ومنها ان عمر منع من متعة النساء ومتعة الحج ، مع أن كلتا المتعتين كانتا في زمنه ، فنسخ حكم الله تعالى وحرم ما أحله سبحانه ، بدليل ما ثبت عند أهل السنة من قوله (( متعتان كانتا على عهد رسول الله وانا أنهي عنهما )) . والجواب أن أصح الكتب عند أهل السنة الصحاح الست ، وأصحها البخاري ومسلم ، وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع ( 5)
---------------------------
( 1 ) أنظر ص 208 – 209 .
( 2 ) أنظر ص 209 – 210 .
( 3 ) أنظر ص 224 ( في الرهن والوديعة ) وص 225 ( في العارية والإجازة والهبة ) وص 226 ( في الوقف ) إلخ .
( 4 ) أنظر بحث المتعة وما يترتب عليها في ص 227 – 320 .
( 5 ) في باب المتعة من كتاب النكاح في صحيح مسلم ( ك 16 ح 18 ) عن إياس بن سلمه ابن الأكوع عن أبيه قال : رخص رسول الله عام أو طاس في المتعة ثلاثاً ، ثم نهى عنها .
وسبرة بن معبد الجهني ( 1 ) أنه قد حرم هو المتعة بعد ما كان أحلها ورخصها لهم ثلاثة أيام ، وجعل تحريمها إذ حرمها مؤبداً إلى يوم القيامة . ومثل هذه الرواية في الصحاح الآخر ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من كتب أهل السنة رواية الأئمة عن الأمير بتحريمها ، فإن ادعت الشيعة ان ذلك كان في غزوة خيبر ثم أحلت في غزوة الأوطاس فمردود ، لأن غزوة جيبر كانت مبدأ تحريم لحوم الحمر الأهلية لا متعة النساء ، فقد روى جمع من أهل السنة عن عبد الله والحسن ابني محمد ابن الحنفية عن أبيهما عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال : (( امرني رسول الله أن أنادي بتحريم المتعة )) فقد علم ان تحريم المتعة كان في عهد رسول الله مرة أو مرتين ، فالذى بلغه النهي أمتنع عنها ومن لا فلا ، ولما شاع في عهد عمر أرتكابها أظهر حرمتها واشاعها وهدد من كان يرتكبها . وآيات الكتاب شاهدة على حرمتها وقد سبق ذلك في المسائل الفقيه ( 2 ) فنذكر فما في العهد من قدم .(7/121)
والجواب عن متعة الحج – اعنى تادية أركان العمرة مع الحج في سفر واحد في أشهر الحج قبل الرجوع إلى بيته – ان عمر لم يمنعها قط ، ورواية التحريم عنه افتراء صريح . نعم إنه كان برى إفراد الحج والعمرة أولى من جمعها في إحرام واحد وهو القران ، أو في سفر واحد وهو التمتع ، وعليه الإمام الشافعي وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه ، وغيرهم لقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله – إلى قوله – فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية ، فأوجب سبحانه الهدى على المتمتع لا على المفرد جبراً لما فيه من النقصان ، كما أوجبه تعالى في الحج إذا حصل فيه قصور ونقص ، لأنه حج في حجة الوداع منفرداً واعتمر في عمرة القضاء وعمرة جعرانة كذلك ولم يحج فيها بل رجع إلى المدينة مع وجود المهلة . وأما ما رووا من قول عمر
(( وأنا أنهي عنهما )) فمعناه أن الفسقة وعوام الناس لا يبالون بنهي الكتاب وهو قوله تعالى ( 3 )
-----------------------------
( 1 ) في ذلك الباب من صحيح مسلم ( ح 19 ) عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه ابن معبد أنه قال : أذن لنا رسول الله بالمتعة .. ثم إن رسول الله قال : (( من كان عنده شئ من هذه النساء التى يتمتع فليخل سبيلها )) . وبعده ( ح 21 ) عن الربيع ابن سبره الجهني أن كان مع رسول الله فقال : (( يا أيها الناس ، إني قد اذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شئ فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً )) . والآحاديث في تحريم المتعة متعددة ، وهي من أصح الأحاديث عن رسول الله .
( 2 ) ص 227 – 230 .
( 3 ) أى في النهي عن المتعة بالنساء .(7/122)
فمن أبتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون وقوله تعالى ( 1 ) وأتموا الحج والعمرة لله إلا أن يحكم عليهم الحاكم والسلطان ويجبرهم على مراعاة ما أمروا به وما نهوا عنه فلذلك أضاف النهي إلى نفسه ، فقد تبين لك ولله تعالى الحمد زيف أقوالهم وظهر لك مزيد ضلالهم ، والحق يعلو وكلمة الصدق تسمو .
المطاعن الثالثة في حق ذى النورين وثالث العمرين .
فمنها ان عثمان ولى وأمر من صدر منه الظلم والخيانة وارتكاب الأمور الشنيعة كالوليد ابن عقبة( 2 ) الذي شرب الخمر وأم الناس في الصلاة وهو سكران وصلى الصبح أربع ركعات ثم قال : هل ازيدكم ( 3 ) ؟ وولي معاوية الشام التى هي عبارة عن أربع ممالك فتقوى حتى انه نازع الأمير وبغي عليه في ايام خلافته ( 4 ) . وولى عبد الله بن سعد مصر فظلم أهلها ظلماً شديداً حتى اضطرهم إلى الهجرة إلى المدينة وخرجوا عليه . وجعل مروان وزيره وكاتبه فمكر في حق محمد بن أبي بكر وكتب مكان اقبلوه أقتلوه ( 5 ) . ولم يعزلهم بعد الاطلاع على أحوالهم حتى تضجرت الناس منه فآل أمره إلى أن قتل ، ومن كان في هذا حاله فهو غير لائق بالإمامة . والجواب أن الإمام لابد له ان يفوض بعض الأمور إلى من يراه لائقاً لما هنالك بحسب الظاهر إذ ليس له علم الغيب ، فإنه ليس بشرط في الإمامة عند أهل الحق . وقد كان عماله ظاهراً مطيعين له منقادين لأوامره . وقد ثبت في التاريخ أنهم خدموا الإسلام وشيدوا الدين ، فقد فتحوا بلاداً كثيرة حتى وصلوا غرباً إلى الأندلس وشرقاً إلى بلخ وكابل وقاتلوا براً وبحراً ، وأستأصلوا أرباب الفتن والفساد من عراق العجم وخراسان ، وقد عزل بعض من تحقق لديه بعد ذلك سوء حاله كما عزل
----------------------------
( 1 ) أى في متعة الحج .(7/123)
( 2 ) الوليد بن عقبة أخو أمير المؤمنين عثمان لأمه ، أمهما أروى بنت كريز ، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم ، عمه النبي وتوأمة ابيه . أدرك خلافة الصديق الأكبر في اول شبابه وكان محل ثقته ، وموضع السر في الرسائل الحربية التى دارت بين الخليفة وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار مع الفرس سنة 12 . ثم وجهه مدداً إلى قائده عياض بن غنم الفهرى ( الطبري 4 : 22 ) . وفي سنة 13 كان الوليد بلي لأبي بكر صدقات قضاعة ، ثم لما عزم الصديق على فتح الشام كان الوليد عنده بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة فكتب إليه وإلى عمرو يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد فسار عمرو بلواء الإسلام نحو فلسطين وسار الوليد إلى شرق الأردن ( الطبري 4 : 29 – 30 ) . ثم رأينا الوليد سنة 151 أميراً لعمر بن الخطاب على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة يحمى ظهور المجاهدين في شمال الشام لئلا يؤتوا من خلفهم . وكان الوليد أول ناشر لدعوة الإسلام بين نصارى تغلب وبقايا إياد بحماسة وغيرة لا مثيل لها . وبهذه الثقة الكبرى التى نالها الوليد من أبي بكر وعمر ولاه عثمان ولاية الكوفة ، وكان من خير ولاتها عدلاً ورفقاً وإحساناً ، وكانت جيوشه مدة ولايته على الكوفة تسير في آفاق الشرق فاتحة ظافرة موفقة . وأنظر في تاريخ الطبري ( 5 : 60 ) شهادة الإمام الشعبي له في إمارته وفي جهاده وجزيل إحسانه إلى الناس .
( 3 ) لاتهام الوليد بالشرب حكاية سنشير إليها فيا بعد .
( 4 ) قال ابن تيميه في منهاج السنة ( 2 : 219 ) لم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء .
( 5 ) هذا الكتاب زوره الأشتر وحكيم بن جبله . أنظر ( العواصم ) ص 109 – 110 .(7/124)
الوليد ( 1 ) . ومعاوية لم يبلغ في زمنه حتى يستحق العزل ، بل قد أجرى خدمات كثيرة ، كما غزا الروم وفتح منها بلاداً متعددة ( 2 ) . وأما الشكايات التى وقعت على عبدالله بن سعد فمن تزوير عبدالله ابن سبأ وتسويلاته ( 3 ) . وبالجملة لم يكن لعثمان صقور مما هنالك ، وحالة مع عماله كحال الأمير مع عمله ، إلا أن عمال عثمان كانوا منقادين لأوامره ومطيعين له ، بخلاف عمال الأمير ومن راجع ما سلف منا من خطب الأمير في حق أتباعه وجنده وأشياعه تبين له صدق هذا الكلام ، وأن لا عتب على ذى النورين في ذلك ولا ملام . وقد كتب الأمير كرم الله تعالى وجهه إلى المنذر الجارود العبدى (( أما بعد فصلاح أبيك غرني وظننت انك تتبع هداه وتسلك سبيله ، فإذا أنت – فيما نما إلى عنك – لا تدع لهواك أنقياداً ، ولا تبقى لآخرتك عتاداً . تغمر دنياك بخراب آخرتك ، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك )) إلى آخر ما قال . ومثل هذا كثير في ذلك الكتاب . فكما أن الأمير لا يلحقه طعن بسبب ما وقع من عماله ، كذلك عثمان . وإلا فما الفرق ؟ والله سبحانه الموفق للهداية وبه نستعيذ من الضلالة والغواية .
ومنها ان عثمان أدخل الحكم ( أبا مروان ) بن العاص المدينة وقد أخرجه رسول الله . والجواب أن الرسول إنما أخرجه لحبه المنافقين وتهيجه الفتن بين المسلمين ومعاونته الكفار ( 4 ) ، ولما زال الكفر والنفاق بعد وفاته وقوى الإسلام في خلافة الشيخين لم يبق محذور من إرجاعه إليها . وقد سبق مما هو مقرر عند الفريقين أن (( الحكم إذا علل بعلو ثم زالت
-------------------------(7/125)
( 1 ) مما لا ريب فيه أن الوليد بن عقبة كان في ولايته على الكوفة الحاكم العادل الرحيم المحسن إلى الناس جميعاً . وكانت الكوفة منزل جهاد للفيالق التى يسيرها الوليد ابن عقبة إلى سواحل بحر الخزر وبلاد روسيا الآن . وأتفق ذات ليلة أن سطا بعض الأشرار على منزل رجل في الكوفة اسمه ابن الحيسمان فقتلوه . وكان في جوار المنزل صحابي مجاهد هو أبو شريح الخزاعي حامل راية رسول الله على جيش خزاعة يوم فتح مكة ، جاء إل الكوفة هو أبنه ليلحقا بكتائب الجهاد ، واتفق نزوله في جوار بيت ابن الجيسمان فلما سطا الأشرار على ابن الحيسمان ليلاً رآهم أبو شريح الخزاعي وابنه وشهدا عليهم أمام الوليد بن عقبة فحكم عليهم الوليد بن عقبة بإقامة الحد الشرعي . إن الشاهدين اللذين شهدا على الوليد بن عقبة بشرب الخمر ها ابوان لأثنين من الأشرار الذين سطوا على ابن الحيسمان ، وقد حنقا على الوليد لإقامة الجد الشرعي عليهما ، وشهدا عليه عند عثمان زوراً وكذباً ، فقال أمير المؤمنين عثمان لواليه الوليد عقبة (( تقيم الحدود ، ويبوء شاهد الزور بالنار )) . وفي تعليقات كتاب ( العواصم من القواصم ) ص 94 – 99 بيان لحقيقة هذه الشهادة نقلاً عن المصادر الإسلامية المحترمة . فارجع إليها لتعلم أن الوليد بن عقبة رضوان الله عليه من خيرة رجال الدولة الإسلامية الأولى ، أنه كان موضع ثقة أبي بكر وعمر فضلاً عن عثمان رضوان الله عليه ، وان أياديه على الإسلام جعلته في طليعة المجاهدين العادلين الناصحين .
( 2 ) أنظر في هامش ص 123 – 124 الكلمة المأثورة في زمن الدولة العباسية عن الإمام سليمان بن مهران الأعمش في تفضيله معاوية على عمر بن عبدالعزيز حتى في عدله ، وقول قتاده وهو من أعلام الإسلام (( لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم : هذا المهدي )) .(7/126)
( 3 ) في حوادث سنة 27 من تاريخ الطبري ( 5 : 49 ) أن عثمان لما أمر عبدالله ابن سعد بن أبي سرح بالزحف من مصر على تونس لفتحها قال له (( إن فتح الله غداً عليك إفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا )) فخرج بجيشه حتى قطعوا أرض مصر وأوغلوا في أرض إفريقية وفتحوها سهلها وجبلها ، وقسم عبدالله بن سعد على الجند ما أفاء الله عليهم وأخذ الخمس الخمس وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع وثيمة النصري . فشكا وفد ممن كان مع وثيمة ما أخذه عبدالله بن سعد ، فقال لهم عثمان : أنا أمرت له بذلك ، فإن سخطتم فهو رد ، قالوا : إنا نسخطه ، فامر عثمان عبدالله بن سعد بأن يرده ، فرده ورجع عبدالله بن سعد إلى مصر وقد فتح وليس في يده شئ مما أفتروا عليه .
( 4 ) أى قبل الهجرة والفتح .
زال )) ( 1 ) وعدم إرجاع الشيخين إياه لما حصل عندهما من ظن بقائه على ما كان عليه في زمن الرسول ، وقد أرتفع ذلك عن عثمان زمن خلافته لأن الحكم كان ابن أخيه ، على ان عثمان قال اعترضوا عليه بذلك : إني كنت أخذت الإذن من رسول الله في مرض موته على دخول الحكم المدينة وعدم قبول ابي بكر ذلك منى لطلبه شاهداً آخر على إذنه له بالدخول المدينة . وكذلك عمر . ولما ادت النوبة إلى عملت بما علمت . وأيضاً قد ثبت أن الحكم قد تاب في آخر عمره من النفاق ومما كان يفعله من التزوير والاختلاق ، والله تعالى الهادي إلى طريق السداد ، ومنه التوفيق والرشاد .(7/127)
ومنها أن عثمان وهب لأهل بيته واقاربه كثيراً من المال ، وصرف من بيت المال مصارف كثيرة في غير محلها مما يدل على إسرافه ، كما اعطى الحكم مائة ألف درهم وأعطى كروان خمس إفريقية ( 2 ) وخالد بن اسيد بن العاص ثلاث مائة ألف درهم وذلك لما جاء من مكة ، إلى غير ذلك من الإسراف الوافر والبذل المتكاثر ، ومن كان بهذه الأحوال كيف يستحق الإمامة من بين الرجال . والجواب – على فرض التسليم – ان عثمان بذل ذلك من كيسه لا من بيت المال ، فإنه كان من المتمولين قبل ان يكون خليفة ، ومن راجع كتب السير أقر بهذا الأمر ، فقد كان يعتق في كل جمعة رقبة ، ويضيف المهاجرين والأنصار ، ويطعمهم في كل يوم ، قد روى عن الإمام الحسن البصري ( 3 ) أنه قال : إنى شهدت منادى عثمان ينادى (( يا أيها الناس اغدوا على أعطياتكم )) فيغدون فيأخذونها وافرة (( يا ايها الناس أغدوا على رزقكم )) فيغدون
-------------------------(7/128)
( 1 ) قال شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج لسنة ( 3 : 196 ) : قصة نفي النبي للحكم ليست في الصحاح ، ولا لها في إسناد يعرف به أمرها . ثم قال (( لم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة فإن كان طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة . وقد طعن كثير من اهل العلم في نفيه وقالوا : هو ذهب باختياره . وإذا كان النبي عزر رجلاً بالنفي لم يلزم أن يبقى منفياً طوال الزمان ، فإن هذا لا يعرف في شئ من الذنوب ، ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفياً دائماً )) إلى أن قال : (( وقصة الحكم فإنما ذكرت مرسلة ، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه ، فلم يكن هناك نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان ، والمعلوم من فضائل عثمان ، ومحبة النبي له وثنائه عليه ، وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة ، وإرساله إلى مكة ( أى في حادث الحديبية ) ومبايعته له عنه ( أى بيعة الرضوان ) ، وتقديم الصحابة له في الخلافة ، وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله مات وهو عنه راض ، وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه . فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ، ويجعل لعثمان ذنب لا تعرف حقيقته … إلخ )) وأنظر أيضاً ( 3 : 235 – 236 ) من منهاج السنة . وتحقيق الإمام ابن حزم في كتاب الفصل ( 4 : 154 ) ، وما نقله مجتهد اليمن محمد بن إبراهيم الوزير في كتابه ( الروض الباسم ، في الزب عن سنة ابي القاسم ) 1 : 141 – 142 عن الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي المتشيع ان رسول الله أذن لعثمان في رد الحكم . وترى تفصيل ذلك في ( العواصم من القواصم ) ص 77 – 79 للقاضي أبي بكر بن العربي والتعليقات عليه .(7/129)
( 2 ) هو خمس الخمس لا الخمس ، وقد أعطاه لعبد الله بن سعد فاتح إفريقية لا لمروان وقد علمت مما نفلناه آنفاً عن الطبري أنه استرجعه من عبد الله بن سعد .
( 3 ) أنظر التعليق على كتاب ( العواصم من القواصم ) ص 54 .
فيأخذونها وافية حتى واله لقد سمعته أذناى يقول (( أغدوا على كسوتكم )) فيأخذون الحلل . ومن راجع كتب التواريخ علم درجة ، ولم يقل عن احد أن الإنقاق في سبيل الله تعالى موجب للطعن ( 1 ) والله تعالى الهادي .
ومنها ان عثمان قد عزل في خلافته جمعاً من الصحابة عن مناصبهم كما عزل ابا موسى الأشعري عن البصرة ( 2 ) ونصب مكانه عبدالله بن عامر ، وعزل عمرو بن العاص عن مصر ونصب مكانه عبدالله بن سعد ( 3 ) مع أنه قد أرتد في عهد الرسول ولحق بمشركي مكة وأباح دمه يوم الفتح حتى تكفله عثمان فأسلم ( 4 ) وعزل عمار بن ياسر عن الكوفة وعبدالله بن مسعود عن قضائها . والجواب أن عزل العمال ونصبهم من وظيفة الخلفاء والأئمة ، ولا يلزمهم إبقاء العمال السابقين على حالهم . نعم لا ينبغي العزل من غير سبب وعزل هؤلاء كان لسبب ، وقد فصل ذلك في كتب التواريخ فراجعها .
ومنها أن عثمان درأ القصاص عن عبيد الله بن عمر وقد قتل الهرمزان ملك الأهواز الذى اسلم في زمن عمر بعد ان اتهمه في مشاركة من قتل عمر ( 5 ) ، مع أن القاتل كان ابا لؤلؤة فقط
-------------------------(7/130)
( 1 ) قال الطبري في تاريخه ( 5 : 103 ) : كان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية ، وجعل ولده كبعض من يعطي ، فبدأ ببني أبى العاص فاعطي آل الحكم رجالهم عشرة آلاف عشرة آلاف ، فأخذوا مائة ألف ، وأعطى بني عثمان مثل ذلك ، وقسم في بني العاص وبني العيص وفي بني حرب . وقد أشار عثمان إلى ذلك في خطبته المشهورة على منبر رسول الله رداً على زعماء الفتنة والبغاة عليه فقال : (( وقالوا إنى أحب أهل بيتي وأعطيهم ، فأما حبي لهم فإنه لم يمل معهم على جور ، بل أحمل الحقوق عليهم . وأما إعطاؤهم فإني إنما أعطيهم من مالي ، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس . وقد كنت اعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله وأبي بكر وعمر ، وأنا يومئذ شحيح حريص ، أفحين أتت على اسنان أهل بيتي وفنى عمرى وودعت الذى لى في أهلي قال الملحدون ما قالوا ؟ )) . نعم إن عثمان يود ذوى قرابته ، ومودته لهم من فضائله ، وهم لذلك أهل ورسول الله ما أستعان برجال من عشيرة ولا ولى عدداً من فريق بقدر ما أستعان برجال بني أمية وولى أموره لرجالهم . وحتى بلدة مكة ولاها لفتى من فتيانهم ، وكان هو وكان بقية هؤلاء الرجال الأماجد عند حسن ظنه بهم ، وكذلك كانوا مدة ابي بكر وعمر وعثمان وفي كل زمان ومكان إلا النادر منهم ، وما هم بمعصومين . وهذا الخلق الكريم في مودة عثمان لذوى رحمه أثني عليه به علي فقال (( إن عثمان أوصل الصحابة للرحم )) وعلي أعرف الناس بابن عمه عثمان وكان عثمان وعلي في زمن النبي شديدي الصلة والمحبة فيما بينهما ، وكان الناس يحملون ذلك على أنهما من بني عبد مناف .(7/131)
( 2 ) وفي اول مجئ على العراق في خلافته كان أبو موسى الأشعري والياً على الكوفة وكان على منبر الكوفة يخطب الناس في فضائل البعد عن الفتنة وما أوصى به النبي عند وقوعها . فتركه الشتر يتكلم على المنبر بأحاديث رسول الله وذهب إلى دار الإمارة فأحتلها ومنع من دخولها ، وبذلك صار أبو موسى معزولاً يومئذ .
( 3 ) الآن صار الشيعة ينتصرون لعمر بن العاص ويتوجهون له ، فيا سبحان الله !
( 4 ) والإسلام يجب ما قبله . وصار مجاهداً فاتحاً وله مثل ثواب كل من أسلم على يده من سكان شمال إغريقية .
( 5 ) قال القاضي أبو بكر بن العربي في ( العواصم من القواصم ) ص 107 : كان ذلك والصحابة متوافرون والآمر في اوله وقد قيل : إن الهرمزان سعى في قتل عمر وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه . وفي تاريخ الطبري ( 5 : 42 ) شهادة عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق على الهرمزان مروية عن سعيد بن المسيب . وقال شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج السنة ( 3 : 200 ) : وقد قال عبدالله بن عباس لما طعن عمر – وقال له عمر : كنت أنت وابوك تحبان ان تكثر العلوج بالمدينة – فقال ابن عباس : إن شئت نقتلهم . قال ابن تيمية : فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقاً الذين كانوا في المدينة . لما أتهموهم بالفساد ، اعتقدوا جواز مثل هذا . وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في الأرض المحاربين فيجب أنه يقتل عمر بن الخطاب ، فإنهم يعيدون لمقتل عمر ويسمون قاتله وهو أبو لؤلؤة ( بابا شجاع الدين ) ===(7/132)
وقد قتل ايضاً جفينة النصراني لأتهامه بذلك وقد أجتمع الصحابة عليه ليقتص من عبيد فلم يوافقوهم وأدى ديتهم عنه فخالف حكم الله فليس يليق للإمامة . والجواب أن القصاص لم يثبت في تلك الصور ، لأن ورثة الهرمزان لم يكونوا في المدينة بل كانوا في فارس ، ولما أرسل عليهم عثمان لم يحضروا المدينة خوفاً كما ذكر المرتضى في بعض كتبه ( 1 ) . وشرط حضور جميع ورثة المقتول كما ذهبت إليه الحنفية ، فلم يبق إلا الدية ، وقد أعطاها من بيت المال لا من القاتل ، ولأن بنت ابي لؤلؤة كانت مجوسية كان نصرانياً وقد قال (( لا يقتل مسلم بكافر )) وهذا ثابت عندهم ، على أنه لو أقتص عثمان من عبيد الله لوقعت فتنة عظيمة لأن بني تيم وبني عدى كانوا مانعين من القتل ، وكانوا يقولون لو أقتص عثمان من عبيد الله لحاربناه ، ونادى عمرو بن العاص وهو رئيس بني سهم فقال : أيقتل أمير المؤمنين أمس ويقتل أبنه اليوم ؟ لا والله لا يكون هذا أبداً ، وهذا كما ثبت عندهم من ان الأمير لم يقتص من قتله عثمان خوفاً من الفتنة .
==============
شبهات وردود أيضا(7/133)
زعموا أنه من النص التفصيلى على على قوله صلى الله عليه وسلم له لما خرج إلى تبوك واستخلفه على المدينة : أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى . قالوا : ففيه دليل على أن جميع المنازل الثابته لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة لعلى من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا لما صح الاستثناء ، ومما ثبت لهارون من موسى استحقاقه الخلافه عنه لو عاش بعده إذ كان خليفة في حياته ، فلو لم يخلفه بعد مماته لو عاش بعده لكان لنقص فيه ، وهو غير جائز على الأنبياء ، وأيضا فمن جملة منازله منه أنه كان شريكاً له في الرسالة ومن لازم ذلك وجوب الطاعة لو بقى بعده ، فوجب ثبوت ذلك لعلى إلا أن الشركة في الرسالة ممتنعة في حق على ، فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم عملا بالدليل بأقصى ما يمكن .(7/134)
وجوابها : أن الحديث إن كان غير صحيح كما يقوله الآمدى فظاهر وإن كان صحيحاً كما يقوله أئمة الحديث والمعول في ذلك ليس إلا عليهم ، كيف وهو في الصحيحين فهو من قبيل الآحاد وهم لا يروونه حجة في الإمامة ، وعلى التنزيل فلا عموم له في المنازل بل المراد ما دل عليه ظاهر الحديث أن عليا خليفة عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة غيبته بتبوك كما كان هارون خليفة عن موسى في قومه مدة غيبته عنهم للمناجاة . وقوله : اخلفنى في قومى ـ لا عموم له حتى يقتضى الخلافة عنه في كل زمن حياته وزمن موته ، بل المتبادر منه ما مر أنه خليفة مدة غيبته ، وحينئذ فعدم شموله لما بعد وفاة موسى رضي الله عنه ، إنما هو لقصور اللفظ عنه لا لعزله كما لو صرح باستخلافه في زمن معين ، ولو سلمنا تناوله لما بعد الموت، وأن عدم بقاء خلافته بعده عزل له ، لم يستلزم نقصا يلحقه ؛ بل إنما يستلزم كمالاً له أي كمال لأنه يصير بعده مستقلا بالرسالة والتصرف من الله تعالى ، وذلك أعلى من كونه خليفة وشريكاً في الرسالة . سلمنا أن الحديث يعم المنازل كلها لكنه عام مخصوص إذ من منازل هارون كونه أخاً نبياً ، والعام المخصوص غير حجة في الباقى أو حجه ضعيفه على الخلاف فيه ، ثم نفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لو فرض إنما هو للنبوة لا للخلافة عنه ، وقد نفيت النبوة هنا لاستحالة كون على نبيا، فيلزم نفى مسببه الذي هو افتراض الطاعة ونفاذ الأمر، فعلم مما تقرر أنه ليس المراد من الحديث ـ مع كونه آحادا لا يقاوم الإجماع ـ إلا إثبات بعض المنازل الكائنه لهارون من موسى ، والحديث وسببه سياق يبينان ذلك البعض لما مر أنه إنما قاله لعلى حين استخلفه ، فقال على كما في الصحيح : أتخلفنى في النساء والصبيان ؟ كأنه استنقص تركه وراءه فقال له : ألا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى ؟ يعنى حيث استخلفه عند توجهه إلى الطور ، إذ قال له : اخلفنى في قومى وأصلح ، وأيضاً فاستخلافه على(7/135)
المدينة لا يستلزم أولويته بالخلافة بعده من كل معاصريه افتراضاً ولا ندباً بل كونه أهلاً لها في الجملة ، وبه نقول ، وقد استخلف صلى الله عليه وسلم في مرار أخرى غير على كابن أم مكتوم ، ولم يلزم فيه بسبب ذلك أنه أولى بالخلافة بعده .
الشبهة الثالثة عشرة
زعموا أيضا أن من النصوص التفصيلية الدالة على خلافة على قوله صلى الله عليه وسلم لعلى: أنت أخي ووصيى وخليفتى وقاضى دينى ـ أي بكسر الدال ، وقوله : أنت سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ، وقوله : سلموا على على بإمرة الناس.(7/136)
وجوابها : مر مبسوطا قبيل الفصل الخامس ومنه أن هذه الأحاديث كذب باطلة موضوعة مفتراة عليه صلى الله عليه وسلم ألا لعنة الله على الكاذبين ، ولم يقل أحد من أئمة الحديث أن شيئا من هذه الأكاذيب بلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها بل كلهم مجمعون على أنها محض كذب وافتراء ، فإن زعم هؤلاء الجهلة الكذبه على الله ورسوله وعلى أئمة الإسلام ومصابيح الظلام أن هذه الأحاديث صحت عندهم ، قلنا لهم هذا محال في العادة إذ كيف تتفردون بعلم صحة تلك مع أنكم لم تتصفوا قط برواية ولا صحبة محدث ، ويجهل ذلك مهرة الحديث وسباقه الذين أفنوا أعمارهم في الأسفار البعيدة لتحصيله وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده شيئاً منه حتى جمعوا الأحاديث ونقبوا عنها وعلموا صحيحها من سقيمها ، ودونوها في كتبهم على غاية من الاستيعاب ونهاية من التحرير ، وكيف والأحاديث الموضوعة جاوزت مئات الألوف وهم مع ذلك يعرفون واضع كل حديث منها وسبب وضعه الحامل لواضعه على الكذب والافتراء على نبيه صلى الله عليه وسلم ، فجزاهم الله خير الجزاء وأكمله إذ لولا حسن صنيعهم هذا لاستولى المبطلون والمتمردون المفسدون على الدين وغيروا معالمه وخلطوا الحق بكذبهم حتى لم يتميز عنه ، فضلوا وأضلوا ضلالاً مبيناً ، لكن لما حفظ الله على نبيه صلى الله عليه وسلم شريعته من الزيغ والتبديل بل والتحريف ، وجعل من أكابر أمته في كل عصر طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم لم يبال الدين بهؤلاء الكذبة البطلة الجهلة ، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: تركتكم على الواضحة البيضاء ليلها كنهارها ونهارها كليلها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك ، ومن عجيب أمر هؤلاء الجهلة أنا إذا استدللنا عليهم بالأحاديث الصحيحه الدالة صريحاً على خلافة أبى بكر كخبر : اقتدوا باللذين من بعدى وغيره من الأخبار الناصة على خلافته التي قدمتها مستوفاة في الفصل الثالث قالوا: هذا خبر واحد فلا يغنى فيما(7/137)
يطلب فيه التعيين ، وإذا أرادوا أن يستدلوا على ما زعموه من النص على خلافة على أتوا بأخبار تدل لزعمهم كخبر من كنت مولاه ، وخبر : أنت منى بمنزلة هارون من موسى مع أنها آحاد وإما بأخبار باطلة كاذبة متيقنه البطلان واضحة الوضع والبهتان لا تصل إلى درجة الأحاديث الضعيفة التي هي أدنى مراتب الآحاد ، فتأمل هذا التناقض الصريح والجهل القبيح ، لكنهم لفرط جهلهم وعنادهم وميلهم عن الحق يزعمون التواتر فيما يوافق مذهبهم الفاسد ، وإن أجمع أهل الحديث والأثر على أنه كذب موضوع مختلق ، ويزعمون فيما يخالف مذهبهم أنه آحاد ، وإن اتفق أولئك على صحته وتواتر رواته تحكماً وعناداً وزيغاً عن الحق ، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم !
الشبهة الرابعة عشرة
زعموا أنه لو كان أهلاً للخلافة لما قال لهم أقيلونى أقيلونى لأن الإنسان لا يستقيل من الشىء إلا إذا لم يكن أهلاً له .
وجوابها : منع الحصر فيما عللوا به ، فهو من مفترياتهم ، وكم وقع للسلف والخلف التورع عن أمورهم لها أهل وزيادة ، بل لا تكمل حقيقة الورع والزهد إلا بالإعراض عما تأهل له المعرض ، وأما مع عدم التأهل فالإعراض واجب لا زهد، ثم سببه هنا أنه إما خشى من وقوع عجز ما منه عن استيفاء الأمور على وجهها الذي يليق بكماله له ، أو أنه قصد بذلك استبانة ما عندهم ، وأنه هل فيهم من يود عزله فأبرز ذلك كذلك ، فرآهم جميعهم لا يودون ذلك لو أنه خشى من لعنه صلى الله عليه وسلم لإمام قوم وهم له كارهون ، فاستعلم أنه هل فيهم أحد يكرهه أو لا ـ والحاصل أن زعم ذلك يدل على عدم أهليته غاية في الجهالة والغباوة والحمق فلا ترفع بذلك رأساً .
الشبهة الخامسة عشرة
زعموا أيضاً أن علياً إنما سكت عن النزاع في أمر الخلافة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه أن لا يوقع بعده فتنة ولا يسل سيفاً ..(7/138)
وجوابها : أن هذا افتراء كذب وحمق وجهالة مع عظيم الغباوة عما يترتب عليه ، إذ كيف يعقل مع هذا الذي زعموه أنه جعله إماماً والياً على الأمة بعده ومنعه من سل السيف على من امتنع من قبول الحق ؟ ولو كان ما زعموه صحيحاً لما سل على السيف في حرب صفين وغيرها ، ولما قاتل بنفسه وأهل بيته وشيعته وجالد وبارز الألوف منهم وحده وأعاذه الله من مخالفة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً فكيف يتعقلون أنه صلى الله عليه وسلم يوصيه بعدم سل السيف على من يزعمون فيهم أنهم يجاهرون بأقبح أنواع الكفر مع ما أوجبه الله من جهاد مثلهم.(7/139)
قال بعض أئمة أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة : وقد تأملت كلماتهم فرأيت قوماً أعمى الهوى بصائرهم ، فلم يبالوا بما ترتب على مقالاتهم من المفاسد . ألا ترى إلى قولهم : إن عمر قاد علياً بحمائل سيفه وحصر فاطمة فهابت ، فأسقطت ولدا اسمه المحسن ، فقصدوا بهذه الفرية القبيحة والغباوة التي أورثتهم العار والبوار والفضيحة وإيغار الصدور على عمر رضي الله عنه ، ولم يبالوا بما يترتب على ذلك من نسبة على رضي الله عنه الى الذل والعجز والخور بل ونسبة جميع بنى هاشم وهم أهل النخوة والنجدة والأنفة إلى ذلك العار اللاحق بهم الذي لا أقبح منه عليهم ، بل ونسبة جميع الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك، وكيف يسع من له أدنى ذوق أن ينسبهم إلى ذلك مع ما استفاض وتواتر عنهم من غيرتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وشدة غضبهم عند انتهاك حرماته حتى قاتلوا وقتلوا الآباء والأبناء في طلب مرضاته لا يتوهم إلحاق أدنى نقص أو سكوت على باطل بهؤلاء العصابة الكمل الذين طهرهم الله من كل رجس ودنس ونقص على لسان نبيه في الكتاب والسنة ، كما قدمته في المقدمة الأولى أول الكتاب ـ بواسطة صحبتهم له صلى الله عليه وسلم وموته وهو عنهم راض وصدقهم في محبته واتباعه إلا عبداً أضله الله وخذله فباء منه تعالى بعظيم الخسار والبوار ، وأحله الله تعالى نار جهنم وبئس القرار . نسأل الله السلامة آمين . ( ص 73 : 77 ).
وبعد أن دحض شبهات الرافضة انتقل إلى الباب الثانى ( ص 78 ) وجعل عنوانه :
" فيما جاء عن أكابر أهل البيت من مزيد الثناء على الشيخين ليعلم براءتهما مما يقول الشيعة والرافضة من عجائب الكذب والافتراء ، وليعلم بطلان ما زعموه من أن عليا إنما فعل ما أثر عنه تقية ومداراة وخوفاً ، وغير ذلك من قبائحهم ".(7/140)
ويقع هذا الباب في ثمان صفحات ، يحسن قراءتها ، ولولا الإطالة لنقلتها كاملة، وأكتفى هنا بما ختم به هذا الباب ( ص 85 ) حيث قال :
" فهذه أقاويل المعتبرين من أهل البيت رواها عنهم الأئمة الحفاظ الذين عليهم المعول في معرفة الأحاديث والآثار ، وتمييز صحيحها من سقيمها بأسانيدهم المتصلة ، فكيف يسمح المتمسك بحبل أهل البيت ، ويزعم حبهم أن يعدل عما قالوه من تعظيم أبى بكر وعمر واعتقاد حقية خلافتهما ، وما كانا عليه . وصرحوا بتكذيب من نقل عنهم خلافه، ومع ذلك يرى أن ينسب إليهم ما تبرءوا منه ورأوه ذماً في حقهم حتى قال زين العابدين على بن الحسين رضي الله تعالى عنهما : أيها الناس أحبونا حب الإسلام ، فوالله ما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً ، وفى رواية حتى نقصتمونا إلى الناس . أي بسبب ما نسبوه إليهم مما هم براء منه ، فلعن الله من كذب على هؤلاء الأئمة ورماهم بالزور والبهتان"أهـ
واستمر صاحب الصواعق فجعل الباب الثالث عنوانه :
" في بيان أفضلية أبى بكر على سائر هذه الأمة ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم ، على ، وفى ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده أو مع عمر أو مع الثلاثة أو مع غيرهم . وفيه فصول " .
وجعل عنوان الفصل الأول :
" في ذكر أفضليتهم على هذا الترتيب ، وفى تصريح على بأفضلية الشيخين على سائر الأمة ، وفى بطلان ما زعمه الرافضة الشيعة من أن ذلك منه قهر وتقية "(7/141)
وقال : " اعلم أن الذي أطبق عليه عظماء الملة وعلماء الأمة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر الصديق ، ثم عمر . ثم اختلفوا ، فالأكثرون : ومنهم الشافعى وأحمد وهو المشهور عن مالك أن الأفضل بعدهما عثمان ، ثم على ، وجزم الكوفيون ومنهم سفيان الثوري بتفضيل على على عثمان ، وقيل : بالوقف عن التفاضل بينهما ، وهو رواية عن مالك ، فقد حكى أبو عبد الله المازرى عن المدونة : أن مالكاً رحمه الله سئل أي الناس أفضل بعد نبيهم ؟ فقال : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم قال : أو في ذلك شك ؟ فقيل له : وعلى وعثمان ؟ فقال : ما أدركت أحدا ممن اقتدى به يفضل أحدهما على الآخر . انتهى ، وقوله رضي الله عنه : أو في ذلك شك ؟ يريد ما يأتي عن الأشعرى أن تفضيل أبى بكر ، ثم عمر على بقية الأمة قطعى ، وتوقفه هذا رجع عنه ، فقد حكى القاضى عياض عنه : أنه رجع عن التوقف إلى تفضيل عثمان . قال القرطبى : وهو الأصلح إن شاء الله تعالى ... إلخ" ( ص 286 ) .
واستمر ابن حجر في حديثه بإثبات ما جعله عنواناً لهذا الفصل ، وقال :
" إن أفضلية أبى بكر ثبتت بالقطع حتى عند غير الأشعرى أيضاً بناء على معتقد الشيعة والرافضة ، وذلك لأنه ورد عن على ـ وهو معصوم عندهم والمعصوم لا يجوز عليه الكذب ـ أن أبا بكر وعمر أفضل الأمة . قال الذهبي : وقد تواتر ذلك عنه في خلافته وكرسى مملكته وبين الجم الغفير من شيعته . ثم بسط الأسانيد الصحيحه في ذلك ، قال : ويقال رواه عن على نيف وثمانون نفساً . وعدد منهم جماعة ، ثم قال : فقبح الله الرافضة ما أجهلهم ! انتهى .(7/142)
ومما يعضد ذلك ما في البخاري عنه أنه قال : خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما ، ثم رجل آخر . فقال ابنه محمد بن الحنفيه : ثم أنت، فقال : إنما أنا رجل من المسلمين ، وصحح الذهبي وغيره طرقاً أخرى عن على بذلك ، وفى بعضها : ألا وإنه بلغنى أن رجالاً يفضلونى عليهما ، فمن وجدته فضلنى عليهما فهو مفتر ، عليه ما على المفترى . ألا ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت ، ألا وإنى أكره العقوبة قبل التقدم .
وأخرج الدار قطنى عنه : لا أجد أحداً فضلنى على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى . وصح عن مالك ، عن جعفر الصادق ، عن أبيه الباقر ، أن عليا رضي الله عنه وقف على عمر بن الخطاب وهو مسجى ، وقال : ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أحداً أحب إلى أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى ( ص 90 ـ 91 ) .(7/143)
ثم قال : ومما يلزم من المفاسد والمساوئ والقبائح العظيمة على ما زعموه من نسبة على إلى التقية أنه كان جباناً ذليلاً مقهوراً . أعاذه الله من ذلك ، وحروبه للبغاة لما صارت الخلافة له ومباشرته ذلك بنفسه ومبارزته للألوف من الأمور المستفيضه والتي تقطع بكذب ما نسبه إليه أولئك الحمقى والغلاة ؛ إذ كانت الشوكة من البغاة قوية جدا ، ولا شك أن بنى أمية كانوا أعظم قبائل قريش شوكة وكثرة جاهلية وإسلاما ، وقد كان أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه هو قائد المشركين يوم أحد ويوم الأحزاب وغيرهما ، وقد قال لعلى لما بويع أبو بكر ما مر آنفا فرد عليه ذلك الرد الفاحش . وأيضا فبنو تميم ثم بنو عدى قوما الشيخين من أضعف قبائل قريش ، فسكوت على لهما مع أنهما كما ذكر وقيامه بالسيف على المخالفين لما انعقدت البيعة له مع قوة شكيمتهم أوضح دليل على أنه كان دائراً مع الحق حيث دار ، وأنه من الشجاعة بالمحل الأسنى ، وأنه لو كان معه وصيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر القيام على الناس لأنفذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان السيف على رأسه مسلطاً ، لا يرتاب في ذلك إلا من اعتقد فيه ـ رضي الله عنه ـ ما هو بريء منه .
ومما يلزم أيضا على تلك التقيه المشؤومة عليهم أنه رضي الله عنه لا يعتمد على قوله قط ؛ لأنه حيث لم يزل في اضطراب من أمره ، فكل ما قاله يحتمل أنه خالف فيه الحق خوفا وتقية . ذكره شيخ الإسلام الغزالى . قال غيره : بل يلزمهم ما هو أشنع من ذلك ، وأقبح ؛ كقولهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين الإمامة إلا لعلى ، فمنع من ذلك وقال : مروا أبا بكر تقية ! فيتطرق احتمال ذلك إلى كل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم ، ولا يفيد حينئذ إثبات العصمة شيئاً .(7/144)
وأيضا فقد استفاض عن على ـ رضي الله عنه ـ أنه كان لا يبالى بأحد حتى قيل للشافعى رضي الله عنه ما نفر الناس عن على إلا أنه كان لا يبالى بأحد ، وقال الشافعى : أنه كان زاهداً لا يبالى بالدنيا وأهلها ، وكان عالماً والعالم لا يبالى بأحد ، وكان شجاعاً والشجاع لا يبالى بأحد ، وكان شريفا والشريف لا يبالى بأحد. أخرجه البيهقي .
وعلى تقدير أنه قال ذلك تقية ، فقد أبقى مقتضيها بولايته ، وقد مر عنه من مدح الشيخين فيها وفى الخلوة وعلى منبر الخلافة مع غاية القوة والمنعة ما تلى عليك قريباً فلا تغفل .(7/145)
وأخرج أبو ذر الهروى والدار قطنى من طرق ، إن بعضهم مر بنفر يسبون الشيخين فأخبر عليا ، وقال : لولا أنهم يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترءوا على ذلك ، فقال على : أعوذ بالله ، رحمهما الله ، ثم نهض فأخذ بيد ذلك المخبر وأدخله المسجد ، وصعد المنبر ، ثم قبض على لحيته وهى بيضاء ، وجعلت دموعه تتحادر على لحيته ، وجعل ينظر البقاع حتى اجتمع الناس ، ثم خطب خطبة بليغة من جملتها : ما بال أقوام يذكرون أخوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وصاحبيه وسيدى قريش وأبوى المسلمين ، وأنا بريء مما يذكرون وعليه معاقب ، صحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجد والوفاء والجد في أمر الله ، يأمران وينهيان ويقضيان ويعاقبان ، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كرأيهما رأيا ولا يحب كحبهما حباً لما يرى من عزمهما في أمر الله ، فقبض وهو عنهما راض ، والمسلمون راضون ، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره في حياته وبعد موته ، فقبضا على ذلك فرحمهما الله ، فوالذى فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ، ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقى مارق . حبهما قربة وبغضهما مروق . ثم ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبى بكر بالصلاة وهو يرى مكان على ، ثم ذكر أنه بايع أبا بكر ، ثم ذكر استخلاف أبى بكر لعمر ، ثم قال : ألا ولا يبلغنى عن أحد أنه يبغضهما إلا جلدته حد المفترى ، وفى رواية : وما اجترءوا على ذلك أي سب الشيخين ـ إلا وهم يرون أنك موافق لهم منهم عبد الله بن سبأ ([256])، وكان أول من أظهر ذلك ، فقال على : معاذ الله أن أضمر لهما ذلك . لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل ، وسترى ذلك إن شاء الله ، ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيره إلى المدائن وقال: لا يساكننى في بلدة أبدا ، قال الأئمة : وكان ابن سبأ هذا يهوديا فأظهر الإسلام وكان كبير طائفة من الروافض وهم الذين أخرجهم على رضي الله عنه(7/146)
لما ادعوا فيه الألوهية .
وأخرج الدارقطنى من طرق أن علياً بلغه أن رجلاً يعيب أبا بكر وعمر فأحضره وعرض له بعيبهما لعله يعترف ففطن ، فقال له : أما والذى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق أن لو سمعت منك الذي بلغنى أو الذي نبئت عنك وثبت عليك ببينة لأفعلن بك كذا وكذا .
إذا تقرر ذلك ، فاللائق بأهل البيت النبوي اتباع سلفهم في ذلك ، والإعراض عما يوشيه إليهم الرافضة وغلاة الشيعة من قبيح الجهل والغباوة والعناد ، فالحذر الحذر عما يلقونه إليهم من أن كل من اعتقد تفضيل أبى بكر علَى علِىّ رضي الله عنهما كان كافراً ، لأن مرادهم بذلك أن يقرروا عندهم تكفير الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وعلماء الشريعة وعوامهم ، وأنه لا مؤمن غيرهم ، وهذا مؤد إلى هدم قواعد الشريعة من أصلها، وإلغاء العمل بكتب السنة وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته وأهل بيته ؛ إذ الراوي لجميع آثارهم وأخبارهم وللأحاديث بأسرها بل والناقل للقرآن في كل عصر من عصر النبي صلى الله عليه وسلم وإلى هلم ، هم الصحابة والتابعون وعلماء الدين . إذ ليس لنحو الرافضة رواية ولا دراية يدرون بها فروع الشريعة ، وإنما غاية أمرهم أن يقع في خلال بعض الأسانيد من هو رافضي أو نحوه . والكلام في قبولهم معروف عند أئمة الأثر ونقاد السنة ، فإذا قدحوا فيهم قدحوا في القرآن والسنة وأبطلوا الشريعة رأسا ، وصار الأمر كما في زمن الجاهلية الجهلاء ، فلعنة الله وأليم عقابه وعظائم نقمته على من يفترى على الله وعلى نبيه بما يؤدى إلى إبطال ملته وهدم شريعته … إلخ " .
ويأتى الفصل الثانى من هذا الباب وعنوانه :" في ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده وفيه آيات وأحاديث " ( ص 98 ) . ويذكر اثنتى عشرة آية كريمة( ص 98: 102)، ثم قال:" وأما الأحاديث:فهى كثيرة مشهورة " وأثبت عشرات الأحاديث الشريفة(7/147)
ويطول الأمر كثيرا إذا أردنا أن نثبت ما جاء في هذا الكتاب متصلا بموضوعنا ، إذن لنقلناه كله أو جله ، ولهذا أكتفى هنا بإثبات آخر باب جعله قبل خاتمة الكتاب ، وعنوان الباب هو " في التخيير والخلافة " ( 372 ) وتحت العنوان جاء ما يأتي:
وكان خير الناس بعده وبعد المرسلين أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وقد تواترت بذلك الأحاديث المستفيضه الصحيحة التي لا تعتل ، المرويةٍ في الأمهات والأصول المستقيمة ، التي ليست بمعلولة ولا سقيمه . قال سبحانه : "وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ " فنعته بالفضل . ولا خلاف أن ذلك فيه رضوان الله عليه ، وقال سبحانه : " ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ" فشهدت له الربوبيه بالصحبة وبشره بالسكينه وحلاه بثانى اثنين . كما قال على كرم الله وجهه: من يكون أفضل من اثنين الله ثالثهما . وقال سبحانه : " وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ " ، لا خلاف وهو قول جعفر الصادق رضوان الله عليه ، وقول على كرم الله وجهه ، إن الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والذى صدق به أبو بكر . وأي منقبه أبلغ من هذا ، ولما أخبرنا سبحانه وتعالى : أنه لا يستوى السابقون ومن بعدهم بقوله سبحانه وتعالى : " لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى "والخبر في البخاري مسطور : أن عقبة بن أبى معيط وضع رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عنقه وخنقه به ، فأقبل أبو بكر يعدو حول الكعبة ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله ؟ قال : فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبى بكر فضربوه حتى لم يعرف أنفه من وجهه ، فكان أول من جاهد وقاتل ونصر دين الله، وأنه الشخص الذي به قام(7/148)
الدين وظهر ، وهو أول القوم إسلاما ، وذلك ظاهر جلى. وقال جابر بن عبد الله الأنصارى : كنا ذات يوم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر الفضائل فيما بيننا إذ أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أفيكم أبو بكر ؟ قالوا: لا ، قال : لا يفضلن أحد منكم على أبى بكر ، فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة .
وخبر أبى الدرداء المشهور قال : رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أمشى أمام أبى بكر ، وقال : يا أبا الدرداء أتمشى أمام من هو خير منك ؟ ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبى بكر . ومن وجه آخر : أتمشى بين يدى من هو خير منك ؟ فقلت يا رسول الله : أبو بكر خير منى ؟ قال : ومن أهل مكة جميعاً ، قلت يا رسول الله : أبو بكر خير منى ومن أهل مكة جميعاً؟ قال : ومن أهل المدينة جميعاً ، قلت : يا رسول الله : أبو بكر خير منى ومن أهل الحرمين ؟ قال : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء بعد النبيين والمرسلين خيرا وأفضل من أبى بكر .
ونذكر في كثير منها تخيير عمر بعده ثم عثمان ثم على .
فمن ذلك خبر أبى عقال قد رواه مالك ، وقد سأل عليا كرم الله وجهه وهو على المنبر : من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم أنا ، وإلا فصمت أذنأي إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلا فعميت وأشار إلى عينيه إن لم أكن رأيته ـ يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ما طلعت الشمس ولا غربت على رجلين أعدل ولا أفضل ـ وروى ولا أزكى ولا خيراً ـ من أبى بكر وعمر .(7/149)
وقد روى محمد بن الحنفية قال : سألت والدى علياً وأنا في حجره ، فقلت: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : عمر ، ثم حملتنى حداثة سنى قلت : ثم أنت يا أبتى ؟ قال : أبوك رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم .
وخبر أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر وعمر خير أهل السماء وخير أهل الأرض ، وخير الأولين ، وخير الآخرين إلا النبيين والمرسلين . وقال صلى الله عليه وسلم: على وفاطمة والحسن والحسين أهلي ، وأبو بكر وعمر أهل الله وأهل الله خير من أهلي . وقال صلى الله عليه وسلم : لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان الأمة لرجح .
وخبر عمار بن ياسر رضي الله عنه المشهور قال : قلت يا رسول الله : أخبرني عن فضائل عمر . فقال : يا عمار لقد سألتنى عما سألت عنه جبريل عليه السلام ، فقال لي يا محمد : لو مكثت معك ما مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً أحدثك في فضائل عمر ما نفذت ، وإن عمر لحسنة من حسنات أبى بكر ، وقال : قال لي ربى عز وجل : لو كنت متخذا بعد أبيك إبراهيم خليلا لاتخذت أبا بكر خليلًا ، ولو كنت متخذاً بعدك حبيبا لاتخذت عمر حبيباً . نقل ذلك من تفسير القرآن العظيم للبغوى رحمه الله تعالى في آخر سورة الحشر في قوله تعالى :(7/150)
" وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ " يعنى التابعين ، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان بالمغفرة فقال : "يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا " -غشاً وحسداً وبغضاً ـ " لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية ؛ لأن الله رتب المؤمنين على ثلاث منازل : المهاجرين ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجا من أقسام المؤمنين .
قال ابن أبى ليلى : الناس على ثلاثة منازل : الفقراء المهاجرون ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل .
أخبرنا أبو سعيد الشريحى ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبى ، أنبأنا عبد الله بن جليد ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سليمان ، حدثنا ابن نمير ، حدثنا أبى ، عن إسماعيل ابن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسببتموهم ، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها " .(7/151)
قال مالك بن معرور ، قال عامر بن شراحيل الشعبي : يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ؛ سئلت اليهود من خير أهل ملتكم ؟ فقالت: أصحاب موسى رضي الله عنه، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم ؟ فقالت : حوارى عيسى رضي الله عنه ، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم !! أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا تقوم لهم حجة ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وادحاض حججهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة .
قال مالك بن أنس : من ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غل ، فليس له حق في فىء ، ثم تلا :
" مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ" حتى أتى هذه الآية :
" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ " "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ " " وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ" إلى قوله " رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ".
نقل البغوى رحمه الله في قوله : " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر : أنت صاحبى في الغار وصاحبى على الحوض .
قال الحسن بن الفضيل : من قال إن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكار نص القرآن ، وفى سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً .
===============
فدك بين ابو بكر الصديق والسيدة فاطمة - مناقشة علمية
الكاتب: محب اهل البيت اضيف الموضوع يوم 04-05-99 20:42 PS رضي الله عنه
فدك بين أبي بكر وفاطمة رضي الله عنهما(7/152)
أرض فدك ، قرية في الحجاز كان يسكنها طائفة من اليهود ، ولمّا فرغ الرسول عليه الصلاة والسلام من خيبر ، قذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب ، فصالحوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فدك ، فكانت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها مما لم يُوجف عليها بخيل ولا ركاب.
ورغم أنّّ خلاف الخليفة أبو بكر مع السيدة فاطمة رضوان الله عليهما كان خلافاً سائغاً بين طرفين يملك كل منهما أدلة على رأيه إلا أنّ حساسية البعض من شخصية أبو بكر تجعله ينظر إلى الأمور بغير منظارها فتنقلب الحبة إلى قبة.
ولو أننا استبدلنا شخصيات القصة ( أبو بكر وفاطمة ) بفقيهين من الشيعة مثلاً أو مرجعين من مراجعهم لكان لكل طرف منهما مكانته وقدره دون التشنيع عليه وإتهام نيته ، ولكانت النظرة إلى رأي الطرفين نظرة احترام وتقدير على اعتبار وجود نصوص وأدلة يستند إليها الطرفين في دعواهما وإن كان الأرجح قول أحدهما.
لكن أمام ( ابو بكر ) و ( فاطمة ) الأمر يختلف ، فأبو بكر عدو للشيعة وما دام عدواً فكل الشر فيه وكل الخطأ في رأيه ، هكذا توزن الأمور!!! توزن بميزان العاطفة التي لا تصلح للقضاء بين متنازعين فكيف بدراسة أحداث تاريخية ودراسة تأصيلها الشرعي!!!
لكن المنصف الذي لا ينقاد إلى عاطفته بل إلى الحق حيث كان ، يقف وقفة تأمل لذاك الخلاف ليضع النقاط على الحروف
فأرض فدك هذه لا تخلو من أمرين: إما أنها إرث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة رضوان الله عليها أو هي هبة وهبها رسول الله لها يوم خيبر.
فأما كونها إرثاً فبيان ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءت فاطمة رضوان الله عليها لأبي بكر الصدّيق تطلب منه إرثها من النبي عليه الصلاة والسلام في فدك وسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر وغيرهما.(7/153)
فقال أبو بكر الصدّيق: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( إنّا لا نورّث ، ما تركناه صدقة )(39) وفي رواية عند أحمد ( إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث )(39) ، فوجدت(32) فاطمة على أبي بكر بينما استدلت رضوان الله عليها بعموم قوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين }.(39)
ولنكن حياديين ها هنا ولننسى أنّ المطالب بالإرث امرأة نحبها ونجلها لأنها بنت نبينا وأنّ لها من المكانة في نفوسنا وعند الله عز وجل ما لها ، لنقول : كلام محمد عليه الصلاة والسلام فوق كلام كل أحد ، فإذ صح حديث كهذا عن رسول الله فلا بد ان نقبله ونرفض ما سواه ، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا نلوم أبو بكر على التزامه بحديث رسول الله وتطبيقه إياه بحذافيره ؟!!
لقد صح حديث ( إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ) عند الفريقين السنة والشيعة ، فلماذا يُستنكر على أبي بكر استشهاده بحديث صحيح ويُتهم بالمقابل باختلاقه الحديث لكي يغصب فاطمة حقها في فدك؟!! أما صحته عند أهل السنة فهو أظهر من أن تحتاج إلى بيان ، وأما صحته عند الشيعة فإليك بيانه:
روى الكليني في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( … وإنّ العلماء ورثة الأنبياء ، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر )(39) قال عنه المجلسي في مرآة العقول 1/111 ( الحديث الأول ( أي الذي بين يدينا ) له سندان الأول مجهول والثاني حسن أو موثق لا يقصران عن الصحيح ) فالحديث إذاً موثق في أحد أسانيده ويُحتج به ، فلماذا يتغاضى عنه علماء الشيعة رغم شهرته عندهم!!(7/154)
والعجيب أن يبلغ الحديث مقدار الصحة عند الشيعة حتى يستشهد به الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية على جواز ولاية الفقيه فيقول تحت عنوان (صحيحة القداح ) : ( روى علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن القداح ( عبد الله بن ميمون )(89) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من سلك طريقاً يطلب فيه علماً ، سلك الله به طريقاً إلى الجنة … وإنّ العلماء ورثة الأنبياء ، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ، ولكن ورّثوا العلم ، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر ) ويعلق على الحديث بقوله ( رجال الحديث كلهم ثقات ، حتى أنّ والد علي بن إبراهيم ( إبراهيم بن هاشم ) من كبار الثقات ( المعتمدين في نقل الحديث ) فضلاً عن كونه ثقة )(67) ثم يشير الخميني بعد هذا إلى حديث آخر بنفس المعنى ورد في الكافي بسند ضعيف فيقول ( وهذه الرواية قد نقلت باختلاف يسير في المضمون بسند آخر ضعيف ، أي أنّ السند إلى أبي البختري صحيح ، لكن نفس أبي البختري ضعيف والرواية هي: عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن خالد عن أبي البختري عن أبي عبد اله عليه السلام قال: ( إنّ العلماء ورثة الأنبياء ، وذاك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً ، وإنما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم … )(39) )(38)
إذاً حديث (إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم ) صحيح كما بيّن ذلك الخميني والمجلسي من قبله ، فلماذا لا يؤخذ بحديث صحيح النسبة إلى رسول الله مع أننا مجمعين على أنه لا اجتهاد مع نص؟!! ولماذا يُستخدم الحديث في ولاية الفقيه ويُهمل في قضية فدك؟!! فهل المسألة يحكمها المزاج؟!!(7/155)
إنّ الاستدلال بقول الله تبارك وتعالى عن زكريا عليه السلام { فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب } على جواز توريث الأنبياء لأبنائهم استدلال غريب يفتقد إلى المنطق في جميع حيثياته ، وذلك لعدة أمور هي:
أولاً: لا يليق برجل صالح أن يسأل الله تبارك وتعالى ولداّ لكي يرث ماله فكيف نرضى أن ننسب ذلك لنبي كريم كزكريا عليه السلام في أن يسأل الله ولداً لكي يرث ماله ، إنما أراد زكريا عليه السلام من الله عز وجل أن يهب له ولداً يحمل راية النبوة من بعده ، ويرث مجد آل يعقوب العريق في النبوة.
ثانياً: المشهور أنّ زكريا عليه السلام كان فقيراً يعمل نجاراً ، فأي مال كان عنده حتى يطلب من الله تبارك وتعالى أن يرزقه وارثاً ، بل الأصل في أنبياء الله تبارك وتعالى أنهم لا يدخرون من المال فوق حاجتهم بل يتصدقون به في وجوه الخير.
ثالثاً: إنّ لفظ ( الإرث ) ليس محصور الاستخدام في المال فحسب بل يستخدم في العلم والنبوة والملك وغير ذلك كما يقول الله تعالى { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا }(39) وقوله تعالى { أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون }(39) فلا دلالة في الآية السابقة على وراثة المال.
رابعاً: حديث (إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم) الذي ذكرناه آنفاً يتضمن نفي صريح لجواز وراثة أموال الأنبياء ، وهذا كاف بحد ذاته.
وكذلك الحال في قوله تعالى { وورث سليمان داود }(39) فإنّ سليمان عليه السلام لم يرث من داود عليه السلام المال وإنما ورث النبوة والحكمة والعلم لأمرين إثنين:
الأول: أنّ داود عليه السلام قد اشتُهر أنّ له مائة زوجة وله ثلاثمائة سريّة أي أمة ، وله كثير من الأولاد فكيف لا يرثه إلا سليمان عليه السلام؟!! فتخصيص سليمان عليه السلام حينئذ بالذكر وحده ليس بسديد.(7/156)
الثاني: لو كان الأمر إرثاً مالياً لما كان لذكره فائدة في كتاب الله تبارك وتعالى ، إذ أنّه من الطبيعي أنّ يرث الولد والده ، ( والوراثة المالية ليست صفة مدح أصلاً لا لداود ولا لسليمان عليهما السلام فإنّ اليهودي أو النصراني يرث ابنه ماله فأي اختصاص لسليمان عليه السلام في وراثة مال أبيه!! ، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان عليه السلام وما خصه الله به من الفضل ، وإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس كالأكل والشرب ودفن الميت ، ومثل هذا لا يُقص عن الأنبياء ، إذ لا فائدة فيه ، وإنما يُقص ما فيه عبرة وفائدة تُستفاد وإلا فقول القائل ( مات فلان وورث فلان ابنه ماله ) مثل قوله عن الميت ( ودفنوه ) ومثل قوله ( أكلوا وشربوا وناموا ) ونحو ذلك مما لا يحسن أن يُجعل من قصص القرآن )(93)
وأعجب من هذا كله حقيقة تخفى على الكثيرين وهي أنّ المرأة لا ترث في مذهب الشيعة الإمامية من العقار والأرض شيئاً ، فكيف يستجيز الشيعة الإمامية وراثة السيدة فاطمة رضوان الله عليها لفدك وهم لا يُورّثون المرأة العقار ولا الأرض في مذهبهم؟!!
فقد بوّب الكليني باباً مستقلاً في الكافي بعنوان ( إنّ النساء لا يرثن من العقار شيئاً ) روى فيه عن أبي جعفر قوله : ( النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً )(34)
وروى الطوسي في التهذيب والمجلسي في بحار الأنوار عن ميسر قوله (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن النساء ما لهن من الميراث ، فقال: لهن قيمة الطوب والبناء والخشب والقصب فأما الأرض والعقار فلا ميراث لهن فيهما)(39)
وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: (النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً)(39) وعن عبد الملك بن أعين عن أحدهما عليهما السلام(39) قال: (ليس للنساء من الدور والعقار شيئاً)(7/157)
كما أنّ فدك لو كانت إرثاً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكان لنساء النبي ومنهن عائشة بنت أبي بكر وزينب وأم كلثوم بنات النبي حصة منها ، لكن أبا بكر لم يعط ابنته عائشة ولا أحد من نساء النبي ولا بناته شيئاً استناداً للحديث ، فلماذا لا يُذكر هؤلاء كطرف في قضية فدك بينما يتم التركيز على السيدة فاطمة وحدها؟!!
هذا على فرض أنّ فدك كانت إرثاً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما إذا كانت فدك هبة وهدية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة رضوان الله عليها كما يروي ذلك الكاشاني في تفسيره الصافي 3/186 فالأمر يحتاج إلى وقفة أخرى أيضاً.
فعلى فرض صحة الرواية والتي تناقضها مع روايات السنة والشيعة حول مطالبة السيدة فاطمة رضوان الله عليها لفدك كأرث لا كهبة من أبيها ، فإننا لا يمكن أن نقبلها لاعتبار آخر وهو نظرية العدل بين الأبناء التي نص عليها الإسلام.
إنّ بشير بن سعد لمّا جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ، إني قد وهبت ابني حديقة واريد أن أُشهدك ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أكُلّ أولادك أعطيت؟ قال: لا ، فقال النبي صلوات الله وسلامه عليه ( اذهب فإني لا أشهد على جور )(39)
فسمّى النبي صلى الله ليه وآله وسلم تفضيل الرجل بعض أولاده على بعض بشيء من العطاء جوراً ، فكيف يُظن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنبي معصوم لا يشهد على جور أن يفعل الجور ( عياذاً بالله )؟!! ، هل يُظن به وهو أمين من في السماء أو يجور في أمانة أرضية دنيوية بأن يهب السيدة فاطمة فدك دون غيرها من بناته؟!! فكلنا يعرف أنّ خيبر كانت في السنة السابعة من الهجرة بينما توفيت زينب بنت رسول الله في الثامنة من الهجرة ، وتوفيت أم كلثوم في التاسعة من الهجرة ، فكيف يُتصور أن يُعطي رسول الله فاطمة رضوان الله عليها ويدع أم كلثوم وزينباً؟!!(7/158)
والثبات من الروايات أنّ فاطمة رضوان الله عليها لمّا طالبت أبو بكر بفدك كان طلبها ذاك على اعتبار وراثتها لفدك لا على أنها هبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولذا فإنّ فدك لم تكن لا إرثاً ولا هبة ، وهذا ما كان يراه الإمام علي نفسه إذ أنه لمّا استُخلف على المسلمين لم يعط فدك لأولاده بعد وفاة أمهم فاطمة بحيث يكون له الربع لوجود الفرع الوارث ، وللحسن والحسين وزينب وأم كلثوم الباقي { للذكر مثل حظ الأنثيين } وهذا معلوم في التاريخ ، فلماذا يُشنع على أبي بكر في شيء فعله علي بن أبي طالب نفسه ؟!! بل يروي السيد مرتضى ( الملقب بعلم الهدى ) في كتابه الشافي في الإمامة عن الإمام علي ما نصه ( إنّ الأمر لمّا وصل إلى علي بن أبي طالب عليه السلام كُلّم في رد فدك ، فقال: إني لأستحيي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر )(2)
وما كدت أشرف على إغلاق ملف قضية فدك ومناقشة أدلتها حتى وقعت على رواية طريفة تُعبر بالفعل عن المأساة الحقيقة التي يعيشها من يريدون القدح بأبي بكر بأي طريقة كانت ( شرعية وغير شرعية )!!
روى الكليني في الكافي عن أبي الحسن قوله ( … وردّ على المهدي ، ورآه يردّ المظالم ، فقال: يا أمير المؤمنين! ما بال مظلمتنا لا تُرد؟ فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: إنّ الله تبارك وتعالى لمّا فتح على نبيه صلى الله عليه وآله فدك … ، فقال له المهدي: يا أبا الحسن! حدّها لي ، فقال: حد منها جبل أحد ، وحد منها عريش مصر ، وحد منها سيف البحر ، وحد منها دومة الجندل ).(29) فأين أرض في خيبر من مساحة كهذه ؟!! ألهذا الحد يُستخف بعقول الناس؟!!
الكاتب: العاملي العاملي اضيف الموضوع يوم 05-05-99 10:02 PS رضي الله عنه
بسم الله الرحمن ارحيم
موقف فاطمة الزهراء من خلافة أبي بكر
بقلم : العاملي(7/159)
إن موقف الزهراء عليها السلام من أبي بكر وعمر يتضمن عدة قضايا ، لا بد أن نحددها أولا ، ونوضح حدود كل واحدة منها تحديدا شرعيا وقانونيا ، ثم نبحثها . ولا يصح أن نصادر المسألة ، ونصورها على أنها مسألة مطالبة من الزهراء بمزرعة فدك ، وأن أبا بكر أجابها بأن الانبياء مستثنون من قانون الارث الشرعي وانتهى الامر.
إن موقف الزهراء من خلافة أبي بكر وعمر يتضمن عدة مسائل وقضايا أساسية:
القضية الاولى : أن الزهراء أدانت بيعة السقيفة ، واتهمتهم بأنهم خالفوا الرسول
ونكثوا بيعة علي في يوم الغدير ، وانقلبوا على أعقابهم !
وكان موقفها نفس موقف علي والعباس وعدد كبير من المهاجرين والانصار الذين امتنعوا عن البيعة وأدانوا السقيفة ، وكانوا مجتمعين في بيت علي وفاطمة ، في راسم تعزية أهل البيت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فهاجمهم عمر وجماعته بأمر أبي بكر لا لكي يعزوهم ، بل ليهددوهم إما أن يبايعوا وإما أن يحرقوا عليهم الدار !!
وبالفعل أحرقوا باب الدار الخارجي وضربوا فاطمة الزهراء ، التي خرجت محاولة أن تردهم لعلهم يحترمون بنت نبيهم وهي في اليوم الثاني من مصيبتها بفقد أبيها !!
ثم قامت الزهراء بعدة أعمال لنصرة الامام الشرعي علي (ع) وإفشال المؤامرة ..
ومن ذلك أنها ذهبت مع علي وأولادهما الى بيوت زعماء الانصار تذكرهم أنهم بايعوا النبي على حمايته وحماية أهل بيته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم !!
ثم قامت بإعلان تحريم بيعة أبي بكر والدعاء عليه وعلى عمر ..
ثم خطبت حطبتها التاريخية في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بحضور المسلمين وأدانت خلافة أبي بكر وعمر .
ثم لما صادروا منها مزرعة فدك ، أدانت عملهم وطالبت بها وبما صادروه من إرثها
من النبي (ص)
ثم قامت بمقاطعة أبي بكر وعمر ولم تكلمهما الى آخر حياتها ، ولم تقبل منهما
عندما جاء ا الى زيارتها واعتذرا عن مهاجمة بيتها !!
وهذه القضية فيها عدة مسائل عقيدية وفقهية ..(7/160)
منها : هل أن فاطمة الزهراء سيدة نساء أهل الجنة أخطأت لانها لم تبايع أبا بكر
وماتت ميتة جاهلية ، لان من مات ولم يعرف إمام زمانه مات موتة جاهلية ؟!
منها : هل تكون بيعة أبي بكر وعمر شرعية ، بعد أن شهدت سيدة نساء أهل الجنة
بأنها خيانة ؟!
ومنها: لماذا أصرت فاطمة على أن تدفن خفية ولا يشارك في جنازتها أبو بكر ولا عمر وأنصارهما ؟!!
ومنها .. ومنها ...الخ.
القضية الثانية : موقف السلطة من المنح التي كان أعطاها الرسول للمسلمين في حياته ، وهي إقطاعات كثيرة تركتها السلطة بأيدي أصحابها ولم تصادر منها إلا مكان أعطاه لاهل بيته خاصة ، فصادرت مزرعة فدك من يد فاطمة وعلي !!
القضية الثالثة : موقف السلطة من التشريع الاسلامي المجمع عليه الذي يحرم الصدقات والزكوات على أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ويشرع لهم بدلها الخمس ..
فلماذا حرمت السلطة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من حقهم الشرعي في ميزانية الدولة ؟!
فمسألة فدك أيها الاخ ( المحب لاهل البيت ) إنما هي مفردة واحدة من سياسة
الدولة الاقتصادية في اضطهاد أهل بيت نبيهم بمجرد رحيله الى ربه !!
ـ وهي تشمل مسائل عديدة أيضا :
المسألة الاولى : هل أن مزرعة فدك إرث ، أم أنها كانت منحة أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم (في حياته لفاطمة واستلمتها ، وجعلت عليها وكيلا واستغلتها سنة أو سنتين في حياة النبي ؟
نحن نثبت أنها كانت بيدها ، واليد على الشئ علامة الملكية ، وأن أبا بكر صادرها
وعليه هو أن يأتي ببينة على جواز مصادرته لملكية شرعية صحيحة تحت يد مالكها ؟
ومن العجيب أن عددا ممن منحهم الرسول منحا وإقطاعات من الاراضي بعد فاطمة
أبقاها أبو بكر في أيديهم ، ولم يصادرها ولم يطالبهم بدليل كما طالب فاطمة ؟!!!
الثانية : أن القرآن ينص على قانون الارث وتشريعات الاسلام عامة شاملة للرسول
وغيره ، إلا ماخرج منها بدليل مثل حق الرسول في الزواج بأكثر من أربع زوجات .(7/161)
فأين الدليل هنا على استثناء الرسول من قانون الارث ؟!
إنه لايوجد دليل إلا مارواه أبو بكر وأجاب به فاطمة الزهراء ! ولم يروه أحد غيره
من المسلمين أبدا !! حتى أن الهيتمي اعترف في مجمع الزوائد مجلد 9 ص 40 ، بأن روايتهم للحديث عن حذيفة في الطبراني الاوسط فيه الفيض بن وثيق وهو كذاب !
ولهذا السبب تجد في علم الاصول بحثا اسمه ( هل يجوز نسخ القرآن أو تخصيصه بخبر الواحد ؟ ) لان رواي هذا النسخ أو التخصيص هو أبو بكر وحده !!
وهنا يحق للمسلم أن يسأل :
ـ هل يعقل أن النبي لم يخبر أهل بيته ولا أحدا من المسلمين بأنه مستثنى من قانون
الارث الشرعي ، وأخبر بذلك أبا بكر وحده فقط وفقط ؟!!
ـ وهل يعقل أن فاطمة تعرف ذلك وتطالب بما ليس لها به حق ، وتريد أن تطعم
أولادها من المال الحرام ، وفي طليعتهم سيدا شباب أهل الجنة ؟!!
أو تسرق لهم من أموال المسلمين ؟!!
إن كل واحد من هذه المسائل والقضايا فيها بحوث وكتب .. فأرجو أن تقرأ أكثر ..
ولا تستعجل بالاحكام . ,
أما الحديث الذي ذكرت أنه ورد في مصادرنا ، وأن بعض العلماء صححوه ، فياليتك
قرأته جيدا ، لتعرف أنه يختلف عن حديث أبي بكر اختلافا أساسيا !
فهو إخبار عن سيرة الانبياء وسنتهم بأنهم لم يهتموا بتوريث المال ، بل بتوريث
العلم ، ولكن ذلك لايعني أنهم مستثنون من قانون الارث الشرعي ، وأن ما يملكون من مال ينزع من أيدي أولادهم وذرياتهم !!
إن نص حديث أبي بكر ( لا نورث ) ونص هذا الحديث ( لم يورثوا ) !! (
نعم إنهم لم يهتموا بتوريث المال بل بتوريث العلم ، وما ورثوه من المال لايعتبر
ذا قيمة مالية ، ولكنه ذو قيمة شرعية وحقوقية كبيرة !!
وليتك تسأل حقوقيا عن الفرق بين : لا نورث ، ولم يورثوا .. والسلام .
نصوص تتعلق بالموضوع :
_ فى صحيح البخارى ـ مجلد 5 ص 82
عن عائشة أن فاطمة بنت النبى صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبى بكر تسأله(7/162)
ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما
بقى من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث
ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، وإني والله لا أغير شيئا من
صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التى كان عليها في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولاعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك
فهجرته ، فلم تكلمه حتى توفيت !!
- وفي السنن الكبرى للبيهقي ـ مجلد: 6 ص 298
فقال أبو بكر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نورث ماتركنا صدقة فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا ، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق .
ثم توفي أبو بكر فقلت أنا ولي رسو ل الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر رضي الله عنه فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا ! والله يعلم انى صادق بار راشد تابع للحق
ـ وفي المستصفى للغزالي ـ مجلد 1 ص 228
وكلام من ينكر خبر الواحد ولا يجعله حجة في غاية الضعف ، ولذلك ترك توريث
فاطمة رضي الله عنها بقول أبي بكر : نحن معاشر الانبياء لا نورث ...الحديث ..
فنحن نعلم أن تقدير كذب أبي بكر وكذب كل عدل أبعد في النفس من تقدير كون
آية المواريث مسوقة لتقدير المواريث لا للقصد إلى بيان حكم النبي عليه الصلاة والسلام.
الكاتب: الناشر الرسالي اضيف الموضوع يوم 05-05-99 10:55 PS رضي الله عنه
-------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم جميعا
أشكر الاخوة جميعا على هذا النقاش الجميل ...
لكن لو يتكرموا ويعرضوا لنا خطبة سيدة نساء العالمين عليها السلام ليرى الجميع رأيها مباشرة..
ولكم جزيل الشكر
الكاتب: sham صلى الله عليه وسلم s22 اضيف الموضوع يوم 06-05-99 07:56 PS رضي الله عنه(7/163)
------------------------------
هل هذا أستهزاء بعلي من الشيعه قالوا أن عمر رضي الله عنه ضرب فاطمه رضي الله عنها وهددهم وأسقط جنينها وكانت غاضبه منه وعلي رضي الله عنه واقف هكذا بكل بساطه أين كلامكم الحيدر والضرغام ويحمل باب خيبر والقوه والمنعه عنده ويقف ساكتا وعمر يضرب زوجته فاطمه رضي الله عنها ويسقط جنينها ثم يزوج عمر رضي الله عنه من أبنه فاطمه رضي الله عنها أم كلثوم الى عمر اذن علي يشاركهم بالخطأ هذا ما تقولون اذن طالما فاطمه زعلانه وغاضبه من أبو بكر وعمر رضي الله عنهم لابد أن يكون علي أيضا غاضب حسب حججكم وهو معصوم وقوي علي رضي الله عنه اذن كيف يخطئ هذا الخطأ ويزوج بنت فاطمه لعمر وهي أبنته أيضا اذن أين غضب فاطمه ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فعلي معهم بالأضافه(7/164)
الى أن علي أخذ من السبي أم محمد أبن علي أبن أبي طالب وكان ذلك في عهد أبو بكر رضي الله عنهما وهذا لايجوز عند الشيعه لأنه قبول بالظلم وخصوصا من امام معصوم وليس واحدا من البشر أي شخصا عاديا وهذا وما سبقه يدحض ما تقول عن قصصكم بأنه ضرب فاطمه رضي الله عنها وأسقط جنينها وهدد بحرق الدار أصلا هذا لايجوز بحق علي رضي الله عنه الشجاع المقدام يموت الرجل ولاتهتك داره فما بالك بعلي رضي الله عنه وهذه القصه بأنه ضرب فاطمه وهدد ملفقه ولا تنطبق على علي بتاتا الحيدر الذى ضحى بنفسه ونام في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم في صغره الشجاع القوي وكما تقولون المعصوم يترك الأمر هكذا للداخل والخارج في داره وبعد هذا يكافئ عمر رضي الله عنه بتزويجه من أبنه فاطمه الغاضبه على عمر رضي الله عنهما وغاضبه على أبو بكر أيضا كما تزعمون ويدخل علي رضي الله عنه الحرب والحاكم أبو بكر رضي الله عنها ويسبي أم .......أبنه محمد بن الحنفيه.......... من بني حنيفه فمن أعان ظالما ....... اذن تعريفكم ان ابو بكر ظالم وعلي ساند وأعان الظالم فهل تقبلون أن يعين علي ظالما ويكون ظالما مثله أم أن أبوبكر ليس ظالما وعلى حق وعلي يعينه على الحق اذن أين المعصوميه أين العداله أين الأنصاف في رواياتكم فالله المستعان
[حرر الموضوع بواسطة sham صلى الله عليه وسلم s22 (06-05-99).]
الكاتب: محب اهل البيت اضيف الموضوع يوم 06-05-99 08:16 PS رضي الله عنه
-----------------------------------------
السلام عليكم
رغم اني طرحت موضوع فدك لا الخلافة الا أن العاملي مصر على ان يجرنا إلى موضوع الخلافة!!!
ورغم اني ذكرت ان الحديث صحيح عند الفريقين السنة والشيعة الا ان العاملي مع ذلك يشكك فيه بطريقة غير مباشرة ، فسبحان الله ، الى هذا الحد يصل التعصب!!!
كما ذكرت في المقالة نفسها انه لا وجه لاستشهاد بالآيات السابقة ومع ذلك العاملي كأنه ما قرأ شيئاً!!(7/165)
ثم ما دخل كون فاطمة رضوان الله عليها كسيدة في الجنة من حديث فدك ، وهل يعيني كونها سيدة نساء الجنة أن لا تخطأ ( مع ان العصمة للأنبياء فقط ) فلماذا تقحم هذه الأمور في ردك؟!!
وما دخل حديث ( من لم يعرف امام زمانه ... ) في فدك؟
فالموضوع المطروح هو فدك ، فاما ان يكون الرد على القضية ذاتها او يستحسن ان لا يكون هناك رد ، على الأقل لعدم اشغالنا فيما لا نفع فيه.
الكاتب: ALABBASY اضيف الموضوع يوم 06-05-99 12:53 PS رضي الله عنه
-----------------------------------
جزاك الله يا محب اهل البيت و ياليت لو تتكلم أيضا عن القضايا الشركية عند الشيعة فلقد شاهدت شريط فيديو فيه احد اهل العمامامات السود يدعو فيها الشيعة في ليلة السابع اوا لثامن من محرم التي يسمونها ليلة العباس ابو فاضل و يدعوهم ويحثهم على الستغاثة بالعباس بن علي رضي الله عنه حتي انني و الله تقززت من كلامه و لا اجد فرقا بين استغاثتهم و استغاثة النصاري بعيسي عليه السلام ... بل و يحكي من الأكاذيب في قصة حرب الحسين مع جيش الكوفة ما جعل فيها العباس اقوي من سوبر مان ... و الغريب انهم لا يذكرون في القصة أي شيء عن ابناء الحسين أو علي الذين اسمائهم عمر و عثمان و قتلوا في نفس المعركة ... سبحان الله اين العقول
----------------------------------------------------------------------
لا غالب إلا باالله
الكاتب: محب اهل البيت اضيف الموضوع يوم 12-05-99 06:59 PS رضي الله عنه
-----------------------------------------------------------------------
الأخ شامس
جزاك الله خير(7/166)
هذه المقالة تعتمد على حديث في الكافي صححه المجلسي في مرآة العقول والخميني في الحكومة الاسلامية ، والمطلوب من الشيعة الرد ، خصوصا واني لم اجلب حديث مكذوب او ضعيف عندهم ، فلماذا تتهمون ابو بكر رضوان الله عليه بغصبه فدك مع ان دليله مجمع على صحته بين السنة والشيعة!!
ثم سؤالي هو ، هل يرى الشيعة ان اغضاب السيدة فاطمة لا يجوز واغضاب رسول الله جائز؟!!
ان الاستدلال بحديث ( يغصبني ما يغضبها ) في واقعة فدك غير ملائم لأن اغضاب فاطمة رضوان الله عليها مشروط بعدم اغضاب الله ورسوله اولا ، والسيدة فاطمة لم يصلها الحديث وظنت انه غير صحيح في بادئ الأمر
بسم الله والصلاة على رسول الله محمد بن عبدالله وعلى اله وصحبه ومن والاه .
الى العاملي سلام من الله عليك ورحمه ,,,
اليك ردودي المختصره على ردك واعلم اني محب لاهل البيت الكرام ولكني لست الشخص الذي قصديه:-
إن هذا الحديث قد رواه غير أبو هريرة ..فقد رواه جابر بن عبد الله وعائشة وأنس ومن أهل البيت رضي الله عنهم .
انت قلت (ومن ذلك أنها ذهبت مع علي وأولادهما الى بيوت زعماء الانصار تذكرهم ببيعتهم لعلي يوم الغدير ، وبأنهم بايعوا النبي (ص ) على |ن يحموه وأهل بيته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم !! ) ارجوا ان تذكر الحديث بالكامل ولا تنس ذكر الحمار.
انت قلت (وأدانت خلافة أبي بكر وعمر .) هل فاطمه ممن شهد عهد الخليفه الفاروق؟ فمالكم وعمر صهر الرسول وعلي؟؟؟(7/167)
انت قلت (ثم لما صادروا منها مزرعة فدك ، أدانت عملهم وطالبت بها وبما صادروه من إرثها من النبي صلى الله عليه وسلم ) والله انك تناقض نفسك انت تدعي انها غضبت على ابي بكر ولم تكلمه في فدك حتى ماتت فكيف تطالبه بالخلافه؟ واين علي من المطالبه؟ اليس هو الذي قلتوا فيه لولا سيف علي لاصبح الاسلام ضرطة عنز؟؟ اهذا قدر الاسلام؟ واين الرسول صلى الله عليه وسلم من الاسلام؟ واين الله سبحانه الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده؟
حرمت الصدقه على ال البيت واحلت لهم الزكاة وكلامك غير صحيح فراجع.
انت قلت نعم إنهم لم يهتموا بتوريث المال بل بتوريث العلم ) هل هذا اقرار بصحة الحديث واعتراف غير مقصود منك بالحديث؟ ثم اين دليلك على انهم برثون المال ؟
اما السلاجقه والاتراك مالهم ومال الرشيد؟ هل انت راسب بالتاريخ ام انكم لاتعترفون نهذا التاريخ؟ ولزيادة معلوماتك التاريخيه اقول:
ان الخلافه العباسيه سقطت على يد المغول وانت تعلم من الذي ساعد المغول على ذلك و مع ذلك يقول حاخام إيران الأكبر الخميني:
و يشعر الناس بالخسارة بفقدان الخواجة نصير الدين الطوسي و أضرابه ممن قدموا خدمات جليلة للإسلام و نحن نسأل نائب الخرافة المنتظر ما هي الخدمات التي قدمها للإسلام و المسلمين غير القتل و الإرهاب؟ و أما إذا كان يقصد خدماته التي قدمها للطاغية التتري هولاكو و أنه يمثل الإسلام، فهذا يكون له وجه آخر عند من يكون همهم معاونة الكفار على أهل السنة.
السلاجقه هم امتداد للدوله العثمانيه ولعلمك ان الدوله العثمانيه نشرت الاسلام في البوسنه والهرسك والبانيا وبلغاريا وما فعلت الشيعه غير محاربة المسلمين انه والله تناقض القطبين!!
ثم الاسلام للعرب فقط؟ ام انك من القوميين؟
ختاما الحيازه في المنقول سند الملكيه قاعده فقهيه وقانونيه ولكنك لاتفرق بين المنقول والعقار انصحك بالقراءه.(7/168)
وان كان لديك دليل من الشريعه وكل قوانين العالم ان الحيازه تكون للعقار والمنقول بدون اختلاف بمعنى ان اي شخص يحوز ارضا اوعقارا في حال غياب صاحبه ولنقل للحج مثلا يتملكه بالحيازه دون الحاجه لسند الملكيه ودون الالتفاف للمالك الاصلي فاتني به وهدفي من ذلك طبعا ان ابرهن لك ان حيازه فاطمه لفدك مثلا لايعني التملك خلال حياة ابيها صلى الله عليه وسلم الا بطرق نقل الملكيه كالهبه والبيع والتبرع وغيرها واما الحيازه تكون سندا للملكيه في المنقول دون العقار وان كان لديك ادله على حيازه فاطمه لشيء من مال ابيها حال حياته فاتني به.
واما قولك لما لم يحاسب ابابكر الذين اخذوا الاموال من الرسول صلى الله عليه وسلم فاليك الاجابه :-
الامر بسيط ان الصحابه الذين اخذوا من الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم هو من الغنائم التي من الله عليهم بها جزاءا على قتالهم ونصرتهم الاسلام ويشترط في الغنيمه التي تكون للمجاهد ان يكون هناك قتال اما اذا غنم المسلمين شيئا دون قتال فهو للرسول او الامام من بعده وفدك من غنائم خيبر التي دخلت للمسلمين دون قتال وبذلك تكون للرسول صلى الله عليه وسلم وهنا طبق الخليفه حديث الرسوا ولامجال ولا منطق ان ياخذ الخليفه ماغنمه الصحابه مما اثابه الله لهم واصبح ملكا لهم حيث وعدهم الله ان يخلفهم نالارض وصدق وعده.
هذا ردي لك باختصار وليعذرني اخواني ان نسيت فانني بشر والله ولي التوفيق.
================
طعن الرافضي في أبي بكر بخلافه مع فاطمة -رضي الله عنهما- في الميراث والرد عليه
قال الرافضي ص136: «فهاهو البخاري يخرج من باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني.(7/169)
كما أخرج في باب غزوة خيبر عن عائشة: أن فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منه شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت.
والنتيجة في النهاية هي واحدة ذكرها البخاري باختصار وذكرها ابن قتيبة بشيء من التفصيل ألا وهي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب لغضب فاطمة، ويرضي لرضاها، وأن فاطمة ماتت وهي غاضبة على أبي بكر وعمر...».
قلت: ما ذكره المؤلف هنا من مطاعن الرافضة المشهورة على أبي بكر - رضي الله عنه - التي تناقلتها كتبهم القديمة. وقد رد العلماء عليهم في ذلك حتى ظهر الحق وبطل افتراء الرافضة وتلبيسهم في هذه المسألة.
وسأذكر هنا بعض الأوجه التي تندفع بها هذه الفرية مضمناً
الكلام بعض النقول المهمة عن أهل العلم في دحضها.
الوجه الأول: أن كتب الرافضة متناقضة في نقل هذه الحادثة فبعضها تذكر أن فاطمة طالبت بفدك(1) لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منحها إياها،(2) وبعضها تذكر أن فاطمة -رضي الله عنها- طالبت بإرثها(3) وهذا تناقض واضح يدل على اضطراب القوم، وجهلهم بأصل هذه المسألة، وبالتالي سقوط ما بنوا عليها من أحكام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «إن ما ذكر من ادعاء فاطمة -رضي الله عنها- فدك فإن هذا يناقض كونها ميراثاً لها، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت فرسول الله صلى الله عليه وسلم منزه إن كان يُورث كما يُورث غيره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(7/170)
(1) قرية بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، أرسل أهلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر، وطلبوا منه أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم، فأجابهم إلى ذلك. فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي 4/238.
(2) انظر: الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للنباطي 2/282، وحق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبّر 1/178.
(3) انظر: الاحتجاج للطبرسي 1/102.
أن يوصي لوارث، أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه، وإن كان في صحته فلابد أن تكون هذه هبة مقبوضة، وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه، ولم يقبض الموهوب شيئاً حتى مات الواهب كان ذلك باطلاً عند جماهير العلماء، فكيف يهب النبي صلى الله عليه وسلم فدكاً لفاطمة ولا يكون هذا أمراً معروفاً عند أهل بيته والمسلمين، حتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي -رضي الله عنهما-(1)». (2)
الوجه الثاني: أن الصحيح الثابت في هذه الحادثة أن فاطمة -رضي الله عنها- طالبت أبا بكر بميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر إليها من ذلك محتجاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا نورث، ما تركنا صدقة) على ما أخرج ذلك الشيخان من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: (لا نورث، ما تركنا صدقه، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال، وإني والله لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(7/171)
(1) في هذا رد على الرافضة في زعمهم أن أم أيمن وعلياً -رضي الله عنهما- شهدا بمنح رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فدكاً. انظر: الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للنباطي 2/282.
(2) منهاج السنة 4/228.
أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أبو بكر أن يدفع لفاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت). (1)
فقد كانت فاطمة -رضي الله عنها- مجتهدة في ذلك، اعتقدت أن الحق معها، ثم لما رأت من عزم الخليفة على رأيه أمسكت عن الكلام في المسألة، وما كان يسعها غير ذلك.
قال ابن حجر في توجيه اجتهادها: «وأما سبب غضبها [أي فاطمة] مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: (لا نورث) ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عنه،وتمسك أبو بكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل، فلما صمم على ذلك انقطعت عن الاجتماع به لذلك». (2)
الوجه الثالث: أن السنة والإجماع قد دلا على أن النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في: (كتاب المغازي، باب غزوة خيبر) فتح الباري 7/493، ح4240-4241، ومسلم: (كتاب الجهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نورث) 3/1380، ح1759.
(2) فتح الباري 6/202.
لا يورث فيكون الحق في هذه المسألة مع أبي بكر - رضي الله عنه -.(7/172)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «كون النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث ثبت بالسنة المقطوع بها، وبإجماع الصحابة، وكل منهما دليل قطعي، فلا يعارض ذلك بما يظن أنه عموم، وإن كان عموماً فهو مخصوص، لأن ذلك لو كان دليلاً لما كان إلا ظنياً فلا يعارض القطعي، إذ الظني لا يعارض القطعي، وذلك أن هذا الخبر(1) رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره بل كلهم تلقاه بالقبول والتصديق، ولهذا لم يصرّ أحد من أزواجه على طلب الميراث ولا أصرّ العم على طلب الميراث، بل من طلب من ذلك شيئاً فأخبر بقول النبي صلى الله عليه وسلم رجع عن طلبه، واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى علي، فلم يغير من ذلك شيئاً، ولاقسم له تركة». (2)
وبإجماع الخلفاء الراشدين على ذلك احتج الخليفة العباسي أبو العباس السفاح على بعض مناظريه في هذه المسألة على ما نقل ابن الجوزي في تلبيس إبليس قال: «وقد روينا عن السفاح أنه خطب يو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يشير إلى الحديث الذي احتج به أبو بكر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا نورث، ما تركنا صدقه)، وقد تقدم تخريجه في الصحفة السابقة.
(2) منهاج السنة 4/220.
فقام رجل من آل علي - رضي الله عنه - قال: أنا من أولاد علي - رضي الله عنه -، فقال: يا أمير المؤمنين أعدني على من ظلمني قال: ومن ظلمك؟ قال: أنا من أولاد علي - رضي الله عنه - والذي ظلمني أبو بكر - رضي الله عنه - حين أخذ فدك من فاطمة، قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ قال: عمر - رضي الله عنه -، قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ قال عثمان - رضي الله عنه -، قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟فجعل يلتفت كذا وكذا ينظر مكاناً يهرب منه...». (1)(7/173)
وبتصويب أبي بكر - رضي الله عنه - في اجتهاده صرح بعض أولاد علي من فاطمة -رضي الله عنهما- على ماروى البيهقي بسنده عن فضيل بن مرزوق قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: (أما لو كنت مكان أبي بكر، لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك). (2)
كما نقل القرطبي اتفاق أئمة أهل البيت بدأً بعلي - رضي الله عنه - ومن جاء بعده من أولاده، ثم أولاد العباس الذين كانت بأيديهم صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنهم ما كانوا يرون تملكها، وإنما كانوا ينفقونها في سبيل الله قال -رحمه الله-: «إن علياً لما ولي الخلافة لم يغيرها عما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تلبيس إبليس ص135.
(2) السنن الكبرى 6/302 ، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 5/253.
عمل فيها في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، ولم يتعرض لتملكها، ولا لقسمة شيء منها، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان من قبله يصرفها فيها، ثم كانت بيد حسن بن علي، ثم بيد حسين بن علي، ثم بيد علي بن الحسين، ثم بيد الحسين بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسين، ثم بيد عبدالله بن الحسين، ثم تولاها بنو العباس على ما ذكره أبو بكر البرقاني في صحيحه، وهؤلاء كبراء أهل البيت -y- وهم معتمد الشيعة وأئمتهم، لم يُرو عن واحد منهم أنه تملكها ولا ورثها ولا ورثت عنه، فلو كان ما يقوله الشيعة حقاً لأخذها علي أو أحد من أهل بيته لما ظفروا بها ولم فلا». (1)
فظهر بهذا إجماع الخلفاء الراشدين، وسائر الصحابة، وأئمة أهل البيت -y- أجمعين، على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يورث، وأن ما تركه صدقة، وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الراشدين وأئمة أهل البيت الذين كانت بأيديهم صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم .(7/174)
الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بغضب فاطمة الذي يغضب له هو:أن تغضب بحق، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه، ولأحد من أهل بيته بغير حق، بل ما كان ينتصر لنفسه ولو بحق مالم تنتهك محارم الله، كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المفهم للقرطبي 3/564.
قالت: (ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله). (1)
وفاطمة -رضي الله عنها- على جلالتها، وكمال دينها، وفضلها، هي مع ذلك ليست معصومة، بل قد كانت تصدر منها بعض الأمور التي ماكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرها عليها، وقد تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشيء فلا يجيبها له: كسؤالها النبي صلى الله عليه وسلم خادماً فلم يعطها وأرشدها وعلياً للتسبيح كما ثبت في حديث علي - رضي الله عنه - في الصحيحين. (2)
وفي سنن أبي داود عن عمر بن عبدالعزيز: إن فاطمة سألت الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لها فدكاً فأبى. (3)
وثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في: (كتاب الحدود، باب إقامة الحدود) فتح الباري 12/86، ح6786، ومسلم: (كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام) 4/1813، ح2327.
(2) انظر: صحيح البخاري: (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب) فتح الباري 7/71، ح3705، وصحيح مسلم: (كتاب الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم) 4/2091، ح2727.(7/175)
(3) انظر: سنن أبي داود: (كتاب الخراج والإمارة، باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) 3/378، ح2972.
أن فاطمة جاءت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت: بلى، قال: فأحبي هذه...). (1)
فلم يجبها النبي صلى الله عليه وسلم لشيء من ذلك، فدل على عدم موافقته لها في كل شيء، بل قد تفعل الأمر مجتهدة فتخطئ فلا يقرها عليه، وبالتالي فأن لا يغضب لغضبها من باب أولى.
وطلبها ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر من جنس ذلك، فقد كانت -رضي الله عنها- مجتهدة وكان الحق في ذلك مع أبي بكر للنص الصريح في ذلك، ولموافقة الصحابة له في رأيه، فكان إجماعاً معتضداً بالنص كما تقدم، فأبو بكر في ذلك قائم بالحق متبع للنص مستمسك بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، فكيف يتصور أن يسخط بفعله هذا رسول الله، وهو إنما يعمل بشرعه، ويهتدي
بهديه.
الوجه الخامس: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني)(2)، من نصوص الوعيد المطلق التي لا يستلزم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عائشة) 4/1891، ح2442.
(2) سيأتي تخريجه مع ذكر رواياته في الصفحة التالية.(7/176)
ثبوت موجبها في حق المعنيين، إلا بعد وجود الشروط، وانتفاء الموانع.(1) هذا مع أن ما في هذا الحديث من الوعيد لو كان لازماً لكل من أغضبها مطلقاً، لكان لازماً لعلي قبل أبي بكر، ولكان لحوقه بعلي أولى من لحوقه بأبي بكر، إذ أن مناسبة هذا الحديث هو خطبة علي - رضي الله عنه - لابنة أبي جهل وشكوى فاطمة له على النبي صلى الله عليه وسلم على ما روى الشيخان من حديث المسور بن مخرمة قال: (إن علياً خطب بنت أبي جهل فسمعت بذلك فاطمة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد أنكحت أبا العاص ابن الربيع فحدثني وصدقني، وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد فترك علي الخطبة). (2)
وفي رواية: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاطمة بضعة مني فمن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: تقرير هذه المسألة في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 10/372، 28/500-501.
(2) رواه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر أصهار النبي صلى الله عليه وسلم ) فتح الباري 7/85، ح3729، ومسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ) 4/1903.
أغضبها أغضبني). (1)
فظهر أن مناسبة الحديث هي خطبة علي - رضي الله عنه - لابنة أبي جهل وغضب فاطمة من ذلك، والنص العام يتناول محل السبب، وهو نص فيه باتفاق العلماء، حتى قالوا لا يجوز إخراج السبب بدليل تخصيص، لأن دلالة العام على سببه قطعية وعلى غيره على وجه الظهور(2) وعلى هذا فلو كان هذا الحديث متنزلاً على كل من أغضب فاطمة لكان أول الناس دخولاً في ذلك علياً - رضي الله عنه -.(7/177)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ضمن رده على الرافضة في هذه المسألة وبعد أن ذكر الحديث: «فسبب الحديث خطبة علي - رضي الله عنه - لابنة أبي جهل والسبب داخل في اللفظ قطعاً، إذ اللفظ الوارد على سبب لا يجوز إخراج سببه منه، بل السبب يجب دخوله بالاتفاق.
وقد قال في الحديث: (يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) ومعلوم قطعاً أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها وآذاها، والنبي صلى الله عليه وسلم رابه ذلك وآذاه، فإن كان هذا وعيد لاحقاً لزم أن يلحق هذا الوعيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم ) فتح الباري 7/78، ح3714.
(2) انظر: المسودة في أصول الفقه للأئمة الثلاثة من آل تيمية: شيخ الإسلام وأبيه شهاب الدين وجده أبي البركات ص119، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص360.
علي بن أبي طالب، وإن لم يكن وعيداً لاحقاً بفاعله، كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من علي». (1)
الوجه السادس: أن فاطمة -رضي الله عنها- كانت قد رجعت عن قولها في المطالبة بإرث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما نص على ذلك غير واحد من الأئمة في الحديث والسير.
قال القاضي عياض: «وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث: التسليم للإجماع على قضية، وأنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل، تركت رأيها ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث، ثم ولي علي الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر، وعمر -y-». (2)
وقال القرطبي: «فأما طلب فاطمة ميراثها من أبيها من أبي بكر فكان ذلك قبل أن تسمع الحديث الذي دل على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكانت متمسكة بما في كتاب الله من ذلك، فلما أخبرها أبو بكر بالحديث توقفت عن ذلك ولم تعد إليه». (3)(7/178)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «فهذه الأحاديث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 4/251.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي 12/73.
(3) المفهم 3/563.
الثابتة المعروفة عند أهل العلم، وفيها ما يبين أن فاطمة -رضي الله عنها- طلبت ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت تعرف من المواريث، فأخبرت بما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت ورجعت». (1)
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «وقد روينا أن فاطمة -رضي الله عنها- احتجت أولاً بالقياس، وبالعموم في الآية الكريمة، فأجابها الصديق بالنص على الخصوص بالمنع في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنها سلمت له ما قال، وهذا هو المظنون بها -رضي الله عنها-». (2)
فظهر بهذا رجوع فاطمة -رضي الله عنها- إلى قول أبي بكر وما كان عليه عامة الصحابة، وأئمة أهل البيت من القول بعدم إرث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو اللائق بمقامها في الدين والعلم -فرضي الله عنها وأرضاها-.
الوجه السابع: أنه ثبت عن فاطمة -رضي الله عنها- أنها رضيت عن أبي بكر بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، على ماروى البيهقي بسنده عن الشعبي أنه قال: (لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها، فقال علي: يافاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك؟ فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 4/234.
(2) البداية والنهاية 5/252.
يترضاها، فقال: والله ما تركت الدار والمال، والأهل والعشيرة، إلا إبتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت). (1)
قال ابن كثير: «وهذا إسناد جيد قوي والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي». (2)(7/179)
وقال ابن حجر: «وهو وإن كان مرسلاً فاسناده إلى الشعبي صحيح، وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر». (3)
وقال أيضاً: «فإن ثبت حديث الشعبي أزال الإشكال وأخلق بالأمر أن يكون كذلك، لما علم من وفور عقلها ودينها، عليها السلام». (4)
وبهذا تندحض مطاعن الرافضة على أبي بكر التي يعلقونها على غضب فاطمة عليه، فلئن كانت غضبت على أبي بكر في بداية
الأمر فقد رضيت عنه بعد ذلك وماتت عليه، ولا يسع أحد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السنن الكبرى للبيهقي 6/301.
(2) البداية والنهاية 5/253.
(3) فتح الباري 6/202.
(4) المصدر نفسه.
صادق في محبته لها، إلا أن يرضي عمن رضيت عنه، ولا يعارض هذا ما ثبت في حديث عائشة المتقدم (أنها وجدت على أبي بكر فلم تكلمه حتى توفيت)(1) فإن هذا بحسب علم عائشة -رضي الله عنها- راوية الحديث، وفي حديث الشعبي زيادة علم، وثبوت زيارة أبي بكر لها وكلامها له ورضاها عنه، فعائشة -رضي الله عنها- نفت والشعبي أثبت، ومعلوم لدى العلماء أن قول المثبت مقدم على قول النافي، لأن احتمال الثبوت قد حصل بغير علم النافي، خصوصاً في مثل هذه المسألة فإن عيادة أبي بكر لفاطمة -رضي الله عنها- ليست من الأحداث الكبيرة التي تشيع في الناس، ويطلع عليها الجميع، وإنما هي من الأمور العادية التي تخفى على من لم يشهدها، والتي لا يعبأ بنقلها لعدم الحاجة لذكرها.
على أن الذي ذكره العلماء أن فاطمة -رضي الله عنها- لم تتعمد هجر أبي بكر - رضي الله عنه - أصلاً، ومثلها ينزه عن ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجر فوق ثلاث، وإنما لم تكلمه لعدم الحاجة لذلك.(7/180)
قال القرطبي في سياق شرحه لحديث عائشة المتقدم: «ثم إنها (أي فاطمة) لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولملازمتها بيتها فعبر الراوي عن ذلك بالهجران، وإلا فقد قال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه ص 423.
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)(1) وهي أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم، وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) كيف لا يكون كذلك وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدة نساء أهل الجنة». (2)
وقال النووي: «وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر - رضي الله عنه - فمعناه انقباضها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرم، الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء، وقوله في هذا الحديث (فلم تكلمه) يعني في هذا الأمر، أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت
إلى لقائه فتكلمه، ولم ينقل قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته». (3)
وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة، وتبطل دعوى الرافضي وتندحض شبهته بما تم تقريره من خلال النصوص والأخبار الصحيحة الدالة على براءة الصديق من مطاعن الرافضي، وأن ما جرى بين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - في: (كتاب الأدب، باب الهجرة) فتح الباري 10/492، ح6077، ومسلم: (كتاب البر والصلة، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي) 4/1984، ح2560.
(2) المفهم 3/568-569.
(3) شرح صحيح مسلم 12/73.
الصديق وفاطمة لايعدو أن يكون اختلافاً في مسألة فقهية ظهر
لفاطمة -رضي الله عنها- الحق فيها فرجعت له، وعرف لها الصديق فضلها، فعادها قبل وفاتها واسترضاها فماماتت إلا وهي راضية عنه فرضي الله عنهما جميعاً.
===============(7/181)
إتهام الرافضي أبا بكر بالظلم بمنعه فاطمة من الميراث
قال الرافضي ص164 ضمن أسباب استبصاره بزعمه:
«2- خلاف فاطمة مع أبي بكر:
وهذا الموضوع أيضاً مجمع على صحته من الفريقين فلا يسع المنصف العاقل إلا أن يحكم بخطأ أبي بكر، إن لم يعترف بظلمه وحيفه على سيدة النساء» الخ كلامه في هذا.
قلت: تقدم الرد عليه في هذه المسألة من أكثر من سبعة أوجه بينت فيها تفصيل هذه المسألة، وأن أبا بكر كان متمسكاً بالنص في عدم تسليم فاطمة ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا انعقد إجماع الصحابة بما فيهم أهل البيت، كما ثبت رجوع فاطمة عن قولها ومصالحتها لأبي بكر -رضي الله عنهما- فلتراجع هذه المسألة في موضعها من البحث.(1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر ص 420-436 من هذا الكتاب.
دعوى الرافضي الإجماع على إمامة علي
وفضله وعدم الإجماع على إمامة أبي بكر والرد عليه
قال الرافضي ص167:
«3- علي أولى بالاتباع:
ومن الأسباب التي دعتني للاستبصار وترك سنة الآباء والأجداد، الموازنة العقلية والنقلية بين علي بن أبي طالب وأبي بكر...
وقد فتشت في كتب الفريقين فلم أجد إجماعاً إلا على علي بن أبي طالب، فقد أجمع على إمامته الشيعة والسنة في ما ورد من نصوص تثبتها مصادر الفريقين، بينما لا يقول بإمامة أبي بكر إلا فريق من المسلمين....
كما أن كثيراً من الفضائل والمناقب التي يذكرها الشيعة في علي بن أبي طالب لها سند ووجود حقيقي ثابت في كتب أهل السنة المعتمدة عندهم، ومن عدة طرق لايتطرق إليها الشك، فقد روى الحديث في فضائل الإمام علي جمع غفير من الصحابة حتى قال أحمد ابن حنبل: ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل كما جاء لعلي بن أبي طالب.(7/182)
وقال القاضي إسماعيل والنسائي وأبو علي النيسابوري: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما جاء في علي....
أما بشأن أبي بكر فقد فتشت في كتب الفريقين فلم أجد له في كتب أهل السنة والجماعة القائلين بتفضيله ما يوازي أو يعادل فضائل الإمام علي.
على أن فضائل أبي بكر المذكورة في الكتب التاريخية مروية عن ابنته عائشة، وقد عرف موقفها من الإمام علي، فهي تحاول بكل جهدها دعم أبيها ولو بأحاديث موضوعة، أو عن عبدالله بن عمر، وهو أيضاً من البعيدين عن الإمام علي، وقد رفض مبايعته بعدما أجمع الناس على ذلك، وكان يحدث: أن أفضل الناس بعد النبي أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم لا تفاضل، والناس بعد ذلك سواسية، يعنى هذا الحديث أن عبدالله بن عمر جعل الإمام علياً من سوقة الناس كأي شخص عادي ليس له فضل ولا فضيلة...»
والجواب: أن هذا الكلام قد تضمن من الافتراء، والكذب، والظلم، والبغي الشيء العظيم، مما يعلمه من له أدنى اطلاع على سيرة الصحابة ووقف على النصوص، وأقوال أهل العلم في ذلك، ولولا ما أعلم من سخف عقول هؤلاء الرافضة، وخسة طباعهم، وقلة حيائهم، وعظيم جرأتهم على الكذب والبهتان، لتعجبت أن يصدر هذا الكلام من عاقل يزعم أنه يستند في بحثه للنصوص الصحيحة، ويدعى التحقيق العلمى المتجرد، يخاطب الناس بهذا الكلام الذي يعلم الخاص والعام أنه محض كذب وافتراء.
فقوله فتشت في كتب الفريقين فلم أجد إجماعاً إلا على علي بن أبي طالب، فقد أجمع على إمامته السنة والشيعة، بينما لا يقول بإمامة أبي بكر إلا فريق من المسلمين.
فهذا القول مع ما تضمنه من الكذب فهو ليس بحجة على ما ادعى من بطلان خلافة أبي بكر، إذ ليس من شرط صحة خلافة أبي بكر إجماع كافة الفرق عليها، ونظير هذا القول قول اليهود للمسلمين: اتفقنا على صحة نبوة موسى تعالى ، واختلفنا في نبوة(7/183)
محمد صلى الله عليه وسلم ، فدل هذا على صحة نبوة ما اتفقنا عليه، وبطلان نبوة ما اختلفنا فيه، وكذلك لو قال النصارى للمسلمين مثل هذا في عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، فمعلوم أن هذا القول فاسد من أصله، فكذلك قول الرافضي هذا فاسد كفساد قول اليهود والنصارى على حد سواء.
وقد نبه على هذا في الرد على الرافضة الإمام الدهلوي في التحفة الإثني عشرية قال: «ومن مكايدهم أنهم يقولون: إن فضائل أهل البيت وما روي في إمامة الأمير متفق عليه عند الفريقين بخلاف فضائل الخلفاء الثلاثة فهى مختلف فيها، فينبغي للعاقل أن يختار ما اتفق عليه بموجب (دع ما يريبك إلى مالا يريبك). والجواب: أن شبهتهم هذه كشبهة اليهود والنصارى في قولهم: إن نبوة موسى وعيسى متفق عليها عند الفريقين، بخلاف نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي يزيل هذه الشبهة
هو أن الأخذ بالمتفق عليه وترك المختلف فيه إنما يكون بمقتضى العقل لو لم يوجد دليل آخر، فإن وجد فلا التفات للاتفاق والاختلاف».(1)
قلت: وهذه القاعدة على فسادها فإن مقدمتها التي بنيت عليها غير مسلمة، فليس صحيحاً أن الأمة اتفقت على إمامة علي واختلفت في إمامة أبي بكر، وبيان ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أنه بالنظر إلى مواقف عامة المسلمين من السنة والشيعة، ومن عداهم من فرق الأمة، يظهر بطلان هذه الدعوى بل صحة خلافها، وهو أن الأمة قد اتفقت على إمامة أبي بكر أكثر مما اتفقت على إمامة علي، بل لايعرف من خالف في إمامة أبي بكر إلا الرافضة، بينما خالف في إمامة علي كثير من الخلق حتى زعمت بعض الفرق نسبته للكفر والردة كالخوارج، واعتقدت فيه بعض الطوائف الفسق كالنواصب وأضرابهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية مقرراً هذا الأمر في معرض رده على الرافضي في دعواه الاتفاق على إمامة علي وأنه نزهه الموافق والمخالف:(7/184)
«هذا كذب بين، فإن علياً - رضي الله عنه - لم ينزهه المخالفون، بل القادحون في علي طوائف متعددة، وهم أفضل من القادحين في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مختصر التحفة الإثني عشرية ص36.
أبي بكر وعمر وعثمان، والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه، فإن الخوارج متفقون على كفره، وهم عند المسلمين كلهم خير من الغلاة الذين يعتقدون إلاهيته أو نبوته، بل هم والذين قاتلوه من الصحابة والتابعين خير عند جماهير المسلمين من الرافضة الإثني عشرية الذين اعتقدوه إماماً معصوماً، وأبو بكر وعمر وعثمان ليس في الأمة من يقدح فيهم إلا الرافضة. والخوارج المكفرون لعلي يوالون أبا بكر وعمر ويترضون عنهما، والمروانية الذين ينسبون علياً إلى الظلم، ويقولون: إنه لم يكن خليفة، يوالون أبا بكر وعمر مع أنهما ليسا من أقاربهم فكيف يقال: إن علياً نزهه المؤالف والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة.
ومن المعلوم أن المنزهين لهؤلاء أعظم وأكثر وأفضل، وأن القادحين في علي حتى بالكفر والفسوق والعصيان طوائف معروفة، وهم أعلم من الرافضة وأدين، والرافضة عاجزون معهم علماً ويداً، فلا يمكن للرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها، ولا كانوا في القتال منصورين عليهم».(1)
فظهر بهذا أن الذين يصححون إمامة أبي بكر ويعتقدون عدالته أكثر من القائلين بإمامة علي واعتقاد عدالته، بل إنه لم يقدح في إمامة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 5/7-8.
أبي بكر وعدالته إلا الرافضة دون سائر فرق الأمة، بينما يقدح في إمامة علي وعدالته بل إسلامه بعض الفرق الذين هم أعلم بدين الله وأقوم من الرافضة وإن كانوا ضالين في اعتقادهم في علي - رضي الله عنه -.
الوجه الثاني: أنا لا نسلم موافقة أهل السنة للرافضة فيما تعتقده في إمامة علي-رضي الله عنه-.(7/185)
فالرافضة تعتقد في علي أنه وصي النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته على الأمة مباشرة، وأن الخلفاء قبله كانوا مغتصبين لهذا الحق، ظالمين لعلي وأن خلافتهم غير شرعية.
وأما أهل السنة فيعتقدون في علي أنه الخليفة الرابع بعد الخلفاء الثلاثة، وهم أبو بكر وعمر وعثمان، ويضللون من اعتقد تقدمه على واحد من هؤلاء فشتان بين العقيدتين.
وعلى هذا فليس بين أهل السنة والرافضة أي اتفاق في هذه المسألة إلا على عدالة علي وأنه خليفة راشد، وبالتالي فهم لا ينتفعون من تقرير هذه القاعدة إلا على إثبات عدالة علي وخلافته، وتبقى بقية معتقداتهم في علي التي هي محل نزاع بينهم وبين سائر فرق الأمة مفتقرة إلى الدليل خارجة عن هذه القاعدة التي قعدوها.
وبهذا يظهر لك أيها القارىء بطلان دعوى الرافضي في احتجاجه بمبدأ الاتفاق والاختلاف عند أهل السنة والرافضة، وأن هذه حجة داحضة وشبهة زائفة بما تقدم ذكره. هذا مع كذبه في دعوى اتفاق الأمة على خلافة علي واختلافها في خلافة أبي بكر مما يظهر من خلاله فساد قوله وسقوط حجته جملة وتفصيلاً.
أما ما ادعاه من أنه فتّش في كتب أهل السنة فلم يجد لأبي بكر من الفضائل ما يوازي فضائل علي.(7/186)
فجوابه: أنه بقوله هذا يكشف للناس عن جهله الفاضح فيما ادعاه أوكذبه الواضح فيما عزاه،فإن المنازع في هذه المسألةكمن ينازع في طلوع الشمس في رابعة النهار حتى إن سلف هذا الرافضي مع عظيم جهلهم،وكثرة كذبهم، لا أعلم -بحسب ما اطلعت عليه من أقوالهم- أنهم قالوا بقول هذا الرجل، وإنما يزعم عامتهم أن ما اشتهر في كتب السنة من فضائل أبي بكر وعمر وعثمان موضوعة مكذوبة، ولايجترؤن على ما اجترأ عليه من الكذب والبهتان، وما على القارئ الراغب في الوقوف على كذب هذا الرافضي وتزويره، إلا أن يتصفح أقرب ما لديه من كتب أهل السنة في الحديث -وأشهرها الصحيحان والسنن- ويقارن بين ماجاء فيها من الأحاديث في فضائل أبي بكر وفضائل علي ليقف بنفسه على حقيقة الأمر ومبلغ هذا الرافضي من العلم.
وسأورد فيما يلي أمثلة لبعض هذه الأحاديث الثابتة في فضائل أبي بكر ومناقبه، التي لم يشاركه فيها أحد من الصحابة لا علي ولامن هو أفضل من علي (كعمر وعثمان) ليعلم بهذا بطلان دعوى الرافضي في هذا الأمر:
فمن ذلك:
مارواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله، قال: فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبابكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لايبقين في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر).(1)(7/187)
وفي الصحيحين أيضاً من حيث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه علي جيش ذات السلاسل، قال: (فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك، قال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب فعدّ رجالاً). (2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر) فتح الباري 7/12، ح3654، ومسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -) 4/1854، ح2382.
(2) رواه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذاً خليلاً) فتح الباري 7/18، ح3662، ومسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر)، 4/1856، ح2384.
ومن حديث أبي الدرداء قال: (كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما صاحبكم فقد غامر فسلم وقال: يارسول الله إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: يارسول الله والله أنا كنت أظلم (مرتين) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي (مرتين) فما أوذي بعدها. (1)
قال ابن شاهين بعد ماروى الحديث: «تفرد أبو بكر الصديق بهذه الفضيلة لم يشركه فيها أحد». (2)(7/188)
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في كتاب: (فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذاً خليلاً)، فتح الباري 7/18، ح3661.
(2) كتاب اللطيف لابن شاهين ص157.
فقال: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما). (1)
وفي الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت -أو أردت- أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد، أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون). (2)
ومن حديث أبي موسى الأشعري قال: مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة: يارسول الله إن أبا بكر رجل رقيق متى يقم مقامك لا يستطيع أن يصلي بالناس، فقال: مري أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف قال فصلى بهم أبو بكر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ). (3)
وقد شهد له الصحابة بأنه كان أفضلهم ومنهم علي - رضي الله عنه -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم...) فتح الباري 7/8، ح3653، ومسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر) 4/1854، ح2381.
(2) أخرجه البخاري في: (كتاب المرضى، باب ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع...)، فتح الباري 10/123، ح5666، ومسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر) 4/1857، ح2387.
(3) أخرجه مسلم: (كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر) 1/316، ح420.(7/189)
على ماروى البخاري من حديث محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: (أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين). (1)
وفي خبر البيعة قال عمر لأبي بكر: (... أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم )(2)، وكان ذلك بحضور جمع من الصحابة فلم ينكر ذلك أحد فكان إجماعاً.
وعن ابن عمر قال: (كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لانعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم). (3)
فهذه نماذج مما ورد في فضل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من المناقب والفضائل العظيمة التي لم يشاركه فيها غيره، مما جاء في الصحيحين أو أحدهما فقط من غير استقصاء لذلك، فكيف مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذاً خليلاً...)، فتح الباري 7/20، ح3671.
(2) أخرجه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذاً خليلاً...)، فتح الباري 7/20، ح3668.
(3) أخرجه البخاري في: (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عثمان بن عفان...)، فتح الباري 7/53-54، ح3697.
الاستقصاء!! فكيف بما جاء في غيرهما!! وأما ما جاء في كتب السنة عامة من فضائله الأخرى التي شاركه فيها بعض الصحابة كعمر وبقية الخلفاء فإنها أجل من أن تستوعب في هذا المقام.
وأشير هنا إلى ما تضمنته الأحاديث المتقدمة من تلك المناقب التي اختص بها دون غيره من عامة الصحابة فمنها:
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: إنه أمن الناس عليه في صحبته وماله.(7/190)
2- قول النبي صلى الله عليه وسلم في حقه (لو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لا تخذت أبا بكر).
3- أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تسد الأبواب في المسجد إلا بابه.
4- إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحب الرجال إليه، وابنته أحب النساء إليه.
5- غضب النبي صلى الله عليه وسلم له حتى تمعر وجهه، وانتصاره له، واستغفاره له ثلاثاً.
6- إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه صدقه من غير تردد ولا شك، بعد ما كذبه قومه.
7- قول النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: (هل أنتم تاركو لي صاحبي) ولم يقل ذلك لأحد غيره، مما يدل على اختصاصه من الصحبة بما لم يبلغه غيره.
8- أنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة وثاني اثنين في الغار، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
9- إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم لاستخلافه، وهمّه أن يكتب بذلك كتاباً، ثم تركه ذلك ثقة بالله ويقيناً. وأن الله يأبى غير ذلك ويأبى المؤمنون غيره، وهذا من أعظم مناقبه، وأنه لا يختلف في فضله بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
10-شهادة الصحابة له بما فيهم علي - رضي الله عنه - أنه خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وشهادة عمر له بأنه: سيدهم، وخيرهم، وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في جمع كبير من خيار الصحابة، فلم ينكر ذلك عليه أحد فدل على إجماعهم على ذلك.
11-تقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة وصلاته بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم .(7/191)
فهذه المناقب لم يشارك الصديق فيها أحد من الصحابة على الإطلاق، لا علي ولا غيره، فكيف يدعي هذا الرافضي أنه فتش في كتب أهل السنة فلم يجد لأبي بكر من الفضائل ما يثبت لعلي، مع أن هذه الأحاديث قد جاءت في الصحيحين وهي مشهورة، لا تكاد تخفى على أحد من صغار طلاب العلم فكيف بمن يدعي البحث والتحقيق العلمي.
ومقارنة بما ثبت في حق أبي بكر من الفضائل التي لم يشاركه فيها غيره، فينبغي أن يعلم أن ما ثبت في حق علي - رضي الله عنه - من الفضائل ليست هي من خصائصه، بل قد يشاركه فيها غيره من الصحابة، وذلك أن من أجل ما ثبت في حق علي من الفضائل:
حديث سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم أنه قال وقد ذكر عنده علي بن أبي طالب:(أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له خَلّفَه في بعض مغازيه، فقال له علي: يارسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي، وسمعته يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قال: فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي علياً فأتي به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه، ولما نزلت هذه الآية: {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} (1)، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي). (2)
فهذا الحديث مع ما فيه من المناقب العظيمة لعلي بن أبي طالب، إلا أنها ليست مما اختص به علي على غيره من الصحابة، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران آية 61.(7/192)
(2) أخرجه مسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب) 4/1871.
قال بعد أن ذكر الحديث: «فهذا حديث صحيح رواه مسلم في
صحيحه وفيه ثلاث فضائل لعلي لكن ليست من خصائص الأئمة، ولا من خصائص علي، فإن قوله وقد خلفه في بعض مغازية فقال له علي: يارسول الله تخلفني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي ليس من خصائصه، فإنه استخلف على المدينة غير واحد ولم يكن هذا الاستخلاف أكمل من غيره، ولهذا قال علي: اتخلفني مع النساء والصبيان... فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستخلاف ليس نقصاً ولا غضاضة فإن موسى استخلف هارون على قومه لأمانته عنده، وكذلك أنت استخلفتك لأمانتك عندي، لكن موسى استخلف نبياً، وأنا لا نبي بعدي، وهذا تشبيه في أصل الاستخلاف فإن موسى استخلف هارون على جميع بني اسرائيل، والنبي صلى الله عليه وسلم استخلف علياً على قليل من المسلمين، وجمهورهم استصحبهم في الغزاة، وتشبيهه بهارون ليس بأعظم من تشبيه أبي بكر وعمر، هذا بإبراهيم وعيسى، وهذا بنوح وموسى، فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون، وكل من أبي بكر وعمر شبه باثنين لا بواحد، فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه علي، مع أن استخلاف علي له فيه أشباه وأمثال من الصحابة، وهذا التشبيه ليس لهذين فيه شبيه، فلم يكن الاستخلاف من الخصائص ولا التشبيه بنبي في بعض أحواله من الخصائص.
وكذلك قوله: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، قال: فتطاولنا، فقال: ادعو لي علياً، فأتاه وبه رمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله على يديه، وهذا الحديث أصح ماروي(7/193)
لعلي من الفضائل أخرجاه في الصحيحين من غير وجه، وليس هذا الوصف مختصاً بالأئمة ولا بعلي، فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي، وكل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين يتبرؤن منه ولا يتولونه، ولايحبونه، بل قد يكفرونه أو يفسقونه، كالخوارج فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بأنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله...
وكذلك حديث المباهلة شركه فيه فاطمة، وحسن، وحسين، كما شركوه في حديث الكساء، فعلم أن ذلك لا يختص بالرجال، ولابالذكور، ولا بالأئمة، بل يشركه فيه المرأة والصبي». (1)
وكذلك ما جاء في حق علي - رضي الله عنه - من فضائل في أحاديث أخرى لا يعني اختصاصه بها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: (أنت مني وأنا منك)(2)، بل قد تثبت لغيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 5/42-45، وانظر: أيضاً تقرير شيخ الإسلام لهذه المسألة في منهاج السنة 5/13-36، 8/419-421.
(2) أخرجه البخاري في: (كتاب المغازي، باب عمرة القضاء)، فتح الباري 7/499، ح4251.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن قوله لعلي: (أنت مني وأنا منك) ليس من خصائصه، بل قال ذلك للأشعريين، وقاله لجليبيب وإذا لم يكن من خصائصه بل قد شاركه في ذلك غيره، من هو دون الخلفاء الثلاثة في الفضيلة، لم يكن دالاً على الأفضلية ولا على الإمامة». (1)
ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (إنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)(2) فهو ليس من خصائصه لأنه ثبت أنه قال مثل هذا للأنصار، فعن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار: (لايحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله). (3)(7/194)
قال أبو نعيم بعد ذكر حديث: (لا يحبك إلا مؤمن...) قلنا: «هكذا نقول وهذه من أشهر الفضائل وأبين المناقب لا يبغضه إلا منافق ولا يحبه إلا مؤمن ولو أوجب هذا الخبر خلافة، لوجبت إذاً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 5/30، وقد ذكر شيخ الإسلام هذا الكلام مفصلاً مع ذكر الأدلة عليه المشار إليها هنا قبل ذلك، انظره: في الكتاب نفسه 5/28-29.
(2) أخرجه مسلم من حديث علي - رضي الله عنه -: (كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي - رضي الله عنه - من الإيمان) 1/86، ح78.
(3) أخرجه مسلم: (كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من الإيمان) 1/85، ح75.
الخلافة للأنصار، لأنه قال مثله في الأنصار»(1) ثم ساق الحديث.
فهذه أعظم فضائل علي - رضي الله عنه - ومناقبه الثابتة في الأحاديث الصحيحة قد تبين عدم اختصاصه بها دون غيره، بل قد ثبت مثلها في حق من هو دون أبي بكر في الفضل، في حين أن ما ثبت لأبي بكر من الفضائل لم يشاركه فيها أحد لا علي ولا من هو أفضل منه، على ما تقدم تقريره بالأدلة الصحيحة الصريحة، الدالة على بطلان دعوى الرافضي وظهور كذبه.
وأما ما نسبه الرافضي لأحمد -رحمه الله- أنه قال: (ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل كما جاء لعلي).
فهذا إن ثبت عن الإمام أحمد فمحمول على مجموع ماروى من الصحيح والضعيف، وهذا لا يخالف ما هو مقرر عندنا، وأما الصحيح فلا يمكن أن يكون كذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقول من قال: صح لعلي من الفضائل ما لم يصح لغيره كذب، لا يقوله أحمد ولا غيره من أئمة الحديث، لكن قد يقال: روى له مالم يرو لغيره لكن أكثر ذلك من نقل من عُلم كذبه وخطؤه». (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(7/195)
(1) الرد على الرافضة ص244.
(2) منهاج السنة 8/421.
وكذلك ما نقله الرافضي عن باقي الأئمة كالقاضي إسماعيل والنسائي وأبي علي النيسابوري فهو كما قال شيخ الإسلام فإن كان المقصود بالمنقول الصحيح فلا يمكن أن يثبت ذلك عن الأئمة، لأن الواقع يشهد بخلاف هذا، وإن كان المقصود من ذلك مجموع المنقول من الصحيح وغيره فلذلك وجه.
والسبب والله أعلم في كثرة ما يروى من فضائل علي، سواء من الصحيح، أو الضعيف، أو الموضوع، يرجع إلى أمرين:
الأول: انتساب الرافضة لعلي - رضي الله عنه - ودعواهم محبته، ووضعهم كثيراً من الروايات الموضوعة في فضائله، على ما هو معلوم من كتبهم، وعلى ما صرح به العلماء المشتغلون بالحديث ونقده.
يقول ابن الجوزي: «وغلو الرافضة في حب علي - رضي الله عنه - حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله أكثرها تشينه وتؤذيه». (1)
الثاني: ما ذكره ابن حجر -رحمه الله- في الفتح بعد نقله الأثر المتقدم، المنسوب لأحمد ولبعض الأئمة حيث قال: «وكأن السبب في ذلك أنه تأخر ووقع الاختلاف في زمانه، وخروج من خرج عليه، فكان ذلك سبباً لانتشار مناقبه، من كثرة من كان بينها من الصحابة، رداً على من خالفه، فكان الناس طائفتين، لكن المبتدعة قليلة جداً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تلبيس إبليس ص136.(7/196)
ثم كان من أمر علي ما كان فنجمت طائفة أخرى حاربوه ثم اشتد الخطب فتنقصوه، واتخذوا لعنه على المنابر سنة، ووافقهم الخوارج على بغضه وزادوا حتى كفروه، مضموماً ذلك منهم إلى عثمان، فصار الناس في حق علي ثلاثة: أهل السنة، والمبتدعة من الخوارج، والمحاربين له من بني أمية وأتباعهم، فاحتاج أهل السنة إلى بث فضائله، فكثر الناقل لذلك لكثرة من يخالف في ذلك، وإلا فالذي في نفس الأمر أن لكل من الأربعة من الفضائل إذا حرر بميزان العدل، لا يخرج عن قول أهل السنة والجماعة أصلاً». (1)
وأما قول الرافضي إن فضائل أبي بكر مروية عن ابنته عائشة وقد عرف موقفها من علي، أو عن ابن عمر وهو من البعيدين عن علي.
فهذا من أظهر الكذب وأوضحه: فإن فضائل أبي بكر قد نقلها كثير من الصحابة، ليست مقصورة على واحد أو اثنين أو قريباً من ذلك، فضلاً أن يدعى أنها محصورة فيما نقلته عائشة أو ابن عمر، وهذه كتب السنة وفي مقدمتها الصحيحان تشهد بصحة هذا، فما على طالب الحق إلا أن يرجع إليها ليقف على جلية الأمر بنفسه. ويكفي دلالة على هذا أن ما تقدم نقله من النصوص في فضل أبي بكر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فتح الباري 7/71.(7/197)
والتي تضمنت أكثر من عشر مناقب هي من خصائص أبي بكر التي لم يشاركه فيها غيره ليست مقصورة في روايتها على من ذكر، بل لم ترو عائشة منها إلا حديثاً واحداً وهو إرادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب لأبي بكر كتاباً بالوصية له، والإشارة لاستخلاف أبي بكر ثابتة بأحاديث أخرى من غير طريق عائشة، كحديث جبير بن مطعم في قصة المرأة التي جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه فقالت: (يارسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر)، وهذا الحديث في الصحيحين(1) وكحديث حذيفة الذي في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)(2)، وأما ابن عمر فقد روى حديثاً واحداً أيضاً في تقديم الصحابة لأبي بكر، ثم لعمر، ثم لعثمان(3)، وهذا ثابت دون ذكر عثمان، من طريق محمد بن الحنفية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري: (كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذاً خليلاً)، فتح الباري 7/17، ح3659، ومسلم: (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر) 4/1856، ح2386.
(2) أخرجه الترمذي في: (كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر) 5/609، ح3662، وابن ماجه: (في المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) 1/37، ح97، والحاكم في المستدرك 3/79، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/233، رقم 1233، وفي صحيح ابن ماجه 1/23، ح80.
(3) تقدم تخريجه ص 488.
عن أبيه علي بن أبي طالب وأن أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر. (1)(7/198)
وأما بقية الأحاديث فقد رواها عدد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدري، وعمرو بن العاص، وأبو الدرداء، وأنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري على ما تقدم نقل أحاديثهم آنفاً، كما روى فضائل أبي بكر من غير هؤلاء جمع كبير من الصحابة، منهم على سبيل المثال لا الحصر: عمر بن الخطاب، والبراء ابن عازب، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعمار بن ياسر، وأبوهريرة، وعبدالله ابن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة، وعمرو بن عنبسة، وأبو أمامة، وجابر بن عبد الله، وسفينة (مولى أم سلمة)، وأبو بكرة، وغيرهم ممن يصعب حصرهم(2) وإنما ذكرت هنا بعض ما يستدل به على كذب الرافضي في دعواه: أنه لم يرو فضائل أبي بكر إلا عائشة وابن عمر -رضي الله عنهما-.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه ص 488.
(2) انظر: الأحاديث في فضائل أبي بكر بالإضافة إلى ما تقدم تخريجه في الصحيحين: في سنن أبي داود: (كتاب السنة، باب في التفضيل، وباب الخلفاء) 5/24-31، وسنن الترمذي: (كتاب المناقب، باب مناقب
أبي بكر الصديق، وباب في مناقب أبي بكر وعمر) 5/606-617، والمستدرك للحاكم 3/64-86.
على أنه لو اقتصرت فضائل أبي بكر على روايتهما فليسا متهمين في روايتهما، فكون عائشة ابنة أبي بكر ليس قادحاً في قبول ما تروي من فضائله، لأن عدالة الصحابة أمر مقطوع به، فكيف بأم المؤمنين عائشة على ما هي عليه من وفور العلم والدين، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتهام هذا الأفاك الأثيم أم المؤمنين بوضع الأحاديث في فضائل أبيها، هذا من أعظم البهتان، الذي نسأل الله تعالى أن يجازيه به جزاء وفاقاً. وأما اتهامه ابن عمر بهذه التهمة أيضاً، مدعياً أنه كان من البعيدين عن علي فهذه فرية أخرى لا تقل عن سابقتها، ودعوى مجردة من أي دليل.(7/199)
ولو أخذنا بمقياس الرافضي هذا في نقد الروايات، لكان هذا وارداً على ما يروى في فضل علي من الأحاديث التي نقلها أبناؤه وأهل بيته، ومن تدعى الرافضة تشيعهم له من الصحابة، بل ما يروي علي نفسه من فضائله كقوله: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي إليّ أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق)(1) فإن كانت عائشة -رضي الله عنها- متهمة في ماروته من فضائل أبيها -رضي الله عنهما- فالتهمة واردة هنا على علي، وأبنائه، وأهل بيته، ومن يُدعى تشيعهم له، فيما ينقلونه من فضائله، بل إن التهمة في الوضع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه ص 494.(7/200)
لعلي أقوى من التهمة في الوضع لأبي بكر، ذلك أن أبا بكر لم تختلف الأمة عليه، ولم تفترق عنه، بل كانت مجتمعة عليه، ولم تشك في فضله، فما كان محتاجاً لهذا أصلا، بخلاف علي فإن الأمة افترقت في عهده، وقاتلته طائفة منها، وتنكرت له طوائف من أهل البدع ففسقه أقوام، وكفره آخرون فكان محتاجاً لما يجمع الناس عليه، وكان الدافع لدى محبيه وشيعته أقوى في الوضع له، من الدافع لأهل بيت أبي بكر في الوضع له بل إن الثاني منعدماً تماماً لعدم الحاجة إليه، ولهذا فإن الموضوع في فضل علي - رضي الله عنه - من الأحاديث أكثر بكثير مما وضع في فضل أبي بكر أو غيره من الصحابة، لكن هذا ليس من صنيع أحد من أهل بيته المعروفين بالعلم والعدالة، ناهيك أن ينسب شيء من ذلك له، أو لأحد من أبنائه أو الموالين له من الصحابة، فإنهم أبعد الناس عن ذلك، بل هم الصادقون المصدقون في كل ما ينقلون وما يروون، فمن اعتقد فيهم غير ذلك فقد باء بالخسران وناله ما نال الرافضة من الإثم والبهتان. وأما أهل السنة فهم بحمد الله يعتقدون في الصحابة كلهم العدالة المطلقة، والصدق والأمانة فيما يخبرون به عن أنفسهم أوغيرهم، ولا يتطرق لديهم الشك في ما ينقل عن الصحابة من أخبار في الفضائل وغيرها إذا ما ثبتت النسبة إليهم، وأسندوها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما أردت من هذا بيان فساد قول الرافضي، ودحض حجته، وكشف شبهته، والله تعالى من وراء القصد.
===============
فدك
زعموا أنه ظالم لفاطمة لمنعه إياها مخلف أبيها ، وأنه لا دليل له في الخبر الذي رواه : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ؛ لأن فيه احتجاجا بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث ، وفيه ما هو مشهور عند الأصوليين . وزعموا أيضا أن فاطمة معصومة بنص " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " . وخبر : " فاطمة بضعة منى " وهو معصوم ، فتكون معصومة ، وحينئذ فيلزم صدق دعواها الإرث .(7/201)
وجوابها : أما عن الأول ، فهو لم يحكم بخبر الواحد الذي هو محل الخلاف، وإنما حكم بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنده قطعى فساوى آية المواريث في قطعية المتن ، وأما حمله على ما فهمه منه فلانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرقها إليه عنه بقرينة الحال ، فصار عنده دليلا قطعيا مخصصا لعموم تلك الآيات . وأما عن الثانى ، فمن أهل البيت أزواجه على ما يأتي في فضائل أهل البيت ، ولسن بمعصومات اتفاقا ، فكذلك بقية أهل البيت . وأما بضعة منى : فمجاز قطعا فلم يستلزم عصمتها وأيضا فلا يلزم مساواة البعض للجملة في جميع الأحكام بل الظاهر أن المراد أنها كبضعة منى : فيما يرجع للخير والشفقة ، ودعواها أنه صلى الله عليه وسلم نحلها فدك لم تأت عليها إلا بعلى وأم أيمن ، فلم يكمل نصاب البينة ، على أن في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافا بين العلماء ، وعدم حكمه بشاهد ويمين ، إما لعلة كونه ممن لا يراه ككثيرين من العلماء ، أو أنها لم تطلب الحلف مع من شهد لها ، وزعمهم أن الحسن والحسين وأم كلثوم شهدوا لها باطل ، على أن شهادة الفرع والصغير غير مقبولة ، وسيأتي عن الإمام زيد بن الحسن بن على بن الحسين رضي الله عنهم ، أنه صوب ما فعله أبو بكر ، وقال : لو كنت مكانه لحكمت بمثل ما حكم به . وفى رواية تأتى في الباب الثانى أن أبا بكر كان رحيما وكان يكره أن يغير شيئا تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما قالت : أعطانى فدك ، فقال : هل لك بينة ، فشهد لها على وأم أيمن ، فقال لها : فبرجل وأمرأة تستحقينها . ثم قال زيد : والله ، لو رفع الأمر فيها إلى لقضيت بقضاء أبى بكر رضي الله عنه . وعن أخيه الباقر أنه قيل له : أظلمكم الشيخان من حقكم شيئا ؟ فقال : لا ومنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ما ظلمنا من حقنا ما يزن حبة خردلة .(7/202)
وأخرج الدارقطنى ، أنه سئل ما كان يعمل على في سهم ذوى القربى ؟ قال: عمل فيه بما عمل أبو بكر وعمر ، وكان يكره أن يخالفهما .
وأما عذر فاطمة في طلبها روايته لها الحديث ، فيحتمل أنه لكونها رأت أن خبر الواحد لا يخصص القرآن كما قيل به . فاتضح عذره في المنع وعذرها في الطلب ، فلا يشكل عليك ذلك ، وتأمله فإنه مهم . ويوضح ما قررناه في هذا المحل حديث البخاري ، فإنه مشتمل على نفائس تزيل ما في نفوس القاصرين من شبه وهو : عن الزهرى ، قال : أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضرى ، أن عمر بن الخطاب دعاه إذ جاءه حاجبه يرفا فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأدخلهم فلبث قليلا ، ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلى يستأذنان ؟ قال : نعم ، فلما دخلا قال عباس : يا أمير المؤمنين ، اقض بينى وبين هذا ، وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بنى النضير ، فاستب على وعباس ، فقال الرهط : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر . فقال عمر : اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تكون السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ، قالوا : قد قال ذلك . فأقبل عمر على على وعباس ، فقال : أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال : فإنى أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره فقال : " وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ" إلى قوله "قَدِيرٌ"، فكانت هذه خالصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم والله ما اختارها دونكم ولا استأثر بها عليكم لقد أعطاكموها ، وقسمها فيكم حتى بقى هذا المال منها ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ(7/203)
ما بقى فيجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، ثم توفى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه : فأنا ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضه أبو بكر يعمل فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم حينئذ ، وأقبل على على والعباس وقال: تذكرانى أن أبا بكر كان فيه كما تقولان ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر ، فقبضته سنتين من إمارتى أعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، والله يعلم أنى فيه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتمانى كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع ، فجئتنى يعنى عباسا ، فقلت لكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت ، وألا فلا تكلمانى ، فقلتما ادفعه إلينا بذلك ، فدفعته إليكما ، أفتلتمسان منى قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضى فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنه فادفعاه إلى فأنا أكفيكماه . قال ، فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير ، فقال : صدق مالك بن أوس أنا سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان إلى أبى بكر يسألنه مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فكنت أنا أردهن ، فقلت لهن : ألا تتقين الله ، ألم تعلمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ؛ إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتهن . قال ، فكانت هذه الصدقة بيد على منعها على عباسا ، فغلبه عليها(7/204)
، ثم كانت بيد الحسن بن على رضي الله عنهما ، ثم بيد الحسين بن على ، ثم بيد على بن الحسين ، وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها ، ثم بيد زيد بن حسن رضي الله عنهم ، وهى صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا . ثم ذكر البخاري بسنده أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى.(7/205)
فتأمل ما في حديث عائشة والذى قبله تعلم حقيقة ما عليه أبو بكر رضي الله عنه ، وذلك أن استباب على والعباس صريح في أنهما متفقان على أنه غير إرث ، وإلا لكان للعباس سهمه ولعلى سهم زوجته ، ولم يكن للخصام بينهما وجه، فخصامهما إنما هو لكونه صدقة وكل منهما يريد أن يتولاها ، فأصلح بينهما عمر رضي الله عنهم وأعطاه لهما بعد أن بين لهما وللحاضرين السابقين ، وهم من أكابر العشرة المبشرين بالجنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، وكلهم حتى على والعباس أخبر بأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، فحين إذن أثبت عمر أنه غير إرث ثم دفعه إليهما ليعملا فيه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنة أبى بكر ، فأخذاه على ذلك وبين لهما أن ما فعله أبو بكر فيه كان فيه صادقا باراً راشداً تابعاً للحق ، فصدقاه على ذلك . فهل بقى لمعاند بعد ذلك من شبهة ؟! فإن زعم بقاء شبهة قلنا يلزمك أن تغلب على الجميع وأخذه من العباس ظلم لأنه يلزم على قولكم بالإرث ، أن للعباس فيه حصة ، فكيف مع ذلك ساغ لعلى أن يتغلب على الجميع ويأخذه من العباس ، ثم كان في يد بنيه وبنيهم من بعده ولم يكن منه شئ في يد بنى العباس ، فهل هذا من على وذريته إلا صريح الاعتراف بأنه صدقة ، وليس بإرث ، وإلا لزم عليه عصيان على وبنيه وظلمهم وفسقهم وحاشاهم الله من ذلك بل هم معصومون عند الرافضة ، ونحوهم ، فلا يتصور بهم ذنب ، فإذا استبدوا بذلك جميعه دون العباس وبنيه علمنا أنهم قائلون بأنه صدقة وليس بإرث ، وهذا عين مدعانا ، وتأمل أيضا أن أبا بكر منع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ثمنهن أيضا ، فلم يخص المنع بفاطمة والعباس ولو كان مداره على محاباة لكان أولى محاباة ولده ، فلما لم يحاب عائشة ولم يعطها شيئا علمنا أنه على الحق المر الذي لا يخشى فيه لومة لائم .(7/206)
وتأمل أيضا تقرير عمر للحاضرين ولعلى وللعباس بحديث لا نورث وتقرير عائشة لأمهات المؤمنين به أيضا وقول كل منهما ألم تعلموا ! يظهر لك من ذلك أن أبا بكر لم ينفرد برواية هذا الحديث ، وأن أمهات المؤمنين وعلياً والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد كلهم كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، وأن أبا بكر إنما انفرد باستحضاره أولاً ، ثم استحضره الباقون ، وعلموا أنهم سمعوه منه صلى الله عليه وسلم: فالصحابة رضوان الله عليهم لم يعلموا برواية أبى بكر وحدها. ( ص 57 : 60 ) .
================
شبهة حديث الحوض
حديث الحوض فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( يَرِدُ علي رجال أعرفهم ويعرفونني فيذادون عن الحوض – يعني حوض النبي يوم القيامة - فأقول أصحابي أصحابي فيقال : إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك ) ولهذا الحديث روايات أخرى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فأقول سحقاً سحقاً ) هؤلاء الذين يذادون عن الحوض من هم ؟ قالوا هم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز لكم أن تثنوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم في الأصل يذادون عن الحوض ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عنهم سحقا سحقاً .. فنقول مستعينين بالله تبارك وتعالى :
أولاً أن المراد بهؤلاء الصحابة المنافقون وذلك أن المنافقين كانوا يظهرون الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله جل وعلا { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ 1 } ..(7/207)
وقد يقول قائل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين فنقول نعم كان يعرف بعضهم ولم يكن يعرفهم كلهم ولذلك قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } فبين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم جميع المنافقين وكان يظن أن أولئك من أصحابه وليسوا كذلك بل هم من المنافقين .
ثم الشيء الثاني أن المراد بهم الذين إرتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنه بعد توفي النبي صلوات الله وسلامه عليه إرتد بعض العرب .. إرتدوا عن دين الله تبارك وتعالى حتى قاتلهم أبو بكر الصديق مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وسميت تلك الحروب بحروب الردة , فقالوا المراد بالذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم سحقاً سحقاً هم الذين أرتدوا بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه
على الأول أو على الثاني لا يدخل أًصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر لماذا ؟ لأننا في تعريف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ماذا نقول ؟ ..
نقول كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك .
فإذا قلنا أنهم هم المنافقون فالمنافقون لم يؤمنوا بالنبي يوماً صلوات الله وسلامه عليه , وإذا قلنا هم المرتدون فالمرتدون لم يموتوا على الإسلام .. فهؤلاء لا يدخلون في تعريف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .(7/208)
وأما إذا قصدوا أن الصحابة كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل أبو جهل في الصحابة وأبو لهب وأمية بن خلف وأبي بن خلف والوليد بن عتبة وغيرهم من المشركين يدخلون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونحن لا نقول بذلك أبداً .. ولكن نقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعد بن معاذ ومعاذ بن جبل وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وعبدالله بن عمر وعبد الله بن العباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وفاطمة وعائشة والحسن والحسين وغيرهم كثير .. هؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , فمن من هؤلاء كان منافقاً ومن من هؤلاء إرتد عن دين الله تبارك وتعالى بل كل هؤلاء آمنوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولقوه وماتوا على ذلك والعلم عند الله تبارك وتعالى .
فالقصد أن الجواب الأول أن قول النبي صلى الله عليه وسلم سحقاً سحقاً هو للمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم , أو هم الذين إرتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أصلاً من المسلمين ثم إرتدوا وتركوا دين الله جل وعلا .(7/209)
وهناك جواب ثالث وهو أن المعنى كل من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو لم يتابعه , وإن كان النبي يعلم ذلك كعبد الله بن أبي بن سلول وهو كما هو معلوم رأس المنافقين وهو الذي قال : لإن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل , وهو الذي قال ما مثلنا ومثل محمد وأصحابه إلا كما الأول سمن كلبك يأكلك . فهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه فيكون هذا هو المقصود ولذلك إن تعريف الصحابة بأنه كل من لقي النبي مؤمناً به ومات على ذلك تعريف متأخر وأما كلام العرب كل من صحب الرجل فهو من أصحابه مسلماً أو غير مسلم متبع له أو غير متبع هذا أمر آخر . ولذلك لما قال عبد الله بن أبي بن سلول كلمته الخبيثة ( ليخرجن الأعز منها الأذل ) قام عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغته هذه الكلمة قال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق , فقال صلى الله عليه وسلم : (لا يا عمر لا يقول الناس إن محمد يقتل أصحابه ) , فسماه من أصحابه صلوات الله وسلامه عليه وهو رأس المنافقين , فهو غير داخل فالذين نحن نسميهم صحابة رضي الله عنهم وأرضاهم .
كذلك قد يكون المقصود بالأصحاب أي من صحب النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الدين ولو لم يرى النبي صلى الله عليه وسلم فندخل نحن في هذا المسمى ولذلك جاءت بعض روايات الحديث ( أمتي أمتي ) بدل ( أصحابي ) فنكون من أمته صلوات الله وسلامه عليه , وقد يقول قائل كيف وقد جاء في الحديث ( أعرفهم ويعرفونني ) فنقول أنه قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعرف أمته بآثار الوضوء صلوات الله وسلامه عليه .
ولنا سؤال هنا لو جاءنا النواصب , والنواصب هم الذين يبغضون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يبغضون علياً وفاطمة والحسن والحسين وغيرهم من آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وقالوا هؤلاء الذين إرتدو وهؤلاء الذين يذادون عن الحوض هم علي والحسن والحسين كيف تردون عليهم ؟؟!(7/210)
الرد عليهم بأن نقول لهم ليسوا من هؤلاء بل هؤلاء جاءت فيهم فضائل ..
فنقول أبو بكر وعمر وعثمان وأبو عبيدة جاءت فيهم فضائل فما الذي يخرج علياً ويدخل أبا بكر وعمر !!
فالقصد إذاً أن حديث الحوض لا يشمل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
شبهة جيش أسامة
يقولون إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جهز جيش أسامه وذلك لينتقم أسامة رضي الله عنه لأبيه زيد بن حارثة لما قُتل في مؤته جهز النبي جيش أسامة ليذهب إلى مؤته وقالوا جعل من ضمن هذا الجيش أبا بكر وعمر حتى يصفو الجو لعلي رضي الله عنه ويستطيع النبي أن يعينه خليفة !! أنظروا كيف جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفاً يخاف من أبي بكر وعمر فيرسلهما في الجيش حتى يستطيع أن يبين للناس أن علياً هو الخليفة !! هكذا يكتم الدين بهذه الدرجة .. وهذا طعن في النبي صلوات الله وسلامه عليه , الله سبحانه وتعالى يقول له : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } يقول : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنذِرْ 2} { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } وهم يقولون يخاف من هؤلاء الصحابة صلوات الله وسلامه عليه وحاشاه من ذلك .
ثم يضيفون إلى هذا الأمر أموراً أخرى وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لعن الله من تخلف عن جيش أسامة ) حتى تصيب اللعنة أبا بكر وعمر .
فنقول أولاً : إن أبا بكر لم يكن أبداً في جيش أسامة , ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام : لعن الله من تخلف عن جيش أسامة , بل هذا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما كون عمر في جيش أسامه فهذا هو المشهور في السير , أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عمر في جيش أسامة .(7/211)
كيف يكون أبا بكر في جيش أسامة والنبي أمر أبا بكر ان يصلي بالناس في فترة مرض النبي صلى الله عليه وسلم ,هذا تناقض لا يمكن أن يحدث ولذلك لما أراد أسامة أن يخرج إستأذن أبو بكر أسامةَ أن يبقي عمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بل ما سير جيش أسامة إلا أبو بكر الصديق , وذلك أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أشار بعض الصحابة على أبي بكر أن يبقي جيش أسامة في المدينة خوفاً على المدينة من المرتدين ومن العرب الذين لم يسلموا بعد فأبا أبو بكر أن ينزل راية رفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يخرج جيش أسامة , وخرج جيش أسامة بأمر من أبي بكر الصديق رضي الله عنه , فكيف جعلوا أبا بكر الصديق الذي أخرج جيش أسامة جعلوه ممن تخلف وجعلوه ممن يستحق اللعن من النبي صلى الله عليه وسلم وما هذا إلا من شيء في قلوبهم على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
شبهة قضية فدك
قضية أقيمت لأجلها الدنيا , تكلموا فيها كثيراً وشنعوا فيها كثيراً على أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه وهي قضية فدك وما أدراك ما فدك . فدك أرض للنبي صلى الله عليه وسلم من أرض خيبر وذلك من المعلوم أن خيبر لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إليها وحاصرها إنقسمت إلى قسمين , إلى قسم فُتح عنوة وإلى قسم فُتح صلحاً , من الذي فُتح صلحاً في خيبر ما فيه فدك .
فدك أرض صالح النبي صلى الله عليه وسلم اليهود عليها على أنهم يزرعونها ويعطون نصف غلتها للنبي صلى الله عليه وسلم , فنصف غلة فدك تكون للنبي صلى الله عليه وسلم .(7/212)
بعد أن توفي صلوات الله وسلامه عليه جاءت فاطمة رضي الله عنها تطالب بورثها من النبي صلى الله عليه وسلم فذهبت إلى أبي بكر لأنه خليفة المسلمين الذي كانت تعتقد خلافته , فذهبت إليه و طلبت منه أن يعطيها فدك ورثها من النبي صلى الله عليه وسلم , فقال لها أبو بكر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) , وهنا لو قلنا لأبي بكر الصديق تعال يا أبا بكر عندك فاطمة تطالب بإرثها وعندك النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( لا نورث ) تطيع من ؟ لا شك أنه سيقول سأطيع النبي صلى الله عليه وسلم .. طيب وفاطمة لماذا لا تطيعها فيقول أطيعها لو لم يكن عندي أمر من النبي صلى الله عليه وسلم , هذا النبي معصوم صلوات الله وسلامه عليه وفاطمة غير معصومة والنبي صلى الله عليه وسلم أمرني قال (لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) وإن أحببتم فسألوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , هذا الحديث رواه أبو عبيدة ورواه عمر ورواه العباس ورواه علي ورواه الزبير ورواه طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا نورث ما تركناه فهو صدقة )
طيب ماذا أصنع أنا عندي حديث النبي وعندي قول فاطمة ؟ .. لا شك أي واحد منا يخاف الله سبحانه وتعالى ويقدر النبي صلى الله عليه وسلم فيقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد ..
فقال لها لا أستطيع أن أعطيك شيئاً الرسول قال : ( لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) .. فرجعت فاطمة رضي الله عنها ولم تأخذ ورثها ..
دعونا نوزع إرث النبي صلى الله عليه وسلم لو كان له إرث من الذي يرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
يرثه ثلاثة : ترثه فاطمة ويرثه أزواجه ويرثه عمه العباس .
أما فاطمة فلها نصف ما ترك لإنها فرع وارث .. أنثى ..
وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يشتركن في الثُمُن لوجود الفرع الوارث وهي فاطمة ..
والعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ الباقي تعصيباً ..(7/213)
هذا هو إرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم , إذا ليست القضية خاصة بفاطمة ولذلك أين العباس لماذا لم يأت ويطالب بإرثه من النبي صلى الله عليه وسلم , أين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتين ويطالبن بإرثهن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فلم يعطها الإرث , قد يقول قائل كيف تحرمونها من الإرث ؟ والله سبحانه وتعالى يقول : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ويقول عن زكريا عليه الصلاة والسلام أنه قال عن يحى لما طلب الولد قال: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } , وأنتم تقولون ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) هذا الحديث يقوله أبو بكر وتلك آية والآية إذا عارضت الحديث فالآية مقدمة على الحديث ..
فنقول ليس الأمر كما قلتم لماذا .. تعنتاً .. لا ليس والله تعنتاً وما يضيرنا لو أخذت فاطمة نصيبها رضي الله عنها وأرضاها إن كان لها نصيب ..(7/214)
ولكن نقول إقرأوا الآيات وتدبروها قليلاً لا نريد أكثر من ذلك , الله جل وعلا ماذا يقول عن زكريا ؟ قال { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ما الآيات التي قبلها , يقول الله تبارك وتعالى عن زكريا { كهيعص 1 ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا 2 إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا 3 قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا 4 وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا 5 يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا 6} .. سياق الآيات هل هي وراثة مال ؟ إقرأوا كتب السيرة ماذا كان حال زكريا .. فقير .. زكريا كان نجاراً كان فقيراً ما هو المال الذي عند زكريا حتى يطلب وارثاً له , ثم هل يعقل أن رجلاً صالحاً يسأل الله الولد ليرث ماله !! أين الصدقة في سبيل الله .. أين البذل ؟ يطلب ولداً ليرث ماله !! لا نقبل هذا لرجل صالح فكيف تقبلونه لنبي كريم !! أن يسأل الله الولد لأي شيء قال : حتى يرث أموالي !! هذا لا يمكن أن نقبله في نبي كريم مثل زكريا عليه الصلاة والسلام , ثم ماذا يقول : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } كم بين يعقوب وزكريا من الآباء والأجداد ؟ مئات السنين عشرات إن لم نقل مئات الآباء بين زكريا ويعقوب , موسى بين زكريا ويعقوب أيوب بين زكريا ويعقوب , داوود وسليمان بين زكريا ويعقوب , يونس بين زكريا ويعقوب , يوسف بين زكريا ويعقوب .. كل أنبياء بني إسرائيل تقريباً بين زكريا ويعقوب زكريا يمثل آخر أنبياء بني إسرائيل زكريا يحى عيسى .. إنتهت النبوة ويعقوب هو إسرائيل , كل أنبياء بني إسرائيل هم بين زكريا ويعقوب ونحن لانتكلم عن جميع الأنبياء نتكلم عن بني إسرائيل أمة كاملة ..(7/215)
كم سيكون نصيب هذا الولد { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } وكم وكم من الذين سيحجبونه عن الميراث , الأولاد الأقرب ..
هذا كلام لا يُعقل .. إذاً ماذا أراد زكريا .. أراد ميراث النبوة هذا الميراث الحقيقي ميراث النبوة .. يرث النبوة .. يرث الدعوة إلى الله تبارك وتعالى يرث العلم , ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم ) هذا الذي أراده زكريا صلوات الله وسلامه عليه , ومنه ميراث سليمان صلوات الله وسلامه عليه لما قال الله تبارك وتعالى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ورث ماذا ؟ .. ورث العلم ورث النبوة ورث الحكمة , لم يرث المال لو كان مالاً ما فائدة ذكره .. طبيعي جداً الولد يرث أباه , هذا أمر طبيعي فلماذا يذكر في القرآن ؟ إذاً الذي ذكر في القرآن أمر ذا أهمية عندما يقول الله تبارك وتعالى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أراد أن ينبه إلى شيء مهم ليس مجرد وراثة مال , ثم كم لداوود من الأبناء إرجعوا إلى سيرة داوود , داوود على المشهور كانت له ثلاثمئة زوجة وسبع مئة سُرّية – يعني أمة - ذكروا لداوود أولاد كثر ألا يرثه إلا سليمان ! صلوات الله وسلامه عليه .. هذا لا يمكن أن يكون أبداً .
ولنفرض أنه ورث طيب ما شأن أبي بكر وعمر وعثمان هل أخذوا هذا المال لهم ؟ , كانوا يعطونه لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما ذنبهم .. ما الخطيئة التي أرتكبوها .. هل أبو بكر إستدخل فدك له , هل إستدخلها عمر .. هل إستدخلها عثمان أبداً لم يستدخلوها , إذاً لماذا يُلامون ؟ !
لماذا نزرع الكراهية في قلوب الناس لأبي بكر وعمر وعثمان ؟! ماذا صنعوا بفدك ؟!(7/216)
خاصة إذا قلنا إن عمر وعثمان عاشا بعد فاطمة زمن الخلافة , فاطمة ماتت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها بعده بستة أشهر على المشهور .. ما شأن عمر وعثمان بفدك ؟! ..
دعونا نسلم بأن فدك إرث لفاطمة رضي الله عنها .. نصيبها الذي هو النصف إذا ماتت فاطمة من يرث فاطمة ؟ يرثها أولادها وزوجها من أولاد فاطمة ؟ .. اربعة : الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وزوجها علي , أبوها توفي صلى الله عليه وسلم وأمها توفيت وهي خديجة رضي الله عنها , مابقي من الورثة إلا الأولاد والزوج .. الزوج يأخذ الربع لوجود الفرع الوارث فربع الميراث لعلي , وبقية الميراث - ميراث فاطمة – لأولاد فاطمة للذكر مثل حظ الأنثيين ..
طيب علي في خلافته لم يعط فدك لفاطمة ولم يعطها لأولاد فاطمة ..
فإن كان أبو بكر ظالماً وعمر كان ظالماً وعثمان كان ظالماً لفدك فعلي كان ظالماً كذلك , فكلهم لم يعطوا فدك لأهلها .. أبو بكر لم يعطها لأهلها , عمر لم يعطها لأهلها , عثمان لم يعطها لأهلها , علي لم يعطها لأهلها , وإسألوا علمائكم في هذا الأمر هل أعطى علي فدك لأولاد فاطمة ؟ لم يعطهم فدك .
الحسن إستخلف بعد علي هل أعطى فدك لأخيه الحسين ولأخته زينب لم يعطهم , لأن أم كلثوم كانت قد توفيت ..
إذاً لماذا يُلام أبو بكر وعمر وعثمان ولا يُلام علي رضي الله عنه ؟! إما أن يُلام الجميع وإما أن لايُلام أحد ..
ننظر موقف أهل السنة وموقف الشيعة , أهل السنة لا يلومون أحداً , لماذا لا تلومون أحداً .. قالوا لأنها أصلاً ليست ميراثاً لفاطمة ولذلك لا نلوم أحداً .(7/217)
أما الشيعة فيلومون أبو بكر ويلومون عمر ويلومون عثمان ويلزمهم أن يلوموا علي ولذلك خرجت طائفة من الشيعة يُقال لها الكاملية هذه الطائفة تطعن في علي مع أنها شيعية .. قالوا أبو بكر وعمر وعثمان ظلمة أخذوا الخلافة من علي , وعلي لم يستجب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أمره بالخلافة و بايعهم وترك أمر الخلافة فعلي أيضاً مذنب ..
وهذا يلزمهم لأنهم لو فكروا بعقولهم بناءً على الأدلة الباطلة التي إستدلوا بها , إذاً فدك ليست إرثاً لفاطمة رضي الله عنها وأبو بكر خيراً صنع لأنه إتبع النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سمعه يقول : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة )
هناك قول آخر وهو أن فدك هبة وهبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة كيف وهبها النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة .. قالوا لما فتح الله تبارك وتعالى فدك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم نادى فاطمة وأعطاها إياها .. هل هذا صحيح ؟
قالوا نعم لما نزل { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } بعد فتح خيبر ناداها قال هذا حقك خذي حقك وأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها وأرضاها .. هل هذا الكلام صحيح .. هل يُقبل أصلاً هذا الكلام ..
للنبي صلى الله عليه وسلم سبعة من الولد ثلاثة ذكور وأربعة إناث .. الذكور عبد الله والقاسم وإبراهيم كلهم ماتوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهم صغار لا دخل لهم هنا إذاً , بقي للنبي صلى الله عليه وسلم أربع من البنات أصغرهن فاطمة رضي الله عنها , ثم تأتي بعد فاطمة رقية ثم أم كلثوم ثم زينب وهي الكبيرة هؤلاء هن بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .(7/218)
يقولون النبي صلى الله عليه وسلم أعطى فاطمة فدك ولم يعطي باقي البنات , بنات النبي صلى الله عليه وسلم توفيت رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية من الهجرة لما خرج إلى بدر صلى الله عليه وآله وسلم , لكن أم كلثوم وزينب توفيتا بعد ذلك , أم كلثوم توفيت في السنة التاسعة من الهجرة , وزينب توفيت في السنة الثامنة من الهجرة .. خيبر في أول السنة السابعة من الهجرة .. أنظروا كيف يتلاعب الشيطان بالناس , فيكون النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح الله عليه خيبر له ثلاث بنات أحياء فاطمة وزينب وأم كلثوم .. تصوروا كيف ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأن النبي يأتي إلى بناته الثلاث ويقول تعالي يا فاطمة هذه فدك لك وأنتما يا أم كلثوم ويا زينب مالكما شيء .. أيجوز أن يُقال هذا في النبي صلى الله عليه وسلم ؟ , إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه بشير بن سعد والد النعمان بن بشير وقال : يا رسول الله إني أريد أن أنحل إبني هذا حديقة وأريدك أن تشهد على ذلك , والنبي يعلم أن له أولاد آخرون غير هذا الولد , فقال له صلوات الله وسلامه عليه : ( أكل أولادك أعطيت ؟ ) يعني أعطيت بقية أولادك أو أعطيت هذا فقط , قال : لا , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذهب فإني لا أشهد على جور ) .
والنبي يقول : ( إتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم ) ويقول : ( لا أشهد على جور ) الله أكبر ! أنرضى أن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي لا يشهد على الجور والذي قول لنا : ( إتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم ) أرضى أن يكون هو بذاته صلى الله عليه وسلم الذي يفرق بين أولاده !! الذي لا يشهد على الجور هل يفعل الجور ؟! صلى الله عليه وآله وسلم .. لا يمكن هذا أبداً , إذاً لن يعط النبي صلى الله عليه وسلم فدك لفاطمة دون بناته .(7/219)
ثم يا عقلاء إن كان النبي أعطاها لفاطمة فجاءت تطالب بماذا إذاً في عهد أبي بكر , إذا أخذتها وأستلمتها تطالب بماذا ؟ هي ملكك تطالبيني بماذا ؟ ! تقول أعطاها النبي في السنة السابعة من الهجرة وتوفي بعد أن أعطاها بأربعة سنوات .. وتأتي في عهد أبي بكر تقول أعطني الذي أعطاني النبي قبل أربع سنين !! أيعقل هذا الكلام .. لا يُعقل هذا أبداً ولا يُقبل مثل هذا الكلام .
بقي شيء واحد يقولون لما غضبت فاطمة إذاً رضي الله عنها وأرضاها .. فاطمة إستدلت بعموم قول الله تبارك وتعالى { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } فعلى هذا الأساس جاءت تطالب بإرثها رضي الله عنها فلما قال لها أبو بكر رضي الله عنه ( لا نورث ما تركناه صدقة ) إنتهى الأمر ورجعت , عائشة رضي الله عنها التي تروي هذه القصة وتروي هذا الحديث تقول : فوجدت على أبي بكر أي غضبت أنه لم يعطيها فدك , لكن ليس في الحديث شيء أن فاطمة تكلمت على أبي بكر بشيء وإنما هذا فهم عائشة فهمت أن فاطمة وجدت وتضايقت وأنها لم تكلم أبا بكر , طبيعي جداً أنها لم تكلم أبا بكر لأنها كانت مريضة وما كان أبا بكر يخالطها أصلاَ , ليست إبنته وليست قريبة له , هي إبنة النبي وزوجة علي رضي الله عنه ما شأن أبي بكر بها ؟ ولذلك زارها قبل موتها رضي الله عنها , بل وعلى المشهور أن التي غسلتها والتي كانت تمرضها هي أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق هي التي غسلت فاطمة رضي الله عنها .. فقضية أن فاطمة وجدت على أبي بكر الله أعلم بذلك . هذا فهم عائشة تقول أنها وجدت لكن ليس الحديث نص أن فاطمة تكلمت في أبي بكر أو طعنت فيه أبداً .. سكتت رجعت إلى بيتها بعد أن قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) .
شبهة رزية يوم الخميس(7/220)
أو حديث الرزية , والرزية يعني المصيبة التي وقعت هذا الحديث يرويه بن عباس يقول : لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني الوفاة – وفي البيت رجال فيهم عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هلم أكتب كتاباً لا تضلون بعده ) , فقال عمر : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ) , وأختلف أهل البيت وأختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لا تضلوا بعده , ومنهم من يقول ما قال عمر فلما أكثروا اللغو والإختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قوموا ) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
هم يطعنون على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة عمر من خلال هذا الحديث , مدار طعنهم في ماذا ؟ :
أولا قالوا إن عمر قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر , وهذه قالها التيجاني كذباً وزوراً في كتاب فسألوا أهل الذكر ص144 وص 179 ونسبه إلى البخاري كذباً وزوراً وهو ليس في البخاري أن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر وإنما قال غلب عليه الوجع .(7/221)
ما معنى قول عمر : ( حسبنا كتاب الله ) هل معنى هذا أننا لا نريد السنة , هكذا هم يلبسون على الناس , إن معنى قول عمر ( حسبنا كتاب الله ) أي ما جاء في كتاب الله { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } يكفي كمل الدين دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتاح , إجتهد عمر في هذه .. أصاب أو أخطأ هذا موضوع آخر , لكن هل نقول إن عمر كتم الدين رضي الله عنه وأرضاه !! عندما قال ( حسبنا كتاب الله ) , هل كان الذي سيبلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمراً لازماً واجباً لابد منه وأحذروا قبل أن تقولوا نعم , لأننا إذا قلنا نعم هو أمر لازم واجب لابد منه والنبي لم يبلغه معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتم الرسالة ولم يكملها وكتم بعضها والله جل وعلا يقول { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } قبل هذه الحادثة بثلاثة اشهر في حجة الوداع قال الله هذا الكلام سبحانه وتعالى وأنزله على نبيه قرآناً يتلى .
بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله والجنة إلا وأمرتكم به , وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه ) إذاً النبي بلغ الرسالة .
بقي أمر وهو ما هو هذا الأمر الذي أراد النبي أن يبلغه ؟ , جاء في مسند أحمد بإسناد مرسل ولكنه صحيح – صحيح مرسل – إلى حُميد بن عبد الرحمن بن عوف أن علياً رضي الله عنه كان حاضراً في هذه الحادثة فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إئتوني بكتاب قال علي : يا رسول الله إني أحفظ , قل أحفظ , فقال :
( أوصيكم بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم ) إذاً بلّغ ما كان يريد صلوات الله وسلامه عليه ..(7/222)
ولنا أن نسأل هل كان علي حاضراً رضي الله عنه في هذه الحادثة .. قطعاً نعم عند الجميع عندنا وعند الشيعة هو حاضر , إذاً لما لم يكتب لما لم يذهب ويأتي بالدواة والقلم ويكتب مع من كان علي مع الذين منعوا أو مع الذين لم يمنعوا ؟! ..
هذا الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : ( قوموا عني ) أمرهم أن يقوموا عنه صلوات الله وسلامه عليه .. لماذا قال قوموا عني ؟ .. لأنه صار صياح هذا يقول قرب وهذا يقول لا تقرب والنبي صلى الله عليه وسلم في وادي وهم في وادٍ آخر , ولذلك أمرهم بالخروج صلوات الله وسلامه عليه .
نعم هناك من قال يستفهم: أهجر ؟؟ يعني أهذا الذي يقوله النبي صلى الله عليه وسلم هجراً أو لا ؟؟ ولكن نقول من يقول أن الذي قال هذا عمر ؟ لماذ لا يكون قاله علي ! ونحن أيضاً نقول علي لم يقل هذا , إذاً من الذي قال : أهجر ؟ , لعله أحد الذين كانوا حديثي إسلام وحضروا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا مثل هذه الكلمة .. ولكن لم يثبت أبداً أن أبا بكر قال هذه الكلمة أو عمر أو عثمان أو علي أو الزبير أو طلحة أو أحد من كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
النبي صلى الله عليه وسلم معلوم أنه لما أصابه الوجع قبيل موته لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة كما قال بن عباس إذ كان الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم شديداً صلى الله عليه وآله وسلم .. ولذلك بن مسعود لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت وجده يعرق عرقاً شديداً يتصبب العرق من جبينه , فقال يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً قال : ( إني أوعك كرجلين منكم ) , قال : أذلك لأن لك الأجر مرتين ؟ , قال : ( نعم ) .
فشفقة عمر على النبي صلى الله عليه وسلم هي التي دفعته أن يقول ( حسبنا كتاب الله حسبنا كتاب الله ) يعني دعوا النبي يرتاح صلى الله عليه وسلم .(7/223)
وقلنا ونعيد ونكرر قبلتم هذا أو لم تقبلوه , لكن هل هذا يُخرج عمر من الملة ؟ , هل هذا يجعل عمر عاصياً لله جل وعلا ..
طبعاً هناك دعوى عريضة لا دليل عليها وهي أن هذا الكتاب هو خلافة علي ! دعوى من يقول إن هذه الدعوى صحيحة , أنا الآن في هذا المقام سأقول أن هذا الكتاب هو خلافة أبو بكر .. من يمنعني ؟ بل أنا صاحب الدليل لأنه ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إئتوني بكتاب فإني أخشى أن يتمنى متمني ويأبى الله إلا أبا بكر ) ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر هو الذي يصلي بالناس في مرض موته صلوات الله وسلامه عليه .
من يقول أن هذا الكتاب هو خلافة علي ؟ ثم هذا الكتاب هو خلافة علي أليس النبي قد بلّغ خلافة علي – كما يدعي القوم - في الغدير وقبل الغدير في تبوك , وقبل تبوك في مكة في حديث الإنذار حديث الدار فلماذا صار الأمر إلا الآن .. الآن فقط يريد أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم , ثم تعالوا ننظر إلى ما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن ومن السنة كم نسبة المكتوب من غير المكتوب ولا شيء جل ما بلّغه النبي صلى الله عليه وسلم مسموع غير مكتوب , والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
( نحن أمة أمية لا نكتب الشهر عندنا هكذا وهكذا وهكذا ) يعد بأصابعه صلوات الله وسلامه عليه , ولذلك أنظروا كم حديث للرسول صلى الله عليه وسلم الذي كتبه الصحابة وكم حديث للنبي صلى الله عليه وسلم الذي وعاه الصحابة وحفظوه لا مقارنة فلماذا هذه بالذات تُكتب , فالقصد أننا ننظر في هذا الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم هل هو أمر واجب أو أمر مستحب .. قطعا هو أمر مستحب وليس من الأمر الواجب لأننا قلنا قبل قليل إذا قلنا إنه من الأمر الواجب فإننا نقول إن النبي قد كتم والنبي لم يكتم صلى الله عليه وسلم , هذا ليس امر واجب بل هو من المستحبات التي تركها للمصلحة صلوات الله وسلامه عليه .(7/224)
وختاماً نقول إقرأوا كتاب الله تبارك وتعالى تدبروا كلام الله جل وعلا إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز : { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي الذين أنفقوا من قبل الفتح والذين أنفقوا من بعد الفتح كلهم وعدهم الله تبارك وتعالى الحسنى , وماذا يترتب على وعد الله تبارك وتعالى بالحسنى , قال الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ 101 لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} , تدبروا قول الله تبارك وتعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } , تدبروا قول الله تبارك وتعالى { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ.. } , تدبروا قول الله تعالى { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ 8 وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 9} , اقرأوا قول الله تبارك وتعالى { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ(7/225)
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا 18} أيرضى الله عن المنافقين لا يرضى الله تبارك وتعالى أبداً عن المنافقين , إن الله لا يرضى إلا عن المؤمنين لأن الله تبارك وتعالى يعلم ما كان ويعلم ما يكون سبحانه وتعالى فالله بكل شيء عليم ولا يرضى الله عن المنافقين أبداً .
إن من أبرز صفات المنافقين في كتاب الله جل وعلا وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفي واقع الأمر أنهم أجبن الناس , يخافون على أنفسهم ويخافون الموت ولذلك تجدهم مذبذبين كما قال الله جل وعلا { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} فهل هذه الصفات هي صفات أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم , إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم هم الذين باعوا أنفسهم وأشتروا الجنة والذين بذلوا كل شيء في سبيل الله تبارك وتعالى هم الذين قاتلوا المرتدين , هم الذين فتحوا البلاد هم الذين فتحوا الهند والسند وفتحوا الشام ومصر وفتحوا العراق وفتحوا بلاد فارس هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , هم هؤلاء الذين تطعنون أنتم فيهم الله يقول { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ } والله سبحانه وتعالى يقول { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } الله تبارك وتعالى يقول { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ويقول بعدها { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وأنظروا أنتم ماذا تقولون أنتم وماذا يقول علمائكم عن أولئك الصحابة , أتصدقون الله ورسوله أو تصدقون علمائكم ؟ إنكم بين أمرين , كيف بمن جلس مع طلابه ثلاثاً وعشرين سنة يعلمهم صلوات الله وسلامه عليه وهو رسول الله أوتي جوامع الكلم .. أحرص الناس على الخير .. أتقى الناس لله .. أعلم الناس(7/226)
بالله .. أصدق الناس مؤيد من عند الله تبارك وتعالى ثم بعد ذلك لم ينجح أحد !! إلا ثلاثة .. إلا أربعة إلا خمسة .. إلا سبعة على روايات متفاوتة عندهم ... أتقبلون هذا !!؟ ..
أتقبلون أن يُقال فشل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تربية أصحابه .. إنه الكفر بعينه إنه الطعن في ذات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
إن صفات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أبداً أن تكون صفات المنافقين .. إقرأوا كتاب الله وتدبروه .. إقرأوا سورة التوبة لتعلموا ما هي صفات المنافقين وأقرأوا باقي القرآن , آل عمران والفتح وغيرها من كتاب الله حتى تعلموا صفات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , إنكم تطعنون في أقوام قد حطوا رحالهم في الجنة , إنكم تطعنون في أقوام كان علي يحبهم وكان أولاده يجلونهم , علي رضي الله عنه زوج إبنته أم كلثوم لعمر يا من تطعنون في عمر , علي رضي الله عنه سمى أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان , الحسن سمى أولاده بأسماء أبي بكر وعمر , علي بن الحسين سمى إبنته عائشة وسمى ولده عمر , سُكينة بنت الحسين من زوجها ؟ مصعب بن الزبير بن العوام .(7/227)
إن العلاقات بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأولادهم مع آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأولادهم كانت حميمة جداً والله ما كان بينهم ما يدعون من كفر أولئك وعصمة الآخرين بل كانت علاقة ود وصفاء ومحبة هكذا كانوا .. لماذا نقبل من الآخرين أن يسيروا فكرنا ولا ننظر نحن في كتب التاريخ وكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتراجم هؤلاء لنعرف الحقيقة بأنفسنا , كل منا سيحاسب في قبره لوحده سيحاسبه الله تبارك وتعالى لماذا أبغضت هؤلاء ؟ .. ما ذنبهم ؟ .. إنهم أولياء الله جل وعلا والله سبحانه وتعالى يقول ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) وإنما توعد الله بالحرب ثلاثة .. توعد آكل الربا , وتوعد الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً , وتوعد الذين يحاربون أولياءه فأحذر ..
والله ما أردنا من هذه الجلسة إلا أن نقدم النصح والله لا نريد لكم إلا الخير لا نريد لكم إلا الجنة .. ليست بأيدينا ولكن الله تبارك وتعالى بين لنا طريقها وبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم طريقها , إنه بقدر ثبوت قدمك على الصراط في هذه الدنيا يكون ثبوت قدمك على الصراط في الآخرة نسأل الله تبارك وتعالى أن يهدينا ويهديكم وأن يوفقنا ويوفقكم ودعونا نقول جميعاً .. اللهم أرنا الحق حقاً وأرزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وأرزقنا إجتنابه ثم بعد ذلك نسعى سعياً حثيثاً لمعرفة الحق وطلبه حتى نتبعه ولمعرفة الباطل حتى نجتنبه ونبتعد عنه والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحابته أجمعين والسلام عليكم ورجمة الله وبركاته .
=============
شبهة حديث الحوض(7/228)
حديث الحوض فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( يَرِدُ علي رجال أعرفهم ويعرفونني فيذادون عن الحوض – يعني حوض النبي يوم القيامة - فأقول أصحابي أصحابي فيقال : إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك ) ولهذا الحديث روايات أخرى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فأقول سحقاً سحقاً ) هؤلاء الذين يذادون عن الحوض من هم ؟ قالوا هم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز لكم أن تثنوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم في الأصل يذادون عن الحوض ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عنهم سحقا سحقاً .. فنقول مستعينين بالله تبارك وتعالى :
أولاً أن المراد بهؤلاء الصحابة المنافقون وذلك أن المنافقين كانوا يظهرون الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله جل وعلا { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ 1 } ..
وقد يقول قائل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين فنقول نعم كان يعرف بعضهم ولم يكن يعرفهم كلهم ولذلك قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } فبين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم جميع المنافقين وكان يظن أن أولئك من أصحابه وليسوا كذلك بل هم من المنافقين .(7/229)
ثم الشيء الثاني أن المراد بهم الذين إرتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنه بعد توفي النبي صلوات الله وسلامه عليه إرتد بعض العرب .. إرتدوا عن دين الله تبارك وتعالى حتى قاتلهم أبو بكر الصديق مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وسميت تلك الحروب بحروب الردة , فقالوا المراد بالذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم سحقاً سحقاً هم الذين أرتدوا بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه
على الأول أو على الثاني لا يدخل أًصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر لماذا ؟ لأننا في تعريف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ماذا نقول ؟ ..
نقول كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك .
فإذا قلنا أنهم هم المنافقون فالمنافقون لم يؤمنوا بالنبي يوماً صلوات الله وسلامه عليه , وإذا قلنا هم المرتدون فالمرتدون لم يموتوا على الإسلام .. فهؤلاء لا يدخلون في تعريف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما إذا قصدوا أن الصحابة كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل أبو جهل في الصحابة وأبو لهب وأمية بن خلف وأبي بن خلف والوليد بن عتبة وغيرهم من المشركين يدخلون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونحن لا نقول بذلك أبداً .. ولكن نقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعد بن معاذ ومعاذ بن جبل وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وعبدالله بن عمر وعبد الله بن العباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وفاطمة وعائشة والحسن والحسين وغيرهم كثير .. هؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , فمن من هؤلاء كان منافقاً ومن من هؤلاء إرتد عن دين الله تبارك وتعالى بل كل هؤلاء آمنوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولقوه وماتوا على ذلك والعلم عند الله تبارك وتعالى .(7/230)
فالقصد أن الجواب الأول أن قول النبي صلى الله عليه وسلم سحقاً سحقاً هو للمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم , أو هم الذين إرتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أصلاً من المسلمين ثم إرتدوا وتركوا دين الله جل وعلا .
وهناك جواب ثالث وهو أن المعنى كل من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو لم يتابعه , وإن كان النبي يعلم ذلك كعبد الله بن أبي بن سلول وهو كما هو معلوم رأس المنافقين وهو الذي قال : لإن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل , وهو الذي قال ما مثلنا ومثل محمد وأصحابه إلا كما الأول سمن كلبك يأكلك . فهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه فيكون هذا هو المقصود ولذلك إن تعريف الصحابة بأنه كل من لقي النبي مؤمناً به ومات على ذلك تعريف متأخر وأما كلام العرب كل من صحب الرجل فهو من أصحابه مسلماً أو غير مسلم متبع له أو غير متبع هذا أمر آخر . ولذلك لما قال عبد الله بن أبي بن سلول كلمته الخبيثة ( ليخرجن الأعز منها الأذل ) قام عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغته هذه الكلمة قال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق , فقال صلى الله عليه وسلم : (لا يا عمر لا يقول الناس إن محمد يقتل أصحابه ) , فسماه من أصحابه صلوات الله وسلامه عليه وهو رأس المنافقين , فهو غير داخل فالذين نحن نسميهم صحابة رضي الله عنهم وأرضاهم .
كذلك قد يكون المقصود بالأصحاب أي من صحب النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الدين ولو لم يرى النبي صلى الله عليه وسلم فندخل نحن في هذا المسمى ولذلك جاءت بعض روايات الحديث ( أمتي أمتي ) بدل ( أصحابي ) فنكون من أمته صلوات الله وسلامه عليه , وقد يقول قائل كيف وقد جاء في الحديث ( أعرفهم ويعرفونني ) فنقول أنه قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعرف أمته بآثار الوضوء صلوات الله وسلامه عليه .(7/231)
ولنا سؤال هنا لو جاءنا النواصب , والنواصب هم الذين يبغضون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يبغضون علياً وفاطمة والحسن والحسين وغيرهم من آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وقالوا هؤلاء الذين إرتدو وهؤلاء الذين يذادون عن الحوض هم علي والحسن والحسين كيف تردون عليهم ؟؟!
الرد عليهم بأن نقول لهم ليسوا من هؤلاء بل هؤلاء جاءت فيهم فضائل ..
فنقول أبو بكر وعمر وعثمان وأبو عبيدة جاءت فيهم فضائل فما الذي يخرج علياً ويدخل أبا بكر وعمر !!
فالقصد إذاً أن حديث الحوض لا يشمل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
شبهة جيش أسامة
يقولون إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جهز جيش أسامه وذلك لينتقم أسامة رضي الله عنه لأبيه زيد بن حارثة لما قُتل في مؤته جهز النبي جيش أسامة ليذهب إلى مؤته وقالوا جعل من ضمن هذا الجيش أبا بكر وعمر حتى يصفو الجو لعلي رضي الله عنه ويستطيع النبي أن يعينه خليفة !! أنظروا كيف جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفاً يخاف من أبي بكر وعمر فيرسلهما في الجيش حتى يستطيع أن يبين للناس أن علياً هو الخليفة !! هكذا يكتم الدين بهذه الدرجة .. وهذا طعن في النبي صلوات الله وسلامه عليه , الله سبحانه وتعالى يقول له : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } يقول : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنذِرْ 2} { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } وهم يقولون يخاف من هؤلاء الصحابة صلوات الله وسلامه عليه وحاشاه من ذلك .
ثم يضيفون إلى هذا الأمر أموراً أخرى وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لعن الله من تخلف عن جيش أسامة ) حتى تصيب اللعنة أبا بكر وعمر .
فنقول أولاً : إن أبا بكر لم يكن أبداً في جيش أسامة , ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام : لعن الله من تخلف عن جيش أسامة , بل هذا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم .(7/232)
وأما كون عمر في جيش أسامه فهذا هو المشهور في السير , أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عمر في جيش أسامة .
كيف يكون أبا بكر في جيش أسامة والنبي أمر أبا بكر ان يصلي بالناس في فترة مرض النبي صلى الله عليه وسلم ,هذا تناقض لا يمكن أن يحدث ولذلك لما أراد أسامة أن يخرج إستأذن أبو بكر أسامةَ أن يبقي عمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بل ما سير جيش أسامة إلا أبو بكر الصديق , وذلك أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أشار بعض الصحابة على أبي بكر أن يبقي جيش أسامة في المدينة خوفاً على المدينة من المرتدين ومن العرب الذين لم يسلموا بعد فأبا أبو بكر أن ينزل راية رفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يخرج جيش أسامة , وخرج جيش أسامة بأمر من أبي بكر الصديق رضي الله عنه , فكيف جعلوا أبا بكر الصديق الذي أخرج جيش أسامة جعلوه ممن تخلف وجعلوه ممن يستحق اللعن من النبي صلى الله عليه وسلم وما هذا إلا من شيء في قلوبهم على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
شبهة قضية فدك
قضية أقيمت لأجلها الدنيا , تكلموا فيها كثيراً وشنعوا فيها كثيراً على أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه وهي قضية فدك وما أدراك ما فدك . فدك أرض للنبي صلى الله عليه وسلم من أرض خيبر وذلك من المعلوم أن خيبر لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إليها وحاصرها إنقسمت إلى قسمين , إلى قسم فُتح عنوة وإلى قسم فُتح صلحاً , من الذي فُتح صلحاً في خيبر ما فيه فدك .
فدك أرض صالح النبي صلى الله عليه وسلم اليهود عليها على أنهم يزرعونها ويعطون نصف غلتها للنبي صلى الله عليه وسلم , فنصف غلة فدك تكون للنبي صلى الله عليه وسلم .(7/233)
بعد أن توفي صلوات الله وسلامه عليه جاءت فاطمة رضي الله عنها تطالب بورثها من النبي صلى الله عليه وسلم فذهبت إلى أبي بكر لأنه خليفة المسلمين الذي كانت تعتقد خلافته , فذهبت إليه و طلبت منه أن يعطيها فدك ورثها من النبي صلى الله عليه وسلم , فقال لها أبو بكر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) , وهنا لو قلنا لأبي بكر الصديق تعال يا أبا بكر عندك فاطمة تطالب بإرثها وعندك النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( لا نورث ) تطيع من ؟
لا شك أنه سيقول سأطيع النبي صلى الله عليه وسلم .. طيب وفاطمة لماذا لا تطيعها فيقول أطيعها لو لم يكن عندي أمر من النبي صلى الله عليه وسلم , هذا النبي معصوم صلوات الله وسلامه عليه وفاطمة غير معصومة والنبي صلى الله عليه وسلم أمرني قال (لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) وإن أحببتم فسألوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , هذا الحديث رواه أبو عبيدة ورواه عمر ورواه العباس ورواه علي ورواه الزبير ورواه طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا نورث ما تركناه فهو صدقة )
طيب ماذا أصنع أنا عندي حديث النبي وعندي قول فاطمة ؟ .. لا شك أي واحد منا يخاف الله سبحانه وتعالى ويقدر النبي صلى الله عليه وسلم فيقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد ..
فقال لها لا أستطيع أن أعطيك شيئاً الرسول قال : ( لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) .. فرجعت فاطمة رضي الله عنها ولم تأخذ ورثها ..
دعونا نوزع إرث النبي صلى الله عليه وسلم لو كان له إرث من الذي يرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
يرثه ثلاثة : ترثه فاطمة ويرثه أزواجه ويرثه عمه العباس .
أما فاطمة فلها نصف ما ترك لإنها فرع وارث .. أنثى ..
وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يشتركن في الثُمُن لوجود الفرع الوارث وهي فاطمة ..
والعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ الباقي تعصيباً ..(7/234)
هذا هو إرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم , إذا ليست القضية خاصة بفاطمة ولذلك أين العباس لماذا لم يأت ويطالب بإرثه من النبي صلى الله عليه وسلم , أين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتين ويطالبن بإرثهن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فلم يعطها الإرث , قد يقول قائل كيف تحرمونها من الإرث ؟ والله سبحانه وتعالى يقول : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ويقول عن زكريا عليه الصلاة والسلام أنه قال عن يحى لما طلب الولد قال: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } , وأنتم تقولون ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) هذا الحديث يقوله أبو بكر وتلك آية والآية إذا عارضت الحديث فالآية مقدمة على الحديث ..
فنقول ليس الأمر كما قلتم لماذا .. تعنتاً .. لا ليس والله تعنتاً وما يضيرنا لو أخذت فاطمة نصيبها رضي الله عنها وأرضاها إن كان لها نصيب ..(7/235)
ولكن نقول إقرأوا الآيات وتدبروها قليلاً لا نريد أكثر من ذلك , الله جل وعلا ماذا يقول عن زكريا ؟ قال { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ما الآيات التي قبلها , يقول الله تبارك وتعالى عن زكريا { كهيعص 1 ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا 2 إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا 3 قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا 4 وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا 5 يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا 6} .. سياق الآيات هل هي وراثة مال ؟ إقرأوا كتب السيرة ماذا كان حال زكريا .. فقير .. زكريا كان نجاراً كان فقيراً ما هو المال الذي عند زكريا حتى يطلب وارثاً له , ثم هل يعقل أن رجلاً صالحاً يسأل الله الولد ليرث ماله !! أين الصدقة في سبيل الله .. أين البذل ؟ يطلب ولداً ليرث ماله !! لا نقبل هذا لرجل صالح فكيف تقبلونه لنبي كريم !! أن يسأل الله الولد لأي شيء قال : حتى يرث أموالي !! هذا لا يمكن أن نقبله في نبي كريم مثل زكريا عليه الصلاة والسلام , ثم ماذا يقول : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } كم بين يعقوب وزكريا من الآباء والأجداد ؟ مئات السنين عشرات إن لم نقل مئات الآباء بين زكريا ويعقوب , موسى بين زكريا ويعقوب أيوب بين زكريا ويعقوب , داوود وسليمان بين زكريا ويعقوب , يونس بين زكريا ويعقوب , يوسف بين زكريا ويعقوب .. كل أنبياء بني إسرائيل تقريباً بين زكريا ويعقوب زكريا يمثل آخر أنبياء بني إسرائيل زكريا يحى عيسى .. إنتهت النبوة ويعقوب هو إسرائيل , كل أنبياء بني إسرائيل هم بين زكريا ويعقوب ونحن لانتكلم عن جميع الأنبياء نتكلم عن بني إسرائيل أمة كاملة ..(7/236)
كم سيكون نصيب هذا الولد { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } وكم وكم من الذين سيحجبونه عن الميراث , الأولاد الأقرب ..
هذا كلام لا يُعقل .. إذاً ماذا أراد زكريا .. أراد ميراث النبوة هذا الميراث الحقيقي ميراث النبوة .. يرث النبوة .. يرث الدعوة إلى الله تبارك وتعالى يرث العلم , ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم ) هذا الذي أراده زكريا صلوات الله وسلامه عليه , ومنه ميراث سليمان صلوات الله وسلامه عليه لما قال الله تبارك وتعالى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ورث ماذا ؟ .. ورث العلم ورث النبوة ورث الحكمة , لم يرث المال لو كان مالاً ما فائدة ذكره .. طبيعي جداً الولد يرث أباه , هذا أمر طبيعي فلماذا يذكر في القرآن ؟ إذاً الذي ذكر في القرآن أمر ذا أهمية عندما يقول الله تبارك وتعالى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أراد أن ينبه إلى شيء مهم ليس مجرد وراثة مال , ثم كم لداوود من الأبناء إرجعوا إلى سيرة داوود , داوود على المشهور كانت له ثلاثمئة زوجة وسبع مئة سُرّية – يعني أمة - ذكروا لداوود أولاد كثر ألا يرثه إلا سليمان ! صلوات الله وسلامه عليه .. هذا لا يمكن أن يكون أبداً .
ولنفرض أنه ورث طيب ما شأن أبي بكر وعمر وعثمان هل أخذوا هذا المال لهم ؟ , كانوا يعطونه لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما ذنبهم .. ما الخطيئة التي أرتكبوها .. هل أبو بكر إستدخل فدك له , هل إستدخلها عمر .. هل إستدخلها عثمان أبداً لم يستدخلوها , إذاً لماذا يُلامون ؟ !
لماذا نزرع الكراهية في قلوب الناس لأبي بكر وعمر وعثمان ؟! ماذا صنعوا بفدك ؟!(7/237)
خاصة إذا قلنا إن عمر وعثمان عاشا بعد فاطمة زمن الخلافة , فاطمة ماتت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها بعده بستة أشهر على المشهور .. ما شأن عمر وعثمان بفدك ؟! ..
دعونا نسلم بأن فدك إرث لفاطمة رضي الله عنها .. نصيبها الذي هو النصف إذا ماتت فاطمة من يرث فاطمة ؟ يرثها أولادها وزوجها من أولاد فاطمة ؟ .. اربعة : الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وزوجها علي , أبوها توفي صلى الله عليه وسلم وأمها توفيت وهي خديجة رضي الله عنها , مابقي من الورثة إلا الأولاد والزوج .. الزوج يأخذ الربع لوجود الفرع الوارث فربع الميراث لعلي , وبقية الميراث - ميراث فاطمة – لأولاد فاطمة للذكر مثل حظ الأنثيين ..
طيب علي في خلافته لم يعط فدك لفاطمة ولم يعطها لأولاد فاطمة ..
فإن كان أبو بكر ظالماً وعمر كان ظالماً وعثمان كان ظالماً لفدك فعلي كان ظالماً كذلك , فكلهم لم يعطوا فدك لأهلها .. أبو بكر لم يعطها لأهلها , عمر لم يعطها لأهلها , عثمان لم يعطها لأهلها , علي لم يعطها لأهلها , وإسألوا علمائكم في هذا الأمر هل أعطى علي فدك لأولاد فاطمة ؟ لم يعطهم فدك .
الحسن إستخلف بعد علي هل أعطى فدك لأخيه الحسين ولأخته زينب لم يعطهم , لأن أم كلثوم كانت قد توفيت ..
إذاً لماذا يُلام أبو بكر وعمر وعثمان ولا يُلام علي رضي الله عنه ؟! إما أن يُلام الجميع وإما أن لايُلام أحد ..
ننظر موقف أهل السنة وموقف الشيعة , أهل السنة لا يلومون أحداً , لماذا لا تلومون أحداً .. قالوا لأنها أصلاً ليست ميراثاً لفاطمة ولذلك لا نلوم أحداً .(7/238)
أما الشيعة فيلومون أبو بكر ويلومون عمر ويلومون عثمان ويلزمهم أن يلوموا علي ولذلك خرجت طائفة من الشيعة يُقال لها الكاملية هذه الطائفة تطعن في علي مع أنها شيعية .. قالوا أبو بكر وعمر وعثمان ظلمة أخذوا الخلافة من علي , وعلي لم يستجب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أمره بالخلافة و بايعهم وترك أمر الخلافة فعلي أيضاً مذنب ..
وهذا يلزمهم لأنهم لو فكروا بعقولهم بناءً على الأدلة الباطلة التي إستدلوا بها , إذاً فدك ليست إرثاً لفاطمة رضي الله عنها وأبو بكر خيراً صنع لأنه إتبع النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سمعه يقول : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة )
هناك قول آخر وهو أن فدك هبة وهبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة كيف وهبها النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة .. قالوا لما فتح الله تبارك وتعالى فدك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم نادى فاطمة وأعطاها إياها .. هل هذا صحيح ؟
قالوا نعم لما نزل { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } بعد فتح خيبر ناداها قال هذا حقك خذي حقك وأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها وأرضاها .. هل هذا الكلام صحيح .. هل يُقبل أصلاً هذا الكلام ..
للنبي صلى الله عليه وسلم سبعة من الولد ثلاثة ذكور وأربعة إناث .. الذكور عبد الله والقاسم وإبراهيم كلهم ماتوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهم صغار لا دخل لهم هنا إذاً , بقي للنبي صلى الله عليه وسلم أربع من البنات أصغرهن فاطمة رضي الله عنها , ثم تأتي بعد فاطمة رقية ثم أم كلثوم ثم زينب وهي الكبيرة هؤلاء هن بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .(7/239)
يقولون النبي صلى الله عليه وسلم أعطى فاطمة فدك ولم يعطي باقي البنات , بنات النبي صلى الله عليه وسلم توفيت رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية من الهجرة لما خرج إلى بدر صلى الله عليه وآله وسلم , لكن أم كلثوم وزينب توفيتا بعد ذلك , أم كلثوم توفيت في السنة التاسعة من الهجرة , وزينب توفيت في السنة الثامنة من الهجرة .. خيبر في أول السنة السابعة من الهجرة .. أنظروا كيف يتلاعب الشيطان بالناس , فيكون النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح الله عليه خيبر له ثلاث بنات أحياء فاطمة وزينب وأم كلثوم .. تصوروا كيف ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأن النبي يأتي إلى بناته الثلاث ويقول تعالي يا فاطمة هذه فدك لك وأنتما يا أم كلثوم ويا زينب مالكما شيء .. أيجوز أن يُقال هذا في النبي صلى الله عليه وسلم ؟ , إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه بشير بن سعد والد النعمان بن بشير وقال : يا رسول الله إني أريد أن أنحل إبني هذا حديقة وأريدك أن تشهد على ذلك , والنبي يعلم أن له أولاد آخرون غير هذا الولد , فقال له صلوات الله وسلامه عليه : ( أكل أولادك أعطيت ؟ ) يعني أعطيت بقية أولادك أو أعطيت هذا فقط , قال : لا , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذهب فإني لا أشهد على جور ) .
والنبي يقول : ( إتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم ) ويقول : ( لا أشهد على جور ) الله أكبر ! أنرضى أن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي لا يشهد على الجور والذي قول لنا : ( إتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم ) أرضى أن يكون هو بذاته صلى الله عليه وسلم الذي يفرق بين أولاده !! الذي لا يشهد على الجور هل يفعل الجور ؟! صلى الله عليه وآله وسلم .. لا يمكن هذا أبداً , إذاً لن يعط النبي صلى الله عليه وسلم فدك لفاطمة دون بناته .(7/240)
ثم يا عقلاء إن كان النبي أعطاها لفاطمة فجاءت تطالب بماذا إذاً في عهد أبي بكر , إذا أخذتها وأستلمتها تطالب بماذا ؟ هي ملكك تطالبيني بماذا ؟ ! تقول أعطاها النبي في السنة السابعة من الهجرة وتوفي بعد أن أعطاها بأربعة سنوات .. وتأتي في عهد أبي بكر تقول أعطني الذي أعطاني النبي قبل أربع سنين !! أيعقل هذا الكلام .. لا يُعقل هذا أبداً ولا يُقبل مثل هذا الكلام .
بقي شيء واحد يقولون لما غضبت فاطمة إذاً رضي الله عنها وأرضاها .. فاطمة إستدلت بعموم قول الله تبارك وتعالى { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } فعلى هذا الأساس جاءت تطالب بإرثها رضي الله عنها فلما قال لها أبو بكر رضي الله عنه ( لا نورث ما تركناه صدقة ) إنتهى الأمر ورجعت , عائشة رضي الله عنها التي تروي هذه القصة وتروي هذا الحديث تقول : فوجدت على أبي بكر أي غضبت أنه لم يعطيها فدك , لكن ليس في الحديث شيء أن فاطمة تكلمت على أبي بكر بشيء وإنما هذا فهم عائشة فهمت أن فاطمة وجدت وتضايقت وأنها لم تكلم أبا بكر , طبيعي جداً أنها لم تكلم أبا بكر لأنها كانت مريضة وما كان أبا بكر يخالطها أصلاَ , ليست إبنته وليست قريبة له , هي إبنة النبي وزوجة علي رضي الله عنه ما شأن أبي بكر بها ؟ ولذلك زارها قبل موتها رضي الله عنها , بل وعلى المشهور أن التي غسلتها والتي كانت تمرضها هي أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق هي التي غسلت فاطمة رضي الله عنها .. فقضية أن فاطمة وجدت على أبي بكر الله أعلم بذلك . هذا فهم عائشة تقول أنها وجدت لكن ليس الحديث نص أن فاطمة تكلمت في أبي بكر أو طعنت فيه أبداً .. سكتت رجعت إلى بيتها بعد أن قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( لا نورث ما تركناه فهو صدقة ) .
شبهة رزية يوم الخميس(7/241)
أو حديث الرزية , والرزية يعني المصيبة التي وقعت هذا الحديث يرويه بن عباس يقول : لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني الوفاة – وفي البيت رجال فيهم عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هلم أكتب كتاباً لا تضلون بعده ) , فقال عمر : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ) , وأختلف أهل البيت وأختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لا تضلوا بعده , ومنهم من يقول ما قال عمر فلما أكثروا اللغو والإختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قوموا ) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
هم يطعنون على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة عمر من خلال هذا الحديث , مدار طعنهم في ماذا ؟ :
أولا قالوا إن عمر قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر , وهذه قالها التيجاني كذباً وزوراً في كتاب فسألوا أهل الذكر ص144 وص 179 ونسبه إلى البخاري كذباً وزوراً وهو ليس في البخاري أن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر وإنما قال غلب عليه الوجع .(7/242)
ما معنى قول عمر : ( حسبنا كتاب الله ) هل معنى هذا أننا لا نريد السنة , هكذا هم يلبسون على الناس , إن معنى قول عمر ( حسبنا كتاب الله ) أي ما جاء في كتاب الله { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } يكفي كمل الدين دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتاح , إجتهد عمر في هذه .. أصاب أو أخطأ هذا موضوع آخر , لكن هل نقول إن عمر كتم الدين رضي الله عنه وأرضاه !! عندما قال ( حسبنا كتاب الله ) , هل كان الذي سيبلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمراً لازماً واجباً لابد منه وأحذروا قبل أن تقولوا نعم , لأننا إذا قلنا نعم هو أمر لازم واجب لابد منه والنبي لم يبلغه معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتم الرسالة ولم يكملها وكتم بعضها والله جل وعلا يقول { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } قبل هذه الحادثة بثلاثة اشهر في حجة الوداع قال الله هذا الكلام سبحانه وتعالى وأنزله على نبيه قرآناً يتلى .
بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله والجنة إلا وأمرتكم به , وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه ) إذاً النبي بلغ الرسالة .
بقي أمر وهو ما هو هذا الأمر الذي أراد النبي أن يبلغه ؟ , جاء في مسند أحمد بإسناد مرسل ولكنه صحيح – صحيح مرسل – إلى حُميد بن عبد الرحمن بن عوف أن علياً رضي الله عنه كان حاضراً في هذه الحادثة فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إئتوني بكتاب قال علي : يا رسول الله إني أحفظ , قل أحفظ , فقال :
( أوصيكم بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم ) إذاً بلّغ ما كان يريد صلوات الله وسلامه عليه ..(7/243)
ولنا أن نسأل هل كان علي حاضراً رضي الله عنه في هذه الحادثة .. قطعاً نعم عند الجميع عندنا وعند الشيعة هو حاضر , إذاً لما لم يكتب لما لم يذهب ويأتي بالدواة والقلم ويكتب مع من كان علي مع الذين منعوا أو مع الذين لم يمنعوا ؟! ..
هذا الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : ( قوموا عني ) أمرهم أن يقوموا عنه صلوات الله وسلامه عليه .. لماذا قال قوموا عني ؟ .. لأنه صار صياح هذا يقول قرب وهذا يقول لا تقرب والنبي صلى الله عليه وسلم في وادي وهم في وادٍ آخر , ولذلك أمرهم بالخروج صلوات الله وسلامه عليه .
نعم هناك من قال يستفهم: أهجر ؟؟ يعني أهذا الذي يقوله النبي صلى الله عليه وسلم هجراً أو لا ؟؟ ولكن نقول من يقول أن الذي قال هذا عمر ؟ لماذ لا يكون قاله علي ! ونحن أيضاً نقول علي لم يقل هذا , إذاً من الذي قال : أهجر ؟ , لعله أحد الذين كانوا حديثي إسلام وحضروا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا مثل هذه الكلمة .. ولكن لم يثبت أبداً أن أبا بكر قال هذه الكلمة أو عمر أو عثمان أو علي أو الزبير أو طلحة أو أحد من كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
النبي صلى الله عليه وسلم معلوم أنه لما أصابه الوجع قبيل موته لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة كما قال بن عباس إذ كان الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم شديداً صلى الله عليه وآله وسلم .. ولذلك بن مسعود لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت وجده يعرق عرقاً شديداً يتصبب العرق من جبينه , فقال يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً قال : ( إني أوعك كرجلين منكم ) , قال : أذلك لأن لك الأجر مرتين ؟ , قال : ( نعم ) .
فشفقة عمر على النبي صلى الله عليه وسلم هي التي دفعته أن يقول ( حسبنا كتاب الله حسبنا كتاب الله ) يعني دعوا النبي يرتاح صلى الله عليه وسلم .(7/244)
وقلنا ونعيد ونكرر قبلتم هذا أو لم تقبلوه , لكن هل هذا يُخرج عمر من الملة ؟ , هل هذا يجعل عمر عاصياً لله جل وعلا ..
طبعاً هناك دعوى عريضة لا دليل عليها وهي أن هذا الكتاب هو خلافة علي ! دعوى من يقول إن هذه الدعوى صحيحة , أنا الآن في هذا المقام سأقول أن هذا الكتاب هو خلافة أبو بكر .. من يمنعني ؟ بل أنا صاحب الدليل لأنه ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إئتوني بكتاب فإني أخشى أن يتمنى متمني ويأبى الله إلا أبا بكر ) ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر هو الذي يصلي بالناس في مرض موته صلوات الله وسلامه عليه .
من يقول أن هذا الكتاب هو خلافة علي ؟ ثم هذا الكتاب هو خلافة علي أليس النبي قد بلّغ خلافة علي – كما يدعي القوم - في الغدير وقبل الغدير في تبوك , وقبل تبوك في مكة في حديث الإنذار حديث الدار فلماذا صار الأمر إلا الآن .. الآن فقط يريد أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم , ثم تعالوا ننظر إلى ما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن ومن السنة كم نسبة المكتوب من غير المكتوب ولا شيء جل ما بلّغه النبي صلى الله عليه وسلم مسموع غير مكتوب , والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
( نحن أمة أمية لا نكتب الشهر عندنا هكذا وهكذا وهكذا ) يعد بأصابعه صلوات الله وسلامه عليه , ولذلك أنظروا كم حديث للرسول صلى الله عليه وسلم الذي كتبه الصحابة وكم حديث للنبي صلى الله عليه وسلم الذي وعاه الصحابة وحفظوه لا مقارنة فلماذا هذه بالذات تُكتب , فالقصد أننا ننظر في هذا الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم هل هو أمر واجب أو أمر مستحب .. قطعا هو أمر مستحب وليس من الأمر الواجب لأننا قلنا قبل قليل إذا قلنا إنه من الأمر الواجب فإننا نقول إن النبي قد كتم والنبي لم يكتم صلى الله عليه وسلم , هذا ليس امر واجب بل هو من المستحبات التي تركها للمصلحة صلوات الله وسلامه عليه .(7/245)
وختاماً نقول إقرأوا كتاب الله تبارك وتعالى تدبروا كلام الله جل وعلا إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز : { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي الذين أنفقوا من قبل الفتح والذين أنفقوا من بعد الفتح كلهم وعدهم الله تبارك وتعالى الحسنى , وماذا يترتب على وعد الله تبارك وتعالى بالحسنى , قال الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ 101 لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} , تدبروا قول الله تبارك وتعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } , تدبروا قول الله تبارك وتعالى { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ.. } , تدبروا قول الله تعالى { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ 8 وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 9} , اقرأوا قول الله تبارك وتعالى { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ(7/246)
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا 18} أيرضى الله عن المنافقين لا يرضى الله تبارك وتعالى أبداً عن المنافقين , إن الله لا يرضى إلا عن المؤمنين لأن الله تبارك وتعالى يعلم ما كان ويعلم ما يكون سبحانه وتعالى فالله بكل شيء عليم ولا يرضى الله عن المنافقين أبداً .
إن من أبرز صفات المنافقين في كتاب الله جل وعلا وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفي واقع الأمر أنهم أجبن الناس , يخافون على أنفسهم ويخافون الموت ولذلك تجدهم مذبذبين كما قال الله جل وعلا { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} فهل هذه الصفات هي صفات أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم , إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم هم الذين باعوا أنفسهم وأشتروا الجنة والذين بذلوا كل شيء في سبيل الله تبارك وتعالى هم الذين قاتلوا المرتدين , هم الذين فتحوا البلاد هم الذين فتحوا الهند والسند وفتحوا الشام ومصر وفتحوا العراق وفتحوا بلاد فارس هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , هم هؤلاء الذين تطعنون أنتم فيهم الله يقول { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ } والله سبحانه وتعالى يقول { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } الله تبارك وتعالى يقول { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ويقول بعدها { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وأنظروا أنتم ماذا تقولون أنتم وماذا يقول علمائكم عن أولئك الصحابة , أتصدقون الله ورسوله أو تصدقون علمائكم ؟ إنكم بين أمرين , كيف بمن جلس مع طلابه ثلاثاً وعشرين سنة يعلمهم صلوات الله وسلامه عليه وهو رسول الله أوتي جوامع الكلم .. أحرص الناس على الخير .. أتقى الناس لله .. أعلم الناس(7/247)
بالله .. أصدق الناس مؤيد من عند الله تبارك وتعالى ثم بعد ذلك لم ينجح أحد !! إلا ثلاثة .. إلا أربعة إلا خمسة .. إلا سبعة على روايات متفاوتة عندهم ... أتقبلون هذا !!؟ ..
أتقبلون أن يُقال فشل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تربية أصحابه .. إنه الكفر بعينه إنه الطعن في ذات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
إن صفات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أبداً أن تكون صفات المنافقين .. إقرأوا كتاب الله وتدبروه .. إقرأوا سورة التوبة لتعلموا ما هي صفات المنافقين وأقرأوا باقي القرآن , آل عمران والفتح وغيرها من كتاب الله حتى تعلموا صفات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , إنكم تطعنون في أقوام قد حطوا رحالهم في الجنة , إنكم تطعنون في أقوام كان علي يحبهم وكان أولاده يجلونهم , علي رضي الله عنه زوج إبنته أم كلثوم لعمر يا من تطعنون في عمر , علي رضي الله عنه سمى أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان , الحسن سمى أولاده بأسماء أبي بكر وعمر , علي بن الحسين سمى إبنته عائشة وسمى ولده عمر , سُكينة بنت الحسين من زوجها ؟ مصعب بن الزبير بن العوام .(7/248)
إن العلاقات بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأولادهم مع آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأولادهم كانت حميمة جداً والله ما كان بينهم ما يدعون من كفر أولئك وعصمة الآخرين بل كانت علاقة ود وصفاء ومحبة هكذا كانوا .. لماذا نقبل من الآخرين أن يسيروا فكرنا ولا ننظر نحن في كتب التاريخ وكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتراجم هؤلاء لنعرف الحقيقة بأنفسنا , كل منا سيحاسب في قبره لوحده سيحاسبه الله تبارك وتعالى لماذا أبغضت هؤلاء ؟ .. ما ذنبهم ؟ .. إنهم أولياء الله جل وعلا والله سبحانه وتعالى يقول ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) وإنما توعد الله بالحرب ثلاثة .. توعد آكل الربا , وتوعد الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً , وتوعد الذين يحاربون أولياءه فأحذر ..
والله ما أردنا من هذه الجلسة إلا أن نقدم النصح والله لا نريد لكم إلا الخير لا نريد لكم إلا الجنة .. ليست بأيدينا ولكن الله تبارك وتعالى بين لنا طريقها وبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم طريقها , إنه بقدر ثبوت قدمك على الصراط في هذه الدنيا يكون ثبوت قدمك على الصراط في الآخرة نسأل الله تبارك وتعالى أن يهدينا ويهديكم وأن يوفقنا ويوفقكم ودعونا نقول جميعاً .. اللهم أرنا الحق حقاً وأرزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وأرزقنا إجتنابه ثم بعد ذلك نسعى سعياً حثيثاً لمعرفة الحق وطلبه حتى نتبعه ولمعرفة الباطل حتى نجتنبه ونبتعد عنه والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحابته أجمعين والسلام عليكم ورجمة الله وبركاته .
===============
شبهات حول عمر رضي الله عنه
1. ... مطاعن الشيعة في الفاروق رضي الله عنه والرد عليها
2. ... موقف الشيعة من الفاروق عمر رضي الله عنه
3. ... إدعائهم أن عمر رضي الله عنه يخالف النبي صلى الله عليه وسلم(7/249)
4. ... زعمهم أن عمر رضي الله عنه يجتهد في مقابل النصوص
5. ... إدعائهم على عمر رضي الله عنه بالجهل
6. ... إدعائهم أن عمر رضي الله عنه يشهد على نفسه
7. ... موقف الشيعة من عمر رضي الله عنه في أمر الخلافة
8. ... حديث رزية الخميس ومقولة : ما شأنه أهجر - 2 - 3 - 4
9. ... الرد على كذب الشيعة ان سيدنا عمر انهزم في غزوة حنين
10. ... قصة حرق عمر رضي الله عنه لبيت فاطمة رضي الله عنها - 2
11. ... هل أمر الفاروق رضي الله عنه بقتل بعض أهل الشورى؟
12. ... إنكاره موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
13. ... جهل عمر رضي الله عنه ببعض مسائل الشرع
14. ... درأه للحد عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه
15. ... منعه لخمس أهل البيت
16. ... صلاة التراويح - 2
17. ... تحريمه رضي الله عنه لمتعة النساء ومتعة الحج
18. ... إلقام الحجر لمن طعن في نسب عمر
19. ... مطاعن أخرى للشيعة في الفاروق رضي الله عنه والرد عليها
20. ... المزيد - 2
مطاعن التيجاني في الخليفة الثاني عمر بن الخطاب والرد عليه في ذلك(7/250)
مما لا شك فيه عند كل مطلع على مذهب الرافضة الاثني عشرية يعلم أن الطعن والسب لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم هو أصل هام في مذهبهم ولكنه سيلحظ أن من أكثر الصحابة حظّاً في ذلك هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب والسبب الرئيسي في ذلك يرجع إلى أن الخليفة عمر هو الذي فتح فارس وأزال مملكتهم، يقول المستشرق الانكليزي الدكتور براؤن موضحاً إن (( من أهم أسباب عداوة أهل إيران للخليفة الراشد، عمر هو أنه فتح العجم، وكسر شوكته، غير أنهم أعطوا لعدائهم صبغة دينية، مذهبية وليس من الحقيقة بشيء ))(1) ثم يضيف قائلاً (( ليس عداوة إيران وأهلها لعمر بن الخطاب بأنه غصب حقوق عليّ وفاطمة، بل لأنه فتح إيران وقضى على الأسرة الساسانية ثم يذكر أبياتاً فارسية لشاعر إيراني تعني: أن عمر كسر ظهور أسود العرنين المفترسة، واستأصل جذور آل جمشيد ( ملك من أعاظم ملوك فارس ) ))(2) وأخيراً يوصلنا إلى النتيجة التي توصل إليها بقوله (( ليس الجدال على أنه غصب الخلافة من عليّ، بل إن المسألة قديمة يوم فتح إيران ))(3) ومن هذا المبدأ فقد صبّ التيجاني في كتابه أشدّ هجوم على الصحابي الجليل عمر بن الخطاب، وسأبدأ بإيراد مطاعنه عليه وسأردّها عليه بإذن الله تعالى وذلك إجلالاً وتعظيماً لهذا الصحابي العظيم الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (( لقد كان فيمن قبلكم من بني اسرائيل رجال، يُكَلَّمُون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحدٌ فعمُرُ ))(4) وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالعلم فقال (( بينا أنا نائم، رأيت الناس عُرضُوا علي وعليهم قُمُصُ، فمنها ما يبلغ الثَّدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعُرض عليَّ عمر وعليه قميص اجتَرَّهُ، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين ))(5) فأقول وبالله التوفيق:(7/251)
أولاً إبتدأ التيجاني هجومه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مبحث ( الصحابة في صلح الحديبية ) فقد اتهمه أنه لا يمتثل لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم وضاق صدره من قضاء الرسول في صلح الحديبية بل ودفع بقية الصحابة للتخلّف عن أوامر النبي صلى الله عليه وسلم وقد رددت على هذا الخطل وفندته بفضل الله ومنه بما يغني عن الإعادة هنا فليراجع في مكانه من هذا الكتاب(6).
ثانياً طعن التيجاني بعمر بن الخطاب في مبحث ( الصحابة ورزيّة يوم الخميس ) واتهمه بأنه يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم يهجر! وأنه يتعالم على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحترمه! بل ويخطط هو والصحابة في منع النبي صلى الله عليه وسلم من الكتابة؟! إلى آخر هذيانه، وقد أجبت عن كل ذلك بما لا يدع مجالاً لمشكك في طهارة ونقاء باطن هذا الصحابي وظاهره من الفعل السئ في حق النبي صلى الله عليه وسلم وعريت كذب هذا التيجاني وجهله في التعامل مع السيرة النبوية فليراجع في مكانه من هذا الكتاب(7) والحمد لله أولاً وأخيراً.
ثالثاً وفي مبحث ( الصحابة في سرية أسامة ) إتهم عمر بأنه ممن طعن في تأمير أسامة وغيرها من التهم وأجبت عن ذلك في موضعه(8).
رابعاً الرد على التيجاني بادعائه أن عمر يخالف النبي صلى الله عليه وسلم والرد عليه في ذلك:
يقول التيجاني (( ومن أمعن النظر في مثل هذه الرواية فسيجدهم ينزلون أنفسهم فوق منزلته ويعتقدون بأنه يخطئ ويصيبون، بل إن هذا يستتبع تصحيح بعض المؤرخين لأفعال الصحابة حتى لو خالفت فعل النبي أو إظهار بعض الصحابة بمنزلة من العلم والتقوى أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حصل ذلك عندما حكموا بأن النبي أخطأ في قضية أسرى بدر وأصاب عمر بن الخطاب، ويروون في ذلك روايات مكذوبة بأنه صلى الله عليه وسلم قال: لو أصابنا الله بمصيبة لم يكن ينج منها إلا بن الخطاب ))(9)، أقول:(7/252)
1 ثبت في الصحيح أن عمر قد وافقه ربه في عدة أمور فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أنس قال (( قال عمر: وافقتُ ربي في ثلاث: فقُلتُ يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى }. وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلِّمهن البرُّ والفاجر فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهنَّ: عسى ربه إن طلَّقكنَّ أن يُبدلَهُ أزواجاً خيراً منكُنَّ فنزلت هذه الآية ))(10)، وأخرجه البخاري في موضع آخر بلفظ (( قال عمر: وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلتُ عليهن، قلت: إن انتهيتُنَّ أو ليبدِّلنّ الله رسوله صلى الله عليه وسلم خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه قالت: يا عمر، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظُ نساءه، حتى تعظهنّ أنت؟ فأنزل الله { عسى ربُهُ إن طلَّقكنّ أن يبدِّله أزواجاً خيراً منكنَّ مُسلِمات }. الآية ))(11) أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال (( قال عمر: وافقت ربي في ثلاث في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر ))(12). وأخرج أيضاً عن عمر من حديث طويل ((... قال ابن عباس: فلما أسروا الأُسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأُسارى؟ فقال أبو بكر يا نبي الله! هم بنوا العمّ والعشرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله ان يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكّنا فنضرب أعناقهم، فمتُكّن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتُمكّني من فلان ( نسيباً لعمر ) فأضرب عنقه، فإن(7/253)
هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهْوَ ما قلتُ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت يارسول الله: أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت وإن لم أجد بكاءً تباكيتُ لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عَليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة ( شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم ) وأنزل الله عز وجل { ما كان لنبيٍ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } ، فأحلّ الله الغنيمة لهم ))(13) وهذه الروايات كما ترى ثابته وصحيحة وإذا قال عنها التيجاني روايات مكذوبة فليُظهر ذلك بالدليل الواضح، لا بالجهل الفاضح والعقل الخرب، وهذه الروايات لا تعني أبداً أن بعض الصحابة عندهم من العلم والتقوى أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرسول يجتهد في بعض الأمور التي لم ينزل بها الوحي، بحسب المصلحة وليس كل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر وحياً كما صلّى على رأس المنافقين عبد الله بن أبي فقال له عمر(( يا رسول الله تصلّي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما خيرني ربي فقال { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة } وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله { ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره } ))(14) وهذا الأمر ثابت بالكتاب، كما هو واضح، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سَوْقه الهدْي في حجة الوداع (( لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما أهديت، ولولا أن معي الهدْي لأحللت ))(15) وأيضاً عندما رجع لرأي زوجتاه عائشة وحفصة عندما حلف أن لا يشرب عسلاً عند زينب بنت جحش فأنزل الله(7/254)
قوله { يا أيها النبي لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضاتَ أَزواجك والله غفور رحيم } ( التحريم 1) فلو كان كل ما يقوم به عن طريق الوحي لما نزل القرآن يبين له هذه الأمور وليس أن يوافق الله في حادثة أو أكثر أحد الصحابة يُعتبر هذا إنقاص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم أو أن بعض الصحابة يملكون علماً أكثر من النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقول ذلك إلا من هو أجهل الناس بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت أن النبي كان يستشير أصحابه في كثير من الأمور التي لم ينزل بها الوحي كما في قضية الأسرى.(7/255)
2 إذا كانت هذه الروايات باطلة فلماذا يحتجُّ بها إخوانك من الرافضة الأثني عشرية، فقد ردَّ الدكتور علاء الدين القزويني على الدكتور موسى الموسوي في كتابه ( الشيعة والتصحيح ) محتجاًّ عليه بحديث أنس فقال (( ولهذا جاء عن أنس بن مالك وهي رواية عمر الذي يقول فيه وافقت ربي في ثلاث أنه قال، قال عمر: بلغني بعض ما أذين رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه، فدخلت عليهنّ، فجعلت أستقريهنّ وأعظهُن، فقلت فيما أقول: لتنتهينّ أو ليبدلنه الله خيراً منكنّ حتى أتيت على زينب فقالت: يا عمر ما كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظنا أنت، فأنزل الله تعالى { عسى ربه إن طلّقكن ...} ))(16) ثم يذكر عدة روايات أخرى عن عمر ويقول (( هذه جملة من روايات الصحاح ))(17) والغريب في هؤلاء الرافضة أنهم عندما يحتجّون على أهل السنة ببعض الأحاديث يحللونها، فمرة تكون عندهم صحيحة ولكنها قابلة في الوقت ذاته لكي تصبح ضعيفة، فإذا ظنوا أن فيها مدحاً لصحابي يحوّلونها إلى رواية ضعيفة تلقائياً، ولعل هذا الأمر هو الذي يفسّر كيف أن الحديث الذي يحتج به التيجاني على أهل السنة من كتبهم فيما يظنّه طعناً في صحابي يصبح صحيحاً، وأي حديث يظن أن فيه مدحاً لصحابي يتحول إلى حديث مكذوب وغير مقبول شرعاً وعقلاً! وحسب خبرتي فإني أرجع الفضل في هذا التّلون إلى معمل التحليل الحديثي التابع للمحلل التيجاني!؟(7/256)
3 يبدو أن التيجاني منزعج ومتأثر بهذا الضلال الذي ينفثه أهل السنة بين الناس (!) فإنهم يدّعون أن بعض أفعال الصحابة خير من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأن بعضهم بمنزلةٍ من العلم والتقوى أكثر من الرسول صلى الله عليه وسلم ويحتج برواية لست أدري من أين أتى بها وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أصابنا الله بمصيبة لم يكن ينج منها إلا ابن الخطاب!؟ وبالطبع لم يعزوها لأي مصدر لأنها مكذوبة وباطلة متناً قبل البحث في سندها، فكيف يصيب الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام بمصيبة! وليس كذلك فقط فالمصيبة يقع بها النبي صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه أللهم إلا عمر !؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله، ثم يقول التيجاني ( والعياذ بالله ) (( .. وكأن لسان حالهم يقول: لولا عمر لهلك النبي (والعياذ بالله )! من هذا الاعتقاد الفاسد المشين الذي لا قبح بعده، ولعمري أن الذي يعتقد هذا الاعتقاد هو بعيد عن الإسلام بعد المشرقين ويجب عليه أن يراجع عقله أو يطرد الشيطان من قلبه، قال الله تعالى { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون } ))(18). أقول:(7/257)
إذن هذا هو حكم التيجاني فيمن يعتقد ذلك الاعتقاد، وحتى أزيده هدايةً سأضطر لكي أكشف عن الذي يرفع بعض الصحابة عن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم ويظهرهم بمنزلة من العلم والتقوى أكثر منه صلوات ربي وسلامه عليه، يورد ( الكليني ) وهو من كبار أئمتهم في كتابه ( الأصول من الكافي ) الذي يعتبر في منزلته كالبخاري عند أهل السنة على أن عليّ بن أبي طالب كان كثيراً ما يقول (( أنا قسيم الله بين الجنة والنار وأنا الفاروق الأكبر وأنا صاحب العصاء والميْسَم لقد أقرّت لي جميع الملائكة والروح والرسلُ ِبمثل ما أقرُّوا به لمحمد صلى الله عليه وسلم ولقد حُملتُ على مثلِ حمُولَته وهيَ حمُولةُ الرّب ولقد أُعطِيتُ خِصالاً ما سبقني إليها أحدٌ قبْلي، عُلِّمت المنايا والبلايا والأنساب وفصْل الخِطاب فلم يفُتْني ما سبقني ولم يَعْزُب عنَّي ما غاب عنَّي، ابشِّر بإذنِ الله وأُؤَدّي عنه، كل ذلك من الله مكّنني فيه بعِلْمه ))(19) ولم يكتفوا بذلك بل جعلوا ( أبناء ) عليّ أعظم من أنبياء الله!؟ فيورد إمامهم محمد فروخ الصفار في كتابه ( فضائل أهل البيت ) عن عبد الله بن الوليد قال (( قال لي أبو عبد الله (ع): أيّ شيء يقول الشيعة في عيسى وموسى وأمير المؤمنين (ع) قلت: يقولون: إن عيسى وموسى أفضل من أمير المؤمنين (ع) قال فقال: أيزعمون أنّ أمير المؤمنين (ع) قد علم ما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نعم ولكن لا يقدّمون على أولو العزم من الرسل أحداً قال أبو عبد الله (ع) فخاصمهم بكتاب الله قال قلت: وفي أيّ موضع منه أخاصمهم قال: قال الله تعالى لموسى { وكتبنا له في الألواح من كلّ شيء علماً } إنه لم يكتب لموسى كلّ شيء، وقال الله تبارك وتعالى لعيسى { ولأبيّن لكم بعض الذي تخْتلفون فيه } وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } ))(20) وعن أبي عبد الله وهو جعفر بن(7/258)
محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب!! قال (( إن الله خلق أولو العزم من الرسل وفضّلهم بالعلم، وأورثنا علمهم وفضّلهم، وفضّلنا عليهم في علمهم وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يعلموا وعلّمنا علم الرسول صلى الله عليه وسلم وعلمهم ))(21)!!؟ وبعد ذلك لا يسعني إلا أن أتقدم بأحرّ التعازي للدكتور التيجاني على هدايته للباطل!
ثم يقول (( وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإننا نسمع الكثير عن عدل عمر الذي سارت به الركبان حتى قيل ( عدلت فنمت ) وقيل دفن عمر واقفاً لئلا يموت العدل معه وفي عدل عمر حدّث ولا حرج، ولكن التاريخ الصحيح يحدثنا بأن عمر حين فرض العطاء في سنة عشرين للهجرة لم يتوّخ سُنة رسول الله ولم يتقيّد بها، فقد ساوى النبي صلى الله عليه وسلم بين جميع المسلمين في العطاء فلم يفضّل أحداً على أحد، واتّبعه في ذلك أبو بكر مدة خلافته (!)، ولكن عمر بن الخطاب اخترع طريقة جديدة وفضّل السابقين على غيرهم وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة، وفضّل العرب على سائر العجم، وفضّل الصريح على المولى وفضل مضر على ربيعة، ففرض لمضر ثلاثمائة ولربيعة مائتين وفضّل الأوس على الخزرج، فأين هذا التفضيل من العدل يا أولي الألباب؟ ))(22).
1 أقول نعم كان عمر يفضّل بالعطاء وليس ذلك مما يعاب عليه لأنه لا يوجد دليل في وجوب التسوية في العطاء ولم يقل به أحد من أهل العلم، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يفضّل بالعطاء فقد أخرج البخاري في صحيحه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال (( قسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهماً، قال: فسّره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثةأسهم، فإن لم يكن معه فرس فله سهم ))(23).(7/259)
2 (( والمجوّزون للتفضيل قالوا: بل الأصل التسوية، وكان أحيانا، يفضّل، فدلّ على جواز التفضيل، وهذا القول أصح: أن الأصل التسوية، وأن التفضيل لمصلحة راجحة جائز. وعمر لم يفضّل لهوى ولا حابى، بل قسّم المال على الفضائل الدينية، فقدَّم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ثم من بعدهم من الصحابة، ثم من بعدهم وكان ينقص نفسه وأقاربه عن نظائرهم، فنقص ابنه وابنته عمّن كانا أفضل منه، وإنما يطعن في تفضيل من فضَّل لهوى، أما من كان قصده وجه الله تعالى وطاعة رسوله، وتعظيم من عظّمه الله ورسوله وتقديم من قدّمه الله ورسوله فهذا ُيمدح ولا يُذم، ولهذا كان يُعطي علياً والحسن والحسين ما لا يعطي لنظائرهم، وكذلك سائر أقارب النبي صلى الله عليه وسلم ولو سوّى لم يحصل لهم إلا بعض ذلك ))(24).
3 قسم عمر أهل العطاء إلى طبقات: الطبقة الأولى فئة البدرّيين من المهاجرين، ثم فئة البدرّيين من الأنصار، ثم المهاجرين الذين لم يشتركوا في بدر، ثم الأنصار الذين لم يشتركوا في بدر واشتركوا في بقية الغزوات، ثم الذين شهدوا الحديبية وفتح مكة، ثم الذين اشتركوا في فتح القادسية واليرموك، ثم فرض لأناس رواتب خاصة منهم الحسن والحسين، وكان يساوي بين العربي والمولى بخلاف ما يقوله هذا التيجاني، فقد أعطى أهل بدر العرب والموالي على السواء وكتب إلى أمراء الجند: ومن أعتقتم من الحمراء الموالي فأسلموا فألحقوهم بمواليهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن أحبوا أن يكونوا قبيلة وحدهم فاجعلوهم أسوتكم في العطاء والمعروف(25) أما التقسيمات التي ذكرها التيجاني التي نقلها عن كتّب الشيعة فلا إسناد صحيح لها.
خامساً إدعاء التيجاني على عمر بالجهل والردّ عليه في ذلك:(7/260)
يقول التيجاني (( ونسمع عن علم عمر بن الخطاب الكثير الذي لاحصر له حتى قيل أنه أعلم الصحابة وقيل أنه وافق ربّه في كثير من آرائه التي ينزل القرآن بتأييدها في العديد من الآيات التي يختلف فيها عمر والنبي. ولكنّ الصحيح من التاريخ يدلّنا على أنّ عمر لم يوافق القرآن حتى بعد نزوله، عندما سأله أحد الصحابة أيام خلافته فقال: ياأمير المؤمنين إني أجنبت فلم أجد الماء فقال له عمر: لا تصلّ واضطّر عمار بن ياسر أن يذكّره بالتيمم ولكن عمر لم يقنع بذلك وقال لعمار: إنا نحمّلك ما تحملت، فأين علم عمر من آية التيمّم المنزّلة في كتاب الله وأين علمه من سنة النبي الذي علّمهم كيفية التيمم كما علّمهم الوضوء ))(1).
1 لم يرو البخاري هذا الأثر بهذا اللفظ، إنما جاء عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال (( جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أُصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنّا كنّا في سفر أنا وأنت، فأما أنت لم تُصلِّ، وأما أنا فتمعّكت فصلّيت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه ))(2).(7/261)
2 من المعلوم أن عمر بن الخطاب كان لا يجيز للجنب التيمم ويأخذ بظاهر قوله تعالى { وإن كنتم جُنباً فاطّهروا } وقوله { ولا جُنُباً إلا عابري سبيل حتى تغْتسلوا } وبقي عمر كذلك حتى ذكره عمار بالحادثة بينهما ولكنه لم يتذكر ذلك، ولهذا قال لعمار كما جاء في رواية مسلم، اتّق الله يا عمار قال النووي شارح مسلم (( معنى قول عمر ( اتق الله يا عمار ) أي فيما ترويه وتتثبّت فيه، فلعلك نسيت أو اشتبه عليك، فإني كنت معك ولا أتذكرشيئاً من هذا ))(3) ولما قال له عمار:إن شئت لم أحدّث به فقال له عمر: نوليك ما توليت وليس نحملك ما تحملت (( أي لا يلزم من كوني لا أتذكّره أن لا يكون حقاً في نفس الأمر، فليس لي منعك من التحدّث به ))(4) فكلّ ما في الأمر أن عمر لم يتذكر هذه الحادثة وأعتقد أنه ليس معصوماً حتى يُجعل هذا مما يعاب عليه.
3 وأما قوله ( فأين عمر من آية التيمم المنزلة في كتاب الله، وأين علمه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي علّمهم كيفية التيمم كما علّمهم الوضوء ) فهذا لا يدل إلا على عظيم جهله وسخفه، فعمر يعلم هذه الآية ولم يجهلها ويعلم كيفيّة التيمم، ولكن المشكلة عنده هي هل تشمل الجنب أم لا؟ فالله سبحانه يقول { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً } وعمر لم ير الجنب داخلاً في هذه الآية، والملامسة التي في الآية فسّرها بملامسة اليد لا بالجماع لذلك كان يرى وجوب الوضوء لمن لمس المرأة.(7/262)
ثم يقول ((... وتجرّأ على كتاب الله وسنة رسوله فحكم في خلافته بأحكام تخالف النصوص القرآنية والسنة النبوية الشريفة ))(5) ويقول في موضع آخر (( وكان عمر بن الخطاب يجتهد ويتأول مقابل النصوص الصريحة من السنن النبوية بل في مقابل النصوص الصريحة من القرآن الحكيم فيحكم برأيه، كقوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ))(6) فأقول وبالله التوفيق:
1 بالنسبة لتحريم متعة الحج فالصحيح أن عمر لم يحرّمها نهي تحريم، وإنما كان يريد إرشاد الناس إلى ما هو أفضل والنهي هنا هو نهي أولوية للترغيب في القران بدل التمتع بالعمرة إلى الحج، وحتى لايخلو بيت الله الحرام من المعتمرين باقي أيام السّنة، ولأن التمتّع كان من السهولة بحيث تُرك الاعتمار في غير أشهر الحج، ولهذا أراد عمر ألاّ يخلوا بيت الله من المعتمرين فنهاهم عن التمتع على سبيل الإختيار لا على التحريم، وإلا فقد ثبت عن عمر إباحته فعن ابن عباس قال (( سمعت عمر يقول والله إني لا أنهاكم عن المتعة، وإنها لفي كتاب الله، وقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني العمرة في الحج ))(7) وعن الصُّبي بن معبد في جزء من الحديث أنه قال لعمر: إني أحرمت بالحج والعمرة، فقال له عمر: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم (8)، ولا شك أن الاعتمار في غير أشهر الحج أفضل من المتعة باتفاق الكثير من الفقهاء.
2 ثبت أيضاً عن أبي ذر أنه كان يحرِّم متعة الحج مطلقاً كما ثبت ذلك في صحيح مسلم عن إبراهيم التيِّمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال (( كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ))(9)، وأبو ذر من الصحابة المرضيين عندكم فإذا كان الخطأ في مسألة يقتضي القدح والطعن فينبغي أن يشمل أبو ذر أيضاً اللهم إذا كانت القضية هي البحث عن مثالب عمر فقط!(7/263)
3 لِيلاحظ القارئ أن التيجاني يستدل بحديث يرويه أهل السنة في كتبهم على أنه صحيح، والسبب اعتقاده أن الحديث يطعن في عمر، وقد أثبتُّ بآثار أُخرى عن عمر ما يخالف هذه الرواية ولا شك أن هذه الآثار باطلة شرعاً وعقلاً والسبب أنها في صالح عمر!؟
4 وبالنسبة لمتعة النساء فلم يحرِّمها عمر من تلقاء نفسه بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّمها فقد أخرج مسلم في صحيحه عن الربيع بن سبرة الجهني أن أباه حدَّثه، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (( يا أيها الناس إني قد كنت أذنتُ لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنَّ شيء فليخلِّ سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ))(10)وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن الزهري عن الحسن بن محمد بن علي، وأخوه عبد الله عن أبيهما (( أن علياً رضي الله عنه قال لابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية، زمن خيبر ))(11)، فنكاح المتعة حُرِّم عام الفتح ولا إشكال في الرواية الأخرى التي فيها أنها حرِّمت يوم خيبر والصحيح أنها لم تحرَّم عام خيبر (( بل عام خيبر حرِّمت لحوم الحمر الأهلية، وكان ابن عباس يبيح المتعة ولحوم الحمر فأنكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذلك عليه، وقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّم متعة النساء وحرَّم لحوم الحمر يوم خيبر، فقرن علي رضي الله عنه بينهما في الذِّكْرِ لما روى ذلك لابن عباس رضي الله عنهما، لأن ابن عباس كان يبيحهما. وقد روى ابن عباس رضي الله عنه أنه رجع عن ذلك لمَّا بلغه حديث النهي عنهما ))(12)، ولهذا كان سفيان بن عيينة يقول (( قوله ( يوم خيبر) يتعلق بالحمر الأهلية لا بالمتعة ))(13)، وقال (( أبو عوانة في صحيحة سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة فسكت عنها وإنما نُهي عنها يوم الفتح ))(14)، وقيل(7/264)
أنها حرِّمت يوم خيبر ثم أبيحت، ثم حرِّمت مرة أخرى، وعلى العموم فقد ثبت تحريمها بالاتفاق عام الفتح من فم النبي صلى الله عليه وسلم.
5 لقد اعترف بهذه الحقيقة عالم شيعي فتح الله بصيرته فأناب إلى الحق وبيَّن أن متعة النساء حرِّمت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأن عمر لم يحرَّمها من تلقاء نفسه وقد أقرَّه على ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيقول (( إن النظرية الفقهية القائلة بأن المتعة حُرِّمت بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب يفندها عمل الامام علي الذي أقر التحريم في مدة خلافته ولم يأمر بالجواز وفي العرف الشيعي وحسب رأي فقهائنا عمل الامام حجة لا سيما عندما يكون مبسوط اليد ويستطيع إظهار الرأي وبيان أوامر الله ونواهيه. والامام علي كما نعلم اعتذر عن قبول الخلافة واشترط في قبولها أن يكون له اجتهاده في ادارة الدولة. فإذن اقرار الامام علي على التحريم يعني أنها كانت محرمه منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولولا ذلك لكان يعارضها ويبين حكم الله فيها وعمل الامام حجة على الشيعة ولست أدري كيف يستطيع فقهائنا أن يضربوا بها في عرض الحائط ))(15)، ومن هنا نعلم أن (( أهل السنة اتبعوا علياً وغيره من الخلفاء الراشدين فيما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم ،والشيعة الاثني عشرية خالفوا علياً فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، واتبعوا قول من خالفه ))(16).(7/265)
6 ولما لم يعلم الكثير من الناس بأمر التحريم نبه على ذلك عمر وأعلنه للناس فعن ابن عمر قال (( لما ولي عمر بن الخطاب، خطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثاً، ثم حرمها. والله! لا أعلم أحداً يتمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة. إلا أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول الله أحلَّها بعد إذ حرمها ))(17) لذلك قال سعيد بن المسيب (( رحم الله عمر لولا أنه نهى عن المتعة لصار الزنا جهاراً ))(18)، فأسأل التيجاني هل عرفت حقاً من يخالف النصوص القرآنية والأحاديث النبوية إنهم شيعتك الذين هديت إليهم فحيهلا من هداية!
ثم يقول ((... وهذا عمر يقول:لولاعلي لهلك عمر ))(19)، فأقول:
1 هذه الجملة لها سبب وهو أن عمر أراد أن يرجم امرأة فأخبره علي بأنها مجنونة فترك حدَّها وقال هذه المقولة وفي أثر آخر أن عمر أراد أن يرجم امرأة حامل فنبهه علي فقال هذه المقولة، والذي أشار إلى ذلك ابن عبد البر في الاستيعاب ومحب الطبري في الرياض النضرة، إضافة إلى ابن المطهر الذي ذكر هاتين الروايتين بهذا السياق، وأما بالنسبة للرواية الأولى فقد ذكرها أحمد في الفضائل، عن ابن ظبيان الجنبي أن عمر بن الخطاب (( أتى امرأة قد زنت فأمر برجمها فذهبوا بها ليرجموها فلقيهم علي فقال ما لهذه؟ قالوا زنت، فأمر عمر برجمها فانتزعها علي من أيديهم وردهم فرجعوا إلى عمر فقال ما ردكم؟ قالوا ردنا يعني علي، قال ما فعل هذا علي إلا لشيء قد علمه فأرسل إلى علي فجاء وهو شبه المغضب فقال ما لك رددت هؤلاء؟ قال أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المبتلي حتى يعقل؟ قال بلى قال علي هذه مبتلاة بني فلان فلعله أتاها وهو بها. فقال عمر لا أدري قال وأنا لا أدري فلم يرجمها ))(20)، وقد تتبعت الرواية من مظانها(21)فلم أجد في أي منها مقولة عمر (( لولا علي لهلك عمر ))!(7/266)
2 المقولة نفسها تثبت عدم قول عمر لهذه المقولة وهي أنه كان لا يعرف بجنون المرأة عندما قال ( لا أدري ) ولا شك أن عمر يكون في هذه الحالة معذور لأنه خفي عنه أمر المرأة ولا ذنب عليه فلماذا يقول إذاً لولا علي لهلك عمر؟ ولماذا يهلك عمر؟! فإن كان قال ذلك تواضعاً منه فهل هذا مما يعتبر ذماً له!؟
أما الرواية الأخرى وهي أن عمر أراد أن يرجم امرأة حامل فقد بحثت عنها فوجدت ابن أبي شيبة قد روى عن أبي سفيان عن أشياخه (( أن امرأة غاب عنها زوجها، ثم جاء وهي حامل فرفعها إلى عمر، فأمر برجمها فقال معاذ: إن يكن لك سبيل عليها فلا سبيل لك على ما في بطنها، فقال عمر: احبسوها حتى تضع، فوضعت غلاماً له ثنيتان، فلما رآه أبوه قال: ابني، فبلغ ذلك عمر فقال: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ هلك عمر ))(22) ثم قال ابن أبي شيبة ((حدثنا خالد الأحمر عن حجاج عن القاسم عن أبيه عن علي مثله ))(23)، وفي سنده الحجاج وهو ابن أرطاه ضعيف، كثير التدليس، ويقول الذهبي (( الحجاج بن أرطاه لا يحتج به ))(23)، فهذه الرواية ضعيفة لا حجة فيها، أما الرواية التي ذكرها محب الطبري (( أن عمر أراد رجم المرأة التي ولدت لستة أشهر، فقال له علي: إن الله تعالى يقول { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } وقال تعالى { وفصاله في عامين } فالحمل ستة أشهر والفصال في عامين، فترك عمر رجمها وقال: لولا علي لهلك عمر، أخرجه العقيلي، وأخرجه ابن السمان عن أبي حزم بن أبي الأسود ))(24). قلت: قوله أبو حزم خطأ والصواب أبو حرب بن أبي الأسود، وفي سند هذه الرواية عثمان بن مطر الشيباني (( قال يحيى بن معين: ضعيف لا يكتب حديثه، ليس بشيء، وقال علي بن المديني: عثمان بن مطر ضعيف جداً، وقال أبو زُرعة: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، وقال صالح البغدادي: لا يكتب حديثه، وقال أبو داود: ضعيف، وقال النسائي: ليس بثقة ))(25)، (( وقال البخاري: منكر الحديث،(7/267)
وقال ابن حبان: كان عثمان بن مطر ممن يروي الموضوعات عن الأثبات ))(26).
2 ولو فرضنا أن هذه الروايات صحيحة، فهي لا تقدح في فضل عمر وعلمه، وليس هو معصوماً عن الوقوع في الخطأ والزلل حتى تصبح هذه القضية منقصة له، ولا تقدح في علمه ولا أن الله وضع الحق على لسانه، فقد وافق حكم الله في اكثر من قضية (( فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها أو كان نسيها فذكرها فأي عيب في ذلك ))(*)، والذي يدل على علمه وفقهه هو رجوعه إلى الحق وعدم تمسكه برأيه فهل في ذلك مذمة أو مثلبة؟
ثم يقول (( وهذا عمر بن الخطاب يقول ( كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال ) ويسأل عن آية من كتاب الله فينتهر السائل ويضربه بالدرة حتى يدميه ويقول { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } ))(27).(7/268)
1 أقول هذه الرواية ليست بهذا اللفظ بل روي عنه قوله ( كل أحد أفقه من عمر) ولا شك أن لهذا القول سبب ولكن التيجاني أخفاه ليوهم أن عمر يقول ذلك دون سبب، فالرواية بتمامها هي ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه عن الشعبي قال (( خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سيق إليه إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، ثم نزل فعرضت له امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين أكتاب الله أحق أن يتبع أم قولك؟ قال: بل كتاب الله عز وجل، فما ذلك؟ قالت: نهيت الناس آنفاً أن يغالوا في صداق النساء، والله عز وجل يقول في كتابه: { وءاتيتم إحداهن قِنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً } فقال عمر: ( كل أحد أفقه من عمر ) مرتين أو ثلاثاً، ثم رجع إلى المنبر فقال للناس: إني نهيتكم أن لا تغلوا في صداق النساء ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له ))(28) ، قلت: هذه الرواية باطلة سنداً ومتناً، فأما من ناحية السند: ففيه علّتان، الأولى الانقطاع، قال البيهقي عقب روايته: ( هذا منقطع ) لأن الشعبي لم يدرك عمر، يقول ابن أبي الرازي في كتاب ( المراسيل ) (( سمعت أبي وأبا زُرعة يقولان: الشعبي عن عمر مرسل ))(29) . والعلّة الثانية: أن في سنده مجالد وهو ابن سعيد، قال عنه البخاري (( كان يحي القطان، وكان ابن مهدي لا يروي عنه عن الشعبي ))(30) وقال النسائي (( كوفي ضعيف ))(31) وقال الجوزجاني (( مجالد بن سعيد يضعّف حديثه ))(32) وقال ابن عدي سألت أحمد بن حنبل عن مجالد فقال (( ليس بشيء، يرفع حديثاً منكراً لا يرفعه الناس وقد احتمله الناس، وقال ابن عدي أيضاً عامة ما يرويه غير محفوظ، وقال ابن معين، لا يحتج بحديثه وقال أيضاً: ضعيف واهي الحديث ))(33) وقال ابن حجر (( ليس بالقوي، لقد تغير في آخر عمره ))(34)، وأما من ناحية المتن: ففيه(7/269)
نكارة وذلك للأسباب التالية:
أ أنه ثبت عن عمر صريحاً نهيه عن المغالاة في المهور بالسند الصحيح، فقد روى أبو داود عن أبي العجفاء السلمي قال (( خطبنا عمر فقال: ألا لا تغالوا بصُدْقِ النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم إمرأة من نسائه، ولا أُصْدِقَتِ امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية ))(35) فهذا الحديث الصحيح يظهر نهي عمر عن المغالاة في المهور وهو يظهر بطلان الرواية الأخرى.
ب مخالفتها لنصوص صحيحة صريحة في الحث على عدم المغالاة في المهور وتيسير أمر الصداق منها: ما أخرجه أبو داود في سننه عن عمر قال (( خير النكاح أيسره))(36)، وأيضاً ما أخرجه الحاكم وابن حبان في موارد الظمآن عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من يُمن المرأة تسهيل أمرها وقِلّة صداقها ))(37)، وما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال (( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئاً، قال: قد نظرت إليها، قال: على كم تزوجتها؟ قال: على أربعة أواق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : على أربع أواق؟ كأنّما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه ))(38)، وغير هذه الأحاديث التي تحث على تقليل الصداق.(7/270)
ت هذه الآية التي استدلت بها المرأة { وآتيتم إحداهُنَّ قِنطاراً } معترضة بمفهومها على عمر في نهيه عن المغالات في مهور النساء، لا تنافي توجيه عمر، فغاية ما تدل عليه جواز دفع القادر على الصداق الكثيرالمنوه عنه بالآية بالقنطارلا تكليف العاجز ما لا يقدر عليه أو يستطيعه، بدليل إنكار النبي على الرجل المتزوج امرأة من الأنصار بأربع أواق صنيعهما لكون ذلك لا يتناسب وحالهما أو لكثرته، هذا فيما لو كانت الآية تدل على المغالاة في المهور.(7/271)
أما وأنها لا تدل على إباحة المغالاة في الصداق لأنه تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة، قال القرطبي رحمه الله بعد أن حكى قول من أجاز المغالاة في المهور (( وقال قوم: لا تعطي الآية جواز المغالاة، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم ( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة) ومعلوم أنه لا يكون مسجداً كمفحص قطاة ))(39) ، هذا من جهة وأما من جهة ثانية فما نقله أبو حيان عن الفخر الرازي أنه قال ( لا دلالة فيها على المغالاة لأن قوله تعالى { وآيتيم } لا يدل على جواز إيتاء القنطار، ولا يلزم من جعل الشيء شرطاً لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع كقوله صلى الله عليه وسلم ( من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين )(40)، نستخلص مما سبق أن الآية الكريمة لا علاقة لها بإباحة غلاء المهور وأن نصها ومفهومها يفيدان أن الرجل القادر لو أحب إعطاء زوجته تطوعاً من نفسه فدفع إليها قنطاراً أو قناطير فهذا جائز، وهذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد قال (( ومن كان له يسار ووجد فأحب أن يعطي امرأته صداقاً كثيراً فلا بأس بذلك، كما قال تعالى { وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً} ))(41) وبعد هذا البيان نخلص إلى بطلان هذا الحديث سنداً متناً، ونعلم مقدار فقه وعلم عمر!
2 أما قوله أن عمر ضرب من سأله عن آية بالدرة حتى أدماه وقال (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) والتي عزاها إلى سنن الدارمي وتفسير ابن كثير والدر المنثور، فقد بحثت عنها في هذه المصادر فلم أجد لها أثراً؟!؟ ولا يوجد لها أثر أصلاً، والحمد لله أن هذه الكتب موجودة في كل مكان وليست هي مخفية مثل كتب الرافضة، فليبحث فيها من يريد أن يعرف كيف تألف كتب ثلاث أرباعها كذباً محضاً!؟؟(7/272)
ثم يقول (( وقد سئل عن معنى الكلالة فلم يعلمها، أخرج الطبري في تفسيره عن عمر أنه قال: لئن أكون أعلم الكلالة أحبّ إليّ من أن يكون لي مثل قصور الشام، كما أخرج ابن ماجة في سننه عن عمر بن الخطاب قال: ثلاث لئن يكون رسول الله بيّنهنّ أحب إليّ من الدنيا وما فيها الكلالة والربا والخلافة ))(42)، فأقول:
1 هذا من التدليس الرخيص على القارئ ولتوضيح ذلك أنقل ما أخرجه مسلم في صحيحه عن معدان بن أبي طلحة (( أن عمر بن الخطاب خطب يوم جمعةٍ فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبا بكر. ثم قال: إني لا أدَعُ بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة، ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة، ما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبَعهِ في صدري، وقال: يا عمر ألا تكفيك آيةُ الصيف التي في آخر سورة النساء؟ وإني إن أعش أقْض فيها بقضية، يقض بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن ))(43)، ومن هذا الحديث نعلم أنّ عمر لم تكن عدم معرفته بالكلالة سببه قصوره في العلم بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد له وللصحابة الاعتناء بالاستنباط من النصوص، فأخفى النص الصريح بذلك واكتفى بإرشاده إلى الآية التي تكفيه للوصول لمعنى الكلالة كما في قوله ( ياعمر! ألا تكفيك أية الصيف التي في آخر سورة النساء ) وهي قوله تعالى { يستفتونك قُل الله يُفْتيكم في الكَلالَة } ويقول النووي (( ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أغلظ له لخوفه من اتكاله واتكال غيره على ما نص عليه صريحاً وتركهم الاستنباط من النصوص وقد قال الله تعالى { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أُولي الأمْرِ منهم لعلِمه الذين يستَنْبِطونه منهُم } فالاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة لأن النصوص الصريحة لا تفي إلا بيسير من المسائل الحادثة، فإذا أهمل الاستنباط فات القضاء في معظم الأحكام النازلة أو في بعضها والله أعلم ))(44)، وكان عمر يرى رأي أبي بكر في أن(7/273)
الكلالة من لا والد له ولا ولد وهذا ما اتفقت عليه جماهير العلماء ومن بعدهم وكان عليّ أيضاً يرى رأيهم، مما يدلل على عظيم علم عمر وفقهه، وكيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (( إن الله وضع الحق على لسان عُمر يقول به ))(45).
2 ذكر الطبري في تفسيره خمس عشرة أثراً عن عمر بن الخطاب في الكلالة منها حديث مسلم السالف الذكر، ولكن التيجاني لا يستطيع أن ينفكّ من عقدة الإنصاف المصاب بها فلا ترى عيناه إلا قول عمر: لئن أعلم الكلالة، أحب إليّ من أن يكون لي مثل جزية قصور الروم. وليس قصور الشام كما نقل التيجاني فسبحان الله حتى مجرّد النقل لا يحْسِنه فكيف بالإنصاف؟ أما هذا الأثر إن صح فغاية ما فيه أن عمر أراد معرفة الكلالة من النبي صلى الله عليه وسلم لكي يكون حكمه موافقاً للصواب، ولا أن يخضع للاجتهاد فقط، وهذا من حرصه على معرفة الحق والصواب في هذه المسألة فهل هذا مما يذم عليه يا تيجاني؟!
3 أما الخبر الذي أخرجه ابن ماجة في سننه عن عمر أنه قال: ثلاث لئن يكون رسول الله بينهن...الخ فهو منقطع لأن مرة بن شراحيل الهمداني لم يدرك عمر(46) وضعّفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجة(47)فلا يحتج به لضعفه.
ثم يتابع غثيانه فيقول (( ومن أول الصحابة الذين فتحوا هذا الباب على مصراعيه هو الخليفة الثاني الذي استعمل رأيه مقابل النصوص القرآنية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فعطّل سهم المؤلّفة قلوبهم الذين فرض الله لهم سهماً من الزكاة وقال: لا حاجة لنا فيكم ))(48)، أقول:(7/274)
1 الاجتهاد والرأي ثابت عن سائر الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم (( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ))(49)ولا يكون اجتهادهم مقابل النصوص فهذا من الجهل البيّن، بل اجتهادهم هو في فهم النصوص القرآنية والنبوية، أو في الأمور العارضة المستجدّة، (( لأن الصحابي شاهد التنزيل ووقف على حكمة التشريع وأسباب النزول ولازم النبي صلى الله عليه وسلم ملازمة طويلة أكسبته معرفة الشريعة ))(50) إضافة إلى أن بعض الصحابة كانوا يجتهدون بما يخالف النصوص لأنها لم تصلهم فإذا تبيّنوا الحق أنابوا إليه
2 أما بالنسبة لعمر فإنه رأى أن سهم المؤلّفة قلوبهم كان يصرفه النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان المسلمون في ضعف تأليفاً لقلوبهم واتقاءً لشرّهم، أما والحال أنّ الأمة في قوة ومنعة، فإنه لا يجوز أن يُعطى هؤلاء الزكاة، ولا شك أن هذا هو اجتهاد عمر في هذه المسألة، وقد وافقه الصحابة على ذلك فكان إجماعاً منهم في وقته، ولا شك أن هذا ليس اجتهاداً في مقابل النص القرآني بل المراد من النص، ولكن أن يأتي في آخر القرن العشرين رويبض لا يفهم النصوص ومدلولاتها ولا يعلم الاجتهاد وصلاحيّاته، يظن نفسه أدرى من صحابي عايش النبي صلى الله عليه وسلم وتلّقى النصوص القرآنية والحديثية طرية نقية من فمه صلى الله عليه وسلم ليدعي عليه أنه يجتهد في مقابل النصوص، ويسمح لنفسه من أول كتابه إلى آخره أن يفسر الآيات القرآنية والأخبار النبوية حسب الكم الهائل من الجهل والكذب والتدليس الذي يتمتع به فهذا هو المصاب الأليم.(7/275)
3 لقد اجتهد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عندما قاتل في الجمل وصفين الذي أفضى بعد ذلك إلى قتل آلاف المسلمين، ولم يصل إلى ماقصده وطلبه، وبالطّبع لم يأتي بنص من النبي صلى الله عليه وسلم يعزز به دليله على القتال وإنما كان من رأيه ولم يوافقه عليه أكثر الصحابة، فإذا كان هذا من الاجتهاد المغفور لصاحبه فاجتهاد عمر أولى وأقنى.
ثم يقول (( وقد وقعت له حادثة أخرى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلها تعطينا صورة أوضح لنفسية عمر الذي أباح لنفسه أن يناقش ويجادل ويعارض صاحب الرسالة تلك هي حادثة التبشير بالجنة إذ بعث رسول الله أبا هريرة وقال له من لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشّره بالجنة، فخرج ليبشّر فلقيه عمر ومنعه من ذلك وضربه حتى سقط على إسته، فرجع أبو هريرة إلى رسول الله يبكي وأخبره بما فعل عمر فقال رسول الله لعمر ما حملك على ما فعلت؟ قال: هل أنت بعثته ليبشّر بالجنة من قال لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه؟ قال رسول الله نعم، قال عمر: لا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس على لا إله إلا الله! ))(51)، أقول:
1 ليلاحظ القارئ أن التيجاني يورد هذا الحديث مسلّماً بصحّته لا أن سلسلة رواته عدول بل لسبب واحد ليس إلا، هو أنه يقدح في عمر حسب عقلية هذا التيجاني ولكن..!(7/276)
2 هذا الحديث من أعظم الدلائل على فقه عمر وأن الحق على لسانه دائماً، وهذا مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم (( إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به ))(52) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( رأيت كأني أتيت بقدح لبن فشربت منهُ فأعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم ))(53) وأخرج مسلم حديث أبي هريرة هذا وهو حديث طويل وفي جزء منه (( فقال أي النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ( وأعطاني نعليه ) قال: إذهب بنعلي هاتين، فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أنْ لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشِّره بالجنة، فكان أول من لقيت عمر، فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة! فقلتُ: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه، بشرتُه بالجنة فضرب عمر بيده بين ثدييَّ فخررتُ لإستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأجهَشْتُ بُكاءً. وَرَكِبني عُمَرُ. فإذا هو على أثري. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك يا أبو هريرة؟ قلت: لقيتُ عُمَرَفأخبرته بالذي بعثْتني بِهِ. فضرب بينَ ثدْييَّ ضرْبةً. خررتُ لإِسْتى. قال: ارْجع. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا عمر! ما حملك على ما فعلتَ؟ ) قال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمِّي. أَبعثتَ أبا هريرةَ بِنَعليكَ، منْ لقيَ يشهدُ أن لا إله إلا الله مُستَيْقِناً بها قلبه، بشَّره بالجنة؟ قال: نعم. قال: فلا تفعل. فإني أخشى أن يتَّكل الناس عليها. فخَلِّهم يعملون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فَخَلَّهِمْ. ))(54). ففي هذا الحديث خشي عمر أن يسمع الناس هذا الخبر فيتكلوا عليه ويتركوا العمل فعرض رأيه على النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ به تصويباً له! قال القاضي عياض وغيره من العلماء رحمهم الله: (( وليس فعل عمر رضي الله عنه(7/277)
ومراجعته النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضاً عليه ورداّ لأمره إذ ليس فيما بعث به أبا هريرة غير تطبيب قلوب الأمة وبشراهم، فرأى عمر رضي الله عنه أن كتم هذا أصلح لهم وأحرى أن لا يتكلوا، وأنه أعود عليهم بالخير من معجّل هذه البشرى، فلما عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم صوّبه فيه والله تعالى أعلم ))(55) وأما دفع عمر رضي الله عنه له فلم يقصد به سقوطه وإيذاءه، بل قصد رده عما هو عليه، وضرب بيده في صدره ليكون أبلغ في زجره))(56). وبعد ذلك أقول هل يوجد دليل على أن الحق على لسان عمر وقلبه أبلغ من هذا الحديث الذي احتججت به عليه؟!
ثم يتشبع بالكذب فيقول (( ومن مواقف عمر المتعددة تجاه النبي وسنته نفهم بأنه ما كان يعتقد يوماً بعصمة الرسول بل كان يرى أنه بشر يخطئ ويصيب. ومن هنا جاءت الفكرة لعلماء أهل السنّة والجماعة بأن رسول الله معصوم في تبليغ القرآن فقط وما عدا ذلك فهو يخطيء كغيره من البشر ويستدلون على ذلك بأن عمر صوّب رأيه في العديد من القضايا ))(57). فأقول:
1 ألا لعنة الله على المجرمين المارقين الذين يتخذون من عقولهم الكسيحة وقلوبهم الخسيسة مدخلا للطعن بالنبي صلى الله عليه وسلم محتجين بأفعال صحابته رضوان الله عليهم وقد ذكرت في بداية كتابي أن طعن هذا الأفاك وإخوانه من الرافضة ما هو إلا غطاء للطعن في خير البرية صلوات الله وسلامه عليه وأي طعن أعظم من إتهام أقرب صحابته إليه بأنه لا يرى عصمته صلى الله عليه وسلم أليس هذا طعن صريح به بأبي هو وأمي.(7/278)
2 روى البخاري في صحيحه عن الزهري: قال: أخْبَرني عليُّ بن حسين: أن حسين بن عليٍّ أخبره: أن عليَّ بن طالب أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقهُ وفاطمة بنت النبي عليه السلام ليلةً، فقال: ألا تُصلِّيان. فقُلت: يا رسول الله، أنْفُسنا بِيَدِ الله، فإذا شاءَ أن يَبعَثَنا بَعَثَنا، فانصرف حين قلنا ذلك ولَمْ يَرْجع إليّ شيئاً، ثمَّ سمعتُهُ وهو مولَّ يضربُ فخذهُ وهو يقول: وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلا ))(58). فهل من موقف علي هذا تجاه النبي صلى الله عليه وسلم الذي رفض طلبه وأغضبه نفهم بأنه يرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم بتبليغ القرآن فقط، وما عدا ذلك فهو يخطئ ويصيب كغيره من البشر، لذلك لم يُعر طلبه اهتماماً؟! فما هو جواب التيجاني الوبي؟!
3 التيجاني يدّعي أن علماء أهل السنة يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم بتبليغ القرآن وفقط، وما عدا ذلك فلا عصمة له وأنا لا أريد من التيجاني إلا أن يأتي ولو بمصدر واحد لأهل السنة يقولون به مثل هذا القول المكذوب، وأنّا له ذلك، والمضحك هنا أن التيجاني لم ينتبه إلى أن أهل السنة لم يُسمَّوا بأهل السنة إلا لأنهم المتبعون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم المقتفون لها فهنيئاً لهم!.
ثم يقول (( وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يروي البعض من الجهلة يقبل مزمارة الشيطان في بيته وهو مستلق على ظهره والنسوة يضربن الدفوف والشيطان يلعب ويمرح إلى جانبه حتى إذا دخل عمر بن الخطاب هرب الشيطان وأسرع النسوة فخبأن الدفوف تحت أستهن وقال رسول الله لعمر ما رآك الشيطان سالكاً فجاً حتى سلك فجاً غير فجك. فلا غرابة إذا أن يكون لعمر بن الخطاب رأي في الدين ويسمح لنفسه لمعارضة النبي في الأمور السياسية وحتى في الأمور الدينية كما تقدم في تبشير المؤمنين بالجنة ))(59)(7/279)
1 أقول لهذا التيجاني لا يوجد حديث في أيٍّ من كتب السنة بهذا اللفظ، والحمد لله أن كتب الحديث السنية موجودة وتملأ الأسواق بخلاف كتب الرافضة المدفونة فعلى طالب الحق أن يبحث عن هذه الرواية المكذوبة حتى إذا لم يجد شيئاً يعلم أنه سيجدها مروية في الصحيح المسند للمهتدي التيجاني!!
2 لا شك أن هذا التيجاني يشير إلى بعض الأحاديث الصحيحة التي يعرفها، ولكن عقدة الإنصاف أبت عليه إلا أن يتلاعب بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ويخلط ما يريده منها ليُخرج لنا كذباً يعزوه لأهل السنة!؟ وسأسوق روايتين أعتقد أن التيجاني حاول خلطهما فأخرج ما يسميه رواية لأهل السنة الحديث الأول: رواه البخاري في صحيحه (( عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر، وعندي جاريتان من جواري الأنصار، تُغَنِّيان بما تَقَاولت الأنصار يوم بُعاثَ، قالت: وليْستا بِمُغنِّيتين، فقال أبو بكرٍ: أمَزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيدٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكرٍ إن لكلِّ قومٍ عيداً، وهذا عيدُنا ))(60). والحديث الآخر أخرجه الترمذي في سننه عن بريدة: قال: (( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جائت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردّك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدُّفّ وأتغنّى، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نذرت فاضربي، وإلا فلا، فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان هي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت إستها، ثم قعدت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالساً وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل عليّ وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف ))(61)، وهذان الحديثان لا يوجد ما يقدح بهما فهما حديثان صحيحان، والجاريتان اللتان ذكرتا في(7/280)
الحديث الأول هما فتاتان لم تبلغا الحلم، وكانتا تغنّيان في يوم عيد وبالطبع ليس كالغناء المعروف الذي يحرّك الساكن ويبعث الكامن ويثير الغريزة من الغناء المحرّم، وهذا ظاهر بقول عائشة ( وليستا بمغنّيتين ) وأما انتهار أبو بكر لهما وإضافة الضرب بالدف لمزمار الشيطان فلأنها تلهي وتشغل القلب عن الذكر، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: دعهما وعلل ذلك بقوله ( إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا ) والحديث الآخر فيه أن جارية سوداء قالت للرسول صلى الله عليه وسلم أنها نذرت إن رجع سالماً أن تضرب بالدف فقال لها ( إن كنت نذرت فاضربي، وإلا فلا ) فأباح لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تضرب لايفاء النذر وإلا فلا..... ثم بعد ذلك دخل أبو بكر ثم عليّ ثم عثمان وعندما دخل عمر ألقت الجارية بالدف ثم قعدت عليه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم مقولته التي أثقلت التيجاني ( إن الشيطان ليخاف منك ياعمر ) فهل بعد هذا المدح من النبي صلى الله عليه وسلم لعمر من مديح.
ثم يقول التيجاني (( وزاد عمر في الطين بلة عندما ولي أمور المسلمين فأحل ما حرّم الله ورسوله وحرّم ما أحل الله ورسوله ))ثم يشير بالهامش بقوله (( كقضية إمضائه الطلاق الثلاث وكتحريمه متعة الحج ومتعة النساء ))(62)، فأقول:
1 بالنسبة لادعاء التيجاني أن عمر حرّم متعة الحج ومتعة النساء فقد أجبت عن ذلك وافياً فيما مضى(63) بما يغني عن الاعادة هنا.(7/281)
2 وبالنسبة لامضائه الطلاق الثلاث فعن ابن عباس قال (( كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم ))(64)، هذا الحديث يبين أن الرجل إذا طلّق امرأته ثلاثاً تقع طلقة واحدة، وظل الأمر على ذلك حتى جاءت خلافة عمر وفي السنتين الأولتين أبقى عمر الطلقة الواحد البائنة، ولكن عندما رأى تهاون الناس في التطليق وعبثهم فيه أراد أن يشدد عليهم في ذلك تأديباً وردعاً لهم فأوقع الطلاق ثلاثاً وهذا من اجتهاده وفقهه رضي الله عنه وقد وافقه الصحابة في زمانه على ذلك ولا شك أن علياً واحداً منهم وليس ذلك تحليلاً لما حرم الله ورسوله فإنه لم ينسخ الحكم إنما جعله مرتبطاً بالعلة وهو أعلم بمراد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك إضافةً إلى أنه الامام المسؤول عن رعيته أمام الله عز وجل، فيجب عليه أن يسوسهم ويرشدهم لما يصلحهم وأن يردهم للصواب إن تقاعسوا عن المطلوب أو قصّروا في الحقوق، وأن يعمل على ما يصلحهم وينفعهم، وعمر قد ثبت أنه من أفاضل الصحابة وأعلمهم بالدين، واجتهاده هذا اجتهاد سائغ، وعلى فرض أنه أخطأ فهذا من الخطأ الذي يرفع الله به المؤاخذة، وقد اعترف بفضله وعلمه خيار الصحابة، فقد روى الشعبي عن عليّ قال (( ما كنّا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر ))(65) وقال ابن مسعود (( كان عمر أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله وأعرفنا بالله، والله لهو أبين من طريق الساعين، يعني أن هذا أمر بيّن يعرفه الناس ))(66) وقال أيضاً (( لو أن علم عمر وُضع في كفّة ميزان ووضع علم أهل الأرض في كفّة لرجح عليهم وقال إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر ))(67) وقال مجاهد (( إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به ))(68) وقال أبو عثمان النهدي (( إنما كان عمر(7/282)
ميزاناً لا يقول كذا ولا يقول كذا ))(69) ولكن لعل التيجاني لن يقتنع بهذا الكلام، فسأضطر لكي أنقل من كتب الرافضة الاثني عشرية والمعتمدة لديهم رأي أهل البيت في عمر، يقول وصي القوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه واصفاً زمن حكم عمر بقوله (( لله بلاء فلان(70) فقد قوّم الأوَد وداوى العمَد، خلّف الفتنة وأقام السنّة، ذهب نقيَّ الثوب قليل العيب أصاب خيرها وسبق شرّها، أدّى إلى الله طاعته، واتقاه بحقّه، رحل وتركهم في طرقٍ متشعّبة، لا يهتدي فيها الضاّل ولا يستيقن المهتدي ))(71)وقال عنه أيضاً (( ووليهم والٍ فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرّانه ))(72)وفي كتاب ( الغارات ) لإمام القوم ابراهيم الثقفي يذكر أن علياً وصف ولاية عمر بقوله (( ... وتولى عمر الأمر وكان مرضيّ السيرة، ميمون النقيبة ))(73)، وعندما شاوره عمر في الخروج إلى غزو الروم قال له (( إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتَلْقَهُم بشخصك فتُنكب، لا تكن للمسلمين كانفة(74) دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محْرَباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهرك الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأُخرى كنت ردءاً(75) للناس ومثابة للمسلمين ))(76) ويقول أمامهم الآخر محمد آل كاشف الغطاء في كتابه ( أصل الشيعة وأصولها )الذي ادعى التيجاني أنه تمتع بقراءته! (( وحين رأى ( أي عليّ بن أبي طالب ) أن الخليفتين أعني الخليفة الأول والثاني ( أي أبو بكر وعمر! ) بذلا أقصى الجهد في نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجنود وتوسيع الفتوح ولم يستأثرا ولم يستبدا ( انظر؟! ) بايع وسالم ))(77) لذلك زوّج علي ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب(78)، وليس ذلك وفقط بل وسمى أحد أولاده باسم عمر باعتراف الأربلي(79) تدليلاً على حبه وتقديره للخليفة عمر بن الخطاب فهل بعد ذلك يشك أحد بأنّ الله وضع الحق على لسان عمر وقلبه؟!(7/283)
سادساً: الرد على التيجاني بادعائه أن عمر يشهد على نفسه:
يقول التيجاني (( أخرج البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب: لمّا طعن عمر جعل يألم فقال له ابن عبّاس وكأنه يجزعه: يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنّهم وهم عنك راضون، قال: أمّا ما ذكرت من صحبة رسول الله ورضاه فإنما ذاك من منّ الله تعالى منّ به عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك من منّ الله جلّ ذكره منّ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه. وقد سجل التاريخ له أيضاً قوله: ليتني كنت كبش أهلي يسمّنونني ما بدى لهم حتى إذا كنت أسمن ما أكون زارهم بعض من يحبون فجعلوا بعضي شواء ويعطوني قديداً ثم أكلوني وأخرجوني عذرة ولم أكن بشراً ))(1)، قلت:(7/284)
لا شك أن قول عمر عند وفاته إن دل فإنما يدل عن شديد خوفه من الله سبحانه وتعالى وهذا يدل على مدى قوة إيمانه بربه جل وعلا فعن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( قال الله عز وجل: وعزتي لا أجمع لعبدي أمنين وخوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع فيه عبادي ))(2)، إضافة إلى أن الحديث يثبت الصحبة لعمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم توفِّي وهو عنه راضٍ، فخوفه من الله إنما يدل على شدة تقواه رضي الله عنه إضافة إلى أن قاتله ليس رجلاً من المسلمين، وإنما هو مجوسي فارسي كافر وهذه مكرمة له، وأخرج مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( خيار أئمَّتكم الذين تُحبّونهم ويحبّونكم، ويصلّون عليكم وتُصلّون عليهم، وشرارُ أئمّتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ))(3) وعمر كان عادلاً تحبه رعيته وتترضى عنه فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث عمرو بن ميمون في جزء منه (( فاحتُمل إلى بيته، فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصِبهم مصيبة قبل يومئذٍ، فقائل يقول: لا بأسَ، وقائل يقول: أخافُ عليه، فأُتي بنبيذٍ فشربه، فخرج من جوفه، ثم أُتي بلبن فشربه، فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه وجاء الناس، فجَعلوا يثْنون عليه، وجاء رجل شابٌّ فقال: أَبشر يا أمير المؤمنين بِبشرى الله لكَ، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقدِم في الإسلام ما قد علِمتَ، ثمّ وَلِيتَ فعَدَلْتَ، ))(4)، وهذا علي أيضا أثنى على عمر بعد وفاته فعن ابن أبي مليكة (( أنه سمع ابن عباس يقول: وُضع عمر على سريره، فتكفَّنهُ الناس يدْعون ويصلُّون قبل أن يُرفع، وأنا فيهم، فلم يَرُعني إلا رجلٌ آخذٌ منكبي، فّإذا علي بن أبي طالب، فترحَّم على عمر وقال: ما خلَّفت أحداً أحبَّ إليَّ أن ألقى الله بمثْلِ عملِهِ منك، وايْمُ الله إن كنت لأظُنُّ أن يجعلكَ(7/285)
الله مع صاحبيك، وحسبت: إني كنت كثيراً أسمعُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلتُ أنا وأبو بكر وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر ))(5)، وبالنسبة لباقي الشبهات التي أوردها التيجاني في هذا المبحث فقد أجبت عليها إجابات وافية في مبحث ( شهادة أبي بكر على نفسه )(6) فلتراجع.
سابعاً موقفه من عمر بن الخطاب في مبحث محاورة مع عالم والرد عليه في ذلك:
يقول التيجاني (( ثم فتحت صحيح البخاري وفيه دخل عمر بن الخطاب على حفصة وعندها أسماء بنت عميس فقال حين رآها من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه. قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم. فغضبت وقالت كلا والله، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنّا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله وأيّم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك للنبي اسأله والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله، عمر قال كذا وكذا. قال: فما قلت له، قالت: كذا وكذا. قال: ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان قالت فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا هم به أفرح ولا أعظم ما في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول فقلت: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول من شك في أبي بكر ولم يشهد عليه لأنه لا يدري ماذا سوف يحدث من بعده، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقر بتفضيل عمر بن الخطاب على أسماء بنت عميس بل فضّلها عليه، فمن حقي أن أشك وأن لا أفضّل أحداً حتى أتبين وأعرف الحقيقة ومن المعلوم أن هذين الحديثين يناقضان كل الأحاديث الواردة في فضل أبي بكر(7/286)
وعمر ويبطلانها، لأنهما أقرب للواقع المعقول من أحاديث الفضائل المزعومة ))(1)، أقول:
1 والله لست أدري كيف يفهم هذا التيجاني وكيف يكتب، بحيث يجعل هذا الحديث يمثّل مطعناً لعمر؟!.. كل ما في الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم فضّل أهل السفينة وهم الذين هاجروا إلى الحبشة ثم إلى المدينة على أصحاب الهجرة الواحدة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن تفضيلهم هذا ليس على الاطلاق بل من هذا الجانب فقط.
2 أما قوله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقر بتفضيل عمر بن الخطاب على أسماء بنت عميس بل فضّلها عليه ) جهلٌ مركّب لأن الرسول عندما أجاب أسماء قال ( ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان ) فقد جمعه مع أصحابه الذين هاجروا هجرة واحدة ولم يعنيه وحده، وعلى ذلك فأسماء خير من أصحاب الهجرة الأولى حسب الفهم المهترئ لهذا التيجاني، ولا شك أن هذا التفضيل سيطال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأنه من أصحاب الهجرة الأولى! ولكن الفهم الصحيح هو الذي أثبتناه من أن هذا التفضيل ليس على إطلاقه بل من هذه الحيثية فقط.
3 أما قوله ( من المعلوم أن هذا الحديث يناقض كل الأحاديث الواردة في فضل عمر ويبطلها ) فأقول: بالطبع معلوم، وكيف لايكون معلوماً أن جميع الأحاديث الواردة في فضل عمر باطلة وقد خرّجها التيجاني في معمله للتحليل الحديثي!!؟(7/287)
ثم يقول (( فالشيعة ليس كما يدّعي بعض علمائنا، بأنهم الفرس والمجوس الذين حطّم عمر كبرياءهم ومجدهم وعظمتهم في حرب القادسية ولذلك يبغضونه ويكرهونه! وأجبت هؤلاء الجاهلين بأنّ التشيع لأهل البيت النبوي لا يختص بالفرس بل الشيعة في العراق وفي الحجاز وفي سوريا ولبنان وكل هؤلاء عرب كما يوجد الشيعة في الباكستان والهند وفي أفريقيا وأمريكيا وكل هؤلاء ليسوا من العرب ولا من الفرس. ولو اقتصرنا على شيعة إيران فإن الحجة تكون أبلغ إذ أنني وجدت الفرس يقولون بإمامة الأئمة الأثنى عشر وكلهم من العرب من قريش من بني هاشم عترة النبي، فلو كان الفرس متعصّبين ويكرهون العرب كما يدعي البعض لأتخذوا سلمان الفارسي إماماً لهم لأنه منهم وهو صحابي جليل عرف قدره كل من الشيعة والسنة على حدّ سواء. بينما وجدت أهل السنة والجماعة ينقطعون في الإمامة إلى الفرس فأغلب أئمتهم من الفرس كأبي حنيفة والإمام النسائي والترمذي والبخاري ومسلم وابن ماجة والرازي والإمام الغزالي وابن سينا والفرابي وغيرهم كثيرون يضيق بهم المقام فإذا كان الشيعة من الفرس يرفضون عمر بن الخطاب لأنه حطّم كبرياؤهم وعظمتهم فبماذا نفسر رفض الشيعة له من العرب وغير الفرس فهذه دعوى لا تقوم على دليل، وإنما رفض هؤلاء عمر للدور الذي قام به في إبعاد أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سبّب ذلك من فتن وقلاقل وانحلال لهذه الأمة ويكفي أن يزاح الحجاب عن أي باحث حر (!) وتكشف له الحقيقة حتى يرفضه بدون عداوة سابقة ))(2)، أقول رداً عليه:(7/288)
1 أول ظهور الرفض كان على يد اليهودي عبد الله بن سبأ فهو الذي ابتدع إمامة علي بن أبي طالب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الأمر يعترف به الرافضة الاثني عشرية ولا يستطيعون إنكاره لذلك يقول إمامهم المتكلم الحسن بن موسى النوبختي في كتابه الحجة عند الإمامية ( فرق الشيعة ) (( وحكى جماعة من أصحاب علي عليه السلام أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً عليه السلام وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام بهذه المقالة فقال في إسلامه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وآله في علي عليه السلام بمثل ذلك وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي عليه السلام وأظهر البرآءة من أعدائه وكاشَفَ مخالفيه فمن هناك قال من خالف الشيعة أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية ))(*) وبما أن عمر بن الخطاب كسر بجيوشه شأفة الفرس وأزال مملكتهم فنقموا عليه فتمالئوا فيما بينهم للكيد للإسلام وأهله فكانت أسلم طريقة لذلك في تلك الفترة وهي فترة ضعف لهم، هو التمسك بشيء مقدس لدي المسلمين فلم يجدوا إلا فكرة عبد الله بن سبأ اليهودي التي تتخذ من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم مدخلاً للطعن في دين الله عز وجل فتمسّكوا بها واتخذوها ستاراً لبث ضلالهم العريض في أوساط المسلمين فهذا هو مبتدأ نشأة الرفض باعترافهم أنفسهم.(7/289)
2 أما ادعاؤه أن نشأة التشيع ليس في الفرس وحدهم، إنما يوجد في العرب وغير العرب فليس هذا مما يغيّر من الحق شيئاً، لأن القضية التي يجب أن تبحث هي في أصل الرفض والتشيع، وقد أثبتُّ أن الأصل هم الفرس، أما أن يسري هذا الداء إلى العرب وغيرهم فهذا شيء سنني في الكون ولا توجد دعوة في الأرض إلا وتجمّع حولها جمع من المؤمنين بفكرتها، فلا يعتبر ذلك دليلاً على الحق، ألا ترى أن الفكرة الشيوعية في فترة سطوتها قد تأثر بها بالاضافة لأصحابها الكثير من العرب والفرس أيضاً فهل هذا يغني من الباطل شيئاً؟! فإذا كانت فكرة إنكار وجود الله قد آمن بها بعض العرب بل وقامت على أرضهم دولاً تؤمن بهذه الفكرة فالأولى أن يتأثر الكثير من العرب بفكرة الرفض خصوصاً إذا كانت تتمسح بشعار موالاة أهل البيت والانتصار لهم! فليس في ذلك أي حجة للتيجاني على صحة دين الرافضة.
3 أما أن العرب وغير العرب دون الفرس يبغضون عمر فهذا شيء طبيعي لأن أصل عقيدة الرفض هي الطعن في أبي بكر وعمر، فكل من آمن بهذه الفكرة لا بدّ أن يؤمن بتبعاتها، لذلك أردّ حب الكثير من الفرس لعمر بن الخطاب بالدرجة الأولى لإيمانهم بعقيدة الحق، عقيدة أهل السنة والجماعة، وهذا شيء طبيعي أيضاً فهذا هو الذي يفسر عداوة بعض العرب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
4 أما قوله أنه وجد أهل السنة والجماعة ينقطعون في الإمامة إلى الفرس فهذا جهل فاضح، فالصحيح أن يقال أن كل العلماء من العرب وغيرهم ينقطعون في الاعتقاد لمنهج أهل السنة والجماعة، لأن منهج أهل السنة لا يمثله عرب ولا فرس فهو ليس منهجاً طارئاً ومشوهاً مثل أهل الرفض الذي يمثّله أشخاصه، إنما هو منهجاً يمثل أصل الإسلام وجوهره باعتماده على كتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكل من ارتضى له هذا المنهج فهو من أهل السنة والجماعة سواءٌ كان عربياً أو غير عربي وليس العكس.(7/290)
5 أما قوله ( فلو كان الفرس متعصبين ويكرهون العرب كما يدعي البعض لاتخذوا سلمان الفارسي إماماً لهم لأنه منهم وهو صحابي جليل عرف قدره كل من الشيعة والسنة ) فأقول للتيجاني: إذا كنت بهذه السذاجة فلا أعتقد أن الرافضة الإمامية كذلك هنا، لأن سلمان وإن كان صحابياً جليلاً فهذه مكرمة يتمتّع بها جميع الصحابة بل حتى الكثير من الصحابة يسبقونه بالمنزلة والصحبة، إضافة إلى أنه فارسي الأصل، فلو اتخذته الشيعة الاثني عشرية إماماً من دون الصحابة فستنْفضح اللعبة وتحوم الشبهات، إذن فمن الحنكة والدهاء أن يتخذ الرافضة الاثني عشرية من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ملاذاً لهم، وأما سلمان فقدَّروا أصله الفارسي وجعلوه من الصحابة المرضيين إتماماً للعبة واتقاناً للمخطط.
6 أنا لا أزعم أن كل من التوى تحت لواء الرافضة الإمامية يعرف ذلك بل على العكس فأكثر عوام الرافضة لا يعرفون هذه الحقيقة ويعتقدون أنهم على الحق والصراط المستقيم، والكثير من هؤلاء إذا ظهر لهم الحق يؤوبون إليه ويتمسّكون به، وبالفعل فقد رأينا الكثير منهم يرجعون إلى منهج أهل السنة والجماعة، بل ويصبحون من أنشط الدعاة إليه، بل وحتى العلماء منهم فقد رجعوا إلى الجادة وأنابوا للحق بعدما تكشف لهم ضلال ما هم عليه، من أمثال الدكتور موسى الموسوي وأحمد الكسروي(3) فأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يهدي عوام الشيعة إلى الحق ويقيهم ضلالات الضّالين المضلين من أقوامهم آمين.
ثامناً الرد على التيجاني في موقفه من عمر في أمر الخلافة:(7/291)
يقول التيجاني (( وكانت خلافة عثمان مهزلة تاريخية، وذلك أن عمر رشّح ستةً للخلافة وألزمهم أن يختاروا من بينهم واحداً وقال إذا اتفق أربعة وخالف إثنان فاقتلوهما وإذا انقسم الستة إلى فريقين ثلاثة في كل جهة فخذوا برأي الثلاثة الذين يقف معهم عبد الرحمن بن عوف. وإذا مضى وقت ولم يتّفق الستة فاقتلوهم، والقصة طويلة وعجيبة، والمهم أن عبد الرحمن بن عوف اختار علياً واشترط عليه أن يحكم فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين أبي بكر وعمر فرفض عليّ هذا الشرط، وقَبِله عثمان فكان هو الخليفة، وخرج عليّ من البيعة وهو يعلم مسبقاً النتيجة وتحدث عن ذلك في خطبته المعروفة بالشقشقية ))(4)، أقول:
1 ما أكذب هذا التيجاني وما أشد تحامله فلماذا لم يشر إلى المصدر الذي يستقي منه كذبه؟! أليس لأنه أقل من أن ينظر إليه لتهافته وكذب رواته ولكن ماذا نقول لهؤلاء البشر فهم (( لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول، فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعُلم أنها وقعت، فيقولون: ما وقعت، وإلى أمور ما كانت ويُعلم أنها ما كانت، فيقولون: كانت، ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح، فيقولون: هي فساد، وإلى الأمور التي هي فساد، فيقولون: هي خير وصلاح، فليس لهم لا عقل ولا نقل، بل لهم نصيب من قوله { وقالوا لو كنّا نسمعُ أو نعقلُ ما كنّا في أصحاب السّعير } ))(5).(7/292)
2 الحق الثابت في هذه القضية هو فيما أخرجه البخاري في صحيحه في الحديث الطويل عن عمرو بن ميمون في جزء منه ((... أوصِ يا أمير المؤمنين استخلِف، قال: ما أجدُ أحداً أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النّفر، أو الرهط، الذين تُوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمَّي علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن، وقال: يشهدُكُم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيءٌ كهيئةِ التعْزِية فإن أصابت الإمْرَة سعداً فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيُّكم ما أُمّر، فإني لم أعزلْه عن عجزِ ولا خيانَة. وقال: أُوصي الخليفة من بعدي، بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقّهم ويحفظ لهم حُرمتهُم، وأوصيه بالأنصار خيراً، الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم أن يُقبل من مُحسنهم، وأن يُعفى عن مسيئهم، وأُوصيه بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردْءُ الإسلام. وجُباة المال وغيظُ العدوِّ، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلُهُم عن رضاهمُْ، وأوصيه بالأعراب خيراً، فإنهم أصلُ العربِ ومادةُ الإسلام أن يُؤخذَ من حواشيِ أموالِهم ويُردَّ على فُقرائهم، أُوصيه بذمَّة الله تعالى، وذمَّة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهِم، ولا يُكلَّفوا إلا طاقَتَهم ))(6) فعمر كما ترى جعل الأمر في هؤلاء الستة، الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، أما أنه أمر بقتلهم أو قتل بعضهم فهذا أولى به أن يلحق في قصص ألف ليلة وليلة!؟
3 ولو فرضنا أن عمر أمر بقتلهم، فلا شك أن أمره هذا هو منع للفتن والافساد، فأتساءل هل الأمر بقتلهم يمنع الفتن أم يشعلها؟! وهل قتل الستة من خيار الأمة سيمر دون سلام؟! وهل سيقبل به المسلمون؟! ثم لو أمر عمر بالقتل كما يدعي التيجاني، لأَمَرَ بأن يتولّى الأمر أحد من الناس فهل أمر بذلك عمر؟! ومن هنا نعلم أنه لا يحتج بذلك ويصدقه ويكتبه إلا أشدّ الناس غباءً!!(7/293)
4 أما قوله أن عمر قال ( فخذوا برأي الثلاثة الذين يقف معهم عبد الرحمن بن عوف ) فهذا من الكذب أيضاً على عمر، فإنه جعل الأمر في هؤلاء الستة ليختاروا منهم واحداً ولم يأمر بأخذ رأي من يقف معهم عبد الرحمن بن عوف، ولكن الصحيح أن الستة هم الذين اختاروا عبد الرحمن بن عوف ففي نفس الحديث الذي أخرجه البخاري يقول (( فلما فُرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلتُ أمري إلى عليّ، فقال طلحة: قد جعلتُ أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف. فقال عبد الرحمن: أيُّكُما تبرَّأ من هذا الأمر، فنجعله إليه والله عليه والإسلام، لَيَنظُرنَّ أفضلهم في نفسه؟ فأُسكتَ الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفَتَجعلوُنه إليَّ والله عليَّ أن لا آلو عن أفضلِكم؟ قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمَّرتُك لتعدلنّ ولئن أمَّرت عثمان لتسمعنّ ولتُطيعنّ، ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه، فبايع له علي، وولج أهل الدّار فبايَعوه ))(7) وهنا تظهر براءة أمير المؤمنين عمر من جميع خزعبلات التيجاني والحمد لله رب العالمين.
===============
زعمهم أن عمر رضي الله عنه يجتهد في مقابل النصوص
قال الرافضي ص131 وكان عمر يجتهد ويتأول مقابل النصوص الصريحة من السنن النبوية، بل في مقابل النصوص الصريحة من القرآن الحكيم فيحكم برأيه كقوله: (متعتان كانتا على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما).
ويقول لمن أجنب ولم يجد ماءً (لا تصلّ) رغم قول الله تعالى في سورة المائدة: {فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} (1)».(7/294)
قلت: طعنه في عمر - رضي الله عنه - لنهيه عن المتعتين، هذه من مطاعن الرافضة القديمةالتي أجاب العلماء عنها بمايدحض بطلان دعواهم فيها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السنة ضمن رده على ابن المطهر في هذه المسألة: «وإن قدحوا في عمر لكونه نهى عنها، فأبو ذر كان أعظم نهياً عنها(2) من عمر، وكان يقول: إن المتعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هكذا أورد الآية فأخطأ في النقل والآية الصحيحة {فلم تجدوا ماء...} سورة المائدة آية6.
(2) روى مسلم في صحيحه من طريق إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال: (كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة) وفي رواية: (لاتصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء ومتعة الحج) صحيح مسلم (كتاب الحج، باب جواز التمتع) 2/897.
كانت خاصة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يتولون أبا ذر
ويعظمونه(1)، فإن كان الخطأ في هذه المسألة يوجب القدح فينبغي أن يقدحوا في أبي ذر، وإلا فكيف يقدح في عمر دونه، وعمر أفضل وأفقه، وأعلم منه.
ويقال ثانياً: إن عمر - رضي الله عنه - لم يحرم متعة الحج بل ثبت عن الضُّبي بن معبد لما قال له: إني أحرمت بالحج والعمرة جميعاً فقال له عمر: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم رواه النسائي وغيره. (2)
وكان عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - يأمرهم بالمتعة فيقولون له: إن أباك نهى عنها فيقول: إن أبي لم يرد ما تقولون: فإذا ألحوا عليه قال: أفرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبعوا أم عمر؟(7/295)
وقد ثبت عن عمر أيضاً أنه قال: لو حججت لتمتعت، ولو حججت لتمتعت وإنما كان مراد عمر - رضي الله عنه - أن يأمرهم بما هو الأفضل، وكان الناس لسهولة المتعة تركوا الاعتمار في غير أشهر الحج، فأراد ألا يُعرَّى البيت طول السنة، فإذا أفردوا الحج اعتمروا في سائر السنة، والاعتمار في غير أشهر الحج مع الحج في أشهر الحج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سبق أن تقدم نقل رواية الكافي في زعمهم أن الناس ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة: أبو ذر وسلمان والمقداد بن الأسود، انظر ص388 من هذا الكتاب.
(2) رواه النسائي في: (كتاب مناسك الحج، باب القران) 5/113-114.
أفضل من المتعة باتفاق الفقهاء الأربعة وغيرهم...
والإمام إذا اختار لرعيته الأمر الفاضل، بالشيء نهي عن ضده فكان نهيه عن المتعة على وجه الاختيار لا على وجه التحريم، وهو لم يقل: وأنا أحرمهما كما نقل هذا الرافضي، بل قال: أنهى عنهما ثم كان نهيه عن متعة الحج على وجه الاختيار للأفضل لا على وجه التحريم.
وقد قيل: إنه نهى عن الفسخ، والفسخ حرام عند كثير من الفقهاء، وهو من مسائل الاجتهاد، فالفسخ يحرمه أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، لكن أحمد وغيره من فقهاء الحديث وغيرهم لا يحرمون الفسخ، بل يستحبونه، بل يوجبه بعضهم، ولا يأخذون بقول عمر في هذه المسألة بل بقول: علي، وعمران بن حصين، وابن عباس،
وابن عمر، وغيرهم من الصحابة -y-....
وأما ما ذكره من نهى عمر عن متعة النساء فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم متعة النساء بعد الإحلال، هكذا رواه الثقات في الصحيحين وغيرهما عن الزهري عن عبدالله، والحسن ابني محمد بن الحنفية، عن أبيهما محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال لابن عباس - رضي الله عنه -: لما أباح المتعة إنك امرؤ تائه، إن(7/296)
رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم المتعة ولحوم الحمر الأهلية عام خيبر(1)، رواه عن الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة وأحفظهم لها، أئمة الإسلام في زمانهم، مثل مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة وغيرهما، ممن اتفق المسلمون على علمهم وعدلهم وحفظهم، ولم يختلف أهل العلم بالحديث في أن هذا حديث صحيح متلقى بالقبول ليس في أهل العلم من طعن فيه.
وكذلك ثبت في الصحيح أنه حرَّمها في غزاة الفتح إلى يوم القيامة(2)، وقد تنازع رواة حديث علي - رضي الله عنه - هل قوله: (عام خيبر) توقيت لتحريم الحمر فقط، أوله ولتحريم المتعة؟ فالأول قول
ابن عيينه وغيره قالوا: إنما حرمت عام الفتح، ومن قال بالآخر قال: إنها حرمت ثم أحلّت ثم حرمت، وادعت طائفة ثالثة أنها أحلت بعد ذلك ثم حرمت في حجة الوداع.
فالروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه حرم المتعة بعد إحلالها، والصواب أنها بعد أن حرمت لم تحل وأنها إنما حرمت عام فتح مكة ولم تحل بعد ذلك، ولم تحرم عام خيبر، بل عام خيبر حرمت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري بدون: (إنك امرؤ تائه) في: (كتاب النكاح، باب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيراً) فتح الباري 9/166، ح5115، ومسلم: (كتاب النكاح، باب نكاح المتعة...) 2/1027، ح1407.
(2) رواه مسلم في صحيحه من حديث سبرة الجهني - رضي الله عنه -: (كتاب النكاح، باب نكاح المتعة) 2/1025.
لحوم الحمر الأهلية.
وكان ابن عباس يبيح المتعة ولحوم الحمر فأنكر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ذلك عليه...(7/297)
وقد روى ابن عباس - رضي الله عنه - أنه رجع عن ذلك لما بلغه حديث النهي عنهما فأهل السنة اتبعوا علياً وغيره من الخلفاء الراشدين فيما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والشيعة خالفوا علياً فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم واتبعوا قول من خالفه». (1)
ويقول الدهلوي ضمن ذكره لمطاعن الرافضة على عمر والرد عليها: «ومنها أن عمر منع الناس من متعة النساء ومتعة الحج مع أن كلتا المتعتين كانتا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، فنسخ حكم الله تعالى وحرّم ما أحله الله سبحانه، بدليل ما ثبت عند أهل السنة من قوله: (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهي عنهما).
والجواب: أن أصح الكتب عند أهل السنة الصحاح الست، وأصحها البخاري ومسلم، وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع وسبرة بن معبد الجهني أنه صلى الله عليه وسلم قد حرم هو المتعة بعدما كان أحلها ورخصها لهم ثلاثة أيام، وجعل تحريمها إذ حرمها مؤبداً إلى يوم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 4/184-191.
القيامة(1) ومثل هذه الرواية في الصحاح الأخر، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من كتب أهل السنة رواية الأئمة عن الأمير بتحريمها،(2) فإن ادعت الشيعة أن ذلك كان في غزوة خيبر ثم أُحلت في غزوة الأوطاس فمردود لأن غزوة خيبر كانت مبدأ تحريم لحوم الحمر الأهلية، لامتعة النساء، فقد روى جمع من أهل السنة عن عبدالله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن الأمير كرم الله وجهه أنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي بتحريم المتعة) فقد علم أن تحريم المتعة كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين، فالذي بلغه النهي امتنع عنها ومن لا فلا، ولما شاع في عهد عمر ارتكابها أظهر حرمتها وأشاعها وهدد من كان يرتكبها، وآيات الكتاب شاهدة على حرمتها...(7/298)
والجواب عن متعة الحج: -أعنى تأديه أركان العمرة مع الحج في سفر واحد في أشهر الحج قبل الرجوع إلى بيته -أن عمر لم يمنعها قط ورواية التحريم عنه افتراء صريح- نعم إنه كان يرى إفراد الحج والعمرة أولى من جمعهما في إحرام واحد وهو القران أو في سفر واحد وهو التمتع، وعليه الإمام الشافعي، وسفيان الثوري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه ص396.
(2) تقدم تخريجه ص 396.
وإسحاق بن راهوية وغيرهم لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} إلى قوله: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج}(1) الآية فأوجب سبحانه الهدي على المتمتع لا على المفرد جبراً لما فيه من النقصان، كما أوجبه تعالى في الحج إذا حصل فيه قصور ونقص، ولأنه صلى الله عليه وسلم حج في حجة الوداع مفرداً، واعتمر في عمرة القضاء وعمرة جعرّانة كذلك، ولم يحج فيها بل رجع إلى المدينة مع وجود المهلة.
وأما ما رووا من قول عمر (وأنا أنهى عنهما) فمعناه أن الفسقة وعوام الناس لا يبالون بنهي الكتاب وهو قوله تعالى: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}(2) وقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} إلا أن يحكم عليهم الحاكم والسلطان، ويجبرهم على مراعاة ما أمروا به وما نهوا عنه، فلذلك أضاف النهي إلى نفسه، فقد تبين لك ولله تعالى الحمد زيف أقوالهم، وظهر لك مزيد ضلالهم والحق يعلو وكلمة الصدق تسمو».(3)
فظهر بهذا بطلان دعوى الرافضة في طعنهم في عمر لنهيه عن المتعتين. أما متعة الحج فلم ينه عنها نهى تحريم وإنما كان نهيه على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية 196.
(2) وردت الآية في سورة (المؤمنون) آية 7، وفي سورة المعارج آية 31.
(3) مختصر التحفة الإثني عشرية ص256-258.(7/299)
وجه الاختيار للأفضل، وذلك خشية منه أن يهجر البيت بترك الناس للاعتمار في غير أشهر الحج، وقيل إنما كان نهي عمر عن فسخ الحج
إلى عمرة وهذا هو قول أكثر أهل العلم، كما نقله ابن قدامة في المغني لأن الحج أحد النسكين فلم يجز فسخه كالعمرة.(1)
وأما متعة النساء فالذي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان أحلها وكان علي - رضي الله عنه - من أشد الناس إنكاراً على من قال بحلها، وإنما قال بحلها ابن عباس -رضي الله عنهما- فأنكر عليه علي - رضي الله عنه - ورجع عن ذلك لما بلغه الحديث الذي رواه علي - رضي الله عنه - بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، وكذلك روى أحاديث تحريم المتعة غير علي
- رضي الله عنه - بعض الصحابة وهي مخرجة في صحاح أهل السنة كما تقدم، فأي لوم على عمر - رضي الله عنه - في نهيه عن المتعة بعد أن ثبت تحريم
رسول الله صلى الله عليه وسلم لها إلى يوم القيامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر المغني لابن قدامة 5/252.
=============
رزية الخميس
في هذا المقام كلام لابن حجر في شرح هذا الحديث وفيه مقدمة لإعذار عمر
4078 (فتح الباري) حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير قال قال ابن عباس
يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا ما شأنه أهجر استفهموه فذهبوا يردون عليه فقال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه وأوصاهم بثلاث قال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها
فقال ((ما شأنه أهجر ))(7/300)
. وقيل : قال ذلك لإرادة سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده , فكأنه قال : إن ذلك يؤذيه ويفضي في العادة إلى ما ذكر
ويظهر لي ترجيح ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبي ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع قد يشتغل به عن تحرير ما يريد أن يقوله لجواز وقوع ذلك , ولهذا وقع في الرواية الثانية " فقال بعضهم إنه قد غلبه الوجع " ووقع عند الإسماعيلي من طريق محمد بن خلاد عن سفيان في هذا الحديث " فقالوا ما شأنه يهجر , استفهموه " وعن ابن سعد من طريق أخرى عن سعيد بن جبير " أن نبي الله ليهجر " , ويؤيده أنه بعد أن قال ذلك استفهموه بصيغة الأمر بالاستفهام أي اختبروا أمره بأن يستفهموه عن هذا الذي أراده وابحثوا معه في كونه الأولى أو لا(7/301)
وقال النووي : اتفق قول العلماء على أن قول عمر " حسبنا كتاب الله " من قوة فقهه ودقيق نظره , لأنه خشي أن ((( يكتب ))) أمورا ربما عجزوا عنها فاستحقوا العقوبة لكونها منصوصة , وأراد أن لا ينسد باب الاجتهاد على العلماء . ((((وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه رأيه)))) , وأشار بقوله : " حسبنا كتاب الله " إلى قوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) . ويحتمل أن يكون قصد التخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما هو فيه من شدة الكرب ,(((( وقامت عنده قرينة بأن الذي أراد كتابته ليس مما لا يستغنون عنه )))), إذ لو كان من هذا القبيل لم يتركه صلى الله عليه وسلم لأجل اختلافهم , ولا يعارض ذلك قول ابن عباس إن الرزية إلخ , ل(((أن عمر كان أفقه منه قطعا))) . وقال الخطابي : لم يتوهم عمر الغلط فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد كتابته , بل امتناعه محمول على أنه لما رأى ما هو فيه من الكرب وحضور الموت (((خشي أن يجد المنافقون سبيلا إلى الطعن فيما يكتبه وإلى حمله على تلك الحالة التي جرت العادة فيها بوقوع بعض ما يخالف الاتفاق))) فكان ذلك سبب توقف عمر , لا أنه تعمد مخالفة قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا جواز وقوع الغلط عليه حاشا وكلا .
وقال ابن تيمية
وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه فقد جاء مبينا كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر(7/302)
وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمد قال قالت عائشة وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان وأنا حي فاستغفر لك وأدعو لك قالت عائشة واثكلاه والله إني لأظنك تحب موتي فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنا وارأساه لقد همت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ويدفع الله ويأبى المؤمنون
وفي صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة قال سمعت عائشة وسئلت من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفا لو استخلف قالت أبو بكر فقيل لها ثم من بعد أبي بكر قالت عمر قيل لها ثم من بعد عمر قالت أبو عبيدة عامر بن الجراح ثم انتهت إلى هذا
وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبي صلى الله عليه وسلم من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة والمرض جائز على الأنبياء ولهذا قال ماله أهجر فشك في ذلك ولم يجزم بأنه هجر والشك جائز على عمر فإنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما وقد شك بشبهة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضا فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله وكذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات
والنبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر
وقول ابن عباس إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب يقتضي أن هذا الحائل كان رزية وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد(7/303)
ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه وأما الشيعة القائلون بأن عليا كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصا جليا ظاهرا معروفا وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب وإن قيل إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتابا حضره طائفة قليلة أولى وأحرى
وأيضا فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجبا ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ إذ لو وجب لفعله ولو أن عمر رضي الله عنه اشتبه عليه أمر ثم تبين له أو شك في بعض الأمور فليس هو أعظم ممن يفتي ويقضي بأمور ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بخلافها مجتهدا في ذلك ولا يكون قد علم حكم النبي صلى الله عليه وسلم فإن الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه
وكل هذا إذا كان باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الذي رفع الله المؤاخذه به كما قضى على في الحامل المتوفى عنها زوجها أنها تعتد أبعد الأجلين مع ما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له إن أبا السنابل بن بعكك أفتى بذلك لسبيعة الأسلمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب أبو السنابل بل حللت فانكحى من شئت فقد كذب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الذي أفتى بهذا وأبو السنابل لم يكن من أهل الاجتهاد وما كان له أن يفتي بهذا مع حضور النبي صلى الله عليه وسلم
وأما علي وابن عباس رضي الله عنهما وإن كانا أفتيا بذلك لكن كان ذلك عن اجتهاد وكان ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بلغهما قصة سبيعة(7/304)
وهكذا سائر أهل الاجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم إذا اجتهدوا فأفتوا وقضوا وحكموا بأمر والسنة بخلافه ولم تبلغهم السنة كانوا مثابين على اجتهادهم مطيعين لله ورسوله فيما فعلوه من الاجتهاد بحسب استطاعتهم ولهم أجر على ذلك ومن اجتهد منهم وأصاب فله أجران.
===============
شبهات وردود منوعة
منها ما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام للصحابة الحاضرين في حجرته المباركة : (( أئتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبدا )) فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع . فقالوا : ماله ؟ أهجر ؟ أستفهموه . فقال : (( ذرونى ، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه )) فأمرهم بثلاث قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم . والثالثة إما أن سكت عنها ، وإما أن قالها فنسيتها .
وهذه رواية أهل السنة الصحيحة وزعموا أنه يستفاد منها الطعن على عمر بوجوه :
الأول أنه رد قول النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله كلها وحي لقوله تعالى ] وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ ورد الوحي كفر لقوله تعالى] ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ .(7/305)
والجواب على فرض تسليم أن هذا القول صدر من الفاروق فقط أنه لم يرد قوله صلى الله عليه وسلم بل قصد راحته ورفع الحرج عنه صلى الله عليه وسلم في حال شدة المرض ، إذ كل محب لا يرضى أن يتعب محبوبه ولا سيما في المرض ، مع عدم كون ذلك الآمر ضرورياً ، لم يخاطب بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بل خاطب الحاضرين تأدباً وأثبت الاستغناء عن ذلك بقوله تعالى ] اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً [ وقد نزلت الآية قبل هذه الواقعة بثلاثة أشهر ، وقد أنسد باب النسخ والتبديل والزيادة والنقصان في الدين ، فيتمنع إحداث شئ ، وتأكيد المتقدم مستغني عنه لا سيما في تلك الحالة . ولو كان بيان المصلحة رد الوحي وقول الرسول للزم ذلك على الأمير أيضاً ، فقد روى البخاري الذى هو أصح الكتب عند أهل السنة بعد القرآن بطرق متعددة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيت الأمير والبتول ليلة وايقظها من مضجعها وأمرهما بصلاة التهجد مؤكداً ، فقال الأمير : والله ما نصلى إلا ما كتب الله علينا أي الصلاة المفروضة ، وإنما أنفسنا بيد الله ، يعني لو وقفنا الله لصلاة التهجد لصلينا . فرجع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب على فخذيه ويقول ] وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً [ فقد رد الأمير قول الرسول ، ولكن لما كانت القرائن الحالية دالة على صدق الأمير وأستقامته لم يلمه النبي صلى الله عليه وسلم(7/306)
وروى البخاري أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تصالح مع قريش في الحديبية كتب الأمير كتاب الصلح وزاد لفظ (( رسول الله )) فأمتنع الكفار عن قبوله وقالوا : لو سلمنا بهذا اللقب لما حار بناه وصددناه عن طوائف البيت ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يمحو هذا اللفظ وأكد ذلك ، فلم يمحه الأمير لكمال الإيمان وخالف الرسول في ذلك حتى محاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة . وقد ثبتت مخالفة الأمير أيضاً في كتبهم ، فقد روى محمد بن بابويه في ( الأمالى ) والديلمي في ( إرشاد القلوب ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فاطمة سبعة دراهم وقال : أعطيها علياً ومريه أن يشترى لأهل بيته طعاماً فقد غلب عليهم الجوع ، فأعطتها علياً وقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تبتاع لنا طعاماً . فأخذها علي وخرج من بيته ليبتاع طعاماً لأهل بيته فسمع رجلاً يقول : من يقرض الملى الوفي ؟ فأعطاه الدراهم . فقد خالف قول الرسول ، وتصرف في مال الغير ، ومع ذلك فأهل السنة لا يطعنون على الأمير بمثل هذه المخالفات ، بل لا يعدون ذلك مخالفة . فكيف يطعنون على عمر بما هو اخف منها ( 1 ) . وأما قولهم إن أقوال الرسول كلها وحي فمردود ، لأن أقواله صلى الله عليه وسلم لو كانت كلها وحياً فلم قال الله تعالى ] عفا الله عنك لم أذنت لهم [ وقال تعالى ] ولاتكن للخائنين خصيماً [ وقال تعالى ] ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم [ وقال تعالى في المعاتبة عن أخذ الفدية من أسارى بدر ] لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ وأيضاً يلزمهم أن الأمير ايضاً قد رد لوحي حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم ، ومحو اللفظ ، وأبتياع الطعام مع انهم لا يقولون بذلك .
الثاني من وجوه الطعن أنه قال (( أهجر )) مع أن الأنبياء معصومون من هذه الأمور فاقوالهم وأفعالهم في جميع الأحوال والأوقات كلها معتبرة وحقيقية بالاتباع .(7/307)
والجواب عن هذا أنه من أين يثبت أن قائل هذا القول عمر ؟ مع أنه قد وقع في أكثر الروايات (( قالوا )) بصيغة الجمع (( استفهموه )) على طريق الإنكار ، فإن النبي لا يتكلم بالهذيان البتة وكانوا يعلمون انه صلى الله عليه وسلم ما خط قط بل كان يمتنع صدور هذه الصنعة منه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى ] وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخط بيمينك [ ولذا قالوا فاسئلوه . وتحقيق ذلك أن الهجر في اللغة هو أختلاط الكلام بوجه غير مفهم ، وهو على قسمين : قسم لا نزاع لحد في عروضه للأنبياء عليهم السلام وهو عدم تبيين الكلام لبحة الصوت وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان كما في الحميات الحارة ، وقد ثبت بإجماع أهل السير أن نبينا صلى الله عليه وسلم كانت بحة الصوت عارضة له في مرض موته صلى الله عليه وسلم .
والقسم الآخر جريان الكلام غير المنتظم أو المخالف للمقصود على اللسان بسبب الغشى العارض بسبب الحميات المحرقة في الأكثر . وهذا القسم وإن كان ناشئاً من العوارض البدنية ولكن قد أختلف العلماء في جواز عروضه للأنبياء ، فجوزه بعضهم قياساً على النوم ، ومنعه آخرون ، فلعل القائل بذلك القول أراد القسم الأول يعنى ان هذا الكلام خلاف عادته صلى الله عليه وسلم فلعنا لم نفهم كلامه بسبب وجود الضعف في ناطقته فلا إشكال .
الثالث من وجوه الطعن أنه رفع الصوت وتنازع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى ] يأيها الذين أمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي [ .(7/308)
والجواب أنه من أين يثبت أن عمر أول من رفع الصوت ؟ وعلى تقديره فرفع صوته إنما كان على صوت غيره من الحاضرين لا على صوت النبي صلى الله عليه وسلم المنهي عنه في الآية ، والأول جائز والآية تدل عليه حيث قال كجهر بعضكم لبعض ، وقوله صلى الله عليه وسلم في إحدى الروايات (( قوما عني )) من قبيل قلة الصبر العارضة للمريض ، فإنه يضيق صدره إذا وقعت منازعة في حضوره ، وما يصدر من المريض في حق أحد لا يكون محلاً للطعن عليه ، مع أن الخطاب كان لجميع الحاضرين المجوزين والمانعين .
الرابع من أوجه الطعن أنه أتلف حق الأمة ، إذ لو كتب الكتاب المذكور لحفظت الأمة من الضلالة ولم ترهم في كل واد يهيمون ، ووبال جميع ذلك على عمر .
والجواب أنه إنما يتحقق الإتلاف لو حدث حكم من الله تعالى نافع للأمة ومنعه عمر . وقوله تعالى ] اليوم أكملت لكم دينكم [ الاية تدل على عدم الحدوث ، بل لم يكن الكتاب إلا لمصالح الملك وتأكيد ما بلغه ، وإلا فلا يتصور منه صلى الله عليه وسلم أن يقول أو يكتب في هذا الوقت الضيق ما لم يكن قاله قط ، مع أن زمن نبوته أمتد ثلاثاً وعشرين سنة ، وكيف يمتنع عن ذلك بمجرد منع عمر ، ولم يقله لأحد بعد ذلك مع عدم وجود عمر ، فإنه صلى الله عليه وسلم قد عاش بعد ذلك خمسة أيام باتفاق الفريقين . فإن قيل : لو لم يكن ما يكتب أمراً دينياً فلم قال (( لن تضلوا بعدي )) ؟ قلنا : للضلال معان ( 1 ) ، والمراد ههنا عدم الخطأ في تدبير الملك وهو إخراج المشركين من جزيرة العرب ، وإجازة الوفد بنحو ما كان يجيزهم ، وتجهيز جيش أسامة منه ، لا الضلالة والغواية عن الدين . فقد تبين لك بطلان ما طعنوا به ، وأظهر لك فساده وقبيح كذبه . والحمد لله رب العالمين ( 2 ) .
ومنها أن عمر قصد إحراق بيت سيدة النساء ، وضربها على جنبها الشريف بقبضة سيفه حتى وضعت حملها بسبب ذلك !(7/309)
والجواب أن هذه القصة محض هذيان ، وزور من القول وبهتان . ولذا قد انكر صحتها أكثر الإمامية ، أن روايتها عندهم غير صحيحة ولا مرضية ، مع أن فعل عمر هذا لو فرض وقوعه فهو أقل مما فعله الأمير كرم الله تعالى وجهه مع أم المؤمنين عائشة الصديقة ، مع أنه لم يلحقه طعن من ذلك عند الفريقين بناء على حفظ الأنتظام في أمور الدنيا والدين :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
ومنها أن عمر أنكر موت الرسول صلى الله عليه وسلم وحلف أنه لم يمت ، حتى قرأ أبو بكر قوله تعالى ] إنك ميت وإنهم ميتون [ .
والجواب أن ذلك من شدة دهشته بموت الرسول وكمال محبته له صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق له في ذلك الحين شعور بشئ ، وكثيراً ما يحصل الذهول بسبب تفاقم المصائب وتراكم الشدائد ، لأن النسيان والذهول من اللوازم البشرية ألا ترى أن يوشع – مع كونه نبياً معصوماً – نسى أن يخبر موسى بفقد الحوت مع المكتل ، بل إن موسى تعالى - مع كونه من أولى العزم – قد نسى معاهدته مع الخضر على عدم السؤال ثلاث مرات ، وقال تعالى في حق آدم ] فنسى ولم نجد له عزماً [ . وقد روى أبو جعفر الطوسي عن عبدالله الحلبي أن الإمام أبا عبدالله عليه السلام كان يسهو في صلاته ويقول في سجدتي السهو (( بسم الله وبالله ، وصلى الله على محمد وآله وسلم )) فأى ذنب لابن الخطاب بدهشته من هذا الامر العظيم ، وأى طعن عليه بسبب ما حصل له من فقد محبوبه صلى الله عليه وسلم ؟ فتباً لكم أيها الفرقة الضالة فقد نال الشيطان من عقولكم حتى صرتم شياطين أمثاله .(7/310)
ومنها أن عمر كان لا يعلم بعض المسائل الشرعية التى هي شرط في الإمامة والخلافة كأمره برجم الحامل من الزنا ، فرده الأمير وقال له : إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها ، فندم حينئذ وقال : لولا علي لهلك عمر . وكما أراد رجم أمرأة مجنونة فرده الأمير بقوله صلى الله عليه وسلم (( رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق )) ، وكإتمامة عدد الضربات في حد أبنه أبي شحمة بعد ان مات في اثناء الحد ، مع أن الميت غير معقول ، وكعدم علمه بحد شرب الخمر حتى قرره بمشورة الصحابة ورأيهم .(7/311)
والجواب عن الأول أن عمر رضي الله عنه لم يكن على علم بحمل المرأة لأن هذا أمر لا يدرك بالبصر إلا بعد تمام مدة الحمل وما يقاربه ، والأمير كان مطلعاً على ذلك وأخبر بحملها فنبه عمر إلى ذلك فشكره ، والقضاء على ظاهر الحال لا يوجب النقص في الإمامة ، بل ولا في النبوة . ألا ترى أن موسى تعالى أخذ برأس أخيه الكبير ولحيته مع انه نبي وأهانه حين لم يطلع على حقيقة الآمر ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (( إنما أن بشر ، وإنكم تختصمون إلى ، وإن بعضكم ألحن بحجته من بعض ، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار )) ، وقد روى عند الفريقين أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً بإقامة الحد على أمرآة حديثة بنفاس فلم يقم عليها الحد خشية أن تموت ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال (( أحسنت ، دعها حتى ينقطع دمها )) فقد تبين أن عدم الاطلاع على حقيقة الحال غير الجهل بالمسائل الشرعية . وعن الثاني أن عمر رضي الله عنه لم يكن واقفاً على جنونها أيضاً ، فقد روى الإمام أحمد عن عطاء بن السايب عن أبي ظبيان الحصين بن جندب الجنبي أن امرأة أتوابها مأخوذة إلى عمر بجريمة الزنا فحكم برجمها بعدما ثبت ، فقادوها للرجم ، فإذا على لا قاهم في الطريق فسألهم : أين تذهبون بهذه المرأة ؟ فقالوا : إن الخليفة أمر برجمها لثبوت الزنا عنده ، فأخذها الأمير من ايديهم وجاء بها إلى عمر وقال : هذه المرأة مجنونة من بني فلان أنا أعلمها كما هي ، وقال (( رفع القلم عن المجنون حتى يفيق )) فمنع عمر من رجمها . فقد علم أن عمر كان يعلم أن المجنونة لا ترجم ، ولكن لم يكن له علم بجنونها . وعن المحدود بقى حياً بعد الحد ، نعم قد غشى عليه أثناء الحد ، ولذا توهم الناس موته . وعن الرابع أن عدم العلم بشئ لم يحدث من قبل ولم يعين في الشرع حكمه ليس محلاً للطعن ، لأن العلم تابع المعلوم ، وحد شارب الخمر لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم(7/312)
معيناً ومقرراً ، بل كانوا يضربون الشارب بالنعال والجرائد والأسواط ، وقد خمن الصحابة ذلك من زمن أبي بكر بأربعين ضربة ، وقد تعدد شرب الخمر في خلافة عمر فجمع الصحابة كلهم وشاورهم في ذلك فقال الأمير وعبد الرحمن بن عوف : ينبغي أن يكون كحد القذف ثمانين جلدة ، لأن السكران يزول عقله بالسكر فربما يسب أحداً ويشتمه ، فأرتضى جميع الصحابة ذلك الاستنباط وأجمعوا عليه ، وقد ذكر هذه القصة ابن المطهر الحلي أيضاً في ( منهاج الكرامة وبما ذكرنا من أن عمر زاد حد الخمر بقول الأمير أندفع الخامس ، هذا مع أن معرفة جميع الأحكام الشرعية بالفعل ليست شرطاً للإمامة ، بل ولا النبوة ، فقد كانت توحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الأحكام الشرعية على حسب الوقائع . والإمام يعلم بعض الأحكام بالاجتهاد ، وربما يخطئ فيه كما روى الترمذي عن عكرمة أن علياً أحرق قوماً أرتدوا عن الإسلام ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال (( لو كنت أنا لقتلتهم )) فبلغ ذلك علياً فقال (( صدق ابن عباس )) والله تعالى الهادي .
ومنها أن عمر درأ حد الزنا عن المغيرة بن شعبة مع ثبوته بالبينة وهي اربعة رجال ، ولقن الرابع كلمة تدرأ الحد فقد قال له لما جاء للشهادة : أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلاً من المسلمين .(7/313)
والجواب أن درء الحد إنما يكون بعد ثبوته ، ولم يثبت لعدم شهادة الرابع كما ينبغي ، وتلقينه الشاهد كذب وبهتان من أهل العدوان ، إذ قد يثبت في التواريخ المعتبرة كتاريخ البخاري وابن الأثير وغيرهما أنه لما جاء الرابع وهو زياد ابن ابيه قالوا له : أتشهد كأصحابك ؟ قال : أعلم هذا القدر ، إني رأيت مجلساً ونفساً حثيثاً وأنتهازاً ورأيته مستبطنها 0 أى مخفيها تحت بطنه – ورجلين كأنهما أذنا حمار ، فقال عمر : هل رأيت كالميل في المكحلة ؟ قال : لا . وقد وقع ذلك بمحضر الأمير وغيره من الصحابة . فأين التلقين يا أرباب الزور المفترين ؟ ولفظ (( أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلاً من المسلمين )) إنما قاله المغيرة في ذلك الحين كما هو حال الخصم مع الشهود ، ولا سيما إذا كان يترتب عليه حكم موجب لهلاكه . على ان عمر لو درأ الحد لكان فعله لفعل المعصوم ، فقد روى ابن بابويه في ( الفقيه ) أن ردلاً جاء إلى أمير المؤمنين تعالى وأقر بالسرقة إقراراً موجباً للقطع ، فلم يقطع يده ، والله تعالى الهادي .
ومنها أن عمر لم يعط أهل البيت سهمهم من الخمس الثابت بقوله تعالى ] وأعلموا إنما غنمتم من شئ ، فإن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل [ فقد خالف حكم الله تعالى .(7/314)
والجواب أن فعل عمر موافق لفعل النبي صلى الله عليه وسلم . وتحقيقه أن أبا بكر وعمر كانا يخرجان سهم ذوى القربى من الخمس ويعطيانه لفقرائهم ومساكينهم كما كان ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعليه الحنفية وجمع كثير من الإمامية ، وذهب الشافعية إلى أن لهم خمس الخمس يستوى فيه غنيهم وفقيرهم ، ويقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، ويكون بين بني هاشم والمطلب دون غيرهم ، والأمير أيضاً عمل كعمل عمر فقد روى الطحاوى والدارقطني عن محمد بن إسحق أنه قال : سألت أبا جعفر محمد بن الحسين : إن أمير المؤمنين على بن أبي طالب لما ولى أمر الناس كيف كان يصنع في سهم ذوى القربى ؟ فقال : سلك به والله مسلك أبي بكر وعمر . إلى غير ذلك من رواياتهم ، فإذا كان فعل عمر موافقاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم والأمير يكون محلاً للطعن ؟ ومن يضلل الله فلا هادي له ، نسأله تعالى السلامة من الغباوة والوله .
ومنها أن عمر أحدث في الدين ما لم يكن منه كصلاة التراويح وإقامتها بالجماعة ، فإنها بدعة كما أعترف هو بذلك ، وكل بدعة ضلالة . وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد عليه )) .(7/315)
والجواب أنه قد ثبت عند أهل السنة بأحاديث مشهورة متواترة أنه صلى الله عليه وسلم صلة التراويح بالجماعة مع الصحابة ثلاث ليالي من رمضان جماعة ولم يخرج في الليلة الرابعة وقال (( إني خشيت أن تفرض عليكم )) فلما زال هذا المحذور بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أحيى عمر هذه السنة السنية ، وقد ثبت في أصول الفريقين أن (( الحكم إذا كان معللاً بعلة نص الشارع يرتفع ذلك الحكم إذا زالت العلة )) وأعترف عمر بكونها بدعة حيث قال (( نعمت البدعة هي )) فمراده أن المواظبة عليها بالجماعة شئ حديث لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وما ثبت في زمن الخلفاء الراشدين والأئمة المطهرين مما لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم لا يسمى بدعة ، ولو سميت بدعة فهي حسنة ، والحديث مخصوص بإحداث ما لم يكن له اصل في الشرع . ومعلوم أن الشيعة لم يعتقدوا بدعية صلاة الشكر يوم قتل عمر رضي الله عنه ، وهو اليوم التاسع من ربيع الأول ، وتعظيم النيروز ، وتحليل فروج الجوارى ، وحرمان بعض الأولاد من بعض التركه ، إلى غير ذلك من الأمور التى لم تكن في زمنه صلى الله عليه وسلم بناء على زعمهم أن الأئمة أحدثوها . أما أن لا يعتقد أهل السنة بدعية ما أحدثه عمر فلانه عندهم كالأئمة عند الشيعة لقوله صلى الله عليه وسلم (( ومن يعش منكم بعدي فسيرى أختلافاً كثيراً ، فعليك بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ )) والله سبحانه الهادي .
ومنها ان عمر منع من متعة النساء ومتعة الحج ، مع أن كلتا المتعتين كانتا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، فنسخ حكم الله تعالى وحرم ما أحله سبحانه ، بدليل ما ثبت عند أهل السنة من قوله (( متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا أنهي عنهما )) .(7/316)
والجواب أن أصح الكتب عند أهل السنة الصحاح الست ، وأصحها البخاري ومسلم ، وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوعا .وسبرة بن معبد الجهني أنه صلى الله عليه وسلم قد حرم هو المتعة بعد ما كان أحلها ورخصها لهم ثلاثة أيام ، وجعل تحريمها إذ حرمها مؤبداً إلى يوم القيامة . ومثل هذه الرواية في الصحاح الآخر ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من كتب أهل السنة رواية الأئمة عن الأمير بتحريمها ، فإن ادعت الشيعة ان ذلك كان في غزوة خيبر ثم أحلت في غزوة الأوطاس فمردود ، لأن غزوة جيبر كانت مبدأ تحريم لحوم الحمر الأهلية لا متعة النساء ، فقد روى جمع من أهل السنة عن عبد الله والحسن ابني محمد ابن الحنفية عن أبيهما عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال : (( امرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي بتحريم المتعة )) فقد علم ان تحريم المتعة كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين ، فالذى بلغه النهي أمتنع عنها ومن لا فلا ، ولما شاع في عهد عمر أرتكابها أظهر حرمتها واشاعها وهدد من كان يرتكبها . وآيات الكتاب شاهدة على حرمتها وقد سبق ذلك في المسائل الفقيه فنذكر فما في العهد من قدم .(7/317)
والجواب عن متعة الحج – اعنى تادية أركان العمرة مع الحج في سفر واحد في أشهر الحج قبل الرجوع إلى بيته – ان عمر لم يمنعها قط ، ورواية التحريم عنه افتراء صريح . نعم إنه كان برى إفراد الحج والعمرة أولى من جمعها في إحرام واحد وهو القران ، أو في سفر واحد وهو التمتع ، وعليه الإمام الشافعي وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه ، وغيرهم لقوله تعالى ] وأتموا الحج والعمرة لله – إلى قوله – فمن تمتع بالعمرة إلى الحج [ الآية ، فأوجب سبحانه الهدى على المتمتع لا على المفرد جبراً لما فيه من النقصان ، كما أوجبه تعالى في الحج إذا حصل فيه قصور ونقص ، لأنه صلى الله عليه وسلم حج في حجة الوداع منفرداً واعتمر في عمرة القضاء وعمرة جعرانة كذلك ولم يحج فيها بل رجع إلى المدينة مع وجود المهلة . وأما ما رووا من قول عمر(( وأنا أنهي عنهما )) فمعناه أن الفسقة وعوام الناس لا يبالون بنهي الكتاب وهو قوله تعالى ] فمن أبتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ وقوله تعالى ( 1 ) ] وأتموا الحج والعمرة لله [ إلا أن يحكم عليهم الحاكم والسلطان ويجبرهم على مراعاة ما أمروا به وما نهوا عنه فلذلك أضاف النهي إلى نفسه ، فقد تبين لك ولله تعالى الحمد زيف أقوالهم وظهر لك مزيد ضلالهم ، والحق يعلو وكلمة الصدق تسمو .
------------------------
( 1 ) منها قوله عز وجل للهادي الأعظم صلى الله عليه وسلم ] ووجدك ضالاً فهدى [ .(7/318)
( 2 ) وقد نبه السيد الحاج عمر نائب القضاء للدولة العثمانية في مدينة بغداد عند طبع هذا المختصر في الهند سنة 1315 على أن جميع روايات هذا الحديث مروية عن ابن عباس ، وأنه كان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم صغير السن ، ولذلك نقلت عنه الواقعة بألفاظ مختلفة . وأن عمر كان يعلم أن العباس كان له هوى في أن يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم قول في أستخلافه أو أستخلاف يصرح النبي صلى الله عليه وسلم باسم أبي بكر فيدخل من ذلك في أبي بكر دل عليه تقديمه للصلاة بالناس . فخشى عمر أن يصرح النبي صلى الله عليه وسلم باسم ابي بكر فيدخل من ذلك شئ من الحزن على نفس العباس ، فأراد أن يبقى هذا الآمر لتقدير الله عز وجل ، والذى يريده الله لهذه الأمة فلن يكون غيره . وهذا ما وقع بالفعل والحمد لله على ما كان ، وقد كان به الخير كله لهذا الدين وأهله . ورضي الله عن الخلفاء الراشدين كلهم وعن صحابة رسول الله أجمعين .
================
عمر رضي الله عنه ورزية الخميس(7/319)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن مغالطات الشيعة لأهل السنة في الأصول والفروع كثيرة شديدة البعد عن الصواب. وهي تشير إلى محاولات جادة ومستمرة لتكوين مجتمع قائم على مذهب التشيع منفصل عن الأمة الإسلامية. ومن تلك الأمور التي خالفوا فيها إجماع أهل السنة تكفيرهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً منهم. هؤلاء الذين قال الله تعالى فيهم: )وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"، وقال تعالى: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا(.
إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم حملة هذا الدين وورثة النبي الكريم المبلغين رسالته والناشرين دعوته، والرافعين رايته، والمجاهدين في سبيل الله، والممدوحين في كلام الله، والذين اتبعوهم من بعدهم ساروا على دربهم واقتدوا بهم، وهم السواد الأعظم من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . فتكفيرهم تكذيب لله ولرسوله.(7/320)
ولقد عمّم الإمامية تكفيرهم للناس حتى طال كل من لم يؤمن بأصول الشيعة ولم يكن اثني عشرياً. وهذا أحد كبرائهم وهو نعمة الله الجزائري يقول: (الإمامية قالوا بالنص الجلي على إمامة علي، وكفروا الصحابة، ووقعوا فيهم وساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق وبعده إلى أولاده المعصومين)[1]. وقال عن أهل السنة: (إنهم كفار أنجاس بإجماع علماء الشيعة الإمامية، وإنهم شر من اليهود والنصارى. وإن من علامات الناصبي تقديم غير علي عليه في الإمامة)[2]. ويقول المظفر صاحب العقائد المشهورة: (مات النبي صلى الله عليه وسلم ولا بد أن يكون المسلمون كلهم -لا أدري الآن- قد انقلبوا على أعقابهم)[3]. ويقول عبد الله شبر كتابه تاج الفقهاء: (وأما سائر المخالفين ممن لم ينصب ولم يعاند ولم يتعصب فالذي عليه جملة من الإمامية كالسيد المرتضى أنهم كفار في الدنيا والآخرة، والذي عليه الأكثر الأشهر أنهم كفار مخلدون في الآخرة). اهـ
وخصصوا بالنكير والتكفير أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وهما اللذان ورد في الصحاح من فضائلهما أحاديث كثيرة مشهورة، ولو لم يرد في أبي بكر سوى حديث عدل إيمانه بإيمان الأمة وفي عمر غير قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه "لو كان نبي بعدي لكان عمر" لكفاهما. ولكن ما أشار إليه القرآن الكريم في ذلك أقوى وأبلغ كذكر أبي بكر في الغار عند الهجرة، واختيار الله ورسوله له ليصحب النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة. وحكم الله تعالى لعمر في المسائل الثلاث المشهورة. كل ذلك في فضلهما وعظيم شأنهما عند الله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.(7/321)
واعتمادهم في الطعن على سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتكفيره هو على حديث البخاري في حادثة الكتابة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته. فقد ادعوا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه (يَهْجُر). وهو مجرد ادعاء واتهام عار عن الصحة كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
أولاً: مما ورد في الطعن على سيدنا عمر من كتب الشيعة في هذه الحادثة:
1- يقول الخميني:
(عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراش المرض، ويحف به عدد كثير، قال مخاطباً الحاضرين: تعالوا أكتب لكم شيئاً يحميكم من الوقوع في الضلالة، فقال عمر بن الخطاب: لقد هجر رسول الله. وقد نقل نص هذه الرواية المؤرخون وأصحاب الحديث من البخاري ومسلم وأحمد مع اختلاف في اللفظ، وهذا يؤكد أن هذه الفرية صدرت من ابن الخطاب المفتري. الواقع أنهم ما أعطوا الرسول حق قدره… الرسول الذي كد وجد وتحمل المصائب من أجل إرشادهم وهدايتهم، وأغمض عينيه وفي أذنيه كلمات ابن الخطاب القائمة على الفرية والنابعة من الكفر والزندقة). اهـ[4]
2- ويقول ابن المطهر الحلي:
(المطلب الثاني: في المطاعن التي نقلها السنة عن عمر بن الخطاب. نقل الجمهور عن عمر مطاعن كثيرة منها قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم لما طالب في حال مرضه دواة وكتفاً ليكتب فيه كتاباً لا يختلفون بعده وأراد أن ينصّ حال موته على علي ابن أبي طالب "ع"، فمنعهم عمر وقال: إن رسول الله ليهجر حسبنا كتاب الله. فوقعت الغوغاء وضجر النبي فقال أهله: لا ينبغي عند النبي الغوغاء. فاختلفوا فقال بعضهم: أحضروا ما طلب، ومنع آخرون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ابعدوا. هذا الكلام في صحيح مسلم. وهل يجوز مواجهة العامي بهذا السفه فكيف بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ). اهـ [5]
3- ويقول العاملي البياضي في مطاعن عمر:(7/322)
(وثالثها أن الغوغاء لم تكن بطلب الكتاب بل بالمخالفة كما أخرجه البخاري وغيره من قول بني هاشم قربوا إليه كتاباً وقول عمر ومن معه لا ندعه يكتب وإنه قد هجر … وهذا آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد قال الله: )إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ(. اهـ [6]
4- ويقول القاضي نور الدين التستري:
(وذلك لأن أول من سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه هو عمر بن الخطاب خليفة…حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : آتوني بدواة وكتف لأكتب كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله).اهـ[7]
5- وذكر مثل ذلك الأربلي في كتابه كشف الغمة.[8]
ثانياً: نص حديث البخاري ومسلم المتفق عليه والروايات الأخرى
سنذكر ههنا نص الحديث كما ورد في المصادر الحديثية لا كما أوردها الشيعة الامامية، وذلك لكي يتبين للقارئ الكريم ما وقع فيه الشيعة من مجانبة للحق والصواب في هذا المطلب العظيم.
- (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هلمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده"، فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا؛ فمنهم من يقول قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر؛ فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قوموا". قال عبيد الله فكان يقول ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم)[9](7/323)
- وفي رواية عند البخاري قال صلى الله عليه وسلم عندما كثر عنده اللغط: (دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. قال الراوي ونسيت الثالثة). [10]
- وفي رواية أخرى للبخاري: (ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما له أهجر؟ استفهموه. فقال: ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه).[11]
- وفي رواية أخرى للبخاري أن من قال إن رسول الله وجع بعض الرجال دون نسبة هذا القول لعمر؛ وفيها أن طائفة من أهل البيت كانت مع عمر في رواية جاء فيها: (لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فقال صلى الله عليه وسلم : "هلمّوا أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده". فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده، ومنهم من يقول غير ذلك. فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا).[12]
- وفي رواية عند الحاكم في المستدرك: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "توني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً"ثم ولانا قفاه، ثم أقبل علينا فقال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"). [13]
وهذا يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب شيئاً من ذلك الكتاب والذي يتضمن استخلاف أبي بكر لا كما تدعي الشيعة.
- وفي رواية "البيهقي" جاءت كلمة هجر بصيغة السؤال:
(قالوا ما شأنه أهجر؟ استفهموه. فذهبوا يفدون عليه. قال: "دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه").[14]
- وفي رواية له:
(فقال بعض من كان عنده إن نبي الله ليهجر).[15] وكذا عند الطبري.[16] وعند الإمام أحمد بصيغة (فقالوا ما شأنه أهجر…)[17].(7/324)
- وفي مسند الحميدي من حديث ابن عباس (فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا ما شأنه أهجر استفهموه…).
- وعند أبي يعلى من غير لفظة (هجر) ولا (وجع) من حديث ابن عباس: (اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: "ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده". فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقال: "دعوني، فما أنا فيه خير مما تسألون عنه". قال أمرهم بثلاث)[18].
ثالثاً: ما نستخلصه من مجموع هذه الروايات ما يلي:
1. قوله في الحديث "هجر رسول الله" -أي هذي- لم تنسب إلى عمر بن الخطاب في أي رواية لا في الصحيحين ولا في غيرهما من كتب أهل السنة كما يدعي علماء الشيعة، وكما يدعي الكاتب الأمين في نقله حيث يقول: (فوجدتها مثبتة في الصحيحين). نعم هي مثبتة في الصحيحين لكن لا بلفظ هجر عن سيدنا عمر الذي هو محل الكلام، فماذا يسمى هذا في عرف أهل العلم؟ وإنما نسبت لبعض الرجال الحاضرين كما في رواية الشيخين. والأصح كما يقول الإمام النووي والسيوطي والقاضي عياض رواية (أهجر) بالهمز أي بالاستفهام اعتراضاً على من رفض الكتابة للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي هل يمكن أن يهذي حتى تمنعوا عن أن تحضروا دواة ليكتب لنا الكتاب؟
وقال الإمام النووي: (وإن صحت الروايات الأخرى كانت خطأ من قائلها، قالها بغير تحقيق بل لما أصابه من الحيرة والدهشة لعظيم ما شاهده من النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحال الدالة على وفاته وعظيم المصاب وخوف الفتن والضلال بعده)اهـ[19]
ولك أن تقارن بين موقف أهل السنة من هذه الروايات ومحاولة حملها على معانٍ تليق بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وموقف الشيعة الذين شنعوا على الصحابة وطعنوا عليهم وقوّلوهم ما لم يثبت أنهم قالوه.(7/325)
2. قول عمر "إنه وجع" عند البخاري ومسلم، معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعب والكتاب الذي سيكتبه سيطول ويؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطيل مرضه ولا نريد أن نؤذي رسول الله، فسيكتبه عندما يصح من وعكته، فإن الله لا يقبضه قبل إكمال الرسالة. وعمر لم يكن يتوهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل عدم تصديقه لخبر وفاته عندما أعلن عنها، فعدم كتابة ذلك كان شفقة برسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يتأذى لأن الكتابة ستطول. ولا يخفى أن إثبات لفظ الوجع من عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه منقصة له عليه الصلاة والسلام.
3. إن رفض الكتابة لم يكن من عمر وحده فالروايات كما مر ذكرت "أهل البيت" و"بعض القوم". وهو شامل لكل من حضر في البيت كما ذكر في الصحيحين وغيره وحمله على عمر دون غيره تحكم ظاهر.(7/326)
4. أمره عليه الصلاة والسلام لم يكن على وجه الوجوب وإنما على وجه الندب؛ كما بين الإمام المازري والقرطبي ذلك لقرائن فَهِمَها بعض الصحابة الذين رفضوا الكتابة، بينما ظن الباقون إنها للوجوب؛ فحمَلها مَن منعَ الكتابة على الندب كما حملوا قوله عليه السلام: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة". فكرهوا أن يكلفوه وهو في تلك الحالة مع استحضار قوله تعالى: )مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ(. والذي يدل على أن أمره كان للندب عدم إنكاره عليه الصلاة والسلام لمن خالف أمره لأن النبي لا يقر مخالفة الواجب إجماعاً واتفاقاً، وبقاؤه حياً أربعة أيام بعد ذلك دون أن يكتب كما نص على ذلك الإمام البخاري.[20] ولو كان أمره واجباً والله أمره بالكتابة لما توانى لحظة عن الكتابة ولعاد إلى الطلب مراراً، وهو المأمور بتبليغ ما أمر به. وهذا موافق لما فهمه سيدنا علي في صلح الحديبية عندما أمره صلى الله عليه وسلم بمحي كلمة رسول الله فلم يفعل ذلك سيدنا علي لحمله "على تقديم الأدب على الامتثال" كما ذكره أهل السنة. وإليك الفقرة من الحديث كما رواها أهل السنة والشيعة: عندما رفض المشركون كتابة "محمد رسول الله": ( فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله؛ لو كنت رسولاً لم نقاتلك. فقال لعلي: "امحه". فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه. فمحاه رسول الله بيده …)[21]. وفي كتب الشيعة مثل ذلك: ( امح يا علي واكتب محمد بن عبد الله. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أمحو اسمك من النبوة أبداً فمحاه رسول الله بيده). اهـ [22]
5. أنه عليه الصلاة والسلام عندما قال: ( دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه)، ليس إنكاراً على من رفض الكتابة، وإنما معناه: اتركوني لأتفكر وأذكر ربي وأحمده خير من هذا اللجاج. فمراقبة الله تعالى والاستعداد للقائه أفضل من اللجاج.(7/327)
6. أنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين أوصى قبل موته وصيته المشهورة بإخراج المشركين من جزيرة العرب وإجازة الوفد والثالثة التي نسيها الراوي. مما يدل على نسخ أمر الله له بالكتابة وإلا لكتب كما أملى وصيته.
7. أنه صلى الله عليه وسلم ربما أملى شيئاً من هذا الكتاب كما ذكر الحاكم في المستدرك: (أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، ثم ولانا قفاه؛ ثم أقبل علينا فقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) ولم يمل غير ذلك؛ فكان باستطاعته أن يكمل الإملاء وقد عرفنا الكتاب ومضمونه فجعل الاستخلاف لأبي بكر دون غيره.
8. قال الإمام النووي: (وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق علماء المتكلمين في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها؛ فقال عمر: حسبنا كتاب الله. لقوله تعالى: ) مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ (، وقوله تعالى: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة).[23](7/328)
9. لو كان مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه – من أصول دينهم، كما يدعي الشيعة بأن الإمامة إنما هي المصححة للتكليف- لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره لقوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ(، وقوله تعالى: )الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ(. وهو صلى الله عليه وسلم لم يترك ذلك لمخالفة من خالفه من المشركين واليهود ومعاداة من عاداه، فبأولى أن لا يتركه ههنا. ثم قبل ذلك وبعده لا يتصور منه صلى الله عليه وسلم أن يكتم شيئاً مما أمر بتبليغه، لأن ذلك مما يستحيل في حقه كما هو مبيّن في عقائد أهل السنة كأصل من أصول دينهم.
10. إن قول عمر كان لتحصيل الأمة فضيلة الاجتهاد ولئلا يسد هذا الباب الذي أصّله لهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا اجتهد الحاكم) الحديث.
11. إن أمره عليه الصلاة والسلام لصحابته بالكتابة أمر اجتهادي منه، وليس تبليغاً من الله تعالى، ويدل على ذلك أن عمر اجتهد سابقاً مخالفاً للحكم الظاهر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونزل القرآن بموافقته فظن عمر أن هذا المقام كتلك المقامات بأنه أمر اجتهادي من الرسول صلى الله عليه وسلم ، يرجع فيه إلى المقاصد والأصول العامة للدين، لا أمر منصوص عليه مقطوع به. والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه عدم كتابة ذلك فدل على أن الأمر كما ظن عمر بدليل إقراره عليه السلام بالسكوت.(7/329)
12. قال الإمام النووي: (وقول عمر حسبنا كتاب الله رد على من نازعه لا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم ) اهـ[24]. وهذا حمل لطيف لكلام عمر رضي الله عنه ، لما أن مهابته عليه السلام وإجلاله في قلوب الصحابة كانت أكبر من أن يواجه بالرد. على أن كلام عمر إذا تصورناه قيل بلطف لرسول الله، فليس فيه ما يشكل أبداً. وكلام النووي أن عمر قد جادله بعض الصحابة وأنكروا عليه مستدلين بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يستحيل عليه أن يهذي فلم تمنعنا من الكتابة، فأجابهم عمر: "حسبنا كتاب ربنا"، أي )تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ( كما قال الله تعالى. ويؤخذ من هذا الفهم عدم نسبة قول (أهجر؟) لسيدنا عمر رضي الله عنه بل لمن نازعه في منعه من الكتابة.
13. ثم إنه صلى الله عليه وسلم لو نص على شيء أو أشياء لم يرفع ذلك الخلاف كما يقول ابن الجوزي، لأن الحوادث لا يمكن حصرها فهذا دليل على عدم جزمه عليه الصلاة والسلام بما أمر. أي أن الاختلاف سنة كونية باقية قطعاً فلو نص الرسول صلى الله عليه وسلم على ما أراد التنصيص عليه لما رفع الخلاف ولأوهم الخطأ والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله، ولكان مبرراً قوياً للطعن فيه وفي هذا الدين العظيم.
14. قال الخطابي في الحديث:(7/330)
( لا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ظن ذلك مما لا يليق به بحال، ولكنه لما رأى ما غلب على رسول الله من الوجع وقرب الوفاة مع ما اعتراه من الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه فيجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام في الدين وقد كان أصحابه عليه الصلاة والسلام يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم، كما راجعوه في يوم الحديبية في الخلاف وفي كتاب الصلح بينه وبين قريش، فأما إذا أمر بالشيء أمر عزيمة فلا يراجعه فيه أحد منهم. قال: وأكثر العلماء على أنه يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه، وقد أجمعوا كلهم على أنه لا يقر عليه. قال: ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان الله تعالى قد رفع درجته فوق الخلق كلهم فلم ينزهه عن سمات الحدث والعوارض البشرية، وقد سها في الصلاة، فلا ينكر أن يظن به حدوث بعض هذه الأمور في مرضه فيتوقف في مثل هذا الحال حتى تتبين حقيقته؛ فلهذه المعاني وشبهها راجعه عمر رضي الله عنه ).[25]
15. أن الإمامية أنفسهم نسبوا لبعض أئمتهم ما رموا به عمر من نسبة الهذيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذه رواية روتها كتب الشيعة الإمامية في حق أحد الأئمة وهو معصوم عندهم؛ ولا فرق بينه وبين النبي إلا بالوحي. تأمل. فقد قال ابن طاوس شرف العترة وركن الإسلام: (ومن ذلك في دلائل علي بن الحسين عليه السلام ما رويناه بإسنادنا إلى الشيخ أبي جعفر بن رستم قال: حضر علي بن الحسين الموت فقال لولده: يا محمد أي ليلة هذه… ثم دعا بوضوء فجيء به، فقال: إن فيه فأرة، فقال بعض القوم إنه يهجر فجاءوا بالمصباح..). اهـ[26]
فانظر كيف أثبتوا لمعصوم عندهم بألسنتهم ما استشنعوه في حق معصوم آخر، على فرض ثبوته.(7/331)
16. لا يستقيم أن يكون سيدنا عمر قد ارتكب خطأ جسيماً في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يقابل من سيدنا علي رضي الله عنه بهذا الثناء، كما ورد في نهج البلاغة، وكما هو مثبت في غيره من الكتب المعتمدة هند الشيعة؛ حتى أنه لفرط محبته له ولبقية الخلفاء الراشدين وتقديره لهم سمى بعض أبنائه أبا بكر، وعمر، وعثمان. وزوج ابنته من السيد فاطمة (أم كلثوم) من سيدنا عمر رضي الله عنه . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)، فهل يكون هذا فعل معصوم قد علم إساءة هؤلاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل وفسقهم وتآمرهم على الدين وردتهم، فيقابلهم بالمحبة والتقدير والثناء. والحمد لله رب العالمين.
ملحوظة: قولنا في (15) تأمل، للفت النظر أنا وجدنا في بعض روايات الشيعة ما يفهم منه إثبات أن الأئمة يوحى إليهم أيضاً تماماً كالأنبياء، من ذلك ما رواه الكليني كذباً عن بعض الأئمة من قوله: (إن الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء صباحاً ومساء)[27]. وغير ذلك بل وأعظم من ذلك كما سيأتي في الكلام عن غلوهم. اهـ جوابهما عن الشبهة الأولى.
--------------------------------------------------
1- الأنوار النعمانية 2/244
2- الأنوار النعمانية 2/206
3- كتابه السقيفة ص87
1- كشف الأسرار ص 137
2- نهج الحق ص 273
1- الصراط المستقيم ج3 / ص6
2- الصوارم المهرقة ص 224
3- كشف الغمة ج1/420
1- صحيح مسلم 3 /1259. دار إحياء التراث، وصحيح البخاري 5/2146 دار ابن كثير
2- صحيح البخاري 3/1111.
3- صحيح البخاري 3/ 1155.
1- صحيح البخاري 4/ 1612.
2- المستدرك على الصحيحين 3/542.
3- السنن الكبرى 4/ 433.
1- الطبقات الكبرى ج2/ ص242
2- التاريخ ج2 / ص228
3- مسند الإمام أحمد 1/222
4- مسند أبي يعلى 4/ 298
1- شرح صحيح مسلم 11/93(7/332)
1- صحيح البخاري من حديث سعيد بن جبير فتح الباري 8/133
2- فتح الباري 5/303
3- الإرشاد 1/ 121. وإعلام الورى 97. وتفسير القمي 2/313.
1- شرح صحيح مسلم 11/90.
1- شرح مسلم 11/93
1- شرح مسلم 11/91.
1- فرج المهموم ص 228
1- الكافي ج2/10
===============
الرد على كذب الشيعة ان سيدنا عمر انهزم في غزوة حنين
ذكر احد الرافضة أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فر وانهزم من معركة حنين وهذا الحديث أدناه يدل على ذلك
(4067) - وقال الليث: حدثني يحيى بن سعيد، عن عمر بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد، مولى أبي قتادة قال: لما كان حنين، نظرت إلى رجل من المسلمين، يقاتل رجلا من المشركين، وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله، فأسرعت إلى الذي يختله، فرفع يده ليضربني، وأضرب يده فقطعتها، ثم أخذني فضمني ضما شديدا حتى تخوفت، ثم ترك، فتحلل، ودفعته ثم قتلته، وانهزم المسلمون وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ قال: أمر الله، ثم تراجع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه). فقمت لألتمس بينة على قتيلي، فلم أر أحدا يشهد لي فجلست، ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي، فأرضه منه، فقال أبو بكر: كلا، لا يعطه أصيبغ من قريش ويدع أسدا من أسد الله، يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأداه إلي، فاشتريت منه خرافا، فكان أول مال تأثلته في الإسلام. صحيح البخاري
الرد عليهم
في البداية يجب ان نعرف ان هذه الرواية التي وردت في البخاري قد تناولها الامام ابن حجر صاحب كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري جاءت من ضمن روايتين ساضعهما ثم اضع تعليق الامام ابن حجر عليهما
الرواية الاولى(7/333)
الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حُنَيْنٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَضَرَبْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ مَا بَالُ النَّاسِ قَالَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ رَجَعُوا وَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ فَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ قَالَ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ فَقُمْتُ فَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ قَالَ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ فَقُمْتُ فَقَالَ مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ رَجُلٌ صَدَقَ وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنِّي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَاهَا اللَّهِ إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ فَأَعْطِهِ فَأَعْطَانِيهِ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَام(7/334)
الرواية الثانية التي رواها الليث ( التي استشهد بها الرافضي )
ِ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَآخَرُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَخْتِلُهُ مِنْ وَرَائِهِ لِيَقْتُلَهُ فَأَسْرَعْتُ إِلَى الَّذِي يَخْتِلُهُ فَرَفَعَ يَدَهُ لِيَضْرِبَنِي وَأَضْرِبُ يَدَهُ فَقَطَعْتُهَا ثُمَّ أَخَذَنِي فَضَمَّنِي ضَمًّا شَدِيدًا حَتَّى تَخَوَّفْتُ ثُمَّ تَرَكَ فَتَحَلَّلَ وَدَفَعْتُهُ ثُمَّ قَتَلْتُهُ وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَانْهَزَمْتُ مَعَهُمْ فَإِذَا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي النَّاسِ فَقُلْتُ لَهُ مَا شَأْنُ النَّاسِ قَالَ أَمْرُ اللَّهِ ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ فَقُمْتُ لِأَلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي فَجَلَسْتُ ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ سِلَاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَلَّا لَا يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ(7/335)
فقد كتب الامام ابن حجر معلقا على الرواية الثانية (رواية الليث )
واقتبس من رده
(، وقد أطلق في رواية الليث الآتية بعدها أنهم انهزموا، لكن بعد القصة التي ذكرها أبو قتادة، وقد تقدم في حديث البراء أن الجميع لم ينهزموا.) انتهى الاقتباس
واضيف انه من الواجب لمن اراد ان يفهم الحديث ان يتتبع طرق الحديث الاخرى والاحاديث المتصلة بموضوع الحديث لكي يسهل فهم ما جاء بالحديث وتجميع اجزاء الصورة من الجوانب المختلفة .
وهنا حديث البراء وشرحه الذي اشاراليه الامام ابن حجر رحمه الله
وقد ورد ضمن الشرح ان من ممن ثبتوا يوم حنين سيدنا ابوبكر وعمر وعلي رضي الله عنهم الرواية مع شرح الامام ابن حجر رحمه الله الواردة في فتح الباري، شرح صحيح البخاري، للإمام ابن حجر العسقلاني
الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عُمَارَةَ أَتَوَلَّيْتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُوَلِّ وَلَكِنْ عَجِلَ سَرَعَانُ الْقَوْمِ فَرَشَقَتْهُمْ هَوَازِنُ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِرَأْسِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ يَقُولُ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
الشرح: حديث البراء، قوله: (عن أبي إسحاق) هو السبيعي، ومدار هذا الحديث عليه، وقد تقدم في الجهاد من وجه آخر عن سفيان وهو الثوري قال: " حدثني أبو إسحاق".
قوله: (وجاءه رجل) لم أقف على اسمه، وقد ذكر في الرواية الثالثة أنه من قيس.
قوله: (يا أبا عمارة) هي كنية البراء.(7/336)
قوله: (أتوليت يوم حنين) الهمزة للاستفهام وتوليت أي انهزمت، وفي الرواية الثانية " أوليتم مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين " وفي الثالثة " أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكلها بمعنى.
قوله: (أما أنا فأشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يول) تضمن جواب البراء إثبات الفرار لهم، لكن لا على طريق التعميم، وأراد أن إطلاق السائل يشمل الجميع حتى النبي صلى الله عليه وسلم لظاهر الرواية الثانية، ويمكن الجمع بين الثانية والثالثة بحمل المعية على ما قبل الهزيمة فبادر إلى استثنائه ثم أوضح ذلك، وختم حديثه بأنه لم يكن أحد يومئذ أشد منه صلى الله عليه وسلم.
قال النووي: هذا الجواب من بديع الأدب، لأن تقدير الكلام فررتم كلكم.
فيدخل فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال البراء: لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن جرى كيت وكيت، فأوضح أن فرار من فر لم يكن على نية الاستمرار في الفرار، وإنما انكشفوا من وقع السهام وكأنه لم يستحضر الرواية الثانية.
وقد ظهر من الأحاديث الواردة في هذه القصة أن الجميع لم يفروا كما سيأتي بيانه، ويحتمل أن البراء فهم من السائل أنه اشتبه عليه حديث سلمة بن الأكوع الذي أخرجه مسلم بلفظ " ومررت برسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما " فلذلك حلف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يول، ودل ذلك على أن منهزما حال من سلمة، ولهذا وقع في طريق أخرى " ومررت برسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما وهو على بغلته فقال: لقد رأى ابن الأكوع فزعا " ويحتمل أن يكون السائل أخذ التعميم من قوله تعالى: (ثم وليتم مدبرين) فبين له أنه من العموم الذي أريد به الخصوص.(7/337)
قوله: (ولكن عجل سرعان القوم فرشقتهم هوازن) فأما سرعان فبفتح المهملة والراء، ويجوز سكون الراء، وقد تقدم ضبطه في سجود السهو في الكلام على حديث ذي اليدين، والرشق بالشين المعجمة والقاف رمي السهام، وأما هوازن فهي قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون ينسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بمعجمة ثم مهملة ثم فاء مفتوحات ابن قيس بن عيلان بن إلياس بن مضر، والعذر لمن انهزم من غير المؤلفة أن العدو كانوا ضعفهم في العدد وأكثر من ذلك، وقد بين شعبة في الرواية الثالثة السبب في الإسراع المذكور قال: كانت هوازن رماة، قال: وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا.
وللمصنف في الجهاد " انهزموا " قال: " فأكببنا " وفي روايته في الجهاد في باب من قاد دابة غيره في الحرب " فأقبل الناس على الغنائم فاستقبلونا بالسهام"، وللمصنف في الجهاد أيضا من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق تكملة السبب المذكور قال: " خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا - بضم المهملة وتشديد السين المهملة - ليس عليهم سلاح، فاستقبلهم جمع هوازن وبني نضر ما يكادون يسقط لهم سهم، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون " الحديث.
وفيه " فنزل واستنصر، ثم قال: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.
ثم وصف أصحابه " وفي رواية مسلم من طريق زكريا عن أبي إسحاق " فرموهم برشق من نبل كأنها رجل جراد فانكشفوا " وذكر ابن إسحاق من حديث جابر وغيره في سبب انكشافهم أمرا آخر، وهو أن مالك بن عوف سبق بهم إلى حنين فأعدوا وتهيأوا في مضايق الوادي، وأقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين.
وفي حديث أنس عند مسلم وغيره من رواية سليمان التيمي عن السميط عن أنس قال: " افتتحنا مكة، ثم إنا غزونا حنينا، قال: فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت: صف الخيل، ثم المقاتلة، ثم النساء من وراء ذلك، ثم الغنم ثم النعم.(7/338)
قال: ونحن بشر كثير، وعلى ميمنة خيلنا خالد بن الوليد، فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا فلم نلبث أن انكشفت خيلنا وفرت الأعراب ومن تعلم من الناس " وسيأتي للمصنف قريبا من رواية هشام بن زيد عن أنس قال: " أقبلت هوازن وغطفان بذراريهم ونعمهم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف ومعه الطلقاء، قال: فأدبروا عنه حتى بقي وحده " الحديث.
ويجمع بين قوله: " حتى بقي وحده " وبين الأخبار الدالة على أنه بقي معه جماعة بأن المراد بقي وحده متقدما مقبلا على العدو، والذين ثبتوا معه كانوا وراءه، أو الوحدة بالنسبة لمباشرة القتال، وأبو سفيان بن الحارث وغيره كانوا يخدمونه في إمساك البغلة ونحو ذلك.
ووقع في رواية أبي نعيم في " الدلائل " تفصيل المائة: بضعة وثلاثون من المهاجرين والبقية من الأنصار ومن النساء أم سليم وأم حارثة.
قوله: (وأبو سفيان بن الحارث) أي ابن عبد المطلب بن هاشم وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامه قبل فتح مكة لأنه خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه في الطريق وهو سائر إلى فتح مكة فأسلم وحسن إسلامه، وخرج إلى غزوة حنين فكان فيمن ثبت.
وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة قال: لما فر الناس يوم حنين جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، فلم يبق معه إلا أربعة نفر، ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم: علي والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر.
قال: وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل.
وروى الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال: " لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولين، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل " وهذا أكثر ما وقفت عليه من عدد من ثبت يوم حنين.(7/339)
وروى أحمد والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس؛ وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا، ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة " وهذا لا يخالف حديث ابن عمر فإنه نفى أن يكونوا مائة، وابن مسعود أثبت أنهم كانوا ثمانين، وأما ما ذكره النووي في شرح مسلم أنه ثبت معه اثنا عشر رجلا فكأنه أخذه مما ذكره ابن إسحاق في حديثه أنه ثبت معه العباس وابنه الفضل وعلي وأبو سفيان بن الحارث وأخوه ربيعة وأسامة بن زيد وأخوه من أمه أيمن ابن أم أيمن، ومن المهاجرين أبو بكر وعمر، فهؤلاء تسعة، وقد تقدم ذكر ابن مسعود في مرسل الحاكم فهؤلاء عشرة، ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط وذلك قوله: نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا وعاشرنا وافى الحمام بنفسه لما مسه في الله لا يتوجع ولعل هذا هو الثبت، ومن زاد على ذلك يكون عجل في الرجوع فعد فيمن لم ينهزم، وممن ذكر الزبير بن بكار وغيره أنه ثبت يوم حنين أيضا جعفر بن أبي سفيان بن الحارث وقثم بن العباس وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وشيبة بن عثمان الحجبي، فقد ثبت عنه أنه لما رأى الناس قد انهزموا استدبر النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، فأقبل عليه فضربه في صدره وقال له: قاتل الكفار، فقاتلهم حتى انهزموا.
قال الطبري: الانهزام المنهي عنه هو ما وقع على غير نية العود وأما الاستطراد للكثرة فهو كالتحيز إلى فئة.قوله: (آخذ برأس بغلته) في رواية زهير " فأقبلوا أي المشركون هنالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته البيضاء وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل واستنصر".(7/340)
قال العلماء: في ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة يومئذ دلالة على النهاية في الشجاعة والثبات.
وقوله: " فنزل " أي عن البغلة " فاستنصر " أي قال: اللهم أنزل نصرك.
وقع مصرحا به في رواية مسلم من طريق زكريا عن أبي إسحاق.
وفي حديث العباس عند مسلم " شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث فلم نفارقه " الحديث، وفيه " ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال العباس: وأنا آخذ بلجام رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه " ويمكن الجمع بأن أبا سفيان كان آخذا أولا بزمامها فلما ركضها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشركين خشي العباس فأخذ بلجام البغلة يكفها، وأخذ أبو سفيان بالركاب وترك اللجام للعباس إجلالا له لأنه كان عمه.
قوله: (بغلته) هذه البغلة هي البيضاء، وعند مسلم من حديث العباس " وكان على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي " وله من حديث سلمة " وكان على بغلته الشهباء " ووقع عند ابن سعد وتبعه جماعة ممن صنف السيرة أنه صلى الله عليه وسلم كان على بغلته دلدل، وفيه نظر لأن دلدل أهداها له المقوقس؛ وقد ذكر القطب الحلبي أنه استشكل عند الدمياطي ما ذكره ابن سعد فقال له: كنت تبعته فذكرت ذلك في السيرة وكنت حينئذ سيريا محضا، وكان ينبغي لنا أن نذكر الخلاف.
قال القطب الحلبي: يحتمل أن يكون يومئذ ركب كلا من البغلتين إن ثبت أنها كانت صحبته، وإلا فما في الصحيح أصح.
ودل قول الدمياطي أنه كان يعتقد الرجوع عن كثير مما وافق فيه أهل السير وخالف الأحاديث الصحيحة، وأن ذلك كان منه قبل أن يتضلع من الأحاديث الصحيحة ولخروج نسخ من كتابه وانتشاره لم يتمكن من تغييره.
وقد أغرب النووي فقال: وقع عند مسلم " على بغلته البيضاء " وفي أخرى " الشهباء " وهي واحدة ولا نعرف له بغلة غيرها.(7/341)
وتعقب بدلدل فقد ذكرها غير واحد، لكن قيل إن الاسمين لواحدة.
قوله: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) قال ابن التين: كان بعض أهل العلم يقوله بفتح الباء من قوله: " لا كذب " ليخرجه عن الوزن، وقد أجيب عن مقالته صلى الله عليه وسلم هذا الرجز بأجوبة أحدها أنه نظم غيره، وأنه كان فيه: أنت النبي لا كذب أنت ابن عبد المطلب، فذكره بلفظ " أنا " في الموضعين.
ثانيها أن هذا رجز وليس من أقسام الشعر، وهذا مردود.
ثالثها أنه لا يكون شعرا حتى يتم قطعة، وهذه كلمات يسيرة ولا تسمى شعرا.
رابعها أنه خرج موزونا ولم يقصد به الشعر، وهذا أعدل الأجوبة، وقد تقدم هذا المعنى في غير هذا المكان، ويأتي تاما في كتاب الأدب.
وأما نسبته إلى عبد المطلب دون أبيه عبد الله فكأنها لشهرة عبد المطلب بين الناس لما رزق من نباهة الذكر وطول العمر، بخلاف عبد الله فإنه مات شابا، ولهذا كان كثير من العرب يدعونه ابن عبد المطلب، كما قال ضمام بن ثعلبة لما قدم: أيكم ابن عبد المطلب وقيل لأنه كان اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله ويهدي الله الخلق على يديه ويكون خاتم الأنبياء، فانتسب إليه ليتذكر ذلك من كان يعرفه، وقد اشتهر ذلك بينهم، وذكره سيف بن ذي يزن قديما لعبد المطلب قبل أن يتزوج عبد الله آمنة وأراد النبي صلى الله عليه وسلم تنبيه أصحابه بأنه لا بد من ظهوره وأن العاقبة له لتقوى قلوبهم إذا عرفوا أنه ثابت غير منهزم.
وأما قوله " لا كذب " ففيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، وأنا متيقن بأن الذي وعدني الله به من النصر حق، فلا يجوز علي الفرار.
وقيل: معنى قوله: " لا كذب " أي أنا النبي حقا لا كذب في ذلك.
(تنبيهان) : أحدهما ساق البخاري الحديث عاليا عن أبي الوليد عن شعبة، لكنه مختصر جدا.(7/342)
ثم ساقه من رواية غندر عن شعبة مطولا بنزول درجة.
وقد أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة الفضل بن الحباب عن أبي الوليد مطولا، فكأنه لما حدث به البخاري حدثه به مختصرا.
(الثاني) اتفقت الطرق التي أخرجها البخاري لهذا الحديث من سياق هذا الحديث إلى قوله: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " إلا رواية زهير بن معاوية فزاد في آخرها " ثم صف أصحابه " وزاد مسلم في حديث البراء من رواية زكريا عن أبي إسحاق قال البراء: " كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذيه " يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
ولمسلم من حديث العباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ صار يركض بغلته إلى جهة الكفار " وزاد فقال: " أي عباس ناد أصحاب الشجرة، وكان العباس صيتا، قال: فناديت بأعلى صوتي أين أصحاب الشجرة، قال فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك.
قال فاقتتلوا والكفار، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم فقال هذا حين حمي الوطيس.
ثم أخذ حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال: انهزموا ورب الكعبة، قال: فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا " ولابن إسحاق نحوه وزاد " فجعل الرجل يعطف بغيره فلا يقدر، فيقذف درعه ثم يأخذ بسيفه ودرقته ثم يؤم الصوت".
وهنا أاضع رواية الطبري في كتابه تاريخ الرسل والملوك التي ذكر فيها ثبات سيدنا ابوبكر وعمر وعلي رضي الله عنهما يوم حنين(7/343)
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: لما أستقبلنا وادي حنين، أنحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه أنحداراً- قال: وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقوا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا- فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد؛ وأنهزم الناس أجمعوا، فأنشمروا لا يلوي أحد على أحد؛ وأنحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثم قال: أين أيها الناس! هلم إلى! أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله! قال: فلا شيء، أحتملت الإبل بعضها بعضاً، فأنطلق الناس؛ إلا أنه قد بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته. وممن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر، عمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وأبنه الفضل، وأبو سفيان بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأيمن بن عبيد- وهو أيمن بن أم أيمن- وأسامة بن زيد بن حارثة. قال: ورجل من هوازن على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، أمام الناس وهوازن خلفه ، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه؛ فأتبعوه. ولما أنهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر؛ والأزلام معه في منانته؛ وصرخ كلدة بن الحنبل- وهو مع أخيه صفوان بن أمية بن خلف وكان أخاه لأمه، وصفوان يومئذ مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: ألا بطل السحر اليوم! فقال له صفوان: أسكت فض الله فاك! فو الله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن! وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخوبني عبد الدار: قلت: اليوم أدرك ثأري- وكان(7/344)
أبوه قتل يوم أحد- اليوم أقتل محمداً. قال: فأردت رسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك، وعلمت أنه قد منع مني . تاريخ الرسل والملوك / الطبري / حنين وهنا تنجلي الحقيقة ليخيب فأل الرافضة والحمدلله رب العالمين
===============
تفنيد أكاذيب قصة الهجوم على بيت فاطمة رضي الله عنها دمشقية
تفنيد روايات الهجوم الباطلة على منزل فاطمة وإحراق الدار
يقول لنا الرافضة: هل تنكرون التاريخ الذي ذكر:
• أن عائشة خرجت على إمام زمانها؟
• وأن عمر أحرق دار فاطمة؟
• وأن معاوية هو الذي دس السم للحسن بن علي؟
فنقول للرافضة وهل تنكرون كتب التاريخ التي شهدت بوجود عبد الله بن سبأ اليهودي الذي رضي لكم الرفض دينا.
لو قلنا لهم ذلك لغضبوا وقالوا: لم تثبت شخصية ابن سبأ، وكتب التاريخ تروي الغث والثمين، ولا يجوز أن تعتمدوا على كتب التاريخ من دون التثبت.
فانظر كيف يتناقض القوم. يجوز عندهم أن يحتجوا علينا حتى بقول الشاعر وقول المؤرخ ولو كان رافضيا. لكن لا يجوز لنا أن نحتج عليهم بمثل ذلك.
1 - وددت أني لم أحرق بيت فاطمة.. (قول أبي بكر)
فيه علوان بن داود البجلي (لسان الميزان 4/218 ترجمة رقم 1357 – 5708 وميزان الاعتدال 3/108ترجمة 5763). قال البخاري وأبو سعيد بن يونس وابن حجر والذهبي »منكر الحديث«. وقال العقيلي (الضعفاء للعقيلي3/420).(7/345)
على أن ابن أبي شيبة قد أورد رواية أخرى من طريق محمد بن بشر نا عبيد الله بن عمر حدثنا زيد بن أسلم عن أبيه أسلم أنه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما من أحد أحب إلينا من أبيك وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك إن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت قال فلما خرج عمر جاؤوها فقالت تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت وأيم الله ليمضين لما حلف عليه فانصرفوا راشدين فروا رأيكم ولا ترجعوا إلي فانصرفوا عنها فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر» (المصنف 7/432 ترجمة37045 ).
قلت: وهذه رواية منقطعة لأن زيد بن أسلم كان يرسل وأحاديثه عن عمر منقطعة كما صرح به الحافظ ابن حجر (تقريب التهذيب رقم2117) كذلك الشيخ الألباني (إزالة الدهش37 ومعجم أسامي الرواة الذين ترجم لهم الألباني2/73).
ولئن احتججتم بهذه الرواية أبطلتم اعتقادكم بحصول التحريق إلى التهديد بالتحريق. وأبطلتم اعتقادكم بأن عليا لم يبايع لأن هذه الرواية تقول: فلم يرجعوا إلى فاطمة حتى بايعوا أبا بكر.
2 - » حدثنا ابن حميد قال حدثنا جرير عن مغيرة عن زياد بن كليب قال أتى عمر بن علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة فخرج عليه الزبير مصلتا السيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه« (تاريخ الطبري2/233).
في الرواية آفات وعلل منها:
جرير بن حازم وهو صدوق يهم وقد اختلط كما صرح به أبو داود والبخاري في التاريخ الكبير (2/2234).(7/346)
المغيرة وهو ابن المقسم. ثقة إلا أنه كان يرسل في أحاديثه لا سيما عن إبراهيم. ذكره الحافظ ابن حجر في المرتبة الثالثة من المدلسين وهي المرتبة التي لا يقبل فيها حديث الراوي إلا إذا صرح بالسماع.
3 ـ أحمد بن يحيى البغدادي ، المعروف بالبلاذري ، وهو من كبار محدثيكم ، المتوفي سنة 279 ، روى في كتابه أنساب الأشراف 1/586 ، عن سليمان التيمي ، وعن ابن عون : أن أبا بكر أرسل إلى علي عليه السلام ، يريد البيعة ، فلم يبايع . فجاء عمر ومعه فتيلة ـ أي شعلة نار ـ فتلقته فاطمة على الباب ، فقالت فاطمة: يا بن الخطاب ! أتراك محرقا علي بابي؟ قال:نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك!
هذا إسناد منقطع من طرفه الأول ومن طرفه الآخر. فإن سلميانا التيمي تابعي والبلاذري متأخر عنه فكيف يروي عنه مباشرة بدون راو وسيط؟ وأما ابن عون فهو تابعي متأخر وبينه وبين أبي بكر انقطاع.
فيه علتان:
أولا: جهالة مسلمة بن محارب. ذكره ابن ابي حاتم في (الجرح والتعديل8/266) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ولم أجد من وثقه أو ذمه.
ثانيا: الانقطاع الكبير من بن عون وهو عبد الله بن عون توفي سنة 152 هجرية . ولم يسمع حتى من أنس والصديق من باب اولى الحادثة مع التذكير بأن الحادثة وقعت في السنة الحادية عشر من الهجرة.
وكذلك سليمان التيمي لم يدرك الصديق توفي سنة 143 هجرية .
4 ـ روى ابن خذابه في كتابه " الغدر" عن زيد بن أسلم قال : كنت من حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة حين امتنع علي واصحابه من البيعة ، فقال عمر لفاطمة : اخرجي كل من في البيت أو لأحرقنه ومن فيه !
قال : وكان في البيت علي وفاطمة والحسن والحسين وجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
فقالت فاطمة : أفتحرق علي ولدي !!
فقال عمر : إي والله ، أو ليخرجنّ وليبايعنّ !!
لم يتمكن طارح هذه الشبهات من ضبط اسم المنقول عنه ولا ضبط اسم كتابه.(7/347)
فهذا المؤلف مختلف في ضبط اسمه فمنهم من ضبطه باسم (ابن خنزابة) ومنهم باسم (ابن خذابة) ومنهم (خرداذبة) ومنهم (ابن جيرانه) ومنهم (ابن خيرانة) ورجح محقق البحار أنه ابن (خنزابة).
ولكن ضبطه الزركلي في (الأعلام2/126) باسم (ابن حنزابة جعفر بن الفضل بن جعفر) توفي 391 هـ.
أما كتابه فهو كتاب الغرر وليس كتاب الغدر. (28/339). ومنهم من ضبطه باسم (العذر).
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الدليل عند الرافضة يقوم بوجود ذكر للرواية في أي كتاب كان ولو أن يكون هذا الكتاب مثلا كتاب ألف باء الطبخ.
5 ـ ابن عبد ربه في العقد الفريد 2/ 205 ط المطبعة الأزهرية ، سنة 1321هجرية ، قال : الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر ، علي ، والعباس ، والزبير ، وسعد بن عبادة فأما علي والعباس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر ، عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم !
فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيته فاطمة ، فقال : يا بن الخطاب : أجئت لتحرق دارنا؟!
قال : نعم ، أو تدخلوا في ما دخلت فيه الأمة !!
أولا: ابن عبد ربه عند الرافضة من أعيان المعتزلة. (الطرائف لابن طاووس الحسني ص239). والرافضة من أضل هذه الأمة. وبهم ضل الرافضة.
ثانيا: أنه كان مشهورا بالنصب أيضا. فإنه كان يعتقد أن الخلفاء أربعة آخرهم معاوية. ولم يدرج علي بن أبي طالب من جملة الخلفاء (الأعلام للزركلي1/207) ومثل هذا نصب عند أهل السنة.
ثالثا: كتابه كتاب في الأدب يا من عجزتم عن أن تجدوا شيئا من كتب السنة.
لقد عجز الرافضة أن يجدوا رواية في كتب السنن والحديث ولو وجدوا لما اضطروا إلى الاحتجاج علينا بالمعتزلة. وعلى كل حال فقد حدث اندماج بين الشركتين: شركة الرفض وشركة الاعتزال واندمجوا في شركة واحدة.(7/348)
6 ـ محمد بن جرير الطبري في تاريخه 3/203 وما بعدها ، قال : دعا عمر بالحطب والنار وقال : لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقنها على من فيها. فقالوا له : إن فيها فاطمة! قال: وإن!!
مسكين هذا الناقل ذو الجهل المركب حاطب الليل. فإن هذه الرواية لا وجود لها في تاريخ الطبري بهذا اللفظ.
وإنما هو في كتاب الإمامة والسياسة منسوب ومنحول على ابن قتيبة. وهذا الكتاب لم يثبت له لأسباب منها.
• أن الذين ترجموا لابن قتيبة لم يذكر واحد منهم أنه ألّف كتاباً يُدعى الإمامة والسياسة.
• أن مؤلف الكتاب يروي عن ابن أبي ليلى بشكل يشعر بالتلقي عنه، وابن أبي ليلى هذا هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه قاضي الكوفة توفى سنة 148، والمعروف أن ابن قتيبة لم يولد إلا سنة 213 أي بعد وفاة ابن أبي ليلى بخمسة وستين عاماً
• أن الكتاب يشعر أن ابن قتيبة أقام في دمشق والمغرب في حين أنه لم يخرج من بغداد إلا إلى دينور.
7 ـ ابن الحديد في شرح نهج البلاغة 2/56 روى عن أبي بكر الجوهري ، فقال : قال أبو بكر : وقد روي في رواية أخرى أن سعد بن أبي وقاص كان معهم في بيت فاطمة عليها السلام ، والمقداد بن الأسود أيضا ، وأنهم اجتمعوا على أن يبايعوا عليا عليه السلام ، فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت ، وخرجت فاطمة تبكي وتصيح .. إلى آخره .
وفي صفحة 57 : قال أبو بكر : وحدثنا عمر بن شبة بسنده عن الشعبي ، قال : سأل أبو بكر فقال : أين الزبير ؟! فقيل عند علي وقد تقلد سيفه .
فقال : قم يا عمر ! قم يا خالد بن الوليد ! انطلقا حتى تأتياني بهما .(7/349)
فانطلقا ، فدخل عمر ، وقام خالد على باب البيت من خارج ، فقال عمر للزبير : ما هذا السيف؟ فقال : نبايع عليا . فاخترطه عمر فضرب به حجرا فكسره ، ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه وقال : يا خالد ! دونكه فأمسكه ثم قال لعلي : قم فبايع لأبي بكر! فأبى أن يقوم ، فحمله ودفعه كما دفع الزبير فأخرجه ، ورأت فاطمة ما صنع بهما ، فقامت على باب الحجرة وقالت : يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله !......إلى آخره.
وقال ابن الحديد في صفحة 59 و60 : فأما امتناع علي عليه السلام من البيعة حتى أخرج على الوجه الذي أخرج عليه . فقد ذكره المحدثون ورواه أهل السير ، وقد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب ، وهو من رجال الحديث ومن الثقات المأمونين ، وقد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة .
الجواب:
إبن أبي الحديد رافضي حجة على رافضي مثله لا علينا. قال الخونساري « هو عز الدين عبد الحميد بن أبي الحسن بن أبي الحديد المدائني "صاحب شرح نهج البلاغة، المشهور "هو من أكابر الفضلاء المتتبعين، وأعاظم النبلاء المتبحرين موالياً لأهل بيت العصمة والطهارة.. وحسب الدلالة على علو منزلته في الدين وغلوه في ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، شرحه الشريف الجامع لكل نفيسة وغريب، والحاوي لكل نافحة ذات طيب.. كان مولده في غرة ذي الحجة 586، فمن تصانيفه "شرح نهج البلاغة" عشرين مجلداً، صنفه لخزانة كتب الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي، ولما فرغ من تصنيف أنفذه على يد أخيه موفق الدين أبي المعالي، فبعث له مائة ألف دينار، وخلعة سنية، وفرساً» (روضات الجنات5/20-21 وانظر الكنى والألقاب للقمي1/185 الذريعة- آغا بزرك الطهراني41/158).(7/350)
8 ـ مسلم بن قتيبة بن عمرو الباهلي ، المتوفى سنة 276 هجرية ، وهو من كبار علمائكم له كتب قيمة منها كتاب " الإمامة والسياسة" يروي في أوله قضية السقيفة بالتفصيل ، ذكر في صفحة 13 قال : إن أبا بكر تفقد قوما تخلفوا عن بيعته عند علي كرم الله وجهه فبعث إليهم عمر ، فجاء فناداهم وهم في دار علي ، فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها .
فقيل له : يا أبا حفص ! إن فيها فاطمة ! فقال : وإن ! .... إلى آخره .
تقدم أن كتاب الإمامة والسياسة منسوب ومنحول على ابن قتيبة. وهذا الكتاب لم يثبت له لأسباب منها.
• أن الذين ترجموا لابن قتيبة لم يذكر واحد منهم أنه ألّف كتاباً يُدعى الإمامة والسياسة.
• أن مؤلف الكتاب يروي عن ابن أبي ليلى بشكل يشعر بالتلقي عنه، وابن أبي ليلى هذا هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه قاضي الكوفة توفى سنة 148، والمعروف أن ابن قتيبة لم يولد إلا سنة 213 أي بعد وفاة ابن أبي ليلى بخمسة وستين عاماً
أن الكتاب يشعر أن ابن قتيبة أقام في دمشق والمغرب في حين أنه لم يخرج من بغداد إلا إلى دينور.
9 ـ أبو الوليد محب الدين بن شحنة الحنفي، المتوفي سنة815 هجرية، وهو من كبار علمائكم، وكان قاضي حلب، له تاريخ" روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر" ذكر فيه موضوع السقيفة، فقال: جاء عمر إلى بيت علي بن أبي طالب ليحرقه على من فيه. فلقيته فاطمة، فقال عمر: أدخلوا في ما دخلت الأمة ... إلى آخره.
10 - ذكر بعض شعرائهم المعاصرين قصيدة يمدح فيها عمر بن الخطاب، وهو حافظ إبراهيم المصري المعروف بشاعر النيل، قال في قصيدته العمرية :
وقولة لعلي قالها عمر * أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرقت دارك لا أبقي عليك بها * إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بها * أمام فارس عدنان وحاميها(7/351)
وهكذا يحتج الرافضة بحافظ إبراهيم وهو ملحد يكذب القرآن وينكر أن يحلى فيه أهل الجنة بأساور من ذهب.
ما قاله هذا الشاعر أو غيره فهو ناجم عن انتشار الروايات الضعيفة والمكذوبة التي يتصفحها ويمحصها أهل الخبرة بعلم الرواية والحديث الذين هم الحجة لا الشعراء الذين قال الله عنهم: (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون).
لو قلت لنا قال الترمذي قال أبو داود قال أحمد في المسند لما قبلنا منك إلا بعد تمحيص السند. أفتحتج علينا بما قاله حافظ ابراهيم. أيها المفلس؟
فاجعة سقط الجنين:
الفاجعة الحقيقية فاجعة الكذب وارتضاء ما هب ودب صيانة للمذهب.
1ـ ذكر المسعودي صاحب تاريخ " مروج الذهب " المتوفي سنة 346هجرية ، وهو مؤرخ مشهور ينقل عنه كل مؤرخ جاء بعده ، قال في كتابه " إثبات الوصية " عند شرحه قضايا السقيفة والخلافة : فهجموا عليه [ علي عليه السلام ] وأحرقوا بابه ، واستخرجوه كرها وضغطوا سيدة النساء بالباب حتى أسقطت محسنا !!
نعم المسعودي مؤرخ مشهور، ولكنه رافضي. فارافضي لا حجة به عندنا وإن كان مشهورا. فهنيئا لكم برافضي مثلكم تكحلوا به. وما يرويه بمنزلة ما يرويه الخميني عندنا. فلا اعتبار بما يرويه.
3 ـ ونقل أبو الفتح الشهرستاني في كتابه الملل والنحل 1/57 : وقال النظّام: إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها. وكان يصيح [عمر] احرقوا دارها بمن فيها، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين. انتهى كلام الشهرستاني.
4ـ قال الصفدي في كتاب " الوافي بالوفيات 6/76 " في حرف الألف ، عند ذكر إبراهيم بن سيار ، المعروف بالنظّام، ونقل كلماته وعقائده ، يقول : إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت المحسن من بطنها !(7/352)
يا لك من مفلس: فإن الشهرستاني يعدد هنا مخازي وضلالات النظام المعتزلي وذكر من بلاياه أنه زعم أن عمر ضرب فاطمة حتى ألقت جنينها. قال الشهرستاني « ثم زاد على خزيه بأن عاب عليا وابن مسعودي وقال: أقول فيهما برأيي». أرأيتم معشر المسلمين منهج الرافضة في النقل.
كذلك فعل الصفدي في تعداد مخازي عقائد المعتزلة باعترافك.
الله أكبر. صدق من وصف الرافضة بأنهم نجوا من العقل ومن النقل بأعجوبة. فكانوا بهذه النجاة سالمين. وخاضوا سباق الكذب فكانوا فيه أول الفائزين.
================
شبهات حول عصر الصحابة (7) : هل أمر الفاروق رضي الله عنه بقتل بعض أهل الشورى؟!
خالد الغيث
يحسن بنا- في مطلع هذا المقال - التذكير بأمر الشورى الذي يعد من الفضائل الباهرة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه.
وابتداء هذا الأمر ، أنه لما طعن أبو لؤلؤة المجوسي عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - اختار الفاروق – رضي الله عنه - ستة من الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ من أجل أن يختاروا واحداً منهم خليفة للمسلمين.
وهو ما أخرجه البخاري في صحيحه ، من طريق عمرو بن ميمون قال : ( فقالوا : أوص يا أمير المؤمنين ، استخلف ، قال : ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر ، أو الرهط ، الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض : فسمى علياً ، وعثمان ، والزبير ، وطلحة ، وسعداً ، وعبد الرحمن ، وقال : يشهدكم عبد الله بن عمر ، وليس له من الأمر شيء).
وفي رواية أخرى للبخاري ، من طريق عمرو بن ميمون قال : قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه : ( إني لا أعلم أحداً أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ، فمن استخلفوا بعدي فهو الخليفة ، فاسمعوا له وأطيعوا. فسمى عثمان ، وعلياً ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص).(7/353)
وعن سبب اختيار عمر – رضي الله عنه – لأصحاب الشورى – رضوان الله عليهم يقول الطبري رحمه الله : ( لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين ، والهجرة ، والسابقة ، والعقل ، والعلم ، والمعرفة بالسياسة ، ما للستة الذين جعل عمر الأمر شوى بينهم.
فإن قيل : كان بعض هؤلاء الستة أفضل من بعض ، وكان رأي عمر أن الأحق بالخلافة أرضاهم ديناً ، وأنه لا تصح ولاية المفضول مع وجود الفاضل.
فالجواب : أنه لو صرح بالأفضل منهم لكان قد نص على استخلافه ، وهو قصد أن لا يتقلد العهدة في ذلك ، فجعلها في ستة متقاربين في الفضل ، لأنه يتحقق أنهم لا يجتمعون على تولية المفضول ولا يألون المسلمين نصحاً في النظر والشورى ، وأن المفضول منهم لا يتقدم على الفاضل ، ولا يتكلم في منزلة وغيره أحق بها منه، وعلم رضى الأمة بمن رضي به الستة).
وبعد أن تبين لنا أمر الشورى من خلال أصح كتاب بعد كتاب الله نعود إلى رواية منكرة ترددها بعض الألسنة والأقلام ، وفيما يلي نصها :
( إن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أمر بلالاً :
إذا اختلف أهل الشورى فاقتل الأقل.
يعني إذا اتفق أربعة ضد ثلاثة اقتل الثلاثة.
وإذا اتفق خمسة ضد اثنين اقتل الاثنين.
وإذا اتفق ستة ضد واحد اقتل الواحد.
قال : أقتله يا أمير المؤمنين ؟!
قال : اقتله ، لا أريد خلافاً بين المسلمين! ).
قلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، هذا الخبر الباطل سنداً ومتناً مخالف لما ثبت في الصحاح عن حقيقة الشورى.
وحقيقة الأمر في هذه الجزئية من قصة الشورى ما أخرجه الإمام أبو بكر الخلال ، بإسناد صحيح ، من طريق عمرو بن ميمون قال : ( قال عمر لما حضر : ادعوا لي علياً ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعداً ، قال : فلم يكن أحد منهم إلا علي وعثمان.(7/354)
فقال : يا علي ، لعل هؤلاء يعرفون لك قرابتك ، وما آتاك الله من العلم والفقه ، فاتق الله ، وإن وليت هذا الأمر فلا ترفعن بني فلان على رقاب الناس.
وقال : يا عثمان لعل هؤلاء القوم يعرفون لك صهرك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنك وشرفك ، فإن أنت وليت هذا الأمر فاتق الله ولا ترفعن بني فلان على رقاب الناس.
ثم قال : ادعوا لي صهيباً ، فقال : صل بالناس ثلاثاً ، وليجتمع هؤلاء القوم ، وليخلوا هؤلاء الرهط ، فإن اجتمعوا على رجل فاضربوا رأس من خالفهم).
أي أن عمر – رضي الله عنه – أمر بقتل من يخالف أصحاب الشورى ويرفض من يرشحونه خليفة للمسلمين ، ويدعو إلى نفسه ، وذلك عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : (من أتاكم وأمركم جميعاً على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم ، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه) [ أخرجه مسلم في صحيحه ].
وفي نهاية هذا المقال أختم بكلام جميل لابن كثير – رحمه الله – تحدث فيه عن الأخبار المنكرة التي هدفها الإساءة إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : (هي مردودة على قائليها وناقليها ، والله أعلم. والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة ، وأغبياء القصاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها ، ومستقيمها وسقيمها ، ومبادها وقويمها ، والله الموفق للصواب).
================
إلقام الحجر لمن طعن في نسب عمر
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا هو نسب امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحقيقي وليس الذي يفتريه الرافضه فهم معروفين بالكذب والحقد على امير المؤمني عمر رضي الله عنه
أولا : اسمه ونسبه :
هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبدالعزى بن رياح بن عبدالله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي . أبو حفص ( 1 )
ثانيا : اسم أمه ونسبها :(7/355)
هي حنتمه بنت هاشم بن المغيره بن عبدالله بن عمر بن مخزوم . وقيل حنتمه بنت هشام بن المغيره فعلى هذا تكون أخت أبي جهل وعلى الأول تكون أبنت عمه. قال أبو عمر ومن قال ذالك يعني بنت هشام فقد اخطأ ولو كانت كذلك لكانت أخت أبي جهل والحارث ابني هشام وليسا كذلك إنما هي أبنت عمهما لأنه هاشماَ وهشاما ابني المغيره أخوان . فهاشم والد حنتمه وهشام والد الحارث وأبي جهل وكان يقال لهاشم جد عمر( ذو الرمحين ) .
وقال أبن منده : أم عمر أخت أبي جهل قال أبو نعيم : هي بنت هشام أخت أبي جهل وأبو جهل خاله . ورواه عن ابن إسحاق .
وقال الزبير : حنتما بنت هاشم فهي أبنت عم أبي جهل كما قال أبو عمر وكان لهاشم أولاد فلم يعقبوا . ( 2)
أما أم حنتمه : فهي الشفاء بنت عبد قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص وقد كان لهاشم بن المغيره ولد فلم يعقبوا . ( 3 )
ثالثاَ : اسم الخطاب ونسبه :
هو الخطاب بن نفيل بن عبدا لعزى بن رياح بن عبدالله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي . أمه حيه بنت جابر بن أبي حبيب الفهميه . وولد نفيل بن عبدالعزى : الخطاب بن نفيل, وعبد نهم ( 4)
لا بقيه له قتل في الفجار , وأمهما : حيه بنت جابر بن أبي حبيب , بن فهم و أخوهما لأمهما : زيد بن عمر بن نفيل . ( 5 )
قلت : هذا هو نسب أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحيح
و ليس الذي يرويه الرافضة في كتبهم لان الرافضة معروفين بالكذب و الزندقة وحقدهم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
1- يلتقي نسب أمير المؤمنين مع الرسول صلى الله عليه وسلم في كعب
2- أسد ألغابه ج 4 ص 137- 138
3- نسب قريش ص 301
4- عبد نهم اسم رجل وهو أخو الخطاب
5- نسب قريش ص 347
أما الأحاديث التي رواها المجلسي في بحار الأنوار في الجزء ( 31 ) صفحه ( 203 ) باب نسب عمر وولادته ووفاته وبعض نوادر أحواله وما جرى بينه وبين أمير المؤمنين صلوات الله عليه رقم ( 26 ) :(7/356)
الحديث الأول الذي رواه قال :
1- تفسير القمي : قال علي بن إبراهيم : ثم حرم الله عز وجل نكاح الزواني فقال : ( الزاني لا ينكح إلا زانيه أو مشركه والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك حرم ذلك على المؤمنين ) ( 1 ) وهو رد على من يستحل التمتع بالزواني والتزويج بهن وهن المشهورات المعروفات بذلك في الدنيا لا يقدر الرجل على تحصينهن .
و نزلت هذه الآية في نساء مكة كن مستعلنات بالزنا : ساره و حنتمه ( 2 ) و الرباب كن يغنين بهجاء رسول الله فحرم الله نكاحهن وجرت بعدهن في النساء من أمثالهن . ( 3 )
أقول عندما رجعت إلى المصدر الذي أشار إليه ( تفسير القمي ) وجدت هذا السند هكذا ( وفي رواية أبي الجار ود عن أبي جعفر ع ) ( 4 ) ثم ذكر نفس الحديث السابق وانظر ماذا قال علماء الرافضة عن أبي الجار ود :
أ- قال الكشي في رجاله :
حكي أن أبا الجار ود سمي سرحوب ونسبت إليه السرحوبيه من الزيديه وسماه بذلك أبو جعفر ع وذكر إن سرحوبا اسم شيطان أعمى يسكن البحر وكان أبو الجار ود مكفوفا أعمى , أعمى القلب .
وذكر بعض الأحاديث التي تدل على أن أبي الجار ود فاسق أعمى البصر والقلب ( 5 )
ب- وقال العلامة الحلي :
زياد بن المنذرأبو الجارود الهمداني بالدال المهملة الخارقي بالخاء المعجمه بعدها ألف وراء مهملة و قاف و قيل الحرقي بالحاء المضمومة المهملة والراء والقاف الكوفي الأعمى التابعي زيدي المذهب واليه تنسب الجاروديه
___
1- سورة النور آيه ( 3 )
2- ويقصد حنتمه أم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
3- بحار الأنوار ج 31 ص 203
4- تفسير القمي ج2 ص 95- 96
5- رجال الكشي ص 229(7/357)
من الزيديه كان من أصحاب أبي جعفر عليه السلام روي عن الصادق عليه السلام وتغير لما خرج زيد ( رض ) وروي عن زيد وقال ابن الغضائري حديثه في حديث أصحابنا اكثر منه في الزيديه و أصحابنا يكرهون ما رواه محمد بن سنان عنه ويعتمدون ما رواه محمد بن بكر الارجني وقال الكشي زياد بن المنذر أبو الجار ود الأعمى السرحوب بالسين المهملة المضمومة والراء والحاء المهملة والباء المنقطع تحتها نقطه واحده بعد الواو مذموم ولا سبه في ذمه ويسمى سرحوبا باسم شيطان أعمى يسكن البحر . ( 1 )
قلت : فيتبين لكل قارئ منصف إن هذا الحديث ضعيف لا يحتج به لان الأمام المعصوم عند الرافضة وهو أبي جعفر قد طعن في راوي الحديث وهو أبو الجارود السرحوب .
2- الحديث الثاني وقال المجلسي :
وقال العلامة نور الله ضريحه في كتاب كشف الحق وصاحب كتاب إلزام النواصب : روى الكلبي وهو من رجال أهل السنه ( 2 ) في كتاب المثالب قال : كانت صهاك أمه حبشيه لهاشم بن عبد مناف فوقع عليها نفيل بن هاشم ثم وقع عليها عبد العزى بن رياح فجاءت بنفيل جد عمر بن الخطاب.
وقال الفضل بن روزبهان الشهرستاني في شرح بعد القدح في صحة النقل : إن أنكحت الجاهلية على ما ذكره أرباب التواريخ على أربعة اوجه : منها : أن يقع جماعه على أمراه ثم إن ولد منها ولد يحكم فيه القائف أو تصدق المرأة وربما كان هذه من أنكحت الجاهلية .
و أورد عليه شارح الشرح : بأنه لو صح ما تحقق زنا في الجاهلية . لماعد مثل ذلك في المثالب وكان كل من وقع على أمراه كان ذلك نكاحا منه عليها ولم يسمع من أحد إن من انكحة الجاهلية كون أمراه واحده في يوم واحد أو شهر واحد في نكاح جماعه من الناس . ( 3 )
قلت : أما كلام الفضل بن روزبهان الشهرستاني , فهو صحيح ولكن ليس موضوعنا انكحة الجاهلية بل نسب عمر بن الخطاب رضي الله عنه
__
1- رجال العلامة الحلي ص 223
2- وهذا كذب لان الكلبي ليس من رجال أهل السنه كما سيأتي ص 12(7/358)
3- بحار الأنوار ج 31 ص 203 - 204
والرواية التي أوردها صاحب كتاب كشف الحق الذي لا يعرف الحق مردودة عليه لأنه كذب وقال إن الكلبي من رجال أهل ألسنه وهذا كذب كما سوف نبين فيما بعد . ( 1 )
ثم عاد المجلسي للكذب من جديد ويحاول أن يوهم القراء بكذبه وقال :
ثم إن الخطاب على ما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب : ابن نفيل بن عبدالعزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشي وأمه حنتمه بنت هاشم بن المغيره بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قال وقالت طائفة في أم عمر : حنتمه بنت هشام بن المغيره ومن قال ذلك فقد اخطأ ولو كانت كذلك لكانت أخت أبي جهل بن هشام والحارث بن هشام بن المغيره وليس كذلك وإنما هي بنت عمه لان هشام بن المغيره والحارث بن هشام بن المغيره إخوان لهاشم والد حنتمه أم عمر وهشام والد الحارث وأبي جهل . ( 2 )
قلت : هذا كذب لان المجلسي ذكر إن ابن عبدالبر ذكر في الاستيعاب قال : ( ثم إن الخطاب على ما ذكره ابن عبدالبر في الاستيعاب ابن نفيل ....الخ ) هذا الكذب يتضح لكل قارئ عندما يرجع إلى كتاب الاستيعاب وقال الآتي : عمر بن الخطاب بن نفيل ...الخ . ثم ذكر نفس الكلام السابق . وهو حاول أن يبين إن اسم أم الخطاب مثل اسم أم عمر وهذا كذب لان المجلسي اسقط اسم عمر من ترجمة ابن عبد البر في الاستيعاب . ( 3 )
أما الذي أورده المجلسي عن محمد بن شهراشوب وقال :
وحكى بعض لصحابنا عن محمد بن شهراشوب وغيره : إن صهاك كانت أمه حبشيه لعبد المطلب و كانت ترعى له الإبل فوقع عليها نفيل فجاءت بالخطاب .
ثم إن الخطاب لما بلغ الحلم رغب في صهاك فوقع عليها فجاءت بابنه فلفتها في خرقه من صوف ورمتها خوفا من مولاها في الطريق . فرآها هاشم بن المغيره مرمية فأخذها ورباها وسماها حنتمه فلما بلغت رآها الخطاب يوما
___
1- راجع ص 14 - 15
2- بحار الأنوار ج 31 ص 204
3- الاستيعاب ج ص(7/359)
فرغب فيها وخطبها من هاشم فانكحها إياه فجاءت بعمر بن الخطاب فكان أبا وجدا و خالا لعمر وكانت حنتمه أما وأختا وعمه له فتدبر . ( 1 )
أقول : إن محمد بن شهراشوب من علماء الرافضة ولم يحدد المجلسي من أين نقل عن ابن شهراشوب هذا الكلام ولا نعلم هل هذا الخبر من كذب المجلسي أو من الأخبار الضعيفة كالعادة .
وقال صاحب كتاب الكنى والألقاب عباس القمي :
ابن شهراشوب : رشيد الدين ابوجعفر محمد بن علي بن شهراشوب السروري المازندراني فخر الشيعة ومروج الشريعة محيي آثار المناقب والفضائل والبحر المتلاطم الزخار ... الخ . ( 2 )
3- الحديث الثالث :
قال : وجدت في كتاب عقد الدرر لبعض الأصحاب بإسناده عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن ابن الزيات عن الصادق ع
انه قال : كانت صهاك جاريه لعبد المطلب وكانت ذات عجز وكانت ترعى الإبل وكانت حبشيه وكانت تميل إلى النكاح فنظر إليها نفيل جد عمر فهواها وعشقها في مرعى الإبل فوقع عليها فحملت منه بالخطاب فلما أدرك البلوغ نظر إلى أمه صهاك فأعجبه عجزها فوثب عليها فحملت منه بحنتمه فلما ولدتها خافت من أهلها فجعلتها في صوف وألقتها بين اشحام مكة فوجدها هشام بن المغيره بن الوليد فحملها إلى منزله ورباها وسماها بالحنتمه و كانت شيمة العرب انه من ربى يتيما يتخذه ولدا فلما بلغت حنتمه نظر إليها الخطاب فمال إليها وخطبها من هشام فتزوجها فأولد منها عمر فكان الخطاب أباه وجده وخاله وكانت حنتمه أمه وأخته وعمته , وينسب إلى الصادق ( ع ) في هذا المعنى :
من جده خاله ووالده وأمه أخته وعمته اجدر أن يبغض الولي وان ينكر يوم الغدير بيعته. ( 3 )
___
1- بحار الأنوار ج 31 ص 204
2- الكنى والألقاب ج 1 ص 321- 322
3-بحار الأنوار ج 31 ص 304 - 205
قلت : وهذا الحديث ضعيف لا يحتج فيه لان فيه علتين :
الأولى : إن أبا حنتمه ليس هشام ولكنه هاشم .(7/360)
الثانية : ورجعت إلى المصدرالذي أشار إليه المجلسي الكذاب (عقد الدرر ) ووجدت إن المجلسي حرف يحيى بن محبوب ووضع الحسن بن محبوب بدلا عنه لان الحسن بن محبوب ثقة و أما يحيى بن محبوب فهو مجهول .
أما ما ذكره المجلسي عن ابن أبي الحديد فقال :
قال ابن أبي الحديد في شرح قوله عليه السلام " لم يسهم فيه عاهر ولا ضرب فيه فاجر " في الكلام رمز إلى جماعه من أصحابه في أنسابهم طعن وكما يقال : إن آل سعد بن أبي وقاص ليسوا من زهره بن كلاب وانهم من بني عذره من قحطان وكما يقال : إن آل الزبير بن العوام من ارض مصر من القبط , وليسوا من بني أسد بن عبد العزى . ( 1 ) 1- وهذا كذب ليس عليه دليل
ثم قال : قال شيخنا أبو عثمان في كتاب مفاخرات قريش : بلغ عمر بن الخطاب إن أناسا من رواة الأشعار حملت الآثار يقصبون الناس ويثلبونهم في أسلافهم فقام على المنبر فقال : إياكم وذكر العيوب والبحث عن الأصول فلو قلت : لا يخرج القوم من هذه الأبواب إلا من لا وصمه فيه لم يخرج منكم أحد .
فقال رجل من قريش نكره أن نذكره فقال : إذا كنت أنا وأنت يا أمير المؤمنين نخرج فقال : كذبت بل كان يقال لك يا قين بن قين اقعد .
قلت: الرجل الذي قام هو المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيره المخزومي وكان عمر يبغض أباه خالدا ولان المهاجر كان علوي الرأي جدا وكان أخوه عبد الرحمن مع معاوية وكان المهاجر مع علي يوم الجمل وفقئت ذلك اليوم عينه لكن الكلام الذي بلغ عمر بلغه من المهاجر.وكان الوليد بن المغيره مع جلالته في قريش وكونه ريحانة قريش ويسمى العدل ويسمى الوحيد حدادا يصنع الدروع بيده ذكر ذلك فيه ابن قتيبه في كتاب المعارف .
وروى أبو الحسن المدائني هذا الخبر في كتاب أمهات الخلفاء وقال انه روي عنه جعفر بن محمد عليه السلام في المدينه فقال : لا تلمه يا أبن أخي انه أشفق أن يحدج بقصة نفيل بن عبدالعزى وصهاك أمة الزبير بن عبد المطلب ثم قال :(7/361)
رحم الله عمر فانه لم يعدو السنه وتلا " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم " ( 1 ) انتهى .
بيان : قال الجوهري : حدجه بذنب غيره رماه به انظر كيف بين عليه السلام رداءة نسب عمر وسبب مبالغته في النهي عن التعرض للأنساب ثم مدحه تقيه . ( 2 )
و أقول : إن ابن أبي الحديد هذا معتزلي شيعي وقال عنه القمي :
عز الدين عبد الحميد بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني الفاضل الأديب المؤرخ الحكيم الشاعر شارح نهج البلاغة الكرمه وصاحب القصائد السبع المشهورة كان مذهبه الاعتزال كما شهد لنفسه في إحدى قصائده في مدح أمير المؤمنين ( ع ) بقوله :
ورأيت دين الاعتزال وإنني . . . . أهوى لاجلك كل من يتشيع
وذكره الالوسي في مختصر التحفه الاثنى عشريه فقال :
الفرق الرابعة الشيعة الغلاة : هم عبارة عن القائلين بألوهية الأمير علي كرم الله وجهه , ونحوه من الهذيان . قال الجد روح الله روحه : وعندي إن ابن أبي الحديد في بعض عباراته ـ وكان يتلون تلون الحرباء وكان من هذه الفرقة , وكم له في قصائده السبع الشهيرة من هذيان , كقوله يمدح الأمير كرم الله تعالى وجهه :
ألا إنما الإسلام لولا حسامه . . . . كعفطة عنز أو قلامة ظافر .( 3 )
وقوله :
يجل عن الأعراض والاين والمتى . . . . ويكبرعن تشبيهه بالعناصر.( 4 )
وقال أيضا :
تقليت أخلاق الربوبيه التي . . . . عذرت بها من شك انك مربوب .( 5 )
___
1- سورة النور آيه ( 11 )
2- بحار الأنوار ج 31 ص 206
3- ولاحظ كيف يدعي إن الإسلام لولى حسام علي رضي الله عنه لكان كعفطة عنز والعياذ بالله
4- ولاحظ كيف يصف علي رضي الله عنه بصفات الله تعالى
5- وهنا يقول يعذر من شك إن علي رضي الله عنه مربوب
ومنه سرق الطوفي الرافضي قوله في أبي بكر وعلي رضوان الله وسلامه عليهما :
كم بين من شك في خلافته . . . . وبين من قيل انه الله . ( 1 )(7/362)
قلت : فلا حجه في كلام ابن أبي الحديد لأنه من غلاة الشيعة الذين يألهون علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويحقدون على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
4- الحديث الرابع قال المجلسي :
وما أومى إليه من قصة أمة الزبير , هو ما رواه الكليني طيب الله تربته في روضة الكافي عن الحسين عن احمد بن هلال عن زرعة عن سماعه قال :
تعرض رجل من ولد عمر بن الخطاب بجاريه رجل عقيلي فقالت له : إن هذا العمري قد آذاني , فقال لها عديه وادخليه الدهليز , فأدخلته , فشد عليه فقتله و ألقاه فالطريق.
فاجتمع البكريون والعمريون والعثمانيون , وقالوا : ما لصاحبنا كفو ولن نقتل به إلا جعفر بن محمد , وما قتل صاحبنا غيره , وكان أبو عبد الله (ع) قد مضى نحو قبا , فلقيته وقد اجتمع القوم عليه , فقال : دعهم , قال : فلما جاءوا وراءه وثبوا عليه , وقالوا : ما قتل صاحبنا أحد غيرك , وما نقتل به أحد غيرك ! فقال : لتكلمني منكم جماعه , فاعتزل قوم منهم , فاخذ بأيديهم فادخلهم المسجد , فخرجوا وهم يقولون شيخنا أبو عبد الله جعفر بن محمد , معاذ الله أن يكون مثله يفعل هذا , ولا يأمر به , فانصرفوا .
قال : فمضيت معه فقلت : جعلت فداك ما كان اقرب رضاهم من سخطهم؟! قال : نعم دعوتهم فقلت : امسكوا وإلا أخرجت الصحيفة ! فقلت : ما هذه الصحيفة جعلني الله فداك ؟ فقال : أم الخطاب كانت أمة للزبير بن عبد المطلب , فسطر بها نفيل فاحبها , فطلب الزبير فخرج هاربا إلى الطائف . فخرج الزبير خلفه فبصرت به ثقيف , فقالوا له : يا أبا عبد الله ما تعمل هاهنا ؟ قال : جاريتي سطر بها نفيل , فهرب منه إلى الشام . وخرج الزبير
___
1- ويقصد في من شك في خلافته هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ويقصد من قيل انه الله بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه(7/363)
في تجاره له إلى الشام فدخل على ملك الدومه فقال له : يا أبا عبد الله لي إليك حاجه , قال : وما حاجتك أيها الملك ؟ فقال : رجل من اهلك قد أخذت ولده , فاحب أن ترده عليه , قال : ليظهر لي حتى اعرفه , فلما أن كان من الغد دخل على الملك فلما رآه الملك ضحك , فقال : ما يضحكك أيها الملك : ما أظن هذا الرجل ولدته عربيه , لما رآك قد دخلت لم يملك أسته إن جعل يضرط ! فقال : الملك إذا صرت إلى مكة قضيت حاجتك . فلما قدم الزبير تحمل عليه ببطون قريش كلها , أن يدفع إليه ابنه , فأبى ثم تحمل عليه بعبد المطلب فقال : ما بيني وبينه عمل , أما علمتم ما فعل في ابني فلان ولكن امضوا انتم إليه . فقصدوه وكلموه , فقال لهم الزبير : إن الشيطان له دوله وان ابن هذا ابن الشيطان , وليس آمن أن يترأس علينا , ولكن ادخلوه من باب المسجد على أن احمي له حديد واخط في وجهه خطوطا , وكتب عليه وعلى ابنه ألا يتصدر في مجلس , ولا تأمر على أولادنا ولا يضرب معنا بسهم.
قال : ففعلوا وخط وجهه بالحديد , وكتب عليه الكتاب , فذلك الكتاب عندنا , فقلت لهم : إذا أمسكتم وإلا أخرجت الكتاب ففيه فضيحتكم , فامسكوا .
وتوفى مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخلف وأرثا وخاصم فيه ولد العباس أبا عبد الله عليه السلام .(7/364)
وكان هاشم بن عبد الملك قد حج في تلك السنه فجلس لهم , فقال : داود بن علي : الولاء لنا وقال أبو عبد الله بل الولاء لي , فقال داود بن علي إن أباك قاتل معاوية, فقال : والله لأطوقنك غدا أطواق الحمام فقال له داود بن علي : كلامك هذا أهون علي من بعرة وادي الأزرق . فقال : أما انه واد ليس لك ولا لأبيك فيه حق , قال فقال هشام : إذا كان غدا جلست لكم . فلما أن كان من الغد خرج أبو عبد الله ومعه كتاب في كرباسه وجلس لهم هشام . فوضع أبو عبد الله الكتاب بين يديه فلما قراه قال : ادعوا لي الجندل الخزاعي وعكاشة الضميري وكانا شيخين قد أدركا الجاهلية فرمى الكتاب إليهما فقال : تعرفون هذه الخطوط؟ قالا : نعم خط العاص بن أميه وقال هشام : يا أبا عبد الله أرى خطوط أجدادي عندكم ؟ فقال : نعم قال : قضيت. بالولاء لك قال فخرج وهو يقول :
إن عادت العقرب عدنا لها . . . . وكانت النعل لها حاضرة
قال قلت : ما هذا الكتاب جعلت فداك ؟ قال : فان نثيله كانت أمة لأم الزبير ولأبي طالب وعبد الله فأخذها عبد المطلب فأولدها فلان فقال له الزبير : هذه الجارية ورثناها من أمنا وابنك هذا عبد لنا فتحمل عليه ببطون قريش .
قال فقال : أجبتك على خله على أن لا يتصدر ابنك هذا في مجلس ولا يضرب معنا بسهم فكتب عليه كتابا واشهد عليه فهو هذا الكتاب . ( 1 )
قلت : هذا الحديث ضعيف فيه احمد بن هلال الكرخي العبرتائي وذكره :
1- ابن داود في رجاله فقال :(7/365)
احمد بن هلال ابن جعفر . العبرتائي بالعين المهملة المفتوحة والباء المفردة المفتوحة والراء الساكنة والتاء المثناه فوق والمد . منسوب إلى عبرتا قريه بناحية اسكاف ( كش ) صالح الرواية يعرف منها وينكر وقد روى فيه ذموم كثيره من سيدنا أبي محمد العسكري عليه السلام ( كش ) مذموم ملعون ( ست ) غال متهم في دينه ( غض ) أرى التوقف في حديثه إلا فيما رواه عن الحسن بن محبوب من كتاب المشيخة و محمد بن أبي عمير من نوادره وقد سمع هذين الكتابين منه جله أصحابنا و اعتمدوه فيها ولد سنة ثمانين ومائه ومات سنه سبع وستين ومائتين . ( 2 )
وذكره في كتابه أيضا في , فصل فيمن وردة فيه اللعنه . ( 3 )
2- الطوسي في الفهرست أيضا :
احمد بن هلال العبرتائي . عبرتا قريه بناحية اسكاف بني جنيد ولد سنة ثمانين ومائه ومات سنة سبع وستين ومائتين وكان غاليا متهم في دينه وقد روى اكثر أصول أصحابنا . ( 4 )
3- الحلي في رجاله :
___
1- بحار الأنوار ج 31 ص 206 - 208
2- رجال بن داود ص 425
3- رجال بن داود ص 551
4- الفهرست للطوسي ص 36
احمد بن هلال العبرتائي . بالعين المهملة والباء المنقطعة تحتها نقطه واحده وبعدها راء ثم التاء المنقطعة فوقها نقطتين منسوب إلى عبرتا قريه بناحية اسكاف بني مائه ومات سنة تسع وستين ومائتين . قال النجاشي انه صالح الرواية يعرف منها وينكر . وتوقف ابن الفضائري في حديثه إلا في ما يرويه عن الحسن بن محبوب من كتب المشيخة ومحمد بن أبي عمير من نوادره وقد سمع هذين الكتابين جل أصحاب الحديث واعتمدوه فيها . وعندي إن روايته غير مقبولة . ( 1 )
5- الحديث الخامس ذكر المجلسي في البحار :
قد مر في باب كفر الثلاثة من تفسير علي بن إبراهيم ( 2 ) في تفسيره قول الله تعالى " ذرني ومن خلقت وحيدا " بإسناد عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال : الوحيد ولد الزنى وهو زفر إلى آخر الآية . ( 3 )(7/366)
قلت : وعندما رجعة إلى تفسير علي بن إبراهيم القمي وجدت هذه الرواية هكذا : " قال حدثنا أبو العباس قال حدثنا يحيى بن زكريه عن علي بن حسان عن عمه عبد الرحمن بن الكثير عن أبي عبد الله ع في قوله " ذرني ومن خلقت وحيدا " قال الوحيد ولد الزنى وهو زفر . ( 4 )
قلت : وهذه الرواية ضعيفة لان فيها علي بن حسان وعنه عبد الرحمن بن كثير وقالوا علماء الرافضة فيهم التالي :
1- قال الكشي في رجاله :
في علي بن حسان الواسطي وعلي بن حسان الهاشمي :
قال محمد بن مسعود سالت علي بن الحسن بن علي بن فضال عن علي بن حسان قال عن أيهما سألت أما الواسطي فهو ثقة وأما الذي عندنا يروي عن عمه عبد الرحمن بن كثير فهو كذاب وهو واقفي أيضا ولم يدرك أبا الحسن موسى عليه السلام . ( 5 )
2- ووافق العلامة الحلي كلام الكشي . ( 6 )
3- وقال النجاشي في رجاله :
___
1- رجال العلامة الحلي ص 202
2- هو صاحب التفسير المشهور تفسير القمي
3- بحار الأنوار ج 31 ص 209
4- تفسير القمي ج 2 ص 395
5- رجال الكشي ص 451
6- رجال العلامة الحلي ص 233
علي بن حسان بن كثير الهاشمي مولى عباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس . ضعيف جدا ذكره بعض أصحابنا في الغلاة فاسد الاعتقاد له كتاب تفسير الباطن تخليط كله . ( 1 )
قلت : أما عمه عبد الرحمن بن كثير فقال عنه النجاشي في رجاله :
1- عبد الرحمن بن كثير الهاشمي مولى عباس بن محمد بن علي بن عبدالله
بن عباس كان ضعيفا غمزه أصحابنا عليه وقالوا كان يضع الحديث . له كتاب فضل سورة أنا أنزلناه اخبرنا احمد بن عبد الواحد قال حدثنا علي بن حبشي قال حدثنا احمد بن محمد بن لاحق قال حدثنا علي بن الحسن بن فضال عن علي بن حسان عن عمه عبد الرحمن بن كثير به . وله كتاب صلح الحسن عليه السلام .(7/367)
اخبرنا محمد بن جعفر الأديب في آخرين قال حدثنا احمد بن محمد قال حدثنا محمد بن مفضل بن إبراهيم بن قيس بن رمانه الأشعري عن علي بن حسان عن عمه عبد الرحمن بن كثير بكتاب الصلح . وله كتاب فدك وكتاب ألاظله كتاب فاسد مختلط . ( 2 )
2- وقال ابن داود في رجاله :
عبد الرحمن بن كثير الهاشمي مولى عباس بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس كان ضعيفا غمز بعض أصحابنا فيه وقالوا كان يضع الحديث .( 3)
3- وقال العلامة الحلي نفسه .( 4 )
قلت : إن هذا الحديث ضعيف جدا لان عبد الرحمن كان يضع الحديث وعلي بن حسان ضعيف جدا .
فبينا ضعف الأحاديث السابقة كلها و لا يوجد عند الرافضة دليل صحيح على دعواهم الباطلة فلعنة الله على الكاذبين .
أما ما ذكرته مجلة المنبر الرافضية في العدد ( 13 ) السنه الثانية ربيع الأول 1422 هجري ذكر الكاتب عبد العزيز قمبر في ( خط احمر!! ) :
ويصعب ـ للوهلى الأولى استيعاب هذه الشبكة المعقدة فأم هذا الرجل هي
___
1- رجال النجاشي ص 251
2- رجال النجاشي ص 234
3- رجال بن داود ص 474
4- رجال العلامة الحلي ص 239
في الوقت نفسه أخته وعمته ! وأبوه هو في الوقت ذاته جده وخاله ! فيما جدته هي أيضا زوجة عمه !!.(7/368)
وعندما يترك الحديث للتاريخ , فانه يقول : (( وأما تفصيل نسبه وبيانه فهو إن ( نفيل ) كان عبدا لكلب بن لؤي بن غالب القرشي فمات عنه ثم وليه عبد المطلب وكانت ( صهاك ) قد بعثت لعبد المطلب من الحبشة فكان ( نفيل ) يرعى جمال عبد المطلب و ( صهاك ) ترعى غنمه وكان يفرق بينهما في المرعى . فاتفق يوما اجتماعهما في مراح واحد فهواها وعشقها ( نفيل ) وكان قد البسها عبد المطلب سروالا من الأديم ( الجلد المدبوغ ) وجعل عليه قفلا وجعل مفتاحه معه لمنزلتها منه ( 1 ) فلما راودها قالت : مالي إلى ما تقول سبيل وقد ألبست هذا الأديم ووضع عليه قفل فقال( نفيل ) : أنا احتال عليه . فاخذ سمنا من مخيض الغنم ودهن به الأديم وما حوله من بدنها حتى استله إلى فخذيها و واقعها فحملت منه ( بالخطاب ) فلما ولدته ألقته على بعض المزابل بالليل خفيه من عبد المطلب فالتقطت ( الخطاب ) أمراه يهودية جنازه وربته فلما كبر كان يقطع الحطب فسمي الخطاب لذلك بالحاء المهملة فصحف بالمعجمة ( 2 ) وكانت ( صهاك ) ترتاده في الخفية فراها ذات يوم وقد تطأطأت عجيزتها ولم يدر من هي فوقع عليها فحملت منه ( بحنتمه ) فلما وضعتها ألقتها على مزابل مكة خارجها فالتقطها هاشم بن المغيره بن الوليد ورباها فنسبت إليه ( 3 ) فلما كبرت وكان( الخطاب ) يتردد على هشام فرأى ( حنتمه ) فأعجبته فخطبها إلى هشام فزوجه إياها فولدت الرجل وكان الخطاب والده لانه أولد حنتمه إياه حيث تزوجها وحده لانه سافح صهاك فاولدها حنتمه والخطاب من أم واحده وهي صهاك !!.))
ولم يورد هذه المعلومة قاص خيالي لقصص ألف ليله وليله ! بل أوردها اشهر نسابه في الإسلام وهو محمد بن السائب الكلبي الذي يقول عنه عز الدين بن الأثير الجزري وهو من أكابر علماء السنه في كتابه المشهور ( أسد الغابة في معرفة الصحابة ) : إن الكلبي واحد من النسابين الكبار
___
1- انظر خيال الرافضة العجيب(7/369)
2- وهذا جهل مركب لان الذي يقطع الحطب يسمى حطاب وليس خطاب
3- حنتمه لم تنسب إلي هشام ولكن نسبت إلي أبيها هاشم
حيث لا يرقى إليه من انتحلها من المؤرخين والمحدثين وهو من أقواهم في الأنساب في مالو راجعنا ابن خلكان في و فيات الأعيان . كما روى ( قصة النسب العظيم ) هذه النساب أبو مخنف لوط بن يحيى الازدي في كتابه المعروف ( الصلابة في معرفة الصحابة ) وكذلك في كتاب ( التنقيح في النسب الصريح ) . ( 1 ) 1- إن الكلبي وأبو مخنف من الشيعة الكذابين كما سوف نبين بعد قليل
قلت : إن هذا الكذب قد ورثوه الرافضة أبا عن جد لأنهم يعلمون إن أنسابهم ملوثه بالمتعة فيريدون أن يطعنوا بأنساب الأشراف أمثال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه و لكن لم يستطيعوا إلا عن طريق الكذب الذي قام عليه دينهم المنحرف .
أما النسابة الذين يدعون الرافضة انهم من رجال أهل السنه و يطعنون بنسب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهم :
الأول : محمد بن السائب الكلبي وهو شيعي سبأي :(7/370)
قال أبو بكر بن خلاد الباهلي عن معتمر بن سليمان عن أبيه : كان في الكوفة كذابان أحدهما الكلبي . وقال عمرو بن الحصين عن معتمر بن سليمان عن ليث ابن أبي سليم : بالكوفة كذابان : الكلبي والسدي يعني محمد بن كروان . وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين : ليس بشيء وقال معاوية بن صالح عن يحيى بن معين : ضعيف . وقال أبو موسى محمد بن المثنى : ما سمعت يحيى ولا عبدالرحمن يحدثان عن سفيان عن الكلبي . وقال البخاري : تركه يحيى بن سعيد وابن مهدي . وقال عباس الدوري عن يحيى بن يعلي المحاربي : قيل لزائده : ثلاثة لا تروي عنهم : أبن أبي ليلى وجابر الجعفي والكلبي . قال : أما أبي ليلى فبيني وبينه آل ابن أبي ليلى حسن فلست اذكره و أما جابر الجعفي فكان والله كذابا يؤمن بالرجعة و أما الكلبي فكنت اختلف إليه فسمعته يقول يوما : مرضت مرضه فنسيت ما كنت احفظ فأتيت آل محمد فتفلوا في فمي فحفظت ما كنت نسيت . فقلت : والله لا اروي عنك شيئا فتركته . وقال الاصمعي عن أبي عوانه : سمعت الكلبي يتكلم بشيء من تكلم به كفر . وقال مره : لو تكلم به ثانيه كفر فسألته عنه فجحده .
وقال عبد الواحد بن غياث عن ابن مهدي : جلس إلينا أبو جزء على باب أبي عمرو بن العلاء فقال : اشهد إن الكلبي كافر . قال فحدثت بذلك يزيد بن زريع فقال : سمعته يقول : اشهد انه كافر . قال : فماذا زعم ؟ قال : سمعته يقول : كان جبريل يوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم لحاجه وجلس علي فأوحى إلى علي . قال يزيد : أنا لم اسمعه يقول هذا , ولكني رايته يضرب على صدره ويقول : أنا سبايء . قال أبو جعفر العقيلي : هم صنف من الرافضة أصحاب عبد الله بن سبا . ( 1 )
الثاني : أبو مخنف لوط بن يحيى الازدي وهو شيعي أيضا :
قال يحيى بن معين : ليس بثقة وقال أبو حاتم : متروك الحديث وقال الدارقطني : أخباري ضعيف . ( 2 )(7/371)
وقال عنه القمي صاحب كتاب الكنى والألقاب الشيعي الشهير :
لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الازدي شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم كما عن ( جش ) وتوفى سنة 157 يروي عن الصادق ( ع ) ويروي عن هشام الكلبي وجده مخنف بن سليم صحابي شهد الجمل في أصحاب علي ( ع ) حاملا راية الازد فاستشهد في تلك الواقعة سنة 36 وكان أبو مخنف من أعاظم مؤرخي الشيعة ومع اشتهار تشيعه اعتمد عليه علماء السنه في النقل عنه كالطبري وابن الأثير وغيرهما ( 3 )
قلت : وبعد ما بينا إن الكلبي وأبو مخنف من رجال الشيعة وليسوا من رجال أهل السنه وهم من الكذابين المعروفين فلا حجه في طعنهم في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
شبهات والرد عليها :
1- من هي صهاك ؟
هي أسطورة لم نجد لها اصل في كتب المسلمين ولكن يوجد لها ذكر في
___
1- تهذيب الكمال ج 25 ص 246 - 253 رقم 5234
2- سير أعلام النبلاء ج 7 ص 301
3- الكنى والألقاب ج 1 ص 148 - 149
كتب الرافضة المعروفين في الكذب أمثال المجلسي وغيره من الذين يحقدون على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
2- من هي حنتمه هل هي أخت أبي جهل أم بنت عمه ؟
هي بنت عمه لان اسم حنتمه هو حنتمه بنت هاشم بن المغيره أما اسم أبو جهل هو عمرو بن هشام بن المغيره . وهشام وهاشم ابني المغيره .
3- ما هو اسم أم الخطاب ؟
هي حيه بنت جابر بن أبي حبيب , من فهم . وليست كما يدعون الزنادقة .
4- هل المعادلة المزعومة تنطبق على نسب أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وهي الأب = الجد = الخال . و الأم = الأخت =العمة ؟
اصل هذه المعادلة من روايات الرافضة المكذوبة والتي بينا ضعفها من قبل والتي تفرد بذكرها الرافضة الكذابين أمثال المجلسي وغيره وسوف أبين كذب هؤلاء الرافضة في هذه المعادلة أيضا :
1- يقصد بالأب الخطاب : وهذا صحيح , لان أبو عمر هو الخطاب(7/372)
2- ويقصد بالجد إن الخطاب هو أبو حنتمه : وهذا كذب لان أبو حنتمه هو هاشم بن المغيره وليس الخطاب .
3- ويقصد بالخال إن الخطاب أخو حنتمه من صهاك : وهذا كذب أيضا لان أم الخطاب اسمها ( حيه ) أما أم حنتمه فهي ( الشفاء ) فيتبين انهم ليسوا من أم واحده وهي صهاك .
4- ويقصد بالأم حنتمه : وهذا صحيح , لان أم عمر حنتمه .
5- ويقصد بالأخت إن حنتمه ابنة الخطاب من صهاك : وهذا كذب لان أبو حنتمه هو هشام بن المغيره وليس الخطاب .
6- ويقصد بالعمة إن حنتمه أخت الخطاب من صهاك : وهذا كذب لان أم الخطاب اسمها ( حيه ) أما أم حنتمه فهي ( الشفاء ) فيتبين انهم ليسوا من أم واحده وهي صهاك .
فبعد ما بينا إن هذه المعادلة من افتراء الرافضة على أمير المؤمنين عمر بن
___
الخطاب رضي الله وهذا يأكده قول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله إن الرافضة هم اكذب الطوائف على الإطلاق .
5- كيف يكون الخطاب عم و أخو زيد بن عمرو بن نفيل ؟
لان نفيل عنده اكثر من زوجه فالخطاب أمه ( حيه ) وعمرو أمه ( قلابة ) فعندما توفا نفيل ورث عمرو زوجة أبيه ( حيه ) فولدت له زيد فعلى هذا يكون الخطاب عم و أخو زيد من أمه وهذا عرف سائد في الجاهلية أن يرث الرجل زوجة أبيه لانهم كانوا يرون إن زوجة الأب تورث .
6- ما هو سبب نزول آية ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤ كم ) المائدة 101 ؟
هناك اكثر من سبب لنزول هذه الايه :
1- حديث البخاري , عن انس رضي الله تعالى عنه قال : خطب النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم خطبه ما سمعت مثلها قط وقال : لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا , قال : فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وجوههم , لهم خنين فقال رجل من أبي قال : فلان فنزلت هذه الايه ( لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤ كم ) .(7/373)
2- حديث البخاري أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم استهزاء فيقول الرجل من أبي ؟ ويقول الرجل : تضل ناقته : أين ناقتي ؟ فانزل الله فيهم هذه الايه ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم ) حتى فرغ من الايه .
3- حديث الطبري عن محمد بن زياد قال : سمعت أبا هريرة يقول : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم فقال : " يا أيها الناس كتب الله عليكم الحج " فقام محصن الاسدي فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فقال " أما أني لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ثم تركتم لضللتم اسكتوا عني ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم "
___
فانزل الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم )
إلى آخر الايه .
فهذه ثلاث أسباب لان الأول وهو عبدالله بن حذافه لم يسال استهزاء لكن قال الحافظ في الفتح ج 9 ص 351 : لا مانع أن يكون الجميع سبب نزولها والله اعلم . وقال ص 352 : والحاصل انهما نزلت بسبب كثرة المسائل , أما على سبيل الاستهزاء والامتحان , و أما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسال عنه لكان على الاباحه .(7/374)
أما الزيادة التي فيها إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقران إماما , فهي صحيحه ولكن تفسير الرافضة لها غير صحيح لانهم يقولون إن عمر رضي الله عنه قام يطلب العفو لكي لا يفضح نسبه , و كما بينا من قبل إن نسب أمير الؤمنين اطهر واشرف من انساب الرافضة أولاد المتعة واحفاذ المجوس , و لكنه قام لأنه فهم إن تلك الاسئله قد تكون على سبيل التعنت أو الاستهزاء أو الشك فخشى أن تتنزل العقوبة بسبب ذلك فقال رضينا بالله ربا ...الخ , وهذا من حرصه رضي الله عنه على رضى الرسول صلى الله عليه وسلم فرضى الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك , وكان من الممكن لو لا لم يقم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنزلت العقوبة على المسلمين .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين
==============
شبهات حول عثمان رضي الله عنه
1. ... مطاعن الشيعة في عثمان رضي الله عنه والرد عليها
2. ... إدعاء الشيعة بأن الصحابة أجمعوا على قتل عثمان رضي الله عنه - 2
3. ... توليته للظالمين
4. ... حقيقة تولية عثمان رضي الله عنه أقاربه
5. ... إرجاعه الحكم للمدينة بعد أن أخرجه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
6. ... وهبه المال لأقاربه وأهل بيته
7. ... عزله للولاة من الصحابه
8. ... درأه للقصاص عن عبيدالله بن عمر
9. ... صلاته أربع ركعات في منى
10. ... وهبه أصحابه ورفقائه كثيراً من أراضى بيت المال
مبحث مطاعن التيجاني في الخليفة الثالث عثمان بن عفان والرد عليه في ذلك(7/375)
عثمان بن عفان ذو النورين، زوجتاه رقية وأم كلثوم، بنتا النبي صلى الله عليه وسلم ، وعديل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وعنوان الجود والكرم، جهّز جيش العسرة، واشترى بئر رومة وجعله وقفاً للمسلمين، ولكنه لم يَسلم من هذا التيجاني الذي حاول أن يشوّه حقيقة التاريخ بالطعن في هذا الصحابي الجليل وهأنذا سوف أسرد شبهاته من كتابه مفنداً لها وذاباً عن حِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي بشره بالجنة فأقول وبالله التوفيق:
أولاً قال التيجاني تحت عنوان ( حديث التنافس على الدنيا ) أن عثمان ترك بعد وفاته مائة وخمسين ألف دينار عدا المواشي والأراضي والضياع مما لا يحصى، وقد رددت عليه وفنّدت قوله هذا في نفس العنوان السابق فليراجع(1).
ثانياً ادّعى التيجاني أن أول من غير سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة هو خليفة المسلمين عثمان وقد دفعت هذه الشبهة عنه بفضل الله ومنّه في غير هذا الموضع بما يشفي المفتون فليراجع(2).
ثالثاً ادّعاء التيجاني بأن الصحابة أجمعوا على قتل عثمان والرد عليه في ذلك:(7/376)
يقول هذا التيجاني (( وإذا ما سألت أحدهم كيف يقتل خليفة المسلمين سيدنا عثمان ذي النورين فسيجيبك بأن المصريين وهم كفرة جاؤوا وقتلوه وينهي الموضوع كله بجملتين، ولكن عندما وجدت الفرصة للبحث وقراءة التاريخ وجدت أن قتلة عثمان بالدرجة الأولى هم الصحابة أنفسهم وفي مقدمتهم أم المؤمنين عائشة التي كانت تنادي بقتله وإباحة دمه على رؤوس الأشهاد فكانت تقول ( اقتلوا نعثلاً فقد كفر ). كذلك نجد طلحة والزبير ومحمد بن أبي بكر وغيرهم من مشاهير الصحابة وقد حاصروه ومنعوه من شرب الماء ليجبروه على الاستقالة، ويحدثنا المؤرخون أن الصحابة هم الذين منعوا دفن جثته في مقابر المسلمين فدفن في ( حش كوكب ) بدون غسل ولا كفن، سبحان الله، كيف يقال أنه قتل مظلوماً وأن الذين قتلوه ليسوا مسلمين، وهذه القضية هي الأخرى كقضية فاطمة وأبي بكر، فأمّا أن يكون عثمان مظلوماً وعند ذلك نحكم على الصحابة الذين قتلوه أو شاركوا قتله بأنهم قتلة مجرمون لأنهم قتلوا خليفة المسلمين ظلماً وعدواناً وتتبعوا جنازته يحصبونها بالحجارة وأهانوه حياً وميتاً أو أن هؤلاء الصحابة استباحوا قتل عثمان لما اقترفه من أفعال تتنافى مع الإسلام كما جاء ذلك في كتب التاريخ، وليس هناك احتمال وسط إلا إذا كذّبنا التاريخ وأخذنا بالتمويه ( بأن المصريين وهم كفرة هم الذين قتلوه ) (!!) وفي كلا الاحتمالين نفيٌ قاطع لمقولة عدالة الصحابة أجمعين دون استثناء فإمّا أن يكون عثمان غير عادل أو يكون قتلته غير عدول وكلّهم من الصحابة وبذلك نبطل دعوانا. وتبقى دعوى شيعة أهل البيت قائلين بعدالة البعض منهم دون الآخر ))(3)، أقول رداً على أكاذيبه:(7/377)
1 أمّا قوله أن قتلة عثمان بالدرجة الأولى هم الصحابة أنفسهم فهذا مما لا يشك عاقل في كذبه ورده فالصحابة رضوان الله عليهم لم يشاركوا في قتل عثمان، ولم يرضوا بذلك أصلاً، بل على العكس من ذلك فإنهم مانعوا عنه ووقفوا بجانبه ولكنه رضي الله عنه خشي الفتنة فمنعهم من الدفاع عنه ولأنه كان يعلم أنه سيقتل مظلوماً كما أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ذكر الفتنة فقال (( يقتل فيها هذا مظلوماً )) يعني عثمان رضي الله عنه(4)، وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري في جزء منه (( ... ثم جاء آخر يستأذن، فسكت هنيهة ثم قال: إئذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه، فإذا عثمان بن عفان ))(5) ، أقول لقد شارك خيار الصحابة في الدفاع عن عثمان وأعلنوا غضبهم لقتله فهذا علي يرفع يديه يدعوا على القتله فعن عبد الرحمن بن ليلى قال: رأيت علياً رافعاً حضينه يقول (( اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ))(6)، وعن عميرة بن سعد قال: (( كنا مع علي على شاطيء الفرات، فمرت سفينة مرفوع شراعها، فقال علي: يقول الله عز وجل { وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام } والذي أنشأها في بحر من بحاره ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله ))(7)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه (( أن علياًّ أرسل إلى عثمان: إنَّ معي خمسمائة ذراع، فأذن لي فأمنعك من القوم، فإنك تحدث شيئاً يستحلّ به دمك. قال أي عثمان جزيت خيراً، ما أحب أن يهراق دم في سببي ))(8)، وحتى أولاد علي وأولاد الصحابة شاركوا في الدفاع عن عثمان فعن محمد بن سيرين قال (( انطلق الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان كلهم شاكي السلاح حتى دخلوا الدار، فقال عثمان: اعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم ))(9) وعن كنانة مولى صفية قال: (( شهدت مقتل عثمان، فأخرج من الدار أمامي أربعة من شبان قريش ملطخين بالدم، محمولين، كانوا يدرأون عن عثمان رضي الله عنه،(7/378)
الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن حكم ))(10)، وعن سلمة بن عبد الرحمن أن أبا قتادة الأنصاري ورجلاً آخر معه من الأنصار دخلا على عثمان وهو محصور فاستأذن في الحج فأذن لهما ثم قالا مع من تكون إن ظهر هؤلاء القوم؟ قال عليكم بالجماعة قالا أرأيت إن أصابك هؤلاء القوم وكانت الجماعة فيهم قال: الزموا الجماعة حيث كانت قال فخرجنا من عنده فلما بلغنا باب الدار لقينا الحسن بن علي داخلاً فرجعنا على أثر الحسن لننظر ما يريد فلما دخل الحسن عليه قال يا أمير المؤمنين إنا طوع يدك فمرني بما شئت فقال له عثمان يا ابن أخي ارجع فاجلس في بيتك حتى يأتي الله بأمره فلا حاجة لي في هراقة الدماء ))(11)، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد الله بن الزبير قال (( قلت لعثمان يوم الدار: اخرج فقاتلهم، فإن معك من قد نصر الله بأقل منه، والله قتالهم لحلال، قال: فأبى ))(12)، وفي رواية أخرى لابن الزبير (( لقد أحل الله لك قتالهم، فقال عثمان: لا والله لا أقاتلهم أبداً ))(13)، و (( وقد لبس ابن عمر درعه مرتين يوم الدار وتقلد سيفه حتى عزم عليه عثمان أن يخرج مخافة أن يقتل ))(14)، وروي الخياط عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (( قلت لعثمان: اليوم طاب الضرب معك، قال: اعزم عليك لتخرجن ))(15)، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن سيرين قال (( جاء زيد بن ثابت إلى عثمان فقال: هذه الأنصار بالباب، قالوا: إن شئت أن نكون أنصار الله مرتين، قال: أما قتال فلا ))(16)، وعن قيس بن أبي حازم ثقة قال (( سمعت سعيد بن زيد يقول: والله لو أن أحداً انقضّ فيما فعلتم في ابن عثمان كان محقوقاً أن ينقضّ ))(17)، وعن خالد بن الربيع العبسي قال (( سمعنا بوجع حذيفة، فركب إليه أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه في نفر أنا فيهم إلى المدائن، قال: ثم ذكر قتل عثمان، فقال: اللهم إني لم أشهد، ولم أقتل، ولم أرض ))(18) وعن جندب بن عبد الله له صحبة (( أنه(7/379)
لقي حذيفة فذكر له أمير المؤمنين عثمان فقال: أما أنهم سيقتلونه! قال: قلت فأين هو؟ قال: في الجنة، قلت فأين قاتلوه؟ قال: في النار ))(19)، وروى ابن كثير في البداية والنهاية عن أبي بكرة قال (( لأن أخرّ من السماء إلى الأرض أحبَّ إليَّ من أن أشرَك في قتل عثمان ))(20)، وعن ابن عثمان النهدي ثقة (( قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: إن قتل عثمان رضي الله عنه لو كان هدًى احتلبت به الأمة لبناً، ولكنه كان ضلالاً فاحتلبت به دماً ))(21)، وعن كلثوم بن عامر تابعي ثقة (( عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما سرّني أني رميت عثمان بسهم أصاب أم أخطأ وأن لي مثل أحد ذهباً ))(22)، وروى ابن شبة بإسناد إلى ريطة مولاة أسامة بن زيد قالت (( بعثني أسامة إلى عثمان يقول: فإن أحببت نقبنا لك الدار وخرجت حتى تلحق بمأمنك يقاتل من أطاعك من عصاك ))(23)، وأخرج البخاري عن حارثة بن النعمان شهد بدراً قال لعثمان وهو محصور (( إن شئت أن نقاتل دونك ))(24)، وأخرج أحمد في فضائل الصحابة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال (( لا تقتلوا عثمان فإنكم إن فعلتم لم تصلُّوا جميعاً أبداً ))(25) وروى ابن عساكر في تاريخه أن سمرة بن الجندب قال (( إن الإسلام كان في حصن حصين، وإنهم ثلموا في الإسلام ثلمة بقتلهم عثمان، وأنهم شرطوا شرطة، وإنهم لن يسدّوا ثلمتهم إلى يوم القيامة، وإن أهل المدينة كانت فيهم الخلافة فأخرجوها ولم تعد فيهم ))(26) وعن نافع مولى ابن عمر أن ابن عمر قال (( لقيت ابن عباس وكان خليفة عثمان على موسم الحج عام قتل فأخبرته بقتله، فعظّم أمره وقال: والله إنه لمن الذين يأمرون بالقسط، فتمَنّيتُ أن أكون قتلت يومئذ ))(27) وبعد هذا السرد لموقف الصحابة العظيم من مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه نعلم جيداً أنهم لم يشاركوا ولم يرضوا بقتل هذا الصحابي الجليل، ونعلم أيضاً الأمانة التي يتمتع بها هذا التيجاني المفتري عندما ادعى أنه(7/380)
درس التاريخ واكتشف أن قتلة عثمان هم الصحابة الكرام في الدرجة الأولى، هكذا! فأقول ألا لعنة الله على الكاذبين، وحتى لا يكون لهذا الدعي أي حجة أسوق بعض روايات الشيعة التي تثبت دفاع الصحابة عن عثمان في مقدمتهم علي بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين رضي الله عنهما حيث يقول المسعودي الشيعي(28) في كتابه مروج الذهب ((... فلما بلغ علياً أنهم يريدون قتله بعث بابنيه الحسن والحسين مع مواليه بالسلاح إلى بابه لنصرته، وأمرهم أن يمنعوه منهم، وبعث الزبير ابنه عبد الله، وبعث طلحة ابنه محمداً، وأكثر أبناء الصحابة أرسلهم آباؤهم اقتداء بمن ذكرنا، فصدّوهم عن الدار ))(29) ويقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (( ... وقام بالكوفة نفر يحرضون الناس على نصر عثمان وأعانه أهل المدينة منهم عقبة بن عمر وعبد بن أبي أوفى وحنظلة الكاتب، وكل هؤلاء من الصحابة، ومن التابعين مسروق والأسود وشريح وغيرهم، وقام بالبصرة عمران بن حصين وأنس بن مالك وغيرهما من الصحابة، ومن التابعين كعب بن شور وهرم بن حيان وغيرهما، وقام بالشام ومصر جماعة من الصحابة والتابعين، وخرج عثمان يوم الجمعة فصلّى بالناس وقام على المنبر فقال: يا هؤلاء الله الله، فوالله إن أهل المدينة يعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فامحوا الخطأ بالصواب، فقام محمد بن سلمة الأنصاري، فقال نعم أنا أعلم ذلك فاقعده حكيم بن جبلة، وقام زيد بن ثابت فاقعده قتيرة بن وهب، وثار القوم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشياً عليه، فادخل داره واستقل نفر من أهل المدينة مع عثمان منهم سعد بن أبي وقاص، والحسن بن عليّ عليه السلام! وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، فأرسل إليهم عثمان عزمت عليكم أن تنصرفوا فانصرفوا ))(30).(7/381)
2 أما الذين خرجوا على عثمان وتآلبوا عليه وقتلوه فهم على قسمين، أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الذي حاول إضلال الناس، فتنقّل في الحجاز والبصرة والكوفة ثم الشام فطرد منها، ثم أتى مصر فأقام بها ووضع لهم الرُجعة، وادعى أن الوصي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو عليّ، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر، ثم بث دعاته وكاتب من استُفْسِدَ من الأمصار وكاتبوه واتفقوا بالسر على ما أرادوا وهم القسم الثاني من الذين تمالئوا على عثمان وهم الأعراب وأوباش العرب وأُصُولُهم من أهل الردة في زمن أبي بكر، وهاهو عليّ يقول لطلحة والزبير عندما اشترطا إقامة الحدود في قاتلي عثمان (( يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم! هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم... ))(31) وهذا ما يقرّه إمام الإمامية الاثني عشرية النوبختي حيث يقول ((وارتد قوم فرجعوا عن الإسلام ودعت بنو حنيفة إلى نبوّة مسيلمة وقد كان ادعى النبوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث أبو بكر إليهم الخيول عليها خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي فقاتلهم وقتل مسيلمة وقتل من قتل ورجع من رجع منهم إلى أبي بكر فسموا أهل الردة ولم يزل هؤلاء جميعاً على أمر واحد حتى نقموا على عثمان أموراً أحدثها وصاروا بين خاذل وقاتل إلا خاصة أهل بيته وقليلاً من غيرهم حتى قتل ))(32) وكان الذي يتزعم الحملة على عثمان هم الذين جاؤو من مصر ويترأسهم الغافقي بن حرب العكبي الذين عُرفوا بالمصريين، ولكن التيجاني ينكر ذلك لأنه كما يدعي قرأ التاريخ! ولكن كتب التاريخ وغيرها، تجمع على أن قتلة عثمان هم المصريّون، راجع تاريخ الطبري(33) ، وابن الأثير(34)، والتمهيد والبيان(35)، ومروج الذهب(36)، والبداية والنهاية(37)، وطبقات ابن سعد(38)، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد(39)، والاستيعاب لابن عبد البر(40)، والتاريخ الاسلامي(41)، والفتوح(7/382)
لابن الأعثم(42) . وبعد ذلك أتساءل والقرّاء أي تاريخ قرأ التيجاني؟ أعتقد أنه قرأ حقاً التاريخ ولكن ليس أي تاريخ، إنه تاريخ الحمقى والمغفّلين!!
3 ثم يدعي أنّ في مقدمة قتلة عثمان أم المؤمنين عائشة ( وفي مقدمتهم أم المؤمنين عائشة التي كانت تنادي بقتله واباحة دمه على رؤوس الأشهاد فكانت تقول ( اقتلوا نعثلاً فقد كفر ) ثم يعزو هذا القول بالهامش: إلى الطبري وابن الأثير والعقد الفريد ولسان العرب وتاج العروس، فأقول:
أ هذه الرواية التي تزعم أن عائشة قالت ذلك مدارُها على نصر بن مزاحم قال فيه العقيلي (( كان يذهب إلى التشيع وفي حديثه اضطراب وخطأ كثير ))(43)، وقال الذهبي (( رافضي جلد، تركوه وقال أبو خيثمة: كان كذاباً، وقال أبو حاتم: واهي الحديث، متروك، وقال الدارقطني: ضعيف ))(44)، (( وقال الجوزجاني: كان نصر زائفاً عن الحق مائلاً، وقال صالح بن محمد: نصر بن مزاحم روى عن الضعفاء أحاديث مناكير، وقال الحافظ أبي الفتح محمد بن الحسين: نصر بن مزاحم غال في مذهبه ))(45)، وعلى ذلك فهذه الرواية لا يعول عليها ولا يلتفت إليها إضافة إلى مخالفتها للروايات الصحيحة الناقضة لها.(7/383)
ب الروايات الصحيحة الثابتة تظهر أن عائشة تألمت لمقتل عثمان ودعت على قاتليه، فعن مسروق تابعي ثقة قال (( قالت عائشة: تركتموه كالثوب النقي من الدنس، ثم قربتموه تذبحونه كما يذبح الكبش، قال مسروق: فقلت هذا عملك كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه، فقالت عائشة: والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم بسواد في بياض حتى جلست مجلسي هذا. قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها ))(46)، وأخرج أحمد في فضائله عن عائشة أنها كانت تقول أي في مقتل عثمان (( ليتني كنت نسياً منسياً فأما الذي كان من شأن عثمان فوالله ما أحببت أن ينتهك من عثمان أمر قط إلا انتهك مني مثله حتى لو أحببت قتله قتلت .. ))(47)، وروى ابن شبة عن طلق بن حُشَّان قال (( قلت لعائشة: فيم قتل أمير المؤمنين عثمان؟ قالت: قتل مظلوماً، لعن الله قتلته ))(48)، وأخرج أحمد في الفضائل عن سالم بن أبي الجعد قال (( كنا مع ابن حنيفة في الشِّعب فسمع رجلاً ينتقص وعنده ابن عباس، فقال: يا بن عباس! هل سمعت أمير المؤمنين عشية سمع الضجة من قبل المربد فبعث فلان بن فلان فقال: اذهب فانظر ما هذا الصوت؟ فجاء فقال: هذه عائشة تلعن قتلة عثمان والناس يؤمِّنون فقال عليّ: وأنا ألعن قتلة عثمان في السهل والجبل، اللهم العن قتلة عثمان، اللهم العن قتلة عثمان في السهل والجبل، ثم أقبل ابن الحنيفة عليه وعلينا فقال: أما فيَّ وفي ابن عباس شاهدا عدل؟ قلنا؟ بلى! قال: قد كان هذا ))(49).
ت المعلوم عند جميع المؤرخين أن عائشة خرجت تطالب بدم عثمان فكيف يوفق بين موقفها هذا وقولها ( إقتلوا نعثلا فقد كفر )؟! إلا أن هذا القول كذب صريح عليها.
4 وأما قوله ( كذلك نجد طلحة والزبير ومحمد بن أبي بكر وغيرهم من مشاهير الصحابة (!!) وقد حاصروه ومنعوه من شرب الماء ليجبروه على الاستقاله ). وجواباً على ذلك أقول:(7/384)
أ أما أن محمد بن أبي بكر من مشاهير الصحابة فهذا أمر ثابت لا يمكن إنكاره لأنه من أكثر المصاحبين للنبي صلى الله عليه وسلم إذ صاحبه ما يقرب الأربعة أشهر!؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفّي ولم يتم محمد بن أبي بكر من عمره أربعة أشهر!!!؟ فياله من صحابي مشهور؟!؟
ب أما أن طلحة والزبير قد حاصرا عثمان ومنعوه من شرب الماء!؟ فهذا من المين الفاضح، فأين النقل الثابت؟ وما هو المصدر الذي استقى منه التيجاني كذبهُ هذا؟ وأنا أتحدّاه بأن يأتي بمصدر واحد يذكر مثل هذه الترّهات، ولكن بعداً له!(7/385)
ت الروايات الصحيحة الثابتة تبين أن طلحة والزبير تألّما لقتل عثمان غاية الألم بل وحاولا الدفاع عنه فعن أبي حبيبة قال (( بعثني الزبير إلى عثمان وهو محصور، فدخلت عليه في يوم صائف وهو على كرسي، وعنده الحسن بن عليّ، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فقلت: بعثني إليك الزبير بن العوام وهو يقرئك السلام ويقول لك: إني على طاعتي لم أبدّل ولم أنكث، فإن شئت دخلت الدار معك وكنت رجلاً من القوم، وإن شئت أقمت، فإنّ بني عمرو بن عوف وعدوني أن يصبحوا على بابي، ثم يمضون على ما آمرهم به. فلما سمع الرسالة قال: الله أكبر، الحمد لله الذي عصم أخي، أقرئه السلام ثم قل له: إن يدخل الدار لا يكن إلا رجلاً من القوم، ومكانك أحبّ إليّ، وعسى الله أن يدفع بك عنّي، فلما سمع الرسالة أبو هريرة قام فقال: ألا أخبركم ما سمعت أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: بلى، قال: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تكون بعدي فتن وأمور، فقلنا: فأين المنجى منها يا رسول الله؟ قال: إلى الأمين وحزبه، وأشار إلى عثمان بن عفان. فقام الناس فقالوا: قد أمكننا البصائر، فأذن لنا في الجهاد؟ فقال عثمان: أعزم على من كانت لي عليه طاعة ألا يقاتل ))(50) وروى الداقطني في فضائل الصحابة (( أن عثمان أشرف على المسجد، فإذا طلحة جالس في شرق المسجد، قال: يا طلحة قال: لبيك قال: نشدتك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يشتري قطعة يزيدها في المسجد، فاشتريتها من مالي، قال طلحة: اللهم نعم، فقال: يا طلحة قال: لبيك، قال: نشدتك بالله هل تعلمني حملت في جيش العسرة على مائة؟ قال طلحة: اللهم نعم، ثم قال طلحة: اللهم لا أعلم عثمان إلا مظلوماً ))(51).(7/386)
ج لا يختلف إثنان في أن طلحة والزبير كانا من أوائل المطالبين بدم عثمان، والاقتصاص من قاتليه، ولم يخرجا، إلا لهذا السبب، فليت شعري إن كانا من المحرضين على قتل عثمان، والمشاركين في حصاره فما معنى موقفهما ممن يريدون قتالهم وهم يشاركونهم في الجريمة؟!
5 ثم يقول ( ويحدثنا المؤرخون أن الصحابة هم الذين منعوا دفن جثّته في مقابر المسلمين، فدفن في ( حش كوكب ) بدون غسل ولا كفن )!؟ وفي موضع آخر يقول ( وتحقق لدي ما قاله المؤرخون من أنه دفن بحش كوكب وهي أرض يهودية)
أ يريد هذا التيجاني أن يصور الصحابة على أنهم مجموعة من الرعاع والهمج الذين يقتلون بعضهم بعضاً، بل ويمنعون خيرة الصحابة من أن يدفن مثل باقي المسلمين، فيضعونه في قبره دون غسل ولا تكفين!! وأنا لا أستغرب هذا القول من هذا المهتدي، لأنه لم يشعر قلبه يوماً بمحبّة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحبُّ أن أعلمه أن هذه الأفعال التي يريد إلصاقها بصحابة النبي صلى الله عليه وسلم هي أولى بطباعهم وأفعالهم، وكيف لا وهم أحفاد عبد الله بن سبأ اليهودي راعي الفتنة الأولى!
ب أما ادعاؤه بأن الصحابة منعوا دفنه في مقابر المسلمين فدفن في حش كوكب وهي أرض يهودية فلا يدلّ إلا على جهله المطبق لأن حش كوكب ليست أرض يهودية، ولم تكن كذلك إطلاقاً، لأن حش بمعنى البستان، وقد اشتراه عثمان من كوكب وهو رجل من الأنصار(52) وعندما توفي دفن في بستانه الذي اشتراه من ماله، فأي شيء في ذلك؟
ثم يضيف قائلاً (( وتحقق لدى ما قاله المؤرخون من أنه دفن بحش كوكب وهي أرض يهودية لأن المسلمين منعوا دفنه في بقيع رسول الله، ولمّا استولى معاوية بن أبي سفيان على الخلافة اشترى تلك الأرض من اليهود (!!!) وأدخلها في البقيع ليدخل بذلك قبر ابن عمه عثمان فيها والذي يزور البقيع حتى اليوم سيرى هذه الحقيقة بأجلى ما تكون ))(53). وأنا أقول:(7/387)
لو سألت طفلاً في المرحلة الإبتدائية هل كان اليهود موجودين في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد الخلفاء الراشدين، فسيجيبك باسترخاء بالطبع لا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم عن المدينة، ومن ثم أجلاهم عمر من الجزيرة كلها فتاهوا في الأرض، فسبحان الله ويقولون: حاصل على الدكتوراه!؟
ثم يقول (( وبالمناسبة أذكر هنا قصّة طريفة ذكرها بعض المؤرخين ولها علاقة بموضوع الإرث. قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة: جاءت عائشة وحفصة ودخلتا على عثمان أيام خلافته وطلبتا منه أن يقسم لهما ارثهما من رسول الله (ص). وكان عثمان متكئاً فاستوى جالساً وقال لعائشة: أنت وهذه الجالسة جئتما بأعرابي يتطهّر ببوله وشهدتما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نحن معشر الأنبياء لا نورث فإذا كان الرسول حقيقة لا يورّث فماذا تطلبان بعد هذا، وإذا كان الرسول يورّث لماذا منعتم فاطمة حقها؟ فخرجت من عنده غاضبة وقالت: أقتلوا نعثلاً فقد كفر ))(54) أقول:
1 فتحت شرح النهج في الجزء السادس عشر ص (220 223 ) كما أشار بالهامش فلم أجد لهذه الرواية المكذوبة أثراً! ولكن وجدت هذه الرواية (( عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وآله أردن لما توفّي أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسأله ميراثهنَّ أو قال ثمنهنَّ، قالت: فقلْتُ لهنّ أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا نورث ما تركنا صدقة ))(55) وهذه الرواية أخرج مثلها البخاري ومسلم في الصحيح، وهي كما ترى تناقض القصة التي ذكرها التيجاني في كتابه.(7/388)
2 مجرّد عزو التيجاني على شرح النهج لابن أبي الحديد ليس فيه أي حجة لأنه ليس من أهل المعرفة بالحديث فيضع في كتابه من الأحاديث غثّها وثمينها، ومع ذلك فإني لم أستطع العثور على هذه القصة في الموضع المشار إليه، وأخشى أن تكون من عنديّات التيجاني، وعلى العموم فالأحاديث الصحيحة وسيرة كل من عائشة وعثمان رضي الله عنهما تكذّب هذا الخبر وترّده والحمد لله.
ثم يقول (( ولما جاء عثمان بعده أي بعد عمر ذهب شوطاً بعيداً في الإجتهاد فبالغ أكثر ممن سبقوه حتى أثّر اجتهاده في الحياة السياسية والدينية بوجه عام فقامت الثورة ودفع حياته ثمن اجتهاده ))(56)، أقول:(7/389)
هذا من الكذب الظاهر على عثمان فهؤلاء الأعراب لم يخرجوا عليه إلا لمرض نفوسهم ولم يصيبوا فيما ادعوه عليه، إضافة لدور اليهودي عبد الله بن سبأ في إشعال الفتنة على عثمان فهؤلاء هم المتسببون بالفتنة وليس عثمان ويظهر ذلك في وقوف الصحابة جميعاً مع عثمان والدفاع عنه، ولن أنسى ذكر الأدلة التي تبيّن أن الحق مع عثمان وأن الخارجون عليه هم أهل الفتنة والباطل، فقد أخرج الحاكم في المستدرك وأحمد في الفضائل عن موسى بن عقبة قال (( حدثني أبو أمي أبو حبيبة أنه دخل الدار وعثمان محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام فأذن له، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافاً، فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟ فقال: عليكم بالأمين وأصحابه، يعني عثمان ))(57)، وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري في جزء منه عندما جاء عثمان بن عفان (( قال: فجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: افتح له وبشّره بالجنة على بلوى تكون، قال: فذهبت فإذا هو عثمان بن عفان، قال: ففتحت وبشرّته بالجنة، قال: وقلت الذي قال، فقال: اللهم صبراً،أو الله المستعان ))(58)، وعن ابن عمر قال: ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فتنة فقال (( يقتل هذا فيها مظلوماً )) لعثمان بن عفان(59) وروى أحمد في الفضائل عن كعب بن عُجرة قال (( ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقرّبها وعظّمها، ثم مر رجل مقنّع في ملحفة فقال: هذا يومئذ على الحق، فانطلقت مسرعاً فأخذت بضبعيه فقلت: هذا يا رسول الله؟ قال: هذا، فإذا عثمان بن عفان ))(60)، فهل بعد ذلك لا زال يظن التيجاني أن اجتهادات عثمان الباطلة! هي السبب في الفتنة عليه؟ فهنيئاً للتيجاني وقوفه مع أهل الفتنة ضدّ أهل السنة!(7/390)
وأخيراً: فهذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثالث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من حيث المنزلة، والذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهو الصحابي الحييّ الذي ضرب به المثل في الكرم والانفاق، فكان له فضل توسيع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بماله واشترى بئر رومة، وجعله وقفاً للمسلمين، وجهز جيش العسرة للمسلمين، وعن عبد الرحمن بن سمرة قال (( جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار قال الحسن بن واقع: وفي موضع آخر من كتابي: في كمه حين جهّز جيش العسرة فنثرها في حجره، قال عبد الرحمن: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلّبها في حجره ويقول: ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم، مرتين ))(61)، وهذه حقيقة لا يستطيع أحد إنكارها حتى هداة التيجاني أنفسهم فهذا أبو الفتح الأربلي من علماء الإمامية يورد في كتابه ( كشف الغمة ) قصة زواج على بن أبي طالب من فاطمة رضي الله عنهما مثبتاً مساعدة عثمان لعلي في زواجه من فاطمة (( ... قال علي فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا الحسن انطلق الآن فبع درعك وأت بثمنه حتى أهيء لك ولابنتي فاطمة ما يصلحكما، قال علي: فانطلقت وبعته باربعمائة درهم سود هجرية من عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما قبضت الدراهم منه وقبض الدرع مني قال: يا أبا الحسن ألست أولى بالدرع منك وأنت أولى بالدراهم مني؟ فقلت: بلى، قال: فإن الدرع هدية مني إليك، فأخذت الدرع والدراهم وأقبلت إلى رسول الله ( ص )، فطرحت الدرع والدراهم بين يديه وأخبرته بما كان من أمر عثمان فدعا له بخير ...))(62)!، ويثبت أيضاً حب الأئمة الإثني عشر لعثمان وتعظيمهم لشأنه فيروي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسن أنه (( قدم عليه نفر من أهل العراق فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما فرغوا من كلامهم، قال لهم: ألا تخبروني أنتم { المهاجرون الأولون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون(7/391)
فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } ؟ قالوا: لا، قال: فأنتم { الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ؟ قالوا: لا، قال: أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين أمنوا } أخرجوا عني فعل الله بكم! ))(63)؟!، فهل بعد ذلك الاعتراف بفضائل عثمان من السنة والشيعة يدعي التيجاني أن الله هداه للطعن به وبالصحابة الكرام؟!
===========
شبهات وردود حول عثمان رضي الله عنه
منها ان عثمان ولى وأمر من صدر منه الظلم والخيانة وارتكاب الأمور الشنيعة كالوليد ابن عقبة( 1 ) الذي شرب الخمر وأم الناس في الصلاة وهو سكران وصلى الصبح أربع ركعات ثم قال : هل ازيدكم ؟ وولي معاوية الشام التى هي عبارة عن أربع ممالك فتقوى حتى انه نازع الأمير وبغي عليه في ايام خلافته . وولى عبد الله بن سعد مصر فظلم أهلها ظلماً شديداً حتى اضطرهم إلى الهجرة إلى المدينة وخرجوا عليه . وجعل مروان وزيره وكاتبه فمكر في حق محمد بن أبي بكر وكتب مكان اقبلوه أقتلوه ( 2 ) . ولم يعزلهم بعد الاطلاع على أحوالهم حتى تضجرت الناس منه فآل أمره إلى أن قتل ، ومن كان في هذا حاله فهو غير لائق بالإمامة .(7/392)
والجواب أن الإمام لابد له ان يفوض بعض الأمور إلى من يراه لائقاً لما هنالك بحسب الظاهر إذ ليس له علم الغيب ، فإنه ليس بشرط في الإمامة عند أهل الحق . وقد كان عماله ظاهراً مطيعين له منقادين لأوامره . وقد ثبت في التاريخ أنهم خدموا الإسلام وشيدوا الدين ، فقد فتحوا بلاداً كثيرة حتى وصلوا غرباً إلى الأندلس وشرقاً إلى بلخ وكابل وقاتلوا براً وبحراً ، وأستأصلوا أرباب الفتن والفساد من عراق العجم وخراسان ، وقد عزل بعض من تحقق لديه بعد ذلك سوء حاله كما عزل الوليد ( 3 ) . ومعاوية لم يبلغ في زمنه حتى يستحق العزل ، بل قد أجرى خدمات كثيرة ، كما غزا الروم وفتح منها بلاداً متعددة ( 4 ) . وأما الشكايات التى وقعت على عبدالله بن سعد فمن تزوير عبدالله ابن سبأ وتسويلاته ( 5 ) . وبالجملة لم يكن لعثمان قصور مما هنالك ، وحالة مع عماله كحال الأمير مع عمله ، إلا أن عمال عثمان كانوا منقادين لأوامره ومطيعين له ، بخلاف عمال الأمير ومن راجع ما سلف منا من خطب الأمير في حق أتباعه وجنده وأشياعه تبين له صدق هذا الكلام ، وأن لا عتب على ذى النورين في ذلك ولا ملام . وقد كتب الأمير كرم الله تعالى وجهه إلى المنذر الجارود العبدى (( أما بعد فصلاح أبيك غرني وظننت انك تتبع هداه وتسلك سبيله ، فإذا أنت – فيما نما إلى عنك – لا تدع لهواك أنقياداً ، ولا تبقى لآخرتك عتاداً . تغمر دنياك بخراب آخرتك ، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك )) إلى آخر ما قال . ومثل هذا كثير في ذلك الكتاب . فكما أن الأمير لا يلحقه طعن بسبب ما وقع من عماله ، كذلك عثمان . وإلا فما الفرق ؟ والله سبحانه الموفق للهداية وبه نستعيذ من الضلالة والغواية .
ومنها ان عثمان أدخل الحكم ( أبا مروان ) بن العاص المدينة وقد أخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم(7/393)
والجواب أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أخرجه لحبه المنافقين وتهيجه الفتن بين المسلمين ومعاونته الكفار ، ولما زال الكفر والنفاق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وقوى الإسلام في خلافة الشيخين لم يبق محذور من إرجاعه إليها . وقد سبق مما هو مقرر عند الفريقين أن (( الحكم إذا علل بعلة ثم زالت زال )) ( 6 ) وعدم إرجاع الشيخين إياه لما حصل عندهما من ظن بقائه على ما كان عليه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد أرتفع ذلك عن عثمان زمن خلافته لأن الحكم كان ابن أخيه ، على ان عثمان قال اعترضوا عليه بذلك : إني كنت أخذت الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته على دخول الحكم المدينة وعدم قبول ابي بكر ذلك منى لطلبه شاهداً آخر على إذنه صلى الله عليه وسلم له بالدخول المدينة . وكذلك عمر . ولما ادت النوبة إلى عملت بما علمت . وأيضاً قد ثبت أن الحكم قد تاب في آخر عمره من النفاق ومما كان يفعله من التزوير والاختلاق ، والله تعالى الهادي إلى طريق السداد ، ومنه التوفيق والرشاد .
ومنها أن عثمان وهب لأهل بيته واقاربه كثيراً من المال ، وصرف من بيت المال مصارف كثيرة في غير محلها مما يدل على إسرافه ، كما اعطى الحكم مائة ألف درهم وأعطى مروان خمس إفريقية ( 7 ) وخالد بن اسيد بن العاص ثلاث مائة ألف درهم وذلك لما جاء من مكة ، إلى غير ذلك من الإسراف الوافر والبذل المتكاثر ، ومن كان بهذه الأحوال كيف يستحق الإمامة من بين الرجال .(7/394)
والجواب – على فرض التسليم – ان عثمان رضي الله عنه بذل ذلك من كيسه لا من بيت المال ، فإنه كان من المتمولين قبل ان يكون خليفة ، ومن راجع كتب السير أقر بهذا الأمر ، فقد كان رضي الله عنه يعتق في كل جمعة رقبة ، ويضيف المهاجرين والأنصار ، ويطعمهم في كل يوم ، قد روى عن الإمام الحسن البصري أنه قال : إنى شهدت منادى عثمان ينادى (( يا أيها الناس اغدوا على أعطياتكم )) فيغدون فيأخذونها وافرة (( يا ايها الناس أغدوا على رزقكم )) فيغدون فيأخذونها وافية حتى والله لقد سمعته أذناى يقول (( أغدوا على كسوتكم )) فيأخذون الحلل . ومن راجع كتب التواريخ علم درجة رضي الله عنه ، ولم يقل عن احد أن الإنقاق في سبيل الله تعالى موجب للطعن ( 8 ) والله تعالى الهادي .
ومنها ان عثمان قد عزل في خلافته جمعاً من الصحابة عن مناصبهم كما عزل ابا موسى الأشعري عن البصرة ( 9 ) ونصب مكانه عبدالله بن عامر ، وعزل عمرو بن العاص عن مصر ونصب مكانه عبدالله بن سعد مع أنه قد أرتد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولحق بمشركي مكة وأباح صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح حتى تكفله عثمان فأسلم وعزل عمار بن ياسر عن الكوفة وعبدالله بن مسعود عن قضائها .
والجواب أن عزل العمال ونصبهم من وظيفة الخلفاء والأئمة ، ولا يلزمهم إبقاء العمال السابقين على حالهم . نعم لا ينبغي العزل من غير سبب وعزل هؤلاء كان لسبب ، وقد فصل ذلك في كتب التواريخ فراجعها .
ومنها أن عثمان درأ القصاص عن عبيد الله بن عمر وقد قتل الهرمزان ملك الأهواز الذى اسلم في زمن عمر بعد ان اتهمه في مشاركة من قتل عمر ( 10 ) ، مع أن القاتل كان ابا لؤلؤة فقط وقد قتل ابنته وقتل ايضاً حنيفة النصراني لأتهامه بذلك وقد أجتمع الصحابة عليه ليقتص من عبيد فلم يوافقوهم وأدى ديتهم عنه فخالف حكم الله فليس يليق للإمامة .(7/395)
والجواب أن القصاص لم يثبت في تلك الصور ، لأن ورثة الهرمزان لم يكونوا في المدينة بل كانوا في فارس ، ولما أرسل عليهم عثمان لم يحضروا المدينة خوفاً كما ذكر المرتضى في بعض كتبه ( 11 ) . وشرط حضور جميع ورثة المقتول كما ذهبت إليه الحنفية ، فلم يبق إلا الدية ، وقد أعطاها من بيت المال لا من القاتل ، ولأن بنت ابي لؤلؤة كانت مجوسية وجفينة كان نصرانياً وقد قال صلى الله عليه وسلم (( لا يقتل مسلم بكافر )) وهذا ثابت عندهم ، على أنه لو أقتص عثمان من عبيد الله لوقعت فتنة عظيمة لأن بني تيم وبني عدى كانوا مانعين من القتل ، وكانوا يقولون لو أقتص عثمان من عبيد الله لحاربناه ، ونادى عمرو بن العاص وهو رئيس بني سهم فقال : أيقتل أمير المؤمنين أمس ويقتل أبنه اليوم ؟ لا والله لا يكون هذا أبداً ، وهذا كما ثبت عندهم من ان الأمير لم يقتص من قتله عثمان خوفاً من الفتنة .
ومنها أن عثمان غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه صلى اربع ركعات في منى مع انه صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة الرباعية في سفره دائماً و قد أنكر عليه الجماعة من الصحابة ذلك الفعل .
والجواب أن عثمان ما كان إذ ذك مسافراً لأنه تزوج في مكة وتبوأ منزلاً فيها وأقام في تلك البقعة المباركة ، ولما طلع الأصحاب على حقيقة الحال زال عنهم الإنكار والإشكال .
ومنها أن عثمان قد وهب لأصحابه ورفقائه كثيراً من أراضى بيت المال وأتلف حقوق المسلمين .
والجواب أنه كان يأذن لهم بإحياء أراضى الموات ، ومن يحيى الموات فهي له لقوله تعالى صلى الله عليه وسلم (( موتان الأرض لله ولرسوله فمن أحيا منها شيئاً فهو له )) ولم يهب لأحد ارضاً معمورة مزروعة كا يعلم ذلك من التاريخ ( 12 ) .
ومنها أن الصحابة كلهم كانوا راضين بقتله ويتبرأون منه ( 13 ) حتى تركوه بعد قتله ثلاثة أيام بلا دفن .(7/396)
والجواب أن هذا كله كذب صريح وبهتان فضيح على الصبيان فضلاً عن ذوى العرفان ، ألا ترى أن طلحه والزبير وعائشة الصديقة ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم قد قاتلوا لأجل طلب القصاص لعثمان ، وقد ثبت في التواريخ عند الفريقين أن الصحابة كلهم لم يألوا جهداً في دفع البلوى عنه حتى أستأذنوا منه في قتال المحاصرين فلم يجوز لهم ( 14 ) وكانوا مهما تمكنوا يوصلون إليه الماء ويفرجون عنه . وجاء زيد بن ثابت مع الأنصار وقال شبابهم له : إن شئت كنا أنصار مرتين ، وجاء عبد الله بن عمر مع المهاجرين وقال : إن الذين خرجوا عليك آمنوا سيوفنا ، واستأذنه لقتالهم فلم يأذن له ، وكان السبطان وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر بن ربيعة وابو هريرة وغيرهم من الصحابة معه في دار وكانوا يدافعون عنه كلما هجم عليه أهل البغي والعدوان ولم يأذن لهم ولا لأحد بقتالهم ، وقد ثبت في نهج البلاغة من كلام الأمير أنه قال (( والله قد دفعت عنه )) إلى غير ذلك ، وقد شيع جنازته جماعة من الصحابة والتابعين ودفنوه بثيابه الملطخة بالدم ليلاً ولم يؤخروه ، وقد حضرت الملائكة جنازته لما روى الحافظ الدمشقي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( يوم موت عثمان تصلى عليه ملائكة السماء )) قال الراوى : قلت يا رسول الله عثمان خاصة أو الناس عامة ؟ قال : عثمان خاصة . ونسبة هجوه وبغضه إلى الصحابة كذب وزور ، وذلك في غاية الظهور . فقد روى الديلمي وهو من المعتبرين عند الشيعة في ( المنتقى ) عن الحسن بن علي قال (( ما كنت لأقاتل بعد رؤيا رايتها : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً يده على العرش ، ورأيت ابا بكر واضعاً يده على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأيت عمر واضعاً يده على منكب أبي بكر ، ورأيت عثمان واضعاً يده على منكب عمر ، ورأيت دماً دونه ، فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : دم عثمان يطلب الله به )) . وروى ابن(7/397)
السمان عن قيس بن عباد قال سمعت علياً يوم الجمل يقول (( اللهم إنى أبرأ إليك من دم عثمان ، ولقد طاش عقلى يوم قتل عثمان ، وأنكرت نفسي ، وجاءوني للبيعة فقلت : ألا أستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ، إنى لأستحي من الله أن ابايع وعثمان قتيل في الأرض لم يدفن بعد ، فأنصرفوا . فلما دفن رجع الناس يسألون البيعة فقلت : اللهم إني مشفق مما أقدم عليه . ثم جاءت عزيمة فبايعت . قال : فقالوا (( يا أمير المؤمنين )) فكأنما صدع قلبي )) وروى ابن السمان أيضاً عن محمد بن الحنفية أن علياً قال يوم الجمل (( لعن الله قتلة عثمان في السهل والجبل )) وعنه أن علياً بلغه أن عائشة تلعن قتلة عثمان فرفع يديه حتى بلغ بهما وجهه فقال (( وأنا ألعن قتلة عثمان ، لعنهم الله في السهل والجبل )) مرتين أو ثلاثاً . إلى غير ذلك من اقوال أهل البيت وسائر الصحابة مما يدل على مزيد حبهم له وتأسفهم على مصيبته . وهذا الكتاب لا يحتمل ذكر ذلك على سبيل التفصيل ، وتأخير دفنه إلى ثلاثة ايام زور وبهتان كما يعلم مما ذكرنا من البيان . كيف وقد اجمع المؤرخون على أن شهادته رضي الله عنه بعد العصر يوم الجمعة لعشر خلون من ذي الحجة ، ودفن في البقيع ليلة السبت رضي الله عنه وأرضاه ، وجعل الغرف العالية مستقرة ومثواه ، ونسأله تعالى ان يحشرنا في زمرتهم ، ويميتنا على محبتهم .
------------------(7/398)
( 1 ) الوليد بن عقبة أخو أمير المؤمنين عثمان لأمه ، أمهما أروى بنت كريز ، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم ، عمه النبي صلى الله عليه وسلم وتوأمة ابيه . أدرك خلافة الصديق الأكبر في اول شبابه وكان محل ثقته ، وموضع السر في الرسائل الحربية التى دارت بين الخليفة وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار مع الفرس سنة 12 . ثم وجهه مدداً إلى قائده عياض بن غنم الفهرى ( الطبري 4 : 22 ) . وفي سنة 13 كان الوليد بلي لأبي بكر صدقات قضاعة ، ثم لما عزم الصديق على فتح الشام كان الوليد عنده بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة فكتب إليه وإلى عمرو يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد فسار عمرو بلواء الإسلام نحو فلسطين وسار الوليد إلى شرق الأردن ( الطبري 4 : 29 – 30 ) . ثم رأينا الوليد سنة 151 أميراً لعمر بن الخطاب على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة يحمى ظهور المجاهدين في شمال الشام لئلا يؤتوا من خلفهم . وكان الوليد أول ناشر لدعوة الإسلام بين نصارى تغلب وبقايا إياد بحماسة وغيرة لا مثيل لها . وبهذه الثقة الكبرى التى نالها الوليد من أبي بكر وعمر ولاه عثمان ولاية الكوفة ، وكان من خير ولاتها عدلاً ورفقاً وإحساناً ، وكانت جيوشه مدة ولايته على الكوفة تسير في آفاق الشرق فاتحة ظافرة موفقة . وأنظر في تاريخ الطبري ( 5 : 60 ) شهادة الإمام الشعبي له في إمارته وفي جهاده وجزيل إحسانه إلى الناس .
( 2 ) هذا الكتاب زوره الأشتر وحكيم بن جبله . أنظر ( العواصم ) ص 109 – 110 .(7/399)
( 3 ) مما لا ريب فيه أن الوليد بن عقبة كان في ولايته على الكوفة الحاكم العادل الرحيم المحسن إلى الناس جميعاً . وكانت الكوفة منزل جهاد للفيالق التى يسيرها الوليد ابن عقبة إلى سواحل بحر الخزر وبلاد روسيا الآن . وأتفق ذات ليلة أن سطا بعض الأشرار على منزل رجل في الكوفة اسمه ابن الحيسمان فقتلوه . وكان في جوار المنزل صحابي مجاهد هو أبو شريح الخزاعي حامل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش خزاعة يوم فتح مكة ، جاء إل الكوفة هو أبنه ليلحقا بكتائب الجهاد ، واتفق نزوله في جوار بيت ابن الجيسمان فلما سطا الأشرار على ابن الحيسمان ليلاً رآهم أبو شريح الخزاعي وابنه وشهدا عليهم أمام الوليد بن عقبة فحكم عليهم الوليد بن عقبة بإقامة الحد الشرعي . إن الشاهدين اللذين شهدا على الوليد بن عقبة بشرب الخمر ها ابوان لأثنين من الأشرار الذين سطوا على ابن الحيسمان ، وقد حنقا على الوليد لإقامة الجد الشرعي عليهما ، وشهدا عليه عند عثمان زوراً وكذباً ، فقال أمير المؤمنين عثمان لواليه الوليد عقبة (( تقيم الحدود ، ويبوء شاهد الزور بالنار )) . وفي تعليقات كتاب ( العواصم من القواصم ) ص 94 – 99 بيان لحقيقة هذه الشهادة نقلاً عن المصادر الإسلامية المحترمة . فارجع إليها لتعلم أن الوليد بن عقبة رضوان الله عليه من خيرة رجال الدولة الإسلامية الأولى ، أنه كان موضع ثقة أبي بكر وعمر فضلاً عن عثمان رضوان الله عليه ، وان أياديه على الإسلام جعلته في طليعة المجاهدين العادلين الناصحين .
( 4 ) أنظر في هامش ص 123 – 124 الكلمة المأثورة في زمن الدولة العباسية عن الإمام سليمان بن مهران الأعمش في تفضيله معاوية على عمر بن عبدالعزيز حتى في عدله ، وقول قتاده وهو من أعلام الإسلام (( لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم : هذا المهدي )) .(7/400)
( 5 ) في حوادث سنة 27 من تاريخ الطبري ( 5 : 49 ) أن عثمان لما أمر عبدالله ابن سعد بن أبي سرح بالزحف من مصر على تونس لفتحها قال له (( إن فتح الله غداً عليك إفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا )) فخرج بجيشه حتى قطعوا أرض مصر وأوغلوا في أرض إفريقية وفتحوها سهلها وجبلها ، وقسم عبدالله بن سعد على الجند ما أفاء الله عليهم وأخذ الخمس الخمس وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع وثيمة النصري . فشكا وفد ممن كان مع وثيمة ما أخذه عبدالله بن سعد ، فقال لهم عثمان : أنا أمرت له بذلك ، فإن سخطتم فهو رد ، قالوا : إنا نسخطه ، فامر عثمان عبدالله بن سعد بأن يرده ، فرده ورجع عبدالله بن سعد إلى مصر وقد فتح وليس في يده شئ مما أفتروا عليه .(7/401)
( 6 ) قال شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج لسنة ( 3 : 196 ) : قصة نفي النبي صلى الله عليه وسلم للحكم ليست في الصحاح ، ولا لها في إسناد يعرف به أمرها . ثم قال (( لم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة فإن كان صلى الله عليه وسلم طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة . وقد طعن كثير من اهل العلم في نفيه وقالوا : هو ذهب باختياره . وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم عزر رجلاً بالنفي لم يلزم أن يبقى منفياً طوال الزمان ، فإن هذا لا يعرف في شئ من الذنوب ، ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفياً دائماً )) إلى أن قال : (( وقصة الحكم فإنما ذكرت مرسلة ، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه ، فلم يكن هناك نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان ، والمعلوم من فضائل عثمان ، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه ، وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة ، وإرساله إلى مكة ( أى في حادث الحديبية ) ومبايعته له عنه ( أى بيعة الرضوان ) ، وتقديم الصحابة له في الخلافة ، وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض ، وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه . فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ، ويجعل لعثمان ذنب لا تعرف حقيقته … إلخ )) وأنظر أيضاً ( 3 : 235 – 236 ) من منهاج السنة . وتحقيق الإمام ابن حزم في كتاب الفصل ( 4 : 154 ) ، وما نقله مجتهد اليمن محمد بن إبراهيم الوزير في كتابه ( الروض الباسم ، في الزب عن سنة ابي القاسم ) 1 : 141 – 142 عن الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي المتشيع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لعثمان في رد الحكم . وترى تفصيل ذلك في ( العواصم من القواصم ) ص 77 – 79 للقاضي أبي بكر بن العربي والتعليقات عليه .(7/402)
( 7 ) هو خمس الخمس لا الخمس ، وقد أعطاه لعبد الله بن سعد فاتح إفريقية لا لمروان وقد علمت مما نفلناه آنفاً عن الطبري أنه استرجعه من عبد الله بن سعد .
( 8 ) قال الطبري في تاريخه ( 5 : 103 ) : كان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية ، وجعل ولده كبعض من يعطي ، فبدأ ببني أبى العاص فاعطي آل الحكم رجالهم عشرة آلاف عشرة آلاف ، فأخذوا مائة ألف ، وأعطى بني عثمان مثل ذلك ، وقسم في بني العاص وبني العيص وفي بني حرب . وقد أشار عثمان إلى ذلك في خطبته المشهورة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم رداً على زعماء الفتنة والبغاة عليه فقال : (( وقالوا إنى أحب أهل بيتي وأعطيهم ، فأما حبي لهم فإنه لم يمل معهم على جور ، بل أحمل الحقوق عليهم . وأما إعطاؤهم فإني إنما أعطيهم من مالي ، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس . وقد كنت اعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، وأنا يومئذ شحيح حريص ، أفحين أتت على اسنان أهل بيتي وفنى عمرى وودعت الذى لى في أهلي قال الملحدون ما قالوا ؟ )) . نعم إن عثمان يود ذوى قرابته ، ومودته لهم من فضائله ، وهم لذلك أهل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما أستعان برجال من عشيرة ولا ولى عدداً من فريق بقدر ما أستعان برجال بني أمية وولى أموره لرجالهم . وحتى بلدة مكة ولاها لفتى من فتيانهم ، وكان هو وكان بقية هؤلاء الرجال الأماجد عند حسن ظنه بهم ، وكذلك كانوا مدة ابي بكر وعمر وعثمان وفي كل زمان ومكان إلا النادر منهم ، وما هم بمعصومين . وهذا الخلق الكريم في مودة عثمان لذوى رحمه أثني عليه به علي فقال (( إن عثمان أوصل الصحابة للرحم )) وعلي أعرف الناس بابن عمه عثمان وكان عثمان وعلي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم شديدي الصلة والمحبة فيما بينهما ، وكان الناس يحملون ذلك على أنهما من بني عبد مناف .(7/403)
( 9 ) وفي اول مجئ على العراق في خلافته كان أبو موسى الأشعري والياً على الكوفة وكان على منبر الكوفة يخطب الناس في فضائل البعد عن الفتنة وما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم عند وقوعها . فتركه الشتر يتكلم على المنبر بأحاديث رسول الله وذهب إلى دار الإمارة فأحتلها ومنع من دخولها ، وبذلك صار أبو موسى معزولاً يومئذ .
( 10 ) قال القاضي أبو بكر بن العربي في ( العواصم من القواصم ) ص 107 : كان ذلك والصحابة متوافرون والآمر في اوله وقد قيل : إن الهرمزان سعى في قتل عمر وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه . وفي تاريخ الطبري ( 5 : 42 ) شهادة عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق على الهرمزان مروية عن سعيد بن المسيب . وقال شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج السنة ( 3 : 200 ) : وقد قال عبدالله بن عباس لما طعن عمر – وقال له عمر : كنت أنت وابوك تحبان ان تكثر العلوج بالمدينة – فقال ابن عباس : إن شئت نقتلهم . قال ابن تيمية : فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقاً الذين كانوا في المدينة . لما أتهموهم بالفساد ، اعتقدوا جواز مثل هذا . وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في الأرض المحاربين فيجب أنه يقتل عمر بن الخطاب ، فإنهم يعيدون لمقتل عمر ويسمون قاتله وهو أبو لؤلؤة ( بابا شجاع الدين ) ( 11 ) في رواية للطبري في تاريخه ( 5 : 43 – 44 ) عن سيف بن عمر عن أشياخه أن القماذ بن الهرمزان دعاه عثمان وامكنه من عبيد الله فقال القماذ باذ (( تركته لله ولكم )) . وانظر تفاصيل ذلك في التعليقات على ( العواصم من القواصم ) ص 106 – 108 .(7/404)
( 12 ) قال الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة في متاب ( الخراج ) ص 61 صبع المطبعة السلفية : وقد اقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتألف على الإسلام أقواماً وأقطع الخلفاء من بعده من رأوا أن في إقطاعه صلاحاً ( وضرب أبو يوسف الأمثلة على ذلك ) . وأنظر باب القطائع ص 77 – 78 من كتاب ( الخراج ) ليحيى بن آدم القرشي طبع السلفية أيضاً . وذكر الإمام الشعبي بعض الذين اقطعهم عثمان فقال : (( واقطع الزبير ،و خباباً ، وعبد الله اب نمسعود ، وعمار بن ياسر ، ابن هبار . فإن يكن عثمان أخطأ ، فالذين قبلوا منه الخطأ أخطأوا ، وهم الذين أخذنا عنهم ديننا )) ( أنظر الطبري 4 : 148 ) . وأقطع على ابن ابي طالب كردوس بن هاني ( الكردوسية ) ، وأقطع سويداً بن غفلة أرضاً لدا ذويه . فكيف ينكرون على عثمان و يسكتون عن عمر وعلى ؟ وللقاضي أبي يوسف كلام سديد في هذا الموضوع في كتاب ( الخراج ) ص 60 – 62
(13 ) نقل البلاذرى في كتابه ( أنساب الأشراف ) ج 5 ص 103 عن المدائني عن سلمه ابن عثمان عن علي بن زيد عن الحسن قال : (( دخل علي بن أبي طالب على بناته وهن يمسحن عيونهن فقال : مالكن تبكين ؟ قلن : نبكي علي عثمان . فبكى وقال : أبكين )) أبهذا يتبرأون منه ؟ .(7/405)
( 14 ) نقل البلاذرى في انساب الأشراف ( 5 : 73 ) من حديث الإمام محمد بن سبرين أن زيد بن ثابت رضي الله عنه دخل على عثمان وقال له : إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون (( إن شئت كنا أنصار الله مرتين )) فقال عثمان (( لا حاجة لي بذلك كفوا )) . قال القاضي أبو بكر بن العربي في ( العواصم من القواصم ) ص 136 : (( إن أحداً من الصحابة لم يسع عليه ولا قعد عنه . ولو أستنصر ما غلب الف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفاً بلديين أو أكثر من ذلك ، ولكنه ألقى بيده إلى المصيبة )) . ( قلت : لأنه أختار بذلك أهون الشرين فآثر التضحية بنفسه على توسيع دائرة الفتنة وسفك دماء المسلمين . وعثمان أفتدى دماء أمته بدمه مختاراً فما أحسن الكثيرون منا جزاءه . وإن أوروبا تعبد بشراً بزعم الفداء ولم يكن فيه مختاراً ) . ثم القاضسي أبو بكر بن العربي ( ص 137 ) : (( وقد أختلف العلماء فيمن نزل به مثلها : هل يلقى بيده ، أو يستنصر ؟ واجاز بعضهم أن يستسلم ويلقى بيده أقتداء بفعل عثمان ، وبتوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الفتنة )) . والذى أعلمه أن سياسة الإسلام في ذلك أن يختار المسلم في كل حاله أقلها شراً وأخفها ضرراً ، فإذا كانت للخير قوة غالبة تقمع الشر وتضيق دائرته ، فالإسلام يهدي إلى قمع الشر بقوة الخير بلا تردد . وإن لم يكن للخير قوة غالبة – كما كانت الحال في موقف أمير المؤمنين عثمان من البغاة عليه – فمصلحة الإسلام في مثل ما جنح إليه عثمان . أعلى الله مقامه في دار الخلود .
===============
حقيقة تولية عثمان رضي الله عنه أقاربه
من الشبه التي أثيرت حول الخليفةالراشد الثالث ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه توليته أقاربه.
أحبتي في الله ، من أجل معرفة حجم هذه القضية ينبغي التعرف على أسماء الولاة في خلافة عثمان رضي الله عنه، وهم :
1- سعد بن أبي وقاص ( الكوفة ).
2- أبو موسى الأشعري ( البصرة ، الكوفة).(7/406)
3- المغيرة بن شعبة ( الكوفة ، أذربيجان، أرمينيا).
4- عمرو بن العاص ( مصر).
5- جرير بن عبدالله البجلي ( قرقيسياء، همذان).
6- حبيب بن مسلمة الفهري( قنسرين ، أرمينيا).
7- عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ( حمص).
8- عبد الله بن سوار العبدي ( البحرين ).
9- عثمان بن أبي العاص الثقفي ( عمان ، البحرين).
10- الربيع بن زياد الحارثي ( سجستان).
11- قيس بن الهيثم السلمي ( خراسان).
12- يعلى بن أمية التميمي ( اليمن).
13- خالد بن العاص المخزومي (مكة).
14- عبد الله بن عمرو الحضرمي ( مكة).
15- عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي ( الجَنَد ، صنعاء).
16- أبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي ( الأردن).
17- علقمة بن حكيم الفراسي الكناني ( فلسطين).
18- عمير بن عثمان بن سعد ( خراسان).
19- عبد الله بن عمر الليثي ( سجستان).
20- عبد الرحمن بن غبيس ( كرمان).
21- عبيد الله بن معمر التميمي ( فارس).
22- أمين بن أحمر اليشكري ( خراسان).
23- عمران بن الفضيل البرجمي ( سجستان).
24- عاصم بن عمرو التميمي ( كرمان).
25- الحصين بن أبي البحر ( سواد البصرة).
26- الأحنف بن قيس ( مرو الشاهجان، مرو الروذ).
27- حبيب بن قرة اليربوعي ( بلخ).
28- خالد بن عبد الله بن زهير ( هراة).
29- الأشعث بن قيس ( أذربيجان).
30- سعيد بن قيس ( الري).
31- هرم بن حسان اليشكري ( على بعض مدن فارس ).
32- هرم بن حيان العبدي( على بعض مدن فارس ).
33- الخريت بن راشد ( على بعض مدن فارس ).
34- المنجاب بن راشد ( على بعض مدن فارس ).
35- الترجمان الهجيمي ( على بعض مدن فارس ).
36- النسير العجلي ( همذان ).
37- السائب بن الأقرع ( أصبهان).
38- مالك بن حبيب اليربوعي ( ماه ).
39- حكيم بن سلامة الحزامي ( الموصل).
40- سلمان بن ربيعة الباهلي ( الباب ، أرمينيا ).
41- عتيبة بن النهاس ( حلوان).
42- حبيش الأسدي ( ماسباذان).
43- حذيفة بن اليمان ( جوخي ، أرمينيا ، أذربيجان).(7/407)
44- زيد بن ثابت ( نائب عثمان على المدينة ).
45- سبرة بن عمرو العنبري ( اليمامة).
46- عمير بن سعد الأنصاري ( حمص).
47- عبد الله بن قيس الفزاري ( على نواحي البحر من بلاد الشام).
أما أقرباء عثمان رضي الله عنه من الولاة فهم التالية أسماؤهم:
1- معاوية بن أبي سفيان ( الشام).
2- سعيد بن العاص ( الكوفة).
3- الوليد بن عقبة ( الكوفة ).
4- عبد الله بن عامر بن كريز ( البصرة ، فارس).
5- عبد الله بن سعد بن أبي السرح ( مصر).
6- عبد الرحمن بن سمرة ( سجستان).
7- علي بن عدي العبشمي ( مكة ).
8- مروان بن الحكم ( البحرين).
من خلال هذا الحصر لأسماء الولاة نلاحظ أن عددهم يزيد عن الخمسين والياً ، في حين بلغ عدد أقرباء عثمان – رضي الله عنه – من أولئك الولاة ، ثمانية ولاة فقط ، وبنسبة تبلغ السبع تقريباً ، ومعظمهم من الصحابة الذين تقلدوا بعض المناصب قبل استخلاف عثمان – رضي الله عنه – ، ونسبة السبع تعد نسبة ضئيلة قياساً على كثرة أقرباء عثمان – رضي الله عنه – مما يدل على أنه كان يختار من يتوسم فيه الكفاءة الإدارية أو العسكرية منهم أو من غيرهم ، وذلك أن عهد عثمان – رضي الله عنه – كان عهد جهاد وفتوحات ، مما يستوجب تجنيد جميع طاقات الأمة وعدم تعطيلها.
وتولية الأقارب لم ينفرد بها عثمان – رضي الله عنه – وفي ذلك يقول ابن تيمية – رحمه الله : (وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه : إما بولاية ، وإما بمال).
وقال أيضاً : (ونحن لا ننكر أن عثمان – رضي الله عنه – كان يحب بني أمية ، كما أننا لا ننكر أن علياً ولى أقاربه).
وقال أيضاً : (ووجدنا علياً إذ ولي قد استعمل أقاربه : ابن عباس على البصرة ، وعبيد الله بن عباس على اليمن ، وقثماً و معبداً ابني العباس على مكة والمدينة ، وجعدة بن هببرة ، وهو ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب ، على خراسان ، ومحمد بن أبي بكر ، وهو ابن امرأته وأخو ولده ، على مصر).(7/408)
وتولية عثمان – رضي الله عنه – أقاربه لم تمنعه من إقامة الحدود عليهم أو عزلهم إن أذنبوا ، فقد أقام حد الخمر على الوليد بن عقبة – رضي الله عنه – وعزله عن الكوفة ، كما أنه عزل سعيد بن العاص – رضي الله عنه – عن الكوفة حين أخرجه منها بعض أهلها وعين عليهم من يحبون !
وقد علق ابن تيمية – رحمه الله – على هذه المسألة بقوله: (مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب ذاك ، فإن القوم كانوا يقومون على كل والٍ ، قد قاموا على سعد بن أبي وقاص وهو الذي فتح البلاد ، وكسر جنود كسرى ، وهو أحد أهل الشورى ، ولم يتول عليهم نائب مثله ، وقد شكوا غيره مثل عمار بن ياسر ، وسعيد بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وغيرهم ، ودعا عليهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال : (اللهم إنهم قد لبّسوا علي فلبّس عليهم).
وإذا قدر أنه أذنب ذنباً ، فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضياً بذنبه ، ونواب علي قد أذنبوا ذنوباً كثيرة ، بل كان غير واحد من نواب النبي صلى الله عليه وسلم يذنبون ذنوباً كثيرة ، وإنما يكون الإمام مذنباً إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد ، أو استيفاء حق ، أو اعتداء ، ونحو ذلك).
الدكتور خالد بن محمد الغيث
==============
مطاعن الشيعة في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والرد عليها
1. ... موقف الشيعة من أم المؤمنين رضي الله عنها وفتنة الجمل - 2
2. ... خروجها من بيتها التي أمرها الله بالاستقرار فيه بقوله تعالى { وقرن في بيوتكن ولا تبرّجْنَ تبرُّج الجاهليةِ الأُلى }
3. ... إدعائهم أنها فرحت مقتل عثمان - 2
4. ... مطاعن أخرى للشيعة في أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها والرد عليها
5. ... موقف الشيعة من عائشة رضي الله عنها في حديث : ها هنا الفتنة
مبحث مطاعن التيجاني في أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر والرد عليه في ذلك(7/409)
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها شرفها الله سبحانه بأن تكون زوجة لخير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم نالت من هذا المجترىء الكذّاب أشد المطاعن وأعظمها وها أنا سوف أسرد هذه المطاعن راداً عليه وذاباً عن خير نساء الأرض التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم (( فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام ))(1)، وقال لها (( إنه لَيُهوَّن عليَّ الموت أنْ أُريتُكِ زوجتي في الجنة، يعني عائشة ))(2) فأقول وبالله التوفيق:
أولاً ادعى التيجاني على عائشة أنها أول من غير في الصلاة وقد فندت هذه الحجة المكذوبة في موضعها فلتراجع(3).
ثانياً ادعاء التيجاني على عائشة في الفتنة والرد عليه في ذلك:
يقول التيجاني (( ونتساءل عن حرب الجمل التي أشعلت نارها أم المؤمنين عائشة إذ كانت هي التي قادتها بنفسها، فكيف تخرج أم المؤمنين عائشة من بيتها التي أمرها الله بالإستقرار فيه بقوله تعالى { وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى }. ونسأل بأي حق استباحت أم المؤمنين قتال خليفة المسلمين علي بن أبي طالب. وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة. وكالعادة وبكل بساطة يجيبنا علماؤنا بأنها لا تحب الإمام علياً لأنه أشار على رسول الله بتطليقها في حادثة الفك، ويريد هؤلاء إقناعنا بأن هذه الحادثة ( إن صحّت ) وهي إشارة علي على النبي بتطليقها كافية بأن تعصي أمر ربّها وتهتك ستراً ضربه عليها رسول الله، وتركب جملاً نهاها رسول الله أن تركبه وحذّرها أن تنبحها كلاب الحواب، وتقطع المفاسات البعيدة من المدينة إلى مكة ومنها إلى البصرة، وتستبيح قتل الأبرياء ومحاربة أمير المؤمنين والصحابة الذين بايعوه، وتسبّب في قتل ألوف المسلمين كما ذكر ذلك المؤرخون كل ذلك لأنها لا تحبّ الإمام علياً الذي أشار بتطليقها ومع ذلك لم يطلقها النبي ))(4)، أقول:(7/410)
1 إن أهل السنة في هذا الباب وغيره قائمون بالقسط شهداء لله، وقولهم حق وعدل لا يتناقض. وأما الرافضة ففي اقوالهم من التناقضات الشيء الكثير وقد ذكرنا أمثلة كثيرة من كتاب التيجاني نفسه وذلك أن أهل السنة عندهم أن أهل بدر كلهم في الجنة، وكذلك أمهات المؤمنين: عائشة وغيرها، وأبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير هم سادات أهل الجنة بعد الأنبياء، وأهل السنة يقولون: إن أهل الجنة ليس من شرطهم سلامتهم عن الخطأ، بل ولا عن الذنب، بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنباً صغيراً أو كبيراً ويتوب منه، وهذا متفق عليه بين المسلمين.وإذا كان هذا أصلهم فيقولون: ما يذكر عن الصحابة من السيئّات كثير منه كذب، وكثير منه كانوا مجتهدين فيه، ولكن لم يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم، وما قدّر أنه كان فيه ذنب من الذنوب لهم فهو مغفور لهم: إما بتوبة، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفّرة، وإما بغير ذلك، فإنه قد قام الدليل الذي يجب القول بموجبه: أنهم من أهل الجنة، فامتنع أن يفعلوا ما يوجب النار لا محالة، وإذا لم يمت أحد منهم على موجب النار لم يقدح ما سوى ذلك في استحقاقهم الجنة. ونحن قد علمنا أنهم من أهل الجنة، ولو لم يعلم أن أولئك المعينين في الجنة لم يجز لنا أن نقدح في استحقاقهم للجنة بأمور لا نعلم أنها توجب النار، فإن هذا لا يجوز في آحاد المؤمنين الذين لم يعلم أنهم يدخلون الجنة، ليس لنا أن نشهد لأحد منهم بالنار لأمور محتملة لا تدل على ذلك، فكيف يجوز مثل ذلك في خيار المؤمنين، والعلم بتفاصيل أحوال كل واحد منهم باطناً وظاهراً وحسناته وسيئاته واجنهاداته، أمر يتعذر علينا معرفته؟! فكان كلامنا في ذلك كلاماً فيما لا نعلمه، والكلام بلا علم حرام، ولهذا كان الإمساك عما شجر بين الصحابة خيراً من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال، إذ كان كثير من الخوض في ذلك أو أكثره كلاماً بلا علم، وهذا حرام لو لم يكن فيه هوىً ومعارضة(7/411)
الحق المعلوم، فكيف إذا كان كلاماً بهوىً يطلب فيه دفع الحق المعلوم؟! فمن تكلّم بهذا الباب بجهل أو بخلاف ما يعلم من الحق كان مستوجباً للوعيد، ولو تكلّم بحق لقصد إتباع الهوى لا لوجه الله تعالى، أو يعارض به حقاً آخر لكان أيضاً مستوجباً للذّم والعقاب، ومن علم ما دل عليه القرآن والسنة من الثناء على القوم، ورضى الله عنهم واستحقاقهم الجنة وأنهم خير هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، لم يعارض هذا المتيَقَّن المعلوم بأمور مشتبهه: منها مالا يعلم صحته ومنها ما يتبين كذبه، ومنها مالا يعلم كيف وقع ومنها ما يعلم عذر القوم فيه، ومنها ما يعلم توبتهم منه، ومنها ما يعلم أن لهم من الحسنات ما يغمره، فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال، وإلا حصل في جهل وكذب وتناقض كحال هؤلاء الضلال ))(5).
2 أما أن عائشة أشعلت حرب الجمل فهذا من أبين الكذب، لأن عائشة لم تخرج للقتال، بل خرجت للإصلاح بين المسلمين واعتقدت في خروجها مصلحة ثم ظهر لها أن عدم خروجها هو الأسلم لذلك ندمت على خروجها، وثبت عنها أنها قالت (( وددت أني كنت غصنا رطباً ولم أسر مسيري هذا ))(6) وعلى فرض أن عائشة قاتلت عليّ مع طلحة والزبير، فهذا القتال يدخل في قوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداها على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويْكُم } ( الحجرات 9 10 ) فأثبت لهم الإيمان مع أنهم قاتلوا بعضهم بعضاً وإذا كانت هذه الآية يدخل فيها المؤمنين فالأولى دخول هؤلاء المؤمنون أيضاً.
3 أما قوله ( فكيف تخرج أم المؤمنين عائشة من بيتها التي أمرها الله بالاستقرار فيه بقوله تعالى { وقرن في بيوتكن ولا تبرّجْنَ تبرُّج الجاهليةِ الأُلى } ) فجواباً على ذلك أقول:(7/412)
أ أن عائشة رضي الله عنها بخروجها هذا لم تتبرج تبرّج الجاهلية الأولى!
ب (( والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة أو خرجت مع زوجها في سفرة، فإن هذه الآية نزلة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقد سافر بهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضي الله عنها وغيرها، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه، وأعمرها من التنعيم، وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية، ولهذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يحججن كما كنّ يحججن معه في خلافة عمر رضي الله عنه وغيره، وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف، وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزاً فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين، فتأولت في ذلك ))(7).
4 أما ادعاؤه أن عائشة استباحت قتال عليّ بن أبي طالب لأنها لا تحب علياً، والسبب أنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطليقها في الإفك وأن هذا هو جواب علماء أهل السنة! فأقول:
أ إذا كان هذا هو جواب علماء اهل السنة فهلاّ سقت لنا يا تيجاني قولاً لواحد منهم أم أن الكذب تجاوز معك أعلى الحدود، بحيث لا تذكر قضية إلا وتُطَعِّمَها بالباطل والبهتان.(7/413)
ب وأما حديث الإفك الذي برّأ الله فيه أم المؤمنين من فوق سبعة أعظم، ففي جزء منه يطلب النبي صلى الله عليه وسلم استشارة بعض أصحابه في فراق عائشة فيكون رأي عليّ بقوله (( لم يضيّق الله عليك والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك ))(8) وعليّ بقوله هذا لم يشر عليه بترك عائشة لشيء فيها معاذ الله ولكنه لما رأى شدّة التأثر والقلق على النبي صلى الله عليه وسلم فأحب راحته فأشار عليه بذلك وهو يعلم أنه يمكن مراجعتها بعد التحقق من براءتها، أو بسؤال الجارية لأن في ذلك راحة له أيضاً ولم يجزم عليه بفراقها وهذا واضح من كلام عليّ رضي الله عنه، لذلك يقول ابن حجر (( وهذا الكلام الذي قاله علي حمله عليه ترجيح جانب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عنده من القلق والغم بسبب القول الذي قيل، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الغيرة فرأى عليّ أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن يتحقق براءتها فيمكن رجعتها ويستفاد منه ارتكب أخف الضررين لذهاب أشدهما ))(9) ويقول النووي (( هذا الذي قاله عليّ رضي الله عنه هو الصواب في حقه، لأنه رآه مصلحة ونصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم في اعتقاده، ولم يكن ذلك في نفس الأمر لأنه رأى انزعاج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وتقلقه فأراد راحة خاطره وكان ذلك أهم من غيره ))(10)، وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة (( لم يجزم عليّ بالإشارة بفراقها لأنه عقب ذلك بقوله ( سل الجارية تصدقك ) ففوض الأمر في ذلك إلى نظر النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه قال: إن أردت تعجيل الراحة ففارقها، وإن أردت خلاف ذلك فابحث عن حقيقة الأمر إلى أن تطلع براءتها، لأنه كان يتحقق أن بريرة لا تخبره إلا بما علمته، وهي لم تعلم من عائشة إلا البراءة المحضة))(11).(7/414)
5 أما قوله ( ويريد هؤلاء إقناعنا بأن هذه الحادثة إن صحت وهي إشارة علي على النبي بتطليقها كافية بأن تعصي أمر ربها وتهتك ستراً ضربه عليها رسول الله، وتركب جملاً نهاها رسول الله ان تركبه وحذّرها ان تنبحها كلاب الحوأب، وتقطع المسافات البعيدة من المدينة إلى مكة ومنها إلى البصرة، وتستبيح قتل الأبرياء ومحاربة أمير المؤمنين والصحابة الذين بايعوه، وتسبب في قتل ألوف المسلمين كما ذكر ذلك المؤرخون ) ويشير بالهامش إلى هؤلاء المؤرخين ( الطبري وابن الأثير والمدائني وغيرهم من المؤرخين الذين أرّخوا حوادث سنة ست وثلاثين للهجرة)(12)، وجواباً على ذلك أقول:(7/415)
أ لو راجعنا تاريخ الطبري الذي أرّخ حوادث سنة ست وثلاثين للهجرة لما وجدناه يروي عن هذه الحادثة مثل ما يقول هذا التيجاني، مع أنه يذكر الكثير من الروايات التي تتحدث عن وقعة الجمل فيروي خلاف ما يقوله التيجاني ويثبت أن عائشة جاءت مع طلحة والزبير من أجل الإصلاح، فيذكر أن علياً يبعث القعقاع بن عمرو إلى أهل البصرة يستفسرهم عن سبب خروجهم ((... فخرج القعقاع حتى قدم البصرة، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فسلم عليها، وقال: أي أُمّة، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بنيّة إصلاحٌ بين الناس، قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما، فبعثت إليهما فجاءا، فقال: إني سألت أم المؤمنين: ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما؟ أمتبعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان ))(13)، ويثبت أن المتسببين بقتل الألوف من المسلمين هم قتلة عثمان فيقول (( فلما نزل الناس واطمأنوا خرج عليّ وخرج طلحة والزبير فتوافقوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه، فلم يجدوا أمراً هو أمثل من الصّلح ووضع الحرب حين رأوا الأمر قد أخذ في الانقشاع، وأنه لا يُدرك، فافترقوا عن موقفهم على ذلك، ورجع علي إلى عسكره، وطلحة والزبير إلى عسكرهما، وبعث علي من العشيّ عبد الله بن عباس إلى طلحة والزبير، وبعثاهما من العشيّ محمد بن طلحة إلى عليّ، وأن يكلم كل واحد منهما أصحابه، فقالوا: نعم، فلما أمْسوا وذلك في جمادة الآخرة أرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما، وأرسل عليّ إلى رؤساء أصحابه، ما خلا أولئك الذين هضُّموا عثمان، فباتوا على الصلح، وباتوا بليلةلم يبيتوا مثلها للعافية من الذي أشرفوا عليه، والنُّزوع عما اشتهى الذين اشتهوا، وركبوا ماركبوا، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشرّ ليلة باتوها قطّ، قد أشرفوا على الهَلَكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلّها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السرّ، واستسرّوا بذلك خشية أن يفطن بما(7/416)
حاولوا من الشرّ، فغدوا مع الغلَس، وما يشعر بهم جيرانهم، انسلّوا إلى ذلك الأمر انسلالاً، وعليهم ظلمة، فخرج مُضَريُّهم إلى مُضرِيِّهم، ورَبعيَهم إلى رَبعيِّهم، ويمانيُّهم إلى يمانيِّهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بَهَتوهم. ...))(14)، وقال الطبري أيضاً (( وقالت عائشة: خلّ يا كعب عن البعير، وتقدّم بكتاب الله عزّ وجل فادعهم إليه، ودفعت إيه مصحفاً. وأقبل القوم وأمامهم السبئيّة يخافون أن يجري الصلح، فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعليّ من خلفهم يَزَعُهم ويأْبون إلا إقداما، فلما دعاهم كعب رشَقوه رِشقاً واحداً، فقتلوه، ورمَوا عائشة في هودجها، فجعلت تنادي: يا بنيَّ، البقيَّة البقيَّة ويعلو صوتها كثرة الله الله، اذكروا الله عز وجلّ والحساب، فيأْبون إلا إقداماً، فكان أوّل شيء أحدثته حين أبوْا قالت: أيُّها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم، وأقْبلت تدعو. وضجّ أهل البصرة بالدعاء، وسمع عليُّ بن أبي طالب الدعاة فقال: ما هذه الضجّة؟ فقالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان وأشياعهم، فأقبل يدعو ويقول: اللهم العنْ قتلةَ عثمان وأشياعهم ))(15)، وهذا هو ما أرخه أيضاً ابن الأثير في تاريخه ولم أجد كتاب المدائن، ويعضد هذه الحقيقة الروايات الصحيحة التي تثبت أن عائشة والزبير وطلحة وعليّ لم يكونوا يريدون قتال بعضهم بعضاً، ولذلك ندمت عائشة على مسيرها وقالت (( وددت أني غصناً رطباً ولم أسر مسيري هذا ))(16)، وقالت أيضاً (( وددت أني كنت ثكلت عشرة مثل الحارث بن هشام وأني لم أسر مسيري مع ابن الزبير ))(17)، فلو كانت تريد القتال دون الإصلاح فلماذا الندم؟!(7/417)
ثم يقول (( فلماذا كل هذه الكراهية وقد سجّل المؤرخون لها مواقف عدائية للإمام عليّ لا يمكن تفسيرها، فقد كانت راجعة من مكة عندما أعلموها في الطريق بأن عثماناً قتل ففرحت فرحاً شديداً ولكنَّها عندما علمت أن الناس قد بايعوا علياًّ غضبت وقالت: وددت أن السماء انطبقت على الأرض قبل أن يليها ابن أبي طالب وقالت ردّوني وبدأت تشعل نار الفتنة للثورة على علي الذي لا تريد ذكر اسمه كما سجّله المؤرخون عليها، أفلم تسمع أم المؤمنين قول الرسول (ص): ( بأن حبّ علي إيمان وبغضه نفاق ) حتى قال بعض الصحابة ( كنا لا نعرف المنافقين إلا ببغضهم لعلي ) أولم تسمع أم المؤمنين قول النبي ( من كنت مولاه فعلي مولاه )... أنها لا شك سمعت كل ذلك ولكنها لا تحبه ولا تذكر اسمه بل إنها لما سمعت بموته سجدت شكراً لله ))(18)، فأقول:
1 قوله بأن عائشة فرحت بقتل عثمان فرحاً شديداً لا يدل إلا كذبه كذباً أكيداً! فلم يقل أحد من أهل التاريخ ذلك بل أثبتوا جميعاً أن عائشة ما خرجت إلا للقصاص من قتلة عثمان، وأنا أتساءل؟ إذا كانت عائشة فرحت لمقتل عثمان فلماذا خرجت؟ هل خرجت من أجل منع علي بن أبي طالب من تولي الخلافة؟! التيجاني يقول نعم! وإذا سئل عن السبب فسيقول بأنها تكرهه لأنه أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بتطليقها؟! فأقول له إذا كانت عائشة تكره علياًّ فكيف نفسّر خروج الآلاف معها؟! فهل هناك سبب منطقي عند التيجاني يبين فيه سبب موافقة هؤلاء الناس لعائشة؟ أم هؤلاء يكرهونه أيضاً؟ فإذا أجاب بنعم، فأسأله.. هل من سبب لهذا الكره؟ فإن كان يملك جواباً فحيهلا، وإذا لم يملك لذلك جواباً فأُبشِّرُهُ أنه من أضل الناس!!(7/418)
2 يدعي التيجاني أن المؤرخين سجلوا على عائشة أنها لا تريد ذكر اسم علي، وأنا أسأله من هؤلاء المؤرخون؟ فهل تستطيع أن تحددهم لنا حتى نعرف الصادق من الكاذب؟ وما هي المراجع التي عوَّلت عليها؟ ولكن الصحيح المعلوم أن عائشة ذكرت علي بملأ فمها، فعن شريح بن هانئ قال (( سألت عائشة عن المسح فقالت: إئت علياً فهو أعلم مني قال: فأتيت عليا فسألته عن المسح على الخفين قال: فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نمسح على الخفين يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثاً ))(19)، كما أخرج مسلم بسنده إلى شريح بن هانئ قال (( أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله ...ألخ ))(20).
3 ثم يذكر حديثان في فضل علي ويقول ( أولم تسمع أم المؤمنين قول النبي ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) .. أنها لا شك سمعت كل ذلك ولكنها لا تحبه ولا تذكر اسمه بل أنها لما سمعت بموته سجدت لله شكراً )!! ، فأقول:(7/419)
أ لقد قلت بأن عائشة لا تبغض علياً ولكنها خالفته لا لشيء إنما للطلب بدم عثمان ولم تذهب لقتاله بل ذهبت من أجل الإصلاح بين الناس لذلك ذهبت تحت رغبة الناس في محاولة للإصلاح ويذكر ابن العماد في ( شذرات الذهب ) (( وحين وصل علي إلى البصرة، جاء إلى عائشة وقال لها: غفر الله لك، قالت: ولك، ما أردت إلا الإصلاح ))(21)، ويوضح ابن العربي ذلك بقوله (( وأما خروجها إلى حرب الجمل، فما خرجت لحرب ولكن تعلّق الناس بها وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة، وتهارج الناس ورجوا بركتها في الإصلاح، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت إلى الخلق، وظنّت هي ذلك فخرجت عاملة بقول الله تعالى { لا خير في كثير من نجواهم }...الآية، { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } ))(22)، ونقل ابن حبان (( أن عائشة كتبت إلى أبي موسى وهو والي الكوفة من قبل عليّ : إنه قد كان من أمر عثمان ما قد علمت، وقد خرجت مصلحة بين الناس، فمر من قبلكم بالقرار في منازلهم والرضا بالعافية حتى يأتيهم ما يحبّون من صلاح أمر المسلمين ))(23).
فهذا هو سبب خروج عائشة وليس بسبب بغضها لعلي فهذا من الكذب المكشوف الذي لا يستند إلى أي دليل صحيح.
ب أما قوله (( ... بل أنها لما سمعت بموته سجدت شكراًلله )) ثم يشير بالهامش إلى المراجع التي استقى منها ادعاؤه هذا وهي (( الطبري وابن الأثير والفتنة الكبرى وكل المؤرخين الذين أرخوا حوادث سنة أربعين للهجرة ))(24)، فرجعت إلى الطبري وابن الأثير في حوادث سنة أربعين فلم أر لهذه الدعوى أثراً فلله أبوه ما أكذبه!(7/420)
ثم يهذي فيقول (( ونفس السؤال يعود دائماً ويتكرر أيهم علىالحق وأيهم على الباطل، فإما أن يكون علي ومن معه ظالمين وعلى غير الحق، وإما أن تكون عائشة ومن معها وطلحة والزبير ومن معهم ظالمين وعلى غير الحق وليس هناك احتمال ثالث، والباحث المنصف لا أراه إلا مائلاً لأحقّية علي الذي يدور الحق معه حيث دار، نابذاً فتنة ( أم المؤمنين عائشة ) وأتباعها الذين أوقدوا نارها وما أطفؤوها حتى أكلت الأخضر واليابس وبقيت آثارها إلى اليوم. ولمزيد البحث وليطمئن قلبي أقول أخرج البخاري في صحيحة من كتاب الفتن باب الفتنة التي تموج كموج البحر، قال: لمّا سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة بعث علي عمار بن ياسر والحسن بن علي فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبر فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه وقام عمّار أسفل من الحسن فاجتمعنا إليه فسمعت عماراً يقول: أنّ عائشة قد سارت إلى البصرة ووالله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي ))(25)، أقول:
أ بل هناك احتمال ثالث وهو أن الطرفين قد اجتهدا للوصول للحق ولم يكن أي من الطرفين ظالماً لأن فتنة قتل عثمان فرقت الأمة إلى فرقتين فرقة ترى وجوب قتل قتلة عثمان على الفور وهم طلحة والزبير وعائشة وفرقة ترى وجوب قتل قتلة عثمان ولكن يجب التروي في ذلك حتى تتمكن الوصول لهذا الهدف لأن هؤلاء القتلة كانت لهم قبائل تدفع عنهم وهو رأي علي وأصحابه وهؤلاء القتلة هم المتسببون في وقعة الجمل وليس لكلا الفرقتين أي تسبب في إشعال المعركة كما بينت سابقا.ً(7/421)
ب أما رواية البخاري التي اطمأن بها قلب التيجاني فهي من أعظم الدلائل على فضل عائشة ولكن ماذا نقول عن جاهل يحتج على أهل السنة بروايات هي حجة عليه وعلى شيعته من قبل أن تكون حجة على أهل السنة ففي الحديث يشهد عمار لأم المؤمنين رضي الله عنهما بأنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة! أي في الجنة؟! فهل من فضل ومكرمة أعظم من ذلك وهل استحقت هذا الفضل العظيم إلا برضى الله سبحانه عنها ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، أما بالنسبة لقول عمار فإنه من أنصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأراد حث الناس للخروج مع علي ولكنهم ترددوا لأن أم المؤمنين كانت في الطرف المقابل لعلي، فبين لهم أنّ الحق مع علي لأنه الخليفة، ويجب أن يطاع كما أمركم الله سبحانه وذلك قبل المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان كما ترى أم المؤمنين ولا شك أن أم المؤمنين وطلحة والزبير كانوا يرون أن المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان قبل الخضوع لخلافة علي هو أمر الله سبحانه وتعالى أيضاً كما بينت ذلك لعثمان بن حنيف عندما بعث يسألها عن مسيرها فقالت (( والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم ولا يغطّي لبنيه الخبر، إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزّاع القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثوا فيه الأحداث، وآووْا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا تِرَة ولاعذر، فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام وأحلّوا البلد الحرام والشهر الحرام، ومزّقوا الأعراض والجلود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم ضارّين مضرّين، غير نافعين ولا متقين، لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا. وقرأت { لا خير في كثير من نجْواهُم إلا من أمَرَ بِصدقَةٍ أو معْرُوف أو إصلاحٍ بين النَّاس } ننهض في(7/422)
الإصلاح من أمر الله عز وجل وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصغير والكبير والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروفٍ نأمركم به، ومنكر ننهاكم عنه، ونحثّكم على تغييره ))(26)، هذا وإذا أضفنا إلى ذلك أن أوّل من رشّح علياً للخلافة هم هؤلاء الغوغاء، وأنهم في جيش عليّ، ومن هنا يتضح أن كل طرف ظن أن الحق معه، وتأوّل خطأ الآخر وخرج الطرفان للإصلاح كما بينت، ولم يكونا يريدان القتال ولكنه وقع، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
ثم يتخرّص فيقول (( كما أخرج البخاري أيضاً في كتاب الشروط باب ما جاء في بيوت أزواج النبي، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال ههنا الفتنة، ههنا الفتنة، ههنا الفتنة من حيث يطلع قرن الشيطان ))(27)، قلت:
1 فتحت البخاري كتاب الشروط فلم أجد الباب المذكور من ضمن كتاب الشروط، بل الحديث موجود في أبواب الخمس، وهذا يدل أن هذه الشبهة لقّنت له تلقيناً!
2 والتيجاني يحتج بهذا الحديث على أن عائشة هي مصدر الفتن!؟ وهذا ادعاء ظاهر البطلان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد المشرق، ولو أراد بيت عائشة لقال الراوي ( إلى ) وليس ( نحو )، وفي رواية مسلم عن ابن عمر (( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة فقال: رأس الكفر من ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان، يعني المشرق ))(28)، وعن ابن عمر أيضاً (( أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: ألا إن الفتنة ها هنا، ألا إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان ))(29) وحتى أقطع الشك باليقين أذكر رواية مسلم أيضاً عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عند باب حفصة ( وفي رواية عبيد الله بن سعيد: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عند باب عائشة ) فقال بيده نحو المشرق (( الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان، قالها مرتين أو ثلاثاً ))(30) وأظن أنه قد ظهر الحق للعيان وافتضح أولياء الشيطان!(7/423)
ثم يقول (( كما أخرج البخاري في صحيحه عنها أشياء عجيبة وغريبه في سوء أدبها مع النبي حتى ضربها أبوها فأسال دمها وفي تظاهرها على النبي حتى هدّدها الله بالطلاق وأن يبدله ربه خيراً منها وهذه قصص أخرى يطول شرحها ))(31)، فأقول:
1 أما قوله بأن البخاري أخرج في صحيحه ما يفيد سوء أدب عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأن أبا بكر ضربها حتى أسال دمها فهذا من الكذب الرخيص، إلا فلْيُرنا موضع هذه الرواية في صحيح البخاري ثم بعد ذلك فليخرج ما في قلبه من أوضار!
2 أما قوله ( وفي تظاهرها على النبي صلى الله عليه وسلم حتى هددها الله بالطلاق وأن يبدله ربه خيراً منها ) فأجيب:
أ قلت غير مرّة أن كل إنسان غير معصوم في الواقع من الذنوب، بل معرّض للوقوع في الذنوب الكبيرة والصغيرة، خلا النبي صلى الله عليه وسلم فلو وقع أحد في الذنب، عائشة أو غيرها، فليس ذلك بمستغرب لأنه ليس لأحد العصمة من ذلك، فليس من المقبول ولا من المعقول أن يجعل التيجاني من ذنبٍ وقعت فيه عائشة وتابت منه من مساوئها، ويطعن عليها وكأنها جاءت أمراً إدّا، بالضبط عندما أراد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن يتزوج بنت أبي جهل مع فاطمة فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال في الحديث (( إن بني هاشم بن مغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لاآذن، ثم لا آذن، إلا أن يريد بن أبي طالب أن يطلّق ابنتي وينكح ابنتهم...))(32)، وهذا كما ترى تهديد من النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ بتطليق فاطمة، إن هو أقدم على ذلك، فليس من المعقول أن يجعل هذا الأمر من مطاعن ومساوىء عليّ! إلا من هو من أشد الناس جهلاً؟(7/424)
ب أما قوله أن الله هددها بالطلاق وأن يبدله أي محمد صلى الله عليه وسلم خيرٌ منها فغير صحيح فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عمر رضي الله عنه قال (( اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلّقكن أن يبدله أزواجاً خير منكن فنزلت هذه الآية ))(33) فالآية كما هو ظاهر ليست تهديداً وإنما تخيير من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في التطليق لذلك سميت آية التخيير، إضافة إلى أنها لا تخص عائشة وحدها بل تشمل أيضاً بقية زوجاته، وعلى فرض أن الآية تخص عائشة وقد هدّدها الله بالطلاق فأقول هل في تهديد النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بتطليق فاطمة ما يعتبر ذمّاً؟! فإن كان كذلك فكل ما تُحَمِّله لعائشة من الطعن فسيصيب عليّ، وإن اعتبرت أن علي أخطأ مجرّد خطأ ورجع عنه وليس فيه ما يطعن عليه، فعائشة مثله تماماً فاختر ما شئت يا تيجاني!؟
ثم يتطاول في هذيانه فيقول (( وبعد كل هذا أتساءل كيف استحقت عائشة كل هذا هذا التقدير والاحترام من أهل السنة والجماعة، ألأنها زوج النبي، فزوجاته كثيرات وفيهن من هي أفضل من عائشة بتصريح النبي نفسه ويشير بالهامش إلى الترمذي والاستيعاب والإصابة ثم يقول ... أم لأنها ابنة أبي بكر! أم لأنها هي التي لعبت الدور الكبير في إنكار وصيّة النبي لعليّ حتى قالت عندما ذكروا عندها أن النبي أوصى لعلي: قالت من قاله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وإني لمسندته إلى صدري فدعا بالطست فانحنت فمات فما شعرتُ فكيف أوصى إلى علي ))(34). فأقول لهذا الشانئ:(7/425)
1 عائشة استحقّت كل هذا التقدير والاحترام وأكثر، من أهل السنة والجماعة لأنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم الطيب الذي اختارها لأن تكون زوجة له لأنها طيبة أيضاً والله سبحانه يقول { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات، أولئك مبرّءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم } ( النور 26) قال (( مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت والضحاك: نزلت في عائشة وأهل الإفك، واختاره بن جرير الطبري ))(35)وقوله { أولئك مبرءون مما يقولون } : أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان ))(36) وعندما يحاول التيجاني إثبات أن عائشة خبيثة ألا يعتبر هذا من أعظم المطاعن في النبي صلى الله عليه وسلم؟! فكيف لا والله يقول { الخبيثات للخبيثين...}!!؟ ونقدرها لأنها أمنا في الإيمان فالله يقول { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم ..} ( الأحزاب5 )(7/426)
2 أما قوله (( ألأنها زوج النبي، فزوجاته كثيرات وفيهن من هي أفضل من عائشة بتصريح النبي نفسه )) ثم يشير بالهامش إلى الترمذي والاستيعاب والإصابة...(37)، فأقول فتحت سنن الترمذي على أبواب الفضائل (باب) فضل عائشة فوجدت هذا الحديث عن (( عائشة قالت: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت: فاجتمع صواحباتي إلى أم سلمة فقلن: يا أم سلمة: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير، كما تريد عائشة، فقولي لرسول الله يأمر الناس يهدون إليه أين ما كان. فذكرت ذلك أم سلمة، فأعرض عنها، ثم عاد إليها فأعادت الكلام، فقالت: يا رسول الله إنّ صواحباتي قد ذكرن أن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة فأمرِ الناس يهدون أين ما كنت، فلما كانت الثالثة قالت ذلك: قال: ( يا أم سلمة لا تُؤذيني في عائشة، فإنّهُ أنزل علي الوَحيَ وأنا في لِحافِ امرأَةٍ منْكُنَّ غيرها ) ))(38)، وعن عمرو بن العاص (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: ( يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها ) ))(39)، وعن أنس قال (( قيل يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل من الرجال؟ قال: أبوها ))(40)، وعن عبد الله بن زياد الأسدي قال (( سمعت عمار بن ياسر يقول: هي زوجته في الدنيا والآخرة يعني: عائشة ))(41)، وعن انس بن مالك (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فضل عائشة على النساء، كَفَضلِ الثَّريدِ على سائِرِ الطَّعام ))(42)، وعن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ جِبْرَائيلَ يَقْرَأ عَلَيْكِ السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله ))(43)،عن أبي موسى قال (( ما اشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عائشة، إلا وجدنا عندها منه علماً ))(44)، عن موسى بن طلحة قال (( ما رأيت أحداً أفصح من عائشة ))(45)، ثم فتحت باب فضل(7/427)
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت هذا الحديث عن صفية بنت حيي قالت: (( دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم+، وقد بلغني عن حفصة وعائشة كلام، فذكرت ذلك له، فقال: ( ألا قلتِ: وكيف تكونان خيرا منِّي، وزوجي محمد، وأبي هارون، وعمي موسى ) وكأن الذي بلغها أنهم قالوا: نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وقالوا: نحن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبنات عمه ))(46)، هذه هي الأحاديث الواردة في فضل عائشة وصفية فأقول:
أ لا شك أن عائشة أفضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم لتضافر الأدلة الصريحة في ذلك والصحيحة من أصح كتب الحديث أمثال البخاري ومسلم.
ب بالنسبة لحديث صفية فليس فيه ما يظهر أنها أفضل من عائشة أو حفصة لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال لها ما قال أراد إسترضائها في مقابل ما ذكرته عائشة وحفصة في حقها بخلاف الأحاديث الصريحة التي يؤكد فيها النبي صلى الله عليه وسلم فضل عائشة على جميع نسائه.
ت أقول ذلك على فرض صحة حديث صفية ولكن الحديث ضعيف الإسناد ف((هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث هاشم الكوفي، وليس إسناده بذلك))(47)، وأما الاستيعاب فقد ذكر في ترجمتها نفس الحديث المذكور ولم يذكر غير ذلك(48) وأما في ترجمة عائشة فقد ذكر في فضائلها الكثير فأثبت أنها من أعلم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيروى عن الزهري قوله (( لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل ))(49)، ثم ساق في إثبات أنها أحب النساء وأفضلهن عند النبي صلى الله عليه وسلم حديث عمرو بن العاص، وحديث أنس اللذان سبقا قبل قليل(50). وأما الإصابة فكل الروايات التي ذكرها بالتغاضي عن صحتها لا يوجد بها حديث واحد فيه التصريح بتفضيل حفصة على عائشة إلا الحديث السابق(51).(7/428)
3 أما قوله (( أما لأنها لعبت الدور الكبير في إنكار وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حتى قالت ثم ذكر الحديث ... الخ ))، فأقول:
أ لم تلعب عائشة رضي الله عنها الدور الكبير في إنكار وصية النبي صلى الله عليه وسلم كما يدعي هذا التيجاني فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي حقاً لما كانت عائشة تستطيع الإنكار أمام الأمة، ولكنها قالت ما تعرفه هي حسب علمها وهو أن النبي مرض وتوفّي عندها ولم تسمع في هذه القضية منه أي شئ.
ب إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصي، لا بد أن يذكر ذلك أمام الناس ولا يكتفي بذكره عند امرأته، والتيجاني يدعي أن الأدلة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي بالخلافة مستفيضة ومعلومة وقد ذكر بعضها في كتابه، وادعى أنها صريحة في استخلاف عليّ، فكيف يتهوّك فيقول أن عائشة لعبت الدور الكبير في إنكار الوصية لعلي؟! فإذا كانت كل هذه الأدلة الظاهرة على إمامة عليّ كما تزعم ليست حجة في نظر أهل السنة فقول عائشة أحْرى أن يكون هو الحق.
ت عائشة رضي الله عنها الصدّيقة بنت الصديق لا يمكن أن تنكر وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ إن كان هذا حقاً، فهي الطيّبة زوجة الطيّب في الدنيا والآخرة، وهي خير زوجاته وأفضلهنّ وأحبهنّ للنبي صلى الله عليه وسلم وما استحقت هذه المنزلة إلا لأنها من خير نساء الأرض، فكيف نصدق التيجاني المتمرّس علىخصلة الكذب الذي يأتي إلى الرواية الصادقة فيكّذبها، ويأتي إلى الرواية الكاذبة فيصدقها، ويتهم خير الناس بأنهم أشر الناس ويدعي على أضلّ الناس بأنهم أصحاب هداية، فكيف برجل هذا حاله، هل نصدقه ونكذّب خير نساء أمهات المؤمنين؟!(7/429)
ثم يقول (( أم لأنها حاربته حرباً لا هوادة فيها وأولاده من بعده حتى اعترضت جنازة الحسن سيد شباب أهل الجنة ومنعت أن يدفن بجانب جده رسول الله قائلة: لاتدخلوا بيتي من لا أحب ونسيت أو تجاهلت قول الرسول فيه وفي أخيه ( الحسن والحسين سيدّا شباب أهل الجنة ) أو قوله ( أحب الله من أحبهما وأبغض الله من أبغضهما )، أو قوله ( أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم )، وغير ذلك كثير لست في معرض الكلام عنه... كيف لا وهما ريحانتاه من هذه الأمة ))(53)، ويقول في موضع آخر (( وإذا كانت فاطمة الزهراء التي أوصت بدفنها سراً فلم تدفن بالقرب من قبر أبيها كما ذكرت فما بال ما حصل مع جثمان ولدها الحسن لم يدفن قرب قبر جده؟! حيث منعت هذا ( أم المؤمنين ) عائشة وقد فعلت ذلك عندما جاء الحسين بأخيه الحسن ليدفنه إلى جانب جدّه رسول الله، فركبت عائشة بغلة وخرجت تنادي وتقول: لا تدفنوا في بيتي من لا أحب. واصطف بنو أمية وبنو هاشم للحرب ولكنّ الإمام الحسين قال لها: بأنه سيطوف بأخيه على قبر جدّه ثم يدفنه في البقيع لأن الإمام الحسن أوصاه أن لا يهرقوا من أجله ولو محجمة من دم. وقال لها ابن عباس أبياتاً مشهورة:
تجمّلت تبغلت ولو عشت تفيّلت لك التسع من الثمن وبالكل تصرفت ))(54)،
فأقول:
1 أين مصدر هذه الأكاذيب وما مدى صحتها؟ فإن كانت عند التيجاني الجرأة فلْيُرنا من أين استقى هذه السخافة، وإلا فباستطاعة أي أحمق أن يتقول على خير الناس ما يشاء من الهذيان!(7/430)
2 لا شك في كذب هذه الروايات على أم المؤمنين بل وكل مايروى عنها في هذا الباب فهو كذب فلم أجد لها أثر في أي من كتب أهل السنة، بل وجدت العكس، فقد أورد ابن الأثير في خبر وفاة الحسن بن عليّ رضي الله عنهما أن (( الحسن استأذن عائشة أي في دفن أخيه فأذنت له ))(55)، وفي الاستيعاب (( فلما مات الحسن أتى الحسين عائشة فطلب ذلك إليها فقالت: نعم وكرامة ))(56)! وفي البداية (( أن الحسن بعث يستأذن عائشة في ذلك فأذنت له ))(57)، فانظر أخي القارئ إلى الحق الواضح وكيف يحيف التيجاني عن ذلك ثم يدعي الإنصاف والعقلانية ولا حول ولا قوة إلا بالله.
3 أعداء الحسن بن عليّ رضي الله عنهما الحقيقيون هم الذين يزعمون أنهم له شيعة، وهم من أرذل الناس وأفسدهم وذلك باعتراف الشيعة الاثني عشرية أنفسهم، فيروي أبو منصور الطبرسي من أئمتهم عن الحسن بن علي قوله (( أرى والله أن معاوية خير لي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي (!!) وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي، والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي واومن به في أهلي (!؟)، خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وبيتي ))(58)!!! فهؤلاء هم أعداء الحسن بن عليّ وليس عائشة يا تيجاني ومن كتب الهداة ندينك!(7/431)
4 أما ادعاؤه على ابن عباس أنه قال عن أم المؤمنين بيتين من الشعر، فمع ركاكة هذين البيتين فينقضها ما قاله في حقها عند وفاتها، فقد أخرج أحمد في الفضائل عن ذكوان مولى عائشة (( أنه استأذن لابن عباس على عائشة وهي تموت وعندها إبن اخيها عبد الله بن عبد الرحمن فقال هذا ابن عباس يستأذن عليك وهو من خير بنيك، فقالت دعني من ابن عباس، ومن تزكيته فقال لها عبد الله بن عبد الرحمن أنه قارئ لكتاب الله فقيه في دين الله فأذني له ليسلم عليك وليودعك قالت فأذن له إن شئت قال فأذن له فدخل ابن عباس ثم سلم وجلس فقال أبشري يا أم المؤمنين فوالله ما بينك وبين أن يذهب عنك كل أذى ونصب أو قال وصب وتلقي الأحبة محمد وحزبه أو قال أصحابه إلا أن يفارق روحك جسدك، فقالت: وأيضاً، فقال ابن عباس: كنت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ولم يكن ليحب إلا طيباً، وأنزل الله عز وجل براءتك من فوق سبع سماوات فليس في الأرض مسجد إلا يتلى فيه آناء الليل وآناء النهار، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فاحتبس النبي صلى الله عليه وسلم في المنزل والناس معه في ابتغائها أو قال في طلبها حتى أصبح القوم على غير ماء فانزل الله عز وجل { فتيمّموا صعيداً طيباً } الآية، فكان في ذلك رخصة للناس عامة في سبيلك، فوالله انك لمباركة، فقالت: دعني يا ابن عباس من هذا فوالله لوددت لو أني كنت نسيا منسيّا ))(59)، وفي مناقشته للخوارج الذين قاتلهم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه احتج عليهم بقوله (( قلت: أي ابن عباس وأم قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم. أفتسبون أمكم عائشة، وتستحلّون منها ما تستحلّون من غيرها، وهي أمكم؟ فإن قلتم إنا نستحل منها ما نستحلّ من غيرها، فقد كفرتم (!!)، ولأن قلتم ليست بأمنا، فقد كفرتم (!!!)، لأن الله تعالى يقول { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم }. فأنتم تدورون بين ضلالتين، فأتوا منهما بمخرج. قلت: فخرجت من هذه؟ قالوا:(7/432)
نعم،... ))(60)، فهذه الروايات الصحيحة ترد هذه الرواية المجهولة المصدر ولعلها من خزعبلات التيجاني.
ثم يتخرص فيقول (( ... أما عن ابنته عائشة وقد عرفنا موقفها من الإمام عليّ فهي تحاول بكل جهدها دعم أبيها ولو بأحاديث موضوعة ))(61)!؟
1 أقول: للمحدث التيجاني! هل تعرف ما هو الحديث الموضوع؟ الحديث الموضوع هو من كان راويه متهماً بالكذب، وبما أن الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم هو عائشة رضي الله عنها، فهل هي ممن اتهم بالكذب؟! فإن زعمت ذلك فيعزوك الدليل لأن كل الدلائل القرآنية والحديثية، إضافة إلى سيرتها تشير إلى صدقها، وأنها لا يمكن أن تكذب على زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعها أحاديث في فضائل أبيها، فلا يتبقّى إلا أن نحكم على التيجاني بأنه الكذّاب، ولا شك أن ذلك لا يضيره أبداً،لأنه يعلم أن من أعظم خصال شيعته الرافضة، والتي يتميزون بها عن سائر الفرق ألا وهي خصلة الكذب والتخرّص!
2 إذا كانت عائشة تروي الأحاديث الموضوعة فكيف تستشهد بالأحاديث التي ترويها مسلّم بها، مثل شهادة عائشة في أن آية التطهير نزلت في عليّ وفاطمة وابنيها(62)، وروايتها لحديث القوم الذين يتنزّهون عما رخص فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (63)، وتستشهد بحديث مطالبة فاطمة بحقها من ميراث أبيها والذي ترويه عائشة(64)، وبحديث إنكارها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لعليّ(65)، أكل هذه الأحاديث تستشهد بها وتعترف بها، وهي التي ترويها عائشة، ثم تدعي أنها تروي الأحاديث الموضوعة؟! وكيف يستشهد برواياتها شيخ الإمامية ابن بابويه القمي في كتابه ( الخصال ) مسلّم هو أيضاً بها(66) سبحان الله، إنظر كيف يظهر الله الحق على ألسنتهم.(7/433)
ثم يختم كذبه فيقول (( مع أن الباحث في هذه المسألة يجد رائحة الوصية لعلي تفوح رغم كتمانها وعدم ذكرها فقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الوصايا كما أخرج مسلم أيضاً في صحيحه في كتاب الوصية أنه ذكر عند عائشة أن النبي أوصى إلى علي. أنظر كيف يظهر الله نوره ولو ستره الظالمون.... ثم يقول وإذا كانت عائشة أم المؤمنين لا تطيق ذكر اسم عليّ ولا تطيب له نفساً كما ذكر ذلك ابن سعد في طبقاته والبخاري في صحيحه ( باب مرض النبي ووفاته ) وإذا كانت تسجد شكراً عندما سمعت بموته، فكيف يرجى منها ذكر الوصية لعلي وهي من عرفت لدى الخاص والعام بعدائها وبغضها لعليّ وأولاده ولأهل بيت المصطفى ))(67)، فأقول:
1 الذي يبدو حقاً ان رائحة الكذب الذي امتهنه التيجاني قد فاح وامتلأ به كتابه وادعاءه الهداية!
2 أما الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم والذي يدعي فيه التيجاني أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لعليّ هو حديث عائشة عندما ذكروا عندها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصى لعلي فأنكرت ذلك، مستدلّة على أن النبي صلى الله عليه وسلم مات عندها ولم يوص، وهي الصادقة في ذلك، والغريب أن يجعل التيجاني هذا الحديث حجة له لا عليه، ولست أدري والله ما نوع الحجة في هذا الحديث فهل قول من قال أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي دون دليل صريح مرفوع منه صلى الله عليه وسلم يعتبر حجة؟! كيف ذلك والحجة أوضح من الشمس متمثّلة في إجابة عائشة الأدرى بوصية النبي صلى الله عليه وسلم ، سبحان الله، إنظر كيف يظهر الله نوره ولو ستره الظالمون!؟(7/434)
3 أما ادعاؤه على عائشة أنها لا تطيق ذكر اسم عليّ فقد أجبت عنه في موضع سابق والحمد لله، ولا يوجد في طبقات ابن سعد مما يدّعيه التيجاني من أن عائشة لا تطيق ذكر اسم عليّ، وأما في البخاري فهو يشير إلى حديث عائشة الذي يدّعي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى فيه لعليّ تصريحاً بذكر اسم عليّ، راجع كتاب التيجاني نفسه الذي يذكر فيه هذا الحديث(68)، والحمد لله أولاً وأخيراً.
================
موقف أم المؤمنين عائشة من مقتل عثمان بن عفان
بسم الله الرحمن الرحيم
1) في تاريخ خليفة بن خياط: أبو عاصم قال: نا عمر بن أبي زائدة، عن أبيه، عن أبي خالد الوالبي قال: قالت عائشة: ”استتابوه حتى تركوه كالثوب الرحيض ثم قتلوه“.
التخريج: أخرجه خليفة بن خياط في تاريخه (175)، ورواه من طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (495).
رجال الإسناد:
* الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني أبو عاصم النبيل، ثقة ثبت، من التاسعة، مات سنة 212هـ، أو بعدها ع. (التقريب 2977).
* عمر بن زائدة الهمداني؛ بالسكون، الوادعي، الكوفي، أخو زكريا، صدوق، رمي بالقدر، من السادسة، مات بعد الخمسين خ م س (التقريب 4897).
* والد عمر وزكريا واسمه خالد أو هبيرة بن ميمون بن فيروز الهمداني، الوادعي، الكوفي، أفاد بذلك الحافظ ابن حجر في ترجمة ابنه زكريا (التقريب 2022)، ولم أجد ترجمته.
* أبو خالد الوالبي الكوفي، اسمه هرمز، ويقال: هرم، مقبول، من الثانية، وفد على عمر، وقيل: حديثه مرسل، فيكون من الثالثة، د ت ق (التقريب 8073).
درجة الأثر: إسناده حسن لغيره، ويشهد له ما رواه:
2) خليفة قال: حدثنا أبو قتيبة قال: نا يونس بن أبي إسحاق، عن عون بن عبد الله ابن عتبة قال: قالت عائشة: ”غضبت لكم من السوط، ولا أغضب لعثمان من السيف؟ استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالقلب المصفى قتلتموه“.(7/435)
التخريج: أخرجه خليفة بن خياط في تاريخه (175-176)، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (495).
رجال الإسناد:
* أبو قتيبة مسلم بن قتيبة الشعيري، الخرساني، نزيل البصرة، صدوق، من التاسعة، توفي سنة 200هـ أو بعدها خ 4 (التقريب 2471).
* يونس بن أبي إسحاق السبيعي، أبو إسرائيل الكوفي، صدوق يهم قليلاً، من الخامسة، توفي سنة 152هـ على الصحيح، ر م 4 (التقريب 7899).
* عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، الكوفي، ثقة، عابد من الرابعة، توفي قبل سنة 120هـ، م 4 (التقريب 5223).
درجة الأثر: إسناده حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف؛ لما فيه من إرسال، حيث إن عونا هذا وصفه غير واحد بأنه يرسل، ولم يصرح هنا بالسماع.
قال المزي في تهذيب الكمال (1066): ”يقال: إن روايته عن الصحابة مرسلة“، وقال ابن سعد في الطبقات (6/313): ”ثقة كثير الإرسال“، وقال الترمذي في السنن (2/47): ”عون بن عبد الله لم يلق ابن مسعود“.
والصحيح أنه سمع من بعضهم أخرج له مسلم عن ابن عمر (انظر: رجال مسلم لابن منجويه 2/121) ونصَّ البخاري في تاريخ الكبير (7/14) على أنه سمع من أبي هريرة وابن عمرو، وذكره العلائي في جامع التحصيل (305).
وعجيب من الحافظ إهماله ذكر ذلك في التقريب مع أنه ذكره في تهذيب التهذيب (8/171-173).
والحديث يتقوى بما قبله ويقويه، ويقويهما أيضاً ما رواه:
3) ابن سعد قال: أخبرنا عفان بن مسلم قال: أخبرنا جرير بن حازم قال: سمعت محمد ابن سيرين يقول: قالت عائشة حين قتل عثمان: ”مصتم الرجل موص الإناء ثم قتلتموه“.
التخريج: أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/82-83)، ورواه خليفة بن خياط في تاريخه (176) قال: حدثنا روح بن عبادة قال: نا سعيد بن عبد الرحمن، عن ابن سيرين قال: قال عائشة: ”مصتموه موص الإناء ثم قتلتموه“ ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (495).(7/436)
وبمثل رواية ابن سعد رواه ابن عساكر في تاريخه (495): من طريق موسى بن إسماعيل، نا جرير بن حازم به.
وأيضاً بمثل رواية خليفة من طريق هشام عن محمد بن سيرين به.
رجال الإسناد:
* عفان بن مسلم بن عبد الله الباهلي، أبو عثمان الصفار، البصري، ثقة ثبت، قال ابن المديني: ”كان إذا شك في حرف من الحديث تركه“ وربما وهم وقال ابن المديني: ”أنكرناه في صفر سنة 219هـ، ومات بعدها بيسير“، من كبار العاشرة، (التقريب 4625)، ع.
* جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزدي، أبو النضر البصري، والد وهب: ثقة لكن في حديثه عن قتادة ضعف وله أوهام إذ حدث من حفظه، وهو من السادسة، مات سنة 70هـ بعدما اختلط لكن لم يحدث في حال اختلاطه، (التقريب 911)، ع.
* محمد بن سيرين الأنصاري، أبو بكر بن أبي عمرة البصري، ثقة ثبت عابد كبير القدر كان لا يرى الرواية بالمعنى، من الثالثة، توفي سنة 110هـ، (التقريب 5947)، ع.
درجة الأثر: إسناد ابن سعد حسن لغيره، فهو صحيح إلى ابن سيرين؛ رجاله ثقات رجال الشيخين، ومثله إسناد خليفة، إلا سعيداً فلم أجد له ترجمة، ويتقوى بالذي قبله.
وابن سيرين عن عائشة – رضي الله عنها – منقطع، قال أبو حاتم: ”لم يسمع ابن سيرين من عائشة شيئاً“ (العلائي في جامع التحصيل 324) لكنه يتقوى بالشواهد التي تقدمت، والتي ستأتي.
4) قال ابن سعد: أخبرنا عارم بن الفضل قال: أخبرنا حماد بن زيد، عن الزبير، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: ”مصتموه موص الإناء ثم قتلتموه“ تعني عثمان.
التخريج: أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/82).
رجال الإسناد:
* عارم بن الفضل السدوسي، أبو النعمان البصري، لقبه عارم، ثقة ثبت، تغير في آخر عمره، من صغار التاسعة، مات سنة 223هـ أو سنة 224هـ، ع (التقريب 6226)، وانظر (الكواكب النيرات لابن الكيال 382) – وفيه أنه تغير سنة 220هـ.(7/437)
* حماد بن زيد بن درهم البصري، الجهضمي أبو إسماعيل، البصري، ثقة ثبت فقيه. قيل إنه كان ضريراً ولعله طرأ عليه؛ لأنه صح أنه كان يكتب، من كبار الثامنة توفي سنة 179هـ، وله 81 سنة، ع، (التقريب 1498).
* الزبير بن الخريت، البصري، ثقة، من الخامسة، خ م د ت ق، (التقريب 1993).
* عبد الله بن شقيق العقلي، البصري، ثقة فيه نصب، من الثالثة توفي سنة 108هـ، بخ م ع، (التقريب 3385).
درجة الأثر: إسناده صحيح أو حسن لغيره.
وفيه اختلاط عارم، وقد يكون ابن سعد ممن سمع منه قبل الاختلاط، يقوي هذا الاحتمال أن العلماء ذكروا أنه اختلط سنة 220هـ، وابن سعد توفي سنة 230هـ ومن سمع منه قبل الاختلاط فحديثه صحيح.
ومن خلال استقراء شيوخ ابن سعد ووفياتهم يظهر أنه كان قبل هذه السنة في بغداد حيث بقي فيها حتى توفي سنة 230هـ وعارم توفي سنة 224هـ في البصرة (الطبقات 7/305).
فقد يكون ابن سعد سمع منه في البصرة، ثم رحل قبل وفاته إلى بغداد، واختلط عارم وهو في بغداد وبذلك يكون سماعه منه قبل اختلاط، والله أعلم.
إذا ثبت ذلك فالإسناد صحيح، لأن من سمع من عارم قبل الاختلاط فحديثه صحيح (انظر تهذيب الكمال 1258، والكواكب النيرات 382) وإلا فالخبر حسن لغيره، بما تقدم وسيأتي من شواهد.
5) قال خليفة: محمد بن عمرو، نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن خثيمة، عن مسروق، عن عائشة قالت حين قتل عثمان: ”تركتموه كالثوب النقي من الدنس، ثم قربتموه تذبحونه كما يذبح الكبش“.
فقال لها مسروق: ”هذا عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج إليه“.
قال: فقالت عائشة: ”لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم بسوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا“.
قال الأعمش: ”فكانوا يرون أنه كُتِبَ على لسانها“.(7/438)
التخريج: رواه خليفة في تاريخه (176)، ورواه ابن سعد في الطبقات (3/82) عن أبي معاوية الضرير عن الأعمش به، ورواه ابن شبه في تاريخ المدينة (1225) عن حبان بن بشر، عن يحيى بن آدم، عن الأعمش به نحوه، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (496) من طريقي سعدان بن نصر وعلي بن حرب، كلاهما عن أبي معاوية به نحوه وزاد في رواية علي في آخره ”وهي لا تعلم“.
رجال الإسناد:
* أبو معاوية الضرير، محمد بن خازم، بمعجمتين، الكوفي، عمي وهو صغير: ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش وقد يهم في حديث غيره، من كبار التاسعة، وله اثنتان وثمانون سنة، وقد رمي بالإرجاء، ع، (التقريب 5841).
* الأعمش هو سليمان بن مهران الأسدي، الكاهلي، أبو محمد الكوفي، ثقة حافظ، ورع ولكنه يدلس من الخامسة، توفي سنة 147هـ، وكان مولده سنة 61هـ، ع (التقريب 2615).
* خثيمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي، الكوفي، ثقة وكان يرسل من الثالثة، توفي سنة 80هـ، ع (التقريب 1773).
* مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي، أبو عائشة، الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم، من الثانية، توفي سنة 63هـ، ع (التقريب 6601).
درجة الأثر: ذكره ابن كثير من طريق أبي معاوية به وقال: ”وهذا إسناد صحيح إليها“ وهو كما قال، ورجاله ثقات، كوفيون، رجال الشيخين، وفيه عنعنة الأعمش، وقد تقدمت عدة شواهد له.
-------------------------------
المصدر: فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، تأليف د/ محمد بن عبد الله الغبان، (1/387-392) بتصرف يسير.
هذا والله الموفق.
أخوكم/ أبو إبراهيم الرئيسي
================
ماذا فعلت عائشة رضي الله عنها عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
خالد الغيث(7/439)
استشهد بعض المعاصرين في سردهم لخبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم برواية فيها زيادة منكرة عند العلماء لأنها تحمل في طياتها إساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وللسيدة عائشة رضي الله عنها ، حيث تتضمن اتهاماً لأم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها– بأمر من أمور الجاهلية مثل : الولولة ، والصراخ ، واللطم ، جزعاً لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفيما يلي نص الرواية :
بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يردد : ( بل الرفيق الأعلى ، بل الرفيق الأعلى) تقول - المراد عائشة – رضي الله عنها - : وهو يرددها سقط رأسه على كتفي ، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وشخص بصره إلى السماء. فمن حمقي ، وقلة عقلي أنزلت رأس النبي صلى الله عليه وسلم على وسادة ، وأخذت أولول ، وأصرخ ، وألطم).
وهذه الزيادة المنكرة مردودة من عدة أوجه :
الوجه الأول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختر أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – من بين نسائه ليقضي عندها تلك السويعات التي بقيت له في الدنيا لحمقها وقلة عقلها ، بل اختارها صلى الله عليه وسلم لفقهها ، وعلمها ، وحبه لها ، رضوان الله عليها.
عن هشام بن عروة بن الزبير ، عن أبيه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول : (أين أنا غداً ؟) حرصاً على بيت عائشة ، قالت عائشة : فلما كان يومي سكن)[رواه البخاري في صحيحه]،[ سكن: أي سكت عن قول : أين أنا غداً ].
وعن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد يقول : (أين أنا اليوم ؟ أين أنا غداً ؟) استبطاء ليوم عائشة. قالت : فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري)[ رواه مسلم في صحيحه].[ سحري : أي صدري ].(7/440)
وهذا الفضل العظيم الذي خص الله - سبحانه وتعالى - به أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – جعل الإمام البخاري يخرّج بعض أحاديث مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته في باب فضل عائشة – رضي الله عنها – وكذلك فعل الإمام مسلم في صحيحه ، وهذا من فقههما ودقة فهمهما ، رحمهما الله.
وعن هشام ، عن أبيه قال : ( كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة. قالت عائشة : فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة ، فقلن : يا أم سلمة ، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، وإنا نريد الخير كما تريد عائشة ، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان، أو حيث ما دار. قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : فأعرض عني ، فلما عاد إليّ ذكرت له ذلك ، فأعرض عني ، فلما كان الثالثة ذكرت له فقال : ( يا أم سلمة ، لا تؤذيني في عائشة ، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها) [ رواه البخاري في صحيحه].
وقد علق الذهبي على جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة بقوله : (وهذا الجواب منه دال على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها ، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها).
الوجه الثاني : إن حال عائشة - رضي الله عنها – مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته لم يتصف بالحمق وقلة العقل ، بل كان حالها حال الزوجة المؤمنة الصابرة الراضية بقضاء الله سبحانه وتعالى.
عن عائشة – رضي الله عنه – قالت : (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ، ومسح عنه بيده ، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث ، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه) [ رواه البخاري في صحيحه].(7/441)
وعن عروة بن الزبير ، أن عائشة - رضي الله عنها – قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول إنه : ( لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُحيا أو يخيّر) ، فلما اشتكى ، وحضره القبض ، ورأسه على فخذ عائشة ، غشي عليه ، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ، ثم قال : (اللهم في الرفيق الأعلى). فقلت: إذاً لا يختارنا ، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح ) [ رواه البخاري في صحيحه] .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( توفي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي ، وبين سحري ونحري ، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه فرفع رأسه إلى السماء وقال : ( في الرفيق الأعلى ).
ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة ، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فظننت أن له بها حاجة ، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه ، فاستن بها كأحسن ما كان مستناً ، ثم ناولنيها ، فسقطت يده ، أو سقط من يده ، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة ) [ رواه البخاري في صحيحه].
الوجه الثالث: إن عائشة – رضي الله عنها – لا يخفى عليها أن هذا الأمر من عمل الجاهلية ، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب، ودعا بدعوة الجاهلية) [ رواه البخاري في صحيحه].
وهي من هي فقها وعلماً ، وعن فقهها وعلمها يقول الذهبي – رحمه الله: (عائشة أم المؤمنين بنت الإمام الصديق الأكبر ، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم... القرشية التيمية ، المكية ، النبوية ، أم المؤمنين ، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ، أفقه نساء الأمة على الإطلاق ).
وقال أيضاً : ( ولا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، بل ولا في النساء مطلقاً ، امرأة أعلم منها).
وقال عنها ابن كثير – رحمه الله : ( ومن خصائصها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، بل هي أعلم النساء على الإطلاق).(7/442)
وقد شهد ببراءة السيدة عائشة – رضي الله عنها – من هذا العمل الذي هو من أعمال الجاهلية الصحابي الجليل قيس بن عاصم – رضي الله عنه – وهو يوصي أبناءه عند وفاته ، حيث قال : ( يا بني خذوا عني فإنكم لن تأخذوا عن أحد هو أنصح لكم مني ، لا تنوحوا علي ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُنح عليه، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن النياحة) [ الألباني ، صحيح الأدب المفرد للبخاري . الألباني ، صحيح سنن النسائي]. والشاهد هو قول هذا الصحابي الكريم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه.
==============
مطاعن الشيعة في طلحة والزبير رضي الله عنهما والرد عليها
مبحث مطاعن التيجاني في طلحة والزبير والرد عليه في ذلك
الصحابيان الجليلان طلحة والزبير اللذان شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة(1) لا بد أن تنالهما يد التيجاني بالطعن تارة، والتحريف لسيرتهما تارة أخرى وسبب ذلك أنهما ممن شاركا في المطالبة بالقصاص من عثمان رضي الله عنه وسوف أسوق مطاعن التيجاني في حقهما وأذود عنهما بالبنان والقلم.
أولاً إدّعى التيجاني في مبحث ( حديث التنافس على الدنيا ) أنهما ممن تنافسا على الدنيا، وأخذا يكنزان الذهب والفضة الخ، وقد رددت على هذه الحجة بالأدلة الواضحة التي تبرىء هذين الصحابيين من الذي نسبه إليهما هذا التيجاني الشانئ فليراجع في موضعه(2).
ثانياً إتهم التيجاني طلحة والزبير بأنهما كانا من ضمن الخارجين على عثمان وأنهما شاركا في حصاره ومنعه وقد فندت هذه الكذبة الممجوجة في مبحث عائشة السابق فليراجع(3).
ثالثاً ادعاء التيجاني على طلحة والزبير أنهما يشهدان الزور والرد عليه في ذلك:(7/443)
يقول التيجاني (( ودعني من كل هذا فأنا لا أريد البحث عن تاريخ أم المؤمنين عائشة ولكن أريد الإستدلال على مخالفة كثير من الصحابة لمبادئ الإسلام وتخلّفهم عن أوامر رسول الله (ص)، ويكفيني من فتنة أم المؤمنين دليلاً واحداً أجمع عليه المؤرخون، قالوا لما جازت عائشة ماء الحوأب ونبحتها كلابها تذكرت تحذير زوجها رسول الله ونهيه إياها أن تكون هي صاحبة الجمل، فبكت وقالت ردّوني ردّوني. ولكن طلحة والزبير جاؤوها بخمسين رجلاً جعلوا لهم جعلاً، فأقسموا الله أن هذا ليس بماء الحوأب فواصلت مسيرها حتى البصرة، ويذكر المؤرخون أنها أوّل شهادة زور في الإسلام ثم يعزو هذا الخبر إلى الطبري وابن الأثير والمدائني وغيرهم من المؤرخين الذين أرخوا السنة ست وثلاثين ثم يقول... دلّونا أيها المسلمون يا أصحاب العقول النيّرة على حل لهذا الإشكال، أهؤلاء هم الصحابة الأجلاّء الذين نحكم نحن بعدالتهم ونجعلهم أفضل البشر بعد رسول الله (ص)! فيشهدون شهادة الزور التي عدّها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر الموبقة التي تقود إلى النار ))(4)، فأقول:(7/444)
1 حل هذا الإشكال بسيط جداً لأننا لو فتحنا كتاب الطبري وابن الأثير لما وجدنا لهذا الخبر أثراً اللهم إلا هذه الرواية (( فعن الزهري، قال: بلغني أنه لما بلغ طلحة والزبير منزل عليّ بذي قار انصرفوا إلى البصرة، فأخذوا على المنْكَدِر، فسمعت عائشة رضي الله عنها نُباح الكلاب، فقالت: أي ماء هذا؟ فقالوا: الحوأب، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إني لهية، قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه ( ليت شعري أيَّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب ). فأرادت الرجوع، فأتاها عبد الله بن الزبير فزعم أنه قال: كذب من قال إنّ هذا الحوأب. ولم يزل حتى مضت ))(5)، والحمد لله أن الكتابين يملآن الأسواق، وليطّلع عليهما القارئ الذي يبحث عن الحق ليعلم إلى أي درجة وصلت بهذا التيجاني جرأة الكذب! ورواية الطبري وابن الأثير كما هو واضح لا تأتي على ذكر طلحة والزبير، وإنما عبد الله بن الزبير، وليس فيها شهادة زور، وحتى مقولة أنّ ابن الزبير: كّذب من قال إن هذا الحوأب، فجاءت بصيغة تمريضية، لأن الزهري قال ( فزعم أنه قال ).
1 هذا الخبر الذي ينسبه التيجاني لطلحة والزبير خبرٌ باطل لسببين:
أ مما لا شك فيه أن طلحة والزبير رضي الله عنهما المشهود لهما بالجنة من أصدق الناس وأعلاهما أخلاقاً، وأجلّ من أن يشهدا شهادة زور في أمرٍ كهذا!(7/445)
ب هذا الخبر المكذوب تعارضه رواية صحيحة في خبر الحوأب فعن قيس بن أبي حازم البجلي ثقة قال (( لما بلغت عائشة رضي الله عنها بعض ديار بني عامر نبحت عليها الكلاب فقالت: أي ماء هذا، قالوا الحوأب قالت: ما أظنني إلا راجعة فقال الزبير لا بعد تقدمي ويراك الناس ويصلح الله ذات بينهم قالت: ما أظنني إلا راجعة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب ))(6)، ومع ذلك لا يستحي هذا المهتدي أن يقول يكفيني من فتنة أم المؤمنين دليلاً واحداً أجمع عليه المؤرخون!؟ لا أريد منك إثبات هذا الإجماع الخيالي!؟، ولكن أريد منك مصدراً واحداً يذكر فيه هذا الخبر المكذوب؟، وبعد ذلك أقول للتيجاني أعتقد أنني قد أرشدتك على حل لهذا الإشكال والحمد لله الكبير المتعال.
===============
مبحث مطاعن التيجاني في معاوية بن أبي سفيان والرد عليه في ذلك:
من المسلم به أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان من أبرز من قاتل علياً رضي الله عنه بشأن مقتل عثمان والذي مثل زعامة الجانب المقابل لعلي في معركة صفين فما كان من التيجاني إلا أن صب جام غضبه عليه واتهمه بالظلم والضلال وسوف أسوق ادعاءات التيجاني على هذا الصحابي مفنداً لها ومدافعاً عن كاتب الوحي الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (( اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به ))(*)(7/446)
يقول التيجاني (( أن عمر بن الخطاب الذي اشتهر بمحاسبة ولاته وعزلهم لمجرّد الشبهة نراه يلين مع معاوية بن أبي سفيان ولا يحاسبه أبداً وقد ولاّه أبو بكر وأقرّه عمر طيلة حياته ولم يعترض عليه حتى بالعتاب واللّوم، رغم كثرة الساعين الذين يشتكون من معاوية ويقولون له بأنّ معاوية يلبس الذهب والحرير اللذين حرمهما رسول الله على الرّجال، فكان عمر يجيبهم: دعوه فإنه كسرى العرب، واستمر معاوية في الولاية أكثر من عشرين عاماً لم يتعرّض له احد بالنقد ولا بالعزل ولمّا ولي عثمان خلافة المسلمين أضاف إليه ولايات أخرى مكّنته من الاستيلاء على الثروة الإسلامية وتعبئة الجيوش وأوباش العرب للقيام بالثورة على إمام الأمة والاستيلاء على الحكم بالقوة والغضب والتحكّم في رقاب المسلمين وارغامهم بالقوّة والقهر على بيعة ابنه الفاسق شارب الخمر يزيد وهذه قصّة أخرى طويلة بصدد تفصيلها في هذا الكتاب ))(1)، فأقول:
1 يبدو أن التيجاني في كل ما يسوقه لا يستطيع أن يتخلى عن بعض الخصال التي يتمتع بها ومن ضمنها الجهل! فهو يدعي أن أبا بكر قد ولى معاوية فأقره عمر طيلة حياته! ولكن المعروف عند كل من درس سيرة الخلفاء أن أبا بكر قد ولى يزيد بن أبي سفيان الشام، وبقي واليا عليها في خلافة عمر وأقره عمر فلما توفي يزيد ولى أخاه معاوية بن أبي سفيان.
2 أما أن عمر كان يلين مع معاوية ولا يحاسبه أبداً فما هو الدليل على ذلك؟ ومن أين يستقي هذا التيجاني هذه الإدعاءات؟ فهل من مصدر يرشدنا إليه وإلا فأقول له كما يقول الشاعر:
والدعاوي ما لم تقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء!(7/447)
ولكن الثابت يشهد بخلاف ذلك فقد أورد ابن كثير في البداية (( أن معاوية دخل على عمر وعليه حلة خضراء فنظر إليها الصحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدرة فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا أمير المؤمنين الله الله في، فرجع عمر إلى مجلسه فقال له القوم: لم ضربته يا أمير المؤمنين؟ وما في قومك مثله؟ فقال: والله ما رأيت إلا خيراً، وما بلغني إلا خير، ولو بلغني غير ذلك لكان مني إليك غير ما رأيتم، ولكن رأيته وأشار بيده فأحببت أن أضع منه ما شمخ ))(2).
3 أما قوله (... رغم كثرة الساعين الذين يشتكون من معاوية ويقولون له بأن معاوية يلبس الذهب والحرير (!) اللذين حرمهما رسول الله على الرجال، فكان عمر يجيبهم: دعوه فإنه كسرى العرب )، فأقول:
أ أما قوله رغم كثرة الساعين الذين يشتكون من معاوية يكذبه الواقع والتاريخ فقد مكث معاوية أربعين عاماً يحكم أهل الشام وكانت علاقته بهم علاقة حب وولاية لدرجة أنهم أجابوه بقوة للأخذ بدم عثمان.
ب أما أنّ عمر قد قال في معاوية بأنه كسرى العرب عندما علم بأنه يلبس الذهب والحرير! فأرجو من المؤلف أن يرشدنا إلى المصدر الذي استقى منه هذا الكذب، والغريب أن يضرب عمر معاوية للبسه حلّة خضراء مباحة، ويسكت عليه عندما يلبس الذهب والحرير المحرّم؟!
ت أما الرواية عن عمر هو ما رواه ابن أبي الدنيا عن أبي عبد الرحمن المدني قال (( كان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب ))(3).
4 ثم يقول ( واستمر معاوية في الولاية أكثر من عشرين عاماً لم يتعرض له أحد بالنقد ولا بالعزل ولما ولي عثمان خلافة المسلمين أضاف إليه ولايات أخرى مكنته من الإستيلاء على الثورة الإسلامية ...)، فأقول:(7/448)
أ ليس في تولية معاوية للشام أي مطعن في عمر أو عثمان فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى أبوه أبو سفيان على نجران حتى توفي بل كان الكثير من أمراء النبي صلى الله عليه وسلم من بني أمية (( فإنه استعمل على مكة عتّاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية على صدقات مَذْحج وصنعاء اليمن، ولم يزل عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمل عمرو على تيماء وخيبر وقرى عرينة، وأبان بن سعيد بن العاص استعمله على البحرين برها وبحرها حين عزل العلاء بن الحضرمي، فلم يزل عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وأرسله قبل ذلك أميراً على سرايا منها سرية إلى نجد ))(4).
ب وعندما ولي معاوية الشام كانت سياسته مع رعيته من أفضل السياسات وكانت رعيته تحبه ويحبُّهم (( قال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحداً أعظم حلماً ولا أكثر سؤدداً ولا أبعد أناة ولا ألين مخرجاً، ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية. وقال بعضهم: أسمع رجل معاوية كلاماً سيئاً شديداً، فقيل له لو سطوت عليه؟ فقال: إني لاستحي من الله أن يضيقَ حلمي عن ذنب أحد رعيتي. وفي رواية قال له رجل: يا أمير المؤمنين ما أحلمك؟ فقال: إني لأستحي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي ))(5)، لذلك استجابوا له عندما أراد المطالبة بدم عثمان وبايعوه على ذلك ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم، أو يدركوابثأره أو ينفي الله أرواحهم قبل ذلك(6).(7/449)
ت أما ادعاؤه على معاوية أنه استولى على الثورة الإسلامية وتعبئة الجيوش وأوباش العرب للقيام بالثورة على إمام الأمة والاستيلاء على الحكم بالقوة والغصب والتحكم في رقاب المسلمين فهذا من أكبر الكذب على معاوية فإنه ما أراد الحكم ولا اعترض على إمامة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بل طالب بتسليمه قتلة عثمان ثم يدخل في طاعته بعد ذلك، فقد أورد الذهبي في ( السير ) عن يعلى بن عبيد عن أبيه قال (( جاء بو مسلم الخولاني وناس معه إلى معاوية فقالوا له: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله إني لأعلم أن علياً أفضل مني، وإنه لأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أنّ عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه، وإنما أطلب بدم عثمان، فأتوه فقولوا له فليدفع إليّ قتلة عثمان وأسلّم لهُ فأتوْا علياً فكلّموه بذلك فلم يدفعهم إليه ))(7)، طالما أكّد معاوية ذلك بقوله (( ما قاتلت علياً إلا في أمر عثمان )) ، وهذا هو ما يؤكده عليّ ومن مصادر الشيعة الاثني عشرية أنفسهم، فقد أورد الشريف الرضي في كتاب نهج البلاغة في خطبة لعليّ قوله (( وبدء أمرنا أنا التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله، ولا يستزيدوننا، الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء ))(8)، فهذا عليّ يؤكد أن الخلاف بينه وبين معاوية هو مقتل عثمان وليس من أجل الخلافة أو التحكم في رقاب المسلمين كما يدعي التيجاني.(7/450)
5 أما قوله بأن معاوية أرغم المسلمين بالقوة والقهر على بيعة إبنه الفاسق شارب الخمر يزيد، فهذا من الكذب الظاهر فإن معاوية لم يرغم الناس على بيعة ابنه يزيد ولكنه عزم على الأخذ بعقد ولاية عهده ليزيد وتم له ذلك، فقد بايع الناس ليزيد بولاية العهد ولم يتخلّف إلا الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، وتوفيّ معاوية ولم يرغمهم على البيعة. أما أن يزيد فاسق شارب للخمر فهذا كذب أيضاً وندع محمد بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يجيب على هذا الادعاء لأنه أقام عند يزيد وهو أدرى به، قال ابن كثير في البداية (( لما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدّى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواضباً على الصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة، قالوا: فإن ذلك كان منه تصنّعاً لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم يكن رأيناه. فقال لهم أبى الله ذلك على أهل الشهادة، فقال { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } ولست من أمركم في شيء، قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك فنحن نولّيك أمرنا. قال: ما استحل القتال على ما تريدونني عليه تابعاً ولا متبوعاً، فقالوا: فقد قاتلت مع أبيك، قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه، فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا، قال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقاماً نحض الناس فيه على القتال، قال: سبحان الله!! آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذاً ما نصحت لله في عباده قالوا: إذاً نكرهك. قال: إذا آمر الناس بتقوى الله(7/451)
ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق، وخرج إلى مكة ))(9).
ثانياً ادعاء التيجاني على معاوية بأنه أمر بسبّ عليّ، وأنه ليس من كتبة الوحي والرد عليه في ذلك:
يقول التيجاني (( وقد بحثت كثيراً عن الدوافع التي جعلت هؤلاء الصحابة يغيرون سنة رسول الله (ص)، واكتشفت أن الأمويين وأغلبهم من صحابة النبي وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان ( كاتب الوحي ) كما يسمّونه كان يحمل الناس ويجبرهم على سبّ علي بن أبي طالب ولعنه من فوق منابر المساجد، كما ذكر ذلك المؤرخون، وقد أخرج مسلم في صحيحه في باب ( فضائل علي بن أبي طالب) مثل ذلك، وأمر عمّاله يعني معاوية في كل الأمصار باتخاذ ذلك اللعن سنّة يقولها الخطباء على المنابر ))(1)، ويقول في موضع آخر (( كيف يحكمون باجتهاده ويعطوه أجراً وقد حمل الناس على لعن علي واهل البيت ذرية المصطفى من فوق المنابر ))(2)، وفي موضع آخر يقول (( حمل الناس على لعن علي وأهل البيت ذرية المصطفى من فوق المنابر وأصبحت سنة متبعة لستين عاماً ))(3)، ويقول (( وكيف يسمّونه ( كاتب الوحي )... وقد نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاثة وعشرين عاماً، كان معاوية لأحد عشر عاماً منها مشركاً بالله... ولمّا أسلم بعد الفتح لم نعثر على رواية تقول بأنه سكن المدينة في حين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسكن مكة بعد الفتح..... فكيف تسنى لمعاوية كتابة الوحي يا ترى؟! ))(4)، فأقول:(7/452)
1 أما ان معاوية أمر بسبّ عليّ من على المنابر فكذب، ولا يوجد دليل صحيح ثابت بذلك، وسيرة معاوية واخلاقه تستبعد هذه الشبهة، أما ما يذكره بعض المؤرخين من ذلك فلا يلتفت إليه لأنهم بإيرادهم لهذا التقول لا يفرقون بين صحيحها وسقيمها، إضافة إلى أن أغلبهم من الشيعة، ولكن بعض المؤرخين رووا في كتبهم روايات فيها الصحيح والباطل، ولكنهم أُعْذروا عندما اسندوا هذه المرويات إلى رواتها لنستطيع الحكم عليها من حيث قبولها أو ردها، ومن هؤلاء الطبري الذي عاش تحت سطوة وتعاظم قوة الرافضة، الذي يقول في مقدمة تاريخه (( ولْيعلم الناظر في كتابنا هذا أنّ اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما اشترطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويتُ من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه، دون ما إدرك بحجج العقول، واستنبط بفكر النفوس، إلا اليسير القليل منه، إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين، وما هو كائن من أنباء الحادثين، غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم، إلا بإخبار المخبرين ونقل الناقلين دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكَر النفوس. فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً من الصحة، ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يُؤتَ في ذلك من قِبَلنا، وإنما أُتي من قِبَل بعض ناقليه إلينا، وأناّ إنما أدينا ذلك على نحو ما أدِّيَ إلينا ))(5)، لذلك يجب على التيجاني عندما يحتج بالمؤرخين أن يذكر الرواية التي تبين أن معاوية أمر بلعن عليّ من على المنابر، ثم يرغي ويزبد بعد ذلك كما يشاء.(7/453)
2 أما قوله أن مسلم أخرج في صحيحه باب فضائل علي مثل ذلك فكذب أيضاً، فالرواية التي يقصدها هي ما رواه عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال (( أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسُبَّ أبا تراب؟ فقال: أمّا ذكرت ثلاثاً قالهنَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلن أسُبّهُ لأن تكون لي واحدة منهنَّ أحبُّ إليَّ من حُمر النَّعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له خلّفه في مغازيه فقال له عليُّ: يا رسول الله، خلَّفْتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضىأن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبوّة بعدي. وسمعته يقول يوم خيبر: لأُ عْطينَّ الراية رجلاً يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله، قال: فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي علياً، فأُتي به أرْمَد فبصق في عَيْنه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه، ولمّا نزلت هذه الآية: { قل تعالوْا ندعُ أبْنائنا وأبْناءَكم ...}، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحُسيناً فقال: اللهم، هؤلاء أهلي ))(6).(7/454)
وهذا الحديث لا يفيد أن معاوية أمر سعداً بسبِّ عليّ، ولكنه كما هو ظاهر فإن معاوية أراد أن يستفسر عن المانع من سب عليّ، فأجابه سعداً عن السبب ولم نعلم أن معاوية عندما سمع رد سعد غضب منه ولا عاقبه، وسكوت معاوية هو تصويب لرأي سعد، ولو كان معاوية ظالماً يجبر الناس على سب عليّ كما يدّعي هذا التيجاني، لما سكت على سعد ولأجبره على سبّه، ولكن لم يحدث من ذلك شيءٌ فعلم أنه لم يؤمر بسبّه ولا رضي بذلك، ويقول النووي (( قول معاوية هذا، ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب، كأنه يقول هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك. فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب، فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك، فله جواب آخر، ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبّون، فلم يسب معهم، وعجز عن الإنكار وأنكر عليهم فسأله هذا السؤال. قالوا: ويحتمل تأويلاً آخر أن معناه ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده، وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ ))(7).
3 من الغرائب أنّ هذا التيجاني ينكر سبَّ عليّ ولم يتورّع هو والهداة عن سب خيرة الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان! وكتبهم طافحة بذلك، ومنها كتاب التيجاني نفسه، لذلك لا بد لي من القول أن (( هؤلاء الرافضة، الذين يدّعون أنهم المؤمنون، إنما لهم الذل والصغار ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ))(8).(7/455)
4 أما أن معاوية من كتبة الوحي فامر ثابت، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس أن أبا سفيان طلب من النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة مطالب (( فقال للنبي : يا نبي الله ثلاثٌ أعطينهن قال: نعم منها قال: معاوية، تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم ...))(9)، وروى أحمد في المسند ومسلم عن ابن عباس قال (( كنت غلاماً أسعى مع الصبيان، قال: فالتفتُّ فإذا نبي الله صلى الله عليه وسلم خلفي مقبلاً، فقلت: ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ إليّ، قال: فسعيت حتى أختبيء وراء باب دارٍ قال: فلم أشعر حتى تناولني، قال: فأخذ بقفاي، فحطأني حطأةً، قال: اذهب فادع لي معاوية، وكان كاتبهُ، قال: فسعيتُ فقلت: أجِب نبي الله صلى الله عليه وسلم فإنه على حاجة ))(10)، فهذان الحديثان يثبتان أن معاوية كان من كتبة الوحي.
5 أما قوله أن الوحي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاثة وعشرين عاماً كان معاوية لأحد عشر عاماً منها مشركاً بالله!؟لقد قلت أن أبا سفيان طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل معاوية كاتباً له فقبل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأصبح يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم مدة أربع سنوات كاملة فهل هذا أمر يصعب تصديقه؟!
ثم يهذي فيقول ( ولما أسلم بعد الفتح لم نعثر على رواية تقول بأنه سكن المدينة في حين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسكن مكة بعد الفتح )، أقول:(7/456)
وهل الرواية السابقة لا تثبت أن معاوية سكن المدينة؟ وهل الرواية التي أخرجها الترمذي عن أبي مجلز قال: خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير، وابن صفوان حين رأوه فقال اجلسا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( من سره أن يتمثّل له الرجال قياماً، فليتبوّأ من النار ))(11)، لا تثبت ذلك؟ ولكن يبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباس أن ينادي معاوية من مكة؟! وأنا لا أعتب على التيجاني بقوله ( لم نعثر على رواية ) لأنه لو بحث لوجدها، ولكن نسأل الله له الشفاء من عقدة الإنصاف!
ثالثاً ادعاء التيجاني أنّ سبب قتل حجر بن عدي على يد معاوية استنكاره لسبّ عليّ والرد عليه في ذلك:
يقول التيجاني (( ولمّا استاء لذلك بعض الصحابة واستنكر هذا الفعل أمر معاوية بقتلهم وحرقهم وقد قتل من مشاهير الصحابة حجر بن عدي الكندي واصحابه ودفن بعضهم أحياءً لأنهم امتنعوا عن لعن علي واستنكروه ))(1)، ويقول في موضع آخر (( كيف يحكمون بإجتهاده وقد قتل حجر بن عدي وأصحابه صبراً ودفنهم في مرج عذراء ببادية الشام لأنهم امتنعوا عن سب علي بن أبي طالب ))(2)، فأقول:
1 اختلف الناس في صحبة حجر بن عدي ( المشهور )! فعدّه البخاري وآخرون من التابعين، وعده البعض الآخر من الصحابة.(7/457)
2 لم يقتل معاوية حجراً لأنه امتنع عن سب عليّ، فهذا تخرّص واضح والذي ذكره المؤرخون في سبب مقتل حجر بن عدي هو أن زياد أمير الكوفة من قبل معاوية(3) قد خطب خطبة أطال فيها فنادى حجر بن عدي الصلاة فمضى زياد في الخطبة فما كان من حجر إلا أن حصبه هو وأصحابه فكتب زياد إلى معاوية ما كان من حجر وعدّ ذلك من الفساد في الأرض وقد كان حجر يفعل مثل ذلك مع من تولّى الكوفة قبل زياد، فأمر أن يسرح إليه فلما جيء به إليه أمر بقتله، وسبب تشدد معاوية في قتل حجر هو محاولة حجر البغي على الجماعة وشق عصا المسلمين واعتبره من السعي بالفساد في الأرض، وخصوصاً في الكوفة التي خرج منها جزء من أصحاب الفتنة على عثمان فإن كان عثمان سمح بشيء من التسامح في مثل هذا القبيل الذي انتهى بمقتله، وجرّ على الأمة عظائم الفتن حتى كلّفها ذلك من الدماء أنهاراً، فإن معاوية أراد قطع دابر الفتنة من منبتها بقتل حجر، والغريب أن هذا التيجاني يصيح من أجل قتل حجر ولا يعترض على عليٍّ عندما قاتل الخارجين على خلافته في الجمل وصفين، والتي تسببت في مقتل خيار الصحابة إضافة إلى الآلاف من المسلمين، مع أنّ السبب واحد وهو الخروج على سلطة الخليفة!!
رابعاً ادعاء التيجاني أنّ الحسن البصري طعن في معاوية والرد عليه في ذلك: يقول التيجاني (( وقد أخرج أبو الأعلى المودودي في كتابه ( الخلافة والملك ) نقلا عن الحسن البصري قال: أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة له:
(1) أخذه الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة ونور الفضيلة.
(2) إستخلافه بعده ابنه سكيراً خمّيراً يلبس الحرير ويضرب الطنابير.
(3) ادّعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر.
(4) قتله حجراً وأصحاب حجر فيا ويلا له من حجر ويا ويلا له من حجر وأصحاب حجر. ))(4)(7/458)
1 هذه الرواية مدارها على أبي مخنف(5)، وأبو مخنف هذا هو لوط بن يحى الأزدي الكوفي قال عنه الذهبي وابن حجر(( أخباري تالف لا يوثق به ))(6)، (( تركه أبو حاتم وغيره، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال مرة ليس بشيء، وقال ابن عدي: شيعي محترق ))(7)، وعده العقيلي من الضعفاء(8)، وعلى ذلك فالخبر ساقط ولا حجة فيه.
2 لو فرضنا صحة هذا الكلام عن الحسن، لما كان فيه أي مطعن في معاوية، فالادعاء بأن معاوية أخذ الامر من غير مشورة فباطل، لأن الحسن تنازل له عن الخلافة وقد بايعه جميع الناس ولم نعلم أن أحداً من الصحابة امتنع عن مبايعته، وأما استخلافه يزيد فقد تم بمبايعة الناس ومنهم عبد الله بن عمر، ولم يتخلّف إلا الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، وليس تخلّف من تخلف عن البيعة بناقض لها ولا يمثل أي مطعن في معاوية، أما أن يزيد خميراً يلبس الحريرالخ، فقد كذّبه ابن عليّ محمد بن الحنفية الذي أقام عند يزيد فوجده بخلاف ما يدعون(9)، أما ادعاؤه زياداً بخلاف حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال ( لعبد بن زمعة، هو لك الولد للفراش وللعاهر الحجر) باعتبار أنه قضى بكونه للفراش وباثبات النسب فباطل (( لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت النسب، لأن عبداً ادعى سببين: أحدهما الأخوة، والثاني ولادة الفراش، فلو قال النبي صلى الله عليه وسلم هو أخوك، الولد للفراش لكان اثباتاً للحكم وذكراً للعلة، بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل عن الأخوة ولم يتعرض لها وأعرض عن النسب ولم يصرح به وإنما هو في الصحيح في لفظ ( هو أخوك ) وفي آخر ( هو لك ) معناه فأنت أعلم به بخلاف زياد فإن الحارث بن كلدة الذي ولد زياد على فراشه لم يدّعيه لنفسه ولا كان ينسب إليه فكل من ادعاه فهو له إلا أن يعارضه من هو أولى به منه فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز بل فعل فيه الحق على مذهب الإمام مالك ))(10)، ومن رأى أن النسب لا يلحق بالوارث(7/459)
الواحد أنكر ذلك مثل الحسن على فرض صحة نسبة هذا الادعاء له فكيف إذا ظهر كذب هذه النسبة إليه، وعلى كل فالمسألة اجتهادية بين أهل السنة، وأما قتل حجر فقد ذكرت الأسباب التي دعت معاوية لذلك بما يغني عن الإعادة هنا(11)، ومما سبق يتضح لدينا أن هذه المآخذ الأربعة على معاوية لا تمثل في حقيقتها أي مطعن به والحمد لله رب العالمين.
خامساً: الرد على فهم التيجاني السقيم لأحداث الفتنة بين معاوية وعلي:
يقول التيجاني (( وعندما نسأل بعض علمائنا عن حرب معاوية لعلي وقد بايعه المهاجرون والأنصار، تلك الحرب الطاحنة التي سبّبت انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة وانصدع الإسلام ولم يلتئم حتى اليوم، فإنهم يجيبون كالعادة وبكل سهولة قائلين:أن علياً ومعاوية صحابيان جليلان اجتهدا فعلي اجتهد وأصاب فله أجران أما معاوية اجتهد وأخطأ فله أجر واحد. وليس من حقّنا نحن أن نحكم لهم أو عليهم وقد قال الله تعالى { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عمّا كانوا يعملون }، هكذا وللأسف تكون إجاباتنا وهي كما ترى سفسطة لا يقول بها عقل ولا دين ولا يقرّ بها شرع، اللهم أبرأ إليك من خطل الآراء وزلل الأهواء وأعوذ بك من همزات الشياطين واعوذ بك ربّ أن يحضرون، كيف يحكم العقل السليم باجتهاد معاوية ويعطيه أجراً على حربه إمام المسلمين وقتله المؤمنين الأبرياء وارتكابه الجرائم والآثام التي لا يحصي عددها إلا الله وقد اشتهر عند المؤرخين بقتله معارضيه وتصفيتهم بطريقته المشهورة وهو إطعامهم عسلاً مسموماً وكان يقول ( إن لله جنوداً من عسل )، كيف يحكم هؤلاء باجتهاده ويعطوه أجراً وقد كان إمام الفئة الباغية ففي الحديث المشهور الذي أخرجه كل المحدثين والذي جاء فيه ( ويح عمّار تقتله الفئة الباغية ) وقد قتله معاوية وأصحابه .... والسؤال يعود دائماً ويتكرر ويلح: ترى أي الفريقين على الحق وأيهما على الباطل؟ فأما أن يكون علي وشيعته ظالمين(7/460)
وعلى غير الحق. وأمّا أن يكون معاوية وأتباعه ظالمين وعلى غير الحق، وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء، وفي كلا الحالين فإن عدالة الصحابة كلهم من غير استثناء أمر مستحيل، لا ينسجم مع المنطق السليم ))(1)، فأقول:
1 لقد قلت أن معاوية لم يقاتل علي إلا في أمر عثمان وقد رأى أنه ولي دم عثمان وهو أحد أقربائه واستند إلى النصوص النبوية التي تبين وتظهر أن عثمان يقتل مظلوماً ويصف الخارجين عليه بالمنافقين إشارة إلى ما رواه الترمذي وابن ماجه عن عائشة قالت (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا عثمان! إن ولاّك الله هذا الأمر يوماً، فأَرادكَ المنافقون أن تخْلع قميصك الذي قمَّصَكَ الله، فلا تخلعه ) يقول ذلك ثلاث مرات ))(2)، وقد شهد كعب بن مرة أمام جيش معاوية بذلك فقال (( لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت أي ما قمت بالقتال بجانب معاوية للقصاص من قتلة عثمان وذكر الفتن فقرّ بها فمر رجل مقنع في ثوب فقال: هذا يومئذ على الهدى فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا ؟ قال: نعم ))(3)، وأيضاً عن عبد الله بن شقيق بن مرة قال (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيج على الأرض فتن كصياصي البقر فمر رجل متقنع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وأصحابه يومئذ على الحق فقمت إليه فكشفت قناعه وأقبلت بوجهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله هو هذا؟ قال هو هذا، قال: فإذا بعثمان بن عفان ))(4)، وقد رأى معاوية وأنصاره أنهم على الحق بناء على ذلك، وأنهم على الهدى وخصوصاً عندما نعلم أن المنافقين الثائرين على عثمان كانوا في جيش علي فاعتبروهم على ضلال فاستحلّوا قتالهم متأولين.(7/461)
2 إضافة إلى أن أنصار معاوية يقولون لا يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ولا يظلمنا ونحن إذا بايعنا علياً ظلمنا عسكره كما ظلم عثمان وعلي عاجز عن العدل علينا وليس علينا أن نبايع عاجزاً عن العدل علينا(5) ويقولون أيضاً أن جيش علي فيه قتلة عثمان وهم ظلمة يريدون الاعتداء علينا كما اعتدوا على عثمان فنحن نقاتلهم دفعاً لصيالهم علينا وعلى ذلك فقتالهم جائز ولم نبدأهم بالقتال ولكنهم بدأونا بالقتال.
3 وعلى ذلك فالنصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تفيد أن ترك القتال كان خيراً للطائفتين فلم يكن واجباً ولا مستحباً وأن علياً مع أنه أولى بالحق وأقرب إليه من معاوية ولو ترك القتال لكان فيه خيراً عظيماً وكفاً للدماء التي أسيلت ولهذا كان عمران بن حصين رضي الله عنه ينهى عن بيع السلاح فيه ويقول: لا يباع السلاح في الفتنة وهذا قول سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وابن عمر وأسامة بن زيد وأكثر من كان بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار(6) الذين اعتزلوا الفتنة ولم يشاركوا في القتال لذلك قال الكثيرمن أئمة أهل السنة (( لا يشترط قتال الطائفة الباغية فإن الله لم يأمر بقتالها ابتداءً، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما ثم إن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت التي تبغي ))(7) فادعاء التيجاني أن معاوية هو الذي أمر بقتال علي كذب فاضح.(7/462)
4 ولو فرضنا أن الذين قاتلوا علياً عصاة وليسوا مجتهدين متأولين فلا يكون ذلك قادحاً في إيمانهم واستحقاقهم لدخول الجنان فالله سبحانه وتعالى يقول { وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما بالعدل فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسِطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } ( الحجرات 9 10)، فوصفهم بالإيمان وجعلهم إخوة رغم قتالهم وبغي بعضهم على بعض فكيف إذا بغى بعضهم على بعض متأولاً أنه على الحق فهل يمنع أن يكون مجتهداً سواءٌ أخطأ أو أصاب؟! لهذا فأهل السنة يترحمون على الفريقين كما يقول الله تعالى { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوفٌ رحيم } ( الحشر 10)
5 الأحاديث الثابتة تبين أن كِلا الطائفتين دعوتهما واحدة وتسعيان للحق الذي تعتقدان وتبرئهما من قصد الهوى واتباع البطلان فقد أخرج البخاري في صحيحه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان(8) دعواهما واحدة ))(9)، وهذا الحديث كما ترى يثبت أنهما أصحاب دعوة واحدة ودين واحد، وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق ))(10)، فهذا الحديث يبين أن كلا الطائفتين يطالبان بالحق ويتنازعان عليه أي أنهما يقصدان الحق ويطلبانه ويبين أن الحق هو مع علي لأنه قاتل هذه الطائفة وهي طائفة الخوارج التي قاتلها في النهروان، وقال النووي (( فيه التصريح بأن الطائفتين مؤمنون لا يخرجون بالقتال عن الإيمان ولا يفسقون ))(11).(7/463)
6 بالنسبة لبغي معاوية فإما أن يكون فيه متأولاً أن الحق معه، أو يكون متعمداً في بغيه وفي كلا الحالتين فإن معاوية ليس معصوماً من الوقوع في ذلك أو غيره من الذنوب فأهل السنة لا ينزهونه من الوقوع في الذنوب بل يقولون أن الذنوب لها أسباب ترفعها بالاستغفار والتوبة منها أوفي غير ذلك وقد ذكر ابن كثير في البداية عن المسور بن مخرمة أنه وفد على معاوية قال: (( فلما دخلت عليه حسبت أنه قال سلمت عليه فقال: ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور؟ قال قلت: ارفضنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له، فقال: لتكلمني بذات نفسك، قال: فلم أدع شيئاًَ أعيبه عليه إلا أخبرته به، فقال: لا تبرأ من الذنوب، فهل لك من ذنوب تخاف أن تهالك إن لم يغفرها الله لك؟ قال: قلت: نعم، إن لي ذنوباً إن لم يغفرها هلكت بسببها، قال: فما الذي يجعلك أحق بأن ترجوا أنت المغفرة مني، فولله لما إلي من إصلاح الرعايا وإقامة الحدود والاصلاح بين الناس والجهاد في سبيل الله والأمور العظام التي لا يحصيها إلا الله ولا نحصيها أكثر من العيوب والذنوب، وإني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات ويعفو عن السيئات، والله على ذلك ما كنت لأخيَّر بين الله وغيره إلا اخترت الله على غيره مما سواه، قال: ففكرت حين قال لي ما قال فعرفت أنه قد خصمني. قال: فكان المسور إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير))(12)، فكيف إذا كان متأولاً؟(7/464)
7 بالنسبة لحديث ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية )، فإنه من أعظم الدلائل أن الحق مع عليّ، لكن معاوية تأوّل الحديث فعندما هزَّ مقتل عمار، عمرو بن العاص وابنه تملّكتهما الرهبة ففي الحديث الذي أخرجه أحمد في المسند عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه قال (( لمّا قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال: قُتل عمار وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تقتله الفئة الباغية فقام عمرو بن عاص فزعاً يُرجِّع حتى دخل على معاوية فقال له معاوية: ما شأنك؟ قال: قتل عمار فقال معاوية: قتل معاوية فماذا؟ قال عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية، فقال له معاوية: دحضْتَ في بولك أو نحنقتلناه؟ إنما قتله عليٌ وأصحابه، جاءوا به حتى ألقوه بين رماحنا أو قال: سيوفنا ))(13)، فخرج الناس يقولون: إنما قتل عماراً من جاء به، فأرجع الثقة لجيشه، والذي جعل معاوية يأول الحديث هذا التأويل أنه لم يكن يتصور أن قتلة عثمان أهل حق في ضوء الأحاديث التي تثبت أن عثمان يقتل مظلوماً، وأن قتلته هم الظالمون، فلا شك أن الفئة الباغية هي التي في جيش عليّ، ولكن الحق الذي يقال أن هذه التأويلات باطلة قطعاً وأن الحق مع عليّ، ولكن فئة معاوية معذورون في اجتهادهم لأنهم أرادوا الحق ولكنهم لم يصيبوه، وهذا هو الذي جعل عمرو بن العاص يقترح رفع المصاحف لايقاف الحرب لأنه كان في قلبه شيء من هذا الحديث.(7/465)
8 وإذا أصرَّ التيجاني على جعل معاوية ظالماً فسيجيبه الناصبة(14)بأن علياً ظالماً أيضاً لأنه قاتل المسلمين لا لشيء بل لإمارته، وهو الذي بدأهم بالقتال وسفك الدماء دون فائدة تجنى للمسلمين، ثم تراجع وصالح معاوية، فلن يستطيع التيجاني وشيعته الاجابةعلى ذلك، ولو احتج بحديث عمار فسيردّ عليه بأن الله لم يشترط البدء في قتال الطائفة الباغية إلا إذا ابتدأت هي بالقتال ولكن علياً هو الذي بدأهم بالقتال فما هو جواب التيجاني؟ وقد ضربت صفحاً عن حجج الخوارج والمعتزلة التي تقدح في علي، المهم أن نعلم أن كل حجة يأتي بها التيجاني على معاوية سيقابل بمثلها من جانب الطوائف الأخرى ولكن أهل السنة يترضون عن الطائفتين ولا يفسقون أحدهما ويقولون أن الحق مع علي رضي الله عنه ويردون على جميع حجج الطوائف التي تقدح في علي أو معاوية لأن مذهبهم مستقيم بخلاف مذهب الرافضة والحمد لله.
9 من المسلم عند كل من اطلع على مذهب الإمامية يعلم أنهم يكفرون معاوية لقتاله علياً ولكن الثابت أن الحسن بن علي وهو من الإئمة المعصومين عندهم فكل ما يصدر عنه فهو حق والحسن قد صالح(15) معاوية وبايعه على الخلافة فهل صالح الحسن ( المعصوم ) كافر وسلّم له بالخلافة؟! أم أصلح بين فئتين مسلمتين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (( ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين ))(16)، أرجو من التيجاني الإجابة؟!
10 أما ادعاؤه أن معاوية ارتكب جرائم لا تحصى وقد اشتهر عند المؤرخين بقتله معارضيه وتصفيتهم بطريقته المشهورة وهو إطعامهم عسلاً مسموماً وكان يقول (إن لله جنوداً من عسل )!! فهذا القول فيه من الجهل والكذب ما لايخفى على عاقل وأنا أريد من التيجاني إرشادنا إلى هؤلاء المؤرخين حتى يتسنى لنا التثبت من هذا الادعاء المكشوف وإلا فالكلام سهل جداً.(7/466)
11 الغريب أن يعترض التيجاني على أبي بكر قتاله لمانعي الزكاة مع أن ذلك باتفاق الأمة، بينما تراه يقف مع عليّ في قتاله لمعاوية والذي اختلف فيه مع الصحابة ولم يأتي بنتائجه المرجوة وتسبب بقتل الألوف من المسلمين ولعل السبب هو إنصافه المزعوم والعقلانيته المذؤومة!
12 أستطيع الإجابة على سؤال التيجاني الذي يتكرر ويلح بالقول أن فريق عليّ على الحق وأما معاوية فليس بظالم ولا داع إلى باطل، ولكنه طالب للحق ولم يصبْهُ وهو مأجور على اجتهاده فليس أحدهما ظالم أو فاسق، والوقع بالذنب لا يقدح بعدالة المذنب وفي كل الأحوال فإن عدالة الصحابة كلهم من غير استثناء أمر مسلّم بالكتاب والسنة والإجماع، وينسجم مع المنطق السليم ولكنه لا ينسجم بالطبع مع المنطق السقيم الذي يتمتع به التيجاني!
وأخيراً إذا لم يقتنع التيجاني بذلك فسأضطر لكي استقي من مصادر هداته الاثني عشرية ما يثبت أن علي ومعاوية على حق ومأجورين على اجتهادهما فقد ذكر الكليني في كتابه( الروضة من الكافي ) الذي يمثل أصول وفروع مذهب الاثني عشرية عن محمد بن يحيى قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول (( اختلاف بني العباس من المحتوم والنداء من المحتوم وخروج القائم من المحتوم، قلت: وكيف النداء؟ قال: ينادي مناد من السماء أول النهار: ألا إن علياً وشيعته هم الفائزون، وقال: وينادي مناد في آخر النهار: ألا إن عثمان وشيعته هم الفائزون ))(17)، وهذا علي بن أبي طالب يقرر أن عثمان وشيعته هم أهل إسلام وإيمان ولكن القضية اجتهادية كل يرى نفسه على الحق في مسألة عثمان فيذكر الشريف الرضي في كتابكم ( نهج البلاغة ) عن علي أنه قال (( وكان بدء أمرنا أن إلتقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا، الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء ))(18).(7/467)
سادساً: إدعاء التيجاني أن معاوية سم الحسن والرد عليه في ذلك:
يقول التيجاني (( كيف يريدونه صحابياً عادلاً وقد دسّ السم للحسن بن علي سيد شباب أهل الجنّة وقتله ))(19)، ويقول (( كيف يحكمون بإجتهاده وقد دسّ السم للحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة فقتله، ولعلهم يقولون: هذا أيضاً من اجتهاده فقد اجتهد وأخطأ!))(20).
فأقول: هذا الادعاء باطل وذلك لأسباب وهي:
أ أنه لم يثبت ولا دليل صحيح عليه وإن كان عند التيجاني نقل ثابت عن عدل فليرشدنا إليه لا أن يتهم صحابيا دون أن يأتي ببينة على ادعائه.
ب كان الناس في تلك المرحلة في حالة فتنة تتصارعهم الأهواء وكل فرقة تنسب للأخرى ما يذمها وإذا نقل لنا ذلك فيجب ألا نقبله إلا إذا نقل بعدل ثقة ضابط.
ج لقد نقل أن الذي سمّ الحسن غير معاوية فقيل هي زوجته وقيل أن أباها الأشعث بن قيس هو الذي أمرها بذلك وقيل معاوية وقيل ابنه يزيد وهذا التضارب بالذي سمّ الحسن يضعف هذه النقول لأنه يعزوها النقل الثابت بذلك، والتيجاني لم يعجبه من هؤلاء إلا الصحابي معاوية مع أنه أبعد هؤلاء عن هذه التهمة.
ث حجة التيجاني هذه تستسيغها العقول في حالة رفض الحسن الصلح مع معاوية ومقاتلته على الخلافة ولكن الحق أنّ الحسن صالح معاوية وسلّم له بالخلافة وبايعه، فعلى أي شيء يسمّ معاوية الحسن؟! ولهذه الأسباب أقول أن حجة التيجاني هذه خاوية على عروشها!
سابعا: ادعاء التيجاني على معاوية أنه حوّل الخلافة من الشورى إلى ملكية قيصرية والرد عليه في ذلك:(7/468)
يقول التيجاني (( كيف ينزّهونه وقد أخذ البيعة من الأمة بالقوة والقهر لنفسه أولاً ثم لابنه الفاسق يزيد من بعده وبدّل نظام الشورى بالملكية القيصرية ))(21)(( وبعد علي استولى معاوية على الخلافة فأبدلها قيصرية ملكية يتداولاها بنو أمية ومن بعدهم بنو العباس أبا عن جد ولم يكن هناك خليفة إلاّ بنص السابق عن اللاّحق أو بقوة السيف والسلاح والإستيلاء، فلم تكن هناك بيعة صحيحة في التاريخ الإسلامي من عهد الخلفاء وحتى عهد كمال أتاتورك الذي قضى على الخلافة الإسلامية إلا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ))(22) (( كيف يحكمون باجتهاده وقد أخذ البيعة من الأمة بالقوة والقهر لنفسه ثم لابنه يزيد من بعده وحوّل نظام الشورى إلى الملكية القيصرية ))(23)، فأقول:(7/469)
1 لم يأخذ معاوية الخلافة بالقوة والقهر وإنما سلمت له من قبل الحسن بن علي وذلك بعدما تم الصلح بينهما وذلك مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم (( ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين)، فقد أخرج البخاري في صحيحه أن الحسن البصري قال (( استقبل والله الحسن بن عليّ معاوية بكتائب امثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تُوليّ حتى تقْتُل أقرنها، فقال له معاوية وكان والله خير الرجلين أي عمرو، إن ْقتلَ هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور النّاس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم، فبعث إليه رجلين من قريش، من بني عبد شمس عبد الرحمن بن سمُرة وعبد الله بن عامر بن كُريز، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل، فاعرضا عليه وقولا له، واطلبا إليه. فأَتياهُ فدخلا عليه، فتكلَّما وقالا له فطلبا إليه، فقال الحسن بن عليّ: إنَّا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإنَّ هذه الأمة قد عاثت في دمائها. قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألُكُ، قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئاً إلا قالا: نحن لك به، فصالحة. فقال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن بن عليّ إلى جنبه، وهو يُقبل على النّاس مرَّة وعليه أخرى، ويقول ( إنَّ ابني هذا سيدٌ، ولعلّ الله أن يُصلح به بين فِئتين من المسلمين))(24)(7/470)
2 أما بالنسبة لمبايعة ابنه يزيد فقد حرص معاوية على موافقة الناس، فعزم على أخذ البيعة لولاية العهد ليزيد، فشاور كبار الصحابة وسادات القوم وولاة الأمصار فجائت الموافقة منهم، وجاءته الوفود بالموافقة على بيعة يزيد وبايعه الكثير من الصحابة حتى قال الحافظ عبد الغني المقدسي (( خلافته صحيحة، بايعه ستون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ابن عمر ))(25)، وقد ثبت في صحيح البخاري أن ابن عمر بايع يزيد وعندما قامت عليه الفتنة من المدينة جمع أهله وحذّرهم من الخروج على يزيد، فعن نافع قال (( لمّا خلع أهل المدينة بن معاوية، جمع ابن عمر حشمه وولده، فقال: إني سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة. وإنَّا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يُبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم يَنصُبُ له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خَلَعَهُ، ولا تابع في هذا الأمر، إلا كانت الفيصل بيني وبينه ))(26)، وقد خالف ابن الزبير والحسين هذه الموافقة ولا يقدح ذلك في البيعة إذ لا بد من مخالف لذلك، ومن هنا نعلم أن معاوية حرص على موافقة الأمة على بيعة يزيد، ولو أراد معاوية الاستبداد وأخْذ البيعة ليزيد بالقوة والقهر كما يدعي التيجاني لاكتفى ببيعة واحدة، وفرضها على الناس فرضاً، وهذا ما لم يفعله معاوية بل قد خالف من خالف ولم يتخذ معاوية سبيل القوة لارغامهم على البيعة.
3 ولعل السبب الذي دفع معاوية لأخذ البيعة ليزيد، حتى يُبعد الخلاف ويجمع الكلمة في هذه المرحلة المتوتِّرة التي تعيشها الأمة، وكثرة المطالبين بالخلافة فرأى أنه بتوليته ليزيد صلاح للأمة وقطعاً لدابر الفتنة باتفاق أهل الحل والعقد عليه.(7/471)
4 لم يبتدع معاوية نظاماً جديداً للخلافة بتوريث ابنه يزيد، فقد سبقه إلى ذلك أبو بكر عندما عهد بالأمر لعمر بن الخطاب وقد عمد عمر إلى نفس الأمر فعهد بالولاية وحصرها بستة من الصحابة، أما إذا احتج التيجاني بأن الاستخلاف في عهد الشيخين لم يكن للأبناء أي ملكاً وراثياً فأقول له أن أول من فعل ذلك هو علي عندما عهد بالخلافة من بعده لابنه الحسن فقد ذكر الكليني في ( أصول الكافي) عن سليم بن قيس قال (( شهدت وصية أمير المؤمنين عليه السلام حين أوصى إلى ابنه الحسن عليه السلام وأشهد على وصيته الحُسين ومحمداً أي ابن الحنفية عليهما السلام وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ثم دفع إليه الكتاب والسلاح ... ))(27).
5 الرافضة الاثنا عشرية يعارضون في الأصل مبدأ الشورى ويدعون أن الولاية يجب أن ينص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنص صريح، والتيجاني نفسه عارض خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فلماذا يتباكا هنا على نظام الشورى الذي يعارضه هو نفسه، ويعترض على معاوية بولاية العهد لابنه يزيد فهل لو جعلها شورى سيقبلها التيجاني وأخوته الرافضة؟! أم أن الأمر عندهم سيان! الجواب أنهم لن يقبلوها ولو كانت شورى من جميع المسلمين فلماذا هذه الإثارة الممجوجة والورع المكذوب من التيجاني على مبدأ الشورى وأغرب ما في الأمر اعتراض التيجاني أن يورث معاوية ابنه يزيد وراثة قيصرية ملكية! وما درى أن أعظم اعتقاد للرافضة الامامية هو اعتقاد الإمامية وراثية قيصرية ملكية في ولد علي بن أبي طالب بإستخلاف الأب للابن وهكذا فهل هي حلال لهم حرام على غيرهم؟!
وأخيراً أما ادعاءه أنه لم تكن هناك بيعة صحيحة في التاريخ الإسلامي من عهد الخلفاء وحتى عهد كمال أتاتورك (!!) الذي قضى على الخلافة الاسلامية إلا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(7/472)
فأقول: هذا الكلام لا يقوله إلا من هو أقل الناس فهماً وأكثرهم جهلاً وأعماهم بصراً، فأقول للتيجاني على أي شيء استندت على قولك السقيم هذا وما هي شروط البيعة الصحيحة؟ إذا ادعيت أنه لا بد من إجماع الناس على البيعة، قلت: علي بن أبي طالب أبعد الخلفاء الثلاثة عن الإجماع فقد خالفه أضعاف من خالف الثلاثة وقامت الحروب بينه وبين معارضيه وتوفي قبل توحيد المسلمين على البيعة أما إذا قلت أن خلافة الثلاثة كانت بالقوة قلت: هذا من أكبر الكذب والتاريخ يشهد بذلك وأنت بنفسك قلت أن الخلافة كانت شورى حتى استبدلها معاوية بالقيصرية ولو قال معارضو علي بأنه أراد الخلافة بالقوة لكانت حجتهم أقوى من حجتك فإن علياً قاتل على خلافته حتى سقطت دماء الآلاف من المسلمين وإن ادعيت أن خلافة علي صحيحة لأنها ثابتة بالنص من الرسول صلى الله عليه وسلم فأقول: فهذا كذب أيضاً فكل الأدلة التي سقتها لا تفيد النص على علي ولو كان ذلك صحيحاً لما بايع علي الخلفاء الثلاثة إضافة إلى أن النصوص التي تبين أن الخليفة هو أبو بكر أقوى صحة وأظهر دليلاً على نصية الخلافة له(28) فكل حجج التيجاني ظاهرة البطلان والعوار، والغريب حقاً أن التيجاني الذي ينفي وجود خلافة صحيحة إلا لعلي، يقر بالحق من حيث لا يدري فيقول، حتى عهد أتاتورك الذي قضى على الخلافة الاسلامية؟! فسبحان الله كيف يجري الحق على ألسنتهم في حق معاوية، وأظن أنني رددت على جميع الشبه التي ساقها التيجاني والحمد لله رب العالمين.
=============
هل كان معاوية يتدين بسب على رضى الله عنهما ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
من المسائل التى يتخذها الرافضة سُلماً و ذريعة للطعن فى الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ما جاء عنه انه كان يرى " سب على بن أبي طالب رضى الله عنه " و سنحاول بفضل الله توضيح هذه الشبهة و تعريتها سائلين المولى السداد و الرشاد(7/473)
1- يستدل الرافضة بالخبر الذى جاء فى صحيح مسلم فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال ( أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسُبَّ أبا تراب ؟ فقال : أمّا ذكرت ثلاثاً قالهنَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلن أسُبّهُ لأن تكون لي واحدة منهنَّ أحبُّ إليَّ من حُمر النَّعم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له خلّفه في مغازيه فقال له عليُّ : يا رسول الله ، خلَّفْتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبوّة بعدي و سمعته يقول يوم خيبر: لأُعْطينَّ الراية رجلاً يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله، قال: فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي علياً، فأُتي به أرْمَد فبصق في عَيْنه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه، ولمّا نزلت هذه الآية : { قل تعالوْا ندعُ أبْنائنا وأبْناءَكم ...} ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحُسيناً فقال : اللهم ، هؤلاء أهلي )
يقول الشيخ خالد العسقلانى فى كتابه ( بل ضللت - كشف أباطيل التيجاني في كتابه ثم أهتديت )(7/474)
و هذا الحديث لا يفيد أن معاوية أمر سعداً بسبِّ عليّ ، و لكنه كما هو ظاهر فإن معاوية أراد أن يستفسر عن المانع من سب عليّ ، فأجابه سعداً عن السبب و لم نعلم أن معاوية عندما سمع رد سعد غضب منه و لا عاقبه ، و سكوت معاوية هو تصويب لرأي سعد ، و لو كان معاوية ظالماً يجبر الناس على سب عليّ كما يدّعي هذا التيجاني ، لما سكت على سعد و لأجبره على سبّه ، و لكن لم يحدث من ذلك شيءٌ فعلم أنه لم يؤمر بسبّه ولا رضي بذلك ، و يقول النووي ( قول معاوية هذا ، ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه ، و إنما سأله عن السبب المانع له من السب ، كأنه يقول هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك . فإن كان تورعاً و إجلالاً له عن السب ، فأنت مصيب محسن ، و إن كان غير ذلك ، فله جواب آخر ، و لعل سعداً قد كان في طائفة يسبّون ، فلم يسب معهم ، و عجز عن الإنكار و أنكر عليهم فسأله هذا السؤال . قالوا : و يحتمل تأويلاً آخر أن معناه ما منعك أن تخطئه في رأيه و اجتهاده ، و تظهر للناس حسن رأينا و اجتهادنا و أنه أخطأ )
و الذى يدل على أن معاوية لم يتخذ سب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ديناً يتقرب به إلى الله ما وضحه الشيخ خالد العسقلانى و سنذكره على هيئة نقاط حتى تتضح الأمور أكثر للجميع
أ - عدم غضب معاوية من رد سعد فلو كان رد سعد أغضب معاوية لرد عليه معاوية رداً انفعالياً
ب - كذلك لم يعاقب معاوية سعد على عدم سبه لعلى رضي الله عن الجميع و لشك فيه انه من أنصار على رضي الله عنه و هذا يدل على عدم تدين معاوية بسب علي و عدم إلزامه للناس بسب على رضي الله عنه
ج - سكوت معاوية على رد سعد لدليل على تقواه و انصياعه للحق و قبول للحق الذي تفوه به سعد
2- جاء فى كتب الرافضة ما يدل على توقير معاوية رضي الله عنه لآل البيت و حبه لهم رضي الله عنهم(7/475)
أ- فقد روى الصدوق فى الأمالى فعن بهجة بنت الحارث بن عبداللّه التغلبي , عن خالها عبداللّه بن منصور وكان رضيعا لبعض ولد زيد بن علي (عليه السلام ), قال : سالت جعفر بن محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام ), فقلت : حدثني عن مقتل ابن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله ) فقال : حدثني أبى , عن أبيه , قال : لما حضرت معاوية الوفاة دعا ابنه يزيد (....) فأجلسه بين يديه , فقال له : يا بني , أنى قد ذللت لك الرقاب الصعاب , ووطدت لك البلاد , وجعلت الملك وما فيه لك طعمة , و أني أخشى عليك من ثلاثة نفر يخالفون عليك بجهدهم , وهم : عبداللّه بن عمر بن الخطاب , و عبداللّه بن الزبير, والحسين بن علي , فأما عبداللّه بن عمر فهو معك فالزمه ولا تدعه , و أما عبداللّه بن الزبير فقطعه إن ظفرت به إرباً إرباً , فانه يجثو لك كما يجثو الأسد لفريسته , و يواربك مواربة الثعلب للكلب , وأما الحسين فقد عرفت حظه من رسول اللّه , وهو من لحم رسول اللّه ودمه , وقد علمت لا محالة أن أهل العراق سيخرجونه إليهم ثم يخذلونه ويضيعونه , فان ظفرت به فاعرف حقه ومنزلته من رسول اللّه , و لا تؤاخذه بفعله , ومع ذلك فان لنا به خلطة و رحماً, وإياك أن تناله بسوء , أو يرى منك مكروها " الأمالى للصدوق المجلس رقم 30
و الشاهد قول معاوية " وأما الحسين فقد عرفت حظه من رسول اللّه , وهو من لحم رسول اللّه ودمه , وقد علمت لا محالة أن أهل العراق سيخرجونه إليهم ثم يخذلونه ويضيعونه , فان ظفرت به فاعرف حقه ومنزلته من رسول اللّه , و لا تؤاخذه بفعله , ومع ذلك فان لنا به خلطة و رحماً, وإياك أن تناله بسوء , أو يرى منك مكروها " و هذا دليل على حبه لآل البيت رضي الله عنهم و وصيته بهم لابنه يزيد مع ملاحظة أن هذه الوصية كانت أخر ما تكلم به معاوية رضي الله عنه و هو على فراش الموت(7/476)
ب- و روى الصدوق أيضاً فى أماليه " فعن الأصبغ بن نباتة قال دخل ضرار بن ضمرة النهشلي على معاوية بن أبي سفيان قال له صف لي علياً (عليه السلام) قال أو تعفيني فقال لا بل صفه لي فقال له ضرار رحم الله علياً كان و الله فينا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه و يجيبنا إذا سألناه و يقربنا إذا زرناه لا يغلق له دوننا باب و لا يحجبنا عنه حاجب و نحن و الله مع تقريبه لنا و قربه منا لا نكلمه لهيبته و لا نبتديه لعظمته فإذا تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم فقال معاوية زدني من صفته فقال ضرار رحم الله علياً كان و الله طويل السهاد قليل الرقاد يتلو كتاب الله آناء الليل و أطراف النهار و يجود لله بمهجته و يبوء إليه بعبرته لا تغلق له الستور و لا يدخر عنا البدور و لا يستلين الإتكاء و لا يستخشن الجفاء و لو رأيته إذ مثل في محرابه و قد أرخى الليل سدوله و غارت نجومه و هو قابض على لحيته يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين و هو يقول يا دنيا إلي تعرضت أم إلي تشوقت هيهات هيهات لا حاجة لي فيك أبنتك ثلاثا لا رجعة لي عليك ثم واه واه لبعد السفر و قلة الزاد و خشونة الطريق قال فبكى معاوية و قال حسبك يا ضرار كذلك كان و الله علي رحم الله أبا الحسن " الأمالى للصدوق المجلس 91 الخبر رقم (2)
و الشاهد من الخبر
دعوة معاوية لأبو الحسن رضي الله عنهما بالرحمة كما فى أخر الخبر , فكيف يصح تدينه بسب على و يترحم عليه فى نفس الوقت ؟(7/477)
و كذلك تصديق و عدم إنكار معاوية للأوصاف التى وصف بها ضرار النهشلى أبو الحسن رضي الله عنه , بل لم يتعرض معاوية لضرار بأى أذى أو ينهره و يزجره على ثناءه على أبو الحسن رضى الله عنه , بل معاوية هو من ألزم ضرار بالكلام عن أبو الحسن كما فى قوله فى بداية الحوار إذ قال له " صف لي علياً (عليه السلام) قال أو تعفيني فقال لا بل صفه لي " و بل طلب منه الزيادة عندما قال له " زدني من صفته " و فى نهاية الحوار " بكى معاوية " فهل يدل ذلك على حبه و توقيره لأمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه أم على بغضه له ؟ و الإنسان بطبعه يحب سماع قصص و أخبار من يحب
فرضى الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم و غفر الله لنا و لهم و لجميع من أحبهم
ماذا قدم معاوية بن أبي سفيان للإسلام ؟
هل تطرق هذا السؤال إلى ذهنك و لو مرة واحدة ؟
ففى خلال إمرته على الشام فى عهد عمر و عثمان رضي الله عنهما
فتح قيسارية على يد معاوية رضي الله عنه سنة 15 من الهجرة
كتب عمر إلى معاوية فقال له : " أما بعد فقد و ليتك قيسارية فسر إليها و استنصر الله عليهم , و أكثر من قول لا حول و لا قوة إلا بالله العلى العظيم , الله ربنا و ثقتنا و رجاؤنا و مولانا فنعم المولى و نعم النصير "
فسار إليها فحاصرها و زاحفه أهلها مرات عديدة , و كان آخرهم وقعة أن قاتلوا قتالاً عظيماً , و صمم عليهم معاوية , و اجتهد فى القتال حتى فتح الله عليه فما انفصل الحال حتى قتل منهم نحواً من ثمانين ألفاً , و كمل المائة الألف من الذين انهزموا عن المعركة , و بعث بالفتح و الأخماس إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه .
فتح قبرص سنة 28 من الهجرة(7/478)
فُتحت على يد معاوية خلال خلافة عثمان رضي الله عنهما , فقد ركب معاوية فى جيش كثيف من المسلمين و معه عبادة بن الصامت و زوجته أم حرام بنت ملحان و قد بشرها رسول الله صلى الله عليه و سلم بتلك الغزوة " فقد نام عندها صلى الله عليه و سلم ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت ما يضحكك يا رسول الله قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة يشك أيهما قال قالت فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت ما يضحكك يا رسول الله قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله كما قال في الأولى قالت فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال أنت من الأولين فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت " متفق عليه
ففتح الله عليهم و قتلوا منهم خلقاً كثيراً , ثم صالحهم معاوية على سبعة آلاف دينار كل سنة , و قد ماتت أم حرام رضي الله عنها بقبرص شهيدة فقد وقصتها دابتها
غزو الروم سنة 32 من الهجرة
غزا معاوية بلاد الروم حتى بلغ المضيق - مضيق القسطنطينية - و كانت معه زوجته عاتكة و يقال فاطمة
و هل تعلم عدد الغزوات التى خرجت للجهاد فى عهد معاوية رضي الله عنه و كم مدينة فتحت ؟
إليك البيان
سنة 42 من الهجرة غزا المسلمون اللان و الروم فقتلوا من أمرائهم و بطارقتهم خلقاً كثيراً , و غنموا و سلموا
سنة 43 من الهجرة غزا بسر بن أرطاة بلاد الروم فتوغل فيها حتى بلغ مدينة القسطنطينية
سنة 44 من الهجرة غزا عبدالرحمن بن خالد بن الوليد بلاد الروم و معه المسلمون و شتوا هنالك , و فيها غزا بسر بن أرطاة من البحر
سنة 47 من الهجرة وفي هذه السنة وجه زياد الحكم بن عمرو الغفاري إلى خراسان أميرا فغزا جبال الغور فقهرهم بالسيف عنوة ففتحها وأصاب فيها مغانم كثيرة و سبايا(7/479)
سنة 49 غزا يزيد بن معاوية بلاد الروم حتى بلغ قسطنطينية و معه جماعات من سادات الصحابة منهم ابن عمر و ابن عباس و ابن الزبير و أبو أيوب الأنصاري , و قد ثبت فى صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " أول جيش يغزون مدينة قيصر مفغور لهم " فكان هذا الجيش أول من غزاها , و ما وصلوا إليها حتى بلغوا الجهد
سنة 50 من الهجرة افتتح عقبة بن نافع الفهرى عن أمر معاوية بلاد أفريقية " تونس الآن " , و أختط القيروان ... و أسلم خلق كثير من البربر
سنة 53 من الهجرة غزا عبد الرحمن بن أم الحكم بلاد الروم و شتى هنالك , و فيها افتتح المسلمون و عليهم جنادة بن أبي أمية جزيرة رودس فأقام بها طائفة من المسلمين كانوا أشد شيء على الكفار , يعترضون لهم فى البحر و يقطعون سبيلهم , و كان معاوية يدر عليهم الأرزاق و الأعطيات الجزيلة ...
سنة 54 من الهجرة غزا الصائفة معن بن يزيد السلمى
سنة 56 من الهجرة شتى جنادة بن أبى أمية بأرض الروم , و قيل عبدالرحمن بن مسعود , و يقال فيها غزا فى البحر يزيد بن سمرة و فى البر عياض بن الحارث
سنة 58 فيها غزا مالك بن عبدالله الخثعمى أرض الروم , قال الواقدى : و فيها شتى يزيد بن شجرة فى البحر , و قيل بل غزا البحر و بلاد الروم جنادة بن أبي أمية , و قيل إنما شتى بأرض الروم عمرو بن يزيد الجهنى
هذه ما قدمه معاوية رضى الله عنه للإسلام و لم يُقدم عُشر معشاره أى معصوم من معصوميكم إلا ما كان من على رضى الله عنه و ولديه الحسن " كل ما قدمه معاوية للإسلام بعد توليه الخلافة يؤجر عليه الحسن لأنه هو من تصالح معه لله و للإسلام " و الحسين رضى الله عنهما أما بقية المعصومين فقد تقوقعوا داخل التقية خائفين هالعين " و نحن نبرأهم و الله "(7/480)
و أضيف إليك أن من الآيات التى يندرج تحتها معاوية قوله تعالى [ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ](الحديد: من الآية10)
و معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنه من الذين أنفقوا من بعد الفتح و قاتلوا , و قد وعد الله من قاتل و أنفق من قبل وبعد الفتح بالحسنى التى هى الجنة
================
الرد على شبهة ((ياعمار تقتلك الفئة الباغية))
الشيخ حامد العلي
سئل الشيخ حامد العلي عن هذه الشبهة فكان جوابه
كيف نرد على هذه الشبهات التي يدندن بها الرافضة
الأولى : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ) ، وقولهم : ان معاوية رضي الله عنه هو المقصود بيدعونه إلى النار ، وهل يمكن ان يجتمع البغي مع الإيمان ؟
الثانية : قال الله تعالى ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ ) ، ويقول الرافضة : المقصود بقوله تعالى هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه . لقوله تعالى في أية أخرى ( كل نفس ذائقة الموت ) ولهذا لم يمكن أن يكون هناك تعارض في القرأن.
وجزاك الله كل الخير
جواب الشيخ:(7/481)
البغي يكون نوعين ، نوع عن عمد ، ونوع عن تأويل ، والبغي الذي حصل من فئة معاوية كان عن تأويل ، بمعنى أنهم يظنون أنهم على الحق ، ولكن هذا لايخرجه عن وصف البغي في الظاهر ، وليس في الحديث دليل على أن معاوية رضي الله عنه هو الذي يدعوه إلى النار ، وإنما يدل على ان البغي في الحقيقة دعوة إلى النار ، وإن كان فاعله قد لايشعر بذلك ، كما أنك عندما تقول لمن يقول بجواز القتال في عصبية ، لمن ينصر عصبة ، إنه يدعو إلى النار بهذه الفتوى ، ولكن هو قد يكون متاولا يظن أنه على صواب وحق ، ولهذا لم يقل علماء أهل السنة أن الصحابة معصومون ، ولم يقع منهم الخطأ قط ، بل قالوا جائز ان يكون الخطأوالذنب قد وقع بتأويل، وبغير تأويل فهم بشر ، غير أن حسناتهم الراجحة وجهادهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وفضل الصحبة تجعل فضلهم علىالامة سابقا ، لايقاربهم فيه أحد ، حتى ورد في الحديث أن مثل حبل أحد ذهبا من غيرهم ينفقه ، لايبلغ مد أحدهم ولا نصيفه ، ولايطعن فيهم إلا جاهل أو منافق أو مريض القلب(7/482)
والمقصود بقوله تعالى ( كل نفس ذائقة الموت ) اي من البشر كماقال تعالى ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ) ـ وأما قوله تعالى ( ويحذركم الله نفسه ) أي يحذركم من ذاته سبحانه ، والنفس يراد بها في اللغة التاكيد ، كما تقول جاء فلان نفسه أي لاغيره ، والله تعالى عندما يقول كل نفس ذائقة الموت ، لاريب لاتدخل ذاته في الخطاب ، كما لاتدخل عندما يقول خالق كل شيء ، مع أنه سبحانه قال ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم ) لان الشيء هو الموجود ، والعجب من هؤلاء الرافضة ، كيف لايعقلون ما يقولون ، فهم يقولون هنا أن الله تعالى يحذر الصحابة من علي رضي الله عنه ، ثم مع ذلك يزعمون أن الصحابة لم يبالوا بهذا التحذير ، بل جحدوا حق علي رضي الله عنه ، ومضى على ذلك كل فترة الخلافة إلى أن تولاها ، وكان طيلة هذا الزمن ، مهضوم الحق ، مظلوما ، ولم يقدر ان يسترجع حقه ، فمافائدة التحذير إذاً لو كانوا يعقلون . غير أن الحق الذي لاريب فيه أن عليا رضي الله عنه تولى الخلافة لما جاء حقه فيها ، إذ فضله في الامة كترتيبه في الخلافة ، ولهذا لم يظلم ولم يقهر وحاشا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يجحدوا وصيته ، ويخونوا عهده والله أعلم.
================
شبهات وأباطيل حول معاوية رضي الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد
نكمل اليوم ما بدأناه من هذه السلسلة ( شبهات وأباطيل حول معاوية رضي الله عنه ) وقد تقدم معنا في الحلقة الماضية الحديث عن شبهة لعن علي رضي الله عنه على المنابر بأمر من معاوية .. واليوم سيكون الرد إن شاء الله ، عن مسألة بيعة الحسن لمعاوية ، واشتراط الحسن أن تكون ولاية العهد من بعد معاوية له .. وإن قضية كهذه فيها إساءة بالغة لشخص الحسن بن علي رضي الله عنه ، حيث اتهمته هذه النصوص بالسعي للصلح من أجل الملك و الدنيا ومتاعها الفاني ..(7/483)
وتقدم معنا في حلقة مضت – الحلقة رقم ( 13 ) - الحديث عن شبهة اتهام معاوية بدس السم للحسن وقتله .. ولكن هذه الشبهة لم تأتي من فراغ خاصة أن هناك رواية يتمسك بها المبتدعة تتحدث عن معاهدة الصلح والتي اشترط فيها الحسن على معاوية بأن تكون الخلافة له من بعده .. فكان أمام معاوية هذه العقبة ، لذا فإنه لما بدأ يفكر في البيعة ليزيد لم يجد من أن يدس السم إليه ، ليتخلص من الشرط !!!
ولمعرفة أبعاد هذه القضية وهذه الشبهة ، ثم الخروج بحكم صحيح كان لابد من معرفة كيفية الصلح وما هي الشروط التي اقتضاها ذلك الصلح ..
كان الحسن رضي الله عنه معارضاً لخروج أبيه لقتال أهل الجمل وأهل الشام ، كما جاء ذلك بإسناد حسن عند ابن أبي شيبة في المصنف (15/99-100) ، و ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 42/456-457) .. ثم لما رأى تلك المعارك التي لاشك أنها تركت في نفسه جرحاً بليغاً ، خاصة بعد أن رأى تحول المسلمين من فاتحين ومجاهدين إلى جماعات متناحرة شاهرين الرماح في وجوه بعضهم البعض .. ورأى كيف سقط الآلاف من المسلمين ، بسبب تلك الحروب التي لاتخدم إلا أعداء الإسلام .. ثم إنه بالتأكيد قد أحس بتلك الأصابع الخفية ، التي ساعدت على تأجيج وتوسيع الخلاف بين المسلمين ..
بعد استشهاد علي رضي الله عنه ، اجتمع أنصار علي واختاروا الحسن خليفة لهم من بعد أبيه ، وبايع الحسن أهل العراق على بيعتين : بايعهم على الإمرة ، وبايعهم على أن يدخلوا فيما يدخل فيه ، ويرضوا بما رضي به . انظر : طبقات ابن سعد الطبقة الخامسة ( 5/257 ) بإسناد حسن .
وبعد أن أخذ البيعة منهم قال لهم : الحقوا بطينتكم وإني والله ما أحب أن ألي من إمرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما يزيد على ذرة خردل يهراق منهم محجم دم . انظر : طبقات ابن سعد الطبقة الخامسة ( 5/257 ) بإسناد صحيح .(7/484)
هنا ارتاب أهل العراق من شرط الحسن عندما بايعهم ، ووقع في حسّهم أن الحسن ليس بصاحب قتال ، وقد تعرض الحسن رضي الله عنه لمحاولة اغتيال من قبل أحد الخوارج حينما طعنه في وركه طعنة خطيرة ، مرض منها الحسن طويلاً وكادت أن تودي بحياته .. انظر : المعجم الكبير للطبراني ( 3 / 61 ) بإسناد حسن .
وهذا التصرف جعل الحسن يزداد بغضاً لأهل الكوفة ، فراسل معاوية في الصلح . وفي المقابل راسل معاوية الحسن ووافق على الصلح ، هنا استشار الحسن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في هذا التصرف فأيده . طبقات ابن سعد ، الطبقة الخامسة ( 269 ) بسند صحيح .
هذا وقد مرت قضية الصلح بمراحل عدة ، أشار إليها الدكتور خالد الغيث في كتابه القيم مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري ( ص 126 – 135 ) وهذا مختصرها:-
• المرحلة الأولى : دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للحسن بأن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ، فتلك الدعوة المباركة هي التي دفعت الحسن رضي الله عنه إلى الإقدام على الصلح بكل ثقة وتصميم .
• المرحلة الثانية : الشرط الذي وضعه الحسن أساساً لقبوله مبايعة أهل العراق له ، بأن يسالموا من يسالم ويحاربوا من يحارب .
• المرحلة الثالثة : محاولة الاغتيال التي تعرض لها الحسن رضي الله عنه على يد الخوارج ، كما ذكر ذلك ابن سعد في الطبقات (1/323 ) بسند حسن .
• المرحلة الرابعة : إجبار الحسن رضي الله عنه على الخروج لقتال أهل الشام من غير رغبة منه ، وهذا الأمر أشار إليه ابن كثير رحمه الله في البداية ( 8/14 ) بقوله : ولم يكن في نية الحسن أن يقاتل أحد ، ولكن غلبوه على رأيه ، فاجتمعوا اجتماعاً عظيماً لم يسمع بمثله ..
• المرحلة الخامسة : خروج معاوية رضي الله عنه من الشام وتوجهه إلى العراق ، بعد أن وصل إليه خبر خروج الحسن من الكوفة ..
• المرحلة السادسة : تبادل الرسل بين الحسن ومعاوية ، ووقوع الصلح بينهما رضان الله عليهما .(7/485)
• المرحلة السابعة : المحاولة الثانية لاغتيال الحسن رضي الله عنه ، حيث أنه بعد أن نجحت المفاوضات بين الحسن ومعاوية ، شرع الحسن في تهيئة نفوس أتباعه على تقبل الصلح الذي تم ، فقام فيهم خطيباً ، وبينما هو يخطب إذ هجم عليه بعض معسكره محاولين قتله ، ولكن الله أنجاه منهم . انظر هذا الخبر في الأخبار الطوال للدينوري ( ص 216 – 217 ) .
• المرحلة الثامنة : تنازل الحسن بن علي عن الخلافة وتسليمه الأمر إلى معاوية رضوان الله عليهم أجمعين . انظر خبر هذه المرحلة عند الطبراني في الكبير ( 3 / 26 ) بسند حسن وفضائل الصحابة للإمام أحمد ( 2 / 769 ) بسند صحيح .
قال أبو سلمة التبوذكي رحمه الله في معرض الإشادة بجمع عثمان بن عفان رضي الله عنه القرآن : وكان في جمعه القرآن كابي بكر في الردة . السنة للخلال ( 322 )
قلت : وكذلك كان الحسن رضوان الله عليه في صلحه مع معاوية رضي الله عنه في حقنه لدماء المسلمين ، كعثمان في جمعه القرآن وكأبي بكر في الردة .(7/486)
ولا أدل على ذلك من كون هذا الفعل من الحسن يعد علماً من أعلام النبوة ، والحجة في ذلك ما سجله البخاري في صحيحه لتلك اللحظات الحرجة من تاريخ الأمة المسلمة حين التقى الجمعان ، جمع أهل الشام وجمع أهل العراق ، عن أبي موسى قال : سمعت الحسن – أي البصري - يقول : استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها . فقال له معاوية - و كان والله خير الرجلين - : أي عمرو ، إن قتل هؤلاء ، هؤلاء و هؤلاء ، هؤلاء من لي بأمور الناس ؟ من لي بنسائهم ؟ من لي بضيعتهم ؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس – عبد الله بن سمرة و عبد الله بن عامر بن كريز – فقال : اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه و قولا له و اطلبا إليه . فأتياه فدخلا عليه فتكلما و قالا له و طلبا إليه . فقال لهما الحسن بن علي : إنّا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال – أي فرقنا منه في حياة علي وبعده ما رأينا في ذلك صلاحاً ، قال ابن حجر : فنبه على ذلك خشية أن يرجع عليه بما تصرف فيه ( 13 / 70 ) – و إن هذه الأمة قد عاثت في دمائها – أي المعسكرين الشامي والعراقي قد قتل بعضها بعضاً ، فلا يكفون عن ذلك إلا بالصفح عما مضى منهم - قالا : فإنه يعرض عليك كذا و كذا و يطلب إليك و يسألك ، قال : فمن لي بهذا ؟ قالا : نحن لك به ، فما سألهما شيئاً إلا قالا نحن لك به فصالحه ، فقال الحسن - أي البصري - : و لقد سمعت أبا بكرة يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - و الحسن بن علي إلى جنبه و هو يقبل على الناس مرة و عليه أخرى و يقول - : إن ابني هذا سيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . صحيح البخاري مع الفتح (5/361) و الطبري (5/158) .
و في هذه القصة فوائد كثيرة أفادها الحافظ في الفتح (13/71-72) منها :-
1- عَلَمٌ من أعلام النبوة .(7/487)
2- فيها منقبة للحسن بن علي رضي الله عنهما ، فإنه ترك الملك لا لقلة و لا لذلة و لا لعلة ، بل لرغبته فيما عند الله ، و لما رآه من حقن دماء المسلمين ، فراعى أمر الدين و مصلحة الأمة .
3- فيها ردّ على الخوارج الذين كانوا يكفرون علياً و من معه و معاوية و من معه ، بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين .
4- فيها دلالة على فضيلة الإصلاح بين الناس ، ولا سيما في حقن دماء المسلمين .
5- فيها دلاله على رأفة معاوية بالرعية و شفقته على المسلمين ، و قوة نظره في تدبير الملك و نظره في العواقب .
6- فيها جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحاً للمسلمين .
7- و فيه جواز ولاية المفضول مع وجود الأفضل ، لأن الحسن و معاوية ولي كل منهما الخلافة و سعد بن أبي وقاص (ت 55هـ) و سعيد بن زيد (ت51هـ) في الحياة و هما بدريان .
قال ابن بطال معلقاً على رواية البخاري : هذا يدل على أن معاوية كان هو الراغب في الصلح ، وأنه عرض على الحسن المال ورغبه فيه ، وحثه على رفع السيف ، وذكره ما موعده جده صلى الله عليه وسلم من سيادته في الإصلاح به . انظر : الفتح ( 13 / 69 ) .(7/488)
وهناك رواية أخرى أخرجها ابن سعد في الطبقات ( 1 / 330 – 331 ) بسند صحيح وهي لا تقل أهمية عن رواية البخاري في الصلح ، وتعد مكملة لها ، وهي من طريق عمرو بن دينار : إن معاوية كان يعلم أن الحسن أكره للفتنة ، فلما توفي علي بعث إلى الحسن فأسلح الذي بينه وبينه سراً ، وأعطاه معاوية عهداً إن حدث به حدث والحسن حي لَيُسَمِّينَّهُ – أي يرشحه للخلافة من بعده - ، وليجعلن هذا الأمر إليه ، فلما وثق منه الحسن ، قال ابن جعفر : والله إني لجالس عند الحسن إذ أخذت لأقوم فجذب بثوبي وقال : اقعد يا هَناهُ – أي يا رجل – اجلس ، فجلست ، قال : إني قد رأيت رأياً وأحب أن تتابعني عليه ، قال : قلت : ما هو ؟ قال : قد رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلي بين معاوية وبين هذا الحديث ، فقد طالت الفتنة ، وسقت فيها الدماء وقطعت فيها الأرحام ، وقطعت السبل ، وعطلت الفروج – يعني الثغور - ، فقال ابن جعفر : جزاك الله عن أمة محمد فأنا معك على هذا الحديث ، فقال الحسن : اع لي الحسين ، فبعث إلى الحسين فأتاه فقال : يا أخي أني قد رأيت رأياً وإني أحب أن تتابعني عليه ، قال : ما هو ؟ قال : فقص عليه الذي قال لابن جعفر ، قال الحسين : أعيذك بالله أن تكذب علياً في قبره وتصدق معاوية ، قال الحسن : والله ما أردت أمراً قط إلا خالفتني إلى غيره ، والله لقد هممت أن أقذفك في بيت فأطينه عليك حتى أقضي أمري ، قال : فلما رأى الحسين غضبه قال : أنت أكبر ولد علي ، وأنت خليفته ، وأمرنا لأمرك فافعل ما بدا لك .
والحقيقة أن الرغبة في الصلح كانت موجودة لدى الطرفين الحسن ومعاوية ، فقد سعى الحسن رضي الله عنه إلى الصلح ، وخطط له منذ اللحظات الأولى لمبايعته ، ثم جاء معاوية فأكمل ما بدأه الحسن ، فكان عمل كل واحد منهما مكملاً للآخر رضوان الله عليهم أجمعين .(7/489)
ومن خلال النصين السابقين ، وبالتدقيق في الروايات التي تنص على طلب الحسن الخلافة بعد معاوية ، نجد أنها تتنافى مع قوة و كرم الحسن ؛ فكيف يتنازل عن الخلافة حقناً لدماء الأمة و ابتغاء مرضاة الله ، ثم يوافق على أن يكون تابعاً ، يتطلب أسباب الدنيا و تشرأب عنقه للخلافة مرة أخرى ؟!
و الدليل على هذا ما ذكره جبير بن نفير قال : قلت للحسن بن علي ، إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة ، فقال كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت و يحاربون من حاربت ، فتركتها ابتغاء وجه الله ، ثم أبتزها بأتياس أهل الحجاز . البلاذري في أنساب الأشراف (3/49) و طبقات ابن سعد ، الطبقة الخامسة ( ص 258) بسند جيد .
وفي اعتقادي أن هذه القصة عبارة عن إشاعة سارت بين الناس وبالذات بين أتباع الحسن ، ثم إنه من الملاحظ أن أحداً من أبناء الصحابة أو الصحابة أنفسهم ، لم يذكروا خلال بيعة يزيد شيئاً من ذلك ، فلو كان الأمر كما تذكر الروايات عن ولاية العهد ، لاتخذها الحسين رضي الله عنه حجة ، وقال أنا أحق بالخلافة ، ولكن لم نسمع شيئاً من ذلك على الإطلاق .
ومما يؤيد هذا الاعتقاد ، ما قرره الأستاذ محمد ضيف الله بطاينة في مقال له منشور في مجلة الجامعة الإسلامية العدد ( 83 – 84 ) سنة 1409هـ ، حيث قال : وربما أن هذه الإشاعة – قضية ولاية عهد الحسن بعد معاوية – أطلقت في ظروف متأخرة ، أرادت التعريض بالبيعة ليزيد ، واتهام معاوية بالخروج على الشورى في استخلافه ولده يزيد ، وهي قضية جرت في فترة تالية من الصلح بين الحسن ومعاوية
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة ومع شبهة استغناء معاوية عن المطالبة بقتلة عثمان ، مقابل توليه الخلافة ..
وتقبلوا تحيات أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
================
مطاعن الشيعة في أبي هريرة رضي الله عنه والرد عليها
1. ... سيرة أبي هريرة رضي الله عنه(7/490)
2. ... إدعاء الشيعة على أبي هريرة رضي الله عنه أنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث موضوعة
3. ... كثرة أحاديثه وأسبابها
4. ... هل يجوز اخفاء الحديث حرصا على بلعوم ابى هريرة
5. ... روايات أبي هريرة رضي الله عنه من طرق الشيعة
6. ... مطاعن شرف الدين الموسوي ( صاحب المراجعات ) في أبي هريرة رضي الله عنه والرد عليها
7. ... طعن الشيعة في أبي هريرة رضي الله عنه لروايته: خلق الله آدم على صورته
8. ... رؤية الله يوم القيامة
9. ... لا تملأ النار حتي يضع الله رجله فيها
10. ... نزول الرب كل ليلة إلى السماء الدنيا
11. ... طواف النبي سليمان بمائة إمرأة في ليلة واحدة
12. ... لطم موسى عليه السلام عين ملك الموت
13. ... فرار الحجر بثياب موسى عليه السلام
14. ... طلب الشفاعة من الأنبياء يوم القيامة
15. ... تساقط جراد الذهب على نبي الله أيوب عليه السلام
16. ... التنديد بموسى إذ قرصته نملة فأحرق قريتها
17. ... سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الركعتين
18. ... أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلد ويغضب
19. ... عروض الشيطان لرسول الله وهو في الصلاة
20. ... نوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الصبح
21. ... أن بقرة وذئباً يتكلمان بلسان عربي مبين
22. ... تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة
23. ... كون أبي طالب مات مشركا
24. ... أمة مسخت فأراً
25. ... من أدركة الفجر جنباً فلا يصم
26. ... لا عدوى ولا صفر ولا هامة
27. ... مولودان يتكلمان بالغيبيات
28. ... توكيل أبي هريرة رضي الله عنه زكاة الفطر
29. ... إسلام أمه بدعاء النبي ودعائه بأن يحببهما إلى المؤمنين
30. ... دخلت امرأة النار في هرة
31. ... غفر الله لإمرأة سقت كلبا
32. ... سقي رجل الماء لكلب فغفر له
33. ... مسرف كافر غفر له
34. ... أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جنباً(7/491)
35. ... تفضيل النبي على موسى عليهما السلام
36. ... لن يدخل أحدكم الجنة بعمله
37. ... أن النبي صلى الله عليه وآله سلم كان راعياً
38. ... ختن نبي الله إبراهيم بالقدوم بعد الثمانين
39. ... عمر آدم عليه السلام
40. ... احتجاج آدم وموسى عليهما السلام
41. ... مشي العلاء الحضرمي على البحر مع جنوده
42. ... النهي عن المشي بالخف الواحد
43. ... إنما الشؤم في المرأة والدابة .. الحديث
44. ... بأنه جلس إلى جنب حجرة عائشة وهو يحدث
45. ... إذا استيقظ أحداً من النوم فليغسل يده
46. ... من صاحب كلباً انتقض أجره كل يوم قيراط
47. ... من اتبع جنازة فله من الأجر قيراط
48. ... من حب لقاء الله احب الله لقاءه
49. ... قول رجل للنبي : وقعت على امرأتي وأنا صائم
50. ... تخفيف الصلاة من خمسين إلى خمس
51. ... معلومة هامة عن مرويات أبي هريرة رضي الله عنه
سيرة أبي هريرة رضي الله عنه
أبوهريرة هو عبد الرحمن بن صخر من ولد ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم ابن دوس اليماني ، فهو دوسي نسبة إلى دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران ابن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر وهو سنوءة ابن الأزد ، والأزد من أعظم قبائل العرب وأشهرها ، تنسب إلى الأزد ابن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان من العرب القحطانية .الراجح عند العلماء أن اسمه في الجاهلية : عبد شمس .
فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " عبد الرحمن " ، لأنه لايجوز تسمية إنسان بأنه عبد فلان أو عبد شيء من الأشياء ، وإنما هو عبد الله فقط ، فيسمى باسم عبد الله أو عبد الرحمن وهكذا ، وعبد الرحمن هو الذي يسكن إليه القلب .
اشتهر أبوهريرة بكنيته ، وبها عرف حتى غلبت على اسمه فكاد ينسى .(7/492)
أخرج الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إنما كنّوني بأبي هريرة لأني كنت أرعى غنما لأهلي ، فوجدت أولاد هرة وحشية ، فجعلتها في كمي ، فلما رجعت إليهم سمعوا أصوات الهر من حجري ، فقالوا: ما هذا يا عبد شمس ؟ فقلت : أولاد هرة وجدتها ، قالوا : فأنت أبوهريرة ، فلزمني بعد .
وأخرج الترمذي عنه قال: كنت أرعى غنم أهلي، فكانت لي هريرة صغيرة ، فكنت أضعها بالليل في الشجرة ، فإذا كان النهار ذهبت بها معي فلعبت بها فكنوني بأبي هريرة
لكن يقول أبو هريرة رضي الله عنه :" كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوني : أبا هرٍ ، ويدعوني الناس: أبا هريرة " .
ولذلك يقول: " لأن تكنونني بالذكر أحب إلي من أن تكنونني بالأنثى" .
اسلامه وصحبته:
المشهور أنه أسلم سنة سبع من الهجرة بين الحديبية وخيبر وكان عمره حينذاك نحواً من ثلاثين سنة ، ثم قدم المدينة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، حين رجوعه من خيبر وسكن ( الصّفة) ولازم الرسول ملازمة تامة ، يدور معه حيثما دار ، ويأكل عنده في غالب الأحيان إلى أن توفي عليه الصلاة والسلام .
حفظه وقوة ذاكرته :
كان من أثر ملازمة أبي هريرة رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ملازمة تامة ، أن اطلع على ما لم يطلع عليه غيره من أقوال الرسول وأعماله ، ولقد كان سيء الحفظ حين أسلم ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال له : افتح كساءك فبسطه، ثم قال له : ضمه إلى صدرك فضمه ، فما نسي حديثاً بعده قط .هذه القصة - قصة بسط الثوب - أخرجها أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وأحمد ، والنسائي ، وأبي يعلى،وأبي نعيم .
ثناء الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعين رضي الله عنهم وأهل العلم عليه :(7/493)
أكرم الله تعالى الصحابة رضي الله عنهم بآيات كثيرة تثبت لهم الفضل والعدالة ، منها ما نزل في صحابي واحد أو في أصحاب مشهد معين مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،كرضوانه عن الذين بايعوا تحت الشجرة في الحديبية ، ومنها ما نزل فيهم عامة ودخل تحت ظلها كل صحابي ، وكذلك أكرم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه رضي الله عنهم بمثل ذلك من الاستغفار وإعلان الفضل والعدالة لبعضهم أو لطبقة منهم أو لهم عامة .
فمن الآيات العامة الشاملة قوله عزوجل :{ مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح /29] ، ومن آخر الآيات نزولاً قوله { لَقَد تابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمهَجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهٌ فِىِ سَاعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنهُو بهَمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة/117] .
فأبو هريرة واحد من الصحابة رضي الله عنهم ينال أجر الصحبة المطلقة ، ويكسب العدالة التي لحقت بهم جميعاً وأثبتتها آيات القرآن الكريم السابقة . وهو ينال شرف دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وينال أجر الهجرة إلى الله ورسوله ، إذ كانت هجرته قبل الفتح وشرف دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، وأجر الجهاد تحت راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأجر حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبليغه .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :والذي نفس محمد بيده ، لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي ، لما رأيت من حرصك على العلم .
وفي رواية قال : لقد ظننت لايسألني عن هذا الحديث أحد أول منك ،لما رأيت من حرصك على الحديث .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبوهريرة وعاء من العلم(7/494)
قال زيد بن ثابت : فقلنا : يارسول الله، ونحن نسأل الله علما لاينسى فقال: سبقكم بها الغلام الدوسي .
جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه في مسألة ، فقال ابن عباس لأبي هريرة رضي الله عنه : أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة .
قال الشافعي : أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره .
وقال البخاري : روى عنه نحو ثمانمائة من أهل العلم ، وكان أحفظ من روى الحديث في عصره .
وقال الذهبي : الإمام الفقيه المجتهد الحافظ ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أبو هريرة رضي الله عنه الدوسي اليماني ، سيد الحفاظ الأثبات .
وقال في موضع آخر : أبو هريرة رضي الله عنه إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأدائه بحروفه .
وقال أيضاً: كان أبو هريرة رضي الله عنه وثيق الحفظ ، ما علمنا أنه أخطأ في حديث .
وقال أيضاً : هو رأس في القرآن ، وفي السنة ، وفي الفقه .
وقال : أين مثل أبي هريرة رضي الله عنه في حفظه وسعة علمه .
الصحابة الذين روى عنه :
روى عن كثير من الصحابة منهم : أبو بكر ، وعمر ، والفضل بن العباس ، وأبي ابن كعب ، وأسامة بن زيد ، وعائشة رضي الله عنهم .
وأما الصحابة الذين رووا عنه : منهم ابن عباس ، وابن عمر ، وأنس بن مالك ، وواثلة بن الأسقع ، وجابر بن عبدالله الأنصاري وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنهم .
التابعون الذين رووا عنه :
ومن التابعين سعيد بن المسيب وكان زوج ابنته، وعبدالله بن ثعلبة ، وعروة ابن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وسلمان الأغر، وسليمان بن يسار، وعراك بن مالك ، وسالم بن عبدالله بن عمر، وأبو سلمة وحميد ابنا عبدالرحمن بن عوف، ومحمد بن سيرين ، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار رضي الله عنهم وكثيرون جداً بلغوا كما قال البخاري : ثمانمائة من أهل العلم والفقه .
عدة ما روي عنه من الحديث :(7/495)
أخرج أحاديثه جمع من الحفاظ من أصحاب المسانيد ، والصحاح ، والسنن ، والمعاجم ، والمصنفات ، وما من كتاب معتمد في الحديث ، إلا فيه أحاديث عن الصحابي الجليل أبى هريرة رضي الله عنه .
وتتناول أحاديثه معظم أبواب الفقه: في العقائد ، والعبادات ، والمعاملات ، والجهاد ، والسير، والمناقب، والتفسير، والطلاق، والنكاح، والأدب، والدعوات ، والرقاق ، والذكر والتسبيح .. وغير ذلك .
روى له الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (3848 ) حديثاً وفيها مكرّر كثير باللفظ والمعنى ، ويصفو له بعد حذف المكرّر خير كثير.
وروى له الإمام بقى بن مخلد ( 201 - 276 ه ) في مسنده ( 5374 ) خمسة آلاف حديث ، وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً .
وروى له أصحاب الكتب الستة والإمام مالك في موطئه( 2218 ) ألفي حديث، ومائتين وثمانية عشر حديثاً مما اتفقوا عليه وانفردوا به (3) ، له في الصحيحين منها (609) ستمائة وتسعة أحاديث ، اتفق الشيخان : الإمام البخاري ، والإمام مسلم عن (326) ثلاثمائة وستة وعشرين حديثاً منها، وانفرد الإمام البخاري ب( 93) بثلاثة وتسعين حديثاً، ومسلم ب(190) بتسعين ومائة حديث .
أصح الطرق عن أبي هريرة :
أصح أسانيد أبي هريرة في رأي البخاري ماروي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة .
وأصح حديث ابي هريرة في رأي الإمام أحمد مارواه محمد بن سيرين ثم مارواه سعيد بن المسيب .
أما عند الإمام علي بن المديني فهم ستة : ابن المسيب ، وأبوسلمة ، والأعرج، وأبو صالح ، وابن سيرين ، وطاوس .
وهم ستة أيضاً عند ابن معين: قال أبوداود : سألت ابن معين: من كان الثبت في أبي هريرة ؟ فقال: ابن المسيب وأبوصالح ، وابن سيرين ، والمقبري ، والأعرج ، وأبو رافع ، وأربعة منهم وافق ابن المديني عليهم ، واستثنى أبا سلمة وطاوس ، وأبدلهما بالمقبري وابي رافع .(7/496)
وقد أحصى أحمد محمد شاكر ، وذكر أصح أسانيد أبي هريرة ومجموع من ذكرهم ستة : مالك وابن عيينة ومعمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عنه ، ومالك عن أبي الزناد عن الأعرج عنه، وحماد بن زيد عن ايوب عن محمد بن سيرين عنه، ومعمر عن همام بن منبه عنه ، ويحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه واسماعيل ابن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان الحضرمي عنه .
كثرة حديثه وأسبابها :
كان أبو هريرة رضي الله عنه يبين أسباب كثرة حديثه فيقول : إنكم لتقولون أكثر أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والله الموعد ، ويقولون : ما للمهاجرين لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأحاديث ، وإن أصحابي من المهاجرين كانت تشغلهم أرضوهم والقيام عليها ، وإني كنت امرءاً مسكيناً :" ألزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ملء بطني " وكنت أكثر مجالسة رسول الله، أحضر إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا ، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدثنا يوماً فقال: " من يبسط ثوبه حتى أفرغ فيه من حديثي ، ثم يقبضه إليه فلا ينسى شيئاً سمعه مني أبداً " فبسطت ثوبي - أو قال نمرتي - فحدثني ثم قبضته إلىّ ، فوالله ما كنت نسيت شيئاً سمعته منه .
وكان يقول: وأيم الله.. لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبداً، ثم يتلوا: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّهُ لِلنَّاسِ فىِ الْكِتَبِ أُوْلئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّعِنُونَ }. وكان يدعو الناس إلى نشر العلم، وعدم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، من ذلك ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال: " من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة " وعنه أيضاً : " ومن كذب علىّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" متفق عليه .(7/497)
وقد شهد له إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة سماعه وأخذه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذه الشهادات تدفع كل ريب أو ظن حول كثرة حديثه ، حتى إن بعض الصحابة رضي الله عنهم رووا عنه لأنه سمع من النبي الكريم ولم يسمعوا ، ومن هذا أن رجلا جاء إلى طلحة ابن عبيد الله، فقال: يا أبا محمد، أرأيت هذا اليماني- يعني أبا هريرة - أهو أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منكم ؟ نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم ، أم هو يقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يقل ؟ قال : أما أن يكون سمع ما لم نسمع ، فلا أشك ، سأحدثك عن ذلك : إنا كنا أهل بيوتات وغنم وعمل ، كنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طرفى النهار ، وكان مسكيناً ضيفاً على باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده مع يده ، فلا نشك أنه سمع ما لم نسمع ، ولا تجد أحداً فيه خير يقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يقل وقال في رواية : " قد سمعنا كما سمع ، ولكنه حفظ ونسينا " .
وروى أشعث بن سليم عن أبيه قال : سمعت أبا أيوب " الأنصاري " يحدّث عن أبي هريرة فقيل له : أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحدّث عن أبي هريرة رضي الله عنه ؟ فقال: إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع ، وإني أن أحدث عنه أحبّ إليّ من أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - يعني ما لم أسمعه منه .
ثم إن جرأة أبى هريرة رضي الله عنه في سؤال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أتاحت له أن يعرف كثيراً مما لم يعرفه أصحابه ، فكان لا يتأخر عن أن يسأله عن كل ما يعرض له، حيث كان غيره لا يفعل ذلك ، قال أٌبي بن كعب : كان أبو هريرة رضي الله عنه جريئاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن أشياء لا نسأله عنها .(7/498)
كما كان يسأل الصحابة الذين سبقوه إلى الإسلام ، فكان لا يتأخر عن طلب العلم ، بل كان يسعى إليه في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعد وفاته .
وهو الذي يروى عنه : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" .
وقد رأينا أبا هريرة رضي الله عنه يحب الخير ويعمل من أجله ، فما أظنه يتأخر عن خير من هذا النوع، وهو الذي صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكلمة يعلمه إياها، ولحكمة يعظه بها
مرضه ووفاته :
لما حضرته المنية رضي الله عنه قال: لاتضربوا علي فسطاطاً ، ولاتتبعوني بنار وأسرعوا بي إسراعاً ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا وضع الرجل الصالح - أو المؤمن - على سريره قال: قدموني، وإذا وضع الرجل الكافر - أو الفاجر - على سريره ، قال ياويلي أين تذهبون بي ؟ وكانت وفاته في السنة التي توفيت فيها عائشة أم المؤمنين عام (58 ه) .
الرد على الشبهات التي أثارها أهل البدع والمخالفين حول أبي هريرة ورواياته:
ذلكم أبو هريرة رضي الله عنه الذي عرفناه قبل إسلامه وبعد إسلامه ، عرفناه في هجرته وصحبته للرسول الكريم ، فكان الصاحب الأمين والطالب المجد ، يدور مع الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في حلّه وترحاله ، ويشاركه أفراحه وأحزانه،وعرفنا التزامه للسنة المطهرة، وتقواه وورعه ، في شبابه وهرمه ...وعرفنا مكانته العلمية ، وكثرة حديثه ، وقوة حافظته ، ورأينا منزلته بين أصحابه ، وثناء العلماء عليه .(7/499)
ذلكم أبو هريرة رضي الله عنه الذي صوّره لنا التاريخ من خلال البحث الدقيق ، إلا أن بعض الحاقدين الموتورين لم يسرهم أن يروا أبا هريرة رضي الله عنه في هذه المكانة السامية ، والمنزلة الرفيعة ، فدفعتهم ميولهم وأهواؤهم إلى أن يصوّروه صورة تخالف الحقيقة التي عرفناها ، فرأوا في صحبته للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، غايات خاصة ليشبع بطنه ويروي نهمه ، وصوروا أمانته خيانة ، وكرمه رياء ، وحفظه تدجيل ،وحديثه الطيب الكثير كذباً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبهتاناً ، ورأوا في فقره مطعناً وعاراً ، وفي تواضعه ذلاً ، وفي مرحه هذراً ، وصوروا أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لونًا من المؤامرات لخداع العامة، ورأوا في اعتزاله الفتن تحزباً ، وفي قوله الحق انحيازاً ، فهو صنيعة الأمويين و أداتهم الداعية لمآربهم السياسية ، فكان لذلك من الكاذابين الواضاعين للأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتراء وزورا !! .
وفيما يلي ذكر الأباطيل والافتراءات والشبهات التي أوردُوها ، ولنبدأ بالشبهات التي أثارها "عبد الحسين" في كتابه ( أبو هريرة ) مع أجوبتها .
"مع عبد الحسين شرف الدين الموسوي "
قال في مقدمة كتابه " أبو هريرة " (ص5) ما نصه:( هذه دراسة لحياة صحابي روى عن رسول الله فأكثر حتى أفرط و روت عنه صحاح الجمهور و سائر مسانيدهم فأكثرت حتى أفرطت أيضاً ، ولا يسعنا إزاء هذه الكثرة المزدوجة إلا أن نبحث عن مصدرها لإتصالها بحياتنا الدينية والعقلية اتصالا مباشرًا ولولا ذلك لتجاوزناها و تجاوزنا مصدرها إلى ما يغنينا عن تجشم النظر فيها وفيه .(7/500)
ولكن اسلات هذه الكثرة قد استفاضت في فروع الدين وأصوله فاحتج بها فقهاء الجمهور ومتكلموهم في كثير من أحكام الله عز وجل وشرائعه ملقين إليها سلاح النظر والتفكير ولا عجب منهم في ذلك بعد بنائهم على إصالة العدالة في الصحابة أجمعين ، وحيث لا دليل على هذا الأصل كما هو مبين في محله بإيضاح لم يكن لنا بد من البحث عن هذا المكثر نفسه وعن حديثه كما وكيفا لنكون على بصيرة فيما يتعلق من حديثه بأحكام الله فروعاً وأصولاً وهذا ما اضطرنا الى هذه الدراسة الممعنة في حياة هذا الصحابي ( وهو أبو هريرة ) وفي نواحي حديثه وقد بالغت في الفحص وأغرقت في التنقيب حتى أسفر وجه الحق في كتابي هذا وظهر فيه صبح اليقين .
أما أبو هريرة نفسه فنحيلك الآن في تاريخ حياته وتحليل نفسيته على ما ستقف عليه في الكتاب، إذ مثلناه بكنهه وحقيقته من جميع نواحيه تمثيلا تاما تدركه بحواسك كلها
وأما حديثه فقد أمعنا النظر فيه كما وكيفا فلم يسعنا -شهد الله - إلا الانكار عليه في كل منها. وأي ذي روية متجرد متحرر يطمئن إلى هذه الكثرة لا يعد لها المجموع من كل ما حدث به الخلفاء الأربعة وأمهات المؤمنين التسع والهاشميون والهاشميات كافة . وكيف تسنى لأمي ( تأخر اسلامه فقلت صحبته أن يعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يعه السابقون الأولون من الخاصة وأولي القربى . ونحن حين نحكم الذوق الفني والمقياس العلمي نجدهما لا يقران كثيراً مما رواه هذا المفرط في اكثاره وعجائبه . فالسنة أرفع من أن تحتضن أعشاباً شائكة وخز بها أبو هريرة ضمائر الأذواق الفنية، وأدمى بها تفكير المقاييس العلمية ان يشوه بها السنة المنزهة ويسيء الى النبي وأمته (ص).... .(8/1)
والحق أن الصحبة بما هي فضيلة جليلة ، لكنها غير عاصمة ، والصحابة فيهم العدول وفيهم الأولياء والأصفياء والصديقون وهم علماؤهم وعظماؤهم وفيهم مجهول الحال، وفيهم المنافقون من أهل الجرائم والعظائم، والكتاب الحكيم يذكر ذلك بصراحة ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم .
فعدولهم حجة ومجهول الحال نتبين أمره ، وأهل الجرائم لا وزن لهم ولا لحديثهم هذا رأينا في حملة الحديث من الصحابة وغيرهم والكتاب والسنة بنيا على هذا الرأي فالوضّاعون لا نعفيهم من الجرح وإن اطلق عليهم لفظ الصحابة ، لأن في اعفائهم خيانة لله عز وجل ولرسوله ولعباده ، ونحن في غنى بالعلماء والعظماء ، والصديقين ، والصالحين ، من أصحابه صلى الله عليه وسلم ومن عترته التي أنزلها منزلة الكتاب وجعلها قدوة لأولي الألباب .
وعلى هذا فقد اتفقنا في النتيجة وإن قضى الالتواء في المقدمات شيئاً من الخلاف، فإن الجمهور إنما يعفون أبا هريرة،وسمرة بن جندب،والمغيرة ، ومعاوية ، وابن العاص، ومروان، وأمثالهم تقديساً لرسول الله لكونهم في زمرة من صحبه صلى الله عليه وسلم ونحن إنما ننتقدهم تقديساً لرسول الله ولسنته (ص)شأن الأحرار في عقولهم ممن فهم الحقيقة من التقديس والتعظيم .
وبديهي - بعد - أن تكذيب كل من يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً خارجاً عن طاقة التصديق أولى بتعظيم النبي وتنزيهه وأجرى مع المنطق العلمي الذي يريده صلى الله عليه وسلم لرواد الشريعة ورواد العلم من أمته ، وقد أنذر صلى الله عليه وسلم بكثرة الكذابة عليه وتوعدهم بتبوء مقاعدهم من النار فأطلق القول بالوعيد .
وإني أنشر هذه الدراسة في كتابي هذا - أبو هريرة - مخلصاً للحق في تمحيص السنة وتنزيهها في ذاتها المقدسة وفي نسبتها لقدسي النبي الحكيم العظيم ( وما ينطق عن الهوى).(8/2)
قلت: قوله بأن أبا هريرة أفرط ، فهذا كذب ، فأي إفراط كان من أبي هريرة وهو الحافظ الذي عرفناه ، والمفتي الذي احتاجت إليه الأمة بعد وفاة رؤوس الصحابة، وبقى أبو هريرة مع من بقى في المدينة مرجعاً للمسلمين في دينهم وشريعتهم ، بعد أن انطلق الصحابة إلى الأقطار الإسلامية يعلمون أهلها ويفقهونهم ، وسنتعرض للرد التفصيلي على دعواه هذه فيما بعد ، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن أبا هريرة لم يكن مفرطاً ، بل كان كغيره من علماء الصحابة ، يستفتى فيفتى ، ويسأل فيجيب ، فلم يكن مفرطاً ، في عهد الخلفاء الراشدين ولا بعدهم ، إنما وثق به القوم، وعرفوا مكانته ، فوضعوه حيث يستحق ، فكم من راحل يقطع المسافات ليرى أبا هريرة ، وكم من مقيم يترك كبار الصحابة ويأتيه في مسألة أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فأبو هريرة لم يكثر من عنده ، إنما وثق الناس بحفظه فحرصوا على أن ينهلوا منه، فما جريرته في ذلك ، وقد شهد بعلمه وحفظه ابن عمر وطلحة بن عبيد الله والزبير وغيرهم ، حتى إنه قال - عندما استكثروا حديثه - : ما ذنبي إذا حفظت ونسوا .
جاء في مصادر القوم ( البحار 18/13) " باب معجزات النبي في استجابة دعائه" نقلا عن الخرائج : أن أبا هريرة قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني أسمع منك الحديث الكثير أنساه ، قال : أبسط رداك قال : فبسطته فوضع يده فيه ثم قال : ضمّه فضممته، فما نسيت كثيرا بعده .
فما ذنب أبي هريرة رضي الله عنه إذا دعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطيه الله الحفظ ؟!، بل هذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، يزعم أولياء " المؤلف" أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا له أن يعطيه فهماً وحفظاً ، فما نسى آية من كتاب الله !! .(8/3)
ففي " البحار" (40/139 ) "باب 93 أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علّمه ألف باب" !! عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (ع) قال : كنت إذا سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجابني ، وإن فنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت عليه آية في ليل ولا نهار ولا سماء ولا أرض ولا دنيا ولا آخرة ولا جنة ولا نار ولا سهل ولا جبل ولا ضياء ولا ظلمة إلا أقرأنيها وأملاها عليّ ، وكتبت بيدي وعلّمني تأويلها وتفسيرها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها ، وكيف نزلت وأين نزلت وفيمن أنزلت إلى يوم القيامة ، دعا الله لي أن يعطيني فهماّ وحفظاّ ، فما نسيت آية من كتاب الله ، ولا على من أنزلت أملاه عليّ .
فما ذنب علي رضي الله عنه إذا دعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطيه الله الحفظ ؟! بل ، ما ذنبه إذا علمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - حسب ادعاء القوم - ألف باب أو كلمة ؟!
وعن الثمالي عن أبي جعفر قال: قال علي (ع): لقد علّمني رسول الله ألف باب كل باب يفتح ألف باب!! . وفي وراية " علّم رسول الله علياً ألف كلمة كل كلمة تفتح ألف كلمة " .
ونقل محمد مهدي في كتابه " الجامع لرواة وأصحاب الإمام الرضا" (1/244):
" لقول أمير المؤمنين(ع) : اقتربوا اقتربوا وسلوا وسلوا فإن العلم يفيض فيضاً، وجعل يمسح بطنه!! ويقول: ما ملئ طعام ولكن ملأه علم!! ..." .
ونقل النجاشي في رجاله (2/399-400) تحت ترجمة هشام بن محمد بن السائب....، المشهور بالفضل والعلم، وكان يختص بمذهبنا وله الحديث المشهور، قال: اعتللت علّة عظيمة، نسيت علمي، فجلست إلى جعفر بن محمد(ع)، فسقاني العلم في كأس، فعاد إليّ علمي ..
أليس غريباً بعد ذلك أن يستنكر المؤلف كثرة أحاديث أبي هريرة وعلمه؟!!
ثم من العجيب أن يثير هذا في القرن العشرين !! ، فهل يعجب من قوة ذاكرة الإنسان ولاسيما العرب ؟، فقد كان العرب يحفظون أضعاف أضعاف ما حفظه أبو هريرة ؟!!(8/4)
لقد حفظوا القرآن الكريم والحديث والأشعار ، فماذا يقول المؤلف" الأمين" في هؤلاء ؟ ماذا يقول في حفظ أبي بكر أنساب العرب؟ وعائشة رضي الله عنها شعرهم؟
وماذا يقول هذا الجاهل في حماد الراوية الذي كان أعلم الناس بأيام العرب وأشعارا وأخبارها وأنسابها ولغاتها ؟ وماذا يقول فيه إذا علم أنه روى على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات ، من شعر الجاهلية دون الإسلام؟
ماذا يقول في حفظ الإمام البخاري في الحديث، فقد كان يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح ، وقد صنّف كتابه في ستمائة ألف حديث .
وماذا يقول في حفظ ابن عقدة ، فقد كان يحفظ مائة وعشرين ألف حديث!!
نقل آية الله الكلبايكاني في كتابه ( أنوار الولاية ص 415) " في تحقيق سند الحديث الشريف ":( قال الشيخ الطوسي: سمعت جماعة يحكون عنه أنه قال: أحفظ مائة وعشرين ألف حديثا بأسانيدها !! ، وأذاكر بثلاثة مائة ألف حديث )!! .
إن مشكلة عبد الحسين أنه يدلس في كل صفحة من صفحات كتابه ، فهو يزعم أن أبا هريرة أفرط ، وينسى أو بالأحرى يتناسى أن أئمته الذين يزعمون فيهم العصمة ! ورواتهم ، قد رووا أضعاف ما رواه أبو هريرة ، حتى أفرطوا وأفرطت كتبهم الأربعة أو أصولهم الأربعمائة ! .
فعلاوة على الباب السابق الذي عقده المجلسي من بحاره والتي استغرق عرض الأحاديث فيه من (ص127 -200) ، علاوة على ذلك ، فقد زعموا لأئمتهم مثل ذلك !
قلت: استمع واقرأ واعجب من مرويات ثقاته وعددها !! .
رواة الشيعة يفرطون :
فهذا عالم الشيعة في الجرح و التعديل أبو العباس النجاشي يروي في رجاله المعروف برجال النجاشي أن الراوي أبان بن تغلب روى عن الإمام جعفر الصادق (30) ألف حديث!! ، بل أن هذا المؤلف بنفسه نقل هذا الكلام في كتابه الموضوع على شيخ الأزهر المسمى" بالمراجعات " .(8/5)
قال المؤلف في مراجعاته ما نصه :( فمنهم أبو سعيد أبان بن تغلب رباح الجريري القارىء الفقيه المحدث المفسر الأصولي اللغوي المشهور،كان من أوثق الناس ، لقى الأئمة الثلاثة فروى عنهم علوماً جمة و أحاديث كثيرة ، وحسبك أنه روى عن الصادق خاصة ثلاثين ألف حديث!! كما أخرجه الميرزا محمد في ترجمة أبان من كتاب منتهى المقال بالإسناد إلى أبان بن عثمان عن الصادق(ع)...) .
وقال عبد الحسين: ( قال الصادق لأبان بن عثمان: إن أبان بن تغلب روى عني ثلاثين ألف حديث!! فاروها عني).
بل أكثر رواتهم الموثقين يروون أضعاف أضعاف هذا العدد .
محمد بن مسلم بن رباح: فهذا عمدتهم في الرجال يذكر أحد رواتهم ويُدعى محمد بن مسلم بن رباح فيقول أنه : سأل الباقر عن ثلاثين ألف حديث!! و سأل الصادق عن ستة عشر ألف حديث!! .
جابر بن يزيد الجعفي: ومن المكثرين المفرطين جابر بن يزيد الجعفي ،كان يجيش في صدره كثرة أحاديث المعصومين حتى يأخذه الجنون، فكان يذهب إلى المقبرة ويدفن أحاديثهم !!
روى الكشي عن جابر الجعفي قال حدثني أبو جعفر (ع) بسبعين ألف حديث!! لم أحدث بها أحداً قط ولا أحدث بها أحد أبدا ، قال جابر فقلت لأبي جعفر (ع) جعلت فداك أنك قد حملتني وقراً عظيماً بما حدثتني به من سرّكم!! الذي لا أحدث به أحداً!! ، فربما جاش في صدري حتى يأخذني منه الجنون !! قال يا جابر فإذا كان ذلك فاخرج إلى الجبانة فاحفر حفيرة ودل رأسك ثم قل حدثني محمد بن علي بكذا وكذا .
وأخرج الكشي بإسناده عن جابر الجعفي قال : رويت خمسين ألف حديث ما سمعه أحد مني .
قال الحر العاملي في خاتمة الوسائل ما نصه : " أنه روى سبعين ألف حديث!! عن الباقر وروى مائة وأربعين ألف حديث!! ، والظاهر أنه ما روى أحد بطريق المشافهة عن الأئمة أكثر مما روى جابر .(8/6)
وهؤلاء المكثرون المفرطون من الحديث ذكرهم عبد الحسين بنفسه في كتابه الذي لفقه وسماه " المراجعات " و دافع عنهم و اثنى عليهم . فيا عقلاء من الذي أكثر و أفرط ؟! إي إفراط كان من أبي هريرة رضي الله عنه؟
وأما أن الصحاح وسائر مسانيد الجمهور قد أفرطت فيما روته عنه ، فهذا ظلم وجور ، لا نوافقه عليه ، ولا يقبله إنسان منصف ، ولا يقره عليه عقل راجح ، بل هذا الادعاء كذب مكشوف ، لأن صحاحهم هي التي أفرطت بإعترافه ! .
قال في كتابه الذي لفقه " المراجعات " ما نصه (...وأحسن ما جمع منها الكتب الأربعة التي هي مرجع الإمامية في أصولهم و فروعهم من الصدر الأول إلى هذا الزمان، وهي : الكافي، و التهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، وهي متواترة ومضامينها مقطوع بصحتها، والكافي أقدمها و أعظمها وأحسنها و أتقنها ، وفيه ستة عشر ألف و مئة وتسعة وتسعون حديثا، وهي أكثر مما اشتملت عليه الصحاح الستة بأجمعها، كما صرح به الشهيد في الذكرى وغير واحد من الأعلام ) .
فأنظروا إلى قوله :( وهي أكثر مما اشتملت عليه الصحاح الستة بأجمعها ) !
فيا عقلاء، كتب من التي أكثرت و أفرطت ؟! كتب الحديث عن أهل السنة لم تضم بين دفاتها أي حديث إلا بعد تنقيب وتمحيص .(8/7)
إن كتب السنة لم تضم بين دفاتها أي حديث إلا بعد بحث وتنقيب وتمحيص ، ومقارنة وتحقيق ، يتناول حياة الراوي وسلوكه وحفظه ، ولا يؤخذ عن إنسان إلا بعد التحقق من عدالته ، فكان النقد يتناول الرجال والمتن ، ولم يكن النقد خارجياً فقط ، بل كانوا يعرضون الرواية على القرآن والسنة ، حتى يتأكدوا من صحة الخبر ، وكان منهم من يجمع الأخبار المتعارضة فيسلك طريق الدراسة والموازنة والتوفيق والترجيح حتى يتبين له وجه الحق والصواب ، فلم تكتب الصحاح إلا على أسس علمية دقيقة ، تتناول السند والمتن على السواء ، وهذا بخلاف كتب القوم ، يقول الاستاذ عبد الله فياض في كتابه الإجازات العلمية عند المسلمين : ( ويبدو أن عملية انتحال الأحاديث من قبل غلاة الشيعة القدامى ودسّها في كتب الشيعة المعتدلين لم تنته بمقتل المغيرة بن سعيد (سنة 119ه)... بل نجد إشارة للعملية نفسها تعود إلى مطلع القرن الثالث الهجري ولعل ذلك ما يدل على عمق حركة الغلو من جهة واستمراريتها من جهة أخرى ...) .
ويقول الأستاذ عبد الله فياض ما لفظه: ( ومن الجدير بالذكر أنه لم تجر عملية تهذيب وتشذيب شاملة لكتب الحديث عند الشيعة الإمامية على غرار العملية التي أجراها المحدثون عند أهل السنة والتي تمخض عنها ظهور الصحاح الستة المعروفة ونتج عن فقدان عملية التهذيب لكتب الحديث عند الشيعة الأمامية مهمتان هما :
أولاً: بقاء الأحاديث الضعيفة بجانب الأحاديث المعتبرة في بعض المجموعات الحديثية عندهم .
ثانياً : تسرب أحاديث غلاة الشيعة إلى بعض كتب الحديث عند الشيعة وقد تنبه أئمة الشيعة الإمامية وعلمائهم إلى الأخطار المذكورة وحاولوا خنقها في مهدها ولكن نجاحهم لم يكن كاملا نتيجة لعدم قيام تهذيب شاملة لكتب الحديث) .(8/8)
وهذا بخلاف كتب الحديث عند أهل السنه كما أشار إلى ذلك الأستاذ فياض ، فأنهم هذّبوا كتبهم من الروايات الموضوعة حتى ألفوا مجموعة كبيرة من المؤلفات في الأحاديث الموضوعة فألف الحافظ الجوزجاني المتوفي سنة (543ه) أول كتاب في الموضوعات أسمه كتاب: الأباطيل ثم الحافظ ابن الجوزي المتوفى سنة (597 ه) ألف كتاب سماه الموضوعات ثم الصاغاني اللغوي المتوفى سنة (650 ه) له رسالتان في ذلك ثم السيوطي المتوفى سنة (910ه) وله كتب في التعقيب على ابن الجوزي وهى : النكت البديعات والوجيز واللاّلي المصنوعة والتعقبات .
ثم محمد بن يوسف بن علي الشامي صاحب السيرة المتوفي سنة (942ه) له كتاب " الفوائد المجموعة في بيان الأحاديث الموضوعة " ثم علي بن محمد بن عراق المتوفي سنة (963) له كتاب: تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة " ثم محمد بن طاهر الهندي المتوفى سنة (986 ه) له كتاب " تذكرة الموضوعات " ثم الملا علي قاري المتوفي سنة (1014ه) له كتاب تذكرة الموضوعات " ثم الشيخ السفاريني الحنبلي المتوفي سنة (1188ه) له كتاب " الدررالمصنوعات في الأحاديث الموضوعات" في مجلد ضخم ..ثم القاضي الشوكاني المتوفى سنة (1250ه) ألف كتاباً "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة "ولأبي المحاسن محمد بن خليل المتوفى سنة (1305) ألف كتابا " اللؤلؤ الموضوع " فيما قيل : لاأصل له أو بأصله موضوع، ولمحمد البشير ظافر الأزهري المتوفى سنة (1325ه) كتاب سماه " تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين " .(8/9)
كما أن هناك كتب اشتملت على الموضوع والواهي من الأحاديث مثل "التذكرة" للمقدسي و"المغني" عن الحفظ والكتاب " لعمر بن بدر الموصلي المتوفى سنة (543 ه) وله أيضا كتاب " العقيدة الصحيحة في الموضوعات الصريحة " ومنها كتب يكثر فيها بيان الموضوع منه : تخريج أحاديث الأحياء للعراقي ومختصره لصاحب القاموس والمقاصد الحسنة في الأحاديث الدائرة على الألسنة للسخاوي وللحافظ ابن القيم رسالة باسم " المنار " فيها مباحث في شأن الحديث الموضوع ونحوه... وأخيرا ألف العلامة المعاصر الشيخ الألباني كتاباً ضخم للاحاديث الموضوعة سماه "سلسلة الأحاديث الموضوعة " و"سلسلة الأحاديث الصحيحة " .
طبعاً هذا بخلاف كتب الحديث عند الشيعة حيث لم تتعرض لمثل هذا وتجد الأحاديث الموضوعة بجانب الأحاديث الصحيحة بل لم يؤلف الشيعة إلي يومنا هذا كتاباً مفصلاً في معرفة الأحاديث الموضوعة رغم دس المغيرة وأبي الخطاب أحاديث كثيرة في أحاديثهم التي يزعمون أنهم أخذوها من أهل البيت ... بل نظرة واحدة على كتاب الكافي تكفي مؤونة التفصيل .. كتلك الأحاديث الزاعمة على أهل البيت أن القراّن محرف أو إن الأئمة يعلمون علم الغيب أو إن الأئمة يوحى إليهم أو أن الأئمة يعلمون متى يموتون ... إلى آخر هذه الأحاديث الموضوعة ، ثم ألا يعد الكليني صاحب الكافي من الغلاة الحاقدين، ألم يقل بأن الصادق يقول بتحريف القراّن حتى عقد باباً في كتاب الحجة من كافيه وأورد عشرات الأحاديث على لسان الصادق بتحريف القراّن أن الآية لم تنزل هكذا بل هكذا نزلت حسب زعمه الفاسد .
ولهذه الأسباب لم يؤلف الشيعة كتاباً واحداً في الأحاديث الموضوعة لأنهم أن فعلوا ذلك لانهار " مذهب عبد الحسين " من أساسه لأنه قائم على الأحاديث الموضوعة !!(8/10)
يقول شيخهم هاشم معروف في كتابه "الموضوعات في الآثار والأخبار" (ص253): ما نصه:( وبعد التتبع في الأحاديث المنتشرة في مجاميع الحديث كالكافي والوافي وغيرهما نجد الغلاة والحاقدين على الأئمة الهداة لم يتركوا باباً من الأبواب إلا ودخلوا منه لإفساد أحاديث الأئمة و الاساءة إلى سمعتهم وبالتالي رجعوا إلى القراّن الكريم لينفثوا سمومهم ودسائسهم لأنه الكلام الوحيد الذي يتحمل مالا يتحمله غيره ففسروا مئات الآيات بما يريدون وألصقوها بأئمة الهداة زورا وبهتاناً وتضليلا وألف علي بن حسان، وعمه عبدالرحمن بن كثير وعلي بن أبي حمزة البطائني كتبا في التفسير كلّها تخريف وتحريف وتضليل لا تنسجم مع اسلوب القرآن وبلاغته وأهدافه ) .
لذلك نقول " لعبد الحسين" أنك أخطأت طريقك ، وتنكبت جادة الصواب ، واتهمت المسلمين جميعاً بأنهم لم يعرفوا قيمة "الصحاح " ، في حين إنك لم تعرف حقاً قيمة صحاحك! ، ولكن " المؤلف " لا يذكر هذا ، ليعمى على المسلمين طريقهم ويشككهم في كتبهم المعتمدة ، يريد منّا أن نسلّم له بما يقول ويرى ، فنحن القُرّاء لا نعرف شيئاً عن مذهبه ، لا يمكننا أن نحكم عليه ما لم ندرس "مذهبه " دراسة نزيهه محررة ، نحكم عليه من خلالها ، أما أن نكون فريسة خياله وأهوائه فهذا خلاف البحث العلمي ، وما عهدنا بحثاً توضع نتائجه قبل منا قشته ومحاكمته ، فهذا خلاف المنهج العلمي ، لذلك كان الأولى لهذا المؤلف أن يقوم "بعملية تهذيب وتشذيب شاملة لكتبهم الحديثية ولا سيما " الكافي " من الكفريات كأحاديث تحريف القرآن وكفر الصحابة ولعنهم والقدح في أعراض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن والغلو في الأئمة إلى درجة التأليه ... بدلا من قوله: ( الواجب تطهير الصحاح والمسانيد من كل ما لا يحتمله العقل من حديث أبي هريرة ) .(8/11)
كان الأولى به أن يقوم بهذا التطهير، بدلا من أن يشاقق الله ورسوله، ويحكم على " الكافي" ( بأنه أقدم و أعظم و أحسن و اتقن الكتب الأربعة )، لأن أهل السنة قاموا بذلك التطهير وقد تمخض عنه ظهور الكتب الستة المعروفة .
وكان الأولى به أن يقوم بذلك ، بدلا من تأليفه كتب مسمومة تفرق الأمة وتشتت شملها ، ككتابه " الفصول المهمة في تأليف الأمة " وهو في الحقيقة أولى
أن يسمى " بالفصول المهمة في تشتيت الأمة " . وبدلا من اهدار الوقت في الفحص والتنقيب عن صحابي أجمعت الأمة على توثيقه بتعديل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم له.... وكان الأولى له أن يبحث في حياة شيخه " النوري الطبرسي" ، الذي ألف كتاباً في إثبات تحريف القرآن المجيد سماه " فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" ، أورد فيه حوالي (1800) رواية من رواياتهم التي تزعم تحريف القرآن الكريم . كان الأولى على أقل تقدير أن يرد على شيخه ويكفره لتكفير الله له بدلا من أن يكفر أبا هريرة برواية مكذوبة مفتراة وأنه من أهل النار ، وبدلا أن يمجد مولاه بأنه: " شيخ المحدثين في عصره وصدوق حملة الآثار .
مطاعن التيجاني في أبي هريرة والرد عليه في ذلك:
أبو هريرة رضي الله عنه سيد الحفّاظ الأثبات صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله، اسمه: عبد الرحمن بن صخر، نقل عن النبيصلى الله عليه وسلم علماً كثيراً لم يسلم هو الآخر من لسان هذا الشانئ الذي اتهمه بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه الأحاديث المكذوبة فضّ الله فاه وسوف أسوق شبهاته في حق هذا الصحابي الجليل وأفنّدها بإذن الله.
أولاً: ادعاء التيجاني على أبي هريرة أنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث موضوعة والرد عليه في ذلك:(8/12)
يقول التيجاني (( ولعل نصف الدين الثاني خصّوا به أبا هريرة الذي روى لهم ما يشتهون فقرّبوه وولّوه إمارة المدينة وبنوا له قصر العقيق بعدما كان معدماً، ولقّبوه براوية الإسلام. وبذلك سهل على بني أميّة أن يكون لهم دين كامل جديد ليس فيه من كتاب الله وسنّة رسوله إلا ما تهواه أنفسهم ))(29)، ويقول ((... كذلك يروي فضائل أبي بكر كل من عمرو بن العاص وأبو هريرة ))(30)، ويقول أيضاً (( ثم قرأت كتاب أبي هريرة لشرف الدين، وشيخ المضيرة ( للشيخ! ) محمود أبو رية وعرفت بأن الصحابة الذين غيروا بعد رسول الله قسمان، قسم غير الأحكام بما له من السلطة والقوة الحاكمة، وقسم غير الأحكام بوضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ))(31)، أقول رداً على كذبه:
1 أما قوله أن أبا هريرة روى لبني أمية ما يشتهون فقربوه وولوه إمارة المدينة وبنو له قصر العقيق بعدما كان معدماً ولقبوه براوية الإسلام فكذب صريح لهذه الأسباب:
أ لم يكن أبا هريرة مع أحد الجانبين في الفتنة بل كان من المعتزلين عنها ولم يقاتل مع أحد، وروى في الاعتزال أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم (( ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، ومن تشرّف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به ))(32)، وكان هذا أيضاً رأي كبار الصحابة.(8/13)
ب لم يكن أبا هريرة معدماً ولم تكن ولايته على المدينة بالأولى، ولكن ماذا نقول عن جاهل يعبث في التاريخ؟! فقد ولاهُ عمر في خلافته على البحرين وكان يملك المال فعن محمد بن سيرين (( أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف. فقال له عمر: استأثرت بهذه الاموال يا عدوّ الله وعدوَّ كتابه؟ فقال أبو هريرة: فقلت: لست بعدو الله وعدو كتابه، ولكني عدوّ من عداهما. قال: فمن أين هي لك؟ قلت: خيلٌ نُتجتْ، وغلّةُ رقيق لي وأُعطيةٌ تتابعت. فنظروا، فوجده كما قال، فلما كان بعد ذلك، دعاه عمر ليوليه، فأبى. فقال: تكرهُ العمل وقد طلب العمل من كان خيراً منك: يوسف عليه السلام، فقال: يوسف نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة بن أميمة. وأخشى ثلاثاً واثنتين، قال: فهلا قلت: خمساً؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، وأن يُضرب ظهري، وينتزع مالي، ويشتم عرضي))(33).
ت سبب تولية الأمويين لأبي هريرة المدينة أنه كان من كبار الصحابة المتبقين في المدينة وغيرها ومن أعلامها الظاهرين خصوصاً إذا عرفنا أنه كان يقدَّم في الصلاة في أيام عليّ ومعاوية ولو جاء غير الأمويين لكان من المؤكد أن يولوه المدينة، فكان المرشّح لذلك، وكيف لا وقد رشحه من هو خير منهم وهو عمر.(8/14)
ث يحاول هذا الآبق أن يظهر أبا هريرة بمظهر الحريص على الدنيا وشهواتها، وفي صورة المداهن للأمراء الذي يكذب في سبيل الحصول على مصالحه الغريزية، فتباً له! فهل يقال عن أبي هريرة ذلك، وهو الذي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (( ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، أحدهم رجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يعطه منها سخط ))(34)! وكيف يطلب وهو الذي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (( لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه ))(35)، ولا شك أن الذي هذه حاله لو رأى من الحاكم شيئاً منكراً أن يسكت عليه، هذا إن لم يحسّن منكره، فهل كان أبو هريرة كذلك؟ اخرج مسلم في صحيحه عن أبي زرعة قال (( دخلت مع أبي هريرة في دار مروان. فرأى فيها تصاوير فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي؟ فليخلقوا ذرّة أو ليخلقوا حبّة او ليخلقوا شعيرة ))(36)، وأخرج الحاكم في مستدركه عن أبي مريم مولى أبي هريرة قال (( مر أبو هريرة بمروان وهو يبني داره التي وسط المدينة قال: فجلست إليه والعمال يعملون، قال: ابنوا شديداً وآملوا بعيداً وموتوا قريباً، فقال مروان: إن أبا هريرة يحدث العمال فماذا تقول لهم يا أبا هريرة؟ قال: قلت ابنوا شديداً وآملوا بعيداً وموتوا قريباً. يا معشر قريش، ثلاث مرات اذكروا كيف كنتم أمس وكيف أصبحتم اليوم، تخدمون أرقاءكم فارس والروم، كلوا الخبز السميد واللحم السمين، لا يأكل بعضكم بعضاً، ولا تكادموا تكادم البراذين، كونوا اليوم صغاراً تكونوا غداً كباراً، والله لا يرتفع منكم رجل درجة إلا وضعه الله يوم القيامة ))(37) فانظر أخي القارئ للحق الواضح ولا تلتفت إلى صاحب الكذب الفاضح والهوى القادح.(8/15)
2 أما ادعاء التيجاني أن أبا هريرة يروي ما يشتهي الناس، ويروي في فضائل الصحابة خصوصاً أبو بكر أحاديث موضوعة وازداد التيجاني تيقناًمن ذلك، عندما قرأ كتاب أبي هريرة لشرف الدين ومحمود أبو رية
فأقول داحضاً حجته المتهافتة ب:
أ لقد اتفق الصحابة على فضل أبي هريرة وثقته وحفظه، وأنه من أكثرهم علماً بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فعن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة (( يا أبا هريرة، أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظنا لحديثه ))(38) وقيل لابن عمر (( هل تنكر مما يحدث به أبو هريرة شيئاً؟ فقال:لا، ولكنه اجترأ وجبنَّا ))(39)، وعن أشعث بن سليم عن أبيه قال (( أتيت المدينة، فإذا أبو أيوب يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: وأنت صاحب رسول الله، قال: إنه قد سمع وأن أحدث عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحبُّ إليّ من أن أُحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم ))(40)، وعن معاوية بن أبي عياش الانصاري (( أنه كان جالساً مع ابن الزبير، فجاء محمد بن إياس بن البكير، فسأل عن رجل طلّق ثلاثاً قبل الدخول. فبعثه إلى أبي هريرة، وابن عباس وكانا عند عائشة فذْهب، فسألهما، فقال: ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة. فقال: الواحدة تُبينها، والثلاث تُحرِّمها، وقال ابن عباس مثله ))(41)، فهل يُتَّهمَ بالكذب من يوثّقه ابن عباس صاحب عليّ ويتأدب معه ويقول له أفتِ يا أباهريرة؟!(8/16)
ب والسبب في كثرة روايته عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان مرافقاً له في حلّه وترحاله، ولم يشغله عنه عمل ولا زوجة، إذ لم يكن يعمل ولم يتزوج، فكان يحرص على مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أي مكان يذهب إليه سواءٌ إلى حج أو جهاد، فعن أبي أنس مالك بن أبي عامر قال (( جاء رجل إلى طلحة بن عبيد الله، فقال: يا أبا محمد، أرأيت هذا اليماني يعني أبا هريرة أهو أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم؟ نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم، أم هو يقول على رسول الله ما لم يقل؟ قال: أمّا أن يكون سمع ما لم نسمع، فلا أشُكُّ، سأحدثك عن ذلك: إنا كنا أهل بيوتات وغنم وعمل، كنّا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار وكان مسكيناً، ضيْفاً على باب رسول الله، يدُه مع يدِه، فلا نشك أنه سمع ما لم نسمع، ولا تجد أحداً فيه خيرٌ يقول على رسول الله ما لم يقل ))(42).(8/17)
ت إضافة إلى كثرة مرافقته للنبي صلى الله عليه وسلم التي جعلته أكثر الصحابة رواية للحديث فقد كان يمتاز بقوة حفظه وإتقانه وذلك بفضل تعليم النبي صلى الله عليه وسلم له، فقد روى البخاري عن الزهري قال (( أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدِّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفْقٌ بالأسواق، وكنت ألزمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملءِ بطني فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكُنتُ امرأً مسكيناً من مساكين الصفُّة، أعي حين ينسون وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدِّثُه: إنه لن يبسطَ أحدٌ حتى أقْضي مقالتي هذه ثم يجمعَ إليه ثوبه إلا وعى ما أقول. فبسطْتُ نمِرةً عليّ حتى إذا قضى رسول الله مقالته جمعتُها إلى صدري، فما نسيتُ من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من شيء ))(43).(8/18)
ث لا بد لي من أن أسوق رأي أحد الأئمة الاثني عشر في أبي هريرة ومدى ثقته عنده وهو الإمام الرابع زين العابدين علي بن الحسين فقد أورد شيخهم أبو الحسن الأربلي من كبار الأئمة الاثني عشر في كتابه ( كشف الغمة ) عن سعيد بن مرجانة أنه قال (( كنت يوماً عند علي بن الحسين فقلت: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله تعالى بكل إرب منها إرباً منه من النار، حتى أنه ليعتق باليد اليد، والرجلِ الرجل وبالفرج الفرج، فقال علي عليه السلام: أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ فقال سعيد: نعم، فقال لغلام له: أفره غلمانه وكان عبد الله بن جعفر قد أعطاه بهذا الغلام ألف دينار فلم يبعه أنت حر لوجه الله ))(44)!، هل رأيت أخي القارئ مدى صدق وأمانة أبي هريرة في نظر الإمام علي بن الحسين بحيث بادر إلى تنفيذ ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم دون أي تردد! لذلك ليس بالمستغرب أن يوثّقه أحد كبار علماء الإمامية في الرجال، ويضعه من جملة الرجال الممدوحين فيقول ابن داود الحلي (( عبد الله أبو هريرة معروف، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ))(45)، وهذا أيضاً إبن بابويه القمي يستشهد به في كتابه ( الخصال ) في أكثر من موضع(46) ولا يتعرض له محقق الكتاب علي أكبر غفاري بالقدح مع تعليقه على الكثير من الرجال في الكتاب، إضافة إلى أن الذي يروي عن أبي هريرة الكثير من الأحاديث هو زوج ابنته سعيد بن المسيب، أشهر تلاميذه، والذي روى عن أبي هريرة حديث تعليم النبي صلى الله عليه وسلم له حفظ الأحاديث، يقول عنه الكشي من كبار أئمتهم في الرجال ((... سعيد بن المسيب رباه أمير المؤمنين عليه السلام ))(47)، وروى أن أبا جعفر قال (( سمعت علي بن الحسين صلوات الله عليهما يقول: سعيد بن المسيب أعلم الناس بما تقدمه من الآثار وأفهمهم في زمانه ))(48)، فأقول للتيجاني المهتدي، إذا كان علي رباه (( أفلم(8/19)
يسمع رأيه بأبي هريرة وهو في حجره يربيه؟ وكيف يأذن له بأن يتزوج بابنة أكذب الناس وهو ولي أمره وحاضنه؟ ))(49)، وكيف يوثق علمه زين العابدين وهو من أخص تلاميذ أكذب الناس ووارثه؟! أجبنا يا صاحب الهداية المزعومة؟!
3 أما قوله (( كذلك يروي فضائل أبي بكر، كل من عمرو بن العاص وأبو هريرة وعروة وعكرمة، وهؤلاء كلهم يكشفهم التاريخ بأنهم كانوا متحاملين على الإمام علي وحاربوه إما بالسلاح أو بالدس واختلاق الفضائل لأعدائه وخصومه... ))(*)
فأقول:
أ أما بالنسبة لعمرو بن العاص وقتاله لعليّ فهذا صحيح، ولكنه قاتله عندما بدأهم عليّ وجنده، ولم تكن مشاركته بسبب عداوته لعلي كلا، وإنما لاعتقاده انه يقاتل دفاعاً عن الحق وإبطالاً لباطل، وقد ذكرت الأسباب التي دعته ومعاوية وأصحابهما لقتال عليّ في مبحث معاوية بما يغني عن الإعادة هنا، أما أنه كان يختلق الفضائل لأعدائه فهذا صحيح فهو أحد رواة حديث ( عمار تقتله الفئة الباغية )! بل روى أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( إن قاتله وسالبه في النار )) وعندما اعتُرضَ عليه بأنه يقاتله (( فقيل لعمرو: فإنك هو ذا تُقاتله؟ قال: إنما قال: قاتله وسالبه ))(50).
فانظر أخي القارئ إلى هذا الدس واختلاق الفضائل لأعداء علي!؟ ولكن تهمته الحقيقية الوحيدة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم (( أي الناس أحب إليك قال: عائشة فقلت من الرجال فقال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب فعد رجالاً ))(51)، فهذا الحديث يكفي للطعن به!(8/20)
ب إما بالنسبة لأبي هريرة فإنه كان معتزلاً للفتنة بين علي ومعاوية، فليس هو في هذه الناحية متحاملاً ولكن التحامل يظهر بالدس واختلاف الفضائل لأعدائه من مثل ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر (( لأعطينّ هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ... فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأعطاه إياه ))(52) وليس هذا فقط فقد روى أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني يعني الحسن والحسين ))(53)؟ وروى أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( اللهم إني أحبهما فأحبهما ))(54) فمرحى بالهداية يا تيجاني.
ت أما بالنسبة لعروة فلست أدري من يقصده التيجاني ولعل أقرب احتمال إلى أنه عروة بن الزبير لأنه لم يعرف رجل باسم عروة أشهر منه خصوصاً وأنه روى عن عائشة وابن عمر أحاديث في فضائل أبي بكر ولم يشارك عروة في الفتنة بين علي ومعاوية، إذ كان صغيراً لم يتجاوز العشر سنين لذلك يقول أحمد بن عبد الله العجلي: عروة بن الزبير تابعي ثقة، رجل صالح، لم يدخل في شيء من الفتن(55).
ث أما قوله وعكرمة فلا شك أنه يقصد عكرمة بن أبي جهل فلا يوجد أحد اسمه عكرمة غيره وقد استشهد رضي الله عنه سنة 13ه واختلفوا في المعركة التي استشهد فيها فقيل قتل في اليرموك وقيل يوم أجنادين لأنهما وقعتا في نفس العام وعلى ذلك فعكرمة توفي قبل دخول الفتن إلى الأمة بسنوات طويلة فلست أدري ما دخله، فيما نحن فيه ويبدو أن التيجاني يتمتع بمعلومات جيدة عن التاريخ الإسلامي ورجاله!
ج أما قوله (( ولكن الله يقول { إنهم يكيدون كيداً، وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً } ))(56). فأقول:(8/21)
الله أكبر على المجرمين المارقين الذين ينزلون على خير الناس آيات الكفار ويتهمونهم بالكفر والعياذ بالله وما دروا أن هذه الآيات أولى بهم وبأشياعهم، ولكن أقول يأبى الله إلا أن يكشفهم أمام الناس ويخرج ما تكنه صدورهم من حقد على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأقول لهذا التيجاني لأخوانه الرافضة { فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }.
رابعاً الغريب ان تجد التيجاني يشن حملة ضاربة ضد أبو هريرة متهماً إياه في أكثر من موضع في كتابه بأنه يروي الأحاديث المكذوبة والموضوعة ثم يحتج بما يرويه! فيستدل بحديث الحوض الذي يطعن به على الصحابة(57)ولم يدر أن راويه هو أبو هريرة! ثم يستدل على أفضلية علي بحديث الراية يوم خيبر(58) مع أن راوي الحديث هو أبو هريرة ويحتج بحديث الرجل الذي بال في المسجد(59) وقد رواه أبو هريرة أيضاً! ثم يدعي بعد ذلك أن أبا هريرة يختلق الفضائل لأعداء علي؟
===============
هل يجوز اخفاء الحديث حرصا على بلعوم ابى هريرة
جاء فى سير اعلام النبلاء الإصدار 2.02 - للإمام الذَّهبي
المُجَلَّدُ الثَّانِي >> فَصْلٌ فِي بَقِيَّةِ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ >> 126 - أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ صَخْرٍ (ع)
ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: عَنِ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
حَفِظْتُ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِعَاءيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ فِي النَّاسِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ، لَقُطِعَ هَذَا البُلْعُوْمُ. (2/597)
مُحَمَّدُ بنُ رَاشِدٍ: عَنْ مَكْحُوْلٍ، قَالَ:
كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُوْلُ: رُبَّ كِيْسٍ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَفْتَحْهُ -يَعْنِي: مِنَ العِلْمِ-.(8/22)
قُلْتُ: هَذَا دَالٌّ عَلَى جَوَازِ كِتْمَانِ بَعْضِ الأَحَادِيْثِ الَّتِي تُحَرِّكُ فِتْنَةً فِي الأُصُوْلِ أَوِ الفُرُوْعِ، أَوِ المَدْحِ وَالذَّمِّ، أَمَا حَدِيْثٌ يَتَعَلَّقُ بِحِلٍّ أَوْ حَرَامٍ فَلاَ يَحِلُّ كِتْمَانُهُ بِوَجْهٍ، فَإِنَّهُ مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى.
وَفِي (صَحِيْحِ البُخَارِيِّ): قَوْلُ الإِمَامِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:
حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُوْنَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُوْنَ، أَتُحِبُّوْنَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُوْلُهُ.
وَكَذَا لَوْ بَثَّ أَبُو هُرَيْرَةَ ذَلِكَ الوِعَاءَ، لأُوْذِيَ، بَلْ لَقُتِلَ، وَلَكِنَّ العَالِمَ قَدْ يُؤَدِّيْهِ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنْ يَنْشُرَ الحَدِيْثَ الفُلاَنِيَّ إِحْيَاءً لِلسُّنَّةِ، فَلَهُ مَا نَوَى، وَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ غَلِطَ فِي اجْتِهَادِهِ. (2/598)
ما رايك يا اخى المسلم ؟
ان ابا هريرة عين نفسه وصيا على الاسلام و السنة فهو يروى ما يراه مناسبا و يخفى ما يراه مناسبا حفظا للبلعوم و ليس للاسلام
امثل هذا يجوز ان ناخذ منه ديننا .
فلنتابع ما جاء فى سير اعلام النبلاء :
سَعِيْدُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ: عَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيْدَ، سَمِعَ عُمَرَ يَقُوْلُ لأَبِي هُرَيْرَةَ:
لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيْثَ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ.
وَقَالَ لِكَعْبٍ: لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيْثَ، أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ. (2/601)
يَحْيَى بنُ أَيُّوْبَ: عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ:
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُوْلُ: إِنِّي لأُحَدِّثُ أَحَادِيْثَ، لَوْ تَكَلَّمْتُ بِهَا فِي زَمَنِ عُمَرَ، لَشَجَّ رَأْسِي.(8/23)
قُلْتُ: هَكَذَا هُوَ كَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُوْلُ: أَقِلُّوا الحَدِيْثَ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَزَجَرَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ بَثِّ الحَدِيْثِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ لِعُمَرَ وَلِغَيْرِهِ
، فَبِاللهِ عَلَيْكَ إِذَا كَانَ الإِكْثَارُ مِنَ الحَدِيْثِ فِي دَوْلَةِ عُمَرَ كَانُوا يُمْنَعُوْنَ مِنْهُ مَعَ صِدْقِهِمْ، وَعَدَالَتِهِمْ، وَعَدَمِ الأَسَانِيْدِ، بَلْ هُوَ غَضٌّ لَمْ يُشَبْ، فَمَا ظَنُّكَ بِالإِكْثَارِ مِنْ رِوَايَةِ الغَرَائِبِ وَالمَنَاكِيْرِ فِي زَمَانِنَا، مَعَ طُوْلِ الأَسَانِيْدِ، وَكَثْرَةِ الوَهْمِ وَالغَلَطِ، فَبِالحَرِيِّ أَنْ نَزْجُرَ القَوْمَ عَنْهُ، فَيَا لَيْتَهُمْ يَقْتَصِرُوْنَ عَلَى رِوَايَةِ الغَرِيْبِ وَالضَعِيْفِ، بَلْ يَرْوُوْنَ -وَاللهِ- المَوْضُوْعَاتِ، وَالأَبَاطِيْلَ، وَالمُسْتَحِيْلَ فِي الأُصُوْلِ وَالفُرُوْعِ وَالمَلاَحِمِ وَالزُّهْدِ - نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ -. (2/602)
استدراك :مرة اخرى اخى المسلم انظر الى حرص القوم على اخفاء الحديث
هل رسول الله امرهم ان يخفوا سنته و ان لا يبينوها ؟؟مم كانوا يخافون ؟؟؟
هل من مثل هؤلاء ناخذ ديننا ؟؟؟؟
نتابع :
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عِيْسَى، أَخْبَرَنَا يَزِيْدُ بنُ يُوْسُفَ، عَنْ صَالِحِ بنِ أَبِي الأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
مَا كُنَّا نَسْتَطِيْعُ أَنْ نَقُوْلَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى قُبِضَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كُنَّا نَخَافُ السِّيَاطَ. (2/603)
و اما فى جزء اخر من اعلام النبلاء:
سِيَرُ أَعْلاَمِ النُّبَلاَءِ، الإصدار 2.02 - للإمام الذَّهبي(8/24)
المُجَلَّدُ العَاشِرُ >> الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ >> 209- نُعَيْمُ بنُ حَمَّادِ بنِ مُعَاوِيَةَ الخُزَاعِيُّ (خ، د، ت، ق)
وَقَدْ صحَّ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَتَمَ حَدِيْثاً كَثِيْراً مِمَّا لاَ يَحْتَاجُهُ المُسْلِمُ فِي دِيْنِهِ، وَكَانَ يَقُوْلُ: لَوْ بَثَثْتُهُ فِيْكُم، لَقُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ.
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ كِتْمَانِ العِلْمِ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ العِلْمَ الوَاجِبَ يَجِبُ بَثُّهُ وَنَشْرُهُ، وَيَجِبُ عَلَى الأُمَّةِ حِفْظُهُ، وَالعِلْمُ الَّذِي فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ مِمَّا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ يَتَعَيَّنُ نَقْلُهُ وَيتَأَكَّدُ نَشْرُهُ، وَيَنْبَغِي لِلأُمَّةِ نَقْلُهُ، وَالعِلْمُ المُبَاحُ لاَ يَجِبُ بَثُّهُ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِيْهِ إِلاَّ خَوَاصُّ العُلَمَاءِ.
استدراك:كتم حديثا كثيرا مما لا يحتاجه المسلم :
ما معنى ذلك؟؟؟؟؟؟
هل كان رسول الله يقول احاديثا لا يحتاجها المسلم ؟؟؟؟
هل ابو هريرة يحدد للرسول ما يحتاجه المسلم من احاديثه و ما لا يحتاجه ؟؟؟؟؟
امن هؤلاء ناخذ ديننا
لا حول و لا قوة الا بالله
اخى المسلم :عليك بالعترة الطاهرة من ال بيت الرسول و كتاب الله فهما لن يفترقا حتى يردا على رسول الله الحوض .
اللهم صلى على محمد و ال محمد لا فتى الا على و لا سيف الا ذو الفقار
أبا هريرة لا يكتم العلم النافع الضروري وما كتمه أبو هريرة لم يكن من هذا ، بل كان بعض أخبار الفتن والملاحم وما سيقع للناس مما لا يتوقف عليه شيئ من أصول الدين أو فروعه .
و أما قول أبي هريرة : ( لو حدثتكم بكل ما في جوفي لرميتموني بالبعر أو الأحجار ..) .
استمع في حفظ وعلوم أهل البيت !!(8/25)
ونقل علامتهم آية الله ملا زين الكلبايكاني في (كتابه أنوار الولاية ص372) : وعن أمير المؤمنين (ع) مشيراً إلى صدره: أن هاهنا لعلوماً جمة لو وجدت لها حملة . وقال (ع) أيضاً ما معناه: إنّ في صدري علماً لو أبرزته لكم لاضطربتم كاضطراب الحبل الطويل في بئر الماء العميق . وعنه (ع) أيضاً: لو فسّرت لكم قوله تعالى{ اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } ( الطلاق الآية 12 ) لرجمتموني.
وقال سيد الساجدين (ع) :
إني لأكتم من علمي جواهره كي لا يرى الحق ذو جهل فيقتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين و أوصى قبله الحسنا
يارب جوهر علم أو أبوح به لقيل فيّ أنت ممن يعبد الوثنا
ولا استحلّ رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا .
فيمكن أن نجيبه بنفس العقلية فهذا أحد رواتكم الذين أثنى عليهم الموسوي في مراجعاته الملفقة يحلف دون حياء أنه لو حدث بكلّما سمعه من جعفر الصادق لانتفخت ذكور!! الرجال على الخشب ! .
فقد روى الكشي في رجاله بإسناده عن محمد بن زياد أبي عمير عن علي بن عطية عن زرارة قال : والله لو حدثت بكلّما سمعته من أبي عبد الله(ع) لأنتفخت ذكور الرجال على الخشب ( رجال الكشي ص134 ترجمة زرارة بن أعين ).
أما سعة حفظ أبي هريرة فلدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له ..
فقد جاء في ( البحار 18/13) " باب معجزات النبي في استجابة دعائه" نقلا عن الخرائج : أن أبا هريرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أسمع منك الحديث الكثير أنساه ، قال : أبسط رداك قال : فبسطته فوضع يده فيه ثم قال : ضمّه فضممته، فما نسيت كثيرا بعده .
لم يكتم أبو هريرة الحديث وحدثه ، بل إن أحد رواتكم وأعظمهم يدفن الأحاديث ؟!!!!!!(8/26)
روى الكشي عن جابر الجعفي قال حدثني أبو جعفر (ع) بسبعين ألف حديث!! لم أحدث بها أحداً قط ولا أحدث بها أحد أبدا ، قال جابر فقلت لأبي جعفر (ع) جعلت فداك أنك قد حملتني وقراً عظيماً بما حدثتني به من سرّكم!! الذي لا أحدث به أحداً!! ، فربما جاش في صدري حتى يأخذني منه الجنون !! قال يا جابر فإذا كان ذلك فاخرج إلى الجبانة فاحفر حفيرة ودل رأسك ثم قل حدثني محمد بن علي بكذا وكذا (رجال الكشي ص194 ).
وأخرج الكشي بإسناده عن جابر الجعفي قال : رويت خمسين ألف حديث ما سمعه أحد مني ( الكشي ص194 ).
قال الحر العاملي في خاتمة الوسائل ما نصه : " أنه روى سبعين ألف حديث!! عن الباقر وروى مائة وأربعين ألف حديث!! ، والظاهر أنه ما روى أحد بطريق المشافهة عن الأئمة أكثر مما روى جابر ( خاتمة الوسائل 20/151 )
================
استنكار عبد الحسين حديث" سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم "
10- (ص 92) أورد عبد الحسين حديث :"سهو النبي عن ركعتين" : أخرج الشيخان فيما جاء في السهو من صحيحيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال:َ صَلَّى النَّبِيُّ إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ وَأَكْثَرُ ظَنِّي الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟ فَقَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ! قَال:َ بَلَى قَدْ نَسِيتَ! فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ! ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّر!َ فَسَجَدَ الحديث .(8/27)
ثم أخذ المؤلف يصول ويجول ويشكك في الحديث قائلاً ( أحدها أن مثل هذا السهو الفاحش لا يكون ممن فرّغ للصلاة شيئاً من قلبه أو أقبل عليها بشيئ من لبه، وإنما يكون من الساهين عن صلاتهم، اللاّهين عن مناجاتهم، وحاشا أنبياء الله من أحوال الغافلين ، وتقدّسوا عن أقوال الجاهلين، فإن أنبياء الله عزوجل ولا سيما سيدهم وخاتمهم أفضل مما يظنون على أنه لم يبلغنا مثل هذا السهو عن أحد ولا أظن وقوعه إلا ممن بمثل حال القائل :
أصلّي فما أدري إذا ما ذكرتها أئثنتين صليت الضحى أم ثمانياّ ؟
وأما وسيد النبيين وتقلبه في الساجدين ، إن مثل هذا السهو لو صدر منّي لأستولى عليّ الحياة وأخذني الخجل واستخف المؤتمون بي وبعبادتي ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء الله أبداً ...) الخ .(8/28)
قلت: أولاً: أن القرآن دلّ على نسيان الأنبياء في مواضع كثيرة في القرآن الكريم. يقول الله تعالىلنبيه الكريم { سَنُقْرِئُكَ فَلا نَنسَى} [ الأعلى /6]، وقال عزوجل : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُضُونَ فىِ ءَايَتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُضُوا فىِ حَدِيثٍ غِيْرِهِ وَإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطنُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوم الظَّلِمِينَ } ،[ الأنعام 68 ] وقال عزوجل : { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِينِ رَبّيِ لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف /24 ] . وقال عزوجل : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَهُ لآ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بينِهِمَا نَسِيَا حُوتهُمَا فَاتخَذَ سَبِيلَهُ فيِ الْبَحْرِ سَرَبا فلَمَّا جاوَزَا قالَ لِفَتَهُ ءَاتنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرءَيْتَ إِذْ أَوَينَا إِلَى الصّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَنِيهُ إِلاّ الشَّيْطَنُ أَنْ أَذْكُرْهُ } [الكهف /60-63] ، ومثل هذا كثير في القرآن الكريم .
ثانياً : أن الحديث رواه غير أبي هريرة كابن مسعود وعمران رضي الله عنهم .
وأما إنكار عبد الحسين سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهذا من مذهب الغلاة الذين ينفون السهو.
وسوف أثبت لهذا المؤلف وغيره أن إنكار السهو من إمامه الذي يعتقد أنهم لا يخطئون ولا ينسون وأنهم حجج الله على خلقه .
وعن أبي صلت الهروي قال: قلت للرضا (ع) إن في سواد الكوفة قوما يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقع عليه السهو في صلاته ، فقال: كذبوا لعنهم الله إن الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلاهو .(8/29)
وقال شيخهم الصدوق : ( ليس سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم كسهونا لأن سهوه من الله عزوجل اسهاه ليعلم أنه بشر فلا يتخذ معبوداً دونه وسهونا من الشيطان ...) .
والحقيقة أن الشيعة اختلفت عقائدها في " مسألة سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ، فكانت عقيدتهم في أول الأمر في عصر القمي الملقب عندهم بالصدوق - كما مرّ قوله - وشيخه محمد بن الحسن بن الوليد كان عقيدتهما وعقيدة جمهور الشيعة أن أول درجة في الغلو هو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانوا يعدون من ينفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشيعة الغلاة !!وأظن أن عبد الحسين وشيعته من الغلاة كما هو واضح .
بل اعتبر القمي أن الذين ينفون السهو عن الأئمة من المفوضة لعنهم الله على حد تعبيره ، وأنهم ليسوا من الشيعة في نظرهم .
يقول شيخهم ابن بابويه الملقب بالصدوق في "من لا يحضرة الفقيه"(1/234): (أن الغلاة والمفوضة لعنهم الله ينكرون سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وذكر أن شيخه بن الوليد يقول:( أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو جاز أن ترد الأخبار الواردة في هذا المعني لجاز أن نرد جميع الأخبار و في ردها إبطال الدين و الشريعة، وأنا احتسب الأجر في تصنيف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرد على منكريه ) .
قلت: ولكن تبدّلت الحال بعد ذلك وأصبح نفي السهو عن الأئمة وليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ضرورات مذهب التشيع !!!
يقول شيخهم المامقاني وهو في كتابه" تنقيح المقال" ( 3/ 240):( أن نفي السهو عن الأئمة أصبح من ضرورات المذهب الشيعي ) .(8/30)
ونقول: مع أنهم نقلوا بأنفسهم في دواوينهم الحديثية أخباراً عن أئمتهم تنفي عن أئمتهم السهو والنسيان .ومن يتتبع أخبارهم وأحاديثهم يجد مجموعة كبيرة منها تناقض دعواهم في عدم سهو أئمتهم وقد احتار فخرهم المجلسي بوجود كثير من الأخبار في كتبهم تناقض دعوى نفي السهو عن الأئمة، ولذا اعترف المجلسي فقال في "البحار" (25/351) ما نصه: ( المسألة في غاية الإشكال لدلالة كثير من الأخبار والآيات على صدور السهو عنهم وإطباق الأصحاب إلا من شذ منهم على عدم الجواز ) .
ثالثاً: حديث السهو لم ينفرد به أبا هريرة رضي الله عنه ، بل وافقه وشاركه عظماء وسادات من علماء أهل البيت رضي الله عنهم ، وأثبته علماء القوم في مصادرهم .
ففي" البحار"( 17/101): عن علي(ع) قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر خمس ركعات، ثم انفتل، فقال له بعض القوم: يا رسول الله هل زيد في الصلاة شيء؟ فقال: وما ذاك ؟ قال: صلّيت بنا خمس ركعات، قال: فاستقبل القبلة وكبر وهو جالس، ثم سجد سجدتين ليس فيهما قراءة ولا ركوع ثم سلّم، وكان يقول: هما المرغمتان .
وعن الباقر(ع) قال:صلّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة وجهر فيها بالقراءة فلما انصرف قال لأصحابه : هل أسقطت شيئاً في القرآن ؟ قال: فسكت القوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أفيكم أبي بن كعب ؟ فقالوا: نعم، فقال: هل أسقطت فيها شيء ؟ قال: نعم يا رسول الله أنه كان كذا وكذا00الحديث .
وفي " الوسائل"( 5/307): عن الحارث بن المغيرة النضري قال : قلت لأبي عبدالله(ع): إنما صلّينا المغرب فسها الإمام فسلّم في الركعتين فأعدنا الصلاة ، فقال : ولم أعدتم ، أليس قد انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ركعتين فأتم بركعتين ؟ ألا أتممتم .(8/31)
فأين قول عبد الحسين عندما قال:(... إن مثل هذا السهو لو صدر منّي لأستولى عليّ الحياة وأخذني الخجل واستخف المؤتمون بي وبعبادتي ومثل هذا لا يجوز على أنبياء الله أبداً ... .
أصلّي فما أدري إذا ما ذكرتها أئثنتين صليت الضحى أم ثمانياّ ) ؟
فما رأي عبد الحسين فيما رواه أئمته رضي الله عنهم في اثبات سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟!! و هل يتهم أئمته كما اتهم أبو هريرة رضي الله عنه ؟!!
استنكار عبد الحسين حديث" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلد ويغضب
11- وفي (ص 97) أورد عبد الحسين حديث :"كان النبي يؤذي ويجلد ويسب ويلعن من لا يستحق" :أخرج الشيخان عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعاً: اللَّهُمَّ إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ وَإِنِّي قَدِ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ الحديث.
ثم أخذ يصول ويجول مفنداً الحديث بقوله :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الأنبياء لا يجوز عليهم أن يؤذوا أو يجلدوا أو يسبوا أو يلعنوا من لا يستحق ، سواء أكان ذلك في حال الرضا أم في حال الغضب ، بلى لا يمكن أن يغضبوا بغير حق ...) .
قلت : إن هذا الحديث قد رواه غير أبو هريرة ..فقد رواه جابر بن عبد الله وعائشة وأنس ومن أهل البيت رضي الله عنهم .
وفسوف نورد أحاديث أصحاب الحجج و العصمة من أهل البيت كما يعتقد .
فعن علا عن محمد عن أبي جعفر(ع) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما أنا بشر أغضب وأرضى، وأيما مؤمن حرمته وأقصيته او دعوت عليه فاجعله كفّارة وطهوراً ، وأيما كافر قربته أو حبوته أو أعطيته أو دعوت له ولا يكون لها أهلا فاجعل ذلك عليه عذاباً ووبالا .(8/32)
قلت: وإذا كان سائر الأنبياء لا يجوز عليهم أن يؤذوا أو يجلدوا أو يسبوا أو يلعنوا من لا يستحق ، سواء أكان ذلك في حال الرضا أم في حال الغضب ، فكيف يروي إمامك المعصوم ذلك !
فقد روى الكليني عن أبي عبدالله(ع) قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفد من اليمن وفيهم رجل كان أعظمهم كلاما وأشدهم استقصاء في محاجة النبي فغضب النبي حتى التوى عرق الغضب بين عينيه وتربد وجهه وأطرق إلى الأرض فأتاه جبريل (ع) فقال: ربك يقرئك السلام ويقول لك: هذا رجل سخي يطعم الطعام فسكن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغضب ورفع رأسه وقال له: لولا أن جبريل أخبرني عن الله عزوجل إنك سخي تطعم الطعام لشردت بك وجعلت حديثا لمن خلفك فقال له الرجل : وإن ربك يحب السخاء ؟ فقال: نعم فقال: إني اشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله والذي بعثك بالحق لارددت من مالي أحدا .
استنكار عبد الحسين حديث" عروض الشيطان لرسول الله وهو في الصلاة "
12- وفي (ص104) أورد عبد الحسين حديث :"عروض الشيطان لرسول الله وهو في الصلاة:" أخرج الشيخان بالإسناد إلى أبي هُرَيْرَةَ قَالَ:صلّى رَسُولُ اللَّهِ صلاة فقال(ص): إِنَّ الشيطان عرض لي فشدّ عَلَيَّ ِيَقْطَعَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ فأمْكَنَنِي الله مِنْهُ فَذَعَتُّهُ - أي فخنقته - ولَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَوثقه إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا فتَنْظُرُوا إِلَيْهِ فذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي }.(8/33)
ثم أخذ يصول ويجول ويشكك في هذا الحديث بقوله :( وفيه أن أنبياء الله وخيرته من خلقه يجب أن يكونوا في نجوة من هذا وفي منتزح فإنه ينافي عصمتهم ويضع من قدرهم ومعاذ الله أن يشد الشيطان عليهم أو يعرض لهم أو تسوّل له نفسه الطمع فيهم... إلى أن قال في (ص113) فليسمح لي الشيخان وغيرهما ممن يعتبرون حديث ابي هريرة لأسألهم هل للشيطان جسم يشد وثاقه ويربط بالسارية حتى يصبح وتراه الناس بأعينها أسيراً مكبلا ...؟ الخ ) .
قلت : لقد عقد فخرك المجلسي في بحاره (63/297 ) في كتاب السماء والعالم باباً سماه " ذكر إبليس وقصصه" وأود هذا الحديث الذي أنكرته من طريق أبي هريرة .
كما عقد فخرك أيضاً في بحاره في كتاب النبوة باباً سماه " في معنى قوله: {وَهَبْ ليِ مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابْ }" وأورد فيه هذا الحديث من رواية الشيخين والذي أنكرته من الصحيحين أيها العلامة !
فانظروا إلى مدى جهل " عبد الحسين " يثبت فخره حديث أبي هريرة في حين ينكره على رواية الإسلام أبي هريرة رضي الله عنه ، فما هذا الحقد والتضليل ؟ !!
كما وأن فخره أيضاً عقد في بحاره (18/82 )كتاب في كتاب تاريخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم باباً سماه " معجزاته في استيلائه على الجن والشياطين " وأورد فيه هذا الحديث وهو من طريق ابن مسعود قال المجلسي: " وقال القاضي في الشفا: رأى عبدالله بن مسعود الجن ليلة الجن وسمع لامهم وشبههم برجال الزطّ وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :إن شيطاناً تفلت البارحة ليقطع عليّ صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد .. .(8/34)
وأما من طريق إمامك المعصوم ، فقد روى الحميري في قرب الاسناد عن أبي جميلة عن أبي عبدالله(ع) في قول سليمان: { وَهَبْ ليِ مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابْ } قلت : فاعطيه الذي دعا به ؟ قال: نعم ، ولم يعط بعده إنسان
ما اعطي نبي الله عليه السلام من غلبة الشيطان فخنقه إلى اسطوانة حتى أصاب بلسانه يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" لولا ما دعا به سليمان عليه السلام لأريتكموه " .
فدل هذا الحديث الذي رواه جعفر الصادق على مدى جهلك بأحاديث أهل البيت رضي الله عنهم .
وأما قوله :( فليسمح لي الشيخان وغيرهما ممن يعتبرون حديث أبي هريرة لأسألهم هل للشيطان جسم يشد وثاقه ويربط بالسارية حتى يصبح وتراه الناس بأعينها أسيراً مكبلا ؟ ) .
أقول: عبد الحسين ينكر ويتعجب من رواية أبي هريرة رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمسك الشيطان وربطه ..، ولكن لا يتعجب إن إمامه المعصوم ! أمسك بإبليس وحاول أن يقتله ، ولكن حينما اعترف ابليس إنه محب يؤمن بالولاية !! تركه وخلى سبيله !
ففي الأنوار النعمانية (2/168 ): روى عن الصدوق بإسناده إلى علي(ع) قال: قد كنت جالساً عند الكعبة فإذا شيخ محدودب، فقال يا رسول الله أدع لي بالمغفرة ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاب سعيك يا شيخ وضل عملك، فلما ولّى الشيخ سألته عنه ، فقال ذلك اللعين ابليس قال علي عدوت خلفه حتى لحقته وصرعته إلى الأرض وجلست على صدره !! ووضعت يدي على حلقه لأخنقه !! ، فقال لا تفعل يا أبا الحسن فإني من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ، والله يا علي أني لأحبك جداً وما أبغضك !! أحد إلاّ شركت أباه في أمه فصار ولد زنا فضحكت !! وخلّيت سبيله .
علي رضي الله عنه يقتل ثمانين ألف من الجن !!(8/35)
عبد الحسين يستنكر ويتعجب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وكذلك من معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثابت عند الفريقين .
ولكن هل تعجب من معجزة ومن حديث إمامه المعصوم؟!! وهل استنكر ذلك المعجزة الصادرة من إمامه المعصوم حسب اعتقاده؟! إليك الرواية بإختصار .
أورد هاشم البحراني في كتابه " مدينة معاجز" باب معاجز الإمام أمير المؤمنين(ع) (1/147-151 حديث 88) باب " التاسع والعشرون خبر عطرفة الجنّي " .
السيد المرتضى " في عيون المعجزات" قال: ومن دلائل أمير المؤمنين ومعجزاته وخبره مع عطرفة الجنّي وهو خبر معروف عند علماء الشيعة، وقد وجدت هنا الخبر في كتاب الأنوار، وفي حديث طويل عن زاذان ، عن سلمان، قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات يومٍ جالساً بالأبطح وعنده جماعة من أصحابه وهو مقبل علينا بالحديث، إذ نظرنا إلى زوبعة قد ارتفعت، فأثارت الغبار، وما زالت تدنو والغبار يعلو إلى أن وقفت بحذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم برز منها شخص كان فيها، ثم قال: يا رسول الله إني وافد قومي، وقد استجرنا بك فاجرنا، وابعث معي من قبلك من يشرف على قومنا ، فإن بعضهم قد بغى علينا، ليحكم بيننا وبينهم بحكم الله وكتابه وخذ عليّ العهود والمواثيق ....فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنت ومن قومك ؟ قال: أنا عطرفة ابن شمراخ، أحد بن نجاح وأنا وجماعة من أهلي كنّا نسترق السمع، فلما منعنا من ذلك آمنّا، ولما بعثك الله نبياً آمنّا بك .... وقد خالفنا بعض القوم ...فوقع بيننا وبينهم الخلاف، وهم أكثر منّا عدداً وقوة ... فابعث معي من يحكم بيننا وبينهم بالحق .... ثم استدعى - أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم - بعلي (ع) وقال له : يا علي سِر مع أخينا عطرفة ، وتشرف على قومه، وتنظر إلى ما هم عليه ، وتحكم بينهم بالحق - فقام أمير المؤمنين(ع) مع عطرفة وقد تقلّد سيفه ، قال سلمان رضي الله عنه فتبعتهما إلى أن صار إلى(8/36)
الوادي فوقفت أنظر إليهما، فانشقّت الأرض ودخلا فيها!! - إلى أن قال - وقد انشق الصفا!! وطلع أمير المؤمنين(ع) وسيفه يقطر دماً !!! ومعه عطرفة .... قال له - أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ما الذي حبسك عنّي إلى هذا الوقت؟ فقال (ع): صِرتُ إلى جنٍ كثيرٍ قد بغوا علىعطرفة وقومه من المنافقين فدعوتهم إلى ثلاث خصال فأبوا عليّ ... فوضعت سيفي فيهم وقتلت منهم زهاء ثمانين ألفاً !!! ... الخ .
وفي (2/284 رواية 553) " الذي تخبّطه الشيطان لمّا ادّعى ما قاله (ع) " .
فعن أبي يحيى قال: شهدت علياً (ع) يقول على منبر الكوفة: أنا عبد الله وأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال- فلم يبرح مكانه حتى تخبّطه الشيطان، فجرّ برجله إلى باب المسجد .
ففي (ص309 رواية 573) " أنّه (ع) هرب عنه إبليس يوم بدر " .
وخلاصة الحديث: قال ابن مسعود: والله ما هرب إبليس إلا حين رأى أمير المؤمنين(ع) فخاف أن يأخذه ويستأسره ويعرفه الناس فهرب .
وسوف أحيلك أيها القارئ إلى أبواب وعنواين معاجز أئمتهم بإختصار .
ففي (ص21 رواية 365) " أنّه (ع) كان معه جبرائيل وميكائيل(ع) حين تعرض له إبليس، وأنّه (ع) قتل ياغوث " .
وفي(ص446 رواية 672) " أنّه (ع) ولّى أربعين ألف ملك وقتل أربعين ألف عفريت " .
وفي (ص 445 رواية 671) " مخافة الجنّي منه (ع) " .
فليسمح لي القمي والمجلسي وغيرهما ممن يعتبرون حديث أهل البيت كما يزعمون لأسألهما هل للشيطان والجن جسم لكي يصرعه و يجلس على صدره ويضع يديه في حلقه ليخنقه أو يقتلهم؟!، والعجيب أن هذا المؤلف أنكر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه المعجزة ، ولم ينكر على إمامه فاعتبروا يا أولي الألباب !!
استنكار عبد الحسين حديث" نوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الصبح(8/37)
13- وفي (ص 114) أورد كعادته حديث :"نوم النبي عن صلاة الصبح": أخرج الشيخان بالإسناد إلى أَبِي هُرَيْرَةَ واللفظ لمسلم قَالَ: عَرَّسْنَا مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَره الشَّيْطَانُ، قَالَ: أَبو هُرَيْرَةَ: فَفَعَلْنَا ثُمَّ دَعَا بِالْمَاءِ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْغَدَاةَ
ثم أخذ عبد الحسين يدلس ويصول ويجول كعادته مفنداً هذا الحديث وملخصه: ( وهذا مما يبرأ منه هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ...أتراه صلى الله عليه وسلم يحض الناس على الصلاة هذا الحض ، ويهتم بصلاة الفجر هذا الاهتمام ويهدد بالتحريق !! على من لا يخرج إليها ثم ينام عنها ؟ حاشا لله ومعاذ الله أن يكون كذلك .....وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومئذ في جيش مؤلف من ألف وستمائة رجل ..فالعادة تأبى أن يناموا بأجمعهم ..ولعل هذا من خوارق أبي هريرة !.... كلمة تقضّ مضاجع المؤمنين وتقلقهم فلا ينامون بعدها عن نافلة الليل لو أنصفوا أنفسهم .... وما كان وهو سيد الحكماء ليندد بمن نام عن صلاة الليل هذا التنديد ثم ينام هو بمنظر من أصحابه عن صلاة الصبح، سبحانك هذا بهتان عظيم...وقد عقد البخاري في صحيحه باباً لتهجده في الليل وباباً لطول سجوده في صلاة الليل.... هذا دأبه في قيام الليل، فما ظنك به في أقامة الفرائض الخمس وهي أحد الأركان التي بني الإسلام عليها أيجوز عليه أن ينام عليها ؟! معاذ الله وحاشا لله...).
وقال في حاشيته (ص119)مانصه:( وهذا الحديث ممّا انفرد به أبو هريرة فلم يثبت عن غيره،ولكن الجمهور أخذوا به اعتمادا على أبي هريرة كما هي طريقتهم ....)(8/38)
قلت: سبحان الله كيف بلغه الجهل، أليس تزعم أن الأئمة حجج الله على خلقه، فلماذا لا تسألهم هذا السؤال ؟! ونحن لا نسعنا إلا أن نورد أجوبة هؤلاء الذين اعتقد فيهم العصمة لكي يتبين مدى جهله وتدلسيه وتشكيكه وطعنه حول راوية الإسلام رضي الله عنه ومرويًاته .
وإليك روايات أهل البيت حجج الله على خلقه كما يزعمون . ويكون ذلك حسرة على عبد الحسين، وتكون عبرة لأتباعه، إلى يوم القيامة، وأن لا يطاولوا على أبي هريرة رضي الله عنه بالتكذيب والتشكيك والطعن فيه رضي الله عنه .
فعن سماعة ابن مهران قال: سألته عن رجل نسي أن يصلّي الصبح حتى طلعت الشمس، قال:يصليها حين يذكرها ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رقد عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ثم صلاها حين استيقظ ولكنه تنحى عن مكانه ذلك ثم صلّى .
و عن حمزة بن الطيار، عن أبي عبدالله (ع) قال : إن الله أمر بالصلاة والصوم فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة فقال أنا أنيمك وأنا أوقظك فإذا قمت فصل ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون ليس كما يقولون : إذا نام عنها هلك... .
وفي الفقيه عن سعيد الأعرج قال: سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: إن الله تبارك وتعالى أنام رسول الله عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ، ثم قام فبدأ فصلّى الركعتين اللتين قبل الفجر، ثم صلّى الفجر وأسهاه في صلاته ، فسلّم في الركعتين ، ثم وصف ما قاله ذو الشمالين ، وإنما فعل ذلك به رحمة لهذه الأمة لئلا يعير الرجل المسلم إذا هو نام عن صلاته أو سها فيها فقال: قد أصاب ذلك رسول الله .(8/39)
فلماذا لا تكذّب ولا تستغرب ما يروي الكليني والقمي والطوسي وغيرهم وأثبت لهم نوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق الأئمة(ع) ؟،لم تجاهلت هذه الروايات أيها المدلس؟!لم أعرضت عنها في بحثك العلمي! وذوقك الفني ! أنسيت أنك تقول:( بأنك بالغت في الفحص وأغرقت في التنقيب ) فبالله عليك متى كان التضليل بحثاً علمياً ؟ ومتى كان الاعراض عن الحق ذوقاً فنياً ؟!، ومن هنا ترى أيها القارئ الكريم الفرق بين العلماء و أصحاب الأهواء والبدع !!
وفي الكافي عن سعيد الأعرج قال: سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصبح والله عزوجل أنامه حتى طلعت الشمس عليه، وكان ذلك رحمة من ربك للناس ، ألا ترى لو أن رجلا نام حتى طلعت الشمس لعيره الناس وقالوا: لا تتورع لصلاتك ، فصارت أسوة وسنة فإن قال رجل لرجل : نمت عن الصلاة ، قال: قد نام رسول فصارت أسوة ورحمة ، رحم الله سبحانه بها هذه الأمة .
فهل علمت " يا عبدالحسين " لماذا نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة ؟! ومن الحكمة من ذلك ، أم مازلت في جهلك ؟! فإن لم تعلم فسيأتي شرح ذلك من كلام الشهيد أيضاً .(8/40)
وهذا فخرك المجلسي يثب هذه الرواية في بحاره عن الكازروني في حوادث سنة سبع: وفيها نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس بالإسناد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قفل من غزوة خيبر صار حتى إذا أدركه الكرى عرس وقال لبلال: أكلأ لنا الليل ، فصلّى بلال ما قدر له ونام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما تقارب لفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر فغلبت بلالا عينه وهو مستند إلى راحتله ، فلم يستقيظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا بلال ولا أحد من الصحابة حتى ضربتهم الشمس وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولهم استيقاظا ففزع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أي بلال ، فقال: بلال : أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ، بأبي أنت يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اقتادوا ، فاقتادوا رواحلهم شيئا ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمر بلالا فأقام الصلاة وصلّى بهم الصبح فلما قضى الصلاة قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله قال : {أقم الصلاة لذكرى }.
ثم قال المجلسي: أقول: قد مضى الكلام فيه في باب سهوه .(8/41)
و نقل المجلسي عن الشهيد في الذكرى بسنده الصحيح !! عن زرارة عن أبي جعفر(ع) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا دخل وقت صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة حتى يبدأ بالمكتوبة قال: فقدمت الكوفة فأخبرت الحكم بن عتيبة وأصحابه فقبلوا ذلك مني فلما كان في القابل لقيت أبا جعفر (ع) فحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرس في بعض أسفاره فقال: من يكلؤنا ؟ فقال بلال: أنا، فنام بلال وناموا حتى طلعب الشمس فقال: يا بلال ما أرقدك ؟ فقال : يا رسول الله أخذ بنفس الذي أخذ بأنفاسكم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن فأذن فصلّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتي الفجر وأمر أصحابه فصلوا ركعتي الفجر ثم قام فصلّى بهم الصبح ثم قال: من نسي شيئا من الصلاة فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله عزوجل يقول : { وأقم الصلاة لذكرى } قال زرارة: فحملت الحديث إلى الحكم وأصحابه فقال: نقضت حديثك الأول . فقدمت على أبي جعفر(ع) فأخبرته بما قال القوم ، فقال: يا زرارة ألا أخبرتهم أنه قد فات الوقتان جميعاً ، وأن ذلك كان قضاء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال المجلسي في تعليقه على هذا الخبر :( قال الشهيد في هذا الخبر فوائد : منها استحباب أن يكون للقوم حافظ إذا ناموا .) .
ومنها أن الله تعالى أنام نبيه لتعليم أمته، ولئلا يعّير بعض الأمة بذلك، ولم أقف على راد لهذا الخبر ، لتوهم القدح في العصمة .
وذكر المجلسي عن أبي جحيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفره الذي ناموا فيه حتى طلعت الشمس ، ثم قال: إنكم كنتم أمواتا فرد الله إليكم أرواحكم .
فلماذا لا تسأل أئمتك هذه الأسئلة: هل نام الحرس أيضا كما نام المؤذنون ؟(8/42)
ولماذا لا تسألهم : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يومئذ في جيش مؤلف من ألف وستمائة رجل ..فالعادة تأبى أن يناموا بأجمعهم . ولماذا لا تسألهم هذه الأسئلة السخيفة ! ، فهل هذا الحديث من خوارق إمامك المعصوم أيضاً ؟ !
والعجب أن أولياء عبد الحسين يقولون أن الشمس ردت لكي يصلّي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه صلاة العصر التي فاتته عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نائماً في حجر علي رضي الله عنه !!
نسأل الله السلامة في العقل والبعد عن التعصب والضلال!
استنكار واستغراب عبد الحسين "أن بقرة وذئباً يتكلمان بلسان عربي مبين "
14- وفي (ص120) عبد الحسين حديث :"بقرة وذئب يتكلمان بلسان عربي مبين": أخرج الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال:َ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْث! فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تتَكَلَّمُ ، قَالَ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ! قَالَ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ.(8/43)
ثم أخذ يصول ويجول بقوله :( أن أبا هريرة نزوع إلى الغرائب تواق إلى العجائب قد استخفته الى خوارق العادات نزية من الشوق والهيام فتراه طروبا إلى التحدث بما هو فوق النواميس الطبيعية ، كفرار الحجر بثياب موسى ، وكضرب موسى ملك الموت حتى فقأ عينه ، ونزول جراد الذهب على أيوب وأمثال ذلك من المستحيلات عادة
وها هو الآن يحدث بأن بقرة وذئبا يتكلمان بلسان عربي مبين فيفصحان عن عقل وعلم وحكمة الأمر الذي لم يقع أصلا ولا هو واقع قطعا ولن يقع أبدا وسنة الله في خلقه تحيل وقوعه إلا في مقام التحدي والتعجيز حيث يكون آية للنبوة وبرهانا على الاتصال بالله عز سلطانه ومقام الرجل حيث ساق بقرته إلى الحقل وركبها في الطريق لم يكن مقام تحدي واعجاز لتصدر فيه الآيات وخوارق العادات وكذلك مقام راعي الغنم حين عدا الذئب عليه فلا سبيل إلى القول بامكان صحة هذا الحديث عقلا فإن المعجزات وخوارق العادات لا تقع عبثا بإجماع العقلاء ).
.قلت: لقد عقد فخرك المجلسي في بحاره (65/79 )كتاب السماء والعالم باباً سماه "باب الثعلب والأرنب والذئب والأسد " أثبت هذا الحديث الذي أنكرته من طريق أبي هريرة رضي الله عنه من الصحيحين.
فانظروا إلى مدى تدليس هذا العالم الكبير يثبت فخره هذا الحديث في حين ينكره على أبي هريرة ؟ وما بعد الحق إلا الضلال .
كما عقد أيضاً في(19/129 ) كتاب تاريخ نبينا في باب " نزوله المدينة وبناؤه المسجد والبيوت " وأورد فيه حديث أبي هريرة .
قال المجلسي :( وفي هذه السنة تكلم الذئب خارج المدينة ينذر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما روي عن أبي هريرة ) .
نقل أيضاً في(17/394 ) كتاب تاريخ نبينا باب" ما ظهر من إعجازه في الحيوانات" عن فخرك " المفيد " في أماليه بإسناده عن شهر ين حوشب عن أبي سعيد الخدري .(8/44)
وقال المجلسي في البحار( 65/78) نقلا عن ابن عبد البر وغيره : كلّم الذئب من الصحابة ثلاثة : رافع بن عميرة ، وسلمة بن الأكوع ، واهبان بن أوس الأسلمي ، قال : ولذلك تقول العرب : هو كذئب اهبان ، يتعجبون منه ....".
فهذا الحديث ليس من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ، فماذا تقول "يا أيها المؤلف الأمين"؟
فانظروا إلى مدى جهله بأحاديث أهل البيت رضي الله عنهم !!
ثم أن أبا هريرة لم يرو من الأحاديث مثل ما رواه أئمتك من الغرائب والعجائب التي تقشعر لها الأبدان ، فإن كنت تريد الإنكار فأولى أن تنكر على معصومينك لأنهم هم الذين يحبون التحدث مع أصحابهم بما فوق النواميس الطبيعية ، ويكفي في إثبات ذلك الرجوع إلى عناوين الأبواب .
ففي (مدينة معاجز ) (1/151-159 رواية 98)" حديث الجام " .
و(ص255 رواية 161) " إحياء الإسرائيلين الحوتين " .
و(ص266 رواية 169) " كلام الذئب " "كلام الذئبين وسلامهما عليه (ع) .
و(ص 273 رواية 170) " كلام الجمال والثياب " .
و(ص 275 رواية 171) " تسليم الأسد عليه (ع) " .
و(ص 281 رواية 177) " كلام البقرة بإسمه (ع) " .
و(ص282 رواية 178) " كلام الفيلة " .
و(ص 284 رواية 179) " كلام الوزّ " .
و(ص285 رواية 180 ) " كلام الدّراج " .
و(ص 288 رواية 182) " كلام الفرس " .
و(ص297 رواية 184) " إنطاق الجبال والأحجار والأشجار بإسمه (ع) " .
و(ص299 رواية 185) " كلام الحية " .
و(ص398 رواية 262) " كلام النخيل بإسم النبي والوصي " .
و(ص 409 رواية 272) " إنطاق الأسد بالنبي وأمير المؤمنين (ع) " .
و(ص 412 رواية 273) " كلام الجمل بالثناء عليه (ع) " .
و(ص415 رواية 275) " كلام البساط، وكلام السوط، وكلام الحمار" .
و(ص418 رواية 278) " شهادة الباذنجان له (ع) بالولاية " .
و(ص419 رواية 279) " إقرار الأرز له (ع) بالوصية " .
و(ص 442 رواية 297 ) " إنطاق الثياب والخفاف " .(8/45)
وفي (2/20 رواية 20363)" إنطاق الناقة بأنّه (ع) أمير المؤمنين " .
و(ص 28 رواية 371) " إنطاق حوت يونس بولايته و ولاية أهل البيت (ع) "
وفي (5/505 رواية 1021) " كلامه (ع) مع فرسه " .
و(ص528 رواية 1037) " كلام الظبية بفضله (ع) " .
فأين قول عبد الحسين عندما قال: (الأمر الذي لم يقع أصلا ولا هو واقع قطعاً ولن يقع أبداً وسنة الله في خلقه تحيل وقوعه ...) .
فانظر أيها القارئ مدى كذب وتدليس عبد الحسين فيما قاله!!
أقول: إن كنت تجهل بأن بقرة وذئباً يتكلمان بلسان عربي مبين ، وتنكر أن مثل هذا الأمر بأنه "( الأمر الذي لم يقع أصلا ولا هو واقع قطعاً ولن يقع أبداً وسنة الله في خلقه تحيل وقوعه ...) كما تزعم ، فما عليك إلا الاصغاء إلى هذه الأحاديث الملتوية من طرق أهل البيت رضي الله عنهم لكي يتبين للقاريء مدى تدلسيه وتقيته وجهله أمثال هذه الأحاديث في الكتب الأربعة وغيرها.
فعن علي (ع) قال:" كلّم الذئب أبا الاشعث ابن قيس الخزاعي ، فأتاه فطرده مرّة بعد أخرى، ثم قال له في المرّة الرابعة: ما رأيت ذئبا أصفق وجها منك . فقال له الذئب: بل أصفق وجها مني من تولى عن رجل ليس على وجه الأرض أفضل منه، ولا أنور نوراً، ولا أتم بصيرة ولا أتم أمراً ، يملك شرقها وغربها ، يقول: لا إله إلاّ الله، فيتركونه ، ومن أصفق وجها: أنا أم أنت الذي تتولى عن هذا الرجل الكريم ، رسول رب العالمين " .(8/46)
وفي والخرائج : قال أبو عبدالله (ع): إن ثلاثة من البهائم أنطقها الله على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الجمل وكلامه شكوى أربابه وغير ذلك . والذئب فقد جاء إلى النبي فشكا إليه الجوع ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرباب الغنم ، فقال : افرضوا للذئب شيئا فشحوا . فذهب .... وأما البقرة فإنها أذنت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودلت عليه وكانت في نخل لبني سالم من الأنصار، وقالت: يا ذريح أعمل نجيح صائح يصيح بلسان عربي فصيح ،بأن لا إله إلاّ الله رب العالمين ،ومحمد رسول الله سيد النبيين ، وعلي وصيه سيد الوصيين .!! .
استنكار عبد الحسين حديث" تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة "
15- وفي( 143) أورد عبد الحسين حديث :" تركة النبي صدقة": أخرج الشيخان بالإسناد إلى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال:َ لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا ولاَ دِرْهَمًا مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ .
ثم أخذ يفند هذا الحديث بقوله : ( هذا مضمون الحديث الذي انفرد أبو بكر بروايته عن رسول الله محتجا به على عدم توريث الزهراء ....وقد انفرد الخليفة به ولم يروه على عهده احد سواه ، وربما قيل بأنه قد رواه معه مالك بن أوس الحدثان ).
قلت: تصحيحاً لمعلومات لهذا المؤلف، فإن هذا الحديث لم ينفرد به أبو بكر، بل رواه كل من عمر وعلي وسعد بن أبي وقاص والعباس وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وأبي هريرة وعائشة وطلحة وحذيفة وابن عباس رضي الله عنهم .
فهل هذا الحديث انفرد به أبو بكر رضي الله عنه ؟!! أم انفرد به أبو هريرة رضي الله عنه ؟! ، ألا تخجل من اتباع هذا الأسلوب الملتوي ..وبدون خجل أو وجل تحاول أن تقنعنا بصحة ما تدلس !! أين الأمانة العلمية ؟ أين الذوق الفني الذي ادعيته !
ثم إن هذا الحديث رواه ثقتك من طرق أهل البيت !!(8/47)
فقد روى الكليني في "الكافي"(1/34)- باب ثواب العالم والمتعلم- عن حماد بن عيسى عن القداح عن أبي عبد الله(ع) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة... وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر ، وإن العلماء ورثة الأنبياء لم يرثوا ديناراً ولا درهماً ، ولكن ورثوا العلم ، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر.
*************
الفهرس العام
الرد على الجاني علي الميلاني في طعنه في أسانيد روايات صلاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ... 2
بقلم : ماجد بن إبراهيم الصقعبي ... 2
شبهات وردود حول الصديق رضي الله عنه ... 66
موقف علي بن أبي طالب من بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ... 75
مطاعنهم في الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة المكرمين وحضرة الصديقة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم أجمعين ... 78
المطاعن الثالثة في حق ذى النورين وثالث العمرين . ... 99
شبهات وردود أيضا ... 107
فدك بين ابو بكر الصديق والسيدة فاطمة - مناقشة علمية ... 121
موقف فاطمة الزهراء من خلافة أبي بكر ... 128
طعن الرافضي في أبي بكر بخلافه مع فاطمة -رضي الله عنهما- في الميراث والرد عليه ... 138
إتهام الرافضي أبا بكر بالظلم بمنعه فاطمة من الميراث ... 151
شبهة حديث الحوض ... 174
شبهة جيش أسامة ... 177
شبهة قضية فدك ... 178
شبهة رزية يوم الخميس ... 185
شبهة حديث الحوض ... 192
شبهة قضية فدك ... 196
شبهات حول عمر رضي الله عنه ... 210
مطاعن التيجاني في الخليفة الثاني عمر بن الخطاب والرد عليه في ذلك ... 211
خامساً إدعاء التيجاني على عمر بالجهل والردّ عليه في ذلك: ... 218
سادساً: الرد على التيجاني بادعائه أن عمر يشهد على نفسه: ... 236
سابعاً موقفه من عمر بن الخطاب في مبحث محاورة مع عالم والرد عليه في ذلك: ... 238(8/48)
ثامناً الرد على التيجاني في موقفه من عمر في أمر الخلافة: ... 242
زعمهم أن عمر رضي الله عنه يجتهد في مقابل النصوص ... 244
رزية الخميس ... 251
شبهات وردود منوعة ... 254
عمر رضي الله عنه ورزية الخميس ... 265
الرد على كذب الشيعة ان سيدنا عمر انهزم في غزوة حنين ... 276
تفنيد أكاذيب قصة الهجوم على بيت فاطمة رضي الله عنها دمشقية ... 287
شبهات حول عصر الصحابة (7) : هل أمر الفاروق رضي الله عنه بقتل بعض أهل الشورى؟! ... 295
إلقام الحجر لمن طعن في نسب عمر ... 298
شبهات حول عثمان رضي الله عنه ... 319
مبحث مطاعن التيجاني في الخليفة الثالث عثمان بن عفان والرد عليه في ذلك ... 320
شبهات وردود حول عثمان رضي الله عنه ... 333
حقيقة تولية عثمان رضي الله عنه أقاربه ... 344
مطاعن الشيعة في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والرد عليها ... 349
مبحث مطاعن التيجاني في أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر والرد عليه في ذلك ... 349
موقف أم المؤمنين عائشة من مقتل عثمان بن عفان ... 369
ماذا فعلت عائشة رضي الله عنها عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ... 375
مطاعن الشيعة في طلحة والزبير رضي الله عنهما والرد عليها ... 379
مبحث مطاعن التيجاني في طلحة والزبير والرد عليه في ذلك ... 379
مبحث مطاعن التيجاني في معاوية بن أبي سفيان والرد عليه في ذلك: ... 381
ثانياً ادعاء التيجاني على معاوية بأنه أمر بسبّ عليّ، وأنه ليس من كتبة الوحي والرد عليه في ذلك: ... 385
خامساً: الرد على فهم التيجاني السقيم لأحداث الفتنة بين معاوية وعلي: ... 391
سادساً: إدعاء التيجاني أن معاوية سم الحسن والرد عليه في ذلك: ... 397
سابعا: ادعاء التيجاني على معاوية أنه حوّل الخلافة من الشورى إلى ملكية قيصرية والرد عليه في ذلك: ... 398
هل كان معاوية يتدين بسب على رضى الله عنهما ؟ ... 401
الرد على شبهة ((ياعمار تقتلك الفئة الباغية)) ... 408(8/49)
شبهات وأباطيل حول معاوية رضي الله عنه ... 410
مطاعن الشيعة في أبي هريرة رضي الله عنه والرد عليها ... 417
سيرة أبي هريرة رضي الله عنه ... 419
الرد على الشبهات التي أثارها أهل البدع والمخالفين حول أبي هريرة ورواياته: ... 426
أولاً: ادعاء التيجاني على أبي هريرة أنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث موضوعة والرد عليه في ذلك: ... 438
2 أما ادعاء التيجاني أن أبا هريرة يروي ما يشتهي الناس، ويروي في فضائل الصحابة خصوصاً أبو بكر أحاديث موضوعة وازداد التيجاني تيقناًمن ذلك، عندما قرأ كتاب أبي هريرة لشرف الدين ومحمود أبو رية ... 441
3 أما قوله (( كذلك يروي فضائل أبي بكر، كل من عمرو بن العاص وأبو هريرة وعروة وعكرمة، وهؤلاء كلهم يكشفهم التاريخ بأنهم كانوا متحاملين على الإمام علي وحاربوه إما بالسلاح أو بالدس واختلاق الفضائل لأعدائه وخصومه... ))(*) ... 444
هل يجوز اخفاء الحديث حرصا على بلعوم ابى هريرة ... 446
استنكار عبد الحسين حديث" سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ... 450
استنكار عبد الحسين حديث" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلد ويغضب ... 454
استنكار عبد الحسين حديث" عروض الشيطان لرسول الله وهو في الصلاة " ... 455
استنكار عبد الحسين حديث" نوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الصبح ... 459
استنكار واستغراب عبد الحسين "أن بقرة وذئباً يتكلمان بلسان عربي مبين " ... 464
استنكار عبد الحسين حديث" تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة " ... 468(8/50)
شبهات الرافضة حول الصحابة والخلفاء الراشدين
رضي الله عنهم أجمعين
الجزء الأول
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
حقوق الطبع لكل مسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة هامة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الله تعالى شاء أن يجعل هذه الرسالة الخاتمة في بني إسماعيل وخص بها العرب أولا ثم باقي الخلق
قال تعالى :
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (32) سورة فاطر
وهذا الجيل الذي نزل عليه القرآن الكريم يعتبر أطهر وأزكى وأفضل جيل عرفته البشرية على الإطلاق
يقول الله تعالى عنه :{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) }
ويوقل تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) [آل عمران/110، 111] }(9/1)
وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) [البقرة/143] }
وغير ذلك من آيات كثيرة
وفي البخاري (2652)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَجِىءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ » وهو حديث متواتر
وقد جاء قوم اليوم أعمى الله أبصارهم وبصائرهم عن الحق ، وهم الذين الشيعة الرافضة ، عليهم من الله ما يستحقون ، فأخذوا ينفثون سمومهم القديمة على خير جيل عرفته البشرية على الإطلاق ، ذلك الجيل الذي زكاه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والذي حمل أعباء هذه الرسالة الخاتمة على أتم وجه عرفته البشرية ، فأوصلها إلى أصقاع المعمورة خلال وقت قصير ، وقدم من أجل ذلك الغالي والنفيس ، من نفس ومال ووقت وجهد وعطاء .
ولكن أقواما قضى الإسلام على عروشهم ، وأزال باطلهم ، اندسُّوا فيه من أجل الطعن به من الداخل ، وزعموا حبَّ آل البيت زورا وبهتانا لكي لا يكشف أمرهم ، وتفضح خبيئتهم ، فعمدوا إلى أطهر جيل ،ووصموه بكل الصفات القبيحة ، التي ما أنزل الله بها من سلطان ، وكانوا يعتمدون في البداية على كتبهم التي كذبها أحبارهم على الأئمة من أهل البيت .(9/2)
ولكنهم اليوم يخرجون من كتب أهل السنة ما يوافق ترهاتهم وإفكهم ، وكتب أهل السنة ليست بسوية واحدة ، في التحقيق والتمحيص ، وخاصة كتب التاريخ والتراجم والفضائل ، ففيها ما هبَّ ودبَّ ، مثال على ذلك كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني رحمه الله ، فقد ملأه بالأحاديث المنكرة والموضوعة ، وخاصة في ترجمة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، فلم يترك حديثا ولا أثرا باطلا في فضائل علي رضي الله عنه إلا وذكره ، فجاء هؤلاء الحاقدون على الدين إلى مثل هذه الكتب وأخذوا يحتجُّون علينا بما فيها من إفك ، ولكنهم لا يحتجون إلا بما يوافق خِسَّتهم ونذالتهم ، فهم ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض كما وصف الله تعالى أحبار اليهود .
وقد انطلت هذه الشبهات على كثير من أجيالنا المعاصرة ، وذلك لعدم اطلاعهم على الحقيقىة من مصاردها ، خاصة وأن كثيرا ممن يحسب على العلم يزعم أنه لا خلاف بيننا وبين الشيعة الإمامية إلا بالفروع ، ويجوز تقليد مذهبهم ، وما شابه ذلك .
وبعد قيام الثورة الرافضية في إيران ، طبعت ملايين االنسخ من الكتب المملوءة بالسم الزعاف على أهل السنة والجماعة وهي كثيرة جدا ، ومن أهم هذه الكتب الخبيثة كتاب المراجعات لعبد الحسين شرف الدين ( لا شرفه الله ) وكتاب ثم اهتديت للدجال التيجاني وهو كذاب أشر ، وكتاب لماذا اخترت المذهب الشيعي وغيرها .
انظروا إن شئتم هذا الموقع الخبيث لهم :
حذف الرابط
وهذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن فيه رصد لأهم هذه الشبهات التي يروجونها ، مع الرد الكافي عليها، وهي تدور حول الطعن بالصحابة وبالخلفاء الثلاثة ، وسعد وعبد الرحمن بن عوف والزبير ، وبمعاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة وبأم المؤمنين عائشة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين
وأهم المصادر لهذه الشبهات والرد عليها المواقع التالية على النت :
موقع فيصل نور وهو أهمها http://www.fnoor.com/shubuhat.htm(9/3)
موقع البينة http://www.albainah.net/index.aspx?function=Category&id=53
حوار هادئ مع الشيعة http://arabic.islamicweb.com/shia/
الموسوعة الشاملة عن الرافضة http://arabic.islamicweb.com/shia/RAFIDA_INDEX.htm
رابطة أهل السنة في إيران http://www.isl.org.uk/arabic/index.php
شبكة أنصار الحسين رضي الله عنه http://www.ansar.org/arabic/index.htm
وغير ذلك كثير
وقد قسمت الكتاب لبابين الباب الأول حول فضائل الصحابة وعدالتهم ، والثاني حول تلك الشبهات والرد عليها
هذا وأسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره
قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) [التوبة/100] }
وكتبه الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
26 رجب 1427 هـ الموافق 21/8/2006 م
**************
الباب الأول- في فضائل الصحابة وعدالتهم
وفي الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 9409)
صُحْبَة
التّعريف
1 - الصّحبة في اللّغة : الملازمة والمرافقة ، والمعاشرة . يقال : صحبه يصحبه صحبةً ، وصحابةً بالفتح وبالكسر : عاشره ورافقه ، ولازمه .
وفي حديث قيلة : خرجت أبتغي الصّحابة إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
هذا مطلق الصّحبة لغةً . أمّا في الاصطلاح : فإذا أطلقوا الصّحبة ، فالمراد بها صحبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم
الألفاظ ذات الصّلة
«أ - الرّفقة»
2 - الرّفقة في اللّغة : مطلق الصّحبة في السّفر أو غيره ، يقال : رافق الرّجل صاحبه : وقيل في السّفر خاصّةً فهي أخصّ من الصّحبة .
«ب - الصّداقة»(9/4)
3 - الصّداقة ، والمصادقة : المخالّة : بمعنىً واحد ، يقال : صادقته مصادقةً وصداقةً : خاللته ، والصّداقة أخصّ من الصّحبة .
«الأحكام المتعلّقة بالصّحبة»
«ما تثبت به الصّحبة»
4 - اختلف أهل العلم فيما تثبت به الصّحبة ، وفي مستحقّ اسم الصّحبة .
قال بعضهم : إنّ الصّحابيّ من لقي النّبيّ صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ، ومات على الإسلام وقال ابن حجر العسقلانيّ : هذا أصحّ ما وقفت عليه في ذلك . فيدخل فيمن لقيه : من طالت مجالسته له ، ومن قصرت ، ومن روى عنه ، ومن لم يرو عنه ، ومن غزا معه ، ومن لم يغز معه ، ومن رآه رؤيةً ولو من بعيد ، ومن لم يره لعارض ، كالعمى .
ويخرج بقيد الإيمان : من لقيه كافراً وإن أسلم فيما بعد ، إن لم يجتمع به مرّةً أخرى بعد الإيمان، كما يخرج بقيد الموت على الإيمان : من ارتدّ عن الإسلام بعد صحبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومات على الرّدّة فلا يعدّ صحابيّاً .
وهل يشترط التّمييز عند الرّؤية ؟ منهم من اشترط ذلك ومنهم من لم يشترط ذلك .
قال ابن حجر في فتح الباري : بعد أن توقّف في ذلك « وعمل من صنّف في الصّحابة يدلّ على الثّاني » أي : عدم اشتراط التّمييز .
وقال بعضهم : لا يستحقّ اسم الصّحبة ، ولا يعدّ في الصّحابة إلاّ من أقام مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم سنةً فصاعداً ، أو غزا معه غزوةً فصاعداً ، حكي هذا عن سعيد بن المسيّب ، وقال ابن الصّلاح : هذا إن صحّ : طريقة الأصوليّين .
وقيل : يشترط في صحّة الصّحبة : طول الاجتماع والرّواية عنه معاً ، وقيل : يشترط أحدهما ، وقيل : يشترط الغزو معه ، أو مضيّ سنة على الاجتماع ، وقال أصحاب هذا القول : لأنّ لصحبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم شرفاً عظيماً لا ينال إلاّ باجتماع طويل يظهر فيه الخلق المطبوع عليه الشّخص ، كالغزو المشتمل على السّفر الّذي هو قطعة من العذاب ، والسّنة المشتملة على الفصول الأربعة الّتي يختلف فيها المزاج .(9/5)
«طرق إثبات الصّحبة»
5 - الصّحبة تثبت بطرق : منها :
أ - التّواتر بأنّه صحابيّ .
ب - ثمّ الاستفاضة ، والشّهرة ، القاصرة عن التّواتر .
ج - ثمّ بأن يروى عن أحد من الصّحابة أنّ فلاناً له صحبة ، أو عن أحد التّابعين بناءً على قبول التّزكية عن واحد .
د - ثمّ بأن يقول هو إذا كان ثابت العدالة والمعاصرة : أنا صحابيّ ، أمّا الشّرط الأوّل : وهو العدالة فجزم به الآمديّ وغيره ، لأنّ قوله : أنا صحابيّ ، قبل ثبوت عدالته يلزم من قبول قوله : إثبات عدالته ، لأنّ الصّحابة كلّهم عدول فيصير بمنزلة قول القائل : أنا عدل ، وذلك لا يقبل . وأمّا الشّرط الثّاني : وهو المعاصرة فيعتبر بمضيّ مائة سنة وعشر سنين من هجرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره لأصحابه : « أرأيتكم ليلتكم هذه ؟ فإنّ على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممّن هو على ظهر الأرض أحد » .
وزاد مسلم من حديث جابر : « أنّ ذلك كان قبل موته صلى الله عليه وسلم بشهر » .
«عدالة من ثبتت صحبته»
6 - اتّفق أهل السّنّة : على أنّ جميع الصّحابة عدول ، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة .
وهذه الخصّيصة للصّحابة بأسرهم ، ولا يسأل عن عدالة أحد منهم ، بل ذلك أمر مفروغ منه ، لكونهم على الإطلاق معدّلين بتعديل اللّه لهم وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم بنصوص القرآن ، قال تعالى : « كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » الآية .
قيل : اتّفق المفسّرون على أنّ الآية واردة في أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
وقال عزّ من قائل : « وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ » .
وقال تعالى : « مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ » الآية .(9/6)
وفي نصوص السّنّة الشّاهدة بذلك كثرة ، منها حديث : أبي سعيد المتّفق على صحّته : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا تسبّوا أصحابي فوالّذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ، ولا نصيفه » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « اللّه ، اللّه في أصحابي لا تتّخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد أذاني ، ومن أذاني فقد أذى اللّه، ومن آذى اللّه فيوشك أن يأخذه » .
قال ابن الصّلاح : ثمّ إنّ الأمّة مجمعة على تعديل جميع الصّحابة ، ومن لابس الفتن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الّذين يعتدّ بهم في الإجماع ، إحساناً للظّنّ بهم ، ونظراً إلى ما تمهّد لهم من المآثر ، وكأنّ اللّه سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشّريعة .
وجميع ما ذكرنا يقتضي القطع بتعديلهم ، ولا يحتاجون مع تعديل اللّه ورسوله لهم إلى تعديل أحد من النّاس ، ونقل ابن حجر عن الخطيب في « الكفاية » أنّه لو لم يرد من اللّه ورسوله فيهم شيء ممّا ذكرناه لأوجبت الحال الّتي كانوا عليها من الهجرة ، والجهاد ، ونصرة الإسلام ، وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء ، والأبناء ، والمناصحة في الدّين ، وقوّة الإيمان واليقين : القطع بتعديلهم ، والاعتقاد بنزاهتهم ، وأنّهم كافّةً أفضل من جميع الخالفين بعدهم والمعدّلين الّذين يجيئون من بعدهم ، ثمّ قال : هذا مذهب كافّة العلماء ، ومن يعتمد قوله ، وروى بسنده إلى أبي زرعة الرّازيّ قال : « إذا رأيت الرّجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاعلم أنّه زنديق » ، ذلك أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم حقّ ، والقرآن حقّ ، وما جاء به حقّ، وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصّحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرّحوا شهودنا ، ليبطلوا الكتاب والسّنّة، والجرح بهم أولى ، وهم زنادقة .
«إنكار صحبة من ثبتت صحبته بنصّ القرآن»(9/7)
7 - اتّفق الفقهاء على تكفير من أنكر صحبة أبي بكر - رضي الله عنه - لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم . لما فيه من تكذيب قوله تعالى : « إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا » .
واختلفوا في تكفير من أنكر صحبة غيره من الخلفاء الرّاشدين ، كعمر ، وعثمان ، وعليّ - رضي الله عنهم - فنصّ الشّافعيّة : على أنّ من أنكر صحبة سائر الصّحابة غير أبي بكر لا يكفر بهذا الإنكار .
وهو مفهوم مذهب المالكيّة ، وهو مقتضى قول الحنفيّة .
وقال الحنابلة : يكفر لتكذيبه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولأنّه يعرفها العامّ ، والخاصّ ، وانعقد الإجماع على ذلك ، فنافي صحبة أحدهم ، أو كلّهم مكذّب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم .
«سبّ الصّحابة»
8 - من سبّ الصّحابة ، أو واحداً منهم ، فإن نسب إليهم ما لا يقدح في عدالتهم ، أو في دينهم بأن يصف بعضهم ببخل ، أو جبن ، أو قلّة علم ، أو عدم الزّهد ، ونحو ذلك ، فلا يكفر باتّفاق الفقهاء ، ولكنّه يستحقّ التّأديب .
أمّا إن رماهم بما يقدح في دينهم أو عدالتهم كقذفهم : فقد اتّفق الفقهاء على تكفير من قذف الصّدّيقة بنت الصّدّيق : عائشة - رضي الله عنهما - زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم بما برّأها اللّه منه ، لأنّه مكذّب لنصّ القرآن .(9/8)
أمّا بقيّة الصّحابة فقد اختلفوا في تكفير من سبّهم ، فقال الجمهور : لا يكفر بسبّ أحد الصّحابة ، ولو عائشة بغير ما برّأها اللّه منه ويكفر بتكفير جميع الصّحابة أو القول بأنّ الصّحابة ارتدّوا جميعاً بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو أنّهم فسقوا ، لأنّ ذلك تكذيب لما نصّ عليه القرآن في غير موضع من الرّضا عنهم ، والثّناء عليهم ، وأنّ مضمون هذه المقالة : أنّ نقلة الكتاب ، والسّنّة كفّار ، أو فسقة ، وأنّ هذه الأمّة الّتي هي خير أمّة أخرجت ، وخيرها القرن الأوّل كان عامّتهم كفّاراً ، أو فسّاقاً ، ومضمون هذا : أنّ هذه الأمّة شرّ الأمم ، وأنّ سابقيها هم أشرارها ، وكفر من يقول هذا ممّا علم من الدّين بالضّرورة .
وجاء في فتاوى قاضيخان : يجب إكفار من كفّر عثمان ، أو عليّاً ، أو طلحة ، أو عائشة ، وكذا من يسبّ الشّيخين أو يلعنهما .
وفي الموسوعة الفقهية أيضا :1 -45 كاملة - (ج 2 / ص 4885)
عدالة الصحابة
12 - قال السّيوطيّ : الصّحابة كلّهم عدول ، من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتدّ به قال تعالى : «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطَاً» أي عدولاً ، وقال تعالى : «كُنْتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» والخطاب فيها للموجودين حينئذ ، وقال صلى الله عليه وسلم : « خير النّاس قرني » .
قال إمام الحرمين : والسّبب في عدم الفحص عن عدالتهم : أنّهم حملة الشّريعة ، فلو ثبت توقّف في روايتهم لانحصرت الشّريعة على عصره صلى الله عليه وسلم ولمّا استرسلت على سائر الأعصار ، وقيل : يجب البحث عن عدالتهم مطلقاً ، وقيل : بعد وقوع الفتن.
وقالت المعتزلة : عدول إلا من قاتل عليّاً ، وقيل : إذا انفرد ، وقيل : إلا المقاتِل والمقاتَل ، وهذا كلّه ليس بصواب إحساناً للظّنّ بهم وحملاً لهم في ذلك على الاجتهاد المأجور فيه كلّ منهم.(9/9)
وقال المازريّ في شرح البرهان : لسنا نعني بقولنا : الصّحابة عدول ' كلّ من رآه صلى الله عليه وسلم يوما ما أو زاره لماما ، أو اجتمع به لغرض وانصرف ، وإنّما نعني به الّذين لازموه وعزّروه ونصروه.
قال العلائيّ : وهذا قول غريب يخرج كثيرا من المشهورين بالصّحبة والرّواية عن الحكم بالعدالة ، كوائل بن حجر ، ومالك بن الحويرث ، وعثمان بن أبي العاص وغيرهم ، ممّن وفد عليه صلى الله عليه وسلم ولم يقم عنده إلا قليلا وانصرف ، وكذلك من لم يعرف إلا برواية الحديث الواحد ومن لم يعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل ، والقول بالتّعميم هو الّذي صرّح به الجمهور وهو المعتبر.
وفي المسألة تفصيلات أخرى تنظر في الملحق الأصوليّ.
وقال ابن حمدان الحنبليّ : يجب حبّ كلّ الصّحابة ، والكفّ عمّا جرى بينهم - كتابة ، وقراءة ، وإقراء ، وسماعاً ، وتسميعا - ويجب ذكر محاسنهم ، والتّرضّي عنهم ، والمحبّة لهم ، وترك التّحامل عليهم ، واعتقاد العذر لهم ، وأنّهم إنّما فعلوا ما فعلوا باجتهاد سائغ لا يوجب كفراً ولا فسقاً ، بل ربّما يثابون عليه ، لأنّه اجتهاد سائغ.
13 - وسبّ آل بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه ، وتنقّصهم حرام.
قال صلى الله عليه وسلم : « اللّه اللّه في أصحابي ، لا تتّخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني ، فقد آذى اللّه ، ومن آذى اللّه يوشك أن يأخذه » .
وقال السّبكيّ والزّركشيّ من الشّافعيّة : وينبغي أن يكون الخلاف فيما إذا سبّه لأمر خاصّ به.
أمّا لو سبّه لكونه صحابيّاً فينبغي القطع بتكفيره ، لأنّ ذلك استخفاف بحقّ الصّحبة ، وفيه تعريض بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا في كفر من سبّ الشّيخين ، ومذهب الحنفيّة تكفير من سبّ الشّيخين أو أحدهما ، ومذهب الجمهور على خلافه.(9/10)
قال أبو زرعة الرّازيّ : إذا رأيت الرّجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاعلم أنّه زنديق ، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم عندنا حقّ ، والقرآن حقّ ، وإنّما أدّى إلينا هذا القرآن والسّنن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وإنّما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسّنّة ، والجرح أولى بهم ، وهم زنادقة.
«تنزيه نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم»
14 - من قذف عائشة بما برّأها اللّه منه كفر بلا خلاف ، وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد من الأئمّة.
روي عن مالك أنّه قال : من سبّ أبا بكر جلد ، ومن سبّ عائشة قتل ، قيل له : لم ؟ قال : من رماها فقد خالف القرآن ، لأنّ اللّه تعالى قال : «يَعِظُكُمْ اللَّهُ أنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أبَدَاً إنْ كُنْتُم مُؤمِنينَ»
وهل تعتبر سائر زوجات الرّسول صلى الله عليه وسلم كعائشة ؟ فيه قولان :
أحدهما : أنّه كسابّ غيرهنّ من الصّحابة.
الثّاني : أنّه من قذف واحدة من أمّهات المؤمنين فهو كقذف عائشة ، وذلك لأنّ هذا فيه عار وغضاضة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهنّ بعده قال تعالى : «إنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه لَعَنَهم اللَّهُ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ»
واختار الثّاني جمهور العلماء.
****************
حملة رسالة الإسلام الأولون
وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير
وكيف شَوَّه المغرضون جمال سيرتهم
محب الدين الخطيب
روى الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، (قال عمران بن حصين: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً) "ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن".(9/11)
وروى البخاري مثله بعده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث ابن مسعود هذا عند الإمام أحمد أيضاً في مسنده، وفي صحيح مسلم، وفي سنن الترمذي. وروى مسلم مثله في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
فالهدى كل الهدى، مما لم تر الإنسانية مثله -قبله ولا بعده- هو الذي تلقاه الصحابة عن معلِّم الناس الخير. وكان الصحابة به خيَر أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم بشهادته هُوَ لَهم؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يدَّعون خلاف ذلك فهم الكاذبون.
إن الخير كل الخير فيما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الدين كل الدين ما اتبعهم عليه صالحو التابعين، ثم نشأ على آثارهم التابعون لهم بإحسان.
ومن أحطِّ أكاذيب التاريخ زَعْمُ الزاعمين أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضمر العداوة بعضهم لبعض، بل هم كما قال الله سبحانه عنهم في سورة الفتح: (أِشِدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم) وكما خاطبهم رَبُّنا في سورة الحديد: (وَلِلَّهِ مِيراثُ السماواتِ والأرضِ لا يَسْتَوي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقاتَلوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنى) ولا يخلف الله وعده. وهل بعد قول الله عز وجل في سورة آل عمران: (كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يبقى مسلماً من يكذِّب ربَّه في هذا، ثم يكذِّب رسولَه في قوله: “خَيرُ أمَّتي قرني، ثم الذين يلونهم ..”؟!(9/12)
في صدر هذه الأمة حفظ الله كتابه بحفظته أميناً على أمين، حتى أدوا أمانة ربهم بعناية لم يسبق لها نظير في أمة من الأمم، فلم يفرطوا في شيء من ألفاظ الكتاب على اختلاف الألسنة العربية في تلاوتها ونبرات حروفها، وتنوّع مدودها وإمالاتها، إلى أدق ما يمكن أن يتصوره المتصور، فتم بذلك وعدُ الله عز وجل في سورة الحجر: (إنَّا نحنُ نزَّلنا الذِّكْر وإنَّا له لحافِظون).
ومن صدر هذه الأمة تفرّغ فريق من الصحابة فالتابعين وتلاميذهم لحمل أمانة السنة، فكانوا يمحِّصون أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذرعون أقطار الدنيا ليدركوا الذين سمعوها من فم النبي صلى الله عليه وسلم فيتلقوها عنهم كما يتلقون أثمن كنوز الدنيا. بل كانت دار الإمارة في المدينة المنورة منتدى الفقهاء الأولين في صدر الإسلام يجتمعون إلى أميرهم مروان بن الحكم، فإذا عزيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة غير الذي كان معروفاً عندهم أرسل مروان في تحقيق ذلك إلى من نسبت تلك السنة إليه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أزواجه، حتى يرد الحق إلى نصابه.
وبينما كان حفظة القرآن وحملة السنة المحمدية يجاهدون في حفظ أصول الشريعة الكاملة، كان آخرون من أبناء الصحابة وأبطال التابعين يحملون أمانة الإمامة والرعاية والجهاد والفتوح، ويعملون على نقل الأمم إلى الإسلام: يعربون ألسنتهم، ويطهرون نفوسها، ويسلكونها في سلك الأخوة الإسلامية لتتعاون معهم على توحيد الإنسانية تحت راية الهدى، وتوجيهها إلى أهداف السعادة.
وقد بارك الله لهؤلاء وأولئك بأوقاتهم، وأتمَّ على أيديهم في مائة سنة ما يستحيل على غيرهم -من أهل الطرائق والأساليب الأخرى- أن يعملوه في آلاف السنين.(9/13)
هؤلاء هم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خير أمته، وقد صح ما أخبر به، فإن الإسلام إنما رأى الخير على أيديهم، فبهم حفظَ اللهُ أصولَه، وبهم هدى الله الأمم. والبلاد التي دخلت في الإسلام على أيديهم نبغ منها في ظل طريقتهم وعلى أساليبهم كبار الأئمة كالإمام البخاري والإمام أبو حنيفة والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك، فكانت الأمم تقبل على هذه الهداية بشغف وتقدير وإخلاص، لما ترى من إخلاص دعاتها وصدقهم وإيثارهم الآجلة على العاجلة، والأمة التي تولت الدعاية لهذه الهداية تستقبل نوابغ المهتدين بصدر رحب، وتبوىء المستأهلين منهم المكانة التي هم أهلٌ لها.(9/14)
هكذا كانت الحال في البطون الثلاثة الأولى التي امتدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفها بأنها خير أمته. أما العصور التي أتت بعدهم فإن المسلمين يتميزون فيها بمقدار اتباعهم للصدر الأول فيما كان عليه من حق وخير. وهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره." رواه أحمد في مسنده و الترمذي في سننه عن أنس، ورواه ابن حبان والإمام أحمد في مسنده أيضاً من حديث عمار، ورواه أبو ليلى في مسنده عن علي بن أبي طالب، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو، كل هؤلاء الصحابة رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى خير في كل زمان ومكان ما تحرَّت الطريق الذي مشى فيه هداة القرون الثلاثة الأولى وتابعوهم فيه. بل يرجى لمن يقيم الحق في أزماننا كما أقامه الصحابة والتابعون في أزمنتهم أن يبلغوا منزلتهم عند الله ويعدوا في بقيتهم، ولعلهم المعنيون بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجهدنا معك. فقال صلى الله عليه وسلم: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يَروني." وإسناده حسن، وصححه الحاكم. واحتج الحافظ أبو عمر بن عبد البر بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار في الأرض، وصبرهم على الهدى وتمسكهم به، إلى أن عَمَّ بهم في أرجائها. قال ابن عبد البر: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضاً عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء."(9/15)
ومن غربة الإسلام بعد البطون الثلاثة الأولى ظهور مؤلِّفين شوَّهوا التاريخ تقرباً للشيطان أو الحكام؛ فزعموا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا إخواناً في الله، ولم يكونوا رحماء بينهم، وإنما كانوا أعداء يلعن بعضهم بعضاً، ويمكر بعضهم ببعض، وينافق بعضهم لبعض، ويتآمر بعضهم على بعض، بغياً وعدواناً. لقد كذبوا. وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أسمى من ذلك وأنبل، وكانت بنو هاشم وبنو أمية أوفى من ذلك لإسلامهما ورحمهما وقرابتهما وأوثق صلة وأعظم تعاوناً على الحق والخير.(9/16)
حدثني بعض الذين لقيتهم في ثغر البصرة لما كنت معتقلاً في سجن الإنجليز سنة 1332هـ أن رجلاً من العرب يعرفونه كان يتنقل بين بعض قرى إيران فقتله القرويون لما علموا أن اسمه (عمر)! قلت: وأي بأس يرونه باسم (عمر)؟ قالوا: حباً بأمير المؤمنين علي. قلت: وكيف يكونون من شيعة علي وهم يجهلون أن علياً سمى أبناءه -بعد الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية- بأسماء أصدقائه وإخوانه في الله (أبي بكر) و(عمر) و(عثمان) رضوان الله عليهم جميعاً، وأم كلثوم الكبرى بنت علي بن أبي طالب كانت زوجة لعمر بن الخطاب ولدت له زيداً ورقية، وبعد مقتل عمر تزوجها ابن عمها محمد بن جعفر بن أبي طالب ومات عنها فتزوجها بعده أخوه عون بن جعفر فماتت عنده. وعبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن أبي طالب سمى أحد بنيه باسم (أبي بكر) وسمى ابناً آخر له باسم (معاوية)، ومعاوية هذا -أي ابن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب- سمى أحد بنيه (يزيد). وعمر بن علي بن أبي طالب كان من نسل عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب اشتهر بالمبارك العلوي وكان يكنى (أبا بكر). والحسن السبط بن علي ابن أبي طالب سمى أحد أولاده باسم أمير المؤمنين (عمر) تيمناً وتبركاً. ولِعمر هذا ذرية مباركة منهم العلماء والشرفاء. والحسن السبط كان مصاهراً لطلحة بن عبيد الله، وإن أم إسحاق بنت طلحة هي أم فاطمة بنت الحسين بن علي. وسكينة بنت الحسين السبط كانت زوجاً لزيد بن عمر بن عثمان بن عفان الأموي. وعقد لها قبله على الأسبغ ابن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي. وأختها فاطمة بنت الحسين السبط بن علي بن أبي طالب كانت زوجة عبد الله الأكبر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت قبل ذلك زوجة الحسن المثنى، وله منها جدُّنا عبد الله المحض. وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر ذي الجناحين بن أبي طالب كانت زوجة لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ثم تزوجها علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب.(9/17)
وأم كلثوم بنت جعفر ذي الجناحين كانت زوجة للحجاج بن يوسف وتزوجها بعد ذلك أبان بن عثمان بن عفان. والسيدة نفيسة المدفونة في مصر (وهي بنت حسن الأنور بن زيد بن الحسن السبط) كانت زوجة لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وولدت له. وعلي الأكبر ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب أمه ليلى بنت مرة بن مسعود الثقفي وأمها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب الأموي. والحسن المثنى بن الحسن السبط أمه خولة بنت منظور الفزارية وكانت زوجة لمحمد بن طلحة بن عبيد الله، فلما قتل يوم الجمل -ولها منه أولاد- تزوجها الحسن السبط فولدت له الحسن المثنى. وميمونة بنت أبي سفيان بن حرب جدة علي الأكبر ابن الحسين ابن علي لأمه. ولما توفيت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم تزوج علي بعدها أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن أمية.
فهل يعقل أن هؤلاء الأقارب المتلاحمين المتراحمين الذين يتخيرون مثل هذه الأمهات لأنسالهم، ومثل هذه الأسماء لفلذات أكبادهم، كانوا على غير ما أراده الله لهم من الأخوة في الإسلام، والمحبة في الله، والتعاون علىالبر والتقوى؟(9/18)
لقد تواتر عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر". روي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجهاً، ورواه البخاري وغيره، ولا يوجد في تاريخ في الدنيا، لا تاريخ الإسكندر المقدوني، ولا تاريخ نابليون، صحت أخباره كصحة هذا القول -من الوجهة العلمية التاريخية- عن علي بن أبي طالب. وكان كرم الله وجهه يقول: "لا أُوتَى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حدَّ المفتري" أي أن هذه الفرية توجب على صاحبها الحدَّ الشرعي، ولهذا كان الشيعة المتقدمون متقفين على تفضيل أبي بكر وعمر. نقل عبد الجبار الهمداني في كتاب (تثبيت النبوة) أن أبا القاسم نصر بن الصباح البلخي قال في (كتاب النقض على ابن الراوندي): سأل سائل شريك بن عبد الله فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم، من لم يقل هذا فليس شيعياً. والله لقد رقي هذه الأعواد علي فقال: “ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر” فكيف نردّ قوله؟ وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذاباً. وفي ترجمة يحيى بن يعمر العدواني من (وفيات الأعيان) للقاضي ابن خلكان أن يحيى بن يعمر كان عداده في بني ليث لأنه حليف لهم، وكان شيعياً من الشيعة الأولى القائلين بتفضيل آل البيت من غير تنقيص لذي فضل من غيرهم. ثم ذكر قصة له مع الحجاج، وإقامته الحجة على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم من آية (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) إلى قوله تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى). قال يحيى بن يعمر: وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد صلى الله عليه وسلم فأقرّه الحجاج على ذلك وكبر في نظره وولاه القضاء على خراسان مع علمه بتشيعه. وأنت تعلم أن الحجاج هو ما هو، ومع ذلك فقد كان -مع فاضل متجاهر بشيعيته المعتدلة محتج للحق بالحق- أكثرَ إنصافاً من هؤلاء الكذبة(9/19)
الفجرة الذي جاءوا في زمن السوء، فصاروا كلما تعرضوا لأهل السابقة والخير في الإٍسلام، ومن فُتحت أقطار الأرض على أيديهم، ودخلت الأمم في الإسلام بسعيهم ودعوتهم وبركتهم، وكلهم من أهل خير القرون بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وما منهم إلا من يتصل ببني هاشم وآل البيت بالخؤولة أو الرحم أو المصاهرة؛ وبالرغم من كل ذلك يتعرضون لسيرتهم بالمساءة كذباً وعدواناً، ويرضون لأنفسهم بأن يكونوا أقل إنصافاً وإذعاناً للحق حتى من الحجاج بن يوسف. وإني أخشى عليهم لو أنهم كانوا في مثل مركز الحجاج بن يوسف كانت فيهم مآخذ كل الصالحين عليه، مع التجرد من كل مزاياه وفضائله وفتوحه التي بلغت تحت رايات كبار قواده وصغارهم إلى أقصى أقطار السند، وغشيت جبال الهند وما صاقبها.(9/20)
وإن خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في نعت صديقه وإمامه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر يوم وفاته من بليغ ما كان يستظهره الناس في الأجيال الماضية. وفي خلافة عمر دخل علي في بيعته أيضاً وكان من أعظم أعوانه على الحق، وكان يذكره بالخير ويثني عليه في كل مناسبة، وقد علمتَ أنه بعد أخيه وصهره سمّى ولدين من أولاده باسميهما ثم سمى ثالثاً بعثمان لعظيم مكانته عنده، ولأنه كان إمامه ما عاش، ولولا أن عثمان -بعد أن أقام الحجة على الذين ثاروا عليه بتحريض أعداء الله رجال عبد الله بن سبأ اليهودي- منع الصحابة من الدفاع عنه حقناً لدماء المسلمين، وتضييقاً لدائرة الفتنة، ولما يعلمه من بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم به بالشهادة والجنة، لولا كل ذلك لكان علي في مقدمة من في المدينة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا كلهم على استعداد للدفاع عنه ولو ماتوا في سبيل ذلك جميعاً. ومع ذلك فإن علياً جعل وليده الحسن والحسين على باب عثمان، وأمرهما بأن يكونا طوع إشارته في كل ما يأمرهما به ولو أدى ذلك إلى سفك دمهما، و أوعز إليهما بأن يخبرا أباهما بكل ما يحب عثمان أن يقوم له به. وكذبٌ على الله وعلى التاريخ كلُّ ما اخترعه الكاذبون مما يخالف ذلك ويناقض وقوف الحسن والحسين في بابه واستعدادهما لطاعته في كل ما يأمر. ولقد كان من عادة سلفنا أن يدوِّنوا أخبار تلك الأزمان منسوبة إلى رواتها، ومن أراد معرفة قيمة كل خبر على طريقة (أنَّى لكَ هذا؟) فرجع إلى ترجمة كل راوٍ في كل سند لتمحَّصت له الأخبار، وعلم أن الأخبار الصحيحة التي يرويها أهل الصدق والعدالة هي التي تثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كلهم من خيرة من عرفت الإنسانية من صفوة أهلها، وأن الأخبار التي تشوِّه سيرة الصحابة وتُوهِمُ أنهم كانوا صغار النفوس هي التي رواها الكذبة من المجوس الذين تسموا بأسماء المسلمين.(9/21)
ولعلك تسألني: إذن ما هو أصل التشيع، وهل لم يكن لعلي شيع ة في الصدر الأول؟ وما هي وقعة الجمل، وما الباعث على وقوعها؟ وما هي حقيقة التحكيم؟
إن الجواب على هذه الأسئلة بالأسانيد التي ترتاح إليها قلوب المنصفين مهما اختلفت مشاربهم ومذاهبهم، يحتاج إلى كتابة تاريخ المسلمين من جديد، وإلى أخذه -عند كتابته- من ينابيعه الصافية، ولا سيما في المواطن التي شوهها أهل الذمم الخَرِبَة من ملفِّقي الأخبار. وأعيد هنا ما قلته غير مرة، وهو أن الأمة الإسلامية أغنى أمم الأرض بالمادة السليمة التي تستطيع أن تبني بها كيان تاريخها، إلا أنها لا تزال أقل أهل أمم الأرض عناية ببناء تاريخها من تلك المواد السليمة، والناس الآن بين قارئ لكتب قديمة أراد مؤلفوها أن يتداركوا الأخبار قبل ضياعها فجمعوا فيها كل ما وصلت إليه أيديهم من غثّ وسمين، منبهين على مصادر هذه الأخبار وأسماء رواتها ليكون القارئ على بينة من صحيحها وسقيمها، ولكن لبعد الزمن وجهل أكثر القراء بمراتب هؤلاء الرواة ودرجتهم في الصدق والكذب، وفي الوفاء للحق أو الميل مع الهوى، تراهم لا يستفيدون من هذه المصادر، ولا من الكتب التي اعتمدت عليها بلا تمحيص وتحقيق. وهنالك كتب قديمة أيضاً ولكنها دون هذه الكتب، لأن أصحابها من أهل الهوى، وممن لهم صبغات حزبية يصبغون أخبارهم بألوانها، فهي أعظم ضرراً، ولعلها أوسع من تلك انتشاراً. أما الكتب الحديثة كمؤلفات جرجي زيدان، والبحوث التي يستقيها حملة الأقلام من مؤلفات المستشرقين على غير بصيرة بدسائسهم، فإنها ثالثة الأثافي وعظيمة العظائم، ولذلك باتت هذه الأمة محرومة أغزر ينابيع قوتها وهو الإيمان بعظمة ماضيها، في حين أنها سليلة سلف لم ير التاريخ سيرة أطهر ولا أبهر ولا أزهر من سيرته.(9/22)
ومع أن كثيراً من أمهات الكتب النفيسة فُقِدَت في كارثة هولاكو، ثم في الحروب الصليبية واكتساح الأندلس، وما تلا ذلك كله من انحطاط المستوى العلمي في القرون الأخيرة، إلا أن كثيراً من تحقيقات لمحققين لا تزال منبثة في مطاوي الكتب الإسلامية. والأمل عظيم في قيام نهضة جديدة لبعث ماضي هذه الأمة المجيد على ضوء ما تركه علماؤها من نصوص وتوجبهات.
وأعود بعد هذا إلى الأسئلة التي تقدمت آنفاً عن أصل الفتن والتشيع، فقد زعم الزاعمون لعليٍّ -كرم الله وجهه- ما لم يكن له به علم: زعموا أن النبي e عيّنه للخلافة بعده يوم استخلفه على المدينة وهو متجه إلى الشام في غزوة تبوك، وقال له يومئذ: “أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي”. ورجال الحديث مختلفون في درجة هذا الخبر من الصحة، فبعضهم يراه صحيحاً، وبعضهم يراه ضعيفاً، وذهب الإمام أبو الفرج بن الجوزي إلى أنه موضوع مكذوب. ونحن إذا رجعنا إلى الظروف التي قالوا إنها لابست هذا الحديث نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله له أن يتوجّه نحو تبوك- أمر علياً بأن يتخلف في المدينة، وكان رجالها والقادرون على الحرب من الصحابة قد خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد علي في نفسه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أتجعلني مع الناس والأطفال والضعفة؟” فقال له النبي صلى الله عليه وسلم تطييباً لنفسه: “أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟” أي في استخلاف موسى أخاه هارونَ لما ذهب إلى الجبل ليعود بالألواح. فهذا الاستخلاف لم يكن في نظر سيدنا علي -كرم الله وجهه- هذا المعنى الوهمي الذي اخترعه المتحزبون فيما بعد، بل هو على عكس ذلك كان يراه حرماناً له من مكانة أعلى وهي مشاركة إخوانه الصحابة في ثواب الجهاد لتكوين الكيان الإسلامي المنشود. زِدْ على ذلك أن هذا النوع من الاستخلاف لم ينفرد به علي كرم الله وجهه، بل تكرر من النبي صلى الله عليه وسلم استخلاف ابن أم(9/23)
مكتوم على المدينة نفسها، وكان ابن أم مكتوم يتولى الإمامة بالناس في المدينة مدة خلافته عليها. وقد ناظر كبارُ الشيعة في هذا الحديث علاَّمةَ العراق السيد عبد الله السويدي عندما جمعه بهم نادر شاه في النجف سنة 1156 هـ فأفحمهم السويدي وخذل باطلهم، كما ترى ذلك فيما دوَّنه رحمه الله بقلمه عن هذه الواقعة وأثبتناه في رسالة طبعناها بعنوان (مؤتمر النجف).
فالإمام علي كرم الله وجهه كان يعلم أن الخلافة الحقة هي التي انضوى فيها إلى إجماع إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قدَّر الله لها بحكمته ما شاء، وقضي فيها بعدله ما أراد. وما كان لمسلم من عامة المسلمين -فضلاً عن مثل علي في عظيم مكانته في الأولين والآخرين- أن يسخط لقدر الله، أو يتمرد على قضاءه، أو يرضى غير الذي ارتضاه إخوانه من الصحابة، أو يداجي في إجماعه معهم على ما فيه صلاح المسلمين. ومن الافتئات عليه والانتقاص من قدره والتشويه لجمال الإسلام وتاريخه الشكُّ في إخلاص علي أو في اغتباطه بما بايع عليه خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق وصاحبيه من بعده عمرَ وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين.
ومن المزايا التي تفرّد بها عليّ وطبقته ممن ولي الخلافة أو دخل في بيعتها في الصدر الأول أنهم كانوا يرون ولاية هذا الأمر واجباً يقوم به الواحد منهم إذا وجب عليه كما يقوم بسائر واجباته، ولا يرونها حقاً لأحدهم يعادي عليه المسلمين، ويعرّض دماءهم للخطر والشر، ليستأثر بها على غيره.(9/24)
وجميع الوقائع -إذا جرِّدت من زيادات أهل الأهواء- تدل على هذه المكانة السامية لعلي وإخوانه، فلما شُوِّهت الوقائع وأخبارها بما دسَّه فيها المتزيِّدون من أكاذيب لا مصلحة فيها لعلي وآله، كانت بها لعلي وبنيه صورة قبيحة لا تنطبق على الحقيقة والواقع، وظن المخدوعون بها أن تلك الطبقة -الممتازة على جميع أمم الأرض بعفَّتها وطهارة نفوسها وترفُّعِها عن الصغائر- إنما كانت على عكس ذلك: تتنازع كالأطفال والرعاع على توافه الدنيا وسفاسف العاجلة. فالخلافة كانت في نظر الراشدين عِبئاً يتولَّى الواحد منهم حمله بتكليف من المسلمين أداءً للواجب، ولم تكن عند أحد منهم متاعاً ولا مأكلة حتى يتنازع غيره عليها. ولما تآمرت المجوسية واليهودية على سفك دم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأبقى الله من حياته بقيَّة يدبر فيها للمسلمين أمرهم بعده، جعل الأمر شورى، واقترح عليه بعض الصحابة أن يريح المسلمين من ذلك فيعهد إلى ابنه عبد الله بن عمر -ولم يكن عبد الله بن عمر دون أبيه في علم أو حزم أو بعد نظر أو إخلاص لله ورسوله والمؤمنين- رفض عمر ذلك وقال: "بحسب آل الخطاب أن يليها واحد منهم؛ فإن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان رزءاً فقد قمنا بنصيبنا فيه." وعبد الله بن عمر نفسه عرضت عليه الإمامة فيمن عرضت عليهم عند مقتل عثمان في ذي الحجة سنة 35 هـ فهرب منها كما كان يهرب منها طلحة والزبير وعلي، ولم يتولَّها عليٌّ إلا قياماً بواجب، ولم يستمدَّها من خرافات المتحزِّبين وسخافاتهم، بل من إرادة الأمة في ذينك اليومين (الخميس ذي الحجة والجمعة منه) ما أعلن ذلك على رءوس الأشهاد وهو واقف على أعواد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليٌّ إلى تلك الساعة لم تكن له شيعة خاصة به يعرفها وتتصل به، ولم يخطر على باله أن يجعل أحداً من الناس شيعة له، لأنه هو نفسه وسائر إخوانه من الصحابة كانوا شيعة الإسلام الملتفَّة حول خلفاء نبيها صلى الله عليه(9/25)
وسلم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان. ولو حدَّثته نفسه باتخاذ شيعة خاصة به غير جمهور الأمة الذي يتشيع للبيعة العامة لكان ذلك نقضاً منه لما عقد عليه صفقة يمينه لإمامه، وما طُوِّق به عنقه من بيعة الإسلام لأصحابها. ولا شك أنه استمر على ذلك إلى عشية الخميس 24هـ من ذي الحجة سنة 35 للهجرة، وكان أهلاً لأن يستمر على ذلك بأمانة وإخلاص. ولو لم يكن علي كذلك لما كان في هذه المنزلة السامية عند الله والناس. ومن الثابت عنه في عشية ذلك اليوم أنه كان يدافع الخلافة عن نفسه، ويحاول أن يقنع أخاه طلحة بن عبيد الله - أحد العشرة المبشرين بالجنة- بأن يتولى هو هذا الأمر عن المسلمين، بينما طلحة أيضاً كان يدافعها عن نفسه ويحاول إقناع علي بأن يكون هو حاملَ هذا العبء القائمَ على المسلمين بهذا الواجب. وانظر الحوار بينهما في ذلك كما رواه عالم من كبار علماء التابعين وهو الإمام محمد بن سيرين على ما أورده أبو جعفر الطبري في تاريخه: فيقول علي لطلحة: ابسط يدك يا طلحة لأبايعك. فيقول له طلحة: أنت أحق، فأنت أمير المؤمنين، فابسط يدك. وكاد الثائرون من جماعة الفسطاط والكوفة والبصرة يثبون بعلي وطلحة والزبير فيقتلونهم لهربهم من ولاية الأمر وتعففهم جميعاً عن قبول الخلافة، فانتهى الأمر بقبول علي، وارتقى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي (الجمعة 25 من ذي الحجة سنة 35هـ) فخطب خطبة حفظ الطبري لنا نصها، فقال: أيها الناس عن ملأ وأذن، إن هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق إلا من أمَّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر (أي على البيعة له) فإن شئتم قعدتُ لكم، وإلا فلا أجد على أحد. وبذلك أعلن أنه لا يستمد الخلافة من شيء سبق، بل يستمدها من البيعة إذا ارتضتها الأمة.(9/26)
ومن مزايا الطبقة الأولى في الإسلام التي صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وتأدبت بأدبه وتشبعت بسنته أنها كانت ترى الاعتدال ميزان الدين، والرفق جمال الإسلام؛ لأن نبيها صلى الله عليه وسلم كان يقول لها: إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نُزِع من شيء إلا شانه. وكان يقول لها: من يحرَم الرفق يحرَم الخير كله. ويقول: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق. ويقول: إياكم والغلوّ في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ فيه. فلما نشأت الطبقة الثانية في حياة الطبقة الأولى أدَّب الآباء بنيهم بهذا الأدب. ولكن أكثر ما كانت هذه الطريقة ناجحة في الحجاز ونجد والشام. وكان في ناشئة الكوفة والبصرة والفسطاط من أخذ بهذه الطريقة، كما أن فيهم من شبَّ على الغلوِّ في الدين. ومن أكبر المصائب في الإسلام في ذلك الحين تسلُّط إبليس من أبالسة اليهود على الطبقة الثانية من المسلمين فتظاهر لها بالإسلام وادَّعى الغيرة على الدين والمحبة لأهله، وبدأ يرمي شبكته في الحجاز والشام فلم يعلق بشيء بسبب تشبُّعهم بفطرة الإسلام في اعتداله ورفقه، وحذَرِهم من طرفي الإفراط والتفريط. فذهب الملعون يتنقل بين الكوفة والبصرة والفسطاط ويقول لحديثي السن وقليلي التجربة من شبابها: عجباً لمن يزعم أن عيسى يرجع ويكذِّب بأن محمداً يرجع، وقد قال عز وجل: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. وكان يقول لهؤلاء الشبان: كان فيما مضى ألف نبي، ولكل نبي وصي، وإن علياً وصي محمد. ويقول لهم: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. ثم يقول لهم محرضاً على عثمان، وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان سنة 30: ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله، وممن يثب على عليّ وصيِّ رسول الله وينتزع منه أمر الأمة. ويقول لهم: إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وهنالك علي وصي رسول الله فانهضوا فحركوه وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس.(9/27)
إن هذا الشيطان هو عبد الله بن سبأ من يهود صنعاء، وكان يسمى ابن السوداء وكان يبث دعوته بخبث وتدرُّج ودهاء. واستجاب له ناس من مختلف الطبقات، فاتخذ بعضهم دعاة فهموا أغراضه وعوَّلوا على تحقيقها. واستكثر أتباعه بآخرين من البلهاء الصالحين المتشددين في الدين المتنطعين في العبادة ممن يظنون الغلوَّ فضيلة والاعتدال تقصيراً. فلما انتهى ابن سبأ من تربية نفر من الدعاة الذين يحسنون الخداع ويتقنون تزوير الرسائل واختراع الأكاذيب ومخاطبة الناس من ناحية أهوائهم، بث هؤلاء الدعاة في الأمصار -ولا سيما الفسطاط والكوفة والبصرة- وعُني بالتأثير على أبناء الزعماء من قادة القبائل وأعيان المدن الذين اشترك آباؤهم في الجهاد والفتح، فاستجاب له من بلهاء الصالحين وأهل الغلوّ من المتنطعين جماعاتٌ كان على رأسهم في الفسطاط الغافقي بن حرب العكي، وعبد الرحمن بن عديس البَلَوي التُّجيبي الشاعر، وكنانة بن بشر بن عتاب التجيبي، وسودان بن حمران السكوني، وعبد الله بن زيد بن ورقاء الخزاعي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعروة بن النباع الليثي، وقتيرة السكوني. وكان على رأس من استغواهم ابنُ سبأ في الكوفة عمرو بن الأصم، وزيد بن صوحان العبدي، والأشتر مالك بن الحارث النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم. ومن البصرة حرقوص بن زهير السعدي، وحُكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح، والحطم بن ضبيعة القيسي، وابن المحرش بن عبد عمرو الحنفي. أما المدينة فلم يندفع في هذا الأمر من أهلها إلا ثلاثة نفر وهم: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ابن عبد شمس، وعمار بن ياسر. ومن دعاء ابن سبأ ومكره أنه كان يبثُّ في جماعة الفسطاط الدعوة لعلي (وعلي لا يعلم ذلك)، وفي جماعة الكوفة الدعوةَ لطلحة، وفي جماعة البصرة الدعوة للزبير، وليس هنا موضع تحليل نفسيات المخدوعين بدعوة هذا الشيطان، ولا نريد أن ننقل ذمَّ(9/28)
علي وطلحة والزبير لهم وما قالوه فيهم يوم نزل الثائرون في ذي خُشُب والأعوص وذي المروة، وكيف زوَّر ابنُ سبأ وشياطينه رسالة على لسان علي بدعوة جماعة الفسطاط إلى الثورة في المدينة، فلما واجهوا علياً بذلك قالوا له: أنت الذي كتبتَ إلينا تدعونا، فأنكر عليهم أنه كتب لهم، وكان ينبغي أن يكون ذلك سبباً ليقظتهم ويقظة علي أيضاً إلى أن بين المسلمين شيطاناً يزوِّر عليهم الفساد لخطة مرسومة تنطوي على الشر الدائم والشرر المستطير، وكان ذلك كافياً لإيقاظهم إلى أن هذه اليد الشريرة هي التي زوَّرت الكتاب على عثمان إلى عامله بمصر بدليل إن حامله كان يتراءى لهم متعمِّداً ثم يتظاهر بأنه يتكتم عنهم ليثير ريبتهم فيه، فراح المسلمون إلى يومنا هذا ضحيةَ سلامة قلوبهم في ذلك الحين. إن دراسة هذا الموضوع الآن على ضوء القرائن القليلة التي بقيت لنا بعد مضي ثلاثة عشر قرناً تحتاج إلى من يتفرغ لها من شباب المسلمين، وسيجدون مستندات الحق في تاريخهم كافية لوضع كل شيء في موضعه إن شاء الله.(9/29)
فأول فتنة وقعت في الإسلام هي فتنة المسلمين بمقتل خليفتهم وصهر نبيهم الإمام العادل الكريم الشهيد ذي النورين عثمان بن عفان رضوان الله عليه. وقد علمتَ أن الذين قاموا بها وجنوا جنايتها فريقان: خادعون ومخدَعون. وقد وقعت هذه الكارثة في شهر الحج، وكان عائشة أم المؤمنين قد خرجت إلى مكة مع حجاج بيت الله ذلك العام، فلما علمت بما حدث في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أحزنها بغي البغاة على خليفة نبيهم. وعلمت أن عثمان كان حريصاً على تضييق دائرة الفتنة، فمنع الصحابة من الدفاع عنه، بعد أن أقام الحجة على الثائرين في كل ما ادعوه عليه وعلى عمَّاله، كان الحق معه في كل ذلك وهم على الباطل، وكان هو المثل الإنساني الأعلى في العدل وكرم النفس والنزول على قواعد الإسلام واتباع سننه، وكان في مدة خلافته أكرم وأصلح وأكثر إنصافاً بالحق واتباعاً للخير مما كان هو عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعت عائشة بكبار الصحابة، وتداولت الرأي معهم فيما ينبغي عمله -وقد عرف القراء ما كانوا عليه من نزاهة، وفرار من الولاية، وترفُّع عن شهوات النفس- فرأوا أن يسيروا مع عائشة إلى العراق ليتفقوا مع أمير المؤمنين علي على الاقتصاص من السبئيين الذي اشتركوا في دم عثمان وأوجب الإسلام عليهم الحد فيه، ولم يكن يخطر على بال عائشة وكل الذين كانوا معها -وفي مقدمتهم طلحة والزبير المشهود لهما من النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة- أنهم سائرون ليحاربوا علياً، ولم يكن يخطر ببال علي أن هؤلاء أعداء له وأنهم حرب عليهم. وكل ما في الأمر أن أولئك المتنطعين الغلاة الذين انخدعوا بدعوة عبد الله ابن سبأ واشتركوا في قتل عثمان انغمروا في جماعة علي، وكان فيهم الذين تلقنوا الدعوة له وتتلمذوا على ذلك الشيطان اليهودي في دسيسة أوصياء الأنبياء ودعوى خاتم الأوصياء، فجاءت عائشة ومن معها للمطالبة بإقامة الحد على الذين اشتركوا في جناية قتل عثمان،(9/30)
وكان علي -وهو ما هو في دينه وخلقه- ليتأخر عن ذلك، إلا أنه كان ينتظر أن يتحاكم إليه أولياء عثمان. وقبل أن يتفق الفريقان على ذلك شعر قتلةُ عثمان بأن الدائرة ستدور عليهم، وهم على يقين بأن علياً لن يحميهم من الحق عند ظهوره، فأنشب هؤلاء حرب الجمل، فكانت الفتنة الثانية بعد الفتنة الأولى. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري معتمداً على كتاب (أخبار البصرة) لعمر بن شبة، وعلى غيره من الوثائق القديمة التي جاء فيها عن ابن بطال قولُ الملهب: ... إن أحداً لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على علي منعَه مِن قَتْلِ قتلة عثمان وترك القصاص منهم. وكان علي ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتصَّ منه، فاختلفوا بحسب ذلك وخشي من نُسِبَ إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم (أي بين فريقي عائشة وعلي) إلى أن كان ما كان.(9/31)
ونجح قتلة عثمان في إثارة الفتنة بوقعة الجمل، فترتب عليها نجاتهم وسفك دماء المسلمين من الفريقين، وإنك لتجد الأسماء التي سجلها التاريخ في فتنة عثمان يتردد كثير منها في وقعة الجمل، وفيما بين الجمل وصفِّين، ثم في وقعة صفين وحادثة التحكيم، وفي هذه الحادثة الأخيرة اتسعت دائرة الغلوّ في الدين، فكثر المصابون بوبائه، وتفننوا في مذاهبه، إلى أن انتهى بانشقاق الخوارج عن علي، وتميَّز فريق من المتخلِّفين مع علي باسم الشيعة، ولم يقع نظري على اسم للشيعة في حياة علي كلها إلا في هذا الوقت سنة 37 هـ. ومن الظواهر التي تسترعي الأنظار في تاريخ هذه الفترة أن الغلاة من الفريقين -فريق الشيعة وفريق الخوارج- كانوا سواء في الحرمة للشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، تبعاً لما كان عليه أمير المؤمين علي نفسه، وما كان يعلنه على منبر الكوفة من الثناء عليهما والتنويه بفضلهما. أما الخوارج فإنهم والإباضية ظلوا على ذلك لم يتغيروا أبداً، فأبو بكر وعمر كانا عندهم أفضل الأمة بعد نبيها، استرسالاً منهم فيما كانوا عليه مع علي قبل أن يفارقوه. وأما الشيعة فإنهم عندما جددوا بيعتهم لعلي بعد خروج الخوارج إلى حروراء والنهروان قالوا له أوَّلاً: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم -كرم الله وجهه- سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي يوالوا من والى على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعادوا من عادى على سنته صلى الله عليه وسلم، فجاء ربيعة بن أبي شداد الخثعمي -وكان صاحب راية خثعم في جيش علي أيام الجمل وصفين- فقال له علي: بايِع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال ربيعة: وعلى سنة أبي بكر وعمر. فقال علي: لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونا على شيء من الحق. أي أن سنة أبي بكر وعمر إنما كانت محمودة ومرغوباً فيها لأنها قائمة على العمل بكتاب الله وسنة رسوله،(9/32)
فبيعتكم الآن على كتاب الله وسنة رسوله تدخل فيها سنة أبي بكر وعمر.
هكذا كان أمير المؤمنين من أخويه وحبيبيه خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر في حياته كلها، وهكذا كانت شيعته الأولى: من خرج عليه، ومن جدد البيعة له بعد التحكيم.
وحكاية التحكيم هذه كانت مادة دسمة للمغرضين من مجوس هذه الأمة أتاحت لهم دسَّ السموم في تاريخنا على اختلاف العصور، وأول من شمَّر عن ساعديه للعبث بها وتشويه وقائعها أبو مخنف لوط بن يحى، ثم خلف خلْفٌ بعد أبي مخنف بلغوا من الكذب ما جعل أبا مخنف في منزلة الملائكة بالنسبة إلى هؤلاء الأبالسة، وأبو مخنف معروف عند ممحِّصي الأخبار وصيارفة الرجال بأنه أخباريٌّ تالف لا يُوثَق به. نقل الحافظ الذهبي في (ميزان الاعتدال) عن حافظ إيران ورأس المحققين من رجالها الرازي رحمه الله أنه تركه وحذَّر الأمة من أخباره، وأن الدار قطني أعلن ضعفه، وأن ابن معين حكم عليه بأنه ليس بثقة، وأن ابن عدي وصفه بأنه شيعيٌّ محتَرق.(9/33)
ومن براعة هؤلاء المغرضين في تحريف الوقائع ودس أغراضهم فيها، وتوجيهها بحسب أهوائهم، لا كما وقعت بالفعل، أنهم كانوا يعمدون إل حادثة وقعت بالفعل فيوردون منها ما كان يعرفه الناس، ثم يلصقون بها لصيقاً من الكذب والإفك يوهمون أنه من أصل الخبر ومن جملة عناصره، فيأتي الذين من بعدهم فيجدون الخبر القديم مختصراً فيحكمون عليه بأنه ناقص، ويقولون: من حَفِظَ حُجَّةٌ على من لم يحفظ. ويتناولون الخبر بما لصق به من لصيق مفترى، حتى تكون الرواية الجديدة وما في بطنها من الإثم هي المتداولة بين الناس. وقد يعمد هؤلاء المغرضون إلى موهبة من مواهب النبوغ عرف بها أحد أبطال التاريخ الإسلامي وعظماء الدعاة الفاتحين، ولم يعرف عنه استعمالها إلا في سبيل الحق والخير، فيطلعون على الناس بأكاذيب يرتبونها على تلك الموهبة، ويوهمون أن رجل الحق والخير الذي حلاَّه الله بتلك الموهبة ولم يستعملها إلا في نشر دين الله وتوسيع نطاق الوطن الإسلامي، قد انقلب بزعمهم مع الزمن، وسخَّر نبوغه للباطل والشر؛ فإذا أخذ المحققون في تمحيص ذلك، وتحرِّي مصادر هذه التهم التي لا تلتئم مع ما تقدمها من سيرة ذلك البطل المجاهد، وجدوها من بضاعة الكذَّابين ومفترياتهم، ولكن قلَّما يُجدي ذلك بعد أن يكون (قد قيل ما قيل إن صِدقاً وإن كَذباً).(9/34)
هذا أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل السهمي بطل أجنادين، وفاتح مصر، وأول حاكم ألغى نظام الطبقات فيها، وكان السبب الأول في عروبتها وإسلام أهلها، وشريك مسلميها في حسناتهم من زمنه إلى الآن لأنه الساعي في دخولهم في الإسلام - هذه الرجل العظيم عرفه التاريخ بالدهاء ونضوج العقل وسرعة البادرة، وكان نضوج عقله سبب انصرافه عن الشرك ترجيحاً لجانب الحق واختياراً لما دلَّه عليه دهاؤه من سبيل الخير، فجاء مزيِّفو الأخبار من مجوس هذه الأمة وضحاياهم من البلهاء فاستغلُّوا ما اشتُهر به عمرو من الدهاء استغلالاً تقرُّ به عين عبد الله بن سبأ في طبقات الجحيم.(9/35)
يقول قاضي قضاة أشبيلية بالأندلس الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري (المولود في أشبيلية سنة 468 والمتوفَّى بالمغرب سنة 543) في كتابه (العواصم من القواصم) ص177 بعد أن ذكر ما شاع بين الناس في مسألة تحكيم عمرو وأبي موسى، وما زعموه من أن أبا موسى كان أبله وأن عمْراً كان محتالاً: هذا كله كذب صراح، ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع. وإنما الذي روى الأئمة الأثبات أنهما -يعني عمراً وأبا موسى- لما اجتمعا للنظر في الأمر، في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر، عزَل عمروٌ معاوية. ذكر الدار قطني بسنده عن حضين بن المنذر أنه لما عزل عمرو معاويةَ جاء (أي حضين) ضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا (يعني عمرو بن العاص) كذا وكذا (يعني اتفاقه مع أبي موسى على عزل الأميرين المتنازعين لحقن دماء المسلمين وردَّاً للأمر إليهم يختارون من يكون به صلاح أمرهم). فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه. قال حضين: فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولقد قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يُسْتَعَنْ بكما ففيكما معونة، وإن يُسْتَغْنَ عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. فقال: فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه. فأتيته (أي أن حضيناً أتى معاوية) فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه. أي أن الذي بلغ معاوية من أن عمراً وأبا موسى عزلاه هو كما بلغه، وأنهما رأيا أن يرجع في الاختيار من جديد إلى النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. ثم ذكر القاضي أبو(9/36)
بكر بن العربي بقية خبر الدارقطني عن إرسال معاوية رسولاً -وهو أبو الأعور الذكواني- إلى عمرو بن العاص يعاتبه، وأن عمراً أتى معاوية وجرى بينهما حوار وعتاب، فقال عمرو لمعاوية: إن الضجور قد يحتلب العلبة. وهو مثل معناه أن الناقة الضجور التي لا تسكن للحالب قد ينال الحالب من لبنها ما يملأ العلبة. فقال له معاوية: وتربذ الحالب فتدق عنقه وتكفأ إناءه.
فرواية الدار قطني هذه -وهو من أعلام الحديث- عن رجال عدول معروفين بالتثبت، ويقدرون مسئولية النقل، هي التي تتناسب مع ماضي عمرو وأبي موسى وأيامهما في الإسلام ومكانتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وموضعهما من ثقة الفريقين بهما واختيارهما من بين السادة القادة المجربين. وأما الافتئات على أبي موسى والإيهام بأنه كان أبله فهو أشبه بالرقعة الغريبة في ردائه السابغ الجميل. يقول القاضي أبو بكر بن العربي (ص174): وكان أبو موسى رجلاً تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ، وقدَّمه عمر بن الخطاب وأثنى عليه بالفهم. وزعمت الطائفة التاريخية أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول. ثم ردَّ هذه الأكاذيب وأحال في تفصيل الرد على كتاب له اسمه سراج المريدين.
وبعد فإن صحائف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت كقلوبهم نقاء وسلامة وطهراً. وما نتمناه من تمحيص التاريخ أول ما يشترط له فيمن يتولاه أن يكون سليم الطوية لأهل الحق والخير، عارفاً بهم كما لو كان معاصراً لهم، بارعاً في التمييز بين حملة الأخبار: من عاش منهم بالكذب والدس والهوى، ومن كان منهم يدين لله بالصدق والأمانة والتحرز عن تشويه صحائف المجاهدين الفاتحين الذي لولاهم لكنا نحن وأهل أوطاننا جميعاً لا نزال كفرة ضالين.
********************
جيل قرآني فريد(9/37)
هنالك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان . وأن يقفوا أمامها طويلاً . ذلك أنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها .
لقد خرَّجت هذه الدعوة جيلاً من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلاً مميزًا في تاريخ الإسلام كله وفى تاريخ البشرية جميعه . ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى ..
نعم وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ . ولكن لم يحدث قط أن تجمَّع مثل ذلك العدد الضخم ، في مكان واحد ، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة .
هذه ظاهرة واضحة واقعة ، ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه طويلاً ، لعلنا نهتدي إلى سرِّه .
إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا ، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه العملي ، وسيرته الكريمة ، كلها بين أيدينا كذلك ، كما كانت بين أبدي ذلك الجبل الأول ، الذي لم يتكرر في التاريخ ..
ولم يغب إلا شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل هذا هو السر ؟
لو كان وجود شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتميًّا لقيام هذه الدعوة ، وإيتائها ثمراتها ، ما جعلها الله دعوة للناس كافة ، وما جعلها آخر رسالة ، وما وكَّل إليها أمر الناس في هذه الأرض ، إلى آخر الزمان ..
ولكن الله - سبحانه - تكفل بحفظ الذِّكْر ، و علم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبمكن أن تؤتي ثمارها . فاختاره إلى جواره بعد ثلاثة وعشرين عامًا من الرسالة ، وأبقى هذا الدِّين من بعده إلى آخر الزمان ..
وإذن فإن غيبة شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها .
* * *
فلنبحث إذن وراء سبب آخر . لننظر في النبع الذي كان يستقي منه هذا الجيل الأول ، فلعل شيئاً قد تغير فيه . ولننظر في المنهج الذي تخرجوا عليه ، فلعل شيئاً قد تغير فيه كذلك .(9/38)
كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن . القرآن وحده . فما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه إلا أثرًا من آثار ذلك النبع . فعندما سُئلت عائشة رضي الله عنها - عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : " كان خُلقه القرآن " ( ) .
كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ، ويتكيفون به ، ويتخرجون عليه ، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة ، ولا ثقافة ، ولا علم ، ولا مؤلفات ، ولا دراسات .. كلا ! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه ، أو على امتداده . وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها ، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم . وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك . وحضارات أخرى قاصية ودانية : حضارة الهند وحضارة الصين إلخ . وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها ، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة .. فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده .. في فترة تكونه .. وإنما كان ذلك عن " تصميم " مرسوم ، ونهج مقصود . يدل على هذا القصد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى في يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – صحيفة من التوراة . وقوله : " إنه والله لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حلَّ له إلا أن يتبعني " ( ) .
وإذن فقد كان هناك قصد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل .. في فترة التكون الأولى .. على كتاب الله وحده ، لتخلص نفوسهم له وحده . ويستقيم عودهم على منهجه وحده . ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستقي من نبع آخر .(9/39)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد صنع جيل خالص القلب . خالص العقل . خالص التصور . خالص الشعور . خالص التكوين من أى مؤثر آخر غير المنهج الإلهي ، الذي يتضمنه القرآن الكريم .
ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده . فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد ..
ثم ما الذي حدث ، اختلطت الينابيع . !
صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم ، وأساطير الفرس وتصوراتهم ، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى ، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات . واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم ، وعلم الكلام ، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا . وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل ، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدًا .
وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملاً أساسيًّا من عوامل ذلك الاختلاف البيِّن بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد .
هناك عامل أساسي آخر غير اختلاف طبيعة النبع . ذلك هو اختلاف منهج التلقي عما كان عليه في ذلك الجيل الفريد ..
إنهم - في الجيل الأول - لم يكونوا يقرءون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع ، ولا بقصد التذوق والمتاع . لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته . إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها ، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته ، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه ، كما يتلقى الجندي في الميدان " الأمر اليومي " ليعمل به فور تلقيه !
ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة ، لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه ( ) .
هذا الشعور ..
شعور التلقي للتنفيذ ..(9/40)
كان يفتح لهم من القرآن آفاقًا من المتاع وآفاقًا من المعرفة ، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع ، وكان ييسر لهم العمل ، ويخفف عنهم ثقل التكاليف ، ويخلط القرآن بذواتهم ، ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي ، وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف ، إنما تتحول آثارًا وأحداثًا تحوِّل خط سير الحياة .
إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يُقبل عليه بهذه الروح : روح المعرفة المنشئة للعمل . إنه لم يجيء ليكون كتاب متاع عقلي ، ولا كتاب أدب وفن ، ولا كتاب قصة وتاريخ - وإن كان هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهاح حياة . منهاجًا إلهيًّا خالصًا . وكان الله سبحانه يأخذهم بهذا المنهج مفرقًا ، يتلو بعضه بعضًا :
{ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ]
لم ينزل هذا القرآن جملة ، إنما نزل وفق الحاجات المتجددة ، ووفق النمو المطَّرِد في الأفكار والتصورات ، والنمو المُطَّرِد في المجتمع والحياة ، ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية . وكانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة والحادثة المعينة تحدث الناس عما في نفوسهم ، وتصوِّر لهم ما هم فيه من الأمر ، وترسم لهم منهج العمل في الموقف ، وتصحح لهم أخطاء الشعور والسلوك ، وتربطهم في هذا كله بالله ربهم ، وتعرِّفُه لهم بصفاته المؤثرة في الكون ، فيحسون حينئذ أنهم يعيشون مع الملأ الأعلى ، تحت عين الله ، في رحاب القدرة . ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم ، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم .(9/41)
إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول . ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرَّج الأجيال التي تليه . وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملاً أساسيًا كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد .
هناك عامل ثالث جدير بالانتباه والتسجيل .
لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية . كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهداً جديدًا ، منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية . وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف ، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام !
وبهذا الإحساس كان يتلقى هَدْي الإسلام الجديد ، فإذا غلبته نفسه مرة ، وإذا اجتذبته عاداته مرة ، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة ..
شعر في الحال بالإثم والخطيئة ، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه ، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهَدْي القرآني .
كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية ، فهو قد انفصل نهائيًا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيًا ببيئته الإسلامية . حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي ، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر .
وكان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية ، وعُرْفُها وتصورها ، وعاداتها وروابطها ، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد ، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود . وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد ، بقيادته الجديدة ، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته وكل تبعيته .(9/42)
وكان هذا مفرق الطريق ، وكان بدء السير في الطريق الجديد ، السير الطليق مع التخفف من كل ضغط للتقاليد التي يتواضع عليها المجتمع الجاهلي ، ومن كل التصورات والقيم السائدة فيه . ولم يكن هناك إلا ما يلقاه المسلم من أذى وفتنة ، ولكنه هو في ذات نفسه قد عزم وانتهى ، ولم يعد لضغط التصور الجاهلي ، ولا لتقاليد المجتمع الجاهلي عليه من سبيل .
نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم . كل ما حولنا جاهلية ..
تصورات الناس وعقائدهم ، عاداتهم وتقاليدهم ، موارد ثقافتهم ، فنونهم وآدابهم ، شرائعهم وقوانينهم . حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ، ومراجع إسلامية ، وفلسفة إسلامية ، وتفكيرًا إسلاميًا ..
هو كذلك من صنع هذه الجاهلية !!
لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا ، ولا يتضح تصور الإسلام في عقولنا ، ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة .
فلا بد إذن - في منهج الحركة الإسلامية - أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها . لا بد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال ، النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشبه شائبة . نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق ، وجود الله سبحانه ..
ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة ، وقيمنا وأخلاقنا ، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة .
ولا بد أن نرجع إليه - حين نرجع - بشعور التلقي للتنفيذ والعمل ، لا بشعور الدراسة والمتاع . نرجع إليه لنعرف ماذا يطلب منا أن نكون ، لنكون . وفي الطريق سنلتقي بالجمال الفني في القرآن وبالقصص الرائع في القرآن ، وبمشاهد القيامة في القرآن .. وبالمنطق الوجداني في القرآن ..(9/43)
وبسائر ما يطلبه أصحاب الدراسة والمتاع . ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن يكون هو هدفنا الأول . إن هدفنا الأول أن نعرف :
ماذا يريد منا القرآن أن نعمل ؟ ما هو التصور الكلي الذي يريد منا أن نتصور ؟
كيف يريد القرآن أن يكون شعورنا بالله ؟ كيف يريد أن تكون أخلاقنا وأوضاعنا ونظامنا الواقعي في الحياة ؟
ثم لا بد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية ..
في خاصة نفوسنا ..
ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له ، فهو بهذه الصفة ..
صفة الجاهلية ..
غير قابل لأن نصطلح معه . إن مهمتنا أن نغيِّر من أنفسنا أولاً لنغير هذا المجتمع أخيرًا .
إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع . مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه . هذا الواقع الذي يصطدم اصطدامًا أساسيًا بالمنهج الإسلامي ، وبالتصور الإسلامي ، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش .
إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته ، وألا نعدِّل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق . كلا ! إننا وإياه على مفرق الطريق ، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق !
وسنلقى في هذا عنتًا ومشقة ، وستفرض علينا تضحيات باهظة ، ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي ، ونصره على منهج الجاهلية .
وإنه لمن الخير أن ندرك دائمًا طبيعة منهجنا ، وطبيعة موقفنا ، وطبيعة الطريق الذي لا بد أن نسلكه للخروج من الجاهلية كما خرج ذلك الجيل المميز الفريد ..(( معالم في الطريق ))
******************************
نظرة إلى الجيل الفريد(9/44)
ذلك الجيل الذي قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم قرني" (1).
والذي استحق استحقاقا كاملاً وصف الله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110].
إنه الجيل الذي فيه اللقاء بين المثال والواقع, فترجم مثاليات الإسلام إلي واقع, وارتفع بالواقع البشري إلي درجة المثال.
والمثالية الواقعية, أو الواقعية المثالية من أبرز خصائص هذا الدين.
فلا هو يضع مُثُلاً روحانية عسيرة التطبيق, تهمل ضرورات الإنسان وواقعه المادي, وتشد الناس إلي أعلا شدا بلا هوادة فتعلقهم في الفضاء, كما تصنع الهندوكية والبوذية والرهبانية, ولا هو إذ يلتفت إلي مطالب الجسد وعالم المادة يحبس الإنسان في نطاق ضروراته, ويقعد به عن التحليق في الآفاق العليا التي يتحقق فيها المثال, بل يأخذ بهذه وتلك في آن واحد علي توازن واتساق, ومن ثم تلتقي فيه المثالية التي لا تهمل الواقع, بالواقعية التي لا تهمل المثال, ويكون من نتائجها -في أعلا حالاتها- ذلك الجيل المتفرد في التاريخ.
ونحن في حاجة ملحة لأن نتعرف علي هذا الجيل, لنعرف مكان الأسوة لنا في واقعنا المعاصر, ولنقيس علي ضوئه مدي قربنا أو بعدنا عن حقيقة الإسلام.
ونريد -قبل أن نرسم السمات الفريدة لذلك الجيل المتفرد- أن نتعرف علي العوامل التي أثرت فيه, فرفعته إلي القمم السامقة التي وعاها التاريخ.
__________
(1) أخرجه الشيخان.(9/45)
لقد كان العرب شتيتاً متناثراً لا يتجمع علي شيء, رغم وجود مقومات التجمع الأرضية كلها من وحدة الأرض, ووحدة الأرض, ووحدة اللغة, ووحدة الثقافة, ووحدة التاريخ, ووحدة المصالح... تلك التي يقول علم الاجتماع الجاهلي إنها هي التي تنشئ "الأمة". ولكن الأمة مع ذلك لم تنشأ رغم مرور الزمن المديد علي هذا الشتيت المتناثر وهو يحمل تلك المقومات. بل كانوا قبائل متناحرة تأكلها الحروب والثارات, وتأكلها قبل كل شئ جاهليتها التي تعيش فيها مجافية للهدي الرباني.
ومن هناك رفعها الإسلام, لا أفرادا ولا قبائل, ولكن "أمة" هي أعظم أمة في التاريخ بشهادة الله مخرجها إلي الوجود: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110].
فمن أي شئ تكونت هذه الأمة الفذة, وما العوامل التي أثرت في تكوينها ونشأتها؟.
لا شك أن خامتها هي ذات الخامة التي كانت تعيش في ذات الأرض قبل هذا الحدث العظيم لعدة قرون. ولكن شيئاً ما -فعله كفعل السحر- قد أنشأ من هذه الخامة في سنوات قليلة نسيجاً غير مسبوق لا ملحوق... فما هو يا تري ذلك الشيء العجيب التأثير, الذي أخرج ذلك النسيج الفذ من تلك الخامة التي ظلت لقًي مهملاً عدة قرون؟!.
لا شك -بادئ ذي بدء- أنه القرآن... ذلك الكتاب العظيم الذي نزل ليعيد بناء البشرية علي هدي الوحي الرباني:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [سورة الإسراء 17/9].
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)} [سورة الزخرف 43/4].
ماذا يفعل القرآن في النفوس؟ هل يغير خامتها فيخرجها من بشريتها لتكون خلقاً آخر؟ كلا! فقد نزل للبشر, لا ليبدل فطرتهم, بل ليعيدهم إلي فطرتهم التي فطرهم الله عليها يوم خلق الإنسان {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [سورة التين 95/4].(9/46)
{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)} [سورة الروم 30/30].
أرأيت حين تمرر المغنطيس لي قطعة من الحديد, أتراه يغير طبيعتها؟ كلا! ولكنه يعيد ترتيب ذراتها فتصبح شيئاً آخر غير قطعة الحديد المبعثرة الذرات! تصبح كياناً جديداً له طاقة مغناطيسية كهربائية لم تكن له من قبل! وكذلك يفعل في نفوس البشر هذا الدين المنزل في كتاب الله. إنه يتخلل النفوس البشرية فيعيد ترتيب ذراتها, فتصبح قوي كونية وطاقات, بعد أن كانت مبعثرة من قبل, ضائعة في التيه.
فأي شيء في هذا الكتاب العظيم هو مصدر ذلك السر الذي يحول الخامات المبعثرة الضائعة إلي طاقات؟ أهو نسقه اللغوي المعجز؟ أهو قوة بيانه؟ أهو وضوح معاينة؟ أهو حديثه عن اليوم الآخر وما فيه من مشاهد تهتز لها أوتار القلوب؟ أهو تشريعاته وتوجيهاته وتنظيماته؟ أهو قصصه وأمثاله وعبره؟ أهو تذكيره الدائم بعظمة الله جل جلاله وقدرته المعجزة التي لا تحدها حدود؟!.
إنه ولا شك كل ذلك.... فكل حرف في هذا القرآن له دلالته في مكانه, وله جانبه من التأثير.
ولكننا لا نكون مخطئين إن قلنا إن أوسع موضوعات القرآن جميعاً هو موضوع الألوهية.... هو قضية لا إله إلا الله.(9/47)
ولقد قلت في غير هذا المكان(1), إنه يخطر لنا لأول وهلة أن تركيز القرآن -وخاصة في السور المكية- علي هذه القضية سببه أن القرآن كان يخاطب بادئ ذي بدء قوماً مشركين, يشركون مع الله آلهة أخري, فكان من المناسب التركيز علي قضية "لا إله ألا الله" لتصبح عقائد أولئك المشركين... ولكن استمرار القرآن في الحديث عن هذه القضية في السور المدنية, وفي الكلام الموجه للمؤمنين خاصة, الذين آمنوا واستقر الإيمان في نفوسهم حتى أنشأوا أمة مسلمة ودولة مسلمة, وجيشاً مسلماً يقاتل في سبيل الله, قاطع الدلالة علي أن القضية لها أهميتها الذاتية, حتى لو كان المخاطبون مؤمنين! فالتركيز عليها ليس ناشئاً من إنكار المخاطبين بهذا القرآن أول مرة, إنما هو ناشئ من أنها هي المفتاح الذي القلوب البشرية للخير, وينشئ فيها الخير, ويربيها علي الخير, ويُنْتجُ منها الخير! وأنه لا يوجد مفتاح لهذه القلوب, يهيئها لما تهيئه لها لا إله إلا الله!.
وحين تكون القلوب منكرة تخاطب بهذه القضية لتتفتح للحق والخير... وحين تكون مؤمنة تخاطب بها كذلك ليتعمق الإيمان فيها ويتجدد, لأنه الزاد الذي لا زاد سواه. انظر إلي هذا التوجيه للمؤمنين:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [سورة النساء 4/136].
إنه يقول للذين آمنوا آمنوا! وهم مؤمنون بذات الأمر الذي يراد منهم الإيمان به! وذلك لكي يزدادوا إيماناً ويحرصوا علي ما في قلوبهم من الإيمان!.
ولقد فعل الإيمان بـ "لا إله إلا الله" فعله في نفوس أولئك المشركين, فأنشأهم نشأة جديدة كأنها ميلاد جديد.... ثم فعل فعله في نفوسهم بعد أن آمنوا فأصبحوا ذلك الجيل الفريد الذي نزل في وصفه هذا التقرير الرباني:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران 3/110].
__________
(1) في كتاب دراسات قرآنية.(9/48)
نعم... إنها "لا إله إلا الله" مفتاح القلوب, مفتاح الطريق لهذه القلوب حين تتجه الوجهة الصحيحة وتهتدي بنور الله.
ذلك أن الإنسان-كما قلنا في أكثر من موضع- عابد بفطرته.... وإنما يختلف المعبود الذي يتوجه إليه بالعبادة.
وعلي حسب المعبود يكون منهج الحياة....
فحين يكون المعبود هو الله يكون منهج الحياة هو المنهج الرباني المبين فيه الحلال والحرام, والحسن والقبيح, والمباح والغير مباح.... وحين يكون المعبود شيئاً آخر, يكون منهج الحياة هو الذي يمليه ذلك الشيء المعبود, سواء كان هو الهوي صراحة دون مواربة أم كان هو الهوي من وراء أستار وشعارات وعناوين ومن ثم تتعدد الصور في الجاهليات المختلفة وتلتقي في أنها كلها هوي... إن يكن هوي فرد بعينه أو مجموعة أفراد أو هوي كل الناس مجتمعين.... فكلها في النهاية أهواء.
والمنهج الرباني هو الذي يُصلح الحياة البشرية والنفس البشرية لأنه منزل من عند اللطيف الخبير الذي يعلم من خلق ويعلم ما يصلحه وما يصلح له, ومنزل من عند تصرف قد يقع اليوم يحيط علمه بكل شيء فلا تخفي عليه خافية, ولا يغفل عن أثر تصرف قد يقع اليوم ولكن أذره لا يظهر إلا بعد فترة من الزمن لا يستوعبها عمر الفرد؛ ومنزل من عند الحكم العدل الذي لا تميل بعدله الأهواء, الغنّي الذي لا تؤثر في حكمه المصالح الذاتية والحاجات.... وذلك كله فضلا عن أنه هو الله الذي يحق له وحده أن يقرر منهج الحياة للإنسان, لأنه هو خالقه وخالق هذا الكون كله, فبما أنه صاحب الخلق فهو صاحب الأمر:
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [سورة الأعراف 7/54].(9/49)
ولن يستقيم الإنسان للمنهج الرباني حتى يعلم صدقا ويقينا أنه لا إله إلا الله. عندئذ يسلم نفسه لله الواحد الأحد؛ حين يستيقن أنه هو الرزاق ذو القوة المتين, وأنه الضار النافع, وأنه هو المحيي المميت, وأنه هو مدبر أمر الكون كله, وهو صاحب المشيئة النافذة فيه, وأن كل ما عداه لا يملكون شيئاً علي الحقيقة, وكل ما يملكونه في الظاهر يملكونه بمشيئة من الله وبقدر من الله.
عندئذ "يسلم" الإنسان! أي يسلم قيادة لله, فيتقبل قدره ومشيئته, ويتقبل أوامره ونواهيه, ويتقبل منهجه في الحياة.
ثم إن إقامة هذا المنهج في الأرض لا تتم بمجرد رغبة الناس في إقامته, أو إسلام أنفسهم له. فقد سبق في مشيئة الله وقدره ألا يكون الناس أمة واحدة.
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود 11/118-119].
فهناك إذن من لا يؤمن بلا إله إلا الله, ومن يكرهها ويحاربها ويحارب أهلها ويقاوم منهجها.... ومن ثم تحتاج إقامة هذا المنهج في الأرض إلي مجاهدة أولئك الكافرين بلا إله إلا الله, الكارهين لمنهج الله.
والجهاد من أجل إقامة المنهج الرباني في الأرض يعرض الإنسان للأذى, ويعرضه للموت, ويعرضه للحرمات من متاع الأرض.
ويحتاج القلب البشري لكي يدخل معمعة الجهاد بشتى أنواعه وشتى مخاطره أن يؤمن مرة أخري أنه لا إله إلا الله! وأن الله هو الذي يحيي ويميت, وهو الذي يضر وينفع, وهو الذي يقبض الرزق ويبسط... وإلا تزلزلت قدماه علي الطريق عند أول اهتزازة تحدث في هذا الإيمان!.
لحظة واحدة يهتز فيها الإيمان القلبي الداخلي بأن الله -وحده- هو الذي يحرك الأقدار بمشيئته, وهو الذي يقدر النفع أو الضر أو الحياة أو الموت أو بسط الرزق أو قبضه... تختل الخطي علي الطريق, وينكص صاحبها علي عقبيه, إلا أن يتولاه الله برحمته, فيثبت إيمانه, فتثبت خطاه من جديد!.(9/50)
ومن أجل ذلك كانت لا إله إلا الله هي الإعداد للجهاد كما كانت من قبل هي مفتاح الإسلام. إسلام القلب لله.
وحتى في السلم... في البحبوحة والراحة... فهناك هذه الثقلة التي تقعد بالقلب البشري عن "الاستقامة" علي الطريق.... ثقلة الشهوات المزينة المحببة للناس: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [سورة آل 3/14].
ولن يصمد القلب البشري لهذه الثقلة, بكل ما تحمله من إغراء وجذب, إلا أن يؤمن إيمان اليقين أنه لا إله إلا الله, وأن هذه الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف.
الإيمان بالله -حين يعمر القلب البشري- يبعث فيه الخشية والتقوى التي تؤهله لطاعة الله فيما يأمره به وينهاه عنه. والإيمان بأن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف, وأن هناك بعثاً ونشوراً, وحساباً وجزاءً, ونعيماً وعذاباً, هو الذي يغير موازين الحياة كلها, وقيمها ومستوياتها, فلا يعود المتاع الحسي هو غاية الحياة, ولا يعود الاستغراق فيه هو الشغل الشاغل ولا اللهم المقعد المقيم, كما يكون الحال في الجاهليات, حين يؤمن الإنسان أن الحياة فرصة واحدة محدودة بجدود العمر القصير, وكل يوم ينقضي لا يعود.... فتكون الحكمة "الواقعية" حينئذ أن ينتهب أكبر قدر من اللذات في هذا العمر المحدود قبل أن تفوت إلي غير رجعة! ولا يكون للحلال والحرام عنده يومئذ معني, إنما يكون اهتبال الفرص المتاحة هو الغاية التي تسوق الناس سوقاً فيتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام!.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [سورة محمد 47/12].
أما حين يؤمن بالبعث والجزاء, والنعيم المقيم والعذاب الفظيع المتجدد:(9/51)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [سورة النساء 4/56-57].
عندئذ يسهل عليه أن ينضبط في الحدود التي رسمها الله دون أن يشعر بالحرمان, لأنه يعلم أن كل متاع زائد يشتهيه في الأرض ثم يمتنع عنه طاعة لله, لن "يضيع" ولن يذهب بغير عودة, إنما هو "طاعة" تحسب له في الميزان, فينال عليها نعيماً خالداً في الجنان.... فتكون الحسبة بذلك رابحة, ولا تذهب نفسه حسرات علي المتاع الفائت الذي تركه طاعة لله. ومن جهة أخري فإن تصور العذاب الفظيع جزاء علي المخالفة التي يهم بها انسياقاً وراء شهواته, يجعله يري أن الامتناع عنها هو الصفقة الرابحة, وليس الانغماس فيها بلا انضباط علي طريقة الحيوان... ومن هنا تتأكد التقوى والخشية التي يبعثها الإيمان بالله.
من أجل ذلك كان الكتاب الذي يرسم منهج الحياة للناس في الأرض مرتكزاً كله علي الإيمان بالله واليوم الآخر, وكانت التوجيهات والتشريعات والتنظيمات الواردة في الكتاب, كلها موصولة بالإيمان بالله واليوم الآخر, أعظم محورين يدور حولهما الكتاب.(9/52)
وليس هنا مجال تفصيل الموضوعات الواردة في كتاب الله وأثرها في بناء النفس البشرية, فقد تحدثت عن ذلك في غير هذا الكتاب(1). ولكني أذكر هذه النبذة السريعة فقط في مجال بيان العوامل التي أنشأت ذلك الجيل المتفرد علي غير مثال, لأقرر أن القرآن بما يحويه من إشارات وتوجيهات, وتنظيمات وتشريعات, كان العامل الأكبر والأعظم في بناء النفوس المتفردة في التاريخ.
وحين نذكر القرآن نذكر السنة بلا شك, فهي المكملة والشارحة للكتاب المنزل, هي بيان ما أنزل الله وتفصيله:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل 16/44].
وموضوعات السنة هي موضوعات القرآن مع اختلاف النسبة بينهما. فلئن كان القرآن قد توسع في شرح قضية الألوهية من جميع أبعادها وأقطارها, ودخل بها إلي النفس البشرية من جميع مداخلها, من الحب والكره والخوف والرجاء والحسي والمعنوي والإيمان بالمحسوس والإيمان بالغيب.....(2) وخاطب النفس في جميع أحوالها, في الإقبال أحوالها, في الإقبال والإدبار, في رغبة والرهبة, في الارتفاع والهبوط, في السكون والحركة, في الطمأنينة والفزع, في الرخاء والشدة, في الوحدة وفي التجمع.
__________
(1) انئر إن شئت كتاب دراسات قرآنية الفصول الأولي بعنوان الإيمان بالله, الإيمان باليوم الآخر, الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين, قصص الأنبياء, آدم والشيطان, أخلاقيات لا إله إلا الله, وكذلك فصل كيف تربت الجماعة الأولي, من كتاب منهج التربية الإسلامية الجزء الثاني.
(2) انظر إن شئت فصل: خطوط متقابلة في كتاب منهج التربية الإسلامية الجزء الأول.(9/53)
لئن كان القرآن قد توسع في هذه القضية ذلك التوسع فقد أجملت السنة, وإن كانت قد جاءت بما لا غناء عنه في تحديد المفاهيم الإيمانية, وتمييز الناس علي أساسها في الحياة الدنيا, والأحكام المتعلقة بذلك في المجتمع الإسلامي, ولئن كان القرآن قد أجمل في كثير من مواضع التشريع, فقد توسعت السنة وفصلت حتى أنت بالدقائق التي توضح للناس حلالهم وحرامهم في شتي تعاملاتهم.
ولئن كان القرآن قد توسع في ذكر اليوم الآخر بمشاهده الأخاذة فقد توسعت السنة مقابل ذلك فيما يعرف بالترغيب والترهيب, أي الترغيب في الأعمال التي تقرب الإنسان من الجنة, والترهيب من الأعمال التي تعرض الإنسان للنار.
وهكذا حين نتحدث عن أثر القرآن في إنشاء ذلك الجيل المتفرد نتحدث عن السنة في ذات الوقت. ولكنا نريد أن نضيف عنصراً آخر شديد التأثير في رفع نفوس الناس في ذلك الجيل إلي أقصي طاقاتها, والاستواء بها علي تلك القمم السامقة التي وصلت إليها, ذلك هو وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشخصه الكريم بين ظهرانيهم. فلا شك أن كان لهذا الوجود أثره الكبير في الوفرة الملحوظة في النماذج السامقة من بين أولئك المحيطين بالرسول - صلى الله عليه وسلم -, مع ارتفاع القمم التي وصلوا إليها, ذلك الارتفاع الشاهق الذي عجزت عنه البشرية في شتي أجيالها.
لقد كان التأثير المباشر لشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذا أثر بالغ في بناء تلك النفوس التي أحاطت به, وأحبته, وتربت علي عينه - صلى الله عليه وسلم - في نفوس أتباعه ومحبيه أثر غير مكرر في التاريخ, ولا عجب في ذلك فإنها شخصية غير مكررة في التاريخ!.
إنها أكمل شخصية وأعظم شخصية في الوجود البشري كله من بدائه إلي منتهاه.(9/54)
وليس هنا مجال التفصيل في شرح هذه العظمة الفائقة. فهي شخصية تحوي داخلها شخصيات, وعظمة تحوي داخلها عظمات, لو أصاب أي إنسان واحدة منها لَعُدّ من عظماء التاريخ, فكيف بها مجتمعة في شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - علي سموق متفرد في كل واحدة منها؟ شخصية المربي, شخصية القائد السياسي, شخصية القائد العسكري, شخصية العابد الروحاني, شخصية الزوج, شخصية الأب, شخصية الصاحب, شخصية الداعية... ثم كيف بها مجتمعة علي توزان بينها لا يجعل واحدة منها تطغي علي الأخرى, وعلي شمول وترابط لا يجعل واحدة منها تنفصل وتستقل عن الأخريات؟.
عظمة فذة في التاريخ, وتأثيرها كذلك في التاريخ.
وصف أبو سفيان -قبل إسلامه- جانباً من جوانب هذه العظمة, وجانباً من عمق تأثيرها فقال: "ما رأيت أحداً يحبه الناس كحب أصحاب محمد محمداً".
وهو وصف صادق دقيق. فهي شخصية أخاذة من أحبها تعمق في حبها إلي أقصي الغاية (وكذلك من انطمست بصيرته فأبغضها لم يستطع أن يقف في بغضها عند حد!).
والذين أحبوه والتصقوا به وعايشوه عن قرب, قد تأثروا به ولا شك أعمق التأثير, فاستطاعوا أن ينهلوا من معين القرآن أكثر, وأن يكون استواؤهم علي القمة السامقة أيسر. ذلك أن القرآن معني لا نضب, ولكنه يعطي كل إنسان علي قدر سعة الإناء الذي يغترف به. يحين تتسع القلوب وشف الأرواح بمصاحبة ذلك الروح العظيم, تكون قدرتها علي تشرب روح القرآن أكبر, وقدرتها علي صحبة القرآن والعمل به أوسع وأعمق.
قال أحد الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنهم حين يكونون معه يكونون علي حال غير الذي يكونون به حين يعودون إلي شواغلهم ومعهود حياتهم, فقال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده أن لو تدومون علي ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة علي فرشكم وفي طرقكم, ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" (1).
__________
(1) أخرجه مسلم.(9/55)
وليس معني هذا أن تأثير صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان ينتهي حين يخرجون من عنده, فمثل هذا التأثير لا يمكن أن يزول. إنما يدل تصريح الصحابة رضوان الله عليهم علي عمق أثر الصحبة المباشرة في نفوسهم, حتى ليحسون أنهم يصبحون خلقاً آخر غير ما يعهدون من أنفسهم.... وفي حالق إن الإشعاع الذي يتلقونه من الروح العظيم المشع يجعل أرواحهم شفافة رفافة محلقة, كما يشعر السابح بخفة جسمه وهو محمول علي الماء... فإذا خرجوا إلي واقع الحياة اليومي خف ذلك الإشعاع الذي امتلأت به أرواحهم, فأحسوا بالفرق بين حالتهم في صحبته - صلى الله عليه وسلم - وحالتهم في معتاد حياتهم. ولكن واقع التاريخ يقول إن الشحنة لم تذهب أبداً من أروحهم, وإن إحساسهم بالتغيّر بعد الخروج من عنده - صلى الله عليه وسلم - إن هو إلا شوق إلي مزيد من القدرة علي التحليق, ولكنه ليس فقداناً لتلك القدرة علي الإطلاق, فقد ظلوا يحلّّقون ويحلّّقون ويحلّّقون, علي آفاق لا عهد للبشرية بها من قبل.
ولسنا نقول مع ذلك إن وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشخصه شرط لإقامة هذا الدين في الأرض! فلو علم الله أن هذا شرط لا يقوم الإسلام في الأرض إلا به ما كلف سبحانه وتعالي الناس أن يقيموا الدين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وهو لا يكلف نفساً إلا وسعها.
إنما نقول إن شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - حاضر بسيرته وحاضر بسنته إلي الدرجة التي يقوم بها الإسلام في الأرض كاملاً غير منقوص. ولكنا نحاول فقط أن نفسر واقعنا حدث بالفعل, هو الوفرة الملحوظة في النماذج الفائقة من بين المحيطين بالرسول - صلى الله عليه وسلم -, وفرة لم تتكرر في التاريخ من بعد, وإن كانت لم تنقطع في صورة أفراد متناثرين من كل جيل يزخر بهم تاريخ الإسلام في الماضي وما زال يزخر إلي هذه اللحظة.
عنصر ثالث لا يمكن إغفال أثره في نشأة ذلك الجيل المتفرد, هو أثر النشأة الجديدة.(9/56)
إن كل نشأة جديدة تكون أنشط وأكثر حيوية واكثر فاعلية من الأجيال السابقة.
وهذا مر له ما يفسره من طبيعة النفس البشرية, بل من طبيعة الكون المادي نفسه! فغاز الأوكسجين المحضر حديثاً في المعمل تكون له فاعلية (في المساعدة علي الإشعال) أكبر من الأوكسجين الموجود في الجو, مع أنه يماثله مماثلة تامة في التركيب!! كذلك النفوس التي تبدأ عهداً جديداً أو تشهد إنشاء جديداً تكون أكثر حيوية وأكثر فاعلية من غيرها من النفوس. ويمكن تفسير ذلك من ناحيتين:
الأولي: إن النشأة الجديدة - وخاصة علي النحو الذي صنعه الإسلام - تعيد تركيب النفوس علي صورة جديدة فتصبح نفوساً جديدة بالفعل, مذخورة الطاقة حادة الفاعلية كذلك الأوكسجين المحضّر لتوه في المعمل.
والثانية: أن التحديات التي يتلقاها جيل النشأة الجديدة هي أعنف التحديات وأشقها وأقساها.
ومن شأن التحديات دائماً أن تشحذ النفوس الحية وتستخلص منها أقصى طاقتها. فإذا اجتمع الأمران معا: جدة النفوس, وعنف التحديات فنستطيع أن نتصور الفاعلية الهائلة التي تكون لتلك النفوس, وهي تعمل في واقع الحياة.
يضاف إلي ذلك أن أصحاب النشأة الجديدة هم من ناحية أقدر الناس علي تقدير النعمة الجديدة حق قدرها, فقد عايشوا الجاهلية من قبل ثم انتقلوا إلي الإسلام, فأدركوا -بالممارسة الواقعة- عظم النقلة التي انتقلوها من الجاهلية إلي الإسلام, كما قال عمر - رضي الله عنه -: "لا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية"! أي لا يقدره قدره إلا من أدرك الفارق بينه وبين الجاهلية... وهم من ناحية أخري أحرص الناس علي المحافظة علي البناء الجديد سليماً من كل نقص يعتوره, فقد بنوه لبنة لبنة, وتعبوا في بنائه وعانوا المشققات, وظلوا يرقبون ارتفاعه يوماً بعد يوم حتى استوي علي أكمل صورة, فهم لا يطيقون أن يعبث به عابث, أو ينقص من رونقه منتقص, فقد اختلط بأعماق مشاعرهم فأصبح منهم وأصبحوا منه, واصحبوا يحسون وجودهم في وجوده.(9/57)
وكذلك كان ذلك الجيل الفريد حريصاً علي الإسلام, حريصاً علي أن يظل البناء الذي شيدوه تحت قيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإشرافه سليما من كل نقص.
ولسنا نقول مع ذلك إن هذا شرط لازم لإقامة دين الله في الأرض... فلوعلم الله أنه شرط لازم ما كلف الناس فيما بعد جيل النشأة أن يقيموا هذا الدين!
ولكنا نحاول فقط أن نفسر ذلك الواقع التاريخي الذي تفرد في التاريخ.
وهذا يجرنا إلي سؤال نري من الضروري تحديد الإجابة عليه, لأنه يحيك في صدور بعض الناس حين ينظرون إلي ذلك الجيل المتفرد ثم ينظرون غلي ما بعده من الأجيال فيقول قائل منهم: إن الإسلام لم يعش ألا فترة قصيرة هي فترة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين ثم انتهي بعد ذلك! ويجئ خبثاء المستشرقين وحواريوهم فيؤكدون علي هذا المعني لحدثوا في نفوس الناس يأساً من عودة الإسلام إلي حكم الحياة الواقعة كما حكمها من قبل.
إذا كان هذا الجيل المتفرد غير قابل للتكرار -أو هو علي الأقل لم يتكرر حتى اللحظة الحاضرة- فما قيمته؟ ما دوره بالنسبة للإسلام والمسلمين؟ أليكون مجرد ذكري لشئ لا يمكن أن يعود؟.
وإذا كانت هناك ظروف خاصة أحاطت بنشأة ذلك الجيل غير قابلة للتكرار, وكان لها أثر عميق في نشأته, كوجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشخصه الكريم بين ظهرانيهم, وتأثير النشأة الجدية في نفوس الجيل الذي عاصر تلك النشأة, فأنّي يرجى أن تقوم للإسلام صورة في الواقع علي نسق تلك الصورة الأخاذة التي قامت ذات يوم؟!.
وتحتاج الإجابة إلي تحديد واضح.
أي شئ في ذلك الجيل المتفرد هو غير قابل للتكرار, أو علي الأقل لم يتكرر حتى هذه اللحظة؟ أهو الخصائص الرئيسية التي تحقق الوجود الإسلامي في عالم الواقع, أم هي الدرجة العالية الفذة التي وصل إليها ذلك الجيل في تحقيق تلك الخصائص في عالم الواقع؟!!.(9/58)
وتلك الظروف الخاصة التي أحاطت بنشأة ذلك الجيل ونقول إنها غير قابلة للتكرار.... ما دورها بالضبط؟ هل كان مجال تأثيرها هو إنشاء تلك الخصائص الرئيسية التي تحقق الوجود الإسلامي في عالم الواقع, أم هو في تلك الدرجة العالية الفذة التي وصل إليها ذلك الجيل في تحقيق تلك الخصائص في عالم الواقع.
أحسب أن القضية الآن أصبحت واضحة.
إن الخصائص الرئيسية التي تحقق الوجود الإسلامي في عالم الواقع مستمدة بكاملها من القرآن والسنة, أي: من العنصرين الدائمين في حياة المسلمين, المحفوظين بقدر الله ومشيئته.
فقد تكفل الله بحفظ كتابه المنزل, بينما ضاعت الكتب السابقة وحرّّفت:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [سورة الحجر 15/9].
كما تكفل بحفظ سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -, بينما لم يبق من سنن الأنبياء السابقين إلا ما حفظه القرآن وحفظته سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي هذين المصدرين كل "المواد" اللازمة لبناء الفرد المسلم والجماعة المسلمة والأمة المسلمة والدولة المسلمة في أي عصر من عصور التاريخ يرغب المسلمون في البناء, ويعزمون علي بذل الجهد اللازم له.
أما الذي صنعته الظروف الخاصة فهو تلك الدرجة الفذة في تحقيق الخصائص الرئيسية للوجود الإسلامي, المستمدة كلها من الكتاب والسنة.... وتلك الدرجة -لا الخصائص الرئيسية- هي التي لم تتكرر في التاريخ.
وتبقي الإجابة علي الشق الآخر من السؤال: إذا كانت تلك الدرجة التي تحققت بالفعل ذات يوم غير قابلة للتحقيق مرة أخري, لأنها نشأت من ظروف خاصة غير قابلة للتكرار, فما قيمتها في حياة الإسلام والمسلمين. أهي وجدت فقط لتظل حلما مهوّماً يعرّّج عليه من أجل حلاوة الذكري ليس غير؟!.(9/59)
كلا! إنها وجدت -بقدر من الله- لتظل نموذجاً يشد المسلمين إليه ليحاولوا تحقيقه في عالم الواقع.... وحين يحاولون فإنهم يرتفعون بالفعل, حتي وإن لم يصلوا -في مجموعهم- إلي ذات الدرجة التي وصل إليها هؤلاء؛ وإن كان التاريخ المشهود يقول إن أفراداً من كل جيل يصلون بالفعل إلي ذلك المستوي السامق الرفيع, أولئك الذين نتوهج قلوبهم بنور الإسلام فيستطيعون أن يقبسوا من شخصية الرسول وأحداث حيات مثل ما كان يقتبس الصحابة رضوان الله عليهم بالمعايشة المباشرة, وان يحسوا --في أعماق نفوسهم- بالنشأة الجديدة علي نحو ما أحس الذين عاشوها أول مرة... فينهلوا من الكتاب والسنة بمثل العمق الذي كان ينهل به الصحابة الكرام, ويحققوا في ذوات أنفسهم ما كانوا يحققون.
هؤلاء قلة في كل جيل -نعم- بينما كانوا كثرة ملحوظة في المحيطين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -... ولكن مجموع المسلمين -حين يحاولون- يرتفعون درجات من الارتفاع, حتي ولو لم يصلوا لذلك المستوي الرفيع, لأن المحاولة ذاتها توجه الناس إلي أعلي, بينما القعود يهبط بهم إلي أسفل, بحكم الثقلة التي تجذب الناس أبداً إلي أسفل ما لم يحاولوا الارتفاع:
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [سورة العصر 103/1-3].
من هنا يظل لذلك الجيل المتفرد دوره في حياة الإسلام والمسلمين.(9/60)
فوجود هذا النموذج الفذ في عالم الواقع, حقيقةً واقعةً, لا حلماً ولا خيالاً ولا شعارات, يظل يحفز الراغبين في تحقيق الإسلام لتحويل الرغبة إلي واقع, وبذل أقصي الجهد في هذا السبيل... وحين يحققون الخصائص الرئيسية للوجود الإسلامي في عالم الواقع, فلا عليهم بعد ذلك إن لم يصلوا إلي الدرجة الفذة التي وصل غليها الجيل الأول, فإن مجرد تحقيق الخصائص الرئيسية للوجود الإسلامي -ولو في حدا الأدنى- هو قفزة هائلة إلي أعلي بالنسبة لكل جاهليات التاريخ, بما فيها الجاهلية المعاصرة, بل في مقدمتها الجاهلية المعاصرة! وتبقي الدرجات العليا مجالاً للتفاضل, ومجالاً للتطوع النبيل, لا تكلف نفس إلا وسعها, يبلغ منها كل إنسان بقدر ما يطيق, فتصل قلة قليلة إلي المستوي, ويقترب الباقون خطوات.
نعم, إن وجود هذا الجيل المتفرد واقعاً في التاريخ, لم يكن -في قدر الله- لمجرد أن يكون ذكري حلوة تشع نسماتها علي القلوب ساعة ثم تتبدد... بل ليكون واقعاً يتجدد.
فقد طلب الله من المسلمين في كتابه الباقي إلي يوم يرث الله الأرض ومن عليها أن يتأسوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وأن يقتفوا أثر ذلك الجيل الفريد ويصلوا أنفسهم به:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)} [سورة الأحزاب 33/21].(9/61)
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [سورة الحشر 59/9-10].
بل نقول أكثر من ذلك....
نقول إن حركة البعث الإسلامي المعاصرة هي أقرب الحركات أن تتمثل فيها خصائص ذلك الجيل المتفرد, إن لم يكن علي ذات الدرجة من الوفرة وذات الدرجة من التمكن, فعلي درجات قريبة منها علي أي حال.
ذلك أن الإسلام اليوم يعيش غربته الثانية التي تحدث عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ, فطوبى للغرباء" (1).
__________
(1) أخرجه مسلم.(9/62)
فإن لم تكن الغربة الثانية مطابقة تمام المطابقة للغربة الأولي في جميع حيثياتها فإنها ولا شك تشبهها في أمور كثيرة جوهرية, أهمها أن منهج الله ليس هو الذي يحكم حياة الناس, وأن الأمر يحتاج إلي دعوة الناس من جديد إلي الإسلام, لا لأنهم -في هذه المرة- يرفضون أن ينطقوا بأفواههم لا إله إلا الله محمد رسول الله كما كان الناس يرفضون نطقها في الغرة الأولي, ولكن لأنهم في هذه المرة يرفضون المقتضي الرئيسي لـ "لا إله إلا الله",وهو تحيكم شريعة الله والامتثال لمنهج الله, وإن كان ألف مليون من البشر من المحيط إلي المحيط ينطقون بأفواههم كل يوم: لا إله إلا الله محمد رسول الله! وهذه هي حقيقة "الغربة" التي يعانيها الإسلام اليوم في الأرض, رغم ملايين المصاحف التي تطبع, ومئات المحطات الإذاعية والتلفزيونية التي ترتل القرآن ن وتذيعه علي الناس, وتشرحه -في الأحاديث والدروس الدينية- لمن شاء من الناس الاستماع!.
وفي الغربة تكون الحركة إنشاء جديداً اكثر مما تكون مجرد إصلاح لما هو قائم بالفعل في نفوس الناس.
إن هذا الغثاء الذي يعيش بالملايين اليوم, والذي أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه: "يوشك ان تداعي عليكم الأمم كما تداعي الأكلة إلي قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل إنكم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل.... " (1).
هذا الغثاء لا يحتاج إلي مجرد وعظه وإرشاده, وتقديم حقائق الإسلام إليه في الدروس الدينية سواء في المسجد أو الإذاعة أو الكتاب أو المحاضرة, إنما يحتاج إلي انتشاله في الجاهلية التي تحيطه وتضغط علي حسه بثقل "الأمر الواقع" وتنشئته نشأة جديدة علي حقائق الإسلام, ليعيشه بالفعل, لا "ليتحدث" عنه أو "يفكر" فيه أو "يعجب" به أو "يتمناه" وهو قاعد عن العمل لتحقيقه.
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود.(9/63)
والذي تقوم به حركات البعث الإسلامي اليوم هو هذا في حقيقته. هو نشأة جديدة في وسط الغربة. ومن ثم يتحقق لهذه الحركات عنصر من العنصرين الخاصين اللذين أسهما في صنع الجيل الأول, ولم يتكررا خلال ثلاثة عشر قرناً من قبل, ويكون لهذا العنصر فاعليته الكاملة في نفوس الذين يعيشون هذه الحركات, ويجاهدون لإزالة الغربة الثانية كما جاهدت الجماعة الأولي من قبل لإزالة الغربة الأولي للإسلام.
أما العنصر الآخر وهو حضور الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشخصه الكريم بين ظهراني الناس فهو بطبيعته لا يتكرر أبداً إلي قيام الساعة. ولكنا نستطيع أن نزعم أن الذين يعيشون "النشأة الجديدة" بالعمق الحقيقي الذي تحدثثه في النفوس, ولا تفتنهم جزئيات من حقائق الإسلام فتشغلهم عن جوهره, ولا عن حقيقة المعركة التي يخوضها "الغرباء" في الأرض, لإعادة هذا الدين إلي التمكن وحكم حياة الناس الواقعة من جديد... هؤلاء يتوهج الحق في قلوبهم إلي الحد الذي يعيشون فيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -في سيرته وسنته- كأنهم يعايشونه ويتلقون عنه من قرب كذلك الجيل الأول المتفرد, وتكون هذه المعايشة -من خلال السيرة والسنة- كفيلة برفعهم غلي تلك الآفاق السامقة التي ارتادها الجيل الأول بجهد أيسر, وهم يتلقون الرفعة من الأثر المباشر لشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وخلاصة القول -كما أسلفنا- أن حركة البعث الإسلامي المعاصرة هي أقرب الحركات أن تتمثل فيها خصائص ذلك الجيل المتفرد, إن لم تكن بنفس الوفرة وبنفس الدرجة من الرفعة, فعلي درجات قريبة منها علي أي حال. وإنها لتقدم بالفعل نماذج ترتفع إلي ذلك المستوي, وتذكّر الناس به من جديد, سواء فقي التجرد لله, أو صدق الجهاد في سبيل الله, أو التقدم للشهادة بنفس راضية مستعلية علي كل متاع الأرض, متطلعة إلي ما عند الله, أو الثبات علي العذاب الذي لا تطيقه الأبدان ولا النفوس.(9/64)
والخلاصة مرة أخري أن ذلك الجيل المتفرد, الذي تمثلت في واقعية الإسلام ومثاليته, لم يوجد ليكون مجرد ذكري, وإنما وجد ليحاول المسلمون في كل الأجيال أن يصعدوا لمستواه, فإن حاولوا فقد ارتفعوا ونجوا من الهبوط, سواء وصلوا -في مجموعهم- إلي ذلك المستوي الرفيع أم لم يستطيعوا الوصول.
والخلاصة مرة ثالثة أن الذي تفرد به ذلك الجيل لم يكن هو الخصائص الأساسية للوجود الإسلامي, فهذه مطلوبة من كل جيل, وممكنة في كل جيل, ولازمة لإقامة الوجود الإسلامي الصحيح في الأرض, والناس محاسبون إن قصروا في أدائها, ويعتبرون آثمين في حق الله وحق أنفسهم إن قصروا فيها, ويتوقف وجودهم وثقلهم في الأرض علي القيام بها في صورتها الصحيحة.
إنما الذي تفرد به ذلك الجيل هو الدرجة العجيبة التي قاموا فيها بتحقيق هذه الخصائص في عالم الواقع, بعد قيامهم بتحقيقها في ذوات أنفسهم. وهذه درجة لم يفرضها الله فرضاً علي الناس, إنما فرض عليهم الحد الأدني الذي لا تستقيم الحياة بدونه, وترك الدرجات العلا للتطوع النبيل, الذي تقدر عليه النفوس حين تتربي التربية الصحيحة علي الإسلام, وتستضئ بنور الحق, وتعبد الله كأنها تراه (1), وتقتدي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - كأنها تعايشه.
وحين يتحقق للناس الحد الأدنى من هذا الدين, تستقيم الحياة علي صورة تعجز عنها أي جاهلية من جاهليات التاريخ, وفي مقدمتها الجاهلية المعاصرة.... أما حين يتحقق ما فوق ذلك فهذا هو الفردوس الأرضي الذي تحقق ذات مرة علي يد ذلك الجيل المتفرد, والذي سيظل أملاً جميلاً يحاول المسلمون تحقيقه في أي قرن من القرون!!.
واقعنا المعاصر =العلامة محمد قطب
*********************
عقيدة أهل السنة و الجماعة في الصحابة
__________
(1) جاء في حديث هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم: قال: وما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك رواه الشيخان.(9/65)
هذا البحث و إن كان لا يتعلّق بموضوعنا عن العصبية، إلا أنه لا بدّ من ذكره مختصَراً لأننا سندخل في مسألة النزاع بين الصحابة رضوان الله عليهم.
الذي دفعني للكتابة هو ما سمعته و قرأته من أقوال الجُهَّالِ أصحاب الهوى ممن ينتسبون للعلم و هو منهم براء، أسمَعُهُم يتشدَّقون بأقوالٍ و كلمات ما أنزل الله بها من سلطان في حق الصحابة و ما شجر بينهم، متذرِّعين بشُبُهاتٍ يتشبَّثون بها، و رواياتٍ ضعيفةٍ موضوعةٍ مكذوبة واهية أوهى من خيوط العنكبوت، يتلقفونها و يلتقطونها من كتب الأدب و التاريخ و قصص السَّمر و الكتب المَنْحُولة و الضَّعيفة ككتاب الأغاني و البيان و التبيين و الإمامة و السياسة و نهج البلاغة و غيرها من الكتب، فيطيرون بها في الآفاق كشيطان العقبة.
فإن من العقائد والأصول المقررة في الإسلام حب الصحابة من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان، و اعتقاد فضيلتهم و صدقهم و الترحم على صغيرهم و كبيرهم و أولهم و آخرهم، و صيانة أعراضهم و حُرُماتهم. فذلك أمر ضروري، و هو أحد الضروريات الخمس –الدين و النّفْس و النَّسل و العقل و المال– التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها و ضبط حقوقها[1]، و الأخذ على يد من هتكها[2]، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجمع عظيم من أعظم مجامع المسلمين «إن دماءكم و أموالكم و أعراضكم بينكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. فليبلغ الشاهد الغائب»[3].(9/66)
و قال سيدنا و حبينا رَسُولُ اللَّهِ ( ص): « لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ. وَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى اثِنْتَيْنِ وَ سَبْعِينَ مِلَّةً. وَ تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَ سَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً». قَالُو وَ مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَ أَصْحَابِي»[4]. فجعل الذين يتّبعون الصحابة هم الفرقة الناجية، و هم الجماعة العظمى كما ثبت في الحديث أيضاً[5].
و لا بُدَّ أن تعلم أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير معصومين عن الخطأ. نعم، نحن نعتقد العصمة في إجماعهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة لحديث: «إن الله تعالى قد أجَارَ أمتي من أن تجتمع على ضلالة»[6]. فهم معصومون من أن يجتمعو على ضلالة، و لكن كأفراد هم غير معصومين، فالعصمة لأنبياء الله صلوات الله و سلامه عليهم.
و من أصل أهل السنة و الجماعة سلامة قلوبهم و ألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما وصفهم الله به في قوله تعالى: { و َالَّذِينَ جَاءُو مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُو رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [7]. و يقبلون ما جاء به الكتاب و السنة و الإجماع من فضائلهم و مراتبهم.(9/67)
و الثابت المتواتر قطعاً أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - هم على الترتيب[8]: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، ثم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثم عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. هذا محل إجماع. ثم (على قول البعض) بقية العشرة المبشَّرين بالجَنة[9]، ثم من شَهِدَ معركة بدر، ثم من شهد بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية، ثم من أسلم قبل فتح مكّة من الصحابة، ثم من أسلم بعد فتح مكة من الصحابة. و هذا قطعي بديهي متَّفقٌ عليه عند أهل السنة و الجماعة، فلا حاجة لسرد أدلتهم.
وقد زعم بعض أهل الأهواء أن الصحبة لا تصح إلا للمهاجرين و الأنصار الأوائل، و حينئذٍ لا تثبت عدالة من جاء بعدهم، إلا بما تثبت به عدالة غيرهم من التابعين فمن بعدهم. و هذا غلط شنيعٌ لم يقل به أحد من أهل السنة. و نظيره المذهب المروي عن سعيد بن المسيّب أنه لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين و غزا معه غزوة أو غزوتين، و هذا لا يصح عن سعيد[10]، و اتفق العلماء على خلافه. قال الحافظ العلائي –رحمه الله–: «و الإجماع منعقدٌ في كل عصرٍ على عدم اعتبار هذا الشرط في إسم الصحابي. كيف و المسلمون في سنة تسع و ما بعدها من الصحابة آلاف كثيرة؟ و كذلك من أسلم زمن الفتح من قريش و غيرها و لم يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا زمناً يسيراً، و اتفق العلماء على أنهم من جملة الصحابة؟!»[11]. و هذا ما جاءت به الأدلة القطعية من السنة النبوية.(9/68)
و هو بكل حال تقسيم باطل لأن معناه أن الحسن و الحسين (اللذان هما ريحانتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدينا) ليسا من الصحابة! و كذلك عبد الله بن الزبير، بل حتى عبد الله بن العباس (الذي دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يعلمه الله تأويل القرآن) ليس من الصحابة[12]، وفقاً لهذا التعريف الأعوج. ذلك بأن أحداً من هؤلاء لم يشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي غزوة. فتبيّن بذلك بطلان من وَهِمَ هذا التعريف للصحابي، و الحمد لله ربّ العالمين.
قال شيخ الإسلام بن تيمية: «و كل من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به فله من الصحبة بقدر ذلك، كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَقُولُونَ نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ. ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُونَ نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ. ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُونَ نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ»[13]. وذكر الطبقة الثالثة فعلّق الحكم برؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما علقه بصحبته»[14]. و يؤيد هذا ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا دَامَ فِيكُمْ مَنْ رَآنِي وَ صَاحَبَنِي، وَ اَللَّه لا تَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا دَامَ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي وَ صَاحَبَنِي»[15].(9/69)
قال الحافظ بن حجر ذاكرا ما يدل على ذلك: «فمن ذلك ما قرأت في كتاب "أخبار الخوارج" تأليف محمد بن قدامة المروزي –ثم ذكر سنده– إلى أن قال: عن نبيج العنزي عن ابي سعيد الخدري، قال: كنا عنده و هو متكئ، فذكرنا علياً و معاوية، فتناول رجلٌ معاوية، فاستوى أبو سعيد الخدري جالساً، فذكر قصته حينما كان في رفقة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر و رجل من الأعراب –إلى أن قال أبو سعيد–: ثم رأيت ذلك البدوي أُتي به عمر بن الخطاب و قد هجا الأنصار. فقال لهم عمر: لولا أن له صحبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أدري ما نال فيها لكفيتكموه[16]». قال الحافظ: «و رجاله ثقات. فقد توقف عمر - رضي الله عنه - عن معاتبته، فضلاً عن معاقبته، لكونه علم أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -، و في ذلك أبين شاهد على أنهم كانو يعتقدون أن شأن الصحبة لا يعدلها شيء».
و قد جاء في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»[17]. و قال أيضاً: «لا تسبو أحداً من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل اُحُدٍ ذهباً ما أدرك مُدّ أحدِهم و لا نصِيفَه»[18]. و هذا الحديث عام يشمَلُ كل الصحابة لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، علماً بأنه لم يرد لهذا الحديث سبب نزول صحيح[19]. و قد ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُعِثْت مِن خَيْر قُرُون بَنِي آدَم»[20]، فدلّ هذا على أن أصحابه هم جيلٌ فريدٌ لم يكن مثله في تاريخ البشرية و لا يكون بعده.(9/70)
و روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سَبَّ أصحابي، فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمَعين. لا يَقبَلِ الله مِنهُ صَرْفاً و لا عَدْلا»[21]. و قال كذلك: «إذا ذُكِرَ أصحابي فأمْسِكو، و إذا ذُكِرَ النجوم فأمسكو، و إذا ذُكِرَ القَدَرُ فأمسكو»[22]. و لذلك فمن منهج أهل السنة و الجماعة الإمساك عن ذكر هفوات الصحابة و تتبع زلاتهم و عدم الخوض فيما شجر بينهم. و نحن لم نُؤمر بما سبق و إنما أُمرنا بالاستغفار لهم و محبّتهم و نشر محاسنهم و فضائلهم، و إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل فلا بدَّ من الذبِّ عنهم، و ذكرِ ما يبطل حجته بعلم و عدل[23].
و إذا دعت الحاجة إلى ذكر ما شجر بينهم، فلا بدّ من التحقيق و التثبّت في الروايات المذكورة حول الفتن بين الصحابة. قال الله عزّ و جلّ: { يا ايها الذين امنو إن جاءكم فاسق بنبئأ فتبينو أن تصيبو قوما بجهالة فتصبحو على ما فعلتم نادمين } . و هذه الآية تأمر المؤمنين بالتثبت في الأخبار المنقولة إليهم عن طريق الفسّاق، لكيلا يحكمو بموجبها على الناس فيندمو. فوجوب التثبت و التحقيق فيما نقل عن الصحابة، و هم سادة المؤمنين أولى و أحرى، خصوصاً و نحن نعلم أن هذه الروايات دخلها الكذب و التحريف، إمّا من جهة أصل الرواية أو تحريف بالزيادة و النقص يُخرج الرواية مخرج الذّم و الطّعن.(9/71)
قال شيخ الإسلام: «و كذلك نؤمن بالإمساك عما شَجَرَ بينهم، و نعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب، و هُم كانو مجتهدين، إما مصيبين لهم أجران أو مثابين على عملهم الصالح مغفورٌ لهم خطؤهم. و ما كان لهم من السّيئات، و قد سبق لهم من الله الحسنى، فإن الله يغفر لهم إما بتوبةٍ أو بحسناتٍ ماحية أو مصائب مكفّرة. و ما شجر بينهم من خلاف فقد كانو رضي الله عنهم يطلبون فيه الحق و يدافعون فيه عن الحق، فاختلفت فيه اجتهاداتهم، و لكنهم عند الله عز وجل من العدول المرضي عنهم. و من هنا كان منهج أهل السنة والجماعة هو حفظ اللسان عما شَجَرَ بينهم، فلا نقول عنهم إلا خيراً و نتأوَّل و نحاول أن نجد الأعذار للمخطئ منهم و لا نطعن في نيّاتهم فهي عند الله، و قد أفضو إلى ما قدَّمو، فنترضى عنهم جميعاً و نترحَّم عليهم و نحرص على أن تكون القلوب سليمة تجاههم»[24].
و أكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب، يرويها الكذّابون المعروفون بالكذب، مثل أبي مخنف لوط بن يحيى الشيعي[25]، و مثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي[26]، و أمثالهما[27]. و كذلك الضعفاء المتروكين كالواقدي المتروك[28]. من أجل ذلك لا يجوز أن يُدْفَعَ النَّقل المتواتر في محاسن الصحابة و فضائلهم، بنُقولٍ بعضها منقطعٌ و بعضها محرَّف و بعضها يقدح فيما عُلِم. فإنّ اليقين لا يزول بالشك. و نحن تيقنّا ما ثبت في فضائلهم، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها، فكيف إذا عُلِمَ بطلانها؟![29](9/72)
و إذا صحّت الرواية في ميزان الجرح و التعديل، و كان ظاهرها القدح، فليلتمس لها أحسن المخارج و المحاذير. قال ابن أبي زيد: «و الإمساك عما شجر بينهم، و أنهم أحقّ الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج، و يظنّ بهم أحسن المذاهب»[30]. و قال ابن دقيق العيد: «و ما نقل عنهم فيما شجر بينهم و اختلفو فيه، فمنه ما هو باطلٌ و كذب، فلا يُلتفت إليه، و ما كان صحيحاً أوَّلناه تأويلاً حسناً، لأنّ الثناء عليهم من الله سابق، و ما ذكِرَ من الكلام اللاحق محتمل للتأويل، و المشكوك و الموهوم لا يبطل الملحق المعلوم»[31].
قال العلامة ابن خلدون: «فإيّاك أن تعود نفسك أو لسانك التعرض لأحد منهم، و لا يشوِّش قلبك بالريب في شيء مِمّا وقع منهم. و التمِس لهم مذاهب الحق و طرقه ما استطعت، فهم أولى الناس بذلك. و ما اختلفو إلا عن بيّنة، و ما قاتلو أو قتلو إلا في سبيل جهادٍ أو إظهار حق. و اعلم أن اختلاف الصحابة رحمةٌ لمن بعدهم من الأمة ليقتدي كل واحد بمن يختاره منهم و يجعله إمامه و هاديه و دليله. فافهم ذلك و تبيّن حكمة الله في خلقه و أكوانه». و كان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول: و الله ما أود أن أصحاب رسول الله لم يختلفو، لأنه لو لم يختلفو لكان أمراً واحد و لا يَسَعنا خِلافه. و لكن لَمّا اختلفو تستطيع أن تأخذ برأي هذا أو برأي ذاك أو برأي ذلك، و في كلٍّ سَعة. وقال الإمام ابن تيمية: «اختلافهم رحمة واسعة، و اتفاقهم حجة قاطعة».(9/73)
أيضا من المهم أن نعلم أن القتال الذي حصل بين الصحابة –رضوان الله عليهم– لم يكن على الإمامة، فإن أهل الجمل وصفين لم يقاتلو على نصب إمام غير علي، و لا كان معاوية يقول إنه الإمام دون علي، و لا قال ذلك طلحة و الزبير، و إنما كان القتال فتنة عند كثير من العلماء، بسبب اجتهادهم في كيفية القصاص من قاتلي عثمان –رضي الله عنه–، و هو من باب قتال أهل البغي و العدل، و هو قتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام، لا على قاعدة دينية، أي ليس بسبب خلاف في أصول الدين[32]. يقول عمر بن شبه: «إن أحداً لم ينقل أن عائشة و من معها نازعو عليّاً في الخلافة، و لا دعو أحداً ليولّوه الخلافة، و إنّما أنكرو على عليّ منعِه من قتال قتلة عثمان و ترك الاقتصاص منهم»[33]. و سيأتي تفصيل تلك الأحداث بإذن الله.
و لعل أول من يطعن به المنافقون هو خال المؤمنين معاوية - رضي الله عنه -. و الطاعنون به كثر. و السؤال هنا لم كل الفرق الضالة تصب جام غضبها على خال المؤمنين معاوية - رضي الله عنه -؟ الجواب لأن الطعن في معاوية مفضٍ للطعن في باقي الصحابة. فلا بد من الطعن به لشق الطريق للطعن بالصحابة، و بالتالي للطعن بالدين كله، لأن الصحابة هم القدوة الحسنة لنا و هم الذين نقلو لنا الدين بتعاليمه. فنجد مجرمي هذا الزمان من الشيعة و العلمانيين و المستشرقين و القوميين و الأباضية و الأحباش، كلهم مجمعون على كره هذا الصحابي الجليل. بعضهم يهدف إلى الطعن بباقي الصحابة و بعضهم ليبرر مسلك الحكام المرتدين اليوم. و بعضهم ليطعن بالإسلام و يقول أنه أتى بالطغاة منذ سِنينه الأولى. و هلم جراً.(9/74)
قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: «معاوية عندنا مِحْنة، فمن رأيناه ينظر إليه شزَراً اتهمناه على القوم»[34]، يعني الصحابة. وقال الربيع بن نافع الحلبي (241هـ) رحمه الله: «معاوية سترٌ لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه»[35].
و لا شك أن الصحابة كلهم مؤمنين و كلهم عدول[36]. فمن فسق أحدهم فهو الفاسق بنفسه لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ وَ لا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِك». و روى البخاري و مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَسُبّو أَصْحَابِي. لاَ تَسُبّو أَصْحَابِي. فَوَ الّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً، مَا أَدْرَكَ مُدّ أَحَدِهِمْ، وَ لاَ نَصِيفَهُ». فإذا كان سبّهم محرم فما بالك ممن فسقهم؟!! و قال الإمام محيي الدين النووي: «و اعلم أن سب الصحابة –رضي الله عنهم– حرامٌ من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم و غيره. لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأوِّلون، كما أوضحناه في أوَّلِ فضائل الصحابة من هذا الشرح. قال القاضي: و سبّ أحدهم من المعاصي الكبائر، و مذهبنا و مذهب الجمهور أنه يُعَزَّر و لا يُقتل، و قال بعض المالكية: يُقتل».(9/75)
قَالَ رَسُولَ اللّهَ - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ: «إِنّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمّتِي، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَ صِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَ يَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَ قَذَفَ هَذَا، وَ أَكَلَ مَالَ هَذَا، وَ سَفَكَ دَمَ هَذَا، وَ ضَرَبَ هَذَا. فَيُعْطَىَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ. فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَىَ مَا عَلَيْهِ. أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ. ثُمّ طُرِحَ فِي النّارِ». و قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللّهَ اللّهَ في أَصْحَابِي. اللّهَ اللّهَ في أَصْحَابِي. لا تَتّخِذوهُمْ غَرَضاً بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبّهُمْ فَبِحُبّي أَحَبّهُمْ، وَ مَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَ مَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَ مَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللّهَ، وَ مَنْ آذَى اللّهَ فيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَه». و قال أيضاً «وَ إِنَّ مَنْ عَادى للهِ وَليّاً، فَقَدْ بَارَزَ اللهِ بِالْمُحَارَبَة».
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ينقطِعُ كلّ نَسَب إلا نَسَبي و سَبَبي و صهري»[37]. و قد علمنا أنّ مثل هذا الحديث ينطبق على معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - لأن أخته أم المؤمنين أم حبيبة - رضي الله عنه - هي زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و من باب أولى على زوجاته و بناته و على الخلفاء الراشدون الأربعة.(9/76)
و يلهث الكثير ممن استهوته الشياطين بالطعن في معاوية - رضي الله عنه -، و إن لم يطعن قلّل من شأنه بأن يسمِّه بأنه من مسلمة الفتح[38] و أنه من الطلقاء إلى غيرها من الأمور. حتى وصل بالبعض منهم إلى أن يتوقف في شأنه و يعرضه على ميزان الجرح و التعديل ناسياً أو متناسياً أنه من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و أنّ الأمّة قد أجمعت على تعديلهم دون استثناء و لم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة[39].
و ذلك لقوله سبحانه و تعالى: { ... لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قَاتَلَ. أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُو مِنْ بَعْدُ وَ قَاتَلُو. وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى. وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [40]، و الحُسنى: الجنّة. قال ذلك مجاهد و قتادة[41]. و استدل الإمام إبن حزم الأندلسي من هذه الآية بالقطع بأنّ الصحابة جميعاً من أهل الجنة لقوله عز وجل: { و كلاً وعد الله الحسنى } [42]. و عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: «لا تسبو أصحاب محمد، فإن الله قد أمَرَ بالاستغفار لهم، و قد عَلِمَ أنّهم سيقتتلون»[43].
و أكثر أهل العلم على أن المراد بالفتح هنا فتح مكة. و قيل الحديبية و هو قول ضعيف فيه نظر. و قد ذكر الإمام ابن القيم فتح مكة و أنه «الفتح الأعظم الذي أعزّ الله به دينه و رسوله و جنده و حزبه الأمين، و استنقذ به بلده و بيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار و المشركين، و هو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، و ضربت أطناب عزّه على مناكب الجوزاء، و دخل الناس به في دين الله أفواجاً، و أشرق به وجه الأرض ضياءً و ابتهاجاً، خرج له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتائب الإسلام و جنود الرحمن سنة ثمانٍ لعشرٍ مضَين من رمضان»[44].(9/77)
و قد أنزل الله –جلّ و علا– على نبيه - صلى الله عليه وسلم - في منصرفه من الحديبية { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } [45]. فسمّى الله تعالى هذا الصلح فتحاً. و أما الفتح المذكور في سورة الحديد و سورة النصر و قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا هِجرة بعد الفتح»[46]، فلا ريب أنه فتح مكة. فهو الفتح الأعظم، و هذا أمر واضح. فإن سورة النصر فيها دلالة على قرب وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - –بأبي و أمي هو–. و كذلك اتّفق المؤرِّخون أن آخر المهاجرين هو العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، و كانت هجرته في ليلة فتح مكّة. و الأدلة كثيرة وافرة.
أما حكم من يسبّ الصحابة ففيه تفصيل. و المتفق عليه إجماعاً أنه فاسق عاصٍ لله. و اختلف حكم العلماء بحسب الصحابي و مرتبته، و كذلك حسب نوع السب. فإن كان مما لا يطعن في دين الصحابي كاتهامه بالبخل و الجُّبن فهذا يُعَزَّر و لا يُقْتَل. أما إن طعن في دينه، فإن لم يستحلّ ذلك كان فاسقاً حكمه كشارب الخمر. و أمّا من جعل ذلك ديناً و جعل لسبّه للصحابة و لعنه إياهم فضيلة، فهذا كافر مرتد حكمه كحكم من يستحلّ شرب الخمر. قال الإمام أحمد رحمه الله: «إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصّحابة بسوءٍ فاتَّهمه على الإسلام»[47]. قال الإمام مالك أيضاً: «الذي يشتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له نصيب في الإسلام»[48].(9/78)
و قال الإمام مالك رحمه الله عن هؤلاء الذين يسبون الصحابة: «إنّما هؤلاء اقوامٌ أرادو القدح في النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يمكنهم ذلك، فقدحو في أصحابه، حتى يُقال رجل سوء، و لو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحون»[49]. و قال أبو زُرعة الرازي رحمه الله: «فإذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنّه زنديق. و ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق، و القرآن حق، و إنما أدّى إلينا هذا القرآن و السنة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و إنما يريدون أن يجرحو شهودنا ليبطلو الكتاب و السنة. و الجَّرْحُ بهم أولى و هم زنادقة»[50].
و قال المفسّر ابن كثير الدمشقي عند قوله سبحانه و تعالى: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله و رضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار.. } قال: «و من هذه الآية انتزع الإمام مالك –رحمة الله عليه– في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة –رضي الله عنهم–، قال: لأنهم يغيظونهم، و من غاظ الصحابة –رضي الله عنهم– فهو كافر لهذه الآية»[51]. و قال الإمام القرطبي: «لقد أحسن مالك في مقالته و أصاب في تأويله، فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد ردَّ على الله رب العالمين و أبطل شرائع المسلمين»[52].
قال علي بن سلطان القاري (من كبار أئمة الأحناف): «و أما من سبَّ أحداً من الصحابة فهو فاسق و مبتدع بالإجماع، إلا إذا اعتقد أنه مباح، كما عليه بعض الشيعة و أصحابهم، أو يترتب عليه ثواب، كما هو دأب كلامهم، أو اعتقد كفر الصحابة و أهل السنة، فإنه كافر بالإجماع»[53].(9/79)
و قال القاضي أبو يعلى الحنبلي: «من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف. و قد حكى الإجماع على هذا غير واحد، و صرّح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم». و قال بشر بن الحارث: «من شتم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كافرٌ، و إن صام و صلّى و زعم أنه من المسلمين»([54]). و قال الإمام السّرَخْسي (و هو من كبار أئمة الأحناف) في أصوله عن الصحابة: «فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام دواؤه السيف إن لم يتب»[55]. و قال إمام الشام الأوزاعي (و هو من كبار التابعين): «من شتم أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - فقد ارتد عن دينه و أباح دمه»([56]).
و سُئِلَ الإمام أحمد عن رجُلٍ انتقص معاوية و عمرو بن العاص، أيقال له رافضي؟ فقال: «إنه لم يجترىء عليهما إلا و له خبيئة سوء. ما انتقص أحدٌ أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا له داخلة سوء. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير الناس قرني»[57]. و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: «سألت أبي عن رجل سبّ رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أرى أن يُضرب. فقلت: له حد؟ فلم يقف على الحد إلا أنه قال: يُضرب و ما أراه على الإسلام»[58]. و قال الإمام أحمد رحمه الله: «و من انتقص أحداً من أصحاب رسول الله أو أبغضه لحدث كان منه أو ذكر مساويه، كان مبتدعاً حتى يترحم عليهم و يكون قلبه لهم سليماً»([59]).
قال إبراهيم بن ميسرة: «ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط، إلا إنساناًَ شتم معاوية فضربه أسواطاً»[60]. و قال أبو بكر المروذي للإمام أحمد بن حنبل: «أيما أفضل، معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟». فقال: «معاوية أفضل! لسنا نقيس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحداً. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خير الناس قرني الذي بعثت فيهم»[61].(9/80)
قيل للحسن - رضي الله عنه -: «يا أبا سعيد، إن هاهنا قوماً يشتمون أو يلعنون معاوية و ابن الزبير». فقال: «على أولئك الذين يلعنون، لعنة الله»[62]. و جاء رجل إلى الإمام أبي زُرعة الرازي فقال: «يا أبا زرعة، أنا أبغض معاوية». قال: لم؟ قال: «لأنه قاتل علي بن أبي طالب». فقال أبو زرعة: «إن رَبَّ معاوية ربٌّ رحيم. و خَصْمُ معاوية خصمٌ كريم. فما دخولك أنت بينهما رضي الله عنهم أجمعين؟!»[63].
و لذلك أمر الإمام أحمد بهَجرِ من ينتقص معاوية حتى لو كان من ذوي الرّحِم. فقد سأل رجل الإمام أحمد: «يا أبا عبد الله، لي خال ذكر أنه ينتقص معاوية، و ربما اختلفا معه». فقال أحمد مبادرا «لا تأكل معه»[64].
و لعلّ أروع مقالة سمعتها هي قول العبد الصالح عمر بن عبد العزيز، لمّا سأله بعضهم عن أحداث تلك الفتنة، قال: «تلك دماءٌ قد سَلِمَتْ منها أيدينا، فلا نُلطِّخَ بها ألسِنتُنا».
---
[1] انظر الموافقات (1/31) للشاطبي.
[2] إنظر كتاب الإستنفار للذب عن الصحابة الأخيار للشيخ سلمان بن ناصر العلوان.
[3] رواه البخاري (67) و مسلم (1679).
[4] الحديث بهذه الزيادة حسَّنه الترمذي برقم (2641)، و كذلك العراقي في تخريج الإحياء (3\230).
[5] الحديث الذي به الزيادة: «واحدة في الجنة، و هي الجماعة»، صحّحه الحاكم في المستدرك (1/ص128)، و أقرّه الذهبي في التلخيص. و صحّحه أيضاً ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1\118). و جوّده العراقي في تخريج الإحياء (3\230). و حسّنه إبن حجر في تخريج الكشاف (ص63). أما أصل الحديث (أي تفرّق هذه الأمة لثلاثٍ و سبعين فرقة) فهو صحيح متواتر عند جميع الأئمة.
[6] انظر: كتاب السنة لابن أبي عاصم بتخريج الألباني (1/41).
[7] (سورة الحشر 59: 10).(9/81)
[8] هذا الكلام كلّه في الرجال. و إلا فلا شك أن نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل أصحابه كلهم –رضي الله عنهن أجمعين–. و أفضل نساءه باتفاق العلماء عائشة و خديجة. قال الإمام إبن حزم الأندلسي في "الفصل في الملل و الأهواء و النِّحل": «و الذي نقول به، و ندين الله تعالى عليه، و نقطع أنه الحق عند الله: أن أفضل الناس –بعد الأنبياء عليهم السلام– نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». و قال كذلك: «لا أوكَدَ ممّا ألزمنا الله تعالى إيّاه من التعظيم الواجب علينا لنساء النبي من قول الله: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، و أزواجه أمّهاتهم } . فأوجب الله لهنّ حكم الأمومَة على كلّ مسلم. هذا سوى حقّ إعظامهنّ بالصحبة مع رسول الله كسائر الصحابة. إلا أن لهن من الاختصاص في الصحبة و وكيد الملازمة له و لطيف المنزلة عنده و القرب منه و الحظوة لديه، ما ليس لأحد من الصحابة. فهن أعلى درجة من الصحابة من جميع الصحابة. ثم فَضِلن سائر الصحابة بحقٍ زائدٍ و هو حق الأمومة الواجب لهن كلهن بنص القرآن». و قال كذلك: «و أما فضلهن على بنات النبي فبيّنٌ بنصِّ القرآن لا شكّ فيه. قال تعالى: { يا نساء النبيّ لستنّ كأحدٍ من النساء } . فهذا بيان قاطعٌ لا يسع أحداً جهله». قلت و قد جهله البعض فوجب التنبيه.
[9] عقيدة الإمام أحمد التي نص عليها كما نقل الخلال بأسانيد صحيحة، هو التوقف عن تفضيل أي صحابي بعد أبي بكر وعمر وعثمان. لكن أكثر العلماء يقولون بتفضيل علي كذلك. مع العلم أن هذا كله عن الرجال، وإلا فأمهات المؤمنين هن خير البشر بعد الأنبياء.(9/82)
[10] انظر التقييد والإيضاح (ص 297) للحافظ العراقي، حيث أن الأثر منقطع ومن رواية الواقدي المتروك كذلك. و حتى لو فرضنا جدلاً صحة ذلك الأثر الضعيف، و فصلنا بين تعريف المحدثين للصحابة و تعريف الأصوليين، فإن معاوية - رضي الله عنه - يعتبر صحابياً عند الأصوليين أيضاً فضلاً عن المحدّثين! و ذلك أنه صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من سنتين (من سنة 8هـ لسنة 11هـ)، و غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة غزوات: غزوة حنين التي قال الله تعالى عمن شهدها {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ...} (التوبة:26)، و غزوة الطائف، و غزوة العسرة التي قال الله عمن شهدها {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:117). فأيُّ حُجّةٍ بقيت لهؤلاء المُتَشَدِّقين؟
قال ابن الأثير عن معاوية: «وشهد مع رسول الله حنيناً، وأعطاه من غنائم هوازن مائة بعير، وأربعين أوقية وكان هو وأبوه من المؤلفة قلوبهم، وحسن إسلامهما وكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
[11] انظر التقييد والإيضاح (ص 297) للحافظ العراقي.
[12] و ذلك لأن أحداً منهم لم يغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
[13] أخرجه مسلم برقم (4597) و البخاري برقم (3327).
[14] الفتاوى الكبرى (4\256).
[15] الْحَدِيث أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة وَ إِسْنَاده حَسَن كما ذكر إبن حجر العسقلاني في الفتح.
[16] رواه أحمد (3/51) دون كلام عمر، و رواه بلفظه علي بن الجعد (2/956)، و قال الهيثمي (4/92): رجاله ثقات، و عزاه ابن حجر ليعقوب بن شيبة كما في إسناده عنه، و عزاه شيخ الإسلام لأبي ذر الهروي (الصارم المسلول 590).(9/83)
[17] البخاري: حديث [3650]. و مسلم: حديث [2535]. و هذا سياق البخاري مختصراً.
[18] رواه البخاري: كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- باب قول النبي لو كنت متخذاً خليلاً- حديث رقم 3673. و مسلم: كتاب فضائل الصحابة -باب تحريم سب الصحابة- حديث رقم 2541. صحيح مسلم 4/1967م. و النصيف هو النصف. و السياق لمسلم ط. عبد الباقي. و انظر أيضاً شرح إبن تيمية له في الصارم المسلول (ص576) فهو في غاية الجودة.
[19] و هذه الزيادة في سبب ورود الحديث (أي قصة خالد بن الوليد) غير محفوظة. فقد رواه عن الأعمش سفيان الثوري (إنظر السنة لأبي عاصم 988) و شعبة و وكيع و أبي معاوية و غيرهم. و هم أضبط و أحفظ الناس لحديث الأعمش. و لم يذكرو هذه الزيادة. على أنه قد اختُلِف على جرير فيها. فقد رواه ابن ماجه ( 161) عن محمد بن الصباح عن جرير بدونها. و لذا أعرَضَ عنها البخاري. و قال مسلم في صحيحه (4/1968) بعد ذكر الرواة عن الأعمش: «و ليس في حديث شعبة و وكيع، ذِكرُ عبد الرحمن بن عوف و خالد بن الوليد». و هذا هو الصواب، و الله المستعان على ما يصفون.
[20] أخرجه البخاري في صحيحه (3\1035).
[21] الحديث صحيح بشواهده. العدل: الفرائض، و الصرف: التطوع. راجع سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني (5\446) برقم (2340).
[22] أخرجه الطبراني في الكبير (2/78/2)، و أبو نعيم في الحلية (4/108)، و في الإمام من حديث ابن مسعود، و صحّحه الألباني بشواهده. السلسلة الصحيحة (1/75) برقم (34). و حسّنه الحافظ العراقي.
[23] منهاج السنة (6/254).
[24] مجموع الفتاوى (3/406).
[25] قال عنه ابن حبان: «رافضي يشتم الصحابة و يروي الموضوعات عن الثقات». لسان الميزان (4/366). قال عنه الذهبي (3/419): «إخباري تالف لا يوثق به، تركه أبو حاتم و غيره». و مثله قال بن حجر في لسان الميزان (4/492).(9/84)
[26] قال عنه بن عساكر: «رافضي ليس بثقة». ميزان الاعتدال (4/304). و قال عنه بن حبان في كتاب "المجروحين من المحدثين و المتروكين" (3/91): «يروي عن أبيه و معروف مولى سليمان و العراقيين، العجائب و الأخبار التي لا أصول لها. و كان غالياً في التشيع. و أخباره في الأُغلوطات، أشهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفها».
[27] منهاج السنة (5/72)، و انظر دراسة نقدية "مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري / عصر الراشدين"، ليحيى اليحيى.
[28] قال علي بن المديني (شيخ الإمام البخاري): «الهيثم ابن عدي أوثق عندي من الواقدي، و لا أرضاه في الحديث و لا في الأنساب و لا في شيء!». تهذيب الكمال (26/187).
[29] منهاج السنة (6/305).
[30] مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني، و انظر تنويراً لمقالة حل إلفاظ الرسالة للتتائي.
[31] أصحاب رسول الله و مذاهب الناس فيهم لعبد العزيز العجلان (ص360).
[32] منهاج السنة (6/327).
[33] أخبار البصرة لعمر بن شبه نقلا عن فتح الباري (13/56).
[34] انظر البداية و النهاية لابن كثير (8/139).
[35] البداية و النهاية (8/139).
[36] ليس المقصود عصمة الصحابة من الذنوب، بل إن منهم من أذنب فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه الحد. لكن المقصود هو الصدق والإخلاص والبراءة من الكذب و النفاق، وأن لهم من الحسنات ما يغلب السيئات.
[37] السنة للخلال (2\432). إسناده حسن.(9/85)
[38] ذكر النووي في شرح صحيح مسلم (8/231) و ابن القيم في زاد المعاد (2/126) أن معاوية - رضي الله عنه - من مسلمة الفتح، أي أنه أسلم سنة (8هـ)، في حين ذكر أبو نعيم الأصبهاني كما في معرفة الصحابة (5/2496) و الذهبي كما في تاريخ الإسلام –عهد معاوية– (ص 308) أنّه أسلم قبيل الفتح. و مردّ الاختلاف بين المصادر حول تاريخ إسلام معاوية - رضي الله عنه - يعود إلى كون معاوية كان يخفي إسلامه، كما ذكر ذلك ابن سعد في الطبقات (1/131)، و هو ما جزم به الذهبي، حيث قال: أسلم قبل أبيه في عمرة القضاء –أي في سنة (7هـ)– و بقي يخاف من الخروج إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبيه، و أظهَر إسلامه عام الفتح. إنظر: تاريخ الإسلام –عهد معاوية– (ص 308). و قد قال معاوية عن نفسه: قال معاوية: «أسلمت يوم عمرة القضاء و لكني كتمت إسلامي من أبي إلى يوم الفتح».
[39] انظر حول عدالة الصحابة: الاستيعاب لابن عبد البر (1/19) و فتح المغيث (3/103) و شرح الألفية للعراقي (3/13-14) والإصابة (1/9) و مقدمة ابن الصلاح (ص 147) و الباعث الحثيث (ص 181-182) و شرح النووي على صحيح مسلم (15/149) والتقريب للنووي (2/214) والمستصفى للغزالي (ص 189-190 ) و في غيرها من الكتب.
[40] (سورة الحديد:11).
[41] تفسير ابن جرير: (27/128). دار المعرفة. بيروت ط الراعبة 1400 هـ.
[42] الفصل: (4/148)، 149. ط.
[43] الصارم المسلول (574)، و انظر منهاج السنة (2/14). و الأثر رواه أحمد في الفضائل رقم (187، 1741) و صحّح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية، و نسب الحديث لابن بطة. منهاج السنة (2/22).
[44] زاد المعاد (3/394).
[45] (الفتح:1).
[46] متفق عليه.(9/86)
[47] البداية و النهاية (8/142)، و انظر المسائل و الرسائل المروية عن أحمد في العقيدة الأحمدية للأحمدي (2/363-364)، و كذلك شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة (7/1252) للالكائي رحمه الله، وتاريخ ابن عساكر (59/209).
[48] السنة للخلال (3/493) و إسناده صحيح.
[49] رسالة في سب الصحابة، عن الصارم المسلول (ص580).
[50] الكفاية للخطيب البغدادي (97).
[51] تفسير ابن كثير (4/219).
[52] تفسير القرطبي (16/297).
[53] شم العوارض في ذم الروافض الورقة 6أ مخطوط.
[54] الشرح والإبانة للإمام ابن بطة ص (162).
[55] (2/134).
[56] الشرح والإبانة ص (161).
[57] السنة للخلال (2\447)، و كذلك رواه ابن عساكر في تاريخه (59/210).
[58] رواه اللالكائي في أصول أهل السنة (7/1266).
[59] مناقب أحمد لابن الجوزي (210).
[60] رواه اللالكائي في أصول أهل السنة (7/1266).
[61] السنة للخلال (2\434). إسناده صحيح. و قد روي مثل هذا عن كثير من الأئمة و التابعين كالمعافى و أبي أسامة. السنة للخلال (2\435).
[62] رواه ابن عساكر في تاريخه (59/206).
[63] رواه ابن عساكر في تاريخه (59/141)، و ذكره إبن حجر في فتح الباري (13\ص86).
[64] السنة للخلال (2\448). إسناده صحيح.
**************
الباب الثاني – عرض الشبهات والرد عليها
تقسيم الصحابة بين أهل السنة والجماعة والرافضة الاثني عشرية
يبدأ التيجاني ( المهتدي ) بحثه للوصول للحق كما يدعي في أهم قضية كما أسلفت والتي تعتبر مفرق الطريق وجوهر الخلاف بين أهل السنة والشيعة ( الرافضة ) وهي البحث في حياة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وأول ما يبدأبه التيجاني بحثه هو رأى السنة والشيعة في تقسيم الصحابة، فيذكر أن الشيعة يقسمون الصحابة إلى ثلاثة أقسام فيقول (( وقد استنتجت من خلال الحديث مع علماء الشيعة أن الصحابة في نظرهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام.(9/87)
فالقسم الأول وهم الصحابة الأخيار الذين عرفوا الله ورسوله حق المعرفة وبايعوه على الموت وصاحبوه بصدق في القول وبإخلاص في العمل، ولم ينقلبوا بعده، بل ثبتوا على العهد وقد امتدحهم الله جل جلاله في كتابه العزيز في العديد من المواقع، وقد أثنى عليهم رسول الله في العديد من المواقع أيضاً، والشيعة يذكرونهم باحترام وتقديس ويترضون عليهم كما يذكرهم أهل السنة باحترام وتقديس أيضاً.
والقسم الثاني هم الصحابة الذين اعتنقوا الإسلام واتبعوا رسول الله أما رغبة أو رهبة، وهؤلاء كانوا يمنون إسلامهم على رسول الله، وكانوا يؤذونه في بعض الأوقات ولا يمتثلون لأوامره ونواهيه بل يجعلون لآرائهم مجالاً مقابل النصوص الصريحة حتى ينزل القرآن بتوبيخهم مرة وتهديدهم أخرى وقد فضحهم الله في العديد من الآيات وحذرهم رسول الله أيضاً في العديد من الأحاديث النبوية والشيعة لايذكرونهم إلا بأفعالهم بدون احترام ولا تقديس.(9/88)
أما القسم الثالث من الصحابة فهم المنافقون (!!) الذين صحبوا رسول الله للكيد له وقد تقربوا ليكيدوا للإسلام والمسلمين عامة وقد أنزل الله فيهم سورة كاملة وذكرهم في العديد من المواقع وتوعدهم بالدرك الأسفل من النار وقد ذكرهم رسول الله وحذّر منهم وعلّم بعضاً من أصحابه أسماءهم وعلاماتهم، وهؤلاء يتفق الشيعة والسنة على لعنهم والبراءة منهم ))(4) هذا هو التقسيم الشيعي للصحابة كما ذكره التيجاني في كتابه بالإضافة لقسم خاص من الصحابة يتميزون بالقرابة وبفضائل خلقية ونفسية وهم أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم(5) ثم ينقل اعتقاد أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام فيقول (( أما أهل السنة والجماعة مع احترامهم لأهل البيت وتعظيمهم وتفضيلهم(*) إلا أنهم لا يعترفون بهذا التقسيم ولا يعدّون المنافقين في الصحابة، بل الصحابة في نظرهم خير خلق الله بعد رسول الله، وإذا كان هناك تقسيم فهو من باب فضيلة السبق للإسلام والبلاء الحسن فيه فيفضلون الخلفاء الراشدين بالدرجة الأولى ثم الستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة على ما يروونه (!) ))(6) هذا هو اعتقاد أهل السنة في الصحابة كما ذكره التيجاني في كتابه، والآن وقبل أن أشرع بالرد على تقسيم الصحابة في نظر الشيعة الاثني عشرية وبيان عواره و بطلانه لابد من تحديد من هو الصحابي ؟ من هو المنافق ؟ سواء من الجانب اللغوي والاصطلاحي ومن ثم لا بد أن نعرف من هم المعنيون في تقسيمات الشيعة ( الرافضة ) الاثني عشرية من الصحابة حسب ما جاء في مصادرهم المعتمدة حتى يسهل على القارئ معرفة القول الحق من القول الباطل سواء كان سنياً أو شيعيا ،ومن ثم أشرع في الرد على تقسيم الرافضة الاثني عشرية للصحابة وتبيان مجانبتها للحق والله المستعان.
1ـ تعريف الصحابي لغةً واصطلاحاً:(9/89)
ففي اللغة: (( صحبه كسمعه، صحابة، ويكسر وصُحبةً عاشره. وهم أصحاب وأصاحيب وصحبانُ وصحابٌ وصحابة وصحبٌ واستصحبه: دعاه إلى الصحبة ولازمه ))(7)، (( وكل شئٍ لاءم شيئاً فقد استصحبه ))(8) (( والصاحب المعاشر ))(9) فالمصاحبة في اللغة تعني الملازمة والمعاشرة.
وفي الاصطلاح: (( الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤمن به ومات على ذلك ))(10)، وهذا التعريف يقتضي أنه من رأى النبي غير مؤمن به ومات على ذلك لا يدخل في مسمى الصحبة له.
2ـ تعريف المنافق لغةً واصطلاحاً:
ففي اللغة: (( نافق ينافق منافقةً ونفاقاً، وهو مأخوذ من النفقاء: أحد حجر اليربوع إذا طلب من واحد هرب إلى الآخر، وخرج منه، وقيل: هو من النَّفَق: وهو السَّرَب الذي يُستتر فيه، لِسَترِه كُفرَه))(11)، فالنفاق في اللغة يعني التقلب على أكثر من وجه والاستتار.
وفي الاصطلاح: (( المنافق الذي يظهر الإسلام ومتابعة الرسول ويبطن الكفر ومعاداة الله ورسوله ))(12). وبعد هذا البيان التعريفي لكلمتي ( الصحابي والمنافق) نخلص إلى أنهما لا يتفقان لا من الناحية اللغوية ولا من الناحية الاصطلاحية فالصحابي هو الذي آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومات على الإسلام والمنافق من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، فلا يتوافق أن يكون الصحابي منافقاً ولا المنافق صحابياً، ولعل أحداً يتساءل،كيف نعرف الصحابي من المنافق؟ أقول للمنافق صفات وعلامات ظاهرة بالكتاب والسنة نستطيع من خلالها أن نميزه عن الصحابة وسيأتي بعد قليل ذكر بعض من صفات المنافق عند الرد على تقسيم الرافضة الاثني عشرية للصحابة.
ثانيا: التقسيم الحقيقي للصحابة في اعتقاد الرافضة الاثني عشرية:(9/90)
ذكر المؤلف التيجاني أن الشيعة الرافضة قسموا الصحابة إلى ثلاثة أقسام(13) ولكن الحقيقة تشهد على أن الرافضة يقسمون الصحابة إلى قسمين لا ثالث لهما وذلك ما يقوله علماؤهم بأفواههم وتشهد عليهم بذلك كتبهم:
1ـ أما القسم الأول من الصحابة والذين تترضى عنهم الرافضة وذكرهم التيجاني في القسم الأول لا يقلّون عن ثلاثة ولا يتجاوزون السبعة!! فقد روى الكشي ـ وهو عمدتهم في الرجال ـ باسناد (معتبر)! عن الباقر (ع) (( أنه ارتد الناس إلا ثلاثة نفر سلمان وأبو ذر والمقداد. قال الراوي فقلت فعمار، قال كان حاص حيصة ثم رجع ))(14)، وفي رواية أخرى ((....ثم أناب الناس بعد، وكان أول من أناب أبو ساسان الأنصاري، وعمار، وأبوعميرة، وشتيرة، وكانوا سبعة فلم يعرف حتى أمير المؤمنين (ع) إلا هؤلاء السبعة ))(15)، وروى الكليني كبير علماء الاثني عشرية في كتابه ( الأصول من الكافي ) ـ وهو يمثل أحد أربعة كتب تعتبر مرجع الأمامية في أصول مذهبهم وفروعه(16) ـ عن حمران بن أعين قال (( قلت لأبي جعفر عليه السلام جعلت فداك ما أقلنا لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها؟ فقال : ألا أحدثك بأعجب من ذلك، المهاجرون والأنصار ذهبوا إلاـ وأشار بيده ثلاثة......الخ ))(17)، وروى في الروضة (( عن عبد الرحيم القصير قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: إن الناس يفزعون إذا قلنا: إن الناس ارتدوا، فقال يا عبد الرحيم إن الناس عادوا بعد ما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل جاهلية، إن الأنصار اعتزلت فلم تعتزل بخير جعلوا يبايعون سعداً وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية، يا سعد أنت المرجاء وشعرك المرجل وفحلك المرجم ))(18) فهذ هو القسم الأول من الصحابة المعتمدين في نظر الرافضة الاثني عشرية.(9/91)
2ـ أما القسم الثاني في نظر الرافضة فهم بقية الصحابة دون المذكورين في القسم الأول وهم أهل النفاق والارتداد والانقلاب وفي مقدمتهم الخلفاء الثلاثة ثم العشرة المبشرون بالجنة ثم البقية الباقية من الصحابة. هذه هي عقيدة الرافضة الاثني عشرية في صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مصادرهم الأصيلة....... ولكن ما السبب في تقسيم الصحابة إلى ثلاثة أقسام في كتاب التيجاني ( المهتدي )؟ السبب هو لمحاولة تضليل القارئ وخاصة إذا كان من أهل السنة بإيهامه أن الصحابة ليسوا مرتدين ولكنهم يريدون الدنيا فاتبعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رغبة في الدنيا أو رهبة منه ( أى نفاقاً ) وحتى يفتح المجال للقارئ ويسهل عليه إلقاء من يريده من الصحابة في باب الردة يضع القسم الثاني ويتبعه بالقسم الثالث وهم المنافقون ويقحمه غصباً في باب الصحابة ثم بعد ذلك يخلط المؤلف في كتابه بين القسمين الثاني والثالث ويدمجهما في قسم واحد فيصبح الصحابة قسم مرضي عنه وقسم منقلب مرتد وبذلك يسهل إستدراج القارئ ليتقبل التقسيم الحقيقي للصحابة في نظر القوم،ولعل أحداً يظن التيجاني يقصد بالمنافقين عبدلله بن أبي بن سلول رأس النفاق وأصحابه، بل ستراه يدافع عنه في حادثة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه وموقف بعض الصحابة من ذلك(19).
ثالثاً: الرد على تقسيم الشيعة الاثني عشرية للصحابة.(9/92)
1ـ إذا كان المنافقون جزءاً من الصحابة ( زعموا ) فمعنى ذلك أن كل من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو صحابي لعدم اشتراط الإيمان به والموت على ذلك ولأن المنافق من جملة الكافرين فليس صحابياً ولكن الرافضة لا يشترطون الإيمان فيدخلونه في مسمى الصحابي ومعنى ذلك أن اليهود والنصارى والمشركين الذين رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيدخلون في مسمى الصحابة لأنه لا يشترط الإيمان في الصحبة وهذا الكلام لا يقوله إلا من تشبع بالغباء فضلاً عن العقلاء، فإذا اعترف الرافضة بأن الصحابي هو من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤمناً به ومات على ذلك فقد أبطلوا الادعاء بأن المنافق صحابي لأنه ليس من أهل الإيمان بالاتفاق.
2ـ لاشك أن علياً وبقية الصحابة الذين تترضون عنهم سيدخلون في باب المنافقين لأنكم فتحتم الباب على مصراعيه ولم تحددوا من هم الصحابة ومن هم المنافقون ومن حق كل إنسان أن يعتقد بمن شاء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم منافقون بحجة أن أهل النفاق في الصحابة (!) ومن هذا الباب دخل الملاحدة والزنادقة والمستشرقون للطعن في الإسلام وأهله.(9/93)
3ـ القارئ لكتاب هذا التيجاني سيخلص إلى أن أهل النفاق أكثر كماً من الصحابة الذين يمثلون القلة ممن أحاط بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بل لقد استولوا على المراكز القيادية ( وهذا هو اعتقاد الرافضة ) والتيجاني نفسه يقول في قسم الصحابة الثالث أن المنافقين قد أظهروا الإسلام وانطوت سرائرهم على الكفر وقد تقربوا ليكيدوا للإسلام والمسلمين فإذا كانت هذه هي أهدافهم وكانوا هم الكثرة فلماذا لم يحيطوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته ليقضوا عليهم ويدمروا دولة الإسلام الفتية؟ ولكن الواقع يشهد بأن الإسلام قد انتصر وانتشر في بقاع الأرض وعلت رايته وتهاوت أمامه رايات الكفر، فانظر أيها القارئ رعاك الله كيف تتصادم أقوال هؤلاء الروافض مع الحقائق العقلية والوقائع التاريخية.(9/94)
4ـ لم يكن المنافقون مجهولين في مجتمع المدينة إنما كانوا فئة مفضوحة فقد عُلم بعضهمبعينه والبعض الآخر عرف بالأوصاف المذكورة في القرآن ويبين هذه الحقيقة حديث كعب بن مالك ـ وهوأحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ـ وذلك حين قال (( فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء.....الخ ))(20) ومن أوصافهم الظاهرة أيضاً (( وصفهم بالإفساد في الأرض والاستهزاء بدينه وبعباده وبالطغيان واشتراء الضلالة بالهدى، والصم والبكم والعمى والحيرة والكسل عند عبادته(*)، والتردد والتذبذب بين المؤمنين والكفار فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، والحلف باسمه تعالى كذباً وباطلاً وبعدم الفقه بالدين وبالجبن، وبعدم الإيمان بالله وباليوم الآخر والرب، وأنهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر، ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والإبتلاء، وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين وبكراهتهم الانفاق في مرضاة الله وسبيله وأنهم يفرحون إذا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويكرهون الجهاد في سبيل الله وأنهم أحلف الناس بالله قد اتخذوا أيمانهم جنة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم، وبأنهم مضرة على أهل الإيمان يقصدون التفريق بينهم والفجور عند الخصام ويؤخرون الصلاة إلى آخر وقتها ويتركون حضور الجماعة وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاء ))(21) فهذه بعض صفات المنافقين التي وصفهم الله سبحانه بها، فبالله هل هذه الأوصاف يوصف بها من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟!..هل هذه الأوصاف يستحق من يوصف بها أن يكون قسماً من الصحابة؟!..لا شك أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم أبعد الناس من أن يوصفوا بتلكم الأوصاف وقد استحقوا رضى الله سبحانه ومرضاته حتى قال فيهم { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون(9/95)
بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } ( آل عمران 110) وقال تعالى { ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } ( الأنفال 64) وقال تعالى { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } ( الفتح 29 ) وقال سبحانه { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم } ( الأنفال 74) فالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم المهاجرون من الصحابة، والذين آووا ونصروا هم الأنصار من الصحابة وقد وصفهم الله بصيغة الجمع بأنهم هم المؤمنون حقا ثم يأتي بعد ذلك أولي النهى والخبول ليجعلوا الصحابة والمنافقين في خندق واحد!!؟
5ـ من المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد علّم بعض أصحابه أسماء المنافقين وقد أقر المؤلف بذلك وقد ثبت أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ترضى عن صحابته وأوجب حبهم والثناء عليهم وحمى أقدارهم من التعرض لهم بسوء فقال (( لاتسبوا أصحابي(22) فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدُهم ولا نصيفه ))(23) وقال (( من سب أصحابي، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ))(24) وقال أيضاً صلوات الله وسلامه عليه (( إحفظوني في أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم،....الخ ))(25) وهذا يقتضي بالضرورة عدالة جميع الصحابة ولا يمكن بحال إدخال المنافقين في جملة هذه الأحاديث وقد أنزل الله فيهم قوله (( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار )) و( الـ ) للإستغراق اللهم إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتناقض في أقواله وحاشاه ذلك.(9/96)
6ـ ثم نسأل هذا ( المهتدي ) الوبي! إذا كان القسمان الثاني والثالث من الصحابة هم من المجروحين الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رغبة أو رهبة والمنقلبين على أعقابهم بالإضافة إلى النفاق الذي استشرى بينهم ( وهم الأكثرية من الصحابة ) وقسم واحد ( وهم القلة القليلة من الصحابة ) ـ كما بينت سابقاً ـ هم المرضي عنهم والمعدلين من جملة الصحابة فما الذي يعنيه ذلك؟! فإذا كانت الأغلبية من الصحابة منقلبين ومنافقين يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلملم يستطيع أن يربي أصحابه على الحق والعدل فأصبح مربياً فاشلاً!!؟ وهل ربّى بعد كل هذه الفترة صحابة لا يقلون عن ثلاثة ولا يتجاوزون السبعة؟؟! فحاشاه ذلك بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ... أقول لطالب الحق أليس هذا طعناً صريحاً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فبالله ماذا كان يفعل طيلة هذا المدة مع أصحابه وهل تعلموا منه السوء فقط سبحان الله! أهذا النبي العظيم الذي أنشأ جيلاً فريداً من البشر فتح الله بهم الدنيا وأنقذ بهم الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام ومن ظلمات الجاهلية إلى أنوار الحرية ودخل الناس من كل فجٍ عميق في دين الله أفواجاً حتى اعترف بعظمة هذا الجيل الفريد أحبار اليهود والنصارى ثم يأتي بعد ذلك أحفاد عبد الله بن سبأ ليفاجئونا بعد خمسة عشر قرناً بأن جيل الصحابة كانوا منافقين منقلبين على أعقابهم في النار؟!
7ـ من المعلوم لدارس سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن النفاق لم يكن له أثر في بداية الدعوة في مكة نظراً للإضطهاد الذى كان يلقاه المسلمون وقتئذ ولكنه ظهر بالمدينة بعدما مكن الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصبح الإسلام واقعاً معترفاً به ومن المتفق عليه أن أبابكر وعمر وعثمان وغيرهم قد أسلموا في بداية محنة الإسلام في مكة وهذا يبين أنهم من أبعد الناس عن النفاق.(9/97)
8ـ لقد فضح الله المنافقين في سورتي ( المنافقين، والتوبة ) مبيناً حالهم ودسائسهم وما تكنه صدورهم تجاه المؤمنين لذلك سُمّيت سورة التوبة بالفاضحة والمدمدمة لما أظهرت من صفاتهم ونواياهم ثم أظهرت حال أهل الإيمان من الصحابة الميامين بشهادة رب العالمين، وبالنسبة لسورة المنافقين فقد نزلت في رأس النفاق عبد الله ابن أبي بن سلول وأصحابه فقد أخرج البخاري في صحيحه عند تفسير سورةالمنافقين عن زيد بن الأرقم أنه قال (( كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل. فذكرت ذلك لعمي ـ أو لعمر ـ فذكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه، فأصابني هم لم يصبني مثلُهُ قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومقتك، فأنزل الله تعالى ( إذا جاءك المنافقون ) فبعث إليّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ فقال: إن الله قد صدقك يازيد))(26) ولعل ( المهتدي ) يشك في ذلك وحتى أُشككه في هدايته إلى ما هُدي إليه أحيله إلى مراجعة كتاب ( مجمع البيان في تفسير القرآن ) للإمام الطبرسي ـ وهو من أكابر علمائهم ـ فقد أورد سبب نزول سورة المنافقين في ابن أبي سلول فقال (( نزلت الآيات في عبد الله بن أبي ـ المنافق ـ وأصحابه ... ))(27) ثم ذكر الروايات التي أوردها البخاري التي تثبت ذلك، ومعلوم أن أصحاب ابن أبي كانوا معروفين بأعيانهم عند الصحابة وهذا واضح جداً من سياق الحديث. وأما بالنسبة لسورة ( التوبة ) فقد دمدمت على أهل النفاق في مواضع عديدة وفضحت الكثير من صفاتهم ففي قوله تعالى { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا(9/98)
بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين } إلى قوله { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } ( التوبة 44 ـ49)، ومعلوم أن الصحابة جميعاً قد خرجوا للقتال وقد تخلف في بادئ الأمر أبوذر وأبوخيثمة ثم لحقا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد تخلف أيضاً من الصحابة ثلاثة وهم ( كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع ) وهم من الأنصار وسيأتي أن الله سبحانه غفر لهم وتاب عليهم، وبقي في المدينة أهل النفاق والمعذورين من الجهاد وقد ذكرت سابقاً قول كعب بن مالك وهوأحد الثلاثة المتخلفين ذكر أنه لم يبق في المدينة إلا رجل ممن عذر الله أو رجلاً مغموصاً عليه بالنفاق وهذا يدل على أن أهل النفاق كانت لهم علامات يعرفهم بها الأصحاب ولا يجهلونها.
وقوله تعالى { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون } ( التوبة 64) يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية (( قال مجاهد: يقولون القول بينهم ثم يقولون عسى الله أن لايغشى علينا سرنا هذا، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى { وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } أي أن الله سينزل علي رسوله ما يفضحكم به ويبين لكم أمركم كقوله تعالى { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ـ الى قوله ـ ولتعرفنهم في لحن القول } الآية، ولهذا قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة الفاضحة فاضحة المنافقين ))(28) أي أن الله فضحهم أمام الخلائق وبين حقيقتهم للناس بعد ما كان مكرهم سراً وفي الخفاء وبعد هذا لايقول أنهم والصحابة الكرام قسم واحد إلا من تسربل بالغباء! .(9/99)
وقوله تعالى { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم } إلى قوله تعالى { فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } ( التوبة 95 ـ 96) هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وجاؤوا يعتذرون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا بضعة وثمانين رجلاً ليس فيهم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم راجع صحيح البخاري رواية عبد الله بن كعب(29) في سبب نزول هذه الآية. وقوله تعالى { والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين....} إلى قوله { والله يحب المطهرين } ( التوبة 107 ـ 108) وهذه الآية أيضاً فضحت المنافقين وذلك عندما بنوا مسجد ضرار لأبي عامر الراهب الفاسق لحرب المؤمنين وأرادوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي فيه فأخبره جبريل بأمرهم فأمر بعض ( أصحابه ) بهدمه وأمره بالصلاة في المسجد الذي أسس على التقوى ... ولا شك أن الذين قاموا ببناء مسجد ضرار غير مجهولين عن الصحابة ولكن في نظر المؤلف المتشيع للحق والعقلانية أن أكثر الصحابة منافقون، والبداهة تقول أن المسجد الذي يصلي فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو مسجد الصحابة، والمسجد الذي أمر بهدمه هو مسجد أهل النفاق، فإذا كان أكثر الصحابة منافقون(30) وصلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد الصحابة المنافقين فهل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هدم مسجد المؤمنين ليصلي في مسجد المنافقين أيها العقلانيون؟! وفي نفس السورة يخبر الله برضاه عن الصحابة من السابقين الأولين مهاجرين وانصاراً بقوله سبحانه { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم } ( التوبة 100 ) فانظر أيها القارئ كيف يخبر الله برضاه عن الصحابة من المهاجرين والأنصار (( فياويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما(9/100)
سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟! وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدون، ولهذا هم حزب الله المفلحون وعبادُه المؤمنون ))(31) وقوله سبحانه { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤف رحيم } ( التوبة 117) وهذه الآية أيضاً صريحة في مدح الصحابة من المهاجرين والأنصار وصفاء ضمائرهم وسرائرهم، فهاتان الآيتان تصرحان بعدالة الصحابة الأخيار بشهادة الكبير المتعال، ثم رضي الله سبحانه على الثلاثة الذين تخلفوا وهم من جملة الصحابة خلاف بقية المتخلفين عن الغزوة من المنافقين الذين قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن ظاهرهم، وهذا أعظم دليل على الفارق الكبير بين الصحابة المعدلين من الله سبحانه رغم أخطائهم والمنافقين الذين فضحهم الله سبحانه في كتابه الكريم والحمد لله رب العالمين.(9/101)
9ـ لابد من أن أسوق رأى كبارعلماء الرافضة الإثني عشرية الذين أنطقهم الله الذي أنطق كل شيء ....أنطقهم بالحق الذي لا مرية فيه وذلك من كتبهم المعتمدة فقد أورد أبو النصر محمد بن مسعود المعروف بالعياشي في تفسيره لقوله تعالى { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } رواية تنفي النفاق صراحة عن صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رواها عن محمد الباقر ( وهو خامس الأئمة الاثني عشرالمعصومين ) عند القوم (( فعن سلام قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام فدخل عليه حمران بن أعين فسأله عن أشياء فلما همَّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر عليه السلام أخبرنا أطال الله بقاك وأمتعنا بك إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترقَّ قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا وتهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا؟ قال فقال أبو جعفر عليه السلام: إنما هي القلوب مرّة يصعب عليها الأمر ومرّة يسهل، ثم قال أبو جعفر: أما إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله تخاف علينا النفاق، قال:فقال لهم: ولم تخافون ذلك؟ قالوا إنا إذا كنا عندك فذكرتنا روعنا ووجلنا نسينا الدنيا وزهدنا فيها حتى كأنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل والأولاد والمال يكاد أن نحوّل عن الحال التي كنا عليها عندك وحتى كأنا لم نكن على شيء أفتخاف علينا أن يكون هذا النفاق؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلا ( ! ) هذا من خطوات الشيطان ليرغبنكم في الدنيا، والله لو أنكم تدومون على الحال التي تكونون عليها وأنتم عندي في الحال التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء ولولا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق خلقاً لكي يذنبوا (*) ثم يستغفروا فيغفر لهم إن المؤمن مفتن توّاب أما تسمع لقوله { إن(9/102)
الله يحب التوابين } وقال {استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } ))(32) ويقول الإمام الحسن العسكري ، وهوالإمام الحادي عشر عند القوم ـ في تفسيره مبيناً منزلة الصحابة الكرام عندما سأل موسى عليه السلام الله بضع أسئلة منها قوله ((..هل في صحابة الأنبياء أكرم عندك من صحابتي قال الله عز وجل: يا موسى أما علمت أن فضل صحابة محمد على جميع صحابة المرسلين كفضل آل محمد على جميع آل النبييين وكفضل محمد على جميع المرسلين ))(33) وأختم أخيراً برأي وصي القوم وإمامهم ـ بزعمهم ـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أوثق كتب الإمامية ليستيقن طالب الحق ويزداد الذين آمنوا إيماناً فيصفهم لشيعته المتخاذلون عن نصرته متأسياً بهم فيقول (( لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما أرى أحداً يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجّداً وقياماً يراوحون بين جباهِهِم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم رُكب المعزي من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبُلَّ جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب ))(34) وأورد أيضاً إمام القوم إبراهيم الثقفي في كتابه ( الغارات ) ـ من أهم كتب الشيعة الاثني عشرية ـ قول علي عندما سأله أصحابه ((...ياأمير المؤمنين حدثنا عن أصحابك، قال: عن أي أصحابي؟ قالوا: عن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: كل أصحاب محمد أصحابي ))(35)! فهذا هو قول أعظم أئمتهم ( كما يدعون ) في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين أكثرهم منافقون كما يدعي المهتدي والهداة المهديين من الرافضة، فهل يبطلون قولهم الساقط هذا ويلجمون ألسنتهم عن الصحابة الكرام أم سيبطلون قول إمامهم؟!(9/103)
وبعد هذا البيان أرجو منك أخي القارئ أن تراجع هذه الأدلة وأنت تقرأ في ثنايا هذا الكتاب لتعرف صحة ما نقلناه من اعتبار الرافضة لأكثر الصحابة وأولهم الخلفاء الثلاثة في عداد المنافقين المنقلبين على أعقابهم.
أولاـ الرد على التيجاني في موقفه من الصحابة في صلح الحديبية:
يقول التيجاني ((مجمل القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في السنة السادسة للهجرة يريد العمرة مع ألف و أربعمائة من أصحابه فأمرهم أن يضعوا سيوفهم في القرب، وأحرم هو وأصحابه بذي الحليفة و قلدوا الهدي ليعلم قريش أنه إنما جاء زائرا معتمرا و ليس محاربا، و لكن قريشا بكبريائها خافت أن يسمع بأن محمداً دخل عنوة الى مكة و كسر شوكتها فبعثوا اليه بوفد يرأسه سهيل بن عمرو بن عبد ود العامري وطلبوا منه أن يرجع في هذه المرة من حيث أتى على أن يتركوا له مكة في العام القادم ثلاثة أيام، وقد اشترطوا عليه شروطاً قاسية قبلها رسول الله لاقتضاء المصلحة التي أوحى إليه ربه عزوجل، ولكن بعض الصحابة لم يعجبهم هذا التصرف من النبي وعارضوه في ذلك معارضة شديدة وجاءه عمر بن الخطاب فقال: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قال عمر: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال رسول الله (ص): إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قال عمر:أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال عمر: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، ثم أتى عمر بن الخطاب إلى أبي بكر فقال: يا أبابكر أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، ثم سأله نفس الأسئلة التي سألها رسول الله، وأجابه أبو بكر بنفس الأجوبة قائلاً له: أيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، ولما فرغ رسول الله من كتاب الصلح قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يمتثل لأمره(9/104)
منهم أحد، فدخل خباءه ثم خرج فلم يكلم أحداً منهم بشيء حتى نحر بدنة بيده، ودعا حالقه فحلق رأسه، فلما رأى أصحابه ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعض، .. هذه مجمل قصة الصلح في الحديبية وهي من الأحداث المتفق عليها عند الشيعة والسنة وقد ذكرها المؤرخون وأصحاب السير كالطبري وابن الأثير وابن سعد وغيرهم كالبخاري ومسلم، وأنا لي هنا وقفة، فلا يمكن لي أن أقرأ مثل هذا ولا أتأثر ولا أعجب من تصرف هؤلاء الصحابة تجاه نبيهم، وهل يقبل عاقل قول القائلين بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمتثلون أوامر رسول الله ( ص ) وينفذونها، فهذه الحادثة تكذبهم وتقطع عليهم مايرومون، هل يتصور عاقل بأن هذا التصرف في مواجهة النبي هو أمر هين، أو مقبول، أو معذور قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما } ))(2)
قلت رداً عليه:(9/105)
1ـ يبدو أن هذا التيجاني قد أجمل الرواية كثيراً حيث أخفى الجزء الهام منها مما يدل على سوء خبيئته ومدى تجنيه على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء في جزء من حديث صلح الحديبية المستشهد به قول عروة بن مسعود لقومه (( .....فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آته. قالوا ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أى محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، فإني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويَدَعُوكَ، فقال له أبو بكر: امصص بظرَ اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال له: أخِّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء، ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما تنخم(3) رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره (!!)، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، فرجع إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت مليكاً قط يعظمه أصحابه كما(9/106)
يعظم أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم محمداً (!!) والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له ))(4) فهؤلاء هم الصحابة المعظِّمون لنبيهم صلى الله عليه وسلم يشهادة رجل من المشركين..... سبحان الله أرأيت أخي القارئ إلى هذا التيجاني المنصف والأمين كيف يخفي هذا الجزء الهام من الحديث، وأنا في الحقيقة أعذره في ذلك لأنه بإيراده لهذا الجزء سيهدم كلامه من أوله إلى آخره إذ كيف يتوافق ما جاء في الحديث مع تهويلاته؟!
2ـ لم يعارض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم معارضة شديدة كما يدعي التيجاني ولا يظهر في الحديث ما يدل على أنهم أرادوا مخالفة نبيهم صلى الله عليه وسلم ولكنهم فعلوا ما فعلوه حباً لدينهم وعقيدتهم وحنقاً على الكافرين، وظنوا كما يظن أي إنسان تعتريه الأعراض البشرية أن ما جاء في المعاهدة التي أبرمت من الشروط ما يعتبر إجحافاً في حق المسلمين وهذا ما كان ظاهراً وجلياً في هذه المعاهدة، وليسوا هم معصومون ويوحى إليهم مثل نبيهم صلى الله عليه وسلم، ثم كيف يخالف الصحابة نبيهم ولا يمتثلون أمره ثم ينزل فيهم قوله تعالى { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً } ( الفتح 18) فهذه الآية نزلت في صلح الحديبية، فكيف يخبر الذي يعلم السر وأخفى برضاه عن الصحابة لعلمه ما في قلوبهم من الصدق والوفاء والسمع والطاعة ويبشرهم بالفتح القريب ثم يأتي هذا ( المتشيع للهدى )! ليشكك في نيات الصحابة تجاه نبيهم صلى الله عليه وسلم؟ فلا أقول له إلا كما قال الصديق امصص بظر اللات !؟؟(5).(9/107)
3ـ وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً لدى القارئ سأنقل رواية مسلم في صلح الحديبية، ـ وقد عزى التيجاني نفسه إليها في هامش كتابه ـ وهي رواية أخرى غير رواية البخاري والتي توضح مَن مِنَ الصحابة بالتحديد الذي خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم ورفض الإذعان لأمره فقد أخرج مسلم عن البراء بن عازب قوله (( لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثا. ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح، السيف وقرابه، ولا يخرج معه من أهلها، ولايمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه. قال لعلي ( أي ابن أبي طالب ) أكتب الشروط بيننا. بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما قضى عليه محمد رسول الله، فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، ولكن أكتب: محمد بن عبد الله، فأمر عليا أن يمحاها. فقال علي: لا والله لا أمحاها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرني مكانها، فأراه مكانها فمحاها. وكتب: ابن عبد الله فأقام بها ثلاثة أيام ...))(6) وإذا أردت أن أستخدم عقلية هذا التيجاني وتفكيره وإنصافه المزعوم فسأقول أنا لي هنا وقفة فلا يمكن لي أن أقرأ مثل هذا ولا أتأثر ولا أعجب من تصرف هذا الصحابي، وهل يقبل عاقل قول القائل بأن هذا الصحابي كان يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم وينفذه، فهذه الحادثة تكذبه وتقطع عليه مايروم، فهل يظن نفسه أكثر حرصا من النبي صلى الله عليه وسلم حتى دفعه بأبي هو وأمي أن يمحي الكلمة بيده الشريفة ويكتبها بنفسه، فلا أظن أن عاقلا يقول بأن هذا التصرف في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم هو أمر هين أومقبول أو معذور ... فهذه هي العقلية التي يكتب بها هذا التيجاني التي تفتح الباب لكل (جاهل ) ليحمل كل فعل لصحابي مع النبي صلى الله عليه وسلم على أنه مخالفة له وعدم امتثال لأمره وسوء تصرف...الخ، ولا نكلف أنفسنا الرجوع لأقوال أهل العلم من شُراح الأحاديث، فأقول لهذا التيجاني هل تقبل هذا(9/108)
التفسير لفعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه تجاه النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فإن قبلت بذلك فعليك أن تحكم على عليٍ بما حكمت به على بقية الصحابة، وإن لم يعجبك هذا التعليل فقد حكمت على قولك بحق الصحابة الكرام بالبطلان فتصبح قد رددت على عقلك بنفسك والحمد لله رب العالمين.
ثم يقول (( فهل سلّم عمر بن الخطاب هنا ولم يجد في نفسه حرجاً مما قضى الرسول ( ص )؟! أم كان في موقفه تردد فيما أمر النبي؟ وخصوصاً في قوله أولست نبي الله حقاً؟ أولست كنت تحدثنا؟ إلى آخره، وهل سلم بعد ما أجابه رسول الله بتلك الأجوبة المقنعة، كلا لم يقتنع بجوابه وذهب يسأل أبابكر نفس الأسئلة، وهل سلم بعدما أجابه أبوبكر ونصحه أن يلزم غرز النبي، لا أدري إذا كان سلم بذلك، أو اقتنع بجواب النبي أو بجواب أبي بكر(!!)، وإلا لماذا تراه يقول عن نفسه فعملت لذلك أعمالاً... فالله وحده ورسوله يعلم ما هي الأعمال التي عملها عمر، ولا أدري سبب تخلف البقية الباقية من الحاضرين بعد ذلك إذ قال لهم رسول الله: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فلم يستمع إلى أمره أحد منهم حتى كررها عليهم ثلاث مرات بدون جدوى، سبحان الله أنا لا أصدق ما أقرأ، وهل يصل الأمر بالصحابة لهذا الحد في التعامل مع أمر الرسول، ولو كانت هذه القصة مروية من طريق الشيعة وحدهم لعددت ما قالوا افتراء على الصحابة الكرام، ولكن القصة بلغت من الصحة والشهرة أن تناقلها كل المحدثين من أهل السنة والجماعة أيضا، وبما أنني ألزمت نفسي توثيق ما اتفقوا عليه فلا أراني إلا مسلما ومتحيراً: ماذا عساني أن أقول؟ وبماذا أعتذر عن هؤلاء الصحابة الذين قضوا مع رسول الله قرابة عشرين عاماً من البعثة إلى يوم الحديبية، وهم يشاهدون المعجزات وأنوار النبوة؟ والقرآن يعلمهم ليلاً نهاراً كيف يتأدبون مع حضرة الرسول وكيف يكلموه، حتى هددهم الله بإحباط أعمالهم إن رفعوا أصواتهم فوق صوته ))(7). أقول:(9/109)
1ـ مما شك فيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلَّم بما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه أبدى شيئاً من الإعترض على شروط الاتفاق لأن الشبهة لم تنكشف له بوضوح، خصوصاً إذا عرفنا أنهوجه أسئلته تلك للنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده أبي بكر بعدما اشترط المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم شروطاً قاسيةً منها أنه من جاء مسلماً يجب أن يرد إليهم ففي الحديث (( ....فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل ـ وإن كان على دينك ـ إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله!! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟! فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتب بعد قال: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم:فأجزه لي، قال ماأنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال ما أنا بفاعل، قال مكرز: بل قد أجزناه لك، قال أبوجندل: أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله، قال فقال عمر بن الخطاب فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم .... الخ )) ثم سأل أسئلته تلك فلهذا كان وقع الأمر على عمر بن الخطاب بل وعلى أغلب الصحابة شديداً، ثم وإذا أضفنا إلى ذلك أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به......الخ ) وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه رأى في منامه أنه يعتمر ويدخل هو وأصحابه البيت فلما رأوا تأخير ذلك شق عليهم(8)، لهذا وتلك سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك منه حرصاً على إذلال المشركين وحرصاً على نصرة الدين وأسئلته واضحة بهذا الشأن، ولم يكن ذلك شكاً بالطبع فقد وقع في رواية ابن اسحاق (( أن أبابكر(9/110)
لما قال له: الزم غرزه فإنه رسول الله، قال عمر وأنا أشهد أنه رسول الله ))(9) لذلك يقول الإمام إبن حجر العسقلاني (( والذي يظهر أنه توقف منه ليقف على الحكمة في القصة وتنكشف عنه الشبهة ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاده الحكم بخلاف الثانية وهي هذه القصة، وإنما عمل الأعمال(10) المذكورة لهذه، وإلا فجميع ماصدر منه كان معذوراً فيه بل هو مأجور لأنه مجتهد فيه ))(11) والذي يؤكد أن عمر توقف في ذلك ليعلم الحكمة وتنجلي له الشبهة هو ما وقع في رواية مسلم في قصة الحديبية عند سؤال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم تلكم الأسئلة قول الراوي ((....فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟! قال: نعم فطابت نفسه ورجع ))(12) وفي سورة الفتح نزل قوله تعالى { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً } وروى أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لن يدخل النار رجل شهد بدراً والحديبية ))(13) فقد أخبر الله برضاه عن المؤمنين المبايعين للنبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وشهد لهم بالجنة.. لماذا؟ لأنه علم صفاء ظواهرهم وبواطنهم، ولا شك أن عمر بن الخطاب من أوائلهم، فإذا كان الله سبحانه علام الغيوب يخبر عن صفاء قلوب الصحابة ثم يأتي هذا الرويبض المهتدي! ليطعن في قلوب الصحابة ألا يكون هذا طعناً بالدين؟!(9/111)
2ـ أما قوله أن عمر قال (( فعملت لذلك أعمالاً )) وقوله (( والله وحده ورسوله يعلم ما هي الأعمال التي عملها عمر )) فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظيم جهله، فقد ورد عن عمر التصريح بقوله ( أعمالاً ) ففي رواية ابن إسحاق (( وكان عمر يقول ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس: قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقاباً، وصمت دهراً ))(14) وذلك ليكفر عما بدر منه من التوقف في الامتثال للأمر من أوله وهذا أيضاً من اجتهاده رضي الله عنه وفي هذا دلالة واضحة على ورعه وتقواه وانابته للحق وأنه ما أراد إلا إظهار العزة للمسلمين وإذلال المشركين كما هو واضح من سياق الحديث.
3ـ بالنسبة لقوله ( ولا أدري سبب تخلف البقية الباقية من الحاضرين بعد ذلك إذ قال لهم رسول الله قوموا فانحروا ثم احلقوا....الخ )
فأقول لهذا التيجاني لقد أوضحت في الحديث الذي رواه مسلم بأن علياً كان من جملة الصحابة الحاضرين في صلح الحديبية وكان من المعارضين لشروط الاتفاقية على رأي عمر بن الخطاب، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم قوموا فانحروا فلم يقم منهم أحد، فلا شك أن علياً أيضاً كان واحداً منهم ولم يمتثل لأمره صلوات الله وسلامه عليه، وأنت تقول ( ماذا عساني أن أقول؟ وبماذا أعتذر عن هؤلاء الصحابة الذين قضوا مع رسول الله قرابة عشرين عاماً....) ويبدو أنه قد غاب عنك أن علياً واحداً من هؤلاء الصحابة، فإذا استطعت أن تعتذر عن علي في هذه الحادثة فأعتقد أن هذا يُعد اعتذار يشمل بقية الصحابة، وإذا لم تستطع أن تجد عذراً لعليٍ فالطعن الذي وجهته للصحابة موجه له يقيناً، وهنا لا يسعني إلا أن أقول إعتذر عن عقلك خير لك!!(9/112)
4ـ أما بالنسبة لعدم امتثال الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم يعود لعدة أمور بينها ابن حجر بقوله (( قيل كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمان وقوع النسخ، ويحتمل أن يكونوا ألهتهم صورة الحال فإستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم وليس فيه حجة لمن أثبت أن الأمر للفور ولا لمن نفاه ولا لمن قال إن الأمر للوجوب لا للندب، لما يطرق القصة من الاحتمال ))(15) (( ونظير هذا ما وقع لهم في غزوة الفتح من أمره لهم بالفطر في رمضان، فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب فلما رأوه شرب شربوا ))(16) فهذه هي الاحتمالات التي يضعها العلماء ليعتذروا عن الصحابة الكرام أما الجهلاء فأول ما يطرق عقولهم هو حمل أفعال الصحابة على أسوء المحامل وأسخفها في الوقت ذاته وذلك لما تكنه صدورهم من الحقد والكراهية فنعوذ بالله ممن أصمه الله وأعمى بصيرته.
ثم يهذي فيقول (( ويدفعني إلى الاحتمال بأن عمر بن الخطاب هو الذي أثار بقية الحاضرين ودفعهم إلى التردد والتخلّف عن أمر الرسول ـ زيادة على اعترافه بأنه عمل لذلك أعمالاً لم يشأ ذكرها ـ ما يردده ( هو ) في موارد أخرى قائلاً: مازلت أصوم واتصدق واعتق مخافة كلامي الذي تكلمت به.....إلى آخر ما هو مأثور عنه في هذه القضية مما يشعرنا بأن عمر نفسه كان يدرك بعد الموقف الذي وقفه ذلك اليوم، إنها قصة عجيبة وغريبة ولكنها حقيقية ))(17)(9/113)
1ـ هذا من الدس الرخيص على الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ كيف علم أن عمر هو الذي أثار بقية الحاضرين للتخلف والتردد عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فهل يعلم ما في قلب عمر أم أوحي إليه بذلك؟! فلا يدل ذلك إلا على تحامل هذا الرافضي على عمر، ثم على أي شيء استند هذا الدعي في تقوله على عمر؟ فهل في الحديث ما يدل على ذلك؟! فإذا كان فيه ما يدل على ذلك وهيهات فليرينا إياه بدلاً من إلقاء الكلام جزافاً على خير الناس.
2ـ ألا يدل هذا الكلام أيضاً على أنه طعن في بقية الصحابة لأنهم بزعمه تخلفوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رأي عمر! وعلي بن أبي طالب من جملتهم بالطبع! أرأيت أخي القارئ كيف يمهد هذا الرافضي (المهتدي) لقرائه ويستدرجهم من حيث لم يحتسبوا رويداً للطعن في مجموع الصحابة العظام ليصل بهم إلى تقبل اعتقاد الرافضة بأن الصحابة ارتدوا إلا ثلاثة أو سبعة!؟ ولست أدري كيف لم ينتبه هذا الرافضي إلى أنه يطعن في إمامه الأول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأنه من الصحابة المترددين عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم.(9/114)
3ـ أما قوله ( زيادة على اعترافه بأنه عمل لذلك أعمالاً لم يشأ ذكرها ) ثم قوله (ما يردده هو في موارد أخرى قائلاً: ما زلت أصوم وأتصدق...الخ ) فلست أدري حقاً هل يعني هذا الرجل ما يكتب؟! فكيف يعمل أعمالاً لم يشأ ذكرها ثم يردد (هو) في موارد أخرى أنه فعل كذا كذا، فهو هنا يريد أن يوهم القارئ أن هناك أعمالاً أخرى غير التي ذكرت قد أخفاها عمر، فيبدو أن لهذا التيجاني حاسة ثامنة قد استطاع من خلالها اكتشاف ما عجز عنه المحققون والشراح، ثم ماذا تعني بقولك (موارد أخرى )؟ أليست هذه روايات أخرى لهذا الحديث؟ فما الذي يجعلك تتمسك برواية البخاري التي يقول عمر فيها ( فعملت لذلك أعمالاً ) وتشكك في الروايات الأخرى والتي توضح هذه الأعمال مع أن المتكلم في جميع هذه الروايات هو عمر نفسه! فلماذا يعترف على نفسه بأنه عمل أعمالاً لم يشأ ذكرها؟!
4ـ أما قولك إلى آخر ما هو مأثور عنه في هذه القضية..فما هو المأثور عنه في هذه القضية؟ فإذا كنت تأتي لقول عمر الصريح الواضح فتجعله متشابهاً، فكيف بك لو وجدت ما يدين عمر فلأسرعت لتزيينه في كتابك (الهادي)! ولكنك لم تجد فأوهمت ذلك وهذا إغلال منك في هذه الحادثة.
ثانياً: الرد على التيجاني في موقفه من الصحابة في رزيَّة يوم الخميس:(9/115)
يقول التيجاني (( ومجمل القصة أن الصحابة كانوا مجتمعين في بيت رسول الله قبل وفاته بثلاثة أيام فأمرهم أن يحضروا له الكتف والدواة ليكتب لهم كتابا يعصمهم من الضلالة، ولكن الصحابة اختلفوا ومنهم من عصى أمره واتهمه بالهجر، فغضب رسول الله وأخرجهم من بيته دون أن يكتب لهم شيئا، وإليك شيئا من التفصيل، قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله وجعه، فقال: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فقال عمر إن النبي قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلمّا أكثروا اللغو والإختلاف عند النبي، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا عني، فكان ابن عباس يقول: إن الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم، هذه الحادثة صحيحة لا شك فيها، فقد نقلها علماء الشيعة ومحدثوهم في كتبهم، كما نقلها علماء السنة ومحدثوهم ومؤرخوهم، وهي ملزمة لي على ما ألزمت به نفسي، ومن هنا أقف حائراً في تفسير الموقف الذي وقفه عمر بن الخطاب من أمر رسول الله، وأي أمر هو؟ أمر عاصم من الضلالة لهذه الأمة، ولا شك أن هذا الكتاب فيه شيء جديد بالنسبة للمسلمين سوف يقطع عليهم كل شيء ... ثم يتابع فيقول ... ولنترك قول الشيعة بأن الرسول أراد أن يكتب إسم علي خليفة له، وتفطن عمر لذلك فمنعه فلعلهم لا يقنعوننا بهذا الزعم الذي لا يرضينا مبدئياً ولكن هل تجد تفسيراً لهذه الحادثة المؤلمة التي أغضبت الرسول حتى طردهم وجعلت ابن عباس يبكي حتى يبلَّ دمعه الحصى ويسميها رزية، أهل السنة يقولون بأن عمر أحس بشدة مرض النبي فأشفق عليه وأراد أن يريحه، وهذا التعليل لا يقبله بسطاء العقول فضلاً عن العلماء، وقد حاولت مراراً وتكراراً التماس بعض الأعذار لعمر ولكن وقع الحادثة يأبى علي ذلك، وحتى(9/116)
لو أبدلت كلمة يهجر ( والعياذ بالله ) بلفظة ( غلبه الوجع ) فسوف لن نجد مبرراً لقول عمر ( عندكم القرآن ) حسبنا كتاب الله، أوكان هو أعلم بالقرآن من رسول الله الذي أنزل عليه، أم أن رسول الله لا يعي ما يقول (حاشاه) أم أنه أراد بأمره ذلك أن يبعث فيهم الاختلاف والفرقة أستغفر الله ))(1).
وللرد على ما سبق أقول:
1ـ خلط التيجاني في هذا الحديث يبن أكثر من رواية مختلفة فقد ذكر أن الصحابة اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم ( بالهجر ) وفي الحديث الذي ذكره في كتابه لا وجود لهذه الكلمة وفي الحديث أيضاً نقل قول ابن عباس ( يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله وجعه ) فهذه الجملة ليست من الحديث المذكور والذي يعزوه للبخاري في باب المرض ( باب قول المريض قوموا عني ) بهامش كتابه ولكنها وكلمة ( يهجر ) جزء من رواية أخرى تجاهلها هذا التيجاني لأنها توضح أموراً هامة في هذه الحادثة وهي رواية سعيد ابن جبير قال (( قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي نزاع، فقالوا ماشأنه؟ أهجر، استفهموه، فذهبوا يَرُدُّون عليه، فقال: دعوني، فالذي أنا فيه خيرٌ مما تدعونني أليه، وأوصاهم بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة أو قال فَنَسِيتُها ))(2).(9/117)
2ـ إذا أراد هذا التيجاني أن يفسر أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم لقلب الموازين، فالكاتب الفاضل يدعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب لهم كتاباً يعصمهم من ( الضلالة )! هكذا بإطلاق، ومعلوم أن للضلالة معاني مختلفة، والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( لن تضلوا بعده ) فإنه يخصه بأمر محدد كأن ينص على تعيين خليفة أو كتابة كتاب في الأحكام ليرتفع النزاع في الأمة وإلا فبالله كيف يترك النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب أمراً يعصم الأمة به من الضلالة؟! فإن دل هذا على شيء فإنه يدل على أن الأمر ليس للوجوب فتركه.
3ـ يجب أن يعتقد كل مسلم (( أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكذب ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه ))(3) فإذا عرفنا ذلك تبين لدينا أنه لو أمر بتبليغ شىء حال مرضه وصحته فإنه يبلغه لامحالة ف(( لو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب مالا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره، لقوله تعالى { بلغ ما أنزل إليك } كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه ))(4) فدل ذلك على أن ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم كتابته يحمل على الندب لا على الوجوب وقد عاش صلوات الله وسلامه عليه أربعة أيام بعد ذلك ولم يأمرهم بإعادة الكتابة، وقوله في الرواية التى أخفاها الكاتب ( وأوصاهم بثلاث ) يدل على أن الذى أراد أن يكتبه لم يكن أمراً محتّماً لأنه لو كان مما أمر بتبليغه لم يكن يتركه لوقوع الاختلاف، ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه، ولبلغه لهم لفظاً كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك(5).
4- أمّا ادعاؤه بقوله ( ولكن هل تجد تفسيراً معقولاً لهذه الحادثة المؤلمة التي أغضبت الرسول حتى طردهم )، قلت:(9/118)
لم يظهر على النبي صلى الله عليه وسلم أي غضب على صحابته أو أمر بطردهم (هكذا ) ولم يرد هذا المعنى في أيٍ من روايات الحديث السبع التي ذكرها البخاري في صحيحه، ولكنه لشدة إحساسه بالمرض طلب منهم الكف عن الجدال فيما بينهم، ويظهر هذا واضحاً في الرواية التي أوصاهم فيها بثلاثة أمور وذلك بعد جدالهم فلا دليل على أنه غضب منهم أو طردهم ولو فرضنا جدلاً أنه غضب منهم فليس في هذا قدح بهم لأنهم ليسوا معصومين من الوقوع بذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يغضب ويرضى بل لعل غضبه على أصحابه يكون خيراً لهم فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (( اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة ))(6) وروى الطبراني في الكبير وأحمد في المسند قوله صلى الله عليه وسلم في جزء من الحديث (( أيما رجل من أمتي سببته سُبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم، أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة ))(7) ثم أقول لهذا التيجاني ( المهتدي ) إذا لم تستطع أن تجد تفسيراً معقولاً ( لغضب ) النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة كما تدعي فأقول لك أخرج البخاري عن علي بن أبي طالب قوله (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي عليه السلام ليلة فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يارسول الله أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته وهومول يضرب فخذه وهو يقول { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا }))(8)! فهل يجد التيجاني تفسيراً معقولاً لمخالفة (علي) أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واحتجاجه بالقدر حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم يضرب على فخذه ويقول معترضاً ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) فإن وجد تفسيراً معقولاً لجدال علي ففعل الرسول صلى الله عليه وسلم لجدال الصحابة معقول(9/119)
جداً؟!
5ـ أما عن بكاء ابن عباس حتى بل دمعه الحصى وتسميته ذلك رزيّة فلست أدري والله ما الحجة التي فيه على أهل السنة فابن عباس كان يقول ذلك عندما يروي الحديث وليس عندما حدثت الحادثة، والروايات كلها تدل على ذلك ويحتمل أنه تذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فزاد في حزنه بالإضافة إلى أن عدم كتابة الكتاب كان هذا رزية في حق من شك في خلافة أبي بكر فلو كتب الكتاب لزال الشك وكذلك سمى تلك الحادثة رزية لأن ابن عباس كان ممن وافق على ترشيح أبي بكر، وعلى كل حال إذا اعتقد أحد أن قول ابن عباس حق في خلافه مع عمر فأقول لا شك عندنا أن عمر كان أفقه من ابن عباس والحمد الله.
6ـ وقوله ( أهل السنة يقولون بأن عمر أحس بشدة مرض النبي فأشفق عليه وأراد أن يريحه، وهذا التعليل لا يقبله بسطاء العقول فضلاً عن العلماء )(9/120)
فأقول: سبحان الله على هذا العقلاني فإذا كان قول العلماء أن عمر أراد إراحة النبي صلى الله عليه وسلم تعليل لا يقبله بسطاء العقول؟! فهل القول بأن عمر وهو فاروق الأمة ومن خيرة الصحابة بعد أبي بكر تعمد إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم واتهامه بالهجر تعليل يقبله عظماء العقول يا تيجاني؟! فوالله لا يقول هذا إلامن جعل الجهل منهجه وطريقه، ولا شك لدينا أن هذا التعليل مقبول منطقياً خصوصاً إذا عرفنا أنه في الحديث اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، ولكن ليس هذا هو السبب وحده الذي جعل عمر يقول ما قال بل لأنه ظهرت لديه قرينة تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلملم يجزم بالكتابة فقال ما قال وهذا من اجتهاده،..كما تبين لعلي عندما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فاحتج بالقدر لأنه تبين أن النبي عليه السلام لم يقل هذا على سبيل الجزم أى بالوحي، والكاتب يدعي أن أهل السنة يتعللون عن عمر بأنه أراد أن يريح النبي صلى الله عليه وسلم شفقة عليه وبما أنه نقل جزءاً من كلام أهل السنة مبتوراً فسأضطر لنقل بعض من أقوال علماء أهل السنة ليظهر للقارئ مدى قوة حجج أهل السنة في تعليل موقف عمر ومدى الفرق بين تعليل جاهل مفرط في جهله وبين عالم راسخ في علمه، يقول المازري عن هذه الحادثة (( إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك عن غير قصد جازم، وعزمه صلى الله عليه وسلم كان إما بالوحي وإما بالاجتهاد وكذلك تركه إن كان بالوحي فبالوحي وإلا فبالاجتهاد أيضاً....))(9) وقال الإمام البيهقي في أواخر كتابه دلائل النبوة (( إنما قصد عمر التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غلبه الوجع ولو(9/121)
كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لايستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره لقوله تعالى { بلغ ما أنزل إليك } كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه وكما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث ))(10) ويقول الإمام القرطبي (( ائتوني أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للإمتثال لكن ظهر لعمر رضي الله عنه مع طائفة أنه ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد للأصلح فكرهوا أن يكلفوه من ذلك مايشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قوله تعالى { ما فرطنا في الكتاب من شيء } وقوله تعالى { تبياناً لكل شيء } ولهذا قال عمر: حسبنا كتاب الله، وظهر لطائفة أخرى أن الأولى أن يكتب لما فيه من زيادة الإيضاح، ودلّ أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار، ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أياماً ولم يعاود أمرهم بذلك ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور مالم يجزم بالأمر فإذا عزم امتثلوا ))(11) وقال الخطابي (( لم يتوهم عمر الغلط فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد كتابته، بل امتناعه محمول على أنه لما رأى ما هو فيه من الكرب وحضور الموت خشي أن يجد المنافقون سبيلاً إلى الطعن فيما يكتبه وإلى حمله على تلك الحالة التي جرت العادة فيها بوقوع بعض مايخالف الاتفاق فكان ذلك سبب توقف عمر، لا أنه تعمد مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم ولا جواز الغلط عليه حاشا وكلا ))(12) ويقول النووي في شرحه لمسلم (( أما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لامحالة للاجتهاد فيها فقال عمر: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى { مافرطنا(9/122)
في الكتاب من شيء } وقوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلالة على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه ))(13) ومما يدلل على فقه وعلم عمر ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر ))(14) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها مايبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره. قالوا: ماأولت ذلك يارسول الله؟ قال الدين ))(15) وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((بينما أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى أني لأرى الرَّيَّ يخرج من أظافري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب فقالوا: فما أولته يارسول الله؟ قال العلم ))(16) وهذا علي بن أبي طالب يمدح عمر بن الخطاب ويشهد بعدالته واستقامته وذلك من كتاب الإمامية الحجة ( نهج البلاغة ) الذي جمعه إمامهم (الشريف الرَّضى ) حيث يقول في جزء من خطبته (( ووليهم والٍ فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه ))(17) ويقول ابن أبي الحديد الشيعي شارح نهج البلاغة ((...هذا الوالي هو عمر بن الخطاب ))(18) فأقول للتيجاني المهتدي كما يقول الشاعر:
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً..........وآفته من الفهم السقيم.
7ـ وقوله ( وحتى لو أبدلت كلمة يهجر ـ والعياذ بالله ـ بلفظة غلبه الوجع فسوف لن نجد مبرراً لقول عمر ـ عندكم القرآن ـ حسبنا كتاب الله ) فأقول:(9/123)
لا يوجد في أي من روايات الحديث بأن قائل هذه الكلمة هو عمر فقوله أنه لو أبدل كلمة ( يهجر ، بغلبه الوجع ) إيهام من هذا التيجاني بأن عمر القائل غلبه الوجع قد قال أيضا بأنه يهجر وهذا من الكذب البين على عمر لفروق المعنى بين الكلمتين ومن يجد الكاتب وهو يقول وحتى لو أبدلت كلمة يهجر( والعياذ بالله ) يظن أنه أكثر ورعاً وتورّعا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيالسخافاته الجاهلية !! .
وأما بالنسبة لكمة ( أهَجَرَ ) فإنها جاءت بصيغة الجمع وسبب قولهم ذلك إنكاراً لمن قال لاتكتبوا فقالوا كيف نتوقف هل تظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه ثم قالوا: إستفهموا للإنكار، وإن فرض صدور هذا الكلام عن بعضهم فلعل أحدهم اشتبه عليه الأمر فشك في ذلك لأنه ليس معصوماً والشك جائز عليه ولكن يستبعد ذلك لأنه لا بد أن ينكره الباقون، أو لعل قائل هذا القول هو من قرب دخوله في الإسلام أو أن أحدهم أصيب بالحيرة لدى مشاهدته النبي في حالته هذه فقال ما قال و (( الهجر في اللغة هو اختلاط الكلام بوجه غير مفهِم وهو على قسمين: قسم لا نزاع لأحد في عروضه للأنبياء عليهم السلام وهو عدم تبيين الكلام لبحَّة الصوت وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان كما في الحميات الحارة، وقد ثبت بإجماع أهل السير أن نبينا صلى الله عليه وسلم كانت بحة الصوت عارضة له في مرض موته صلى الله عليه وسلم، والقسم الآخر جريان الكلام غير المنتظم أو المخالف للمقصود على اللسان بسبب الغشي العارض بسبب الحميات المحرقة في الأكثر، وهذا القسم وإن كان ناشئاً من العوارض البدنية ولكن قد اختلف العلماء في جواز عروضه للأنبياء، فجوزه بعضهم قياسا على النوم، ومنعه آخرون، فلعل القائل بذلك القول أراد القسم الأول، يعني أنَّا نرى هذا الكلام خلاف عادته صلى الله عليه وسلم فلعلنا لم نفهم كلامه بسبب وجود الضعف في ناطقته فلا إشكال ))(19) فعلى العموم كل ما صدر عن الصحابة من أقوال(9/124)
لا تفيد الطعن بالنبي صلى الله عليه وسلم بيقين وليس فيها ما يقدح بعدالتهم.
8ـ وقوله (( أوكان هو أعلم بالقرآن من رسول الله.....الخ )) فقوله هذا لا يدل إلا على جهله المركب لأن قول عمر حسبنا كتاب الله هو رد على من نازعه لا رداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى أنه تبين لديه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجزم على الكتابة فقال عمر قولته اعتماداً على قوله { اليوم أكملت لكم دينكم } وقوله { ما فرطنا في الكتاب من شيء } وهذا كما بينت سابقاً يدل على عميق فقهه وعلمه، والرسول صلى الله عليه وسلم يعي ما يقوله هو وما يقوله عمر، لذلك لم ينكر عليه قالته تلك تدليلاً على استصوابه ويعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا لن يبعث فيهم الاختلاف والفرقة وهو ما حدث بالفعل فقد رشح المسلمون ( أبا بكر الصديق ) فقطع الخلاف وكتب الله لصحابته في عهد أبي بكر حب الإئتلاف وبغض الاختلاف.
ثم يقول التيجاني ( ثم لو كان تعليل أهل السنة صحيحاً، فلم يكن ليخفى على رسول الله حسن نية عمر، ولشكره رسول الله على ذلك وقربه بدلاً من أن يغضب عليه ويقول أخرجوا عني ) أقول: يأبى هذا التيجاني إلا أن يبرهن على سوء فهمه وقلة حيلته فيعيد كلامه تكراراً ولله در القائل:
إذا لم يكن لك حسن فهم............أسأت إجابةً وأسأت فهماً!؟(9/125)
فلو كانت حججك العقلانية صحيحة أن تقول سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على قول عمر ثم توقفه عن الكتابة يدل على موافقته له، ثم يجازف نحوياً فيقول ( بدلاً من أن يغضب عليه ويقول أخرجوا عني ) عجباً فالهاء في ( عليه ) عائدة على عمر والواو في (أخرجوا ) واو الجمع فكيف تستقيم الجملة هكذا؟ فالأصل أن يقال ( أن يغضب عليه ويقول أخرج عني ) ولو قال ذلك فلعلها كانت شبهة له وقول التيجاني هذا أعظم دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم سكت عن قول عمر ولم يعترض عليه ولكن لما كثر اللغط والاختلاف قال ( دعوني ) وليس فيها ما يفيد الطرد والإخراج خاصةً إذا ما عرفنا أنه أوصاهم بعدها بثلاثة وصايا.
ثم يهذي التيجاني فيقول (( وهل لي أن أتساءل لماذا امتثلوا أمره عندما طردهم من الحجرة النبوية، ولم يقولوا بأنه يهجر؟ ألأنهم نجحوا بمخططهم في منع الرسول من الكتابة، فلا داعي بعد ذلك لبقائهم، والدليل على أنهم أكثروا اللغط والاختلاف بحضرته (ص)، وانقسموا إلى حزبين منهم من يقول: قربوا إلى رسول الله يكتب لكم ذلك الكتاب ومنهم من يقول ما قال عمر أي أنه يهجر ))(20).(9/126)
الله أكبر!؟ آلصحابة يخططون ضد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليمنعوه من الكتابة!!! فهذا والله اعتقاد من لم يدخل في قلبه حب وتوقير لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين آزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل عليه، وأفدَوهُ بأرواحهم وأهليهم بل وبكل ما يملكون ففتح الله لهم الدنيا وأذل لهم جبابرة الأرض من الفرس والروم بسبب نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي هذا الأنوك ليدعي أن الصحابة يخططون ضد من؟! رسول الله صلى الله عليه وسلم !!؟ فإنها والله لإحدى الكبر فهل هذا هو المنطق السليم والعقلاني الذي أوصله إلى ما يخالف المعقول والمنقول؟!... سبحان الله أكلّ هذا التحريف ليحاول أن يجعل النص يخدم أهداف الرافضة الشنيعة للحط من الصحابة ولكن أَنّى لهم، ثم يعيد ويكرر حجته الخاوية على عروشها بأن عمر يقول بأنه يهجر ودون إطالة أقول الحقيقة ظاهرة والحمد لله.
ثم يدلل هذا المهتدي على أسباب هدايته فيقول (( والأمر لم يعد بتلك البساطة يتعلق بشخص عمر وحده ولو كان كذلك لأسكته رسول الله وأقنعه (!) بأنه لا ينطق عن الهوى ولا يمكن أن يغلب عليه الوجع في هداية الأمة وعدم ضلالتها ولكن الأمر استفحل واستشرى ووجد له أنصاراً كأنهم متفقون مسبقاً (!)، ولذلك أكثروا اللغط والاختلاف ونسوا أو تناسوا (!) قول الله تعالى { ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون }(9/127)
فإن تعجب فعجب قولهم! فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب على عمر ويقول له وللباقين اخرجوا عني ألا يستطيع أن يسكت عمر؟ وفي الحديث أنه أوصاهم بثلاث وصايا، وعدم إسكاته دليل على الموافقة له والرضا بما قال، أما أنهم أكثروا اللغط ونسوا أو تناسوا ( هكذا ) قول الله سبحانه ( الآية ) فأقول لهذا التيجاني: الصحابة لم يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم بل رفعوا أصواتهم على بعضهم البعض وهذا جائز بدلالة الآية وعلى هذا فاحتجاجك السقيم ردٌ عليك.
ثم يخرج التيجاني أوضاره فيقول (( وفي هذه الحادثة تعدوا حدود رفع الأصوات والجهر بالقول إلى رميه صلى الله عليه وسلم بالهجر والهذيان والعياذ بالله (!!) ثم أكثروا اللغط والاختلاف وصارت معركة كلامية بحضرته وأكاد أعتقد بأن الأكثرية الساحقة كانت على قول عمر ولذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم الجدوى من كتابة الكتاب لأنه علم بأنهم لم يحترموه (!!) ولم يمتثلوا لأمر الله فيه في عدم رفع أصواتهم بحضرته، وإذا كانوا لأمر الله عاصين فلن يكونوا لأمر رسوله طائعين (!)، واقتضت حكمة الرسول بأن لا يكتب لهم ذلك الكتاب لأنه طعن فيه في حياته فكيف يعمل بما فيه بعد وفاته، وسيقول الطاعنون: بأنه هجر من القول ولربما سيشككون في بعض الأحكام التي عقدها رسول الله في مرض وفاته (!)، إذا اعتقادهم بهجره ثابت، أستغفر الله (!) وأتوب إليه من هذا القول في حضرة الرسول الأكرم (!!)، كيف لي أن أقنع نفسي وضميري الحر(!) بأن عمر بن الخطاب كان عفوياً في حين أن أصحابه ومن حضروا محضره بكوا لما حصل حتى بل دمعهم الحصى وسموها رزية المسلمين، ولهذا فقد خلصت إلى أن أرفض كل التعليلات التي قدمت لتوجيه ذلك، ولقد حاولت أن أنكر هذه الحادثة وأكذبها لأستريح من مأساتها (!) ولكن كتب الصحاح نقلتها وأثبتتها وصححتها ولم تحسن تبريرها ))(21)!(9/128)
هاهو التيجاني يدلي بوعائه ليخرج لنا قيحه الذي سود به صفحات كتابه، ولم يدر أنه بكلامه هذا قد خلع ربقة الإسلام من عنقه! فكيف يدعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عدم الجدوى من كتابة الكتاب واقتضت حكمته ذلك (( هكذا!! )) بحجة أن الصحابة ( لن ) يحترموه و( لن ) يمتثلوا أمره بالإضافة إلى طعنهم به!! ولو فرضنا ( اعتباطاً ) أن هذا حق فكيف يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة ما أمر ببلاغه وهو الرسول المبلغ عن رب العالمين؟ وليس هو مخيرٌ في ذلك والله يقول { يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فمابلغت رسالته، والله يعصمك من الناس ...} ( المائدة 67) ويقول سبحانه { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } ( النجم 3ـ 4) فلا بد للنبي صلى الله عليه وسلم من التبليغ سواءٌ بالكتابة أو بالقول كما أمرهم بإخراج المشركين من جزيرة العرب وغيره، وادعاء التيجاني هذا هو طعن بالنبي صلى الله عليه وسلم إذ كيف يتوقف عن التبليغ لمجرد الطعن به؟! ومن قرأ كتاب الله يعلم مدى جهل هذا التيجاني بحقيقة الرسالة لأن الرسل جميعاً تعرضوا من أقوامهم لشتى أنواع التعذيب الجسدية والنفسية فلم تثنيهم هذه العذابات عن المضي قدماً بتبليغ رسالة الله، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء قد تعرض لأنواع من الاغراءات ثم التهديدات والتعذيب ليثنيه المشركون عن تبليغ رسالة السماء، فقاموا بالاعتداء عليه وعلى أصحابه وتعذيبهم وحاصروه وقومه بشعاب مكة ورموه بألقاب السخرية والاستهزاء كالساحر والمجنون فلم تقف هذه الضغوط في طريقه ليبلغ دين الله كاملاً غير منقوص وجاهد في سبيل الله مع أصحابه حتى مكن الله له في الأرض وجعل دينه يعلوا على كل الأديان وبذلك استحق أن يكون خير رسل الله أجمعين، ثم يأتي هذا الرويبض ليدعي على نبي المرحمة صلوات الله وسلامه عليه أنه توقف عن تبليغ أمر الله عاصماً للأمة من الضلالة! لماذا؟ لمجرد عدم(9/129)
احترامه وإطاعة أمره أو الطعن به يتراجع عن تبليغ ما أمر ببيانه! فحاشا نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك، فلا بد من أن يبلغ الرسالة وأن يظهر الحق وإن حاربه أهل الأرض جميعاً وليظهر أهل الحق من أهل الباطل ويعرف أولياءه من أعدائه، فمن اتبع أمر الله ورسوله نجا ومن خالف فقد هلك ولذلك أنزل الله الرسل مبشرين للناس ومنذرين، ومن هنا نعلم أن الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم كتابته ليس وحياً بل على سبيل الاختيار ذلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهوشهيد، ثم يدعي هذا التيجاني على الصحابة بأنهم لم يحترموا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يمتثلوا لأمره وطعنوا به!!؟ فيبدوا أن الكلام عند هذا التيجاني لا يشترى بالمال فلا غضاضة إذاً من تسويد الصفحات بالمجازفات والافتراءات، فمرة يقول أن ابن عباس بكى وبل دمعه الحصى ومرة يقول أن الصحابة بكوا حتى بل دمعهم الحصى وفي نفس الوقت يخططون لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الكتابة وأكثرهم كانوا على رأي عمر إلى آخر هذه التجنيات التيجانية!!(9/130)
ثم ينتصر لربعه فيقول (( وأكاد أميل إلى رأي الشيعة في تفسير هذا الحدث لأنه تعليل منطقي وله قرائن عديدة، وأني ما زلت أذكر إجابة السيد محمد باقر الصدر عندما سألته: كيف فهم سيدنا عمر من بين الصحابة ما يريد الرسول كتابته وهو استخلاف علي على حد زعمكم، فهذا ذكاء منه، قال السيد الصدر: لم يكن عمر وحده فهم مقصد الرسول، ولكن أكثر الحاضرين فهموا ما فهمه عمر، لأنه سبق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال مثل هذا إذ قال لهم أني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، وفي مرضه قال لهم: هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، ففهم الحاضرون ومن بينهم عمر أن رسول الله يريد أن يؤكد ما ذكره في غدير خم كتابياً، وهو التمسك بكتاب الله وعترته، وسيد العترة هو علي، فأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يقول: عليكم بالقرآن وعلي، وقد قال مثل ذلك في مناسبات أخرى كما ذكر المحدثون وكان أغلبية قريش لا يرضون بعلي لأنه أصغر القوم ولأنه حطم كبرياءهم وهشم أنوفهم وقتل أبطالهم، ولكنهم لايجرؤون على رسول الله إلى هذا الحد الذي حصل في صلح الحديبية وفي المعارضة الشديدة للنبي عندما صلى على عبد الله ابن أبي المنافق، وفي عدة مواقف أخرى سجلها التاريخ وهذا موقف منها، وأنت ترى أن المعارضة لكتابة الكتاب في مرض النبي شجعت بعض الآخرين من الحاضرين على الجرأة ومن ثم الإكثار من اللغط في حضرة الرسول ص ))(22).(9/131)
في الحقيقة إني والله لست أدري هل أغبط هؤلاء القوم على أحلامهم أم أحزن على سقم عقولهم، فالمهتدي يدعي بأن تفسير الشيعة (الرافضة) منطقي وله قرائن عديدة، فأتساءل ما هي هذه القرائن؟ هل هي تحليل ( باقر الصدر ) لموقف الصحابة؟ من يسمع كلام هذا الباقر يظن أنه يعلم الغيب أو ممن يوحى إليهم!! فإني والله لأعجب ولا أزال أعجب من قوله ( لم يكن عمر وحده فهم مقصد الرسول ولكن أكثر الحاضرين فهموا ما فهمه عمر )!؟ فيبدوا أن ( باقر الصدر ) هذا قد بقر صدور الصحابة فعلم ما بها!!؟ ثم يقول ( لأنه سبق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال مثل هذا إذ قال لهم أني مخلف فيكم الثقلين...الخ وذكر حديث غديرخُم وفيه قول الرسول ( من كنت مولاه فعلي مولاه )(23) فأقول ( للمهتدي وهاديه ) بما أن الرسول صلى الله عليه وسلم سبق وأن ذكر مثل ذلك كما تدعي فلماذا يكرره مرة أخرى وقد نص على ذلك في هذه الأحاديث والتي رواها أهل السنة في صحاحهم ولم تنكروها؟ ألا يكفي هذان الحديثان حجة على أهل السنة؟! والغريب حقاً أن الشيعة الأمامية طالما طبّلوا في آذاننا وزمّروا سواءٌ في كتبهم أو على ألسنة علمائهم أن علياً قد نَص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بنصوص جلية لا تحتمل اللبس فيحتجون بالأحاديث المذكورة آنفاً وبأحاديث أخرى من مثل ادعائهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (( إن هذا أخي ووصي، وخليفتي فيكم فأسمعوا له وأطيعوا ))(24) بل قد ادعى الموسوي في كتابه المراجعات(25) أن هناك (40 ) نصاً جلياً على إمامة علي، وفي كتاب حق اليقين(26) لعلامتهم عبد الله شبر يورد ثلاثة عشر حديثاً واضحاً وجلياً على ثبوتية النص على خلافة على رضي الله عنه فلماذا بعد هذا تمسكون بالقشة! مؤكدين بأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد كتابة كتاب ينص فيه على علي بن أبي طالب؟ فإن قلتم لأن أهل السنة ينكرون هذه النصوص أو يؤلونها، فأقول إذا أنكر أهل السنة هذه النصوص(9/132)
( الجلية ) على حد زعمكم والتي كانت على ملأ من الناس مثل حديث الغدير فلئن ينكروا كتاباً مجهولاً حضره فئة قليلة أحرى وأجدر. ثم أغرب الباقر حين قال ( فكأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يقول: عليكم بالقرآن وعلي )! فياللعجب وأين إذن موقع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام وهل علي أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقدم عليه فأين هؤلاء من الآيات التي توجب الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم؟ أليس الله يقول { وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ( الحشر 7) وقوله سبحانه { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا } ( الأحزاب 36) وقوله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم، قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } ( آل عمران 31 ـ 32 ) فأين هذه الآيات من قول هذا عليكم بالقرآن وعلي!؟ وبالطبع الرافضة يدعون بأن علياً معصوم عندهم فهو إذن مثل النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما يقوله حق ومن عند الله فيبدو أن سنة محمد صلى الله عليه وسلم أصبحت منسوخة؟ ومعلوم أن القرآن تفسر السنة الكثير منه فمعنى هذا أن القرآن سيكون تحت رحمة هؤلاء الرافضة أيضاً بهذه الحجة وهذا هو عين الضلال فمرحى بعقيدة الرافضة!؟ وأقول لهذا المهتدي من إذن الذي ينكر السنة ويدعو إلى تركها أليس قول الباقر هذا يهدم السنة من أساسها، فلماذا أهذيت كثيراً عند تفسير قول عمر بن الخطاب ( حسبنا كتاب الله ) الواضح المعنى وهو الصحابي الجليل ولم تشن حرباً على الباقر وهو الضال المضل؟! فهل المنطق السليم والعقلاني الذي تتمتع به هو الذي أوصلك لهذا؟ فيالله لهذه المهزلة العقلية!(9/133)
وقوله ( وكان أغلبية قريش لا يرضون بعلي لأنه أصغر القوم ولأنه حطم كبرياءهم وهشم أنوفهم وقتل أبطالهم ) فمن يقصد ( بقريش ) هنا؟ هل هم مشركو مكة أم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؟! فإذا كان يقصد المشركين، فهل علي وحده هو الذي حطم وهشم وقتل أبطالهم؟ وهو وحده الذي قاتل في بدر وأحد وغيرها من الغزوات؟! أليس جميع الصحابة يشتركون في ذلك؟ وأولهم أبوبكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير...فلا مزية لعلي عن باقي الصحابة في جهاد المشركين.(9/134)
وأما إن كان يقصد بقريش هنا الصحابة وهو الاحتمال الأرجح لأن سياق الكلام الذي يأتي بعد يخص الصحابة، ومما لا شك فيه أن أبابكر وعمر وعثمان وأكثر المهاجرين من قريش وما من شك أيضاً بأن قريشاً قد دخلت في الإسلام وهنا أتساءل هل علي حطم كبرياء الصحابة وقتل أبطالهم؟؟!! ألأنهم دخلوا في الإسلام رغبة ورهبة؟! فأي عاقل يحترم عقله فيعقل ما يقوله هذا المهتدي فكيف يستقيم هذا القول وعلي من قريش أيضاً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (( إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين ))(27) وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان ))(*) وعلي نفسه يقول في خطبة يوردها الشريف الرضى في كتابه ( نهج البلاغة ) ـ من أهم كتب الأئمة الإثني عشرية ـ (( إنَّ الأئمة من قريش ))(29) لذلك كان الخلفاء الأربعة من قريش بما فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأي معنى لترهات هؤلاء الرافضة، والأصل أن يقال بأن المنطق السليم والواقع يبرهن على أن أوباش الفرس الذين حطم علي وإخوانه من الصحابة كبرياءهم وهشم أنوفهم وقتل أبطالهم قد حنقوا على الاسلام وأهله فأرادوا بهم كيداً فاتخذوا من أهل البيت ستاراً لتحقيق ذلك فتباكوا على حب آل البيت والانتصار لهم وذرفوا عليهم دموع التماسيح وبعدها راحوا يحاولون تحطيم أركان هذا الدين وذلك بالطعن بمن حملوا القرآن وحفظوه وبمن حملوا السنة وحفظوها وهم الصحابة العدول رضوان الله عليهم جميعاً ثم عدّوهم من أهل النفاق والردة ليسهل عليهم القضاء على هذا الدين ولكن هيهات هيهات فأقول لهم لا يزال هذا الدين عالياً على الأديان حتى قيام الساعة فلتشربوا من ماء البحر!!(9/135)
وأخيراً أقول إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد من كتابة الكتاب أن ينص على أحد بالخلافة لأوحى بها لأبي بكر الصديق رضي الله عنه للقرائن الظاهرة في ذلك منها ما أخرجه البخاري عن القاسم بن محمد قال (( قالت عائشة رضي الله عنها: وارأساه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك، فقالت عائشة: واثكلياه، والله إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرساً ببعض أزواجك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه لقد هممت ـ أو أردت ـ أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون ))(30) وفي رواية مسلم عن عروة عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه (( ادع لي أبابكر وأخاك، حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبابكر ))(31) وأخرج البخاري ومسلم عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال (( أتت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك ـ كأنها تريد الموت ـ قال صلى الله عليه وسلم : إن لم تجديني فأتِ أبابكر ))(32) وأخرج البخاري ومسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ((بينما أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع بها ذنوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غرباً فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بِعَطَنْ ))(33) وعن أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم (( أيكم رأى رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبوبكر، فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبوبكر فرجح أبو بكر ووزن عمر وعثمان فرجح(9/136)
عمر، ثم رفع الميزان، قال: فاستاء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني فساءه ذلك فقال: خلافة نبوة، ثم يأتي الله الملك من يشاء ))(34) وقد قدّمه النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي بالناس حتى وفاته، فقد أخرج البخاري عن أبي موسى قال (( مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس . فقالت عائشة: إنه رجل رقيق، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، قال: مروا أبابكر فليصل بالناس، فعادت، فقال: مري أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف. فأتاه الرسول، فصلى بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ))(35) وروى عن الزهري قال أخبرني أنس بن مالك الأنصاري ـ وكان تَبِع النبي صلى الله عليه وسلم وخدمه وصحبه ـ (( أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفى فيه، حتى كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك فهممنا أن نفتن من الفرح برُؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فنكص أبوبكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج الى الصلاة، فأشار إلينا النبي صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر، فتوفى من يومه ))(36) فتقديمه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لإمامة المسلمين في الصلاة إشارة إلى إمامته على المسلمين وهذا الذى قد كان فقول أهل السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يريد من وراء كتابة الكتاب هو أن يوصي لأحد بالإمامة لكان أوصى لأبي بكر والأدلة التي يحتجون بها أقوى احتجاجاً وأوضح بيانا ولا تخالف معقولا ولا ينكرها من عقلها بخلاف أدلة الرافضة الخاوية على عروشها فلا عقل يقبلها لهشاشتها وضعفها. وقد ضربت صفحا عن بقية كلام التيجاني في هذه القضية لأنه تكرار ممل لما سبق ذكره خشية الإطالة على القارىء أكثر بالإضافة أني قد رددت على جميع(9/137)
الشبه المثارة حول هذا الحديث فالحمد لله رب العالمين أولاً وأخيراً.
ثالثاً: الرد على التيجاني في موقفه من الصحابة في سرية أسامة رضي الله عنه:
يقول التيجاني (( مجمل هذه القصة: أنه صلى الله عليه وسلم جهز جيشاً لغزو الروم قبل وفاته بيومين، وأمّر على هذه السرية أسامة بن زيد بن الحارثة وعمره ثمانية عشر عاماً، وقد عبّأ صلى الله عليه وسلم في هذه السرية وجوه المهاجرين والأنصار كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وغيرهم من كبار الصحابة المشهورين فطعن قوم منهم (!!) في تأمير أسامة، وقالوا: كيف يؤمر علينا شاب لا نبات بعارضيه، وقد طعنوا من قبل في تأمير أبيه، وقد قالوا في ذلك وأكثروا النقد، حتى غضب صلى الله عليه وسلم غضبا شديداً مما سمع من طعنهم وانتقادهم، فخرج صلى الله عليه وسلم معصب الرأس محموماً، يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض بأبي هو وأمي، من شدة ما به من لغوب، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ( أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أبيه من قبله وأيم الله أنه كان خليقا بالامارة و أن ابنه من بعده لخليق به......ثم يقول ( ثم جعل صلى الله عليه وسلم يحضهم على التعجيل وجعل يقول: جهزوا جيش أسامة، أنفذوا جيش أسامة أرسلوا بعث أسامة، يمرر ذلك على مسامعهم وهم متثاقلون وعسكروا بالجرف وما كادوا يفعلون ))(1).
هذا ما قاله والله هذا التيجاني وقد عزا هذا الإجمال في القصة الى أربعة مصادر وهي ( طبقات ابن سعد، تاريخ ابن الأثير، السيرة الحلبية، تاريخ الطبري ) ، وهنا أجدني مضطراً لكي أنقل رواية سرية أسامة من هذه الكتب المعزو اليها لنرى هل أجمل التيجاني ونقل نقلا صحيحا أم كذب كذباً صريحاً؟!(9/138)
يقول ابن سعد في كتابه ( الطبقات الكبرى في الجزء (الثاني) ص (189) في مبحث سرية أسامة بن زيد بن حارثة بالنص (( ثم سرية أسامة بن زيد بن حارثة الى أهل أُبْني، وهي أرض السراة ناحية البلقاء) .
قالوا: لما كان يوم الإثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشر من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الناس بالتهيؤ لغزو الروم، فلما كان من الغد دعا أسامة بن زيد فقال: سر الى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش فأغر صباحا على أهل أُبْني وحرق عليهم وأسرع السير تسبق الأخبار، فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع أمامك، فلما كان يوم الأربعاء بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم فحم وصدع، فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواءً بيده ثم قال: اغز بسم الله في سبيل الله فقاتل من كفر بالله، فخرج بلوائه معقوداً فدفعه إلى بريدة بن الخصيب الأسلمي وعسكر بالجرف فلم يبق أحد من وجوه الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة فيهم أبوبكر وعمر بن الخطاب و أبوعبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن الأسلم بن حريش، فتكلم (قوم)! وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، غضباً شديداً فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وأيم الله إن كان للإمارة لخليقاً وإنّ إبنه لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإنهما لميخلان لكل خير، واستوصوا به خيرا فإنه من خياركم، ثم نزل فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودّعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمضون إلى(9/139)
العسكر بالجرف، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة، فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعه فدخل أسامة من معسكره والنبي مغمور، وهو اليوم الذى لدوّه فيه، فطأطأ أسامة فقبله ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم فجعل يرفع يديه الى السماء ثم يضعها على أسامة، قال: فعرفت أنه يدعو لي، ورجع أسامة إلى معسكره ثم دخل يوم الإثنين وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقاً، صلوات الله عليه وبركاته، فقال له: أغد على بركة الله، فودّعه أسامة وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل فبينما هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاء يقول: إن رسول الله يموت، فأقبل وأقبل معه عمر وأبو عبيدة فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت فتوفى صلى الله عليه وسلم صلاة يحبها ويرضاها، حين زاغت الشمس يوم الإثنين لإثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أسامة معقوداً حتى أتى به باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده....))(2)، ويقول ابن الأثير في كتابه ( الكامل في التاريخ ) في الجزء ( الثاني ) ص(182) في مبحث ذكر أحداث سنة إحدى عشرة بالنص (( في محرم من هذه السنة بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً إلى الشام وأميرهم أسامة بن زيد مولاه وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين فتكلم المنافقون في إمارته وقالوا: أمر غلاماً على جلة المهاجرين والأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وإنه لخليق للإمارة، وكان أبوه خليقاً لها ) وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون منهم أبوبكر، وعمر، فبينما الناس على ذلك ابتدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه ))(3) ويقول علي الحلبي في كتابه ( السيرة الحلبية ) في الجزء ( الثالث ) ص (207)(9/140)
في مبحث سرية أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه بالنص ((..لما كان يوم الإثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة أمر صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لغزو الروم فلما كان من الغد دعا صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فقال سر إلى موضع أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش فاغر صباحاً على أهل أُبنى وحرق عليهم وأسرع السير لتسبق الأخبار فإن ظفرك الله عليهم فأقل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع معك فلما كان يوم الأربعاء بدأ به صلى الله عليه وسلم وجعه فحم وصدع فلما أصبح يوم الخميس عقد صلى الله عليه وسلم لأسامة لواءً بيده ثم قال اغز باسم الله وفي سبيل الله وقاتل من كفر بالله فخرج رضي الله تعالى عنه بلوائه معقوداً فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا اشتد لذلك منهم أبوبكر وعمر وأبوعبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنهم فتكلم ( قوم ) وقالوا يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين والأنصار أي لأن سن أسامة رضي الله تعالى عنه كان ثمان عشرة وقيل تسع عشرة سنة وقيل سبع عشرة سنة ـ ثم يستشهد على سن أسامة بن زيد بقصة الخليفة المهدي واياس بن معاوية ثم يكمل فيقول ـ ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتهم وطعنهم في ولايته مع حداثة سنه غضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميرى أسامة ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله وايم الله إن كان لخليقاً بالإمارة وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإنهما مظنة لكل خير فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم وتقدم أنه رضي الله عنه كان يقال له الحب ابن الحب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح خشمه وهو صغير بثوبه(9/141)
ثم نزل صلى الله عليه وسلم فدخل بيته وذلك يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخرجون إلى العسكر بالجرف وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول أرسلوا بعث أسامة أي واستثنى صلى الله عليه وسلم أبابكر وأمره بالصلاة بالناس أي فلا منافاة بين القول بأن أبابكر رضي الله عنه كان من جملة الجيش وبين القول بأنه تخلف عنه لأنه كان من جملة الجيش أولاً وتخلف لما أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وبهذا يُرَدُّ قول ( الرافضة )! طعناً في أبي بكر رضي الله عنه أنه تخلف عن جيش أسامة رضي الله عنه لما علمت أن تخلفه كان بأمر منه صلى الله عليه وسلم لأجل صلاته بالناس وقول هذا الرافضي مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن المتخلف عن جيش أسامة مردود لأنه لم يرد اللعن في حديث أصلاً(!!!) فلما كان يوم الأحد اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فدخل أسامة من عسكره والنبي مغموراً فطأطأ رأسه فقبله وهو صلى الله عليه وسلم لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة رضي الله عنه، قال أسامة فعرفت أنه صلى الله عليه وسلم يدعو لي ورجع أسامة رضي الله عنه إلى عسكره ثم دخل عليه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين فقال له صلى الله عليه وسلم اغد على بركة الله تعالى فودعه أسامة وخرج إلى معسكره وأمر الناس بالرحيل فبينما هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن رضي الله عنها قد جاءه يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت، وفي لفظ فسار حتى بلغ الجرف فأرسلت إليه امرأته فاطمة بنت قيس تقول له لا تعجل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيل فأقبل وأقبل معه عمر وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس ))(4)أهـ(9/142)
ذكر الطبري في كتابه ( تاريخ الأمم والملوك ) روايتين عن قضية سرية أسامة بن زيد في مبحث الأحداث التي كانت في سنة أحدى عشرة الرواية الأولى (( عن عبيد بن حنين مولى النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبي مويهبة مولى رسول الله، قال: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعدما قضى حجة التمام فتحلل به السير، وضرب على الناس بعثاً، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد، وأمره أن يوطئ من آبل الزيت من مشارف الشام الأرض بالأردن فقال ( المنافقون )! في ذلك، ورد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ( إنه لخليق لها ـ أي حقيق بالإمارة ـ وإن قلتم فيه لقد قلتم في أبيه من قبل، وإن كان لخليقاً لها )...)) والرواية الثانية (( عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب بعث أسامة فلم يستتب لوجع رسول الله ولخلع مسيلمة والأسود، وقد أكثر ( المنافقون ) في تأمير أسامة، حتى بلغه، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس عاصباً رأسه من الصداع لذلك الشأن وانتشاره لرؤيا رآها في بيت عائشة فقال: إني رأيت البارحة ـ فيما يرى النائم ـ أن في عضدي سوارين من ذهب، فكرهتهما فنفضتهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين ـ صاحب اليمامة وصاحب اليمن ـ وقد بلغني أن أقواماً يقولون في إمارة أسامة ولعمرى لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله وإن كان أبوه لخليقا بالإمارة وإنه لخليق لها، فأنفذوا بعث أسامة، وقال: لعن الله الذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، فخرج أسامة فضرب بالجرف، وأنشأ الناس في العسكر، ونجم طليحة وتمهل الناس، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستتم الأمر، ينظرون أولهم آخرهم، حتى توفى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ))(5).(9/143)
هذا ما ذكره هؤلاء الأربعة في كتبهم في مبحث سرية أسامة بن زيد ولم يذكروا غير ذلك، ولدى مقارنتها بما ذكر التيجاني في كتابه ( والذي ادعى أن ما نقله وأجمله من هذه القصة هو من تلك المصادر الأربعة ) فنستنتج ما يلي:
1ـ إدعى التيجاني بأن كبار الصحابة بما فيهم أبو بكر وعمر قد طعنوا في تأمير أسامة فقال ( وقد عبأ صلى الله عليه وسلم في هذه السرية وجوه المهاجرين والأنصار كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وغيرهم من كبار الصحابة المشهورين فطعن قوم ( منهم) في تأمير أسامة، وقالوا: كيف يؤمر علينا شاب لا نبات بعارضيه، وقد طعنوا من قبل في تأمير أبيه (!)، وقد قالوا في ذلك وأكثروا النقد... ) .
قوله (منهم) (الهاء) هنا عائدة على الصحابة (والميم) ميم الجمع أي أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة وكبار الصحابة ( المشهورين ) قد طعنوا في تأمير أسامة وأبيه وأكثروا النقد؟! ولدى مراجعتنا للمصادر الأربعة لا نجد لهذه الفرية أثراً فابن سعد في طبقاته وصاحب السيرة الحلبية يقولان ( فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة فيهم أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبوعبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم بن حريش، فتكلم ( قوم ) وقالوا: .... ) فقوله تكلم ( قوم )، القوم هنا نكرة غير معروفين فلو كان يقصد بهم هؤلاء الصحابة لأضاف الضمير إليهم كما فعل هذا ( المنصف )! فأين هذه من تلك؟ فأي إسلال هذا بحقيقة المعنى!؟ والمصدران المتبقيان لا وجود لهذا المعنى فيهما، ومن هنا نعلم أن هؤلاء الصحابة الكرام أبا بكر وعمر وأبا عبيدة وغيرهم من وجوه الصحابة هم أبعد الناس عن الطعن في أسامة أو أبيه وحاشاهم ذلك.(9/144)
2ـ لم يكن أبوبكر في جيش أسامة لأنه قد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استخلفه للصلاة في المسلمين وقد سبق أن ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك(6) ومنها الحديث الذي يبين أن أبابكر كان يصلي بالمسلمين يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كشف عن سترة الحجرة فرآهم صفوفا خلف أبي بكر، فكيف يكون في جيش أسامة إذاً؟!
3ـ يحاول التيجاني إستثارة عاطفة القارىء فيتخذ من أسلوب المبالغة ما يخالف به النقل فيقول (..فخرج صلى الله عليه وسلم معصب الرأس محموما يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض بأبي هو وأمي، من شدة ما به من لغوب ... ) سبحان الله! أي أمانة وإنصاف هذا الذي يجعله يغير الكلم عن مواضعه ويخترع في هذه القضية ما لم ينقله هؤلاء في كتبهم فهم يروون أن النبي صلى الله عليه وسلم (خرج وقد عصب على رأسه عصابة فصعد المنبر...) أما أنه خرج يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض(!) فهذا ما لم يذكره أحد منهم، وهذا في نظري ليس بغريب على رجل اتخذ من الرفض سبيلاً، لأن الكذب عند الرافضة منقبة وليس بمذمة!؟ وسيرى القارىء في ردودي أن هذا التيجاني قد اعتمد في تأليف كتابه على الكذب والتناقضات العجيبة وإليك المزيد.(9/145)
4ـ يدعي التيجاني على الصحابة بقوله ( ثم جعل صلى الله عليه وسلم يحضهم على التعجيل وجعل يقول: جهزوا جيش أسامة، أنفذوا جيش أسامة، أرسلوا بعث أسامة، يكرر ذلك على مسامعهم وهم متثاقلون وعسكروا بالجرف وما كادوا يفعلون )!! ولكن ماذا ذكر الكتّاب المساكين في هذه القضية؟ لقد ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنقذوا بعث أسامة وكان ذلك يوم السبت ثم جاء أسامة يوم الأحد فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم مودعاً له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اغد على بركة الله، وعندما أراد أسامة الذهاب وأمر الناس بالرحيل جاءه الخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم يموت ولم يذكروا غير ذلك، ولكن هذا ( المهتدي ) قد هان عليه الكذب على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فادعى زوراً أنهم تباطؤوا وتثاقلوا عن أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم، وما من شك أن من يهن عليه الكذب بهذه القباحة على خير الناس أنه من أضلّهم وأبعدهم عن الهداية والله المستعان.
5ـ ولكن من هو المتكلم والطاعن في تأمير أسامة رضي الله عنه؟! فمن خلال ما تقدم ذكره يتبين لنا بما لا يدع مجالاً لشاك بأن وجوه المهاجرين والأنصار من خيار الصحابة لم يطعنوا في تأمير أسامة وأن الذي تكلم في ذلك هم أشخاص نكرات غير معروفين وقد ذكر الطبري والأثير ( والذي يستشهد التيجاني بهما ) أن الذين أطلقوا ألسنتهم في تأمير أسامة هم المنافقون، فلو كانوا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكر ذلك واحدٌ من المؤرخين فضلاً عن جميعهم، وقد حسمت الأمر في بداية كتابي مبيناً أن المنافقين ليسوا بأي حال من جملة الصحابة ولله الفضل والمنة، ومن هنا نعلم أن الصحابة العدول رضي الله عنهم وأرضاهم براء من ذلك الأمر وعليه تبطل كل خيوط العنكبوت التي نسجها هذا التيجاني حول هذه القضية ويظهر وهاؤها.(9/146)
6ـ ليست الرزية في أن التيجاني يعزو إلى مصادر يكون من خلالها الرد عليه وعلى طائفته، ولكن الرزية كل الرزية! في التناقض الواضح والتخبط الشنيع عند البحث عن مثالب الصحابة، فالتيجاني يدعي أن الصحابة وأولهم أبوبكر قد طعنوا في تأمير أسامة وهذا الذي ذهب إليه التيجاني لم يسبقه إليه أحد على ما أعتقد، لأن كل مبتغاه في هذه القضية هو البحث في أي حادثة يستطيع من خلالها الطعن في الصحابة فيبحث في جنباتها أو زواياها أو ينظرها من أعلاها وأسفلها لعله يظفر بشىء يستطيع منه استخراج ما يطعن به على الصحابة، فإن لم يجد فلا بأس من الإنتقال الى التزوير والتحريف في كتب التاريخ ووضع كلمات مكان أخرى أو حتى إضافة كلمات ليصل بها الى المراد، وهذا عين ما فعله التيجاني ( بالضبط ) في هذه الحادثة ولكن ماذا فعل أسلافه السابقون من ( الهداة المهديين )؟! لقد بحثوا أيضا في جنبات هذه الحادثة علّهم يصلوا إلى ما يطعنون به في الصحابة فكانوا أوفر حظاً من التيجاني... فماذا وجدوا؟ يقول صاحب كتاب السيرة الحلبية ما نصه (.... وبهذا القول يرد قول الرافضة طعناً في أبي بكر رضي الله عنه أنه تخلف(7) عن جيش أسامة رضي الله عنه لما علمت أن تخلفه عنه كان بأمر منه صلى الله عليه وسلم لأجل صلاته بالناس وقول هذا الرافضي مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن المتخلف عن جيش أسامة مردود لأنه لم يرد اللعن في حديث أصلاً ) أرأيت أخي القارىء تناقضات هؤلاء القوم، فمرة يطعنون في أبي بكر بحجة أنه من الطاعنين في تأمير أسامة وهذا يعني أنه كان في الجيش، ومرة يدّعون أنه تخلف عن جيش أسامة، فأتساءل ما ذنب هذا الصحابي المسكين إذا كان هؤلاء القوم يزيفون التاريخ ويقلبون الحقائق ويعبثون بالروايات للطعن به، وما دروا أن أقوالهم تضاربت ببعضها البعض وظهر زيفها وانقلبت حجة عليهم لا لهم، وأكاد أجزم أن التيجاني لا يستخدم عقله وهو يبحث في كتب التاريخ بل يستخدم عقاله!!(9/147)
ثم يقول ( إن مثل ذلك يدفعني إلى أن أتساءل: ما هذه الجرأة على الله ورسوله؟! وما هذا العقوق في حق الرسول الأكرم الذي هو حريص عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم؟ لم أكن أتصور كما لا يمكن لأحد أن يتصور تفسيراً مقبولاً لهذا العصيان، وهذه الجرأة ).
وأقول لهذا الذي استمرأ الكذب أعجب والله لهذه الجرأة على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أليس الذى يزيف الحقائق ويكذب على الأمة للطعن بالصحابة الكرام طعن بمن صحبوه ألا وهو النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فكيف بالله بهؤلاء الصحابة الذين بايعوه على النصرة والدفاع عنه وجاهدوا معه في غزواته وعاشوا معه أعظم أيام حياته وتعلموا منه كل شيء، يطعن بهم؟ أليس الأحرى أن يطعن بمعلمهم لأنه فشل في تربية أصحابه لدرجة أنهم لا يحترمونه!! ولا ينفذون أوامره!! بل ويتآمرون عليه؟!! فأي جرأة هذه على الله ورسوله؟! وماذا بقي لأمة الإسلام بعدما طعن بحملة الكتاب وحفظة السنة؟! أظن أنه لم يبق لدينا إلا خزعبلات الرافضة الإثني عشرية فدونها قاع البحر!!
ثم يقول ( وكالعادة، عند قراءة مثل هذه الأحداث التي تمس كرامة الصحابة من قريب أو بعيد أحاول تكذيب مثل هذه القضايا وتجاهلها، ولكن لا يمكن تكذيب وتجاهل ما أجمع عليه المؤرخون والمحدثون من علماء السنة والشيعة ).
أى سماء تظل هذا السماوي فهو يكذب على الصحابة ثم يكذب ثم يحاول أن يكذِّب نفسه؟!! فيقول أحاول تكذيب مثل هذه القضايا فياللعجب ثم يفرط في الكذب ويدعي أن مؤرخي أهل السنة قد أجمعوا على أكاذيبه!! وقد مر معنا ما ذكره المؤرخون في هذه الحادثة وظهرت عدالة الصحابة وبراءتهم مما ادعاه التيجاني عليهم فلله الحمد والمنة.(9/148)
ثم يقول ( وقد عاهدت ربي أن أكون منصفاً(!)، فلا أتعصب لمذهبي ولا أقيم وزنا لغير الحق، والحق هنا مرٌّ كما يقال، وقد قال عليه الصلاة والسلام ( قل الحق ولو كان على نفسك وقل الحق ولو كان مراًّ ...) والحق في هذه القضية: هو أن هؤلاء الصحابة الذين طعنوا في تأمير أسامة قد خالفوا أمر ربهم وخالفوا الصريح من النصوص التي لا تقبل الشك ولا تقبل التأويل، وليس لهم عذر في ذلك، إلا ما يلتمسه البعض من أعذار باردة حفاظا على كرامة الصحابة و( السلف الصالح ) والعاقل الحر لا يقبل بحال من الأحوال هذه المتمحلات، اللهم إلا إذا كان من الذين لا يفقهون حديثا، ولا يعقلون، أومن الذين أعمت العصبية أعينهم فلم يعودوا يفرقون بين الفرض الواجب طاعته والنهي الواجب تركه، ولقد فكرت ملياً عساني أجد عذراً لهؤلاء مقبولاً، فلم يسعفني تفكيري بطائل )(8)، أقول:(9/149)
أما بالنسبة لكونه عاهد الله على أن يكون منصفاً ولم يتعصب لمذهبه ولم يقم وزناً لغير الحق، فهذا القول أدعه للقارىء النبيه ليحكم على بطلانه وزيفه، وأما ادعاؤه أن الصحابة ( قد خالفوا أمر ربهم وخالفوا الصريح من النصوص التي لا تقبل الشك ولا التأويل وليس لهم عذر في ذلك ) فهذا لا يدل إلا على جهله وقلة بضاعته وإلا فمتى وكيف خالف الصحابة أمر ربهم! وأين هي تلك النصوص الصريحة التي لا تقبل الشك ولا تقبل التأويل؟ القضية هي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمّر أسامة على الجيش فطعن بعض الناس في إمارته فتكلم النبي في ذلك ورجع هؤلاء عن طعنهم وامتثلوا أمره، فقد كان الناس يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأمور حتى يعزم فإذا عزم امتثلوا، وفي هذه الواقعة امتثل الناس جميعاً لأمر نبيهم صلى الله عليه وسلم بما في ذلك الطاعنون في تأمير أسامة، وأما قوله ( أن البعض يتلمس الأعذار ـ الباردة ـ حفاظاً على كرامة الصحابة و( السلف الصالح )! وأن العاقل الحر لا يقبل بحال من الأحوال هذه المتمحلات )!؟ فهذا والله من أعجب أقواله؟! فمن يقرأ ذلك الكلام يظن أن الصحابة عبارة عن قطاع طرق أو من رعاع الناس وسفهائهم، فكيف يسوغ للبعض تلمس بعض الأعذار الباردة حفاظاً على كرامتهم؟!! قاتل الله الرفض والرافضة، أيحتاج هؤلاء الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم الدفاع عن كرامتهم؟! كيف يكون ذلك وقد دافع الله سبحانه عنهم وترضى عليهم وشهد لهم بالخيرية وعظيم الإيمان وارتضاهم الله سبحانه لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وشهدت لهم الأرض التي وطؤوها والبلاد التي فتحوها على عظمتهم، ثم يأتي هذا الأنوك(9) بهذه السفسطة التي لا يتقبلها أغبياء الناس فضلاً عن العقلاء الأحرار!(9/150)
ثم يقول (( وقرأت اعتذار أهل السنة على هؤلاء بأنهم كانوا مشايخ قريش وكبراءها، ولهم الأسبقية في الإسلام بينما أسامة كان حدثاً ولم يشارك في المعارك المصيرية لعزة الإسلام، كمعركة بدر وأحد وحنين ولم تكن له سابقة بل كان صغير السن عندما ولاّه رسول الله إمارة السريّة، وطبيعة النفوس البشرية تأبى بجبلتها إذا كانت بين شيوخ أن تنقاد إلى الأحداث وتنفر بطبعها من النزول على حكم الشبان ولذلك طعنوا في تأميره وأرادوا منه صلى الله عليه وسلم أن يستبدله بأحد من وجوه الصحابة وكبرائهم، إنه اعتذار لا يستند إلى دليل عقلي ولا شرعي ولا يمكن لأي مسلم قرأ القرآن وعرف أحكامه إلا أن يرفض مثل هذا، لأن الله عزوجل يقول {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً } ))(*)
أقول: لهذا المهتدي أتحداك بأن تأتي بمصدر واحد لأهل السنة يعتذر بمثل ذلك الاعتذار المكذوب وأنى له ذلك، لأنه كما بينت سابقاً لم يقل أحد من المحدثين والمؤرخين أن الصحابة ( الكبار ) والذين هم مشايخ قريش وكبراؤها! قد طعنوا في تأمير أسامة فكيف يعتذرون عنهم؟؟!...وهو يقول قرأت اعتذار أهل السنة والقارئ حجة على من لم يقرأ! فعليه أن يبين لنا من أي مصدر قرأ هذا الكلام وإلا فليلقم فاه حجراً ويكف عن أكاذيبه.(9/151)
ثم يهذي بكلام مكرر فيقول (( وإذا أردنا أن نتمعن في هذه القضية فإننا سنجد الخليفة الثاني من أبرز عناصرها وأشهر أقطابها إذ أنه هو الذي جاء بعد وفاة رسول الله إلى الخليفة أبي بكر وطلب منه أن يعزل أسامة ويبدله بغيره فقال له أبو بكر: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! أتأمرني أن أعزله وقد ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين هو عمر الملهم من هذه الحقيقة التي أدركها، أم أن في الأمر سراً آخر خفي على المؤرخين أم أنهم هم الذين أسرّوه حفاظاً على كرامته كما هي عادتهم وكما أبدلوا عبارة ( يهجر ) بلفظ ( غلبه الوجع )...))(10)، أقول:(9/152)
هذه الرواية التي ساقها هذا التيجاني رواية ضعيفة لأن فيها سيف بن عمر الضبي ذكره العقيلي في الضعفاء(11) وقال عنه الذهبي في ( ميزان الاعتدال ) (( مصنف الفتوح والردة وغير ذلك، هو كالواقدي يروي عن هشام بن عروة، وعبيد بن عمر، وجابر الجعفي، وخلق كثير من المجهولين، كان أخبارياً عارفاً روى عنه جبارة بن المفلس، وأبو معمر القطيعي، والنصر ابن حماد العتكي، وجماعة، قال عباس، عن يحي: ضعيف، وروى مطين عن يحي: فلس خير منه، وقال أبو داود: ليس بشئ، وقال أبو حاتم: متروك، وقال ابن حبان: اتهم بالزندقة، وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر ))(12) فالحديث ضعيف ليس بحجة على عمر هذا أولاً، وثانيا: أخفى هذا التيجاني الجزء الهام من الحديث والذي يبين أن عمر طلب هذا الطلب من أبي بكر بأمر أسامة ففي الحديث (( فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر: ارجع إلى خليفة رسول الله فاستأذنه، يأذن لي أن أرجع بالناس فإن معي وجوه الناس وحدِّهم، ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون.....))(13) ولكن التيجاني أخفى هذا كله ليضيف دليلاً جديداً على إنصافه، وللتدليل على انصافه وعدم تحامله على الصحابة وفي مقدمتهم عمر فإنه لا يسوق إلا الروايات التي يعتقد بجهله أنها تخدم أغراضه ويتغاضى عن الروايات الأخرى فإنه قد تقدمت رواية عمر هذه عند الطبري رواية أخرى(14) ليس فيها أن عمر هو الذي طلب ذلك بل عامة الناس بسبب إرتداد المرتدين ولكن التيجاني تغاضى عن ذكرها لأنها ليس فيها ثلب لأبي بكر وعمر! ثم كيف يكون عمر بن الخطاب من أبرز العناصر التي طعنت في تأمير أسامة وهو الذي رد على الطاعنين وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم(15)!؟ ولا أنسى أن أذكر القراء بأن الكاتب لم يحمد هذا الموقف الذي وقفه أبو بكر من قضية إنفاذ جيش أسامة ويمر عليه مرور الكرام، أما إذا وقف على حادثة يظن هو أن فيها ما يسيء إلى هذا الصحابي الجليل(9/153)
فإنه يضخمها ويبني عليها عروشاً خاوية فهذا يضيف دليلاً جديداً على زعمه أنه منصف في كل ما يقوله، عليه من الله ما يستحق.
ثم يقول (( عجبي من هؤلاء الصحابة الذين أغضبوه يوم الخميس واتهموه بالهجر والهذيان وقالوا حسبنا كتاب الله، وكتاب الله يقول لهم في محكم آياته ( قل إن كنتم تحبون الله، فاتبعوني يحببكم الله ) وكأنهم أعلم بكتاب الله وأحكامه من الذي أنزل عليه وهاهم بعد يومين فقط من تلك الرزية المؤلمة وقبل يومين فقط من لحوقه بالرفيق الأعلى يغضبونه أكثر فيطعنون في تأميره ولا يطيعون أمره، وإذا كان في الرزية الأولى مريضاً طريح الفراش، فقد اضطر في الثانية أن يخرج معصب الرأس مدثراً بقطيفة يتهادى بين رجلين (!) ورجلاه تخطان في الأرض وخطب فيهم خطبة كاملة من فوق المنبر بدأها بتوحيد الله والثناء عليه ليشعرهم بذلك بأنه بعيد عن الهجر ثم أعلمهم بما عرف من طعنهم، ثم ذكرهم بقضية أخرى طعنوا فيها من قبل أربع سنوات خلت، أفهل يعتقدون بعد ذلك بأنه يهجر أو أنه غلبه الوجع فلم يعد يعي ما يقول؟ ))(16). وأنا عجبي أيضاً من هذا التيجاني الذي يأتي بكلام حجة عليه لا له ليدلل على هشاشة تفكيره فأقول: بما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خرج ليرد على الطاعنين بتأمير أسامة وذكرهم أيضاً بقضية أخرى وهي الطعن في زيد بن حارثة قبل أربع سنوات! فلماذا لم يذكرهم أيضاً بالأمر ( العاصم من الضلالة )؟؟! وهو ولاية علي بن أبي طالب كما يدعي الرافضة، فإذا كان في الأولى بين الصحابة في بيته وقد تمالؤوا عليه ليمنعوه من الكتابة فهو هنا أمام الناس جميعاً فلماذا لم يأمر أحداً بكتابة الكتاب؟! أو حتى التنصيص على ولاية علي ولو بالقول فقط؟ فهو هنا يضمن أن أحداً لم يمنعه أو يتمالأ عليه، فإذا قال التيجاني أنه لم يذكر ذلك لأنه يعلم أنهم سيردوا قوله، قأقول له فما الفائدة إذن من خروج النبي صلى الله عليه وسلم ( بأبي هو وأمي ) معصب الرأس(9/154)
مدثراً بقطيفة يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض ويخطب خطبة كاملة ويرد عليهم طعنهم على أسامة ثم لا ينسى أن يذكرهم بطعنهم بأبيه من قبل إذا كان يعلم أنهم لم يحترموه ولم يمتثلوا أمره؟!! فإذا كان هذا الأمر عاصم من الضلالة حقيقةً وبتلك الأهمية لذكره النبي صلى الله عليه وسلم للناس ونبه عليه أشدَّ التنبيه، وهذا أعظم دليل على أن هذا الأمر ليس مما أمر بتبليغه بل هو مخير فيه فأقول للتيجاني المهتدي وشيعته المهديين هاهي بضاعتكم ردت إليكم!
=============
تقسيم الصحابة إلى ثلاثة أقسام والزعم أن منهم من نزل القرآن بتوبيخهم والتحذير منهم
قال المؤلف ص111 تحت عنوان (رأي القرآن في الصحابة).
«قبل كل شيء لابد لي أن أذكر أنه سبحانه وتعالى قد مدح في كتابه العزيز في العديد من المواقع صحابة رسول الله، الذين أحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم واتبعوه...، وهذا القسم من الصحابة الذين عرف المسلمون قدرهم من خلال مواقفهم وأفعالهم معه، أحبوهم، وأجلوهم، وعظموا قدرهم، وترضوا عنهم كلما ذكروهم.
وبحثي لا يتعلق بهذا القسم من الصحابة، الذين هم محط الإحترام والتقدير من السنة والشيعة، كما لا يتعلق بالقسم الذي اشتهر بالنفاق، والذين هم معرضون للعن المسلمين جميعاً من السنة والشيعة،ولكن بحثي يتعلق بهذاالقسم من الصحابة،الذين اختلف فيهم المسلمون، ونزل القرآن بتوبيخهم وتهديدهم في بعض المواقع، والذين حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العديد من المناسبات أو حذر منهم».
قلت: لا يخفى ما في كلامه هذا من الكذب والتلبيس، وذلك أن أهل السنة يعتقدون عدالة الصحابة كلهم،وأما المنافقون فليسوا من الصحابة بحال، فالصحابي في الإصطلاح: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً(9/155)
به ومات على ذلك (1) فخرج الكفار والمنافقون من حد الصحبة، لأنهم لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعاملون بما يظهرون من الإسلام.
وتقسيمه الذي ذكره لا يمثل سوى عقيدة الرافضة، دون أهل السنة. فالرافضة هم الذين يقسمون الصحابة إلى قسمين: عدول ومرتدين، وعندهم أن الصحابة كلهم ارتدوا عن الإسلام إلا القليل منهم، لا يتجاوزون أربعة أو سبعة، كما جاء ذلك مصرحاً به في بعض رواياتهم المشهورة، التي تقدم نقلها عند الحديث عن معتقدهم في الصحابة.(2)
فالصحابة الذين قال: إن الفريقين يعتقدون عدالتهم: هم أولئك الأفراد الذين يستثنيهم الرافضة من حكم الردة، والقسم الذي ذكر أنه اختلف فيه هم عامة الصحابة الذين يعتقد الرافضة ردتهم وكفرهم، وأما أهل السنة فلا يقرون هذا التقسيم ولا يعتقدونه فالصحابة عندهم كلهم عدول.
ومع فساد هذا التقسيم الذي ذكره، فكان الأولى به لو كان صادقاً فيما ادعاه من الإنصاف أن يقول بعد هذا: إني سأبحث فيسيرة هذا القسم من الصحابة وأثبت الحق في ذلك، لكنه ذكر هذا القسم ثم حكم عليه مباشرة وطعن فيه فقال: «ولكن بحثي يتعلق بهذا القسم من الصحابة الذين اختلف فيهم المسلمون، ونزل القرآن بتوبيخهم وتهديدهم في بعض المواقع، والذين حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العديد من المناسبات أو حذر منهم».
فظهر أن الرجل إنما يقرر عقيدة الرافضة في الصحابة في أصل تقسيمه لهم وحكمه عليهم، خلافاً لما يدعيه من العدل والإنصاف والتجرد في الحكم، ولهذا سبق حُكْمُه بحثه في سيرتهم وأحوالهم، وذكره النصوص التي زعم أنها مستنده فيما يقرر. ثم شرع المؤلف في ذكر الآيات التي زعم أنها كشفت حال الصحابة ونزلت بتوبيخهم وتهديدهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(9/156)
(1) الإصابة لابن حجر 1/7.
(2) انظر ص 75 ومابعدها.
=============
الرد على من زعم أن الصحابة لم يمتثلوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية
قال المؤلف ص93 تحت عنوان: (الصحابة في صلح الحديبية)، بعد أن ذكر على وجه الإجمال خبر صلح النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش على الشروط المعروفة: «لكن بعض الصحابة لم يعجبهم هذا التصرف من النبي صلى الله عليه وسلم وعارضوه في ذلك معارضة شديدة، وجاءه عمر بن الخطاب فقال: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قال عمر: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قال عمر: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف؟ قال: بلى أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال عمر: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به...
إلى أن قال: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الصلح قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فو الله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يمتثل لأمره منهم أحد، دخل خباءه ثم خرج فلم يكلم أحداً منهم بشيء حتى نحر بدنة بيده، ودعا حالقه فحلق رأسه، فلما رأى أصحابه ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً».(9/157)
ثم يقول بعد ذلك معلقاً: «هل يقبل عاقل قول القائلين بأن الصحابة -y- كانوا يمتثلون أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وينفذونها، فهذه الحادثة تقطع عليهم ما يرومون... فهل سلم عمر بن الخطاب هنا ولم يجد في نفسه حرجاً بما قضى الرسول صلى الله عليه وسلم ؟! أم كان في موقفه تردد في ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وخصوصاً في قوله: أولست نبي الله حقاً، أولست كنت تحدثنا إلى آخره، وهل سلم بعدما أجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الأجوبة المقنعة؟ كلا لم يقتنع بجوابه وذهب يسأل أبا بكر الأسئلة نفسها...».
والجواب عن هذا: أن ما ذكره من مراجعة عمر للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلح، وكذلك تأخر الصحابة في بداية الأمر عن النحر والحلق حتى نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلق، كل هذا صحيح ثابت في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث التي نقلت أخبار صلح الحديبية. (1)
وعلى هذين الأمرين مدار طعنه وسلفه من الرافضة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مطعن في شيء من هذا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عمر ولا غيره من الصحابة الذين شهدوا الحديبية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري: (كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد...) 5/329، ح2731-2732، و(كتاب الجزية) 6/281، ح3182، وصحيح مسلم: (كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية) 3/1411، ح1785، ومسند أحمد 3/486.(9/158)
وبيان ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا معه عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، فلما وقع أمر الصلح وفيه أن يرجعوا عامهم هذا، ثم يعودوا العام القادم شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) فجعل عمر - رضي الله عنه - على ما عرف به من القوة في الحق والشدة فيه يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه في الأمر، ولم تكن أسئلته التي سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم لشك في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو اعتراض عليه، لكن كان مستفصلاً عما كان متقرراً لديه، من أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت، وأراد بذلك أن يحفز رسول الله صلى الله عليه وسلم على دخول مكة، وعدم الرجوع إلى المدينة، لما يرى في ذلك من عز لدين الله وإرغام للمشركين.
قال النووي: «قال العلماء لم يكن سؤال عمر - رضي الله عنه - وكلامه المذكور شكاً بل طلباً لكشف ما خفي عليه، وحثاً على إذلال الكفار وظهور الإسلام، كما عرف من خلقه - رضي الله عنه - وقوته في نصر الدين وإذلال المبطلين». (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: تاريخ الطبري 2/635، والبداية والنهاية لابن كثير 4/170.
(2) شرح صحيح مسلم 12/141.
ونقل هذا أيضاً ابن حجر -رحمه الله- عن بعض شراح الحديث. (1)(9/159)
فعمر - رضي الله عنه - كان في هذا مجتهداً حمله على هذا شدته في الحق، وقوته في نصرة الدين، والغيرة عليه، مع ما كان قد عودهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشورة وإبداء الرأى، امتثالاً لأمر الله تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}(2) وقد كان كثيراً ما يستشيرهم ويأخذ برأيهم، كما استشارهم يوم بدر في الذهاب إلى العير، وأخذ بمشورتهم، وشاورهم يوم أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج للعدو فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم، وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذٍ فأبى عليه السعدان (سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة) فترك ذلك، وشاورهم يوم الحديبية أن يميل على ذراري المشركين، فقال أبو بكر: إنا لم نجيء لقتال، وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قال(3)، في حوادث كثيرة يطول ذكرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: فتح البارى 5/346.
(2) سورة آل عمران من الآية 159.
(3) انظر: تفسير ابن كثير 1/420 عند تفسير قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر}.
فقد كان عمر - رضي الله عنه - يطمع أن يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه في مناجزة قريش وقتالهم، ولهذا راجعه في ذلك، وراجع أبا بكر، فلما رأى اتفاقهما أمسك عن ذلك وترك رأيه، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يعلم من حسن نيته وصدقه.
أما توقف الصحابة عن النحر والحلق حتى نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلق، فليس معصية لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكر العلماء له عدة توجيهات.(9/160)
قال ابن حجر: «قيل كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب، أو لرجاء نزول وحي بإبطال الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم، وسوّغ لهم ذلك لأنه كان زمان وقوع النسخ، ويحتمل أنهم ألهتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة، أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم».(1)
وجاء في بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى عدم امتثالهم، دخل على أم سلمة فذكر لها ذلك فقالت: (يا رسول الله لاتكلمهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فتح الباري 5/347.
فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح).(1)
فأشارت عليه كما جاء في رواية البخاري: (أن اخرج ثم لاتكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا).(2)
قال ابن حجر: «ويحتمل أنها فهمت عن الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذاً بالرخصة في حقهم، وأنه يستمر على الإحرام أخذاً بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ففعله... ونظير هذا ما وقع لهم في غزوة الفتح من أمره لهم بالفطر في رمضان، فلما استمروا على الامتناع، تناول القدح فشرب، فلما رأوه شرب شربوا».(3)
وهذا الوجه حسن، وهو اللائق بمقام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(9/161)
(1) ذكره ابن حجر في فتح الباري 5/347.
(2) صحيح البخاري مع الفتح (كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد) 5/332
(3) فتح الباري 5/347.
كانوا على قدر كبير من تعظيم الإحرام والحرص على إكمال النسك، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتحلل ولم يفعل ، ظنوا أن الذي حمله على هذا هو الشفقة عليهم، كما كانت سيرته معهم، فكأنهم -رضي الله عنهم- آثروا التأسي به على ما رخص لهم فيه من التحلل، ثم لما رأوه قد تحلل أيقنوا أن هذا هو الأفضل في حقهم، فبادروا إليه، وهذا مثل ما حصل منهم في الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغوا مكة وطافوا وسعوا أمرهم أن يحلوا، وأن يصيبوا النساء ويجعلوها عمرة، فكبر ذلك عليهم لتعظيمهم لنسكهم، وقالوا: نذهب إلى عرفة ومذاكيرنا تقطر من المني، فلما علم بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وكان لم يتحلل، قال لهم: (أيها الناس أحلوا فلولا الهدى الذي معى فعلت كما فعلتم) قال جابر - رضي الله عنه - راوي الحديث: فحللنا وسمعنا وأطعنا.(1)
وهذا كله من حرص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخير والرغبة في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم التأسي الكامل. فرضي الله عنهم أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ملخصاً من حديث جابر بن عبدالله الذي رواه البخاري في (كتاب الاعتصام، باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم إلا ما تعرف إباحته) فتح الباري 13/337، ح7367، ومسلم (كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام..) 2/883-884، ح1216.
وبهذا تظهر الوجهة الصحيحة لمواقف الصحابة الجليلة في هذه الغزوة المباركة، التي ازدادوا بها رفعة عند الله، وسبقاً في دينه، ومحبة في قلوب المؤمنين.(9/162)
فإن أبى الرافضي قبول ذلك استكباراً وعناداً، وظلماً وطغياناً وأصر على ما هو عليه من الكذب والتدليس، فإني أورد هنا عدة أوجه فيها إلزامه وفضيحته، ودحض شبهته بحول الله وقوته وهي:
الوجه الأول: ما بدر من الصحابة -رضي الله عنهم- يوم الحديبية كان بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان الوحي ينزل عليه، فهل ذمهم الله بذلك؟ فإن الله لا يقر على باطل. أو أنكر عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فإنه لا تأخذه في الله لومة لائم. فإذا لم يحصل شيء من ذلك ولم ينقل عن أحد من الصحابة الذين شهدوا الواقعة أنهم سعوا في الإنكار على من يدعي هذا الرافضي أنه مخالف ومنازع، ثم تتابعت الأمة بعد ذلك جيلاً بعد جيل على عدم الإنكار بل الترضي على أولئك الأخيار، أفاد كل ذلك حقيقة حتمية، وضرورة شرعية عند كل متدين بهذا الدين داخل في عقد المسلمين ألا وهي: براءة الصحابة وطهارتهم من كل ما يرميهم به الرافضة والزنادقة من العظائم وأن الطعن فيهم بعد هذا رد على رب العالمين، ومشاقة لرسوله الكريم، واتباع لغير سبيل المؤمنين.
الوجه الثاني: أن الله تعالى قال في سورة الفتح التي أنزلها على
رسوله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الحديبية في طريقه إلى المدينة(1): {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً}.(2)
وكان عدد أهل الحديبية الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفاً وأربعمائة رجلٍ، كما ذكر جابر - رضي الله عنه - قال: (كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فبايعناه، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة).(3)
وفي صحيح مسلم أن أم بشر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لايدخل النار -إن شاء الله- من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها).(4)(9/163)
فثبت بصريح الكتاب والسنة أن الله رضي عنهم، وأنزل السكينة في قلوبهم، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، والنجاة من النار، فالطعن فيهم بعد هذا تكذيب صريح لما دلت عليه النصوص، ورد على الله ورسوله، ولهذا لم يتوقف العلماء في تكفير من كفّر، أو فسق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر تفسير ابن كثير 4/182.
(2) سورة الفتح آيتا 18،19.
(3) رواه مسلم (كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش..) 3/1483، ح1856.
(4) رواه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أصحاب الشجرة..) 4/1942، ح2496.
عامة الصحابة لمناقضته لصريح الكتاب والسنة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تفصيل حكم سب الصحابة: «... وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضاً في كفره، لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين».(1)
الوجه الثالث: يتعلق بما جاء في سياق بعض الروايات الصحيحة وفيها فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا انحروا ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات).(2)
أورده المؤلف ثم قال معلقاً: «هل يقبل عاقل قول القائلين بأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يمتثلون أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وينفذونها، فهذه الحادثة تقطع عليهم ما يرومون...».(3)
قلت: تقدمت الإجابة عليه، وأنه لا مطعن على أصحاب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الصارم المسلوك على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم ص586.(9/164)
(2) وردت هذه العبارة ضمن الحديث الطويل الذي رواه البخاري من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في (كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد..) فتح الباري 5/329، ح2731،2732.
(3) تقدم نقل نصه كاملاً ص263.
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.(1)
لكن أقول للمؤلف هنا: ألم يكن علي - رضي الله عنه - ومن تعتقدون عدالته من الصحابة في هؤلاء، ويرد عليه ما قلتم فما هو جوابكم؟.
الوجه الرابع: ثبت في الصحيحين من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: (كتب علي أبي طالب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية، فكتب هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله، فقالوا: لاتكتب رسول الله فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : امحه، فقال: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده).(2) وفي بعض الرويات أن علياً - رضي الله عنه - قال: (والله لا أمحاه أبداً..).(3)
فما ثبت عن علي - رضي الله عنه - هنا نظير ما ثبت عن عمر - رضي الله عنه - في مراجعته رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الصلح فإذا لم يكن في هذا مطعن على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر ص 266 من هذا الكتاب.
(2) رواه البخاري في (كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان ابن فلان..) فتح الباري 5/303، ح2698، ومسلم (كتاب الجهاد، باب صلح الحديبية) 3/1409، ح1783.
(3) أوردها البخاري في كتاب (الجزية، باب المصالحة على ثلاثة أيام) فتح الباري 6/282، ح3184، ومسلم في الكتاب والباب السابقين 3/1410.(9/165)
علي - رضي الله عنه - وهو الحق، لم يكن فيما ثبت عن عمر - رضي الله عنه - مطعن عليه، فإن قال الرافضي إنما منعه من محو كلمة (رسول الله) محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، قلنا: وإنما حمل عمر على ما فعل نصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإعزاز دينه.
الوجه الخامس: أن الباعث لما صدر من الصحابة -رضي الله عنهم- يوم الحديبية هو شدة حرصهم على الخير ورغبتهم في الأجر، يشهد لهذا أن الذي أرادوا كان أشد عليهم في الدنيا مما أريد منهم، فعمر - رضي الله عنه - كان يريد القتال ومناجزة الكفار، وما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الصلح كان أهون عليه وأسلم، وكذلك الصحابة لما تأخروا في بداية الأمر عن النحر والحلق إنما أرادوا إكمال النسك، وما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من التحلل في مكانهم كان أيسر عليهم وأسهل، وإن كنا لا نشك أن ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم وأمرهم به هو أكمل لهم وأفضل في الدنيا والآخرة، لكن المقصود هنا هو حسن نياتهم، وصدق رغباتهم فيما عند الله والدار الآخرة، وهذا بخلاف من أراد الدنيا، كمثل حال المنافقين الذين يتثاقلون عن الجهاد، وأعمال البر ويتلمسون الاعذار في التأخر عنها، كما هو معلوم من قصصهم في القرآن، ولذا أثنى الله على أهل الحديبية وأعطاهم من الخير والفضل بما علمه عنهم من صدق الرغبة فيما عنده وطلب رضوانه فقال: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة
فعلم ما في قلوبهم}.(1)
قال ابن كثير: «أي من الصدق والوفاء والسمع والطاعة».(2)
================
الرد على من زعم أن الصحابة لم يمتثلوا أمر النبي بكتابة الكتاب الذي أمر به في مرض موته(9/166)
يقول المؤلف ص95، تحت عنوان: (الصحابة ورزية الخميس): «ومجمل القصة أن الصحابة كانوا مجتمعين في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاثة أيام فأمرهم أن يحضروا له الكتف والدواة، ليكتب لهم كتاباً يعصمهم من الضلالة، ولكن الصحابة اختلفوا، ومنهم من عصى أمره واتهمه بالهجر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجهم من بيته دون أن يكتب لهم شئياً».
ثم ذكر تحته كلاماً طويلاً، مفاده:
- أن اختلاف الصحابة هذا هو الذي منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتابة الكتاب، وبالتالي حرم الأمة من العصمة من الضلالة، واستدل على ذلك بقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: (إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب).
- أن الشيعة يعتقدون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن ينص على خلافة علي، ثم ذكر أن هذا هو الرأي الذي يميل إليه، وليس هناك تفسير معقول غيره.
- أن عمر هو الذي عارض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنه يهجر)، ثم
قال: (عندكم القرآن)، (حسبنا كتاب الله)، وقال إنه لا يجد مبرراً لقول عمر الذي أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يعي ما يقول، وذكر أن تعليل أهل السنة بأن عمر قال ذلك شفقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لايقبله بسطاء العقول فضلاً عن العلماء.
- أن الأكثرية الساحقة من الصحابة كانت على قول عمر ذلك، ولذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم جدوى كتابة الكتاب، لأنه علم بأنهم لن يمتثلوه بعد موته.
- أن الصحابة في هذه الحادثة تعدوا حدود رفع الأصوات إلى رميه صلى الله عليه وسلم بالهجر والهذيان...(9/167)
قلت: ما ذكره المؤلف هنا من مطاعن ليس هو أول من أوردها، وإنما أخذها عن سلفه من الرافضة، وهي من مطاعنهم القديمة المشهورة على الصحابة. وعمدتهم في ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا.
قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما
حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم ). (1)
وفي رواية أخرى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي نزاع، فقالوا: ما شأنه؟ أَهَجَر، اسْتَفْهِمُوه، فذهبوا يردون عليه، فقال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصاهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة، أو قال: فنسيتها). (2)
وليس فيما ثبت في هذا الحديث ورواياته الصحيحة أي مطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما ما ذكره هذا الرافضي من مطاعن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(9/168)
(1) رواه البخاري: (كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ) فتح البارى 8/132، ح4432. ومسلم: (كتاب الوصية، باب من ترك الوصية) 3/1258، وفي رواية مسلم أن القائل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع... الخ هو عمر - رضي الله عنه -.
(2) رواه البخاري: (كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ( فتح الباري 8/132، ح4431. ومسلم: (كتاب الوصية، باب من ترك الوصية) 3/1257، ح1637.
فباطلة معلومة الفساد، وقد أجاب العلماء قديماً عن بعضها.
وإليك أيها القارى الرد عليها مفصلاً:
قوله أولاً: إن الصحابة اختلفوا ومنهم من عصى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وأخرجهم من البيت...
فيقال له: أما اختلافهم فثابت، وقد كان سببه اختلافهم في فهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومراده لاعصيانه كما زعمت.
قال القرطبي في سبب اختلافهم: «وسبب ذلك أن ذلك كله إنما حمل عليه الاجتهاد المسوغ، والقصد الصالح، وكل مجتهد مصيب، أو أحدهما مصيب، والآخر غير مأثوم بل مأجور كما قررناه في الأصول». (1)
ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنفهم ولاذمهم بل قال للجميع:(دعوني فالذي أنا فيه خير) (2) وهذا نحو ما جرى لهم يوم الأحزاب حيث قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) (3) فتخوف ناس فوات الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما عنف أحد الفريقين. (4)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي 4/559.
(2) تقدم ذكر الحديث وتخريجه في الصفحة السابقة.
(3) تقدم تخريجه ص 253.(9/169)
(4) انظر: المفهم 4/559.
وقد نبه المازري -رحمه الله- على وجه اختلافهم هذا فقال: «إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب، مع صريح أمره لهم بذلك، لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة، دلت على أن الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع، لما قام عنده من القرائن بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك عن غير قصد جازم، وعزمه صلى الله عليه وسلم كان إما بالوحي وإما بالاجتهاد، وكذلك تركه إن كان بالوحي فبالوحي وإلا فبالاجتهاد، وفيه حجة لمن قال بالاجتهاد في الشرعيات». (1)
فتبين أن اختلافهم ناشئ عن اجتهاد في فهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومراده، وإذا كان علماء الأمة من بعدهم قد اختلفوا في فهم النصوص اختلافاً كبيراً في مسائل كثيرة إلى أقوال متعددة ولم يُذَموا بذلك لما تضافرت به النصوص من رفع الحرج عنهم، بل أجرهم على الاجتهاد على كل حال، فكيف يذم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باختلافهم في مسألة جزئية مجتهدين، بعد أن عذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعنف أحداً منهم بل أخذ بقول الطائفة المانعة من كتابة الكتاب، ورجع إلى قولها في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نقله عنه ابن حجر في فتح الباري 8/134، كما نقله النووي في شرحه لصحيح مسلم 11/92، وبينهما اختلاف يسير، والذي يظهر أن في نقل ابن حجر تصرفاً واختصاراً.
ترك الكتابة.
وأما ما ادعاه الرافضي من أن اختلاف الصحابة، وما ترتب عليه من عدم كتابة النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك الكتاب هو الذي حرم الأمة من العصمة إلى آخر كلامه في هذا...
فقد تقدم الرد عليه مفصلاً بما يغني عن إعادته هنا وليراجع في موضعه. (1)(9/170)
وأما استدلاله بقول ابن عباس: (ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب)(2)، فلا حجة له فيه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في معناه: «يقتضي أن الحائل كان رزية، وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق، واشتبه عليه الأمر، فإنه لو كان هناك كتاب لزال الشك، فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد». (3)
ويوضح هذا أن ابن عباس -رضي الله عنهما- ما قال ذلك إلا بعد ظهور أهل الأهواء والبدع، من الخوارج والروافض.نص على هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: ص 227 ومابعدها.
(2) تقدم تخريجه ص277.
(3) منهاج السنة 6/25.
شيخ الإسلام ابن تيمية(1) والحافظ ابن حجر. (2)
وأيضاً فقول ابن عباس هذا قاله اجتهاداً منه، وهو معارض بقول عمر واجتهاده، وقد كان عمر أفقه من ابن عباس قطعاً. قاله
ابن حجر. (3)
قلت: بل هو معارض بقول عمر، وطائفة من الصحابة معه، كماجاء في الحديث:(فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك). (4)
ويعضد هذا القول موافقة النبي صلى الله عليه وسلم له بعد ذلك وتركه كتابة الكتاب، فإنه صلى الله عليه وسلم لو أراد أن يكتب الكتاب ما استطاع أحد أن يمنعه، وقد ثبت أنه عاش بعد ذلك أياماً باتفاق السنة والرافضة فلم يكتب شيئاً. (5)
وأما ادعاؤه أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بذلك الكتاب أن ينص على خلافة علي - رضي الله عنه - بعد أن حكى ذلك عن الرافضة، زاعماً أنه ليس هناك تفسير معقول غيره:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: منهاج السنة 6/316.
(2) انظر: فتح الباري 1/209.(9/171)
(3) انظر: فتح البارى 8/134.
(4) تقدم تخريجه ص 277.
(5) تقدم تقرير هذه المسألة ص 229.
فالجواب على هذا أن ادعاءه أن هذا قول الرافضة -على الإطلاق- كذب ظاهر، خلاف المشهور من عقيدتهم.
فالرافضة يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على خلافة علي، ونصبه وصياً من بعده، بأمر الله له قبل حادثة الكتاب، ولهم في ذلك مبالغات كبيرة، حتى زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم عُرِجَ به إلى السماء الدنيا مائة وعشرين مرة، في كل مرة يوصى بولاية علي.
جاء في كتاب بصائر الدرجات للصفار فيما يرويه عن أبي عبد الله أنه قال: «عرج بالنبي صلى الله عليه وآله إلى السماء مائة وعشرين مرة، ما من مرة إلا وقد أوصى الله النبي صلى الله عليه وآله بولاية علي والأئمة من بعده أكثر مما أوصاه بالفرائض». (1)
هذا وقد نقل إجماعهم على هذه العقيدة شيخهم المفيد في مقالاته حيث قال: «واتفقت الإمامية على أن رسول الله صلى الله عليه وآله استخلف أمير المؤمنين عليه السلام في حياته، ونص عليه بالإمامة بعد وفاته، وأن من دفع ذلك دفع فرضاً من الدين». (2)
وبهذا يظهر كذب هذا الرجل وتلبيسه فيما ادعاه: من أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بذلك الكتاب النص على استخلاف علي، ونسبته هذا القول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بصائر الدرجات ص99.
(2) أوائل المقالات ص44.
إلى الرافضة. فأي معنى لهذا عندهم إذا كانت الرافضة تعتقد أن النص على ولاية علي واستخلافه قد جاء من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في أكثر من مائة وعشرين مرة في كل مرة يعرج به إلى السماء ويوصى بها، ثم تبليغ
النبي صلى الله عليه وسلم أمته ذلك على ما تدعي الرافضة في نصوص متواترة قبل حادثة الكتاب.(9/172)
ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس، من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون: إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب». (1)
وعلى كل حال فسواء ثبت هذا القول عن بعض الرافضة، أم انفرد به هو فلا صحة له، إذ لا دليل عليه، وإنما مبناه على الظنون والأوهام الكاذبة، التي لا تستند لدليل من عقل أو شرع، بل الأدلة على خلافه كباقي عقائد الرافضة، وعلى فرض صحته -مع استحالة ذلك- فلا حجة فيه للرافضة، بل هو حجة عليهم في إبطال دعوى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 6/25.
الوصية لعلي - رضي الله عنه - وهذا ظاهر، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أراد من ذلك
الكتاب النَّصَ على خلافة علي في ذلك الوقت المتأخر من حياته، دل هذا على عدم نصه عليها قبل ذلك، إذ لا معنى للنص عليها مرتين، وإذا ثبت باتفاق أهل السنة والرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يكتب ذلك الكتاب، بطلت دعوى الوصية من أصلها.
وإذا تقرر هذا: فليعلم أن العلماء اختلفوا في مراد النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الكتاب، فذهب بعضهم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب كتاباً ينص فيه على الأحكام ليرتفع الاختلاف. نقله النووي، وابن حجر عن بعض أهل العلم. (1)
وقيل: إن مراده صلى الله عليه وسلم من الكتاب: بيان ما يرجعون إليه عند وقوع الفتن، وقد ذكر هذا القرطبي ضمن الاحتمالات المرادة من الكتاب. (2)(9/173)
وقيل: إن المراد بيان كيفية تدبير الملك، وهو إخراج المشركين من جزيرة العرب، وإجازة الوفد بنحو ما كان يجيزهم، وتجهيز جيش أسامة. وبهذا قال الدهلوي(3) مستدلاً على ذلك بما كان النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 11/90، وفتح الباري لابن حجر 1/209.
(2) انظر: المفهم 4/558.
(3) انظر: مختصر التحفة الإثني عشرية ص251.
أوصى به في حديث ابن عباس المتقدم.(1)
والذي عليه أكثر العلماء المحققين: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينص على استخلاف أبي بكر - رضي الله عنه -ثم ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى.
وقد حكى هذا القول سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله(2) وإليه ذهب القرطبي(3)، وشيخ الإسلام ابن تيمية(4)، والسويدي.(5) وذكر القاضي عياض: أن الكتاب كان في أمر الخلافة وتعيينها من غير أن يشير إلى أبي بكر. (6)
وقد استدل من قال بهذا القول بما جاء في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ادعي لي أبا بكر وأخاك، حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: ص 277 من هذا الكتاب.
(2) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 11/90.
(3) انظر: المفهم 4/558.
(4) انظر: منهاج السنة 6/23-24-316.
(5) انظر: الصارم الحديد في عنق صاحب سلاسل الحديد (الجزء الثاني)، ص48.
(6) انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم 2/890.
أبا بكر). (1)(9/174)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه، فقد جاء مبيناً كما في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها-»(2)، ثم ساق الحديث.
فهذه أقوال أهل العلم المعتد بأقوالهم، ليس فيها قول واحد يؤيد ما ذهب إليه الرافضي، بل تدل في مجموعها على بطلان ما ادعاه.
على أن الذي عليه أكثر العلماء في المراد بالكتاب هو النص على استخلاف أبي بكر، كما دل على ذلك حديث عائشة في الصحيحين وهو من القوة بمكان والله أعلم.
وأما طعن المؤلف على عمر - رضي الله عنه - وزعمه بأنه قد اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعي ما يقول، وقال: (إنه يهجر) ولم يمتثل قوله، وقال: (عندكم كتاب الله)، (حسبنا كتاب الله).
فجوابه: أن ما ادعاه أولاً بأن عمر اتهم رسول الله بالهجر وأنه لايعي ما يقول فهذا باطل. وذلك أن هذه اللفظة (أهجر) لا تثبت عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه الرواية أخرجها مسلم في صحيحه: (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق) 4/1857، ح2387، وأخرج الحديث البخاري -مع اختلاف في اللفظ- في صحيحه: (كتاب الأحكام، باب الاستخلاف) فتح الباري 13/205، ح7217.
(2) منهاج السنة 6/23.
عمر - رضي الله عنه - أصلاً وإنما قالها بعض من حضر الحادثة من غير أن تعين الروايات الواردة في الصحيحين -والتي احتج المؤلف بها- قائلها، وإنما الثابت فيها (فقالوا ما شأنه أهجر)(1)، هكذا بصيغة الجمع دون الإفراد. ولهذا أنكر بعض العلماء أن تكون هذه اللفظة من كلام عمر.
قال ابن حجر: «ويظهر لي ترجيح ثالث الاحتمالات، التي ذكرها القرطبي، ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام، وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع ،قد يشتغل به عن تحرير ما يريد». (2)(9/175)
وقال الدهلوي: «من أين يثبت أن قائل هذا القول هو عمر مع أنه وقع في أكثر الروايات (قالوا) بصيغة الجمع». (3)
وقد ذهب إلى هذا السويدي وذكر أنه قد صرح بذلك جمع من متأخري المحدثين ومنهم ابن حجر. (4)
وهذا الذي صرح به العلماء هنا هو ظاهر قول النووي حيث يقول في معرض شرحه للحديث: «... وهو المراد بقولهم هجر، وبقول عمر غلب عليه الوجع»، فقد فرّق بين القولين فتأمله..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم نص الحديث بكماله وتخريجه ص277.
(2) فتح الباري 8/133.
(3) مختصر التحفة الإثني عشرية ص250.
(4) انظر: الصارم الحديد (الجزء الثاني) ص16.
فثبت بهذا افتراء الرافضي وظلمه بنسبته هذه اللفظة لعمر من غير دليل، بل ظاهر الأدلة على خلافه، على أن هذه اللفظة لا مطعن فيها على عمر لو ثبتت عنه،كما أنه لامطعن فيها على من ثبتت عنه من الصحابة. وما ادعاه المؤلف من نسبة قائلها رسول صلى الله عليه وسلم إلى أنه لايعي مايقول -حاشاه ذلك- باطل لايحتمله اللفظ وبيان ذلك من عدة وجوه.
الوجه الأول: أن الثابت الصحيح من هذه اللفظة أنها وردت بصيغة الاستفهام هكذا (أهجر؟) وهذا بخلاف ما جاء في بعض الروايات بلفظ (هجر، ويهجر) وتمسك به المؤلف فإنه مرجوح على ما حقق ذلك المحدثون، وشراح الحديث: منهم القاضي عياض(1)، والقرطبي(2)، والنووي(3)، وابن حجر. (4)
فقد نصوا على أن الاستفهام هنا جاء على سبيل الإنكار على من قال: (لا تكتبوا).
قال القرطبي بعد أن ذكر الأدلة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الخطأفي التبليغ في كل أحواله، وتَقَرُرِ ذلك عند الصحابة: «وعلى هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(9/176)
(1) انظر: الشفا 2/886.
(2) انظر المفهم 4/559.
(3) انظر شرح صحيح مسلم 11/93.
(4) انظر فتح الباري 8/133.
يستحيل أن يكون قولهم (أهجر)، لشك عرض لهم في صحة قوله، زمن مرضه، وإنما كان ذلك من بعضهم على وجه الإنكار على من توقف في إحضار الكتف والدواة، وتلكأ عنه، فكأنه يقول لمن توقف: كيف تتوقف أتظن أنه قال: هذيانا، فدع التوقف وقرب الكتف، فإنه إنما يقول الحق لا الهجر، وهذا أحسن ما يحمل عليه». (1)
قلت: وهذا يدل على اتفاق الصحابة على استحالة الهجر على الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث إن قائليها أوردوها على سبيل الإنكار الملزم، الذي لا يشك فيه المخالف، وبه تبطل دعوى الرافضي من أصلها.
الوجه الثاني: أنه على فرض صحة رواية (هجر) من غير استفهام، فلا مطعن فيها على قائلها، لأن الهجر في اللغة يأتي
على قسمين: قسم لانزاع في عروضه للأنبياء، وهو عدم تبيين الكلام لبحّة الصوت، وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان، كما في الحميات الحارة، وقسم آخر: وهو جريان الكلام غير المنتظم، أو المخالف للمقصود على اللسان لعارض بسبب الحميات المحرقة في الأكثر.
وهذا القسم محل اختلاف بين العلماء في عروضه للأنبياء، فلعل
القائل هنا أراد القسم الأول، وهو أنا لم نفهم كلامه بسبب
ضعف ناطقته، ويدل على هذا قوله بعد ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: المفهم 4/559.
(استفهموه). (1)
الوجه الثالث: أنه يحتمل أن تكون هذه اللفظة صدرت عن قائلهاعن دَهَشٍ وحَيْرةٍ أصابته في ذلك المقام العظيم،والمصاب الجسيم، كما قد أصاب عمر وغيره عند موت النبي صلى الله عليه وسلم قاله القرطبي. (2)(9/177)
قلت: وعلى هذا فقائلها معذور أياً كان معناها، فإن الرجل يعذر بإغلاق الفكر والعقل، إما لشدة فرح أو حزن، كما في قصة الرجل الذي فقد دابته ثم وجدها بعد يأس فقال: (اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح). (3)
الوجه الرابع: أن هذه اللفظة صدرت بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبارأصحابه،فلم ينكرواعلى قائلها، ولم يؤثموه، فدل على أنه معذور على كل حال، ولا ينكر عليه بعد ذلك إلا مفتون في الدين، زائغ عن الحق والهدى، كما هوحال هذا المسكين المعرض نفسه لما لا يطيق.
وأما ما ادعاه من معارضة عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (عندكم كتاب الله، حسبنا كتاب الله) وأنه لم يمتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أراد من كتابة الكتاب:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: مختصر التحفة الإثني عشرية ص250.
(2) المفهم 4/560.
(3) أخرجه مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - (كتاب التوبة، باب الحض على التوبة...) 4/2104، ح2747.
فالرد عليه:
أنه ليس في قول عمر هذا، أي اعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم امتثال أمره كما توهم هذا الرافضي، وبيان هذا من عدة وجوه:
الوجه الأول: أنه ظهر لعمر - رضي الله عنه - ومن كان على رأيه من الصحابة، أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابة الكتاب ليس على الوجوب، وأنه من باب الارشاد إلى الأصلح، وقد نبه على هذا القاضي عياض، والقرطبي، والنووي، وابن حجر. (1)
ثم إنه قد ثبت بعد هذا صحة اجتهاد عمر - رضي الله عنه - وذلك بترك الرسول صلى الله عليه وسلم كتابة الكتاب، ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم،لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف.ولهذا عد هذا من موافقات عمر
- رضي الله عنه -. (2)(9/178)
الوجه الثاني: أن قول عمر - رضي الله عنه -: (حسبنا كتاب الله) رد على من نازعه لا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم (3) وهذا ظاهر من قوله: (عندكم كتاب الله) فإن المخاطب جمع وهم المخالفون لعمر - رضي الله عنه - في رأيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الشفا 2/887، والمفهم 2/559، وشرح صحيح مسلم 11/91، وفتح الباري 1/209.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر 1/209.
(3) نص عليه النووي في شرح صحيح مسلم 11/93.
الوجه الثالث: أن عمر - رضي الله عنه - كان بعيد النظر، ثاقب البصيرة، سديد الرأي، وقد رأى أن الأولى ترك كتابة الكتاب -بعد أن تقرر عنده أن الأمر به ليس على الوجوب- وذلك لمصلحة شرعية راجحة للعلماء في توجيهها أقوال.
فقيل: شفقته على رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يلحقه من كتابة الكتاب مع شدة المرض، ويشهد لهذا قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع) فكره أن يتكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشق ويثقل عليه(1) مع استحضاره قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}(2)، {تبياناً لكل شيء}. (3)
وقيل: إنه خشى تطرق المنافقين، ومن في قلبه مرض، لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة، وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل نص على ذلك القاضي عياض وغيره من أهل العلم.(4)
وقيل: إنه خشي أن يكتب أموراً ربما عجزوا عنها فاستحقوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الشفا للقاضي عياض 2/888، وشرح صحيح مسلم للنووي 11/90، وفتح الباري لابن حجر 1/209.
(2) سورة الأنعام آية 38.
(3) سورة النحل آية 89.
(4) انظر: الشفا 2/889 ، وشرح صحيح مسلم للنووي 2/92.(9/179)
العقوبة لكونها منصوصة، ورأى أن الأرفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد، لما فيه من الأجر والتوسعة على الأمة. (1)
قلت: ولا يبعد أن يكون عمر - رضي الله عنه - لاحظ هذه الأمور كلها، أوكان لاجتهاده وجوه أخرى لم يطلع عليها العلماء، كما خفيت قبل ذلك على من كان خالفه من الصحابة، ووافقه عليها الرسول صلى الله عليه وسلم بتركه كتابة الكتاب، ولهذا عد العلماء هذه الحادثة من دلائل فقهه ودقة نظره.
قال النووي: «وأما كلام عمر - رضي الله عنه - فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث، على أنه من دلائل فقه عمر، وفضائله، ودقيق نظره». (2)
الوجه الرابع: أن عمر - رضي الله عنه - كان مجتهداً في موقفه من كتابة الكتاب، والمجتهد في الدين معذور على كل حال، بل مأجور لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم اخطأ فله أجر)(3)، فكيف وقد كان اجتهاد عمر بحضور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الشفا 2/889، وفتح الباري 8/134.
(2) شرح صحيح مسلم 11/90.
(3) رواه البخاري من حديث عمرو بن العاص في: (كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد...) فتح الباري 13/318، ح7352، ومسلم: (كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد) 3/1342، ح1716.
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يؤثمه، ولم يذمه به، بل وافقه على ما أراد من ترك كتابة الكتاب.
وأما قوله: إن الأكثرية الساحقة كانت على قول عمر، ولذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم جدوى كتابة الكتاب، لأنه علم بأنهم لن يمتثلوه بعد موته.(9/180)
فجوابه:(أن هذا الكلام مع ما فيه من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ، والطعن على الصحابة بمجرد التخرص والظنون الكاذبة، فهو دليل على جهل صاحبه. وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بالتبليغ سواء استجاب الناس أم لم يستجيبوا، قال تعالى: {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ}(1)، وقال تعالى: {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين}(2)، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة الكتاب، ما كان ليتركه لعدم استجابة أصحابه، كما أنه لم يترك الدعوة في بداية عهدها لمعارضة قومه وشدة أذيتهم له، بل بلغ ما أُمر به، وما ثناه ذلك عن دعوته، حتى هلك من هلك عن بينة، وحيا من حيي عن بينة.
فظهر بهذا أن كتابة الكتاب لم تكن واجبة عليه، وإلا ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الشورى آية 48.
(2) سورة النحل آية 82.
تركها، وقد نص على ذلك العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية
وابن حجر -رحمهما الله-.(1) وحينئذ يكون توجيه إرادته له أولاً، ثم تركه له بعد ذلك: ما ذكره النووي حيث قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم همّ بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة، أو أوحي إليه ذلك، ثم ظهر أن المصلحة تركه، أو أوحي إليه
بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول». (2)
وبهذا يظهر بطلان طعن الرافضي على الصحابة في هذه الحادثة، وينكشف زيف ما ادعاه في حقهم. وبيان توجيه مواقفهم التوجيه الصحيح اللائق بمقاماتهم العظيمة في الدين من خلال النصوص وكلام أهل العلم في ذلك.
فلله الحمد والمنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: منهاج السنة 6/315-316، وفتح الباري 1/209.
(2) شرح صحيح مسلم 11/90.
==============
شبهات وردود حول الصحابة رضي الله عنهم(9/181)
منها أن أكثر الصحابة انفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العير التى جاءت من الشام وتركوه وحده في خطبة الجمعة وتوجهوا إلى اللهو وأشتغلوا بالتجارة ، وذلك دليل على عدم الديانة.
والجواب أن هذه القصة إنما وقعت في بدء زمن الهجرة ( 1 ) ، ولم يكونوا إذ ذاك واقفين على الاداب الشريعة كما ينبغي ، وكان للناس مزيد رغبة في الغلة ، وظنوا أن لو ذهبت الإبل يزيد الغلاء ويعم البلاء ، ولم يخرجوا جميعهم بل كبار الصحابة كأبي بكر وعمر كانوا قائمين عنده صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ( 2 ) ، ولذا لم يشنع عليهم ( 3 ) ولم يوعهم سبحانه بعذاب ولم يعاتبهم الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً .
ومنها ان اهل السنة رووا في صحاحهم عن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( سيجاء برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فاقول : أصحابي اصحابي ، فيقال : إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك . فأقول كما قال العبد الصالح : وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت انت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد . فيقال : إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم )) .(9/182)
والجواب أنا لا نسلم أن المراد بالأصحاب ما هو المعلوم في عرفنا ، بل المراد بهم مطلق المؤمنين به صلى الله عليه وسلم المتبعين له ، وهذا كما يقال لمقلدى ابي حنيفة أصحاب ابي حنيفة ولمقلدي الشافعي اصحاب الشافعي وهكذا وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع ، وكذا يقول الرجل للماضين الموافقين له في مذهب أصحابنا ، مع ان بينه وبينهم عدة من السنين ، ومعرفته صلى الله عليه وسلم لهم مع عدم رؤيتهم في الدنيا بسبب أمارات تلوح عليهم ، فقد جاء في الخبر أن عصاة هذه الأمة يمتازون يوم القيامة من عصاة غيرهم كما أن طائعيهم يمتازون عن طائعي غيرهم ، وجذبهم إلى ذات الشمال كان تاديباً لهم وعقاباً على معاصيهم ، ولو سلمنا أن المراد بهم ما هو معلوم في العرف فهم الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق رضي الله عنه ، وقوله صلى الله عليه وسلم (( أصحابي أصحابي )) لظن انهم لم يرتدوا كما يؤذن به ما قيل في جوابه من انك لا تدرى ما أحدثوا بعدك . فإن قلت : إن (( رجالاً )) في الحديث كما يحتمل أن يراد منه من ذكرت من مرتدي الأعراب يحتمل أن يراد ما زعمته الشيعة . أجيب : إن ما ورد في حقهم من الآيات والأحاديث وأقوال الأئمة مانع من إرادة ما زعمته الشيعة . أما الآيات فكقوله تعالى ] إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم [ وقوله تعالى ] الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله واولئك هم الفائزون ، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، خالدين فيها ابداً إن الله عنده أجر عظيم [ وقوله تعالى ] والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين أتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه [ وقال تعالى ] لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [ إلى غير ذلك من الآيات التى لا تحصى . وأما الأحاديث فقوله صلى الله عليه وسلم (( أصحابي(9/183)
كالنجوم بايهم اقتديتم أهتديتم )) قوله صلى الله عليه وسلم (( الله الله في أصحابي )) الحديث ، إلى غير ذلك من الأخبار التى يضيق عنها المقام ، وأما اقوال الأئمة فقد مر لك شئ منها ، ولا مساغ للتخصيص الذى يزعمه الشيعة بوجه من الوجوه .
ومنها ان كثيراً من الصحابة فر من الزحف في غزوتي أحد وحنين ، الفرار من الزحف من أكبر الكبائر .
والجواب أن الفرار يوم أحد كان قبل النهي ، ولئن قلنا كان بعده فهو معفو عنه ، بدليل قوله تعالى ] ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم [ واما الفرار يوم حنين فبعد تسليم أنه كان فراراً في الحقيقة معاتباً عليه ما يصر عليه اولئك المخلصون بل أنقلبوا وظفروا بدليل قوله تعالى ] لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين . ثم انزل الله سكينته على رسول الله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين [ .
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو ابن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أى قوم أنتم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : كما أمرنا الله تعالى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا بل تتنافسون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض )) فإن هذا صريح في وقوع التنافس والتدابر والتباغض فيما بين الصحابة .(9/184)
والجواب ان الخطاب وإن كان للصحابة لكن باعتبار وقوع ذلك فيما بينهم ، وهو لا يستدعى ان يكون منهم ، ويدل على ذلك أن الصحابة إما مهاجرون او انصار ، والحديث صريح في ان أولئك الفرقة ليسوا مهاجرين ، والواقع ينفى كونهم من الأنصار لأنهم ما حملوا المهاجرين على التحارب ، فتعين أنهم من التابعين ، وقد وقع ذلك منهم ، فإنهم حملوا المهاجرين على التحارب بينهم كمالك الأشتر وأضرابه ، ولا كلام لنا فيهم ( 4 ) .
ومنها أن الصحابة قد آذوا علياً وحاربوه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم (( من آذى علياً فقد آذاني )) .
والجواب أن تلك المحاربات كانت لأمور اجتهادية فلا يلحقهم طعن من ذلك . ولا بد ههنا من التفصيل ، ليتبين من هو على الحق ممن سلك التضليل فأقول : أعلم أن أعظم ما تداولت الألسن من الاختلاف الواقع بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما وقع في زمن الأمير كرم الله تعالى وجهه ، فنشأ منه وقعتان عظيمتان : وقعة الجمل ، ووقعة صفين . والأصل الأصيل لذلك قتل عثمان . رضي الله عنه ، وأنكر الهشامية تلك الوقعتين ، وإنكار ذلك مكابرة لا يلقى لها سمع ، لأن الخبر متواتر في جميع مراتبه .
وتلخيص الأولى أنه لما قتل عثمان رضي الله عنه عنه صبراً توجع المسلمون ، فسار طلحة والزبير وعائشة – وكان قد لقيها الخبر وهي مقبلة من عمرتها – نحو البصرة ، فلما علم علي كرم الله وجهه بمخرجهم اعترضهم من المدينة لئلا يحدث ما يشق عصا الإسلام ، ففاتوه ، وأرسل ابنه الحسن وعماراً يستنفران أهل المدينة واهل الكوفة ، ولما قدموا البصرة أستعانوا باهلها وبيت مالها ، حتى إذا جاءهم الإمام كرم الله تعالى وجهه حاول الصلح واجتماع الكلمة وسعى الساعون بذلك ، فثار قتلة عثمان وكان ما كان ، وانتصر علي كرم الله تعالى وجهه ، وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى صلاة العصر لعشر خلون من جمادى الآخرة .(9/185)
ولما ظهر علي رضي الله عنه جاء إلى أم المؤمنين رضي الله عنه فقال (( غفر الله لك )) قالت (( ولك . وما أردت إلا الإصلاح )) ثم انزلها دار عبدالله بن خلف وهي أعظم دار في البصرة على سنيه بنت الحارث أم طلحة الطلحات ، وزارها بعد ثلاث ورحبت به وبايعته وجلس عندها فقال رجل : يا أمير المؤمنين إن بالباب رجلين ينالان من عائشة فامر القعقاع بن عمر ان يجلد كل واحد منهما مائة جلدة وان يجردهما من ثيابهما ففعل .
ولما ارادت الخروج من البصرة بعث إليها بكل ما ينبغى من مركب وزاد ومتاع واذن لمن نجا من الجيش ان يرجع إلا أن يحب المقام ، وأرسل معها أربعين امرأة وسير معها اخاها محمداً . ولما كان اليوم الذى ارتحلت فيه جاء علي كرم الله تعالى وجهه فوقف على الباب في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت : (( يا بني لا يغتب بعضكم بعضاً ، إنه ما كان بيني وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها ، وإنه لمن الأخيار )) فقال علي كرم الله تعالى وجهه (( صدقت ، والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك ، وإنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة )) وسار معها مودعاً أميالاً ، وسرح نبيه معها بقية ذلك اليوم .
وكانت رضي الله تعالى عنها بعد ذلك إذا ذكرت ما وقع تبكي حتى تبل خمارها . ففي هذه المعاملة من الأمير كرم الله تعالى وجهه دليل على خلاف ما تزعمه الشيعة من كفرها – وحاشاها رضي الله عنها – وفي ندمها وبكائها على ما كان دليل على أنها لم تذهب إلى ربها إلا وهي نقية من غبار المعركة ، على أن في كلامها ما يدل على أنها كانت حسنة النية في ذلك . وقال غير واحد إنها أجتهدت ولكنها أخطات في الاجتهاد ولا إثم على المجتهد المخطئ بل أجر على أجتهاده ( 5 ) وكونها رضي الله تعالى عنها من أهل الاجتهاد مما لا ريب فيه .(9/186)
نعم قالت الشيعة إنه يبطل إجتهادها أنه صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأزواجه كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب ، فإياك أن تكون يا حميراء والحوأب كجعفر منزل بين البصرة ومكة قيل نزلته عائشة ونبحتها كلابه فتذكرت الحديث وهو صريح في النهي ولم ترجع .
والجواب عن ذلك أن الثابت عندنا أنها لما سمعت ذلك وتحقيقه من محمد بن طلحه همت بالرجوع إلا أنها لم توافق عليه ومع هذا شهد لها مروان بن الحكم مع ثمانين رجلاً من دهاقين تلك الناحية أن هذا المكان مكان آخر وليس الحوأب ، على أن (( إياك أن تكوني يا حميراء )) ليس موجوداً في الكتب المعول عليها عند أهل السنة فليس في الخبر نهي صريح ينافي الاجتهاد ، على أنه لو كان فلا يرد محذوراً أيضاً لأنها أجتهدت فسارت حين لم تعلم أن في طريقها هذا المكان ، لو أنها علمت لم يمكنها الرجوع لعدم الموافقة عليه . وليس في الحديث بعد هذا النهي امر بشئ لتفعله ، فلا جرم مرت على ما قصدته من إصلاح ذات البين المأمورة به بلا شبهة .
واما طلحة والزبير رضي الله عنهما فلم يموتا إلا على بيعة الإمام كرم الله تعالى وجهه . وأما طلحة فقد روى الحكم عن ثور بن مجزأة أنه قال : مررت بطلحة يوم الجمل في آخر رمق فقال لي : من أنت ؟ قلت : من اصحاب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، فقال : أبسط يدك أبايعك ، فبسطت يدى فبايعني وقال : هذه بيعة علي ، وفاضت نفسه . فأتيت علياً رضي الله عنه فأخبرته فقال : الله أكبر صدق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ابي الله سبحانه أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه .(9/187)
وأما الزبير رضي الله عنه فقد ناداه علي كرم الله تعالى وجهه وخلا به وذكره قول النبي صلى الله عليه وسلم له : لتقاتلن علياً وأنت له ظالم ، فقال : لقد اذكرتني شيئاً أنسانيه الدهر ، لا جرم لا أقاتلك ابداً ، فخرج من العسكرين نادماً وقتل بوادي السباع مظلوماً قتله عمرو بن جرموز . وقد ثبت عند الفريقين أنه جاء بسيفه واستاذن على الأمير كرم الله تعالى وجهه فلم ياذن له ، فقال : أنا قاتل الزبير ، فقال : أبقتل أبن صفية تفتخر ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( بشر قاتل ابن صفية بالنار )) .
واما عدم قتله فلقيام الشبهة على ما قيل ، ونظيره ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن أن أناساً من الصحابة رضي الله عنه ذهبوا يتطرقون ، فقتل واحد منهم رجلاً قد فر وهو يقول : إني مسلم ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً ولم يقتل القاتل . وكذا قتل أسامة رضي الله عنه فيما أخرجه السدى رجلاً يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم جداً ولم يقبل عذره وقال له : كيف أنت ولا إله إلا الله ؟ ونزل قوله تعالى ] ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً [ الآية وأجاب آخرون بأن العلماء أختلفوا في أنه هل يجب على الحاكم القصاص إذا لم يطلبه الولي أم لا ؟ ولعل الأمير كرم الله تعالى وجهه ممن لا يرى الوجوب بدون طلب ولم يقع . وروى أيضاً أن الأمير رضي الله عنه قال لما جاءه عمر بن طلحة بعد موت أبيه (( مرحباً بابن أخي ، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : ] ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين [ )) وهذا ونحوه يدل على أنهما رضي الله تعالى عنهما لم يذهبا إلا طاهرين متطهرين .(9/188)
وأما تلخيص الواقعة الثانية فقد ذكر المؤرخون أن معاوية رضي الله عنه كان قد أستنصر ابنا عثمان رضي الله عنه ووكلاه في طلب حقهما من قتله أبيهما ، فلما بلغه فراغ علي كرم الله تعالى وجهه من وقعة الجمل ومسيرة إلى الشام خرج عن دمشق ( 6 ) حتى ورد صفين في نصف المحرم فسبق إلى سهولة المنزل وقرب من الفرات ، فلما ورد الأمير رضي الله عنه دعاهم إلى البيعة فلم يفعلوا ، وطلبوا منه قتلة عثمان – وكانوا قد أنحازوا إلى عسكره ، ولهم عشائر وقبائل ومع هذا لم يمتازوا بأعيانهم – فمال رضي الله عنه إلى التأخير حتى يمتازوا ويتحقق القاتل من غيره ، فأبي معاوية إلا تسليم من يزعمونه قاتلاً . وكثر القيل والقال حتى أتهم بنو أمية الأمير كرم الله تعالى وجهه بأنه الذى دلس على قتلة عثمان رضي الله عنه ، وكان كرم الله تعالى وجهه قد تصرف بسلاح عثمان فقال لذلك قائلهم :
إذا غار نجم لاح نجم يراقبه
ولا تنهبوه لا تحل مناهبه
سواء علينا قاتلوه وسالبه
كصدع الصفا لا يرأب الصدع شاعبه
وعند علي سيفه وحرائبه
وهل ينسين الماء ما عاش شاربه
كما فعلت يوماً بكسرى مرازبه
ألا ما لليلى لا تغور كواكبه
بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم ( 7 )
بني هاشم لا تعجلونا فإنه
وإنا وإياكم وما كان منكم
بني هاشم كيف التعاقد بيننا
لعمرك لا أنسى ابن أروى وقتله ( 8 )
هم قتلوه كي يكونوا مكانه
وكان الأمير كرم الله تعالى وجهه يلعن القتلة ويقول (( يا معاوية ، لو نظرت بعين عقلك دون عين هواك لرأيتنى أبرأ الناس من قتلة عثمان )) . وتصرفه رضي الله عنه بسلاحه لأنه كان من الأشياء الراجعة إلى بيت المال ، وحكمه إذ ذاك كحكم المدافع في زماننا في أن حق التصرف في ذلك للإمام .(9/189)
ثم إنه قد وقع الحرب بينهم مراراً وبقى كرم الله تعالى وجهه بصفين ثلاثة أشهر وقيل سبعة وقيل تسعة ، وجرى ما تشيب منه الرءوس وتهون معه حرب البسوس ، وليلة الهرير أمرها شهير ، وآل الأمر إلى التحكيم ، وحدث من ذلك ما أوجب ترك القتال مع معاوية والاستغال بأمر الخوارج ، وذلك تقدير العزيز العليم . وأهل السنة إلا من شذ يقولون : إن علياً كرم الله تعالى وجهه في كل ذلك على الحق لم يفترق عنه قيد شبر ، وعن مقاتليه في الوقعتين مخطئون باغون وليسوا بكافرين خلافاً للشيعة ، ولا فاسقين خلافاً للعمرية أصحاب عمر بن عبيد من المعتزلة . وأما أن الحق مع علي كرم الله تعالى وجهه فغني عن البيان ، وأما كون المقاتل باغياً فلأن الخروج على الإمام الحق بغي ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ويح عمار تقتله الفئة الباغية وقد قتله عسكر معاوية . وقوله حين اخبر بذلك (( قتله من أخرجه )) ومما لا يلتفت إليه وإلا لصح أن يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل حمزة وأضرابه ممن قاتل معه صلى الله عليه وسلم ، وكذا قول من قال : المراد من الفئة الباغية الفئة الطالبة أى لدم عثمان ، فلا يدل الخبر على البغي بالمعنى المذموم ، وأما كونه ليس بكافر فلما في نهج البلاغة أن علياً كرم الله تعالى وجهه خطب يوماً فقال : (( أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والإعوجاج والشبهة )) ، وقوله تعالى ] وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله ، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يجب المقسطين [ فسمى الله تعالى الطائفتين المقتتلين (( مؤمنين )) وامر بالإصلاح بينهما . واجاب بعض الشيعة عن الآية بأنها في قتال المؤمنين بعضهم مع بعض دون القتال مع الإمام والبغي عليه ، والخطاب فيها للأئمة أمروا أن يصلحوا بين طائفتين من المؤمنين أقتتلوا فيما(9/190)
بينهم ، وأن يقاتلوا إذا بلغت إحداهما حتى تفئ .
ولا يخفى ما في هذا الجواب من الوهن وعدم نفعه للمجيب اصلاً ، لأن الأمر الثاني يستدعى أن يكون القتال مع الإمام ضرورة فافهم . ومما يدل على ؟أن المحارب غير كافر صلح الحسن رضي الله عنه مع معاوية ، وهو مما لا مجال لإنكاره . وقد روى المرتضى وصاحب ( الفصول المهمة ) من الإمامية أنه لما أبرم الصلح بينه رضي الله عنه وبين معاوية خطب فقال : إن معاوية نازعني حقاً لي دونه ، فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة ، وقد كتنم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني ، ورأيت أن حقن دماء المسلمين خير من سفكها ولم ارد بذلك إلا صلاحكم أنتهى . وفي هذا دلالة ظاهرة على إسلام الفريق الصالح وأن المصالحة لم تقع إلا أختياراً ، ولو كان المصالح كافراً لما جاز ذلك ولما صح أن يقال (( فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة )) أهـ . فقد قال سبحانه وتعالى ] وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله [ . ويدل على وقوع ذلك أختياراً أيضاً ما رواه صاحب ( الفصول ) عن ابي مخنف من أن الحسين رضي الله عنه كان يبدى كراهة الصلح ويقول لو جز أنفى كان أحب إلى مما فعله أخى ، فإنه لا معنى لهذا الكلام لو لم يكن وقوع الصلح من اخيه رضي الله عنهما أختياراً فإن الضرورات تبيح المحظورات وهو ظاهر .(9/191)
وبعد هذا كله قد ثبت عند جمع أن معاوية رضي الله عنه ندم على ما كان منه في المقاتلة والبغي على الأمير كرم الله تعالى وجهه واتفق أن بكى عليه كرم الله تعالى وجهه . فقد أخرج ابن الجوزى عن ابي صالح قال : قال معاوية لضرار : صف لي علياً . فقال : أو تعفيني . قال : بل تصفه . فقال : أوتعفيني . قال : لا أعفيك . قال : أما ولابد فإنه كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته . كان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يقلب كفه ويخاطب نفسه . يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما خشن . كان والله كاحدنا يجيبنا إذا سألناه ، ويبتدئنا إذا أتيناه ، ويأتينا إذا دعوناه . إلى أن قال : لا تطمع القوى في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله ، فاشهد بالله لقد رايته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجوفه ، وغارت نجومه ، وقد مثل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ، فكأنى اسمعه يقول : يا دنيا يا دنيا ألى تعرضت أم بي تشوقت ؟ هيهات هيهات ، غرى غيرى قد بتتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك ، فعمرك قصير ، وعيشك حقير ، وخطوك كبير ، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق . قال : فذرفت دموع معاوية ، فما يملكها وهو ينشفها بكمه ، وقد أختنق القوم بالبكاء . ثم قال معاوية : رحم الله تعالى أبا الحسن ، كان والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ فقال : حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها . انتهى .(9/192)
وما يذكره المؤرخون من ان معاوية رضي الله عنه كان يقع في الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد وفاته ويظهر ما يظهر في حقه ويتكلم بما يتكلم في شأنه مما لا ينبغي ان يعول عليه او يلتفت إليه ، لأن المؤرخين ينقلون ما خبث وطاب ، ولا يميزون بين الصحيح والموضوع والضعيف ، واكثرهم خاطب ليل لا يدرى ما يجمع فالاعتماد على ذلك في مثل هذا المقام الخطر والطريق الوعر والمهمة القفر الذى تضل فيه القطا وتقصر دونه الخطا مما لا يليق بشان عاقل فضلاً عن فاضل .
وما جاء من ذلك في بعض روايات صحيحة وكتب معتبرة رجيحة فينبغي ايضاً التوقف عن قبوله والعمل بموجبه ، لأن له معارضات مسلمة في الصحة والثبوت . على أن من سلم من داء التعصب بما يندفع به الطعن عن أولئك السادة الماثل ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل .
( 1 ) وعندما كانت خطبة الجمعة بعد الصلاة لا قبلها كما في تفسير سورة الجمعة للحافظ ابن كثير عن ابي داود في مراسيله .
( 2 ) في حديث جابر بن عبدالله ان الذين ثبتوا مع النبي أثنا عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر .
( 3 ) أى على اللذين خرجوا عند وصول القافلة التجارية إلى المدينة ، وكان الذى جاء بالقافلة دحية بن خليفة .
( 4 ) أنظر البيان الوافى عن الأشتر في تعليقات ( العواصم من القواصم ) ص 109 ثم في ص 116 – 119 وص 122 وتقدم في هامش ص 259 أنه هو أحد اثنين زورا الكتاب على لسان عثمان إلى والى مصر . وفي تاريخ الطبري ( 5 : 194 ) أعتراف الأشتر بانه أحد قتلة عثمان ، وذلك عند ما سخط على علي كرم الله تعالى وجهه لأنه ولي عبدالله بن عباس البصرة فقال الأشتر (( ففيم قتلنا الشيخ إذن ؟ )) أما أضراب الأشتر ممن شاركه في قتل عثمان فتجد البيان عنهم في ( العواصم من القواصم ) .(9/193)
( 5 ) إنها أجتهدت واصابت ، لأنها أرادت الإصلاح والتعاون مع أمير المؤمنين علي على إقامة حدود الله في القتلة المجرمين . والدماء التى سفكت في وقعة الجمل كانت جريمة اخرى من جرائم قتلة عثمان لا يلحق منها شئ بعلي ولا بعائشة ومن معها ، ولو توفقوا إلى إقامة الحدود على قتلة عثمان ، لتغيرت الحوادث بعد ذلك ، ولما وجدت الخوارج ولا الروافض ، ولما قتل علي كرم الله تعالى وجهه . ولكن لله في كل شئ حكمه قد يطلعنا عليها وقد تخفى عنا .
( 6 ) لما أنتهى على من حرب الجمل وسار من البصرة إلى الكوفة فدخلها يوم الأثنين 12 من رجب ، وأرسل جرير بن عبداله البجلي إلى معاوية في دمشق يدعوه إلى طاعته ، فجمع معاوية رءوس الصحابة وقادة الجيوش وأعيان أهل الشام وأستشارهم فيما يطلب علي . فقالوا : لا نبايعه حتى يقتل قتلة عثمان ، أو يسلمهم إلينا . فرجع جرير إلى علي بذلك . فأستخلف علي على الكوفة ابا مسعود عقبة بن عامر وخرج منها فعسكر بالنخيلة أول طريق الشام م العراق . وبلغ معاوية أن علياً تجهز وخرج بنفسه لقتاله فخرج هو ايضاً قاصداً صفين .
( 7 ) لأن عثمان كانت جدته لأمه البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم وكنيتها أم حكيم .
( 8 ) هي أروى بنت كريز أم عثمان ، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب .
===============
الرد على من زعم أن الصحابة تركوا إنفاذ جيش أسامة(9/194)
قال الرافضي ص100 تحت عنوان: (الصحابة في سرية أسامة)، «مجمل هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم جهز جيشاً لغزو الروم قبل وفاته بيومين، وأمّر على هذه السرية: أسامة بن زيد بن حارثة، وعمره ثمانية عشر عاماً، وقد عبأ صلى الله عليه وسلم في هذه السرية وجوه المهاجرين والأنصار، كأبي بكر وعمر، وأبي عبيده، وغيرهم من كبار الصحابة المشهورين، فطعن قوم منهم في تأمير أسامة، وقالوا: كيف يؤمر علينا شاب لا نبات بعارضيه، وقد طعنوا من قبل في تأمير أبيه، وقد قالوا في ذلك وأكثروا النقد، حتى غضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً مما سمع من طعنهم وانتقادهم، فخرج معصّب الرأس محموماً، يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض، بأبي هو وأمّي، من شدة ما به من لغوب، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أبيه من قبله، وأيم الله إنه كان خليقاً بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق بها».
ثم أخذ يطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم زاعماً معارضتهم له
معارضة صريحة، حيث تباطأوا عن جيش أسامة،ولم ينفذوه حتى
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إلى أن قال ص103: «وإذا أردنا أن نتمعن في هذه القضية، فإننا سنجد الخليفة الثاني من أبرز عناصرها، إذ أنه هو الذي جاء بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخليفة أبي بكر وطلب منه أن يعزل أسامة ويبد له بغيره. فقال أبو بكر: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أتأمرني أن أعزله وقد ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ».
والجواب على هذا:
أن ما ادعاه من معارضة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم في تأمير أسامة معارضة صريحة: فمن أظهر الكذب، الذي ترده الأخبار الصحيحة.(9/195)
والثابت في هذه الحادثة أن الرسول صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه أمر أصحابه بالمسير إلى تخوم البلقاء من الشام، والإغارة على أهل مؤته، حيث قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحه الذين كانوا أمراء الرسول صلى الله عليه وسلم على غزوة مؤته المعروفة، فلما تجهز الصحابة لما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الرسول صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد أميراً عليهم، وقال له: سر إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل وأغر صباحاً على أُبْنى(1) وحرّق عليهم، وأسرع المسير تسبق الخبر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أُبْنَى: بوزن حُبْلى موضع بالشام من جهة البلقاء، معجم البلدان لياقوت الحموي 1/79.
فإن ظفرك الله بهم، فأقل اللبث فيهم، فتكلم في تأمير أسامة قوم منهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي، فرد عليه عمر وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم (1) فخطب وقال: (إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة وإن كان من أحب الناس إليّ وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده). (2)
فظاهر أن من تكلم في إمارة أسامة كانوا أفراداً من الصحابة وليس كل الصحابة، وكانوا بذلك مجتهدين في ما قالوا لأنهم خشوا أن يضعف عن الإمارة لصغر سنه، ومع هذا فقد أنكر عليهم عمر وأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم إنه جدير بالإمارة فما يعرف أن أحداً منهم تكلم فيه بعد ذلك.
فأي لوم على الصحابة -y- بقول أفراد منهم أنكره عليهم بعضهم، ثم نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهوا.
وأما ادعاء هذا الرافضي. أنهم تباطؤوا في الخروج مع أسامة حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يحصل شيء من ذلك بل إن الصحابة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(9/196)
(1) انظر: تاريخ الطبري 3/184، وفتح الباري لابن حجر 8/152.
(2) من قوله: إن تطعنوا... رواه البخاري في (كتاب المغاري، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة) فتح الباري 2/152، ح4469، ومسلم: (كتاب فضائل الصحابة،باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد)4/1884، ح2426.
بادروا بالاستعداد للقتال، وأعدوا العدة لذلك، فقد نقل ابن هشام والطبري بسنده عن ابن إسحاق قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشام وأمره أن يوطئ تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين،فتجهزالناس وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون». (1)
وفي الطبقات لابن سعد: «وعسكر بالجرف فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار، إلا انتدب في تلك الغزوة». (2)
فكان الصحابة قد تهيؤوا للخروج مع أسامة، وخرج بهم وعسكر بالجرف استعداداً للانطلاق، لكن الذي حصل بعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتدعليه المرض فجاءه أسامة وقال:(يارسول الله قد أصبحت ضعيفاً وأرجوا أن يكون الله قد عافاك فأذن لي فأمكث حتى يشفيك الله، فإني إن خرجت وأنت علىهذه الحالة خرجت وفي نفسي منك قرحة وأكره أن أسأل عنك الناس، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ). (3)
فكان أسامة هو الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم التأخر في الخروج حتى يطمئن على رسول صلى الله عليه وسلم فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم ولو أراد أسامة الخروج ما تأخر عنه أحد ممن كان تحت إمرته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سيرة ابن هشام 4/1499، تاريخ الطبري 3/184.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد 2/190.
(3) نقلة شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 5/488.(9/197)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا امتنع أحد من أصحاب أسامة من الخروج معه لو خرج، بل كان أسامة هو الذي توقف في الخروج لما خاف أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أذهب وأنت هكذا، أسأل عنك الركبان؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في المقام، ولو عزم على أسامة في الذهاب لأطاعه، ولو ذهب أسامة لم يتخلف عنه أحد ممن كان معه وقد ذهب جميعهم معه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخلف عنه أحد بغير إذنه».(1)
ثم إن أسامة بقي معسكراً في الجرف ينتظر شفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان يوم الإثنين أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقاً فدخل عليه أسامة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (أغد على بركة الله، فودعه أسامة وخرج إلى معسكره، فأمر الناس بالرحيل، فبينما هو يريد الركوب إذ رسول أمه أم أيمن قد جاءه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت فأقبل وأقبل معه عمر وأبو عبيدة، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت فتوفي عليه الصلاة والسلام). (2)
فهذا هو حقيقة ما حصل، ولم يكن تأخر خروج أسامة إلا بطلب منه أذن له فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، على أنه لم يكن بين أمر النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 6/318-319.
(2) الطقبات الكبرى لابن سعد 2/191.
أصحابه بالتهيؤ للغزو، ووفاته إلا ستة عشر يوماً، فقد كان ندبه أصحابه لذلك يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة، وعين أسامة أميراً على الجيش في اليوم الثاني.(9/198)
فلما كان يوم الأربعاء بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض فما زال مريضاً حتى توفاه الله يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول(1)، ومعلوم أن هذه المدة ليست طويلة في تجهيز جيش في مثل ذلك الوقت على أن الصحابة كانوا قد استعدوا وتهيؤوا للخروج قبل هذه المدة بكثير لولا استئذان أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأخير الخروج، فقد ثبت أن أسامة قد خرج بالجيش وعسكر في الجرف يوم الخميس أي بعد ثلاثة أيام من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ للقتال.(2)
وبهذا تبطل دعوى الرافضي في تثاقل الصحابة عن الخروج بل إن هذا يدل على سرعة امتثالهم -y- لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بتجهيزهم جيشاً كهذا قيل: إن قوامه ثلاثة آلاف مقاتل(3) بكل ما يحتاج إليه من مؤونة وعتاد في خلال ثلاثة أيام على ماهم فيه من فاقة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: المصدر السابق 2/189-191.
(2) انظر: المصدر السابق.
(3) انظر: كتاب المغازي للواقدي 3/1122، وفتح الباري لابن حجر 8/152.
وفقر وحاجة فرضي الله عنهم جميعاً، وجزاهم على جهادهم، وحسن بلائهم في الإسلام، خير ما جازى به المحسنين.
وأما زعمه: أنه كان في جيش أسامه أبو بكر وعمر، بتعيين رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما ثم تثاقلا عن الخروج معه.
فجوابه: أنه لم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر وعمر أن يلتحقا بجيش أسامة، بل ولا أمر غيرهما بذلك، إذ لم يكن من عادته إذا أراد أن يجهز سرية أو غزوة أن يعين من يخرج فيها باسمائهم، وإنما كان يندب أصحابه لذلك ندباً عاماً، ثم إذا اجتمع عنده من يقوم بهم الغرض عين لهم أميراً منهم.(9/199)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «إن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن من عادته في سراياه، بل ولا في مغازيه، أن يعين كل من يخرج معه في الغزو بأسمائهم ولكن يندب الناس ندباً عاماً مطلقاً، فتارة يعلمون منه أنه لم يأمر كل أحد بالخروج معه ولكن ندبهم إلى ذلك، كما في غزوة الغابة، وتارة يأمر الناس بصفة كما أمر في غزوة بدر أن يخرج من حضر ظهره فلم يخرج معه كثير من المسلمين، وكما أمر في غزوة السويق بعد (أحد) أن لا يخرج معه إلا من شهد أحداً، وتارة يستنفرهم نفيراً عاماً،ولايأذن لأحد في التخلف كما في غزوة تبوك...
ولما أمّر أسامة بن زيد بعد مقتل أبيه، فأرسله إلى ناحية العدو الذين قتلوا أباه لما رآه في ذلك من المصلحة، ندب الناس معه فانتدب
معه من رغب في الغزو، وروي أن عمر كان ممن انتدب معه لا أن النبي صلى الله عليه وسلم عين عمر ولا غير عمر». (1)
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعين أحداً باسمه، للالتحاق بجيش أسامة، وإنما دعا أصحابه إلى ذلك فالتحق بالجيش كبار المهاجرين والأنصار. (2)
وكان من بين هؤلاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كما نص على ذلك المؤرخون،(3) وثبت أنه فيمن خرج في معسكر أسامة بالجرف، ثم عاد للمدينة مع أسامة، لما بلغه احتضار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم بذلك النقل عن ابن سعد. (4)
ثم إن عمر - رضي الله عنه - بقي مكتتباً في جيش أسامة فلما استخلف أبو بكر وأمر بمسير الجيش استأذن أبو بكر أسامة أن يأذن لعمر بالبقاء معه لحاجته إليه.
قال الواقدي: «ومشى أبو بكر- رضي الله عنه - إلى أسامة في بيته، وكلمه أن يترك عمر، ففعل أسامة وجعل يقول له: أذنت ونفسك طيبة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 4/277-279.
(2) تقدم نقل الروايات في ذلك ص 299.(9/200)
(3) انظر: المغازي للواقدي 3/1118، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/190، وتاريخ الطبري 3/226، والبداية والنهاية 6/308، وسير أعلام النبلاء للذهبي 2/497.
(4) انظر: ص 300 من هذا الكتاب.
فقال أسامة: نعم». (1)
ويذكر الطبري أن أبابكر قال لأسامة لما شيعه في خروجه بالجيش: (إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل فأذن له). (2)
كما نص على هذا غير واحد من المؤرخين والمحققين. (3)
فثبت بهذا أن التحاق عمر بجيش أسامة كان برغبته واختياره، وأن خروجه منه كان بطلب الخليفة، وإذن الأمير فأي لوم على عمر - رضي الله عنه - في ذلك.
وأما أبو بكر فالذي عليه أكثر المؤرخين: أنه لم يكن في جيش أسامة أصلاً، فإنهم سموا من التحق بجيش أسامة من كبار الصحابة، ولم يذكروا فيهم أبا بكر.
قال الواقدي ضمن حديثه عن غزوة أسامة: «فلم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المغازي للواقدي 3/1121-1122.
(2) تاريخ الطبري 3/226.
(3) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 2/191، والبداية والنهاية لابن كثير 6/309، ومنهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 5/448، 6/319.
وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل...». (1)
وقال الطبري: «ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بعثاً على أهل المدينة ومن حولهم، وفيهم عمر بن الخطاب، وأمر عليهم أسامة بن زيد». (2)
وقال الذهبي ضمن ترجمة أسامة: «استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على جيش لغزو الشام، وفي الجيش عمر والكبار». (3)(9/201)
فلم يذكر هؤلاء المؤرخون أبا بكر في جيش أسامة، وذكروا بعض كبار الصحابة كعمر، وأبي عبيدة، وسعد وغيرهم، ولو كان أبو بكر في الجيش لكان ذكره أولى وأشهر.
وإنما عدّ أبا بكر في جيش أسامة: ابن سعد قال: «فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة فيهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة...». (4)
وإلى هذا ذهب ابن حجر في الفتح. (5)
وقال ابن كثير في سياق الموضوع: «وكان بينهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المغازي 3/1118.
(2) تاريخ الطبري 3/226.
(3) سير اعلام النبلاء 2/497.
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد 2/190.
(5) انظر: فتح الباري 8/152.
عمر بن الخطاب، ويقال: أبوبكر فاستثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة». (1)
وقد جزم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة ونقل اتفاق أهل العلم عليه.
قال:«وأبوبكر- رضي الله عنه - لم يكن في جيش أسامة باتفاق أهل العلم، لكن روي أن عمر كان فيهم، وكان عمر خارجاً مع أسامة، لكن طلب منه أبو بكر أن يأذن له في المقام عنده لحاجته إليه، فأذن له». (2)(9/202)
وقال في موضع آخر في الرد على الرافضي: «وأما قوله إنه أمّر أسامة على الجيش الذي فيهم: أبو بكر، وعمر، فمن الكذب الذي يعرفه من له أدنى معرفة بالحديث، فإن أبا بكر لم يكن في ذلك الجيش، بل كان صلى الله عليه وسلم يستخلفه في الصلاة من حين مرضه إلى أن مات. وأسامة قد روى أنه عقد له الراية قبل مرضه، ثم لما مرض أمر أبا بكر أن يصلي بالناس فصلى بهم إلى أن مات النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو قُدر أنه أُمر بالخروج مع أسامة قبل المرض، لكان أمره بالصلاة تلك المدة، مع إذنه لأسامة أن يسافر في مرضه، موجباً لنسخ إمرة أسامة عنه، فكيف إذا لم يُؤمر عليه أسامة بحال». (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية لابن كثير 6/308.
(2) منهاج السنة 6/319.
(3) المصدر نفسه 4/276-277.
وبهذا يظهر أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة. وهو قول عامة المؤرخين إلا من شذ منهم، بل نقل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- اتفاق أهل العلم والحديث على هذا، لاشتغال أبي بكر - رضي الله عنه - بالصلاة بالناس في مرض النبي صلى الله عليه وسلم .
على أن من قال بالقول الآخر، لم يقل: إن أبا بكر بقي في جيش أسامة بعد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم له بالصلاة، فهذا لم يقل به أحد من أهل العلم، لما هو معلوم عندهم بالتواتر من اشتغال أبي بكر بإمامة الناس في مرض النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، في حين أن الجيش كان معسكراً بالجرف، استعداداً للخروج. ولهذا ذكر ابن كثير أن من قال بدخول أبي بكر في جيش أسامة، ذكر أنه مستثني بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالصلاة.
فثبت بهذا بطلان ما ادعاه الرافضي: من كون الشيخين في جيش أسامة وأنهما تثاقلا عن الخروج معه.(9/203)
وأما قوله: إن عمر كان من أبرز عناصر المعارضة، وهو الذي جاء بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر، وطلب منه أن يعزل أسامة ويبدله بغيره.
فجوابه: أنه لم تكن هناك معارضة أصلاً حتى يكون لها عناصر بارزة أو غير بارزة، وإنما هذا من أوهام الرافضة، وأكاذيبهم التي يحاولون عن طريقها التلبيس على ضعاف العقول بقصد الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والنيل منهم. والعبرة في هذا بصحة النقل فأين النقل
الصحيح على صحة ما ادعى!!
على أنه قد تقدم بيان مواقف الصحابة المشرفة في سرية أسامة بالنقل الصحيح وبراءتهم من كل ما يرميهم به هذا الرافضي الحاقد، مما يغني عن إعادته هنا.
وأما قوله: إن عمر طلب من أبي بكر عزل أسامة فليس هذا رأي عمر وحده، بل رأى بعض الصحابة، وسبب هذا أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت كثير من قبائل العرب، ونجم النفاق، وتربص الأعداء بالمسلمين من كل ناحية، وقد كان في جيش أسامة جل الصحابة وخيارهم، فخشى كبار الصحابة على المدينة بعد خروج الجيش منها أن يحيط بها الأعداء، وفيها خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمهات المؤمنين، والنساء، والذراري، فأشاروا على أبي بكر أن يؤجل بعث أسامة حتى يستقر الحال، ويفرغ من قتال المرتدين، فلما أبى عليهم ذلك أشار عليه بعضهم أن يولي الجيش من هو أسن من أسامة، وأعرف بالحرب منه حرصاً منهم على سلامة الجيش في ذلك الوقت العصيب الذي يمرون به.
وبهذا جاءت الروايات:
فقد روى الطبري من حديث عروة عن أبيه قال: (لما بويع أبو بكر - رضي الله عنه - وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه، قال: ليتم بعث أسامة، وقد ارتدت العرب، إما عامة، وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم(9/204)
النفاق وأشر أبت اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقدهم نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عدوهم، فقال له الناس: إن هؤلاء جل المسلمين، والعرب -على ماترى- قد انتقضت بك، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، فقال أبو بكر: والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذنه). (1)
وفي روايه للواقدي: «فلما بلغ العرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد عن الإسلام، قال أبو بكر - رضي الله عنه - لأسامة -رحمة الله عليه- أنفذ على وجهك الذي وجهك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخذ الناس بالخروج وعسكروا في موضعهم الأول، وخرج بريده باللواء حتى انتهى إلى معسكرهم الأول فشق على كبار المهاجرين الأولين، ودخل على أبي بكر، عمر، وعثمان، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، فقالوا ياخليفة رسول الله إن العرب قد انتقضت عليك من كل جانب وإنك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئاً، اجعلهم عُدة لأهل الردة ترمي بهم في نحورهم؟ وأخرى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3/225، وأورد هذه الرواية ابن كثير أيضاً في البداية والنهاية 6/308.(9/205)
لا نأمن على أهل المدينة أن يغار عليها، وفيها الذراري والنساء، فلو استأنيت لغزو الروم حتى يضرب الإسلام بجرانه وتعود الردة إلى ما خرجوا منه، أو يفنيهم السيف، ثم تبعث أسامة حينئذ فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا؟ فلما استوعب أبو بكر - رضي الله عنه - منهم كلامهم قال: هل منكم أحد يريد أن يقول شيئاً؟ قالوا: لا قد سمعت مقالتنا، فقال: والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث، ولا بدأت بأولى منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي من السماء يقول: أنفذوا جيش أسامة). (1)
وفي رواية للطبري: أن هذا هو رأي أسامة نفسه، وهو الذي بعث عمر إلى أبي بكر بهذا وعلى هذا الرأى الأنصار أيضاً، وأنهم قالوا لعمر فإن أبى ذلك فليول الجيش أقدم سناً من أسامة، وهاهوذا نص الرواية من رواية الحسن البصري قال: (ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بعثاً على أهل المدينة ومن حولهم، وفيهم عمر بن الخطاب وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فلم يجاوز آخرهم الخندق، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر: ارجع إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه يأذن لي أن أرجع بالناس، فإن معي وجوه الناس وحدَّهم، ولا آمن على خليفة رسول الله، وثقل رسول الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المغازي للواقدي 3/1121.(9/206)
وأثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون، وقالت الأنصار: فإن أبي إلا أن نمضي فأبلغه عنا، واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة، فخرج عمر بأمر أسامة، وأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر: لو خطفتنى الكلاب والذئاب، لم أرد قضاءً قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: فإن الأنصار أمروني أن أبلغك، وإنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة، فوثب أبو بكر-وكان جالساً- فأخذ بلحية عمر، فقال له: ثكلتك أمك وعدمتك يابن الخطاب؟ استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه؟ فخرج عمر إلى الناس فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: امضوا، ثكلتكم أمهاتكم؟ مالقيت في سببكم من خليفة رسول الله؟). (1)
فظاهر من هذا أن الذي حمل الصحابة على ما قالوا إنما هو النصح لدين الله، وشفقتهم على المسلمين، وأن القول بتأجيل خروج جيش أسامة، هو قول عامة الصحابة، بما فيهم أسامة، وذلك لشدة الظروف التي كانوا يمرون بها، نظراً لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تبع ذلك من كثرة الارتداد، وشيوع النفاق، وتربص الأعداء، وطمعهم في المسلمين، في حين أن الجيش سيقطع مسافات بعيدة يخترق من خلالها كثيراً من أحياء العرب الذين لا يؤمن جانبهم، ويخشى من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 3/226.
غدرهم وردتهم، مما حمل الأنصار أن يطلبوا من عمر -كما في رواية الطبري- أن يطلب من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما عزم على مسيرة الجيش أن يولي إمرته من هو أسن من أسامة، فإنه كان شاباً عمره ثماني عشرة سنة(1)، وهذا لا مطعن فيه على أسامة، وإنما للسن أثره في الحكمة وسياسة الأمور، خصوصاً في تلك المرحلة الحرجة.(9/207)
ومع هذا فقد صمم الصديق - رضي الله عنه - على تسيير الجيش بقيادة أسامة امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثقة بنصر الله، فسار الجيش إلى ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأغار على أهل تلك البلاد فقتل أسامة قاتل أبيه وغنموا منهم ورجع الجيش سالماً إلى المدينة. (2)
والصحابة على كل حال مجتهدون في شأن جيش أسامة سواء من رأى منهم تسيير الجيش، أو لم ير ذلك، أو رأى عزل أسامة، أو لم ير ذلك، فما أرادوا من ذلك إلا الخير، والنصح لدين الله والمسلمين، وهم أبعد ما يكونون على كل ما يرميهم به الرافضة من التهم الباطلة الجائرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: سير اعلام النبلاء للذهبي 2/500.
(2) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 2/191.
===============
الرد على التيجاني بادعائه أن القرآن يذم الصحابة(9/208)
يقول التيجاني (المهتدي ) في بداية هذا المبحث (( قبل كل شيء لا بد لي أن أذكر بأن الله سبحانه وتعالى قد مدح في كتابه العزيز في العديد من المواقع صحابة رسول الله الذين أحبوا الرسول واتبعوه وأطاعوه في غير مطمع وفي غير معارضة ولا استعلاء ولا استكبار، بل ابتغاء مرضاة الله ورسوله، أولئك رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه، وهذا القسم من الصحابة الذين عرف المسلمون قدرهم من خلال مواقفهم وأفعالهم معه صلى الله عليه وسلم فأحبوهم وأجلوهم وعظموا قدرهم وترضوا عنهم كلما ذكروهم. وبحثي لا يتعلق بهذا القسم من الصحابة الذي هم محط الإحترام والتقدير من السنة والشيعة، كما لا يتعلق بالقسم الذي اشتهر بالنفاق والذين هم معرضون للعن المسلمين جميعاً من السنة والشيعة، ولكن بحثي يتعلق بهذا القسم من الصحابة الذين أختلف فيهم المسلمون(!!) ونزل القرآن بتوبيخهم وتهديدهم في بعض المواقع، والذين حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العديد من المناسبات أوحذر منهم، نعم( الخلاف ) القائم بين الشيعة والسنة هو في هذا القسم من الصحابة....))(1).(9/209)
هنا يحاول التيجاني أن يبرز السنة والشيعة على أنهم متفقون على أن من الصحابة من هم محل اتفاق وأن هناك قسم محل اتفاق أيضاً وهم المنافقون ولكن الخلاف بين السنة والشيعة هو في القسم الثالث من الصحابة! ونسي أو تناسى أنه ذكر أن أهل السنة لا يقسمون الصحابة إلى أقسام أصلاً بل يعدون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم عدول وهذه القضية عندهم من أصول الدين التي لا يجوز الخلاف فيها فادعاء التيجاني بأن الخلاف بين السنة والشيعة في أقسام الصحابة تخرص واضح وفاضح منه، أما المنافقون فهم ليسو عندهم بحال من جملة الصحابة، ولكنه هنا أبى إلا أن يجعل من الصحابة ثلاثة أقسام والغريب أن مما يؤكده التيجاني خلال بحثه المعمق أنه يرجع إلى مصادر الطرفين ولكنه هنا أقحم رأى الشيعة في تقسيم الصحابة واتخذه مرتكزاً ليلوي أعناق نصوص القرآن ويفسرها بما يوافق هواه وأهمل تماماً قول أهل السنة في الصحابة فمرحى بالإنصاف!؟
أولاً: استدلاله بالآية الأولى على ذم الصحابة والرد عليه في ذلك:
يستدل التيجاني فيما يسميها ( آية الانقلاب ): قال تعالى في كتابه العزيز { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين } فهذه الآية الكريمة صريحة وجلية في أن الصحابة سينقلبون على أعقابهم بعد وفاة الرسول مباشرة ولا يثبت منهم إلا القليل كما دلت على ذلك الآية في تعبير الله عنهم: أي عن الثابتين الذين لا ينقلبون بالشاكرين، فالشاكرون لا يكونون إلا قلة قليلة كما دل على ذلك قوله سبحانه وتعالى { وقليل من عبادي الشكور } وكما دلت عليه أيضاً الأحاديث النبوية الشريفة التي فسرت هذا الانقلاب، والتي سوف نذكر البعض منها ....))(2) وللرد عليه أقول:(9/210)
1ـ يجب على المفسر لكتاب الله أن يلم بأصول التفسير كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والخاص والعام وغيره ليكون تفسيره حسب أصول التفسير، يقول الزركشي في كتابه ( البرهان ) (( التفسير في الإصطلاح: هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وزاد فيها قوم فقالوا: علم حلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها ))(3) وأما الناقل لتفسير آية من الكتاب فيجب أن يرجع إلى أقوال أهل العلم بالتفسير وإلا لما كان لتفسيره أى مصداقية، والتيجاني لم يلتزم بتفسيره من الناحيتين فلا هو من أهل العلم بالتفسير ولا هو اعتمد على علماء التفسير ومن كانت هذه حاله فلا بد أن يأتي تفسيره سوفسطائي!؟ وهذا هو شأن أهل الأهواء.(9/211)
2ـ وأما بالنسبة لسبب نزول الآية فقد ذكر المفسرون أنها بسبب انهزام المسلمين يوم أحد حين صاح الشيطان: قد قتل محمد فقال بعض المنافقين قد قتل محمد فأعطوهم بأيديكم فإنما هم إخوانكم وقال بعض الصحابة: إن كان محمد قد قتل ألا تمضون على مامضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به فأنزل الله تعالى في ذلك {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل...}(4) وقد اعترف أحد كبار علماء الإمامية الاثني عشرية بأن هذا هو سبب نزول الآية(5)، وعلى ذلك فمعنى الآية ((هو معاتبة الله لأصحاب محمد على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل لهم بأحد إن محمداً قتل ))(6) (( فلو مات محمد أو قتل لاينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليخلد لا هو ولا هم بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد فإن الموت لا بد منه، سواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي ))(7) فقوله (( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، أي: كيف ترتدون وتتركون دينه إذا مات أو قتل مع علمكم أن الرسل تخلو ويتمسك أتباعهم بدينهم وإن فقدوا بموت أو قتل ))(8) وقوله (( ومن ينقلب على عقبيه أي: بإدباره عن القتال أو بارتداده عن الإسلام ـ فلن يضر الله شيئاً ـ من الضرر وإنما يضر نفسه ـ وسيجزي الله الشاكرين ـ أي الذين صبروا وقاتلوا واستشهدوا لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام ))(9).(9/212)
3ـ هذه الآية تعتبر أعظم دليل على عظمة أبي بكر وشجاعته وثباته وذلك عندما صدع بهذه الآية يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (( وثبوته في ذلك الموطن، وثبوته في أمر الردة، وذلك أن رسول الله لما قبض وشاع موته هاج المنافقون وتكلموا وهموا بالاجتماع والمكاشفة أوقع الله تعالى في نفس عمر رضي الله عنه أن النبي لم يقبض فقام بخطبته المشهورة المخوفة للمنافقين برجوع النبي عليه السلام ففتَّ ذلك في أعضاد المنافقين وتفرقت كلمتهم ثم جاء أبو بكر بعد أن نظر إلى النبي عليه السلام فسمع كلام عمر فقال له: اسكت، فاستمر في كلامه فتشهد أبو بكر فأصغى الناس إليه فقال: أما بعد فإنه من كان يعبد الله تعالى فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمداً فإن محمد قد مات، وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وتلا الآية كلها فبكى الناس ولم يبق أحد إلا قرأ الآية كأن الناس ما سمعوها قبل ذلك اليوم، قالت عائشة رضي الله عنها في البخاري: فنفع الله بخطبة عمر ثم بخطبة أبي بكر.... فهذا من المواطن التي ظهر فيها شكر أبي بكر وشكر الناس بسببه ))(10).(9/213)
4ـ من هنا نعلم أن قول التيجاني ( المهتدي ) (( هذه الآية صريحة وجلية (هكذا!) في أن الصحابة سينقلبون على أعقابهم بعد وفاة الرسول مباشرةً )) لا يدل إلا على عظيم جهله بأصول التفسير وبأقوال المفسرين، وإلا فليخط لنا تفسيراً واحداً أو ليأتنا بعالم واحد يفسر هذه الآية كما فسرها هو وإذا فسرت الآية حسب عقليته لأصبح المعنى أن الله سبحانه وتعالى يبشر صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم ( بكل وضوح ) أنهم سينقلبون في المستقبل القريب!!؟ فهو يجزم بحدوث انقلاب أكثر الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم لما يتوفاه الله بعد، وليس هذا فقط بل ويؤكد أنهم سينقلبون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرةً!!! وأنا لا أستغرب هذا الهراء من مثل هذا وأمثاله لأن كتب التفسير لدى الرافضة قد حشيت بأقاصيص فيها من السفاهة والسخافة ما يجعلها تصلح لإضحاك الأطفال، فضلاً من أن تسمى كتب تفاسير لكتاب العزيز الغفار، وبما أن التيجاني أيضاً قد جزم بأن أكثر الصحابة سينقلبون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرةً فلابد أن يوضح من هم الصحابة المنقلبون ومن هم الصحابة الثابتون وإلا اختلط الأمر على الأمة فلم يُعْرَفِ الصحابي من المنقلب على عقبه وخصوصاً أنه ذكر أن الشيعة يقسمون الصحابة الى ثلاثة أقسام منهم قسم من الصحابة مرضي عنهم وقسم اختلف فيهم المسلمون! ولا يُعتقد أبداً أن القرآن يبهم هذه القصية الخطيرة ليتلقفها السفهاء ويتلاعبوا بها فيضعوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على رقعة الشطرنج فيلفظوا من أرادوا ويبقوا من شاءوا، ولا أظن أن التيجاني يستطيع أن يقول بأن الصحابة الثابتين هم الثلاثة أو السبعة(*) الذين تعترف بهم الرافضة وتترضىَّ عنهم لأنه سوف يصطدم بالنصوص التي تثبت أن أبا بكر وعمر لم ينقلبوا كما أثبتُّ قبل قليل بالإضافة إلى الصحابة سعد بن أبي وقاص الذي اندقت سية قوسه وطلحة بن عبيد الله الذي قال عنه النبي صلى(9/214)
الله عليه وسلم في وقعة أحد ( أوجب طلحة ) وقتادة بن النعمان حين أصيبت عينه فردَّها له النبي صلى الله عليه وسلم فعادت كأحسن مما كانت وذلك كله في غزوة أحد التي قد انقلبوا فيها وقد أثبت ذلك الطبرسي في تفسيره ( مجمع البيان في تفسير القرآن )(11) وهؤلاء جميعاً ليسو من ضمن القسم المعظم عند أهل الرفض فما هو جواب التيجاني المهتدي وإخوانه الرافضينا؟! بالإضافة إلى أن عدم تحديد الصحابة من المنقلبين سيفتح المجال للطعن بالقرآن الكريم لأنه في عدة مواضع يمدح الصحابة ويشهد لهم بالايمان وصلاح الظواهر والبواطن، وفي مواضع أخرى يذم الصحابة ويبشر بارتدادهم عن الدين وهذا هو عين ما يسعى إليه الرافضة الاثنا عشرية وتشهد على ذلك مراجعهم الأصلية، والحق الذي يجب أن يعرفه كل مسلم هو أن الصحابة إنما هم بشر يخطئون وتقع منهم الزلات والهنات ولكنهم أهل عدل وصدق شهد لهم القرآن الكريم في غير ما موضع كما في قوله تعالى { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم } ( التوبة 100) فهذه بشارة الله سبحانه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا أن يبشرهم بالارتداد والانقلاب عن الدين كما يدعي المهتدي،...وكقول النبي صلى الله عليه وسلم (( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ))(12) فالصحابة كلهم عدول بالنص المنقول والمنطق المعقول.(9/215)
5ـ يجب على المفسر لآية أن يربطها بالآيات التي قبلها والتي بعدها لأن تمام التفسير ووضوحه مرتبط بذلك والآية التي استشهد بها التيجاني هي من ضمن غزوة أحد والأخطاء التي وقعت فيها والسورة بصدد عتاب الله للمؤمنين لما حدث لهم في هذه الغزوة وذلك أن الله أنكر عليهم أنهم بمجرد الايمان سيدخلهم الجنة دون الجهاد والابتلاء والتمحيص فقال تعالى { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } ( آل عمران 142 ـ 143) ثم ذكر بعدها مباشرة قوله { وما محمد إلا رسول...} استمرار بعتابهم على ماكان منهم في تلك الغزوة ثم ذكرهم بالآيات التي بعدها أن هناك من الأنبياء من قاتل معه الصالحون فما وهنوا وما ضعفوا وماذلوا كما حدث من بعضكم وفي الآية التي بعدها أثبت الله لصحابة نبيه صلى الله عليه وسلم الإيمان وحذرهم من طاعة الكافرين بقوله تعالى { ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } ( آل عمران 149) وبعد عتابهم ذكر الله بعد آيات أنه عفا عمن تولى يوم القتال بسبب بعض ذنبه بقوله { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم } ( آل عمران 155) ثم يذكر الله سبحانه أن المؤمنين قد استجابوا للرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ما أصابهم القرح في غزوة أحد لملاحقة أبي سفيان إلى حمراء الأسد فقال تعالى { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (فانقلبوا ) بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو الفضل العظيم } ( آل عمران 172 ـ 174) ولا شك أن هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات وهذا(9/216)
المديح هم الصحابة المنقلبون بنعمة من الله وفضل فكيف يدعي التيجاني أن الله يبشر صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم بالارتداد والانقلاب بناءاً على تفسيره الممسوخ؟!
ثم يقول التيجاني (( ولا يمكن تفسير الآية الكريمة بطليحة وسجاح والأسود العنسي، وذلك حفاظاً على كرامة الصحابة، فهؤلاء قد انقلبوا وارتدوا عن الإسلام وادعوا النبوة في حياته صلى الله عليه وسلم وقد حاربهم رسول الله وانتصر عليهم ))(13)!!؟ سبحان الله ما هذه المجازفة الجهولة؟! آلرسول صلى الله عليه وسلم يقاتل المرتدين وينتصر عليهم كيف ومتى؟! لقد ظهر مسيلمة والأسود العنسي عند قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والعنسي فقط هلك قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما طليحة وسجاح فقد ارتدا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وذلك باتفاق أهل النقل جميعاً وقد قاتل ( سيف الله المسلول ) خالد بن الوليد طليحة في معركة ( البزاخة ) وهزمه ففر إلى الشام ولكنه ما لبث أن عاد إلى حظيرة الاسلام مرة أخرى وحسن إسلامه، ثم ظهرت المرأة المتنبئة سجاح بنت الحارث وكان على رأس من اتبعها مالك بن نويرة وقد خالفها جمع من بني تميم فدار بينهم قتال ثم سارت سجاح بجيشها إلى اليمامة بعد هزيمتها من أوس بن خزيمة والتقت مسيلمة فتزوجها وعادت إلى مقرها الأول العراق وأما مسيلمة الكذاب فقد هزمه خالد بن الوليد ومعاونيه عكرمة بن أبي جهل وشرحبيل بن حسنة في معركة اليمامة الشهيرة أو عقرباء شر هزيمة، ولكن هذا التيجاني الذي يجهل التاريخ والسيرة يدعي بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي هزم المرتدين! وكل ذلك حتى يظهر أن المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة وليس هؤلاء، فوالله لو كان الجهل بقرة لذبحتها!!... وبالنسبة لقول التيجاني بأن مالك بن نويرة وأتباعه منعوا الزكاة تريثاً منهم لأنهم علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على مبايعة علي بن أبي طالب رضي الله(9/217)
عنه بغدير خُم(14) بالخلافة كما بايعه أبو بكر نفسه!؟ ولكن مالك بن نويرة وأتباعه فوجئوا بأن الخليفة المبايع هو أبو بكر لذلك توقفوا عن دفع الزكاة....فأقول للتيجاني الذي يعتذرعن المرتدين بسفاهات الرافضة ويتحامل على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بخزعبلات الشيعة خير له أن يقصّ هذه القصص المضحكة على غير أهل السنة لأنها أقل من أن يرد عليها وأرجو منه أيضاً أن يأتينا بمصدر واحد يثبت به هذا الهراء كما هي عادته بالاحتجاج بالمصادر والمراجع، وبالنسبة لقضية مالك بن نويرة فسيأتي تفصيلها في مبحث خالد بن الوليد(15).
ثانياًـ استدلاله بالآية الثانية على ذم الصحابة والرد عليه في ذلك:
يستدل التيجاني فيما يسميها ( آية الجهاد ) بقوله (( قال تعالى { ياأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير } هاتان الآيتان صريحتان أيضاً في أن الصحابة تثاقلوا عن الجهاد واختاروا الركون إلى الحياة الدنيا رغم علمهم بأنها متاع قليل، حتى استوجبوا توبيخ الله سبحانه وتهديده إياهم بالعذاب الأليم، وبإستبدالهم بغيرهم من المؤمنين الصادقين ))(1).(9/218)
1ـ اتفق المفسرون بأن هذه الآية نزلت في الحض على غزوة تبوك، وذلك بعد فتح مكة وبعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف وحنين وقد أمروا بالنفير بالصيف حيث فرقت النخل وطابت الثمار وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورّى بغيرها حتى كانت هذه الغزوة في حر شديد وسفر بعيد وعقبات كثيرة وعدو غفير فشق عليهم الخروج فأنزل الله هذه الآيات تحضهم على الجهاد وترهبهم من التثاقل عنه(2)، وقد أقر بذلك الطبرسي في تفسيره مجمع البيان(3) وعلى ذلك فمعنى الآية (( حث من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم على غزو الروم، وذلك في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك ))(4) ولا شك (( أن هذا التثاقل لم يصدر من الكل، إذ من البعيد أن يطبقوا جميعاً على التباطؤ والتثاقل وإنما هو باب نسبة ما يقع من البعض إلى الكل، وهو كثير شائع ))(5) بالإضافة إلى أن الذين تثاقلوا عن الجهاد لا رغبة عن الجهاد ولكن لما رأوه من طيب الثمار وبعد المشقة في هذه الغزوة لذلك نزلت هذه الآيات تعاتبهم وتحضهم على الجهاد، ومعلوم أن الصحابة بشر يعتريهم ما يعتري أي إنسان من الكسل وغيره ولذلك نزل القرآن في كثير من المواطن يعلم الصحابة ويوجههم ويحضهم ويرهبهم ليجعل منهم خير أمة أخرجت للناس.(9/219)
وهذا الأمر معلوم لمن تدبر القرآن فنزلت الآيات التي تبدأ بـ ( يا أيها الذين آمنوا) تسع وثمانون مرة وهي كلها للتعليم والتوجيه مثل قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص ..} و { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام.. } و {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم .. } و { يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم.. } و { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا.. } و {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته.. } و { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة.. } و { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا .. } و { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود .. } و { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى.. } و { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان .. } و { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول .. } و { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم .. } الخ ، لذلك يقول ابن مسعود: إذا سمعت الله يقول { يا أيها الذين آمنوا } فأوعها سمعك فإنه خيرٌ يؤمر به أو شر ينهى عنه(*) فالسياق القرآني جاء لتعليم الصحابة الخير أو نهيهم عن الشر ولكن يبدوا أن عقدة العصمة التي أنزلها الرافضة على أئمتهم جعلتهم يعتقدون أن أي خطأ أو تقصير يصدر عن الصحابة يعتبر قدحاً بهم فنسأل الله العصمة من عقدة ( العصمة ).(9/220)
أما بالنسبة لقوله تعالى { إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً .. } فهذا فيه توعد من الله تعالى لمن ترك الجهاد وقال ابن عباس: ( استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا من العرب فتثاقلوا عنه فأمسك الله عنهم القطر فكان عذابهم )(6) ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم قد خرجوا مع نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك ولم يمسهم من عذاب الله شيء ، وأحب أن أبشر التيجاني أن أحداً ممن يقصدهم بالتثاقل والركون إلى الدنيا ليس ضمنهم أبو بكر أو عمر أو عثمان فأما أبو بكر فقد جاء بجميع ماله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليجهز الجيش ولم يبق لأهله إلا الله ورسوله(7)، بالإضافة الى أن الله سبحانه أثبت له الصحبة لنبيه صلى الله عليه وسلم فذكر بالآية التي تلي الآية التي نحن بصددها مباشرة { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغارإذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا... } لذلك قال الحسين بن الفضل: من قال إن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكاره نص القرآن وقال الشعبي: عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه(8) وأما عمر فقد جاء بنصف ماله للنبي صلى الله عليه وسلم وجاء عثمان بألف دينار فنثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وجهز جيش العسرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين ))(9) وأما عبد الرحمن بن عوف فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلفه في غزوة تبوك(10) ثم جاء البكاؤون وهم السبعة الذين أنزل الله تعالى فيهم قوله { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدواما ينفقون } ( التوبة 92) وتخلف عن الغزوة نفر من المسلمين من غير شك ولاارتياب منهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وهم الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزوة(9/221)
وتخلف أيضاً أبو خيثمة وأبوذر ثم لحقا بالجيش الذي كان تعداده ثلاثون ألفاً ثم تاب الله تعالى بعد ذلك عن الثلاثة المتخلفين عن الغزوة فقال تعالى { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب الله عليهم إنه بهم رؤوف رحيم } ( التوبة 117) فهذا ثناء مبارك من الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من المهاجرين والأنصار وأنه تعالى قد غفر لهم بعدما خرجوا لقتال الكافرين في غزوة تبوك { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } فيميلوا إلى الدعة والسكون ولكن الله ثبتهم وقواهم(11) وتاب عليهم ولذلك يقول ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبداً(12) وقال الجصاص في كتابه ( أحكام القرآن ) في هذه الآية (( فيه مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار وإخبار بصحة بواطن ضمائرهم وطهارتهم لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم ورضي أفعالهم وهذا نص في رد الطاعنين عليهم والناسبين لهم إلى غير ما نسبهم إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر رضي الله عنهم))(13) ثم أقول: أليست غزوة تبوك هذه كانت آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مع صحابته رضوان الله عليهم جميعاً وكانوا قد أبلوا أعظم البلاء في جميع الغزوات الأخرى التي غزوها مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل بدر وأحد والخندق ثم فتح مكة ثم غزوة حنين ومؤتة فكان النصر والفتح حليفهم ثم إنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أكملوا طريق الجهاد فحفظوا الدين من المرتدين وفتح الله على أيديهم إيران والعراق والشام ومصر...فكيف يقال بعد هذا أن الصحابة تثاقلوا عن الجهاد واختاروا الركون إلى الحياة الدنيا؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.(9/222)
3ـ ولو راجعنا أكثر من تفسير من تفاسير الشيعة الاثني عشرية حول هذه الآية لما وجدناهم قد اتخذوا هذه الآية لذم الصحابة بمعنى أنهم تثاقلوا عن الجهاد واختاروا الركون إلى الحياة الدنيا فهذا المفسر الطبرسي يقول في تفسيره لهذه الآية (( ثم (عاتب ) سبحانه المؤمنين في التثاقل عن الجهاد فقال { ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم } أي دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لكم { انفروا في سبيل الله } أي اخرجوا إلى مجاهدة المشركين وهو هاهنا غزوة تبوك... عن الحسن ومجاهد { اثاقلتم إلى الأرض } أي تثاقلتم وملتم إلى الأرض التي أنتم عليها، قال الجبائي: هذا الاستبطاء مخصوص بنفر من المؤمنين لأن جميعهم لم يتثاقلوا عن الجهاد فهو عموم أريد به الخصوص بدليل ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) هذا استفهام يراد به الإنكار، ومعناه آثرتم الحياة الدنيا الفانية على الحياة في الآخرة الباقية في النعيم الدائم ...الخ ))(14) والطبرسي هنا لم يتخذ من هذه الآية أي طعن في الصحابة ولكنه فسرها كتفسير أهل السنة بأنها عتاب وحض للمؤمنين لجهاد الكافرين في غزوة تبوك وذلك لأنها كانت في وقت شدة على المسلمين ... ويقول الكاشاني في تفسيره ( الصافي ) (( { ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض...} تباطأتم مخلدين إلى أرضكم والإقامة بدياركم، في الجوامع كان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف، ( استنفروا في وقت قحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق ذلك عليهم ) ثم يروي القمي رواية في سبب المعركة ثم يقول: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أصحابه ) (!) بالتهيؤ إلى تبوك وهي من بلاد البلقاء وبعث إلى القبائل حوله وإلى مكة وإلى من أسلم من خزاعة ومزينة وجهينة وحثهم على الجهاد وأمر رسول الله بعسكره فضرب في ثنية الوداع وأمر أهل الجدة أن يعينوا من لا قوة به ومن كان عنده(9/223)
شيء أخرجه وحملوا وقووّا وحثوا على ذلك، ثم خطب خطبة ورغب الناس في الجهاد قال: وقدمت القبائل من العرب ممن استنفروهم وقعد عنه قوم من ( المنافقين )(!) وغيرهم ))(15) فهل القارىء يستشف من كلام الكاشاني هذا ما يفيد الطعن بالصحابة أو أنهم ركنوا إلى الدنيا وتركوا الجهاد ؟! بل العكس فإن كلام الكاشاني يؤكد صحة تفاسير أهل السنة بالإضافة إلى أن القارىء النبيه يلحظ بأن الكاشاني ( الإثنا عشري ) يؤكد أيضاً على صحة عدم تقسيم الصحابة الى ثلاثة أقسام من ضمنها المنافقين فإنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ( أصحابه ) بالتهيؤ للجهاد وأصحاب عامّة أي تفيد جميع الصحابة بينما ذكر أنه قعد عنه قوم من المنافقين فلو كان المنافقون من جملة الصحابة كما يدعون لقال أن قوما من ( الصحابة المنافقين ) قعدوا عن الجهاد فسبحان الله كيف يجري الحق على ألسنتهم.(9/224)
4ـ وحتى نستطيع أن نكتشف إلى أى سفاهه وصل اليها هذا التيجاني في تفسيره لكتاب رب الأرباب دون معرفة أصول التفسير أو الرجوع إلى علماء التفسير، فلو أردنا مثلاً أن نفسر بعض الآيات على نفس النمط الذي يفسر به التيجاني الآيات القرآنية فنأتي بالمثال التالي يقول الله سبحانه { يأيها النبي اتق الله ولا تطع المنافقين والكافرين إن الله كان عليما حكيماً } ( الأحزاب 1) فلو أردنا تفسيرها حسب المنطق التيجاني! فسيكون المعنى: أن الله سبحانه قد هدد نبيه وأمره بأن يتقيه وبعدم طاعة الكافرين والمنافقين وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلملم يتق الله سبحانه في دعوته وقام بطاعة المنافقين والكفار...!! أليس هكذا يفسر التيجاني نصوص الكتاب ويحملها مالا تحتمل ومثال آخر كقوله سبحانه في سورة المائدة { يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين } ( المائدة 67) وحسب التفسير التيجاني فسيكون التفسير ( أن الله سبحانه هدد النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بتبليغ الرسالة وأنه إن لم يبلغ ما أنزل اليه فإنه سيكون كمن لم يبلغ الرسالة وهذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم مقصر ومتهاون في تبليغ ما أنزل إليه ربه وكان لا بد من توبيخ الله سبحانه له )!؟ أليس هكذا يفسر التيجاني نصوص الكتاب العظيم ويحمِّلها ما لا تحتمل حتى أتى بالأعاجيب ... أليس هذا تلاعب في كتاب الله سبحانه وامتهان لقدسيته وإني ما أردت الإتيان بهذين المثالين إلا للتدليل للقارىء على أن هذا المفسر المفرط كم يحيد عن الحق ولا يرجع إلى أصول التفسير وأقوال المفسرين، وهو بذلك سيجعل كتاب الله ألعوبة لكل أحمق أن يقول في كتاب الله ما يشاء، والغريب حقيقة في الأمرأن التيجاني نفسه يقول ( فكتاب الله صامت وحمال أوجه وفيه المحكم والمتشابه ولا بد لفهمه من الرجوع الى الراسخين في(9/225)
العلم حسب التعبير القرآني وإلى أهل البيت حسب التفسير النبوي )(16)!؟ فهل رجع التيجاني نفسه إلى الراسخين في العلم وإلى أهل البيت في تفسيره لنصوص الكتاب؟! أم اتبع هواه وأعماه التحامل على رجال خير القرون، فجاء ببهتان من القول لم يسبقه إليه أحد من العالمين!؟
ثم يقول التيجاني (( وقد جاء هذا التهديد باستبدالهم في العديد من الآيات مما يدل دلالة واضحة على أنهم تثاقلوا عن الجهاد في مرات عديدة، فقد جاء في قوله تعالى { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ))(17)(9/226)
أقول: هذه الآية جزء من الآية التي نزلت في الحض على الإنفاق في سبيل الله فالآية بكاملها هي في قوله تعالى { هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } وذكر المفسرون أن الله تعالى يقول للمؤمنين ها أنتم أيها الناس تدعون للإنفاق في سبيل الله وإخراج مافرض عليكم فمنكم من يبخل بالإنفاق مما فرض عليه كالزكاة وغيرها وأن من يبخل إنما يبخل عن نفسه وينقص نفسه من الأجر وأن الله تعالى هو الغني وأن كل ما سواه فقير(18) وأما قوله تعالى { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} أي إن تتولوا عن طاعة الله واتباع شرعه فسوف يستبدل بكم قوماً غيركم ولكنهم سامعين وأطوع لله منكم ولا يبخلوا بالإنفاق في سبيل الله(19) فهذا هو تفسير الآية عند مفسري أهل السنة كافة فكيف يدعي هذا التيجاني أن هذه الآية دليل على أن الصحابة تثاقلوا عن الجهاد مرات عديدة!؟ والآية ليس فيها ذكر للجهاد أصلاً! فمن أين إذاً جاء التيجاني بتفسيره هذا؟ وهل هذا هو تفسير الرافضة، يقول أبوعلي الطبرسي في تفسيره لهذه الآية { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله } ـ يعني ما فرض عليهم في أموالهم أي إنما تؤمرون بإخراج ذلك وإنفاقه في طاعة الله ( فمنكم من يبخل ) بما فرض عليه من الزكاة ( ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ) لأنه يحرمها مثوبة جسيمة ويلزمها عقوبة عظيمة ... ثم يقول ( والله غني ) عما عندكم من الأموال ( وأنتم الفقراء ) إلى ما عند الله من الخير والرحمة أي لا يأمركم بالإنفاق لحاجته ولكن لتنتفعوا به في الآخرة ( وإن تتولوا ) أي تعرضوا عن طاعته وعن أمر رسوله ( يستبدل قوماً غيركم ) أمثل وأطوع لله منكم ( ثم لا يكونوا أمثالكم ) بل يكونوا خيراً منكم وأطوع لله...))(20) وهذا محمد مغنية يقول في تفسيره (( { ها أنتم(9/227)
هؤلاء } إشارة إلى الأغنياء { تدعون لتنفقوا في سبيل الله } قال سبحانه ( تدعون ) ولم يقل نأمركم، وكأنه يروض من نفوس الأغنياء، ويبعثهم على البذل عن طيب نفس، وأوضح من هذه الآية في ذلك الإستقراض الحسن {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } لأن البذل وقاية من النار وغضب الجبار، وفي الحديث حصنوا أموالكم بالزكاة { والله الغني وأنتم الفقراء } إن ملكت أيها الإنسان الكون بأرضه وسمائه، فأنت مفتقر إلى عنايته وتدبيره { وإن تتولوا } تبخلوا بالمال وبذله في سبيل الله { يستبدل قوماً غيركم } يسبحون بحمده وبأمره يعملون ))(21)، فهذا هو تفسير الطبرسي ومغنية لهذه الآية وهما موافقان لتفسير أهل السنة أيضاً فمن أين جاء التيجاني بتفسيره ذاك؟! والجواب بسيط لمن علم حقيقة القوم لأنهم لا يستندون على أصول التفسير الذي حدده العلماء والذي ذكرته في بداية هذا المبحث وإنما يستندون على مبدأ اتباع الهوى والكذب والتناقض وحتى أدلل على كلامي هذا فسأجدني مضّطراً لكي أسوق قول أحد مفسري الشيعة الاثني عشرية والذي يأتي بتفسير لهذه الآية يناقض تفسير التيجاني والطبرسي..... يقول علي بن ابراهيم القمي (( { ها أنتم هؤلاء } ومعناه أنتم يا هؤلاء { تدعون لتنفقوا في سبيل الله ـ إلى قوله ـ وإن تتولوا } عن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام { يستبدل قوما غيركم } قال: يدخلهم في هذا الأمر [ أي ولاية علي ] { ثم لا يكونوا أمثالكم } في معاداتكم وخلافكم وظلمكم لآل محمد صلى الله عليه وسلم ))(22)! فأقول لطالب الحق والهداية الحقة أمفسرون متناقضون تمام التناقض لآية واحدة محكمة خير أم تفسير واحد لمفسري أهل السنة يستند على أصول التفسير وقواعده؟! ويكفي أن أقول أن الحق واحدٌ لا يتعدد وأنَّ التناقض والاضطراب علامة على البطلان فأي الطريقين ياطالب الحق تختار؟!(9/228)
ثم يسترسل فيقول (( وكقوله تعالى أيضاً { ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } ))(23) أقول:
1ـ هذه الآية أعظم دليل على عظمة هؤلاء الصحابة وأنهم هم المقصودون بها فقد روى جمع من المفسرين أنها نزلت في أبي بكر وأصحابه ذكر ذلك الحسن والضحاك وقتادة وابن جريج(24) وذكر الطبري في تفسيره أن علياً بن أبي طالب قال نزلت في أبي بكر وأصحابه!! وقال بعض المفسرين نزلت في الأنصار وقال بعضهم في أهل اليمن قوم أبي موسى الأشعري وعلى كل حال الآية عامة في كل هؤلاء ولا شك أن أولهم أبوبكر وعمر وعثمان وعلي ثم بقية الصحابة، ويؤكد على ذلك الطبرسي في تفسيره عند ذكر الآية ((.. واختلف فيمن وصف بهذه الأوصاف منهم فقيل هم أبو بكر واصحابه الذين قاتلوا أهل الردة عن الحسن وقتادة والضحاك، وقيل هم الأنصار عن السدي وقيل هم أهل اليمن عن مجاهد .... وقيل أنهم أهل فارس ..... وقيل هم أمير المؤمنين على (ع) وأصحابه ))(25)(9/229)
2ـ ولكي أدلل على أن الصحابة وفي مقدمتهم الخلفاء الأربعة هم أول الداخلين في عموم هذه الآية، أن الله يقول فيها { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ولا شك ان الله يحب صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم الذين آووه ونصروه وجاهدوا معه فاستحقوا رضى الله سبحانه إذ يقول { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم } ( التوبة 100) وقوله { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ...} ( الفتح 18 ـ 19) ولا شك أن المهاجرين والأنصار والذين بايعوه تحت الشجرة هم الصحابة الكرام وأسبقهم الخلفاء الأربعة، رضي الله عنهم موجب للمحبة أيضاً، أما قوله ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) دليل واضح وصفة لازمة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأولهم أبوبكر وعمر بدليل قوله تعالى { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ...} ( الفتح 29) ولا يختلف إثنان بأن الذين مع محمد صلى الله عليه وسلم وأولهم صاحباه أبو بكر وعمر ثم عثمان ثم علي ثم الأمثل والأمثل وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( أرحم أمتي بأمتي أبوبكر..))(26) وأما قوله { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } فمعلوم أن الصحابة كانوا من أوائل المجاهدين في سبيل الله والآيات التي تؤكد ذلك تملأ القرآن لمن تدبره وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أشهر من أن تُذكر فهذه صفة دائمة لهم، فلا يعقل لمن استخدم عقله أن يَعْتَقِدَ مُعتَقَداً أن الصحابة ارتدوا بدليل الآية لأن الصحابة في زمن خلافة أبي بكر قاتلوا ( المرتدين ) وانتصروا عليهم فلا يعقل أن ينتصر المرتدون على المؤمنين فإن كان العكس فقد ظهر الحق والحمد لله رب العالمين ولا شك أن(9/230)
هذا الجهاد دليل أيضاً على صحة خلافة (( أبي بكر وعمر وعلى لأنهم جاهدوا في سبيل الله عز وجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوا المرتدين بعده ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي لله تعالى ))(27)
3ـ والتيجاني عندما ذكر هذه لآية وعدها من الدلائل البينات على ارتداد الصحابة أراد بذلك أن يبين أن القوم الذين يحبهم الله ويحبونه والأذلة على المؤمنين الأعزة على الكافرين والذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم هم علي وأصحابه!؟ ولهذا أيضاً يقول علي القمي في تفسيره لهذه الآية (( وأما قوله { ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله } قال: هو مخاطبة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين غصبوا آل محمد حقهم وارتدوا عن دين الله (!!!) { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } نزلت في القائم عليه السلام وأصحابه (!!!!) { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}..))(28) ومع سفاهة هذا القول ونتانته ومخالفته للواقع وللتاريخ فإن القائم ـ والذي لم يتجاوز عمره الخمس سنوات!! ـ لم يخرج حتى هذه الساعة!؟ ومع ذلك لا بد من أن أقول إذا كانت هذه الآية نزلت في القائم الخيالي الذي لم يتجاوز الحلم ( وأصحابه ) فهلموا معاً لنلقي نظرة ونعرف كيف كان جهاد أصحاب الإمام الوصي وأولاده الاثني عشر من ألسنتهم وهم ( السابقون ) ـ ومن مصادر الشيعة ـ لنستطيع أن نحدد مستقبل الجهاد على يد القائم الخيالي وأصحابه وهم ( اللاحقون ) ليرى القارئ وطالب الحق هل هذه الآية تنطبق عليهم؟ ومن كتبكم ندينكم، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في كتاب ( نهج البلاغة ) وهو عندهم من أصدق الكتب يصف جهاد أصحابه (( أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة(9/231)
وجُنَّتُهُ الوثيقة فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء ودُيِّثَ بالصغار والقَمَاءة، وضرب على قلبه بالأسداد وأديل الحق منه بتضييع الجهاد وسيم الخسف، ومنع النصف. ألا وإني قد دعوتكم لقتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان(29) ..... فيا عجباً! عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يُرمى يُغار عليكم ولا تغيرون وتُغْزَوْن ولا تَغْزون، ويُعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حَماَرَّةُ القيْظ(30) أمهلنا يسبخ عنا الحر وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صَباَرَّةُ القُرِّ(31) أمهلنا ينسلخ عنا البرد كل هذا فراراً من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر(!!) ياأشباه الرجال ولا رجال (!!) حلوم الأطفال عقول ربات الحجال، لوددت أني لم أراكم ولم أعرفكم معرفة، والله جرت ندما وأعقبت سدماً فأذلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيْحاً، وشحنتم صدري غيظاً وجرعتموني نُغب التَّهام أنفاساً، وأفسدتم على رأياً بالعصيان والخذلان.....))(32) ويقول في موضع آخر يصفهم (( أيها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم كلامكم يُوهي الصُّمَّ الصِّلاب وفعيلكم يطمع فيكم الأعداء تقولون في المجالس كيت وكيت فإذا جاء القتال قلتم حِيْدِي حَيَادِ(33) .... المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب (!) ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل، أصبحت والله لا أصدق قولكم ولا أطمع في نصركم ولا أوعد العدوبكم.....))(34) ويقول في موضع آخر يصفهم (( أف لكم! لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً؟ وبالذل من العز خلفا(35) إذا دعوتكم إلى جهاد(9/232)
عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة يرتج عليكم حواري فتعمهون، فكأن قلوبكم مأْلُوسة فأنتم لا تعقلون.....ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر، لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم تكادون ولا تكيدون وتنتفض أطرافكم فلا تمتعضون لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون))(36) ثم يقول في موضع آخر (( الذليل والله من نصرتموه، ومن رمى بكم فقد رُمي بأفق ناصل، وإنكم والله لكثير في الباحات، قليل تحت الرايات.....أضرع الله خدودكم(37) وأتعس جُدُودكم لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل، ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحق ))(38) ويقول في موضع آخر (( استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سراً وجهراً فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا.....ثم يقول: لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم ))(39)!!!؟ وقال الحسن بن علي رضي الله عنه واصفاً شيعته الأفذاذ! بعد أن طعنوه (( أرى والله أن معاوية خير لي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي، والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي واومن به في أهلي، خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وأهلي ))(40)!؟ وهذا الحسين رضي الله عنه يوجه كلامه إلى أبطال الشيعة فيقول (( تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً وبؤساً لكم حين استصرختمونا ولهين، فأصرخناكم موجفين، فشحذتم علينا سيفاً كان في أيدينا، وحمشتم علينا ناراً أضرمناها على عدوّكم وعدوّنا، فأصبحتم إلباً على أوليائكم، ويداً على أعدائكم من غير عدلً أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، ولا ذنب كان منا إليكم، فهلا لكم الويلات إذ كرهتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن...))(41) وهذا محمد الباقر خامس الأئمة الاثني عشر يصف شيعته بقوله (( لو كان الناس كلهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم لنا شكاكاً والربع(9/233)
الآخر أحمق ))(42)!! وأما بالنسبة للإمام موسى جعفر سابع الأئمة فيكشف عن أهل الردة الحقيقيون فيقول (( لو ميزت شيعتي لم أجدهم إلا واصفة ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين (!!!!) ولو تمحصتهم لما خلص من الألف واحد (!؟) ولو غربلتهم غربلة لم يبق منهم إلا ماكان لي انهم طالما اتكوا على الأرائك، فقالوا: نحن شيعة علي إنما شيعة علي من صدق قوله فعله ))(43) فإذا كانت هذه صفات شيعة علي وأولاده فلست أدري والله كيف سيكون حال شيعة القائم آخر الأئمة والذي لم يبلغ الحلم فاللهم سلّم سلّم!!؟ ...وبعدما يوبخ علي أصحابه كل هذا التوبيخ لا ينسى أن يأتي لهم بنموذج محتذى لكي يتأسوا به فيتعظوا فلا يجد إلا الصحابة ( المرتدين ) فيقول (( لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى أحداً يشبههم منكم (!!) لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً وقد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأن بين أعينهم ركب المعزي من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب(44) ))(45) ثم يصف قتاله مع الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (( ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً ومضينا على اللَّقَم، وصبراً على مضض الألم وجِدّاً في جهاد العدِّو، ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقيا جرانه ومتبوِّئاً أوطانه ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم(46)، ما قام للدين عمود ولا اخضرَّ للايمان عود (!!) وأيم الله لتحتلبنها دماً ولتتبعنها ندماً ))(47) فهؤلاء هم أصحاب علي(9/234)
وأولاده رضي الله عنهم وأولئك هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في نظر علي أيضاً ومن حبر كتبكم، ولكن يأبى التيجاني والقمي وأشياعهما إلا مخالفة المعقول والرضا بما تحار منه العقول، فلا أستطيع وصفهم إلا كما وصفهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله ( لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحق ))!؟
ثم يسترسل فيقول (( ولو أردنا استقصاء ما هنالك من الآيات الكريمة التي تؤكد هذا المعنى وتكشف بوضوح عن حقيقة هذا التقسيم الذي يقول به الشيعة بخصوص هذا القسم من الصحابة لاستوجب ذلك كتاباً خاصاً، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بأوجز العبارات وأبلغها حين قال: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) صدق الله العلي العظيم، وهذه الآيات كما لا يخفى على كل باحث مطلع تخاطب الصحابة وتحذرهم من التفرقة والاختلاف من بعد ما جاءهم البينات وتتوعدهم بالعذاب العظيم وتقسمهم إلى قسمين قسم يبعث يوم القيامة بيض وهم الشاكرون الذين استحقوا رحمة الله، وقسم يبعث مسود الوجوه وهم الذين ارتدوا بعد الأيمان وقد توعدهم الله سبحانه بالعذاب العظيم ))(48) أقول:(9/235)
1ـ قال المفسرون في تفسير هذه الآية (( ولتكن منكم أيها المؤمنون جماعة يدعون الناس إلى الخير والإسلام وشرائعه (ومن) في منكم للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، وينهونهم عن الكفر بالله وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا...} قال جمهور المفسرين هم اليهود والنصارى، وقال بعضهم هم المبتدعة من هذه الأمة وقال أبو أمامة: هم الحرورية ))(49)(( وأما قوله تعالى { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه...} فقد اختلف أهل التفسير في تعيينهم فقال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة، وقال الحسن البصري: هم المنافقون كانوا أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم، وقال أبو أمامة: هم الخوارج فعن أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رؤوساً منصوبة على درج دمشق فقال أبو أمامة: كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } إلى آخر الآية، قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً ـ حتى عد سبعاً ـ ما حدثتكموه ))(50) وعن قتادة هم المرتدون، وقيل عنه أيضاً:هم أهل البدع فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إني فرطكم على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم وسيؤخذ ناس دوني، فأقول: يارب مني ومن أمتي، فيقال لي هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم ))(51) وقال أبي بن كعب: هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم وأقروا كلهم بالعبودية وفطرهم على الإسلام فكانوا أمة واحدة مسلمين. وقال القرطبي ((والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله مالا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتعدين منه مسودي الوجوه، وأشدهم(9/236)
طرداً وإبعاداً من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها (!!) والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون...))(52) وقال ابن جرير الطبري (( وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن أبي بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار، وأن الإيمان الذي يوبخون على ارتدادهم عنه هو ايمان الذي أقرّوا به يوم قيل لهم { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } ))(53) فهذه هي أقوال المفسرين لهذه الآية فهل ترى رعاك الله أحداً منهم قال هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتهم الخلفاء الثلاثة؟! فلست أدري والله من أين يأتي هذا التيجاني بتلكم التفاسير.(9/237)
2ـ أما بالنسبة لمفسري الشيعة فسوف أسوق بعض أقوالهم في تفسير هذه الآية حتى تتضح الصورة أكثر ويظهر النور وسط ظلمات التيجاني، يقول الفضل الطبرسي في مجمع البيان عند تفسير هذه الآية (( { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } في الدين وهم اليهود والنصارى ( واختلفوا ) قيل معناه تفرقوا أيضاً .......{ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وإنما تبيض فيه الوجوه للمؤمنين ثواباً لهم على الإيمان والطاعة وتسود فيه الوجوه للكافرين عقوبة لهم على الكفر والسيئات بدلالة مابعده وهو قوله { وأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } أي يقال لهم أكفرتم بعد ايمانكم واختلف فيمن عنوا به على أقوال: أحدها: أنهم الذين كفروا بعد إظهار الإيمان بالنفاق...عن الحسن، وثانيهما: أنهم جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم الإقرار به من التوحيد حيث أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فيقول أكفرتم بعد إيمانكم يوم الميثاق عن أبي بن كعب، وثالثهما: أنهم أهل الكتاب كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به...عن عكرمة واختاره الزجاج والجبائي، ورابعها: أنهم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة عن علي (ع) ومثله عن قتادة أنهم الذين كفروا بالارتداد، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال والذي نفسي بيده ليردن على الحوض.....الحديث ذكره الثعلبي في تفسيره، فقال أبو أمامة الباهلي: هم الخوارج ويروي عن النبي أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ....))(54) فها هو تفسير الطبرسي لهذه الآية ولم يذكر أبداً أن الآية تعني الصحابة بحال مع أنه ذكر أربعة أقوال لتفسيرها أما حديث ما يسمى بالحوض فالمقصود به هم المرتدون وأهل الأهواء كالخوارج ومن نحا نحوهم كما ذكر ذلك الطبرسي وسيأتي بالمبحث القادم زيادة توضيح لهذا الحديث، أما بالنسبة لتفسير الصافي للفيض الكاشاني فقد ذكر في تفسير هذه الآية قوله (( ولا تكونوا كالذين تفرقوا ـ كاليهود والنصارى(9/238)
اختلفوا في التوحيد والتنزيه وأحوال الآخرة ـ من بعد ما جاءتهم البينات ـ الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه...... يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ـ كنايات عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه......فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ـ على إرادة القول أي فيقال لهم أكفرتم والهمزة للتوبيخ والتعجب من الهم في المجمع عن أمير المؤمنين (ع) هم أهل البدع والأهواء والآراء الباطلة من هذه الأمة وعن النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ليردن علي الحوض .......الحديث))(55) وهذا التفسير كسابقه ولا يوجد أي تصريح بأن المقصودين بالآية هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن القمي أورد في تفسيره لهذهالآية حديثاً عجيباً ..(( قال على بن ابراهيم القمي في قوله { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ـ إلى قوله ـ ففي رحمة الله هم فيها خالدون } فإنه حدثني أبي، عن صفوان بن يحي، عن أبي الجارود، عن عمران بن هيثم، عن مالك بن ضمرة، عن أبي ذر رحمة الله عليه قال لما نزلت هذه الآية { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرد على أمتي يوم القيامة على خمس رايات، فراية مع عجل هذه الأمة فسألهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدي، فيقولون: أما الأكبر فحرفناه ونبذناه وراء ظهورنا، وأما الأصغر فعاديناه وأبغضناه وظلمناه، فأقول: ردوا النار ظمآء مظمئين، مسودة وجوهكم ثم ترد علي راية مع فرعون هذه الأمة، فأقول لهم : ما فعلتم بالثقلين من بعدي، فيقولون: أما الأكبر فحرفناه ومزقناه وخالفناه، وأما الأصغر فعاديناه وقاتلناه، فأقول ردّوا النار ظمآء مظمئين مسودة وجوهكم ثم ترد علي راية مع سامري هذه الأمة، فأقول لهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدي، فيقولون: أما الأكبر فعصينا وتركناه، وأما الأصغر فخذلناه وضيعناه، وصنعنا به كل قبيح، فأقول: ردوا النار ظمآء مظمئين مسودة وجوهكم، ثم ترد علي راية ذي الثدية مع أول الخوارج(9/239)
وآخرهم فأسألهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدي، فيقولون: أما الأكبر ففرقناه وبرئنا منه وأما الأصغر فقاتلناه وقتلناه، فأقول: ردوا النار ظمآء مظمئين مسودة وجوهكم، ثم ترد علي راية مع إمام المتقين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين، ووصي رسول رب العالمين، فأقول لهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدي، فيقولون: أما الأكبر فاتبعناه وأطعناه، وأما الأصغر فأحببناه وواليناه ووازرناه ونصرناه حتى أهرقت فيهم دماؤنا فأقول ردوا الجنة رواء موريين مبيضة وجوهكم، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه....))(56) هذه الرواية التي يفسر بها هذا القمي الآية السابقة مع مخالفتها مع المفسرين السابقين مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم وباطلة سنداً ومتناً، فمن ناحية المتن لا تستقيم من وجهين، أولاً: لقد جاء هذا الدين لنصر الإسلام وجعل العبودية لله سبحانه بعدما حرفت التوراة والإنجيل فجاءت هذه الرسالة موضحة للطريق ورا سمة لمعالمه، وهي قضية التوحيد فمن آمن بالله سبحانه وعمل بمقتضى هذا الإيمان فهو من أهل الحق في الدنيا ومن أهل النجاة في الآخرة والله يقول فى أكثر من موضع { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ...} ( العنكبوت 7) { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين...} ( العنكبوت 9) { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية...} ( البينة 7) ...الخ، فليست القضية مرتبطة بعلي أو بغيره من الناس، وأما كتاب الله فلا يتردد من لايشك بأنه يعقل أن يقول بأن الصحابة هم الذين حفظوا القرآن واتبعوه وعملوا به وعظموه في قلوبهم، هذا من جهة، وثانياً: فإن الرواية تخبر عن أنصار علي بأنهم نصروه وقاتلوا دونه ـ وأما الأصغر فأحببناه وواليناه ونصرناه حتى أهرقت فيهم دماؤنا! ـ هذا الكلام لا شك بأنه يصطدم مع ما مر معنا قبل قليل من أن علياً وابنيه قد ذموا شيعتهم بما لم يذمه قائد لجنوده،(9/240)
فبينما تزعم الرواية أن شيعة علي والوه ووازروه حتى أهرقت فيهم دماؤه! يقول علي (( فتواكلتم وتخاذلتم ....ياأشباه الرجال ولا رجال حلوم الأطفال (!) وعقول ربات الحجال.... أفٍ لكم لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا؟.....الذليل والله من نصرتموه (!!).... أضرع الله خدودكم وأتعس جدودكم ثم يقول لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ مني عشرة وأعطاني رجلاً منهم ))(57)!! فكيف يستقيم قول علي مع ما جاء في هذه الرواية فإذن الشيعة لا يستحقون هذا الوصف فلا بد أنه سيقال لهم ( حسب الرواية ) ردوا النار ظمآء مظمئين مسودة وجوهكم، لأنهم خذلوه وصنعوا به كل قبيح ومعنى هذا ( حسب الرواية ) أنه لن يدخل أحدٌ الجنة أبداً بل الجميع إلى جهنم! فسنستنتج من ذلك أن هذه الرواية باطلة متناً وأما من ناحية السند فهي باطلة أيضاً باتفاق الشيعة والسنة فأحد رواة هذا الحديث المكذوب هو أبو الجارود وهو مجروح عند كلا الفريقين فالكشي من الشيعة الرافضة يقول عنه (( أبو الجارود زياد بن المنذر الأعمى السرحوب، حكى أن أبا الجارود سمى سرحوباً وتنسب إليه السرحوبية من الزيدية سماه بذلك أبو جعفر (ع) وذكر أن سرحوباً اسم شيطان أعمى يسكن البحر وكان أبو الجارود مكفوفاً أعمى القلب، إسحاق بن محمد البصري قال: حدثني محمد بن جمهور قال: حدثني موسى بن بشار الوشا عن أبي نصر قال: كنا عند أبي عبد الله (ع) فمرت بنا جارية معها قمقم فقلبته، فقال أبو عبد الله (ع) ان الله عزوجل قد قلب أبي الجارود كما قلبت هذه الجارية هذا القمقم فما ذنبي، وروي عن علي بن محمد قال: حدثني محمد بن أحمد عن علي بن اسماعيل عن حماد بن عيسى عن الحسين بن مختار عن أبي أسامة قال: قال لي أبو عبد الله (ع) ما فعل أبو الجارود؟ أما والله لا يموت إلا تائها ))(58) فهذا أبو الجارود في نظر شيعته، وأما السنة فقد قال عنه الذهبي (( زياد بن المنذر(9/241)
الهمداني، وقيل الثقفي، ويقال أبو الجارود الكوفي الأعمى....قال عنه ابن معين: كذاب، وقال النسائي وغيره متروك، وقال ابن حبان: كان رافضياً يضع الحديث في الفضائل والمثالب، وقال الدارقطني: إنما هو منذر بن زياد متروك، وقال غيره: إليه تنسب الجارودية، يقولون أن عليا أفضل الصحابة وتبرؤا من أبي بكر عمر، وزعموا أن الإمامة مقصورة على ولد فاطمة، وبعضهم يرى الرجعة ويبيح المتعة ))(59) وبذلك يكون الحديث باطل سنداً ومتناً والحمد لله رب العالمين، فكيف يستقيم بعد ذلك أن يقول التيجاني ( المهتدي ) (( وهذه الآيات كما لا يخفى على كل باحث مطلع ( تأمل ) تخاطب الصحابة وتحذرهم من التفرقة.....الخ، أظن القارئ بدأ يلحظ الأدوات التى من خلالها هدى التيجاني إلى الحق المزعوم ألا وهي الكذب والتحريف و......الخ، ثم يقول التيجاني (( ومن البديهي المعلوم أن الصحابة تفرقوا بعد النبي واختلفوا وأوقدوا نار الفتنة حتى وصل بهم الأمر إلى القتال والحروب الدامية التي سببت انتكاس المسلمين وتخلفهم وأطمعت فيهم الأعداء والآية المذكورة لا يمكن تأويلها وصرفها عن مفهومها المتبادر للأذهان ))(60) ( هكذا )!؟.....وأنا لا أريد القول بأن الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهدي أبي بكر وعمر قد اجتمعت كلمتهم لأنه لم يكن هناك اختلاف في الأصل.....ولا أريد القول بأن الصحابة قد أخمدوا نار الفتنة بسبب حروب الردة والتي لولاهم لما قام للإسلام قائمة ولا أريد القول بأن الصحابة قد فتحوا البلاد شرقاً وأزال الله بهم دولتا الفرس والروم غرباً حتى قذف الرعب والذل في أعدائهم لأن هذه الحقائق لا يستطيع أحد أن ينكرها فهي من البداهة بمكان بحيث اعترف بها أعداء الأمة قبل أبناء الملة ولكني سوف آتي بأقوال إمام القوم ( زوراً ) ووصي النبي صلى الله عليه وسلم ( كذباً ) كي يصف حال الأمة في عهد الخليفتين أبي بكر وعمرليعلم من يريد معرفة الحق(9/242)
كيف كان الأمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ـ وذلك من أهم كتبهم وأوثقها وهو كتاب نهج البلاغة للشريف الرضى ... والغارات للثقفي ـ يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يذكر بيعته لأبي بكر ((....... فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق وكانت ( كلمة الله هي العليا ولو كره الكافرون ) [ تأمل ] فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسر وسدد وقارب واقتصد فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً ))(61) ويقول عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه (( لله بلاء فلان(62) فقد قوم الأود، وداوى العمد، خلف الفتنة وأقام السنة، ذهب نقي الثوب قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي ))(63) فما هو رأي التيجاني المهتدي؟! ..... ولكن التيجاني يدعي في كتابه أنه اهتدى وارتاح ضميره لعقائد وأفكار القوم عندما قرأ عدة كتب من بينها كتاب ( أصل الشيعة وأصولها ) وحتى أزيده هداية وأزيد نفسي والقارئ دراية أسوق ما ذكره محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه المذكور واصفاً سبب ( مبايعة الإمام الوصي ) للخليفتين فيقول ((....، وحين رأى أن الخليفتين ـ أعني الخليفة الأول والثاني ـ بذلا أقصى الجهد في نشر كلمة التوحيد (!) وتجهيز الجنود وتوسيع الفتوح ( تأمل! ) ولم يستأثرا ولم يستبدا، بايع وسالم ..))(64) فهنيئاً للتيجاني هدايته الحقة!؟...وأما بالنسبة لعهد عثمان فقد ظهرت الفتنة في آخر عهده بسبب عبد الله بن سبأ اليهودي ( الرافضي )! الذي كان أول من أشهر القول بفرض إمامة علي بن أبي طالب فهو أصل التشيع الغالي(65) لآل البيت ثم توالت بعد ذلك الفتن وكان أبطالها مرة ( الرافضة ) ومرة ( الخوارج ) أما الصحابة فلم يكن لهم يد في إشعال الفتن لذلك روى إمامهم ـ الصدوق ـ ابن(9/243)
بابويه القمي في كتابه ( الخصال ) عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال (( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إثنى عشرة ألفاً، ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة وألفان من الطلقاء، ولم ير فيهم قدري ولامرجئ ولاحروري ( خوارج ) ولامعتزلي ولاصاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار، ويقول: اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير ))(66) فإذا كان هذا هو قول الشيعة فلن أضيف على ذلك شيئاً ومن كتبكم ندينكم!
ثالثاً ـ إستدلاله بالآية الثالثة على ذم الصحابة والرد عليه في ذلك:
يستدل التيجاني فيما يسميها ( آية الخشوع ) فيقول (( قال تعالى ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون ) صدق الله العلي العظيم، وفي الدر المنثور لجلال الدين السيوطي قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعدما كان بهم من الجهد، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه ( فعوقبوا ) فنزلت ( ألم يأن للذين آمنوا ) وفي رواية أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله استبطأ قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن فأنزل الله ( ألم يأن للذين آمنوا..)، وإذا كان هؤلاء الصحابة وهم خيرة الناس على ما يقوله أهل السنة والجماعة، لم تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق طيلة سبعة عشرة عاماً حتى استبطأهم الله وعاتبهم وحذرهم من قسوة القلوب التي تجرهم للفسوق، فلا لوم على المتأخرين من سراة قريش الذين أسلموا في السنة السابعة للهجرة بعد فتح مكة))(1).(9/244)
1ـ بالنسبة للرواية الأولى التي ذكرها التيجاني نقلاً عن الدر المنثور لجلال الدين السيوطي فهي رواية عن الأعمش ولم ترفع للنبي صلى الله عليه وسلم إطلاقاً فقد قال السيوطي أخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن المنذر عن الأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان بهم من الجهد، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه ( فعوتبوا ) فنزلت ( ألم يأن للذين آمنوا..) الآية(2) ، فالرواية موقوفة على الأعمش وهو معروف بالتدليس بالإضافة لتفرده بها وعلى العموم الرواية ليست من قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما ادعى التيجاني إضافة إلى تحريف التيجاني الرواية، فبينما الرواية تقول ( فعوتبوا ) حرفها لتستقيم مع كذبه إلى ( فعوقبوا ) فتنبه!...وأما الرواية الأخرى التي أوردها التيجاني فقد قال السيوطي أخرج ابن مردويه عن أنس لا أعلمه إلا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن، فأنزل الله { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } الآية(3) وهذه الرواية التي أخرجها ابن مردويه عن أنس لم أجدها في جميع كتب التفسير المعتمدة إضافةً لمخالفتها للرواية الصحيحة عن ابن مسعود فقد أخرج مسلم في صحيحه أن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { ألم يأن للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } إلا أربع سنين ))(4) بالإضافة إلى أن ابن مسعود أقدم إسلاماً والأعلم بنزول القرآن، فرواية أبن مردويه شاذة ومنكرة، فهي شاذة لأنها خالفت رواية ابن مسعود الأوثق سنداً، ومنكرة لتفرد ابن مردويه في إخراجها فلا متابع له ولا شاهد، والملاحظ هنا ان السيوطي عند تفسيره لهذه الآية أورد عشرين رواية ومن ضمنها رواية ابن مسعود الصحيحة فَلَمْ يعجب التيجاني إلا هاتان الروايتان ظناً منه أن فيها ما يثلب(9/245)
الصحابة كاشفاً عن سوء خبيئته وفساد طويته ولكن هيهات، فاستدلاله بالسيوطي ليس حجة له بل عليه لأن السيوطي معروف لدى علماء الحديث بإيراده الأحاديث الضعيفة والموضوعة فليس مجرد الاستدلال يدل على الصحة.
2ـ ولو فرضنا أن الروايتين اللتين استدل بهما التيجاني صحيحتان فيكون قول الله لهم مجرد عتاب وحث لهم على زيادة الخشوع وديمومة الخوف من الله لأن الصحابة بلا شك ليسوا معصومين من الأعراض البشرية كالنسيان والغفلة وقد ذكرت في الفقرة السابقة أن القرآن نزل لتربية الصحابة على قيادة الدنيا وليحضهم على الخير وينهاهم عن كل ما فيه شر لهم وضرر فعن ابن مسعود قال: إذا سمعت الله يقول { يا أيها الذين آمنوا } فأوعها سمعك فإنه خيرٌ يؤمر به أو شر ينهى عنه(5) والآية التي نحن بصددها نزلت لتنبيه الصحابة وحضهم على الخشوع وتنبيههم إلى أن اليهود والنصارى قد طال عليهم الأمد فأصيبوا بقسوة في قلوبهم فأصبح الكثير منهم فاسقون وذلك ليحذر المؤمنون من هذا الطريق فيجتنبوه وهذا بلا شك في عداد تربية الصحابة وإلا إن كان لا يجوز مجرد عتابهم فإذاً هم في عداد الملائكة وليسوا في عداد البشر! وحتى النبي صلى الله عليه وسلم نزل القرآن يعاتبه كما في قصة ابن أم مكتوم { عبس وتولى } فإذا كان عتاب الله للصحابة ذماً فماذا بالله سيقول التيجاني عن عتاب الله للنبي صلى الله عليه وسلم؟! وقد نزل القرآن لتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال الله له { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين } وقوله تعالى { فإن كنت في شكٍّ مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } ( يونس 94) فماذا سيقول هذا التيجاني عن نبي الرحمة؟! هل سيقول أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتق الله ويشك فيما أنزل الله إليه؟؟!! أهذا هو التفسير الذي اهتدى بسببه التيجاني؟! بالطبع نعم.... لأن التفسير إذا لم يكن مقروناً بأصوله التي حددها العلماء فسيتحول إلى تفسير(9/246)
أشبه بتفسير العقلاء المجانين؟!
3ـ وأخيراً أقول قد مرّ معنا في الفقرة السابقة أن علياً رضي الله عنه قد مدح الصحابة وهو بصدد تعليم شيعته وتوبيخهم وحثهم على اتخاذ الصحابة قدوةً وذلك حينما قال (( لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى أحداً يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً وقد باتوا سجداً وقياماً يراوحون بين جباههم وخدودهم ...الخ ))(6) بالإضافة إلى قول جعفر الصادق حينما وصف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (( ....كانوا يبكون الليل والنهار ويقولون: اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير ))(7) فإذا كان الأئمة أنفسهم يصفون الصحابة بهذه الصفات ـ ومن مصادركم ـ فكيف يدّعي هذا الآبق بأن الصحابة لم تخشع قلوبهم لذكر الله ( هكذا! ) وحتى ألقم هذا التيجاني المهتدي الحجارة في فمه وأوقفه عن مشاغبته في حق الصحابة الكرام أورد ما جاء على لسان ( الإمام الحادي عشر المعصوم ) الحسن العسكري في تفسير قوله في حق من يبغض الصحابة ((.. إن رجلاً ممن يبغض آل محمد ( وأصحابه ) الخيرين وواحداً منهم (!!) لعذبه الله عذاباً لو قسم على مثل عدد خلق الله تعالى لأهلكهم أجمعين ))(8) علّق أيها التيجاني المهتدي؟!
الرد على التيجاني بادعائه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يذم الصحابة:
أولاً ـ استدلاله على أن حديث الحوض يذم الصحابة والرد عليه في ذلك:(9/247)
يقول التيجاني: (( قال رسول الله ( ص ): ( بينما أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال، هلّم، فقلت الى أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أرى يخلص منهم إلا مثل همل النعم ) وقال ( ص ): (( إني فرطكم على الحوض من مرّ عليَّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردنّ على أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي ) فالمتمعن في هذه الأحاديث العديدة التي أخرجها علماء أهل السنة في صحاحهم ومسانيدهم، لا يتطرق إليه الشك في أن أكثر الصحابة قد بدلواوغيّروا بل ارتدوا على أدبارهم بعده ( ص ) إلا القليل الذي عبر عنه بهمل النعم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال حمل هذه الأحاديث على القسم الثالث وهم المنافقون، لأن النص يقول: فأقول أصحابي ))(9)
وللرد على تُرهَّاته نقول وبالله التوفيق:(9/248)
أولاًـ بالنسبة لهذين الحديثين اللذين ذكرهما التيجاني لم يردا في صحيح البخاري ومسلم بهذا اللفظ، فالحديث الأول لم يورده التيجاني كاملاً بالإضافة لتحريفه له وهذا ليس غريباً على من شبَّ على التحريف والكذب والتناقض فالرواية التي في البخاري عن أبي هريرة (!) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينما أنا ( نائم ) فإذا بزُمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم فقال هلمَّ، فقلت أين؟ قال: إلى النار والله، قلت وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري. ثم إذا زُمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمّ، قلت أين؟ قال: إلى النار . قلت: ما شأنهم؟ قال إنهم ارتدوا بعدَك على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم ))(10). فانظر كيف حرّف كلمة (نائم)(11) واستبدلها بكلمة ( قائم ) وتأمل!.. بالإضافة إلى أن هذا الحديث لم يروه مسلمٌ في صحيحه فتنبه!
ثانياًـ أقول نعم أخرج مثل هذه الأحاديث أهل السنة في صحاحهم، ولكن هل ترى رجعت لأقوال أهل السنة في شروحهم لهذه الأحاديث أم كما هي عادتك تفسر حسب هواك ومبتغاك، ولكي يظهر الحق لكل طالبٍ له نسوق أقوال أهل السنة فيمن عناهم الحديث.(9/249)
ثالثاًـ إختلف العلماء في حقيقة الردة المذكورة في الحديث، فعن قبيسة قال: ( هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر يعني حتى قتلوا وماتوا على الكفر، وقال الخطابي: لم يرتد من الصحابة أحد وإنما ارتد قومٌ من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين وذلك لا يوجب قدحاً في الصحابة المشهورين، (( وقال ابن التين: يحتمل أن يكون المنافقون أو المرتكبين للكبائر ))(12)، وقال ابن حجر في الفتح (( قيل هم قومٌ من جفاة الأعراب دخلوا في الإسلام رغبةً ورهبةً ))(13) وقال الإمام النووي: (( هذا مم إختلف العلماء به على أقوال فقيل أنهم المنافقون المرتدون وقيل أن المراد بهم من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم إرتد بعده ))(14) وقال بعض أهل العلم أنهم من أهل البدع والأهواء فقال ابن حجر في الفتح (( قيل هم أصحاب الكبائر والبدع الذين ماتوا على الإسلام ))(15) وقال النووي (( أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام ))(16) وقال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر (( كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء ))(17) وقال أبو اسحاق الشاطبي (( الأظهر أنهم من الداخلين في غمار هذه الأمة، لأجل ما دلّ على ذلك فيهم، وهو الغرة والتحجيل، لأن ذلك لا يكون لأهل الكفر المحض، كان كفرهم أصلاً أو ارتداداً، لقوله ( قد بدلوا بعدك )، ولو كان الكفر لقال: قد كفروا بعدك، وأقرب ما يحمل عليه تبديل السنة وهو واقع على أهل البدع، ومن قال إنه النفاق، فذلك غير خارج عن مقصودنا لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تقية لا تعبداً، فوضعوها في غير موضعها وهو عين الابتداع ))(18) وعلى ذلك فالمراد بالمرتدين في الحديث يشمل الصنفين المرتدين والمنافقين، بالإضافة لأهل الأهواء والمبتدعة وبذلك يتبين لنا أن الصحابة الكرام ليسوا ممن عنوا بالحديث ولكن(9/250)
إذا أبى هذا المهتدي إلا أن يناطح الحق ويركب رأسه فأضطر ولا بد من أن آتي بأقوال شيعته فيمن عناهم الحديث حتى يظهر الحق من الباطل ويأبى الله إلا ان يُجْري الحق على ألسنتهم يقول الفضل الطبرسي ( وهو من أكابر علماء الشيعة ) في تفسيره ( مجمع البيان ) عند تفسير قوله تعالى { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } ...اختلف فيمن عنوا به على أقوال فذكر أربعة أقوال وذكر في آخرها أنهم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة ثم استدل على ذلك من حديث ( الارتداد ) فقال (( ورابعها أنهم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة عن علي (ع) ومثله عن قتادة أنهم الذين كفروا بالارتداد، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال والذي نفسي بيده ليردن على الحوض ممن صحبني أقوام حتي إذا رأيتهم اختلجوا دوني فلأقولن أصحابي أصحابي أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعد إيمانهم ارتدوا على أعقابهم القهقري، ذكره الثعلبي في تفسيره فقال أبو أمامة الباهلي: هم الخوارج ويروي عن النبي أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية...))(19) فهذا هو تفسير الطبرسي لهذا الحديث أنهم الأهواء كالخوارج ونحوهم وهذا هو عين تفسير أهل السنة لهذه الآية وهذا الحديث(20)، ولم يشر ولو مجرد إشارة إلى أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا الكاشاني ( من كبار مفسري الاثني عشرية ) عند تفسيره للآية السابقة يستدل من خلال هذا الحديث على أنهم من أهل الأهواء فيقول (( في المجمع عن أمير المؤمنين (ع) هم أهل البدع والأهواء والآراء الباطلة من هذه الأمة وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده ليردن على الحوض ممن صحبني حتى إذا رأيتهم اختلجوا دوني فلأقولن أصحابي أصحابي فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك انهم ارتدوا على أعقابهم القهقري، ذكره الثعلبي في تفسيره ))(21) فهذا هو قول الشيعة فيمن عنوا بالحديث ولن يستطيع التيجاني مهما(9/251)
حاول تحريف قول شيعته على أنهم الصحابة لأنهم لم يشيروا أدنى إشارة إلى اتهام الصحابة وخير دليل على ذلك أنهم طعنوا في الصحابة في غير ما موضع من تفاسيرهم ـ راجع تفسير الصافي للكاشاني ـ وأنزلوا عليهم الكثير من الآيات التي ليس لهم بها صلة لامن قريب ولا من بعيد، إلا هذه الآية لتكون حجة عليهم لا لهم ولله الحمد والمنة، ومن هنا نعلم أن الحديث لا يشملهم، فالصحابة لا مرتدين ولا مبتدعين متبعين للهوى وحتى أزيل الشك من القلوب وأقطعه باليقين ليزداد الذين آمنوا من أهل السنة بالحق إيماناً ويزداد الذين ضلوا من أهل التشيع والرفض بالباطل ضلالاً، وطمعاً في هداية من يريد منهم الحق واْتّباعه أسوق أقوال الشيعة الاثني عشرية في أن الصحابة الكرام معصومون من الارتداد ومطهرون من الابتداع، أما أنهم معصومون من الارتداد فقد ذكر ذلك وصي القوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في غير ما موضع(22) ومن أوثق مصادر القوم بالإضافة إلى كبار أئمتهم من أولاد علي فهذا الإمام المعصوم عند الرافضة الاثني عشرية(*) يذكر أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ويدعو لهم في صلاته بالرحمة والمغفرة لنصرتهم سيد الخلق في نشر دعوة التوحيد وتبليغ رسالة الله إلى خلقه فيقول (( ..... فذكرهم منك بمغفرة ورضوان اللهم وأصحاب محمد خاصة، الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به، ومن كانوا منطوين على محبته يرجون تجارةً لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاةً لك وإليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من(9/252)
سعة المعاش إلى ضيقه ومن كثَّرت في اعتزاز دينك من مظلومهم اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان خير جزائك، الذين قصدوا سمتهم، وتحرَّوا جهتهم، ومضوا على شاكلتهم لم يثنهم ريبٌ في بصيرتهم، ولم يختلجهم شك في قفوِ آثارهم والإئتمام بهداية منارهم مُكانفين ومُؤازرين لهم يدينون بدينهم، ويهتدون بهديهم، يَتَّفقون عليهم، ولا يتهمونهم فيما أدوا إليهم اللهم وصلِّ على التابعين من يومنا هذا إلى يوم الدين وعلى أزواجهم وعلى ذُرِّياتهم وعلى من أطاعك منهم صلاةً تعصمهم بها من معصيتك وتفسح لهم في رياض جنَّتك وتمنعهم بها من كيد الشيطان ... ))(23)! ويروي ثقتهم ( الكليني ) وهو من كبار أئمتهم في كتابه ( الأصول من الكافي ) ـ وهو أحد الكتب الأربعة التي تعتبر مرجع الإمامية في أصول مذهبهم وفروعه(24) ـ (( عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب ثم يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟ فقال: إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان، قال: قلتُ: فأخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقوا على محمد أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا، قال: قلت فما بالهم اختلفوا؟ فقال: أما تعلم أن الرجل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب ثم يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب فنسخت الأحاديث بعضها بعضاً ))(25) وهذا الإمام الحسن العسكري والذي يمثل عند الاثني عشرية الإمام الحادي عشر يقول في تفسيره عندما سأل موسى ربه بضع أسئلة منها (( هل في صحابة الأنبياء أكرم عندك من صحابتي قال الله عزوجل: يا موسى أما علمت أنّ فضل صحابة محمد على جميع صحابة المرسلين كفضل آل محمد على جميع آل النبيين وكفضل محمد على جميع المرسلين ))(26) ويقول أيضاً (( وإن رجلاً من خيار أصحاب محمد لو وزن به جميع صحابة(9/253)
المرسلين لرجح بهم ))(*) وبعد هذا البيان يتبين لدينا أن الصحابة الكرام معصومون عن الارتداد والانقلاب وأما أنهم سالمون من الأهواء والبدع فقد ذكر القمي ـ وهو من كبار أئمتهم ـ في كتابه ( الخصال ) عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال (( كان أصحاب رسول الله وآله اثني عشر ألفاً، ثمانية آلاف من المدينة وألفان من مكة وألفان من الطلقاء ولم ير فيهم قدري ولا مرجيء ولاحروري ( الخوارج ) ولا معتزلي ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار ويقول: اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير ))(27) ومن هنا يتبين لدينا أن الصحابة الكرام سالمون من الابتداع فهذه هي أقوال كبار أئمتهم وهذه كتبهم تنطق بالحق فماذا بعد الحق إلا الضلال يا تيجاني؟!(9/254)
4ـ أما استدلال التيجاني بالحديث في قوله ( أصحابي ) على أنهم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فغير مسلم لأنه يجب الجمع بين روايات الحديث بعضها مع بعض حتى يتسنى لنا معرفة المراد من قوله ( أصحابي ) من الحديث، (( أما بالنسبة للصحبة فإنها إسم جنس ليس له حد في الشرع ولا في اللغة، والعرف فيها مختلف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقيد الصحبة بقيد ولا قدّرها بقدْرٍ بل علّق الحكم بمطلقها ولا مطلق لها إلا الرؤية ))(28) ومما لا يختلف عليه اثنان أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في حياته المنافقين والذين ارتدوا بعده وأنهم رأوه وهذا ما يرجّح أن المذكورين هم أهل الإرتداد والنفاق، فقد روى أحمد والطبراني بسند حسن من حديث أبي بكرة رفعه (( ليردن عليّ الحوض رجالٌ ممن صحبني ورآني))(29) بالإضافة إلى أنه ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيغة التصغير فقد روى أنس بن مالك فيما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( ليردن عليّ الحوض ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولنّ أى ربي أُصَيْحابي أُصَيْحابي فَلَيقالنّ لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ))(30) بالإضافة إلى أنه قد جاء في بعض الروايات ( أنهم من أمتي ) ومرة ( رجال منكم ) ومرة ( زمرة ) فلا يصح أن يحمل المعنى على نص واحد فقط هو في حد ذاته ليس دليلاً على ذم الصحابة فبات ظاهراً لدينا أن الأمر لا يعدو ان يكون من خزعبلات الرافضة.(9/255)
5ـ أما قوله في الحديث أنه عرفهم ليس بالضرورة أنه عرفهم بأعيانهم بل بمميزات خاصة كما يوضحها الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( ترد عليَّ أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله أتعرفنا؟ قال: نعم لكم سيما ليست لأحد غيركم تردون عليّ غراً محجلين من آثار الوضوء. وليُصدَّن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يارب هؤلاء من أصحابي فيجبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟))(31) فهذا الحديث يفيد أن أهل الأهواء والنفاق يحشرون بالغرة والتحجيل وقوله ( منكم ) الميم ميم الجمع وهذا يعني أنهم يحشرون جميعاً بنفس سيما المؤمنين كما في حديث الصراط في قوله صلى الله عليه وسلم ((....وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها.. ))(32) فدل على أنهم يحشرون مع المؤمنين، والذي أرجحه أن المقصود بالحديث هم المنافقون لأنه أقرب الأقوال إلى الحق والذي يتوافق مع سياق الحديث.(9/256)
وبعد هذا البيان نقول لايمكن بحال حمل هذه الروايات على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار وأولهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين وذلك لعدة أسباب، أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترضىَّ عن صحابته ودافع عنهم وقال (( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته ))(33) وفي هذا الحديث أثبت الخيرية لقرن الصحابة وأخرج مسلم في صحيحة عن أبي بردة عن أبيه في جزءٍ من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع رأسه إلى السماء فقال (( النجوم أمنة السماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ))(34) قال النووي في شرحه لمسلم (( ـ وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ـ معناه من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه، وطلوع قرن الشيطان وظهور الروم وغيرهم عليهم، وانتهاك مكة والمدينة وغير ذلك، وهذه من معجزاته صلى الله عليه وسلم ))(35) بالإضافة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بشر أصحابه بالجنة، فعن عبد الرحمن بن عوف قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعليٌّ في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة ))(36) وأخرج أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال (( لن يدخل النار رجل شهد بدراً والحديبية ))(37) وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو عن صحابته راضٍ(38) بالإضافة إلى أنه لم يثبت أن أحداً من المهاجرين والأنصار قد ارتد، قال الإمام عبد القادر البغدادي في كتابه ((9/257)
الفَرْق بين الفِرق ) (( أجمع أهل السنة على أن الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من كندة، وحنيفة،وفزارة، وبني أسد وبني بكر بن وائل لم يكونوا من الأنصار ولا من المهاجرين قبل فتح مكة وإنما أطلق الشرع اسم المهاجرين على من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة وأولئك بحمد الله ومنه درجوا على الدين القويم والصراط المستقيم ))(39) فكيف يستقيم هذا الأمر مع قول التيجاني أن أكثر الصحابة ارتدوا إلا القليل منهم فأتساءل هل الرسول صلى الله عليه وسلم يتناقض مع نفسه ويقول للصحابي أنت في الجنة ثم يجده ممن ارتد عن الحوض!؟ أليس هذا طعن صريح بالنبي بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه فلا شك إذن أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن أصحابه لم يرتدوا بعده فقد أخرج الطبراني بسند جيد من حديث أبي الدرداء (( فقلت يا رسول الله ادع الله أن لا يجعلني منهم، قال: لست منهم ))(40) بالإضافة إلى أن الحديث الأول الذي حرفه التيجاني بقوله ( بينما أنا قائم ) والصحيح قوله ( بينما أنا نائم ) الذي يثبت أنه رأى في منامه في الدنيا ما سيقع له في الآخرة فلو كان الصحابة هم الذين سيرتدون لذكر ذلك .....فهل يقول من يعرف المعقول أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم حال أصحابه كحال أبي الدرداء فلعله سيجده مع المرتدين!؟ فلا أعتقد أن أحداً يقول مثل هذا القول إلا أمثال التيجاني ( المهتدي ) إذاً لا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن هو أعظم وأقرب وأحب إليه كمثل أبي بكر الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أنت عتيق الله من النار ))(41) وعمر الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (( دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب فقلت لمن هذا القصر؟ قالوا: لشاب من قريش فظننت أني أنا هو فقلت: ومن هو؟ قالوا: عمر بن الخطاب ))(42) وعثمان الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم (( عثمان في الجنة ))(43)(9/258)
ولست أدري لعل راوي حديث الإنقلاب وهو الصحابي الجليل أبو هريرة ـ والذي روى الحديث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ـ سيجد نفسه أحد المرتدين المدفوعين عن الحوض!! بالإضافة لثمانين صحابياً شاركوا أبا هريرة في رواية الحديث.
6ـ أما إذا لم يعترف هذا التيجاني بهذه الحقيقة فيكون لزاماً عليه أن يحدد من هم الصحابةالذين يشملهم الحديث فإن لم يكن هناك من جواب فلا بد أذن من أن يسري هذا المعنى على الصحابة المرضيين عندهم(*) فسيشمل الحديث دون شكٍّ علياً بن أبي طالب والحسن والحسينَ وعمارَ بن ياسر وأبا ذرٍّ الغفاري وسلمان الفارسي والمقداد بن الأسود وخزيمة بن ثابت وأبي بن كعب(44) ولن يستطيع إستثناء هؤلاء الصحابة الكرام إلا بدليل ثابت فإن قال أن هناك أحاديث تثني على هؤلاء الصحابة وتثبت أنهم من أهل الجنة أقول وكذا الصحابة الذين تحاول إدخالهم فيمن يرتد عن الحوض أن هناك عشرات الأدلة من الكتاب والسنة تثبت رضا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم عنهم وتثني عليهم غاية الثناء وأنهم هم المؤمنون حقاًّ وتثبت بالدليل القاطع أنهم من أهل الجنة فما هو جواب التيجاني المهتدي!؟.(9/259)
7ـ أما قوله ( إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) فمن المسلَّم به أن الصحابة الكرام لم يبدلوا أو يحدثوا في دين الله شيئاً بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقد أورد السيد محمد صديق حسن القنوجي البخاري رحمه الله في كتابه ( الدين الخالص ): (( أن رافضياًّ سأل سنيًّا:ما تقول في حق الصحابة؟ فأجابة: أقول فيهم ما قال الله تعالى في كتابه، عني به قوله هذا ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ). فقال ( أي الرافضي ): إنهم بدلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال السني: إن الله يقول: { وما بدلوا تبديلا } ونحن لا نقول بإله يخبر بشيء ولا يعلم أنه يتغير بعد ذلك ))(45) أما إذا ادعى هذا التيجاني المهتدي أنهم أحدثوا الكثير مثل عدم قبولهم بولاية أهل البيت وتحريف القرآن فسيأتي بإذن الله في ثنايا هذا الكتاب ما يفند هذه الدعاوى جملة وتفصيلاً.
8ـ أما قول هذا التيجاني ( أن أكثر الصحابة قد بدلوا وغيروا بل ارتدوا على أدبارهم بعده صلى الله عليه وسلم إلا القليل الذي عبر عنهم بهمل النعم ). هذا القول يدل على جهل هذا الرافضي بمعنى الحديث فهو كحاطب ليل يجمع ما يظن أنه طعنٌ في الصحابة ولكن أقول له بعداً، فقوله صلى الله عليه وسلم ( بهمل النعم ) يعني من هؤلاء الذين دنوا من الحوض وكادوا يردونه فصدوا عنه(46) وليس كل من ورد الحوض. وجاء في رواية أخرى بلفظ ( رهط ) فعن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( يرد علي يوم القيامة ( رهط ) من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول: يارب أصحابي. فيقول: أنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري ))(47) والرهط كما هو معلوم ما دون العشرة من الرجال..(48) أما الصحابة فيشربون من الحوض فقول هذا التيجاني بأن أكثر الصحابة ارتدوا دليل على عميق تفكيره فهنيئاً له على الهداية!!(9/260)
9ـ ثم يتناقض هذا التيجاني تناقضاً واضحاً وفاضحاً حين يقول ( ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال ( تأمل! ) حمل هذه الأحاديث على القسم الثالث وهم المنافقون لأن النص يقول: فأقول أصحابي!!؟ ) سبحان ربي إن هذا لشيء عجاب أجعل المنافقين ليسوا من الصحابة؟! أليس هو الذي قسّم ( الصحابة ) إلى ثلاثة أقسام وآخرهم المنافقون بينما هو ينفي هنا ذلك فيقول لا يمكن بأي حال من الأحوال حمل هذه الأحاديث على المنافقين...لماذا؟.. لأن النص يقول أصحابي؟؟! فأقول لهذا المهتدي أي الأمرين تختار؟! فإن قلت أن أحد أقسام الصحابة هم المنافقون فقد رددت على نفسك وإن قلت أن المنافقين ليسوا قسماً من الصحابة فقد أهدرت كتابك من أوله إلى آخره لإنك بنيته على أن المنافقين من الصحابة وحتى أخرجك من هذه المعضلة أقول أنه ما من شكٍّ أن المنافقين ليسوا بحالٍ من أقسام الصحابة ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكرهم وذكر المرتدين في بعض روايات الحديث ( بأصيحابي ) أو بـ( من صاحبني ) لأنهم صحبوه ورأوه في الدنيا وذلك تصغيراً لهم وتحقيراً لا تعظيماً ولا يقول ذلك لأصحابه من المهاجرين والأنصار الذين كانت لهم رواياته في حقهم بصيغة الإجلال والتقدير والتعظيم والتكريم.(9/261)
وأخيراً أقول: أن التيجاني ( المهتدي ) يريد أن يوصلنا إلى نتيجة محددة، مفادها أن أكثر الصحابة قد ارتدوا على أدبارهم القهقري... فماذا يعني هذا القول؟! هذا يعني أن الدين الذي نحن عليه منذ أربعة عشر قرناً والقرآن الذي بين أيدينا والسُّنة التي نسير عليها والصلاة ( عمود الدين ) التي نقيمها والعبادة التي نؤديها باختصار باطلة!!! لأنها نقلت إلينا عن طريق المرتدين؟! ومعنى هذا أيضاً أن المرتدين يا ويلهم الذين فتحوا البلاد شرقاً وأخضعوا البلاد غرباً ليس من أجل إخضاع الناس لعبادة رب العباد بل لكي يدخلونهم مباشرة في باب الإرتداد؟!! ومعنى هذا أيضاً أن مسيلمة الكذاب وسجاح وغيرهم هم أهل الحق لأنهم لم يرتدوا عن الإسلام بل ارتدوا عن أهل الإرتداد!!؟ وكأنه ينادي ويقول يا أهل الشام ... ياأهل مصر والمغرب العربي... يا أهل العراق... يا أهل الجزيرة... يا أهل ما وراء النهرين...كلكم مرتدون على أدباركم القهقري وإلى جهنم؟!!! فمرحا بالإمامية الجاهلية.
ثانياًـ إستدلاله على تنافس الصحابة على الدنيا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم والرد عليه في ذلك:(9/262)
يقول التيجاني (( قال (ص): ( إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ( أو مفاتيح الأرض ) وإني والله ما أخاف عليكم ان تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها ). صدق رسول الله (ص)، فقد تنافسوا على الدنيا حتى سلت سيوفهم وتحاربوا وكفر بعضهم بعضا، وقد كان بعض هؤلاء الصحابة المشهورين يكنز الذهب والفضة، ويحدثنا المؤرخون كالمسعودي في مروج الذهب والطبري وغيرهم أن ثروة الزبير وحده بلغت خمسين ألف دينار وألف فرس وألف عبد وضياعاً كثيرة في البصرة وفي الكوفة وفي مصر وغيرها. كما بلغت غلّة طلحة من العراق وحده كل يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك. وكان لعبد الرحمن بن عوف مائة فرس، وله ألف بعير وعشرة آلاف شاة، وبلغ ربع ثمن ماله الذي قسم على زوجاته بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً. وترك عثمان بن عفان يوم مات مائة وخمسين ألف دينار عدا المواشي والأراضي والضياع مما لا يحصى وترك زيد بن ثابت من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس حتى مجلت أيدي الناس، ما عدا الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار. هذه بعض الأمثلة البسيطة وفي التاريخ شواهد كثيرة لا نريد الدخول في بحثها الآن ونكتفي بهذا القدر للدلالة على صدق الحديث وأنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم بهرجها ))(49).(9/263)
1ـ لست أدري والله ما دخل هذا الحديث في أن جمعاً من الصحابة يمتلكون مالاً أو متاعاً فالحديث يخبر أنّ هذه الأمة سوف تمتلك خزائن الأرض وأنه سوف يقع التنافس في الدنيا وهذه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد وقع ما أخبر به ولكن الحديث لا ينطبق على هؤلاء الصحابة لأن الصحابة لم يمتلكوا خزائن الأرض بعد، بالإضافة إلى أن القتال الذي وقع بينهم لم يكن من أجل التنافس على حطام الدنيا ولكن الفتنة التي وقعت بسبب مقتل عثمان هي التي أدت لذلك مع أنهم لم يكونوا يريدون القتال، وعلى العموم فكل من الفريقين مأجور على إجتهاده وسوف يأتي زيادة توضيح لهذه المسألة في مباحث هذا الكتاب.
2ـ هذا التيجاني يحشد من الأدلة التي يظن بجهله أنها تسيء للصحابة وما درى أنه باستدلاله بها يتناقض مع نفسه تمام التناقض فبينما هو يدَّعي في المبحث السابق أن أكثر الصحابة قد إرتدوا على أدبارهم القهقري يستشهد هنا بهذا الحديث الذي يفيد صراحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخشى على أصحابة من الإرتداد ولكنه يخاف عليهم أن يتنافسوا فيها فكيف يوفِّق بين هذا التخبط الذي يتمتع به التيجاني، بالإضافة إلى أنه باستشهاده بهذا الحديث يطعن في علي بن أبي طالب وأصحابه لأن الحديث جاء بصيغة الجمع أي أن التنافس على الدنيا يشمل الطرفين وقد أكد ذلك التيجاني نفسه بقوله ( صدق رسول الله ( ص ) فقد تنافسوا على الدنيا حتى سُلّت سيوفهم وتحاربوا وكفر بعضهم بعضاً ) ومن المسلم به أن القتال الذي وقع بين جيش طلحة والزبير كان مع جيش علي بن أبي طالب وعلى هذا تصبح التخطئة لكلا الطرفين ويقتضي أيضاً ـ حسب فهم هذا التيجاني ـ أن علياً تنافس من أجل الإمارة والسلطة.(9/264)
3ـ يقول هذا الرافضي ( كان بعض هؤلاء الصحابة المشهورين ( هكذا ) يكنز الذهب والفضة ) فأقول للتيجاني أين دعواك على هذا الادعاء ومن أي المصادر المعتمدة جئت بهذا الزعم وما دخل الثروة التي يمتلكها أحد الصحابة ممن يكنز الذهب والفضة، فسبحان الله على هذا الجهل المرّقع!
4ـ لاشك أن غنى هؤلاء الصحابة ليس فيه ما يدعو إلى الذم أو التجريح فسيرة هؤلاء الصحابة الكرام تثبت أنهم من خيار الصحابة، فعثمان بن عفان ثالث الخلفاء ومن أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن أجودهم وأكرمهم فعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره. قال عبد الرحمن: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: (( ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم ))(50) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (( من يحفر بئر رومة فله الجنة فحفرها عثمان))(51) وكل ذلك من ماله طاعة لله ورسوله، وأما طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة(52) وكان من المجاهدين في سبيل الله ودافع عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد حتى شلّت يده وعن الزبير قال: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم درعان فنهض إلى الصخرة فلم يستطع فأقعد تحته طلحة فصعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوى على الصخرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (( أوجب طلحة ))(53) وكان رضي الله عنه يخشى أن يبيت وقد جمع مالاً فعن طلحة بن يحيى قال (( حدثتني سعدى بنت عوف المرّية قالت: دخلت على طلحة يوماً وهو خاثر(54) فقلت: مالك؟ لعل رابك من أهلك شيء؟ قال: لا والله ونعم حَليلةُ المسلم أنت ولكن مالٌ عندي قد غَمَّني . فقلت: ما يغمك؟ عليك بقومك. قال: يا غلام ادع لي قومي، فقسمه فيهم.فسألت الخازن: كم أعطى؟ قال: أربعة مئة ألف ))(55) ، وعن الحسن البصري أن طلحة بن عبيد الله(9/265)
باع أرضاً له بسبع مئة ألف فبات أرقاً من مخافة ذلك المال حتى أصبح وفرّقه(56) وأما الزبير بن العوام فقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة(57) وكان حوارى(58) النبي صلى الله عليه وسلم فعن علي بن أبي طالب (!) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إن لكل نبي حوارياً وإن حوارىَّ الزبير بن العوام ))(59) ومن فرط حبه للمال وحرصه على أن يكنز سواري كسرى من الذهب والفضة! فقد وصى ابنه عبد الله بن الزبير على سداد دينه وهو على شفا الموت فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عبدالله بن الزبير قال: (( لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه. فقال: يا بُنيَّ إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلوماً، وإن من أكبر همي لَدَيْني أَفترى يبقي ديننا من مالنا شيئاً؟ فقال: يا بني بِعْ ما لنا فاقض ديني وأوصي بالثلثُ، وثلثه لبنيه ـ يعني بني عبد الله بن الزبير ـ يقول ثلث الثلث فإن فَضَل من مالنا فضلٌ بعد قضاء الدين فثلثه لولدك. قال هشامٌ: وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزبير، حبيب وعبّاد، وله يومئذ تسعة بنين وتسع بنات. قال عبد الله: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بنيّ إن عجزت عنه في شيء فاستعن عليه مولاي. قال: فوالله ما دريتُ ما أراد حتى قلتُ: يا أبت من مولاك؟ قال: الله، قال: فوالله ما وقعتُ في كربةٍ من دينه إلا قلتُ: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه، فقُتل الزبير رضي الله عنه ولم يدع ديناراً ولا درهماً إلا أرضين، منها الغابة وإحدى عشرة داراً بالمدينة، ودارين بالبصرة، وداراً بالكوفة، وداراً بمصر...))(60) وهذا عبد الرحمن بن عوف الصحابي الجليل الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة(61) وله فضيلة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلفه(62) بالإضافة إلى إحسانه إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فعن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول (( إن أمركنّ(9/266)
لمِما يهمني بعدي، ولن يصبر عليكن إلا الصابرون ) ثم تقول عائشة: فسقى الله أباك من سلسبيل الجنة تريد عبد الرحمن بن عوف وقد كان وصل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمال بيعت بأربعين ألفاً ))(63) وعن أبي سلمة: (( أن عبد الرحمن بن عوف أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف ))(64) فهذا هو عبد الرحمن بن عوف الذي يدعي التيجاني أنه ممن يكنز الذهب والفضة!؟ وأما الصحابي زيد بن ثابت فهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فعن أنس بن مالك قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ...))(65) أخرج البخاري في صحيحه عن البراء قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ادع لي زيداً وقل له يجيء بالكتف والدواة. قال:فقال: اكتب { لا يستوي القاعدون }... ))(66) وهو أحد الذين إنتدبهم أبو بكر الصديق لجمع القرآن في عهده(67) وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (( أفرض أمتي زيد بن ثابت ))(68) فهؤلاء هم الصحابة الذي لم يجد هذا التيجاني المهتدي إلا أن يشفي غليله في الطعن بهم وهم الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالصدق والعدالة والرضا والجنة!؟ فهل هذا هو التوقير الذي يكنه الروافض لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!(9/267)
4ـ وأما استشهاده برجلٍ ليس من أهل السنة كالمسعودي فهو مجروح عندهم فقد ترجم له ابن حجر في ( لسان الميزان ) بقوله (( وكتبه طافحة بأنه كان شيعياً معتزلياً..))(69) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن كتابه مروج الذهب (( وفي تاريخ المسعودي من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله تعالى ))(70) فاحتجاج التيجاني بالمسعودي ليس حجة علينا، وحتى أدلل على أن المسعودي من الشيعة وليس من أهل السنة فقد ذكره إمام الشيعة الاثني عشرية القمي في كتابه ( الكنى والألقاب ) وقال عنه (( شيخ المؤرخين وعمادهم أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي الهذلي...ذكره العلامة (ره ) في القسم الأول من (صه) وقال: له كتاب في الإمامة وغيرها، ومنها كتاب إثبات الوصية لعلي بن أبي طالب وهو صاحب مروج الذهب... قال العلامة المجلسي في مقدمة البحار: والمسعودي عده (جش ) ـ أي النجاشي ـ في فهرسته من رواة الشيعة ))(71).
5ـ ومع أن التيجاني استدل من كتاب المروج على ما يظن أنه يدين عثمان فقد ترك مالا يستطيع المسعودي كتمانه حين قال (( وكان عثمان في نهاية الجود والكرم والسماحة والبذل في القريب والبعيد فسلك عماله وكثير من أهل عصره طريقته وتأسوا به في فعله ))(72) ولكنه الحقد الدفين والتدليس المهين إضافةً إلى أن التيجاني يقوِّل عن المسعودي ما لم يقله حينما ادعى على الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف أنه قسم ثمن ماله البالغ أربعاً وثمانين ألفاً على زوجاته ويعزوه لكتابه المروج ولم أجده في المصدر المذكور، فماذا نقول عن هذا الموتور؟!
وأخيراً ـ يقول التيجاني في نهاية هذيانه ( هذه بعض الأمثلة البسيطة وفي التاريخ شواهد كثيرة لا نريد الدخول في بحثها الآن ونكتفي بهذا القدر ...) فأقول لهذا الدعي الكذاب أرجو منك الدخول في بحث الشواهد لنرى والقراء مزيداً من الهذيان والكذب.
الرد على التيجاني بادعائه أن الصحابة يذم بعضهم بعضاً:(9/268)
أولاً ـ استدلاله بحديث أبي سعيد الخدري والرد عليه في ذلك:
يقول التيجاني (( عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ فيه الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم فإن كان يريد أن يقطع بحثاً قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف، قال أبوسعيد فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر فلما أتيناً المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل أن يصلي فقلت له غيرتم والله، فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم والله خير مما لاأعلم، فقال إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة. وقد بحثت كثيراً عن الدوافع التي جعلت هؤلاء الصحابة يغيرون سنة رسول الله (ص)...))(1) وللرد على ذلك أقول:
1ـ بالنسبة لمروان فقد عده الذهبي من التابعين(2) وليس من الصحابة وقيل اختلف في صحبته أي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم ولما يبلغ الحلم إذ كان عمره عشر السنين فمن الحماقة إذن أن يحمل فعل الواحد من التابعين على ثاقل الصحابة ويضع عنواناً صارخاً ( شهادتهم على أنفسهم بتغيير سنة النبي صلى الله عليه وسلم ) والهاء والميم في ( أنفسهم ) تفيد الجمع، فيفهم من ذلك أن جميع الصحابة مشتركون بتغيير سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهل توجد حماقة أشد من ذلك؟!(9/269)
ولاشك أنه بقوله هذا لن يستثني الصحابة المرضيين عندهم كعلي بن أبي طالب وأبوذر وعمار بن ياسر...الخ فهل يستطيع استثناءهم من المجموع؟! وحتى تتضح الصورة أكثر ويظهر تجنيِّ هذا التيجاني على الصحابة أسوق الحديث الذي جاء في الباب بعد الحديث الذي استشهد به هذا الرافضي بباب واحد فعن ابن عباس قال (( شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم يصلّون قبل الخطبة ))(3)
2ـ أقول وعلى فرض وقوع ما يظن أنه مخالفة للسنة من الصحابة فلا يعد هذا قدحاً بهم لأنهم ليسوا معصومين، ومن الممكن ان يصدر من أحدهم ما يخالف السنة باجتهاده من دون أن يتعمد ذلك فإذا عرف الحق سارع للتمسك به، قال الشافعي: ..وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب قال: أخبرني مخلد بن خفاف قال: ابتعت غلاماً فاستغللته ثم ظهرت منه على عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز فقضى لي برده وقضى عليّ برد غلته فأتيت عروة فأخبرته، فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (( قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان )) فعجلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: فما أيسر هذا عليّ من قضاء قضيته، اللهم إنك تعلم أني لم أرد فيه إلا الحق، فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له ))(4)، وكان زيد بن ثابت لا يرى للحائض أن تنفر حتى تطوف طواف الوداع، وتناظر في ذلك هو وعبد الله بن عباس، فقال له ابن عباس: إما لا فسل فلانه الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع زيد يضحك ويقول: ما أراك إلا قد صدقت، ذكره البخاري في صحيحه بنحوه ))(5) فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكثر الناس تعظيماً واتباعاً(9/270)
لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم0
3ـ وأما بالنسبة لفعل مروان فقد فعل ذلك باجتهاد منه ولكن أبا سعيد أعترض لأنه حمل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على التعيين وحمله مروان على الأولوية لذلك اعتذر عن ترك الأولى بما ذكره من تغير حال الناس فرأى أن المحافظة على أصل السنة ـ وهو إسماع الخطبة ـ أولى من المحافظة على هيئة فيها ليست من شرطها(6) ومع ذلك فقد حضر أبوسعيد الخطبة ولم ينصرف بخلاف الأولى اتباعاً للإمام.
4ـ قد ثبت أن علياً قد أفتى بخلاف السنة كإفتائه بأن المتوفى زوجها تعتد أبعد الأجلين مع أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم الثابته عنه الموافقة لكتاب الله تقتضي بأنها تحل بوضع الحمل ومثل إفتائه بأن المفوضة يسقط مهرها بالموت وقد أفتى ابن مسعود وغيره بأن لها مهر نسائها كما رواه الأشجعيون عن النبي صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق(7) فلا يعني هذا أن علياً بن أبي طالب قد غير سنة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من الممكن أن الحديث لم يبلغه، نقول ذلك مع الفارق بين فعل مروان الذي يسوغ فيه الإجتهاد لأنه لم يخالف فيه شرطاً من شروط الصلاة وإفتاء علي المخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
5ـ إني والله لأعجب من هؤلاء الرافضة الذين يعترضون على فعل الواحد من التابعين له ما يسوغه ولا يكون في نفوسهم غضاضة من رفض سنة الرسو ل صلى الله عليه وسلم جملةً وتفصيلاً وأخذها على أحسن الأحوال للطعن في الصحابة وذلك لضحالة تفكيرهم أو للتشكيك في الدين وذلك لسوء خبثهم وجعلهم السنة محكورة في قول علي وأولاده فأقول لكم يا من تبكون على السنة كذباً، هل علي وأولاده وحدهم هم الذين علموا السنة وبقية الصحابة الذين رافقوا النبي صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله ودعوته وجهاده في حياته وحتى مماته قد جهلوا السنة ولم يعلموا منها شيئاً؟! فهنيئاً اتباعكم للسنة المكذوبة.(9/271)
ثانياً ـ ادعاؤه أن الصحابة غيروا في الصلاة والرد عليه في ذلك:
يقول التيجاني (( قال أنس بن مالك ما عرفت شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة، قال أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها. وقال الزهري دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت ما يبكيك فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وقد ضيعت. وحتى لا يتوهم أحد أن التابعين هم الذين غيروا ما غيروا بعد تلك الفتن والحروب، أود ان أذكر بأن أول من غير سنة الرسول في الصلاة هو خليفة المسلمين عثمان بن عفان وكذلك أم المؤمنين عائشة، فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بمنى ركعتين وأبوبكر بعده وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدراً من خلافته ثم أن عثمان صلى بعد أربعاً. كما اخرج مسلم في صحيحه قال الزهري قلت لعروة ما بال عائشة تتم الصلاة في السفر؟ قال أنها تأولت كما تأول عثمان ))(1)
1ـ لقد خلط هذا التيجاني بين حديثين وجعلهما حديثاً واحداً فالحديث الأول رواه مهدي عن غيلان عن أنس قال (( ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قيل: الصلاة، قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيها ))(2)
والحديث الثاني عن عثمان بن أبي روّاد أخي عبد العزيز قال: (( سمعت الزهري يقول: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت ))(3)(9/272)
2ـ أما بالنسبة لحديث أنس بن مالك الأول فإنه قصد من قوله ( أليس صنعتم ما صنعتم فيها ) أنهم يؤخرونها حتى يخرج وقتها وقد كان هذا في زمن الحجاج وليس زمن الصحابة كما زعم، والذي خاطب أنس في هذا الحديث يقال له أبو رافع ذكره أحمد بن حنبل في روايته لهذا الحديث عن عثمان بن سعد عن أنس فذكر نحوه (( فقال أبو رافع: يا أبا حمزة ولاالصلاة؟ فقال له أنس: قد علمتم ما صنع الحجاج في الصلاة ))(4) وروى بن سعد في الطبقات سبب قول أنس هذا القول فأخرج في ترجمة أنس من طريق عبد الرحمن بن العريان الحارثي سمعت ثابتاً البناني قال (( كنا مع أنس بن مالك فأخّر الحجاج الصلاة فقام أنس يريد أن يكلمه فنهاه إخوانه شفقةً عليه منه، فخرج فركب دابته فقال في مسيرة ذلك: والله ما أعرف شيئاً مما كنا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شهادة أن لا إله إلا الله فقال رجل: فالصلاة يا أبا حمزة؟ فقال: قد جعلتم الظهر عند المغرب، أفتلك كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وأخرجه ابن أبي عمر في مسنده من طريق حماد بن ثابت مختصراً ))(5)(9/273)
3ـ أما حديث أنس الآخرالذي رواه الزهري فكان في إمارة الحجاج على العراق أيضاً، وقد قدم أنس لدمشق لكي يشكوا الحجاج للخليفة وهو إذ ذاك الوليد بن عبد الملك، أما المراد بقول أنس (( لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وقد ضيعت )) أي بتأخيرها عن وقتها فقد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها لما رواه عبدالرزاق عن أبي جريح عن عطاء قال (( أخَّر الوليد الجمعة حتى أمسى فجئت وصليت الظهر قبل أن أجلس ثم صليت العصر وأنا جالس إيماء وهو يخطب ))(6) وما رواه أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة من طريق أبي بكربن عتبة قال (( صليت إلى جنب أبي جحيفة فمسّى الحجاج بالصلاة فقام أبو جحيفة فصلى، ومن طريق ابن عمر أنه كان يصلي مع الحجاج فلما أخّر الصلاة ترك أن يشهدها معه ))(7)، وأما إطلاق أنس فلا يفهم منه أن هذا موجوداً في جميع بلاد الإسلام بل هو محمول على ما شاهده من أمراء الشام والبصرةخاصة، وإلا فإنه قدم المدينة فقال: ما أنكرت شيئاً إلا انكم لا تقيمون الصفوف والسبب فيه أنه قدم المدينة وعمر بن عبد العزيز أميرها حينئذ ))(8).(9/274)
4ـ أما قوله عن عثمان وعائشة في أنهما غيّرا في الصلاة فأقول: الصلاة المقصودة هناهي في باب السفر هل تقصر أم تتم وهذا الأمر فيه خلاف بين أهل العلم لمن له أدنى إلمام بالفقه وقد روي الخلاف بين الصحابة أيضاً في ذلك فروي عن عثمان وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم الإتمام في السفر وهو قول جمهور الصحابة والتابعين بل قد روي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتم في السفر ويقصر وسأل ابن عباس رجلٌ فقال: كنت أتم الصلاة في السفر فلم يأمره بالإعادة(9) وقد جاءت السنة الدالة على أن القصر رخصة في السفر وليس عزيمة لقوله تعالى { فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ( النساء ـ 101) فقد أخرج مسلمٌ في صحيحه عن يعلى بن أمية قال (( قلت لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ـ فقد أمن الناس فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ))(10) واحتج الشافعي على عدم الوجوب بأن المسافر إذا دخل في صلاة المقيم صلّى أربعاً بالاتفاق ولو كان فرضه القصر لم يأتم مسافر بمقيم(11) وأما إذا احتج هذا التيجاني بقول ابن مسعود بالحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن زيد قال (( صلّى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنىً أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر رضي الله عنه ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبّلتان ))(12) فأما قول ابن مسعود ( فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبِّلتان ) فـ( من ) هنا للبدلية مثل قوله تعالى { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } وهذا يدل على أنه(9/275)
كان يرى الإتمام جائزاً وإلا لما كان له حظ من الأربع ولا من غيرها فإنها تكون فاسدة كلها وإنما استرجع ابن مسعود لما وقع عنده من مخالفة الأولى ويؤيده ما روى أبو داود (( أن ابن مسعود صلى أربعاً فقيل له (( عبت على عثمان ثم صليت أربعاً. فقال: الخلاف شر ))(13) (( وفي رواية البيهقي ( إني لأكره الخلاف ) ولأحمد من حديث أبي ذر مثل الأول، وهذا يدل على أنه لم يكن يعتقد أن القصر واجب كما قال الحنيفية ووافقهم القاضي اسماعيل من المالكية وهي رواية عن مالك وعن أحمد. قال ابن قدامة: المشهور عن أحمد أنه على الاختيار والقصر عنده أفضل وهو قول جمهور الأصحاب والتابعين ))(14) وأما إذا استدل أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها حينما قالت ( الصلاة أول ما فرضت ركعتين.....) الحديث، وقول عائشة ( فرضت ) أي قدرت وأدل دليل على تعيين تأويل حديث عائشة هذا كونها كانت تتم في السفر(15).
5ـ ومن هنا نعلم أن القصر في السفر هو رخصة من الله والإنسان مخير بين الأخذ به أو تركه كسائر الرخص ونعلم أيضاً ضحالة تفكير هذا التيجاني الذي زعم أن الصحابة غيّروا في الصلاة فليت شعري كأن الصحابة غيروا صلاة الصبح فصلّوها أربعا! أو قصروا صلاة المغرب فجعلوها ركعة!!؟ وكأنه لم يكن في يوم من الأيام من أهل السنة وهذا أقرب إلى اعتقادي لأن أي سني يعرف هذه القضية الفقهية يقيناً ويعلم أن الصحابي لم يكن ليخالف فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في أمرٍ فيه عزيمة فضلاً عن زوجته.(9/276)
6ـ ونأتي الآن إلى تأويل عثمان وعائشة رضي الله عنهما فقد ذكر بعض أهل العلم (( أنهما كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر على ذلك لأمته فأخذا على أنفسهما بالشدة ))(16) ، وعن الزهري قال (( أن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب، لأنهم كثروا عامئذٍ فصلى بالناس أربعاً ليعلمهم أن الصلاة أربع ))(17) وقال ابن حجر في الفتح (( أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصاً بمن كان شاخصاً سائراً، وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم ))(18) ثم قال ابن حجر (( ولا مانع عندي أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارض للوجه الذي اخترته بل يقويه من حيث أن حالة الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلقة عليها بخلاف السائر وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان ))(19)، (( وأما عائشة فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحاً، وهو فيما أخرجه البيهقي من طريق هشام بن عروة عن أبيه ( أنها كانت تصلي في السفر أربعاً فقيل لها: لو صليت ركعتين. فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق عليّ ) إسناده صحيح وهو دالٌ على أنها تأولت أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل ))(20)
أخيراً ـ أقول أن قول هذا الرافضي ( وحتى لا يتوهم أن التابعين هم الذين غيروا...الخ ) في إشارة لحديث أنس يظهر دليلاً آخر على تدليس هذا ( الرويبض ) المشين فما دخل رواية أنس بن مالك بما روي عن عثمان وعائشة فالرواية الأولى وضحنا فيها أن التغيير من فعل الحجاج وليس من الصحابة، وأما فعل عثمان وعائشة فقد وضحناه في الفقرة السابقة وبات لدينا أن شيئاً واحداً هو الذي تغير ألا وهو عقل التيجاني؟!
ثالثاً ـ ادعاؤه أن الصحابة يشهدون على أنفسهم والرد عليه في ذلك:(9/277)
يقول التيجاني (( روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض. قال أنس فلم نصبر.
وعن العلاء بن المسيب عن أبيه قال: لقيت البراء بن عازب رضي الله عنه فقلت طوبى لك صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وبايعته تحت الشجرة، فقال:يا ابن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده. وإذا كان هذا الصحابي من السابقين الأولين الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، ورضي عنهم وعلم ما في قلوبهم فأثابهم فتحاً قريباً، يشهد على نفسه وعلى أصحابه بأنهم أحدثوا بعد النبي وهذه الشهادة هي مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وتنبأ به من أنّ أصحابه سيحدثون بعده ويرتدون على أدبارهم فهل يمكن لعاقل بعد هذا أن يصدق بعدالة الصحابة كلهم أجمعين ( أكتعين أبصعين ) على ما يقول به أهل السنة والجماعة، والذي يقول هذا القول فإنه يخالف العقل والنقل (!!!) ولا يبقي للباحث أي مقاييس فكرية يعتمدها للوصول إلى الحقيقة ))(1) ، فأقول:(9/278)
1ـ لم أجد هذه الرواية التي ذكرها التيجاني بهذا السياق بل وجدت الرواية هذه، عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك (( أناساً من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطي رجالاً من قريش المائَةَ من الإِبلِ، فقالوا: يغفرُ الله لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، يعطي قريشاً ويدعنا، وسيوفنا تقطرُ من دمائهم. قال أنس: فحُدِّثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأَرسلَ إلى الأنصار فجمعهم في قُبَّة من أدم، ولم يدع معهم أحداً غيرهم، فلمَّا اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( ما كان حديث بلغني عنكم ). قال لهم فُقهاؤُهم: أمَّا ذَوُو آرائِنَا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً، وأمَّا أُناسٌ مِنَّا حديثةٌ أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعطي قريشاً، ويترك الأنصار، وسيوفنا تقطر من دماءهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إني أعطي رجالاً حديثٌ عهدهم بكُفرٍ، أما ترْضوْنَ أنْ يذهب الناس بالأموال، وترجعوا إلى
رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فواللهِ ما تنقلبون به خيرٌ مما ينقلبون بهِ ). قالوا: بلى يا رسول الله قدْ رضينا، فقال لهمْ: ( إنكم ستَروْن بعدى أثرةً شديدةً فاصبروا حتى تلْقَوا الله تعالى ورسوله على الحوض ). قال أنس: فلم نصبر ))(2)
2ـ هذا الحديث كما هو ظاهر من فضائل الأنصار ويظهر حب رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار وكيف لا وهو قائل: (( الأنصار لا يُحِبُّهم إلا مُؤْمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله ))(3) . ويقول: (( آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار ))(4)،وفي هذا الحديث يقول (( أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم )) فهل يقول ذلك إلا لخير الناس.(9/279)
3ـ وقول أنس ( فلم نصبر ) لا يعدو أن يكون رأيه هو فلا يقبل أن يجعل حجة على جميع الصحابة ولعله أخطأ في قوله، لذلك لم يلتفت لهذه الزيادة أي من شراح الحديث.
4ـ لا يجوز شرعاً وعقلاً أن يحمل قول واحد من الصحابة لا يفهم منه القدح أصلاً لترد به آيات محكمة وكثيرة في مدح الصحابة عموماً ومدح الأنصار خاصة.
5ـ وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث ((... فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الحوض )) فلا يفهم منه أنهم إن لم يصبروا فلن يلقوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الحوض؟! و ( حتى ) بمنزلة ( إلى ) في إنتهاء الغاية مكانية كانت أو زمانية ولم يستخدم أداة الشرط فيقول ( إن ) صبرتم ستلقوني على الحوض حتى يجعل التيجاني قول أنس دليل على إحداثهم وانقلابهم على فرض التسليم بصحة وجهة نظر أنس، هذا إذا ما أضفنا إلى أن الحديث في الأصل مدح للأنصار وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الحجة وليس قول أنس.
6ـ ولعل انس ذكر ذلك بسبب موقف قومه من الخلافة ومحاولة منازعتهم للمهاجرين في بداية الأمر ولعل الذي يؤكد ذلك ما رواه أنس عن أسيد بن حضير، أن رجلاً من الأنصار خلا برسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال: ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟ فقال (( إنكم ستلقون بعدي أثرة. فاصبروا حتي تلقوني على الحوض ))(5) خصوصاً إذا عرفنا أن ( الأثرة ) هي: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا(6).(9/280)
7ـ أما بالنسبة لقول الصحابي البراء بن عازب ( إنك لا تدري ما أحدثنا بعده ) فهو ( يشير إلى ما وقع لهم من الحروب وغيرها فخاف غائلة ذلك، وذلك من كمال فضله )(7) ومن المعلوم أن عليا بن أبي طالب كان أحد المشاركين في هذه الحروب فلا بد أن يشمله الخطاب على حد فهم التيجاني فيكون ممن أحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الحق الذي يجب أن يقال أن هذين الحديثين لا يمكن أن يردّا مجموع الأدلة القرآنية والحديثية في مدح الصحابة والرضا عنهم من الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم ووقوعهم في الأخطاء لا ينفي فضلهم وطهارتهم الظاهرية والباطنية فاحتجاج التيجاني بمثل هذه الأقوال على الطعن في عموم الصحابة مثله كمثل من يصد صاروخاً بترس؟!
===============
طعن الرافضي على الصحابة بقوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار}، والرد عليه.
قال الرافضي ص112: «المثال الأول على ذلك هو آية
محمد رسول الله يقول تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً}. (1)
قال بعد ذلك: «.. فكلمة (منهم) التي ذكرها الله تعالى دلت على التبعيض وأوحت أن البعض من هؤلاء لاتشملهم مغفرة الله ورضوانه، ودلت أيضاً على أن البعض من الصحابة انتفت منهم صفة الإيمان والعمل الصالح، فهذه الآيات المادحة والقادحة في آن واحد فهي بينما تمدح نخبة من الصحابة تقدح في آخرين».
قلت: تضمنت هذه الآية الكريمة أبلغ الثناء والمدح من الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه لهم بتلك الصفات العظيمة، الدالة على(9/281)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الفتح آية 29.
علو قدرهم في الدين، ورسوخ قدمهم في الإيمان والعمل الصالح، وأما
ما ادعاه هذا الرافضي أن (منهم) في قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم...}(1) للتبعيض وأنها تدل على انتفاء الإيمان والعمل الصالح عن بعضهم، فهذا من فرط جهله، وجرأته على الله، وكذبه عليه بما لا تحتمله الآية ولا يستند لقول أحد من أهل العلم في تفسيرها.
والذي عليه المفسرون وأهل العلم أن (من) في الآيه لبيان الجنس فيكون المعنى: (وعد الله الذين آمنوا من هذا الجنس) وهم
الصحابة.
قال القرطبي: «وليست من في قوله: (منهم) مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم، ولكنها عامة مجنسة مثل قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}(2) لايقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس أي: فاجتنبوا الرجس من جنس الأوثان إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب فأدخل (من) يفيد بها الجنس وكذا (منهم) أي: من هذا الجنس، يعني: جنس
الصحابة، ويقال: أنفق نفقتك من الدراهم أي: اجعل نفقتك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الفتح آية 29.
(2) سورة الحج آية 30.
هذا الجنس».(1)
وكذا قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «من هذه لبيان الجنس».(2)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: «فإن قيل لم قال: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم}(3) ولم يقل: وعدهم كلهم؟
قيل: كما قال: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا
الصالحات}(4) ولم يقل: وعدكم و(من) تكون لبيان الجنس، فلا يقتضي أن يكون قد بقي من المجرور بها شيء خارج عن ذلك الجنس، كما في قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}(5) فإنه لا يقتضي أن يكون من الأوثان ما ليس برجس.(9/282)
وإذا قلت: ثوب من حرير فهو كقولك: ثوب حرير، وكذلك قولك: باب من حديد كقولك: باب حديد، وذلك لا يقتضي أن يكون هناك حرير وحديد غير المضاف إليه، وإن كان الذي يتصوره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجامع لأحكام القرآن 16/282.
(2) تفسير ابن كثير 4/205.
(3) سورة الفتح آية 29.
(4) سورة النور آية 55.
(5) سورة الحج آية 30.
كلياً فإن الجنس الكلي هو: مالا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإن لم يكن مشتركاً فيه في الوجود، فإذا كانت (من) لبيان الجنس كان التقدير: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات} من هذا الجنس وإن كان الجنس كلهم مؤمنين مصلحين»(1).
فتبين بهذا بطلان ما ادعاه الرافضي من أن (من) في الآية تبعيضية واستدلاله بها على انتفاء الإيمان والعمل الصالح عن بعض الصحابة، لمخالفة ذلك لما ذكره العلماء هنا، بل مخالفته لعموم نصوص الكتاب والسنة، القاطعة بعدالة الصحابة وتزكيتهم، والشهادة لهم بالإيمان والتقوى، والسبق في ذلك، وما أخبر الله عنهم من رضاه عنهم، ورضاهم عنه، ووعده لهم بأعلى الدرجات في الجنة، ومخالفته كذلك لما هو معلوم بالاضطرار للمسلمين، وما انعقد عليه إجماعهم من حسن الثناء عليهم، والاعتراف لهم بالفضل والسبق في الدين، وأن الأمة بعدهم لا يبلغوا مراتبهم، ولا يدانوهم في الفضل، مما يجعل الطعن فيهم طعن في الأمة، والقدح فيهم قدح في الكتاب والسنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السنة 2/38-39.
طعن الرافضي على الصحابة بقوله تعالى: {وما محمد إلارسولٌ قد خلت من قبله الرسل} والرد عليه.(9/283)
قال المؤلف ص114: «قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}.(1)
ثم قال بعدها: «فهذه الآية صريحة وجلية في أن الصحابة سينقلبون على أعقابهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، ولا يثبت منهم إلا القليل، كما دلت على ذلك الآية في تعبير الله عنهم -أي:عن الثابتين الذين لاينقلبون- بالشاكرين، فالشاكرون لايكونون إلا قلة، كما دل عليه قوله سبحانه وتعالى: {وقليل من عبادي الشكور}».(2)
إلى أن قال ص115: «والمهم أن آية الانقلاب تقصد الصحابة مباشرة، الذين يعيشون معه في المدينة المنورة، وترمي إلى الانقلاب مباشرة بعد وفاته بدون فصل...».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران آية 144.
(2) سورة سبأ آية 13.
قلت: قاتل الله الجهل ما أضره بأهله!! ولو اطلع هذا المتشدق بما لا يعلم في كتاب مختصر من كتب التفسير، على سبب نزول هذه الآية، التي زعم أنها في الردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، ورمى الصحابة بذلك، لم يقل ما قال، ولكان في ستر من هذه الفضيحة، التي تشهد بجهله وتقوله على الله بلا علم ولا بصيرة، وذلك أن هذه الآية نزلت يوم أحد، عندما أصاب المسلمين ما أصابهم، وشج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته، وشاع في الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل، فقال بعض المنافقين: إن محمداً قد قتل فالحقوا بدينكم الأول فنزلت هذه الآية.(9/284)
روى الطبري في تفسيره بسنده عن الضحاك قال في قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل}(1)، «ناس من أهل الارتياب والمرض والنفاق، قالوا يوم فرّ الناس عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وشج فوق حاجبه، وكسرت رباعيته، قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول، فذلك قوله: {أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}». (2)
وروى أيضاً عن ابن جريج قال: «قال أهل المرض والارتياب والنفاق، حين فرّ الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم : قد قتل محمد، فالحقوا بدينكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران من الآية 144.
(2) تفسير الطبري 3/458.
الأول فنزلت هذه الآية». (1)
فالمقصود بالانقلاب على الأعقاب في الآية هو: ما قاله المنافقون لما أُشيع في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، وهو قولهم: ارجعوا إلى دينكم الأول. ولم تكن هذه الآية فيمن ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت هي حجة عليهم، مع أنها لو كانت فيمن ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لكانت أظهر في الدلالة على براءة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المرتدين، فإنهم هم الذين قاتلوهم، وأظهر الله دينه على أيديهم، وخذل المرتدين بحربهم لهم، فرجع منهم من رجع إلى الدين، وهلك من هلك على ردته، وظهر فضل الصديق والصحابة بمقاتلتهم لهم.
ولهذا ثبت عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقول في قوله تعالى: {وسيجزي الله الشاكرين}(2)، (الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه). (3)
وكان يقول: (كان أبو بكر أمين الشاكرين، وأمين أحباءِ الله، وكان أشكرهم وأحبهم إلى الله). (4)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبري 3/458.
(2) سورة آل عمران من الآية 144.
(3) تفسير الطبري 3/455.(9/285)
(4) المصدر نفسه.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجهادون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}(1)، أنها كانت في أبي بكر وأصحابه، لما كان في علم الله أنهم سيقاتلون أهل الردة.
روى الطبري بسنده عن علي - رضي الله عنه - أنه قال في قوله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}، (بأبي بكر وأصحابه).
وعن الحسن البصري قال: (هذا والله أبو بكر وأصحابه).
وعن الضحاك قال: (هو أبو بكر وأصحابه، لما ارتد من ارتد من العرب عن الإسلام جاهدهم أبو بكر وأصحابه، حتى ردهم إلى الإسلام).
وبهذا قال قتادة وابن جريج وغيره من أئمة التفسير. (2)
فتأمل أيها القارئ كيف أن هذا الرافضي الحاقد يرمي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، في حين أنهم هم الذين قاتلوا المرتدين، وأثنى الله عليهم بذلك، واشتهر في الأمة فضلهم بما قاموا به من نصرة دين الله بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، وجهادهم أولئك المرتدين على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة آية 54.
(2) تفسير الطبري 4/623-624.
كثرتهم، مما لا يجهله أحد من عوام المسلمين اليوم، فضلاً عن علمائهم، ثم يأتي هذا الرافضي فيتهم هؤلاء الصحابة بالردة مصادماً بذلك النصوص والواقع، بل وحتى العقل. فلو كان لهذا الرجل عقل، لما قال ما قال، فيصبح أضحوكة بين الناس، بهذا الهذيان الذي يدل على سخافة في العقل وبلادة في الفهم.
ولقد أحسن الشعبي -رحمه الله- في قوله: (ما رأيت قوماً أحمق من الشيعة، لو كانت الشيعة من الطير لكانت رخماً، ولو كانوا من الدواب لكانوا حمراً). (1)(9/286)
ولقد صدق شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في وصفهم بقوله: «القوم من أضل الناس على السواء، فإن الأدلة: إما نقلية، وإما عقلية، والقوم من أضل الناس في المنقول والمعقول، في المذاهب والتقرير، وهم من أشبه الناس بمن قال الله فيهم: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} ».(2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الخلال في السنة 1/497، واللالكائي في شرح السنة 7/1267.
(2) منهاج السنة 1/8. والآية من سورة الملك آية 10.
طعن الرافضي على الصحابة بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض...} والرد عليه.
قال المؤلف ص115 قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل % إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شئ قدير}.(1)
ثم قال: «هذه الآية صريحة في أن الصحابة تثاقلوا عن الجهاد، واختاروا الركون إلى الحياة الدنيا، رغم علمهم بأنها متاع قليل، حتى استوجبوا توبيخ الله سبحانه، وتهديده إياهم بالعذاب الأليم واستبدال غيرهم من المؤمنين الصادقين بهم.
وقد جاء هذا التهديد باستبدال غيرهم في العديد من الآيات، مما يدل دلالة واضحة على أنهم تثاقلوا عن الجهاد في مرات عديدة، فقد جاء في قوله تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة آيتا 38-39.
أمثالكم}. ..».(1)(9/287)
إلى أن قال: «ومن البديهي المعلوم أن الصحابة تفرقوا بعد النبي [ صلى الله عليه وسلم ]، واختلفوا، وأوقدوا نار الفتنة، حتى وصل بهم الأمر إلى القتال والحروب الدامية، التي سببت انتكاس المسلمين وتخلفهم، وأطمعت فيهم أعداءهم».
وجوابه: أنه ليس في هاتين الآيتين مطعن على أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما فيهما حث الله تعالى الصحابة على الجهاد، وذلك عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في غزوة تبوك بغزو الروم، وكان ذلك في زمن عسرة وفاقة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، مع شدة الحر وبعد السفر، فشق ذلك على بعضهم، فنزلت الآيات في الترغيب في الجهاد في سبيل الله، والتحذير من التثاقل عنه فاستجاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأمر ربهم.
قال الطبري في تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض}(2): «وهذه الآية حث من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة محمد آية 38.
(2) سورة التوية آية 38.
الروم، وذلك غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك». (1)
ولاشك أن هاتين الآيتين تضمنت نوع عتاب من الله تعالى لبعض من ثقل عليهم الخروج في الجهاد، وهذا قطعاً لا يرد على عامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين استجابوا لله ورسوله بالمسارعة في الخروج في سبيل الله، وهم غالب الصحابة وأكثرهم.
قال ابن كثير في تفسير الآية: «هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك». (2)(9/288)
قلت: ومعلوم أنه لم يتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أحد من أصحابه من غير أهل الأعذار، إلا ثلاثة نفر كما دل على ذلك حديث كعب بن مالك المشهور في الصحيحين(3) وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، ومع هذا فقد ثبت بنص كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أن الله تاب على الجميع، وأنزل في توبته على سائر الصحابة وحياً يتلى في كتابه وذلك في قوله تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبري 6/372.
(2) تفسير ابن كثير 2/357.
(3) انظر: صحيح البخاري: (كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك) فتح الباري 8/113-116، ح4118، وصحيح مسلم: (كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب وصاحبيه) 4/2120-2128، ح2769.
والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم % وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم}. (1)
فتضمنت هذه الآيات إخبار الله تعالى عن توبته على المهاجرين والأنصار الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، والتي تسمى غزوة العسرة فلم يتخلفوا عنه مع ما أصابهم فيها من الجهد والشدة والفقر، حتى جاء في بعض الروايات أن النفر منهم كانوا يتناولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها حتى تأتي على آخرهم. (2)
كما تضمنت توبة الله على الثلاثة المخلفين(3) الذين تأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة بعد هجر النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وندمهم ندماً
عظيماً حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.(9/289)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة آيتا 117،118.
(2) انظر: تفسير الطبري 6/502، وتفسير البغوي 2/333.
(3) وصفوا بالمخلفين لأنهم خلفوا عن التوبة عندما جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم واعترفوا بذنوبهم فقال لهم قوموا حتى يقتضي الله فيكم، ثم أنزل الله توبتهم في الآيات المذكورة أعلاه، انظر تفسير الطبري 6/505.
فلم يبق بعد ذلك عذر لأحد في النيل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو غمزهم بشيء مما قد يقع منهم، بعد مغفرة الله لهم وتوبته عليهم، وثنائه عليهم الثناء العظيم في كتابه، وتزكية الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في سنته -y- أجمعين.
والرافضة يدركون هذا وإنما يحملهم حقدهم على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبغضهم لهم على تنقصهم وسبهم بغير حق، وغمط مناقبهم، وفضائلهم الثابتة في الكتاب والسنة، التي لا يجهلها أحد من الأمة.
ولهذا ذكر هذا الرافضي الآيات السابقة في حث الله تعالى الصحابة على الجهاد في سبيل الله، مستدلاً بها على ذمهم وتنقصهم، وأغفل ما جاء في سياق هذه الآيات وبعدها مباشرة، وهو قوله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}(1) وذلك حجباً منه لما تضمنته الآية من إثبات تلك المنقبة العظيمة لأبي بكر، وهي صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وكذلك تجاهله الآيات الأخرى في السورة نفسها، المشتملة على ثناء الله تعالى على الصحابة كقوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة آيه 40.(9/290)