الخطاب الإسلامي بين الواقع والمأمول
تأليف
محمد بن موسى الشريف
z
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
... فإن الخطاب الإسلامي هو الوسيلة لإيصال ما يريده الشارع المطهر من الناس، فالأوامر والنواهي جزء مطلوب إيصاله عبر الخطاب الإسلامي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء ثانٍ، والدعوة إلى الله تعالى بلسان المقال جزء ثالث، هكذا نرى أن الخطاب الإسلامي واسع، متشابك، عظيم الأثر، فاعل في الناس الأفاعيل.
لكن لن يحقق هذا الخطاب ما هو مأمول منه حتى يتسم بسمات تؤهله ليكون في موقع الصدارة بين أنواع مختلفة من الخطابات، ويستعين بوسائل مناسبة لروح العصر، ويتجاوز جوانب الضعف والقصور، فإذا صنع ذلك كان أهلاً أن يغزو القلوب، ويفتح العقول، وينير البصائر، ويشرح الصدور.
... والحديث كثير متشعب عن الخطاب الإسلامي، وفيه نظر طويل لكني أوثر أن أعرض بإيجاز واقعه وما هو المأمول منه حتى يكون معلماً للمبتدي، ومذكراً للمنتهي المؤتسي.
... لكني قبل ذلك سأسوق بإيجاز أيضاً بعض العقبات المهمة أمام وصول الخطاب الإسلامي إلى المسلمين عامة من باب الإنصاف والإعذار. (1)
وكتبه
محمد بن موسى الشريف
mmalshareef@hotmail.com
www.altareekh.com
المبحث الأول: عقبات أمام الخطاب الإسلامي
... هناك عقبات عديدة أمام وصول الخطاب الإسلامي إلى عامة الناس، وهذه العقبات -في الغالب- ليست منبعثة منه لكنها مصطنعة من أعدائه، وبسبب هذه العقبات قد يتخلف الخطاب الإسلامي عن الخطابات الأخرى، ومن هذه العقبات:
1. التضييق عليه:
إن عدم فتح الباب للخطاب الإسلامي على مصراعيه ليؤدي مهمته، وليوصل صوته للعقول والقلوب، مؤثر في جودته وعقبة أمام تفوقه، وهذا كائن في أغلب البلاد الإسلامية، ومن المعلوم أن الحرية المنضبطة طريق للإبداع والتفوق.
__________
(1) أصل هذه الرسالة بحثٌ ألقيته في مؤتمر مكة الثامن في موسم حج سنة 1428.(1/1)
2. قلة المال الحر:
إن عدداً كبيراً من المذاهب الضالة والأديان الباطلة والفرق المنحرفة تجد من المال الشيء الكثير لإيصال صوتها إلى أبعد مدى، لكن الخطاب الإسلامي ـ في أكثر جوانبه ـ يعاني من الضعف الشديد في الموارد المالية، ولا يجد غالباً إلا الفتات الذي لا يستطيع به أن يبدع ويتفوق ويتجاوز الإخفاق ومواطن الضعف، ومن وجد المال فإنه يجده مالاً آمراً، مسيطراً، فارضاً ما يريده ولو كان باطلاً في ميزان الشرع.
3. قلة الأفراد الموهوبين في إيصال الخطاب الإسلامي:
وهذه عقدة وثيقة، وهي متسببة مما ذكر في العاملين السابقين، فالموهوبون والمتفوقون العاملون في مجالات الخطاب غير الإسلامي يُغدق عليهم المال إغداقاً، وأمامهم حرية نسبية متاحة هي أوسع بكثير من أصحاب الخطاب الإسلامي.
4. العداء الشديد له:
إن للخطاب الإسلامي أعداء كثيرين، ذوي مكر وكيد، وأصحاب أموال وقدرات، وهذا ـ مع العوامل المذكورة آنفاً ـ له أثر كبير في حصار الخطاب الإسلامي والتضييق عليه.
5. المطالبة المستمرة له بالتجديد:
وهذه المطالبات بالتجديد تكون حقاً تارة، وباطلاً أخرى، وحقاً يراد به الباطل في بعض الأحيان !! وهذه المطالبات هي كالمطارق على رأس القائمين على هذا الخطاب لا تترك لهم فرصة للمراجعة والتفكير الطويل فيما يقومون به من أعمال يومية سريعة.
6. السيل الجارف من الشبهات والشهوات التي يقاومها الخطاب الإسلامي:
أما الشهوات فحدث عن البحر ولا حرج، وماذا عساه أن يصنع القائمون على إيصال الخطاب الإسلامي أمام هذا المد الجارف، لكن عون الله أعظم وأقوى.(1/2)
أما الشبهات فهناك سيل قوي هادر يدوي ليل نهار بأن الإسلام دين الإرهاب، وليس فيه حقوق للإنسان، وقد انتشر بالسيف والإكراه، إلى آخر هذه الشبهات الباطلة التي تواجه القائمين على إيصال الخطاب الإسلامي إلى الناس، وأيضاً ماذا عساهم أن يفعلوا ؟ وأي خرق يسدون ؟ وأي ثغرة يغلقون ؟ لكن المأمول من عون الله أعظم من كيد البشر.
7. الانتشار الواسع لوسائل الخطاب في الأمم والفرق والمذاهب الضالة، والتفنن في وسائل إيصال خطاباتها:
إن هذا التفنن والانتشار الضخم دائم التجدد والتغير، واسع الأثر، بل أستطيع أن أقول إنه غزو لقلوب المسلمين وعقولهم، والخطاب الإسلامي ـ بسبب العوامل آنفة الذكر وغيرها ـ يجد نفسه محاصراً وسط هذا الضلال المُحْكِم المسيطر، ولولا الحق الذي في الخطاب الإسلامي ولولا صفاؤه ونقاؤه بعد عون الله تعالى لما استطاع أن يقف أصلاً بوسائله الضعيفة أمام هذا الزحف الضخم.
هذه بعض العقبات أوردتها بإيجاز، ولتفصيلها موضع آخر، ويكفي الإشارة إليها تمهيداً لما سيأتي، والله الموفق.
المبحث الثاني: واقع الخطاب الإسلامي
... بالنظر فيما ذكرته في المبحث الأول: "عقبات أمام الخطاب الإسلامي" وبالنظر في واقع هذا الخطاب اليوم يتضح جلياً أن هناك ضعفاً في جوانب عديدة من هذا الخطاب، وقبل سردها لابد من القول إنصافاً إن هذا الخطاب قد تقدم كثيراً في السنوات الثلاثين الماضية التي اصطُلح على تسميتها بـ "الصحوة الإسلامية"، بل ليس هناك أفعل تفضيل بين تقدمه في هذه المدة ومدة ما قبل الصحوة، فقد ارتفعت وسائل هذا الخطاب وتنوعت طرق إيصاله إلى القلوب والعقول، فظهرت مواهب عديدة شقت طريقها بقوة في وسط هذا الركام من الضلال الذي ساد طويلاً، وقاد طويلاً ! وأضل كثيراً.(1/3)
... لكن لما كان المقام مقام الحديث عن الخطاب الإسلامي من جانب محدد ألا وهو واقعه والمأمول منه فلا أستطيع هاهنا أن أورد جوانب التقدم هذه ولا الحديث عنها ولعل لذلك مقاماً آخر، وتكفي الإشارة إليها إنصافاً وإحقاقاً للحق.
وها أنذا أسرد بإيجاز بعض جوانب الضعف في الخطاب الإسلامي المعاصر:
1. ضعف الشمول:
إن الإسلام دين شامل لكل مناحي الحياة الدنيا، فليس هناك صغيرة ولا كبيرة إلا وقد تناولها الإسلام العظيم في شمول باهر، عبر عنه ذلك اليهودي الذي قال لسلمان الفارسي رضي الله عنه: "قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل". (1)
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب الاستطابة.(1/4)
ولا مانع من التخصص في الخطاب الإسلامي، وقد جاء هذا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" (1) ، لكن الخطأ كل الخطأ أن يفتح الطريق أمام من يُسر له شيء من وسائل الخطاب ويُغلق أمام آخر، بمعنى أن يُعرض الإسلام مبتوراً مضخماً بعض جوانبه دون بعض، وهذا يضر كثيراً؛ فالإسلام دين الله الخالد الباقي الكامل الشامل لكل جوانب الحياة، وقد حضرت مرة مخيماً قد رفع شعاراً: "الرسول صلى الله عليه وسلم رسول السلام" فسألني القائم على المخيم: هل أعجبك شعار المخيم ؟! فقلت له: لا، إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو رسول السلام حقاً، وهو الذي جاء بالسلام الحقيقي صدقاً، لكنه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم رسول القوة، والجهاد، والملحمة، والحرب، والغزو أيضاً، فلا يصلح أن نرفع شعاراً مقتصراً على جانب دون جانب مبتسراً، مبتوراً؛ لأن هذا له أثره الضار على الأجيال المسلمة، التي ما فتئت تسمع كلمة السلام وحُرم عليها أن تسمع الخطاب الجهادي، فينشأ ناشئ الإسلام على سماع شيء منه مضخماً للغاية متجاوزاً حدوده وأهدافه، وهو غافل كل الغفلة عن جوانب العظمة الأخرى التي هي من أعظم ما جاء به هذا الدين العظيم.
ـ وبعض أنواع الخطاب الإسلامي أسرف في تناوله لما تخصص فيه وضخمه، وجعل كل المشكلات التي نزلت بالمسلمين إنما سببها الغفلة عما تناوله هو وتخصص فيه، وهذا إسراف في الأخذ والتناول والحكم ما كان ينبغي الوقوع فيه.
__________
(1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: كتاب التفسير، ومواضع أخرى.(1/5)
ـ والمشكلة كل المشكلة أن الذين تخصصوا في شيء لم ينسقوا مع غيرهم ممن تخصص في شيء آخر، وربما لم يكتفوا بعدم التنسيق بل تعدى ذلك إلى الخصام والعداء وتسفيه كل فريق الفريق الآخر وما هو عليه، وصار كلٌ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا، وعُرض الخطاب الإسلامي في أحوال كثيرة مبتسراً مبتوراً، حتى أن المسلمين حديثاً ممن ليس لهم دراية بشمول الإسلام اعتنقوه على طريقة من اقتنعوا بخطابه، فمنهم من صار جهادياً محضاً ولا يريد أن يرى أو يسمع شيئاً آخر، ومنهم من صار طُرُقياً غالياً لا يرى النجاة إلا في هذا، ومنهم من أسرف في القضايا المتصلة بالعقل، أو القلب، أو الفكر، إلى غير ذلك من الاتجاهات، والسبب في هذا هو الضعف في عرض الإسلام كلاً لا يتجزأ شاملاً لكل مناحي الحياة، ثم بعد ذلك يؤخذ منه ما يؤخذ على وجه التخصص والتفرغ والعناية.
ـ ولئن صح التخصص في الخطاب الإسلامي النظري فلا يصح في خطاب الإعداد العملي، الذي ينبغي أن يكون خطاباً شاملاً، فلابد من إعداد فكري ونفسي وروحي وبدني وثقافي وتربوي وسياسي بحيث يشمل هذا الخطاب جوانب الحياة كلها لئلا تصبح الشخصية الإسلامية مبتورة مشوهة.
ـ وهناك أنواع من الخطاب لم تراع الشمول المطلوب، فتخاطب الروح وتهمل جوانب الفكر والثقافة، أو توغل في الخطاب الفكري والثقافي والسياسي وتهمل الخطاب الإيماني، وهكذا خطاب إن طال أمده على الناس وأعجبوا بأصحابه فإن عدداً كبيراً منهم سيعيش بشخصية مبتورة، وبتصورات مشوهة عن الإسلام، وسيصبح الشمول في الإسلام ـ وهو من أعظم مزاياه ـ مستنكراً مستغرباً عند كثير ممن رُبوا على خطاب قاصر وغير متوازن.
2. جمود الآليات:
إن هناك كثيراً من القائمين على الخطاب الإسلامي لا يحسنون التعامل مع الآليات الجديدة لإيصال هذا الخطاب الجليل إلى الناس، وقد أثبتت هذه الآليات الجديدة فائدتها الكبرى في هذا الباب؛ فهناك ضعف في استخدام الحاسب "الكمبيوتر".(1/6)
وأعداد قليلة من الدعاة والمشايخ يستطيعون استعمال شبكة المعلومات "الانترنت" والاستفادة منها.
وهناك طرائق جديدة للخطاب تقدم في دورات تدريبية لكن لا يطلع عليها إلا القليلون ولا يشارك فيها إلا أعداد محدودة.
وقلة من الدعاة تشارك في القنوات الفضائية، وبعضهم يحرم المشاركة ـ على أنهم قلة قليلة ـ بدعوى حرمة التصوير، وهذه القنوات الفضائية قد غزت القلوب والعقول على نحو عجيب، وكان لبعض المشاركات الإسلامية في هذا الفضاء الواسع أثر مشكور غير منكور، وقد هدى الله بها أمماً وطوائف.
نعم إن هناك تحسناً كبيراً في السنوات الأخيرة في قضية تجديد الوسائل لكنها ليست كافية بعد، وهناك نفر من الدعاة لم يفهموا بعد أن "الناس يتباينون في كل شيء: يتباينون في ذكائهم وعلمهم، كما يتباينون في أمزجتهم ومشاعرهم، ثم إنهم يختلفون في أفكارهم وتصوراتهم كما يختلفون في ميولهم واتجاهاتهم، كل هذا مما يفرض على الدعوة وعلى الداعية تخير المدخل الأكثر مناسبة إلى نفوسهم، والأسلوب الأكثر ملائمة إلى عقولهم" (1)
والأسباب الرئيسة لجمود الآليات هي التالي:
أ. القول بتوقيفية الوسائل:
ظن بعض القائمين على الخطاب الإسلامي أن الآليات توقيفية؛ أي لا بد لها أن تكون الآليات نفسها التي كانت في عهد النبوة الأغر، وهذا خطأ مخالف للشرع وللعقل؛ فإن الآليات وسائل يحكمها الاجتهاد والنظر في المصالح.
ب. قلة الاطلاع، وضعف الثقافة العامة:
وهذا منتشر في صفوف كثير من القائمين على الخطاب الإسلامي، بحيث تقل استفادته أو تنعدم من الوسائل الجديدة التي تظهر بين الحين والآخر حتى صار من الصعب متابعتها وحصرها بَلْهَ الاستفادة منها.
ج. التأخر في الحكم على الوسائل الجديدة ومن ثم الاستفادة منها:
__________
(1) :كيف ندعو إلى الإسلام": 29.(1/7)
إن كثيراً من القائمين على الخطاب الإسلامي وقفوا من بعض الوسائل أوائل ظهورها موقف الرفض والهجوم فحُرِموا من الاستفادة منها في إيصال صوتهم إلى الجمهور الإسلامي، فحرم بعضهم مكبر الصوت وعده بدعة، وبعضهم امتنع من استعمال المذياع "الراديو"، وأما الرائي "التلفاز" فقد تأخرت الاستفادة منه تأخراً منتقداً، بل إن بعض المشايخ يحرمه ويحرم الظهور فيه إلى يوم الناس هذا !! وقل الشيء نفسه تقريباً في "الانترنت" وهو شبكة المعلومات العالمية التي غزت قلوب وعقول مئات الملايين في العالم.
نعم إن هناك محاذير في استعمال هذا المذكور كله لكن لابد مما ليس منه بد، والعاقل هو الذي يعرف خير الخيرين وأهون الشرين.
د. الجمود:
بعض الناس يجمد على لون واحد من التفكير ومن العمل، لا يحيد عنه، ولا يقبل نقاشاً فيه، وهذه طبيعة فيه لا يستطيع الانفكاك منها ولا الحيدة عنها، وهذه الطبيعة ستسوقه حتماً إلى الجمود على ما هو عليه من آليات العمل ووسائله وطرقه.
3. الضعف:
هناك ضعف في الخطاب الإسلامي في بعض الأحيان يتمثل في التالي:
أ. عدم التوازن بين أنواع الخطاب:
فهناك من يكثر من الخطاب العاطفي ويغفل الخطاب العقلي والفكري والثقافي، فتجده يحصر الإسلام والدعوة إليه في قضايا العاطفة التي تسمى شرعاً بالترغيب والترهيب، وبعضهم يقتصر على الترغيب فقط، فيؤدي هذا إلى بتر الشخصية الإسلامية، وتضررها من عدم التوازن المطلوب في الخطاب.
... وهناك من يأخذ بالخطاب السياسي والثقافي والفكري ويغفل الروحي، وهناك من يأخذ بالعقلي ويغفل العاطفي، إلى آخر صور عدم التوازن في طرح الخطاب، وقد سبق تفصيل ذلك في الفقرة الأولى.
ب. ضعف المنهج العلمي:
هناك مظاهر كثيرة تحكي ضعف المنهج العلمي في بعض الخطابات الإسلامية، ويتمثل هذا الضعف في الجوانب التالية:
1. الأحاديث شديدة الضعف أو الموضوعة.
2. النصوص التراثية الضعيفة، أو الشاذة، أو المخالفة لمقصد الإسلام.(1/8)
3. قلة التوثيق أو عدمه.
4. بتر النصوص، والأخذ ببعضها دون بعض.
5. الانتقائية التي يحكمها الهوى والاعتبارات الشخصية.
6. مزج اتجاه المخاطِب ورأيه بالقواعد والأحكام الشرعية وجعل ذلك شيئاً واحداً.
7. التعجل في إصدار الأحكام وتبني المواقف دون دراسة متأنية علمية.
8. المبالغة والتهويل، وقد أصبح الأخذ بهما أمراً سائداً في الخطاب الإسلامي سواء في وصفه الهيكل الإسلامي أو غيره، وفي النقد وغيره: "ولهذا شاع أفعل التفضيل ... : الأعظم، والأقوى، والأفضل والأمثل، والأحقر والأضعف، والأسوأ، كما شاعت الأوصاف الضخمة والفخمة، والألفاظ الرنانة، والجمل المثيرة. إننا نبالغ في الإعجاب بأنفسنا، ونبالغ في النقد لغيرنا، ولا ينازع عاقل أن نعتز بأنفسنا وحضارتنا، فهذا هو الواجب في أمة تريد أن تنهض وتتبوأ مكانها تحت الشمس، وخصوصاً عندما تواجه بغزو حضاري وثقافي يريد أن يقتعلها من جذورها، ويشككها في وجودها ذاته، ولكن الخطر أن يستحيل هذا الإعجاب إلى عُجْب وغرور" (1)
9. الحديث بالعامية وتجاهل الفصحى: وهذا إن كان بسبب جهل المخاطِب بها فهو قصور، وإن كان يعرفها لكنه يهملها فهو قصور أعظم، وضعف أكبر، ودال على تهاون غير مقبول، ويهون من شأن العربية عند المخاطبين.
جـ. الخطاب الاعتذاري التبريري:
__________
(1) من مقالة للأستاذ القرضاوي "أين الخلل" في مجلة الأمة عدد شعبان سنة 1405هـ ص11.(1/9)
وهذه علة كبيرة في بعض الجهات القائمة على الخطاب الإسلامي، ألا وهي أن خطابها خطاب تبريري اعتذاري، فإذا ورد في النصوص الشرعية أو في سياق الأحداث التاريخية ما يُظن أنه غير مناسب لأهل العصر، أو لا يقبله المنهج العلمي الغربي، أو لا تستسيغه أذواق الكفار، إذا ورد مثل ذلك عمد هؤلاء إلى تأويل هذه النصوص أو الحكم عليها بالضعف أو الوضع لا لشيء إلا لأنها غير مستساغة أو تصادم فكراً غربياً سائداً قد استقر اليوم وكثر أنصاره ومريدوه، ومن أمثلة ذلك في هذا العصر القول بأن الجهاد إنما هو جهاد الدفع فقط وليس هنالك جهاد طلب، والقول بجواز زواج المسلمة من الكافر، والقول بأن التعدد لا يجوز إلا لضرورة، والقول بحل أنواع من الربا، إلى آخر هذه الأمثلة التي تنطق بالضعف والتراخي والانهزام أمام الثقافة الغربية والفكر الوافد.
د. ضعف الأخذ بالمرجعية الشرعية:
... هناك بعض أنواع من الخطاب الإسلامي يضعف لديها الأخذ بالمرجعية الشرعية وتحكيمها، ويتمثل هذا بالآتي:
1. إثارة قضايا تعد من المحكمات والثوابت والمسلمات، والمطالبة بإعادة النظر فيها.
2. قلة الرد إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في القضايا المختلف فيها.
3. تحدث غير المؤهلين شرعاً في قضايا شرعية محضة، أو قضايا دعوية لا بد فيها من الاستناد إلى الحكم الشرعي.
4. ضعف التفريق بين الكتاب والسنة وبين فهوم العلماء لهما، فالكتاب والسنة أصلان ثابتان ومقدسان وفهوم العلماء اجتهادات خاضعة للنقد، فتجد من بعض القائمين على الخطاب الإسلامي خلطاً واضحاً في هذه القضية.(1/10)
5. الاختلاط غير المنضبط، وذلك بما نشاهده اليوم في الندوات التي تعالج قضايا شرعية ودعوية فيجتمع لها النساء مع الرجال، وبعض النساء غير ملتزمات بضوابط اللباس الشرعية ولا ضوابط الاجتماع بينهن وبين الذكور، وربما أُتي ببعض النسوة غير الملتزمات بمنهج الإسلام في الثقافة والفكر ليطرحن رأيهن فيما يقال !! وهذه الندوات من غرائب العصر، ومن المخالفة الواضحة لمنهج الإسلام؛ فإن الإسلام ليس نهباً مشاعاً يتحدث فيه كل من هب ودب، ويدلي رأيه في محكمات الإسلام وثوابته ومتغيراته ومحال الاجتهاد فيه، حتى صارت القضايا الشرعية والدعوية كلأ مباحاً لكل من رعى !! والعجيب أن الأحكام تبنى بعد انتهاء هذه الندوات على أقوال هؤلاء غير المؤهلين شرعاً للتحدث في مثل هذه القضايا بدعوى أخذ رأي الناس وإشراكهم في النقاش، والمخالفة هنا من وجهين: أخذ آراء من ليس محلاً للإدلاء برأيه، ثم البناء على رأيه هذا وإصدار "توصية" مستقاة من آراء أمثال هؤلاء !! وقد كثرت هذه الندوات في القنوات كثرة تدعو إلى الحسرة.
6. مسايرة الآخرين:
هناك أنواع من الخطاب تقوم على مسايرة المجتمع أو أفراد منه.
وهناك بعض أنواع من الخطاب تقيم خطابها على واقع المجتمع لا على الذي ينبغي أن يكون عليه.
وهناك خطاب مداهن ليس فيه النظر الموضوعي والتقويم المجرد.
وهناك أمر يقع فيه بعض القائمين على الخطاب الإسلامي ألا وهو الاستجابة لعواطف العامة، فيرددون ما يريده العامة لا ما ينبغي أن يُقال ويُحكم به، وهذه بلية؛ لأن هؤلاء العامة تسوقهم العواطف وتحكمهم المواقف الآنية، فيدفعون بالخطاب الإسلامي إلى "العجلة، وسوء تقدير العواقب، والمبالغة في تقدير قدرات الذات، والتقليل من إمكانات الغير" (1)
4. النظرة الضيقة
تتمثل هذه النظرة الضيقة عند بعض القائمين على الخطاب الإسلامي في التالي:
__________
(1) "أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة" : 99.(1/11)
... أ. التعصب الشديد للرأي والمذهب:
فما رآه أو ما ذهب إليه من مذهب فهو الصحيح، وما عليه الآخرون من مخالفي رأيه فهو باطل أو مردود، ومن أخذ به فهو مُفَرّط أو ضال أو مبطل، وهذا الأمر جالب للعداوات، مفسد للمجتعات، مغير للنفوس.
... ب. التحزب:
وهذه بلية أخرى، فما رأته الجماعة والحزب فهو الصحيح، وما خالفه فهو باطل مردود بقطع النظر عن موافقته أو مخالفته لصريح المنقول أو صحيح المعقول، والكلام في هذا كسابقه.
... ج. محاولة جمع الناس على رأي واحد أو مذهب واحد:
وهذه بلية، ومخالفة لسنن الله في عباده.
... د. العناية بالمفضول وترك الفاضل.
... هـ. تأخير المهمات وتقديم ما حقه التأخير.
... و. العشوائية والارتجال، ومن مظاهر ذلك ضعف التخطيط، وعدم استخدام المنهج العلمي، وضعف الأخذ بالمستجدات من الآليات والوسائل، وضعف التناول للأمور، وغلبة العاطفة إلخ ...
... ز. الاستعلاء، وهو النظر للآخرين من عُلٍ، وعدم الاستفادة مما عندهم من الخير والرشد.
... ح. القدح في الآخرين وجرحهم.
... ط. قصر الخطاب على المماثل والموافق:
... "كثير من المفكرين والكتاب الإسلاميين يكتبون لأنفسهم، أعني لمن يسير في خطهم، ويدعوا بدعوتهم، فهم لا يتجاوزون خطاب بعضهم لبعض، كأنما لا يوجد في الدنيا غيرهم، فإن خرجوا من هذه الدائرة كتبوا للفصائل الإسلامية الأخرى التي تشاركهم الالتزام بالإسلام والدعوة إليه وإن خالفتهم في المنهج والوسائل والكثير من المفاهيم، فإن تجاوزوا ذلك خاطبوا جماعة المتدينيين ... وكان الأولى بالخطاب الإسلامي بعد أن بلغ أشده واتسعت قاعدته أن يوجه خطابه إلى المخالفين له في الفكر والاتجاه، ولا يدعهم في ضلالهم القديم، وجهلهم الموروث، وسوء ظنهم بالإسلام ودعاته ..." (1)
5. الخلط في الولاء:
... بعض القائمين على الخطاب الإسلامي يخلطون في ولائهم، ومظاهر هذا الخلط كالتالي:
__________
(1) "أولويات الحركة الإسلامية " : 167 بتصرف يسير.(1/12)
... أ. عدم التفريق بين الولاء الشرعي والولاء لجهة أو هيئة أو جماعة، فيساوي بين الولاءين، وقد يفضل ولاءه لجهته على ولائه الشرعي، وهنا يحدث الخلط الكبير والفساد العريض.
... ب. استقاء الأمور الشرعية من الجهة التي ينتسب إليها ولو لم تكن مؤهلة شرعاً لهذا، واعتقاد أن ذلك حق ولو كان باطلاً في نفسه.
... ج. تقديس أقوال وآراء من يواليهم في جهته التي يرجع إليها، والغفلة عن أمر مهم ألا وهو: هل تستقيم هذه الأقوال والآراء في ميزان الشرع أوْ لا ؟
... ثم يبني خطابه بعد ذلك على هذا الخلل:
... "صدور الآراء من أشخاص ذوي تأثير وانتشار يعطيها ـ في الأغلب ـ أكثر من قيمتها العلمية، ويعفيها من كثير من خطوات التأمل والتقويم لدى فئة عريضة من شباب الصحوة" (1)
... د. وهناك من يضعف عنده الولاء لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ضعفاً مريعاً حتى يؤول به إلى أن يصبح في خطابه داعية تخذيل، أو تخويف، أو فتنة، أو تحايل على الشرع وأصوله، أو تهاون بالشريعة وأخذ بالشواذ من الآراء والأحكام.
... وكم رأينا من أمثال هؤلاء حادوا عن الحق وارتضوا الباطل وصاروا كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} (2) ولولا بقية حرمة لأهل العلم وأصحاب الخطاب الإسلامي لذكرت من مخازي هؤلاء ما يندى له الجبين، لكن في الإشارة غنية عن العبارة، وفي التلميح كفاية عن التصريح.
__________
(1) "الخطاب الدعوي بين العامة والخاصة": مقال للأستاذ محمد الدويش في شبكة المعلومات.
(2) سورة النمل: آية 14.(1/13)
... ومن المهمات في باب تحرير الولاء هو الكف عن تقديس الهيئات والجماعات والأشخاص، وعَدُّ ما يقولونه من المسلمات غير القابلة للنقاش، فـ" يرتفع الأشخاص فوق النقد، والآراء فوق النقاش، والأعمال ـ مهما كانت ـ إلى درجة القداسة والتعظيم، ويختفي تبعاً لذلك ما ربى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه من الشورى، والتناصح، والنقد والتوجيه، والمساواة والمحاسبة، ونوعية المسلم الذي يكون في القيادة يوماً وبين الجنود فرداً في اليوم الآخر، وتنزع من النفوس مداخل الشيطان ومبررات الأهواء". (1)
6. الضعف في جذب الآخرين:
... وهؤلاء الآخرون ممن نخاطبهم نقصد بهم فئتين:
1. المسلمين الضالين، ويجب العمل على هدايتهم وإنقاذهم من ضلالهم.
2. الكفار المارقين، ومحاولة فتح آذانهم وعقولهم على الحق وأهله.
... وهناك محاولات جادة قوية مع كلتا الفئتين أثمرت نجاحاً وفلاحاً، لكن ينبغي أن يُعرف أن أكثر محاولات الخطاب الإسلامي في جذب هاتين الفئتين ما زالت في طور الضعف وعدم النضج، ويتضح ذلك في الآتي:
أ. خطابهم من عُلٍ بدعوى فسقهم أو ضلالهم أو كفرهم، وهذا منفر بل شديد التنفير، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم هكذا بل كان يحترم المخاطبين، ويكنيهم، ويحلم عليهم، ويرفق بهم، ويعاود دعوتهم المرة بعد الأخرى.
ب . إهمال التخصص في أحوال المخاطبين ومعرفة واقعهم:
... وذلك لأنه كما قال عمر رضي الله عنه : "تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" ومن لم يعرف واقع القوم وما هم عليه وأحوالهم وبيئاتهم فكيف سيخاطبهم ؟ وكيف سيقنعهم ؟
ج. ضعف المخاطب وقلة تأثيره:
... إن المخاطبين للناس بالخطاب الإسلامي اليوم كثرة كاثرة من مشايخ ودعاة وطلاب علم ووعاظ وخطباء لكن أكثرهم ضعيف التأثير، ويرجع السبب إلى الآتي:
... 1. الضعف اللغوي:
__________
(1) من مقالة "أين الخلل" للدكتور: عباس محجوب في مجلة الأمة عدد جمادى الأولى سنة 1405هـ ص 10-11.(1/14)
... فأكثر هؤلاء لا يحسن العربية ويتحدث بالعامية فيفقد كثيراً من السامعين الذين لا يحسنون عاميته أو لا يستحسنونها.
... 2. ضعف الإلقاء:
... وينتج عنه ضعف التأثير، وبرودة الخطاب، ورب موضوع صغير عظمه حسن الإلقاء، وموضوع كبير صغره سوء الإلقاء.
... 3. عدم مناسبة الموضوع المطروح للسامعين:
... وذلك إما لأنه مكرور سمعوه كثيراً، أو ليس في موضعه؛ كمن يتحدث زمن الأزمات العظام بحديث بعيد عن اهتمامات الناس، وأعرف خطيباً معتنى به في وسائل الإعلام، منقولة خطبه في الرائي والإذاعة، لم أسمعه يوماً يتحدث عما يقع للمسلمين من كوارث على أيدي أعدائهم حتى في زمن ذروة الأحداث التي وقعت في فلسطين والعراق وغيرها.
... 4. الإساءة للآخرين وتسفيههم:
... إذا قصر المخاطب خطابه على تسفيه الآخرين والإساءة لهم، وجعل ذلك ديدنه يكرره في رسائله وحديثه وخطبه، إذا كان كذلك ضعف تأثيره وانصرف الناس عنه، بل عدوه مصدراً للفتن والفرقة.
المبحث الثالث: المأمول في الخطاب الإسلامي المعاصر
... هناك أمور يؤمّل أن توجد في الخطاب الإسلامي المعاصر حتى يستطيع الوصول إلى القلوب والنفاذ إلى العقول، وقد ذكرت في المبحث السابق في صور الضعف في الخطاب الإسلامي المعاصر ما يشير إلى ما يراد ويؤمل من صور القوة لكني سأورد ما لم أذكره هنالك أو أني ذكرته بإشارة سريعة، فمن الأمور التي تؤمل في الخطاب الإسلامي المعاصر ما يلي:
1. الإخلاص وتحرير الولاء لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
إن إخلاص المخاطب لله تعالى، واتباعه لسنة سيد البشر صلى الله عليه وسلم وتحرير الولاء في خطابه إن كل ذلك كفيل إن شاء الله تعالى بزرع الثقة في المخاطب، وأنه لا يبتغي من وراء خطابه إلا المصلحة العليا لهذا الدين العظيم، وجعله واقعاً في دنيا الناس.(1/15)
والإخلاص جابر لكسر الضعف، فكم من شخص يعتور خطابه جملة من النقائص في الوسائل والآليات والمباني والمعاني لكن ذلك الخطاب نفذ إلى القلوب وساغ في العقول، وما ذاك إلا لإخلاص صاحبه وحرارة خطابه، وتحرقه فيما يريد إبلاغه.
وتحرير الولاء لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم يُؤوي المرء إلى ركن شديد، ويعينه ويأخذ بيده، ذلك أنه شرع في خطابه وفي ذهنه تأييد شرع الله تعالى والحفاظ على دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فها هنا يقبل خطابه السواد الأعظم من الناس، ولا يختلف عليه في مضامينه، فليحرص المخاطبون للناس على صنع هذا والاهتمام به.
2. القوة في الطرح:
ما لم يكن الخطاب الإسلامي قوياً في طرحه فإنه سيراوح مكانه أو سيتقدم تقدماً قليلاً؛ وذلك لأنه يواجه آلة إعلامية جبارة معقدة قوية كاسحة، غير محدودة بحد مادي أو خلقي، فالواجب على المخاطبين الأخذ بأسباب القوة إذاً، والله تعالى قد قال: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" (1) ، ورسولنا صلى الله عليه وسلم قد قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير" (2) ، ومن وجوه القوة في الطرح ما يلي:
... أ. تدريب المخاطبين على كيفيات الخطاب ووسائله:
فهذا ـ اليوم ـ صار علماً يُدرس، فما لم نأخذ بأسبابه قعدنا عن إدراك غيرنا بَلْهَ مجاراته.
... ب.التوثيق والضبط العلمي:
... وذلك حتى ينال المخاطب احترام الآخرين ويستطيع إقناعهم، فبعض المخاطبين يرسلون النِسَب إرسالاً غير قائم على إحصاءات دقيقة، وبعضهم يردد نسباً قديمة وإحصاءات أصبحت غير مقبولة، وبعضهم يطلق أقوالاً يُعْوِزها التوثيق، فتوثيق المادة المطروقة، وإرجاع الأقوال إلى قائليها، والاستشهاد بالاحصاءات المنضبطة، والربط بين المقدمات والنتائج ربطاً مناسباً محكماً، والبعد عن الأقوال الضعيفة والشاذة كل ذلك سبيل لإقناع المخاطب.
__________
(1) سورة الأنفال: آية 60.
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب القدر.(1/16)
... أعرف جماعة من الناس فيهم لطف وتواضع ورقّة ودماثة ولين جانب وخفض جناح لكني كلما قعدت لأسمع خطابهم شعرت أن بينهم وبيني حجاباً أو حاجزاً بسبب ما يعتور خطابهم من ضعف كبير وهشاشة في المبنى والمعنى، وربما كان خطابهم مقنعاً للعامة أو لبعضهم لكن الخاصة الذين بيدهم ـ بعد أمر الله تعالى ـ مقاليد التغيير لا يمكن أن يعجبهم مثل هذا الخطاب أو يقتنعوا به.
... ج.العلاج العميق لأمراض المسلمين:
... إن الخطاب الإسلامي ينبغي أن ينفذ إلى أعماق المشكلة ويخرج بحلول لها قائمة على دراسات قوية، فإن بقاء الخطاب الإسلامي " في إطار تعميمات ثقافية إسلامية عامة وعدم الاهتمام بالدراسات الأصولية العميقة التي تظهر مرونة الشريعة وتجدد الفقه، وإهمال دراسة طبيعة العصر وثقافته وتجدد الفكر والحياة فيه، والبعد عن إدراك المنهج الشامل لحركة التغيير الاجتماعي في الإسلام حرمه من وضع فكر المراحل المتتابعة في ضوء تغييرات الحياة وبروز المشاكل المتجددة والهموم المتنوعة ... وهذا المرض الخطير لا يزال سارياً إلى الآن" (1) وهذا النقل وإن كان قديماً فله الآن ربع قرن تقريباً إلا أنه ما زال صادقاً في وصف حال كثير من أنواع الخطاب الإسلامي.
... د. عدم تكرار خطاب الماضي،والاستفادة من جوانب القوة فيه:
__________
(1) "أين الخلل" مقالة للدكتور محسن عبدالحميد في مجلة الأمة: العدد 49 سنة 1405هـ، ص 10-11.(1/17)
... هناك خطاب إسلامي قديم متميز، وتراث رائع كان صالحاً في زمنه إلا أن بعضه لم يعد صالحاً الآن في بعض جوانبه أو كلها، فمثلاً كان هناك خطاب مفند للماركسية وقد انتهت الآن، وخطاب مقاوم للشيوعية وقد هلكت وذهبت ريحها ولله الحمد، وكان هناك خطاب يحاول حل بعض مشكلات المسلمين التي كانت قائمة آنذاك ولم يعد لها وجود الآن أو أن عموم ذلك الخطاب لم يعد صالحاً لحل ما طرأ من تعقيدات في عالم اليوم، فإن خطاب الأمس كان ينادي بإقامة الاقتصاد على أسس إسلامية وكذلك الإعلام والسياسة وأحوال المجتمعات، ويحث على حجاب النساء ويحاول أن يثبت للعالم مصداقية مطالباته وارتكازها على أسس صحيحة من الشرع والعقل، بينما اليوم لم يعد ذلك الحال القديم قائماً، وارتقى العالم الإسلامي في سلم الحضارة الإسلامية والمادية درجات عديدة، فالخطاب القديم لم يعد صالحاً للاستشهاد به اليوم في جوانب عديدة منه.
... ثم إن المسلمين قد اكتسبوا خبرة طويلة في القضايا السياسية والفقهية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية، وقطعوا أميالاً كثيرة من مشوار الألف ميل، فلا يصلح أن يخاطبوا بمثل أو قريب من خطابهم قبل أن يكتسبوا ما اكتسبوه.
... لذلك كان لا بد من إعادة النظر في الخطاب الإسلامي القديم نسبياً، وتقوية جوانب الضعف فيه، والاستفادة من جوانب القوة حتى يكون خطابنا اليوم صالحاً للعصر.
3. معرفة الآخر:
إن معرفة حال المخاطبين الآخرين ـ والمقصود به ها هنا غير المسلمين ـ أمر مهم جداً في هذا الزمن الذي اشتدت فيه الحاجة إلى خطابهم، وخطابهم واجب شرعي أيضاً، ومن المهمات في مسألة معرفة الآخر ما يلي:
أ. تحرير الفرق بين علوم الكفار ومنجزاتهم المادية:(1/18)
لابد من معرفة الفارق الواضح بين التقدم الذي حازه كثير منهم في المنتجات الحضارية والمادية، وبين التردي الظاهر في كثير من جوانب العلوم والمعارف الإنسانية، وهذا إضافة إلى معرفة كفرهم وضلالهم، وذلك لأن الخلط بين الأمرين بأخذهما معاً أو بتركهما معاً خلط وخبط، والتفرقة بينهما واجبة، وأحسب أن هذا أمر انتهى وحسم من حيث التنظير منذ مدة طويلة لكن يعتوره أمران:
الأول: بعض القائمين على الخطاب الإسلامي لم تُحسم هذه المسألة في ذهنه بعد في شقيها المذكورين آنفاً فتجده يرفض الاثنين أو يقبلهما معاً بتأولات وتمحلات ظاهرة.
الآخر:أن هذا التفريق وتلك المعرفة ما زالتا أمراً نظرياً لا يثبت عند التطبيق عند بعض القائمين على الخطاب الإسلامي،ولذلك نبهت عليها ها هنا.
ب. الضبابية التي في أذهان الكفار وتمنعهم من فهم الإسلام والمسلمين:
إن معرفة المخاطب لهؤلاء ما هم عليه من سوء فهم للإسلام والمسلمين، واتهامهم لهم بشتى أنواع التهم في القديم والحديث، إن معرفة هذا معين على إحسان خطابهم وتجويده.
وهناك اليوم مصطلحات يرددها الكفار يتهمون بها هذا الدين العظيم وأهله مثل الإرهاب، وانتهاك حقوق الإنسان خاصة المرأة، والرق، وعدم العدل في توزيع التركات، وانتشار الإسلام بالسيف، إلى آخر هذه التهم، التي تفتقر -في بعض الأحيان- إلى رد منطقي بخطاب يلفه الحكمة والتعقل وعرض الإسلام كما هو من غير تأويل ولا تعسف.
ج. الحذر من التنازلات في الخطاب للآخرين:(1/19)
المغلوب دوماً تبع للغالب، ولما كان الكفار قد غلبونا في هذا العصر تقنياً وعلمياً ووسائل إنتاج فقد انبهر بهم كثير من المسلمين، وتبع ذلك الانبهار خطأ وخطل في فهم العلاقة التي بيننا وبينهم وهي أن لنا العزة دوماً وإن تخلفنا عنهم في الميادين المذكورة آنفاً، وأنتج ذلك الخطأ في الفهم جملة من الأخطاء منها ضعف الخطاب الموجه لهم في قضية فهم هذا الدين، وذلك لأن نفراً من مفكرينا وعلمائنا ودعاتنا إذا خاطبوا الغرب انقلبوا إلى تبريريين واعتذاريين، فالجهاد في الإسلام عندهم للدفاع فقط وليس هناك جهاد طلب، والمعجزات كلها أو بعضها تؤول عندهم حتى توافق العقل الغربي، وهناك حوادث في تاريخ الإسلام لا تتوافق والمنظومة القيمية عند الغرب فيسارع هؤلاء إلى نفيها وإنكارها أو تأويلها تأويلاً غير مستساغ، وهناك بعض القواعد والفروع في المسائل الفقهية والعقدية لا تروق أو لا تتفق مع أمزجة الكفار أو قواعدهم التي وضعوها فيسارع هؤلاء إلى التلاعب بها بدعوى أن يتفق الإسلام مع ما القوم عليه من باطل تارة، وبدعوى أن هذه القواعد والفروع مختلف في فهمها والأخذ بها، تارة أخرى، وعلى هذا كله أمثلة أكثر من أن تحصر ضربت عنها الذكر صفحاً طلباً للإيجاز:
"إن الأدب الدفاعي يمكن أن يحقق للأمة مرحلة التمييز نوعاً ما لكنه على كل حال يبقى عاجزاً عن البلوغ بها إلى مرحلة الرشد ... يمكن أن تكون مرحلة الأدب الدفاعي هي البداية والنهاية فهنا تكمن المشكلة وتحصل الخطورة" (1)
د. معرفة واقع المخاطبين:
__________
(1) كتاب الأمة الثامن: نظرات في مسيرة العمل الإسلامي للأستاذ عمر عبيد حسنة : 62.(1/20)
إن معرفة ما عليه الآخرون من طرائق العيش، والتفكير، والثقافة، والدين الذي يلتزمونه، ومبلغ ما هم عليه من علم مادي وحضارة مادية، إن معرفة ذلك كله أمر مهم للغاية، ويخطئ من يخاطبهم وهو في غفلة من ذلك، وغياب عنه، إذ سيكون خطابه فتنة لبعضهم وانصرافاً وإعراضاً من بعضهم الآخر، وقلّ من سيستمع له ويأخذ عنه، لذلك لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه إلى أهل اليمن بين له حالهم بقوله: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب ..." (1) هذا وهم عرب، وأصول معاذ رضي الله عنه يمنية، لكن لم يمنع هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيان بعض حالهم له، فكيف ونحن نرجو أن نخاطب قوماً دينهم مختلف، ولغتهم مختلفة، وثقافتهم بعيدة جداً عن ثقافتنا، وطرائق عيشهم مختلفة، وأنماط التفكير كذلك مختلفة، وهناك حاجز كبير بيننا وبين أكثرهم سببه إرث المرحلة الاستخرابية "الاستعمارية"، وسببه أيضاً سيل الشبهات التي زرعها الكنسيون والمستشرقون في عقولهم، فينبغي ألا يخاطبهم إلا من كان عارفاً ما القوم عليه في جل أو كل الذي ذكرته آنفاً.
4. التقويم والضبط للمخاطَبين:
إن كثيراً من أنواع الخطاب الدعوي يساء تقويمها، خاصة من قبل العوام المتلقين، ويحدث من سوء التقويم جملة أخطاء منها:
أ. الإعجاب المفرط بمخاطِب ما، وهذا الإعجاب من قبل المخاطَبين قد يسوق المخاطِبَ إلى الخروج عن علمه الذي يجيده وفنه الذي يتقنه إلى مجالات أخرى لا قبل له بها، وليست مما يجيده ويضبطه، ومع هذا فإن خطابه يُتلقى بالقبول الواسع وما ذلك إلا للإعجاب المفرط غير المنضبط بضوابط المنطق والعقل، وقديماً قالت العرب: "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب":
__________
(1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: كتاب الزكاة، وفي مواضع أخرى.(1/21)
"ثمة عناصر يقتصر نجاحها على أن تجيد خطاب الجماهير واستثارة اهتمامها، إلا أن زخم الخطاب الجماهيري قد يدفع ببعض هؤلاء إلى الولوج في دوائر أخرى، وقيمة كل امرئ ما يحسن" (1)
ب. الخلط في المخاطِبين:
فيؤتى بواعظ ليتحدث في قضايا فكرية وثقافية شائكة، وهو لا يحسنها، ويؤتى بمفكر ليعظ الناس وليس هذا من شأنه فيخرج وعظه بارداً ضعيفاً، وقد كان فيما مضى من حال سلفنا أنه لا يعظ إلا قاصٌّ متمكن متخصص فإذا بنا اليوم تضعف هممنا وطرائق عملنا أن تكون كما كانت عند أسلافنا.
ج. تقويم المخاطِب بقدر انتشار مادته وتوزيعها:
فمخاطب العامة يختلف عن مخاطب الخاصة، فمن الطبيعي في شأن الأول أن تنتشر مادته انتشاراً كبيراً، وترتفع أرقام توزيعها وتتعدد طبعاتها، بينما من غير الطبيعي أن يحدث هذا لمخاطب الخاصة:
"فحجم الانتشار وأرقام التوزيع ـ على سبيل المثال ـ من أكبر معايير نجاح الخطاب المقدم للعامة، وإن كانت تؤثر فيه اعتبارات أخرى كالدعاية والخلفية عن المتحدث، بينما تقل قيمة هذا المعيار في تقويم الخطاب المقدم للخاصة.
ومنشأ الخلط أن نقوِّم الخطاب المقدم للعامة من خلال صرامة عقليتنا الفكرية، أو أن نقوم خطاب الخاصة من خلال الانتشار أو التأثير العاطفي.
إن استقرار الإيمان بالتخصص، وسعة المجالات، والفصل بين الحكم على ذوات الأشخاص وتقويم نتاجهم، إن ذلك سيعيننا على تجاوز كثير من إشكالات الخلط بين خطاب العامة والخاصة" (2)
خاتمة
__________
(1) "الخطاب الدعوي بين العامة والخاصة" : مقال للأستاذ محمد الدويش في شبكة المعلومات "الانترنت".
(2) المصدر السابق.(1/22)
... قد أتيت في هذا البحث ـ بإيجاز ـ على أهم ما في الخطاب الإسلامي من مظاهر الضعف، وذلك بعد أن أوردت شيئاً من حسناته وإيجابياته، ثم أتيت على أهم ما هو مأمول منه، وأزعم أن الخطاب الإسلامي لو بُذل له الوسع، وضُبطت مادته، وقُوم بموجب ضوابط الخطاب العصرية ووسائله المتنوعة المتجددة، أزعم أنه لو جرى عليه هذا الذي ذكرته لتضاعف انتشاره، ولأقبل عليه الناس أشد من هذا الإقبال، ولا جرم في هذا إذِ الخطاب الإسلامي يستند إلى ركن شديد، ومرجعية شرعية منضبطة، وقواعد متسقة مع السلوك الحسن والخلق القويم وإرادة الخير للمجتمعات الإسلامية وغيرها، وما كان كذلك فهو جدير وحقيق أن ينتشر ويسود، ويتخطى الحواجز الموضوعة له والعقبات.
أسأل الله للجميع التوفيق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه
محمد بن موسى الشريف
mmalshareef@hotmail.com
... ... ... www.altareekh.com
فهرست المصادر والمراجع
ـ القرآن الكريم.
ـ "أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة" الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي.
ـ "الخطاب الدعوي بين العامة والخاصة" : مقال للأستاذ محمد الدويش. شبكة المعلومات.
ـ صحيح الإمام البخاري.
ـ صحيح الإمام مسلم.
ـ "كيف ندعو إلى الإسلام" الأستاذ فتحي يكن. نشر دار الرسالة. بيروت.
ـ مجلة الأمة القطرية. أعداد مختلفة.
ـ نظرات في مسيرة العمل الإسلامي: الأستاذ عمر عبيد حسنة. سلسلة "كتاب الأمة".
فهرست الموضوعات
الموضوع ... رقم الصفحة
مقدمة ... 3
المبحث الأول: عقبات أمام الخطاب الإسلامي ... 5
1. التضييق عليه. ... 5
2. قلة المال الحر. ... 5
3. قلة الأفراد الموهوبين في إيصال الخطاب الإسلامي. ... 6
4. العداء الشديد له. ... 6
5. المطالبة المستمرة له بالتجديد. ... 6
6. السيل الجارف من الشهوات والشبهات. ... 7
7. التنوع الهائل في خطابات الأمم والفرق والمذاهب الضالة. ... 7
المبحث الثاني: واقع الخطاب الإسلامي: ... 9
1. ضعف الشمول. ... 10(1/23)
2. جمود الآليات. ... 13
3. الضعف: ... 16
أ. عدم التوازن بين أنواع الخطاب. ... 16
ب.ضعف المنهج العلمي. ... 16
ج. الخطاب الاعتذاري التبريري. ... 18
د. ضعف الأخذ بالمرجعية الشرعية. ... 19
4. النظرة الضيقة: ... 22
أ. التعصب. ... 22
ب.التحزب. ... 22
ج. محاولة جمع الناس على مذهب واحد. ... 22
د. العناية بالمفضول وترك الفاضل. ... 23
هـ. تأخير المهمات وتقديم ما حقه التأخير. ... 23
و. العشوائية والارتجال. ... 23
ز. الاستعلاء. ... 23
ح. القدح في الآخرين وجرحهم. ... 23
ط. قصر الخطاب على المماثل والموافق. ... 23
5. الخلط في الولاء. ... 24
6. الضعف في جذب الآخرين. ... 26
المبحث الثالث: المأمول في الخطاب الإسلامي المعاصر. ... 29
1. الإخلاص وتحرير الولاء لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ... 29
2. القوة في الطرح. ... 30
أ. تدريب المخاطبين على كيفيات الخطاب ووسائله. ... 31
ب. التوثيق والضبط العلمي. ... 31
ج. العلاج العميق لأمراض المسلمين. ... 32
د. عدم تكرار خطاب الماضي، والاستفادة من جوانب القوة فيه. ... 32
3. معرفة الآخر: ... 32
أ. تحرير الفرق بين علوم الكفار الإنسانية ومنجزاتهم المادية. ... 32
ب. الضبابية التي في أذهان الكفار وتمنعهم من فهم الإسلام والمسلمين. ... 35
ج. الحذر من التنازلات. ... 35
د. معرفة واقع المخاطبين. ... 37
4. التقويم والضبط للمخاطَبين. ... 38
أ. الإعجاب المفرط. ... 38
ب. الخلط في المخاطبين. ... 39
ج. تقويم المخاطب بقدر انتشار مادته وتوزيعها. ... 39
ـ خاتمة. ... 41
ـ فهرست المصادر والمراجع. ... 42(1/24)