهم ابن مسعود فقال: ولا كل هذا، إنكم والله قد سبقتم سبقاً بينا، فأربعوا على ظلعكم (أي أرفقوا على أنفسكم فيما تحاولونه).
ولما قدم المصحف الذي بعث به عثمان على سعيد واجتمع عليه الناس، وفرح به أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، بعث سعيد إلى ابن مسعود يأمره أن يدفع إليه مصحفه، فقال: هذا مصحفي، تستطيع أن تأخذ ما في قلبي؟ فقال له سعيد: يا عبد الله، والله ما أنا عليك بمسيطر، إن شئت تابعت أهل دار الهجرة وجماعة المسلمين، وإن شئت فارقتهم. وأنت أعلم. اهـ.
ولقد عزّ على ابن مسعود رضي الله عنه أن لا يكون ضمن اللجنة التي كلفها عثمان رضي الله عنه، ولعثمان رضي الله عنه من الأعذار في ذلك الشيء الكثير، ويقول الأستاذ الفاضل عبد الستار الشيخ في كتابه القيّم "عبد الله بن مسعود" ص122-125: وعثمان كان له العذر في ذلك لأمور عدة:
1 - تم الجمع بالمدينة المنورة، وابن مسعود عندئذ بالكوفة، والأمر لا يحتمل التأخير ريثما يرسل إليه عثمان ليحضر الجمع.
2 - ثم إن عثمان إنما أراد نسخ الصحف التي كانت في عهد أبي بكر، وأن يجعلها مصحفاً واحداً، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت لكونه كان كاتب الوحي، فكانت له في ذلك أولية ليست لغيره.
3 - وزيد – شهد – بيقين – العرضة الأخيرة التي بيّن فيها ما نسخ وما بقي، وكتبها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقرأها عليه، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولا يضيره أنه كان في صلب رجل كافر عندما كان ابن مسعود يحفظ بضعاً وسبعين سورة.
4 - ثم إن ابن مسعود قد أخذ من في النبي صلّى الله عليه وسلّم بضعاً وسبعين سورة، واستكمل القرآن من الصحابة فيما بعد، بينما حفظ زيد القرآن كله والنبي صلّى الله عليه وسلّم حيّ، وهذا مما يضاف إلى مبررات عثمان بالاعتماد على زيد.
5 - ثم أن زيداً كان يكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو إمام في الرسم، وابن مسعود إمام في الأداء، وجمع عثمان كان يقتضي الميزة التي عند زيد، لذا أمر بالكتابة، وأمر سعيد بالإملاء عليه، وسعيد أشبه الناس لهجة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتوفّرت للجمع العثماني كافة الشروط: الرسم والإملاء، وهذا يعني أن عدم حضور ابن مسعود لن يحدث خللاً في كفاءة وتكامل لجنة الجمع العثماني.
6 - ثم إن ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ بلهجة هذيل، والمصحف كتب بلغة قريش عند الاختلاف، وليس لعبد الله أن يحمل الأمة على أن يقرؤوا بلهجته، بل لهجة النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بذلك، علماً بأن لعبد الله قراءات شاذة مثل (عتى حين) بدلاً من (حتى حين).
7 - وناحية هامة هي أن رضى الصحابة رضي الله عنهم جميعاً بصنيع عثمان في تحريق المصحف دليل خيرية ذلك الفعل وصوابه، فأمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تجتمع على ضلالة. ومما يؤكد هذه الناحية إجماع الخلفاء الراشدين على جمع المصحف، واتفاق آخر خليفتين منهم على تحريق ما سوى المصحف الإمام. وفعلهم هذا واجب الاقتداء به كما قال عليه السلام: ”عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي“.
8 - زد على ذلك أنه علم الصحابة بموقف عبد الله ذاك، وأنه أمر بغلّ المصاحف، كرهوا ذلك منه، وما رضوه فقد قال الزهري: "فبلغني أن ذلك كرهه من قول ابن مسعود رجال من أصحاب رسول الله".
وينقل ابن كثير عن علقمة قال: قدمت الشام فلقيت أبا الدرداء فقال: كنا نعد عبد الله حناناً، فما باله يواثب الأمراء.
ولكن لا يفهم من ذلك كله أن زيداً مقدم على ابن مسعود، فليس رابط بين هذا وذاك، وعبد الله أفضل من زيد، وفي ذلك يقول أبو بكر الأنباري: ولم يكن لاختيار زيد من جهة أبي بكر وعمر وعثمان على عبد الله بن مسعود في جمع القرآن – وعبد الله أفضل من زيد، وأقدم في الإسلام، وأكثر سوابق، وأعظم سوابق، وأعظم فضائل – إلا لأن زيد كان أحفظ للقرآن من عبد الله، إذ وعاه كلّه ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيّ، والذي حفظه عنه عبد الله في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم نيّف وسبعون سورة، ثم تعلّم الباقي بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيّ أولى بجمع المصحف وأحق بالإيثار والاختيار. ولا ينبغي أن يظن جاهل أن في هذا طعناً على عبد الله بن مسعود، لأن زيداً إذا كان أحفظ للقرآن منه، فليس ذلك موجباً لتقدّمه عليه، لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كان زيد أحفظ منهما للقرآن، وليس هو خيراً منهما، ولا مساوياً لهما في الفضائل والمناقب.
وأما بالنسبة للمنهج الذي اتبعته اللجنة فيمكن تلخيصه على النحو التالي (باختصار عن "الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم" للأستاذ لبيب السعيد ص71 وما بعدها).
1 - الاعتماد على عمل اللجنة الأولى التي تولّت الجمع على عهد أبي بكر، أي على ربعة حفصة والتي هي مستنده إلى الأصل المكتوب بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم.
2 - أن يتعاهد اللجنة خليفة المسلمين نفسه.
3 - أن يأتي كل من عنده شيء من القرآن سمعه من الرسول صلّى الله عليه وسلّم بما عنده، وأن يشترك الجميع في علم ما جمع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا يشك في أنه جمع عن ملأ منهم.
4 - إذا اختلفوا في أية آية، قالوا: هذه أقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلاناً، فيرسل إليه، وهو على رأس ثلاث من المدينة، فيقال له: كيف أقرأك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آية كذا وكذا؟ فيقول: كذا وكذا... فيكتبونها، وقد تركوا لذلك مكاناً.
5 - يقتصر – عند الاختلاف – على لغة قريش.
6 - والمقصود من الجمع على لغة واحدة: الجمع على القراءة المتواترة المعلوم عند الجميع ثبوتها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإن اختلفت وجوهها، حتى لا تكون فرقة واختلاف، فإن ما يعلم أنّه قراءة ثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يختلفون فيها، ولا ينكر أحد منهم ما يقرأه الآخر.
7 - وعند كتابة لفظ تواتر – عن النبي صلّى الله عليه وسلّم – النطق به، على أكثر من وجه، تُبقي اللجنة هذا اللفظ خالياً من أية علامة تقصر النطق به على وجه واحد، لتكون دلالة اللفظ الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسوغين شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المفهومين.
8 - وخشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد، يمنع عن كتابة ما يأتي، فضلاً عن قراءته وسماعه:
( أ ) ما نسخت تلاوته.
( ب ) وما لم يكن في العرضة الأخيرة.
( ج ) وما لم يثبت من القراءات، وما كانت روايته آحاداً.
( د ) وما لم تعلم قرآنيته، أو ما ليس بقرآن، كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة، شرحاً لمعنى أو بياناً لناسخ أو منسوخ أو نحو ذلك.
9 - فيما خلا ما يختلف فيه أعضاء اللجنة، وما تصدر تعليمات الخليفة المعبّرة عن رأي الصحابة صريحة الاقتصار فيه على لغة قريش، يشتمل الجمع على الأحرف التي نزل عليها القرآن وذلك على النحو التالي:
( 1 ) الكلمات التي اشتملت على أكثر من قراءة تجعل خالية من أية علامات ضابطة تحدد طريقة واحدة للنطق بها، وبذلك تكون هذه الكلمات محتملة لما اشتملت عليه من القراءات، وتكتب برسم واحد في جميع المصاحف.
( 2 ) الكلمات التي تضمنت قراءتين أو أكثر، والتي لم تنسخ في العرضة الأخيرة، والتي لا يجعلها تجريدها من العلامات الضابطة محتملة لما ورد فيها من القراءات لا تكتب برسم واحد في جميع المصاحف، بل ترسم في بعض المصاحف برسم يدلّ على قراءة، وفي بعضها برسم آخر يدلّ على القراءة الأخرى.
10 - في شأن ترتيب آيات كل سورة يلتزم ما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد اتّبعه في العرضة الأخيرة، في السنة التي توفي فيها، ويعتبر هذا الترتيب توقيفاً من الله.
وكذلك تلتزم اللجنة في ترتيب السور ما كان في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وما لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أفصح بأمر سورة براءة، ولم تكن مبدوءة بالبسملة، وهي علامة بدء كل سورة، فإن هذه السورة تضاف إلى الأنفال اجتهاداً من الخليفة.
11 - بعد الفراغ من كتابة المصحف الإمام، وقبل حمل الناس على كتابة المصحف على نمطه، يراجعه زيد بن ثابت رضي الله عنه ثلاث مرات، ثم يراجعه خليفة المسلمين بنفسه، أماناً من النسيان والخطأ.
وقد حدث بعد المراجعة الأولى من زيد رضي الله عنه أنه لم يجد فيه آية (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) قال زيد رضي الله عنه: فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها عند خزيمة بن ثابت، فكتبتها).
وبعد المراجعة الثانية، لم يجد زيد رضي الله عنه هاتين الآيتين: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم" إلى آخر السورة، قال زيد أيضاً: فاستعرضت المهاجرين، فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضاً، فأثبتها في آخر براءة.
أما المراجعة الثالثة فلم تكشف عن شيء.(11/88)
.
وأيضاً فكان ابن مسعود أنكر على الوليد بن عقبة لما شرب الخمر(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: هذا غير صحيح، ولم تذكر كتب التاريخ هذا، بل وقعت مشادة كلامية بين ابن مسعود – رضي الله عنه – والوليد بن عقبة إثر افتراء جندب، ورهط من الموتورين أمثاله الذين نال أبنائهم القصاص العادل لاقترافهم جريمة القتل لابن الحيسمان الخزاعي.
ذكر الطبري (4/274)، والمالقي في "التمهيد" ص53: عن الغصن بن القاسم، عن عمر بن عبد الله، قال: جاء جندب ورهط معه إلى ابن مسعود، فقالوا: الوليد يعتكف على الخمر، وأذاعوا ذلك حتى طرح على ألسن الناس، فقال ابن مسعود: من استترعنا بشيء لم نتتبع عورته، ولم نهتك ستره، فأرسل (أي الوليد بن عقبة) إيى ابن مسعود فأتاه فعاتبه في ذلك، وقال أيرضى من مثلك بأن يجيب قوماً موتورين بما أجبت عليّ، أي شيء أستتر به؟ إنما يقال هذا للمريب، فتلاحيا وافترقا على تغضب لم يكن بينهما أكثر من ذلك.
ومما يدل على عمق أواصر المحبة والتقدير بين ابن مسعود – رضي الله عنه – والوليد بن عقبة – رحمه الله تعالى -، أن الثاني كان يستشير الأول في كثير من الأمور لا سيما التي تحتاج إلى سعة فقه وتفكير مثل حادثة الساحر الذي كان بالكوفة، وذلك أن بعض الناس أتوا إلى الوليد وقالوا له: إنَّ بالكوفة رجلاً يمارس السحر، فما كان من الوليد إلا أن طلب الإتيان به، فلما حضر بين يديه، أرسل إلى ابن مسعود – رضي الله عنه – يسأله عن حَدِّه.
وما كان لابن مسعود رضي الله عنه أن يفتي بأمر حتى يقفَ على حقيقته، لا سيما إذا كانت تلك الفتوى متعلقة بالحدود.
فقال له الوليد: زعم هؤلاء النفر – الذين جاءوا بالساحر – أنه ساحر.
قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: وما يدريكم أنه ساحر؟
قالوا: يزعم ذاك. فقال ابن مسعود – رضي الله عنه – للرجل: أساحر أنت؟ قال: نعم، وثار إلى حمار، فجعل يركبه من قِبَلِ ذنبه، ويريهم أنه يخرج من فمه وأسته!!
وبعد هذه المشاهدة قال ابن مسعود – رضي الله عنه – للوليد: فاقتله. فانطلق الوليد، فنادوا في المسجد أن رجلاً يلعب بالسحر عند الوليد، ولا يقصدون بذلك مسامرة ومجالسة الوليد لذلك الساحر، بل يقصدون أن الحكم قد صدر ضد ذلك الرجل بالقتل لفتوى ابن مسعود – رضي الله عنه -، وانتهز جندب هذا الأمر وأظهر غيرةً متناهية في تطبيق الحدود، لا لاستحقاق ذلك الرجل، وإنما لظنه السيئ، وحرصه الشديد لاقتناص أدنى فرصة للانتقام من الوليد – رحمه الله تعالى -.
فانطلق جندب وهو يصيح: أين هو؟ أين هو؟ حتى أريه، ثم ضرب ذلك الرجل ضرباً أوجعه، فما كان من ابن مسعود رضي الله عنه، والوليد بن عقبة إلا أن اجتمعا على حبس جندب.
ثم كتب الوليد إلى عثمان رضي الله عنه، فأجابه أن استحلفوه بالله ما علم برأيكم فيه. وإنه لصادق بقوله فيما ظنّ من تعطيل حده. وعزّروه، وخلّوا سبيله. وتقدم إلى الناس في ألا يعملوا بالظنون، وألا يقيموا الحدود دون السلطان، فإنا نقيد المخطئ، ونؤدب المصيب.
ففعل الوليد ما أمره عثمان – رضي الله عنه -، وعاقب جندباً جزاء فعلته وتطاوله، واستهتاره في قضايا الحدود، وذلك لو أن كل إنسان أقام الحدود بنفسه – لانتشرت الفوضى في المجتمع، وإن إقامة الحدود فقط لإمام المسلمين أو من ينوب عنه.
وبعد التعزير ثار وغضب جندب وأصحابه، فخرجوا إلى المدينة ومن أعضاء ذلك الوفد: أبي خشة الغفاري، وجثامة بن الصعب بن جثامة ومعهم جندب، وكان سبب خروجهم إلى المدينة – عاصمة الخلافة – الطلب من أمير المؤمنين عثمان – رضي الله عنه – أن يقيل الوليد من إمارة الكوفة، وقد أدرك عثمان – رضي الله عنه – سبب طلبهم في ذلك الاستعفاء، فما كان – رضي الله عنه – إلا أن قال لهم: تعملون بالظنون، وتخطئون في الإسلام، وتخرجون بغير إذن، وارجعوا.
وبعد رجوعهم إلى الكوفة اجتمع إليهم كل موتور وكل حاقد، وبعد ذلك حاكوا قضية شرب الوليد رحمه الله تعالى للخمر، وقد سبق في هذا الجزء بيان المؤامرة، وتم لهم ما أرادوا من عزل الوليد (انظر الطبري ج4 ص274-275، التمهيد والبيان 53-54).
ولكن في عهد الوالي الجديد على الكوفة "سعيد بن العصا رضي الله عنه"، حاول الموتورون من أتباع جندب، والأشتر، وعمير بن ضابئ، وصعصعة بن صوحان، وابن الكواء، أن يثيروا المتاعب من جديد، لكن سعيد رضي الله عنه قضى على تلك المتاعب بالحلم والصفح.
لكن أنّى لهؤلاء أن يستكينوا وهم يريدون إشعال الفتنة والنيل من الخليفة وواليه، وكان من أمر أولئك أن ضربوا صاحب الشرطة في الكوفة عبد الرحمن الأسدي، وعبد الرحمن بن خنيس، ولم يكن لذلك الضرب من سبب، سوى مخالفة السدي وابن خنيس للموتورين في بعض القضايا المطروحة للمناقشة في ذلك السمر في سكن ابن العاص رضي الله عنه.
وبعد ضربهما قامت القبائل، وبنو أسد بمحاصرة قصر الوالي من أجل تسليم الأشتر وصحبه للاقتصاص منهم على يد الوالي، وكان الموتورون قد احتموا بابن العاص رضي الله عنه لحمايتهم من تلك الغضبة، وحاول سعيد – رضي الله عنه – أن يهدّئ الوضع، فقال: أيها الناس، قوم تنازعوا وتهاووا، وقد رزق الله العافية.
وقابل المتورون صنيع سعيد بهم بالإساءة إليه وإلى خليفة المسلمين عثمان – رضي الله عنه -، فإنهم قعدوا في بيوتهم، ونشروا الأكاذيب، وتطاولوا على سعيد، وعثمان رضي الله عنهما.
ولم يأبه سعيد رضي الله عنه بتلك الأراجيف ولكن أشراف الكوفة ووجهائها ضاقوا بهذا الأمر ذرعاً، واستأذنوا سعيداً – رضي الله عنه – بالكتابة إلى أمير المؤمنين عثمان – رضي الله عنه – بإخراجهم من الكوفة وجاء الجواب من عثمان رضي الله عنه: إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية.
فأخرجوهم، فذلّوا وانقادوا حتى أتوه – وهو بضعة عشر – فكتبوا بذلك إلى عثمان – رضي الله عنه – وكتب عثمان إلى معاوية رضي الله عنهما: إنّ أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرا خلقوا، فارعهم وقم عليهم، فإن آنست منهم فاقبل منهم، وإن أعيوك فارددهم عليهم.
وحلّ وفد الفتنة على معاوية – رضي الله عنه – وأنزلهم كنيسة مريم، وعمل بما أمره أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه من الإحسان إليهم ورعاية مصالحهم، فكان رضي الله عنه ملازماً لهم فيتعشى معهم، وحاول رضي الله عنه بكل ما أوتي من العرب لكم أسنان وألسنه، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً وغلبتم الأمم وحويتم مراتبهم ومواشيهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً، وإن قريشاً لو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم، إن أئمتكم لكم إلى اليوم جُنّة فلا تشذّوا عن جُنتكم، وإن أئمتكم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم، ثم لا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاء لهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد موتكم.
فقال رجل من القوم: أما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجُنّة فإنَّ الجُنَّة إذا اختُرِقَتْ خلصَ إلينا.
فقال معاوية رضي الله عنه: عرفتكم الآن، علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم، لا أرى ل عقلاً، أعظم عليك أمر الإسلام، وأذكرك به، وتذكرني الجاهلية، وقد وعظتك. وتزعم لما يجنّك أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجنّة، أخز الله أقواماً أعظموا أمركم، ورفعوا إلى خليفتكم، افقهوا – ولا أظنكم تفقهون – أن قريشاً لم تعزّ في جاهلية ولا إسلام إلا بالله عز وجل، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدّهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحساباً، وأمحضهم أنساباً، وأعظمهم أخطاراً، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضاً إلا بالله الذي لا يستذل من أعزّ، ولا يوضع من رفع، فبوأهم حرماً آمناً يتخطف الناس من حولهم، هل تعرفون عرباً أو عجماً أو سوداً أو حمراً إلا قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة، إلا ما كان من قريش، فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلا عل الله خدّه الأسفل، حتى أراد الله أن يتنقّذ من أكرم واتّبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحاباً فكان خيارهم قريشاً، ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم بالله، افتراهُ لا يحوطهم وهم على دينه وقد حاطهم في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم، أفّ: لك ولأصحابك، ولو أن متكلماً غيرك تكلم، ولكنك ابتدأت.
فأما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر قرى عربية، أنتنها نبتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشرّ، وألامها جيراناً، لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سبّ فيها، وكانت عليه هجنة، ثم كانوا أقبح العرب ألقاباً، وألامه أصهاراً، نزّاع الأمم، وأنتم جيران الخطّ وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونكبتك دعوته، وأنت نزيع شطير في عمان، لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنت شرّ قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام، وخلطك بالناس، وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين الله عوجاً، وتنزع إلى اللآمة والذلّة. ولا يضع ذلك قريشاً، ولن يضرّهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إن الشيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشرّ من بين أمتكم، فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم. لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء قضاهُ الله، ولا أمراً أراده الله، ولا تدركون بالشرّ أمراً أبداً إلا فتح الله عليكم شراً منه وأخزى.
ولقد حاول معاوية رضي الله عنه أن يثنيهم عن الفتنة وبيّن لهم مغبة ذلك ولكنهم لم ينصاعوا إلى نصائحه، وخرجوا إلى حمص حيث كان الوالي هناك عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وذلك بعد أن كتب معاوية إلى عثمان – رضي الله عنهما - بشأن تلك الشرذمة.
وللاستزادة حول هذا الموضوع انظر: تاريخ الطبري ج4 ص317-326، التمهيد والبيان 68-72 .(11/89)
، وقد قدم ابن مسعود إلى المدينة، وعرض عليه عثمان النكاح(1).
وهؤلاء المبتدعة غرضهم التكفير أو التفسيق للخلفاء الثلاثة بأشياء لا يُفسَّق بها واحد من الولاة، فكيف يفسَّق بها أولئك؟ ومعلوم أن مجرد قول الخصم في خصمه لا يوجب القدح في واحد منهما، وكذلك كلام أحد المتشاجِرَيْن في الآخر.
ثم يُقال: بتقدير أن يكون ابن مسعود طَعَن على عثمان رضي الله عنهما فليس جعل ذلك قدحاً في عثمان بأولى من جعله قدحاً في ابن مسعود.
وإذا كان كل واحد منهما مجتهداً فيما قاله أثابه الله على حسناته وغفر له خطأه، وإن كان صدر من أحدهما ذنب، فقد علمنا أن كلاً منهما وليٌّ لله، وأنه من أهل الجنة، وأنه لا يدخل النار، فذنب كل واحد منهما لا يعذّبه الله عليه في الآخرة.
وعثمان أفضل من كل من تكلَّم فيه.
هو أفضل من ابن مسعود، وعمَّار، وأبي ذر، ومن غيرهم من وجوه كثيرة، كما ثبت ذلك بالدلائل الكثيرة.
فليس جعل كلام المفضول قادحاً في الفاضل بأولى من العكس، بل إن أمكن الكلام بينهما بعلمٍ وعدل، وإلا تكلم بما يُعلم من فضلهما ودينهما، وكان من شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله.
ولهذا أوصوا بالإمساك عما شَجَرَ بينهم، لأنا نُسأل عن ذلك.
كما قال عمر بن عبد العزيز: "تلك دماء طهَّر الله منها يدي، فلا أحب أن أخضّب بها لساني".
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: روى البخاري (فتح الباري ج9 ص106): عن علقمة قال: كنت مع عبد الله، فلقيه عثمان بمنى، فقال: يا أبا عبد الرحمن إن لي إليك حاجة فخليا، فقال عثمان: هل لك يا أبا عبد الرحمن في أن نزوجك بكراً تُذكرك ما كنت تعهد؟ فانتهيت إليه وهو يقول: أما لئن قلت ذلك لقد قال لنا النبي صلّى الله عليه وسلّم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".(11/90)
وقال آخر: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة: 134].
لكن إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل، فلابد من الذّبّ عنهم، وذكر ما يبطل حجته بعلمٍ وعدل.
وكذلك ما نقل من تكلّم عمّار في عثمان، وقول الحسن فيه، ونقل عنه أنه قال: "لقد كَفَر عثمان كفرة صلعاء" وأن الحسن بن عليّ أنكر ذلك عليه، وكذلك عليّ، وقال له: "يا عمار أتكفر بربّ آمن به عثمان؟".
وقد تبيّن أن الرجل المؤمن الذي هو ولي لله قد يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو وليّ لله، ويكون مخطئاً في هذا الاعتقاد، ولا يقدح هذا في إيمان واحدٍ منهما وولايته. كما ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم: "إنك منافق تجادل عن المنافقين"، وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة: "دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق"، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم“.
فعمر أفضل من عمّار، وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة بدرجات كثيرةٍ.
وحجة عمر فيما قال لحاطب أظهر من حجة عمّار.(11/91)
ومع هذا فكلاهما من أهل الجنة، فكيف لا يكون عثمان وعمّار من أهل الجنة، وإن قال أحدهما للآخر ما قال؟! مع أن طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمّار قال ذلك(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: إن عثمان رضي الله عنه لم تغب عنه مكانة عمار رضي الله عنه وكذلك فضله وسابقته في الإسلام، وكان رضي الله عنه من أحرص الناس على أن لا يجرح شعور أي صحابي، ولكن إذا كانت المسألة تتعلق بحد أو تعزير فإنه لا تأخذه في ذلك لومة لائم، وقد نسج القصاصون والإخباريون حول العلاقة التي كانت بين عثمان وعمار رضي الله عنهما أكاذيباً فاقت الخيال، وصوروا الصحابيين رضي الله عنهما بمظهر العداوة والبغضاء، مع أن الحقيقة خلاف ذلك، ولقد كانت المودة والمحبة سائدة بينهما رضي الله عنهما. ولكي تتضح الصورة الحقيقية حول الإفك المتداول في كتب القصاصين والإخباريين من أن عثمان ضرب عماراً رضي الله عنهما، نذكر بعض أقوال أهل العلم في ذلك.
يقول ابن أبي بكر المالقي في المهيد ص190-191: فإن قيل: بأن عثمان (رضي الله عنه) ضرب عماراً، قيل: هذا لا يثبت، ولو ثبت فإن للإمام أن يؤدب بعض رعيته بما يراه وإن كان خطأ. ألا ترى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقصّ من نفسه وأقاد، وكذلك أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) أدّبا رعيتهما باللطم والدّرّة وأقادا من أنفسهما. وذلك لما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطن رجل بخشبة فجرحه. فرفع قميصه وقال: تعال فاقتصّ، فعفا عنه. وجاء رجل إلى أبي بكر (رضي الله عنه) يستحمله فلطمه، فأنكر ذلك الناس، فقال أبو بكر (رضي الله عنه): إنه استحملني فحملته، فبلغني أنه باعه، ثم قال له: دونك فاستقد. فعفا عنه. وضرب عمر (رضي الله عنه) جارية لسعد بالدرة فساء ذلك سعداً، فناوله عمر (رضي الله عنه) الدرة، وقال له: اقتصّ، فعفا. فإن قيل: عثمان (رضي الله عنه) لم يقد من نفسه، قيل له: كيف ذلك؟ وقد بذلك من نفسه ما لم يبذله أحد خصوصاً يوم الدار، فإنه قال: يا قوم، إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في قيد فضعوهما. وقد ذكرنا أن عماراً تقاذف هو ورجل فجلدهما عثمان (رضي الله عنه) حدّ القذف.
ولم أجد من أدلى بدلوه في هذه القضية من العاصرين خيراً من فضيلة العلامة محمد الصادق عرجون – رحمه الله تعالى – وجزاه الله تعالى عن صحابة النبي صلّى الله عليه وسلّم خير الجزاء وجعل ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة، فإنه رحمه الله تعالى فندّ كثيراً من الشبهات التي أثيرت حول تلك القضية، ولنفاسة ما خطّته أنامله أنقل للقراء الكرام ما هو متصل بموضوعنا، فيقول رحمه الله تعالى في كتابه "الخليفة المفترى عليه" ص138 وما بعدها:
وفي هذه الهنات التي أحصوها على عثمان قصة تتلاقى مع قصة أبي ذر في تقدير بطل روايتها، وإن اختلفت عنها في موضعها، وتلك قصة عقد المنحرفون عروتها بناصية رجل من السابقين الأولين، وذلك هو عمار بن ياسر رضي الله عنه.
روى أبو بكر بن أبي شيبة عن الأعمش قال: كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه في صحيفة، فقالوا: من يذهب بها إليه؟ قال عمار: أنا أذهب بها إليه، فلما قرأها عثمان قال: أرغم الله أنفك، قال عمار: وأنف أبي بكر وعمر، فقام عثمان إلى عمار فوطئه حتى غشيَ عليه، ثم ندم عثمان، وبعث إليه طلحة والزبير يقولون له: اختر إحدى ثلاث: إما أن تعفو وإما أن تأخذ الأرش، وإما أن تقتص، فقال عمار: والله ما قبلت واحدة منها حتى ألقى الله، قال ابن أبي شيبة: فذكرت هذا الحديث لحسن بن صالح فقال: ما كان على عثمان أكثر مما صنع.
هذه الرواية أمثل ما تعلق به المنحرفون في قصة عمار، وهي تدل على أن عماراً حمل إلى عثمان رسالة تعيبه، وتحصى عليه أموراً نقمها الناس منه، ولا شك أن ذلك مما يسوء عثمان ويغضبه، وعثمان إنسان يغضب مما يسوءه كما يغضب الناس، فنال من عمار – كما زعموا – بلسانه ويده، ثم ندم فبعث إلى عمار رجلين من خيرة أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم وقادة المسلمين ليسترضيه بكل ما يحتمله مقام الاسترضاء، فأبى عمار وأصر على أن يظل مغاضباً لعثمان حتى يلقى الله تعالى.
فماذا كان على عثمان في حق عمار رضي الله عنهما بعد ذلك؟ لم يكن عليه – كما قال الحسن بن صالح – أكثر مما صنع.
وهناك رواية أخرى كان عليها معول المنحرفين في قصة عمار تقول: اجتمع من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسون رجلاً من المهاجرين والأنصار، فكتبوا أحداث عثمان وما نقموا عليه في كتاب، وقالوا لعمار: أوصل هذا الكتاب إلى عثمان ليقرأ، فلعله أن يرجع عن هذا الذي ننكره. وخوفوه أنه إن لم يرجع خلعوه واستبدلوا به غيره، فلما قرأ عثمان الكتاب طرحه، فقال عمار: لا ترم الكتاب وانظر فيه، فإنه كتاب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإني لك والله ناصح، وخائف عليك، فقال له عثمان: كذبت يا ابن سمية، وأمر غلمانه فضربوه حتى وقع لجنبه وأغمى عليه، ثم قام عثمان فوطئ بطنه ومذاكيره حتى أصابه الفتق وأغمى عليه أربع صلوات، قضاها بعد الإفاقة، واتخذ لنفسه تباناً (سراويل صغيره تستر العورة) تحت ثيابه لأجل الفتق، فغضب لذلك بنو مخزوم، وقالوا: والله لئن مات عمار من هذا لنقتلن من بني أمية شيخاً عظيماً، ويعنون عثمان.
أشرنا فيما سبق أن تدوين التاريخ الإسلامي بأسلوب القصص دون نقد وتمحيص يرد الأشباه إلى نظائرها والأمور إلى مصادرها – كان بلية عظيمة على الحقائق في سيرة رجالات الإسلام خصوصاً في مراحل الاضطرابات والانقلابات السياسية، وقد كان لسيرة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه من ذلك الحظ الأوفر، ورواية قصة عمار على هذا النهج الملتوي بعض ما نال السرة النيرة من تحريف المنحرفين وتشويه الثائرين. وأخلاق عثمان في سنه وإيمانه وحيائه ولين عريكته، ودماثة طبعه وسابقته وجليل مكانه في الإسلام – أجلّ من أن تنزل به إلى هذا الدرك من التصرف مع رجل من أجلاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، يعرف له عثمان سابقته وفضله مهما كان بينهما من اختلاف في الرأي.
أفيرضى عثمان لنفسه، وهو الذي أبى على الناس أن يقاتلوا دونه، ورضي بالموت قتلاً صابراً محتسباً اتقاء الفتنة العامة، أن يصنع بعمار بن ياسر – وهو أعرف الناس بمكانه في الإسلام – ما زعمته هذه الرواية الباطلة؟ يأمر غلمانه بأن يضربوه حتى يغمى عليه، ثم يقوم عثمان في هذه الحال فيطأ بطنه ويصنع به ما تحكيه هذه الرواية السقيمة الفاسدة؟
أو ترضى أخلاق عثمان وحياؤه أن يعير عماراً بأنه ابن سمية، وهو الذي يعرف شرف انتساب عمار إلى سمية أول شهيدة في الإسلام؟ وأي شرف أشرف لعمار من أنه ابن سمية، وهي من عرف الناس قوة إيمانها ويقينها وشرفها في الإسلام ومكانتها في الإسلام يعنون بنقد هذه الروايات وتبيين زيفها، بتطبيقها على ما عرف من خصائص أولئك الإعلام، إذن كان لهم أصدق ميزان في النقد وأبرعه في الكشف عن دخائل الوضاعين المفترين.
وقصة عمار في حقيقتها كما يحدثنا بها سيدنا عثمان نفسه في الرواية الصحيحة أنه قال: جاء عمار وسعد إلى المسجد، وأرسلا إليّ أن ائتنا فإنّا نريد أن نذكرك أشياء فعلتها، فأرسلت إليهما: إني عنكما اليوم مشغول فانصرفا وموعدكما يوم كذا، فانصرف سعد وأبى عمار أن ينصرف، فأعدت إليه رسولي، فأبى، ثم أعدته إليه فأبى، فتناوله رسولي بغير أمري، والله ما أمرته ولا رضيت بضربه، وهذه يدي لعمار فليقتص مني إن شاء.
وفي هذه الرواية الصحيحة أمور تكشف عن وجه الحق في موقف عثمان رضي الله عنه من قصة عمار:
الأمر الأول: أن عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص – بما لهما من المكانة وعليهما من واجب النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم – وقد وصل إلى علمهما ما تهامس به الناس في مجالسهم – أرسلا إلى الخليفة أن يوافيهما بالمسجد ليذاكراه في أشياء تحدث بها الناس في غير رضاء عنها واطمئنان إليها، وقد أرادا من مذاكرة عثمان في هذه الأمور تعرف وجه المصلحة فيها، وتبين قصد الخليفة منها، وإبلاغه صدى ما يتردد على ألسنة الناس حتى يتدارك الأمر قبل أن يضطرب حبل الأمن ويستفحل الخطب، وهذا واجب كل مسلم، مؤكد في حق العلماء والقادة وذوي الرأي.
الأمر الثاني: أن الخليفة اعتذر إلى سعد وعمار من عدم استطاعته مقابلتهما في يومها، وحدّد لهما موعداً يوماً عيّنه لهما، وذلك أقل ما يتصور في حق الأفراد من عامة الناس، بله الخليفة الأعظم، فانصرف سعد، وكان انصرافه مفهوماً ومعقولاً، وأبى عمار، وكان إباؤه مخالفاً لصاحبه محل ريبة وحذر، فأعاد أمير المؤمنين إليه الرسول يؤكد إليه الاعتذار مرة أخرى وهو يأبى إلا أن يأتيه أمير المؤمنين إلى المسجد في يومه وساعته، وهنا قد يتدخل الخيال، أو يجب أن يتدخل، ليفصل ما أجملته موقف عمار وإصراره على أن يجيء له عثمان، على رغم تكرار الاعتذار مع تحديد موعد آخر للملاقاة. ويستطاع في يسر أن يتصور ما في الإصرار الذي انفرد به عمار عن صاحبه من الإحراج، ولا يخلو موقف كهذا من مقاولة ومجادلة بين عمار ورسول عثمان، قد تعنف وتشتد وقد يلقى فيها رسول عثمان من عمار رضي الله عنه عنيفاً قد يتعداه إلى دائرة الخلافة وأعمالها ونظام الحكم في الأمة وسيرة الولاة والعمال والأمراء مما يتصل بالأمور التي جاء عمار وصاحبه لمذاكرة الخليفة فيها، وحينئذ يسهل أن يتصور استفزاز رسول عثمان بما عسى أن يكون قد لحقه من أذى في نفسه أو حمية لأمير المؤمنين، فتناول عماراً بغير إذن عثمان ولا رضاه. ونحن في جهالة من هذا الرسول، من يكون لنحكم على فعله حكماً متصلاً بالخليفة يحمله ثقله وتبعاته؟ أما أن هذا الذي وقع من الرسول منكر – إن كان قد وقع – فهو ما لا يستطيع مسلم إنكاره، ولكن ما ذنب عثمان وما حيلته؟.
الأمر الثالث: إن عثمان رضي الله عنه خلف حين عوتب أنه ما أمر رسوله يتناول عمار، وإنه ما رضي ذلك بل كرهه إذ بلغه، وليس في شرائع الله تعالى طريق لتبرئة عثمان من تبعة فعل رسوله غير ذلك لو أنصف التاريخ واستقامة موازين العقول.
الأمر الرابع: إن أمير المؤمنين لم يقف من عمار عند هذا الحد، بل أسرع إليه بأبلغ ما يقع به التراضي في أشد الخصومات، فقال على سمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وهذه يدي لعمار فليقتص مني إن شاء. وفي ذلك تقدير من عثمان لعمار، لأنه كافأه بنفسه إذ جعل القصاص منه ولم ويجعله من رسوله إلى عمار، وبتدبر هذه الأمور ندرك مدى ما تصنع الروايات الزائفة في تشويه التاريخ وندرك حقيقة موقف عثمان رضي الله عنه فيما أخذوه عليه.(11/92)
.
لأمير المؤمنين تأديب رعيته
وأما قول: "إنه لما حكم ضرب ابن مسعود حتى مات".
فهذا كذب باتفاق أهل العلم، فإنه لَمّا وَلى أقرّ ابن مسعود على ما كان عليه من الكوفة، إلى أن جرى من ابن مسعود ما جرى، وما مات ابن مسعود من ضرب عثمان أصلاً.
وفي الجملة فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن مسعود أو عمَّاراً، فهذا لا يقدح في أحد منهم؛ فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة، وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين. وقد قدَّمنا أن وليَّ الله قد يصدر منه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية، فكيف بالتعزيز؟
وقد ضرب عمر بن الخطاب أُبَيْ بن كعب بالدِّرَّة لما رأى الناس يمشون خلفه. فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
فإن كان عثمان أدّب هؤلاء، فإما أن يكون عثمان مصيباً في تعزيرهم لاستحقاقهم ذلك، أ, يكون ذلك الذي عُزِّروا عليه تابوا منه، أو كفِّر عنهم بالتعزير وغيره من المصائب، أو بحسناتهم العظيمة، أو بغير ذلك.
وإما أن يقال: كانوا مظلومين مطلقاً، فالقول في عثمان كالقول فيهم وزيادة، فإنه أفضل منهم، وأحق بالمغفرة والرحمة.
وقد يكون الإمام مجتهداً في العقوبة مثاباً عليها، وأولئك مجتهدون فيما فعلوه لا يأثمون به، بل يثابون عليه لاجتهادهم. مثل شهادة أبي بكرة على المغيرة، فإن أبا بكرة رجل صالح من خيار المسلمين، وقد كان محتسباً في شهادته معتقداً أنه يُثاب على ذلك، وعمر أيضاً محتسب في إقامة الحدّ عليه مثاب على ذلك.
فلا يمتنع أن يكون ما جرى من عثمان في تأديب ابن مسعود وعمَّار من هذا الباب.
وإذا كان المقتتلون قد يكون كل منهم مجتهداً مغفوراً له خطؤه فالمختصمون أولى بذلك.
وإما أن يقال: كان مجتهداً وكانوا مجتهدين. فمثل هذا يقع كثيراً: يفعل الرجل شيئاً باجتهاده، ويرى ولي الأمر أن مصلحة المسلمين لا تتم إلا بعقوبته، كما أنها لا تتم إلا بعقوبة المتعدّي، وإن تاب بعد رفعه إلى الإمام.(11/93)
فالزاني والسارق والشارب إذا تابوا بعد الرفع إلى الإمام وثبوت الحد عليهم، لم يسقط الحد عنهم بالتوبة، بل يعاقبون مع كونهم بالتوبة مستحقّين للجنة، ويكون الحد مما يثابون عليه ويؤجرون عليه، ويكفّر الله به ما يحتاج إلى التكفير.
ولو أن رجلاً قتل من اعتقده مستحقّاً لقتله قصاصاً، أو أخذ ما لا يعتقد أنه له في الباطن، ثم ادّعى أهل المقتول وأهل المال بحقهم عند ولي الأمر، حكم لهم به، وعاقب من امتنع من تسليم المحكوم به إليهم، وإن كان متأولاً فيما فعله، بل بريئاً في الباطن.
وأكثر الفقهاء يحدون من شرب النبيذ المتنازع فيه، وإن كان متأوّلاً. وكذلك يأمرون بقتال الباغي المتأوّل لدفع بغيه، وإن كانوا مع ذلك لا يفسِّقونه لتأويله.
وقد ثبت في الصحيح أن عمّار بن ياسر لما أرسله عليّ إلى الكوفة هو والحسن ليعينوا على عائشة، قال عمّار بن ياسر: إنّا لنعلم أنها زوجة نبيّكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها لينظر: إياه تطيعون أم إياها؟(1).
فقد شهد لها عمّار بأنها من أهل الجنة زوجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة، ومع هذا دعا الناس إلى دفعها بما يمكن من قتال وغيره.
فإذا كان عمّار يشهد لها بالجنة ويقاتلها، فكيف لا يشهد له عثمان بالجنة ويضربه؟
وغاية ما يُقال: إن ما وقع كان هذا وهذا وهذا مذنبين فيه. وقد قدّمنا القاعدة الكلية أن القوم مشهود لهم بالجنة وإن كان لهم ذنوب.
حبّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لعمار بن ياسر
وأما قوله: "وقال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”عمّار جلدة بين عَيْنَي، تقتله الفئة الباغية، لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة“.
__________
(1) الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن عمّار بن ياسر رضي الله عنه في: البخاري 5/29 (كتاب فضائل أصحاب النبي...، باب فضل عائشة ...)، 9/55-56 (كتاب الفتن؛ باب حدثنا عثمان بن الهيثم...)؛ المسند (ط. الحلبي) 4/265 .(11/94)
فيقال: الذي في الصحيح: ”تقتل عمَّار الفئة الباغية“. وطائفة من العلماء ضعفوا هذا الحديث، منهم الحسين الكرابيسي وغيره، ونقل ذلك عن أحمد أيضاً.
وأما قوله: "لا أنالهم الله شفاعتي" فكذب مزيد في الحديث، لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد معروف.
وكذلك قوله: "عمَّار جلدة بين عيني" لا يعرف له إسناد.
ولو قيل مثل ذلك، فقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: ”إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها“.
وفي الصحيح عنه أنه قال: ”لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها“.
وثبت عنه في الصحيح أنه كان يحب أسامة، ثم يقول: ”اللهم إني أحبه وأحب من يحبه“(1).
__________
(1) لم أجد الحديث بهذا اللفظ، ولكن جاءت أحاديث كثيرة عن حب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له. انظر: سنن الترمذي 5/342 (كتاب المناقب، باب مناقب أسامة)، مجمع الزوائد للهيثمي 9/286، فضائل الصحابة 2/384-386، ترتيب مسند أبي داود الطيالسي، تأليف أحمد عبد الرحمن البنا 2/140، ط المنيرية بالأزهرية، 1372، المسند (ط. الحلبي) 5/205، 210 وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأخذه والحسن ويقول: "اللهم إني أحبهما فأحبهما".(11/95)
ومع هذا لما قتل ذلك الرجل أنكر عليه إنكاراً شديداً، وقال: ”يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله“ قال: فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ"(1).
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: ”يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً“. الحديث.
وثبت عنه في عبد الله حمار أنه كان يضربه على شرب الخمر مرة بعد مرة، وأخبر عنه أنه يحب الله ورسوله.
وقال في خالد: ”سيف من سيوف الله“ ولَمّا فعل في بني جذيمة ما فعل قال: ”اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد“.
وثبت عنه أن قال لعليّ: ”أنت مني وأنا منك“.
ولما خطب بنت أبي جهل قال: ”إن بني المغيرة استأذنوني في أن يزوِّجوا ابنتهم عليّاً، وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلِّق ابنتي ويتزوج ابنتهم، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد“.
__________
(1) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 4/6-7 (كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب) وأوله: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أنزل الله عز وجل عليه: {وأنذر عشيرتك الأقربين} قال: "يا عشر قريش – أو كلمة نحوها – اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً... يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً... ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئتِ من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً: والحديث في: البخاري 6/112 (كتاب التفسير، سورة الشعراء، باب "وأنذر عشيرتك الأقربين" [سورة الشعراء: 214])، سنن النسائي 6/208 (كتاب الوصايا، باب إذا أوصى لعشيرته الأقربين)، سنن الدارمي 2/305 (كتاب الرقاق، باب وأنذر عشيرتك الأقربين).(11/96)
وفي حديث آخر أنه رأى أبا بكر يضرب عبده وهو مُحْرِم، فقال: ”انظروا ما يفعل بالمحرم“(1) ومثل هذا كثير.
فكون الرجل محبوباً لله ورسوله، لا يمنع أن يُؤَدَّب بأمر الله ورسوله، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”ما يصيب المؤمن من وَصَبٍ ولا نَصَب، ولا هَمٍّ ولا حزن، ولا غمّ ولا أذى، حتى الشوكة يشاكّها إلا كفَّر الله بها من خطاياه“ أخرجاه في الصحيحين.
__________
(1) الحديث عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها في: سنن أبي داود 2/223 (كتاب المناسك، باب المحرم يؤدِّب غلامه) ولفظه: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حُجَّاجاً... وكانت زِمَالَةُ أبي بكر وزمالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع غلام لأبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يَطْلُعَ عليه، فطلع وليس معه بعيره، قال: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة. قال: فقال أبو بكر: بعير واحد تضلُّه؟ قال: فطفق يضربه ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبتسم ويقول: "انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع". قال ابن أبي رزمة: فما يزيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن يقول "انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع" ويبتسم. والحديث في: سن ابن ماجه 2/978 (كتاب المناسك، باب التوفي في الإحرام) وذكر الحديث ابن الأثير في جامع الأصول 3/432، وقال المحقق رحمه الله: "قال المنذري: وأخرجه ابن ماجه، وفي إسناده محمد بن إسحاق".(11/97)
ولما نزل قوله تعالى: { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [النساء: 123]. قال أبو بكر: يا رسول الله قد جاءت قاصمة الظهر. فقال: ”ألست تحزن؟ ألست تنصب؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فهو مما تُجزون به“ رواه أحمد وغيره(1).
وفي الحديث: ”الحدود كفَّارات لأهلها“(2).
__________
(1) هذا حديث منقطع رواه أبو بكر بن أبي زهير الثقفي (من صغار التابعين) عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في: المسند (ط. المعارف) 1/181-182 الأرقام 68-71، وهو في: تفسير الطبري (ط. المعارف) 9/341-243 (وانظر تعليق الأستاذ محمود شاكر ص243)، تفسير ابن كثير 2/370 والحديث في المستدرك وفي سنن البيهقي وغير ذلك. قال أحمد شاكر رحمه الله: "اللأواء: الشدة وضيق المعيشة... وهو في المستدرك 3/74-75 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وهو عجب منهما فإن انقطاع سنده بيّن!".
(2) لم أجد حديثاً بهذا اللفظ ولكني وجدت أن الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" 6/265-266 قد خصص باباً بعنوان "باب هل تكفر الحدود الذنوب أم لا؟" أورد فيه حديثاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "ما أدرى الحدود كفَّارات أم لا؟" ثم قال: "رواه البزار بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح غير أحمد بن منصور الرمادي، وهو ثقة" ثم أورد أحاديث تفيد أن الحدود كفارات، منها: عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "أيما عبد أصاب شيئاً مما نهى الله عنه، ثم أقيم عليه حده كفّر عنه ذلك الذنب"، وفي رواية: "من أصاب ذنباً وأقيم عليه حد ذلك الذنب كفارته". ثم قال الهيثمي: "رواه الطبراين وأحمد بنحوه، وفيه راوٍ لم يسم، وهو ابن خزيمة، وبقية رجاله ثقات، ورواه موقوفاً. وذكر أحاديث أخر أكثرها ضعيف.(11/98)
وفي الصحيحين عن عبادة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا ولا تسرقوا، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفَّارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له“(1).
فإذا كانت المصائب السماوية التي تجري بغير فعل بشر مما يكفر الله بها الخطايا، فما يجري من أذى الخلق والمظالم بطريق الأولى، كما يصيب المجاهدين من أذى الكفار، وكما يصيب الأنبياء من أذى من يكذبهم، وكما يصيب المظلوم من أذى الظالم.
وإذا كان هذا مما يقع معصية لله ورسوله، فما يفعله ولي الأمر من إقامة حد وتعزير يكون تكفير الخطايا به أولى.
وكانوا في زمن عمر إذا شرب أحدهم الخمر جاء بنفسه إلى الأمير وقال: "طهّرني".
وقد جاء ماعز بن مالك والغامدية إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وطلبا منه التطهير.
وإذا كان كذلك، فكون الرجل وليّاً لله لا يمنع أن يحتاج إلى ما يكفر الله به سيئاته، من تأديب ولي الأمر الذي أمَّره الله عليه، وغير ذلك.
__________
(1) الحديث – مع اختلاف في اللفظ – عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه في: البخاري 1/8-9 (كتاب الإيمان، باب حدثنا أبو اليمان..)، 5/55 (كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة وبيعة العقبة) 8/159، 162 (كتاب الحدود، باب الحدود كفارة، باب توبة السارق)، مسلم 3/1333-1334 (كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها)، سنن النسائي 7/144 (كتاب البيعة، باب ثواب من وفى بما بايع عليه)، سنن الدارمي 2/220 (كتاب السير، باب في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم).(11/99)
وإذا قيل: هم مجتهدون معذورون فيما أدَّبهم عليه عثمان، فعثمان أولى أن يقال فيه: كان مجتهداً معذوراً فيما أدّبهم عليه، فإنه إمام مأمور بتقويم رعيته. وكان عثمان أبعد عن الهوى، وأولى بالعلم والعدل فيما أدّبهم عليه، رضي الله عنهم أجمعين.
ولو قدح رجل في عليّ بن أبي طالب بأنه قاتل معاوية وأصحابه وقاتل طلحة والزبير.
لقيل له: عليّ بن أبي طالب أفضل وأولى بالعلم والعدل من الذين قاتلوه، فلا يجوز أن يَجْعَلَ الذين قاتلوه هم العادلين، وهو ظالم لهم.
كذلك عثمان فيمن أقام عليه حدّاً أو تعزيراً هو أولى بالعلم والعدل منهم. وإذا وجب الذّبّ عن عليّ لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك فالذّبّ عن عثمان لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك أولى.
قصة نفي الحكم ليست في الصحاح وسندها ضعيف
وقوله: "وطرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة، ومعه ابنه مروان، فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر، فلما وَلِيَ عثمان آواه وردّه إلى المدينة، وجعل مروان كاتبه وصاحبه تدبيره. مع أن الله قال: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22].
والجواب: أن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح، وكانوا ألفَيْ رجل، ومروان ابنه كان صغيراً إذ ذاك، فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة، عمره حين الفتح سن التمييز: إما سبع سنين، أو أكثر بقليل، أو أقل بقليل، فلم يكن لمروان ذنب يطرد عليه على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. فإن كان قد طرده، فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة. وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه، وقالوا: هو ذهب باختياره(1).
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: انظر "الخليفة المفترى عليه" للعلامة محمد الصادق عرجون 114-116 .(11/100)
وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح، ولا لها إسناد يعرف به أمرها.
ومن الناس من يروي أنه حاكى النبي صلّى الله عليه وسلّم في مشيته، ومنهم من يقول غير ذلك، ويقولون: إنه نفاه إلى الطائف.
والطلقاء ليس فيهم من هاجر، بل قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية“(1).
ولما قدم صفوان بن أمية مهاجراً أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرجوع إلى مكة. ولَمّا أتاه العباس برجل ليبايعه على الهجرة وأقسم عليه، أخذ بيده وقال: إني أبررت قسم عمِّي، ولا هجرة بعد الفتح.
وكان العباس قد خرج من مكة إلى المدينة قبل وصول النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها عام الفتح، فلقيه في الطريق. فلم تكن الطلقاء تسكن المدينة. فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة.
وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم، وقالوا: هو ذهب باختياره.
__________
(1) الحديث عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم في: البخاري 4/15 (كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير)، مسلم 3/1487 (كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة...)، سنن الترمذي 3/74-75 (كتاب السير، باب ما جاء في الهجرة) وقال الترمذي: "وفي الباب عن أبي سعيد وعبد الله بن عمرو بن حُبشي"، المسند (ط. المعارف) 3/307-308، 4/127، 321.
والحديث في مواضع أخرى في البخاري والنسائي وابن ماجه والدارمي والمسند.(11/101)
والطرد هو النفي، والنفي قد جاءت به السنة في الزاني وفي المخنَّثين، وكانوا يعزرون بالنفي. وإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد عزَّر رجلاً بالنفي، لم يلزم أن يبقى منفياً طول الزمان، فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب، ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفياً دائماً، بل غاية النفي المقدر سنة، وهو نفي الزاني والمخنث حتى يتوب من التخنيث، فإن كان تعزير الحاكم لذنب يتوب منه، فإذا تاب سقطت العقوبة عنه، وإن كانت على ذنب ماضٍ فهو أمر اجتهادي لم يقدر فيه قدر، ولم يوقت فيه وقت.
وإذا كان كذلك، فالنفي كان في آخر الهجرة، فلم تطل مدته في زمن أبي بكر وعمر. فلما كان عثمان طالت مدته، وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن أبي سرح إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان كاتباً للوحي، وارتد عن الإسلام، وكان النيب صلّى الله عليه وسلّم قد أهدر دمه فيمن أهدر، ثم جاء به عثمان فقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم شفاعته فيه وبايعه، فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم؟!
وقد رووا أن عثمان سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يردَّه فأذن له في ذلك، ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد الثابت.
وأما قصة الحكم فعامة من ذكرها إنما ذكرها مرسلة، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه، وقل أن يسلم لهم نقلهم من الزيادة والنقصان، فلم يكن هنا نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان.(11/102)
والمعلوم من فضائل عثمان، ومحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم له، وثنائه عليه، وتخصيصه بابنتيه، وشهادته له بالجنة، وإرساله إلى مكة، ومبايعته له عنه لما أرسله إلى مكة، وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة، وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات وهو عنه راض، وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده، ولا يعرف كيف وقع، ويجعل لعثمان ذنب بأمرٍ لا يعرف حقيقته، بل مثل هذا مثل الذين يعارضون المحكم بالمتشابه، وهذا من فعل الذين في قلوبهم زيغ، الذين يبتغون الفتنة.
ولا ريب أن الرافضة من شرار الزائغين الذين يبتغون الفتنة الذين ذمهم الله ورسوله.
وبالجملة فنحن نعلم قطعاً أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يأمر بنفي أحدٍ دائماً ثم يردُّه عثمان معصيةً لله ورسوله، ولا ينكر ذلك عليه المسلمون. وكان عثمان رضي الله عنه أتقى لله من أن يُقْدِم على مثل هذا، بل هذا مما يدخله الاجتهاد، فلعل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يرداه لأنه لم يتبين لهما توبته، وتبين ذلك لعثمان. وغاية ما يقدر أن يكون هذا خطأ من الاجتهاد أو ذنباً، وقد تقدم الكلام على ذلك.
وأما استكتابه مروان، فمروان لم يكن له في ذلك ذنب، لأنه كان صغيراً لم يجر عليه القلم، ومات النبي صلّى الله عليه وسلّم ومروان لم يبلغ الحلم باتفاق أهل العلم، بل غايته أن يكون له عشر سنين أو قريب منها، وكان مسلماً باطناً وظاهراً، يقرأ القرآن ويفقه في الدين، ولم يكن قبل الفتنة معروفاً بشيء يعاب به، فلا ذنب لعثمان في استكتابه.
وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من مروان، ولم يكن مروان ممن يحاد الله ورسوله.
وأما أبوه الحكم فهو من الطلقاء، والطلقاء حسن إسلام أكثرهم وبعضهم فيه نظر. ومجرد ذنب يعزر عليه لا يوجب أن يكون منافقاً في الباطن.(11/103)
والمنافقون تجري عليهم في الظاهر أحكام الإسلام، ولم يكن أحد من الطلقاء بعد الفتح يظهر المحادة لله ورسوله، بل يرث ويورث، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، وتجرى عليه أحكام الإسلام التي تجرى على غيره.
وقد عرف نفاق جماعة من الأوس والخزرج كعبد الله بن أُبَيّ بن سلول وأمثاله، ومع هذا كان المؤمنون يتعصبون لهم أحياناً، كما تعصب سعد بن عبادة لابن أُبَيّ بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال لسعاد بن معاذ: ”والله لا تقتله ولا تقدر على قتله“.
وهذا وإن كان ذنباً من سعد لم يخرجه ذلك عن الإيمان، بل سعد من أهل الجنة، ومن السابقين الأولين من الأنصار. فكيف بعثمان إذا آوى رجلاً لا يعرف أنه منافق؟!
ولو كان منافقاً لم يكن الإحسان إليه موجباً للطعن في عثمان فإن الله تعالى يقول: { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الممتحنة: 8].
وقد ثبت في الصحيح أن أسماء بنت أبي بكر قالت: يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: ”نعم صِلي أمك“(1).
وقد أوصت صفية بنت حيي بن أخطب لقرابة لها من اليهود.
فإذا كان الرجل المؤمن قد يصل أقاربه الكفّار، ولا يخرجه ذلك عن الإيمان، فكيف إذا وصل أقاربه المسلمين، وغاية ما فيهم أن يتهموا بالنفاق؟!
__________
(1) الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما في: البخاري 3/164 (كتاب الهبة، باب الهدية للمشركين)، مسلم 2/696 (كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج...)، سنن أبي داود 2/170 (كتاب الزكاة، باب الصدقة على أهل الذمة)، المسند (ط. الحلبي) 6/344، 347 .(11/104)
وأم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب كان أبوها من رؤوس اليهود المحادين لله ورسوله، وكانت هي امرأة صالحة من أمهات المؤمنين المشهود لهم بالجنة، ولما ماتت أوصت لبعض أقاربها من اليهود(1)، وكان ذلك مما تُحمد عليه لا مما تذم عليه.
وهذا مما احتج به الفقهاء على جواز صلة المسلم لأهل الذمة بالصدقة عليهم والوصية لهم. فكيف بأمير المؤمنين إذا أحسن إلى عمّه المظهر للإسلام؟!
وهذا حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بأخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح، وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه من أهل الجنة لشهوده بدراً والحديبية، وقال لمن قال: "إنه منافق": ”ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم“.
وأين حاطب من عثمان؟ فلو قدر – والعياذ بالله – أن عثمان فعل مع أقاربه ما هو من هذا الجنس، لكان إحساننا القول فيه والشهادة له بالجنة أولى بذلك من حاطب بن أبي بلتعة.
السبب الحقيقي في اعتزال أبي ذر
__________
(1) في: سنن الدارمي 2/427 (كتاب الوصايا، باب الوصية لأهل الذمة): "حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر، أن صفية أوصت لنسيب لها يهودي".(11/105)
وأما قوله: "إنه نفي أبا ذر إلى الرَّبذة وضربه ضرباً وجيعاً، مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في حقه: ما أقلَّت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر. وقال: إن الله أوحى إليّ أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم. فقيل له: من هم يا رسول الله؟ قال: عليّ سيدهم، وسلمان، والمقداد، وأبو ذر"(1).
فالجواب: أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس(2)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: ذكر الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله تعالى في تعليقه على "منهاج السنة" ج6 ص276 حول هذه الرواية: "وإن الله أوحى إليّ... إلخ، فلم أجده". فالرواية بهذا اللفظ لم أجدها أنا أيضاً رغم البحث والتنقيب، ولكنني وجدت رواية قريبة منها ذكرها الذهبي في "سير أعلام النبلاء" ج2 ص61: شريك، عن أبي ربيعة الإيادي، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرت بحب أربعة، وأخبرني الله تعالى أنه يحبهم" قلت: من هم يا رسول الله؟ قال: علي، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد بن الأسود.
وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه: أخرجه أحمد 5/351، وأبو ربيعة الإيادي، قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث.
(2) قال أبو عبد الرحمن: إن أبا ذر رضي الله عنه سكن الربذة باختياره دون إكراه من عثمان رضي الله عنه وللمزيد حول ذلك انظر:
سير أعلام النبلاء للذهبي ج2 ص60، 63، 67، 68، 72 .
وقد فصّل القول في ذلك تفصيلاً دقيقاً من المعاصرين:
العلامة محمد الصادق العرجون رحمه الله تعالى في كتابه "الخليفة المفترى عليه" ص36-40، 134-138 .
والأستاذ الفاضل علي بن ثائب العمري في كتابه القيم "النبذة في ترجمة أبي ذر وتاريخ الربذة" 160-177 .(11/106)
، فإن أبا ذر رضي الله عنه كان رجلاً صالحاً زاهداً، وكان من مذهبه أن الزهد واجب، وأن ما أمسكه الإنسان فاضلاً عن حاجته فهو كنز يكوى به في النار، واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة احتج بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة: 34]، وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة، واحتج بما سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو أنه قال: ”يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أُحُد ذهباً يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار، إلا ديناراً أرصده لديه“ وأنه قال: ”الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا“(1).
ولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالاً، جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يعاقب عليه، وعثمان يناظره في ذلك، حتى دخل كعب ووافق عثمان، فضربه أبو ذر، وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب.
وافق أبا ذر على هذا طائفة من النّسّاك، كما يذكر عن عبد الواحد بن زيد ونحوه، ومن الناس من يجعل الشبلي من أرباب هذا القول. وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول(2).
__________
(1) هذان جزءان من حديث واحد عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه مع اختلاف في الألفاظ في: البخاري 3/116 (كتاب الاستقراض، باب أداء الديون)، 8/94-95 (كتاب الرقاق، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أحب أن لي مثل أحد ذهباً)، 8/60-61 (كتاب الاستئذان، باب من أجاب بلبيك وسعديك)، مسلم 2/687-688 (كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة).
(2) قال أبو عبد الرحمن: انظر قول المفسرين للآيتين 34، 35 من سورة التوبة للوقوف على معنى الكنز، لا سيما: تفسير الطبري وابن كثير والقرطبي وأضواء البيان للشنقيطي.(11/107)
فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه قال: ”ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة“(1). ففي الوجوب فيما دون المائتين، ولم يشترط كون صاحبها محتاجاً إليها أم لا.
وقال جمهور الصحابة: الكنز هو المال الذي لم تؤدّ حقوقه، وقد قسَّم الله تعالى المواريث في القرآن، ولا يكون الميراث إلا لمن خلف مالاً. وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، من الأنصار، بل ومن المهاجرين. وكان غير واحد من الأنبياء له مال.
وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم، ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه، مع أنه مجتهد في ذلك، مثاب على طاعته رضي الله عنه، كسائر المجتهدين من أمثاله.
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس فيه إيجاب، إنما قال: ”ما أحب أن يمضي عليَّ ثالثة وعندي من شيء“ فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه. وكذا قوله: ”المكثرون هم المقلون“ دليل على أن من كثر ماله قلت حسناته يوم القيامة إذا لم يكثر الإخراج منه، وذلك لا يوجب أن يكون الرجل القليل الحسنات من أهل النار، إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة من فرائض الله.
__________
(1) الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في: البخاري 2/107 (كتاب الزكاة، باب ما أدى زكاته ليس بكنز)، مسلم 2/673-675 (كتاب الزكاة، أول الكتاب)، سنن أبي داود 2/127 (كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة)، المسند (ط. الحلبي) 3/6، 30، 44-45. والحديث في سنن الترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي.(11/108)
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوم رعيته تقويماً تاماً، فلا يعتدي لا الأغنياء ولا الفقراء، فلما كان في خلافة عثمان توسّع الأغنياء في الدنيا، حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقدار والنوع، وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات. وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين.
فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب، ولم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض من الأغراض.
وأما كون أبي ذر من أصدق الناس، فذاك لا يوجب أنه أفضل من غيره، بل كان أبو ذر مؤمناً ضعيفاً، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال له: ”يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحل لنفسي. لا تأمّرنّ على اثنين، ولا تولين مال يتيم“(1).
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: ”المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير“(2).
وأهل الشورى مؤمنون أقوياء، وأبو ذر وأمثاله مؤمنون ضعفاء. فالمؤمنون الصالحون لخلافة النبوة، كعثمان وعليّ وعبد الرحمن بن عوف، أفضل من أبي ذر وأمثاله.
والحديث المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي ضعيف، بل موضوع، وليس له إسناد يقوم به.
مسألة قتل الهرمزان
__________
(1) الحديث عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه في: مسلم 3/1457-1458 (كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة)، سنن أبي داود 3/154، 155 (كتاب الوصايا، باب ما جاء في الدخول في الوصايا).
(2) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: مسلم 4/2052 (كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز...)، سنن ابن ماجه 1/31 (المقدمة، باب في القدر)، 2/1395 (كتاب الزهد، باب التوكل واليقين)، المسند (ط. الحلبي) 2/336، 370 .(11/109)
وأما قوله: "إنه ضيّع حدود الله، فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه، وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه، فلحق بمعاوية. وأراد أن يعطل حدّ الشرب في الوليد بن عقبة، حتى حدّه أمير المؤمنين. وقال: لا تبطل حدود الله وأنا حاضر".
فالجواب: أما قوله: "إن الهرمزان كان مولى عليّ".
فمن الكذب الواضح، فإن الهرمزان كان من الفرس الذي استنابهم كسرى على قتال المسلمين، فأسره المسلمون وقَدِموا به على عمر، فأظهر الإسلام، فمنَّ عليه عمر وأعتقه، فإن كان عليه ولاء فهو للمسلمين، وإ، كان الولاء لمن باشر العتق فهو لعمر، وإن لم يكن عليه ولاء، بل هو كالأسير إذا منّ عليه فلا ولاء عليه، فإن العلماء تنازعوا في الأسير إذا أسلم: هل يصير رقيقاً بإسلامه؟ أم يبقى حرّاً يجوز المن عليه والمفاداة كما كان قبل الإسلام؟ مع اتفاقهم على أنه عَصَم بالإسلام دمه.
وفي المسألة قولان مشهوران، هما قولان في مذهب أحمد وغيره. وليس لعليّ سعي لا في استرقاقه ولا في إعتاقه. ولما قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان الذي قتله أبو لؤلؤة الكافر المجوسي مولى المغيرة بن شعبة وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة، وذُكر لعبيد الله بن عمر أنه رُؤِيَ عند الهرمزان حين قتل عمر، فكان ممن اتهم بالمعاونة على قتل عمر(1).
وقد قال عبد الله بن عباس لما قُتل عمر، وقال له عمر: قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة. فقال: إن شئت أن نقتلهم. فقال: "كذبت، أما بعد إذ تكلموا بلسانكم، وصلُّوا إلى قبلتكم"(2).
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: انظر "الخليفة المفترى عليه" للعلامة الصادق عرجون ص142-151 .
(2) هذه العبارات في الحديث الذي جاء عن عمرو بن ميمون رضي الله عنه في: البخاري 5/15-18 (كتاب فضائل أصحاب النبي....، باب قصة البيعة) وهذه العبارات في ص16 .(11/110)
فهذا ابن عباس وهو أفقه من عُبَيْد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقاً الذين كانوا بالمدينة، لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا، فكيف لا يعتقد عبد الله جواز قتل الهرمزان؟ فلما استشار عثمان الناس في قتله، فأشار عليه طائفة من الصحابة أن لا تقتله، فإن أباه قُتل بالأمس ويُقتل هو اليوم، فيكون في هذا فساد في الإسلام، وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان، وهل كان من الصائلين الذين كانوا يستحقون الدفع؟ أو من المشاركين في قتل عمر الذين يستحقون القتل؟
وقد تنازع الفقهاء في المشركين في القتل إذا باشر بعضهم دون بعض. فقيل: لا يجب القود إلا على المباشر خاصة. وهو قول أبي حنيفة. وقيل: إذا كان السبب قوياً وجب على المباشر والمتسبب كالمكرِه والمكرَه، وكالشهود بالزنا والقصاص إذا رجعوا وقالوا: تعمدنا. وهذا مذهب الجمهور كمالك والشافعي وأحمد. ثم إذا أمسك واحد وقتله الآخر، فمالك يوجب القَوَد على الممسك والقاتل، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. والرواية الأخرى: يُقتل القاتل ويُحبس الممسك حتى يموت، كما رُوي عن ابن عباس. وقيل: لا قود إلى على القاتل، كقول أبي حنيفة والشافعي.
وقد تنازعوا أيضاً في الآمر الذي لم يُكرِه، إذا أمر من يعتقد أن القتل محرّم، هل يجب القو على الآمر؟ على قولين.(11/111)
وأما الردء فيما يحتاج فيه إلى المعاونة كقطع الطريق، فجمهورهم على أن الحدّ يجب على الردء والمباشر جميعاً. وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد. وكان عمر بن الخطاب يأمر بقتل الربيئة(1) وهو الناطور(2) لقطّاع الطريق.
وإذا كان الهرمزان من أعان على قتل عمر جاز قتله في أحد القولين قصاصاً. وعمر هو القائل في المقتول بصنعاء: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به".
وأيضاً فقد تنازع الناس في قتل الأئمة: هل يقتل قاتلهم حدّاً أو قصاصاً؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره. أحدهما: أنهم يقتلون حدّاً، كما يقتل القاتل في المحاربة حدّاً، لأن قتل الأئمة فيه فساد عام أعظم من فساد قطّاع الطريق، فكان قاتلهم محارباً لله ورسوله، ساعياً في الأرض فساداً. وعلى هذا خرّجوا فعل الحسن بن علي رضي الله عنهما لما قتل ابن ملجم قاتل عليّ، وكذلك قتل قتلة عثمان.
وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في الأرض المحاربين، فيجب قتله لذلك. ولو قُدِّر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله، لكن كان متأوّلاً يعتقد حلّ قتله لشبهة ظاهرة، صار ذلك شبهة تدرأ القتل عن القاتل. كما أن أسامة بن زيد لما قتل ذلك الرجل بعدما قال: لا إله إلا الله، واعتقد أن هذا القول لا يعصمه، عزَّره النبي صلّى الله عليه وسلّم بالكلام ولم يقتله لأنه كان متأولاً، لكن الذي قتله أسامة كان مباحاً قبل القتل، فشك في العاصم.
__________
(1) في لسان العرب: "ربأ القوم يربؤهم ربأ، وربأ لهم: اطلع لهم على شَرَفٍ. وربأتهم أي رقبتهم، وذلك إذا كنت لهم طليعة فوق شرف... والربيئة: الطليعة".
(2) في "اللسان": "الناطر والناطور، من كلام أهل السواد: حافظ الزرع والتمر والكرم. قال بعضهم: وليست بعربية محضة. وقال أبو حنيفة: هي عربية" وفي "اللسان" أيضاً: "والناظر: الحافظ. وناظور الزرع والنخل وغيرهما: حافظه، والطاء نبطيّة".(11/112)
وإذا كان عبيد الله بن عمر متأولاً يعتقد أن الهرمزان أعان على قتل أبيه، وأنه يجوز له قتله، صارت هذه شبهة يجوز أن يجعلها المجتهد مانعة من وجوب القصاص، فإن مسائل القصاص فيها مسائل كثيرة اجتهادية.
وأيضاً فالهرمزان لم يكن له أولياء يطلبون دمه وإنما وليّه وليّ الأمر. ومثل هذا إذا قتله قاتل كان للإمام قتل قاتله، لأن وليّه، وكان له العفو عنه إلى الدّية لئلا تضيع حقوق المسلمين. فإذا قدّر أن عثمان عفا عنه، ورأى قدر الدّيّة أن يعطيها لآل عمر، لما كان على عمر من الدَّين، فإنه كان عليه ثمانون ألفاً، وأمر أهله أن يقضوا دينه من أموال عصبته عاقلة الرجل هم الذين يحملون كلَّه، والدّيّة لو طالب بها عبيد الله، أو عصبة عبيد الله إذا كان قتله خطأ أو عفا عنه إلى الدية فهم الذين يؤدُّون دَيْن عمر، فإذا أعان بها في دَين عمر كان هذا من محاسن عثمان التي تُمدح بها لا يُذم.
وقد كانت أموال بيت المال في زمن عثمان كثيرة، وكان يعطي الناس عطاءً كثيراً أضعاف هذا، فكيف لا يعطي هذا لآل عمر؟
وبكل حال فكانت مسألة اجتهادية، وإذا كانت مسألة اجتهادية، وقد رأى طائفة كثيرة من الصحابة أن لا يُقتل، ورأى آخرون أن يُقتل، لم يُنكر على عثمان ما فعله باجتهاده، ولا علي عليّ ما قاله باجتهاده.
وقد ذكرنا تنازع العلماء في قتل الأئمة: هل هو من باب الفساد الذي يجب قتل صاحبه حتماً، كالقاتلين لأخذ المال؟ أم قتلهم كقتل الآحاد الذين يقتل أحدهم الآخر لغرض خاص فيه، فيكون على قاتل أحدهم القود؟ وذكرنا في ذلك قولين، وهما قولان في مذهب أحمد وغيره، وذكرهما القاضي أبو يعلى وغيره.
فمن قال: إن قتلهم حدٌّ. قال: إن جنايتهم توجب من الفتنة والفساد أكثر مما يوجبه جناية بعض قطّاع الطريق لأخذ المال، فيكون قاتل الأئمة من المحاربين لله ورسوله، الساعين في الأرض فساداً.(11/113)
ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرِّق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان“.
فأمَرَ بقتل الواحد المريد لتفريق الجماعة، ومن قتل إمام المسلمين فقد فرّق جماعتهم.
ومن قال هذا قال: إن قاتل عمر يجب قتله حتماً، وكذلك قتلة عثمان قتلهم حتماً، وكذلك قاتل عليّ يجب قتله حتماً.
وبهذا يُجاب عن ابنه الحسن بن عليّ وغيره من يعترض عليهم، فنقول: كيف قتلوا قاتل عليّ، وكان في ورثته صغار وكبار، والصغار لم يبلغوا؟
فيجاب عن الحسن بجوابين: أحدهما: أن قتله كان واجباً حتماً، لأن قتل عليّ وأمثاله من أعظم المحاربة لله ورسوله والفساد في الأرض.
ومنهم من يجيب بجواز انفراد الكبار بالقود، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين.
وإذا كان قتل عمر وعثمان وعليّ ونحوهم من باب المحاربة، فالمحاربة يشترط فيها الردء والمباشر عند الجمهور. فعلى هذا من أعان على قتل عمر، ولو بكلام، وجب قتله. وكان الهرمزان ممن ذُكر عنه أنه أعان على قتل عمر بن الخطاب.
وإذا كان الأمر كذلك كان قتله واجباً، ولكن كان قتله إلى الأئمة فافتات عبيد الله بقتله، وللإمام أن يعفو عمن افتات عليه.
وأما قوله: إن عليّاً كان يريد قتل عبيد الله بن عمر. فهذا لو صح كان قدحاً في علي.(11/114)
والرافضة لا عقول لهم، يمدحون بما هو إلى الذم أقرب؛ فإنها مسألة اجتهاد، وقد حكم حاكم بعصمة الدم، فكيف يحل لعليّ نقضه؟ وعليّ ليس ولي المقتول، ولا طلب وليّ المقتول القَوَد. وإذا كان حقه لبيت المال، فللإمام أن يعفو عنه. وهذا مما يُذكر في عفو عثمان، وهو أن الهرمزان لم يكن له عصبة إلا السلطان، وإذا قُتل من لا وليّ له، كان للإمام أن يقتل قاتله، وله أن لا يقتل قاتله، ولكن يأخذ الدّية، والدِّية حق للمسلمين، فيصرفها في مصارف الأموال. وإذا ترك لآل عمر دية مسلم، كان هذا بعض ما يستحقونه على المسلمين.
وبكل حال فلم يكن بعد عفو عثمان وحكمه بحقن دمه يباح قتله أصلاً. وما أعلم في هذا نزاعاً بين المسلمين، فكيف يجوز أن يُنسب إلى عليّ مثل ذلك؟
ثم يقال: يا ليت شعري متى عزم عليٌّ على قتل عبيد الله؟ ومتى تمكن عليّ من قتل عبيد الله؟ أو متى تفرّغ له حتى ينظر في أمره؟
وعبيد الله كان معه ألوف مؤلفة من المسلمين مع معاوية، وفيهم خير من عبيد الله بكثير. وعليّ لم يمكنه عزل معاوية، وهو عزل مجرد. أفكان يمكنه قتل عبيد الله؟!
ومن حين مات عثمان تفرّق الناس، وعبد الله بن عمر الرجل الصالح لحق بمكة، ولم يبايع أحداً، ولم يزل معتزل الفتنة حتى اجتمع الناس على معاوية، ومع محبته لعليّ، ورؤيته له أنه هو المستحق للخلافة، وتعظيمه له، وموالاته له، وذمّه لمن يطعن عليه. ولكن كان لا يرى الدخول في القتال بين المسلمين، ولم يمتنع عن موافقة عليّ إلا في القتال.
وعبيد الله بن عمر لحق معاوية بعد مقتل عثمان، كما لحقه غيره ممن كانوا يميلون إلى عثمان وينفرون عن عليّ. ومع هذا فلم يُعرف لعبيد الله من القيام في الفتنة ما عُرف لمحمد بن أبي بكر والأشتر النخعي وأمثالهما، فإنه بعد القتال وقع الجميع في الفتنة. وأما قبل مقتل عثمان فكان أولئك ممن أثار الفتنة بين المسلمين.(11/115)
ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم بالنفاق، والمحاربة لله ورسوله، والسعي في الأرض بالفساد، تُقام فيه القيامة، ودم عثمان يُجعل لا حرمة له، وهو إمام المسلمين المشهود له بالجنة، الذي هو – وإخوانه – أفضل الخلق بعد النبيين!
ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكفِّ الناس عن الدماء، وأصبر الناس على من نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه فحاصروه وسعوا في قتله، وقد عُرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال، ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم. ورُوي أنه قال لمماليكه: من كفَّ يده فهو حر. وقيل له: تذهب إلى مكة؟ فقال: لا أكون ممن ألحد في الحرم. فقيل له: تذهب إلى الشام؟ فقال: لا أفارق دار هجرتي. فقيل له: فقاتلهم. فقال: لا أكون أول من خلف محمداً في أمته بالسيف.
فكان صبر عثمان حتى قُتل من أعظم فضائله عند المسلمين. ومعلوم أن الدماء الكثيرة التي سُفكت باجتهاده عليّ ومن قاتله لم يُسفك قبلها مثلها من دماء المسلمين. فإذا كان ما فعله عليّ مما لا يوجب القدح في عليّ، بل كان دفع الظالمين لعليّ من الخوارج وغيرهم من النواصب القادحين في عليّ واجباً، فلأن يجب دفع الظالمين القادحين في عثمان بطريق الأولى والأحرى، إذ كان بُعد عثمان عن استحلال دماء المسلمين أعظم من بعد عليّ عن ذلك بكثير كثير، وكان من قدح في عثمان بأنه كان يستحل إراقة دماء المسلمين بتعطيل الحدود، كان قد طرق من القدح في عليّ ما هو أعظم من هذا، وسوَّغ لمن أبغض عليّاً وعاداه وقاتله أن يقول: إن علياً عطَّل الحدود الواجبة على قتلة عثمان. وتعطيل تلك الحدود إن كانت واجبة أعظم فساداً من تعطيل حدٍّ وجب بقتل الهرمزان.
وإذا كان من الواجب الدفع عن عليّ بأنه كان معذوراً باجتهاد أو عجز، فلأن يُدفع عن عثمان بأنه كان معذوراً بطريق الأولى.
عثمان رضي الله عنه كان ينفذ الحدود(11/116)
وأما قوله: "أراد عثمان تعطيل حد الشرب في الوليد بن عقبة، حتى حدّه أمير المؤمنين".
فهذا كذب عليهما، بل عثمان هو الذي أمر عليّاً بإقامة الحد عليه، كما ثبت ذلك في الصحيح(1)، وعليّ خفف عنه وجَلَده أربعين، ولو جلده ثمانين لم ينكر عليه عثمان.
لم يكن عليٌّ عاجزاً عن تطبيق الحدود
__________
(1) الأثر عن حُضين بن المنذر في: مسلم 3/1331 (كتاب الحدود، باب حد الخمر) ونصه قال: شهدت عثمان بن عفان وأتي بالوليد قد صلّى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حُمران: أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ. فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها. فقال: يا عليّ قم فاجلده. فقال عليّ: قم يا حسن فاجلده. فقال الحسن: ولِّ حارّها من تولَّى قارَّها (فكأنه وجد عليه... إلخ الأثر، وهو في سنن أبي داود 4/227-228 (كتاب الحدود، باب الحد من الخمر)؛ سنن ابن ماجه 2/858 (كتاب الحدود، باب حد السكران). وقد ناقش الأستاذ محب الدين الخطيب هذا الخبر في "العواصم من القواصم" ص94-99، 100 وهو يرى: "أن الشهود على الوليد اثنان من الموتورين الذين تعددت شواهد غلهم عليه" ويقول: "أما صلاة الصبح ركعتين وكلمة "أزيدكم" فهي من كلام حضين ولم يكن حضين من الشهود، ولا كان في الكوفة وقت الحادث المزعوم، ثم إنه لم يسند هذا العنصر من عناصر الاتهام إلى إنسان معروف.. إلخ وانظر باقي كلام الأستاذ الخطيب، وانظر كلامه عن استبعاده أن يكون قوله تعالى: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ...} قد نزلت في الوليد بن عقبة (العواصم ص90-93).(11/117)
وقول الرافضي: "إن عليّاً قال: لا يبطل حدُّ الله وأنا حاضر" فهو كذب. وإن كان صدقاً فهو من أعظم المدح لعثمان؛ فإن عثمان قَبِلَ قول عليّ ولم يمنعه من إقامة الحد، مع قدرة عثمان على منعه لو أراد، فإن عثمان كان إذا أراد شيئاً فعله، ولم يقدر عليّ على منعه. وإلا فلو كان عليّ قادراً على منعه مما فعله من الأمور التي أنكرت عليه ولم يمنعه مما هو عنده مُنْكَرٌ مع قدرته، كان هذا قدحاً ي عليّ. فإذا كان عثمان أطاع عليّاً فيما أمره به من إقامة الحدّ، دلّ ذلك على دِين عثمان وعدله.
وعثمان ولّى الوليد بن عقبة هذا على الكوفة، وعندهم أن هذا لم يكن يجوز. فإن كان حراماً وعليٌّ قادر على منعه، وجب على عليٍّ منعه، فإذا لم يمنعه دلّ على جوازه عند عليّ، أو على عجز عليّ. وإذا عجز عن منعه عن الإمارة، فكيف لا يعجز عن ضربه الحد؟ فعُلم أن عليّاً كان عاجزاً عن حدّ الوليد، لولا أن عثمان أراد ذلك، فإذا أراده عثمان دلّ على دينه.
وقائل هذا يدّعي أن الحدود مازالت تبطل وعليٌّ حاضر، حتى في ولايته يدّعون أنه كان يدع الحدود خوفاً وتقيّة. فإن كان قال هذا لم يقله إلا لعلمه بأن عثمان وحاشيته يوافقون على إقامة الحدود، وإلا فلو كان يتقي منهم لما قال هذا. ولا يُقال: إنه كان أقدر منهم على ذلك، فإن قائل هذا يدّعي أنه كان عاجزاً لا يمكنه إظهار الحق بينهم.
ودليل هذا أنه لم يمكنه عندهم إقامة الحد على عبيد الله بن عمر وعلى نوّاب عثمان وغيرهم.
والرافضة تتكلم بالكلام المتناقض الذي ينقض بعضه بعضاً.
الصحابة يوافقون عثمان على اجتهاده
وأما قوله: "إنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة، وهو بدعة، فصار سنة إلى الآن".(11/118)
فالجواب: أن عليّاً رضي الله عنه كان ممن يوافق على ذلك في حياة عثمان وبعد مقتله. ولهذا لما صار خليفة لم يأمر بإزالة هذا الأذان، كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمّال عثمان، بل أمر بعزل معاوية وغيره. ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقاتلتهم التي عجز عنها، فكان على إزالة هذه البدعة، من الكوفة ونحوها من أعماله، أقدر منه على إزالة أولئك، ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه.
فإن قيل: كان الناس لا يوافقونه على إزالتها.
قيل: فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها، حتى الذي قاتلوا مع عليّ، كعمّار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأوّلين. وإلا فهؤلاء الذين هم أكابر الصحابة لو أنكروا ذلك لم يخالفهم غيرهم، إن قُدِّر أن في الصحابة من كان ينكر هذا ومنهم من لا ينكره، كان ذلك من مسائل الاجتهاد، ولم يكن هذا مما يُعاب به عثمان.
وقول القائل: هي بدعة. إن أراد بذلك أنه لم يكن يُفعل قبل ذلك، فكذلك قتال أهل القبلة بدعة، فإنه لم يُعرف أن إماماً قاتل أهل القبلة قبل عليّ. وأين قتال أهل القبلة من الأذان؟!
فإن قيل: بل البدعة ما فعل بغير دليل شرعي.
قيل لهم: فمن أين لكم أن عثمان فعل هذا بغير دليل شرعي؟ وأن عليّاً قاتل أهل القبلة بدليل شرعي؟
وأيضاً فإن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أحدث في خلافته العيد الثاني بالجامع، فإن السنة المعروفة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان أنه لا يُصلَّى في المصر إلا جمعة واحدة، ولا يُصلّى يوم النحر والفطر إلا عيد واحد. والجمعة كانوا يصلونها في المسجد، والعيد يصلونه بالصحراء. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة وعرفة قبل الصلاة، وفي العيد بعد الصلاة. واختُلف عنه في الاستسقاء.(11/119)
فلما كان على عهد عليّ قيل له: إن بالبلد ضعفاء لا يستطيعون الخروج إلى المصلّى، فاستخلَفَ عليهم رجلاً صلّى بالناس بالمسجد. قيل: إنه صلَّى ركعتين بتكبير، وقيل: بل صلّى أربعاً بلا تكبير.
وأيضاً فإن ابن عباس عرّف في خلافة عليّ بالبصرة، ولم يُرو عن عليّ أنه أنكر ذلك.
وما فعله عثمان من النداء الأول اتفق عليه الناس بعده: أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، كما اتفقوا على ما سنّه أيضاً عمر من جمع الناس في رمضان على إمام واحد.
وأما ما سنّه عليّ من إقامة عيدين فتنازع العلماء فيه وفي الجمعة على ثلاثة أقوال. قيل: إنه لا يُشرع في المصر إلا جمعة واحدة وعيد واحد، كقول مالك وبعض أصحاب أبي حنيفة، لأنه السنة. وقيل: بل يُشرع تعدد صلاة العيد في المصر دون الجمعة، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين. لكن قائل هذا بناه على أن صلاة العيد لا يُشترط لها الإقامة العدد كما يشترط للجمعة. وقالوا: إنها تُصلّى في الحضر والسفر. وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسنة خلفائه الراشدين. وقيل: بل يجوز عند الحاجة أن تُصلّى جمعتان في المصر. كما صلّى عليّ عيدين للحاجة. وهذا مذهب أحمد بن حنبل في المشهور عنه، وأكثر أصحاب أبي حنيفة، وأكثر المتأخرين من أصحاب الشافعي. وهؤلاء يحتجون بفعل علي بن أبي طالب لأنه من الخلفاء الراشدين.
وكذلك أحمد بن حنبل جوّز التعريف بالأمصار، احتج بأن ابن عباس فعله بالبصرة. وكان ذلك في خلافة عليّ، وكان ابن عباس نائبه بالبصرة. فأحمد بن حنبل وكثير من العلماء يتّبعون عليّاً فيما سنّه، كما يتّبعون عمر وعثمان فيما سنّاه. وآخرون من العلماء، كمالك وغيره، لا يتّبعون عليّاً فيما سنّه، وكلهم متفقون على اتّباع عمر وعثمان فيما سنّاه. فإن جاز القدح في عمر وعثمان فيما سنّاه، وهذا حاله، فلأن يُقدح في عليّ فيما سنّه – وهذا حاله – بطريق الأولى.(11/120)
وإن قيل بأن ما فعله عليّ سائغ لا يُقدح فيه، لأنه باجتهاده، أو لأنه سنّة يُتّبع فيه، فلأن يكون ما فعله عمر وعثمان كذلك بطريق الأولى.
ومن هذا الباب ما يُذكر مما فعله عمر، مثل تضعيف الصدقة، التي هي جزية في المعنى، على نصارى بني تغلب، وأمثال ذلك.
ثم من العجب أن الرافضة تنكر شيئاً فعله عثمان بمشهد من الأنصار والمهاجرين، ولم ينكروه عليه، واتبعه المسلمون كلهم عليه في آذان الجمعة، وهم قد زادوا في الأذان شعاراً لم يكن يُعرف على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا نَقَل أحدٌ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بذلك في الأذان، وهو قولهم: "حيّ على خير العمل".
وغاية ما ينقل إن صح النقل، أن بعض الصحابة، كابن عمر رضي الله عنهما، كان يقول ذلك أحياناً على سبيل التوكيد، كما كان بعضهم يقول بين النداءين: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، وهذا يسمّى نداء الأمراء، وبعضهم يسمّيه التثويب ورخّص فيه بعضهم، وكرهه أكثر العلماء، ورووا عن عمر وابنه وغيرهما كراهة ذلك.
ونحن نعلم بالاضطرار أن الأذان، الذي كان يؤذنه بلال وابن أم مكتوم في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، وأبو محذورة بمكة، وسعد القرظ في قباء، لم يكن فيه هذا الشعار الرافضي. ولو كان فيه لنقله المسلمون ولم يهملوه، كما نقلوا ما هو أيسر منه. فلما لم يكن في الذين نقلوا الأذان مَنْ ذَكَر هذه الزيادة عُلم أنها بدعة باطلة.
وهؤلاء الأربعة كانوا يؤذنون بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنه تعلموا الأذان، وكانوا يؤذنون في أفضل المساجد: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد قباء. وأذانهم متواتر عند العامة والخاصة.
ومعلوم أن نقل المسلمين للأذان أعظم من نقلهم إعراب آية، كقوله: (وأرجلكم) ونحو ذلك. ولا شيء أشهر في شعائر الإسلام من الأذان، فنقله من نقل سائر شعائر الإسلام.
وإن قيل: فقد اختلف في صفته.(11/121)
قيل: بل كل ما ثبت به النقل فهو صحيح سنّة، ولا ريب أن تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا محذورة الأذان، وفيه الترجيع والإقامة مثناة كالأذان. ولا ريب أن بلالاً أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، ولم يكن في أذانه ترجيع. فنقل أفراد الإقامة صحيح بلا ريب، ونقل تثنيتها صحيح بلا ريب، وأهل العلم بالحديث يصححون هذا وهذا.
وهذا مثل أنواع التشهدات المنقولات. ولكن اشتهر بالحجاز آخرا إفراد الإقامة التي عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم بلالا. وأما الترجيع فهو يقال سرّاً.
وبعض الناس يقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم علّمه لأبي محذورة ليثبّت الإيمان في قلبه، لا أنه من الأذان. فقد اتفقوا على أنه لقّنه أبا محذورة، فلم يبق بين الناس خلاف في نقل الأذان المعروف.
خطأ الساعين في قتل عثمان وبغيهم
وأما قوله: وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل. وعابوا أفعاله، وقالوا له: غبت عن بدر، وهربت يوم أحد، ولم تشهد بيعة الرضوان. والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى.
فالجواب: أما قوله "وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل".
فإن أراد إنهم خالفوه خلافاً يبيح قتله، أو إنهم كلهم أمروا بقتله، ورضوا بقتله، وأعانوا على قتله. فهذا مما يعلم كل أحد أنه من أظهر الكذب، فإنه لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: قد أدرك ذو النورين رضي الله عنه حقيقة الطائفة الموتورة، وكشف عن حقيقتهم في كتابه الذي قُرئ على حجاج بيت الله الحرام قبل يوم التروية بيوم ولأهمية هذا الخطاب والذي تجاهله كثير من الذين يدّعون الموضوعية في تناول الأحداث، ولبيان حقيقة الزمرة الباغية التي قامت بالفتنة، نذكر هذا الخطاب بنصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو.
أما بعد ..
فإني أذكركم بالله جل وعز الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، وأراكم البينات، وأوسع عليكم من الرزق، ونصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمته، فإن الله عز وجل يقول وقوله الحق: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم: 34]. وقال عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا } إلى قوله: { لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 102-105]. وقال وقوله الحق: { وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [المائدة: 7].
وقال وقوله الحق: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ } إلى قوله: { فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [الحجرات: 6-8]، وقوله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً } إلى {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران: 77]. وقال وقوله الحق: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } إلى { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [التغابن: 6].
وقال وقوله الحق: { وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } إلى قوله: { وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل: 91-96]. وقال وقوله الحق: { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } إلى { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء: 59].
وقال وقوله الحق: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } إلى قوله: { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55]. وقال وقوله الحق: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } إلى { فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [الفتح: 10].
أما بعد، فإن الله عز وجل رضي لكم السمع والطاعة والجماعة، وحذّركم المعصية والفرقة والاختلاف، ونبأكم ما قد فعله الذين من قبلكم، وتقدّم إليكم فيه ليكون له الحجة عليكم إن عصيتموه، فاقبلوا نصيحة الله عز وجل واحذروا عذابه، فإنكم لن تجدوا أمة هلكت إلا من بعد أن تختلف، إلا أن يكون لها رأس يجمعها، ومتى ما تفعلوا ذلك لا تقيموا الصلاة جميعاً، وسلط عليكم عدوكم، ويستحلّ بعضكم حرم بعض، ومتى يفعل ذلك لا يقم لله سبحانه دين، وتكونوا شيعاً، وقد قال الله جل وعز لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [الأنعام: 159].
وإني أوصيكم بما أوصاكم الله، وأحذركم عذابه، فإن شعيباً صلّى الله عليه وسلّم قال لقومه: { وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ } إلى قوله: { رَحِيمٌ وَدُودٌ } [هود: 89، 90].
أما بعد، فإن أقواماً ممن كان يقول في هذا الحديث، أظهروا للناس إنما يدعون إلى كتاب الله عز وجل والحقّ، ولا يريدون الدنيا ولا منازعة فيها، فلما عرض عليهم الحق إذا الناس في ذلك شتى، منهم آخذ للحق، ونازغ عنه حين يعطاه، ومنهم تارك للحق ونازل عنه في الأمر، يريد أن يبتزّه بغير الحقّ، طال عليهم عمري، وراث عليهم.
أملهم الإمرة، فاستعجلوا القدر، وقد كتبوا إليكم أنهم رجعوا بالذي أعطيتهم، ولا أعلم أنّي تركت من الذي عادتهم عليه شيئاً، كانوا زعموا أنهم يطلبون الحدود، فقلت: أقيموها على من علمتم تعدّاها في أحد، أقيموها على من ظلمكم من قريب أو بعيد.. قالوا: كتاب الله يتلى، فقلت: فليتله من تلاه غير غال فيه بغير ما أنزل الله في الكتاب.
وقالوا: المحروم يُرزق، والمال ليُوفّى ليستن فيه السنة الحسنة، ولا يُعتدى في الخُمس ولا في الصدقة، ويُؤمّر ذو القوة والأمانة، وتردّ مظالم الناس إلى أهلها. فرضيت بذلك واصطبرت له، وجئت نسوة النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى كلمتهن، فقلت: ما تأمرنني؟ فقلن: تؤمر عمرو بن العاص وعبد الله بن قيس وتدع معاوية، فإنما أمره أمير قبلك، فإنه مصلح لأرضه، وأرض جنده، واردد عمراً، فإن جنده راضون به، وأمره فليصلح أرضه. فكل ذلك فعلت. وإنه اعتدي عليّ بعد ذلك، وعُدي على الحق.
كتبت إليكم وأصحابي الذين زعموا في الأمر، واستعجلوا القدر، ومنعوا مني الصلاة، وحالوا بيني وبين المسجد، وابتزّوا ما قدروا عليه بالمدينة.
كتبت إليكم كتابي هذا، وهم يخيّرونني إحدى ثلاث: إما يقيدونني بكل رجل أصبته خطأ أو صواباً، غير متروك منه شيء، وإما أعتزل الأمر فيؤمرّون آخر غيري، وإما يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من الذي جعل الله سبحانه لي عليهم من السمع والطاعة.
فقلت لهم: أما إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب، فلم يستقيد من أحد منهم، وقد علمت أنما يريدون نفسي، وأمّا أن أتبرأ من الإمارة فلأن يلبوني أحبّ إليّ من أن أتبرأ من عمل الله عز وجل وخلافته. وأما قولكم: يرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من طاعتي، فلست عليكم بوكيل، ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة، ولكن أتوها طائعين، يبتغون مرضاة الله عز وجل وإصلاح ذات البين، ومن يكن منكم إنما يبتغي الدنيا بنائل منها إلا ما كتب الله عز وجل له، ومن يكن إنما يريد وجه الله والدار الآخرة وصلح الأمة وابتغاء مرضات الله عزّ وجل والسّنّة الحسنة التي استنّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والخليفتان من بعده رضي الله عنهما، فإنما يجزي بذلكم الله، وليس بيدي جزاؤكم، ولو أعطيتكم الدنيا كلها لم يكن في ذلك ثمن لدينكم. ولم يغن عنكم شيئاً، فاتقوا الله واحتسبوا ما عنده، فمن يرض بالنّكث منكم فإني لا أرضاه له، ولا يرضي الله سبحانه أن تنكثوا عهده.
وأما الذي يخيّرونني فإنما كله النزع والتأمير. فملكت نفسي ومن معي، ونظرت حكم الله وتغيير النعمة من الله سبحانه، وكرهت سنّة السوء وشقاق الأمة وسفك الدماء، فإني أنشدكم بالله والإسلام ألا تأخذوا إلا الحق وتعطوه مني وترك البغي على أهله، وخذوا بيننا بالعدل كما أمركم الله عز وجل، فإني أنشدكم الله سبحانه الذي جعل عليكم العهد والمؤازرة في أمر الله، فإن الله سبحانه قال وقوله الحق: { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 34]، فإن هذه معذرة إلى الله ولعلكم تذكرون.
أما بعد، فإني لا أبرئ نفسي { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [يوسف: 53]، وإن عاقبت أقواماً فما ابتغي بذلك إلا الخير، وإني أتوب إلى الله عز وجل من كل عمل عملته، وأستغفره إنه لا يغفر الذنوب إلا هو، إن رحمة ربي وسعت كل شيء، إنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون، وإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون. وأنا أسأل الله عز وجل أن يغفر لي ولكم، وأن يؤلف قلوب هذه الأمة على الخير ويكرّه إليها الفسق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أيها المؤمنون والمسلمون.
انظر: الطبري ج4 ص407-411 .(11/122)
.
قال ابن الزبير: "لعنت قتلة عثمان، خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كل قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب"، يعني هربوا ليلاً، وأكثر المسلمين كانوا غائبين، وأكثر أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه.
وإن أراد أن كل المسلمين خالفوه في كل ما فعله، أو في ما أنكر عليه. فهذا أيضاً كذب. فما من شيء أنك عليه إلا وقد وافقه عليه كثير من المسلمين، بل من علمائهم الذين لا يتهمون بمداهنة، والذين وافقوا عثمان على ما أنكر عليه أكثر وأفضل عند المسلمين من الذين وافقوا عليّاً على ما أنكر عليه بعض الأمور، وأما في غالبها، وبعض المسلمين أنكر عليه بعض الأمور، وكثير من ذلك يكون الصواب فيه مع عثمان، وبعضه يكون فيه مجتهداً، ومنه ما يكون المخالف له مجتهداً: إما مصيباً وإما مخطئاً.
وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون، بل ظالمون باغون معتدون. وإن قُدِّر أن فيهم من قد يغفر الله له، فهذا لا يمنع كون عثمان قُتل مظلوماً.
والذي قال له: غبتَ عن بدر وبيعة الرضوان، وهربتَ يوم أحد، قليل جداً من المسلمين. ولم يعيّن منهم إلا اثنان أو ثلاثة أو نحو ذلك. وقد أجابهم عثمان وابن عمر وغيرهما عن هذا السؤال، وقالوا: يوم بدر غاب بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ليخلفه عن ابنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فضرب له النبي صلّى الله عليه وسلّم بسهمه وأجره.(11/123)
ويوم الحديبية بايع النبي صلّى الله عليه وسلّم عن عثمان بيده. ويد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير له من يده لنفسه، وكانت البيعة بسببه، فإنه لما أرسله النبي صلّى الله عليه وسلّم رسولاً إلى أهل مكة بلغه أنهم قتلوه، فبايع أصحابه على أن لا يفروا وعلى الموت، فكان عثمان شريكاً في البيعة، مختصّاً بإرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم له، وطلبت منه قريش أن يطوف بالبيت دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فامتنع من ذلك، وقال: حتى يطوف به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يرسل عمر، فأخبره أنه ليس له بمكة شوكة يحمونه، وأن عثمان له بمكة بنو أمية، وهم من أشراف مكة، فهم يحمونه.
وأما التّولّي يوم أحد، فقد قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [آل عمران: 155] فقد عفا الله عن جميع المتولّين يوم أحد، فدخل في العفو من هو دون عثمان، فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناته؟!
المحتوى
الموضوع الصفحة
شذرات من مناقب سيدنا عثمان رضي الله عنه ...
من أقوال الصحابة رضي الله عنهم في عثمان رضي الله عنه ...
من أقوال الإمام عليّ في عثمان وقَتَلَتِهِ ...
من أقوال أم المؤمنين عائشة في عثمان وقَتَلَتِهِ ...
من أقوال ابن عباس في عثمان رضي الله عنهما ...
من أقوال حذيفة بن اليمان في عثمان ...
من أقوال عبد الله بن عمر في عثمان ...
من أقوال سعد بن أبي وقاص ...
من أقوال أنس بن مالك ...
من أقوال سعيد بن زيد ...
من أقوال أبي موسى الأشعري ...
من أقوال ثمامة بن عدي ...(11/124)
من أقوال أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي ...
من أقوال سَمُرَة بن جندب ...
شبهات الرافضة حول عثمان رضي الله عنه والرد عليها ...
جملة الشبهات التي أوردها الرافضة ...
من العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يدّعون أن عليّاً كان أبلغ فيه من عثمان ...
هل للخليفة أن يوصي بالخلافة لولده ؟ ...
الرافضة موصوفون بالغلو عن الأمة ...
دفع دعوى أئمة الرافضة والإسماعيلية ...
بيان أن كل شخص سوى الرسول صلّى الله عليه وسلّم يُؤخذ من قوله ويترك ...
نواب عثمان كانوا أطوع من نواب عليّ ...
بيان أن عثمان لم يستعمل إلا من استعمله النبي صلّى الله عليه وسلّم ...
الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يستعمل من بني هاشم إلا علي بن أبي طالب ...
التقديم يكون بفضيلة الإيمان والتقوى ...
القاعدة الكلية: لا أحد معصوم بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم ...
المسلمون مجمعون على أن الذنوب تمحى بالتوبة ...
شيعة عثمان أقل غلواً فيه من شيعة عليّ ...
الخوارج يكفرون عثمان وعليّاً جميعاً ...
ما قالته شيعة علي في عثمان أعظم مما قالته شيعة عثمان في عليّ ...
أهل السنة يتولون عثمان وعليّاً جميعاً ...
بيان أن الذنوب من جميع المؤمنين هي سبب العذاب ولكن العقوبة في الآخرة تندفع بعشرة أسباب ...
السبب الأول: التوبة ...
* توبة عثمان من الأمور التي أنكرت عليه ...
السبب الثاني: الاستغفار ...
السبب الثالث: الأعمال الصالحة ...
* العمل المقبول يمحو الله به الخطايا ...
السبب الرابع: الدعاء للمؤمنين ...
السبب الخامس: دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم واستغفاره لشفاعته ...
السبب السادس: ما يُفعل بعد الموت من عمل صالح ...
السبب السابع: المصائب الدنيوية تكفر الذنوب ...
السبب الثامن: ضغطة القبر وفتنة الملكين ...(11/125)
السبب التاسع: ما يحصل له في الآخر من كرب أهوال يوم القيامة ...
السبب العاشر: الصراط سبب دخول الجنة ...
حول تولية عثمان رضي الله عنه بعض الولاة ...
تأديب عثمان الولاة إذا ظهر منهم ما يوجب ذلك ...
بيان أن عثمان لم يقسم المال بين أقاربه ...
استعمال عثمان للوليد بن عقبة ...
* تحليل لشخصية الوليد بن عقبة ...
الوالي قد يذنب والخليفة لا يعلم ...
استعمال عثمان لسعيد بن العاص ...
سيرة المجاهد سعيد بن العاص ...
عزل عثمان لسعيد لم يكن من ذنب أتاه ...
دور ابن سبأ في الفتنة ...
لم يأمر عثمان بقتل معصوم الدم ...
* بيان أن عثمان لم يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ...
عمر بن الخطاب ولّى معاوية الشام ...
عبد الله بن عامر أحد قواد الإسلام ...
مسألة تولية مروان بن الحكم ...
* لم يكن مروان سبب الفتنة وحده ...
* إثارة الفتنة كان من بعض الموتورين ...
* كان تأديب مروان واجباً ...
إحسان عثمان شمل الجميع ...
عبد الله بن مسعود وجمع القرآن ...
بين عثمان وابن مسعود ...
مسألة جمع القرآن تكتب بمداد من ذهب لعثمان ...
لماذا لم يكن ابن مسعود في لجنة جمع المصحف ؟ ...
إنكار ابن مسعود على الوليد بن عقبة ...
تطاول الموتورين على والي الكوفة الجديد ...
معاوية يثني الموتورين عن الفتنة ...
عثمان أفضل من كل من تكلم فيه ...
عثمان كان من أحرص الناس ألا يجرح شعور أي صحابي ...
حقيقة قصة عمار في الرواية الصحيحة ...
لأمير المؤمنين تأديب رعيته ...
عثمان يشهد لعمار بالجنة ...
حب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لعمار بن ياسر ...
كون الرجل محبوباً لله ورسوله لا يمنع أن يُؤدَّب بأمر الله ورسوله ...
* الحدود كفارة لأهلها ...
قصة نفي الحكم ليست في الصحاح ...
عثمان شفع في الحكم ...(11/126)
كان مروان مسلماً ظاهراً وباطناً ...
جاز صلة المسلم لأهل السنة ...
السبب الحقيقي في اعتزال أبي ذر ...
سبب اعتكاف أبي ذر في الربذة ...
أبو ذر أوجب ما لم يوجبه الله على الناس ...
مسألة قتل الهرمزان ...
الهرمزان ساعد على قتل عمر ...
وليّ الهرمزان هو وليّ الأمر، وله العفو عنه إلى الدية ...
للإمام أن يعفو ...
دم عثمان أعظم حرمة من غيره ...
عثمان رضي الله عنه – كان ينفذ الحدود ...
لم يكن الإمام عليّ عاجزاً عن تطبيق الحدود ...
الرافضة تتكلم بالكلام المتناقض ...
الصحابة يوافقون عثمان على اجتهاده ...
النداء الأول في الجمعة اتفق عليه الناس ...
اجتهاد الخلفاء الراشدين ...
خطأ الساعين في قتل عثمان وبغيهم ...
خطبة عثمان الجامعة يوم التروية لبيان حقيقة من ثار بالفتنة ...
المحتوى ...
تم الكتاب ولله الحمد.(11/127)
شبهات حول الصحابة والرّدّ عليها
أَميرُ المُؤْمِنين
مُعاويةُ بنُ أَبي سُفْيَان
لشيخ الإسلام ابن تيمية
ولد سنة 661 وتوفي سنة 728هـ
رحمه الله تعالى
جمع وتقديم وتعليق
محمد مال الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد...
فيسرني أن أقدم الجزء الخامس من هذه السلسلة للقراء الكرام، داعياً المولى عز وجل أن ينفعهم بمحتوياتها، وأن يرحم ويجزل الثواب للإمام ابن تيمية الذي قام بالدفاع عن صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن يرحم كذلك فضيلة الدكتور محمد رشاد سالم الذي قام بتحقيق "منهاج السنة" ووضعه هذا السفر النفيس بين أيدي الباحثين وطلبة العلم وجزى الله تعالى خيراً كل من ساهم في إخراج ذلك الكتاب.
ويلاحظ القارئ الكريم أن هذا الجزء والذي بعده – قد اقتصر على تعليقات وتخريجات محقق "منهاج السنة"، دون أن يكون لكاتب هذه السطور أي تعليقات مثل الأجزاء السابقة، والسبب أن الله تعالى أنعم على هذا العبد بفترة كان طريح الفراش يعاني من بعض الآلام التي حالت دون التعليق على هذا الجزء والذي يليه، إضافة إلى ضرورة وضع الأجزاء بين يدي القراء الكرام في أقرب وقت. وإن شاء الله تعالى – إن كان في العمر بقية – سوف نستدرك هذا التقصير في طبعات تالية بإذن الله تعالى.
وأسأل الله تعالى أن يغفر لي ما أخطأت وما قصّرت وأن يتولني برحمته وأن يضع ثواب هذا الجهد المتواضع في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وأرجو من القرء الكرام أن لا يبخلوا على كاتب هذه السطور بدعوة صالحة بظهر الغيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
أبو عبد الرحمن
محمد مال الله
3 من صفر الخير 1410ه
شذرات من مناقب
أمير المؤمنين
معاوية بن أبي سفيان
رضي الله عنه
دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاوية(12/1)
1 – عن عبد الرحمن بن أبي عميرة وكان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لمعاوية: اللهم اجعله هادياً مهدياً واهْدِ به(1).
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
2- عن أبي إدريس الخولاني قال لمّا عزل عُمر بن الخطاب عُمير بن سعيد عن حمص ولَّى معاوية، فقال الناس: عزَلَ عميراًَ وولى معاوية، فقال عمير: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: اللهم اهْدِ به(2).
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب.
كان أحد من كتبوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم
3 – قال ابن عباس: كنت غلاماً أسعى مع الصبيان، قال: فالتفتُّ فإذا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم خلفي مقبلاً، فقلت: ما جاء نبي الله صلّى الله عليه وسلّم إلا إليّ، قال: فسعيتُ حتى أختبئ وراء باب دارٍ! قال: فلم أشعر حتى تناولني، قال: فأخذ بقَفَاي، فَحَطَأني حطْأةً، قال: اذهب فادعُ لي معاوية، وكان كاتِبَهُ، قال: فسعيتُ فقلت: أجِب نبيَّ الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه على حاجة(3).
تحريه موضع صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم داخل الكعبة
4 – عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: اعتمر معاوية، فدخل البيت، فأرسل إلى ابن عمر، وجلس ينتظر حتى جاء، فقال: أين صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم دخل البيت؟
قال: ما كنت معه، ولكني دخلت بعد أن أراد الخروج، فلقيت بلالاً، فسألته: أين صلّى؟ فأخبرني أنه صلّى بين الاسطوانتين.
فقام معاوية فصلّى بينهما(4).
في عهده فتحت قبرص، وقاتل المسلمون أهل القسطنطينية
__________
(1) رواه الترمذي في المناقب، ح(3842)، باب "مناقب لمعاوية بن أبي سفيان" ص(5: 687)، والإمام أحمد في "مسنده" (4/ 216).
(2) رواه الترمذي في الموضع السابق، ح(3843).
(3) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (1: 219)، وإسناده صحيح، ورواه مسلم مختصراً.
(4) مسند الإمام أحمد (6: 12، 14).(12/2)
5 – قال سعيد بنُ عبد العزيز، لما قُتل عثمانُ، ووقع الاختلاف، لم يكن الناس غزوٌ حتى اجتمعوا على معاوية، فأغزاهم مراتٍ، ثم أغزى ابنه في جماعة من الصحابة براً وبحراً حتى أجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل(1).
وقوع الإسلام بقلبه عام الحديبية
6 – ابن سعد: حدّثنا محمد بن عمر، حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن عمر بن عبد الله العنسي، قال معاوية: لما كان عامُ الحُديبية، وصدُّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البيت، وكتبوا بينهم القضية، وقع الإسلام في قلبي، فذكرت لأمي، فقالت: إياك أن تخالف أباك، فأخفيت إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله من الحديبية وإنّي مصدق به، ودخل مكة عام عُمرة القضية وأنا مسلم. وعلم أبو سفيان بإسلامي، فقال لي يوماً: لكن أخوك خيرٌ منك وهو على ديني، فقلت: لم آلُ نفسي خيراً، وأظهرت إسلامي يوم الفتح، فرحَّب بي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكتبتُ له(2).
وضوءه للنبي صلّى الله عليه وسلّم
7 - كنتُ أُوَضِّئ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزع قميصه وكسانيه، فرفعتُه، وخبأتُ قُلامة أظفاره، فإذا متُّ، فألبسوني القميصَ على جلدي، واجعلوا القلامة مسحوقة في عيني، فعسى الله أن يرحمني ببركتها(3).
شهادة ابن عباس له بالفقه
8 - عن ابن أبي مليكة قال: "أوتر معاوية بعد العشاء بركعةٍ وعندَهُ مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس، فقال: دَعهُ فإنه قد صحِبَ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم".
__________
(1) أخرجه أبو زرعة في "تاريخ دمشق" (1: 188، 346)، ورواه الذهبي في سير أعلام النبلاء (3: 150).
(2) ابن سعد (7: 406)، وابن عساكر (16: 339).
(3) أنساب الأشراف (4: 153)، وتاريخ الإسلام (2: 323)، وتاريخ الطبري (5: 326) وسير أعلام النبلاء (3: 160).(12/3)
9 - وعن ابن مُلَيكَةَ "قيل لابن عباسٍ: هل لكَ في أميرِ المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه"(1).
كتابته الوحي للنبي صلّى الله عليه وسلّم
10 - وقد ثبت في صحيح مسلم من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس، قال: قال أبو سفيان: يا رسول الله ثلاثاً أعطنيهن، قال: نعم، قال: تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم! قال ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم: وذكر الثالثة وهو أنه أراد أن يزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بابنته الأخرى عزة بنت أبي سفيان، واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة، فقال: "إن ذلك لا يحل لي".
والمقصود منه أن معاوية كان من جملة الكتاب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين يكتبون الوحي.
11 - وروى الإمام أحمد، ومسلم، والحاكم في مستدركه من طريق أبي عوانة _ الوضاح بن عبد الله اليشكري. عن أبي حمزة عمران بن أبي عطاء، عن ابن عباس. قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد جاء فقلت: ما جاء إلا إلي، فاختبأت على باب فجاءني فخطأني خطأت أو خطأتين، ثم قال: "اذهب فادع لي معاوية- وكان يكتب الوحي – قال: فذهبت فدعوته له فقيل: إنه يأكل، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت إنه يأكل، فقال: اذهب فادعه، فأتيته الثانية فقيل: إنه يأكل فأخبرته؛ فقال في الثالثة: لا أشبع الله بطنه" قال: فما شبع بعدها؛ وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه، أما في دنياه فإنه لما صار إلى الشام أميراً، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً ويقول: والله ما أشبع وإنما أعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك.
__________
(1) أخرجهما البخاري في فضائل الصحابة (3764)، (3765) باب ذكر معاوية رضي الله عنه، فتح الباري (7: 103).(12/4)
12 - وأما في الآخرة فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة. أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه – وليس لذلك أهلاً – فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة.
فركب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية(1).
من خطبته
13 - عن عُبادة بن نُسَيّ، قال: خطب معاوية، فقال: إني من زرعٍ قد استحصد، وقد طالت إمرتي عليكم حتى ملِلتُكم ومللتموني، ولا يأتيكم بعدي خير مني، كما أن من كان قبلي خير مني. اللهم قد أحببت لقاءك فأحبَّ لقائي(2).
14 - عن ثابت مولى سفيان: سمعتُ معاويةَ، وهو يقول: إني لستُ بخيركم، وإن فيكم من هو خير مني: ابن عمر، وعبد الله بن عمرو وغيرهما. ولكني عسيتُ أن أكونَ أنكاكم في عدوّكم، وأنعمكم لكم ولايةً، وأحسنكم خُلقاً(3).
معاوية أميراً على الشام
__________
(1) ابن كثير في البداية والنهاية (8: 119-120).
(2) أنساب الأشراف (4: 44)، والأمالي للقالي (2: 311)، وتاريخ الإسلام (2: 323)، وسير أعلام النبلاء (3: 159)، والبداية لابن كثير (8: 141).
(3) رواه الذهبي في سير أعلام النبلاء (3: 15)، عن ابن عساكر.(12/5)
15 - وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن قدامة الجوهري حدثني عبد العزيز بن يحيى عن شيخ له. قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم، فلما دنا من عمر قال له: أنت صاحب الموكب؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: هذا حالك مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: هو ما بلغك من ذلك. قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافياً إلى بلاد الحجاز، قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم به، فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت. فقال له عمر: يا معاوية ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرب، لئن كان ما قلت حقاً إنه لرأي أريت، ولئن كان باطلاً إنه لخديعة أديت. قال: فمرني يا أمير المؤمنين بما شئت، قال: لا آمرك ولا أنهاك. فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه؟! فقال عمر: لحسن موارده ومصادره جشمناه ما جشمناه. وفي رواية أن معاوية تلقي عمر حين قدم الشام، ومعاوية في موكب كثيف، فاجتاز بعمر وهو وعبد الرحمن بن عوف راكبان على حمار، ولم يشعر بهما، فقيل له: إنك جاوزت أمير المؤمنين، فرجع، فلما رأى عمر ترجل وجعل يقول له ما ذكرنا، فقال عبد الرحمن بن عوف: ما أحسن ما صدر عما أوردته فيه يا أمير المؤمنين!؟ فقال: من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه(1).
سرد شبهات الرافضة حول معاوية رضي الله عنه والرد عليها واحدة واحدة
قال الرافضي: "مع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعن معاوية الطليق بن الطليق، اللعين بن اللعين، وقال: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه. وكان من المؤلفة قلوبهم، وقاتل علياً وهو عندهم رابع الخلفاء، إمام حق، وكل من حارب إمام حق فهو باغ ظالم".
__________
(1) البداية والنهاية (8: 124-125).(12/6)
قال: "وسبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعليّ عليه السلام، ومفارقته لأبيه، وبغض معاوية لعلي ومحاربته له. وسموه كاتب الوحي ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي، بل كان يكتب له رسائل. وقد كان بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم أربعة عشر نفساً يكتبون الوحي، أولهم وأخصهم وأقربهم إليه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، مع أن معاوية لم يزل مشركاً بالله تعالى في مدة كَوْن النبي صلّى الله عليه وسلّم مبعوثاً – يُكذِّب بالوحي ويهزأ بالشرع".
والجواب: أن يقال: "أما ما ذكره من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لعن معاوية وأمر بقتله إذا رؤي على المنبر، فهذا الحديث ليس في شيء من كتب الإسلام التي يرجع إليها في علم النقل، وهو عند أهل المعرفة بالحديث كذب موضوع مختلق على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا الرافضي الراوي له لم يذكر له إسناداً حتى يُنظر فيه، وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات(1).
__________
(1) قال ابن الجوزي في كتابه "الموضوعات" 2/24 إن هذا الحديث يُروى من حديث ابن مسعود وأبي سعيد والحسن مرسلاً. ثم تكلم على طرق الحديث الثلاثة 2/24-26 ثم قال: "هذا حديث موضوع لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أما حديث ابن مسعود ففيه رجلان متهمان بوضعه أحدهما عبّاد بن يعقوب وكان غالياً في التشيع" ثم تكلم ابن الجوزي عنه وعن تضعيف العلماء له ثم قال: "وأما حديث أبي سعيد ففي الطريق الأول مجالد ... وفي الطريق الثاني عليّ بن زيد" وبيّن ابن الجوزي أ، علماء الجرح والتعديل يعدون الأول كذاباً والثاني مختلط العقل وكان يهم ويخطئ ويستحق الترك. قال ابن الجوزي: "قلت: وقد تحذلق قوم لينفروا عن معاوية ما قُذف به في هذا الحديث ثم انقسموا قسمين، فمنهم من غير لفظ الحديث وزاد فيه ومنهم من صرفه إلى غيره" وتلكم ابن الجوزي عليهم 2/26-27 .(12/7)
ومما يبيّن كذبه أن منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم قد صعد عليه بعد معاوية من كان خيراً منه باتفاق المسلمين. فإن كان يجب قتل من صعد عليه لمجرد الصعود على المنبر، وجب قتل هؤلاء كلهم. ثم هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن مجرد صعود المنبر لا يبيح قتل مسلم. وإن أمر بقتله لكونه تولّى الأمر وهو لا يصلح، فيجب قتل كل من تولّى الأمر بعد معاوية ممن معاوية أفضل منه. وهذا خلاف ما تواترت به السنن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من نهيه عن قتل ولاة الأمور وقتالهم، كما تقدم بيانه.
ثم الأمة متفقة على خلاف هذا؛ فإنها لم تقتل كل من تولّى أمرها ولا استحلّت ذلك. ثم هذا يوجب من الفساد والهرج ما هو أعظم من ولاية كل ظالم، فكيف يأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بشيء يكون فعله أعظم فساداً من تركه؟!
وأما قوله: "إنه الطليق ابن الطليق".
فهذا ليس نعت ذم؛ فإن الطلقاء هم مسلمة الفتح، الذين أسلموا عام فتح مكة، وأطلقهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا نحواً من ألفي رجل، وفيهم من صار من خيار المسلمين، كالحارث بن هشام، وسهل بن عمرو(1)، وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، ويزيد بن أبي سفيان، وحكيم بن حزام، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يهجوه ثم حسن إسلامه، وعتّاب بن أسيد الذي ولاّه النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة لما فتحها(2) وغير هؤلاء ممن حَسُن إسلامه.
__________
(1) في "الإصابة" 2/88: سهل بن عمرو بن عبد شمس العامري، أخو سهيل، ذكر ابن سعد أنه أسلم يوم الفتح. وقال أبو عمر: مات في خلافة أبي بكر أو عمر.
(2) في "الإصابة" 2/444: "عتّاب (بالتشديد) بن أسيد (بفتح أوله) بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس الأموي أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد .... أسلم يوم الفتح واستعمله النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على مكة".(12/8)
ومعاوية ممن حَسُن إسلامه باتفاق أهل العلم. ولها ولاّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه موضع أخيه يزيد بن أبي سفيان لما مات أخوه يزيد بالشام، وكان يزيد بن أبي سفيان من خيار الناس، وكان أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر وعمر لفتح الشام: يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، مع أبي عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، فلما توفي يزيد بن أبي سفيان ولّى عمر مكانه أخاه معاوية، وعمر لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، وليس هو ممن يحابي في الولاية، ولا كان ممن يحب أبا سفيان أباه، بل كان من أعظم الناس عداوة لأبيه أبي سفيان قبل الإسلام، حتى أنه لما جاء به العباس يوم فتح مكة كان عمر حريصاً على قتله، حتى جرى بينه وبين العباس نوع من المخاشنة بسبب بغض عمر لأبي سفيان. فتولية عمر لابنه معاوية ليس لها سبب دنيوي، ولولا استحقاقه للإمارة لما أمّره.
ثم إنه بقي في الشام عشرين سنة أميراً، وعشرين سنة خليفة، ورعيته من أشد الناس محبة له وموافقة له، وهو من أعظم الناس إحساناً إليهم وتأليفاً لقلوبهم، حتى إنهم قاتلوا معه عليّ بن أبي طالب وصابروا عسكره، حتى قاوموهم وغلبوهم، وعليٌّ أفضل منه وأعلى درجة، وهو أولى بالحق منه وأحق بالأمر، ولا ينكر ذلك منهم إلا معاند أو من أعمى الهوى قلبه.
ولم يكن معاوية قبل تحكيم الحكمين يدَّعي الأمر لنفسه، ولا يتسمَّى باسم أمير المؤمنين، بل إنما ادّعى ذلك بعد حكم الحكمين، وكان غير واحد من عسكر معاوية يقول له: لم ذا تقاتل علياً وليس لك سابقته ولا فضله ولا صهره، وهو أولى بالأمر منك؟ فيعترف لهم معاوية بذلك. لكن قاتلوا مع معاوية لظنهم أن عسكر عليّ فيه ظلمة يعتدون عليهم كما اعتدوا على عثمان، وأنهم يقاتلونهم دفعاً لصيالهم عليهم، وقتال الصائل جائز، ولهذا لم يبدؤوهم بالقتال حتى بدأهم أولئك ولهذا قال الأشتر النخعي: إنهم يُنصرون علينا لأنَّا بدأناهم بالقتال.(12/9)
وعليّ رضي الله عنه كان عاجزاً عن قهر الظلمة من العسكرَيْن، ولم تكن أعوانه يوافقونه على ما يأمر به، وأعوان معاوية يوافقونه، وكان يرى أن القتال يحصل به المطلوب، فما حصل به إلا ضد المطلوب، وكان في عسكر معاوية من يتهم عليّاً بأشياء من الظلم هو بريء منها، وطالب الحق من عسكر معاوية يقول: لا يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ولا يظلمنا، ونحن إذا بايعنا ظلمنا عسكره، كما ظُلم عثمان. وعليّ إما عاجز عن العدل فينا، أو غير فاعل لذلك، وليس علينا أن نبايع عاجزاً عن العدل ولا تاركاً له. فأئمة السنة يعلمون أنه ما كان القتال مأمور به: لا واجباً ولا مستحباً، ولكن يعذرون من اجتهد فأخطأ.
حُسن إسلام المؤلفة قلوبهم
وأما قوله: "كان معاوية من المؤلَّفة قلوبهم".
فنعم وأكثر الطلقاء كلهم من المؤلفة قلوبهم، كالحارث بن هشام، وابن أخيه عكرمة بن أي جهل، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وحكيم بن خزام، وهؤلاء من خيار المسلمين. والمؤلفة قلوبهم غالبهم حَسُن إسلامه، وكان الرجل منهم يُسلم أول النهار رغبة منه في الدنيا، فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس.
وأما قوله: "وقاتل عليّاً وهو عندهم رابع الخلفاء إمام حق، وكل من قاتل إمام حقٍ فهو باغ ظالم".(12/10)
فيقال له: أولاً الباغي قد يكون متأوّلاً معتقداً أنه على حق، وقد يكون متعمداً يعلم أنه باغٍ، وقد يكون بَغْيُهُ مركبّاً من شبهة وشهوة، وهو الغالب. وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة؛ فإنهم لا ينزهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب، فضلاً عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد، بل يقولون: إن الذنوب لها أسباب تُدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفِّرة، وغير ذلك. وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم. والحكاية المعروفة عن المسور بن مخرمة، وكان من خيار صغار الصحابة، لما أتى معاوية، وخلا به، وطلب منه أن يخبره بجميع ما ينقمه عليه، فذكر له المسور جميع ما ينقمه عليه. فقال: ومع هذا يا مسور ألك سيئات؟ قال: نعم. قال: أترجو أن يغفرها الله؟ قال: نعم. فما جعلك أرجى لرحمة الله مني؟ وإني مع ذلك والله ما خُيِّرت بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على غيره، ووالله لما أليه من الجهاد وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل من عملك، وأنا على دين يقبل من أهله الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات، فما جعلك أرجى لرحمة الله من؟ قال المسور بن مخرمة: فخصمني. أو كما قال.(12/11)
ويقال لهم: ثانياً: أما أهل السنة فأصلهم مستقيم مطّرد في هذا الباب. وأما أنتم فمتناقضون. ذلك أن النواصب – من الخوارج وغيرهم – الذين يكفّرون عليّاً أو يفسّقونه أو يشكّون في عدالته من المعتزلة والمروانية وغيرهم، لو قالوا لكم: ما الدليل على إيمان عليّ وإمامته وعدله؟ لم يكن لكم حجة؛ فإنكم إن احتججتم بما تواتر من إسلامه وعبادته، قالوا لكم: وهذا متواتر عن الصحابة، والتابعين والخلفاء الثلاثة، وخلفاء بني أمية كمعاوية ويزيد وعبد الملك وغيرهم، وأنتم تقدحون في إيمانهم، فليس قدحنا في إيمان عليّ وغيره إلا وقد حكم في إيمان هؤلاء أعظم، والذين تقدحون أنتم فيهم أعظم من الذين نقدح نحن فيهم. وإن احتججتم بما في القرآن من الثناء والمدح. قالوا: إن آيات القرآن عامة تتناول أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم مثل ما تتناول عليّاً أو أعظم من ذلك. وأنتم قد أخرجتم هؤلاء من المدح والثناء فإخراجنا عليّاً أيسر. وإن قلتم بما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في فضائله: قالوا هذه الفضائل روتها الصحابة الذين رووا فضائل أولئك، فإن كانوا عدولاً فاقبلوا الجميع، وإن كانوا فسّاقاً فإن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا، وليس لأحد أن يقول في الشهود: إنهم إن شهدوا لي كانوا عدولاً، وإن شهدوا عليّ كانوا فسّاقاً، أو: إن شهدوا بمدح من أحببته كانوا عدولاً، وإن شهدوا بمدح من أبغضته كانوا فسّاقاً.(12/12)
وأما إمامة عليّ فهؤلاء ينازعونكم في إمامته هم وغيرهم. فإن احتججتم عليهم بالنص الذي تدّعونه، كان احتجاجهم بالنصوص التي يدّعونها لأبي بكر – بل العباس – معارضاً لذلك، ولا ريب عند كل على تصديقها بدلالات كثيرة يعلمها من ليس من علماء أهل الحديث. وإن احتججتم بمبايعة الناس له. قالوا: من المعلوم أن الناس اجتمعوا على بيعة أبي بكر وعمر وعثمان أعظم مما اجتمعوا على بيعة عليّ، وأنتم قد قدحتم في تلك البيعة، فالقدح في هذه أيسر، فلا تحتجون على إمامة عليّ بنص ولا إجماع إلا كان مع أولئك من النص والإجماع ما هو أقوى من حجتكم، فيكون إثبات خلافة من قدحتم في خلافته أولى من إثبات خلافة من أثبتم خلافته.
وهذا لا يرد على أهل السنة؛ فإنهم يثبتون خلفة الخلفاء كلهم، ويستدلون على صحة خلافتهم بالنصوص الدالة عليها، ويقولون: إنها انعقدت بمبايعة أهل الشوكة لهم، وعليّ بايعه أهل الشوكة، وإن كانوا لم يجتمعوا عليه كما اجتمعوا عَلَى من قبله، لكن لا ريب أنه كان له سلطان وقوة بمبايعة أهل الشوكة له، وقد دل النصّ على أن خلافته خلافة نبوة.
وأما تخلف من تخلف عن مبايعته، فعذرهم في ذلك أظهر من عذر سعد بن عبادة وغيره لما تخلّفوا عن بيعة أبا بكر، وإن كان لم يستقر تخلف أحد إلا سعد وحده، وأما عليّ وغيره فبايعوا الصديق بلا خلاف بين الناس. لكن قيل: إنهم إن تأخروا عن مبايعته ستة أشهر، ثم بايعوه.(12/13)
وهم يقولون للشيعة: عليّ إما أن يكون تخلّف أولاً عن بيعة أبي بكر، ثم بايعه بعد ستة أشهر، كما تقول ذلك طائفة من أهل السنة مع الشيعة. وإما يكون بايعه أول يوم، كما يقول ذلك طائفة أخرى. فإن كان الثاني بطل قول الشيعة: إنه تخلّف عن بيعته، وثبت أنه كان من أول السابقين إلى بيعته. وإن كان الأول، فعذر من تخلف عن بيعة عليّ أظهر من عذر من تخلف عن بيعة أبي بكر، لأن النص والإجماع المثبتين لخلافة أبي بكر، ليس في خلافة عليّ مثلها، فإنه ليس في الصحيحين ما يدل على خلافته، وإنما روى ذلك أهل السنن.
وقد طعن أهل الحديث في حديث سفينة(1). وأما الإجماع فقد تخلف عن بيعته والقتال معه نصف الأمة، أو أقل أو أكثر.
والنصوص الثابتة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم تقتضي أن ترك القتال كان خيراً للطائفتين، وأن القعود عن القتال كان خيراً من القيام فيه، وأن عليّاً، مع كونه أوْلى بالحق من معاوية وأقرب إلى الحق من معاوية، لو ترك القتال لكان أفضل وأصلح وخيراً.
وأهل السنة يترحّمون على الجميع، ويستغفرون لهم، كما أمرهم الله تعالى بقوله: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [الحشر: 10].
__________
(1) الحديث في سنن أبي داود 4/293 (كتاب السنة، باب في الخلفاء)، سنن الترمذي 3/341 (كتاب الفتن، باب ما جاء في الخلافة) وقال الترمذي: هذا حديث حسن قد رواه غير واحد عن سعيد بن جهمان ولا نعرفه إلا من حديثه)، المستدرك للحاكم 3/71.
... وتكلم الأستاذ محب ا لدين الخطيب (المنتقى من منهاج الاعتدال، ص57 ت2) على سند الحديث وبين ضعفه وأشار إلى عدم تصحيح ابن العربي له في "العواصم من القواصم"، ص201، القاهرة 1371، ولكن الألباني صحح الحديث في "صحيح الجامع الصغير" 3/118.(12/14)
وأما الرافضي فإذا قدح في معاوية رضي الله عنه بأنه كان باغياً ظالماًًًًًً: قال له الناصبي: وعليّ أيضاً كان باغياً ظالماً لما قتل المسلمين على إمارته، وبدأهم بالقتال، وصال عليهم، وسفك دماء الأمة بغير فائدة لهم: لا في دينهم ولا في دنياهم، وكان السيف في خلافته مسلولاً على أهل الملة، مكفوفاً عن الكفّار.
والقادحون في عليّ طوائف: طائفة تقدح فيه وفيمن قاتله جميعاً. وطائفة تقول فسق أحدهما لا بعينه، كما يقول ذلك عمرو بن عبيد وغيره من شيوخ المعتزلة، ويقول في أهل الجمل: فسق إحدى الطائفتين لا بعينها، وهؤلاء يفسِّقون معاوية. وطائفة تقول: هو الظالم دون معاوية، كما يقول ذلك المروانية. وطائفة تقول: كان في أول الأمر مصيباً، فلما حكّم الحكمين كفر وارتد عن الإسلام، ومات كافراً. وهؤلاء هم الخوارج.(12/15)
فالخوارج والمروانية وكثير من المعتزلة وغيرهم يقدحون في عليّ رضي الله عنه. وكلهم مخطئون في ذلك ضالّون مبتدعون. وخطأ الشيعة في القدح في أبي بكر وعمر أعظم من خطأ أولئك. فإن قال الذاب عن عليّ: هؤلاء الذين قاتلهم عليّ كانوا بغاة، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعمّار بن ياسر رضي الله عنه: ”تقتلك الفئة الباغية“ وهم قتلوا عمّاراً. فههنا للناس أقوال: منهم من قدح في حديث عمّار، ومنهم من تأوّله على أن الباغي الطالب، وهو تأويل ضعيف. وأما السلف والأئمة فيقول أكثرهم – كأبي حنيفة ومالك وأحمد ويغرهم: لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية؛ فإن الله لم يأمر بقتالها ابتداءً، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يُصلح بينهما، ثم إن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت التي تبغي. وهؤلاء قوتلوا ابتداءً قبل أن يبدؤوا بقتال. ومذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما أن مانعي الزكاة إذا قالوا: نحن نؤديها بأنفسنا ولا ندفعها إلى الإمام، لم يكن له قتالهم، ولهذا كان هذا القتال عن أحمد وغيره – كمالك – قتال فتنة. وأبو حنيفة يقول: لا يجوز قتال البغاة حتى يبدؤوا بقتال الإمام. وهؤلاء لم يبدؤوه بل الخوارج بدؤوا به. وأما قتال الخوارج فهو ثابت بالنص والإجماع.(12/16)
فإن قال الذاب عن عليّ: كان عليّ مجتهداً في ذلك. قال له منازعه: ومعاوية كان مجتهداً في ذلك. فإن قال: كان مجتهداً مصيباً، ففي الناس من يقول له: ومعاوية كان مجتهداً مصيباً أيضاً، بناءً على أن كل مجتهد مصيب. وهو قول الأشعري. ومنهم من يقول: بل معاوية مجتهد مخطئ وخطأ المجتهد مغفور. ومنهم من يقول: بل المصيب أحدهما لا بعينه. ومن الفقهاء من يقول: كلاهما كان مجتهداً، لكن عليّ كان مجتهداً مصيباً، ومعاوية كان مجتهداً مخطئاً. والمصيب له أجران، والمخطئ له أجر. ومنهم من يقول بل كلاهما مجتهد مصيب بناء على قولهم كل مجتهد مصيب، وهو قول الأشعري وكثير من أصحابه، وطائفة من أصحاب أحمد وغيره، ومنهم من يقول: المصيب واحد لا بعينه.
وهذه الأقوال ذكرها أبو عبد الله بن حامد عن أصحاب الإمام أحمد، لكن المنصوص عنه نفسه وعن أمثاله من الأئمة أن ترك القتال كان خيراً من فعله، وأنه قتال فتنة.
ولهذا كان عمران بن حصين رضي الله عنه ينهى عن بيع السلاح فيه، ويقول: لا يباع السلاح في الفتنة. وهذا قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم، وأكثر من كان بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهو قول أكثر أئمة الفقه والحديث.
وقالت الكرَّامية: بل كلاهما إمام مصيب، ويجوز عقد البيعة لإمامين عند الحاجة، ومن نازعه في أنه كان إمام حق لم يكن الرافضي أن يحتج على إمامته بحجةٍ إلا نَقَضَها ذلك المعارض، ومن سلم له أنه كان إمام حق كأهل السنة فإنه يقول: الإمام الحق ليس معصوماً، ولا يجب على الإنسان أن يقاتل معه كل من خرج عن طاعته، ولا يطيعه الإنسان فيما يعلم أنه معصية لله، أو أن تركه خير من فعله.
والصحابة الذين لم يقاتلوا معه كانوا يعتقدون أن ترك القتال خير من القتال، وأنه معصية، فلم يجب عليهم موافقته في ذلك.(12/17)
والذين قاتلوه لا يخلو: إما أن يكونوا عصاة، أو مجتهدين مخطئين، أو مصيبين. وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح في إيمانهم ولا يمنعهم الجنة.
فإن الله تعالى قال: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الحجرات: 9، 10]، فسمّاهم إخوة ووصفهم بأنهم مؤمنون مع وجود الاقتتال بينهم، والبغي من بعضهم على بعض.
فمن قاتل عليّاً: فإن كان باغياً فليس ذلك بمخرجه من الإيمان ولا بموجب له النيران، ولا مانع له من الجنان؛ فإن البغي إذا كان بتأويل كان صاحبه مجتهداً.
ولهذا اتفّق أهل السنة على أنه لا تفسق واحدة من الطائفتين، وإن قالوا في إحداهما: إنهم كانوا بغاة لأنهم كانوا متأوّلين مجتهدين، والمجتهد المخطئ لا يَكْفُر ولا يفسق، وإن تعمد البغي فهو ذنب من الذنوب، والذنوب يرفع عقابها بأسباب متعددة: كالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفّرة، وشفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ودعاء المؤمنين وغير ذلك.
وأما قوله: "إن سبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعليّ، ومفارقته لأبيه".
فكذب بيّن، وذلك أن محمد بن أبي بكر في حياة أبيه لم يكن إلا طفلاً له أقل من ثلاث سنين، وبعد موت أبيه كان من أشد الناس تعظيماً لأبيه، به كان يتشرف، وكانت له بذلك حرمة عند الناس.
شقيقة معاوية أم المؤمنين
وأما قوله: "إن سبب قولهم: لمعاوية: إنه خال المؤمنين دون محمد، أن محمداً هذا كان يحب عليّاً، ومعاوية كان يبغضه".(12/18)
فيقال: هذا كذب أيضاً؛ فإن عبد الله بن عمر كان أحق بهذا من المعنى من هذا وهذا، وهو لم يقاتل لا مع هذا ولا مع هذا، وكان معظِّماً لعليّ، محباً له، يذكر فضائله ومناقبه، وكان مبايعاً لمعاوية لما اجتمع عليه الناس غير خارج عليه، وأخته أفضل من أخت معاوية، وأبوه أفضل من أبي معاوية، والناس أكثر محبة وتعظيماً له من معاوية ومحمد، ومع هذا فلم يشتهر عنه خال المؤمنين. فعُلم أنه ليس سبب ذلك ما ذكره.
وأيضاً فأهل السنّة يحبون الذين لم يقاتلوا عليّاً أعظم مما يحبون من قاتله، ويفضِّلون من لم يقاتله على من قاتله، كسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم. فهؤلاء أفضل من الذين قاتلوا عليّاً عند أهل السنة. والحب لعليّ وترك قتاله خير بإجماع أهل السنة من بغضه وقتاله. وهم متفقون على وجوب موالاته ومحبته، وهم من أشد الناس ذبّاً عنه، ورداً على من يطعن عليه من الخوارج وغيرهم من النواصب، لكن لكل مقام مقال.
والرافضة لا يمكنهم أن يثبتوا وجوب موالاته كما يمكن أهل السنة. وأهل السنة متفقون على ذم الخوارج الذين هم أشد بغضاً له وعداوة من غيرهم. وأهل السنة متفقون على ذم الخوارج الذين هم أشد بغضاً له وعداوة من غيرهم. وأهل السنة متفقون على وجوب قتالهم، فكيف يفتري المفتري عليهم بأن قَدَح هذا لبغضه عليّاً وذَمّ هذا لحبه عليّاً، مع أنه ليس من أهل السنة من يجعل بغض عليّ طاعة ولا حسنة، ولا يأمر بذلك، ولا من يجعل مجرد حبه سيئة ولا معصية، ولا ينهى عن ذلك.(12/19)
وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبه، وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق، وهم ينكرون على من سبَّه، وكارهون لذلك. وما جرى من التسابّ والتلاعن بين العسكرين، من جنس ما جرى من القتال. وأهل السنة من أشد الناس بغضاً وكراهة لأن يُتعرض له بقتال أو سب، بل هم كلهم متفقون على أنه أجلّ قدراً، وأحق بالإمامة، وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه وأخيه الذي كان خيراً منه، وعليّ أفضل ممن هو أفضل من معاوية رضي الله عنه، فالسابقون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من الذين أسلموا عام الفتح، وفي هؤلاء خلق كثير أفضل من معاوية، وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء كلهم، وعليّ أفضل جمهور الذين بايعوا تحت الشجرة، بل هو أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة، فليس في أهل السنة من يقدّم عليه أحداً غير الثلاثة، بل يفضّلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
وما في السنة من يقول: إن طلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف أفضل منه، بل غاية ما قد يقولون السكوت عن التفضيل بين أهل الشورى، وهؤلاء أهل الشورى عندهم أفضل السابقين الأولين، والسابقون الأولون أفضل من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وهم على أصح القولين الذين بايعوا تحت الشجرة عام الحديبية، قيل: من صلّى إلى القبلتين، وليس بشيء.
وممن أسلم بعد الحديبية خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وشيبة الحجبي(1) وغيرهم. وأما سهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وأبو سفيان بن حرب، وابناه يزيد ومعاوية، وصفوان بن أمية، وغيرهم، فهؤلاء مسلمة الفتح. ومن الناس من يقول: إن معاوية رضي الله عنه أسلم قبل أبيه، فيجعلونه من الصنف الأول.
__________
(1) في "الإصابة" 2/157: "شيبة بن عثمان، وهو الأوقص بن أبي طلحة بن عبد الله بن عبد العزى بن عبد الدار القرشي العبدري الحجبي، أبو عثمان".(12/20)
وقد ثبت في الصحيح أنه كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”يا خالد لا تسبُّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحُد ذهباً ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه“(1). فنهى خالد ونحوه، من أنفق بعد الفتح وقاتل، أن يتعرضوا للذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وبيَّن أن الواحد من هؤلاء لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه.
__________
(1) الحديث – مع اختلاف في الأفاظ – عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في: البخاري 5/8 (كتاب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لو كنت متخذاً خليلاً)، مسلم 4/1967-1968 (كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة...)، سنن أبي داود 4/297-298 (كتاب السنة، باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)، المسند (ط. الحلبي) 3/11، 54، 63، 64، سنن ابن ماجه 1/57 (المقدمة، باب فضل أهل بدر).
... وفي اللسان: "المد ضرب من المكاييل وهو ربع صاع، وهو قد مُدّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، والصاع خمسة أرطال).
... وقال النووي (شرح مسلم 16/93): "وقال أهل اللغة: النصيف النصف... ومعناه: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ ثوابه في ذلك ثواب نفقة أحد أصحابي مُدّاً و نصف مُدّ".(12/21)
فإذا كان نهيه لخالد بن الوليد وأمثاله من مسلمة الحديبية، فكيف مسلمة الفتح الذين لم يسلموا إلا بعد فتح مكة؟ مع أن أولئك كانوا مهاجرين؛ فإن خالداً وعمْرواً ونحوهما ممن أسلم بعد الحديبية، وقبل فتح مكة، وهاجر إلى المدينة هو من المهاجرين، وأما الذين أسلموا بعد فتح مكة فلا هجرة لهم؛ فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة، وإذا استنفرتم فانفروا“ رواه البخاري(1).
__________
(1) الحديث عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم في: البخاري 4/15 (كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير)؛ مسلم 3/1487 (كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة...)؛ سنن الترمذي 3/74-75 (كتاب السير، باب ما جاء في الهجرة) وقال الترمذي: "وفي الباب عن أبي سعيد وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن حُبشي"؛ المسند (ط. المعارف) 3/307-308، 4/127، 321. والحديث في مواضع أخرى في البخاري والنسائي وابن ماجه والدارمي والمسند.(12/22)
ولهذا كان إذا أُتي بالواحد من هؤلاء ليبايعه بايعه على الإسلام ولا يبايعه على الهجرة. ومن هؤلاء أكثر بني هاشم، كعُقيل بن أبي طالب، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكذلك العباس؛ فإنه أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم في الطريق وهو ذاهب إلى مكة، لم يصل إلى المدينة. وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا غير أبي سفيان بن حرب، وكان شاعراً يهجو النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأدركه في الطريق، وكان ممن حسن إسلامه، وكان هو والعباس مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم حُنين لما انكشف الناس آخذين ببغلته. فإذا كانت هذه مراتب الصحابة عند أهل السنة، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وهم متفقون على تأخر معاوية وأمثاله من مسلمة الفتح عمَّن أسلم بعد الحديبية، وعلى تأخر هؤلاء عن السابقين الأولين أهل الحديبية، وعلى أن البدريين أفضل من غير البدريين، وعلى أن علياً أفضل من جماهير هؤلاء – لم يُقدَّم عليه أحد غير الثلاثة، فكيف ينسب إلى أهل السنة تسويته بمعاوية، أو تقديم معاوية عليه؟(12/23)
نعم مع معاوية طائفة كثيرة من المروانية وغيرهم، كالذين قاتلوا معه وأتباعهم بعدهم، يقولون: إنه كان في قتاله على الحق مجتهداً مصيباً، وأن علياً ومن معه كانوا إما ظالمين وإما مجتهدين مخطئين، وقد صُنِّف لهم في ذلك مصنفات مثل كتاب "المروانية" الذي صنَّفه الجاحظ(1)، وطائفة وضعوا لمعاوية فضائل ورووا أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك كلها كذب، ولهم في ذلك حجج طويلة ليس هذا موضعها.
ولكن هؤلاء عند أهل السنة مخطئون في ذلك، وإن كان خطأ الرافضة أعظم من خطأهم. ولا يمكن الرافضة أن ترد على هؤلاء بحجة صحيحة مع اعتقادهم مذهب الإمامية، فإن حجج الإمامية متناقضة، يحتجون بالحجج التي ينقضونها في موضع آخر، ويحتجون بالحجة العقلية أو السمعية مع دفعهم لما هو أعظم منها، وبخلاف أهل السنة فإن حججهم مطَّردة، كالمسلمين مع النصارى وغيرهم من أهل الكتاب، فيمكن لأهل السنة الانتصار لعلي ممن يذمه ويسبه أو يقول: إن الذين قاتلوه أولى بالحق منه، كما يمكن للمسلمين أن ينصروا المسيح ممن كذَّبه من اليهود وغيرهم، بخلاف النصارى فإنهم لا يمكنهم نصر قولهم في المسيح بالحجج العلمية على من كذبه من اليهود وغيرهم.
والمنتقصون لعليّ من أهل البدع طوائف: طائفة تكفره كالخوارج، وهؤلاء يكفِّرون معه عثمان وجمهور المسلمين، فثبت أهل السنة إيمان عليّ ووجوب موالاته بمثل ما يثبتون به إيمان عثمان ووجوب موالاته.
__________
(1) ينقل الأستاذ عبد السلام هارون في مقدمة كتاب "العثمانية" للجاحظ (ص9) عن المسعودي في كتابه "مروج الذهب" (3/253) قوله: "ثم لم يرض بهذا الكتاب المترجم بكتاب العثمانية حتى أعقبه بتصنيف كتاب آخر في إمامة المروانية وأقوال شيعتهم". ولم يذكر بروكلمان هذا الكتاب ضمن كتب الجاحظ المخطوطة.(12/24)
وطائفة يقولون: إنه وإن كان أفضل من معاوية، لكن كان معاوية مصيباً في قتاله، ولم يكن عليٍّ مصيباً في قتال معاوية، وهؤلاء كثيرون كالذين قاتلوا مع معاوية، وهؤلاء يقولون – أو جمهورهم –: إن علياً لم يكن إماماً مفترض الطاعة لأنه لم يثبت خلافته بنص ولا إجماع.
وهذا القول قاله طائفة أخرى ممن يراه أفضل من معاوية، وأنه أقرب إلى الحق من معاوية، ويقولون: إن معاوية لم يكن مصيباً في قتاله، لكن يقولون مع ذلك: إن الزمان كان زمان فتنة وفُرقة، لم يكن هناك إمام جماعة ولا خليفة.
وهذا القول قاله كثير من علماء أهل الحديث البصريين والشاميين والأندلسيين. وكان بالأندلس من بني أمية يذهبون إلى هذا القول، ويترحّمون على عليّ، ويثنون عليه، لكن يقولون: لم يكن خليفة، وإنما الخليفة من اجتمع الناس عليه، ولم يجتمعوا على عليّ. وكان من هؤلاء من يربع بمعاوية في خطبة الجمعة، فيذكر الثلاثة ويربع معاوية، ولا يذكر عليّاً، ويحتجون بأن معاوية اجتمع عليه الناس بالمبايعة لما بايعه الحسن، بخلاف عليّ فإن المسلمين لم يجتمعوا عليه، ويقولون لهذا: ربّعنا معاوية، لا لأنه أفضل من عليّ، بل عليّ أفضل منه، كما أن كثيراً من الصحابة أفضل من معاوية وإن لم يكونوا خلفاء.
وهؤلاء قد احتج عليهم الإمام أحمد وغيره بحديث سفينة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً“. وقال أحمد: من لم يربّع عليّ في الخلافة فهو أضل من حمار أهله. وتكلم بعض هؤلاء في أحمد بسب هذا الكلام، وقال: قد أنكر خلافته من الصحابة: طلحة، والزبير، وغيرهما ممن لا يقال فيه هذا القول. واحتجوا بأن الأحاديث التي فيها ذكر خلافة النبوة لا يُذكر فيها إلا الخلفاء الثلاثة.(12/25)
مثل ما روى الإمام أحمد في مسنده عن حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيد بن جدعان، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً: ”أيكم رأى رؤيا؟“ فقلت: أنا يا رسول الله، رأيت كأن ميزاناً دُلِّيَ من السماء فوُزِنْتُ بأبي بكر فرجحت أبي بكر، ثم وُزن أبو بكر بعمر فرجح أبو بكر بعمر، ثم وزن عمر بعثمان فرجح بعثمان ثم رفع الميزان. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء“(1).
__________
(1) ورد هذا الحديث في سنن أبي داود مرتين عن أبي بكرة رضي الله عنه الأولى منهما رواية صحيحة أولها: ”من رأى منكم رؤيا؟“... الحديث وهو في: سنن أبي داود 4/298 (كتاب السنة، باب في الخلفاء)، سنن الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" وجاء الحديث أيضاً في المستدرك 3/70-71 (كتاب معرفة الصحابة) 4/394 (كتاب تعبير الرؤيا) وقال الحاكم "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرّجاه".
... والرواية الثانية أولها بلفظ ”أيكم رأى رؤيا؟“ وفيها الزيادة التي قال فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء“ وهي في الصفحة التالية في سنن أبي داود 4/290 وقال المحقق عن هذا الحديث إن فيه علي بن زيد وهو ابن جدعان ولا يحتج بحديثه.
... وجاء الحديث في المسند (ط. الحلبي) 5/44، 50.
... وانظر المسند (ط. الحلبي) 4/63، 5/376.(12/26)
وروى أبو داود حديثاً عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر“. قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأما نَوْط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه"(1).
وروى أبو داود من حديث سمرة بن جندب أن رجلاً قال: يا رسول الله رأيت كان دلواً دُلي من السماء، فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها، فشرب شرباً ضعيفاً، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلَّع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلَّع، ثم جاء عليّ فأخذ بعراقيها فانتشطت فانتضح عليه منها شيء(2).
وروي عن الشافعي وغيره أنهم قالوا: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر وعمر، وعثمان.
__________
(1) سنن أبي داود 4/290 (كتاب السنة، باب في الخلفاء) وأوله: أرى الليلة رجل صالح... الحديث. وقال الأستاذ المحقق عليه في تعليقه إنه حديث منقطع.
... والحديث في: المسند (ط. الحلبي) 3/355، المستدرك للحاكم 3/71-72 (كتاب معرفة الصحابة) وقال الحاكم: "ولعاقبة هذا الحديث إسناد صحيح عن أبي هريرة ولم يخرجاه" وقال الذهبي: "تلخيص المستدرك" ذيل 3/74: صحيح.
... وضعف الألباني الحديث في "ضعيف الجامع الصغير وزيادته" 1/260-261.
(2) الحديث في سنن أبي داود 4/290-291.
... وفي النهاية لابن الأثير 3/88: العراقي جمع عرقوة الدلو وهي الخشبة المعروضة على فم الدلو وهما عرقوتان كالصليب... تضلَّع ( النهاية 3/23): أي أكثر من الشرب حتى تمدد جنبه وأضلاعه.
... وفي اللسان: مادة: نشط، نشط البئر من الدلو صعدا بغير قامة وهي البكرة... ويقال: نشطت وانتشطت: أي انتزعت.(12/27)
وما جاءت به الأخبار النبوية الصحيحة حق كله، فالخلافة التامة التي أجمع عليها المسلمون، وقوتل بها الكافرون، وظهر بها الدين، كانت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان. وخلافة عليّ اختلف فيها أهل القبلة، ولم يكن فيها زيادة قوة للمسلمين، ولا قهر ونقض للكافرين، ولكن هذا لا يقدح في أن عليّاً كان خليفة راشداً مهدياً، ولكن لم يتمكن كما تمكن غيره، ولا أطاعته الأمة كما أطاعت غيره، لم يحصل في زمنه الخلافة التامة العامة ما حصل في زمن الثلاثة، مع أنه من الخلفاء الراشدين المهديين.
وأم الذين قالوا: إن معاوية رضي الله عنه كان مصيباً في قتاله له، ولم يكن عليّ رضي الله عنه مصيباً في قتاله لمعاوية، فقولهم أضعف من قول هؤلاء. وحجة هؤلاء أن معاوية رضي الله عنه كان طالباً بدم عثمان رضي الله عنه، وكان هو ابن عمه ووليه، وبنو عثمان وسائر عصبته اجتمعوا إليه وطلبوا من عليّ أن يمكنهم من قتلة عثمان أو يسلمهم إليهم، فامتنع عليّ من ذلك، فتركوا مبايعته فلم يقاتلوه، ثم إن عليّاً بدأهم بالقتال فقاتلوه دفعاً لأنفسهم وبلادهم. قالوا: وكان عليّ باغياً عليهم.
وأما الحديث الذي روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لعمار: ”تقتلك الفئة الباغية“ فبعضهم ضعَّفه، وبعضهم تأوله. فقال بعضهم: معناه الطالبة لدم عثمان رضي الله عنه، كما قالوا: نبغي ابن عفان بأطراف الأسل. وبعضهم قال: ما يروى عن معاوية رضي الله عنه أنه قال لما ذكر هذا الحديث: أو نحن قتلناه؟ إنما قتله عليّ وأصحابه حيث ألقوه بين أسيافنا.
وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه ذُكر له هذا التأويل، فقال: فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يكونون قد قتلوا حمزة وأصحابه يوم أحد، لأنه قاتل معهم المشركين.(12/28)
وهذا القول لا أعلم له قائلاً من أصحاب الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل السنة، ولكن هو قول كثير من المروانية ومن وافقهم. ومن هؤلاء من يقول: إن عليّاً شارك في دم عثمان، فمنهم من يقول: إنه أمر علانية، ومنهم من يقول: إنه أمر سراً، ومنهم من يقول: بل رضي بقتله وفرح بذلك، ومنهم من يقول غير ذلك. وهذا كله كذب على عليّ رضي الله عنه وافتراء عليه، فعليّ رضي الله عنه لم يشارك في دم عثمان ولا أمر ولا رضي، وقد روي عنه – وهو الصادق البار – أنه قال: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله. وروي عنه أنه قال: ما قتلت ولا رضيت. وروي عنه أنه سمع أصحاب معاوية يلعنون قتلة عثمان، فقال: اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر، والسهل والجبل. روي أن أقواماً شهدوا عليه بالزور عند أهل الشام أنه شارك في دم عثمان، وكان هذا مما دعاهم إلى ترك مبايعته لما اعتقدوا أنه ظالم وأنه من قتلة عثمان، وأنه آوى قتلة عثمان لموافقته لهم على قتله.
وهذا وأمثاله مما يبين شبهة الذين قاتلوه، ووجه اجتهادهم في قتاله، لكن لا يدل على أنهم كانوا مصيبين في ترك مبايعته وقتاله؛ وكون قتلة عثمان من رعيته لا يوجب أنه كان موافقاً لهم، وقد اعتذر بعض الناس عن عليّ بأنه لم يكن يعرف القتلة بأعيانهم، أو بأنه كان لا يرى قتل الجماعة بالواحد، أو بأنه لم يدع عنده ولي الدم دعوى توجب الحكم له.
ولا حاجة إلى هذه الأعذار، بل لم يكن عليّ مع تفرق الناس عليه متمكناً من قتل قتلة عثمان إلا بفتنة تزيد الأمر شرّاً وبلاء، ودفع أفسد الفاسدين بالتزام أدناهما أولى من العكس، لأنهم كانوا عسكراً، وكان لهم قبائل تغضب لهم، والمباشر منهم للقتل – وإن كان قليلاً – فكان ردؤهم أهل الشوكة، ولولا ذلك لم يتمكنوا.
ولما سار طلحة والزبير إلى البصرة ليقتلوا قتلة عثمان، قام بسبب ذلك حرب قُتل فيها خلق.(12/29)
ومما يبين ذلك أن معاوية قد أجمع الناس عليه بعد موت عليّ، وصار أميراً على جميع المسلمين، ومع هذا فلم يقتل قتلة عثمان الذين كانوا بقوا، بل رُويَ عنه أنه لما قدم المدينة حاجاً فسمع الصوت في دار عثمان: "يا أمير المؤمنيناه، يا أمير المؤمنايناه"، فقال: ما هذا؟ قالوا: بنت عثمان تندب عثمان، فصرف الناس، ثم ذهب إليها فقال: يا ابنة عم إن الناس قد بذلوا لنا الطاعة على كره، وبذلنا لهم حلماً على غيظ، فإن رددنا حلمنا ردوا طاعتهم، ولأن تكون بنت أمير المؤمنين خير من أن تكوني واحدة من عرض الناس، فلا أسمعنك بعد اليوم ذكرت عثمان.
فمعاوية رضي الله عنه، الذي يقول المنتصر له: إنه كان مصيباً في قتال عليّ، لأنه كان طالباً لقتل قتلة عثمان، لما تمكن وأجمع الناس عليه لم يقتل قتلة عثمان، فإن كان قتلهم واجباً، وهو مقدور له، كان فعله بدون قتال المسلمين أوْلى من أن يقاتل علياً وأصحابه لأجل ذلك. ولو قتل معاوية قتلة عثمان لم يقع من الفتنة أكثر مما وقع ليالي صفين. وإن كان معاوية معذوراً في كونه لم يقتل قتلة عثمان إما لعجزه عن ذلك. أو لما يفضي إليه ذلك من الفتنة وتفريق الكلمة وضعف سلطانه. فعليّ أولى أن يكون معذوراً أكثر من معاوية، إذ كانت الفتنة وتفريق الكلمة وضعف سلطانه بقتل القتلة لو سعى في ذلك أشد. ومن قال: إن قتل الخلق الكثير الذين قُتلوا بينه وبين عليّ كان صواباً منه لأجل قتل قتلة عثمان، فقتل ما هو دون ذلك لأج قتل قتلة عثمان أوْلى أن يكون صواباً، وهو لم يفعل ذلك لما تولَّى، ولم يقتل قتلة عثمان.
وذلك أن الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت. فأما إذا أقبلت فإنها تُزين، ويظن أن فيها خيراً، فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء، صار ذلك مبيناً لهم مضرتها، وواعظاً لهم أن يعودوا في مثلها، كما أنشد بعضهم:
الحرب أول ما تكون فُتَيَّة
تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها(12/30)
ولَّت عجوزاً غير ذات حليل
شمطاء يُنكر لونها وتغيرت
مكروهة للشم والتقبيل(1)
والذين دخلوا في الفتنة من الطائفتين لم يعرفوا ما في القتال من الشر، ولا عرفوا مرارة الفتنة حتى وقعت، وصارت عبرة لهم ولغيرهم.
ومن استقرأ أحوال الفتن التي تجري بين المسلمين، تبين أنه ما دخل فيها أحد فحمد الله عاقبة دخوله، لا يحصل له من الضرر في دينه ودنياه. ولهذا كان من باب المنهيّ عنه، والإمساك عنها من المأمور به، الذي قال الله فيه: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63].
امتناع معاوية عن الطاعة لعلي هو سبب القتال
وأما قول القائل: "إن علياً بدأهم بالقتال".
قيل له: وهم أولاً امتنعوا من طاعته ومبايعته، وجعلوه ظالماً مشاركاً في دم عثمان، وقبلوا عليه شهادة الزور، ونسبوا إليه ما هو بريء منه.
وإذا قيل: هذا وحده لم يبح له قتالهم.
قيل: وهلا كان قتاله مباحاً لكونه عاجزاً عن قتل قتلة عثمان، بل لو كان قادراً على قتل قتلة عثمان وقُدر أنه ترك هذا الواجب: إما متأولاً وإما مذنباً، لم يكن ذلك موجباً لتفريق الجماعة، والامتناع عن مبايعته، ولمقاتلته، بل كانت مبايعته على كل حال أصلح في الدين، وأنفع للمسلمين، وأطوع لله ولرسوله من ترك مبايعته.
__________
(1) هذه الأبيات لعمر بن معد يكرب الزبيدي، وجاءت في ديونه ص156-157، صنعه هاشم الطعان، ط بغداد، 1390/1970 مع اختلاف في بعض ألفاظ الأبيات.(12/31)
فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاَّه الله أمركم“(1).
وثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”على المرء المسلم السمع والطاعة: في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وأثرة عليه، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة“(2)
__________
(1) الحديث في الموطأ 2/990 (كتاب الكلام، باب ما جاء في إضاعة المال) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ”إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثاً. يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم.
... ويسخط لكم: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال“.
... وجاء القسم الأخير من الحديث بمعناه في حديث آخر عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في:
... البخاري 2/124 (كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا }، 3/120 (كتاب الاستقراض، باب ما ينهى عن إضاعة المال)، مسلم 3/134 (كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل...)، المسند (ط. الحلبي) 4/246، 249، 254.
... المسند (ط. المعارف) 16/144 (رقم 8316)، 16/292-293 (رقم 7803).
(2) أدمج ابن تيمية هنا حديثين الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما ونصه: ”على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، إذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة“. الحديث الثاني هو حديث عبادة بن الصامت التالي لهذا الحديث. وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في:
... البخاري 9/63 (كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية) وهو بمعناه مع اختلاف في اللفظ: البخاري 4/49-50 (كتاب الجهاد والسير، باب السمع والطاعة للإمام)، مسلم 3/1469 (كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء...)، سنن الترمذي 3/125-126 (كتاب الجهاد، باب ما جاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).(12/32)
.
وفي الصحيحين عن عبادة رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة في: يسرنا وعسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول – أو نقوم – بالحق حيث ما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم"(1). وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”من رأى من أمير شيئاً يكرهه فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة قيدَ شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه“. وفي رواية: فارق الجماعة قيد شبر فمات ميتته ميتة جاهلية"(2).
__________
(1) الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه في: البخاري 9/47 (كتاب الفتن، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: سترون بعدي أموراً تنكرونها)، مسلم 3/1470-1471 (كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية...)، سنن النسائي 7/124-126 (كتاب البيعة، باب البيعة على السمع والطاعة، وباب البيعة على أن لا ننازع الأمر أهله، وباب البيعة على القول بالحق، وباب البيعة على القول بالعدل، وباب البيعة على الأثرة)، سنن ابن ماجه 2/957 (كتاب الجهاد، باب البيعة)، الموطأ 2/445-446 (كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد)، المسند (ط. الحلبي) 3/441، 5/314، 316. وجاء الحديث في مواضع أخرى في المسند.
(2) الحديث بروايتيه – مع اختلاف يسير في الألفاظ – عن ابن عباس رضي الله عنهما في:
... ا لبخاري 9/47 (كتاب الفتن، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم سترون من بعدي أموراً تنكرونها) مسلم 3/1477-1478، سنن الدارمي 2/241 (كتاب السير، باب لزوم الطاعة والجماعة)، المسند (ط. المعارف) 4/164، 245-246، 297.(12/33)
وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية“(1).
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: رجل لا يبايع إماماً إلا لدنيا: إن أعطاه منها رضي وإن منع منها سخط...“ الحديث(2).
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة“(3).
__________
(1) صحيح مسلم 3/1478 (كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن).
(2) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 3/178 (كتاب الشهادات، باب اليمين بعد العصر) ونصه: ”ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. رجل فضل على ماء بطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً لا يبايعه إلا لدينا فإن أعطاه – يريد: وَفَى له – وإلا لم يفِ له، ورجل ساوم بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطى به كذا وكذا فأخذها“. والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً في: البخاري 3/110-111 (كتاب الشرب والمساقاة، باب إثم مانع ابن السبيل من الماء)، 9/79 (كتاب الأحكام، باب من بايع رجلاً لا يبايعه إلا لدينا)، مسلم 1/103 (كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية...)، سنن النسائي 7/217 (كتاب البيوع، باب الحلف الواجب للخديعة في البيع)، المسند (ط. المعارف) 13/180.
(3) الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه في:
... البخاري 1/136 (كتاب الأذان، باب إمامة العبد والمولى)، 9/62 (كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية)، سنن ابن ماجه 2/955 (كتاب الجهاد، باب طاعة الإمام)، المسند (ط. الحلبي) 3/114، 171.(12/34)
وعليّ رضي الله عنه كان قد بايع أهل الكوفة، ولم يكن في وقته أحق منه بالخلافة، وهو خليفة راشد تجب طاعته. ومعلوم أن قتل القاتل إنما شُرع عصمة للدماء، فإذا أفضى قتل الطائفة القليلة إلى قتل أضعافها، لم يكن هذا طاعة ولا مصلحة، وقد قُتل بصفين أضعاف أضعاف قتلة عثمان.
وأيضاً فقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث متفق على صحته: ”تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق“(1). يدل على أن عليّاً وأصحابه أدنى إلى الحق من معاوية وأصحابه، فلا يكون معاوية وأصحابه في قتالهم لعليّ أدنى إلى الحق.
وكذلك حديث عمار بن ياسر: ”تقتلك الفئة الباغية“ قد رواه مسلم في صحيحه من غير وجه، ورواه البخاري، لكن في كثير من النسخ لم يذكره تاماً. وأما تأويل من تأوله: أن علياً وأصحابه قتلوه، وأن الباغية الطالبة بدم عثمان، فهذا من التأويلات الظاهرة الفساد، التي يظهر فسادها للعامة والخاصة. والحديث ثابت في الصحيحين، وقد روي عنه أنه ضعَّفه، فآخر الأمرين منه تصحيحه.
قال يعقوب بن شيْبة في مسنده في المكيين(2)
__________
(1) الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في:
... مسلم 2/745-746 (كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم).
... سنن أبي داود 4/300 (كتاب السنة، باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة). ...
... المسند (ط. الحلبي) 3/32، 48.
(2) ذكر سزكين أنه:
... "لم يصل إلينا منه إلا الجزء العاشر بعنوان "مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب" وذلك بالمكتبة الخاصة بسامي حداد في بيروت (25 ورقة) ونسخة مصورة بالقاهرة، ملحق 3/60-61 تحت رقم 19060، وطبع بيروت سنة 1940م.(12/35)
في مسند عمَّار بن ياسر، لما ذكر أخبار عمَّار: سمعت أحمد بن حنبل سُئل عن حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمَّار: ”تقتلك الفئة الباغية“ فقال أحمد قتلته الفئة الباغية، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال: في هذا غير حديث صحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكره أن يتكلم في هذا بأكثر من هذا. وقال البخاري في صحيحه(1): "حدثنا مسدَّد، حدثنا عبد العزيز بن المختار، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة، قال: قال لي ابن عباس ولابنه(2): انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا، حتى أتى على ذكر بناء المسجد، فقال: كنا نحمل لبِنَة لبنة، وعمَّار لبنتين لبنتين، فرآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل ينفض التراب عنه، ويقول: ”ويح عمَّار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار“. قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
__________
(1) 1/93 (كتاب الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد).
(2) البخاري: ولابنه عليّ.(12/36)
ورواه البخاري من وجه آخر(1)، عن عكرمة، عن أبي سعيد الخدري(2) لكن في كثير من النسخ لا يذكر الحديث بتمامه، بل فيها: ”ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار“. ولكن لا يختلف أهل العلم بالحديث أن هذه الزيادة هي في الحديث.
قال أبو بكر البيهقي وغيره: "قد رواه غير واحد عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما". وظن البيهقي وغيره أن البخاري لم يذكر الزيادة، واعتذر عن ذلك بأن هذه الزيادة لم يسمعها أبو سعيد من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن حدَّثه بها أصحابه، مثل أبي قتادة(3).
__________
(1) 4/21 (كتاب الجهاد، باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله – في الأصل: عن الناس في السبيل والتصحيح من فتح الباري 6/30).
(2) في البخاري: حدثنا إبراهيم عن موسى، أخبرنا عبد الوهاب، حدثنا خالد، عن عكرمة أن ابن عباس قال له ولعلي بن عبيد الله: ائتيا أبا سعيد فاسمعا من حديثه فأتيناه وهو وأخوة في حائط لهما يسقيانه، فلما رآنا جاء فاحتبى وجلس، فقال: كنا ننقل لبن المسجد لبنة لبنة – وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين، فمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومسح عن رأسه الغبار، وقال: ”ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، عمار يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النار“.
(3) انظر: السنن الكبرى للبيهقي 8/189.(12/37)
كما رواه مسلم في صحيحه(1) من حديث أبي شعبة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد(2)، قال: أخبرني من هو خير مني: أبو قتادة(3)، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعمار: ”تقتلك الفئة الباغية“.
وفي حديث داود بن أبي هند، عن أبي نظرة، عن أبي سعيد، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ”تمرق مارقة فتقتلهم أوْلى الطائفتين بالله“(4).
__________
(1) الحديث في: مسلم 4/2235-2236 (كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل...).
(2) في مسلم 4/2235: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار (واللفظ لابن المثنى) قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي مسلمة، قال: سمعت أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد الخدري... الخ.
(3) عبارة "أبو قتادة" ليست فلي حديث رقم 70 في الباب ولكنها وردت في الحديث التالي له رقم 71.
(4) هذه الرواية في مسلم وسندها فيه 2/746: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ”تمرق مارقة في فرقة من الناس، فيلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق“.(12/38)
وكان عمار يحمل لبنتين لبنتين. قال: فلم أسمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن جئت إلى أصحابي وهم يقولون: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ”ويحك ابن سمية تقتلك الفئة الباغية“(1) رواه مسلم في صحيحه والنسائي وغيرهما من حديث ابن عون، عن الحسن البصري، عن أمه، عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”تقتل عمار الفئة الباغية“(2). ورواه أيضاً من حديث شعبة، عن خالد، عن سعيد بن أبي الحسن، والحسن، عن أمهما، عن أم سلمة رضي الله عنهما(3). وفي بعض طرقه أنه قال ذلك في حفر الخندق(4).
وذكر البيهقي وغيره أن هذا غلط، والصحيح أنه إنما قاله يوم بناء المسجد. وقد قيل: إنه يحتمل أنه قاله مرتين.
وقد روي هذا من وجوه أخرى من حديث عمرو بن العاص وابنه عبد الله(5)، ومن حديث عثمان بن عفان(6)، ومن حديث نفسه(7). وأسانيد هذه مقاربة. وقد روي من وجوه أخرى واهية. وفي الصحيح ما يغني عن غيره.
__________
(1) ليس هذا لفظ مسلم ولكن الحديث رقم 70 فيه لفظة ”بؤس ابن سمية، تقتلك فئة باغية“ والحديث رقم 71 فيه نحوه ولكن فيه: ”وَبْسَ“ أو يقول: ”يا وَيْس ابن سمية“ ووجدت الحديث بهذا الإسناد وهذا اللفظ الغريب تقريباً في المسند (ط. الحلبي) 3/5.
(2) الحديث بهذا الإسناد وبهذا اللفظ هو الحديث رقم 73 في: مسلم، ولم أعرف مكان الحديث في النسائي.
(3) الحديث بهذا الإسناد هو الحديث رقم 72 في مسلم ولفظه: ”تقتلك الفئة الباغية“.
(4) النص على أن ذلك كان في حفر الخندق في الحديث رقم 70 في مسلم الذي أشرت إليه من قبل.
(5) في المسند (ط. المعارف) الأرقام: 6499، 6500، 6538، 6926، 6927 وصحح الشيخ أحمد شاكر رحمه الله هذه الأحاديث كلها وتكلم عليها.
(6) لم أعرف مكان حديث عثمان رضي الله عنه.
(7) في المسند (ط. الحلبي) 4/197، 199.(12/39)
والحديث ثابت صحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عند أهل العلم بالحديث(1)، والذين قتلوهم الذين باشروا قتله. والحديث أطلق فيه لفظ "البغي" لم يقيده بمفعول، كما قال تعالى: { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } [الكهف: 108]، وكما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”الذين هم فيكم تبع لا يبغون أهلا ولا مالاً“(2).
__________
(1) الحديث في سنن الترمذي 5/333 (كتاب المناقب، باب مناقب عمار بن ياسر) عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: ”أبشر يا عمار تقتلك الفئة الباغية“. قال الترمذي: "وفي الباب عن أم سلمة وعبد الله بن عمرو وأبي اليسر وحذيفة، هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث أبي العلاء بن عبد الرحمن". وصحح الألباني الحديث في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 2/269 (رقم 710) وتكلم على طرقه وألفاظه، والحديث أيضاً في المسند (ط. الحلبي) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه 3/5، 22، 28، 90-91، 5/306، 307 وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه فيه 5/214-215 وفيه أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها 6/289-290، 300، 311، 315 وذكر الألباني مكانه في طبقات ابن سعد وحلية أبي نعيم ومستدرك الحاكم وتاريخ الخطيب.
(2) هذا الجزء من حديث رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه في: 4/2197-2199 (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها أهل الدنيا أهل الجنة وأهل النار) ونصه فيه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم في خطبته: ”ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا. كل مال نحلته عبداً حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم... الحديث وفيه... وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْرَ له، الذين هم فيكم تبعاً لا يبتعون أهلاً ولا مالاً... الحديث. وذكر مسلم له طريقاً آخر جاء فيه: ”وهم فيكم تبعاً لا يبغون أهلاً ولا مالاً“.
... ومعنى لا زَبْرَ له: أي لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي.(12/40)
ولفظ البغي إذا أطلق فهو الظلم، كما قال تعالى: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9]، وقال: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } [البقرة: 173].
وأيضاً فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر هذا لما كانوا ينقلون اللبن لبناء المسجد، وكانوا ينقلون لبنة لبنة وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار“. وهذا ليس فيه ذم لعمار، بل مدح له. ولو كان القاتلون له مصيبين في قتله لم يكن مدحاً له، وليس في كونهم يطلبون دم عثمان ما يوجب مدحه.
وكذلك من تأول قاتله بأنهم الطائفة التي قاتل معها، فتأويله ظاهر الفساد، ويلزمهم ما ألزمهم إياه عليّ، وهو أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه قد قتلوا كمل من قتل معهم في الغزو، كحمزة وغيره. وقد يقال: فلان قتل فلاناً، إذا أمره بأمر كان فيه حتفه، ولكن هذا مع القرينة، لا يقال عند الإطلاق، بل القاتل عند الإطلاق الذي قتله دون الذي أمره.
ثم هذا يُقال لمن أمر غيره، وعمَّار لم يأمره أحد بقتال أصحاب معاوية، بل هو كان من أحرص الناس على قتالهم وأشدهم رغبة في ذلك، وكان حرصه على ذلك أعظم من حرص غيره، وكان هو يحض عليّاً وغيره على قتالهم.
ولهذا لم يذهب أحد من أهل العلم الذين تذكر مقالاتهم إلى هذا التأويل، بل أهل العلم في هذا الحديث على ثلاثة أقوال: فطائفة ضعفته لما روي عندها بأسانيد ليست ثابتة عندهم، ولكن رواه أهل الصحيح.
رواه البخاري كما تقدم من حديث أبي سعيد، ورواه مسلم من غير وجه من حديث الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها، ومن حديث أبي سعيد عن أبي قتادة وغيره.
ومنهم من قال: هذا دليل على أن معاوية وأصحابه بغاة، وأن قتال عليّ لهم قتال أهل العدل لأهل البغي، لكنهم بغاة متأولون لا يُكفرون ولا يُفسقون.(12/41)
ولمن يقال: ليس في مجرد كونهم بغاة ما يوجب الأمر بقتالهم فإن الله لم يأمر بقتال كل باغ، بل ولا أمر بقتال البغاة ابتداء، ولكن قال: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الحجرات: 9، 10]، فلم يأمر بقتال البغاة ابتداء، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يصلح بينهما، وهذا يتناول ما إذا كانتا باغيتين أو إحداهما باغية.(12/42)
ثم قال: { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } وقوله: { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } قد يُقال: المراد به البغي بعد الإصلاح، ولكن هذا خلاف ظاهر القرآن؛ فإن قوله تعالى: { بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى } يتناول الطائفتين المقتتلتين، سواء أصلح بينهما أو لم يصلح. كما أن الأمر بالإصلاح يتناول المقتتلتين مطلقاً؛ فليس في القرآن أمر بقتال الباغي ابتداءً لكن أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يُصلح بينهما، وأنه إن بغت إحداهما على الأخرى بعد القتال أن تُقاتل حتى تفيء. وهذا يكون إذا لم تُجب إلى الإصلاح بينهما، وإلا فإذا أجابت إلى الإصلاح بينهما لم تُقاتل، فلو قوتلت ثم فاءت إلى الإصلاح لم تقاتل، لقوله تعالى: { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } فأمر بعد القتال إلى أن تفيء أن يُصلح بينهما بالعدل وأن يُقسط.(12/43)
وقتال الفتنة لا يقع فيه هذا، وذلك قد يكون لأن الله لم يأمر بالقتال ابتداء، ولكن أمر إذا اقتتلوا وبغت إحداهما على الأخرى بقتال الفئة الباغية، وقد تكون الطائفة باغية ابتداء، لكن لما بغت أمر بقتالها، وحينئذ لم يكن المقاتل لها قادراً لعدم الأعوان أو لغير ذلك، وقد يكون عاجزاً ابتداءً عن قتال الفئة الباغية، أو عاجزاً عن قتالٍ تفيء فيه إلى أمر الله، فليس كل من كان قادراً على القتال كان قادراً على قتال تفيء فيه إلى أمر الله، وإذا كان عاجزاً عن قتالها حتى تفيء إلى أمر الله، لم يكن مأموراً بقتالها: لا أمر إيحاب ولا أمر استحباب، ولكن قد يظن أنه قادراً على ذلك، فتبين له في آخر الأمر أنه لم يكن قادراً. فهذا من الاجتهاد الذي يُثاب صاحبه على حسن القصد وفعل ما أمُر، وإن أخطأ فيكون له فيه أجر، ليس من الاجتهاد الذي يكون له في أجران؛ فإن هذا إنما يكون إذا وافق حكم الله في الباطن.
كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران“(1). ومن الاجتهاد أن يكون وليّ الأمر – أو نائبه – مخيراً بين أمرين فأكثر، تخير تحرٍّ للأصلح، لا تخير شهوة، كما يُخيَّر الإمام في الأسرى بين القتل والاسترقاق، والمن والفداء عند أكثر العماء.
__________
(1) الحديث عن عمرو بن العاص رضي الله عنه في: البخاري 9/108 (كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ)؛ مسلم 5/131-132 (كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد...) ولفظ الحديث فيهما: ”إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر“. وجاء الحديث بلفظ آخر عن عبد الله بن عمرو عن أبيه رضي الله عنهما في المسند (ط. المعارف) 11/39-40 (رقم 6755) وفي مسند عمرو (ط. الحلبي) 4/198-205. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه 11/ 41: "ورواه الدارقطني (ص:510) والحاكم (4: 88).(12/44)
فإن قوله تعالى: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } [محمد: 4] ليس بمنسوخ. وكذلك تخيير من نزل العدوّ على حكمه، كما نزل بنو قريظة على حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله حلفاؤهم من الأوس أن يمنَّ عليهم كما منَّ على بني النضير حلفاء الخزرج، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”ألا ترضون أن أحكِّم فيكم سعد بن معاذ سيد الأوس؟“ فرضيت الأوس بذلك، فأرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم خلف سعد بن معاذ، فجاء وهو راكب، وكان متمرضاً من أثر جرح به في المسجد، وبنو قريظة شرقي المدينة بينهم نصف نهار أو نحو ذلك، فلما أقبل سعد رضي الله عنه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”قوموا إلى سيدكم“ فقاموا وأقاربه في الطريق يسألونه أن يمنَّ عليهم، ويذكِّرونه بمعاونتهم ونصرهم له في الجاهلية، فلما دنا قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم فيهم، فحكم بأن تُقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات“. والحديث ثابت في الصحيحين.(12/45)
وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن بُريْدَة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله؛ فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك“(1).
فدل هذان الحديثان الصحيحان على أن لله حكماً معيناً فيما يكون وليّ الأمر مخيّراًَ فيه تخيير مصلحة، وإن كان لو حكم بغير ذلك نفذ حكمه في الظاهر، فما كان من باب القتال فهو أوْلى أن يكون أحد الأمرين أحب إلى الله ورسوله: إما فعله وإما تركه، ويتبين ذلك بالمصلحة والمفسدة؛ فما كان وجوده خيراً من عدمه لما حصل فيه من المصلحة الراجحة في الدين، فهذا مما يأمر الله به أمر إيجاب أو استحباب، وما كان عدمه خيراً من وجوده، فليس بواجب ولا مستحب، وإن كان فاعله مجتهداً مأجوراً على اجتهاده.
__________
(1) هذا جزء من حديث طويل عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه وأوله في: مسلم 3/1356-1358 (كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء...): "كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه... ثم قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله... وإذا حاصرت حصن، فأرادوك على أن تنزلهم على حكم الله... ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا". والحديث – مع اختلاف في اللفظ – في : سنن أبي داود 3/51-52 (كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين)؛ سنن الترمذي 3/85-86 (كتاب السير، باب ما جاء في وصية النبي صلّى الله عليه وسلّم في القتال)؛ سنن ابن ماجه 2/953-954 (كتاب الجهاد، باب وصية الإمام)؛ المسند (ط. الحلبي) 5/358.(12/46)
والقتال إنما يكون لطائفة ممتنعة، فلو بغت ثم أجابت إلى الصلح بالعدل لم تكن ممتنعة، فلم يجز قتالها. ولو كانت باغية، وقد أُمر بقتال الباغية إلى تفيء إلى أمر الله، أي ترجع، ثم قال: {فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } فأمر بالإصلاح بعد قتال الفئة الباغية، كما أمر بالإصلاح إذا اقتتلتا ابتداءً، وقد قالت عائشة رضي الله عنها لما وقعت الفتنة: "ترك الناس العمل بهذه الآية". وهو كما قالت؛ فإنهما لما اقتتلتا لم يُصلح بينهما، ولو قدِّر أنه قوتلت الباغية، فلم تُقاتل حتى تفيء إلى أمر الله، ثم أصلح بينهما بالعدل – والله تعالى أمر بالقتال إلى الفيء، ثم الإصلاح، لم يأمر بقتال مجرد بل قال: { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } – وما حصل قتال حتى تفيء إلى أمر الله، فإن كان مقدوراً فما وقع، وإن كان معجوزاً عنه لم يكن مأموراً به(1).
__________
(1) قول ابن تيمية: ولو قدر أنه قوتلت... لم يكن مأموراً به. الكلام هنا غير واضح، وأخشى أن يكون هناك تحريف أو سقط. والمعنى أن الفئة الباغية يجب أن تقاتل حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فيجب الإصلاح بين الفئتين بالعدل، ولكن ما حدث في الفتنة لم يطابق أمر الله، إذ أن علياً رضي الله عنه لم يقاتل الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله ثم أصلح بين فئته والفئة الباغية بالعدل، ولو كان ما أرشدت إليه الآية الكريمة غير ممكن ما أمر الله تعالى به.(12/47)
وعجز المسلمين يوم أحد عن القتال الذي يقتضي انتصارهم كان بترك طاعة الرسول وذنوبهم، وكذلك التولي يوم حُنين كان من الذنوب. يبيّن ذلك أنه لو قدِّر أن طائفة بغت على طائفة، وأمكن دفع البغي بلا قتال لم يجز القتال. فلو اندفع البغي بوعظٍ أو فُتيا أو أمرٍ بمعروف لم يجز القتال، ولو اندفع البغي بقتل واحد مقدورٍ عليه، أو إقامة حد أو تعزير، مثل قطع سارق وقتل محارب وحدّ قاذف لم يجز القتال. وكثيراً ما تثور الفتنة إذا ظلم بعض طائفة لطائفة أخرى، فإذا أمكن استيفاء حق المظلوم بلا قتال لم يجز القتال.
وليس في الآية أن كل من امتنع من مبايعة إمام عادل يجب قتاله بمجرد ذلك، وإن سُمِّيَ باغياً لترك طاعة الإمام، فليس كل من ترك طاعة الإمام يُقاتَل.
والصدِّيق قتال مانعي الزكاة لكونهم امتنعوا عن أدائها بالكلية، فقوتلوا بالكتاب والسنة، وإلا فلو أقرُّوا بأدائها، وقالوا: لا نؤديها إليك، لم يجز قتالهم عند أكثر العلماء.
وأولئك لم يكونوا كذلك. ولهذا كان القول الثالث في هذا الحديث – حديث عمار – إنَّ قاتِل عمار طائفة باغية، ليس لهم أن يقاتلوا علياً، ولا يمتنعوا عن مبايعته وطاعته، وإن لم يكن عليّ مأموراً بقتالهم، ولا كان فرضاً عليهم قتالهم لمجرد امتناعهم عن طاعته، مع كونهم ملتزمين شرائع الإسلام، وإن كان كل من المقتتلتَيْن متأولين مسلمين مؤمنين، وكلهم يُستغفر لهم ويُترحم عليهم، عملاً بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
كُتَّاب الوحي للنبي صلّى الله عليه وسلّم
وأما قول الرافضي: "وسمّوه كاتب الوحي ولم يكتب كلمة واحدة من الوحي".(12/48)
فهذا قول بلا حجة ولا علم، فما الدليل على أنه لم يكتب له كلمة واحدة من الوحي، وإنما كان يكتب له رسائل؟
كان معاوية من كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهذا ثابت
وقوله: "إن كتاب الوحي كانوا بضعة عشر أخصّهم وأقربهم إليه عليّ".
فلا ريب أن علياً كان ممن يكتب له أيضاً، كما كتب الصلح بينه وبين المشركين عام الحديبية. ولكن كان يكتب له أبو بكر وعمر أيضاً، ويكتب له زيد بن ثابت بلا ريب.
ففي الصحيحين أن زيد بن ثابت لما نزلت: { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 95] كتبها له(1). وكتب له أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن الأرقم، وأبيّ بن كعب، وثابت بن قيس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وزيد بن ثابت، ومعاوية، وشُرحبيل بن حسنة رضي الله عنهم.
إسلام معاوية عام الفتح
وأما قوله: "إن معاوية لم يزل مشركاً مدة كون النبي صلّى الله عليه وسلّم مبعوثاً".
__________
(1) الحديث عن براء بن عازب رضي الله عنه في: البخاري 6/48 (كتاب التفسير، لا يستوي القاعدون...)؛ مسلم 3/1508-1509 (كتاب الإمارة، باب سقوط الجهاد عن المعذورين) ولفظ مسلم... أنه سمع البراء يقول في هذه الآية: { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [النساء: 95] فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيداً فجاء بكتف يكتبها، فشكا إليه ابن أم مكتوم ضرارته، فنزلت: { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ }. والحديث بمعناه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه في المسند (ط. الحلبي) 5/191؛ سنن أبي داود 3/17 (كتاب الجهاد، باب في الرخصة في القعود من العذر). وانظر تفسير ابن كثير لآية 95 من سورة النساء.(12/49)
فيقال: لا ريب أن معاوية وأباه وأخاه وغيرهم أسلموا عام فتح مكة، قبل موت النبي صلّى الله عليه وسلّم بنحو ثلاث سنين، فكيف يكون مشركاً مدة البعث. ومعاوية رضي الله عنه كان حين بُعث النبي صلّى الله عليه وسلّم صغيراً، كانت هند ترقِّصه. ومعاوية رضي الله عنه أسلم مع مسلمة الفتح، مثل أخيه يزيد، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وأبي سفيان بن حرب، وهؤلاء كانوا قبل إسلامهم أعظم كفراً ومحاربة للنبي صلّى الله عليه وسلّم من معاوية.
فصفوان وعكرمة وأبو سفيان كانوا مقَّدمين للكفار يوم أحد، رؤوس الأحزاب في غزوة الخندق، ومع هذا كان أبو سفيان وصفوان بن أمية وعكرمة من أحسن الناس إسلاماً، واستشهدوا رضي الله عنهم يوم اليرموك.
ومعاوية لم يُعرف عنه قبل الإسلام أذى للنبي صلّى الله عليه وسلّم لا بيد ولا بلسان فإذا كان من هو أعظم معاداة للنبي صلّى الله عليه وسلّم من معاوية قد حَسُن إسلامه، وصار ممن يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فما المانع أن يكون معاوية رضي الله عنه كذلك؟
وكان من أحسن الناس سيرة في ولايته، وهو ممن حسن إسلامه، ولولا محاربته لعليّ رضي الله عنه وتولِّيه الملك، لم يذكره أحد إلا بخير، كما لم يذكر أمثاله إلا بخير. وهؤلاء مسلمة الفتح – معاوية ونحوه – قد شهدوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم عدة غزوات، كغزاة حُنين والطائف وتبوك، فله من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ما لأمثاله، فكيف يكون هؤلاء كفاراً وقد صاروا مؤمنين مجاهدين تمام سنة ثمان وتسع وعشر وبعض سنة إحدى عشرة؟(12/50)
فإن مكة فُتحت باتفاق الناس في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم باتفاق الناس توفي في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة، والناس كلهم كانوا كفاراً قبل إيمانهم بما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان فيهم من هو أشد عداوة للنبي صلّى الله عليه وسلّم من معاوية وأسلم وحسن إسلامه، كأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان من أشد الناس بُغضاً للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهجاء له قبل الإسلام.
وأما معاوية رضي الله عنه فكان أبوه شديد العداوة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وكذلك أمه حتى أسلمت، فقالت: "والله يا رسول الله ما كان على وجه الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يذلِّوا من أهل خبائك، وما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحبّ إليّ أن يعزُّوا من أهل خبائك" أخرجه البخاري(1).
وفيهم أنزل الله تعالى: { عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الممتحنة: 7]، فإن الله جعل بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين الذين عادوه، كأبي سفيان وهند وغيرهما، مودة، والله قدير على تبديل العداوة بالمودة، وهو غفور لهم بتوبتهم من الشرك، رحيم بالمؤمنين، وقد صاروا مؤمنين.
لم يرد عن معاوية إيذاء للدعوة المحمدية
__________
(1) هذا جزء من حديث طويل عن عائشة رضي الله عنها في: البخاري 8/131 (كتاب الإيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم)، 5/40 (كتاب مناقب الأنصار، باب ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة رضي الله عنها)؛ 9/66 (كتاب الأحكام، باب من رأي للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس...)؛ مسلم 3/1339؛ (كتاب الأقضية، باب قضية هند)؛ المسند (ط. الحلبي) 6/225.(12/51)
قال الرافضي: "وكان باليمن يوم الفتح يطعن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكتب إلى أبيه صخر بن حر يعيّره بإسلامه، ويقول: أصَبَوت إلى دين محمد؟ وكتب إليه:
يا صخر لا تسلمن طوعاً فتفضحنا
بعد الذين ببدرٍ أصبحوا فرقا
جدّي وخالي وعمُّ الأم يا لهم
قوماً وحنظلة المهدي لنا أرقا
فالموت أهون من قول الوشاة لنا
خلّى ابن هند عن العزّى لقد فرقا
والفتح كان في رمضان لثمان سنين من قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، ومعاوية مقيم على شركه، هارب من النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنه كان قد أهدر دمه، فهرب إلى مكة، فلما لم يجد له مأوى صار إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مضطراً، فأظهر الإسلام، وكان إسلامه قبل موت النبي صلّى الله عليه وسلّم بخمسة أشهر، وطرح نفسه على العباس، فسأل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعفا، ثم شفع إليه أن يشرِّفه ويضيفه إلى جملة الكُتَّاب، فأجابه وجعله واحداً من أربعة عشرة، فكم كان حظه من هذه المدة لو سلّمنا أنه كاتب الوحي حتى استحق أن يوصف بذلك دون غيره؟ مع أن الزمخشري – من مشايخ الحنفية – ذكر في كتاب "ربيع الأبرار" أنه ادّعى نبوته أربعة نفر. على أن من جملة الكتبة عبد ا لله بن سعد بن أبي سرح وارتد مشركاً، وفيه نزل { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106].
وقد روى عبد الله بن عمر قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فسمعته يقول: يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي، فطلع معاوية.وقام النبي صلّى الله عليه وسلّم خطيباً، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لعن الله القائد والمقود، أي يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة؟(12/52)
وبالغ في محاربة عليّ عليه السلام، وقتل جمعاً كثيراً من خيار الصحابة، ولعنه على المنابر، واستمر سبُّه ثمانين سنة إلى أن قطعه عمر بن عبد العزيز.
وسمَّ الحسن عليه السلام وقتل ابنهُ يزيد مولانا الحسين، ونهب نساءه، وكسر أبوه ثنيِّة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأكلت أمه كبد حمزة عم النبي صلّى الله عليه وسلّم".
والجواب: أما قوله: "كان باليمن يطعن على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيِّره بإسلامه، وكتب إليه الأبيات".
فهذا من الكذب المعلوم؛ فإن معاوية إنما كان بمكة، لم يكن باليمن، وأبوه أسلم قبل دخول النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة بمر الظهران ليلة نزل بها، وقال له العباس: إن أبا سفيان يحب الشرف، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن“(1).
وأبو سفيان كان عنده من دلائل النبوة ما أخبره به هرقل ملك الروم، لما سافر إلى الشام في الهدنة التي كانت بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبينهم(2)
__________
(1) هذا الخبر عن العباس رضي الله عنه جاء في كتب السيرة، فهو في: سيرة ابن هشام 4/46؛ زاد المعاد 4/404؛ جوامع السيرة، ص229، إمتاع الأسماع ص371-372. وجاء حديث بمعنى هذا الخبر عن أبي هريرة رضي الله عنه في: مسلم 3/1407-1408 (كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة)؛ المسند (ط. الحلبي) 2/538. وذكر ابن حجر الحديث في فتح الباري 8/12 وقال إنه قد رواه أحمد ومسلم والنسائي من طريق عبد الله بن رباح عن أبي هريرة. وأول الحديث في مسلم: "يا أبا هريرة، ادع لي الأنصار".
(2) حديث أبي سفيان رضي الله عنه مع هرقل ذكره البخاري عن ابن عباس عن أبي سفيان رضي الله عنهم في: 1/4-6 (كتاب بدء الوحي، باب حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع).
... وذكر البخاري طرفاً منه في 1/15 (كتاب الإيمان، باب حدثنا إبراهيم بن حمزة)، 3/180 (كتاب الشهادات، باب من أمر بإنجاز الوعد) وفي مواضع أخرى.(12/53)
، وما كان عنده من أمية بن الصلت، لكن الحسد منعه من الإيمان، حتى أدخله الله عليه وهو كاره، بخلاف معاوية فإنه لم يُعرف عنه شيء من ذلك، ولا عن أخيه يزيد.
وهذا الشعر كذب على معاوية قطعاً؛ فإنه قال فيه:
فالموت أهون من قول الوشاة لنا
خلّى ابن هند عن العزّى لقد فرقا
ومعلوم أنه بعد فتح مكة أسلم الناس وأُزيلت العُزَّى بَعَثَ النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها خالد بن الوليد، فجعل يقول:
يا عزّ كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
وكانت قريباً من عرفات، فلم يبق هناك لا عُزّى ولا من يلومهم على ترك العزّى، فعُلم أن هذا وضع بعض الكذّابين على لسان معاوية. وهو كذّاب جاهل لم يعلم كيف وقع الأمر.
وكذلك ما ذكره من حال جدّه أبي أمية عتبة بن ربيعة وخاله الوليد بن عتبة وعم أمه شيبة بن ربيعة وأخيه حنظلة، أمر يشترك فيه هو وجمهور قريش، فما منهم من أحد إلا وله أقارب كفار، قُتلوا كفاراً أو ماتوا كفاراً، فهل كان في إسلامهم فضيحة؟!
وقد أسلم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، وكانا من خيار المسلمين، وأبواهما قتلا ببدر. وكذلك الحارث بن هشام قُتل أخوه يوم بدر. وفي الجملة بهذا طعن في عامة أهل الإيمان. وهل يحل لأحد أن يطعن في عليّ بأن عمه أبا لهب كان شديد العداوة للنبي صلّى الله عليه وسلّم؟ أو يطعن في العبّاس رضي الله عنه بأن أخاه كان معادياً للنبي صلّى الله عليه وسلّم؟ أو يعيّر علياً بكفر أبي طالب أو يعير بذلك العباس؟ وهل مثل ذلك إلا من كلام من ليس من المسلمين؟
ثم الشعر المذكور ليس من جنس الشعر القديم، بل هو شعر رديء.
وأما قوله: "إن الفتح كان في رمضان لثمان من مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة" فهذا صحيح.(12/54)
وأما قوله: "إن معاوية كان مقيماً على شِرْكِهِ هارباً من النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنه كان قد أهدر دمه، فهرب إلى مكة، فلما لم يجد له مأوى صار إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مضطراً فأظهر الإسلام، وكان إسلامه قبل موت النبي صلّى الله عليه وسلّم بخمسة أشهر".
فهذا من أظهر الكذب؛ فإن معاوية أسلم عام الفتح باتفاق الناس، وقد تقدّم قوله: "إنه من المؤلفة قلوبهم" والمؤلفة قلوبهم أعطاها النبي صلّى الله عليه وسلّم عام حنين من غنائم هَوَازن، وكان معاوية ممن أعطاه منها، والنبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتألّف السادة المُطاعين في عشائرهم، فإن كان معاوية هارباً لم يكن من المؤلفة قلوبهم، ولو لم يسلم إلا قبل موت الني صلّى الله عليه وسلّم لم يعطَ شيئاً من غنائم حنين.(12/55)
ومن كانت غايته أن يؤمن لم يحتج إلى تأليف. وبعض الناس يقول: إنه قد أسلم قبل ذلك، فإن في الصحيح عنه أنه قال: "قصّرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم على المروة" رواه البخاري ومسلم(1) ولفظه: أعلمت أني قصّرت من رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند المروة بِمِشْقَصْ؟ قاله لابن عباس، وقال له: لا أعلم هذا حجة إلا عليك. وقد قيل: إنه كان في حجة الوداع، ولكن هذا بخلاف الأحاديث المروية المتواترة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنها كلها متفقة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يحل من إحرامه في حجة الوداع إلى يوم النحر، وأنه أمر أصحابه أن يحلّوا من إحرامهم الحلّ كله، يصيروا مُتمتعين بالعمرة إلى الحج، إلا من ساق الهدي، فإنه يبقى على إحرامه إلى أن يبلغ الهديُ محله. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم وعليّ وطلحة وطائفة من أصحابه قد ساقوا الهَدْيَ فلم يحلّوا، وكانت فاطمة وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ممن لم يسق الهدى فحللن. والأحاديث معروفة في الصحاح والسنن والمسانيد.
__________
(1) الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن ابن عباس عن معاوية رضي الله عنهم في: البخاري 2/174 (كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال)؛ مسلم 2/913 (كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال)؛ مسلم (كتاب المناسك، باب في الإقران)؛ سنن النسائي 5/196-197 (كتاب المناسك، باب أين يقصر المعتمر)؛ المسند (ط. الحلبي) 4/96، 97، 98.(12/56)
فعُرف أنه لم يقصِّر معاوية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع, ولكن من اعتقد ذلك أباح للمتمتع السائق للهدي أن يقصِّر من شعره، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، كما أنه عنه رواية أنه إذا قدم قبل العشر حلَّ من إحرامه. ومالك والشافعي يبيحان لكل متمتع أن يحلّ من إحرامه وإن ساق الهدي. وأما أبو حنيفة وأحمد – في المشهور عنه – وغيرهما من العلماء فيعلمون بالسنة المتواترة أن سائق الهدي لا يحلّ إلى يوم النحر(1).
وتقصير معاوية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم على هذا قد كان قبل حجة الوداع: إما في عمرة القضية – وعلى هذا فيكون قد أسلم قبل الفتح كما زعم بعض الناس، لكن لا يعرف صحة هذا – وإما في عمرة الجعرانة، كما روي أن هذا التقصير كان في عمرة الجعرانة، وكانت بعد فتح مكة، وبعد غزوة حنين، وبعد حصاره للطائف؛ فإنه صلّى الله عليه وسلّم رجع من ذلك فقسَّم غنائم حُنين بالجعرانة، واعتمر منها إلى مكة، فقصَّر عنه معاوية رضي الله عنه، وكان معاوية قد أسلم حينئذ، فإنه أسلم عند فتح مكة، واستكتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم لخبرته وأمانته، ولا يُعرف عنه ولا عن أخيه يزيد بن أبي سفيان أنهما آذيا النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما كان يؤذيه بعض المشركين.
__________
(1) يقول ابن قدامة في "المغني" 3/351: "فأما من معه هدي فليس له أن يتحلل، لكن يقيم على إحرامه ويدخل الحج على العمرة، ثم لا يحل حتى منها جميعاً. نص عليه أحمد، وهو قول ابن حنيفة. وعن أحمد رواية أخرى: أنه يحل للتقصير من شعر رأسه خاصة ولا يمس من أظفاره وشاربه شيئاً، وروى عن ابن عمر، وهو قول عطاء، لما روى عن معاوية قال: "قصرت من رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمشقص عند المروة" متفق عليه. وقال مالك والشافعي في قول: له التحلل ونحر هديه. ويستحب نحره عند المروة".(12/57)
وأخوه يزيد أفضل منه. وبعض الجهّال يظن أن يزيد هذا هو يزيد الذي تولّى الخلافة بعد معاوية، وقُتل الحسين في زمنه، فيظن أن يزيد ابن معاوية من الصحابة، وهذا جهل ظاهر؛ فإن يزيد بن معاوية وُلد في خلافة عثمان، وأما عمّه هذا فرجل صالح من خيار الصحابة، واستعمله الصديق أحد أمراء الشام، ومشى في ركابه، ومات في خلافة عمر، فولَّى عمر رضي الله عنه أخاه معاوية رضي الله عنه مكانه أميراً، ثم لما وَلِيَ عثمان أقرّه على الإمارة وزاده، وبقي أميراً إلى أن قُتل عثمان ووقعت الفتنة، إلى أن قُتل أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه وبايع أهل العراق الحسن بن علي رضي الله عنهما، فأقام ستة أشهر، ثم سلّم الأمر إلى معاوية، تحقيقاً لما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين“(1) وبقي معاوية بعد ذلك عشرين سنة، ومات سنة ستين.
__________
(1) الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه في:
... البخاري 3/186 (كتاب الصلح، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للحسن بن علي رضي الله عنهما إن ابني هذا سيد...)، 4/204-205 (كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام)، 5/26 (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما)، 9/56-57 (كتاب الفتن، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للحسن بن علي إن ابني هذا لسيد...) ولفظ البخاري: ... ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين وفي لفظ:
... والحديث أيضاً في:
... سنن أبي داود 4/229-300 (كتاب السنة، باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة)، سنن الترمذي 5/323 (كتاب المناقب، باب حدثنا محمد بن بشار...)، سنن النسائي 3/87-88 (كتاب الجمعة، باب مخاطبة الإمام رعيته وهو على منبر).(12/58)
ومما يبيّن كذب ما ذكره هذا الرافضي أنه لم يتأخر إسلام أحد من قريش إلى هذه الغاية، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد بعث أبا بكر عام تسع بعد الفتح بأكثر من سنة ليقيم الحج، وينادي أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. في تلك السنة نُبذت العهود إلى المشركين، وأجلّوا أربعة أشهر، فانقضت المدة في سنة عشر، فكان هذا أماناً لكل مشرك من سائر قبائل العرب، وغزا النبي صلّى الله عليه وسلّم غزوة تبوك سنة تسع لقتال النصارى بالشام، وقد ظهر الإسلام بأرض العرب.
ولو كان لمعاوية من الذنوب ما كان لكان الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فكيف ولم يُعرف له ذنب يهرب لأجله، أو يُهدر دمه لأجله؟! وأهل السير والمغازي متفقون على أنه لم يكن معاوية ممن أهدر دمه عام الفتح. فهذه مغازي عُروة بن الزبير، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، والواقدي، وسعيد بن يحيى الأموي، ومحمد بن عائذ(1)، وأبي إسحاق الفزاري وغيرهم. وكتب التفسير والحديث كلها تنطق بخلاف ما ذكره ويذكرون من إهدار النبي صلّى الله عليه وسلّم دمه، مثل مَقْيس ابن حُبابة وعبد الله بن خَطَل، وهذان قتلا. وأهْدَر دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم بايعه. والذين أهدر دماءهم كانوا نفراً قليلاً نحو العشرة.
__________
(1) هو محمد بن عائذ بن أحمد القرشي الدمشقي، ولد سنة 150 وتوفي سنة 233 ومن كتبه كتاب "السير". انظر ترجمه في: تهذيب التهذيب 9/241-242؛ شذرات الذهب 2/78؛ الأعلام 7/48.(12/59)
وأبو سفيان كان أعظم الناس عداوة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو في غزوة بدر الذي أرسل إلى قريش ليستنفرهم، وفي غزوة أحد هو الذي جمع الأموال التي كانت معه للتجارة، وطلب من قريش أن ينفقها في قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو أعظم قواد الجيش يوم أحد، وهو قائد الأحزاب أيضاً، وقد أخذه العبّاس بغير عهد ولا عقد، ومشى عمر معه يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا نبي الله هذا عدو الله أبو سفيان، قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فاضرب عنقه. فقاوله العباس في ذلك، فأسلم أبو سفيان، وأمّنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال: ”من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن“.
فكيف يُهدر دم معاوية، وهو شاب صغير ليس له ذنب يختص به، ولا عُرف عنه أنه كان يحضُّ على عداوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد أمَّن رؤوس الأحزاب؟ فهل يظن هذا إلا من هو أجهل الناس بالسيرة؟ وهذا الذي ذكرناه مجمع عليه بين أهل العلم مذكور في عامة الكتب المصنّفة في هذا الشأن.
وقد بسطنا الكلام على هذا في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول صلّى الله عليه وسلّم" لما ذكرنا من أهدر النبي صلّى الله عليه وسلّم دمه عام الفته، وذكرناهم واحداً واحداً. نعم كان فيها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم إن عثمان رضي الله عنه أتى به فأسلم بمكة وحقن النبي صلّى الله عليه وسلّم دمه.
حسن إسلام معاوية
وأما قوله: "إنه استحق أن يُوصف بذلك دون غيره".
ففرية على أهل السنة؛ فإنه ليس فيهم من يقول: إن هذا من خصائص معاوية، بل هو واحد من كتّاب الوحي. وأما عبد الله بن سعد أبي سرح فارتدَّ عن الإسلام، وافترى على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم إنه عاد إلى الإسلام.
معاوية رضي الله عنه لم يكفر بعد إيمانه
وأما قوله: "إنه نزل فيه: { وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } الآية [النحل: 106]".(12/60)
فهو باطل؛ فإن هذه الآية نزلت بمكة، لما أكره عمّار وبلال على الكفر، وردة هذا كانت بالمدينة بعد الهجرة، ولو قُدِّر أنه نزلت فيه هذه الآية؛ فالنبي صلّى الله عليه وسلّم قد قَبِل إسلامه وبايعه.
وقد قال تعالى: { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [آل عمران: 86-89].
حديث مكذوب يسيء إلى معاوية رضي الله عنه
وأما قوله: "وقد روى عبد الله بن عمر قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فسمعته يقول: "يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي" فطلع معاوية. وقام النبي صلّى الله عليه وسلّم خطيباً، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "لعن الله القائد والمقود، أيّ يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة".
فالجواب: أن يقال: أولاً: نحن نطالب بصحة هذا الحديث؛ فإن الاحتجاج بالحديث لا يجوز إلا بعد ثبوته، ونحن نقول هذا في مقام المناظرة، وإلا فنحن نعلم قطعاً أنه كذب.(12/61)
ويقال ثانياً: هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث التي يُرجع إليها في معرفة الحديث، ولا له إسناد معروف(1). وهذا المحتج به لم يذكر له إسناداً. ثم من جهله أن يروي مثل هذا عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمر كان من أبعد الناس عن ثلب الصحابة، وأروى الناس لمناقبهم، وقوله في مدح معاوية معروف ثابت عنه، حيث يقول: ما رأيت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسْوَد من معاوية. قيل له: ولا أبو بكر وعمر؟ فقال: كان أبو بكر وعمر خيراً منه، وما رأيت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسود من معاوية(2).
قال أحمد بن حنبل: السيد الحليم يعين معاوية، وكان معاوية كريماً حليماً.
__________
(1) لم أجد هذا الحديث لا في كتب الأحاديث الصحيحة ولا في كتب الأحاديث الموضوعة.
(2) قال ابن كثير في "البداية والنهاية" 8/153: "وقال هشيم عن العوام عن جبلة بن سحيم عن ابن عمرو، قال: ما رأيت أحداً أسْوَد من معاوية. قال: قلت: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيراً منه، وكان معاوية أسود منه. ورواه أبو سفيان الحيري عن العوام بن حوشب به. وقال: ما رأيت أحدً بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسود من معاوية. قيل: ولا أبو بكر؟ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيراً منه, وهو أسود. وروى من طرق عن ابن عمر مثله". وانظر تعليق أستاذي محب الدين الخطيب رحمه الله على العواصم من القواصم، ص204، ط. السلفية، 1371.(12/62)
ثم إن خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم لم تكن واحدة، بل كان يخطب في الجمع والأعياد والحج وغير ذلك. ومعاوية وأبوه يشهدان الخطب، كما يشهدها المسلمون كلهم. أفتراهما في كل خطبة كانا يقومان ويُمكِّنان من ذلك؟ هذا قدح في النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي سائر المسلمين، إذ يمكِّنون اثنين دائماً يقومان ولا يحضران الخطبة ولا خطبة الجمعة. وإن كان يشهدان كل خطبة، فما بالهما يمتنعان من سماع خطبة واحدة قبل أن يتكلم بها؟
ثم من المعلوم من سيرة معاوية أنه كان من أحلم الناس، وأصبرهم على من يؤذيه، وأعظم الناس تأليفاً لمن يعاديه، فكيف ينفر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مع أنه أعظم الخلق مرتبة في الدين والدنيا، وهو محتاج إليه في كل أموره؟ فكيف لا يصبر على سماع كلامه وهو بعد المُلك كان يسمع كلام من يسبّه في وجهه؟ فلماذا لا يسمع كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ وكيف يتخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم كاتباً من هذه حاله؟
وقوله: "إنه أخذ بيد ابنه زيداً أو يزيد" فمعاوية لم يكن له ابن اسمه زيد. وأما يزيد ابنه الذي تولّى بعده الملك وجرى في خلافته ما جرى، فإنما وُلد في خلافة عثمان باتفاق أهل العلم، ولم يكن لمعاوية ولد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال الحافظ أبو الفضل بن ناصر: "خطب معاوية رضي الله عنه في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يُزوَّج لأنه كان فقيراً، وإنما تزوج في زمن عمر رضي الله عنه، ووُلد له يزيد في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة سبع وعشرين من الهجرة".(12/63)
ثم نقول ثالثاً: هذا الحديث يمكن معارضته بمثله من جنسه بما يدل على فضل معاوية رضي الله عنه. قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب "الموضوعات"(1): "قد تعصّب قوم ممن يدعي السنة، فوضعوا في فضل معاوية رضي الله عنه أحاديث ليغيظوا(2) الرافضة، وتعصّب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمه أحاديث، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح".
وجه الصواب والخطأ في القتال بصفين
وأما قوله: "إنه بالغ في محاربة عليّ".
فلا ريب أنه اقتتل العسكران: عسكر عليّ ومعاوية بصفّين، ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء، بل كان من أشد الناس حرصاً على أن لا يكون قتال، وكان غيره أحرص على القتال منه. وقتال صفّين للناس فيه أقوال: فمنهم من يقول: كلاهما كان مجتهداً مصيباً، كما يقول كثير من أهل الكلام والفقه والحديث، ممن يقول: كل مجتهد مصيب، ويقول: كانا مجتهدَيْن. وهذا قول كثير من الأشعرية والكرَّامية والفقهاء وغيرهم، وهو قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، وتقول الكرَّامية: كلاهما إمام مصيب، ويجوز نصب إمامين للحاجة.
ومنهم من يقول: بل المصيب أحدهما لا بعينه، وهذا قول طائفة منهم.
ومنهم من يقول: عليّ هو المصيب وحده، ومعاوية مجتهد مخطئ، كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفقهاء أهل المذاهب الأربعة.
وقد حكى هذه الأقوال الثلاثة أبو عبد الله بن حامد عن أصحاب أحمد وغيرهم.
ومنهم من يقول: كان الصواب أن لا يكون قتال، وكان ترك القتال خيراً للطائفتين، فليس في الاقتتال صواب، ولكن عليّ كان أقرب إلى الحق من معاوية، والقتال قتال فتنة ليس بواجب ولا مستحب، وكان ترك القتال خيراً للطائفتين، مع أن علياً كان أوْلَى بالحق.
__________
(1) 2/15.
(2) الموضوعات: في فضله أحاديث ليغضبوا...(12/64)
وهذا قول أحمد وأكثر أهل الحديث أئمة الفقه، وهو قول أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان(1)، وهو قول عمران بن حُصيْن رضي الله عنه، وكان ينهي عن بيع السلاح في ذلك القتال، ويقول: هو بيع السلاح في الفتنة، وهو قول أسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وأكثر من بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
ولهذا كان من مذاهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم. وما وقع منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفوراً. فالخوض فيما شجر يُوقع في نفوس كثير من الناس بُغضاً وذماً، ويكون هو في ذلك مخطئاً، بل عاصياً، فيضر نفسه ومن خاض معه في ذلك، كما جرى لأكثر أهل من تكلَّم في ذلك؛ فإنهم تكلموا بكلام لا يحبه الله ولا رسوله: أما من ذم من لا يستحق الذم، وإما من مدح أمور لا تستحق المدح.
ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف. وأما غير هؤلاء فمنهم من يقول: كان معاوية فاسقاً دون عليّ، كما يقوله بعض المعتزلة. ومنهم من يقول: بل كان كافراً، كما يقوله بعض الرافضة، ومنهم من يقول: كلاهما كافر: عليّ ومعاوية، كما يقوله بعض الخوارج. ومنه من يقول فسق أحدهما لا بعينه، كما يقوله بعض المعتزلة، ومنهم من يقول: بل معاوية على الحق وعليّ كان ظالماً، كما تقول المروانية.
__________
(1) ذكر ابن طاهر البغدادي في كتابه "أصول الدين"، ص289: "أجمع أصحابنا (الأشاعرة) على أن علياً رضي الله عنه كان مصيباً في قتال أصحاب الجمل وفي قتال أصحاب معاوية بصفين، وقالوا في الذين قاتلوه بالبصرة إنهم كانوا على الخطأ" ثم قال (ص290): "وقال أكثر الكرَّامية بتصويب الفريقين يوم الجمل، وقال آخرون منهم إن علياً أصاب في محاربة أهل الجمل وأهل صفين، ولو صالحهم على شيء أرفق بهم لكان أولى وأفضل".(12/65)
والكتاب – والسنة – قد دلّ على أن الطائفتين مسلمون، وأن ترك القتال كان خيراً من وجوده. قال تعالى: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الحجرات: 9] فسمّاهم مؤمنين إخوة مع وجود الاقتتال والبغي.
وفي الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”تمرق مارقة على حين فُرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق“ وهؤلاء المارقة مرقوا على عليّ، فدل على أن طائفته أقرب إلى الحق من طائفة معاوية.
وفي الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”إن ابني هذا سيد، وإن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين“ فأصلح الله به بين أصحاب عليّ ومعاوية، فمدح النبي صلّى الله عليه وسلّم الحسن بالإصلاح بينهما، وسماهما مؤمنين. وهذا يدل على أن الإصلاح بينهما هو المحمود، ولو كان القتال واجباً أو مستحباً، لم يكن تركه محموداً.
وقد رُوي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من يتشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجاً فليعذبه“ أخرجاه في الصحيحين(1).
__________
(1) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 4/198-199 (كتاب المناقب، باب علامات النبوة). وجاء الحديث أيضاً في: البخاري 9/51 (كتاب الفتن، باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم)، مسلم 4/2211-2212 (كتاب الفتن، باب نزول الفتن كمواقع القطر)، المسند (ط. المعارف) 14/207-208، وجاء الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في المسند (ط. المعارف) 3/29 (وصححه أحمد شاكر).(12/66)
وفي الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن“(1).
وفي الصحيح عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”إني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كواقع القطر“(2).
والذين رووا أحاديث القعود في الفتنة والتحذير منها، كسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد لم يقاتلوا لا مع علي ولا مع معاوية.
__________
(1) الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في: البخاري 1/9 (كتاب الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتن)، 4/127 (كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال): سنن النسائي (بشرح السيوطي) 8/107-108 (كتاب الإيمان وشرائعه، باب الفرار بالدين من الفتن)؛ سنن ابن ماجه 2/1317 (كتاب الفتن، باب العزلة)؛ المسند (ط. الحلبي) 3/6، 43، 57؛ الموطأ 2/970 (كتاب الاستئذان، باب ما جاء في أمر الغنم). وفي لسان العرب "شعفة كل شيء أعلاه وشعفة الجبل بالتحريك رأسه. والجمع شَعَفٌ وشعاف وشُعُوف وهي رؤوس الجبال. وفي الحديث: من خير الناس رجل في شعفة من الشعاف في غنيمة له حتى يأتيه الموت وهو معتزل". وانظر " ... غريب الحديث" لابن الأثير مادة "شعف".
(2) الحديث عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما – مع اختلاف في اللفظ – في: البخاري 3/21-22 (كتاب فضائل المدينة، باب أطام المدينة)، 4/198 (كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام)، 9/48 (كتاب الفتن، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ويل للعرب من شر قد اقترب)؛ مسلم 4/2211 (كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع القطر)؛ المسند (ط. الحلبي) 5/200.(12/67)
وقال حذيفة رضي الله عنه: "ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أن أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة؛ فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول له: ”لا تضرك الفتنة“(1).
وعن ثعلبة بن ضبيعة(2) قال: دخلنا على حذيفة فقال: "إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتنة شيئاً، فخرجنا فإذا فسطاط مضروب فدخلنا فإذا فيه محمد بن مسلمة، فسألناه عن ذلك فقال: ما أريد أن يشتمل عليّ شيء من أمصارهم حتى تنجلي عما انجلت" رواهما أبو داود.
رأي الفقهاء في القتال واللعن والتكفير بين المسلمين
__________
(1) الحديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في سنن أبي داود 4/300 (كتاب السنة، باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة). والحديث التالي هو الحديث الذي يتلوه في: سنن أبي داود (نفس الموضع) وفيه أيضاً: ثعلبة بن ضبيعة.
(2) في "تهذيب التهذيب": 4/443 هو ضبيعة بن حصين الثعلبي أبو ثعلبة، ويقال: ثعلبة بن ضبيعة الكوفي. روى عن حذيفة ومحمد بن مسلمة، وعنه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري. ذكره ابن حبان في الثقات روى له أبو داود حديثاً واحداً في ذكر الفتنة من وجهين سماه في أحدهما ضبيعة وفي الآخر ثعلبة وقد رجح البخاري وغيره أنه ضبيعة.(12/68)
ومما ينبغي أن يُعلم أن الأمة يقع فيها أمور بالتأويل في دمائها وأموالها وأعراضها، كالقتال واللعن والتكفير. وقد ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: "بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً فعلوته بالسيف، فقال: لا إلا إلا الله، فطعنته فقتلته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ”أقتلته بعما قال: لا إلاه إلا الله“؟ قال: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: ”أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفاً من السلاح أم لا“؟ فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ"(1).
__________
(1) الحديث عن أسامة بن زيد رضي الله عنه في موضعين في مسلم 1/96-97 (كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله). وهو في سنن أبي داود 3/61 (كتاب الجهاد، باب على ما يقاتل المشركون). وجاء حديث آخر بنفس المعنى عن عمران بن حصين رضي الله عنه في: سنن ابن ماجه 2/1296 (كتاب الفتن، باب الكف عمّن قال لا إله إلا الله)، المسند (ط. الحلبي) 4/438-439.(12/69)
وفي الصحيحين عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يديّ فقطعها ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله. أفأقتله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تقتله“ فقلت: يا رسول الله إنه قطعها ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تقتله، فإنك إن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها“(1).
فقد ثبت أن هؤلاء قتلوا قوماً مسلمين لا يحل قتلهم، مع هذا فلم يقتلهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا ضمن المقتول بِقَوَدٍ ولا ديّة ولا كفّارة، لأن القاتل كان متأولاً. وهذا قول أكثر العلماء، كالشافعي وأحمد وغيرهما. ومن الناس من يقول: بل كانوا أسلموا ولم يهاجروا، فثبتت في حقهم العصمة المؤثّمة دون المضمّنة، بمنزلة نساء أهل الحرب وصبيانهم، كما يقوه أبو حنيفة وبعض المالكية. ثم إن جماهير العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه، والشافعي في أحد قوليه: يقولون: إن أهل العدل والبغاة إذا اقتتلوا بالتأويل لم يضمن هؤلاء ما أتلفوه لهؤلاء من النفوس والأموال حال القتال، ولم يضمن هؤلاء ما أتلفوه لهؤلاء.
__________
(1) الحديث عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه في: البخاري 5/85 (كتاب المغازي، باب رقم 12 حدثني خليفة حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري)؛ مسلم 1/95 (كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله)؛ سنن أبي داود 3/61-62 (كتاب الجهاد، باب على ما يقاتل المشركون؛ المسند (ط. الحلبي) 6/5-6 .(12/70)
كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن فإنه فعل محرماً. وإن قيل: إنه محرم في نفس الأمر، فقد ثبت بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المتواترة واتفاق المسلمين أن الكافر الحربيّ إذا قتل مسلماً أو أتلف ما له ثم أسلم، لم يضمنه بقود ولا ديّة ولا كفّارة، مع أن قتله له كان من أعظم الكبائر، لأنه كان متأوّلاً، وإن كان تأويله فاسداً.
وكذلك المرتدون الممتنعون إذا قتلوا بعض المسلمين، لم يضمنوا دمه إذا عادوا إلى الإسلام عند أكثر العلماء، كما هو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد، وإن كان من متأخري أصحابه من يحكيه قولاً، كأبي بكر عبد العزيز حيث قد نص أحمد على أن المرتد يضمن ما أتلفه بعد الردة.
فهذا النص في المرتد المقدور عليه، وذاك في المحارب الممتنع، كما يفرّق بين الكافر الذميّ والمحارب، أو يكون في المسألة روايتان، وللشافعي قولان، وهذا هو الصواب؛ فإن المرتدين الذين قاتلهم الصّدّيق وسائر الصحابة لم يضمنهم الصحابة بعد عودهم إلى الإسلام بما كانوا قتلوه من المسلمين وأتلفوه من أموالهم، لأنهم كانوا متأوّلين.
فالبغاة المتأولون كذلك لم تضمنهم الصحابة رضي الله عنهم، وإذا كان هذا في الدماء والأموال، مع أن من أتلفها خطأ ضمنها بنص القرآن فكيف في الأعراض؟ مثل لعن بعضهم بعضاً، وتكفير بعضهم بعضاً.(12/71)
وقد ثبت في الصحيحين من حديث الإفك، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي. والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً والله ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي“. قال سعد بن معاذ: أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميَّة، فقال: كذبتَ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير فقال: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فاستبّ الحيّان حتى جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخفضهم، وكان سعد بن عبادة رضي الله عنه يريد الدفع عن عبد الله بن أُبَيّ المنافق، فقال له أسيد بن خضير: إنك منافق، وهذا كان تأويلاً منه.
وكذلك ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لحاطب بن أبي بلتعة: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، لما كاتب المشركين بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إنه شهد بدراً، وما يدريك أن الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم“(1).
__________
(1) هذا جزء من حديث طويل عن علي رضي الله عنه في: البخاري 5/77-78 (كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدراً) 6/149 (كتاب تفسير القرآن، سورة الممتحنة)، مسلم 4/1941-1942 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر....)، سنن أبي داود 3/64-65 (كتاب الجهاد، باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلماً)، سنن الترمذي (5/82-84 (كتاب التفسير، سورة الممتحنة)، المسند (ط. المعارف) 2/36-37.
وجاء الحديث مختصارً بمعناه عن أبي هريرة في: سنن أبي داود 4/296 (كتاب السنة، باب في الخلفاء)، المسند (ط. المعارف) 15/83-84 .(12/72)
وثبت في الصحيحين أن طائفة من المسلمين قالوا في مالك بن الدُّخْشُن: إنه منافق، فأنكر النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك ولم يكفّرهم. فقد ثبت أن في الصحابة من قال عن بعض أمته: إنه منافق متأوّلاً في ذلك، ولم يكفّر النبي صلّى الله عليه وسلّم واحداً منهما(1)
__________
(1) الحديث في البخاري 1/88-89 (كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت) عن ابن شهاب قال: أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري أن عتبان بن مالك، وهو من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممن شهد بدراً من الأنصار أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله قد أنكرت بصري، وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، ولم أستطيع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، وددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى. قال: فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”سأفعل إن شاء الله“ قال عتبان: فغدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأذنت له فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: ”أين تحب أن أصلي من بيتك“؟ قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكبر، فقمنا فصفنا فصلى ركعتين، ثم سلم. قال: وحبسناه على خريزة صنعناها له. قال: فثاب في البيت رجال من أهل الدار ذوو عدد فاجتمعوا فقال قائل منهم: أين مالك بن الدُّخَيْشِن أو ابن الدَّخْشُن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تقل ذلك. ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله“؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: فإنا نرى وجه ونصيحته إلى المنافقين. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجهه“. والحديث في موضعين آخرين في: البخاري 7/72-73 (كتاب الأطعمة، باب الخزيرة)، 9/18 (كتاب استتابة المرتدين، باب ما جاء في المتأولين). وهو أيضاً عن عتبان بن مالك رضي الله عنه في: مسلم 1/455-456 (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر) ك. المسند (ط. الحلبي) 5/449، 450.(12/73)
.
وقد ثبت في الصحيح أن فيهم من لعن عبد الله حماراً لكثرة شربه الخمر، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله“(1) ولم يعاقب اللاعن لتأويله.
والمتأول المخطئ مغفور له بالكتاب والسنة. قال الله تعالى في دعاء المؤمنين: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286]. وثبت في الصحيح أن الله عز وجل قال: ”قد فعلت“(2). وفي سنن ابن ماجه وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان“(3).
المتأول المخطئ مغفور له
__________
(1) الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيك البخاري 8/158 (كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج عن الملة).
(2) هذا زء من لفظ الحديث في مسلم 1/116 (كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق). وجاء الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنه في: مسلم 1/115-116؛ المسند (ط. المعارف) 3/341-342 (رقم 2070). 5/30-31 (رقم 3071). وانظر الحديث برواياته المتعددة في تفسير الطبري (ط. المعارف) 6/142-145. وانظر أيضاً 6/104-105.
(3) الحديث عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه في: سنن ابن ماجه 1/659 (كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي) وفي آخره: ... والنسيان وما استكرهوا عليه. قال المعلق: "في الزوائد: إسناد ضعيف..." وصحح الألباني الحديث في "صحيح الجامع الصغير" 2/102 .(12/74)
إذا تبين هذا فيقال: قول الرافضة من أفسد الأقوال وأشدها تناقضاً؛ فإنهم يعظمون الأمر على من قاتل عليّاً، ويمدحون من قتل عثمان، مع أن الذم والإثم لمن قتل عثمان أعظم من الذم والإثم لمن قاتل عليّاً، فإن عثمان كان خليفة اجتمع الناس عليه، ولم يقتل مسلماً، وقد قاتلوه لينخلع من الأمر، فكان عذره في أن يستمر على ولايته أعظم من عذر عليّ في طلبه لطاعتهم له، وصبر عثمان حتى قتل مظلوماً شهيداً من غير أن يدفع عن نفسه، وعليّ بدأ بالقتال أصحاب معاوية، ولم يكونوا يقاتلونه، ولكن امتنعوا من بيعته.
فإن جاز قتال من امتنع عن بيعة الإمام الذي بايعه نصف المسلمين، أو أكثرهم أو نحو ذلك، فقتال من قاتل وقتل الإمام الذي أجمع المسلمون على بيعته أولى بالجواز.
وإن قيل: إن عثمان فعل أشيءا أنكروها.(12/75)
قيل: تلك الأشياء لم تبح خلعه ولا قتله، وإن أباحت خلعه وقتله كان ما نقموه على عليّ أولى أن يبيح ترك مبايعته؛ فإنهم إن ادعوا على عثمان نوعاً من المحاباة لبني أمية فقد ادعوا على عليّ تحاملاً عليهم وتركاً لإنصافهم، وأنه بادر بعزل معاوية، ولم يكن ليستحق العزل، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولى أباه أبا سفيان على نجران، ومات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو أمير عليها، وكان كثير من أمراء النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأعمال من بني أمية؛ فإنه استعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية على صدقات مَذْحج وصنعاء اليمن، ولم يزل عليها حتى مات النبي صلّى الله عليه وسلّم، واستعل عمرو على تيماء وخيبر وقرى عرينة وأبان بن سعيد بن العاص استعمله أيضاً على البحرين برها وبحرها حين عزل العلاء بن الحضرمي، فلم يزل عليها حتى مات النبي صلّى الله عليه وسلّم وأرسله قبل ذلك أميراً على سرايا منها سرية إلى نجد وولاه عمر رضي الله عنه، ولا يتهم لا في دينه ولا في سياسته. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن قال: ”خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم“(1).
__________
(1) الحديث عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه في: مسلم 3/1481، 1482 (كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم)، سنن الدارمي 2/324 (كتاب الرقاق، باب في الطاعة ولزوم الجماعة)، المسند (ط. الحلبي) 6/24 .
وجاء جزء من حديث آخر بمعنى هذا الحديث عن عمر رضي الله عنه في: سنن الترمذي 3/360 (كتاب القتن، باب حدثنا موسى بن عبد الرحمن الكندي) وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد ومحمد يُضعف من قبل حفظه.(12/76)
قالوا: ومعاوية كانت رعيته تحبه وهو يحبهم، ويصلون عليه وهو يصلى عليه. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم“(1). قال مالك بن يخامر: سمعت معاذاً يقول: "وهم بالشام" قالوا: "وهؤلاء كانوا عسكر معاوية".
وفي صحيح مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن قال: لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة(2) قال أحمد بن حنبل أهل الغرب هم أهل الشام. وقد بسطنا هذا في موضع آخر، وهذا النص يتناول عسكر معاوية.
__________
(1) الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن المغيرة بن شعبة بن عارم وثوبان وجابر بن عبد الله ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم رضي الله عنهم – في أربعة مواضع في: البخاري 4/85 (كتاب فرض الخمس، باب فإن لله خمسة)، 4/207 (كتاب المناقب، باب حدثني محمد بن المثنى حدثنا معاذ باب رقم 28)، 9/101 (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون وهم أهل العلم). 9/136 (كتاب التوحيد، باب نزول عيسى بن مريم حاكماً بشريعة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم). 3/1523-1525 (كتاب الإمارة، باب لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين..)، سنن أبي داود 3/8 (كتاب الجهاد، باب في دوام الجهاد) وهو عن عمران بن حصين رضي الله عنه، 4/138-139 (كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها)، سنن الترمذي 3/342 (كتاب الفتن، باب ما جاء في الأئمة المضلين) والحديث في سنن ابن ماجه والدارمي ومواضع كثيرة في مسند أحمد.
(2) الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في: مسلم 3/1525 (كتاب الإمارة، باب لا تزال طائفة..) قال النووي في شرحه على مسم 14/68 ".. وقال معاذ: هم بالشام، وجاء في حديث آخر: هم ببيت المقدس. وقيل: هم أهل الشام وما وراء ذلك".(12/77)
قالوا: ومعاوية أيضاً كان خيراً من كثير ممن استنابه عليّ، فلم يكن يستحق أن يعزل ويولي من هو دونه في السياسة، فإن عليّاً استناب زياد بن أبيه، وقد أشاروا على عليّ بتولية معاوية. قالوا: يا أمير المؤمنين توليه شهراً وأعزله دهراً. ولا ريب أن هذا كان هو المصلحة، إما لاستحقاق وإما لتأليفه واستعطافه، فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفضل من عليّ، وولى أبا سفيان، ومعاوية خير منه، فولى من خير من عليّ من هو دون معاوية.
فإذا قيل: إن عليّاً كان مجتهداً في ذلك.
قيل: وعثمان كان مجتهداً فيما فعل، وأين الاجتهاد في تخصيص بعض الناس بولاية أو إمارة أو مال، من الاجتهاد في سفك المسلمين بعضهم دماء بعض، حتى ذل المؤمنون وعجزوا عن مقاومة الكفار، حتى طمعوا فيهم وفي الاستيلاء عليهم؟ ولا ريب أنه لو لم يكن قتلا، بل كان معاوية مقيماً على سياسة رعيته، وعليّ مقيماً على سياسة رعيته، لم يكن في ذلك من الشر أعظم مما حصل بالاقتتال، فإنه بالاقتتال لم تزل هذه الفرقة ولم يجتمعوا على إمام، بل سفكت الدماء، وقويت العداوة والبغضاء وضعفت الطائفة التي كانت أقرب إلى الحق، وهي طائفة عليّ، وصاروا يطلبون من الطائفة الأخرى من المسالمة ما كانت تلك تطلبه ابتداء.
ومعلوم أن الفعل الذي تكون مصلحته راجحة على مفسدته، يحصل به من الخير أعظم مما يحصل بعدمه. وهنا لم يحصل بالاقتتال مصلحة، بل كان الأمر مع عدم القتال خيراً وأصلح منه بعد القتال، وكان عليّ وعسكره أكثر وأقوى، ومعاوية وأصحابه أقرب إلى موافقته ومسالمته ومصالحته، فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفوراً لصاحبه، فاجتهاد عثمان أن يكون مغفوراً أولى وأحرى.(12/78)
وأما معاوية وأعوانه فيقولون: إنما قاتلنا عليّاً قتال دفع عن أنفسنا وبلادنا فإنه بدأنا بالقتال فدفعناه بالقتال ولم نبتدئه بذلك ولا اعتدينا عليه. فإذا قيل لهم: هو الإمام الذي كانت تجب طاعته عليكم ومبايعته وأن لا تشقوا عصا المسلمين. قالوا: ما نعلم أنه إمام تجب طاعته، لأن ذلك عند الشيعة إنما يعلم بالنص، ولم يبلغنا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نص بإمامته ووجوب طاعته. ولا ريب أن عذرهم في هذا ظاهر، فإنه لو قدر أن النص الجلي الذي تدعيه الإمامية حق فإن هذا قد كتم وأخفي في زمن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلم يجب أن يعلم معاوية وأصحابه مثل ذلك لو كان حقاً، فكيف إذا كان باطلاً؟!.
بين الخلافة والملك
وأما قوله: "الخلافة ثلاثون سنة" ونحو ذلك. فهذه الأحاديث لم تكن مشهورة شهرة يعلمها مثل أولئك، إنما هي من نقل الخاصة لا سيما وليست من أحاديث الصحيحين وغيرهما. وإذا كان عبد الملك بن مروا خَفي عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها: ”لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين“ ونحو ذلك، حتى هدم ما فعله ابن الزبير، ثم لما بلغه ذلك قال: وددت أني وليته من ذلك ما تولاه. مع أن حديث عائشة رضي الله عنها ثابت صحيح متفق على صحته عند أهل العلم، فلأن يخفى على معاوية وأصحابه قوله: ”الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً“ بطريق الأولى، مع أن هذا في أول خلافة عليّ رضي الله عنه لا يدل على عليّ عينا، وإنما علمت دلالته على ذلك لما مات رضي الله عنه، مع أنه ليس نصاً في إثبات خليفة معين.
ومن جوّز خليفتين في وقت يقول: كلاهما خلافة نبوة. فإن معاوية رضي الله عنه كان في أول خلافته محموداً عندهم أكثر مما كان في آخرها.(12/79)
وإن قيل: إن خلافة عليّ ثبتت بمبايعة أهل الشوكة، كما ثبتت خلافة من كان قبله بذلك أو ردوا على أن طلحة بايعه مكرهاً، والذين بايعوه قاتلوه، فلم تتفق أهل الشوكة على طاعته.
وأيضاً فإنما تجب مبايعته كمبايعة من قبله إذا سار سيرة من قبله. وأولئك كانوا قادرين على دفع الظلم عمَّن يبايعهم، وفاعلين لما يقدرون عليه من ذلك. وهؤلاء قالوا: إذا بايعناه كنا في ولايته مظلومين بولايته مع الظلم الذي تقدم لعثمان، وهو لا ينصفنا إما لعجزه عن ذلك، وإما تأويلاً منه، وإما لما ينسبه إليه آخرون منهم، فإن قتلة عثمان وحلفاءهم أعداؤنا، وهم كثيرون في عسكره، وهو عاجز عن دفعهم، بدليل ما جرى يوم الجمل، فإنه لما طلب طلحة والزبير الانتصار من قتلة عثمان، قامت قبائلهم فقاتلوهم.
ولهذا كان الإمساك عن مثل هذا هو المصلحة، كما أشار به عليّ على طلحة والزبير، واتفقوا على ذلك. ثم إن القتلة أحسوا باتفاق الأكابر، فأثاروا الفتنة وبدأوا بالحملة على عسكر طلحة والزبير، وقالوا لعليّ: إنهم حملوا قبل ذلك، فقاتل كل من هؤلاء وهؤلاء دفعاً عن نفسه، ولم يكن لعليّ ولا لطلحة والزبير غرض في القتال أصلاً، وإنما كان الشر من قتلة عثمان.
وإذا كان لا ينصفنا إما تأويلاً منه وإما عجزاً منه عن نصرتنا، فليس علينا أن نبايع من نُظلم بولايته لا لتأويله ولا لعجزه. قالوا: والذين جوزوا قتالنا قالوا: إنا بغاة، والبغي ظلم، فإن كان مجرد الظلم مبيحاً للقتال فلأن يكون مبيحاً لترك المبايعة أولى وأحرى، فإن القتال أعظم فساداً من ترك المبايعة بلا قتال.
وإن قيل: عليّ رضي الله عنه لم يكن متعمداً لظلمهم، بل كان مجتهداً في العدل لهم وعليهم.(12/80)
قالوا: وكذلك نحن لم نكن معتمدين للبغي، بل مجتهدين في العدل له وعليه. وإذا كنا بغاة التأويل. والله تعالى لم يأمر بقتال الباغي ابتداء، وليس مجرد البغي مبيحاً للقتال، بل قال تعالى: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } [الحجرات: 9]، فأمر بالإصلاح عند الاقتتال، ثم قال: { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [الحجرات: 9] وهذا بغي بعد الاقتتال، فإنه بغى إحدى الطائفتين المقتتلتين لا بغي بدون الاقتتال، فالبغي المجرد لا يبيح القتال، مع أن الذي في الحديث أن عماراً تقتله الفئة الباغية، قد تكون الفتئة التي باشرت قتله هم البغاة لكونهم قاتلوا لغير حاجة إلى القتال أو لغير ذلك، وقد تكون غير بغاة قبل القتال، لكن لما اقتتلتا بغيتا، وحينئذ قتل عماراً الفئة الباغية. فليس في الحديث ما يدل على أن البغي كان منا قبل القتال، ولما بغينا كان عسكر علي متخاذلاً لم يقاتلنا. ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: ترك الناس العمل بهذه الآية.
إذا التقى المسلمان بسيفيهما
وأما قوله: "إن معاوية قتل جمعاً كثيراً من خيار الصحابة".
فيقال: الذين قُتلوا من الطائفتين، قتل هؤلاء من هؤلاء وهؤلاء من هؤلاء. وأكثر الذين كانوا يختارون القتال من الطائفتين لم يكونوا يطيعون لا عليّاً ولا معاوية، وكان عليّ ومعاوية رضي الله عنهما أطلب لكف الدماء من أكثر المقتتلين، لكن غلبا فيما وقع. والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء نارها، وكان في العسكرين مثل الأشتر النخعي، وهاشم بن عتبة المرقال، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأبي الأعور السلمي، ونحوهم من المحرضين على القتال: قوم ينتصرون لعثمان غاية الانتصار، وقوم ينفرون عنه، وقوم ينتصرون لعليّ، وقوم ينفرون عنه.(12/81)
ثم قتال أصحاب معاوية معه لم يكن لخصوص معاوية، بل كان لأسباب أخرى. وقتال الفتنة مثل قتال الجاهلية لا تنضبط مقاصد أهله واعتقاداتهم، كما قال الزهري: "وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فإنه هَدَر: أنزلوهم منزلة الجاهلية".
وأما ما ذكره من لعن عليّ، فإن التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة، وكان هؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم، وهؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم. وقيل: إن كل طائفة كانت تقنت على الأخرى. والقتال باليد أعظم من التلاعن باللسان، وهذا كله سواء كان ذنباً أو اجتهاداً: مخطئاً أو مصيباً، فإن مغفرة الله ورحمته تتناول ذلك بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك.
ثم من العجب أن الرافضة تنكر سبّ عليّ، وهم يسبّون أبا بكر وعمر وعثمان ويكفرونهم ومن والاهم. ومعاوية رضي الله عنه وأصحابه ما كانوا يكفرون عليّاً، وإنما يكفره الخوارج المارقون، والرافضة شر منهم. فلو أنكرت الخوارج السب لكان تناقضاً منها، فكيف إذا أنكرته الرافضة؟!
ولا ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة: لا عليّ ولا عثمان ولا غيرهما، ومن سب أبا بكر وعمر وعثمان فهو أعظم إثماً ممن سب عليّاً، وإن كان متأولاً فتأويله أفسد من تأويل من سب عليّاً، وإن كان المتأول في سبهم ليس بمذموم لم يكن أصحاب معاوية مذمومين، وإن كان مذموماً كان ذم الشيعة الذين سبوا الثلاثة أعظم من سب الناصبة الذين سبوا عليّاً وحده. فعلى كل تقدير هؤلاء أبعد عن الحق.
وفي الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه“(1).
__________
(1) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم في فضائل الصحابة، ح(221-222)، والإمام أحمد في مسنده (3 : 11).(12/82)
التحقيق في وفاة الإمام الحسن بن علي رضي الله عنه
وأما قوله: "إن معاوية سمَّ الحسن".
فهذا مما ذكره بعض الناس، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية، أو إقرار معتبر، ولا نقل يجزم به، وهذا مما لا يمكن العلم به، فالقول به قول بلا علم. وقد رأينا في زماننا من يقال عنه: إنه سُمَّ ومات مسموماً من الملوك وغيرهم، ويختلف الناس في ذلك، حتى في نفس الموضع الذي مات فيه ذلك الملك والقلعة التي مات فيها، فتجد كلاً منهم يحدث بالشيء بخلاف ما يحدث به الآخر، ويقول: هذا سمَّه فلان، وهذا يقول: بل سمَّه غيره لأنه جرى كذا، وهي واقعة في زمانك، والذين كانوا في قلعته هم الذين يحدثونك.
والحسن رضي الله عنه قد نُقل عنه أنه مات مسموماً. وهذا مما يمكن أن يعلم، فإن موت المسموم لا يخفى، لكن يقال: إن امرأته سمَّته. ولا ريب أنه مات بالمدينة ومعاوية بالشام، فغاية ما يظن الظان أن يقال: إن معاوية أرسل إليها وأمرها بذلك، وقد يقال: بل سمته امرأته لغرض آخر مما تفعله النساء، فإنه كان مطلاقاً لا يدوم مع امرأة.
وقد قيل: إن أباها الأشعث بن قيس أمرها بذلك، فإنه كان يتهم بالانحراف في الباطن عن عليّ وابنه الحسن.(12/83)
وإذا قيل: إن معاوية أمر أباها، كان هذا ظناً محضاً، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث“(1).
__________
(1) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 8/19 (كتاب الأدب، باب ما نهى عنه من التحاسد والتدابر، باب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ..) ونصه: ”إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً“. والحديث أيضاً في: البخاري 4/5 (كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ })، 7/19 (كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه..) 8/148-149 (كتاب الفرائض، باب تعليم الفرائض)، مسلم 4/1985 (كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن..) والحديث في سنن الترمذي والموطأ وفي مواضع كثيرة في المسند.(12/84)
وبالجملة فمثل هذا لا يحكم به في الشرع باتفاق المسلمين، فلا يترتب عليه أمر ظاهر: لا مدح ولا ذم، والله أعلم. ثم إن الأشعث ابن قيس مات سنة أربعين، وقيل إحدى وأربعين، ولهذا لم يذكر في الصلح الذي كان بين معاوية والحسن بن علي، في العام الذي كان يسمى عام الجماعة، وهو عام أحد وأربعين، وكان الأشعث حما الحسن بن عليّ، فلو كان شاهداً لكان يكون له ذكر في ذلك، وإذا كان قد مات قبل الحسن بنحو عشر سنين، فكيف يكون هو الذي أمر ابنته أن تسم الحسن؟ (1) والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة الحال، وهو يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. فإن كان قد وقع شيء من ذلك فهو من باب قتال بعضهم بعضاً كما تقدم، وقتال المسلمين بعضهم بعضاً بتأويل، وسب بعضهم بعضاً بتأويل، وتكفير بعضهم بعضاً بتأويل: باب عظيم، ومن لم يعلم حقيقة الواجب فيه وإلا ضل.
لا تزر وازرةٌ وزر أخرى
وأما قوله: "وقتل ابنه يزيد مولانا الحسين ونهب نساءه".
__________
(1) الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي، أبو محمد، صحابي، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر في سبعين راكباً من كندة وكان من ملوك كنده، فأسلم، وشهد اليرموك فأصيبت عينه. امتنع عن تأدية الزكاة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فحورب واستسلم، وأطلقه أبو بكر وزوجه أخته أم فروة، فأقام في المدينة وشهد الوقائع، وشارك في حروب العراق، وكان مع عليّ يوم صفين وحضر معه وقعة النهروان ثم عام إلى الكوفة فتوفى فيها سنة 40. روى له البخاري ومسلم تسعة أحاديث. انظر ترجمته في: الإصابة 1/66؛ الأعلام 1/333-334 .(12/85)
فيقال: إن يزيد لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل، ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق. والحسين رضي الله عنه كان يظن أن أهل العراق ينصرونه ويفون له بما كتبوا إليه، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل، فلما قتلوا مسلماً وغدروا به وبايعوا ابن زياد، أراد الرجوع فأدركته السرية الظالمة، فطلب أن يذهب إلى يزيد، أو يذهب إلى الثغر، أو يرجع إلى بلده، فلم يمكنوه من شيء من ذلك حتى يستأسر لهم، فامتنع، فقاتلوه حتى قتل شهيداً مظلوماً رضي الله عنه، ولما بلغ ذلك يزيد أظهر التوجع على ذلك، وظهر البكاء في داره، ولم يسب له حريماً أصلاً، بل أكرم أهل بيته، وأجازهم حتى ردهم إلى بلدهم.
ولو قُدِّرَ أن يزيد قتل الحسين لم يكن ذنب ابنه ذنباً له، فإن الله تعالى يقول: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [فاطر: 18]. وقد اتفق الناس على أن معاوية رضي الله عنه وصّى يزيد برعاية حق الحسين وتعظيم قدره. وعمر بن سعد كان هو أمير السرية التي قتلت الحسين، وابوه سعد كان من أبعد الناس عن الفتن، ولابنه هذا معه قصة معروفة، لما حضه على طلب الخلافة، وامتناع سعد من ذلك، ولم يكن بقي من أهل الشورى غيره.(12/86)
ففي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كان سعد بن أبي وقاص في إبله، فجاء ابنه عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب. فنزل فقال له أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره فقال: اسكت، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي“(1).
ومحمد بن أبي بكر يقال: إنه أعان على قتل عثمان، وكان أبوه أبو بكر رضي الله عنه من أشد الناس تعظيماً لعثمان، فهل روى أحد من أهل السنة قدحاً في أبي بكر لأجل فعل ابنه.
وإذا قيل: إن معاوية رضي الله عنه استخلف يزيد، وبسبب ولايته فعل هذا.
قيل: استخلافه إن كان جائزاً لم يضره ما فعل، وإن لم يكن جائزاً فذاك ذنب مستقل ولو لم يقتل الحسين. وهو مع ذلك كان من أحرص الناس على إكرام الحسين رضي الله عنه وصيانة حرمته، فضلاً عن دمه، فمع هذا القصد والاجتهاد لا يضاف إليه فعل أهل الفساد.
الإسلام يجبُّ ما قبله
وأما قوله: "وكسر أبوه ثنية النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأكلت أمه كبد حمزة عم النبي صلّى الله عليه وسلّم".
__________
(1) في المسند (ط. المعارف) 3/26 (رقم 1441) عن عامر بن سعد أن أخاه عمر انطلق إلى سعد في غنم له خارجاً من المدينة فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما أتاه قال: يا أبت، أرضيت أن تكون أعرابياً في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة؟ فضرب سعد صدر عمر، وقال: اسكت، إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي“.
والحديث في مسلم مع اختلاف في اللفظ 4/2277 (كتاب الزهد والرقاق، الباب الأول) وللحديث رواية أخرى مختلفة في المسند (ط. المعارف) 3/65-66 (رقم 1529).(12/87)
فلا ريب أن أبا سفيان بن حرب كان قائد المشركين يوم أحد، وكسرت ذلك اليوم ثنية النبي صلّى الله عليه وسلّم، كسرها بعض المشركين. لكن لم يقل أحد: إن أبا سفيان باشر ذلك وإنما كسرها عتبة بن أبي وقاص(1)، وأخذت هند كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطيع أن تبلعها فلفظتها.
وكان هذا قبل إسلامهم، ثم بعد ذلك أسلموا وحسن إسلامهم وإسلام هند، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكرمها، والإسلام يَجُبُّ ما قبله، وقد قال الله تعالى: { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38].
__________
(1) في سيرة ابن هشام 3/84 عن أبي سعيد الخدري: أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ (يوم أحد) فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى.. إلخ، وفي "زاد المعاد" 3/197: "وكان الذي تولى أذاه صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن قمئة وعتبة بن أبي وقاص. وقيل: إن عبد الله بن شهاب الزهري، عم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، هو الذي شجه"، وانظر خبر ما أصاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد في البخاري (كتاب المغازي، باب ما أصاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من الجراح يوم أحد) في: فتح الباري 7/372-373. وفي: البخاري 7/129 (كتاب الطب، باب حرق الحصير ليسد به الدم) والحديث عن سهل بن سعد الساعدي، وفي: مسلم 3/1416-1417 (كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد).(12/88)
وفي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال(1): حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً، وحوّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: ما يبكيك يا أبتاه؟ أما بشرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكذا؟ أما بشرك بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إني قد كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استكنت منه فقتلته، فلو متُّ على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله عز وجل الإسلام في قلبي أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه. قال: فقبضت يدي، فقال: ”ما لك يا عمرو“؟ قال: قلت: أريد أن اشترط. قال: ”تشترط بماذا“؟ قلت: أن تغفر لي. قال: ”أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله“؟ وذكر الحديث(2).
وفي البخاري: لما أسلمت هند أم معاوية رضي الله عنهما قالت: والله يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليَّ أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب أن يعزوا من أهل خبائك(3).
التوبة من الذنوب
__________
(1) الحديث في مسلم 1/112-113 (كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله..).
(2) انظر باقي الحديث في مسلم 1/112-113.
(3) هذا جزء من حديث طويل عن عائشة رضي الله عنها في: البخاري 8/131 (كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم)، 5/40 (كتاب مناقب الأنصار، باب ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة رضي الله عنها)، 9/66 (كتاب الأحكام، باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس..)، مسلم 3/1339 (كتاب الأقضية، باب قضية هند)، المسند (ط. الحلبي) 6/225 .(12/89)
قال الرافضي: "وقد أحسن بعض الفضلاء في قوله: شر من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعته، وجر معه في ميدان معصيته. ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد من الملائكة، وكان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة، ولما خلق الله آدم وجعله خليفة في الأرض، وأمره بالسجود فاستكبر فاستحق اللعنة والطرد، ومعاوية لم يزل في الإشراك وعبادة الأصنام إلى أن أسلم بعد ظهور النبي صلّى الله عليه وسلّم بمدة طويلة، ثم استكبر عن طاعة الله في نصب أمير المؤمنين عليه إماماً، وبايعه الكل بعد قتل عثمان وجلس مكانه، فكان شراً من إبليس".
فيقال: هذا الكلام فيه من الجهل والضلال والخروج عن دين الإسلام وكل دين، بل وعن العقل الذي يكون لكثير من الكفار، ما لا يخفى على من تدبره.
أما أولاً: فلأن إبليس أكفر من كل كافر، وكل من دخل النار فمن أتباعه. كما قال تعالى: { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 85] وهو الآمر لهم بكل قبيح المزين له، فكيف يكون أحد شراً منه؟ لا سيما من المسلمين، لا سيما من الصحابة؟
وقول هذا القائل: "شرٌّ من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعة، وجرى معه في ميدان المعصية" يقتضي أن ل من عصى الله فهو شر من إبليس، لأنه لم يسبقه في سالف طاعة، وجرى معه في ميدان المعصية. وحينئذ فيكون آدم وذريته شرّاً من إبليس، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون“(1)
__________
(1) الحديث عن أنس رضي الله عنه: سنن الترمذي 4/70 (كتاب صفة القيامة، باب منه)، سنن ابن ماجه 2/1420 (كتاب التوبة، باب ذكر التوبة)، سنن الدارمي 2/303 (كتاب الرقائق، باب في التوبة)، المستدرك للحاكم 4/244 وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وحسّن الألباني الحديث في "صحيح الجامع الصغير" 4/171.
وانظر: جامع الأصول 3/70، الترغيب والترهيب 5/52. وذكر الإمام أحمد الحديث مطولاً في مسنده (ط. الحلبي) 3/198.(12/90)
.
ثم هل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن من أذنب ذنباً من المسلمين يكون شراً من إبليس؟ أو ليس هذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام؟ وقائل هذا كافر كفراً معلوماً بالضرورة من الدين. وعلى هذا فالشيعة دائماً يذنبون، فيكون كل منهم شراً من إبليس. ثم إذا قالت الخوارج: إن عليّاً أذنب فيكون شراً من إبليس – لم يكن للروافض حجة إلا دعوى عصمته وهم لا يقدرون أن يقيموا حجة على الخوارج بإيمانه وإمامته وعدالته، فكيف يقيمون حجة عليهم بعصمته؟ ولكن أهل السنة تقدر أن تقيم الحجة بإيمانه وإمامته، لأن ما تحتج به الرافضة منقوض ومعارض بمثله، فيبطل الاحتجاج به.
ثم إذا قام الدليل على قول الجمهور الذي دل عليه القرآن كقوله تعالى: { وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [طه: 121]، لزم أن يكون آدم شراً من إبليس.
وفي الجملة فلوازم هذا القول وما فيه من الفساد يفوق الحصر والتعداد.
وأما الثانية: فهذا الكلام كلام بلا حجة، بل هو باطل في نفسه. فلم قلت: إن شراً من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعة وجرى معه في ميدان معصية؟ وذلك أن أحداً لا يجرى مع إبليس في ميدان معصيته كلها، فلا يتصور أن يكون في الآدميين من يساوي إبليس في معصيته، بحيث يضل الناس كلهم ويغويهم.
وأما طاعة إبليس المتقدمة فهي حابطة بكفره بعد ذلك، فإن الردة تحبط العمل، فما تقدم من طاعته: إن كان طاعة فهي حابطة بكفره وردته، وما يفعله من المعاصي لا يماثله أحد فيه، فامتنع أن يكون أحد شراً منه، وصار نظير هذا المرتد الذي يقتل النفوس ويزني ويفعل عامة القبائح بعد سابق طاعاته، فمن جاء بعده ولم يسبقه إلى تلك الطاعات الحابطة، وشاركه في قليل من معاصيه، لا يكون شراً منه، فكيف يكون أحد شراً من إبليس؟(12/91)
وهذا ينقض أصول الشيعة: حقها وباطلها. وأقل ما يلزمهم أن يكون أصحاب عليّ الذين قاتلوا معه، وكانوا أحياناً يعصونه، شرّاً من الذين امتنعوا عن مبايعته من الصحابة، لأن هؤلاء عبدوا الله قبلهم، وأولئك جروا معهم في ميدان المعصية.
ويقال: ثالثاً: ما الدليل على أن إبليس كان أعبد الملائكة؟ وأنه كان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة؟ أو أنه كان من حملة العرش في الجملة؟ أو أنه كان طاووس الملائكة؟ أو أنه ما ترك في السماء رقعة ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سجدة وركعة؟ ونحو ذلك مما يقوله بعض الناس؟
فإن هذا أمر إنما يعلم بالنقل الصادق، وليس في القرآن شيء من ذلك، ولا في ذلك خبر صحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهل يحتج بمثل هذا في أصول الدين إلا من هو من أعظم الجاهلين؟!
وأعجب من ذلك قوله: "ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد الملائكة".
فيقال: من الذي قال هذا من علماء الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين؟ فضلاً عن أن يكون هذا متفقاً عليه بين العلماء؟ وهذا شيء لم يقله قط عالم يقبل قوله من علماء المسلمين. وهو أمر لا يعرف إلا بالنقل، ولم ينقل هذا أحد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا بإسناد صحيح ولا ضعيف. فإن كان قاله بعض الوعاظ أو المصنفين في الرقائق، أو بعض من ينقل في التفسير من الإسرائيليات ما لا إسناد له، فمثل هذا لا يحتج به في جُرْزَةِ بقل، فكيف يحتج به في جعل إبليس خيراً من كل من عصى الله من بني آدم، ويجعل الصحابة من هؤلاء الذين خير منهم؟
وما وصف الله ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم إبليس بخير قط ولا بعبادة متقدمة ولا غيرها، مع أنه لو كان له عبادة لكانت قد حبطت بكفره وردته.(12/92)
وأعجب من ذلك قوله: "لا شك بين العلماء أن كان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة" فيا سبحان الله! هل قال ذلك أحد من علماء المسلمين المقبولين عند المسلمين؟ وهل يتكلم بذلك إلا مفرط في الجهل؟ فإن هذا لا يعرف – لو كان حقاً – إلا بنقل الأنبياء، وليس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك شيء.
ثم حمل واحد من الملائكة العرش خلاف ما دل عليه النقل الصحيح. ثم ما باله حمل العرش وحده ستة آلاف سنة ولم يكن يحمله وحده دائماً؟ ومن الذي نقل أن إبليس من حملة العرش؟
وهذا من أكذب الكذب؛ فإن الله تعالى يقول: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [غافر: 7]، فأخبر أن له حملة لا واحداً، وأنهم كلهم مؤمنون مسبحون بحمد ربهم، مستغفرون للذين آمنوا.
وإذا قيل: هذا إخبار عن الحمل المطلق، ليس فيه أنه لم يزل له حملة.
قيل: قد جاءت الآثار بأنه لم يزل له حملة، كحديث عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، أن الله تعالى لَمّا خلق العرش أمر الملائكة بحمله. قالوا: ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقالوا، فأطاقوا حمله".
ويقال: رابعاً: إن إبليس كفر، كما أخبر الله تعالى بقوله: { إِلاّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ } [ص: 74]، فلو قدر أنه كان له عمل صالح حبط بكفره. كذلك غيره إذا كفر حبط عمله، فأين تشبيه المؤمنين بهذا؟!(12/93)
ويقال: خامساً: قوله: "إن معاوية لم يزل في الشرك إلى أن أسلم" به يظهر الفرق فيما يقصد به الجمع، فإن معاوية أسلم بعد الكفر، وقد قال تعالى: { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38]، وتاب من شركه وأقام الصلاة وآتى الزكاة، وقد قال تعالى: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [التوبة: 11]. وإبليس كفر بعد إيمانه فحبط إيمانه بكفره، وذاك حبط كفره بإيمانه، فكيف يقاس من آمن بعد الكفر بمن كفر بعد الإيمان؟!
ويقال: سادساً: قد ثبت إسلام معاوية رضي الله عنه، والإسلام يَجُبُّ ما قبله. فمن ادعى أنه ارتد بعد ذلك كان مدعياً دعوى بلا دليل لو لم يعلم كذب دعواه، فكيف إذا علم كذب دعواه، وأنه مازال على الإسلام إلى أن مات، كما علم بقاء غيره على الإسلام؟ فالطريق الذي يُعلم به بقاء إسلام أكثر الناس من الصحابة وغيرهم، يُعلم به بقاء إسلام معاوية رضي الله عنه. والمدَّعي لارتداد معاوية وعثمان وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم، ليس هو أظهر حجة من المدعي لارتداد عليّ. فإن كان المدعي لارتداد عليّ كاذباً كان المدَّعي لارتداد عليّ كاذباً، فالمدعي لارتداد هؤلاء أظهر كذباً، لأن الحجة على بقاء إيمان هؤلاء أظهر، وشبهة الخوارج أظهر من شبهة الروافض.
ويقال: سابعاً: هذه الدعوى إن كانت صحيحة، ففيها من القدح والغضاضة بعليّ والحسن وغيرهما ما لا يخفى. وذلك أنه كان مغلوباً مع المرتدّين، وكان الحسن قد سلَّم أمر المسلمين إلى المرتدين، وخالد بن الوليد قهر المرتدّين، فيكون نصر الله الخالد على الكفار أعظم من نصره لعليّ. والله سبحانه وتعالى عدل لا يظلم واحداً منهما فيكون ما استحقه خالد من النصر أعظم مما استحقه عليّ، فيكون أفضل عند الله منه.
بل وكذلك جيوش أبي بكر وعمر وعثمان ونوّابهم؛ فإنهم كانوا منصورين على الكفّار أيضاً.(12/94)
فإن الله سبحانه وتعالى يقول: { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران: 139]، وقال تعالى: { فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } [محمد: 35].
وعليّ رضي الله عنه دعا معاوية إلى السِّلْم في آخر الأمر، لَمّا عجز عن دفعه عن بلاده، وطلب منه أن يبقى كل واحد منهما على ما هو عليه. وقد قال تعالى: { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران: 139]، فإن أصحابه مؤمنين وأولئك مرتدين وجب أن يكونوا الأعلين، وهو خلاف الواقع.
ويقال ثامناً من قال: إن معاوية رضي الله عنه استكبر عن طاعة الله في نصب أمير المؤمنين، ولم قلت: إنه علم أن ولايته صحيحة، وأن طاعته واجبة عليه؟. فإن الدليل على ثبوت ولايته ووجوب طاعته من المسائل المشتبهة التي لا تظهر إلا بعد بحث ونظر، بخلاف من أجمع الناس على طاعته. وبتقدير أن يكون عَلِمَ ذلك، فليس كل من عصى يكون مستكبراً عن طاعة الله. والمعصية تصدر تارة عن شهوة، وتارة عن كبر، وهل يُحكم على كل عاصٍ بأنه مستكبر عن طاعة الله كاستكبار إبليس؟!.
ويقال تاسعاً: قوله: "وبايعه الكل بعد عثمان".
إن لم يكن هذا حجة فلا فائدة فيه، وإن كان حجة فمبايعتهم لعثمان كان اجتماعهم عليها أعظم. وأنتم لا ترون الممتنع عن طاعة عثمان كافراً، بل مؤمناً تقيّاً.
ويقال عاشراً: اجتماع الناس على مبايعة أبي بكر كانت على قولكم أكمل، وأنتم وغيركم تقولون: إن عليّاً تخلّف عنها مدة. فيلزم على قولكم أن يكون عليّ مستكبراً عن طاعة الله في نصب أبي بكر عليه إماماً، فيلزم حينئذ كفر عليّ بمقتضى حجتكم، أو بطلانها في نفسها. وكفر عليّ باطل، فلزم بطلانها.
ويقال: حادي عشر قولكم: "بايعه الكل بعد عثمان".(12/95)
من أظهر الكذب، فإن الكذب، فإن كثيراً من المسلمين: إما النصف، وإما أقل أو أكثر لم يبايعوه، ولم يبايعه سعد بن أبي وقاص ولا ابن عمر ولا غيرهما.
ويقال: ثاني: قولكم: "إنه جلس مكانه".
كذب؛ فإن معاوية لم يطلب الأمر لنفسه ابتداء، ولا ذهب إلى عليّ لينزعه عن إمارته، ولكن امتنع هو وأصحابه عن مبايعته، وبقي على ما كان عليه والياً على من كان والياً عليه في زمن عمر وعثمان. ولما جرى حكم الحكمين إنما كان متولياً على رعيته فقط. فإن أريد بجلوسه في مكانه أنه استبد بالأمر دونه في تلك البلاد، فهذا صحيح، لكن معاوية رضي الله عنه يقول: إني لم أنازعه شيئاً هو في يده، ولم يثبت عندي ما يوجب عليّ دخولي في طاعته. وهذا الكلام سواء كان حقاً أو باطلاً لا يوجب كون صاحب شرّاً من إبليس، ومن جعل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شرّاً من إبليس، فما أبقى غاية في الافتراء على الله ورسوله والمؤمنين، والعدوان على خير القرون في مثل هذا المقام، والله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، والهوى إذا بلغ بصحابه إلى هذا الحد فقد أخرج صاحبه عن ربقة العقل، فضلاً عن العلم والدين، فنسأل الله العافية من كل بليّة، وإن حقّاً على الله أن يذل أصحاب مثل هذا الكلام، وينتصر لعباده المؤمنين – من أصحاب نبيه وغيرهم – من هؤلاء المفترين الظالمين.
المحتوى
الموضوع رقم الصفحة
تقدمة المحقق ...
شذرات من مناقب أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ...
دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم له ...
كان أحد من كتبوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ...
تحرّيه موضع صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم داخل الكعبة ...
فتح قبرص في عهده، وغزو القسطنطينية ...
وقوع الإسلام بقلبه عام الحديبية ...(12/96)
وضوءه للنبي صلّى الله عليه وسلّم ...
شهادة ابن عباس له بالفقه ...
كتابته الوحي للنبي صلّى الله عليه وسلّم ...
من خطبته ...
إمارته على الشام ...
شبهات حول أمير المؤمنين والرد عليها ...
سرد شبهات الرافضة حول معاوية رضي الله عنه – والرد عليها واحدة واحدة ...
بيان كذب حديث لعن معاوية ...
بيان أن "الطليق ابن الطليق" ليس نعت ذم ...
فضل عليّ على معاوية ...
معاوية كغيره من الصحابة ليس بمنَزّه عن ارتكاب بعض الذنوب ...
استقامة دليل أهل السنة في إثبات خلافة علي رضي الله عنه ...
بيان أن ترك القتال كان أولى ...
القادحون في الإمام عليّ طوائف ...
كان قتال المسلمين قتال فتنة ...
بغي الطائفتين لا ينفي إيمانهما ...
بيان أن عليّاً رضي الله عنه أفضل الصحابة بعد الثلاثة الراشدين ...
الصحابة يتفاضلون بأسبقيتهم للإسلام ...
أهل السنة أولى بعلي من غيرهم ...
قولٌ للإمام أحمد حول خلافة الإمام عليّ ...
الإمام عليّ خليفة راشد مهدي ولا شك في ذلك ...
حول قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعمار: ”تقتلك الفئة الباغية“ ...
لم يكن الإمام عليّ متمكناً من الإمساك بقتَلةِ عثمان ...
كذلك معاوية لم يكن متمكناً من قَتَلةِ عثمان ...
امتناع معاوية عن الطاعة للإمام عليّ هو سبب القتال ...
كانت مبايعة عليّ أصلح في الدين وأطوع لله ورسوله ...
فضل التزام الجماعة ...
عليٌّ وأصحابه كانوا أدنى الطائفتين إلى الحق من السنة ...
ذكر الاختلاف في رواية حديث ”عمار تقتلك الفئة الباغية“ ...
ظروف هذا الحديث ...
الحديث ثابت عند أهل النقل ...
هل هذا دليل على بغي معاوية وأصحابه ؟ ...
قتال الفئة الباغية ...
حكم وليّ الأمر فيما يكون مخيراً فيه ...
كُتَّاب الوحي للنبي صلّى الله عليه وسلّم ...(12/97)
ثبوت كتابة معاوية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ...
إسلام معاوية عام الفتح ...
لم يُعرف عن معاوية أذى للنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل الإسلام ...
حسن إسلام معاوية ...
شعر منحول على معاوية ...
معاوية أسلم عام الفتح ...
أخوه يزيد أفضل منه ...
الإسلام يجبُّ ما قبله ...
حسن إسلام معاوية ...
معاوية لم يكفر أو يرتد بعد إيمانه ...
حول حديث مكذوب يسيء لمعاوية ...
معاوية كان من أحلم الناس ...
وجه الصواب والخطأ في القتال بصفين ...
الصواب ألا يكون قتال ...
وترك القتال كان خيراً من وجوده ...
التحذير من الفتنة ...
رأي الفقهاء في القتال واللعن والتكفير بين المسلمين ...
الكافر إن أسلم ...
المرتد المقدور عليه ...
إنه شهد بدراً ...
عظم قدر الصحابة ...
المتأوّل المخطئ مغفور له ...
ما فعله عثمان لا يبيح خلعه ...
حول الأحاديث الواردة في فضل الشام ...
سيدنا عثمان كان مجتهداً فيما فعل ...
اجتهاد الصحابة ...
بين الخلافة والملك ...
حول حديث: ”الخلافة ثلاثون سنة“ ...
المطالبة بقَتَلةِ عثمان ...
إذا التقى المسلمان بسيفيهما ...
قتال الفتنة مثل قتال الجاهلية ...
لا يجوز سب أحد من الصحابة ...
التحقيق في وفاة الحسن بن علي رضي الله عنه ...
هل مات الحسن مسموماً ؟ ...
إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ...
لا تزر وازرة وزر أخرى ...
ليس ذنب يزيد ذنباً لمعاوية ...
حول استخلاف معاوية ليزيد ...
الإسلام يَجبُّ ما قبله ...
أبو سفيان وهند قبل وبعد الإسلام ...
الإسلام يهدم ما كان قبله ...
التوبة من الذنوب ...
هل يكفر المسلم بالذنب ...
التوبة من الذنب ...
حول مسألة التوبة ...
الله جل شأنه عدل لا يظلم أحداً ...
معاوية لم يطلب الأمر لنفسه ابتداءً ...
ختام الكتاب ...
المحتوى ...(12/98)
شبهات حول الصحابة والرّدّ عليها
أم المؤمنين
عائشة
رضي الله عنها
لشيخ الإسلام ابن تيمية
ولد سنة 661 وتوفي سنة 728هـ
جمع وتقديم وتحقيق
محمد مال الله
الطبعة الأولى
1410هـ - 1989م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد :
أخي القارئ أقدم الجزء الثالث من هذه السلسلة، راجياً من الله تعالى أن ينفعك بها، وأن لا تبخل بالدعاء لمن قام بتأليفها وأيضاً لجامعها.
أبو عبد الرحمن
محمد مال الله
شذرات من مناقب
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
1 - عن ابن شهاب قال أبو سلمة: أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً: يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى. تريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(1).
2 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون. وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام(2).
3 - عن عبد الله بن عبد الرحمن أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
”فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام“(3).
__________
(1) رواه البخاري (الفتح 7/106)، مسلم (بشرح النووي 15/211-212) باختلاف يسير، صحيح الترمذي (للألباني) 3/242-243، صحيح النسائي (للألباني) ج3 رقم 3691 .
(2) رواه البخاري (الفتح 7/106).
(3) رواه البخاري (الفتح 7/106)، صحيح الترمذي 3/243، صحيح النسائي ج3 رقم 3686 عن أنس رضي الله عنه، ورقم 3687 عن عائشة رضي الله عنها.(13/1)
4 - عن القاسم بن محمد أن عائشة اشتكت، فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين، تقدمين على فرط صدق، على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى أبي بكر(1).
5 - عن الحكم سمعت أبا وائل قال: "لما بعث علي عماراً والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم، خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها"(2).
6 - عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلوا بغير وضوء. فلما أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل فيه للمسلمين بركة(3).
7 - عن هشام عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: أين أنا غداً؟ حرصاً على بيت عائشة. قالت عائشة: فلما كان يومي سكن(4).
8 - هشام عن أبيه قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة. فقالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرّون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد لخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان، أو حيث ما دار. قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلّى الله عليه وسلّم قالت: فأعرض عني. فلما عاد إليّ ذكرت له ذلك، فأعرض عني. فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عليّ الروحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها(5).
__________
(1) رواه البخاري (الفتح 7/106).
(2) رواه البخاري (الفتح 7/106).
(3) رواه البخاري (الفتح 7/106-107).
(4) رواه البخاري (الفتح 7/107).
(5) رواه البخاري (الفتح 7/107)، صحيح الترمذي 3/242، النسائي ج3 رقم 3688، 3689 .(13/2)
9 - عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني لأعلم إذا كُنتِ عني راضيةً وإذا كُنتِ عليّ غضبى، قالت: فقلت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال: أما إذا كُنتِ عنّي راضيةً فإنك تقولين: لا وربِّ محمد، وإذا كنت غضبى قلت لا ربّ إبراهيم. قالت: قُلتُ: أجل والله يا رسول الله ما أهجُرُ إلا اسمك(1).
10 - عن هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تلعبُ بالبنات عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت: وكانت تأتيني صواحبي فكن ينقمن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت: فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُسرِّبُهُنَّ إليّ(2).
__________
(1) رواه مسلم (بشرح النووي 15/203).
(2) رواه مسلم (بشرح النووي 15/204).(13/3)
11 - عن ابن شهاب أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم قالت: أرسل أزواجُ النبي صلّى الله عليه وسلّم فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي، فاذن لها، فقالت: يا رسول الله إنّ أزواجك أرسلنني إليك يسألنَكَ العدلَ في ابنة أبي قُحافة، وأنا ساكتةٌ، قالت: فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي بُنيّة ألستِ تُحبّين ما أحِبُّ؟ فقالت: بلى، قال: فأحبّي هذه. قالت: فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجعت إلى أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبرتهن بالذي قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلن لها: ما نراك أغنيتِ عنّا من شيء فارجعي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقولي له أن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة. فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبداً. قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي التي كانت تُساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم أر امرأة قطّ خيراً في الدين من زينب وأتقى لله وأصدقَ حديثاً وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشدّ ابتذالاً لنفسها في العلم الذي تصدّق به وتقرّب به إلى الله تعالى ما عدا سورة من حدّة كانت فيها تسرع منها الفينة. قالت: فاستأذنت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع عائشة في مرطها على الحالة التي دخلت فاطمة عليها وهو بها، فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك العدل في ابنة أبي قُحافة، قالت: ثم وقعت بي فاستطالت ليّ وأنا أرقب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها. قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا(13/4)
يكره أن أنتصر. قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها حتى أنحيت عليها. قالت: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتبسّم: إنها ابنة أبي بكر(1).
12 - عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليتفقّد، يقول: أين أنا اليوم أين أنا غداً، استبطاء ليوم عائشة. قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري(2).
13 - عن هشام عن أبي عن عائشة: أن الناس كانوا يتحرّون بهداياهم يوم عائشة يبتغن بذلك مرضاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(3).
14 - عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة أنها أخبرته أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول قبل أن يموت وهو مسد إلى صدرها وأصغت إليه وهو يقول: ”اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق“(4).
15 - عن عروة عن عائشة قالت: كنت أسمع أن لن يموت نبيّ حتى يخيّر بين الدنيا والآخرة، قالت: فسمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحّة يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقا. قالت: فظننته خيّر حينئذ(5).
__________
(1) رواه مسلم (بشرح النووي 15/205-207)، النسائي ج3 رقم 3683 .
(2) رواه مسلم (بشرح النووي 15/207-208).
(3) رواه مسلم (بشرح النووي 15/205).
(4) رواه مسلم (بشرح النووي 15/208).
(5) رواه مسلم (بشرح النووي 15/208-209).(13/5)
16 - قال ابن شهاب أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجاله من أهل العلم أن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو صحيح: ”إنه لم يقبض نبيّ قطّ حتى يرى مقعده في الجنة ثم يخيّر“. قالت عائشة: فلما نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورأسه على فخذي غشى عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف ثم قال: ”اللهم الرفيق الأعلى“. قالت عائشة: قلت: إذا لا يختارنا. قالت عائشة: وعرفت الحديث الذي كان يحدثنا به وهو صحيح في قوله ”إنه لم يقبض نبيّ قطّ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخيّر“. قالت عائشة: "فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله: ”اللهم الرفيق الأعلى“"(1).
17 - عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة على عائشة وحفصة، فخرجتا معه جميعاً، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث معها، فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك فتنظرين وأنظر، قالت: بلى، فركبت عائشة على بعير حفصة وركبت حفصة على بعير عائشة، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلّم ثم سار معها حتى نزلوا، فافتقدته عائشة، فغارت، فلما جعلت تجعل رجلها بين الأذخر وتقول: يا ربّ سلّط عليّ عقرباً أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً(2).
18 - عن عروة عن عائشة أنها قالت: جلس إحدى عشرة امرأة وتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً:
قالت الأولى: زوجي لحم جمل غثٌّ، على رأس جبل، لا سهلٌ فيُرتقى، ولا سمينٌ فينتقل.
قالت الثانية: زوجي لا أبُاُّ خبره، إنّي أخاف أن لا أذَرَهُ، إن أذكر فأذكر عُجره وبُجره.
__________
(1) رواه مسلم (بشرح النووي 15/209).
(2) رواه مسلم (بشرح النووي 15/209-210).(13/6)
قالت الثالثة: زوجي العشنّقُ، إن أنطِق أُطلّق، وإن أسكُت أُعلّق.
قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة لا حرٌّ ولا قرٌّ، ولا مخافة ولا سآمة.
قالت الخامسة: زوجي إن دخل فَهِدَ، وإن خرج أسَدَ، ولا يسأل عما عَهِدَ.
قالت السادسة: زوجي إن أكل لفَّ وإن شرب اشتفَّ، وإن اضطجع التفَّ، ولا يُولِج الكفّ ليعلم البثَّ.
قالت السابعة: زوجي غياياه – أو عياياءُ – طباقاء، كل داءٍ له داءٌ، شجَّك أو فلّك أو جمع كُلاً لك.
قالت الثامنة: زوجي الرّيح ريح زرنب، والمسّ مسّ أرنب.
قالت التاسعة: زوجي رفيعُ العِماد، طويل النِّجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من النّاد.
قالت العاشرة: زوجي مالك، وما مال مالك خيرٌ من ذلك، له إبل كثيراتُ المبارك، قليلاتُ المسارح، إذا سمعن سوتَ المزهر أيقنّ هوالك.
قالت الحادية عشر: زوجي أبو زرع، فما أبو زرع؟ أناس من حليٍّ أذني، وملأ من شحم عضُدي، وبجّحني فبجحت إلى نفسي، وجدني في أهل غُنيمة بشق فجعلني في أهل صهيلٍ وأطيطٍ ودائسٍ ونقٍّ، فعنده أقول فلا أقبَّح، وأرقُدُ فأتصبح، وأشربُ فأتقنّحُ. أم أبي زرع: عكومها رداح، وبيتها فساح، ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كَمَسلٍّ شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة، بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع: طوع أبيها، وملء كسائها وغيظ جارتها. جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع؟ لا تبثّ حديثنا تبثيثاً، ولا تنفِّثُ ميرتنا تنقيثا، ولا بيتنا تعشيشا. قالت: خرج أبو زرع وإلا وطابُ تُمخضُ، فلقي امرأة معها ولدان لها، كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلّقني ونكحها، فنكحت بعده رجلاً سرياً، ركب شرياً وأخذ خطّيّا، وأراح عليّ نعماً ثرياً، وأعطاني من كل رائحة زوجا، قال: كلي أم زرع وميري أهلك، فلو جمعت كل شيء أعطاني ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.(13/7)
قالت عائشة: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كنت لك كأبي زرع لأم زرع(1).
19 - عن عائشة: أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى الني صلّى الله عليه وسلّم فقال: ”هذه زوجتك في الدنيا والآخرة“(2).
20 - عن أبي موسى قال: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديث قط، فسألنا عائشة، إلا وجدنا عندها منه علماً(3).
21 - عن موسى بن طلحة قال: ما رأيت أحداً أفصح من عائشة(4).
22 - عن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استعمله على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟
قال: ”عائشة“.
قلت: من الرجال؟
قال: ”أبوها“(5).
23 - عن أنس قال: قيل يا رسول الله من أحبّ الناس إليك؟
قال: عائشة.
قيل: من الرجال؟
قال: أبوها(6).
24 - عن ابن مليكة: استأذن ابن عباس على عائشة، فلم يزل بها بنو أخيها، قالت: أخاف أن يزكيني، فلما أذنت له، قال: ما بينك وبين أن تلقي الأحبة، إلا أن يفارق الروح الجسد، كنت أحبّ أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، ولم يكن يحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا طيباً، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فنزلت فيك آيات من القرآن، فليس مسجد من مساجد المسلمين إلا يتلى فيه عذرك آناء الليل وآناء النهار.
__________
(1) أي في الإلفة والعطاء، لا في الفرقة والخلاء (مختصر صحيح مسلم للمنذري بتحقيق الألباني ص444 ت6).
وانظر شرح الإمام النووي رحمه الله تعالى لهذه الرواية (صحيح مسلم بشرح النووي 15/212، 221).
(2) رواه الترمذي (صحيح الترمذي للألباني 3/242).
(3) رواه الترمذي 3/243 .
(4) رواه الترمذي 3/243 .
(5) رواه الترمذي 3/243 .
(6) رواه الترمذي 3/243 .(13/8)
فقالت: دعني من تزكيتك يا ابن عباس، فوالله لوددت(1).
فضل عائشة
قال الرافضي: وأعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه، مع أنه عليه السلام كان يكثر من ذكر خديجة بنت خُوَيلد، وقالت له عائشة: إنك تكثر من ذكرها، وقد أبدلك الله خيراً منها. فقال: والله ما بُدِّلتُ بها ما هو خير منها، صدقتني إذ كذَبني الناس، وآوتني إذ طردتني الناس، وأسعدتني بمالها، ورزقني الله الولد منها، ولم أرزق من غيرها.
والجواب أولاً: أن يُقال: إن أهل السُّنة ليسوا مجمعين على أن عائشة أفضل نسائه، بل قد ذهب إلى ذلك كثير من أهل السنة، واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام“(2). والثريد هو أفضل الأطعمة لأنه خبز ولحم، كما قال الشاعر:
إذا ما الخبز تأدّمه بلحم
فذاك أمانة الله الثريد
__________
(1) رواه الإمام أحمد، المسند (ط. المعارف) ج3 رقم 1905، ج4 رقم 2496 وفي آخره: والذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسياً منسياً، وأيضاً ج5 رقم 3262 .
(2) الحديث عن أنس بن مالك وعائشة، وهو جزء من حديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم في: البخاري 5/29 (كتاب فضائل أصحاب النبي.. باب فضل عائشة..)، مسلم 4/1895 (كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة..)، سنن الترمذي 5/365 (كتاب المناقب، باب فضل عائشة..) وقال الترمذي: "وفي الباب عن عائشة وأبي موسى"، سنن النسائي 7/63، 64 (كتاب عشرة النساء، باب حب الرجل بعض نسائه أكثر من بعض) والحديث عن أبي موسى وعن عائشة، سنن ابن ماجه 2/1901-1902 (كتاب الأطعمة، باب فضل الثريد على الطعام)، سنن الدارمي 2/106 (كتاب الأطعمة، باب فضل الثريد)، المسند (ط، الحلبي) 3م156، 264، 4/394، 409، 6/159 .(13/9)
وذلك أن البرّ أفضل الأقوات، واللحم أفضل الآدم، كما في الحديث الذي رواه ابن قتية وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”سيّد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم“(1).
فإذا كان اللحم سيد الإدام، والبرّ سيد الأقوات، ومجموعهما الثريد، كان الثريد أفضل الطعام. وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال: ”فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام“.
وفي الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول اللهك أي الناس أحب إليك؟ قال: ”عائشة“. قلت: مِنَ الرجال؟ قال: ”أبوها“. قلت: ثم مَن؟ قال: ”عمر“ وسمَّى رجالاً(2).
__________
(1) هذا جزء من حديث عن بريدة رضي الله عنه ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" ونصه: "سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم، وسيد الشراب في الدنيا والآخرة الماء، وسيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية" قال السيوطي: "طس: الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في "الطب"، هب: البيهقي في شعب الإيمان عن بريدة".
وقال الألباني في تعليقه في "ضعيف الجامع الصغير" 3/230: "ضعيف جداً". ووجدت الحديث في سنن ابن ماجه 2/1099 (كتاب الأطعمة، باب اللحم) عن أبي الدرداء رضي الله عنه بلفظ: "سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم" وضعّف المُعَلِّق الحديث. كما ضَعَّفَ العجلوني الحديث في "كشف الخفاء" 1/461-462 وتكلم عليه كاملاً مفصلاً.
(2) الحديث عن عمرو بن العاص رضي الله عنه في البخاري 5/5 (كتاب فضائل أصحاب النبي...، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: لو كنت متخذاً خيلاً)، مسلم 4/1856 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر...)، سنن الترمذي 5/365 (كتاب المناقب، باب من فضل عائشة..)، المسند (ط. الحلبي) 4/203.(13/10)
وهؤلاء يقولون: قوله لخديجة: ”ما أبدلني الله بخير منها“ – إن صح – معناه: ما أبدلني بخير لي منها، لأن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعاً لم يقم غيرها فيه مقامها، فكانت خيراً له من هذا الوجه، فكونها نفعته وقت الحاجة، لكن عائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين، فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول زمن النبوة، فكانت أفضل بهذه الزيادة، فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها، وبلغت من العلم ما لم يبلغه غيرها(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن كل من يقرأ سيرة هذه السيدة رضوان الله عليها يدرك مبلغ العلم الذي بلغته، ولا عجب في ذلك فهي حبيبة رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه، وقد حرص المصطفى عليه الصلاة والسلام على تثقيفها وتعليمها وهي التي ترعرعت في مهبط الوحي ومنبع العلم.
و"كان الناس يرون علم عائشة قد بلغ ذروة الإحاطة والنضج في كل ما اتصل بالدين من قرآن وحديث وتفسير وفقه..
ومع حمل الأصحاب إلى الأمصار طائفة صالحة من الأحاديث والأحكام حتى كانوا ثمة مرجع طلاب العلم ورواة الحديث، بقيت المدينة – لأسباب أهمها وجود السيدة نفسها فيها – دار الحديث ومنبع العلم، فحين يشكل على أهل الأمصار أمر من الأمور، يكتبون إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحجاز يسألونهم عن حكم الله فيه، فكان هؤلاء إذا فاتهم شيء رجعوا إلى علماء بينهم اشتهروا بحمل العلم وفقهه كعبد الله بن عمر وأبي هريرة وابن عباس.... ومقام السيدة بينهم مقام الأستاذ من تلاميذه، فكان عمر بن الخطاب يحيل عليها كل ما تعلق بأحكام النساء أو بأحوال النبي البيتية، لا يضارعها في هذا الاختصاص أحد من النساء على الإطلاق. ويصل إلى مسمع السيدة عائشة عن أولئك الصحابة العلماء روايات وأحكام على غير وجهها، فتصحح لهم ما أخطأوا فيه أو تبين ما خفي عليهم، حتى اشتهر ذلك عنها، فصار مَن شك في رواية أتى عائشة سائلاً، وإن كان بعيداً كتب إليها يسألها. ومن هنا طار لها ذلك الصيت في التمكن من العلم، ورجع إلى قولها كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وابنه وأبي هريرة وابن عباس وابن الزبير. وقد نُقِلَ عنها وحدها ربع الشريعة على ما يقول الحاكم في مستدركه". (عائشة والسياسة – سعيد الأفغاني ص21-22).
وننقل للإخوة بعض شهادات الصحابة والتابعين التي توضح مدى سعة علم هذه السيدة رضوان الله تعالى عليها:
1 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ما أشكل علينا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً.
2 - الأعمش: عن أبي الضّحى، عن مسروق، قال: قلنا له: هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: والله، لقد رأيت أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم الأكابر يسألونها عن الفرائض.
3 - كان عُروة يقول لعائشة: يا أمَّتاه، لا أعجب من فقهك، أقول: زوجة نبي الله، وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس. ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو ومن أين هو، ......
4 - معاوية رضي الله عنه: والله ما سمعت قط أبلغ من عائشة، ليس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
5 - عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة.
6 - الزهري: لو جُمِعَ علم عائشة إلى علم النساء، لكان علم عائشة أفضل.
ومن أراد الاستزادة فلينظر: سير أعلام النبلاء 2/179-189 .(13/11)
، فخديجة كان خيرها مقصوراً على نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم، لم تُبَلِّغ عنه شيئاً، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة، ولا كان الدين قد كمل حتى تعلمه ويحصل لها من كمال الدين به ما حصل لمن علمه وآمن به بعد كماله، ومعلوم أن من اجتمع هَمُّه على شيء واحد كان أبلغ فيه ممن تفرَّق همُّه في أعمال متنوعة، فخديجة رضي الله تعالى عنها خير له من هذا الوجه، ولكن أنواع البر لم تنحصر في ذلك. ألا ترى أن من كان من الصحابة أعظم إيماناً وأكثر جهاداً بنفسه وماله، كحمزة وعلي وسعد بن معاذ وأسيد بن حُضير وغيرهم، هم أفضل ممن كان يخدم النبي صلّى الله عليه وسلّم وينفعه في نفسه أكثر منهم، كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما.
وفي الجملة.. الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه. لكن المقصود هنا أن أهل السُّنة مُجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها، وأن نساءه أمهات المؤمنين اللاتي مات عنهن كانت عائشة أحبهن إليه وأعلمهن وأعظمهن حُرمة عند المسلمين.(13/12)
وقد ثبت في الصحيح أن الناس كانوا ينحرون بهداياهم يوم عائشة(1)، لِمَا يعلمون من حبه إياها، حتى إن نساءه غِرْنَ من ذلك، وأرسلن إليه فاطمة رضي الله عنها فقلن له: نسألك العدل في ابنة أبي قحافة. فقال لفاطمة: "أي بُنية: ألا تحبين ما أحب"؟ قالت: بلى. قال: "فأحبي هذه".... الحديث وهو في الصحيحين(2).
__________
(1) الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها في: البخاري 5/30 (كتاب فضائل أصحاب النبي ...، باب فضل عائشة ...) وأوله: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة. قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فقلن: يا أم سلمة: والله إن الناس يتحرون بهداياهم... عن عائشة ... الحديث وهو في: مسلم 4/1891 (كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة ...)، سنن الترمذي 5/362-363 (باب كتاب المناقب، باب من فضل عائشة)، سنن النسائي 7/64 (كتاب عشرة النساء، باب حب الرجل بعض نسائه أكثر من بعض)، المسند (ط. الحلبي) 6/293 .
(2) الحديث في الصحيحين. وهو جزء من حديث عن عائشة رضي الله عنها في: البخاري 3/156-157 (كتاب الهبة، باب من أهدى إلى صاحبه وتحرّى بعض نسائه دون بعض)، مسلم 4/1891-1892 (كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة...)، سنن النسائي 7/62-63 (كتاب عشرة النساء، باب حب الرجل بعض نسائه أكثر من بعض)، المسند (ط. الحلبي) 6/88، 150-151 .(13/13)
وفي الصحيحين أيضاً أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "يا عائش هذا جبريل يقرأ عليك السلام". فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا نرى"(1). ولما أراد فراق سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها بإذنه صلّى الله عليه وسلّم(2)، ولما كان في مرضه الذي مات فيه يقول: "أين أنا اليوم"؟. استبطاءً ليوم عائشة، ثم استأذن نساءه أن يُمَرِّض في بيت عائشة رضي الله عنها، فَمرَّض فيه، وفي بيتها توفي بين سحرها ونحرها وفي حجرها(3)
__________
(1) الحديث عن عائشة رضي الله عنها بألفاظ مقاربة في: البخاري 5/29 (كتاب فضائل أصحاب النبي...، باب فضل عائشة...)، 8/44 (كتاب الأدب، باب من دعا صاحبه فنقص عن اسمه حرفاً)، مسلم 4/1895، 1896 (كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة)، سنن أبي داود 4/485 (كتاب الأدب، باب في الرجل يقول: فلان يقرئك السلام)، سنن الترمذي 4/159 (كتاب الاستئذان، باب في تبليغ السلام).
(2) الحديث عن عائشة رضي الله عنها في: سنن أبي داود 2/326 (كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء) وفيه: ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله: يومي لعائشة... الحديث. وهو في سنن ابن ماجه 1/634 (كتاب النكاح، باب المرأة تهب يومها لصاحبتها)، المسند (ط. الحلبي) 6/117 .
(3) حديث مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم عن عائشة وغيرها من الصحابة رضوان الله عليهم في مواضع عديدة في البخاري منها: 6/11 (كتاب المغازي، باب مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم ووفاته) وفيه: أن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم قالت: لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرّض في بيتي فأذنّ له.. الحديث، وهو في: البخاري 7/127 (كتاب الطب، باب حدثنا بشر بن محمد..)، مسلم 1/312-313 (كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر..)، المسند (ط. الحلبي) 6/34، 117، 228-229 .(13/14)
، وجمع الله بين ريقه وريقها(1).
__________
(1) الحديث عن عائشة رضي الله عنها في البخاري في أكثر من موضع، منها: 6/13 (كتاب المغازي، باب حدثني محمد بن عبيد..) وفيه أن عائشة كانت قول: إن من نِعَمِ الله عليّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته.... الحديث وهو في مسلم 4/1893 (كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة..) ونصه: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليتفقد ويقول: "أين أنا اليوم؟ أين أنا غداً"؟ استبطاءً ليوم عائشة. قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري. والحديث في المسند (ط. الحلبي) 6/48، 121-122، 200، 274 .(13/15)
وكانت رضي الله عنها مباركة على أمته، حتى قال أسيد بن حُضير لما أنزل الله آية التيمم بسببها: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلا جعل الله فيه للمسلمين بركة(1).
وكان قد نزلت آيات براءتها قبل ذلك لَمَّا رماها أهل الإفك، فبرأها الله من فوق سبع سماوات، وجعلها من الطيبات.
خروج عائشة بقصد الإصلاح بين المسلمين وليس القتال
__________
(1) الحديث عن عائشة رضي الله عنها في عدة مواضع في البخاري منها 1/70 (كتاب التيمم، باب قول الله تعالى: فَلَم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً..) وأوله: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء – أو بذات الجيش – انقطع عقد لي... وفيه: فجاء أبو بكر ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس وليسوا على ماء وليس معهم. فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فخذي، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر... الحديث، وهو في: مسلم 1/279 (كتاب الحيض، باب التيمم)، سنن النسائي 1/133 (كتاب الطهارة، باب بدء التيمم) الموطأ 1/53-54 (كتاب الطهارة، باب هذا باب في التيمم)، المسند (ط. الحلبي) 6/179.(13/16)
قال الرافضي: وأذاعت سر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك تقاتلين علياً وأنت ظالمة له، ثم إنها خالفت أمر الله في قوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [الأحزاب: 33] وخرجت في ملأ الناس لتقاتل علياً على غير ذنب، لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن هذا محض افتراء، وإنما الذين قاموا بقتله حثالة ورعاع الناس ومن في قلبه حقد تجاه الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه. وإننا لو حللنا شخصية الذين قاموا بذلك لتوصلنا إلى تلك النتيجة التي ذهب ضحيتها عثمان رضي الله عنه. من أولئك: محمد ابن أبي بكر، عمير بن ضابئ، عمرو بن الحمق، محمد بن أحذيفة ربيب عثمان بن عفن، مالك بن الحارث الأشتر وغيرهم، وسوف نحاول بإيجاز تحليل دوافع أولئك، ليمكننا بعد ذلك التوصل إلى تقرير أن قتل عثمان رضي الله عنه بأيدي أناس موتورين حاقدين أرادوا الانتقام لأنفسهم وليس لصالح الأمة كما يدّعون.
فأما محمد بن أبي بكر، فقد ذكر الطبري في تاريخه 4/399-400، وابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق" ترجمة "عثمان بن عفان" ص302، والمالقي الأندلسي في "التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان" ص94، سبب نقمة محمد بن أبي بكر. عن مبشّر قال: سألت سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر: ما دعاه إلى ركوب عثمان؟ فقال: الغضب والطمع، قلت: ما الغضب والطمع؟ قال: كان من الإسلام بالمكان الذي هو به، وغرّه أقوام فطمع. وكانت له دالة فلزمه حق، فأخذه عثمان من ظهره، ولم يدهن، فاجتمع هذا إلى هذا، فصار مذمما بعد أن محمداً.
وذكر ابن عساكر في ترجمة "عثمان بن عفان" ص302: عن عمرو بن محمد قال: بعثت ليلى بنت عميس ومحمد بن جعفر فقالت: إن المصباح يأكل نفسه ويضيء للناس فلا تأثما في أمر تسوقانه إلى من لا يأثم فيه، فغن هذا الأمر الذي تحاولون اليوم لغيركم غداً، فاتقوا أن يكون عملكم اليوم حسرة عليكم غداً، فلجّا وخرجا مغضبين يقولان: لا ننسى ما صنع بنا عثمان. وتقول: ما صنع بكما إلا ما ألزمكما الله ....
ويقول الدكتور محمد السيد الوكيل في كتابه القيِّم "جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين" ص406: ولعل محمداً كان يعتقد أن منزلة أبي بكر في المسلمين ستمنع الخلفاء المسلمين من إلزامه بالحقوق سواء ما كان الله – عز وجل – أم ما كان للمسلمين فاغتر بذلك وأعجب فلما بدا تقصيره لم يتركه الخليفة فعظم ذلك في نفسه، كان ذلك سبباً في الخروج على الخليفة – رضي الله عنه.
وأما عمير بن ضابئ فكان عمله انتقاماً لأبيه الذي مات في السجن من جرّاء فعلته، فقد ذكر الطبري في تاريخ 4/402: استعار ضابئ بن الحارث البرجمي في زمان الوليد بن عقبة من قوم من الأنصار كلباً يدعى قرحان، يصيد الظباء، فحبسه عنهم، فنافره الأنصاريون، واستغاثوا عليه بقومه فكاثروه، فانتزعوا منه وردوه على الأنصار، فهجاهم وقال في ذلك:
تحشّم دوني وفدُ قرحن خطةً
تضلُّ لها الوجناء وهي حسيرُ
فباتوا شباعاً ناعمين كأنما
جباهم ببيت المرزبان أميرُ
فكلبُكُم لا تتركوا فهو أمُّكُم
فإن عقوقَ الأمهاتِ كبيرُ
فاستعدوا عليه عثمان، فأرسل إليه، فعزّره وحبسه كما كان يصنع بالمسلمين، فاستثقل ذلك، فما زال في الحبس حتى مات فيه. وقال في الفتك يعتذر إلى أصحابه:
هممتُ ولم أفعل وكدت وليتني
فعلت وولّيت البُكاءَ حلائله
وقائلة قد مات في السجن ضابئ
ألا من لخصم لم يجد من يجادِلُه
وقائلة لا يبعد الله ضابئاً
فنعم الفتى تخلو به وتحاوله
ولم ينس عمير تعزير عثمان رضي الله عنه لأبيه، وظلت تلك الحادثة في أعماق عمير، ينتهز أدنى فرصة للانتقام، حتى تحينت له الفرصة ولكن بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه حينما وضع ليصلي عليه، فقام هذا الحاقد ونزا عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه، وقال: حبست ضابياً حتى مات. ولقي عمير حتفه على يدي الحجاج بن يوسف الثقفي.
وأيضاً عمرو بن الحمق فقد كان حاقداً على ذي النورين رضي الله عنه ويبدو ذلك واضحاً جلياً حينما طعن عثمان رضي الله عنه تسع طعنات بقوله: "فأما ثلاث منهن فإني طعنتهن إياه لله، وأما ست فإني طعنتهن إياه لما كان في صدري عليه". (انظر الطبري 4/394 وابن الأثير 3/179) ويعلق فضيلة الدكتور محمد السيد الوكيل على كلام هذا الحاقد فيقول في كتابه القيِّم "جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين" ص407-408: وإنك لتدرك من الوهلة الأولى عندما ترى عمراً يطعن الخليفة ثلاث طعنات لله – إن كان صادقاً – ثم يشفي صدره بست طعنات أي بضعف ما جعله لله عز وجل – مدى ما كان في قلب ابن الحمق على الخليفة من الغل والبغضاء. أنا لا أشك في أن عمرو أعلن أن الطعنات الثلاث لله ليستر بها شيئاً من الجرم الذي أقدم عليه في حق الخليفة بغير ما مبرر، ولو كانت غضبته لله بحق لجعل التسع كلهن لله – تعالى – أما أن يجعل لله نصف ما يجعله لنفسه فذلك دليل واضح على أنه يجعل لله ما يكره أن يكون لنفسه، وليس هذا إلا ثلمة في إيمانه تجعل المحقق يشك في إخلاصه إذا لم يتأكد من عدمه.
وأما محمد بن أبي حذيفة فقد كان ربيباً لعثمان رضي الله عنه فكان سببه أنه طلب من ذي النورين أن يوليه عملاً من أعمال الدولة الإسلامية، فرفض ذو النورين رضي الله عنه ذلك لمعرفته بعدم أهلية محمد بذلك، خاصة وأنه قد أقام عليه حد شارب الخمر (انظر تحليل شخصيته "جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين" للدكتور الوكيل ص408-409 فإنه أجاد وأفاد جزاه الله خيراً) وانظر تحليل شخصية مالك بن الأشتر ص410-411 من الكتاب السابق للدكتور الوكيل.(13/17)
، وكانت هي في كل وقت تأمر بقتله، وتقول: اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً، ولما بلغها قتله فرحت بذلك، ثم سألت: من تولى الخلافة؟ فقالوا: عليّ. فخرجت لقتاله على دم عثمان، فأي ذنب كان لعليّ على ذلك؟ وكيف استجاز طلحة والزبير غيرهما مطاوعتها على ذلك؟ وبأي وجه يلقون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها أو سافر بها كان أشد الناس عداوة له، وكيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين، ساعدوها على حرب أمير المؤمنين، ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما طلبت حقها من أبي بكر، ولا شخص واحد كلّمه بكلمة واحدة.
والجواب أن يُقال: أما أهل السُّنَّة فإنهم في هذا الباب غيره قائمون بالقسط شهداء لله، وقولهم حق وعدل لا يتناقض، وأما الرافضة وغيرهم من أهل البدع ففي أقوالهم من الباطل والتناقض ما ننبّه إن شاء الله تعالى على بعضه، وذلك أن أهل السنة عندهم أن أهل بدر كلهم في الجنة، وكذلك أمهات المؤمنين: عائشة وغيرها.. وأبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير هم سادات أهل الجنة بعد الأنبياء، وأهل السُّنة يقولون: إن أهل الجنة ليس من شرطهم سلامتهم عن الخطأ، بل ولا عن الذنب، بل يجوز أن يُذنب الرجل منهم ذنباً صغيراً أو كبيراً ويتوب منه. وهذا مُتّفق عليه بين المسلمين، ولو لم يتب منه فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم، بل وعند الأكثرين منهم أن الكبائر قد تُمحى بالحسنات التي هي أعظم منها، وبالمصائب المُكفِّرة وغير ذلك.(13/18)
وإذا كان هذا أصلهم فيقولون: ما يُذكر عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب، وكثير منه كانوا مجتهدين فيه، ولكن لم يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم، وما قُدِّر أنه كان فيه ذنب من الذنوب لهم فهو مغفور لهم: إما بتوبة، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفّرة، وإما بغير ذلك، فإنه قد قام الدليل الذي يجب القول بموجبه: أنهم من أهل الجنة، فامتنع أن يفعلوا ما يُوجب النار لا محالة، وإذا لم يمت أحد منهم على موجب النار لم يقدح ما سوى ذلك في استحقاقهم للجنة. ونحن قد علمنا أنهم من أهل الجنة، ولو لم يُعلم أن أولئك المعينين في الجنة لم يجز لنا أن نقدح في استحقاقهم للجنة بأمور لا نعلم أنها تُوجب النار، فإن هذا لا يجوز في آحاد المؤمنين الذين لم يُعلم أنهم يدخلون الجنة، ليس لنا أن نشهد لأحد منهم بالنار لأمور محتملة لا تدل على ذلك، فكيف يجوز مثل ذلك في خيار المؤمنين، والعلم بتفصيل أحوال كل واحد منهم باطناً وظاهراً، وحسناته وسيئاته واجتهاداته، أمر يتعذر علينا معرفته؟ فكان كلامنا في ذلك كلاماً فيما لا نعلمه، والكلام بلا علم حرام، فلهذا كان الإمساك عمّا شجر بين الصحابة خيراً من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال، إذ كان كثير من الخوض في ذلك – أو أكثره – كلاماً بلا علم، وهذا حرام لو لم يكن فيه هوى ومعارضة الحق المعلوم، فكيف إذا كان كلاماً بهوى يُطلب فيه دفع الحق المعلوم؟ وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة: رجلٌ عَلِمَ الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار“(1)
__________
(1) الحديث – مع اختلاف في اللفظ – عن بريدة رضي الله عنه في: سنن أبي داود 3/406-407 (كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ) وقال أبو داود: "وهذا أصح شيء فيه، يعني حديث ابن بريدة (عن أبيه): القضاة ثلاثة". والحديث أيضاً في: سنن ابن ماجه 2/776 (كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق) وصحَّ الألباني الحديث في "صحيح الجامع الصغير" 4/151، وذكر حديثاً آخر بنفس المعنى قال السيوطي: إنه في الطبراني عن ابن عمر وصحَّحه الألباني.(13/19)
. فإذا كان هذا في قضاء بين اثنين في قليل المال أو كثيره، فكيف بالقضاء بين الصحابة في أمور كثيرة؟
فمن تكلم في هذا الباب بجهل أو بخلاف ما يعلم من الحق كان مستوجباً للوعيد، ولو تكلم بحق لقصد اتباع الهوى لا لوجه الله تعالى، أو يُعارض به حقاً آخر، لكان أيضاً مستوجباً للذم والعقاب... ومن عَلِمَ ما دلَّ عليه القرآن والسُّنة من الثناء على القوم، ورضا الله عنهم، واستحقاقهم الجنة، وأنهم خير هذه الأمة التي هي أخرجت للناس – لم يعارض هذا المتيقن المعلوم بأمور مشتبهة: منها ما لا يُعلم صحته، ومنها ما يتبين كذبه، ومنها ما لا يُعلم كيف وقع، ومنها ما يُعلم عذر القوم فيها، ومنها ما يُعلم توبتهم منه، ومنها ما يُعلم أن لهم من الحسنات ما يغمره، فمن سلك سبل أهل السُّنة استقام قوله، وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال، وإلا حصل في جهل وكذب وتناقض كحال هؤلاء الضلال.
وأما قوله: "وأذاعت سرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم" فلا ريب أن الله تعالى يقول: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3].
وقد ثبت في الصحيح عن عمر أنهما عائشة وحفصة(1).
فيُقال أولاً: هؤلاء يعمدون إلى نصوص القرآن التي فيها ذكر ذنوب ومعاص بيِّنة لمن نصت عنه من المتقدمين يتأولون النصوص بأنواع التأويلات، وأهل السُّنة يقولون: بل أصحاب الذنوب تابوا منها ورفع الله درجاتهم بالتوبة.
__________
(1) الحديث عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم وهو حديث طويل في: البخاري 6/156-158 (كتاب التفسير: سورة التحريم)، مسلم 2/110-113 (كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء..) المسند (ط. المعارف) 1/252-254، 301 .(13/20)
وهذه الآية ليست بأولى في دلالتها على الذنوب من تلك الآيات، فإن كان تأويل تلك سائغاً كان تأويل هذه كذلك، وإن كان تأويل هذه باطلاً فتأويل تلك أبطل.
ويقال ثانياً: بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة، فيكونان قد تابتا منه، وهذا ظاهر لقوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، فدعاهما الله تعالى إلى التوبة، فلا يُظن بهما أنهما لم تتوبا، مع ما ثبت من علو درجتهما، وأنهما زوجتا نبيّنا في الجنة، وأن الله خيَّرهُنَّ بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك حرّم الله عليه أن يتبدّل بهن غيرهن، وحرم عليه أن يتزوج عليهن، واختُلف في إباحة ذلك له بعد ذلك، ومات عنهن وهنّ أمهات المؤمنين بنص القرآن. ثم قد تقدّم أن الذنب يُغفر ويُعفى عنه بالتوبة وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة.(13/21)
ويقال ثالثاً: المذكور عن أزواجه كالمذكور عمن شهد له بالجنة من أهل بيته وغيرهم من الصحابة، فإن علياً لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة، وقام النبي صلّى الله عليه وسلّم خطيباً فقال: ”إن بني المغيرة استأذنوني أن يُنكِّحوا علياً ابنتهم، وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يُطَلِّق ابنتي ويتزوج ابنتهم، إنما فاطمة بِضْعَةٌ منّي يُريبني ما رابها ويُؤذيني ما آذاها“(1) فلا يُظنّ بعليٍّ رضي الله عنه أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط، بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه.
وكذلك لما صالح النبي صلّى الله عليه وسلّم المشركين يوم الحديبية، وقال لأصحبه: ”انحروا واحلقوا رؤوسكم“ فلم يقم أحد، فدخل مُغضَباً على أم سلمة، فقالت: من أغضبكَ أغضبه الله؟ فقال: ”ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يُطاع“ فقالت: يا رسول الله، ادع بِهَدْيِكَ فانحره، وأمر الحلاّق فليحلق رأسك.
__________
(1) الحديث عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه في البخاري 3/190 (كتاب الشروط، باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح)، 5/22-23 (كتاب فضائل أصحاب النبي...، باب ذكر أصهار النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم أبو العاص بن الربيع)، 7/37 (كتاب النكاح، باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف)، مسلم 4/1902-1904 (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة)، سنن أبي داود 2/304-305 (كتاب النكاح، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء)، سنن الترمذي 5/359، 360 (كتاب المناقب، باب ما جاء ف فضل فاطمة رضي الله عنها)، سنن ابن ماجه 1/643-644 (كتاب النكاح، باب الغيرة) المسند (ط. الحلبي) 4/5، 328 .(13/22)
وأمر عليّاً أن يمحو اسمه. فقال: والله لا اتمحوك فأخذ الكتاب من يده ومحاه"(1).
فمعلوم أن تأخر عليّ وغيره من الصحابة عمّا أمروا به حتى غضب النبي صلّى الله عليه وسلّم: إذا قال القائل: هذا ذنب، كان جوابه كجواب القائل: إن عائشة أذنبت في ذلك، فمن الناس من يتأول ويقول: إنما تأخروا متأوّلين، لكونهم كانوا يرجون تغيير الحال بأن يدخلوا مكة. وآخر يقول: لو كان لهم تأويل مقبول لم يغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل تابوا من ذلك التأخير، رجعوا عنه، مع أن حسناتهم تمحو مثل هذا الذنب، وعليّ داخل في هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين.
وأما الحديث الذي رواه وهو قوله لها: "تقاتلين علياً وأنت ظالمة له" فهذا لا يُعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة، ولا له إسناد معروف، وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة، بل هو كذب قطعاً، فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين(2)
__________
(1) هذا جزء من حديث الحديبية وهو حديث طويل عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه وهذا الجزء من الحديث في: البخاري 3/196 (كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد)، المسند (ط. الحلبي) 4/331. وجاء الجزء الخاص بأمر عليّ بمحو الاسم في حديث آخر عن البراء بن عازب رضي الله عنه في: البخاري 3/184 (كتاب الشروط، باب كيف يُكتب: هذا ما صالح فلان..)، مسلم 3/1409-1411 (كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية).
(2) قال أبو عبد الرحمن ذكر الطبري في تاريخ ج4/488-489، وابن الأثير في الكامل ج3/232-233، وابن كثير في البداية والنهاية ج7/238: لما نزل عليّ بذي قار دعا القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة وقال له: ألق هذين الرجلين يا ابن الحنظلية، فادعها ما إلى الألفة والجماعة، وعظم عليهما الفرقة.
ثم قال له: كيف أنت صانع فيما جاءك منهما ما ليس عندك فيه وصاة مني؟
قال القعقاع: نلقاهم بالذي أمرت به، فإذا جاء منهما أمر ليس عندنا منك فيه رأي اجتهدنا الرأي، وكلمناهم على قدر ما نسمع ونرى أنه ينبغي.
قال علي: أنت لها.
وخرج القعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة رضي الله عنها فسلَّم عليها. وقال: يا أمه، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلاد؟
قالت: أي بُني، إصلاح بين الناس.
قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما.
فبعث إليهما فجاءا. فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين: ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟
قالا: متابعان.
قال القعقاع: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عرفنا لنصلحن، ولئن أنكرنا لا نصلح.
قالا: قتلة عثمان – رضي الله عنه – فإن هذا إن ترك كان تركاً للقرآن، وإن عمل به كان إحياءً للقرآن.
قال: قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة، وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة إلا رجلاً، فغضب له ستة آلاف، واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم ذلك الذي أفلت – يعني حرقوص بن زهير – فمنعه ستة آلاف وهم على رجل، فإن تركتموه كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا عليكم فالذي حذرتم وقربتم به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهون، وأنتم أحميتم مضر وربيعة من هذه البلاد، فاجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحديث العظيم والذنب الكبير.
عندئذ قالت أم المؤمنين: فما تقول أنت؟
قال القعقاع: أقول: هذا الأمر دواؤه التسكين، وإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير، وتباشير رحمة ودرك بثأر هذا الرجل، وعافية وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا الثأر، وبعثة الله في هذه الأمة هزّاً هزها، فآثروا العافية تُرزقوها، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم تكونون، ولا تُعرِّضونا للبلاء ولا تعرضوا له فيصرعنا وإياكم.
وأيم الله، إني لأقول هذا وأدعوكم إليه وإني لخائف ألا يتم حتى يأخذ الله – عز وجل – حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي حدث أمر ليس بقدر، وليس كالأمور، ولا كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة الرجل.
قالوا: قد أصبتَ وأحسنتَ فارجع، فإن قدم عليّ وهو على مثل رأيك صلح الأمر.(13/23)
، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبيّن لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تَبلّ خِمارها.
وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعليّ رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم، فإنه لما تراسل عليّ وطلحة والزبير، وقصدوا الاتفاق على المصلحة، وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة، وكان عليّ غي راضٍ بقتل عثمان ولا معيناً عليه، كما كان يحلف فيقول: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله، وهو الصادق البار في يمينه، فخشي القتلة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير، فظن طلحة والزبير أن علياً حمل عليهم، فحملوا دفعاً عن أنفسهم، فظن عليّ أنهم حملوا عليه، فحمل دفعاً عن نفسه، فوقعت الفتنة بغير اختيارهم، وعائشة رضي الله عنها راكبة: لا قاتلت، ولا أمرت بالقتال. هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن ساء قتلة عثمان رضي الله عنه أن يجتمع المسلمون على كلمة واحدة، ويصلحوا ذات بينهم، وذلك لأن هدفهم تمزيق وحدة المسلمين، لذا فقد اجتمع نفر منهم: علباء بن الهيثم، وعدي بن حاتم، وسالم بن ثعلبة العبسي، وشريح بن أوفى بن ضبيعة، والأشتر، في عدة ممن سار إلى عثمان، ورضي بسير من سار، وجاء معهم المصريون: ابن السوداء وخالد بن ملجم، وتشاوروا فقالوا: ما الرأي؟ وهذا والله عليّ، وهو أبصر الناس بكتاب الله وأقرب ممن يطلب قتلة عثمان وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلا هم والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شام القوم وشاموه (أي حققوا حملات الحرب)، وإذا رأوا قلتنا في كثرتهم؟ أنتم والله ترادون، وما أنتم بأنجى من شيء. فقال الأشتر: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما عليّ فلم نعرف أمره حتى كان اليوم ورأى الناس فينا والله واحد، وإن يصطلحوا وعلي، فعلى دمائنا، فهلموا فلنتواثب على عليّ فلنلحقنه بعثمان، فتعود فتنة يُرضي منا فيها بالسكون.
فقال عبد الله بن السوداء: بئس الرأي رأيت، أنتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة، وهذا ابن الحنظلية وأصحابه في خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلاً، فأرقأ على ظلعك (أي أصلح أمرك أولاً).
وقال علباء بن الهيثم: انصرفوا بنا عنهم ودعوهم، فإن قلّوا كان أقوى لعدوهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم، دعوهم وارجعوا فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تتقوون به، وامتنعوا من الناس.
فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت، ودّ والله الناس أنكم على جديلة (أي على رأي واحد)، ولم تكونوا مع أقوام براء، ولو كان ذلك الذي تقول لتخطفكم كل شيء.
فقال عدي بن حاتم: والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبتُ من تردد من تردد عن قتله في خوض الحديث، فأما إذ وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة، فإن لنا عتاداً من خيول وسلاح محموداً، فإن أقدمتم أقدمنا وإن أمسكتم أحجمنا.
فقال ابن السوداء: أحسنت.
وقال سالم بن ثعلبة: من كان أراد بما أتى الدنيا فإني لم أرد ذلك، والله لئن لقيتهم غداً لا أرجع إلى بيتي، ولئن طالب بقائي إذا أنا لاقيتهم لا يزد على جزر جزور، وأحلف بالله إنكم لتفرقون السيوف فرق قوم لا تصير أمورهم إلا إلى السيف.
فقال ابن السوداء: قد قال قولاً.
وقال شريح بن أوفى: أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا، ولا تؤخروا أمراً ينبغي لكم تعجيله، ولا تعجلوا أمراً ينبغي لكم تأخيره، فإنا عند الناس بشرّ المنازل، فلا أدري ما الناس صانعون غداً إذا ما هم التقوا.
وتكلم ابن السوداء فقال: يا قوم إن عزكم في خلطة الناس، فصانعوهم، وإذا التقى الناس غداً فأنشبوا القتال، ولا تفرّغوهم للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجدُ بُدّاً من أن يمتنع، ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون. فأبصروا الرأي، وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون. (انظر تاريخ الطبري 4/493-494).(13/24)
.
وأما قوله: "وخالفت أمر الله في قوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } [الأحزاب: 33] فهي رضي الله عنها لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى. والأمر بالاستقراء في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة، أو خرجت مع زوجها في سفرة، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد سافر بهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضي الله عنها وغيرها، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه، وأعمرها من التنعيم. وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية، ولهذا كان أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم يحججن كما كن يحججن معه في خلافة عمر رضي الله عنه وغيره، وكان عمر يوكّل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف، وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزاً فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في ذلك.
وهذا كما أ، قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [النساء: 29]، وقوله: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [النساء: 29] يتضمن نهي المؤمنين عن قتل بعضهم بعضاً، كما في قوله: { وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ } [الحجرات: 11]، وقوله: { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا } [النور: 12].(13/25)
وكذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا“(1)، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار“ قيل: يا رسول الله: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ”كان حريصاً على قتل صاحبه“(2).
فلو قال قائل: إن علياً ومن قاتله قد التقيا بسيفيهما، وقد استحلُّوا دماء المسلمين، فيجب أن يلحقهم الوعيد.
__________
(1) هذه العبارات جزء من خطبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في مِنَى في حجة الوداع، وجاءت في حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما في: البخاري 2/176-177 (كتاب الحج، باب الخطب في منى) وأول الحديث فيه... أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس يوم النحر فقال: "يا أيها الناس، أي يوم هذا؟... الحديث، وهو بمعناه عن أبي بكرة رضي الله عنه في: مسلم 3/1305-1307 (كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال) وهو أيضاً بمعناه عن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه في: سنن الترمذي 3/312-313 (كتاب الفتن، باب ما جاء في تحريم الدماء والأموال)، سنن ابن ماجه 2/1015 (كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر)، المسند (ط. المعارف) 3/1327 (عن ابن عباس). وهو في مواضع أخرى في البخاري وسنن الدارمي وفي المسند.
(2) الحديث – بألفاظ مقاربة – عن أبي بكرة رضي الله عنه في أكثر من موضع في البخاري منها: (1/11) (كتاب الإيمان، باب: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [الحجرات: 9] مسلم 4/2214-2215 (كتاب الفتن، باب: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما)، سنن أبي داود 4/144-145 (كتاب الفتن، باب في النهي عن القتال في الفتنة)، المسند (ط. الحلبي) 4/401، 403، 410، 418 (عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه).(13/26)
لكان جوابه: إن الوعيد لا يتناول المجتهد المتأول وإن كان مخطئاً، فإن الله تعالى يقول في دعاء المؤمنين: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286] قال: "فقد فعلت". فقد عُفِيَ للمؤمنين عن النسيان والخطأ، والمجهد المخطئ مغفور له خطؤه، وإذا غُفِرَ خطأ هؤلاء في قتال المؤمنين، فالمغفرة لعائشة لكونها لم تقرَّ في بيتها(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: لأم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها منزلة خاصة عند الرافضة تلي منزلة الفاروق رضوان الله تعالى عليه في العداوة والبغضاء، ومن أقذر وأشنع ما وقفت عليه من شتمٍ وسبٍّ وطعنٍ في أم المؤمنين رضي الله عنها، قول الرافضي جابر الكاظمي في تخميس "الأزرية" لناظمها الرافضي محمد كاظم الأزري حيث يقول:
كم برجسٍ إبليسها قد تلبس
فغوى والغوي لا يتحرَّس
ولكم محتدٍ لقومٍ تدنَّس
يوم جاءت تقودُ بالجمل العسـ
ـكر لا تتقي ركوب خطاها
سبحت في الضلال والغي سبحا
حيث باعت بالخسر في الدين ربحا
ومضت تخبطُ السباسب كدحا
فألحّت كلابُ حوأب نبحا
فاستدلَّت به على حوباها
كم غواةٍ حفّت ببنتِ غويّ
جهدت في قتال خير وصيّ
وتخطَّت من الرشاد لغى
يا ترى أيَّ أمة لنبي
جاز في شرعه قتال نساها
أترى درت بما فيه جاءت
أم بأي الضلال والإثم باءت
فاسألوها إذ بالغواية فاءت
أيّ أم للمؤمنين أساءت
ببنيها ففرقتهم سواها
فرقتهم بالبغي عن كل ناد
جمعتهم للغيّ بعد رشاد
جعلت شمل جمعهم لبداد
شتّتهم في كل شِعب وواد
بئس أم عتت على أبناها
وبذاك النبي يدرى ويعلم
وبه أعلى الكتاب وأعلم
فهي مع حفظها الكتاب المعظم
نسبت آية التبرج أم لم
تدر أنَّ الرحمن عنه نهاها
من مجير الهدى وهل من مغيث
من أتان ضلَّت بسير حثيث
وعجيب من بنت رجس خبيث
حفظت أربعين ألف حديث
ومن الذكر آية تنساها
نكست ضلّة وخزيا رؤوسا
لم تنكّس في عثير الحرب شوسا
إن نسينا الدهر ما ليس يؤسى
ذكّرتنا بفعلها زوج موسى
إذ سعت بعد فقده مسعاها
عاجلت تلك بالذي آجلته
هذه بالوصي إذ قابلته
وبما تلك عاملت عاملته
قاتلت يوشعاً كما قاتلته
لم تخالف حمراؤها صفراها
فاغتدت بعد حلمها تتسفَّه
وبغر الأوثان لم تتأله
واستدامت بغيِّها تتولّه
واستمرَّت تجر أردية اللهـ
ـو الذي عن إلهها ألهاها
ذاتُ غيٍّ بها الغوايةُ تُخزى
وشقاء بها الشَّقاوةُ تُرزى
وإليها نفس الضلالة تُعزى
فبإحراقِ مالكٍ سوف تُجزى
من لظى مالكٍ أشرّ جزاها
إنَّ لعن الغُواةِ في كلِّ يوم
كصلاةٍ وجوبُه أو كصوم
عامَ فكري في مقتهم أيّ عوم
لا تَلُمني يا سعدُ في مقتِ قوم
ما وفت حقّ أحمد إذ وفاها
وأبيات كثيرة يتناول هذا الرافض صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعرضت عنها خوف الإطالة، والأبيات المذكورة يتغنى بها الرافضة، وإن شاء الله تعالى – إن كان في العمر بقية – وسوف أتعرض لهذه القصيدة في كتابي "عقيدة الشيعة في الصحابة" ضمن "دراسات في الفكر الشيعي". انظر هذه الأبيات ص99-101 من الطبعة الحديثة لـ"الأزرية في مدح النبي والوصيّ والآل" لناظمها محمد كاظم الأزري وتخميسها جابر الكاظمي (دار الأضواء – بيروت 1989).(13/27)
.
وأيضاً فلو قال قائل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”إن المدينة تنفي خبثها وينصع طيبها“(1). وقال: ”لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها إلاّ أبدلها الله خيراً منه“ أخرجه في الموطأ(2). كما في الصحيحين عن زيد بن ثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”إنها طيبة (يعني المدينة) وإنها تنفي الرجال كما تنفي النار خبث الحديد“، وفي لفظ: ”تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة“(3)، وقال: إن علياً خرج عنها ولم يقم بها كما أقام
__________
(1) هذا جزء من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه – مع اختلاف في اللفظ – في: البخاري 3/22 (كتاب فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث) ولفظ الحديث: "المدينة كالكير تنفي خبثها". وهو في البخاري 6/79 (كتاب الأحكام، باب من بايع ثم استقال)، 6/80 (كتاب الأحكام، باب من نكث بيعة)، 9/103 (كتاب الاعتصام، باب ما ذكر النبي...)، مسلم 2/1006 (كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها)، سنن الترمذي 5/378 (كتاب المناقب، باب ما جاء في فضل المدينة)، سنن النسائي 7/135 (كتاب البيعة، باب استقالة البيعة)، الموطأ 2/886 (كتاب الجامع، باب ما جاء في سكنى المدينة..).
(2) الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه في: الموطأ 2/887 (كتاب الجامع، باب الدعاء للمدينة وأهلها). وفي التعليق: "قال أبو عمر: وصله معن بن عيسى وحده عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة".
(3) الحديث بالرواية الأولى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه في: البخاري 3/22، 23 (كتاب فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث) ولفظه: "إنها تنفي الرجال كما تنفي النار خبث الحديد" وأما الرواية الثانية فهي عن زيد أيضاً في: البخاري 6/47 (كتاب التفسير، سورة النساء، باب: { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ } [النساء: 88]، ولفظ: "إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة" والحديث بهذا اللفظ تقريباً في: مسلم 2/1006-1007 (كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها).(13/28)
الخلفاء قبله، ولهذا لم تجتمع عليه الكلمة.
لكان الجواب: إن المجتهد إذا كان دون عليّ لم يتناوله الوعيد، فعليّ أولى أن لا يتناوله الوعيد لاجتهاده، وبهذا يُجاب عن خروج عائشة رضي الله عنها. وإذا كان المجتهد مخطئاً فالخطأ مغفور بالكتاب والسنة.
وأما قوله: "إنها خرجت في ملأٍ من الناس تقاتل علياً على غير ذنب".
فهذا أولاً: كذب عليها. فإنها لم تخرج لقصد القتال، ولا كان أيضاً طلحة والزبير قصدهما قتال عليّ، ولو قُدِّرَ أنهم قصدوا القتال، فهذا القتال المذكور في قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9-10] فجعلهم إخوة مع الاقتتال، وإذا كان هذا ثابتاً لمن هو دون أولئك المؤمنين فهم به أولى وأحرى.
وأما قوله: "إن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان".
فجابه من وجوه: أحدها: أن يُقال أولاً: هذا من أظهر الكذب وأبينه، فإن جماهير المسلمين لم يأمروا بقتله، ولا شاركوا في قتله، ولا رضوا بقتله.
أما أولاً: فلأن أكثر المسلمين لم يكونوا بالمدينة، بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة وخراسان، وأهل المدينة بعض المسلمين.(13/29)
وأما ثانياً: فلأن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان لا قتل ولا أمر بقتله، وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن، وكان عليّ رضي الله عنه يحلف دائماً: "إني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله". ويقول: "اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل". وغاية ما يقال: إنهم لم ينصروه حقّ النُّصرة، وأنه حصل نوع من الفتور والخذلان، حتى تمكن أولئك المفسدون. ولهم في ذلك تأويلات، وما كانوا يظنون أن الأمر يبلغ إلى ما بلغ، ولو علموا ذلك لسدُّوا الذريعة وحسموا مادة الفتنة.
ولهذا قال تعالى: { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [الأنفال: 25]، فإن الظالم يظلم فيبتلى الناس بفتنة تصيب من لم يظلم، فيعجز عن ردها حينئذ، بخلاف ما لو منع الظلم ابتداء، فإنه كان يزول سبب الفتنة.
الثاني: أن هؤلاء الرافضة في غاية التناقض والكذب، فإنه من المعلوم أن الناس أجمعوا على بيعة عثمان ما لم يجمعوا على قتله، فإنهم كلهم بايعوه في جميع الأرض. فإن جاز الاحتجاج بالإجماع الظاهر، فيجب أن تكون بيعة حقاً لحصول الإجماع عليها، وإن لم يجز الاحتجاج به، بطلت حجتهم بالإجماع على قتله. لا سيما ومن المعلوم أنه لم يباشر قتله إلا طائفة قليلة. ثم إنهم ينكرون الإجماع على بيعته، ويقولون: إنما بايع أهل الحق منهم خوفاً وكرهاً. ومعلوم أنهم لو اتفقوا كلهم على قتله، وقال قائل: كان أهل الحق كارهين لقتله لكن سكتوا خوفاً وتقيَّة على أنفسهم، لكان هذا أقرب إلى الحق، لأن العادة جرت بأن من يُريد قتل الأئمة يُخيف من ينازعه، بخلاف من يُريد مبايعة الأئمة، فإنه لا يُخيف المخالف، كما يُخيف من يُريد قتله، فإن المريدين للقتل أسرع إلى الشر وسفك الدماء وإخافة الناس من المريدين للمبايعة.(13/30)
فهذا لو قدَّر أن جيع الناس ظهر منهم الأمر بقتله، فكيف وجمهورهم أنكروا قتله، ودافع عنه من دافع في بيته، كالحسن بن عليّ وعبد الله بن الزبير وغيرهما؟
وأيضاً فإجماع الناس على بيعة أبي بكر أعظم من إجماعهم على بيعة عليّ وعلى قتل عثمان وعلى غير ذلك، فإنه لم يتخلف عنها إلا نفر يسير كسعد بن عبادة، وسعد قد عُلِمَ سبب تخلفه، والله يغفر له ويرضى عنه. وكان رجلاً صالحاً من السابقين الأولين من الأنصار من أهل الجنة، كما قالت عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك لما أخذ يدافع عن عبد الله بن أُبَيّ رأس المنافقين، قالت: "وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحميَّة".
وقد قلنا غير مرة: إن الرجل الصالح المشهود له بالجنة قد يكون له سيئات يتوب منها، أو تمحوها حسناته، أو تُكَفَّر عنه بالمصائب، أو بغير ذلك، فإن المؤمن إذا أذنب كان لدفع عقوبة النار عنه عشرة أسباب: ثلاثة منه، وثلاثة من الناس، وأربعة يبتديها الله: التوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية، ودعاء المؤمنين له، وإهداؤهم العمل الصالح له، وشفاعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم، والمصائب المُكَفِّرة في الدنيا، وفي البرزخ، وفي عرصات القيامة، ومغفرة الله له بفضل رحمته.(13/31)
والمقصود هنا أن هذا الإجماع ظاهر معلوم، فكيف يدَّعى الإجماع على مثل قتل عثمان من ينكر مثل هذا الإجماع؟ بل من المعلوم أن الذين تخلَّفوا عن القتال مع عليّ من المسلمين أضعاف الذين أجمعوا على قتل عثمان، فإن الناس كانوا في زمن عليّ ثلاثة أصناف: صنف قاتلوا معه، وصنف قاتلوه، وصنف لا قاتلوه ولا قاتلوا معه. وأكثر السابقين الأوَّلين كانوا من هذا الصنف، ولو لم يكن تخلَّف عنه إلا من قاتل مع معاوية رضي الله عنه، فإن معاوية ومَن معه لم يبايعوه، وهم أضعاف الذين قتلوا عثمان أضعافاً مضاعفة، والذين أنكروا قتل عثمان أضعاف الذين قاتلوا مع عليّ، فإن كان قول القائل: إن الناس أجمعوا على قتال عليّ باطلاً، فقوله: إنهم أجمعوا على قتل عثمان أبطل وأبطل.
وإن جاز أن يُقال: إنهم أجمعوا على قتل عثمان، لكون ذلك وقع في العالم ولم يُدفع. فقول القائل: إنهم أجمعوا على قتال عليّ أيضاً والتخلف عن بيعته أجوز وأجوز، فإن هذا وقع في العالم ولم يُدفع أيضاً.
وإن قيل: إن الذين كانوا مع عليّ لم يمكنهم إلزام الناس بالبيعة له، وجمعهم عليه، ولا دفعهم عن قتاله، فعجزوا عن ذلك.
قيل: والذين كانوا مع عثمان ما حُصِر لم يمكنهم أيضاً دفع القتال عنه.
وإن قيل: بل أصحاب عليّ فرَّطوا وتخاذلوا، حتى عجزوا عن دفع القتال أو قهر الذين قاتلوه، أو جمع الناس عليه.
قيل: والذين كانوا مع عثمان فرَّطوا وتخاذلوا حتى تمكَّن منه أولئك. ثم دعوى المدّعي الإجماع على قتل عثمان مع ظهور الإنكار من جماهير الأمة له وقيامهم في الانتصار له والانتقام ممن قتله، أظهر كذباً من دعوى المدَّعي إجماع الأمة على قتل الحسين رضي الله عنه.(13/32)
فلو قال قائل: إن الحسين قُتِل بإجماع الناس، لأن الذين قاتلوه وقتلوه لم يدفعهم أحد عن ذلك، لم يكن كذبه بأظهر من كذب المدِّعي للإجماع على قتل عثمان، فإن الحسين رضي الله عنه لم يعظم إنكار الأمة لقتله، كما عَظُم إنكارهم لقتل عثمان، ولا انتصر له جيوش كالجيوش الذين انتصرت لعثمان، ولا انتقم أعوانه من أعدائه كما انتقم أعوان عثمان من أعدائه، ولا حصل بقتله من الفتنة والشر والفساد ما حصل بقتل عثمان، ولا كان قتله أعظم إنكاراً عند الله ورسوله وعند المؤمنين من قتل عثمان، فإن عثمان من أعيان السابقين الأولين من المهاجرين من طبقة عليّ وطلحة والزبير، وهو خليفة المسلمين أجمعوا على بيعته، بل لم يُشهر في الأمة سيفاً ولا قَتَل على ولايته أحداً، وكان يغزو بالمسلمين الكفَّار بالسيف، وكان السيف في خلافته كما كان في خلافة أبي بكر وعمر مسلولاً على الكفار، مكفوفاً عن أهل القبلة، ثم إنه طُلِبَ قتله وهو خليفة فصبر ولم يُقاتل دفاعاً عن نفسه حتى قُتِل، ولا ريب أن هذا أعظم أجراً، وقتله أعظم إثماً، ممن كان متولياً فخرج يطلب الولاية، ولم يتمكن من ذلك حتى قاتله أعوان الذين طلب أخذ الأمر منهم، فقاتل عن نفسه حتى قُتِل.(13/33)
ولا ريب أن قتال الدافع عن نفسه وولايته أقرب من قتال الطالب لأن يأخذ الأمر من غيره، وعثمان ترك القتال دفعاً عن ولايته، فكان حاله أفضل من حال الحسين، وقتله أشنع من قتل الحسين. كما أن الحسن رضي الله عنه لما لم يُقاتِل على الأمر، بل أصلح بين الأمة بتركه القتال، مدحه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ”إن ابني هذا سيد وسيُصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين“(1).
والمنتصرون لعثمان معاوية وأهل الشام، والمنتصرون من قتلة الحسين المختار بن أبي عبيد الله الثقفي(2)
__________
(1) الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه في: البخاري 3/186 كتاب الصلح، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للحسن بن علي رضي الله عنهما: إن ابني هذا سيد.."، 4/204-205 (كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام)، 5/26 (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما)، (9/56-57) (كتاب الفتن، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للحسن بن عليّ إن ابني هذا لسيد...). ولفظ البخاري: ".. ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين". وفي لفظ: "بين فئتين من المسلمين". والحديث أيضاً في: سنن أبي داود 4/299-300 (كتاب السُّنة، باب: ما يدل على ترك الكلام في الفتنة)، سنن الترمذي 5/323 (كتاب المناقب، باب: حدثنا محمد بن بشار..)، سنن النسائي 3/87-88 (كتاب الجمعة، باب مخاطبة الإمام رعيته وهو على المنبر).
(2) قال أبو عبد الرحمن المختار الثقفي من أشهر الكذَّابين على آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي ذلك يذكر لنا الكشي في رجاله الروايات التالية: عن أبي عبد الله (ع) قال: كان المختار يكذب على عليّ بن الحسين (ع).
وعن أبي جعفر (ع) قال: كتب المختار بن أبي عبيدة إلى علي بن الحسين (ع) وبعث إليه بهدايا من العراق، فلما وقفوا على باب عليّ بن الحسين دخل الآذن يستأذن لهم، فخرج إليهم رسوله فقال: أميطوا عن بابي فإني لا أقبل هدايا الكذَّابين ولا أقرأ كتبهم. (انظر رجال الكشي ص115 و116).
وتزعم الرافضة أن المختار يدخل النار بسبب حبه لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولكن يخرج بعد حين بشفاعة الحسين بن عليّ رضي الله عنهما، فدخوله في النار ليس بسبب ادعائه الرسالة والنبوة والقول على الله تعالى بغير علم ووصفه بالبداء، ولكن بسبب حبه للشيخين رضي الله عنهما، وهل هذا سبب لدخوله النار؟ وأدع القارئ الكريم يقرأ تلك المرويات وبعد ذلك يحكم بنفسه على هذا الهذيان الصادر عن أحفاد ابن سبأ:
الراوية الأولى: عن أبي عبد الله (ع) : إذا كان يوم القيامة مَرَّ رسول الله بشفير النار، وأمير المؤمنين والحسن والحسين، فيصيح صائح من النار: يا رسول الله، أغثني – ثلاثاً، قال: فلا يجيبه، قال: فينادي: يا أمير المؤمنين – ثلاثاً – أغثني فلا يجيبه، قال: فينادي يا حسين يا حسين يا حسين أغثني أنا قاتل أعدائك، قال: فيقول له رسول الله: قد احتج عليك، قال: فينتفض عليه كأنه عقاب كاسر، قال: فيخرجه من النار. قال: (الراوي وهو سماعة) فقلت لأبي عبد الله (ع) : ومَن هذا جعلت فداك؟ قال: المختار. قلت له: ولم عُذِّب بالنار وقد فعل ما فعل؟ قال: إنه كان في قلبه منهما شيء والذي بعث محمداً بالحق لو أن جبرئيل وميكائيل كان في قلبيهما شيء لأكبهما الله في النار على وجوههما، (بحار الأنوار للمجلسي ج45 ص339 ط. بيروت 1983).
والرواية الثانية: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لي: يجوز النبي الصراط يتلوه عليّ، ويتلو علياً الحسن ويتلو الحسن الحسين فإذا توسطوه نادى المختار الحسين: يا أبا عبد الله، إني طلبت بثأرك، فيقول النبي للحسين عليه السلام: أحبه فينتفض الحسين في النار كأنه عقاب كاسر، فيخرج المختار حممه. ولو شق عن قلبه لوجد حبهما في قلبه.
وعلق المجلسي على هذه الرواية (بحار الأنوار ج45 ص345-346) فقال: بيان: انقضَّ الطائر: هوى في طيرانه، وكسر الطائر أي ضم جناحيه حين ينقض، والحمم – بضم الحاء وفتح الميم – الرماد والفحم وكل ما احترق من النار، قوله عليه السلام: "حبهما" أي حب الشيخين الملعونين (قال أبو عبد الرحمن: بل لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على كل من يلعن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما)، وقيل: حب الحسنين صلوات الله عليهما، فيكون تعليلاً لإخراجه كما أنه على الأول تعليل لدخوله واحتراقه، وقيل: المراد حب الرئاسة والمال، والأول هو الصواب.
وانظر ترجمة المختار وقبح أقواله وأفعاله، سير أعلام النبلاء ج3 ص538-544، تاريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير في حوادث سنة ست وستين وسبع وستين هجرية.(13/34)
وأعوانه، ولا يشك عاقل أن معاوية رضي الله عنه خير من المختار، فإن المختار كذَّاب ادعى النبوة، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”يكون في ثقيف كذَّاب ومُبير“(1). فالكذَّاب هو المختار، والمُبير هو الحجاج بن يوسف. وهذا المختار كان أبوه رجلاً صالحاً، وهو أبو عُبيد الثقفي الذي قُتِلَ شهيداً في حرب المجوس، وأخته صفية بنت أب عبيد امرأة عبد الله بن عمر امرأة صالحة، وكان المختار رجل سوء.
__________
(1) أورد مسلم في صحيحه 4/1971-1972 في (كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر كذاب ثقيف ومبيرها) حديثاً طويلاً جاء فيه أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت للحجاج: "أما إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدثنا أن في ثقيف كذَّاباً ومبيراً، فأما الكذَّاب فرأيناه وأما المبير فلا أخالك إلا إياه، قال: فقام عنها ولم يراجعها" وفي المسند (ط. المعارف) 7/18 (حديث رقم 4790) عن ابن عمر: "قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن في ثقيف مبيراً وكذَّاباً". وقال النووي في شرحه على مسلم 16/100: "أما أخالك – بفتح الهمزة وكسرها – وهو أشهر، ومعناه: أظنك. والمبير المهلك. وقولها في الكذَّاب فرأيناه: تعني به المختار بن أبي عبيد الثقفي، كان شديد الكذب، ومن أقبحه: ادَّعى أن جبريل صلّى الله عليه وسلّم يأتيه". وجاء الحديث مختصراً عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: "في (أو) أن في ثقيف كذاب ومبير" في موضعين في: سنن الترمذي 3/338-339 (كتاب الفتن، باب: ما جاء في ثقيف كذاب ومبير)، 5/386 (كتاب المناقب، باب: في ثقيف وبني حنيفة).(13/35)
وأما قوله: "إن عائشة كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان، وتقول في كل وقت: اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً، ولما بلغها قتله فرحت بذلك"(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن: ما أجرأ الرافضة وأشياعهم على تزوير الحقائق، فأما المؤمنين رضوان الله عليها لما بلغها استشهاد عثمان رضي الله عنه لعنت قتلته، ولم تفرح كما يقول هذا الرافضي، وأتحف القارئ الكريم بنماذج من أقوالها لما بلغها نبأ استشهاده رضي الله عنه:
عن ابن سيرين: قال: قالت عائشة: مُصتموه موصَ الإناء ثم قتلتموه.
وعن عون بن عبد الله بن عتبة قال: قالت عائشة: غضبت لكم من السوط ولا أغضب لعثمان من السيف؟ استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالقُلب المصفَّى قتلتموه.
وعن أبي خالد الوالبي قال: استتابوه حتى تركوه كالثواب الرّحيض ثم قتلوه.
وعن مسروق قال: قالت عائشة حين قُتل عثمان: تركتموه كالثوب النقّي من الدّنس ثم قتلتموه، فقلت: هذا عملك، كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج إليه. قالت: لا، والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.
قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كُتب عنها وهي لا تعلم.
طلق بن خشاف قال: قُتل عثمان فتفرقنا في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نسألهم عن قتله، فسمعت عائشة تقول: قُتل مظلوماً، لعن الله قتلته.
أم كلثوم بنت ثمامة: أنها أرادت الحج، فقال أخوها: أقرئي أم المؤمنين عائشة السلام وسليها عن عثمان حين قُتل. قالت: من سب عثمان فعليه لعنة الله.
ولها أقوال كثيرة في قتلة عثمان رضي الله عنه اكتفينا بنقل بعضها من "عثمانبن عفان لابن عسكر" تحقيق سكينة الشهابي ص495-497.
ولزيادة الفائدة نشرح بعض الغريب الذي ورد في أقوالها رضي الله عنها (نقلاً عن قول المحققة سكينة شهابي في تعليقها على الكتاب المذكور).
في غريب أبي عبيد 1/261، والنهاية 4/372، واللسان: "موص" (الموص: الغسل، يقال: مصته أموصه موصاً) – أرادت أنهم استتابوه عما نقموا منه. فلما أعطاهم ما طلبوا وخرج نقياً مما كان فيه قتلوه.
الرّحض: الغسل، وثوب رحيض مرحوض: مغسول.
القُلب: السوار من الفضة.(13/36)
.
فيقال له أولاً: أين النقل الثابت عن عائشة بذلك؟
ويقال ثانياً: المنقول الثابت عنها يُكذِّب ذلك، ويُبيّن أنها أنكرت قتله، وذمَّت من قتله، ودعت على أخيها ممد وغيره لمشاركتها في ذلك.
ويقال ثالثاً: هب أن أحداً من الصحابة – عائشة أو غيرها – قال في ذلك على وجه الغضب، لإنكاره بعض ما يُنكر، فليس قوله حجة، ولا يقدح ذلك في إيمان القائل ولا المقول له، بل قد يكون كلاهما ولياً لله تعالى من أهل الجنة، ويظن أحدهما جواز قتل الآخر، بل يظن كفره، وهو مخطئ في هذا الظن.(13/37)
كما ثبت في الصحيحين عن عليّ وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وكان من أهل بدر والحديبية. وقد ثبت في الصحيح أن غلامه قال: يا رسول الله، والله ليدخلن حاطب النار. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: "كذبتَ، إنه قد شهد بدراً والحديبية"(1). وفي حديث عليّ أن حاطباً كتب إلى المشركين يُخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أراد غزوة الفتح فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال لعليّ والزبير: "اذهبا حتى تأتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب". فلما أتيا بالكتاب، قال: "ما هذا يا حاطب"؟ فقال: والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتداداً ولا رضاً بالكفر، ولكن كنت امرءاً مُلصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسهم، كان مَن معك من المهاجرين لهم بمكة قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي. فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: ”إنه شهد بدراً، وما يُدريك أن الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم“. وأنزل الله تعالى أول سورة الممتحنة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ }(2) [الممتحنة: 1]، وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها، وهي متواترة عندهم، ومعروفة عند علماء التفسير، وعلماء
__________
(1) الحديث – مع اختلاف يسير في الألفاظ – عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في: مسلم 4/1942 (كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب بن أبي بلتعة)، المسند (ط. الحلبي) 6/362 .
(2) الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في: البخاري 4/59 (كتاب الجهاد والسير، باب: الجاسوس)، مسلم 4/1941-1942 (كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب بن أبي بلتعة)، سنن الترمذي 5/82-84 (كتاب التفسير، سورة الممتحنة).(13/38)
الحديث، وعلماء المغازي والسير والتواريخ، وعلماء الفقه، وغير هؤلاء. وكان عليّ رضي الله عنه يُحدِّث بهذا الحديث في خلافته بعد الفتنة، وروى ذلك عنه كاتبه عبد الله بن أبي رافع ليبين لهم أن السابقين مغفور لهم، ولو جرى منهم ما جرى.
فإن عثمان وعلياً وطلحة والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب بن أبي بلتعة، وكان حاطب مسيئاً إلى مماليكه، وكان ذنبه في مكاتبة المشركين، وإعانتهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أعظم من الذنوب التي تُضاف إلى هؤلاء، ومع هذا فالنبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن قتله، وكذَّب من قال: إنه يدخل النار، لأنه شهد بدراً والحديبية، وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر. ومع هذا فقد قال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فسماه منافقاً، واستحل قتله، ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما، ولا في كونه من أهل الجنة.(13/39)
وكذلك في الصحيحين وغيرهما في حديث الإفك لما قام النبي صلّى الله عليه وسلّم خطيباً على المنبر يعتذر من رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيّ فقال: "من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً. فقام سعد بن معاذ سيد الأوس، وهو الذي اهتز لموته عرش الرحمن، وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، بل حكم في حلفائه من بني قريظة بأن يُقتل مُقاتلهم وتُسبى ذراريهم وتُغنم أموالهم، حتى قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة“(1). فقال: يا رسول الله، نحن نعذرك منه. إن كان من إخواننا من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة فقال: كذبتَ لعمر الله، لا تتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير، فقال: كذبت لعمر الله لنقتلنه،
__________
(1) جاء الحديث بهذا اللفظ في سيرة ابن هشام 3/251. ولكنه جاء – مع اختلاف في اللفظ – عن أبي سعيد الخدري في: البخاري 4/67 (كتاب الجهاد والسير، باب: إذا نزل العدو على حكم رجل)، 5/35-36 (كتاب مناقب الأنصار، باب: مناقب سعد بن معاذ)، 5/112 (كتاب المغازي، باب: مرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأحزاب..)، مسلم 3/1388-1389 (كتاب الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد..) المسند (ط. الحلبي) 3/22. ولفظ الحديث في هذه المواضع: "حكمت فيهم بحكم الله، أو: بحكم الملك" وأخرج الإمام أحمد في مسنده (ط. الحلبي) 6/141-142 حديثاً مقارباً متصلاً عن عائشة رضي الله عنها، وانظر ما ذكره الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 1/91-94 (حديث رقم 67). وقال ابن حجر في "فتح الباري" 7/412.. وفي رواية ابن إسحاق من مرسل علقمة بن وقاص: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. وأرقعة – بالقاف – جع رقيع، وهو من أسماء السماء. قيل: سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم.(13/40)
فإنك منافق تجادل عن المنافقين. وكادت تثور فتنة بين الأوس والخزرج، حتى نزل النبي صلّى الله عليه وسلّم وخفضهم.
وهؤلاء الثلاثة من خيار السابقين الأولين، وقد قال أسيد بن حضير لسعد بن عبادة: "إنك منافق تجادل عن المنافقين" وهذا مؤمن وليّ لله من أهل الجنة، وذاك مؤمن وليّ لله من أهل الجنة، فدلَّ على أن الرجل قد يُكَفِّر آخر بالتأويل، ولا يكون واحد منهما كافراً.
وكذلك في الصحيحين حديث عتبان بن مالك لما أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم منزله في نفر من أصحابه، فقام يُصلِّي وأصحابه يتحدثون بينهم، ثم أسندوا عظم ذلك إلى مالك بن الدَّخشم(1)، وودوا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا عليه فيهلك، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاته وقال: ”أليس يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله“؟ قالوا: بلى وإنه يقول ذلك، وما في قلبه. فقال: ”لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله فيدخل النار أو تُطعَمه“(2)
__________
(1) في الإصابة 3/323: "مالك بن الدخشم – بضم المهملة والمعجمة، بينهما خاء معجمة – ويقال بالنون بدل الميم، ويقال كذلك بالتصغير، مختلف في نسبته وشهد بدراً عند الجميع، وهو الذي أسر سهل بن عمرو يومئذ".
(2) الحديث عن عتبان بن مالك رضي الله عنه في: مسلم 1/61-62 (كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً)، المسند (ط. الحلبي) 4/449. وانظر "صحيح الجامع الصغير" 6/237. قال: النووي في شرحه على مسلم 1/243-244: "وقد نص النبي صلّى الله عليه وسلّم على إيمانه باطناً وبراءته من النفاق بقوله صلّى الله عليه وسلّم في رواية البخاري رحمه الله: "ألا تراه قالا لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله تعالى" فهذه شهادة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له بأنه قالها مصدقاً بها، معتقداً صدقها متقرباً بها إلى الله تعالى، وشهد له في شهادته لأهل بدر بما هو معروف، فلا ينبغي أن يُشك في صدق إيمانه رضي الله عنه، وفي هذه الزيادة رد على غلاة المرجئة القائلين بأنه يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد فإنهم بمثل هذا الحديث، وهذه الزيادة تدمغهم".(13/41)
.
وإذا كان ذلك فإذا ثبت أن شخصاً من الصحابة – إما عائشة، وإما عمار بن ياسر، وإما غيرهما – كَفَّرَ آخر من الصحابة: عثمان أو غيره، أو أباح قتله على وجه التأويل – كان هذا من باب التأويل المذكور، ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما، ولا في كونه من أهل الجنة، فإن عثمان وغيره أفضل من حاطب بن أبي بلتعة، وعمر أفضل من عمَّار وعائشة وغيرهما، وذنب حاطب أعظم، فإذا غُفِرَ لحاطب ذنبه، فالمغفرة لعثمان أولى. وإذا جاز أن يجتهد مثل عمر وأسيد بن حضير في التكفير أو استحلال القتل، ولا يكون ذلك مطابقاً، فصدور مثل ذلك من عائشة وعمَّار أولى.
ويقال رابعاً: إن هذا المنقول عن عائشة من القدح في عثمان: إن كان صحيحاً فإما أن يكون صواباً أو خطأ، فإن كان صواباً لم يذكر في مساوئ عائشة، وإن كان خطأ لم يُذكر في مساوئ عثمان، والجمع بين نقص عائشة وعثمان باطل قطعاً. وأيضاً فعائشة ظهر منها من التألم لقتل عثمان، والذم لقتلته، وطلب الانتقام منهم ما يقتضي الندم على ما ينافي ذلك، كما ظهر منها الندم على مسيرها إلى الجمل، فإن كان ندمها على ذلك يدل على فضيلة عليّ واعترافها له بالحق، فكذلك هذا يدل على فضيلة عثمان واعترافها له بالحق، وإلا فلا.
وأيضاً فما ظهر من عائشة وجمهور الصحابة وجمهور المسلمين من الملام لعليّ أعظم مما ظهر منهم من الملام لعثمان، فإن كان هذا حجة في لوم عثمان فهو حجة في لوم عليّ، وإن لم يكن حجة في لوم عليّ، فليس حجة في لوم عثمان، وإن كان المقصود بذلك القدح في عائشة لما لامت عثمان وعليّاً، فعائشة في ذلك مع جمهور الصحابة، لكن تختلف درجات الملام.
وإن كان المقصود القدح في الجميع: في عثمان، وعليّ، وطلحة، والزبير، وعائشة، واللائم والملوم.(13/42)
قيل: نحن لسنا ندَّعي لواحد من هؤلاء العصمة من كل ذنب، بل ندَّعي أنهم من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، وأنهم سادات أهل الجنة، ونقول: إن الذنوب جائزة على من هو أفضل منهم من الصِّدِّيقين، ومن هو أكبر من الصّدّيقين، ولكن الذنوب يُرفع عقابها بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفِّرة، وغير ذلك، وهؤلاء لهم من التوبة والاستغفار والحسنات ما ليس لمن هو دونهم، وابتلُوا بمصائب يُكفِّر الله بها خطاياهم، لم يُبتل بها من دونهم، فلهم من السعي المشكور والعمل المبرور ما ليس لمن بعدهم، وهم بمغفرة الذنوب أحق من غيرهم ممن بعدهم.
والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع، فإن الرافضة تعمد إلى أقوام متقاربين في الفضيلة، تريد أن تجعل أحدهم معصوماً من الذنوب والخطايا، والآخر مأثوماً فاسقاً أو كافراً، فيظهر جهلهم وتناقضهم، كاليهودي والنصراني إذا أراد أن يُثبت نبوة موسى أو عيسى، مع قدحه في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه، فإنه ما من طريق يُثبت بها نبوة موسى وعيسى إلا وتثبت نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بمثلها أو بما هو أقوى منها، وما من شبهة تعرض في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا وتعرض في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام بما هو مثلها أو أقوى منها، وكل من عمد إلى التفريق بين المتماثلين، أو مدح الشيء وذم ما هو من جنسه، أو أولى بالمدح منه أو بالعكس، أصابه مثل هذا التناقض والعجز والجهل. وهكذا أتباع العلماء والمشايخ إذا أراد أحدهم أن يمدح متبوعه ويذم نظيره، أو يُفَضِّل أحدهم على الآخر بمثل هذا الطريق.
وأما قوله: "إنها سألت: من تولى الخلافة؟ فقالوا: عليّ. فخرجت لقتاله على دم عثمان، فأي ذنب كان لعليّ في ذلك؟(13/43)
فيقال له أولاً: قول القائل: إن عائشة وطلحة والزبير اتهما عليّاً بأنه قتل عثمان وقاتَلوه على ذلك – كذب بيِّن، بل إنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيّزوا إلى عليّ، وهم يعلمون أن براءة عليّ من دم عثمان كبراءتهم وأعظم، لكن القتلة كانوا قد أووا إليه، فطلبوا قتل القتلة، ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعليّ، لأن القوم كانت لهم قبائل يذبُّون عنهم.
والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها. وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [الأنفال: 25]، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله.
وأيضاً فقوله: "أي ذنب كان لعليّ في قتله"؟
تناقض منه، فإنه يزعم أن علياً كان ممن يستحل قتله وقتاله، وممن ألَّب عليه وقام في ذلك، فإن عليّاً رضي الله عنه نسبه إلى قتل عثمان كثير من شيعته ومن شيعة عثمان، هؤلاء لبغضهم لعثمان وهؤلاء لبغضهم لعليّ، وأما جماهير المسلمين فيعلمون كذب الطائفتين على عليّ.
والرافضة تقول: إن عليّاً كان ممن يستحل قتل عثمان، بل وقتل أبي بكر وعمر، وترى أن الإعانة على قتله من الطاعات والقُربات. فكيف يقول مَن هذا اعتقاده: أي ذنب كان لعليّ على ذلك؟ وإنما يليق هذا التنزيه لعليّ بأقوال أهل السُّنة، لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضاً.
وأما قوله: "وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك؟ وبأي وجه يلقون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة له".
فيقال: هذا من تناقض الرافضة وجهلهم، فإنهم يرمون عائشة بالعظائم، ثم منهم من يرميها بالفاحشة التي برأها الله منها، وأنزل القرآن في ذلك.(13/44)
ثم إنهم لفرط جهلهم يدَّعون ذلك في غيرها من نساء الأنبياء، فيزعمون أن امرأة نوح كانت بغيّاً، وأن الابن الذي دعاه نوح لم يكن منه وإنما كان منها، وأن معي قوله: { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [هود: 46] أن هذا الولد من عمل غير صالح، ومنهم من يقرأ: { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } [هود: 42] يريدون: ابنها، ويحتجون بقوله: { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [هود: 46]، ويتأولون قوله تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } [التحريم: 10] على أن امرأة نوح خانته في فراشه، وأنها كانت قحبة.
وضاهوا في ذلك المنافقين والفاسقين أهل الإفك الذين رموا عائشة بالإفك والفاحشة ولم يتوبوا، وفيهم خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ”أيها الناس، مَن يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمتُ على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً، والله ما علمت عليه إلا خيراً".
ومن المعلوم أنه من أعظم أنواع الأذى للإنسان أن يكذب على امرأته رجل ويقول إنها بغي ويجعل الزوج زوج قحبة، فإن هذا من أعظم ما يشتم به الناس بعضهم بعضاً، حتى إنهم يقولون في المبالغة: شتمه – بالزاي والقاف – مبالغة في شتمه.
وهؤلاء الرافضة يرمون أزواج الأنبياء: عائشة وامرأة نوح بالفاحشة، فيؤذون نبينا صلّى الله عليه وسلّم غيره من الأنبياء من الأذى بما هو من جنس أذى المنافقين المكذِّبين للرسل، ثم ينكرون على طلحة والزبير أخذهما لعائشة معهما لما سافرا معها من مكة إلى البصرة، ولم يكن في ذلك ريبة فاحشة بوجه من الوجوه. فهل هؤلاء إلا من أعظم الناس جهلاً وتناقضاً؟(13/45)
وأما أهل السنة فعندهم أنه ما بغت امرأة نبي قط، وأن ابن نوح كان ابنه، كما قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } [هود: 42]، وكما قال نوح: { يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا } [هود: 42]، وقال: { إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي } [هود: 45]، فالله ورسوله يقولان: إنه ابنه، وهؤلاء الكذَّابون المفترون المؤذون للأنبياء يقولون: إنه ليس ابنه. والله تعالى لم يقل: إنه ليس ابنك، ولكن قال: { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [هود: 46].
وهو سبحانه وتعالى قال: { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } [هود: 40] ثم قال: { وَمَنْ آمَنَ } [هود: 40] أي: واحمل من آمن، فلم يأمره بحمل أهله كلهم، بل استثنى من سبق عليه القول، ولم يكن نوح يعلم ذلك. فلذلك قال: {رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي} ظاناً أنه دخل في جملة من وُعِدَ بنجاتهم. ولهذا قال من قال من العلماء: إنه ليس من أهلك الذي وُعِدْتَ بإنجائهم، وهو إن كان من الأهل نسباً فليس هو منهم ديناً، والكفر قطع الموالاة بين المؤمنين والكافرين، كما نقول: إن أبا لهب ليس من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا من أهل بيته، وإن كان من أقاربه، فلا يدخل في قولنا: اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد".
وخيانة امرأة نوح لزوجها كانت في الدين، فإنها كانت تقول: إنه مجنون. وخيانة امرأة لوط أيضاً كانت في الدين، فإنها كانت تدل قومها على الأضياف، وقومها كانوا يأتون الذكران، لم تكن معصيتهم الزنا بالنساء حتى يُظن أنها أتت الفاحشة، بل كانت تعينهم على المعصية وترضى عملهم.(13/46)
ثم من جهل الرافضة أنهم يُعَظِّمون أنساب الأنبياء: آباءهم وأبنائهم، ويقدحون في أزواجهم، كل ذلك عصبية واتّباع هوىً حتى يُعَظِّمون فاطمة والحسن والحسين، ويقدحون في عائشة أم المؤمنين، فيقولون – أو من يقول منهم -: إن آزر أبا إبراهيم كان مؤمناً، وإن أبوي النبي صلّى الله عليه وسلّم كانا مؤمنين، حتى لا يقولون: إن النبي يكون أبوه كافراً، فإذا كان أبو كافراً أمكن أن يكون ابنه كافراً، فلا يكون في مجرد النسب فضيلة.
وهذا مما يدفعون به أن ابن نوح كان كافراً لكونه ابن نبي، فلا يجعلونه كافراً مع كونه ابنه، ويقولون أيضاً: إن أبا طالب كان مؤمناً. ومنهم من يقول: كان اسمه عمران، وهو المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33].
وهذا الذي فعلوه مع ما فيه من الافتراء والبهتان ففيه من التناقض وعدم حصول مقصودهم ما لا يخفى. وذلك كون الرجل أبيه أو ابنه كافراً لا يُقصه ذلك عند الله شيئاً، فإن الله يُخرِجُ الحيَّ من الميتِ ويُخرِجُ الميتَ من الحيّ.
ومن المعلوم أن الصحابة أفضل من آبائهم، وكان آباؤهم كفّاراً، بخلاف من كونه زوج بغي قحبة، فإن هذا من أعظم ما يُذم به ويُعاب، لأن مضرّة ذلك تدخل عليه، بخلاف كفر أبيه أو ابنه.
وأيضاً فلو كان المؤمن لا يلد إلا مؤمناً، لكان بنو آدم كلهم مؤمنين. وقد قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]... إلى آخر القصة.(13/47)
وفي الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه أول من سنَّ القتل“(1).
__________
(1) الحديث عن عائشة وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما في: البخاري 2/79 (كتاب الجنائز، باب قول النبي: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه)، 4/132 (كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } – البقرة: 30)، مسلم 3/1303-1304 (كتاب القسامة، باب: بيان إثم من سن القتل)، سنن الترمذي 4/148 (كتاب العلم، باب: ما جاء أن الدال على الخير كفاعله). والحديث أيضاً في سنن النسائي وابن ماجه والمسند.(13/48)
وأيضاً فهم يقدحون في العباس عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي تواتر إيمانه، ويمدحون أبا طالب الذي مات كافراً باتفاق أهل العلم، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. ففي الصحيحين عن المسيِّب بن حَزَن قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله“. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرضها عليه ويعود له، وفي رواية: ويعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”لأستغفرن لك ما لم أنه عنك“ فأنزل الله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة: 113]، وأنزل في أبي طالب، فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ }(1)
__________
(1) الحديث عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حزن رضي الله عنه في: البخاري 2/95 (كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله)، 5/52 (كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب)، 6/96 (كتاب التفسير، سورة براءة، قوله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 113]، 6/122-123 (كتاب التفسير، سورة القصص، باب { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } – القصص: 56)، 8/138-139 (كتاب الإيمان والنذور، باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم....)، مسلم 1/54-55 (كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت..) وذكر مسلم الحديث بمعناه من طريقين عن أبي هريرة رضي الله عنه، المسند (ط. الحلبي) 5/433.(13/49)
[القصص: 56]، وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أيضاً، وقال فيه: قال أبو طالب: لولا أن تُعَيِّرني قريش يقولون: إنما حمله على ذل الجزع لأقررتُ بها عينك. فأنزل الله تعالى: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }(1).
وفي الصحيحين عن العباس بن عبد المطلب، قال: قلت: يا رسول الله، هل نفعتَ أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك وينصرك ويغضب لك؟ فقال: ”نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدَّركِ الأسفل من النار“(2).
وفي حديث أبي سعيد لما ذُكِرَ عنده، قال: "لعله تنفعه شفاعتي، فيُجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منهما دماغه" أخرجاه في الصحيحين(3).
__________
(1) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: مسلم 1/55 (كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت)، سنن الترمذي 5/21-22 (كتاب التفسير، باب تفسير سورة القصص)، المسند (ط. الحلبي) 2/441.
(2) الحديث عن العباس بن عبد المطلب في: البخاري 5/51 (كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب)، مسلم 1/195 (كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي طالب)، المسند (ط. المعارف) 3/9، 50 .
(3) الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في: البخاري 5/51 (كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب)، مسلم 1/195 (كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي طالب)، المسند (ط. الحلبي) 3/9، 50 .(13/50)
وأيضاً فإن الله لم يُثن على أحد بمجرد نسبه، بل إنما يُثني عليه بإيمانه وتقواه، كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]، وإن: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح(1). فالمعدن هو مظنة حصول المطلوب، فإن لم يحصل وإلا كان المعدن الناقص الذي يحصل منه المطلوب خيراً منه.
__________
(1) جاء جزء من هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في: البخاري 4/140، 148 (كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [النساء: 125]، باب: { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } [البقرة: 133]، 4/178 (كتاب: باب قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى } [الحجرات: 13] ونصه: خيارهم (وفي لفظ: خياركم) في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" وجاء في الحديث كاملاً عن أبي هريرة في: مسلم 4/2031-2032 (كتاب البر والصلة والآداب، باب الأرواح جنود مجندة)، المسند (ط. الحلبي) ص/539 .(13/51)
وأيضاً من تناقضهم أنهم يُعظِّمون عائشة في هذا المقام طعناً في طلحة والزبير، ولا يعلمون أن هذا إن كان متوجهاً، فالطعن في عليّ بذلك أوجه، فإن طلحة والزبير كانا معظِّمين عائشة، موافقين لها، مؤتمرين بأمرها، وهما وهي من أبعد الناس عن الفواحش والمعاونة عليها. فإن جاز لرافضي أن يقدح فيهما يقول: "بأي وجه تلقون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ مع أن الواحد منا لو تَحدَّث مع امرأة غيره حتى أخرجها من منزلها وسافر بها"، مع أن ذلك إنما جعلها بمنزلة الملكة التي يأتمر بأمرها ويطيعها، ولم يكن إخراجها لمظان الفاحشة، كان لناصبي أن يقول: بأي وجه يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قاتل امرأته وسلَّط عليها أعوانه حتى عقروا بها بعيرها، وسقطت من هودجها، وأعداؤها حولها يطوفون بها كالمسبية التي أحاط بها من يقصد سباءها؟ ومعلوم أن هذا في مظنة الإهانة لأهل الرجل وهتكها وسبائها وتسليط الأجانب على قهرها وإذلالها وسبيها وامتهانها، أعظم من إخراجها بمنزلة الملكة العظيمة المبجلة التي لا يأتي إليها أحد إلا بإذنها، ولا يهتك أحد سترها، ولا ينظر في خدرها.
ولم يكن طلحة والزبير ولا غيرهما من الأجانب يحملونها، بل كان في العسكر من محارمها، مثل عبد الله بن الزبير ابن أختها، وخلوة ابن الزبير بها ومسُّ لها جائز بالكتاب والسُّنّة والإجماع – وكذلك سفر المرأة مع ذي محرمها جائز بالكتاب والسنة والإجماع. وهي لم تسافر إلا مع ذي محرم منها. وأما العسكر الذين قاتلوها، فلولا أنه كان في العسكر محمد بن أبي بكر مدّ يده إليها لمد يده إليها الأجانب، ولهذا دعت عائشة رضي الله عنها على مَن مدّ يده إليها وقالت: يد من هذه؟ أحرقها الله بالنار. فقال: أي أخيَّة في الدنيا قبل الآخرة. فقالت: في الدنيا قبل الآخرة. فأحرق بالنار بمصر.(13/52)
ولو قال المشنِّع: أنتم تقولون: إن آل الحسين سبوا لما قُتِلَ الحسين ولم يُفعل بهم إلا من جنس ما فُعِلَ بعائشة حين استولى عليها، وردَّت إلى بيتها، وأُعطيت نفقتها. وكذلك آل الحسين استولى عليهم، ورُدُّوا إلى أهليهم، وأعطوا نفقة، فإن كان هذا سبياً واستحلالاً للحرمة النبوية، فعائشة قد سُبيت واستُحلت حرمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يشنِّعون ويزعمون أن بعض أهل الشام طلب أن يسترقّ فاطمة بنت الحسين، وأنها قالت: لا ها لله حتى تكفر بديننا. وهذا إن كان وقع الذين طلبوا من عليّ رضي الله عنه أن يسبي من قاتلهم من أهل الجمل وصفّين ويغنموا أموالهم، أعظم جرماً من هؤلاء، وكان في ذلك لو سبوا عائشة وغيرها.
ثم إن هؤلاء الذين طلبوا ذلك من عليّ كانوا متدينين به مصرِّين عليه، إلى أن خرجوا على عليّ وقاتلهم على ذلك. وذلك الذي طلب استرقاق فاطمة بنت الحسين واحد مجهول لا شَوكة له ولا حُجة، ولا فعل هذا تديناً، ولما منعه سلطانه من ذلك امتنع، فكان المستحلِّون لدماء المؤمنين وحرمهم وحرمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عسكر عليّ أعظم منهم في عسكر بني أمية، وهذا متفق عليه بين الناس، فإن الخوارج الذين مرقوا من عسكر عليّ رضي الله عنه هم شر من شرار عسكر معاوية رضي الله عنه. ولهذا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتالهم، وأجمع الصحابة والعلماء على قتالهم.
والرافضة أكذب منهم وأظلم وأجهل، وأقرب إلى الكفر والنفاق، لكنهم أعجز منهم وأذل، وكلا الطائفتين من عسكر عليّ، وبهذا وأمثاله ضعف عليّ وعجز عن مقاومة من كان بإزائه.
والمقصود هنا أن ما يذكرونه من القدح في طلحة والزبير ينقلب بما هو أعظم منه في حق عليّ. فإن أجابوا عن ذلك: بأن عليّاً كان مجتهداً فيما فعل، وأنه أولى بالحق من طلحة والزبير.(13/53)
قيل: نعم، وطلحة والزبير كانا مجتهدين، وعليّ – وإن كان أفضل منهما – لكن لم يبلغ فعلهما بعائشة رضي الله عنها ما بلغ فعل عليّ، فعليّ أعظم قدراً منهما، ولكن إن كان فعل طلحة والزبير معها ذنباً، ففعل عليّ أعظم ذنباً، فتقاوم كبر القدر وعظم الذنب.
فإن قالوا: هما أحوجا عليّاً إلى ذلك، لأنهما أتيا بها، فما فعله عليّ مضاف إليهما لا إلى عليّ.
قيل: وهكذا معاوية لما قيل له: قد قُتِلَ عمَّار، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”تقتلك الفئة الباغية“ قال: أوَ نحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به حتى جعلوه تحت سيوفنا. فإن كانت هذه الحج مردودة، فحجة من احتج بأن طلحة والزير هما فعلا بعائشة ما جرى عليها من إهانة عسكر عليّ لها، واستيلائهم عليها – مردودة أيضاً. وإن قبلت هذه الحجة قُبلت حجة معاوية رضي الله عنه.
والرافضة وأمثالهم من أهل الجهل والظلم يحتجون بالحجة التي تستلزم فساد قولهم وتناقضهم، فإنه إن احتج بنظيرها عليهم فسد قولهم المنقوض بنظيرها، وإن لم يحتج بنظيرها بطلت هي في نفسها، لأنه لا بد م التسوية بين المتماثلين، ولكن منتهاهم مجرد الهوى الذي لا علم معه، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
وجماهير أهل السنة متفقون على أن علياً أفضل من طلحة والزبي، فضلاً عن معاوية وغيره. ويقولون: إن المسلمين لما افترقوا في خلافته فطائفة قاتلته وطائفة قاتلت معه، كان هو وأصحابه أولى الطائفتين بالحق، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”تمر مارقة على حين فُرقة من المسلمين، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق“. فهؤلاء هم الخوارج المارقون الذين مرقوا فقتلهم عليّ وأصحابه، فعُلِمَ أنهم كانوا أولى بالحق من معاوية رضي الله عنه وأصحابه. لكن أهل السُّنّة يتكلمونب علم وعدل، ويعطون كل ذي حق حقه.(13/54)
وأما قوله: "كيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين وساعدوها على حرب أمير المؤمنين، ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما طلبت حقّها من أبي بكر رضي الله عنه، ولا شخص واحد كلّمه بكلمة واحدة"؟
فيقال أولاً: هذا من أعظم الحجج عليك، فإنه لا يشك عاقل أن القوم كانوا يحبون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعظّمونه ويعظّمون قبيلته وبنته أعظم مما يعظِّمون أبا بكر وعمر، ولو لم يكن هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فكيف إذا كان هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم؟ ولا يستريب عاقل أن العرب – قريشاً وغير قريش – كانت تدين لبني عبد منافق وتعظّمهم أعظم مما يُعظّمون بني تيم وعدي، ولهذا لما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: حدث عظيم، فمن ولي بعده؟ قالوا: أبو بكر قال: أو رضيت بنو عبد مناف وبنو مخزوم؟ قالوا: نعم. قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، أو كما قال.
ولهذا جاء أبو سفيان إلى علي فقال: أرضيتم أن يكون هذا الأمر في بني تيم؟ فقال: يا أبا سفيان، إن أمر الإسلام ليس كأمر الجاهلية، أو كما قال.(13/55)
فإذا كان المسلمون كلهم ليس فيهم من قال: إن فاطمة رضي الله عنها مظلومة، ولا أن لها حقاً عند أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا أنهما ظلماها، ولا تكلّم أحد في هذا بكلمة واحدة – دلّ ذلك على أن القوم كانوا يعلمون أنها ليست مظلومة، إذ لو علموا أنها مظلومة لكان تركهم نصرتها: إما عجزاً عن نصرتها، وإما إهمالاً وإضاعة لحقها، وإما بغضاً فيها، غذ الفعل الذي يقدر عليه الإنسان إذا أراده إرادة جازمة فعله لا محالة، فإذا لم يرده – مع قيام المقتضى لإرادته – فإما أن يكون جاهلاً به، أو له معارض يمنعه من إرادته، فلو كانت مظلومة مع شرفها وشرف قبيلتها وأقاربها، وأن أباها أفضل الخلق وأحبهم إلى أمته، وهم يعلمون أنها مظلومة لكانوا إما عاجزين عن نصرتها، وإما أن يكون لهم معارض عارض إرادة النصر من بغضها، وكلا الأمرين باطل، فإن القوم ما كانوا عاجزين أن يتكلم واحد منهم بكلمة حق، وهم كانوا أقدر على تغيير ما هو أعظم من هذا.
وأبو بكر لم يكن ممتنعاً من سماع كلام أحد منهم، ولا هو معروفاً بالظلم والجبروت. واتفاق هؤلاء كلهم، مع توفر دواعيهم على بغض فاطمة، مع قيام الأسباب الموجبة لمحبتها، مما يُعلم بالضرورة امتناعه. وكذلك عليّ رضي الله عنه، لا سيما وجمهور قريش والأنصار والمسلمين لم يوجه عليّ إلى أحد منهم إساءة، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، ولا قتل أحداً من أقاربهم، فإن الذين قتلهم عليّ لم يكونوا من أكبر القبائل، وما من أحد من الصحابة إلا وقد قتل أيضاً.
وكان عمر رضي الله عنه أشد على الكفار وأكثر عداوة لهم من علي. فكلامهم فيه وعداوتهم له معروفة، ومن تولّى عليهم، فما مات إلا وكلهم يُثني عليه خيراً، ويدعو له، ويتوجع لمصاب المسلمين به.(13/56)
وهذا وغيره مما يُبيّن أن الأمر على نقيض ما تقوله الرافضة من أكاذيبهم، وأن القوم كانوا يعلمون أن فاطمة لم تكن مظلومة أصلاً، فكيف ينتصر القوم لعثمان حتى سفكوا دمائهم، ولا ينتصرون لمن هو أحب إليهم من عثمان، وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته؟ وكيف يُقاتلون مع معاوية حتى سُفِكت دماؤهم معه، وقد اختلف عليه بنو عبد مناف، ولا يقاتلون مع عليّ وبنو عبد مناف معه؟ فالعباس بن عبد المطلب أكبر بني هاشم، وأبو سفيان بن حرب أكبر بني أمية، وكلاهما كانا يميلان إلى عليّ، فلم لا قاتل الناس معه إذ ذاك، والأمر في أوله؟ القتال إذ ذاك لو كان حقاً كان مع عليّ أولى، وولاية عليّ أسهل، فإنه لو عرض نفر قليل فقالوا: الأمر لعليّ، وهو الخليفة والوصيّ، ونحن لا نبايع إلا له، ولا نعصي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا نظلم وصيّه وأهل بيته، ولا نُقدِّم الظالمين أو المنافقين من آل تيم على بني هاشم، الذين هم خيرنا في الجاهلية والإسلام – لكان القائل لهذا يستجيب له جمهور الناس، بل يستجيبون له إلا القليل، لا سيما وأبو بكر ليس عنده رغبة ولا رهبة.(13/57)
وهب أن عمر وطائفة معه كانوا يشذون معه، فليس هؤلاء أكثر ولا أعز من الذين كانا مع معاوية رضي الله عنه، ومع طلحة والزبير رضي الله عنهما، ومع هذا فقد قاتلهم أعوان عليّ، مع كونهم دون السابقين الأولين في العلم والدين، وفيهم قليل من السابقين الأولين، فهلا قاتلهم من هو أفضل من هؤلاء؟ إذ كان إذ ذاك علي على حق، وعدوه على الباطل، مع أن وليه إذ ذاك أكثر وأعظم علماً وإيماناً، وعدوه إذ ذاك – إن كان عدواً – أذل وأعجز وأضعف علماً وإيماناً وأقل عدواناً، فإنه لو كان الحق كما تقوله الرافضة لكان أبو بكر وعمر والسابقون الأولون من شرار أهل الأرض وأعظمهم جهلاً وظلماً، حيث عمدوا عقب موت نبيهم صلّى الله عليه وسلّم فبدّلوا وغيّروا وظلموا الوصي، وفعلوا بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ما لم تفعله اليهود والنصارى عقب موت موسى والمسيح عليهما السلام، فإن اليهود والنصارى لم يفعلوا عقب موت أنبيائهم ما تقوله الرافضة أن هؤلاء فعلوه عقب موت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى قوله تكون هذه الأمة شرّ أمة أخرجت للناس، ويكون سابقوها شرارها.
وكل هذ مما يعلم بالاضطرار فساده من دين الإسلام، وهو مما يُبيِّن أن الذي ابتدع مذهب الرافضة كان زنديقاً ملحداً عدواً لدين الإسلام وأهله، ولم يكن من أهل البدع المتأولين كالخوارج والقدرية، وإن كان قول الرافضة راج بعد ذلك على قوم فيهم إيمان لفرط جهلهم.
ومما يبين ذلك أن يُقال: أي داع كان للقوم في أن ينصروا عائشة بنت أبي بكر ويقاتلوا معها علياً كما ذكروا، ولا ينصرون فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقاتلون معها ومع زوجها الوصي أبا بكر وعمر؟ فإن كان القوم الذين فعلوا هذا يحبون الرياسة ويكرهون إمارة علي عليهم، كان حبهم للرياسة يدعوهم إلى قتال أبي بكر بطريق الأولى، فإن رياسة بيت علي أحب إليهم من رياسة بيت أبي بكر.(13/58)
ولهذا قال صفوان بن أمية يوم حنين لما ولوا مدبرين، وقال بعض الطلقاء: لا ينتهي فلّهم دون البحر، وقال الآخر: بطل السحر، فقال صفوان: والله لأن يربني رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من ثقف(1). وصفوان رأس الطلقاء – كان أن يربّه رجل من عبد مناف أحب إليه من أن يربه رجل م تيم، فحب الرياسة إذا كان هو الداعي كان يدعوهم إلى تقديم بني هاشم على بني تيم باتفاق العقلاء، ولو لم يقدموا علياً لقدموا العباس، فإن العباس كان أقرب إلى موافقتهم على المطالب الدنيوية من أبي بكر، فإن كانوا قد أقدموا على ظلم الوصي الهاشمي لئلا يحملهم على الحق الذي يكرهونه، كان تقديم من يحصل مطالبهم مع الرياسة الهاشمية – وهو العباس – أولى وأحرى من أبي بكر، الذي لا يعينهم على مطالبهم كإعانة العباس، ويحملهم على الحق المر أكثر ما يحملهم عليه علي، فلو كُرِه من عليّ حق مُرّ لكان ذلك من ابي بكر أكره، ولو أريد من أبي بكر دنيا حلوة لكان طلبها عند العباس وعلي أقرب، فعدولهم عن عليّ وعن العباس، وغيرهما إلى أبي بكر دليل على أن القوم وضعوا الحق في نصابه، وأقرّوه في إهابه، وأتوا الأمر الأرشد من بابه، وأنهم علموا أن الله ورسوله كانا يرضيان تقديم أبي بكر رضي الله عنه.
__________
(1) في "سيرة ابن هشام" 4/86: "وصرخ جبلة بن الحنبل – قال ابن هشام: كلدة بن الحنبل – وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا أبطل السحر اليوم. فقال له صفوان: اسكت فضَّ الله فاك، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربني رجل من هوازن". قال الأساتذة المحققون: "يربني: يكون رباً لي، أي ملكاً عليّ".(13/59)
وهذا أمر كان معلوماً لهم علماً ظاهراً بيّناً لما رأوه وسمعوه من النبي صلّى الله عليه وسلّم مدة صحبتهم له، فعلموا من تفضيل النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر بطول المشاهدة والتجربة والسماع ما أوجب تقديمه وطاعته. ولهذا قال عمر رضي الله عنه: "ليس فيكم من تُقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر"(1) أراد أن فضيلته على غيره ظاهرة مكشوفة لا تحتاج إلى بحث ونظر.
ولهذا قال له بمحضر من المهاجرين والأنصار: "أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم"(2) وهم يُقرّونه على ذلك، ولا ينازعه منهم أحد، حتى إن المنازعين في الخلافة من الأنصار لم ينازعوا في هذا، ولا قال أحد: بل عليّ أو غيره أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو خير منه أو أفضل.
__________
(1) هذه جملة من خطبة طويلة لعمر رضي الله عنه وقد وردت في: البخاري 8/169 (كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت)، ابن هشام: السيرة النبوية 4/309 – القاهرة، 1355 (1936)، المسند (ط. المعارف) ج1، الأثر 391 (ص326) وقد وجدت في صحيح مسلم 3/1317 (كتاب الحدود، باب رجم الثيب من الزنا) قطعة من خطبة عمر ولكن ليس فيها هذه الجملة، وانظر جامع الأصول لابن الأثير 4/480.
ويشرح ابن حجر (فتح الباري 12/125) معنى الجملة فيقول: "قال الخطابي: يريد أن السابق منكم الذي لا يُلحق في الفضل لا يصل إلى منزلة أبي بكر... وعبّر بقوله: تُقطع الأعناق، لكون الناظر إلى السابق تمتد عنقه لينظر، فإذا لم يحصل مقصوده من سبق من يريد سبقه، قيل: انقطعت عنقه".
(2) الحديث في: البخاري 5/7 (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، باب: مناقب أبي بكر الصديق)، 8/168-171 (كتاب الحدود، باب رجم الحبلى...) المسند (ط. المعارف) 1/323-327 .(13/60)
ومن المعلوم أنه يمتنع في العادة، لا سيما عادة الصحابة المتضمنة كمال دينهم وقولهم الحق، ألا يتكلم أحد منهم بالحق المضمن تفضيل عليّ، بل كلهم موافقون على تفضيل أبي بكر من غير رغبة فيه ولا رهبة.
زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم أمهات المؤمنين
قال الرافضي: "وسمُّوها أم المؤمنين ولم يسمّوا غيرها بذلك، ولم يُسمُّوا أخاها محمد بن أبي بكر – مع عظم شأنه وقرب منزلته من أبيه وأخته عائشة أم المؤمنين – فلم يسمّوه خال المؤمنين، وسمّوا معاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين، لأن أخته أم حبيبة بنت أبي سفيان إحدى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخت محمد بن أبي بكر وأبوه أعظم من أخت معاوية ومن أبيها".
والجواب أن يقال: أما قوله: "إنهم سمّوا عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين ولم يُسمّوا غيرها بذلك".
فهذا من البهتان الواضح الظاهر لكل أحد، وما أدري هل هذا الرجل وأمثاله يتعمدون الكذب، أم أعمى الله أبصارهم لفرط هواهم، حتى خفي عليهم أن هذا كذب؟ وهم ينكرون على بعض النواصب(1)
__________
(1) قال أبو عبد الرحمن النواصب عند الشيعة هم أهل السنة، وإن كان إطلاق أهل السنة لهذا اللقب على من يبغض علياً رضي الله عنه. ومصطلح "النواصب" كثير التكرار في كتب الشيعة، وتوهم بعض الناس أن المقصود بالنواصب هم الذين يبغضون علياً رضي الله عنه وأنه لا علاقة بأهل السنة بهذا فهم يحبون آل البيت رضوان الله تعالى عليهم، والحقيقة أن هذا القول مبعثه الجهل بحقيقة موقف الشيعة من أهل السنة. وأنقل للإخوة القراء بعض أقوال علماء الرافضة حول هذا المصطلح ليكونوا على علم بحقيقة أبعاد إطلاق تلك التسمية.
يقول أبو الحسن العاملي في مقدمة تفسيره "مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار" ص308 باب "النون من البطون والتأويلات":
الناصبة: في الصحاح نصبت الشيء أي أقمته، ونصب لفلان أي عاداه، وقد ورد في سورة الغاشية قوله تعالى: {عاملة ناصبة} [الغاشية: 3] وسنذكر إن شاء الله هناك ما يدل على تأويل الناصبة بأعداء عليّ عليه السلام وكذلك من عاداه ونصب غيره من ولاة الأمر فعلى هذا كله أعداء الأئمة ناصبة بالمعنيين وهو ظاهر. وكذلك الحق أن كل من نصب غير الأئمة فهو في الحقيقة ممن نصب العداوة للأئمة و"ناصبة" بالمعنيين وإن ادعى المحبة لهم ادعاء. إذ كل من أنصف من نفسه عرف أن حب الأئمة عليهم السلام لا يجتمع مع حب أعدائهم من الغاضبين لحقهم في قلب واحد كيف لا ومهما تفكر أحد فيما أصاب الأئمة منهم ومن أتباعهم أو بسببهم ولو محض سلب الخلافة عنهم يوماً واحداً أوجد من ذلك بغضهم في قلبه إن كان صادقاً في حب الأئمة ضرورة عدم اجتماع المحبة مع الرضا بالأذى ولهذا وجب التولي والتبري كما هو صريح الأخبار ..... وفي العلل ومعاني الأخبار عن معلى بن خنيس عن الصادق عليه السلام قال: ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد رجلاً يقول: أنا أبغض محمداً وآل محمد، ولكن الناصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا. ويؤيد قول الباقر عليه السلام: من نصب لك أنت، لا ينصب لك إلا على هذا الدين كما كان نصب للنبي... الحديث. وقد نقل في مستطرفات السرائر من مكاتبات محمد بن علي بن عيسى أبا الحسن الثالث عليه السلام قال: كتبت إليه أسأله عن الناصب هل أحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديم الجبت (أبي بكر رضي الله عنه) والطاغوت (عمر رضي الله عنه) واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب.
ويقول نعمة الله الجزائري في كتابه "الأنوار النعمانية" ج2 ص270: إن الأئمة عليهم السلام وخواصهم أطلقوا لفظ الناصبي على أبي حنيفة وأمثاله. مع أن أبا حنيفة لم يكن ممن نصب العداوة لأهل البيت عليهم السلام بل كان له انقطاع إليهم، وكان يظهر لهم التودد.
ويقول حسين العصوفر في كتابه " المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية" ص145-147: وأما تحقيق الناصب فقد كثر فيه القيل والقال واتسع فيه المجال والتعرض للأقوال، وما يرد عليها، وما يثبتها ليس هذا محله بعد ما عرفت كفر مطلق المخالف فما أدراك بالناصب، الذي جاء فيه الآيات والروايات أنه المشرك والكافر بل ما من آية من كتاب الله فيها ذكر المشرك إلا كان هو المراد منها والمعنى بها.
وأما معناه الذي دلت عليه الأخبار فهو ما قدمناه هو تقديم غير عليّ عليه السلام على ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر، نقلاً عن كتاب مسائل الرجال بالإسناد إلى محمد بن علي بن موسى قال: كتبت إليه – يعني عليّ بن محمد عليه السلام – عن الناصب هل يحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب.
وما في شرح نهج البلاغة للراوندي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن الناصب بعده قال: من يقدم على عليّ غيره. وأما تفسيره بمن أظهر العداوة لأهل البيت – كما عليه أكثر علمائنا المتأخرين – فمما لم يقم عليه دليل، بل وفي الأخبار ما ينفيه، ففي عقاب الأعمال والعلل وصفات الشيعة بأسانيد إلى عبد الله بن سنان والمعلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد أحداً يقول: أنا أبغض محمداً وآل محمد، ولكن الناصب من نصب لكم، وهو يعلم أنكم تقولوننا وأنكم من شيعتنا، وظهوره في نفي ما اعتمدوه واضح.
نعم ربما يترائى المخالفة بين هذه الأخبار، وبين خبري السرائر، وشرح النهج، لأن هذه باشتراط العداوة إلى شيعتهم، والاكتفاء في تينك الروايتين مجرد تقديم الغير عليه عليه السلام، والذي ظهر لنا أنه لا منافاة بينهما لقيام الأدلة من العامة والخاصة على التلازم بين ذلك التقديم، ونصب العداوة لشيعتهم.
وبالجملة أن من تأول أحوالهم واطلع على بعض صفاتهم وطريقتهم في المعاشرة ظهر له ما قلناه. فإنكار مكابرة لما اقتضت العادة به، بل أخبارهم عليهم السلام تنادي بأن الناصب هو ما يقال له عندهم سنياً.
ففي حسنة بن أذينة المروية في الكافي والعلل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما تروي هذه الناصبة؟ فقلت: جعلت فداك في ماذا؟ فقال: في أذانهم وركوعهم وسجودهم.... الحديث.
ولا كلام في أن المراد بالناصبة فيه هم أهل التسنن الذين قالوا: إن الأذان رآه أبَيّ بن كعب في النوم. فظهر لك أن النزاع والخلاف بين القائلين بهذه المذاهب الثلاثة – أعني مجرد التقديم ونصب العداوة لشيعتهم، كما اعتمده محمد أمين في الفوائد المدنية، ونصب العداوة لهم عليهم السلام، كما هو اختيار المشهور خلاف لفظي لما عرفت من التلازم بينها.
وقد صرح بهذا جماعة من المتأخرين، منهم السيد المحقق السيد نور الدين، أبي الحسين الموسوي في الفوائد المكية، واختاره شيخنا المنصف العلامة الشيخ يوسف في الشهاب الثاقب، وهو المنقول عن الأخواجة نصير الدين، وكفاك شاهداً على قوته التئام الأخبار به وشهادة العادة – كما يظهر من أحوالهم.
وقد ذكر يوسف البحراني في كتابه "الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة" ج10 ص360-364 مفهوم الناصب عند الشيعة، مع العلم بأنه ألف رسالة حول هذا المعنى بعنوان "الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب عليه من المطالب" ولولا الإطالة لذكرنا كلامه، ولكن إن شاء الله تعالى سوف تراه مذكوراً في كتابنا "موقف الشيعة من أهل السنة" في طبعته الثالثة المنقحة والمزيدة ضمن الفصل الأول من كتاب "مفهوم الناصب عند الشيعة".(13/61)
أن الحسين لما قال لهم: أما تعلمون أني ابن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالوا: والله ما نعلم ذلك. وهذا لا يقوله ولا يجحد نسب الحسين إلا متعمد للكذب والافتراء، ومن أعمى الله بصيرته باتّباع هواه حتى يخفى عليه مثل هذا؟ فإن عين الهوى عمياء. والرافضة أعظم جحداً للحق تعمداً، وأعمى من هؤلاء، فإن منهم ومن المنتسبين إليهم – كالنصيرية وغيرهم من يقول: إن الحسن والحسين ما كانا أولاد عليّ، بل أولاد سلمان الفارسي، ومنهم من يقول: إن علياً لم يمت، وكذلك يقولون عن غيره.(13/62)
ومنهم من يقول: إن أبا بكر وعمر ليسا مدفونين عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم من يقول: إن رقية وأم كلثوم زوجتي عثمان ليستا بنتي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن هما بنتا خديجة من غيره(1)
__________
(1) من القائلين بذلك أبو القاسم الكوفي (انظر ترجمته ص65 من كتابنا "الشيعة وتحريف القرآن" ط3) في كتابه "الاستغاثة في بدع الثلاثة" ص75 وما بعدها: أما ما روت العامة (يقصد أهل السنة) من تزويج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن عفان رقية وزينب، فإن التزويج صحيح غير متنازع فيه، إنما التنازع بيننا وقع في رقية وزينب، هل هما ابنتا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أم ليستا ابنتيه؟ وليس لأحد من أهل النظر إذا وجد تنازعاً من خصمين كل منهما يدّعي أن الحق معه وفي يده الميل إلى أ؛د الخصمين دون الآخر بغير بيان وإيضاح، ويجب البحث عن صحة كل واحد منهما بالنظر والاختبار والتفحص والاعتبار، فإذا اتضح له الحق منهما، وبان له الصدق من أحدهما، اعتقد عند ذلك قول المحق من الخصمين، وأطرح الفاسد من المذهبين، ولم يدحضه كثرة مخالفيه وقلة عدد مؤالفيه، فإن الحق لا يتضح عند أهل النظر والفهم والعلم والتميز والطلب لكثرة متبعيه، ولا يبطل لقلة قائليه، وإنما يتحقق الحق ويتضح الصدق بتصحيح النظر والتميز والطلب للشواهد والأعلام.... أن رقية وزينب زوجتي عثمان لم يكونا ابنتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا ولد خديجة زوجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما دخلت الشبهة على العوام فيهما لقلة معرفتهم بالأنساب وفهمهم بالأسباب.
ويقول ص80: وصح لنا فيهما ما رواه مشايخنا من أهل العلم عن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام وذلك أن الرواية صحت عندنا عنهم أنه كان لخديجة بنت خويلد من أمها أخت يقال لها هالة قد تزوجها رجل من بني مخزوم فولدت بنتاً اسمها هالة ثم خلف عليها بعد أبي هالة رجل من تميم يقال له أبو هند فأولدها ابناً كان يسمى هنداً بن أبي هند وابنتين، فكانتا هاتان الابنتان منسوبتين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب ورقية من امرأة أخرى قد ماتت، ومات أبو هند وقد بلغ ابنه مبالغ الرجال والابنتان طفلتان وكان في حدثان تزويج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخديجة بنت خويلد...... اهـ.
ونحن لا نرد على هذا الهراء إلا من واقع كلام مشايخ الرافضة الذين لهم منزلة في الدين الشيعي، من أولئك الملقب عند الرافضة بـ"المفيد" (انظر ترجمته ص67 من كتابنا "الشيعة وتحريف القرآن") رغم ما تحمله عباراته من الطعن الشديد والقذر على ذي النورين رضوان الله تعالى عليه ولعنة الله على من يبغضه. فيقول هذا الرافضي في كتابه "أجوبة المسائل الحاجبية" على ما نقله المعلق على كتاب "الاستغاثة" ص90-91: أن زينب ورقية كانتا ابنتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمخالف لذلك شاذ بخلافه، فأما تزويجه صلّى الله عليه وسلّم بكافرين فإن ذلك كان قبل تحريم مناكحة الكفار وكان له صلّى الله عليه وسلّم أن يزوجهما ممن يراه، وقد كان لأبي العاص وعتبة نسب برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان لهما إذ ذاك ولم يمنع شرع من العقد لهما فيمتنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أجله.
وقال (أي المفيد) في "أجوبة المسائل السرورية" : قد زوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنتيه قبل البعثة كافرين كانا يعبدان الأصنام أحدهما: عتبة بن أبي لهب والآخر أبو العاص بن الربيع، فلما بعث صلّى الله عليه وسلّم فرق بينهما وبين ابنتيه، فمات عتبة على الكفر، وأسلم أبو العاص بعد إبائه الإسلام فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يكن صلّى الله عليه وآله وسلم في حال من الأحوال كافراً ولا موالياً لأهل الكفر، وقد زوج من تبرأ من دينه.... وهاتان البنتان هما اللتان تزوجهما عثمان بن عفان بعد هلاك عتبة وموت أبي العاص، وإنما زوجه النبي صلّى الله عليه وسلّم على ظاهر الإسلام ثم إنه تغير بعد ذلك، ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم تبعاً فيما يحدث في العاقبة، هذا على قول أصحابنا، وعلى قول فريق آخر أنه زوّجه على الظاهر وكان باطنه مستوراً عنه.... إلى آخر الكلام الذي يقطر حقداً....(13/63)
. ولهم من المكابرات وجحد المعلومات بالضرورة أعظم مما لأولئك النواصب الذين قتلوا الحسين. وهذا مما يُبيِّن أنهم أكذب وأظلم وأجهل من قتلة الحسين.
وذلك أن من المعلوم أن كل واحدة من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم يقال: "أم المؤمنين": عائشة وحفصة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وسَودة بنت زمعة، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حيي بن أخطب الهارونية، رضي الله عنهن. وقد قال الله تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6]، وهذا أمر معلوم للأمة علماً عاماً، وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره، وعل وجوب احترامهن، فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم، ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية، فلا يجوز لغير أقاربهن الخلوة بهن، ولا السفر بهن، كما يخلو الرجل ويسافر بذوات محارمه.
ولهذا أُمِرْنَ بالحجاب، فقال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ } [الأحزاب: 59]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53].(13/64)
ولما كنَّ بمنزلة الأمهات في حكم التحريم دون المحرمية تنازع العلماء في إخوتهن: هل يقال لأحدهم خال المؤمنين؟ فقيل: يُقال لأحدهم خال المؤمنين، وعلى هذا فهذا الحكم لا يختص بمعاوية، بل يدخل في ذلك عبد الرحمن ومحمد ولدا أبي بكر، وعبد الله وعبيد الله وعاصم أولاد عمر، ويدخل في ذلك عمرو بن الحارث بن أبي ضرار أخو جويرية بنت الحارث، ويدخل في ذلك عُتبة بن أبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان أخو معاوية.
ومن علماء السُّنّة من قال: لا يُطلق على إخوة الأزواج أنهم أخوال المؤمنين، فإنه لو أُطلق ذلك لأطلق على أخواتهن أنهن خالات المؤمنين. ولو كانوا أخوالاً وخالات لَحُرِّم على المؤمنين أن يتزوج أحدهم خالته، وحُرِّم على المرأة أن تتزوج خالها.
وقد ثبت بالنص والإجماع أنه يجوز للمؤمنين والمؤمنات أن يتزوجوا أخواتهن وإخوتهن، كما تزوج العباس أم الفضل أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، ووُلِدَ له منها عبد الله والفضل وغيرهما، وكما تزوج عبد الله بن عمر وعبيد الله ومعاوية وعبد الرحمن بن أبي بكر ومحمد بن أبي بكر من تزوجوهن من المؤمنات. ولو كانوا أخوالاً لهن لما جاز للمرأة أن تتزوج خالها.
قالوا: وكذلك لا يُطلق على أمهاتهن أنهن جدّات المؤمنين، ولا على آبائهن أنهم أجداد المؤمنين لأنه لم يثبت في حق الأمهات جميع أحكام النسب، وإنما ثبت الحُرمة والتحريم. وأحكام النسب تتبعض، كما يثبت بالرضاع التحريم والمحرومية، ولا يثبت بها سائر أحكام النسب، وهذا كله متفق عليه.
والذين أطلقوا على الواحد من أولئك أنه خال المؤمنين لم ينازعوا في هذه الأحكام، ولكن قصدوا بذلك الإطلاق أن لأحدهم مصاهرة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، واشتهر ذكرهم لذلك عن معاوية رضي الله عنه، كما اشتهر أنه كاتب الوحي – وقد كتب الوحي غيره – وأنه رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أردف غيره.(13/65)
فهم لا يذكرون ما يذكرون من ذلك لاختصاصه به، بل يذكرون ما له من الاتصال بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، كما يذكرون في فضائل غيره ما ليس من خصائصه.
كقوله صلّى الله عليه وسلّم لعليّ رضي الله عنه: ”لأعطينَّ الراية رجلاً يُحب الله ورسوله ويُحبّه الله ورسوله“(1). وقوله: ”إنه لعهد النبي الأمي إلى أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق“(2). وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”أما ترضى أن تكون بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي“(3)
__________
(1) جاء الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن جماعة من الصحابة منهم عليّ بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأبو بريدة وسلمة رضي الله عنهم في البخاري: 5/18 (كتاب فضائل أصحاب النبي، باب مناقب عليّ بن أبي طالب)، مسلم 4/1871-1872 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب)، الترمذي 5/301-302 (كتاب المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب)، سنن ابن ماجه 1/43-44 (المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله..، فضل علي..)، المسند (ط. المعارف) 3/97-98 (ط. الحلبي) 5/353-354، 358-359 .
(2) الحديث عن عليّ بن أبي طالب في: مسلم 1/86 (كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعليّ رضي الله عنهم من الإيمان...)، سنن الترمذي 5/306 (كتاب المناقب، باب مناقب عليّ) سنن ابن ماجه 1/42 (المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله...، فضل عليّ...)، المسند (ط. المعارف) 2/57 وهو في مواضع أخرى من المسند.
(3) الحديث – مع اختلاف في الألفاظ – عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في: البخاري 5/19 (كتاب فضائل أصحاب النبي، باب مناقب عليّ بن أبي طالب)، مسلم 4/1871 (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب)، سنن الترمذي 5/301-302 (كتاب المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب)، سنن ابن ماجه 1/42-43، 45 (المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فضل عليّ بن أبي طالب..)، المسند (ط. المعارف) 3/97. والحديث في "فضائل الصحابة" الأرقام: 954، 957، 103، 1045، 1091، 1143، 1153.(13/66)
.
فهذه الأمور ليست من خصائص عليّ، لكنها من فضائله ومناقبه التي تُعرف بها فضيلته، واشتهر رواية أهل السُّنّة لها، ليدفعوا بها قدح من قدح في عليّ وجعلوه كافراً أو ظالماً، من الخوارج وغيرهم.
ومعاوية أيضاً لما كان له نصيب من الصُّحبة والاتصال برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصار أقوام يجعلونه كافراً أو فاسقاً ويستحلّون لعنته ونحو ذلك، احتاج أهل العلم أن يذكروا ما له من الاتصال برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ليرعى بذلك حق المتصلين برسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا القدر لو اجتهد فيه الرجل وأخطأ، لكان خيراً ممن اجتهد في بغضهم وأخطأ، فإن باب الإحسان إلى الناس والعفو عنهم مقدّم على باب الإساءة والانتقام، كما في الحديث: ”ادرأوا الحدود بالشبهات“(1). فإن الإمام أن يُخطئ في العفو خير من أن يُخطئ في العقوبة.
__________
(1) ذكر السيوطي هذا الحديث في "الجامع الكبير" وقال عنه: "أبو مسلم الكجي عن عمر بن عبد العزيز مرسلاً"، وذكر حديثاً آخر نصه: "ادرأوا الحدود بالشبهات وأقيلوا الكرام عثراتهم إلا في حد من حدود الله" ثم قال: "في جزء له (يقصد ابن عدي في الكامل كما بين ذلك في الجامع الصغير) من حديث أهل مصر والجزيرة عن ابن عباس ورواه مسدد في مسنده عن ابن مسعود موقوفاً". ووافقه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" 1/117 على أنه موقوف، وضعَّفه.(13/67)
وكذلك يُعطي المجهول الذي يدّعي الفقر من الصدقة، كما أعطى النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلين سألاه، فرآها جَلدين. فقال: ”إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب“(1). وهذا لأن إعطاء الغني خير من حرمان الفقير، والعفو عن المجرم خير من عقوبة البريء.
فإذا كان هذا في حق آحاد الناس، فالصحابة أولى أن يُسلك بهم هذا. فخطأ المجتهد في الإحسان إليهم بالدعاء والثناء عليهم والذَّبّ عنهم خير من خطأه في الإساءة إليهم باللعن والذَّمّ والطّعن. وما شجر بينهم غايته أن يكون ذنباً، والذنوب مغفورة بأسباب متعددة هم أحق بها ممن بعدهم، وما تجد أحداً يقدح فيهم إلا وهو يُعظّم من هو دونهم، ولا تجد أحداً يُعظّم شيئاً من زلاّتهم إلا وهو يُغضي عما هو أكبر من ذلك من زلاّت غيرهم، وهذا من أعظم الجهل والظلم.
وهؤلاء الرافضة يقدحون فيهم بالصغائر، وهم يغضّون عن الكفر والكبائر فيمن يعاونهم من الكفّار والمنافقين، كاليهود والنصارى والمشركين والإسماعيلية والنصيرية وغيرهم، فمن ناقش المؤمنين على الذنوب، وهو لا يناقش الكفّار والمنافقين على كفرهم ونفاقهم، بل ربما يمدحهم ويعظّمهم، دلّ على أنه من أعظم الناس جهلاً وظلماً، إن لم ينته به جهله وظلمه إلى الكفر والنفاق.
__________
(1) الحديث عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عن رجلين في: سنن أبي داود 2/159 (كتاب الزكاة، باب من يعطي الصدقة وحد الغنى)، سنن النسائي 5/74-75 (كتاب الزكاة، باب مسألة القوي المكتسب)، المسند (ط. الحلبي) 4/224، 5/362. قال الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي رحمه الله في "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني" (9/93، القاهرة 1357ه): "عبيد بن عدي بن الخيار – بكسر الخاء... وَلِدَ في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال العجلي: ثقة من كبار التابعين". وصحّح الألباني الحديث في "صحيح الجامع الصغير" 2/6 .(13/68)
ومما يبين أنه ذكر معاوية ومحمد بن أبي بكر، وأنهم سمّوا هذا خال المؤمنين، ولم يسموا هذا خال المؤمنين، ولم يذكر بقية من شاركهما في ذلك، وهم أفضل منهما، كعبد الله بن عمر بن الخطّاب وأمثاله. وقد بيّنّا أن أهل السُّنّة لا يخصّون معوية رضي الله عنه بذلك، وأما هؤلاء الرافضة فخصّوا محمد بن أبي بكر بالمعارضة، وليس هو قريباً من عبد الله بن عمر في عمله ودينه، بل ولا هو مثل أخيه عبد الرحمن، بل عبد الرحمن له صُحبة وفضيلة، ومحمد بن أبي بكر إنما وُلِدَ عام حجة الوداع بذي الحليفة، فأما النبي صلّى الله عليه وسلّم أمه أسماء بنت عميس أن تغتسل للإحرام وهي نفساء، وصار ذلك سُّنة، ولم يُدرِك من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا خمس ليال من ذي القعدة، وذا الحجة، والمحرَّم، وصفر، وأوائل شهر ربيع الأول، ولا يبلغ ذلك أربعة أشهر. ومات أبوه أبو بكر رضي الله عنه وعمره أقل من ثلاث سنين، ولم يكن له صُحبة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا قُرب منزلة من أبيه، إلا كما يكون لمثله من الأطفال، وتزوج عليّ بعد أبي بكر بأمه أسماء بنت عميس، فكان ربيب عليّ، وكان اختصاصه بعليّ لهذا السبب.
ويُقال: إنه أتى حداً فجلده عثمان عليه، فبقي في نفسه على عثمان، لما كان في نفسه من تشرّفه بأبيه أبي بكر، فلما قام أهل الفتنة على عثمان، قالوا: إنه كان معهم، وأنه دخل عليه وأخذ بلحيته، وأن عثمان قال له: لقد أخذت مأخذاً عظيماً ما كان أبوك ليأخذه. ويُقال: إنه رجع لَمَّا قال له ذلك، وأن الذي قتل عثمان كان غيره.(13/69)
ثم إنه كان مع عليّ في حروبه، وولاّه مصر، فقُتِلَ بمصر: قتله شيعة عثمان لِمَا كانوا يعلمون أنه كان من الخارجين عليه، وحُرِقَ في بطن حمار: قتله معاوية بن حديج(1). والرافضة تغلو في تعظيمه على عادتهم الفاسدة في أنهم يمدحون رجال الفتنة الذين قاموا على عثمان، ويبالغون في مدح مَن قاتَل مع عليّ، حتى يفضّلون محمد بن أبي بكر على أبيه أبي بكر(2)
__________
(1) هو معاوية بن حديج بن جفنة بن قنبر، أبو نعيم الكندي ثم السكوني رضي الله عنه. شهد صفين مع معاوية، وولاه معاوية إمرة جيش جهّزه إلى مصر، وكان الوالي عليها من قِبَلِ علي رضي الله عنه محمد بن أبي بكر، فقتله معاوية سنة ثمان وثلاثين. وتوفي معاوية سنة 52ه.
(2) تزعم الرافضة أن محمداً بن أبي بكر بايع علياً رضي الله عنه على البراءة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأنه في النار.
فقد ذكر الكشي في رجاله ص61) ترجمة محمد بن أبي بكر روايات عديدة تدل على ما ذكرناه، نذكرها للإخوة القراء ليتيقنوا من مدى الحقد الذي في قلوب الرافضة تجاه سلف هذه الأمة:
عن حمزة بن محمد الطيّار قال: ذكرنا محمد بن أبي بكر عند أبي عبد الله (ع) فقال أبو عبد الله (ع): رحمه الله وصلى عليه. قال لأمير المؤمنين عليه السلام يوماً من الأيام: ابسط يدك أبايعك. فقال: أوَ ما فعلت؟ قال: بلى، فبسط يده فقال: أشهد أنك إمام مفترض طاعتك وأن أبي في النار. فقال أبو عبد الله عليه السلام: كان النجابة من قِبَلِ أمه أسماء بنت عميس رحمة الله عليها لا من قبل أبيه.
وعن زرارة بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن محمد بن أبي بكر بايع علياً عليه السلام على البراءة من أبيه.
وعن شعيب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: ما من أهل بيت إلا ومنهم نجيب من أنفسهم، وأنجيب النجباء من أهل بيت سوء محمد بن أبي بكر.(13/70)
، فيلعنون أفضل الأمة بعد نبيها(1)، ويمدحون ابنه الذي ليس له صُحبة ولا سابقة ولا فضيلة، ويتناقضون في ذلك في تعظيم الإنسان، فإن كان الرجل لا يضره كفر أبيه أو فسقه لم يضر نبينا ولا إبراهيم ولا علياً كفر آبائهم، وإن ضرّه لزمهم أن يقدحوا في محمد بن أبي بكر بأبيه، وهم يُعظِّمونه، وابنه القاسم بن محمد وابن ابنه عبد الرحمن بن القاسم خير عند المسلمين منه، ولا يذكرونهما بخير لكونهما ليسا من رجال الفتنة.
وأما قوله: "وعظّم شأنه".
فإن أراد عظم نسبه، فالنسب لا حُرمة له عندهم، لقدحهم في أبيه وأخته. وأما أهل السنة فإنهم يُعظِّمون بالتقوى، لا بمجرد النسب. قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13].
وإن أراد عظم شأنه لسابقته وهجرته ونُصرته وجهاده، فهو ليس من الصحابة: لا من المهاجرين ولا الأنصار. وإن أراد بعظم شأنه أنه كان من أعلم الناس وأدينهم، فليس الأمر كذلك، وليس هو معدوداً من أعيان العلماء والصالحين الذين في طبقته، وإن أراد بذلك شرفه في المنزلة لكونه كان له جاه ومنزلة ورياسة، فمعاوية كان أعظم جاهاً ورياسة ومنزلة منه، بل معاوية خير منه وأعلم وأدين وأحلم وأكرم، فإن معاوية رضي الله عنه روى الحديث وتكلم في الفقه. وقد روى أهل الحديث حديثه في الصحاح والمساند وغيرها(2)، وذكر بعض العلماء بعض فتاويه وأقضيته. وأما محمد بن أبي بكر فليس له ذكر في الكتب المعتمدة في الحديث والفقه.
وأما قوله: "وأخت محمد وأبوه أعظم من أخت معاوية وأبيها".
__________
(1) انظر نص دعاء صنمي قريش ص47 من "الخطوط العريضة" لمحب الدين الخطيب رحمه الله تعالى بتعليقنا، وأيضاً صورة من الدعاء ص111 من نفس الكتاب.
(2) انظر ما أورده عبد الغني النابلسي في كتابه "ذخائر المواريث" 3/106-110 من أحاديث معاوية رضي الله عنه وهي 39 حديثاً – (الأرقام 6321-6359) وكلها في الصحاح والمساند.(13/71)
فيقال: هذه الحجة باطلة على الأصلين. وذلك أن أهل السُّنّة لا يُفضِّلون الرجل إلا بنفسه، فلا ينفع محمداً قُربه من أبي بكر وعائشة، ولا يضر معاوية أن يكون ذلك أفضل نسباً منه، وهذا أصل معروف لأهل السُّنّة، كما لم يضر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، كبلال وصهيب وخبّاب وأمثالهم، أن يكون من تأخر عنهم من الطلقاء وغيرهم، كأبي سفيان بن حرب وابنيه معاوية ويزيد وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب ونحوهم، أعظم نسباً منهم، فإن هؤلاء من بني عبد مناف أشرف قريش بيتاً، وأولئك ليس لهم نسب شريف، ولكن فضّلوهم بما فضّل الله به مَن أنفق من قبل الفتح وقاتل، على الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، فكيف على من بعد هؤلاء؟.
وأما الرافضة فهم إذا اعتبروا النسب لزمهم أن يكون محمد بن أبي بكر عندهم شر الناس نسباً، لقبح قولهم في أبيه وأخته. فعلى أصلهم لا يجوز تفضيله بقربه منهما، وإن ذكروا ذلك على طريق الإلزام لأهل السُّنّة، فهم يُفضّلون من فضّله الله، حيث يقول: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13].
المحتوى
الموضوع ... ... ... ... ... ... ... ... ... الصفحة
تقدمة ...
شذرات من مناقب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ...
فضل عائشة رضي الله عنها ...
علم عائشة رضي الله عنها ...
جبريل يُقرؤ عائشة السلام ...
رب السماوات السبع يبرئ عائشة رضي الله عنها ...
خروج عائشة بقصد الإصلاح بين المسلمين وليس القتال ...
شأن الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه ...
ما يذكر عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب ...
توبة عائشة في إذاعة سر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ...
ما أذنبت – رضي الله عنها – ولكنها تأولت ...
ندم طلحة والزبير وعليّ على القتال ...(13/72)
عائشة – رضي الله عنها – لم تتبرج ...
المجتهد المخطئ مغفور له خطؤه ...
شعر الرافضي محمد كاظم الأزرق في هجاء أم المؤمنين ...
لم يجمع الناس على قتل عثمان كما لم يجمعوا على قتل الحسين ...
المنتصرون لعثمان والمنتصرون من قتلة المختار الثقفي ...
ادعاء الرافضة أن عائشة حرضت على قتل عثمان ...
قصة حاطب بن أبي بلتعة ...
إيذاء عبد الله بن أبي للرسول صلّى الله عليه وسلّم ...
التأويل لا يقدح في إيمان أحد ...
الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وبعدل ...
الرافضة يرمون نساء الأنبياء بالفاحشة ...
بيان أن خيانة امرأة نوح وامرأة لوط إنما كانت في الدين ...
بيان أن الصحابة أفضل في آباءهم ...
الرافضة يقدحون في العباس ويمدحون أبا طالب ...
موقف أبي طالب ...
الثناء يكون بالإيمان والتقوى لا لمجرد النسب ...
الرافضة أكذب وأظلم وأجهل من المنافقين ...
الخوارج هم المارقون ...
لم تكن فاطمة – رضي الله عنها – مظلومة ...
مبتدع مذهب الرافضة كان زنديقاً ...
فضيلة أبي بكر على غيره ظاهرة ...
زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم أمهات المؤمنين ...
رأي الشيعة في أهل السنة ...
الرافضة أعظم جحداً للحق ...
بيان أنه لا يطلق على إخوة الأزواج أنهم أخوال المؤمنين ...
الاجتهاد في محبة الصحابة خير من الاجتهاد وفي بغضهم ...
الرافضة يقدحون في الصحابة بالصغائر ...
الرافضة يفضلون محمد بن أبي بكر على أبيه ...
بيان أن التفضيل إنما يكون بنفس الرجل وعمله لا بنسبه ...
ختام الكتاب ...
المحتوى ...
تم الكتاب ولله الحمد.(13/73)
طرق الأبواب الخلفية
بين الحلّ والتحريم
تأليف محمد مال الله
وأما الدبر: فلم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء، ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة في دبرها، فقد غلط عليه.
ابن القيم: زاد المعاد 4/257
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
ابتليت كثير من المجتمعات التي تنتمي إلى الإسلام بظواهر غير أخلاقية انعكست وللأسف في محيط الأسرة انعكاسا خطيراً، وهذا أساسه البُعد عن ديننا الإسلامي الحنيف، كما إن تقليد الغرب وتطبيق الممارسات الشاذة في الأفلام والمجتمعات التي يصدرها الغرب ساهم إلى حد كبير في انتشار ذلك، ومع انتشار ظاهرة الإنترنت بين الناس أصبح سهلاً على فئة كبيرة من الناس رؤية تلك الممارسات الغير أخلاقية على شاشات الكمبيوتر، وللأسف فإن كثير من الفتاوى التي يصدرها المصابون بالسعار الجنسي ساهمت إلى حد كبير في إضفاء الشرعية على ذلك العمل الذي يأنفه من لديه ذرة من الحياء والدين، وقد اشتكت لي بعض النساء من ممارسة أزواجهن بعض الشذوذات الجنسية أثناء العملية التي أحلّها الله تعالى بين الزوجين وطلبن مني إعداد رسالة صغيرة تستعرض الأدلة الشرعية المحرّمة لذلك العمل الغير أخلاقي، فأجبتهن إلى ذلك مع اليقين التام بأنني لا أصلح لإعداد مثل تلك الرسائل، ولكن حسبي أن بذلت بعض المجهود وأرجو ممن لديهم الملكة الفقهية والعلمية أن يكتبوا في ذلك ولهم الأجر والثواب.
أبو عبد الرحمن: محمد مال الله
25 جمادى الأولى 1422هـ.
تحريم الدبر في السنة النبوية وآثار الصحابة(14/1)
وردت في السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم روايات مغلظة وناهية أشد النهي وكذلك جملة من الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين عن إتيان المرأة في الموضع الذي تأباه الفطرة ويأباه الطبع السليم ونتحف القارئ الكريم ببعض تلك المرويات ومن أراد التوسع في هذا الشأن فقد ذكرنا المراجع التي يرجع إليها في نهاية هذا المبحث ونسأل الله تبارك وتعالى أن يهدي الذين يأتون تلك الأفعال ولعل في المرويات التالية رادع عن اقتراف ذلك.
1 – عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قالت اليهود إنما يكون الحول إذا أتى الرجل امرأته من خلفها فأنزل الله عز وجل: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } من بين يديها ومن خلفها ولا يأتيها إلا في المأتى(1).
2 – عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قالت اليهود إذا أتى الرجل امرأته مجببة كان الولد أحول فنزلت { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } إن شاء مجببة وإن شاء غير مجببة غير أن ذلك في صمام واحد(2).
3 – عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم قالت لما قدم المهاجرون المدينة تزوجوا في الأنصار فكانوا يجبونهن وكانت الأنصار لا تفعل ذلك فقالت امرأة منهن لزوجها حتى أسأل رسول الله فاستحيت منه فسألته فدعاها فقرأ عليها { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } صماماً واحداً(3).
__________
(1) صحيح ابن حبان 19/512، السنن الكبرى للبيهقي 7/195، إرواء الغليل للألباني 7/60.
(2) مسلم 4/156، المعجم الوسيط للطبراني 8/83، السنن الكبرى للبيهقي 7/195.
(3) مسند أحمد 6/310 و319، سنن الترمذي 4/284 وقال: هذا حديث حسن صحيح، السنن الكبرى للبيهقي 7/195، مصنف ابن أبي شيبة 3/348، وانظر: مصنف عبد الرزاق 11/443، المعجم الكبير للطبراني 23/356.(14/2)
4 – عن حفصة بنت عبد الرحمن عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أن امرأة دخلت عليها تسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الرجل يأتي المرأة مجباة فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستحيت فسأل عنها فأخبرته أم سلمة فقال ردوها علي { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } يأتيها مقبلة ومدبرة في سر واحد (يعني في ثقب واحد) (1).
5 – عن مجاهد قال قرأت على ابن عباس القرآن مرتين فسألته عن هذه الآية { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فقال ائتها من حيث حرمت عليك يقول من حيث يكون الحيض والولد(2).
6 – عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } قال تؤتى مقبلة ومدبرة في الفرج(3).
7 – عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } يعني بالحرث الفرج يقول تأتيه كيف شئت مستقبلة أو مستدبرة على أي ذلك أردت بعد أن لا تجاوز الفرج إلى غيره وهو قوله من حيث أمركم الله(4).
8 – عن خزيمة بن ثابت أن رجلاً سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن إتيان النساء في أدبارهن أو إتيان الرجل امرأته في دبرها. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم حلال. فلما ولى الرجل دعاه أو أمر به فدعي. فقال كيف قلت في أي الخربتين أو في أي الخرزتين أو في أي الخصفتين أمن دبرها في قبلها فنعم أما من دبرها في دبرها فلا إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن(5).
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي 7/195.
(2) السنن الكبرى للبيهقي 7/196.
(3) السنن الكبرى للبيهقي 7/196.
(4) السنن الكبرى للبيهقي 7/196.
(5) السنن الكبرى للبيهقي 7/196، مسند الشافعي 276، إرواء الغليل للألباني 7/67.(14/3)
9 – عن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن محاش النساء(1).
10 – عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن(2).
11 – عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال تلك اللوطية الصغرى. يعني إتيان المرأة في دبرها(3).
12 – عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لا ينظر الله يوم القيامة إلى رجل أتى امرأته في دبرها(4).
13 – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أتى النساء في أعجازهن فقد كفر(5).
14 – عن مجاهد عن أبي هريرة قال: إتيان الرجال والنساء في أدبارهن كفر(6).
15 – عن مجاهد عن أبي هريرة في الذي يأتي امرأته في دبرها، قالت: تلك كفرة(7).
16 – مجاهد عن أبي هريرة قال: من أتى أدبار الرجال والنساء فقد كفر(8).
__________
(1) مجمع الزوائد 4/299 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات
(2) مسند أحمد 5/213، السنن الكبرى للنسائي 5/316، مسند الحميدي 1/207، المنتقى من السنن لابن أبي الجارود 181.
(3) مسند أحمد 1/182 و210، مجمع الزوائد 4/298، السنن الكبرى للبيهقي 7/198، مصنف عبد الرزاق 11/443، مسند أبي داود 299، السنن الكبرى للنسائي 5/319-320، شرح معاني الآثار للطحاوي 3/44، المعجم الأوسط للطبراني 5/286، مسند الشاميين للطبراني 4/64.
(4) السنن الكبرى للبيهقي 7/198، سنن ابن ماجه 1/619، مصنف عبد الرزاق 11/442، المعجم الأوسط للطبراني 1/297و 6/262.
(5) مجمع الزوائد 4/299 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(6) السنن الكبرى للنسائي 5/323-324.
(7) السنن الكبرى للنسائي 5/324.
(8) السنن الكبرى للنسائي 4/324.(14/4)
17 – عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: استحيوا من الله حق الحياء لا تأتوا النساء في أدبارهن(1).
18 – عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال من أتى كاهناً فصدقه بما يقول ومن أتى امرأة في دبرها ومن أتى امرأة حائضاً فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم(2).
19 – عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله هلكت قال وما الذي أهلكك قال حولت رحلي الليلة فلم يرد عليه شيئاً ثم أوحى الله إليه (نساؤكم حرث لكم) أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة(3).
20 – عن علي بن طلق قال نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأتوا النساء في أدبارهن فإن الله لا يستحيي من الحق(4).
21 – عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لُعن الذين يأتون النساء في محاشهن(5).
22 – عن سعيد بن بيار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري حين أحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكرت الدبر. فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين(6).
__________
(1) السنن الكبرى للنسائي 5/322.
(2) مسند أحمد 2/408 و476، سنن الدارمي 1/259، سنن ابن ماجه 1/209، سنن أبي داود 2/229، سنن الترمذي 1/90، السنن الكبرى للبيهقي 7/198، المنتقى من السنن لابن أبي الجارود 37، شرح معاني الآثار 3/44.
(3) سنن الترمذي 4/284، صحيح ابن حبان 9/516، السنن الكبرى للنسائي 6/302، موارد الظمآن 426.
(4) مصنف ابن أبي شيبة 3/363.
(5) مجمع الزوائد 4/299 وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الصمد بن الفضل وثقه الذهبي وقال: له حديث يُستنكر. وهو صالح إن شاء الله.
(6) سنن الدارمي 1/260-261.(14/5)
23 – عن أبي المعتمر عن أبي الجويرية قال سأل رجل علياً رضي الله عنه عن ذلك فقال سفلت سفل الله بك أما سمعت الله يقول: { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ }(1).
24 – عن أبي القعقاع الجرمي قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن آتي امرأتي حيث شئت؟ قال: نعم. قال: ومن أين شئت؟ قال: نعم. فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن إن هذا يريد السوء. قال: لا، محاش النساء عليكم حرام. سُئل عبد الله: تقول به. قال: نعم(2).
25 – أبو عبد الله الشقري حدثني أبو القعقاع قال شهدت القادسية وأنا غلام أو يافع قال جاء رجل إلى عبد الله فقال آتي امرأتي كيف شئت قال نعم قال وحيث شئت. قال: نعم. قال: وأنى شئت قال نعم ففطن له الرجل فقال إنه يريد أن يأتيها في مقعدتها فقال لا، محاش النساء عليكم حرام(3).
26 – عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يعيب النكاح في الدبر عيباً شديداً(4).
27 – عن عبد الوهاب بن عطاء قال سألت سعيداً عن الرجل يأتي المرأة في دبرها فأخبرنا عن قتادة عن عقبة بن وساج عن أبي الدرداء قال وهل يفعل ذلك إلا كافر(5).
28 – عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الرجل يأتي امرأته في دبرها. فقال: تلك اللوطية الصغرى(6).
29 – عن كريب بن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في دبر(7).
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي 7/198، المصنف لابن أبي شيبة 3/264.
(2) سنن الدارمي 1/259.
(3) السنن الكبرى للبيهقي 7/199.
(4) السنن الكبرى للبيهقي 7/199، سنن الدارمي 1/260.
(5) السنن الكبرى للبيهقي 7/199، مصنف ابن أبي شيبة 3/363.
(6) السنن الكبرى للنسائي 5/319.
(7) السنن الكبرى للنسائي 5/320.(14/6)
30 – عن كريب عن ابن عباس قال: لا ينظر الله يوم القيامة إلى رجل أتى بهيمة أو امرأة في دبرها(1).
31 – عن عثمان بن كعب القرظي عن محمد بن كعب القرظي أن رجلاً سأله عن المرأة تؤتى في دبرها. فقال محمد: إن عبد الله بن عباس كان يقول اسق حرثك من حيث نباته(2).
32 – عن ابن طاوس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن الرجل يأتي المرأة في دبرها قال ذلك الكفر(3).
33 – عمرو بن قتادة قال سألت طاوساً عن الرجل يأتي المرأة في دبرها قال تلك كفرة(4).
34 – إبراهيم بن أبي بكر سمع طاوساً يُسأل عن ذلك. فقال أتسألني عن الكفر(5).
35 – عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن الهاد عن عمر بن الخطاب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لا تأتوا النساء في أدبارهن(6).
36 – عن طاوس عن عبد الله بن الهاد قال قال عمر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استحيوا من الله فإن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن(7).
37 – عن الحارث بن مخلد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لا ينظر الله إلى رجل يأتي المرأة في دبرها(8).
38 – عن الحارث بن مخلد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ملعون من أتى امرأته في دبرها(9).
39 – عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها فقد كفر(10).
40 – عن مجاهد عن أبي هريرة قال: إتيان النساء والرجال في أدبارهن كفر(11).
__________
(1) السنن الكبرى للنسائي 5/321.
(2) السنن الكبرى للنسائي 5/321.
(3) السنن الكبرى للنسائي 5/321.
(4) السنن الكبرى للنسائي 5/321.
(5) السنن الكبرى للنسائي 5/321.
(6) السنن الكبرى للنسائي 5/322.
(7) السنن الكبرى للنسائي 5/322.
(8) السنن الكبرى للنسائي 5/322.
(9) السنن الكبرى للنسائي 5/323.
(10) السنن الكبرى للنسائي 5/323.
(11) السنن الكبرى للنسائي 5/323.(14/7)
41 – عن مسلم بن سلام عن علي بن طلق أن أعرابياً أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال إنا نكون بهذه البادية وإنه تكون من أحدنا الرويحة وفي الماء قلة. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إذا فسا أحدكم فليتوضأ ولا تأتوا النساء في أدبارهن فإن الله لا يستحيي من الحق(1).
42 – عن مسلم بن سلام عن علي بن طلق قال قال أعرابي للنبي صلّى الله عليه وسلّم الرجل منا يكون بالأرض الفلاة فتكون منه الرويحة ويكون في الماء قلة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا فسا أحدكم فليتوضأ ولا تأتوا النساء في أعجازهن فإن الله لا يستحي من الحق(2).
43 – عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: من أتى امرأته في دبرها فهو من المرأة مثله من الرجل(3).
__________
(1) السنن الكبرى للنسائي 5/324.
(2) السنن الكبرى للنسائي 5/324.
(3) سنن الدارمي 1/259.(14/8)
وللمزيد حول موضوع الدبر انظر: مسند أحمد ج2: 210، 272، 344، 408، 444، 476، 479، ج5: 213، سنن الدارمي ج1: 259، 260، سنن ابن ماجه ج1: 209، 619، سنن أبي داود ج2: 229، سنن الترمذي ج1: 90، السنن الكبرى ج7: 196، 198، 199، شرح النووي على مسلم ج10: 6، مجمع الزوائد ج4: 298، تحفة الأحوذي في شرح الترمذي ج1: 355، ج4: 275، 258، عون المعبود ج6: 140، 145، ج10: 284، شرح مسند أبي حنيفة: 464، مسند أبي داود الطيالسي: 299، المصنف ج11: 442، ج3: 348، 363، 364، الآحاد والمثاني ج4: 116، السنن الكبرى ج5: 319، 321، 322، 323، 324، مسند أبي يعلى ج2: 356، ج4: 266، المنتقى من السنن: 37، شرح معاني الآثار ج3: 44، 45، 46، صحيح ابن حبان ج9: 517، 518، المعجم الأوسط ج1: 297، ج5: 286، المعجم الكبير ج11: 64، مسند الشاميين ج4: 64، موارد الظمآن: 317، الجامع الصغير ج2: 274، 539، 550، كنز العمال ج5: 340، ج6: 748، ج14: 575، ج16: 97، 350، 352، 353، 566، فيض القدير شرح الجامع الصغير ج1: 88، 195، ج2: 345، ج5: 10، ج6: 31، نظم المتناثر من الحديث المتواتر: 149، إرواء الغليل ج7: 67، ج8: 58، 271، 272، تفسير ابن كثير ج4: 418، تفسير الجلالين: 119، الدر المنثور ج1: 260، 261، 263، 264، 265، 266 ،فتح القدير ج1: 227، 228، 229.
موقف آل البيت من نكاح الدبر
لا يختلف موقف آل البيت رضوان الله عليهم عن موقف سلف هذه الأمة وذلك لأنهم نهلوا من تراث جدهم صلوات الله وسلامه عليه وتابعوا بذلك جمهور الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
ولم أكن أود التطرق إلى بيان موقفهم رضوان الله عليهم من هذه المسألة لولا ادّعاء من يدّعي موالاتهم وحبهم التمسك بهديهم، واستدلالنا بأقوالهم ليس مصدره أهل السنة والجماعة بل من مصادر القوم الذين يتبجحون بموالاتهم.
1 – عن أبان عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن إتيان النساء في أعجازهن؟(14/9)
فقال: هي لعبتك لا تؤذها(1).
2 – عن معمر بن خلاد قال: قال لي أبو الحسن (ع) أي شيء يقولون في إتيان النساء في أعجازهن؟
قلت: إنه بلغني إن أهل المدينة لا يرون به بأساً.
فقال: إن اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل المرأة من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله عز وجل { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } من خلف أو قدام خلافاً لقول اليهود ولم يعن في أدبارهن(2).
3 – عن سدير قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: محاش النساء على أمتي حرام(3).
4 – عن هاشم وابن بكير عن أبي عبد الله (ع) قال هاشم: لا تعري ولا ترفث. وابن بكير قال: لا تعرى أي لا يأتي من غير هذا الموضع(4).
5 – عن محمد بن علي بن الحسين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: محاش نساء أمتي على رجال أمتي حرام(5).
6 – عن صفوان بن يحيى عن بعض أصحابنا قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله عز وجل { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }.
قال: من قدامها ومن خلفها في القبل(6).
__________
(1) الكافي 5/540، وسائل الشيعة 14/101، الحدائق الناضرة 23/80، فقه الصادق 21/78.
(2) وسائل الشيعة 14/101، الاستبصار 3/245، بحار الأنوار 101/29، تفسير العياشي 1/111، مسند الرضا للعطاردي 1/315-316.
(3) وسائل الشيعة 14/101، الكافي 5/540، الاستبصار 3/244، تهذيب الأحكام 7/416، فهرس الروايات الفقهية 2/1400.
(4) وسائل الشيعة 14/101، الاستبصار 3/244.
(5) وسائل الشيعة 14/101.
(6) وسائل الشيعة 14/102، بحار الأنوار 101/28، الفصول المهمة للحر العاملي 2/328.(14/10)
7 – علي بن إبراهيم في تفسيره قال: قال الصادق (ع) في قوله تعالى { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أي متى شئتم في الفرج. والدليل على قوله في الفرج قوله تعالى { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } فالحرث الزرع في الفرج في موضع الولد(1).
8 – عن صفوان بن يحيى عن بعض أصحابنا قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } قال: من قدامها ومن خلفها في القبل(2).
9 – عن زرارة عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن الرجل يأتي أهله في دبرها فكره ذلك وقال: وإياكم ومحاش النساء. وقال: إنما معنى {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي ساعة شئتم(3).
1 0 عن يزيد الجرجاني قال: كتبت إلى الرضا (ع) في مثله فورد الجواب: سألت عمن أتى جارية في دبرها والمرأة لعبة الرجل فلا تؤذي وهي حرث كما قال الله(4).
11 – عن زيد بن ثابت قال: سأل رجل أمير المؤمنين (ع) أتؤتى النساء في أدبارهن؟
فقال: سفلت سفل الله بك أما سمعت بقول الله { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ }(5).
وقد ساء أصحاب الشذوذ والشهوات ورود أمثال هذه الروايات فوضعوا إزاءها بعض الموضوعات لتكون مبرراً لهم في اقتراف الفاحشة وتخفيفاً للهوس الجنسي الذي يعانونه، وإليك بعض تلك المرويات مع اليقين القطعي بعدم صدور أمثال تلك المهازل والشبق الجنسي عن أهل البيت رضي الله عنهم:
1 – عن علي بن الحكم قال: سمعت صفوان يقول قلت للرضا عليه السلام: إن رجلاً من مواليك أمرني أن أسألك عن مسألة فهابك واستحيا منك أن يسألك عنها قال: ما هي؟ قال: قلت: الرجل يأتي امرأة في دبرها قال: نعم ذلك له.
__________
(1) وسائل الشيعة 14/102، تفسير القمي 1/72.
(2) وسائل الشيعة 14/102.
(3) وسائل الشيعة 14/102.
(4) وسائل الشيعة 14/102.
(5) وسائل الشيعة 14/012.(14/11)
قلت: وأنت تفعل ذلك؟
قال: لا إنا لا نفعل ذلك(1).
2 – عن عبد الله بن أبي يعفور قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يأتي المرأة في دبرها.
قال: لا بأس إذا رضيت.
قلت: فأين قول الله عز وجل { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ }.
قال: هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله إن الله عز وجل يقول: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}(2).
قال أبو عبد الرحمن: قد وقفت على كلام لأبي القاسم الخوئي وهو من علماء القوم فنّد هذه الرواية الموضوعة، ولا يعني هذا أن الخوئي يرى تحريم نكاح الدبر، بل إنه أقرّ بصحة بعض الروايات الموضوعة في هذا الشأن كما هو مذكور ص133 و134 من كتاب النكاح، يقول الخوئي في "كتاب النكاح" الجزء الأول ص131-133:
"فقد ادّعى استفادة الجواز من قوله تعالى {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}.
__________
(1) وسائل الشيعة 14/102، الاستبصار 3/243-244، جواهر الكلام 29/103، الرسائل التسع للحلّي 174، كشف الرموز 2/106، جامع المقاصد 12/500، مسالك الإفهام 7/59، نهاية المرام 1/75، جامع المدارك 4/145.
(2) وسائل الشيعة 14/103، التهذيب 2/320، جواهر الكلام 29/103، كشف الرموز 2/105، مستمسك العروة 14/62، جامع المدارك 4/145.(14/12)
بدعوى: أن كلمة "أنى" مكانية فتدل على جواز إتيان النساء في أي مكان منها، فتكون دليلاً على جواز وطئها دبراً، إلا أنه ضعيف. فإن كلمة "أنى" ليست مكانية وإنما هي زمانية صرفة كما يظهر من ملاحظة الآية السابقة حيث قال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فإنها تدل على أن الممنوع إنما هو إتيان النساء زمن حيضهن وفي تلك الحالة، وأما في غيرها فيجوز إتيان الزوجة في أي وقت شاء الرجل.
على أنه لو سلمنا كونها مكانية فهي لا تدل على جواز إتيان المرأة في كل عضو وكل مكان في بدنها بحيث يقال بجواز إتيانها في أذنها أو فمها أو أنفها، بل إنما تدل على عدم اختصاص الجواز بمكان أرجى دون آخر كما هو أوضح من أن يخفى.
على أن كلمة الحرث المذكورة تدل بوضوح على اختصاص جواز الوطء بالقبل فإنه محل الحرث دون غيره، فالأمر بإتيان الحرث أم بإتيانهن من القبل كما يظهر ذلك بملاحظة الأمثلة العرفية، فإن المولى إذا أعطى الحب لعبده وأمره بحرثه أينما شاء أفهل يحتمل أن يكون مراده وضعه في أي مكان ولو في البحر أو النهر؟ كلا فإنه من الواضح اختصاص ذلك بما يقبل الحرث والزرع وليس ذلك سوى الأرض.
وعليه فيظهر أنه لا مجال لاستفادة الجواز من هذه الآية.
وفي قبال هذا القول فقد استدل للحرمة بقوله تعالى { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }.(14/13)
بدعوى: أنها تدل على عدم جواز الوطء في الدبر لأنه ليس مما أمر به الله سبحانه، بل الذي أمر به على ما عرفت من قوله تعالى { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } هو إتيانهن في القبل لأن القيد وإن لم يكن له مفهوم - على ما تقرر في الأصول - إلا أنه لما كان ظاهراً في الاحتراز استفيد منه عدم ثبوت الحكم - أعني الجواز في المقام - لمطلق الإتيان والوطء، فلابد من الاقتصار على القدر المتيقن وهو الإتيان في غير الدبر، فلا يكون الإتيان في الدبر مما أمر الله به سبحانه.
3 – عن موسى بن عبد الملك، عن رجل قال، سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن إتيان الرجل المرأة من خلفها.
فقال: أحلتها آية من كتاب الله قول لوط { هَؤُلاءَ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } وقد علم أنهم لا يريدون الفرج(1).
4 – عن حماد بن عثمان قال سألت أبا عبد الله عليه السلام وأخبرني من سأله عن الرجل يأتي المرأة في ذلك الموضع وفي البيت جماعة فقال لي ورفع صوته قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: من كلف مملوكه ما لا يطيق فليعنه، ثم نظر في وجه أهل البيت ثم أصغى إلي فقال: لا بأس به(2).
قال أبو عبد الرحمن: نحن نُجلّ جعفر الصادق رحمه الله تعالى أن يكون بهذا المستوى الأخلاقي الذي لا يرضاه رعاع الناس.
5 – عن حماد بن عثمان عن ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يأتي المرأة في دبرها.
قال: لا بأس به(3).
__________
(1) الاستبصار 3/243، وسائل الشيعة 14/103، جواهر الكلام 29/104، الرسائل التسع 174، كشف الرموز 2/105، جامع المدارك 4/146، جامع المقاصد 12/500، الحدائق الناضرة 23/81.
(2) وسائل الشيعة 14/103، الاستبصار 3/243، التهذيب 2/230، جواهر الكلام 29/104، الحدائق الناضرة 23/83، مستمسك العروة 14/62، جامع المدارك 4/146.
(3) الاستبصار 3/243، الرسائل التسع للحلي 174، التهذيب 7/415، وسائل الشيعة 14/103.(14/14)
6 – عن ابن أبي يعفور قال: سألته عن إتيان النساء في أعجازهن.
فقال: ليس به بأس وما أحب أن تفعله(1).
7 – عن حفص بن سوقة، عمن أخبره قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل يأتي أهل من خلفها.
قال: هو أحد المأتيين فيه الغسل(2).
8 – عن يونس بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله أو لأبي الحسن عليهما السلام: إني ربما أتيت الجارية من خلفها يعني دبرها ونذرت فجعلت على نفسي إن عدت إلى امرأة هكذا فعلي صدقة درهم وقد ثقل ذلك علي.
فقال: ليس عليك شيء وذلك لك(3).
قال أبو عبد الرحمن: يقول الخوئي في كتاب النكاح 1/133: هي مقطوعة البطلان مع قطع النظر عن سندها (الخوئي يرى صحة السند) إذ لا موجب للحكم ببطلان نذره وأنه لا شيء عليه بعدما كان متعلقه أمراً راجحاً فإن الوطء في الدبر مرجوح بلا خلاف فيكون تركه أمراً راجحاً.
9 – عن علي بن الحكم، عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أتى الرجل المرأة في الدبر وهي صائمة لم ينتقض صومها وليس عليها غسل(4).
10 – عن عبد الله بن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن إتيان النساء في أعجازهن قال: لا بأس به ثم تلا هذه الآية: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } قال: حيث شاء(5).
11 – عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } قال: حيث شاء(6).
__________
(1) الاستبصار 3/244، جواهر الكلام 29/103، وسائل الشيعة 14/103.
(2) الاستبصار 1/112 و3/243، عوالي اللئالي لابن أبي جمهور 3/29، وسائل الشيعة 14/103.
(3) الاستبصار 3/244، الحدائق الناضرة 23/82، جواهر الكلام 29/104، وسائل الشيعة 14/103، فقه الصادق 21/77.
(4) التهذيب 4/319، المعتبر للحلّي 2/654، وسائل الشيعة 14/104.
(5) وسائل الشيعة 14/104.
(6) وسائل الشيعة 14/104.(14/15)
12 – عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام وذكر عنده إتيان النساء في أدبارهن فقال: ما أعلم آية في القرآن أحلت ذلك إلا واحدة { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ } الآية(1).
13 – عن عبد الملك بن عمر قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل يجامع المرأة في دبرها؟
فقال: لا بأس، هي لعبة الرجل يلعب بها كيف يشاء(2).
وللتوسع في موضوع نكاح الدبر عند القوم انظر:
__________
(1) بحار الأنوار 29/101، وسائل الشيعة 14/104، تفسير العياشي 2/157.
(2) كشف الرموز 2/106.(14/16)
الكافي ج3: 47، ج5: 540، الاستبصار ج1: 112، ج3: 243، 244، تهذيب الأحكام ج1: 125، ج4: 319، ج7: 414، 415، 416، 460، وسائل الشيعة ج1: 481، ج14: 100، 103، ج2: 200، ج20: 141، 142، 146، 147، مستدرك الوسائل ج7: 323، ج14: 232، فهرس الروايات الفقهية ج1: 11، ج2: 1399، 1400، 1603، مستطرفات السرائر: 609، عوالي اللئالي ج2: 134، 135، ج3: 27، 137، 316، ج4: 40، الفصول المهمة في أصول الأئمة ج2: 329، بحار الأنوار ج12: 167، ج78: 60، 76، تفسير مجمع البيان ج2: 86، 89، تفسير الصافي ج1: 254، تفسير نور الثقلين ج1: 214، تفسير كنز الدقائق ج1: 532، 533، تفسير الميزان: ج2: 220، الانتصار: 258، 293، 510، الخلاف ج1: 21، المبسوط ج1: 270، الوسيلة: 411: غنية النزوع: 361، 362، السرائر ج3: 429، 609، شرائع الإسلام ج1: 21، 22، ج2: 496، المعتبر ج1: 180، ج2: 654، المختصر النافع: 172، الرسائل التسع: 173، 174، 176، كشف الرموز ج1: 72، ج2: 104، 105، 106، قواعد الأحكام ج2: 25، ج3: 48، مختلف الشيعة ج1: 324، 325، 326، 327، ج3: 390، 389، منتهى المطلب ج2: 184، 185، تذكرة الفقهاء ج6: 23، تحرير الأحكام ج2: 4، 28، تبصرة المتعلمين: 172، إيضاح الفوائد ج1: 45، ج3: 125، الذكرى: 27، المهذب البارع ج1: 139، ج2: 25، ج3: 207، 207، 208، 552، جامع المقاصد ج12: 121، 124، 337، 497، 498، 499، 502، ج13: 54، 278، مسالك الإفهام ج2: 16، ج7: 57، 59، 125، مجمع الفائدة ج5: 33، مدارك الأحكام ج1: 272، 351، ج6: 44، نهاية المرام ج1: 57، 58، 387، الحبل المتين: 38، ذخيرة المعاد ج1: 49، 50، 72، ج3: 496، كشف اللثام ج2: 8، 288، الحدائق الناضرة ج3: 4، 9، 10، 13، ج13: 108، 110، ج23: 80، 82، 266، مستند الشيعة ج10: 239، جواهر الكلام ج3: 30، 34، 228، ج16: 220، 221، ج22: 380، ج29: 103، 106، 107، 108، 110، ج30: 327، رسائل صاحب الجواهر: 13: مستمسك العروة ج3:(14/17)
18، 19، ج8: 241، ج14: 62، 64، 66، 67، 72، 74.
الأضرار الصحية والنفسية
ربما يظن أو يعتقد الذين يقترفون طرق الأبواب الخلفية أن المسألة هينة وهي مجرد إشباع رغبة شاذة مخالفة للفطرة والطبع السليم، لكن المسألة أكبر من ذلك بكثير، حيث أن الأضرار الصحية والنفسية المترتبة على ممارسة ذلك تبدو ضئيلة في نظرهم ولكن الحقيقة عكس ذلك، والذي يدرس تلك الحالات ميدانياً يعجب لما يُصاب به الفاعل والمفعول، فكم من فاعل جره ذلك إلى ممارسة اللواط، وأصيب بحالة نفسية استعصت على أطباء علم النفس، وكم من مفعول بها أصيبت بأمراض شرجية مزمنة وعُقدة تجاه الرجال حتى إن بعضهن طلبن الطلاق وعزفن عن الزواج بحجة أن الرجال صنف واحد، وكم من امرأة تألمت وأُصيبت بإحباط نتيجة عدم إشباع رغبتها وما ترجوه من الزواج حيث إنها ترغب برجل يستوعبها ويحترم كيانها كامرأة لا مجرد وعاء لشهوته الجنسية الشاذة ويعاملها بحقارة ودونية حتى الحيوان لا يُعامل بمثلها.. والذي يراجع سجلات المحاكم ويدرس حالات الطلاق - في دول الخليج مثلاً - يجد أن من أسباب طلب الزوجة الطلاق هو التصرف الأهوج الذي يمارسه الرجل في إتيانه لها. وكم من امرأة كتبت في الصحف مطالبة علماء بعض الطوائف المنتسبة للإسلام بضرورة إصدار فتوى تُحرّم ذلك ولكن لا مجيب، حيث إن أولئك العلماء المزعومين مصابون بالهوس الجنسي ولا يرتوي ذلك السعار إلا باقتراف ما هو خلاف الفطرة والطبع السليم.
وليكون القارئ الكريم على اطلاع على حقيقة الأمر انقل له كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حيث يقول في زاد المعاد 4/261 وما بعدها: وقد قال تعالى: { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } قال مجاهد: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }، فقال: تأتيها من حيث أُمرت أن تعتزلها يعني في الحيض. وقال علي بن أبي طلحة عنه، يقول: في الفرج، ولا تعدُه إلى غيره.(14/18)
وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دُبرها من وجهين: أحدهما: أنه أباح إتيانها في الحرث، وهو موضع الولد لا في الحُشِّ الذي هو موضع الأذى، وموضع الحرث هو المراد من قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } الآية، قال: { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } وإتيانها في قبلها من دبرها مستفاد من الآية أيضاً، لأنه قال: أنى شئتم، أي من أين شئتم من أمام أو من خلف. قال ابن عباس: فأتوا حرثكم، يعني في الفرج.
وإذا كان الله حرّم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض، فما الظن بالحُشّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان.
وأيضاً: فللمرأة حق على الزوج في الوطء، ووطؤها في دُبرها يفوّت حقها، ولا يقضي وطرها، ولا يُحصّل مقصودها.
وأيضاً: فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل، ولم يُخلق له، وإنما الذي هُيئ له الفرج، فالعادلون عنه إلى الدُبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعاً.
وأيضاً: فإن ذلك مُضرّ بالرجل، ولهذا نهى عنه عُقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه، والوطء في الدبر لا يُعين على اجتذاب جميع الماء، ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي.
وأيضاً: يضر من وجه آخر، وهو إحواجه إلى حركات متعبة جداً لمخالفته للطبيعة.
وأيضاً: فإنه محل للقذر والنجو، فيستقبله الرجل بوجهه، ويُلابسه.
وأيضاً: فإنه يضر بالمرأة جداً، لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع، منافر لها غاية النفرة.
وأيضاً: فإنه يحدث الهم والغم، والنفرة عن الفاعل والمفعول.
وأيضاً: فإنه يُسوّد الوجه، ويظلم الصدر، ويطمس نور القلب، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء يعرفها من له أدنى فراسة.
وأيضاً: فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد، والتقاطع بين الفاعل والمفعول فيه، ولابد.(14/19)
وأيضاً: فإنه يُفسد حال الفاعل والمفعول فساداً لا يكاد يُرجى بعده صلاح، ألا أن يشاء الله بالتوبة النصوح.
وأيضاً: فإنه يذهب بالمحاسن منهما، ويكسوهما ضدها، كما يذهب بالمودة بينهما، ويبدلهما بها تباغضاً وتلاعناً.
وأيضاً: فإنه من أكبر أسباب زوال النعم، وحلول النقم، فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله، وإعراضه عن فاعله، وعدم نظره إليه، فأي خير يرجوه بعد هذا، وأي شر يأمنه، وكيف حياة عبد قد حلت عليه لعنة الله ومقته، وأعرض عنه بوجهه، ولم ينظر إليه.
وأيضاً: فإنه يذهب الحياء جملة، والحياءُ هو حياة القلوب، فإذا فقدها القلب، استحسن القبيح، واستقبح الحسن، وحينئذ فقد استحكم فساده.
وأيضاً: فإنه يُحيل الطباع عما ركبّها الله، ويُخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يُركب الله عليه شيئاً من الحيوان، بل هو طبع منكوس، وإذا نُكس الطبعُ انتكس القلب، والعمل، والهدى، فيستطيب حينئذٍ الخبيث من الأعمال والهيئات، ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره.
وأيضاً: فإنه يُرث من الوقاحة والجُرأة ما لا يورثه سواه.
وأيضاً: فإنه يُورث من المهانة والسفِّال والحقارة ما لا يورثه غيره.
وأيضاً: فإنه يكسو العبد من حلة المقت والبغضاء، وازدراء الناس له، واحتقارهم إياه، واستصغارهم له ما ه مشاهد بالحس، فصلاة الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به، وهلاك الدنيا والآخرة في مخالف هديه وما جاء به. اهـ.
وأثناء بحثي عن الأضرار الصحية لممارسة اللواطة بالنساء أو إتيان الدبر وقفت على مقال قيّم للدكتورة فوزية الدريع بعنوان "يطرق الأبواب الخلفية"، والمنشور في ملحق جريدة الوطن الكويتية العدد 73 بتاريخ ربيع الأول 1413هـ – 1/9/1992م ونضعه بين يدي القراء الكرام للانتفاع به:
"الحياة الجنسية تساوي في المفهوم الإنساني والأخلاقي وحتى اللغوي الخصوصية.(14/20)
ولعل إحساس الخصوصية هذا الذي ارتبط فطرياً بالغريزة الجنسية كان دافعاً أساسياً وراء سلسلة الاختراعات التي اخترعها الإنسان حتى ينقل نفسه تدريجياً من البدائية البهيمية إلى مرتبة إنسانية متميزة.
خصوصية الجنس تطلبت من الإنسان سلسلة الاكتشافات التي بدأت بالملبس لتغطية عورته.. والمسكن الذي يختفي وراء جدرانه فلا تراه عيون الآخرين حتى يُشبع هذه الغريزة.. ولعل خصوصية غرفة النوم هي خطوة متقدمة بعد اختراع الجدران المنزلية.. ولعلنا من باب التورية والخصوصية نُسميها غرفة النوم وفي واقع الحال هي غرفة الجنس.. فليس هناك عيب ولا خجل من أن ينام الإنسان في غرفة مملوءة بالآخرين ولكن الخجل والعار هو أن يُشبع غريزته أمام الآخرين.. لكن تبقى هذه التورية الجملية إحدى مرادفات الحشمة والرُّقي الإنساني.
وغرفة النوم هذه عالم خاص جداً.. عالم سري.. أو هكذا مفترض أن يكون.. وما يجري فيه في الغالب يكون أمراً يحدث بين رجل وامرأة والله وحده هو الرقيب.. البعض قد يخرج سذاجة أو وقاحة أو استثارة ما يحدث في غرفة النوم إلى الخارج.. ووجهة النظر الأخلاقية والدينية تُحذّر من طرح ما يجري في غرفة النوم على الآخرين وخاصة من باب المزاح والمباهاة.. لكن أيضاً هناك تشجيع ديني وعلمي على البوح لمختص حين تكون هناك مشكلة في الإشباع.. والدين يرى أن الإشباع حق.. بل واجب والاستشارة لمختص لم يعارضها الدين.. وسيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم واضحة وعلمية بهذا الخصوص.. والغريزة الجنسية على الرغم مما فيها من حرية استمتاع.. وعلى الرغم من عدم تحديد صورة الإشباع طالما الاثنان يجملان تلك الورقة الشرعية إلا أن هناك بعض الأمور التي تطرق لها الدين مراعياً الإشباع الصحيح والصحي في الحياة الجنسية.(14/21)
ولنا الفخر الدين العظيم.. هذا الدين العلمي الذي ارتقى بالإنسانية كلها.. وكان أساس قوانينه العلم.. هذا الدين الذي - للأسف - نحن أصحابه مازلنا نجهل الكثير من علميته.. وكلما اكتشف الغرب أمراً صفقنا بعد مئات السنين ونحن نصرخ.. "لكن الإسلام تطرق إلى ذلك".. الإسلام من كل الديانات تناول الحياة الجنسية بشيء من العلمية والتفصيل المذهل.. وحتى الأمور التي مازالت على طاولات النقاش الغربي تتأرجح بين نعم ولا.. نجد أن الإسلام ختم فيها الأمر منذ زمن.
حدثنا اليوم.. حديث حساس.. ومنعت مقالات كثيرة كتبتها بشأنه تحت شعار العيب على حساب المصلحة الإنسانية الصحية الدينية.. لكن بعقلية أكثر تقبّلاً.. ومن واقع مازال يفرض نفسه علينا.. نفتح هذا الملف الحساس مرة أخرى.
حين بدأ الإعلام يتحدث عن الإيدز.. مرض العصر.. كان التناول فيه شيء من الرمزية.. وعدم التفصيل مما أثار رعباً وتساؤلات كثيرة.. فالأحاديث كلها تؤكد أن المثلية أو معاشرة الرجل للرجل تكاد تكون السب الأول للإيدز وبصورة أكثر وضوحاً الممارسة الشرجية.. هي التي أعلن العلم أنها السبب..
في فترة وجيزة بعد هذا الإعلان العلمي انهالت عليّ مكالمات ورسائل تحمل رُعباً خارجاً من غرفة النوم الشرعية.. فكثير من الأزواج والزوجات من باب التنويع.. من باب التعوّد.. ومن مليون باب يصعب حصرها هنا يسعون للممارسة الخلفية.. وهكذا جاءتني التلفونات والرسائل التي تحمل همساً مُرعباً.. وقلقاً شديداً.. هل احتمال الإيدز وارد؟
رأي الدين واضح بهذا الخصوص.. يقول النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم: "ملعون من أتى امرأة في دبرها" ويقول صلّى الله عليه وسلّم أيضاً: "من أتى امرأة في دبرها لا ينظر الله إليه يوم القيامة".
والدين في الغالب يضع التحليل والتحريم ويترك للإنسان فرصة البحث عن السبب.
ولعل الرأي العلمي الصحي.. يمكننا أن نجد الرأي الشافي فيه عند الطبيب الباحث الأمريكي "أفينو".(14/22)
وهو طبيب اهتم بالممارسة الخلفية ووضع على عاتقه التحذير الشديد من ممارستها بين الرجال مع بعضهم أو بين النساء والرجال.
وفي معجم اهتمامه ورصده لحالات من عيادته وعيادات زملائه وجد أموراً كثيرة.. منها أن الضرر الأول يقع على الشخص الذي يقام عليه الفعل أي الطرف المستقبل، والذي يمثل "المخنث" في حالة رجل مع رجل.. والمرأة في حالة العلاقة بين رجل وامرأة.
ويتمثل أول الأذى بحدوث تمزقات تصل لحد الإدماء وذلك لأن فتحة الشرج خلقها بعضلات إرادية ولا إرادية.. ولكنها في الغالب تكون لا إرادية حيث تفتح نفسها في حالة الامتلاء لخروج الفائض.. فهي تفتح بإيعاز من الجهاز العصبي في حالة التخلص من الفضلات.. وفي حالة فتحها عنوة مثل الممارسة الجنسية تحدث نوعاً من المقاومة ولكنها تستسلم بعد حدوث تمزق.. ولعل ممارسة هذا الإجبار عليها يجعلها ترتخي فيما بعد.. كما أن الارتخاء يحدث بسبب أنها عضلات مخلوقة في الإنسان لتقوم بعملية الدفع للخارج وإدخال العضو فيها يجعل الدفع للداخل.. وهذا الفعل يجلب في المستقبل للمفعول به حالة التبرز اللاإرادي.. وهذا المرض موجود في كثيرات من بائعات الجنس اللاتي يقدمن هذه الخدمة.
بالإضافة إلى أن الله خلق جسم المرأة في المكان الطبيعي فيه ترطيب يحدث تلقائياً من المعاشرة.. مما يسهل العلاقة الجنسية الطبيعية، وهذا الترطيب مفتقد في الشرج.
ويرى الدكتور "أفينو" أن كثيراً من الأمراض الجنسية يكون سببها انتقال جراثيم الشرج إلى الأمام في المرأة نتيجة اقتراب المنطقتين ونتيجة تمادي البعض بتنويع أسلوب المعاشرة في ذات الوقت.. ولعل الأمر الأكثر مرارة أن الشرج منطقة داخلية ومعرضة للتلوث نتيجة البراز بسهولة وحدوث خدش يجعلها قابلة للالتهاب بالإضافة إلى أنها منطقة صعب تعقيمها وعلاجها.
ومن الأحوال التي تصيب ممارس الخلف بشكل عادي الإسهال والالتهابات والحساسية.(14/23)
أما الرجل الفاعل.. فهناك واقع الالتهاب الخارج الذي يحدث.. ولكن هناك مرضاً آخر قد يصيب الرجل نتيجة دخول الجراثيم من فتحة القذف.. والتي تؤدي إلى التمركز في القضيب وتُسبّب التهاباً شديداً قد يؤدي إلى العجز وملفات "أفينو" مليئة بذلك.
وناهيك عن الناحية الصحية.. هناك الناحية الجمالية.. فهذه الممارسة تقتل شاعرية العلاقة الخاصة بما فيها من ألم ووساخة ورائحة.. كثيرات يقلن إن هناك إحساساً متعباً مُضنياً غير مريح بعد ذلك. كثيرات بالفطرة يشعرن بالبهيمية وبالذنب ورعب الأمراض ولكنهن يمضين بذلك.
هذا هو الدين.. وهذا هو العلم.. ولعل لحظة رفض منطقي بعد نقاش ضرورة.. صحيح أن ما يحدث في غرفة النوم أمر شديد الخصوصية لكن يبقى هناك احتمال كبير.. لحظة فضيحة حين يكون هناك مرض.. لابد أن يعرفه الآخرون.
المصادر الإسلامية
الإقناع للحجاوي.
الأم للشافعي.
بدائع الصنائع للكاشاني.
بداية المجتهد لابن رشد.
تحفة الفقهاء للسمرقندي.
تفسير الطبري.
تفسير ابن كثير.
تفسير فتح القدير.
تفسير روح المعاني للألوسي.
تلخيص الحبير لابن حجر العسقلاني.
الجامع الصغير للسوطي.
جمع الجوامع للسيوطي.
الرسالة للشافعي.
روضة الطالبين للنووي.
سبل السلام للصنعاني.
سنن أبي داود.
سنن البيهقي.
سنن الدارقطني.
سنن الدارمي.
سنن ابن ماجه.
سنن النسائي.
صحيح البخاري.
صحيح مسلم.
صفوة الصفة لابن الجوزي.
فتح الباري لابن حجر.
فتح العزيز للرافعي.
كشف القناع للبهوتي.
منتخب مسند عبد بن حميد.
كنز العمال للهندي.
المبسوط للسرخسي.
مجمع الزوائد للهيثمي.
مختصر المزني.
المجموع للنووي.
المحلى لابن حزم.
المستدرك للحاكم النيسابوري.
المدونة الكبرى للإمام مالك.
مسند ابن الجعد.
مسند ابن راهويه.
مسند سعد بن أبي وقاص للدورقي.
مسند أبي داود الطيالسي.
مسند أحمد.
مسند أبي عوانة.
مسند أبي يعلى.
مسند الحميدي.
مصنف ابن أبي شيبة.
المغني لابن قدامة.
مغني المحتاج للشربيني.(14/24)
منهاج السنة لابن تيمية.
الموطأ لابن مالك.
نيل الأوطار للشوكاني.
وغير ذلك من المراجع المذكورة في الحواشي.
مصادر أخرى
إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، الحسن بن يوسف بن المطهر.
إرشاد السائل، الكلبايكاني.
إشارة السبق، علي بن الحسن الحلبي.
الإثنا عشرية، بهاء الدين العاملي.
الاستبصار فيما اختلف من أخبار، محمد بن الحسن الطوسي.
الاقتصاد، الطوسي.
الأقطاب الفقهية على مذهب الإمامية، لابن أبي جمهور الأحسائي.
الألفية والنقلية، محمد بن مكي العاملي.
الأمالي، الصدوق.
الإمامة والتبصرة، ابن بابويه القمي.
الانتصار، المرتضى.
الألفية والنقلية، الشهيد الأول.
الأقطاب الفقهية، ابن أبي الجمهور.
الأنوار النعمانية، نعمة الله الجزائري.
الأنوار الوضية في العقائد الرضوية، حسين العصفور.
بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي.
البيان، محمد بن جمال الدين مكي العاملي.
البيان في تفسير القرآن لأبي القاسم الخوئي.
تأويل الآيات الطاهرة، شرف الدين الحسيني.
التبيان في تفسير القرآن، محمد بن الحسن الطوسي.
تبصرة المتعلمين في أحكام الدين، الحسن بن يوسف المطهر.
تحف العقول، ابن شعبة الحراني.
تحرير الأحكام، الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر.
تذكرة الفقهاء، الحلي.
تفسير البرهان، هاشم البحراني.
تفسير الصافي، الكاشاني.
تفسير العياشي.
تفسير القمي.
تفسير الميزان، الطباطبائي.
تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، محمد بن الحسن الطوسي.
جامع المدارك شرح المختصر النافع، أحمد الخوانساري.
جامع المقاصد في شرح القواعد، علي بن الحسن الكركي.
جواهر الفقه، القاضي بن البراج.
جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، محمد بن حسن النجفي.
الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، يوسف البحراني.
الذكرى، الشهيد الأول.
الرسائل التسع، الحلي.
الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، زين الدين الجبعي العاملي.
علل الشرائع، محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي.(14/25)
عوائد الأيام، النراقي.
العروة الوثقى، محمد كاظم الطباطبائي اليزدي.
عيون أخبار الرضا، الصدوق.
غنائم الأيام في مسائل الحلال والحرام، أبو القاسم القمي.
غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع، حمزة بن علي بن زهرة الحلبي.
فقه ابن أبي عقيل العماني، مركز المعجم الفقهي.
فقه الصادق، محمد صادق الروحاني.
الفصول المختارة، محمد بن محمد بن النعمان بن المفيد.
الفصول المهمة في أصول الأئمة، محمد بن الحسن الحر العاملي.
الكافي، الكليني.
كتاب النكاح، الخوئي.
كشف الرموز شرح المختصر النافع، زين الدين أبي علي الحسن بن أبي طالب المعروف بالآبي.
اللمعة الدمشقية، الشهيد الأول.
مباني تكملة المنهاج، أبو القاسم الخوئي.
المبسوط في فقه الإمامية، محمد بن الحسن بن.
مثير الأحزان، ابن نما الحلي.
المجازات النبوية، الرضي.
مجمع الفائدة والبرهان، الأردبيلي.
محصل المطالب في تعليقات المكاسب، صادق الطهوري.
المختصر النافع في فقه الإمامية، جعفر الحلي.
مختصر الأحكام، محمد رضا الموسوي الكلبايكاني.
مختلف الشيعة، الحسن يوسف بن المطهر.
مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، محمد بن علي العاملي.
مستمسك العروة الوثقى، محسن الحكيم.
مسالك الإفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، زيد الدين بن علي العاملي.
مستدرك الوسائل، ومستنبط المسائل، حسين النوري الطبرسي.
مستند الشيعة في أحكام الشريعة، أحمد بن محمد مهدي النراقي.
مستمسك العروة، محسن الطباطبائي الحكيم.
مسند الإمام الرضا، تحقيق: عزيز الله العطاري.
مشارق الشموس، الخوانساري.
مشرق الشمسين، بهاء الدين العاملي.
المعتبر في الشرح المختصر، الحلي.
منتهى المطلب في تحقيق المذهب، الحلي.
من لا يحضره الفقيه.
منتهى الطلب، الحلي.
منهاج الصالحين وتكملته، الخوئي.
المهذب، عبد العزيز بن البراج الطرابلسي.
المهذب البارع في شرح المختصر النافع، أحمد بن محمد بن فهد الحلي.
نهاية الإحكام في معرفة الأحكام، الحلي.(14/26)
نهاية المرام، محمد العاملي.
الهداية، الصدوق.
الهداية، الكلبايكاني.
هداية العباد، لطف الله الصافي.
الوافي، الفيض الكاشاني.
وسائل الشيعة، الحر العاملي.
الوسيلة إلى نيل الفضيلة، أبي جعفر الطوسي المعروف بابن حمزة.
وغيرها من المصادر المذكورة في حواشي الكتاب.
انتهى الكتاب ولله الحمد.(14/27)
ما قاله الثقلان
في أولياء الرحمن
بقلم
عبد الله بن جوران الخضير
مراجعة
الشيخ: عبد الله عبد الرحمن الراشد
* حقوق الطبع محفوظة *
* الطبعة الأولى *
(1426هـ - 2005م)
* دار التميز للنشر والتوزيع *
الجمهورية اليمنية - صنعاء
(224459 - 009671)
((بسم الله الرحمن الرحيم))
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين.. وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة وهداية ونوراً للعالمين وعلى آل بيته مشاعل الهدى ومصابيح الدجى، وعلى أصحابه الأتقياء مبلغي وحي السماء، وعلى من تبع هداهم إلى يوم الدين...
أما بعد:
فمن نعمة الله السابغة ومنته البالغة أن أرسل إلينا رسولاً من أنفسنا، همه وغاية دعوته أن يزكينا ويخرجنا من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
وبعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى -عليه الصلاة والسلام- حمل لواء هذه الدعوة المباركة من بعده عصبة، جاءت على اختيار واصطفاء من الرحمن سبحانه وتعالى، فعلم ما في قلوبهم، وإلى ماذا تطمح نفوسهم، فأنزل عليهم رضوانه، ومنحهم سبحانه غفرانه.
وهذا الرضوان العظيم، والغفران العميم، لم يكونا ليحلان إلا عندما بان أمر هذه الجماعة الزكية النقية بأحوال وأقوال أدهشت المعادي قبل المحب، وكما قيل: (كل إناءٍ بالذي فيه ينضح). لكن مع كل ما بذلوه وأفنوا أنفسهم لأجله لكنه لم يرض لطائفة من الناس إما جهلا منها بحقيقة الصحابة، أو لقرب عهدهم بالإسلام كشفت ضحالة علمهم بالإسلام، وعدم رسوخ إيمانهم في دين الرحمن، فسعت على علم من فريق منها، وجهلا من فريق آخر اقتادته العواطف جهلا في المضي وراء أقوال باطلة مزخرفة، لتقويض أركان هذا الدين العظيم بالنخر في أساسه، والسعي إلى نسف غراسه، وذلك بالجري الحثيث في طريق موحش، ألا وهو: الطعن في نقلة هذا الدين، وهم (الصحابة) الأخيار، رضي الله عنهم أجمعين.(15/1)
وهذه الوريقات فيها بيان شافٍ -بإذن الله- وإظهار لمكانة أولئك النفر من رجال ونساء؛ لأن من أحب إنساناً أحب أحبابه وتقبلهم بقبول حسن، وأبغض أعداءهم ومبغضيهم، وهذه سنة ماضية في الخلق لا يحيد عنها أو يشط إلا الشواذ والحاقدون؛ لأننا والله نحبهم ونحب كل من أحبه النبي صلى الله عليه وسلم، ومات وهو راضٍ عنه؛ لأن ديننا قوامه وعمدة أساسه: الحب في الله لأوليائه، والبغض فيه سبحانه لأعدائه.
وإن كنت قد قصرت في توضيح هذا الجانب، فسبب ذلك أن الواضح المعروف لا يحتاج إلى التبيين، ويعسر على الأذهان القول فيه لتوضيحه، فالواضح لا تزيده التعريفات إلا غموضاً وتحيراً، وكما قيل: (وفسر الماء بعد الجهد بالماء). وهذا الجلاء إن كنت لم أستوف جوانبه فلن أعدم من محب ناصح يوجهني إلى الصواب، ويرشدني إلى أفضل المنطق والجواب، لترسخ القدم على طريق محبة النبي عليه الصلاة والسلام وآله الأطهار، وصحبه الأخيار، رضي الله عنهم وغفر لهم.
المدخل
اختلط على كثير من الناس التفريق بين مفهوم الصحبة في اللغة عن مفهومها في الاصطلاح لأسباب كثيرة، منها:
1- قلة فهمهم واطلاعهم في هذا الجانب.
2- عدم معرفتهم في تمييز ذلك؛ لأن بضاعتهم في اللغة العربية مزجاة وشحيحة.
لهذين السببين نجد أن أقدامهم قد زلت في فهم الصواب، فنسبوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأقوال والأفعال الباطلة، وافتروا عليهم الكثير من الاعتقادات الخطيرة كالنفاق والردة وغيرها، مستدلين على ذلك الزعم بما تشابه لهم من الآيات أو من القرائن والدلالات، من خلال فهم سقيم، ونظر عقيم، بأن التقطوا كلمات متناثرة في أحاديث صحيحة متواترة، ومن ثَمَّ تأويلها تأويلات باطلة، فيها الدلالة على ضحالة علمهم ورداءة فهمهم.(15/2)
ولعدم معرفتهم اللغة العربية، أو بالاستدلال على دعواهم بروايات ضعيفة أو موضوعة لم تثبت صحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم , فيتمسكون بها تمسك الغريق بحبال الوهم الباطلة، مما يستبين لمناقشهم عند الكلام معهم عدم درايتهم ودراستهم وإحاطتهم بعلم عظيم يعصم من زلل كبير، ألا وهو علم (مصطلح الحديث)، وعلم (معرفة أحوال الرجال).
لذا وجب قبل الشروع في بيان عدالة الصحابة، أن أبين جملة من الأمور المهمة من خلال التساؤلات الآتية:
- ما تعريف لفظ: (الصحابة)؟
- هل المنافقون من (الصحابة)؟
- هل المرتدون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يشملهم مسمى (الصحابي)؟
- ما أقوال آل البيت عليهم السلام فيهم؟
- لماذا حدث الشقاق والخلاف فيما بينهم إن كان الله سبحانه قد رضي عنهم؟
- ما الدليل على قُرب أو بُعد آل البيت عليهم السلام من الصحابة رضي الله عنهم ؟
تساؤلات وشبهات سنجد جوابها -بإذن الله- عند قراءتنا لهذه الصفحات التي تتناول على وجه الخصوص شهادة وأقوال الثقلين: (كتاب الله وآل البيت الطاهرين عليهم السلام) في عدالة ومكانة الصحابة رضوان الله عليهم ضمن المباحث الآتية:
المبحث الأول: تعريف لفظ الصحابي: لغة واصطلاحاً.
المبحث الثاني: ثناء الثقلين (كتاب الله والعترة) على الصحابة، وفق المطالب الآتية:
المطلب الأول: ثناء الثقلين على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثاني: ثناء الثقلين على الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم.
المطلب الثالث: ثناء الثقلين على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
المطلب الرابع: ثناء الثقلين على أهل بدر رضي الله عنهم.
المطلب الخامس: ثناء الثقلين على من أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده رضي الله عنهم.
المبحث الثالث: كيف ظهرت الفتن بين الصحابة رضي الله عنهم ؟ ومن هو أول من أشعلها؟
المبحث الرابع: المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين.
المبحث الخامس: الموقف الصحيح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(15/3)
المبحث السادس: الأسماء والمصاهرات بين الصحابة رضي الله عنهم والآل عليهم السلام.
المبحث السابع: شبهات وردود.
الخاتمة: وفيها مجموعة من الخواطر التي تجول في ذهن المسلم، من بعد سماعه لما يقذف به الصحابة من دعاوى وشبهات، ومن بعد تصفحه لهذه الرسالة يجدر الاستفسار حولها؛ لترتاح النفس من شجن يقلقها.
وفي النفس شجون وهموم تجاه هذا الموضوع، لتجدد وتكاثر الشبهات في كل وقت وزمن، وفي أماكن متعددة، لكن لعل ما ذكرته فيه البيان الناجع والرد الناجح لبعض التساؤلات وتفنيد الشبهات، وإزالة الغفلة التي رانت على قلوب بعض المسلمين، نوفق من بعدها بإذن الله إلى الصواب والحق الذي يرضاه الله سبحانه لنا.
المبحث الأول:
تعريف لفظ (الصحابة)
لزاماً علينا قبل أن نشرع في بيان الأدلة الدالة على عدالة الصحابة، أن نبين مفهوم كلمة (الصحابة)؛ لأن جلاء المعنى لهذه الكلمة، وبيان حدود إطلاقها، ومن يتصف بها، ومن هو المعني بهذه الكلمة المباركة - فيه التوفيق لما بعده من علم ودراسة.
وهذا البيان لا يكون إلا من جهتي اللغة والاصطلاح.
أولاً: تعريف لفظ (الصحابي) لغة:
الصحابي: نسبة إلى صاحب، وله معانٍ عدة تدور في جملتها حول الملازمة والانقياد(1).
وقبل بيان بعض استخدامات الصحبة في اللغة، ينبغي التنبه إلى أن بعض هذه الاستخدامات لا تندرج ضمن التعريفات الاصطلاحية، إذ هي وفق التعريف اللغوي غير مقيدة بقيود منضبطة وفق ما سنعرفه، لذا وجب أن أسوق جملة من معاني الصحبة اللغوية للاحتراز عند إطلاق هذه الكلمة، ومنها:
1- الصحبة المجازية: وهي التي تطلق على اثنين بينهما وصف مشترك، وقد يكون بينهما أمد بعيد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لإحدى زوجاته: (إنكن صواحب يوسف)(2).
2- الصحبة الإضافية: وهي التي تضاف للشيء لوجود متعلق به، كما يقال: (صاحب مال، صاحب علم... إلخ).
__________
(1) لسان العرب: (1/519).
(2) بحار الأنوار: (28/137).(15/4)
3- صحبة القائم بالمسئولية: وهذا كما في قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً)) [المدثر:31].
4- صحبة اللقيا: تطلق الصحبة على التلاقي الذي يقع بين اثنين، ولو لمرة واحدة لسبب ما، ثم ينقطع.
وهذا كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر...)(1) الحديث، فسمى المشتري (صاحباً) مع أن اللقيا وقعت مرة واحدة مع البائع حين يشتري منه السلع.
5- صحبة المجاورة: وهي التي تطلق على المؤمن والكافر والعكس، وهو مصداق ما جاء في قوله تعالى: ((قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً)) [الكهف:37].
وكما في قوله تعالى: ((فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)) [الكهف:34].
ويجوز أن تطلق الصحبة على من لا يعرف صاحبه ولم يلتق به يوماً، كما قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه للغلامين من الأنصار اللذين كانا يبحثان عن أبي جهل في غزوة بدر يريدان قتله بسبب سبه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: (هذا صاحبكما الذي تسألان عنه)(2).
ووفق ما سبق ذكره فاستخدام مدلول الصحبة اللغوية لا يعمم، إذ لو كان (الصحابي) يُعرّف بالصحبة اللغوية وفق الاستخدامات التي مرت، لكنّا نحن جميعاً في عداد الصحابة, ولكان اليهود والمنافقون والنصارى والمشركون الذين لقوا النبي صلى الله عليه وسلم كذلك من باب أولى، إذ لا يشترط في اللغة للفظ المصاحبة اللقاء المستمر أو الإيمان بالله والموت على ذلك.
تنبيه:
__________
(1) مستدرك الوسائل: (13/299).
(2) بحار الأنوار: (19/327).(15/5)
في قصة تطاول المنافق عبد الله بن أبي بن سلول على النبي صلى الله عليه وسلم، طلب عمر رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بضرب عنقه، فقال له: (دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)(1).
فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصحبة للمنافق في هذا الحديث، لكنه قصد الاستعمال اللغوي لا الاصطلاحي، وهذا من بلاغته صلى الله عليه وسلم وحكمته، ووفق ما تعارف عليه العرب في لغتهم، ولم يكن هناك من محذور في فهم الإطلاق اللغوي، وذلك لأمرين:
الأول: أن الإطلاق اللغوي لا يقصد منه التفريق بين الإيمان والنفاق؛ لأنه ليس له ضابط.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن سبب منع عمر رضي الله عنه عن قتله للمنافق: (حتى لا يتحدث الناس)، والناس المشار إليهم هنا هم فئة مقابلة للصحابة؛ لأن القرآن حينما خاطب أهل الإيمان كان يخاطبهم بقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) [البقرة:153] وحينما كان يوجه الكلام للكفار أو لعموم الناس مؤمنهم وكافرهم كان خطابه: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) [البقرة:21].
__________
(1) شرح أصول الكافي/ مولى محمد سالم المازندراني: (12/487). وانظر: الصحيح من السيرة/ السيد جعفر مرتضى: (6/163).(15/6)
ومن المعلوم بداهة أن الكفار هم أكثر الناس عداوة وحرصاً على الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، ولذلك حينما يقتل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول، فلن يقول الكفار بأنه قد قتل منافقاً يستحق القتل، بل سيقال: (إن محمداً يقتل أصحابه)، وسينتشر الخبر بين العرب ويتحقق ما يرمي إليه الكفار، وهو صد الناس عن قبول هذه الدعوة والالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هذا التحديد اللغوي في فهم معنى الصحابي عسيراً أو مشكلاً عند الكفار أو المنافقين، فضلاً عن سائر المسلمين الأوائل؛ لأنهم كانوا أهل اللغة وفرسانها والبارعين في دروبها وميادينها، فمن اقتدى بفهمهم وسار على دربهم، وفقه الله لفهم سديد ورأي رشيد لكثير من المعضلات والمبهمات.
ثانياً: تعريف الصحابي اصطلاحاً:
تعددت العبارات الموضحة لتعريف الصحابي اصطلاحاً، وكان من أدقها وأوضحها وأشملها بياناً هو: (من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام).
قال الشهيد الثاني(1): (الصحابي: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام، وإن تخللت ردته بين لقيّه مؤمنا به، وبين موته مسلماً على الأظهر، والمراد باللقاء ما هو أعم من المجالسة والمماشاة ووصول أحدهما إلى الآخر, وإن لم يكالمه ولم يره)(2).
ولتوضيح التعريف السابق أقول:
* (من لقي النبي صلى الله عليه وسلم) أي: في حياته، سواء نظر إليه، أو من لم يستطع النظر إليه كعبد الله بن أم مكتوم؛ فإنه كان أعمى ولقي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره.
وأما من أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ورآه قبل دفنه فلا يعد صحابياً.
__________
(1) العلامة/ زين الدين بن نور الدين العاملي الجبعي (ت:965هـ).
(2) الرعاية: (ص:339).(15/7)
* (مؤمناً به) أي: يشترط الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، فمن لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الكفر من أهل الكتاب والمنافقين وغيرهم، سواء أسلم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أو لم يسلم فلا صحبة له.
* (مات على الإسلام) أي: أن من مات على الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقال عنه: إنه صحابي، ولا كرامة له.
الخلاصة:
مما سبق يتضح لنا جلياً أهمية التعامل مع اللغة والاصطلاح في بيان المصطلحات الشرعية وفق فهم العلماء المتخصصين، بعيداً عن التفسير بالرأي أو الهوى، ولأهمية هذا الجانب المؤسس للفهم الصحيح لما سيأتي أحببت أن أبينه كمدخل في المسألة، وذلك قبل الولوج في صلب الموضوع، وهو ثناء الثقلين (القرآن والعترة) على أولياء الرحمن (الصحابة رضي الله عنهم).
المبحث الثاني:
ثناء الثقلين على الصحابة رضي الله عنهم
يجب على كل مسلم أن يعتقد علو مكانة أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم أفضل الأمم، وأن خير قرون الإسلام قرنهم، وذلك لسبقهم للإسلام، وشرف اختصاصهم بصحبة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، والجهاد معه، وتحمل الشريعة عنه، وتبليغها لمن بعده صلى الله عليه وسلم.
وأن يعتقد المسلم كذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا على درجة واحدة في الفضل والمرتبة، بل تتفاوت مرتبتهم في الفضل بحسب سبقهم إلى الإسلام والجهاد والهجرة، وبحسب ما قاموا به رضي الله عنهم من أعمال تجاه نبيهم ودينهم.
فالمسلمون يقدمون المهاجرين على الأنصار، ويقدمون أهل بدر على أهل بيعة الرضوان، ويقدمون من أسلم قبل الفتح وقاتل على غيرهم، وفق ما جاء ذكره وتفصيله عن الثقلين (كتاب الله والعترة الطاهرة عليهم السلام)، اللذين أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بحبهم.(15/8)
وقد شهد الثقلان على عدالة الصحابة من بعد رضا الله عنهم، واستفاضت الروايات الدالة على الثناء عليهم؛ لجميل أفعالهم وكريم أقوالهم.
وذكر هذا الثناء لمن حازه هو محور البيان في هذا البحث، وفق المطالب الآتية:
المطلب الأول: ثناء الثقلين (القرآن والعترة عليهم السلام) على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثاني: ثناء الثقلين على الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم.
المطلب الثالث: ثناء الثقلين على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
المطلب الرابع: ثناء الثقلين على أهل بدر رضي الله عنهم.
المطلب الخامس: ثناء الثقلين على من أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده رضي الله عنهم.
المطلب الأول: ثناء الثقلين على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
المسلم العاقل يقرأ القرآن الكريم، ويتمعن في آياته، حيث إن الآيات الكريمة قد استفاضت في ذكر فضائل ومناقب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف اختارهم الله واصطفاهم وعدلهم وزكاهم ووصفهم بأوصاف القبول.
* الثناء على الصحابة رضي الله عنهم في كتاب الله:
قال تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29].
قال الشيخ محمد باقر الناصري:(15/9)
((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)) أي: يطلبون بذلك مزيد نعم الله عليهم ورضوانه عنهم، ((سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)) علامتهم يوم القيامة أن تكون مواضع سجودهم أشد بياضاً، ((ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ)) يعني: أن ما ذكر من وصفهم هو عين ما وصفوا به في التوراة، وكذلك ((فِي الإِنْجِيلِ)) أي: فراخه... ((فَآزَرَهُ)) فاشتد وأعانه فغلظ ذلك الزرع فقام على ساقه وأصوله حتى بلغ الغاية، قال الواحدي: هذا المثل ضربه الله تعالى بمحمد وأصحابه، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم، والشطأ أصحابه والمؤمنون حوله، وكانوا في ضعف وقلة كما يكون أول الزرع ثم قوى بعضهم بعضاً، ((لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ)) أي: في ذلك غيظ الكفار بكثرة المؤمنين واتفاقهم على الطاعة(1).
وقال تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)) [التوبة:100].
قال الشيخ أمين ا لدين أبو علي الطبرسي:
هم الذين صلوا إلى القبلتين، وقيل: الذين شهدوا بدراً، ومن (الأنصار): أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا اثني عشر رجلاً، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين رجلاً، والذين حين قدم عليهم مصعب بن عمير فعلمهم القرآن(2).
تنبيه:
__________
(1) تفسير مختصر مجمع البيان، وانظر: جامع الجوامع، من وحي القرآن (سورة الفتح:29).
(2) تفسير جامع الجوامع, وانظر: تفسير من وحي القرآن، العياشي (سورة التوبة:100).(15/10)
حاولت طائفة من أهل الفتن والأهواء إبعاد تلك الآية عن تأويلها الصريح الواضح بالثناء على الصحابة، وقالوا بأن تلك الآيات لا تفيد الثناء على عموم الصحابة؛ لأن الله قال في نهاية الآية الأولى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29]، وقال تعالى في الآية الثانية: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) [التوبة:100].
فلفظ: (منهم) و(من) في الآيتين، يعني: من بعضهم، وليس جميع الصحابة.
ولبيان ذلك اللبس في الفهم، نبين الأمور الآتية:
أولاً: أن الله تبارك وتعالى بيَّن في كتابه آيات محكمات -أي: صريحة- لا تأويل فيها، ومن حاول أن يعبث في بتأويلها فسينفضح أمره، وينكشف تخبطه.
ومنها آيات متشابهة, أي: فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم. فالأصل في ذلك رد المتشابه إلى المحكم، فمن فعل ذلك اهتدى، ومن عكس انعكس.
ثانياً: أن كلمة (منهم) في قوله تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29] وكلمة (من) في قوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) [التوبة:100] ليست للتبعيض كما يتوهم البعض، وإنما تأتي في القرآن الكريم على معنيين:
المعنى الأول: أن (من) بمعنى: من جنسهم، ومن أمثالهم.
وهذا كما في قوله تعالى: ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)) [الحج:30].(15/11)
ولا يستقيم في المعنى أن الله تبارك وتعالى أمرنا أن اجتناب بعض الأوثان، وترك بعضها فلا نجتنبه، بل أمرنا أن نجتنب جميع الأوثان في قوله: ((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)) [الحج:30] أي: فاجتنبوا الرجس من جنس وأمثال هذه الأوثان.
المعنى الثاني: أن لفظ (من) تأتي للتأكيد.
وهذا كما في قوله تعالى: ((وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً)) [الإسراء:82]فهل هناك مسلم عاقل يفهم أن معنى الآية هو أن بعض القرآن شفاء ورحمة، وبعضه ليس كذلك؟
لكن يفهم المسلم أن القرآن كله شفاء ورحمة، وأن الله تبارك وتعالى أكّد في الآية الكريمة السابقة أن القرآن كله شفاء ورحمة.
ثالثاً: أن سياق الآية الأولى فيه مدح وثناء على جميع الصحابة، وليس فيه ذم لبعضهم، قال الله عز وجل: ((أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً)) [الفتح:29] فزكى الله تبارك وتعالى ظاهرهم بالسجود والركوع والذل له، وزكى باطنهم أيضاً في قوله: ((يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)) [الفتح:29].
بل إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يذم أقواماً فإنه يبين ظاهرهم وباطنهم، كما قال تعالى عن المنافقين: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً)) [النساء:142].
فبذلك يتبين لنا أن قوله تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29]، وقوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) [التوبة:100] أي: من جنسهم، أو للتأكيد على حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.(15/12)